السابق

التالي

[16 : 52 ]

قال و في الحسن ع يقول سليمان بن قتة يرثيه و كان محبا له

يا كذب الله من نعى حسنا ليس لتكذيب نعيه ثمن

كنت خليلي و كنت خالصتي لكل حي من أهله سكن

أجول في الدار لا أراك و في الدار أناس جوارهم غبن

بدلتهم منك ليت أنهم أضحوا و بيني و بينهم عدن

ثم نرجع إلى تفسير ألفاظ الفصل أما قوله كتبها إليه بحاضرين فالذي كنا نقرؤه قديما كتبها إليه بالحاضرين على صيغة التثنية يعني

حاضر حلب و حاضر قنسرين و هي الأرباض و الضواحي المحيطة بهذه البلاد ثم قرأناه بعد ذلك على جماعة من الشيوخ بغير لام و لم

يفسروه و منهم من يذكره بصيغة الجمع لا بصيغة التثنية و منهم من يقول بخناصرين يظنونه تثنية خناصرة أو جمعها و قد طلبت هذه

الكلمة في الكتب المصنفة سيما في البلاد و الأرضين فلم أجدها و لعلي أظفر بها فيما بعد فألحقها في هذا الموضع. قوله من الوالد

الفان حذف الياء ها هنا للازدواج بين الفان و الزمان و لأنه وقف و في الوقف على المنقوص يجوز مع اللام حذف الياء و إثباتها و

الإثبات هو الوجه و مع عدم اللام يجوز الأمران و إسقاط الياء هو الوجه. قوله المقر للزمان أي المقر له بالغلبة كأنه جعل نفسه

فيما مضى خصما للزمان بالقهر. قوله المدبر العمر لأنه كان قد جاوز الستين و لم يبق بعد مجاوزة الستين إلا إدبار العمر لأنها نصف

العمر الطبيعي الذي قل أن يبلغه أحد فعلى تقدير أنه

[16 : 53 ]

يبلغه فكل ما بعد الستين أقل مما مضى فلا جرم يكون العمر قد أدبر. قوله المستسلم للدهر هذا آكد من قوله المقر للزمان لأنه قد

يقر الإنسان لخصمه و لا يستسلم. قوله الذام للدنيا هذا وصف لم يستحدثه عند الكبر بل لم يزل عليه و لكن يجوز أن يزيد ذمه لها

لأن الشيخ تنقص قواه التي يستعين بها على الدنيا و الدين جميعا و لا يزال يتأفف من الدنيا. قوله الساكن مساكن الموتى إشعار

بأنه سيموت و هذا من قوله تعالى وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. قوله الظاعن عنها غدا لا يريد الغد بعينه بل يريد

قرب الرحيل و الظعن. و هذا الكلام من أمير المؤمنين ع كلام من قد أيقن بالفراق و لا ريب في ظهور الاستكانة و الخضوع عليه و

يدل أيضا على كرب و ضيق عطن لكونه لم يبلغ أربه من حرب أهل الشام و انعكس ما قدره بتخاذل أصحابه عنه و نفوذ حكم عمرو بن

العاص فيه لحمق أبي موسى و غباوته و انحرافه أيضا. قوله إلى المولود هذه اللفظة بإزاء الوالد. قوله المؤمل ما لا يدرك لو قال

قائل إنه كنى بذلك عن أنه لا ينال الخلافة بعد موتي و إن كان مؤملا لها لم يبعد و يكون ذلك إخبارا عن غيب و لكن الأظهر أنه لم

يرد ذلك إنما أراد جنس البشر لا خصوص الحسن و كذلك سائر الأوصاف التي تلي هذه اللفظة لا تخص الحسن ع بعينه بل هي و إن

كانت له في الظاهر بل هي للناس كلهم في الحقيقة أ لا ترى إلى قوله بعدها السالك سبيل من قد هلك فإن كل واحد من الناس يؤمل

أمورا لا يدركها و كل واحد من الناس سألك سبيل من هلك قبله.

[16 : 54 ]

قوله ع غرض الأسقام لأن الإنسان كالهدف لآفات الدنيا و أعراضها. قوله ع و رهينة الأيام الرهينة هاهنا المهزول يقال إنه لرهن و

إنه لرهينة إذا كان مهزولا بالياء قال الراجز

أما ترى جسمي خلاء قد رهن هزلا و ما مجد الرجال في السمن

و يجوز أن يريد بالرهينة واحدة الرهائن يقال للأسير أو للزمن أو للعاجز عند الرحيل أنه لرهينة و ذلك لأن الرهائن محتبسة عند

مرتهنها. قوله و رمية المصائب الرمية ما يرمى. قوله و عبد الدنيا و تاجر الغرور و غريم المنايا لأن الإنسان طوع شهواته فهو عبد

الدنيا و حركاته فيها مبنية على غرور لا أصل له فهو تاجر الغرور لا محالة و لما كانت المنايا تطالبه بالرحيل عن هذه الدار كانت

غريما له يقتضيه ما لا بد له من أدائه. قوله و أسير الموت و حليف الهموم و قرين الأحزان و نصب الآفات و سريع الشهوات لما كان

الإنسان مع الموت كما قال طرفة

لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى لكالطول المرخى و ثنياه باليد

كان أسيرا له لا محالة و لما كان لا بد لكل إنسان من الهم كان حليف الهموم و كذلك لا يخلو و لا ينفك من الحزن فكان قرينا له و

لما كان معرضا للآفات كان نصبا لها و لما كان إنما يهلك بشهواته كان صريعا لها. قوله و خليفة الأموات قد أخذه من قال إن أمرا

ليس بينه و بين آدم إلا أب ميت لمعرق في الموت. و اعلم أنه عد من صفات نفسه سبعا و عد من صفات ولده أربع عشرة صفة فجعل

[16 : 55 ]

بإزاء كل واحدة مما له اثنتين فليلمح ذلك

بعض ما قيل من الشعر في الدهر و فعله بالإنسان

و من جيد ما نعى به شاعر نفسه و وصف ما نقص الدهر من قواه قول عوف بن محلم الشيباني في عبد الله بن طاهر أمير خراسان

يا ابن الذي دان له المشرقان و ألبس الأمن به المغربان

إن الثمانين و بلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان

و بدلتني بالشطاط انحنا و كنت كالصعدة تحت السنان

و قاربت مني خطا لم تكن مقاربات و ثنت من عنان

و عوضتني من زماع الفتى و همه هم الجبان الهدان

و أنشأت بيني و بين الورى عنانة من غير نسج العنان

و لم تدع في لمستمتع إلا لساني و كفاني لسان

أدعو به الله و أثني به على الأمير المصعبي الهجان

[16 : 56 ]

و من الشعر القديم الجيد في هذا المعنى قول سالم بن عونة الضبي

لا يبعدن عصر الشباب و لا لذاته و نباته النضر

و المشرفات من الخدور كإيماض الغمام يجوز بالقطر

و طراد خيل مثلها التقتا لحفيظة و مقاعد الخمر

لو لا أولئك ما حلفت متى عوليت في خرج إلى قبري

هربت زبيبة أن رأت ثرمي و أن انحنى لتقادم ظهري

من بعد ما عهدت فأدلفني يوم يمر و ليلة تسري

حتى كأني خاتل قنصا و المرء بعد تمامه يجري

لا تهزئي مني زبيب فما في ذاك من عجب و لا سخر

أ و لم تري لقمان أهلكه ما اقتات من سنة و من شهر

و بقاء نسر كلما انقرضت أيامه عادت إلى نسر

ما طال من أمد على لبد رجعت محارته إلى قصر

و لقد حلبت الدهر أشطره و علمت ما آتي من الأمر

أنا أستفصح قوله ما اقتات من سنة و من شهر جعل الزمان كالقوت له و من اقتات الشيء فقد أكله و الأكل سبب المرض و المرض

سبب الهلاك

[16 : 57 ]

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ فِيمَا تَبَيَّنْتُ مِنْ إِدْبَارِ الدُّنْيَا عَنِّي وَ جُمُوحِ الدَّهْرِ عَلَيَّ وَ إِقْبَالِ الآْخِرَةِ إِلَيَّ مَا يَزَعُنِي عَنْ ذِكْرِ مَنْ سِوَايَ وَ الِاهْتِمَامِ بِمَا وَرَائِي

غَيْرَ أَنِّي حَيْثُ تَفَرَّدَ بِي دُونَ هُمُومِ النَّاسِ هَمُّ نَفْسِي فَصَدَّقَنِي رَأْيِي وَ صَرَفَنِي عَنْ هَوَايَ وَ صَرَّحَ لِي مَحْضُ أَمْرِي فَأَفْضَى بِي إِلَى جَدّ لَا يَكُونُ

فِيهِ لَعِبٌ وَ صِدْق لَا يَشُوبُهُ كَذِبٌ وَجَدْتُكَ بَعْضِي بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي حَتَّى كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي وَ كَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي فَعَنَانِي

مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِينِي مِنْ أَمْرِ نَفْسِي فَكَتَبْتُ إِلَيْكَ كِتَابِي هَذَا مُسْتَظْهِراً بِهِ إِنْ أَنَا بَقِيتُ لَكَ أَوْ فَنِيتُ

يزعني يكفني و يصدني وزعت فلانا و لا بد للناس من وزعة. و سوى لفظة تقصر إذا كسرت سينها و تمد إذا فتحتها و هي هاهنا بمعنى

غير و من قبلها بمعنى شيء منكر كقوله

رب من أنضجت غيظا قلبه

و التقدير غير ذكر إنسان سواي و يجوز أن تكون من موصولة و قد حذف أحد جزأي الصلة و التقدير عن ذكر الذي هو غيري كما قالوا

في لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَة أَيُّهُمْ أَشَدُّ أي هو أشد يقول ع إن فيما قد بان لي من تنكر الوقت و إدبار الدنيا و إقبال الآخرة شاغلا لي عن

الاهتمام بأحد غيري و الاهتمام و الفكر في أمر الولد و غيره ممن أخلفه ورائي.

[16 : 58 ]

ثم عاد فقال ألا إن همي بنفسي يقتضي اهتمامي بك لأنك بعضي بل كلي فإن كان اهتمامي بنفسي يصرفني عن غيري لم تكن أنت داخلا

في جملة من يصرفني همي بنفسي عنهم لأنك لست غيري. فإن قلت أ فهذا الهم حدث لأمير المؤمنين ع الآن أو من قبل لم يكن عالما

بأن الدنيا مدبرة و الآخرة مقبلة. قلت كلا بل لم يزل عالما عارفا بذلك و لكنه الآن تأكد و قوي بطريق علو السن و ضعف القوى و هذا

أمر يحصل للإنسان على سبيل الإيجاب لا بد من حصوله لكل أحد و إن كان عالما بالحال من قبل و لكن ليس العيان كالخبر. و من

مستحسن ما قيل في هذا المعنى قول أبي إسحاق الصابئ

أقيك الردى إني تنبهت من كرى و سهو على طول المدى اعترياني

فأثبت شخصا دانيا كان خافيا على البعد حتى صار نصب عياني

هو الأجل المحتوم لي جد جده و كان يريني غفلة المتواني

له نذر قد آذنتني بهجمة له لست منها آخذا بأمان

و لا بد منه ممهلا أو معاجلا سيأتي فلا يثنيه عني ثان

و أول هذه القصيدة و هو داخل له في هذا المعنى أيضا

إذا ما تعدت بي و سارت محفة لها أرجل يسعى بها رجلان

و ما كنت من فرسانها غير أنها وفت لي لما خانت القدمان

نزلت إليها عن سراة حصاني بحكم مشيب أو فراش حصان

فقد حملت مني ابن سبعين سالكا سبيلا عليها يسلك الثقلان

[16 : 59 ]

كما حمل المهد الصبي و قبلها ذعرت أسود الغيل بالنزوان

و لي بعدها أخرى تسمى جنازة جنيبة يوم للمنية دان

تسير على أقدام أربعة إلى ديار البلى معدودهن ثمان

و إني على عيث الردى في جوارحي و ما كف من خطوي و بطش بناني

و إن لم يدع إلا فؤادا مروعا به غير باق من الحدثان

تلوم تحت الحجب ينفث حكمه إلى أذن تصغي لنطق لسان

لأعلم أني ميت عاق دفنه ذماء قليل في غد هو فان

و إن فما للأرض غرثان حائما يراصد من أكلي حضور أوان

به شره عم الورى بفجائع تركن فلانا ثاكلا لفلان

غدا فاغرا يشكو الطوى و هو راتع فما تلتقي يوما له الشفتان

إذا عاضنا بالنسل ممن نعوله تلا أولا منه بمهلك ثان

إلى ذات يوم لا ترى الأرض وارثا سوى الله من إنس تراه و جان

قوله تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي أي دون الهموم التي قد كانت تعتريني لأجل أحوال الناس. فصدقني رأيي يقال صدقته كذا

أي عن كذا و في المثل صدقني سن بكره لأنه لما نفر قال له هدع و هي كلمة تسكن بها صغار الإبل إذا نفرت و المعنى أن هذا الهم

صدقني عن الصفة التي يجب أن يكون رأيي عليها و تلك الصفة هي ألا يفكر في

[16 : 60 ]

أمر شيء من الموجودات أصلا إلا الله تعالى و نفسه و فوق هذه الطبقة طبقة أخرى جدا و هي ألا تفكر في شيء قط إلا في الله وحده و

فوق هذه الطبقة طبقة أخرى تجل عن الذكر و التفسير و لا تصلح لأحد من المخلوقين إلا النادر الشاذ و قد ذكرها هو فيما سبق و هو

ألا يفكر في شيء أصلا لا في المخلوق و لا في الخالق لأنه قد قارب أن يتحد بالخالق و يستغني عن الفكر فيه. قوله و صرفني عن

هواي أي عن هواي و فكري في تدبير الخلافة و سياسة الرعية و القيام بما يقوم به الأئمة. قوله ع و صرح لي محض أمري يروى

بنصب محض و رفعه فمن نصب فتقديره عن محض أمري فلما حذف الجار نصب و من رفع جعله فاعلا و صرح كشف أو انكشف. قوله

فأفضى بي إلى كذا ليس بمعنى أنه قد كان من قبل يمازج جده باللعب بل المعنى أن همومه الأولى قد كانت بحيث يمكن أن يتخللها

وقت راحة أو دعابة لا يخرج بها عن الحق كما كان رسول الله ص يمزح و لا يقول إلا حقا فالآن قد حدث عنده هم لا يمكن أن يتخلله

من ذلك شيء أصلا و مدار الفرق بين الحالتين أعني الأولى و الثانية على إمكان اللعب لا نفس اللعب و ما يلزم من قوله أفضى لك بي

هذا الهم إلى انتفاء إمكان اللعب أن تكون همومه الأولى قد كان يمازجها اللعب و لكن يلزم من ذلك أنها قد كانت يمكن ذلك فيها

إمكانا محضا على أن اللعب غير منكر إذا لم يكن باطلا أ لا ترى إلى

قول النبي ص المؤمن دعب لعب

و كذلك القول في قوله و صدق لا يشوبه كذب

أي لا يمكن أن يشوبه كذب و ليس المراد بالصدق و الكذب هاهنا مفهومهما المشهورين بل هو من قولهم صدقونا اللقاء و من قولهم

حمل عليهم فما كذب قال زهير

[16 : 61 ]

ليث بعثر يصطاد الليوث إذا ما كذب الليث عن أقرانه صدقا

أي أفضى بي هذا الهم إلى أن صدقتني الدنيا حربها كأنه جعل نفسه محاربا للدنيا أي صدقتني الدنيا حربها و لم تكذب أي لم تجبن و

لم تخن. أخبر عن شدة اتحاد ولده به فقال وجدتك بعضي قال الشاعر

و إنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض

لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني من الغمض

و غضب معاوية على ابنه يزيد فهجره فاستعطفه له الأحنف قال له يا أمير المؤمنين أولادنا ثمار قلوبنا و عماد ظهورنا و نحن لهم

سماء ظليلة و أرض ذليلة فإن غضبوا فأرضهم و إن سألوا فأعطهم فلا تكن عليهم قفلا فيملوا حياتك و يتمنوا موتك. و قيل لابنة

الخس أي ولديك أحب إليك قالت الصغير حتى يكبر و المريض حتى يبرأ و الغائب حتى يقدم. غضب الطرماح على امرأته فشفع فيها

ولده منها صمصام و هو غلام لم يبلغ عشرا فقال الطرماح

أ صمصام إن تشفع لأمك تلقها لها شافع في الصدر لم يتزحزح

هل الحب إلا أنها لو تعرضت لذبحك يا صمصام قلت لها اذبحي

أحاذر يا صمصام إن مت أن يلي تراثي و إياك امرؤ غير مصلح

إذا صك وسط القوم رأسك صكة يقول له الناهي ملكت فأسجح

و في الحديث المرفوع إن ريح الولد من ريح الجنة

[16 : 62 ]

و في الحديث الصحيح أنه قال لحسن و حسين ع إنكم لتجبنون و إنكم لتبخلون و إنكم لمن ريحان الله

و من ترقيص الأعراب قول أعرابية لولدها

يا حبذا ريح الولد ريح الخزامى في البلد

أ هكذا كل ولد أم لم يلد قبلي أحد

و في الحديث المرفوع من كان له صبي فليستصب له

و أنشد الرياشي

من سره الدهر أن يرى الكبدا يمشي على الأرض فلير الولدا

فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ أَيُّ بُنَيَّ وَ لُزُومِ أَمْرِهِ وَ عِمَارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِهِ وَ الِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ وَ أَيُّ سَبَب أَوْثَقُ مِنْ سَبَب بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اللَّهِ إِنْ أَنْتَ

أَخَذْتَ بِهِ أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ وَ أَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ وَ قَوِّهِ بِالْيَقِينِ وَ نَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ وَ ذَلِّلْهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ وَ قَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ وَ بَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا

وَ حَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَّهْرِ وَ فُحْشَ تَقَلُّبِ اللَّيَالِي وَ الْأَيَّامِ وَ اعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْمَاضِينَ وَ ذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ سِرْ فِي

دِيَارِهِمْ وَ آثَارِهِمْ فَانْظُرْ فِيمَا فَعَلُوا وَ عَمَّا انْتَقَلُوا وَ أَيْنَ حَلُّوا وَ نَزَلُوا فَإِنَّكَ تَجِدُهُمْ انْتَقَلُوا عَنِ الْأَحِبَّةِ وَ حَلُّوا دَارَ الْغُرْبَةِ وَ كَأَنَّكَ عَنْ

قَلِيل قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ

[16 : 63 ]

فَأَصْلِحْ مَثْوَاكَ وَ لَا تَبِعْ آخِرَتَكَ بِدُنْيَاكَ وَ دَعِ الْقَوْلَ فِيمَا لَا تَعْرِفُ وَ الْخِطَابَ فِيمَا لَمْ تُكَلَّفْ وَ أَمْسِكْ عَنْ طَرِيق إِذَا خِفْتَ ضَلَالَتَهُ فَإِنَّ

الْكَفَّ عِنْدَ حَيْرَةِ الضَّلَالِ خَيْرٌ مِنْ رُكُوبِ الْأَهْوَالِ

قوله ع و أي سبب أوثق إشارة إلى القرآن لأنه هو المعبر عنه بقوله تعالى وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا. ثم أتى بلفظتين

متقابلتين و ذلك من لطيف الصنعة فقال أحي قلبك بالموعظة و أمته بالزهادة و المراد إحياء دواعيه إلى الطاعة و إماتة الشهوات عنه.

قوله ع و اعرض عليه أخبار الماضين معنى قد تداوله الناس قال الشاعر

سل عن الماضين إن نطقت عنهم الأجداث و الترك

أي دار للبلى نزلوا و سبيل للردي سلكوا

قوله ع و دع القول فيما لا تعرف

من قول رسول الله ص لعبد الله بن عمرو بن العاص يا عبد الله كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس مرجت عهودهم و أماناتهم و صار

الناس هكذا و شبك بين أصابعه قال عبد الله فقلت مرني يا رسول الله فقال خذ ما تعرف و دع ما لا تعرف و عليك بخويصة نفسك

[16 : 64 ]

قوله و الخطاب فيما لم تكلف

من قول رسول الله ص من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه

و قال معاوية في عبد الملك بن مروان و هو حينئذ غلام إن لهذا الغلام لهمة و إنه مع ذلك تارك لثلاث آخذ بثلاث تارك مساءة

الصديق جدا و هزلا تارك ما لا يعنيه تارك ما لا يعتذر منه آخذ بأحسن الحديث إذا حدث و بأحسن الاستماع إذا حدث و بأهون الأمرين

إذا خولف. قوله ع و أمسك عن طريق إذا خفت ضلالته مأخوذ من

قول النبي ص دع ما يريبك إلى ما لا يريبك

و في خبر آخر إذا رابك أمر فدعه

وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ وَ أَنْكِرِ الْمُنْكَرَ بِيَدِكَ وَ لِسَانِكَ وَ بَايِنْ مَنْ فَعَلَهُ بِجُهْدِكَ وَ جَاهِدْ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَ لَا تَأْخُذْكَ فِي اللَّهِ

لَوْمَةُ لَائِم وَ خُضِ الْغَمَرَاتِ إِلَى الْحَقِّ حَيْثُ كَانَ وَ تَفَقَّهْ فِي الدِّينِ وَ عَوِّدْ نَفْسَكَ الصَّبْرَ عَلَى الْمَكْرُوهِ وَ نِعْمَ الْخُلُقُ التَّصَبُرُ فِي الْحَقِّ وَ

أَلْجِئْ نَفْسَكَ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا إِلَى إِلَهِكَ فَإِنَّكَ تُلْجِئُهَا إِلَى كَهْف حَرِيز وَ مَانِع عَزِيز وَ أَخْلِصْ فِي الْمَسْأَلَةِ لِرَبِّكَ فَإِنَّ بِيَدِهِ الْعَطَاءَ وَ

الْحِرْمَانَ وَ أَكْثِرِ الِاسْتِخَارَةَ وَ تَفَهَّمْ وَصِيَّتِي وَ لَا تَذْهَبَنَّ عَنْكَ صَفْحاً فَإِنَّ خَيْرَ الْقَوْلِ مَا نَفَعَ وَ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي عِلْم لَا يَنْفَعُ وَ لَا يُنْتَفَعُ

بِعِلْم لَا يَحِقُّ تَعَلُّمُهُ

[16 : 65 ]

أمره يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر و هما واجبان عندنا و أحد الأصول الخمسة التي هي أصول الدين. و معنى قوله تكن من أهله

لأن أهل المعروف هم الأبرار الصالحون و يجب إنكار المنكر باللسان فإن لم ينجع فباليد و تفصيل ذلك و ترتيبه مذكور في كتبي

الكلامية. قوله و خض الغمرات إلى الحق لا شبهة أن الحسن ع لو تمكن لخاضها إلا أن من فقد الأنصار لا حيلة له.

و هل ينهض البازي بغير جناح

و الذي خاضها مع عدم الأنصار هو الحسين ع و لهذا عظم عند الناس قدره فقدمه قوم كثير على الحسن ع فإن قلت فما قول أصحابكم

في ذلك قلت هما عندنا في الفضيلة سيان أما الحسن فلوقوفه مع قوله تعالى إِلّا أَنْ تَتَّقُوا و أما الحسين فلإعزاز الدين. قوله فنعم

التصبر قد تقدم منا كلام شاف في الصبر. و قوله و أكثر الاستخارة ليس يعني بها ما يفعله اليوم قوم من الناس من سطر رقاع و جعلها

في بنادق و إنما المراد أمره إياه بأن يطلب الخيرة من الله فيما يأتي و يذر. قوله لا خير في علم لا ينفع قول حق لأنه إذا لم ينفع كان

عبثا.

[16 : 66 ]

قوله و لا ينتفع بعلم لا يحق تعلمه أي لا يجب و لا يندب إليه و ذلك لأن النفع إنما هو نفع الآخرة فما لم يكن من العلوم مرغبا فيه

إما بإيجاب أو ندب فلا انتفاع به في الآخرة و ذلك كعلم الهندسة و الأرثماطيقي و نحوهما

أَيْ بُنَيَّ إِنِّي لَمَّا رَأَيْتُنِي قَدْ بَلَغْتُ سِنّاً وَ رَأَيْتُنِي أَزْدَادُ وَهْناً بَادَرْتُ بِوَصِيَّتِي إِلَيْكَ وَ أَوْرَدْتُ خِصَالًا مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَعْجَلَ بِي أَجَلِي دُونَ أَنْ

أُفْضِيَ إِلَيْكَ بِمَا فِي نَفْسِي أَوْ أَنْ أُنْقَصَ فِي رَأْيِي كَمَا نُقِصْتُ فِي جِسْمِي أَوْ يَسْبِقَنِي إِلَيْكَ بَعْضُ غَلَبَاتِ الْهَوَى وَ فِتَنِ الدُّنْيَا فَتَكُونَ

كَالصَّعْبِ النَّفُورِ وَ إِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالْأَرْضِ الْخَالِيَةِ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْء قَبِلَتْهُ فَبَادَرْتُكَ بِالْأَدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُوَ قَلْبُكَ وَ يَشْتَغِلَ لُبُّكَ

لِتَسْتَقْبِلَ بِجِدِّ رَأْيِكَ مِنَ الْأَمْرِ مَا قَدْ كَفَاكَ أَهْلُ التَّجَارِبِ بُغْيَتَهُ وَ تَجْرِبَتَهُ فَتَكُونَ قَدْ كُفِيتَ مَئُونَةَ الطَّلَبِ وَ عُوفِيتَ مِنْ عِلَاجِ التَّجْرِبَةِ

فَأَتَاكَ مِنْ ذَلِكَ مَا قَدْ كُنَّا نَأْتِيهِ وَ اسْتَبَانَ لَكَ مَا رُبَّمَا أَظْلَمَ عَلَيْنَا مِنْهُ

هذه الوصية كتبها ع للحسن بعد أن تجاوز الستين و روي أنه ذكر عند رسول الله ص ما بين الستين و السبعين فقال معترك المنايا.

قوله ع أو أن أنقص في رأيي هذا يدل على بطلان قول من قال إنه لا يجوز أن ينقص في رأيه و أن الإمام معصوم عن أمثال ذلك و

كذلك قوله

[16 : 67 ]

للحسن أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى و فتن الدنيا يدل على أن الإمام لا يجب أن يعصم عن غلبات الهوى و لا عن فتن الدنيا.

قوله فتكون كالصعب النفور أي كالبعير الصعب الذي لا يمكن راكبا و هو مع ذلك نفور عن الأنس. ثم ذكر أن التعلم إنما هو في الصبا

و في المثل الغلام كالطين يقبل الختم ما دام رطبا. و قال الشاعر

اختم و طينك رطب إن قدرت فكم قد أمكن الختم أقواما فما ختموا

و مثل هو ع قلب الحدث بالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته و كان يقال التعلم في الصغر كالنقش في الحجر و التعلم في

الكبر كالخط على الماء. قوله فأتاك من ذلك ما كنا نأتيه أي الذي كنا نحن نتجشم المشقة في اكتسابه و نتكلف طلبه يأتيك أنت

الآن صفوا عفوا

أَيْ بُنَيَّ إِنِّي وَ إِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ وَ فَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ وَ سِرْتُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ بَلْ

كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِهِ وَ نَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْر

جَلِيلَهُ وَ تَوَخَّيْتُ لَكَ

[16 : 68 ]

جَمِيلَهُ وَ صَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ وَ رَأَيْتُ حَيْثُ عَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِي الْوَالِدَ الشَّفِيقَ وَ أَجْمَعْتُ عَلَيْهِ مِنْ أَدَبِكَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَ أَنْتَ مُقْبِلُ

الْعُمُرِ وَ مُقْتَبَلُ الدَّهْرِ ذُو نِيَّة سَلِيمَة وَ نَفْس صَافِيَة وَ أَنْ أَبْتَدِئَكَ بِتَعْلِيمِ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ تَأْوِيلِهِ وَ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَ أَحْكَامِهِ وَ حَلَالِهِ

وَ حَرَامِهِ لَا أُجَاوِزُ ذَلِكَ بِكَ إِلَى غَيْرِهِ ثُمَّ أَشْفَقْتُ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَيْكَ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَهْوَائِهِمْ وَ آرَائِهِمْ مِثْلَ الَّذِي الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ

فَكَانَ إِحْكَامُ ذَلِكَ عَلَى مَا كَرِهْتُ مِنْ تَنْبِيهِكَ لَهُ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلَامِكَ إِلَى أَمْر لَا آمَنُ عَلَيْكَ فِيهِ الْهَلَكَةَ وَ رَجَوْتُ أَنْ يُوَفِّقَكَ اللَّهُ فِيهِ

لِرُشْدِكَ وَ أَنْ يَهْدِيَكَ لِقَصْدِكَ فَعَهِدْتُ إِلَيْكَ وَصِيَّتِي هَذِهِ

هذا الفصل و ما بعده يشعر بالنهي عن علم الكلام حسب ما يقتضيه ظاهر لفظه أ لا تراه قال له كنت عازما على أن أعلمك القرآن و

تفسيره و الفقه و هو المعرفة بأحكام الشريعة و لا أجاوز ذلك بك إلى غيره ثم خفت أن تدخل عليك شبهة في أصول الدين فيلتبس

عليك في عقيدتك الأصلية ما التبس على غيرك من الناس فعدلت عن العزم الأول إلى أن أوصيك بوصايا تتعلق بأصول الدين. و معنى

قوله ع و كان إحكام ذلك إلى قوله لا آمن عليك به الهلكة أي فكان إحكامي الأمور الأصلية عندك و تقرير الوصية التي أوصيك بها في

ذهنك فيما رجع إلى النظر في العلوم الإلهية و إن كنت كارها للخوض معك

[16 : 69 ]

فيه و تنبيهك عليه أحب إلي من أن أتركك سدى مهملا تتلاعب بك الشبه و تعتورك الشكوك في أصول دينك فربما أفضى ذلك بك إلى

الهلكة. فإن قلت فلما ذا كان كارها تنبيه ولده على ذلك و أنتم تقولون إن معرفة الله واجبة على المكلفين و ليس يليق بأمير

المؤمنين أن يكره ما أوجبه الله تعالى قلت لعله علم إما من طريق وصية رسول الله ص أو من طريق معرفته بما يصلح أن يكون لطفا

لولده و معرفته بما يكون مفسدة له لكثرة التجربة له و طول الممارسة لأخلاقه و طباعه أن الأصلح له ألا يخوض في علم الكلام

الخوض الكلي و أن يقتنع بالمبادئ و الجمل فمصالح البشر تختلف فرب إنسان مصلحته في أمر ذلك الأمر بعينه مفسدة لغيره و نحن

و إن أوجبنا المعرفة فلم نوجب منها إلا الأمور المجملة و أما التفصيلات الدقيقة الغامضة فلا تجب إلا عند ورود الشبهة فإذا لم تقع

الشبهة في نفس المكلف لم يجب عليه الخوض في التفصيلات. قوله ع قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم العين مفتوحة و الميم

مكسورة مخففة تقول عمر الرجل يعمر عمرا و عمرا على غير قياس لأن قياس مصدره التحريك أي عاش زمانا طويلا و استعمل في

القسم أحدهما فقط و هو المفتوح. قوله ع حيث عناني من أمرك أي أهمني قال

عناني من صدودك ما عنا

قوله و أجمعت عليه أي عزمت. و مقتبل الدهر يقال اقتبل الغلام فهو مقتبل بالفتح و هو من الشواذ و مثله أحصن الرجل إذا تزوج

فهو محصن و إذا عف فمحصن أيضا و أسهب إذا أطال الحديث فهو مسهب و ألفج إذا افتقر فهو ملفج و ينبغي أن يكون له من قوله

تنبيهك له بمعنى

[16 : 70 ]

عليه أو تكون على أصلها أي ما كرهت تنبيهك لأجله. فإن قلت إلى الآن ما فسرت لما ذا كره تنبيهه على هذا الفن قلت بلى قد أشرت

إليه و هو أنه كره أن يعدل به عن تفسير القرآن و علم الفقه إلى الخوض في الأمور الأصولية فنبهه على أمور يجره النظر و تأمل

الأدلة و الشبهات إليها دقيقة يخاف على الإنسان من الخوض فيها أن تضطرب عقيدته إلا أنه لم يجد به بدا من تنبيهه على أصول

الديانة و إن كان كارها لتعريضه لخطر الشبهة فنبهه على أمور جملية غير مفصلة و أمره أن يلزم ذلك و لا يتجاوزه إلى غيره و أن

يمسك عما يشتبه عليه و سيأتي ذكر ذلك

وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَبَّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِهِ إِلَيَّ مِنْ وَصِيَّتِي تَقْوَى اللَّهِ وَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ وَ الْأَخْذُ بِمَا مَضَى عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ مِنْ

آبَائِكَ وَ الصَّالِحُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوا أَنْ نَظَرُوا لِأَنْفُسِهِمْ كَمَا أَنْتَ نَاظِرٌ وَ فَكَّرُوا كَمَا أَنْتَ مُفَكِّرٌ ثُمَّ رَدَّهُمْ آخِرُ ذَلِكَ إِلَى

الْأَخْذِ بِمَا عَرَفُوا وَ الْإِمْسَاكِ عَمَّا لَمْ يُكَلَّفُوا فَإِنْ أَبَتْ نَفْسُكَ أَنْ تَقْبَلَ ذَلِكَ دُونَ أَنْ تَعْلَمَ كَمَا عَلِمُوا فَلْيَكُنْ طَلَبُكَ ذَلِكَ بِتَفَهُّم وَ تَعَلُّم لَا

بِتَوَرُّطِ الشُّبُهَاتِ وَ عُلَقِ الْخُصُومَاتِ وَ ابْدَأْ قَبْلَ نَظَرِكَ فِي ذَلِكَ بِالِاسْتِعَانَةِ بِإِلَهِكَ وَ الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ فِي تَوْفِيقِكَ وَ تَرْكِ كُلِّ شَائِبَة أَوْلَجَتْكَ

فِي شُبْهَة أَوْ أَسْلَمَتْكَ إِلَى ضَلَالَة فَإِنْ أَيْقَنْتَ أَنْ قَدْ صَفَا قَلْبُكَ فَخَشَعَ وَ تَمَّ رَأْيُكَ فَاجْتَمَعَ وَ كَانَ هَمُّكَ فِي ذَلِكَ هَمّاً وَاحِداً فَانْظُرْ فِيمَا

فَسَّرْتُ لَكَ وَ إِنْ أَنْتَ لَمْ يَجْتَمِعْ لَكَ مَا تُحِبُّ مِنْ نَفْسِكَ وَ فَرَاغِ نَظَرِكَ وَ فِكْرِكَ

[16 : 71 ]

فَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا تَخْبِطُ الْعَشْوَاءَ وَ تَتَوَرَّطُ الظَّلْمَاءَ وَ لَيْسَ طَالِبُ الدِّينِ مَنْ خَبَطَ أَوْ خَلَطَ وَ الْإِمْسَاكُ عَنْ ذَلِكَ أَمْثَلُ

أمره أن يقتصر على القيام بالفرائض و أن يأخذ بسنة السلف الصالح من آبائه و أهل بيته فإنهم لم يقتصروا على التقليد بل نظروا

لأنفسهم و تأملوا الأدلة ثم رجعوا آخر الأمر إلى الأخذ بما عرفوا و الإمساك عما لم يكلفوا. فإن قلت من سلفه هؤلاء الذين أشار

إليهم قلت المهاجرون الأولون من بني هاشم و بني المطلب كحمزة و جعفر و العباس و عبيدة بن الحارث و كأبي طالب في قول

الشيعة و كثير من أصحابنا و كعبد المطلب في قول الشيعة خاصة. فإن قلت فهل يكون أمير المؤمنين ع نفسه معدودا من جملة هؤلاء

قلت لا فإنه لم يكن من أهل المبادئ و الجمل المقتصر بهم في تكليفهم العقليات على أوائل الأدلة بل كان سيد أهل النظر كافة و

إمامهم. فإن قلت ما معنى قوله لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم قلت لأنهم إذا تأملوا الأدلة و فكروا فيها فقد نظروا لأنفسهم كما ينظر

الإنسان لنفسه ليخلصها من مضرة عظيمة سبيلها أن تقع به إن لم ينظر في الخلاص منها و هذا هو الوجه في وجوب النظر في طريق

معرفة الله و الخوف من إهمال النظر. فإن قلت ما معنى قوله إلى الأخذ بما عرفوا و الإمساك عما لم يكلفوا

[16 : 72 ]

قلت الأخذ بما عرفوا مثل أدلة حدوث الأجسام و توحيد البارئ و عدله و الإمساك عما لم يكلفوا مثل النظر في إثبات الجزء الذي لا

يتجزأ و نفيه و مثل الكلام في الخلإ و الملإ و الكلام في أن هل بين كل حركتين مستقيمتين سكون أم لا و أمثال ذلك مما لا يتوقف

أصول التوحيد و العدل عليه فإنه لا يلزم أصحاب الجمل و المبادئ أن يخوضوا في ذلك لأنهم لم يكلفوا الخوض فيه و هو من

وظيفة قوم آخرين. قوله ع فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا هذا الموضع فيه نظر لأنا قد قلنا إنهم لم يعلموا

التفاصيل الدقيقة فكيف يجعلهم عالمين بها و يقول أن تعلم كما علموا و ينبغي أن يقال إن الكاف و ما عملت فيه في موضع نصب

لأنه صفة مصدر محذوف و تقديره فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك علما كما علموا دون أن تعلم التفاصيل الدقيقة و جاز انتصاب علما و

العامل فيه تقبل لأن القبول من جنس العلم لأن القبول اعتقاد و العلم اعتقاد و ليس لقائل أن يقول فإذن يكون قد فصل بين الصفة و

الموصوف بأجنبي لأن الفصل بينهما قد جاء كثيرا قال الشاعر

جزى الله كفا ملئها من سعادة سرت في هلاك المال و المال نائم

و يجوز أن يقال كما علموا الآن بعد موتهم فإنهم بعد الموت يكونون عالمين بجميع ما يشتبه علمه على الناس في الحياة الدنيا لأن

المعارف ضرورية بعد الموت و النفوس باقية على قول كثير من المسلمين و غيرهم. و اعلم أن الذي يدعو إلى تكلف هذه التأويلات

أن ظاهر الكلام كونه يأمر بتقليد النبي ص و الأخذ بما في القرآن و ترك النظر العقلي هذا هو ظاهر الكلام أ لا تراه كيف يقول له

الاقتصار على ما فرضه الله عليك و الأخذ بما مضى عليه أهل

[16 : 73 ]

بيتك و سلفك فإنهم لما حاولوا النظر رجعوا بأخرة إلى السمعيات و تركوا العقليات لأنها أفضت بهم إلى ما لا يعرفونه و لا هو من

تكليفهم. ثم قال له فإن كرهت التقليد المحض و أحببت أن تسلك مسلكهم في النظر و إن أفضى بك الأمر بأخرة إلى تركه و العود إلى

المعروف من الشرعيات و ما ورد به الكتاب و السنة فينبغي أن تنظر و أنت مجتمع الهم خال من الشبهة و تكون طالبا للحق غير

قاصد إلى الجدل و المراء فلما وجدنا ظاهر اللفظ يقتضي هذه المعاني و لم يجز عندنا أن يأمر أمير المؤمنين ع ولده مع حكمته و

أهلية ولده بالتقليد و ترك النظر رجعنا إلى تأويل كلامه على وجه يخرج به ع من أن يأمر بما لا يجوز لمثله أن يأمر به. و اعلم أنه قد

أوصاه إذا هم بالشروع في النظر بمحض ما ذكره المتكلمون و ذلك أمور منها أن يرغب إلى الله في توفيقه و تسديده. و منها أن يطلب

المطلوب النظري بتفهم و تعلم لا بجدال و مغالبة و مراء و مخاصمة. و منها إطراح العصبية لمذهب بعينه و التورط في الشبهات

التي يحاول بها نصره ذلك المذهب. و منها ترك الإلف و العادة و نصرة أمر يطلب به الرئاسة و هو المعني بالشوائب التي تولج في

الضلال. و منها أن يكون صافي القلب مجتمع الفكر غير مشغول السر بأمر من جوع

[16 : 74 ]

أو شبع أو شبق أو غضب و لا يكون ذا هموم كثيرة و أفكار موزعة مقسمة بل يكون فكره و همه هما واحدا. قال فإذا اجتمع لك كل

ذلك فانظر و إن لم يجتمع لك ذلك و نظرت كنت كالناقة العشواء الخابطة لا تهتدي و كمن يتورط في الظلماء لا يعلم أين يضع قدمه

و ليس طالب الدين من كان خابطا أو خالطا و الإمساك عن ذلك أمثل و أفضل

فَتَفَهَّمْ يَا بُنَيَّ وَصِيَّتِي وَ اعْلَمْ أَنَّ مَالِكَ الْمَوْتِ هُوَ مَالِكُ الْحَيَاةِ وَ أَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمُمِيتُ وَ أَنَّ الْمُفْنِيَ هُوَ الْمُعِيدُ وَ أَنَّ الْمُبْتَلِيَ هُوَ الْمُعَافِي

وَ أَنَّ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ لِتَسْتَقِرَّ إِلَّا عَلَى مَا جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ النَّعْمَاءِ وَ الِابْتِلَاءِ وَ الْجَزَاءِ فِي الْمَعَادِ أَوْ مَا شَاءَ مِمَّا لَا تَعْلَمُ فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكَ

شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَاحْمِلْهُ عَلَى جَهَالَتِكَ فَإِنَّكَ أَوَّلُ مَا خُلِقْتَ بِهِ جَاهِلًا ثُمَّ عُلِّمْتَ وَ مَا أَكْثَرَ مَا تَجْهَلُ مِنَ الْأَمْرِ وَ يَتَحَيَّرُ فِيهِ رَأْيُكَ وَ يَضِلُّ فِيهِ

بَصَرُكَ ثُمَّ تُبْصِرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ

قد تعلق بهذه اللفظة و هو قوله أو ما شاء مما لا تعلم قوم من التناسخية و قالوا المعني بها الجزاء في الهياكل التي تنتقل النفوس

إليها و ليس ما قالوه بظاهر و يجوز أن يريد ع أن الله تعالى قد يجازي المذنب في الدنيا بنوع من العقوبة كالأسقام و الفقر و

غيرهما و العقاب و إن كان مفعولا على وجه الاستحقاق و الإهانة فيجوز لمستحقه و هو الباري

[16 : 75 ]

أن يقتصر منه على الإيلام فقط لأن الجميع حقه فله أن يستوفي البعض و يسقط البعض و قد روي أو بما شاء بالباء الزائدة و روي بما

لا يعلم و أما الثواب فلا يجوز أن يجازى به المحسن في الدنيا لأنه على صفة لا يمكن أن تجامع التكليف فيحمل لفظ الجزاء على

جزاء العقاب خاصة. ثم أعاد ع وصيته الأولى فقال و إن أشكل عليك شيء من أمر القضاء و القدر و هو كون الكافر مخصوصا بالنعماء

و المؤمن مخصوصا بضرب من الابتلاء و كون الجزاء قد يكون في المعاد و قد يكون في غير المعاد فلا تقدحن جهالتك به في سكون

قلبك إلى ما عرفتك جملته و هو أن الله تعالى هو المحيي المميت المفني المعيد المبتلي المعافي و أن الدنيا بنيت على الابتلاء و

الأنعام و أنهما لمصالح و أمور يستأثر الله تعالى بعلمها و أنه يجازي عباده إما في الآخرة أو غير الآخرة على حسب ما يريده و يختاره.

ثم قال له إنما خلقت في مبدإ خلقتك جاهلا فلا تطلبن نفسك غاية من العلم لا وصول لها إليها أو لها إليها وصول بعد أمور صعبة و

متاعب شديدة فمن خلق جاهلا حقيق أن يكون جهله مدة عمره أكثر من علمه استصحابا للأصل. ثم أراد أن يؤنسه بكلمة استدرك بها

إيحاشه فقال له و عساك إذا جهلت شيئا من ذلك أن تعلمه فيما بعد فما أكثر ما تجهل من الأمور و تتحير فيه ثم تبصره و تعرفه و هذا

من الطب اللطيف و الرقى الناجعة و السحر الحلال

[16 : 76 ]

فَاعْتَصِمْ بِالَّذِي خَلَقَكَ وَ رَزَقَكَ وَ سَوَّاكَ فَلْيَكُنْ لَهُ تَعَبُّدُكَ وَ إِلَيْهِ رَغْبَتُكَ وَ مِنْهُ شَفَقَتُكَ وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَداً لَمْ يُنْبِئْ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَمَا

أَنْبَأَ عَلَيْهِ نَبِيُّنَا ص فَارْضَ بِهِ رَائِداً وَ إِلَى النَّجَاةِ قَائِداً فَإِنِّي لَمْ آلُكَ نَصِيحَةً وَ إِنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ فِي النَّظَرِ لِنَفْسِكَ وَ إِنِ اجْتَهَدْتَ مَبْلَغَ نَظَرِي

لَكَ

عاد إلى أمره باتباع الرسول ص و أن يعتمد على السمع و ما وردت به الشريعة و نطق به الكتاب و قال له إن أحدا لم يخبر عن الله

تعالى كما أخبر عنه نبينا ص و صدق ع فإن التوراة و الإنجيل و غيرهما من كتب أنبياء بني إسرائيل لم تتضمن من الأمور الإلهية ما

تضمنه القرآن و خصوصا في أمر المعاد فإنه في أحد الكتابين مسكوت عنه و في الآخر مذكور ذكرا مضطربا و الذي كشف هذا القناع

في هذا المعنى و صرح بالأمر هو القرآن ثم ذكر له أنه أنصح له من كل أحد و أنه ليس يبلغ و إن اجتهد في النظر لنفسه ما يبلغه هو ع

له لشدة حبه له و إيثاره مصلحته و قوله لم آلك نصحا لم أقصر في نصحك ألى الرجل في كذا يألو أي قصر فهو آل و الفعل لازم و

لكنه حذف اللام فوصل الفعل إلى الضمير فنسبه و كان أصله لا آلو لك نصحا و نصحا منصوب على التمييز و ليس كما قاله

الراوندي إن انتصابه على أنه مفعول ثان فإنه إلى مفعول واحد لا يتعدى فكيف إلى اثنين

[16 : 77 ]

و يقول هذه امرأة آلية أي مقصرة و جمعها أوال و في المثل إلا حظية فلا ألية أصله في المرأة تصلف عند بعلها فتوصي حيث فاتتها

الحظوة ألا تألوه في التودد إليه و التحبب إلى قلبه. قوله و منه شفقتك أي خوفك. و رائد أصله الرجل يتقدم القوم فيرتاد بهم

المرعى

وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ لَأَتَتْكَ رُسُلُهُ وَ لَرَأَيْتَ آثَارَ مِلْكِهِ وَ سُلْطَانِهِ وَ لَعَرَفْتَ أَفْعَالَهُ وَ صِفَاتَهُ وَ لَكِنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ كَمَا وَصَفَ

نَفْسَهُ لَا يُضَادُّهُ فِي مُلْكِهِ أَحَدٌ وَ لَا يَزُولُ أَبَداً وَ لَمْ يَزَلْ أَوَّلٌ قَبْلَ الْأَشْيَاءِ بِلَا أَوَّلِيَّة وَ آخِرٌ بَعْدَ الْأَشْيَاءِ بِلَا نِهَايَة عَظُمَ أَنْ تُثْبَتَ رُبُوبِيَّتُهُ

بِإِحَاطَةِ قَلْب أَوْ بَصَر فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَافْعَلْ كَمَا يَنْبَغِي لِمِثْلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي صِغَرِ خَطَرِهِ وَ قِلَّةِ مَقْدِرَتِهِ وَ كَثْرَةِ عَجْزِهِ و عَظِيمِ حَاجَتِهِ إِلَى رَبِّهِ

فِي طَلَبِ طَاعَتِهِ وَ الرَّهِينَةِ مِنْ عُقُوبَتِهِ وَ الْخَشْيَةِ مِنْ عُقُوبَتِهِ وَ الشَّفَقَةِ مِنْ سُخْطِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْكَ إِلَّا بِحَسَن وَ لَمْ يَنْهَكَ إِلَّا عَنْ قَبِيح

يمكن أن يستدل بهذا الكلام على نفي الثاني من وجهين أحدهما أنه لو كان في الوجود ثان للبارئ تعالى لما كان القول بالوحدانية

حقا بل كان الحق هو القول بالتثنية و محال ألا يكون ذلك الثاني حكيما و لو كان الحق هو

[16 : 78 ]

إثبات ثان حكيم لوجب أن يبعث رسولا يدعو المكلفين إلى التثنية لأن الأنبياء كلهم دعوا إلى التوحيد لكن التوحيد على هذا الفرض

ضلال فيجب على الثاني الحكيم أن يبعث من ينبه المكلفين على ذلك الضلال و يرشدهم إلى الحق و هو إثبات الثاني و إلا كان

منسوبا في إهمال ذلك إلى السفه و استفساد المكلفين و ذلك لا يجوز و لكنا ما أتانا رسول يدعو إلى إثبات ثان في الإلهية فبطل

كون القول بالتوحيد ضلالا و إذا لم يكن ضلالا كان حقا فنقيضه و هو القول بإثبات الثاني باطل الوجه الثاني أنه لو كان في الوجود

ثان للقديم تعالى لوجب أن يكون لنا طريق إلى إثباته إما من مجرد أفعاله أو من صفات أفعاله أو من صفات نفسه أو لا من هذا و لا من

هذا فمن التوقيف. و هذه هي الأقسام التي ذكرها أمير المؤمنين ع لأن قوله أتتك رسله هو التوقيف و قوله و لرأيت آثار ملكه و

سلطانه هي صفات أفعاله و قوله و لعرفت أفعاله و صفاته هما القسمان الآخران. أما إثبات الثاني من مجرد الفعل فباطل لأن الفعل

إنما يدل على فاعل و لا يدل على التعدد و أما صفات أفعاله و هي كون أفعاله محكمة متقنة فإن الأحكام الذي نشاهده إنما يدل على

عالم و لا يدل على التعدد و أما صفات ذات البارئ فالعلم بها فرع على العلم بذاته فلو أثبتنا ذاته بها لزم الدور. و أما التوقيف فلم

يأتنا رسول ذو معجزة صحيحة يدعونا إلى الثاني و إذا بطلت الأقسام كلها و قد ثبت أن ما لا طريق إلى إثباته لا يجوز إثباته بطل

القول بإثبات الثاني. ثم قال لا يضاده في ملكه أحد ليس يريد بالضد ما يريده المتكلمون من نفي ذات هي معاكسة لذات البارئ تعالى

في صفاتها كمضادة السواد للبياض بل مراده نفي الثاني لا غير فإن نفي الضد بحث آخر لا دخول له بين هذا الكلام.

[16 : 79 ]

ثم ذكر له أن البارئ تعالى قديم سابق للأشياء لا سبقا له حد محدود و أول معين بل لا أول له مطلقا. ثم قال و هو مع هذا آخر الأشياء

آخرية مطلقة ليس تنتهي إلى غاية معينة. ثم ذكر أن له ربوبية جلت عن أن تحيط بها الأبصار و العقول. و قد سبق منا خوض في هذا

المعنى و ذكرنا من نظمنا في هذا النمط أشياء لطيفة و نحن نذكر هاهنا من نظمنا أيضا في هذا المعنى و في فننا الذي اشتهرنا به و هو

المناجاة و المخاطبة على طريقة أرباب الطريقة ما لم نذكره هناك فمن ذاك قولي

فلا و الله ما وصل ابن سينا و لا أغنى ذكاء أبي الحسين

و لا رجعا بشيء بعد بحث و تدقيق سوى خفي حنين

لقد طوفت أطلبكم و لكن يحول الوقت بينكم و بيني

فهل بعد انقضاء الوقت أحظى بوصلكم غدا و تقر عيني

منى عشنا بها زمنا و كانت تسوفنا بصدق أو بمين

فإن أكدت فذاك ضياع ديني و إن أجدت فذاك حلول ديني

و منها

أ مولاي قد أحرقت قلبي فلا تكن غدا محرقا بالنار من كان يهواكا

أ تجمع لي نارين نار محبة و نار عذاب أنت أرحم من ذاكا

و منها

قوم موسى تاهوا سنين كما قد جاء في النص قدرها أربعونا

و لي اليوم تائها في جوى من لا أسمي و حبه خمسونا

قل لأحبابنا إلام نروم الوصل منكم و أنتم تمنعونا

[16 : 80 ]

كم نناجيكم فلا ترشدونا و نناديكم فلا تسمعونا

حسبنا علمكم بأنا مواليكم و إن كنتم لنا كارهينا

فعسى تدرك السعادة أرباب المعاصي فيصبحوا فائزينا

و منها

و الله ما آسى من الدنيا على مال و لا ولد و لا سلطان

بل في صميم القلب مني حسرة تبقى معي و تلف في أكفاني

إني أراك بباطني لا ظاهري فالحسن مشغلة عن العرفان

يا من سهرت مفكرا في أمره خمسين حولا دائم الجولان

فرجعت أحمق من نعامة بيهس و أضل سعيا من أبي غبشان

و منها

و حقك إن أدخلتني النار قلت للذين بها قد كنت ممن أحبه

و أفنيت عمري في علوم دقيقة و ما بغيتي إلا رضاه و قربه

هبوني مسيئا أوتغ الحلم جهله و أوبقه بين البرية ذنبه

أ ما يقتضي شرع التكرم عتقه أ يحسن أن ينسى هواه و حبه

أ ما كان ينوي الحق فيما يقوله أ لم تنصر التوحيد و العدل كتبه

أ ما رد زيغ ابن الخطيب و شكه و إلحاده إذ جل في الدين خطبه

أ ما قلتم من كان فينا مجاهدا سيكرم مثواه و يعذب شربه

و نهديه سبلا من هدانا جهاده و يدخله خير المداخل كسبه

فأي اجتهاد فوق ما كان صانعا و قد أحرقت زرق الشياطين شهبه

و ما نال قلب الجيش جيش محمد كما نال من أهل الضلالة قلبه

[16 : 81 ]

فإن تصفحوا يغنم و إن تتجرموا فتعذيبكم حلو المذاقة عذبه

و آية صدق الصب أن يعذب الأذى إذ كان من يهوى عليه يصبه

و منها

إذا فكرت فيك يحار عقلي و ألحق بالمجانين الكبار

و أصحو تارة فيشوب ذهني و يقدح خاطري كشواظ نار

فيا من تاهت العقلاء فيه فأمسوا كلهم صرعى عقار

و يا من كاعت الأفكار عنه ف آبت بالمتاعب و الخسار

و يا من ليس يعلمه نبي و لا ملك و لا يدريه دار

و يا من ليس قداما و خلفا و لا جهة اليمين و لا اليسار

و لا فوق السماء و لا تدلى من الأرضين في لجج البحار

و يا من أمره من ذاك أجلى من ابن ذكاء أو صبح النهار

سألتك باسمك المكتوم إلا فككت النفس من رق الإسار

وجدت لها بما تهوى فأنت العليم بباطن اللغز الضمار

و منها

يا رب إنك عالم بمحبتي لك و اجتهادي

و تجردي للذب عنك على مراغمة الأعادي

بالعدل و التوحيد أصدع معلنا في كل نادي

و كشفت زيغ ابن الخطيب و لبسه بين العباد

و نقضت سائر ما بناه من الضلالة و الفساد

[16 : 82 ]

و أبنت عن إغوائه في دين أحمد ذي الرشاد

و جعلت أوجه ناصريه محممات بالسواد

و كففت من غلوائهم بعد التمرد و العناد

فكأنما نخل الرماد عليهم بعد الرماد

و قصدت وجهك أبتغي حسن المثوبة في المعاد

فأفض على العبد الفقير إليكم نور السداد

و ارزقه قبل الموت معرفة المصائر و المبادي

و افكك أسير الحرص باللأصفاد من أسر الصفاد

و اغسل بصفو القرب من أبوابكم كدر البعاد

و أعضه من حر الغليل بوصلكم برد الفؤاد

و ارحم عيونا فيك هامية و قلبا فيك صاد

يا ساطح الأرض المهاد و ممسك السبع الشداد

يَا بُنَيَّ إِنِّي قَدْ أَنْبَأْتُكَ عَنِ الدُّنْيَا وَ حَالِهَا وَ زَوَالِهَا وَ انْتِقَالِهَا وَ أَنْبَأْتُكَ عَنِ الآْخِرَةِ وَ مَا أُعِدَّ لِأَهْلِهَا وَ ضَرَبْتُ لَكَ فِيهِمَا الْأَمْثَالَ لِتَعْتَبِرَ بِهَا وَ

تَحْذُوَ عَلَيْهَا إِنَّمَا مَثَلُ مَنْ خَبَرَ الدُّنْيَا كَمَثَلِ قَوْم سَفْر نَبَا بِهِمْ مَنْزِلٌ جَدِيبٌ فَأَمُّوا مَنْزِلًا خَصِيباً وَ جَنَاباً مَرِيعاً فَاحْتَمَلُوا وَعْثَاءَ الطَّرِيقِ وَ

فِرَاقَ الصَّدِيقِ وَ خُشُونَةَ السَّفَرِ وَ جُشُوبَةَ المَطْعَمِ لِيَأْتُوا سَعَةَ دَارِهِمْ وَ مَنْزِلَ قَرَارِهِمْ فَلَيْسَ يَجِدُونَ لِشَيْء مِنْ ذَلِكَ أَلَماً وَ لَا يَرَوْنَ نَفَقَةً

فِيهِ مَغْرَماً وَ لَا شَيْءَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِمَّا قَرَّبَهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِمْ

[16 : 83 ]

وَ أَدْنَاهُمْ إِلَى مَحَلَّتِهِمْ وَ مَثَلُ مَنِ اغْتَرَّ بِهَا كَمَثَلِ قَوْم كَانُوا بِمَنْزِل خَصِيب فَنَبَا بِهِمْ إِلَى مَنْزِل جَدِيب فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِمْ وَ لَا أَفْظَعَ

عِنْدَهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فِيهِ إِلَى مَا يَهْجُمُونَ عَلَيْهِ وَ يَصِيرُونَ إِلَيْهِ

حذا عليه يحذو و احتذى مثاله يحتذي أي اقتدى به و قوم سفر بالتسكين أي مسافرون. و أموا قصدوا و المنزل الجديب ضد المنزل

الخصيب. و الجناب المريع بفتح الميم ذو الكلإ و العشب و قد مرع الوادي بالضم. و الجناب الفناء و وعثاء الطريق مشقتها. و

جشوبة المطعم غلظه طعام جشيب و مجشوب و يقال إنه الذي لا أدم معه. يقول مثل من عرف الدنيا و عمل فيها للآخرة كمن سافر

من منزل جدب إلى منزل خصيب فلقي في طريقه مشقة فإنه لا يكترث بذلك في جنب ما يطلب و بالعكس من عمل للدنيا و أهمل أمر

الآخرة فإنه كمن يسافر إلى منزل ضنك و يهجر منزلا رحيبا طيبا و هذا من

قول رسول الله ص الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر

[16 : 84 ]

يَا بُنَيَّ اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيمَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ غَيْرِكَ فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ وَ اكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا وَ لَا تَظْلِمْ كَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ وَ

أَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ وَ اسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ وَ ارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ وَ لَا تَقُلْ مَا لَا

تَعْلَمُ وَ إِنْ قَلَّ مَا تَعْلَمُ وَ لَا تَقُلْ مَا لَا تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ وَ اعْلَمْ أَنَّ الْإِعْجَابَ ضِدُّ الصَّوَابِ وَ آفَةُ الْأَلْبَابِ فَاسْعَ فِي كَدْحِكَ وَ لَا تَكُنْ خَازِناً

لِغَيْرِكَ وَ إِذَا أَنْتَ هُدِيتَ لِقَصْدِكَ فَكُنْ أَخْشَعَ مَا تَكُونُ لِرَبِّكَ

جاء في الحديث المرفوع لا يكمل إيمان عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه و يكره لأخيه ما يكره لنفسه

و قال بعض الأسارى لبعض الملوك افعل معي ما تحب أن يفعل الله معك فأطلقه و هذا هو معنى قوله ع و لا تظلم كما لا تحب أن

تظلم. و قوله و أحسن من قول الله تعالى وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ. و قوله و استقبح من نفسك سئل الأحنف عن المروءة فقال

أن تستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك و روي و ارض من الناس لك و هي أحسن. و أما العجب و ما ورد في ذمة فقد قدمنا فيه قولا

مقنعا.

[16 : 85 ]

قوله ع و اسع في كدحك أي أذهب ما اكتسبت بالإنفاق و الكدح هاهنا هو المال الذي كدح في حصوله و السعي فيه إنفاقه و هذه كلمة

فصيحة و قد تقدم نظائر قوله و لا تكن خازنا لغيرك. ثم أمره أن يكون أخشع ما يكون لله إذ هداه لرشده و ذلك لأن هدايته إياه إلى

رشده نعمة عظيمة منه فوجب أن يقابل بالخشوع لأنه ضرب من الشكر

وَ اعْلَمْ أَنَّ أَمَامَكَ طَرِيقاً ذَا مَسَافَة بَعِيدَة وَ مَشَقَّة شَدِيدَة وَ أَنَّهُ لَا غِنَى بِكَ فِيهِ عَنْ حُسْنِ الِارْتِيَادِ وَ قَدْرِ بَلَاغِكَ مِنَ الزَّادِ مَعَ خِفَّةِ الظَّهْرِ فَلَا

تَحْمِلَنَّ عَلَى ظَهْرِكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ فَيَكُونَ ثِقْلُ ذَلِكَ وَبَالًا عَلَيْكَ وَ إِذَا وَجَدْتَ مِنْ أَهْلِ الْفَاقَةِ مَنْ يَحْمِلُ لَكَ زَادَكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيُوَافِيكَ

بِهِ غَداً حَيْثُ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَاغْتَنِمْهُ وَ حَمِّلْهُ إِيَّاهُ وَ أَكْثِرْ مِنْ تَزْوِيدِهِ وَ أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَعَلَّكَ تَطْلُبُهُ فَلَا تَجِدُهُ وَ اغْتَنِمْ مَنِ اسْتَقْرَضَكَ فِي حَالِ

غِنَاكَ لِيَجْعَلَ قَضَاءَهُ لَكَ فِي يَوْمِ عُسْرَتِكَ وَ اعْلَمْ أَنَّ أَمَامَكَ عَقَبَةً كَئُوداً الْمُخِفُّ فِيهَا أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمُثْقِلِ وَ الْمُبْطِئُ عَلَيْهَا أَقْبَحُ أَمْراً

مِنَ الْمُسْرِعِ وَ أَنَّ مَهْبِطَهَا بِكَ لَا مَحَالَةَ إِمَّا عَلَى جَنَّة أَوْ عَلَى نَار فَارْتَدْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ نُزُولِكَ وَ وَطِّئِ الْمَنْزِلَ قَبْلَ حُلُولِكَ فَلَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ

مُسْتَعْتَبٌ وَ لَا إِلَى الدُّنْيَا مُنْصَرَفٌ

[16 : 86 ]

أمره في هذا الفصل بإنفاق المال و الصدقة و المعروف فقال إن بين يديك طريقا بعيد المسافة شديد المشقة و من سلك طريقا فلا

غنى له عن أن يرتاد لنفسه و يتزود من الزاد قدر ما يبلغه الغاية و أن يكون خفيف الظهر في سفره ذلك فإياك أن تحمل من المال ما

يثقلك و يكون وبالا عليك و إذا وجدت من الفقراء و المساكين من يحمل ذلك الثقل عنك فيوافيك به غدا وقت الحاجة فحمله إياه

فلعلك تطلب مالك فلا تجده

جاء في الحديث المرفوع خمس من أتى الله بهن أو بواحدة منهن أوجب له الجنة من سقى هامة صادية أو أطعم كبدا هافية أو كسا

جلدة عارية أو حمل قدما حافية أو أعتق رقبة عانية

قيل لحاتم الأصم لو قرأت لنا شيئا من القرآن قال نعم فاندفع فقرأ الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ

بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يكنزون فقالوا أيها الشيخ ما هكذا أنزل قال صدقتم و لكن هكذا أنتم

وَ اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ قَدْ أَذِنَ لَكَ فِي الدُّعَاءِ وَ تَكَفَّلَ لَكَ بِالْإِجَابَةِ وَ أَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ لِيُعْطِيَكَ وَ تَسْتَرْحِمَهُ

لِيَرْحَمَكَ وَ لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُ وَ بَيْنَكَ مَنْ يَحْجُبُكَ عَنْهُ وَ لَمْ يُلْجِئْكَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكَ إِلَيْهِ

[16 : 87 ]

وَ لَمْ يَمْنَعْكَ إِنْ أَسَأْتَ مِنَ التَّوْبَةِ وَ لَمْ يُعَاجِلْكَ بِالنِّقْمَةِ وَ لَمْ يَفْضَحْكَ حَيْثُ تَعَرَّضْتَ لِلْفَضِيحَةِ وَ لَمْ يُشَدِّدْ عَلَيْكَ فِي قَبُولِ الْإِنَابَةِ وَ لَمْ

يُنَاقِشْكَ بِالْجَرِيمَةِ وَ لَمْ يُؤْيِسْكَ مِنَ الرَّحْمَةِ بَلْ جَعَلَ نُزُوعَكَ عَنِ الذَّنْبِ حَسَنَةً وَ حَسَبَ سَيِّئَتَكَ وَاحِدَةً وَ حَسَبَ حَسَنَتَكَ عَشْراً وَ فَتَحَ لَكَ

بَابَ الْمَتَابِ وَ بَابَ الِاسْتِعْتَابِ فَإِذَا نَادَيْتَهُ سَمِعَ نِدَاكَ وَ إِذَا نَاجَيْتَهُ عَلِمَ نَجْوَاكَ فَأَفْضَيْتَ إِلَيْهِ بِحَاجَتِكَ وَ أَبْثَثْتَهُ ذَاتَ نَفْسِكَ وَ شَكَوْتَ

إِلَيْهِ هُمُومَكَ وَ اسْتَكْشَفْتَهُ كُرُوبَكَ وَ اسْتَعَنْتَهُ عَلَى أُمُورِكَ وَ سَأَلْتَهُ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إِعْطَائِهِ غَيْرُهُ مِنْ زِيَادَةِ الْأَعْمَارِ وَ صِحَّةِ

الْأَبْدَانِ وَ سَعَةِ الْأَرْزَاقِ ثُمَّ جَعَلَ فِي يَدَيْكَ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِهِ بِمَا أَذِنَ لَكَ فِيهِ مِنْ مَسْأَلَتِهِ فَمَتَى شِئْتَ اسْتَفْتَحْتَ بِالدُّعَاءِ أَبْوَابَ نِعْمَتِهِ وَ

اسْتَمْطَرْتَ شَ آبِيبَ رَحْمَتِهِ فَلَا يُقْنِطَنَّكَ إِبْطَاءُ إِجَابَتِهِ فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ وَ رُبَّمَا أُخِّرَتْ عَنْكَ الْإِجَابَةُ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَعْظَمَ لِأَجْرِ

السَّائِلِ وَ أَجْزَلَ لِعَطَاءِ الآْمِلِ وَ رُبَّمَا سَأَلْتَ الشَّيْءَ فَلَا تُعْطَاهُ وَ أُوتِيتَ خَيْراً مِنْهُ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا أَوْ صُرِفَ عَنْكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ فَلَرُبَّ أَمْر قَدْ

طَلَبْتَهُ فِيهِ هَلَاكُ دِينِكَ لَوْ أُوتِيتَهُ فَلْتَكُنْ مَسْأَلَتُكَ فِيمَا يَبْقَى لَكَ جَمَالُهُ وَ يُنْفَى عَنْكَ وَبَالُهُ فَالْمَالُ لَا يَبْقَى لَكَ وَ لَا تَبْقَى لَهُ

قد تقدم القول في الدعاء. قوله بل جعل نزوعك عن الذنب حسنة هذا متفق عليه بين أصحابنا و هو أن تارك القبيح لأنه قبيح يستحق

الثواب.

[16 : 88 ]

قوله حسب سيئتك واحدة و حسب حسنتك عشرا هذا إشارة إلى قوله تعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا

يُجْزى إِلّا مِثْلَها. قوله و أبثثته ذات نفسك أي حاجتك. ثم ذكر له وجوها في سبب إبطاء الإجابة منها أن ذلك أمر عائد إلى النية فلعلها

لم تكن خالصة. و منها أنه ربما أخرت ليكون أعظم لأجر السائل لأن الثواب على قدر المشقة. و منها أنه ربما أخرت ليعطي السائل

خيرا مما سائل إما عاجلا أو آجلا أو في الحالين. و منها أنه ربما صرف ذلك عن السائل لأن في إعطائه إياه مفسدة في الدين. قوله

فالمال لا يبقى لك و لا تبقى له لفظ شريف فصيح و معنى صادق محقق فيه عظة بالغة و قال أبو الطيب

أين الجبابرة الأكاسرة الألى كنزوا الكنوز فما بقين و لا بقوا

و يروى من يحجبه عنك. و روى حيث الفضيحة أي حيث الفضيحة موجودة منك. و اعلم أن في قوله قد أذن لك في الدعاء و تكفل لك

بالإجابة إشارة إلى قوله تعالى ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. و في قوله و أمر أن تسأله ليعطيك إشارة إلى قوله وَ سْئَلُوا اللّهَ مِنْ فَضْلِهِ.

[16 : 89 ]

و في قوله و تسترحمه ليرحمك إشارة إلى قوله وَ ما كانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. و في قوله و لم يمنعك إن أسأت من التوبة

إشارة إلى قوله إِلّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَنات وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً

وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلآْخِرَةِ لَا لِلدُّنْيَا وَ لِلْفَنَاءِ لَا لِلْبَقَاءِ وَ لِلْمَوْتِ لَا لِلْحَيَاةِ وَ أَنَّكَ فِي مَنْزِلِ قُلْعَة وَ دَارِ بُلْغَة وَ طَرِيق إِلَى الآْخِرَةِ

وَ أَنَّكَ طَرِيدُ الْمَوْتِ الَّذِي لَا يَنْجُو هَارِبُهُ وَ لَا يَفُوتُهُ طَالِبُهُ وَ لَا بُدَّ أَنَّهُ مُدْرِكُهُ فَكُنْ مِنْهُ عَلَى حَذَر أَنْ يُدْرِكَكَ وَ أَنْتَ عَلَى حَالِ سَيِّئَة قَدْ كُنْتَ

تُحَدِّثُ نَفْسَكَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ فَيَحُولَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ ذَلِكَ فَإِذَا أَنْتَ قَدْ أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ يَا بُنَيَّ أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَ ذِكْرِ مَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ وَ تُفْضِي

بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَكَ وَ قَدْ أَخَذْتَ مِنْهُ حِذْرَكَ وَ شَدَدْتَ لَهُ أَزْرَكَ وَ لَا يَأْتِيَكَ بَغْتَةً فَيَبْهَرَكَ وَ إِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا تَرَى مِنْ إِخْلَادِ أَهْلِ

الدُّنْيَا إِلَيْهَا وَ تَكَالُبِهِمْ عَلَيْهَا فَقَدْ نَبَّأَكَ اللَّهُ عَنْهَا وَ نَعَتَتْ لَكَ نَفْسَهَا وَ تَكَشَّفَتْ لَكَ عَنْ مَسَاوِيهَا فَإِنَّمَا أَهْلُهَا كِلَابٌ عَاوِيَةٌ وَ سِبَاعٌ ضَارِيَةٌ

يَهِرُّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضِ وَ يَأْكُلُ عَزِيزُهَا ذَلِيلَهَا وَ يَقْهَرُ كَبِيرُهَا صَغِيرَهَا

[16 : 90 ]

نَعَمٌ مُعَقَّلَةٌ وَ أُخْرَى مُهْمَلَةٌ قَدْ أَضَلَّتْ عُقُولَهَا وَ رَكِبَتْ مَجْهُولَهَا سُرُوحُ عَاهَة بِوَاد وَعْث لَيْسَ لَهَا رَاع يُقِيمُهَا وَ لَا مُسِيمٌ يُسِيمُهَا سَلَكَتْ بِهِمُ

الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعَمَى وَ أَخَذَتْ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ مَنَارِ الْهُدَى فَتَاهُوا فِي حَيْرَتِهَا وَ غَرِقُوا فِي نِعْمَتِهَا وَ اتَّخَذُوهَا رَبّاً فَلَعِبَتْ بِهِمْ وَ لَعِبُوا بِهَا وَ

نَسُوا مَا وَرَاءَهَا رُوَيْداً يُسْفِرُ الظَّلَامُ كَأَنْ قَدْ وَرَدَتِ الْأَظْعَانُ يُوشِكُ مَنْ أَسْرَعَ أَنْ يَلْحَقَ

يقول هذا منزل قلعة بضم القاف و سكون اللام أي ليس بمستوطن و يقال هذا مجلس قلعة إذا كان صاحبه يحتاج إلى أن يقوم مرة

بعد مرة و يقال أيضا هم على قلعة أي على رحلة و القلعة أيضا هو المال العارية و

في الحديث بئس المال القلعة

و كله يرجع إلى معنى واحد. قوله و دار بلغة و البلغة ما يتبلغ به من العيش. قوله سروح عاهة و السروح جمع سرح و هو المال

السارح و العاهة الآفة أعاه القوم أصابت ماشيتهم العاهة. و واد وعث لا يثبت الحافر و الخف فيه بل يغيب فيه و يشق على من

يمشي فيه. و أوعث القوم وقعوا في الوعث. و مسيم يسيمها راع يرعاها. قوله رويدا يسفر الظلام إلى آخر الفصل ثلاثة أمثال

محركة لمن عنده

[16 : 91 ]

استعداد و استقرأني أبو الفرج محمد بن عباد رحمه الله و أنا يومئذ حدث هذه الوصية فقرأتها عليه من حفظي فلما وصلت إلى هذا

الموضع صاح صيحة شديدة و سقط و كان جبارا قاسي القلب

أقوال حكيمة في وصف الدنيا و فناء الخلق

و اعلم أنا قدمنا في وصف الدنيا و الفناء و الموت من محاسن كلام الصالحين و الحكماء ما فيه الشفاء و نذكر الآن أشياء آخر. فمن

كلام الحسن البصري يا ابن آدم إنما أنت أيام مجموعة فإذا مضى يوم مضى بعضك. عن بعض الحكماء رحم الله امرأ لا يغره ما يرى

من كثرة الناس فإنه يموت وحده و يقبر وحده و يحاسب وحده. و قال بعضهم لا وجه لمقاساة الهموم لأجل الدنيا و لا الاعتداد بشيء

من متاعها و لا التخلي منها أما ترك الاهتمام لها فمن جهة أنه لا سبيل إلى دفع الكائن من مقدورها و أما ترك الاعتداد بها فإن مرجع

كل أحد إلى تركها و أما ترك التخلي عنها فإن الآخرة لا تدرك إلا بها. و من كلام بعض الحكماء أفضل اختيار الإنسان ما توجه به إلى

الآخرة و أعرض به عن الدنيا و قد تقدمت الحجة و أذنا بالرحيل و لنا من الدنيا على الدنيا دليل و إنما أحدنا في مدة بقائه صريع

لمرض أو مكتئب بهم أو مطروق بمصيبة أو مترقب لمخوف لا يأمن المرء أصناف لذته من المطعوم و المشروب أن يكون موته فيه و

لا يأمن مملوكه

[16 : 92 ]

و جاريته أن يقتلاه بحديد أو سم و هو مع ذلك عاجز عن استدامة سلامة عقله من زوال و سمعه من صمم و بصره من عمى و لسانه من

خرس و سائر جوارحه من زمانة و نفسه من تلف و ماله من بوار و حبيبه من فراق و كل ذلك يشهد شهادة قطعية أنه فقير إلى ربه ذليل

في قبضته محتاج إليه لا يزال المرء بخير ما حاسب نفسه و عمر آخرته بتخريب دنياه و إذا اعترضته بحار المكاره جعل معابرها الصبر

و التأسي و لم يغتر بتتابع النعم و إبطاء حلول النقم و أدام صحبة التقي و فطم النفس عن الهوى فإنما حياته كبضاعة ينفق من رأس

المال منها و لا يمكنه أن يزيد فيها و مثل ذلك يوشك فناؤه و سرعة زواله. و قال أبو العتاهية في ذكر الموت

ستباشر الترباء خدك و سيضحك الباكون بعدك

و لينزلن بك البلى و ليخلفن الموت عهدك

و ليفنينك مثل ما أفنى أباك بلى و جدك

لو قد رحلت عن القصور و طيبها و سكنت لحدك

لم تنتفع إلا بفعل صالح قد كان عندك

[16 : 93 ]

و ترى الذين قسمت مالك بينهم حصصا و كدك

يتلذذون بما جمعت لهم و لا يجدون فقدك

وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَطِيَّتُهُ اللَّيْلَ وَ النَّهَارَ فَإِنَّهُ يُسَارُ بِهِ وَ إِنْ كَانَ وَاقِفاً وَ يَقْطَعُ الْمَسَافَةَ وَ إِنْ كَانَ مُقِيماً وَادِعاً وَ اعْلَمْ يَقِيناً أَنَّكَ

لَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ وَ لَنْ تَعْدُوَ أَجَلَكَ وَ أَنَّكَ فِي سَبِيلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ فَخَفِّضْ فِي الطَّلَبِ وَ أَجْمِلْ فِي الْمُكْتَسَبِ فَإِنَّهُ رُبَّ طَلَب قَدْ جَرَّ إِلَى حَرَب وَ

لَيْسَ كُلُّ طَالِب بِمَرْزُوق وَ لَا كُلُّ مُجْمِل بِمَحْرُوم وَ أَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّة وَ إِنْ سَاقَتْكَ إِلَى الرَّغَائِبِ فَإِنَّكَ لَنْ تَعْتَاضَ بِمَا تَبْذُلُ مِنْ

نَفْسِكَ عِوَضاً وَ لَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَ قَدْ جَعَلَكَ اللَّهُ حُرّاً وَ مَا خَيْرُ خَيْر لَا يُنَالُ إِلَّا بِشَرّ وَ يُسْر لَا يُنَالُ إِلَّا بِعُسْر وَ إِيَّاكَ أَنْ تُوجِفَ بِكَ مَطَايَا

الطَّمَعِ فَتُورِدَكَ مَنَاهِلَ الْهَلَكَةِ وَ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا يَكُونَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اللَّهِ ذُو نِعْمَة فَافْعَلْ فَإِنَّكَ مُدْرِكٌ قَسْمَكَ وَ آخِذٌ سَهْمَكَ وَ إِنَّ الْيَسِيرَ

مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَكْرَمُ وَ أَعْظَمُ مِنَ الْكَثِيرِ مِنْ خَلْقِهِ وَ إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُ

[16 : 94 ]

مثل الكلمة الأولى قول بعض الحكماء و

قد نسب أيضا إلى أمير المؤمنين ع أهل الدنيا كركب يسار بهم و هم نيام

قوله فخفضن في الطلب من

قول رسول الله ص إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فأجملوا في الطلب

و قال الشاعر

ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله عوضا و لو نال الغنى بسؤال

و إذا النوال إلى السؤال قرنته رجح السؤال و خف كل نوال

و قال آخر

رددت رونق وجهي عن صحيفته رد الصقال بهاء الصارم الخذم

و ما أبالي و خير القول أصدقه حقنت لي ماء وجهي أم حقنت دمي

و قال آخر

و إني لأختار الزهيد على الغنى و أجزأ بالمال القراح عن المحض

و أدرع الإملاق صبرا و قد أرى مكان الغنى كي لا أهين له عرضي

و قال أبو محمد اليزيدي في المأمون

أبقى لنا الله الإمام و زاده شرفا إلى الشرف الذي أعطاه

و الله أكرمنا بأنا معشر عتقاء من نعم العباد سواه

و قال آخر

كيف النهوض بما أوليت من حسن أم كيف أشكر ما طوقت من نعم

[16 : 95 ]

ملكتني ماء وجه كاد يسكبه ذل السؤال و لم تفجع به هممي

و قال آخر

لا تحرصن على الحطام فإنما يأتيك رزقك حين يؤذن فيه

سبق القضاء بقدره و زمانه و بأنه يأتيك أو يأتيه

و كان يقال ما استغنى أحد بالله إلا افتقر الناس إليه. و قال رجل في مجلس فيه قوم من أهل العلم لا أدري ما يحمل من يوقن بالقدر

على الحرص على طلب الرزق فقال له أحد الحاضرين يحمله القدر فسكت. أقول لو كنت حاضرا لقلت لو حمله القدر لما نهاه العقلاء

عن الحرص و لما مدحوه على العفة و القناعة فإن عاد و قال و أولئك ألجأهم القدر إلى المدح و الذم و الأمر و النهي فقد جعل نفسه و

غيره من الناس بل من جميع الحيوانات بمنزلة الجمادات التي يحركها غيرها و من بلغ إلى هذا الحد لا يكلم. و قال الشاعر

أراك تزيدك الأيام حرصا على الدنيا كأنك لا تموت

فهل لك غاية إن صرت يوما إليها قلت حسبي قد رضيت

أبو العتاهية

أي عيش يكون أطيب من عيش كفاف قوت بقدر البلاغ

قمرتني الأيام عقلي و مالي و شبابي و صحتي و فراغي

و أوصى بعض الأدباء ابنه فكتب إليه

[16 : 96 ]

كن حسن الظن برب خلقك بني و احمده على ما رزقك

و اعلم بأن الحرص يطفي رونقك فجانب الحرص و حسن خلقك

و اصدق و صادق أبدا من صدقك دار معاديك و مق من ومقك

و اجعل لأعدائك حزما ملقك و جنبن حشو الكلام منطقك

هذي وصاة والد قد عشقك وصاة من يقلقه ما أقلقك

أرشدك الله لها و وفقك

أبو العتاهية

أجل الغنى مما يؤمل أسرع و أراك تجمع دائما لا تشبع

قل لي لمن أصبحت تجمع دائبا أ لبعل عرسك لا أبا لك تجمع

و أوصى زياد ابنه عبيد الله عند موته فقال لا تدنسن عرضك و لا تبذلن وجهك و لا تخلقن جدتك بالطلب إلى من إن ردك كان رده عليك

عيبا و إن قضى حاجتك جعلها عليك منا و احتمل الفقر بالتنزه عما في أيدي الناس و الزم القناعة بما قسم لك فإن سوء عمل الفقير

يضع الشريف و يخمل الذكر و يوجب الحرمان

وَ تَلَافِيكَ مَا فَرَطَ مِنْ صَمْتِكَ أَيْسَرُ مِنْ إِدْرَاكِكَ مَا فَاتَ مِنْ مَنْطِقِكَ وَ حِفْظُ مَا فِي الْوِعَاءِ بِشَدِّ الْوِكَاءِ وَ حِفْظُ مَا فِي يَدَيْكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ طَلَبِ

مَا فِي يَدَيْ غَيْرِكَ وَ مَرَارَةُ الْيَأْسِ خَيْرٌ مِنَ الطَّلَبِ إِلَى النَّاسِ وَ الْحِرْفَةُ مَعَ الْعِفَّةَ خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى مَعَ الْفُجُورِ وَ الْمَرْءُ أَحْفَظُ لِسِرِّهِ وَ رُبَّ سَاع

فِيمَا يَضُرُّهُ

[16 : 97 ]

مَنْ أَكْثَرَ أَهْجَرَ وَ مَنْ تَفَكَّرَ أَبْصَرَ قَارِنْ أَهْلَ الْخَيْرِ تَكُنْ مِنْهُمْ وَ بَايِنْ أَهْلَ الشَّرِّ تَبِنْ عَنْهُمْ بِئْسَ الطَّعَامُ الْحَرَامُ وَ ظُلْمُ الضَّعِيفِ أَفْحَشُ

الظُّلْمِ إِذَا كَانَ الرِّفْقُ خُرْقاً كَانَ الْخُرْقُ رِفْقاً رُبَّمَا كَانَ الدَّوَاءُ دَاءً وَ الدَّاءُ دَوَاءً وَ رُبَّمَا نَصَحَ غَيْرُ النَّاصِحِ وَ غَشَّ الْمُسْتَنْصَحُ وَ إِيَّاكَ وَ

الِاتِّكَالَ عَلَى الْمُنَى فَإِنَّهَا بَضَائِعُ النَّوْكَى وَ الْعَقْلُ حِفْظُ التَّجَارِبِ وَ خَيْرُ مَا جَرَّبْتَ مَا وَعَظَكَ بَادِرِ الْفُرْصَةَ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ غُصَّةً لَيْسَ كُلُّ

طَالِب يُصِيبُ وَ لَا كُلُّ غَائِب يَئُوبُ وَ مِنَ الْفَسَادِ إِضَاعَةُ الزَّادِ وَ مَفْسَدَةُ الْمَعَادِ وَ لِكُلِّ أَمْر عَاقِبَةٌ سَوْفَ يَأْتِيكَ مَا قُدِّرَ لَكَ التَّاجِرُ مُخَاطِرٌ وَ

رُبَّ يَسِير أَنْمَى مِنْ كَثِير

هذا الكلام قد اشتمل على أمثال كثيرة حكمية. أولها قوله تلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك و هذا مثل

قولهم أنت قادر على أن تجعل صمتك كلاما و لست بقادر على أن تجعل كلامك صمتا و هذا حق لأن الكلام يسمع و ينقل فلا يستطاع

إعادته صمتا و الصمت عدم الكلام فالقادر على الكلام قادر على أن يبدله بالكلام و ليس الصمت بمنقول و لا مسموع فيتعذر

استدراكه.

[16 : 98 ]

و ثانيها قوله حفظ ما في يديك أحب إلي من طلب ما في أيدي غيرك هذا مثل قولهم في المثل البخل خير من سؤال البخيل و ليس

مراد أمير المؤمنين ع وصايته بالإمساك و البخل بل نهيه عن التفريط و التبذير قال الله تعالى وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ

مَلُوماً مَحْسُوراً و أحمق الناس من أضاع ماله اتكالا على مال الناس و ظنا أنه يقدر على الاستخلاف قال الشاعر

إذا حدثتك النفس أنك قادر على ما حوت أيدي الرجال فكذب

و ثالثها قوله مرارة اليأس خير من الطلب إلى الناس من هذا أخذ الشاعر قوله

و إن كان طعم اليأس مرا فإنه ألذ و أحلى من سؤال الأراذل

و قال البحتري

و اليأس إحدى الراحتين و لن ترى تعبا كظن الخائب المغرور

و رابعها قوله الحرفة مع العفة خير من الغنى مع الفجور و الحرفة بالكسر مثل الحرف بالضم و هو نقصان الحظ و عدم المال و منه

قوله رجل محارف بفتح الراء يقول لأن يكون المرء هكذا و هو عفيف الفرج و اليد خير من الغنى مع الفجور و ذلك لأن ألم الحرفة

مع العفة و مشقتها إنما هي في أيام قليلة و هي أيام العمر و لذة الغنى إذا كان مع الفجور ففي مثل تلك الأيام يكون و لكن يستعقب

عذابا طويلا فالحال الأولى خير لا محالة و أيضا ففي الدنيا خير أيضا للذكر الجميل فيها و الذكر القبيح في الثانية و للمحافظة على

المروءة في الأولى و سقوط المروءة في الثانية.

[16 : 99 ]

و خامسها قوله المرء أحفظ لسره أي الأولى ألا تبوح بسرك إلى أحد فأنت أحفظ له من غيرك فإن أذعته فانتشر فلا تلم إلا نفسك

لأنك كنت عاجزا عن حفظ سر نفسك فغيرك عن حفظ سرك و هو أجنبي أعجز قال الشاعر

إذا ضاق أصدر المرء عن حفظ سره فصدر الذي يستودع السر أضيق

و سادسها قوله رب ساع فيما يضره قال عبد الحميد الكاتب في كتابه إلى أبي مسلم لو أراد الله بالنملة صلاحا لما أنبت لها جناحا. و

سابعها قوله من أكثر أهجر يقال أهجر الرجل إذا أفحش في المنطق السوء و الخنى قال الشماخ

كماجدة الأعراق قال ابن ضرة عليها كلاما جار فيه و أهجرا

و هذا مثل قولهم من كثر كلامه كثر سقطه و قالوا أيضا قلما سلم مكثار أو أمن من عثار. و ثامنها قوله من تفكر أبصر قالت الحكماء

الفكر تحديق العقل نحو المعقول كما أن النظر البصري تحديق البصر نحو المحسوس و كما أن من حدق نحو المبصر و حدقته

صحيحة و الموانع مرتفعة لا بد أن يبصره كذلك من نظر بعين عقله و أفكر فكرا صحيحا لا بد أن يدرك الأمر الذي فكر فيه و يناله. و

تاسعها قوله قارن أهل الخير تكن معهم و باين أهل الشر تبن عنهم كأن يقال حاجبك وجهك و كاتبك لسانك و جليسك كلك و قال

الشاعر

عن المرء لا تسأل و سل عن قرينه فكل قرين بالمقارن مقتد

[16 : 100 ]

و عاشرها قوله بئس الطعام الحرام هذا من قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ

سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً. و حادي عشرها قوله ظلم الضعيف أفحش الظلم رأى معاوية ابنه يزيد يضرب غلاما فقال يا بني كيف لا يسع حلمك

من تضربه فلا يمتنع منك و أمر المأمون بإشخاص الخطابي القاص من البصرة فلما مثل بين يديه قال له يا سليمان أنت القائل العراق

عين الدنيا و البصرة عين العراق و المربد عين البصرة و مسجدي عين المربد و أنا عين مسجدي و أنت أعور فإن عين الدنيا عوراء

قال يا أمير المؤمنين لم أقل ذاك و لا أظن أمير المؤمنين أحضرني لذلك قال بلغني أنك أصبحت فوجدت على سارية من سواري

مسجدك

رحم الله عليا إنه كان تقيا

فأمرت بمحوه قال يا أمير المؤمنين كان و لقد كان نبيا فأمرت بإزالته فقال كذبت كانت القاف أصح من عينك الصحيحة ثم قال و الله

لو لا أن أقيم لك عند العامة سوقا لأحسنت تأديبك قال يا أمير المؤمنين قد ترى ما أنا عليه من الضعف و الزمانة و الهرم و قلة البصر

فإن عاقبتني مظلوما فاذكر

قول ابن عمك علي ع ظلم الضعيف أفحش الظلم

و إن عاقبتني بحق فاذكر أيضا

قوله لكل شيء رأس و الحلم رأس السؤدد

فنهض المأمون من مجلسه و أمر برده إلى البصرة و لم يصله بشيء و لم يحضر أحد قط مجلس المأمون إلا وصله عدا الخطابي و ليس

هذا هو المحدث الحافظ المشهور ذاك أبو سليمان أحمد بن محمد بن أحمد البستي كان في أيام المطيع و الطائع و هذا قاص

بالبصرة كان يقال له أبو زكريا سليمان بن محمد البصري. و ثاني عاشرها قوله إذا كان الرفق خرقا كان الخرق رفقا يقول إذا كان

استعمال

[16 : 101 ]

الرفق مفسدة و زيادة في الشر فلا تستعمله فإنه حينئذ ليس برفق بل هو خرق و لكن استعمل الخرق فإنه يكون رفقا و الحالة هذه لأن

الشر لا يلقى إلا بشر مثله قال عمرو ابن كلثوم

ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا

و في المثل إن الحديد بالحديد يفلج. و قال زهير

و من لا يذد عن حوضه بسلاحه يهدم و من لا يظلم الناس يظلم

و قال أبو الطيب

و وضع الندى في موضع السيف بالعلى مضر كوضع السيف في موضع الندى

و ثالث عشرها قوله و ربما كان الدواء داء و الداء دواء هذا مثل قول أبي الطيب

ربما صحت الأجسام بالعلل

و مثله قول أبي نواس

و داوني بالتي كانت هي الداء

و مثل قول الشاعر

تداويت من ليلى بليلى فلم يكن دواء و لكن كان سقما مخالفا

و رابع عشرها قوله ربما نصح غير الناصح و غش المستنصح كان المغيرة بن شعبة يبغض عليا ع منذ أيام رسول الله ص و تأكدت

[16 : 102 ]

بغضته إلى أيام أبي بكر و عثمان و عمر و أشار عليه يوم بويع بالخلافة أن يقر معاوية على الشام مدة يسيرة فإذا خطب له بالشام و

توطأت دعوته دعاه إليه كما كان عمر و عثمان يدعوانه إليهما و صرفه فلم يقبل و كان ذلك نصيحة من عدو كاشح. و استشار الحسين

ع عبد الله بن الزبير و هما بمكة في الخروج عنها و قصد العراق ظانا أنه ينصحه فغشه و قال له لا تقم بمكة فليس بها من يبايعك و

لكن دونك العراق فإنهم متى رأوك لم يعدلوا بك أحدا فخرج إلى العراق حتى كان من أمره ما كان. و خامس عشرها قوله إياك و

الاتكال على المنى فإنها بضائع النوكى جمع أنوك و هو الأحمق من هذا أخذ أبو تمام قوله

من كان مرعى عزمه و همومه روض الأماني لم يزل مهزولا

و من كلامهم ثلاثة تخلق العقل و هو أوضح دليل على الضعف طول التمني و سرعة الجواب و الاستغراب في الضحك و كان يقال

التمني و الحلم سيان و قال آخر شرف الفتى ترك المنى. و سادس عشرها قوله العقل حفظ التجارب من هذا أخذ المتكلمون قولهم

العقل نوعان غريزي و مكتسب فالغريزي العلوم البديهية و المكتسب ما أفادته التجربة و حفظته النفس. و سابع عشرها قوله خير ما

جربت ما وعظك مثل هذا قول أفلاطون إذا لم تعظك التجربة فلم تجرب بل أنت ساذج كما كنت. و ثامن عشرها قوله بادر الفرصة قبل

أن تكون غصة حضر عبيد الله بن زياد عند هانئ بن عروة عائدا و قد كمن له مسلم بن عقيل و أمره أن يقتله إذا جلس

السابق

التالي