السابق

التالي

[12 : 53 ]

محسدون على ما كان من نعم لا بنزع الله منهم ماله حسدوا

فقال عمر و الله لقد أحسن و ما أرى هذا المدح يصلح إلا لهذا البيت من هاشم لقرابتهم من رسول الله ص فقال ابن عباس وفقك الله

يا أمير المؤمنين فلم تزل موفقا فقال يا ابن عباس أ تدري ما منع الناس منكم قال لا يا أمير المؤمنين قال لكني أدري قال ما هو يا أمير

المؤمنين قال كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة و الخلافة فيجخفوا جخفا فنظرت قريش لنفسها فاختارت و وفقت فأصابت. فقال

ابن عباس أ يميط أمير المؤمنين عني غضبه فيسمع قال قل ما تشاء قال أما قول أمير المؤمنين إن قريشا كرهت فإن الله تعالى قال

لقوم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ. و أما قولك إنا كنا نجخف فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة و لكنا قوم

أخلاقنا مشتقة من خلق رسول الله ص الذي قال الله تعالى وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيم و قال له وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ

الْمُؤْمِنِينَ. و أما قولك فإن قريشا اختارت فإن الله تعالى يقول وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ و قد علمت يا أمير

المؤمنين أن الله اختار من خلقه لذلك من اختار فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها لوفقت و أصابت قريش. فقال عمر على رسلك

يا ابن عباس أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشا في أمر قريش لا يزول و حقدا عليها لا يحول فقال ابن عباس مهلا يا أمير المؤمنين

[12 : 54 ]

لا تنسب هاشما إلى الغش فإن قلوبهم من قلب رسول الله الذي طهره الله و زكاه و هم أهل البيت الذين قال الله تعالى لهم إِنَّما

يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً و أما قولك حقدا فكيف لا يحقد من غصب شيئه و يراه في يد غيره.

فقال عمر أما أنت يا ابن عباس فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به فتزول منزلتك عندي قال و ما هو يا أمير المؤمنين أخبرني به

فإن يك باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه و إن يك حقا فإن منزلتي عندك لا تزول به. قال بلغني أنك لا تزال تقول أخذ هذا الأمر منك

حسدا و ظلما قال أما قولك يا أمير المؤمنين حسدا فقد حسد إبليس آدم فأخرجه من الجنة فنحن بنو آدم المحسود. و أما قولك ظلما

فأمير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو. ثم قال يا أمير المؤمنين أ لم تحتج العرب على العجم بحق رسول الله و احتجت قريش

على سائر العرب بحق رسول الله ص فنحن أحق برسول الله من سائر قريش. فقال له عمر قم الآن فارجع إلى منزلك فقام فلما ولى

هتف به عمر أيها المنصرف إني على ما كان منك لراع حقك. فالتفت ابن عباس فقال إن لي عليك يا أمير المؤمنين و على كل المسلمين

حقا برسول الله ص فمن حفظه فحق نفسه حفظ و من أضاعه فحق نفسه أضاع ثم مضى.

[12 : 55 ]

فقال عمر لجلسائه واها لابن عباس ما رأيته لاحى أحدا قط إلا خصمه. لما توفي عبد الله بن أبي رأس المنافقين في حياة رسول الله ص

جاء ابنه و أهله فسألوا رسول الله ص أن يصلي عليه فقام بين يدي الصف يريد ذلك فجاء عمر فجذبه من خلفه و قال أ لم ينهك الله

أن تصلي على المنافقين فقال إني خيرت فاخترت فقيل لي اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ

لَهُمْ و لو أني أعلم أني إذا زدت على السبعين غفر له لزدت ثم صلى رسول الله عليه و مشى معه و قام على قبره. فعجب الناس من

جرأة عمر على رسول الله ص فلم يلبث الناس إلا أن نزل قوله تعالى وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَد مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ فلم

يصل ع بعدها على أحد من المنافقين. و

روى أبو هريرة قال كنا قعودا حول رسول الله ص في نفر فقام من بين أظهرنا فأبطأ علينا و خشينا أن يقطع دوننا فقمنا و كنت أول من

فزع فخرجت أبتغيه حتى أتيت حائطا للأنصار لقوم من بني النجار فلم أجد له بابا إلا ربيعا فدخلت في جوف الحائط و الربيع الجدول

فدخلت منه بعد أن احتفرته فإذا رسول الله ص فقال أبو هريرة قلت نعم قال ما شأنك قلت كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت عنا فخشينا

أن تقتطع دوننا ففزعنا و كنت أول من فزع فأتيت هذا الحائط فاحتفرته كما يحتفر الثعلب و الناس من ورائي.

[12 : 56 ]

فقال يا أبا هريرة اذهب بنعلي هاتين فمن لقيته وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة فخرجت فكان

أول من لقيت عمر فقال ما هذان النعلان قلت نعلا رسول الله ص بعثني بهما و قال من لقيته يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه

فبشره بالجنة. فضرب عمر في صدري فخررت لاستي و قال ارجع إلى رسول الله ص. فأجهشت بالبكاء راجعا فقال رسول الله ما بالك

قلت لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به فضرب صدري ضربة خررت لاستي و قال ارجع إلى رسول الله. فخرج رسول الله فإذا عمر

فقال ما حملك يا عمر على ما فعلت فقال عمر أنت بعثت أبا هريرة بكذا قال نعم قال فلا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس عليها

فيتركوا العمل خلهم يعملون فقال رسول الله ص خلهم يعملون

و روى أبو سعيد الخدري قال أصابت الناس مجاعة في غزاة تبوك فقالوا يا رسول الله لو أذنت لنا فذبحنا نواضحنا و أكلنا شحمها و

لحمها فقال افعلوا فجاء عمر فقال يا رسول الله إنهم إن فعلوا قل الظهر و لكن ادعهم بفضلات أزوادهم فاجمعها ثم ادع لهم عليها

بالبركة لعل الله يجعل في ذلك خيرا

[12 : 57 ]

ففعل رسول الله ص ذلك فأكل الخلق الكثير من طعام قليل و لم تذبح النواضح

و روى ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا أتى رسول الله ص يذكر له ذنبا أذنبه فانزل الله تعالى في أمره وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ

زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذّاكِرِينَ فقال يا رسول الله لي خاصة أم للناس عامة. فضرب عمر صدره

بيده و قال لا و لا نعمى عين بل للناس عامة فقال رسول الله ص بل للناس عامة

و كان عمر يقول وافقني ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى.

و قلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر و الفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب. و تمالأ عليه نساؤه غيرة

فقلت له عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت بهذا اللفظ. و قال عبد الله بن مسعود فضل عمر الناس بأربع برأيه في

أسارى بدر فنزل القرآن بموافقته ما كانَ لِنَبِيّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ و برأيه في حجاب نساء النبي ص فنزل قوله

تعالى وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ

[12 : 58 ]

مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجاب و بدعوة النبي ص اللهم أيد الإسلام بأحد الرجلين و برأيه في أبي بكر كان أول من بايعه. و روت

عائشة قالت كنت آكل مع رسول الله ص حيسا قبل أن تنزل آية الحجاب و مر عمر فدعاه فأكل فأصابت يده إصبعي فقال حس لو أطاع

فيكن ما رأتكن عين فنزلت آية الحجاب. جاء عيينة بن حصن و الأقرع بن حابس إلى أبي بكر فقالا يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضا

سبخة ليس فيها كلأ و لا منفعة فإن رأيت أن تقطعناها لعلنا نحرثها أو نزرعها و لعل الله أن ينفع بها بعد اليوم فقال أبو بكر لمن

حوله من الناس المسلمين ما ترون قالوا لا بأس فكتب لهما بها كتابا و أشهد فيه شهودا و عمر ما كان حاضرا فانطلقا إليه ليشهد في

الكتاب فوجداه قائما يهنأ بعيرا فقالا إن خليفة رسول الله ص كتب لنا هذا الكتاب و جئناك لتشهد على ما فيه أ فتقرؤه أم نقرؤه عليك

قال أ على الحال التي تريان إن شئتما فاقرآه و إن شئتما فانتظرا حتى أفرغ. قالا بل نقرؤه عليك فلما سمع ما فيه أخذه منهما ثم تفل

فيه فمحاه فتذامرا و قالا مقالة سيئة.

[12 : 59 ]

فقال إن رسول الله ص كان يتألفكما و الإسلام يومئذ ذليل و إن الله تعالى قد أعز الإسلام فاذهبا فاجهدا جهدكما لا رعى الله عليكما

إن رعيتما. فذهبا إلى أبي بكر و هما يتذمران فقالا و الله ما ندري أنت أمير أم عمر فقال بل هو لو شاء كان. و جاء عمر و هو مغضب

حتى وقف على أبي بكر فقال أخبرني عن هذه الأرض التي أقطعتها هذين الرجلين أ هي لك خاصة أم بين المسلمين عامة فقال بين

المسلمين عامة قال فما حملك على أن تخص بها هذين دون جماعة المسلمين قال استشرت الذين حولي فأشاروا بذلك فقال أ فكل

المسلمين أوسعتهم مشورة و رضا فقال أبو بكر فلقد كنت قلت لك إنك أقوى على هذا الأمر مني لكنك غلبتني. لما كتب النبي ص كتاب

الصلح في الحديبية بينه و بين سهيل بن عمرو كان في الكتاب أن من خرج من المسلمين إلى قريش لا يرد و من خرج من المشركين

إلى النبي ص يرد عليهم فغضب عمر و قال لأبي بكر ما هذا يا أبا بكر أ يرد المسلمون إلى المشركين ثم جاء إلى رسول الله ص فجلس

بين يديه و قال يا رسول الله أ لست رسول الله حقا قال بلى قال و نحن المسلمون حقا قال نعم قال و هم الكافرون حقا قال نعم قال

فعلام نعطي الدنية في ديننا فقال رسول الله أنا رسول الله أفعل ما يأمرني به و لن يضيعني. فقام عمر مغضبا و قال لو أجد أعوانا ما

أعطيت الدنية أبدا و جاء إلى أبي بكر

[12 : 60 ]

فقال له يا أبا بكر أ لم يكن وعدنا أننا سندخل مكة فأين ما وعدنا به فقال أبو بكر أ قال لك إنه العام يدخلها قال لا قال فسيدخلها

فقال فما هذه الصحيفة التي كتبت و كيف نعطي الدنية من أنفسنا فقال أبو بكر يا هذا الزم غرزه فو الله إنه لرسول الله و إن الله لا

يضيعه. فلما كان يوم الفتح و أخذ رسول الله ص مفتاح الكعبة قال ادعوا لي عمر فجاء فقال هذا الذي كنت وعدتكم به. لما قتل

المشركون يوم بدر أسر منهم سبعون أسيرا فاستشار رسول الله ص فيهم أبا بكر و عمر فقال أبو بكر يا رسول الله هؤلاء بنو العم و

العشيرة و الإخوان و أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على المشركين و عسى أن يهديهم الله بعد اليوم

فيكونوا لنا عذرا فقال رسول الله ص ما تقول أنت يا عمر قال أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه و تمكن عليا من عقيل

فيضرب عنقه و تمكن حمزة من أخيه فيضرب عنقه حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين اقتلهم يا رسول الله فإنهم

صناديدهم و قادتهم فلم يهو رسول الله ما قاله عمر. قال عمر فجئت رسول الله ص فوجدته قاعدا و أبو بكر و هما يبكيان فقلت ما

يبكيكما حدثاني فإن وجدت بكاء بكيت و إلا تباكيت فقال رسول الله ص أبكي لأخذ الفداء لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه

الشجرة لشجرة قريبة منه.

[12 : 61 ]

قال عبد الله بن عمر فكان رسول الله ص يقول كدنا أن يصيبنا شر في مخالفة عمر. و قال عمر في خلافته لئن عشت إن شاء الله

لأسيرن في الرعية حولا فإني أعلم أن للناس حوائج تقتطع دوني أما عمالهم فلا يرفعونها إلي و أما هم فلا يصلون إلي أسير إلى

الشام فأقيم بها شهرين ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين ثم أسير إلى مصر فأقيم بها شهرين ثم أسير إلى البحرين فأقيم بها

شهرين ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين ثم إلى البصرة فأقيم بها شهرين و الله لنعم الحول هذا. و قال أسلم بعثني عمر بإبل من

إبل الصدقة إلى الحمى فوضعت جهازي على ناقة منها كريمة فلما أردت أن أصدرها قال أعرضها علي فعرضتها عليه فرأى متاعي على

ناقة حسناء فقال لا أم لك عمدت إلى ناقة تغني أهل بيت من المسلمين فهلا ابن لبون بوال أو ناقة شصوص. و قيل لعمر إن هاهنا

رجلا من الأحبار نصرانيا له بصر بالديوان لو اتخذته كاتبا فقال لقد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين. قال و قد خطب الناس و

الذي بعث محمدا بالحق لو أن جملا هلك ضياعا بشط الفرات خشيت أن يسأل الله عنه آل الخطاب.

[12 : 62 ]

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يعني ب آل الخطاب نفسه ما يعني غيرها. و كتب إلى أبي موسى أنه لم يزل للناس وجوه من الأمر

فأكرم من قبلك من وجوه الناس و بحسب المسلم الضعيف من بين القوم أن ينصف في الحكم و في القسم. أتى أعرابي عمر فقال إن

ناقتي بها نقبا و دبرا فاحملني فقال له و الله ما ببعيرك من نقب و لا دبر فقال

أقسم بالله أبو حفص عمر ما مسها من نقب و لا دبر

فاغفر له اللهم إن كان فجر

فقال عمر اللهم اغفر لي ثم دعاه فحمله. جاء رجل إلى عمر و كانت بينهما قرابة يسأله فزبره و أخرجه فكلم فيه و قيل يا أمير

المؤمنين زبرته و أخرجته قال إنه سألني من مال الله فما معذرتي إذا لقيته ملكا خائنا فلو سألني من مالي ثم بعث إليه ألف درهم من

ماله.

[12 : 63 ]

و كان يقول في عماله اللهم إني لم أبعثهم ليأخذوا أموال المسلمين و لا ليضربوا أبشارهم من ظلمه أميره فلا إمرة عليه دوني بينا

عمر ذات ليلة يعس سمع صوت امرأة من سطح و هي تنشد

تطاول هذا الليل و أزور جانبه و ليس إلى جنبي خليل ألاعبه

فو الله لو لا الله تخشى عواقبه لزعزع من هذا السرير جوانبه

مخافة ربي و الحياء يصدني و أكرم بعلي أن تنال مراكبه

و لكنني أخشى رقيبا موكلا بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبه

فقال عمر لا حول و لا قوة إلا بالله ما ذا صنعت يا عمر بنساء المدينة ثم جاء فضرب على حفصة ابنته فقالت ما جاء بك في هذه الساعة

قال أخبريني كم تصبر المرأة المغيبة عن بعلها قالت أقصاه أربعة أشهر. فلما أصبح كتب إلى أمرائه في جميع النواحي ألا تجمر

البعوث و ألا يغيب رجل عن أهله أكثر من أربعة أشهر. و روى أسلم قال كنت مع عمر و هو يعس بالمدينة إذ سمع امرأة تقول لبنتها

قومي يا بنية إلى ذلك اللبن بعد المشرقين فامذقيه قالت أ و ما علمت ما كان من عزمة أمير المؤمنين بالأمس قالت و ما هو قالت إنه

أمر مناديا فنادى ألا يشاب اللبن بالماء قالت فإنك بموضع لا يراك أمير المؤمنين و لا منادي أمير المؤمنين قالت

[12 : 64 ]

و الله ما كنت لأطيعه في الملأ و أعصيه في الخلاء و عمر يسمع ذلك فقال يا أسلم اعرف الباب ثم مضى في عسه فلما أصبح قال يا

أسلم امض إلى الموضع فانظر من القائلة و من المقول لها و هل لهما من بعل قال أسلم فأتيت الموضع فنظرت فإذا الجارية أيم و إذا

المتكلمة بنت لها ليس لهما رجل. فجئت فأخبرته فجمع عمر ولده و قال هل يريد أحد أن يتزوج فأزوجه امرأة صالحة فتاة و لو كان

في أبيكم حركة إلى النساء لم يسبقه أحد إليها فقال عاصم ابنه أنا فبعث إلى الجارية فزوجها ابنه عاصما فولدت له بنتا هي المكناة

أم عاصم و هي أم عمر بن عبد العزيز بن مروان. حج عمر فلما كان بضجنان قال لا إله إلا الله العلي العظيم المعطي ما يشاء لمن يشاء

أذكر و أنا أرعى إبل الخطاب بهذا الوادي في مدرعة صوف و كان فظا يتعبني إذا عملت و يضربني إذا قصرت و قد أمسيت اليوم و ليس

بيني و بين الله أحد ثم تمثل

لا شيء مما يرى تبقى بشاشته يبقى الإله و يودي المال و الولد

لم تغن عن هرمز يوما خزائنه و الخلد قد حاولت عاد فما خلدوا

و لا سليمان إذ تجري الرياح له و الإنس و الجن فيما بينها يرد

أين الملوك التي كانت منازلها من كل أوب إليها راكب يفد

حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوما كما وردوا

[12 : 65 ]

و روى محمد بن سيرين أن عمر في آخر أيامه اعتراه نسيان حتى كان ينسى عدد ركعات الصلاة فجعل أمامه رجلا يلقنه فإذا أومى إليه

أن يقوم أو يركع فعل. و سمع عمر منشدا ينشد قول طرفه

فلو لا ثلاث هن من عيشه الفتى و جدك لم أحفل متى قام عودي

فمنهن سبقي العاذلات بشربه كميت متى ما تعل بالماء تزبد

و كري إذا نادى المضاف محنبا كسيد الغضا نبهته المتوسد

و تقصير يوم الدجن و الدجن معجب ببهكنة تحت الطراف الممدد

فقال و أنا لو لا ثلاث هن من عيشه الفتى لم أحفل متى قام عودي أن أجاهد في سبيل الله و أن أضع وجهي في التراب لله و أن أجالس

قوما يلتقطون طيب القول كما يلتقط طيب التمر. و روى عبد الله بن بريدة قال كان عمر ربما يأخذ بيد الصبي فيقول ادع لي فإنك لم

تذنب بعد و كان عمر كثير المشاورة كان يشاور في أمور المسلمين حتى المرأة. و روى يحيى بن سعيد قال أمر عمر الحسين بن علي ع

أن يأتيه

[12 : 66 ]

في بعض الحاجة فلقي الحسين ع عبد الله بن عمر فسأله من أين جاء قال استأذنت على أبي فلم يأذن لي فرجع الحسين و لقيه عمر

من الغد فقال ما منعك يا حسين أن تأتيني قال قد أتيتك و لكن أخبرني ابنك عبد الله أنه لم يؤذن له عليك فرجعت فقال عمر و أنت

عندي مثله و هل أنبت الشعر على الرأس غيركم. قال عمر يوما و الناس حوله و الله ما أدري أ خليفة أنا أم ملك فإن كنت ملكا فقد

ورطت في أمر عظيم فقال له قائل يا أمير المؤمنين إن بينهما فرقا و إنك إن شاء الله لعلى خير قال كيف قال إن الخليفة لا يأخذ إلا

حقا و لا يضعه إلا في حق و أنت بحمد الله كذلك و الملك يعسف الناس و يأخذ مال هذا فيعطيه هذا فسكت عمر و قال أرجو أن أكونه.

و روى مالك عن نافع عن ابن عمر أن عمر تعلم سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة فلما ختمها نحر جزورا. و روى أنس قال كان يطرح

لعمر كل يوم صاع من تمر فيأكله حتى حشفه. و روى يوسف بن يعقوب الماجشون قال قال لي ابن شهاب و لأخ لي و ابن عم لنا و

نحن صبيان أحداث لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم فإن عمر كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الصبيان فاستشارهم يبتغي حدة

عقولهم.

[12 : 67 ]

و روى الحسن قال كان رجل لا يزال يأخذ من لحية عمر شيئا فأخذ يوما من لحيته فقبض على يده فإذا فيها بشيء فقال إن الملق من

الكذب ثم علاه بالدرة. انقطع شسع نعل عمر فاسترجع و قال كل ما ساءك فهو مصيبة. وقف أعرابي على عمر فقال له

يا ابن خطاب جزيت الجنة اكس بنياتي و أمهنه

أقسم بالله لتفعلنه

فقال عمر إن لم أفعل يكون ما ذا قال

إذا أبا حفص لأمضينه

فقال إذا مضيت يكون ما ذا قال

تكون عن حالي لتسألنه يوم تكون الأعطيات جنة

و الواقف المسئول يبهتنه إما إلى نار و إما جنة

فبكى عمر ثم قال لغلامه أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره و الله ما أملك ثوبا غيره. و روى ابن عباس قال قال لي عمر ليلة

أنشدني لشاعر الشعراء قلت و من هو قال زهير الذي يقول

[12 : 68 ]

إذا ابتدرت قيس بن عيلان غاية من المجد من يسبق إليها يسود

فأنشدته حتى برق الفجر فقال إيها الآن اقرأ يا عبد الله قلت ما أقرأ قال سورة الواقعة. سمع عمر صوت بكاء في بيت فدخل و بيده

الدرة فمال عليهم ضربا حتى بلغ النائحة فضربها حتى سقط خمارها ثم قال لغلامه اضرب النائحة ويلك اضربها فإنها نائحة لا حرمة لها

لأنها لا تبكي بشجوكم إنها تهريق دموعها على أخذ دراهمكم إنها تؤذي أمواتكم في قبورهم و أحياءكم في دورهم إنها تنهى عن

الصبر و قد أمر الله به و تأمر بالجزع و قد نهى الله عنه. و من كلامه من اتجر في شيء ثلاث مرات فلم يصب فيه فليتحول عنه إلى

غيره. و من كلامه لو كنت تاجرا لما اخترت على العطر شيئا إن فاتني ربحه لم يفتني ريحه. و من كلامه تفقهوا قبل أن تسودوا. و من

كلامه تعلموا المهنة فإنه يوشك أحدكم أن يحتاج إلى مهنته. و من كلامه مكسبة فيها بعض الدناءة خير من مسألة الناس. و من كلامه

أعقل الناس أعذرهم لهم. رأى عمر ناسا يتبعون أبي بن كعب فرفع عليه الدرة فقال يا أمير المؤمنين اتق الله قال فما هذه الجموع

خلفك يا ابن كعب أ ما علمت أنها فتنة للمتبوع مذلة للتابع. جاء رجل إلى عمر فقال إن بنتا لي واريتها في الجاهلية فاستخرجناها قبل

أن

[12 : 69 ]

تموت فأدركت معنا الإسلام فأسلمت ثم قارفت حدا من حدود الله فأخذت الشفرة لتذبح نفسها فأدركناها و قد قطعت بعض أوداجها

فداويناها حتى برئت و تابت توبة حسنة و قد خطبها قوم أ فأخبرهم بالذي كان من شأنها فقال عمر أ تعمد إلى ما ستره الله فتبديه و

الله لئن أخبرت بشأنها أحدا لأجعلنك نكالا لأهل الأمصار أنكحها نكاح العفيفة السليمة.

أسلم غيلان بن سلمة الثقفي من عشر نسوة فقال له النبي ص اختر منهن أربعا و طلق ستا

فلما كان على عهد عمر طلق نساءه الأربع و قسم ماله بين بنيه فبلغ ذلك عمر فأحضره فقال له إني لأظن الشيطان فيما يسترق من

السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك و لعلك لا تمكث إلا قليلا و ايم الله لتراجعن نساءك و لترجعن في مالك أو لأورثنهن منك و

لآمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال و قال عمر إن الجزف في المعيشة أخوف عندي عليكم من العيال أنه لا يبقى مع الفساد

شيء و لا يقل مع الإصلاح شيء. و كان عمر يقول أدبوا الخيل و انتضلوا و اقعدوا في الشمس و لا يجاورنكم الخنازير و لا تقعدوا

على مائدة يشرب عليها الخمر أو يرفع عليها الصليب و إياكم و أخلاق العجم و لا يحل لمؤمن أن يدخل الحمام إلا مؤتزرا و لا لامرأة

أن تدخل الحمام إلا من سقم فإذا وضعت المرأة خمارها في غير بيت زوجها فقد هتكت الستر بينها و بين الله تعالى.

[12 : 70 ]

و كان يكره أن يتزيا الرجال بزي النساء و ألا يزال الرجل يرى مكتحلا مدهنا و أن يحف لحيته و شاربه كما تحف المرأة. سمع عمر

سائلا يقول من يعشي السائل فقال عشوا سائلكم ثم جاء إلى دار إبل الصدقة يعشيها فسمع صوته مرة أخرى من يعشي السائل فقال

أ لم آمركم أن تعشوه فقالوا قد عشيناه فأرسل إليه عمر و إذا معه جراب مملوء خبزا فقال إنك لست سائلا إنما أنت تاجر تجمع

لأهلك فأخذ بطرف الجراب فنبذه بين يدي الإبل. و قال عمر من مزح استخف به و قال أ تدرون لم سمي المزاح مزاحا لأنه أزاح الناس

عن الحق. و من كلامه لن يعطى أحد بعد الكفر بالله شرا من زوجة حديدة اللسان سيئة الخلق عقيم و لن يعطى أحد بعد الإيمان بالله

خيرا من زوجة كريمة ودود ولود حسنة الخلق. و كان يقول إن شقاشق الكلام من شقاشق اللسان فأقلوا ما استطعتم. و نظر إلى شاب

قد نكس رأسه خشوعا فقال يا هذا ارفع رأسك فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب فمن أظهر للخلق خشوعا فوق ما في قلبه فإنما

أظهر نفاقا. و من كلامه إن أحبكم إلينا ما لم نركم أحسنكم أسماء فإذا رأيناكم فأحبكم إلينا أحسنكم أخلاقا فإذا بلوناكم فأحبكم

إلينا أعظمكم أمانة و أصدقكم حديثا. و كان يقول لا تنظروا إلى صلاة امرئ و لا صيامه و لكن انظروا إلى عقله و صدقه.

[12 : 71 ]

و من كلامه إن العبد إذا تواضع لله رفع حكمته و قال له انتعش نعشك الله فهو في نفسه صغير و في أعين الناس عظيم و إذا تكبر و

عتا وهضه الله إلى الأرض و قال اخسأ خسأك الله فهو في نفسه عظيم و في أعين الناس حقير حتى يكون عندهم أحقر من الخنزير. و

قال الإنسان لا يتعلم العلم لثلاث و لا يتركه لثلاث لا يتعلمه ليماري به و لا ليباهي به و لا ليرائي به و لا يتركه حياء من طلبه و لا

زهادة فيه و لا رضا بالجهل بدلا منه. و قال تعلموا أنسابكم تصلوا أرحامكم. و قال إني لا أخاف عليكم أحد الرجلين مؤمنا قد تبين

إيمانه و كافرا قد تبين كفره و لكن أخاف عليكم منافقا يتعوذ بالإيمان و يعمل بغيره. و من كلامه إن الرجف من كثرة الزناء و إن

قحوط المطر من قضاه السوء و أئمة الجور. و قال في النساء استعينوا عليهن بالعري فإن إحداهن إذا كثرت ثيابها و حسنت زينتها

أعجبها الخروج. و من كلامه إن الجبت السحر و إن الطاغوت الشيطان و إن الجبن و الشجاعة غرائز تكون في الرجال يقاتل

الشجاع عمن لا يعرف و يفر الجبان عن أمه و إن كرم الرجل دينه و حسب الرجل خلقه و إن كان فارسيا أو نبطيا. و قال تفهموا

العربية فإنها تشحذ العقل و تزيد في المروءة. و قال النساء ثلاث امرأة هينة لينة عفيفة ودود ولود تعين بعلها على الدهر و لا تعين

الدهر على بعلها و قلما تجدها و أخرى وعاء للولد لا تزيد على ذلك شيئا و الثالثة غل قمل يجعله الله في عنق من يشاء و ينزعه إذا

شاء.

[12 : 72 ]

و الرجال ثلاثة رجل عاقل يورد الأمور و يصدرها فيحسن إيرادا و إصدارا و آخر يشاور الرجال و يقف عند آرائهم و الثالث حائر بائر

لا يأتمر رشدا و لا يطيع مرشدا. و قال ما يمنعكم إذا رأيتم السفيه يخرق أعراض النساء أن تعربوا عليه قالوا نخاف لسانه قال ذاك

أدنى ألا تكونوا شهداء. و رأى رجلا عظيم البطن فقال ما هذا قال بركة من الله. و قال إذا رزقت مودة من أخيك فتشبث بها ما استطعت.

و قال لقوم يحصدون الزرع إن الله جعل ما أخطأت أيديكم رحمة لفقرائكم فلا تعودوا فيه. و قال ما ظهرت قط نعمه على أحد إلا

وجدت له حاسدا و لو أن أمرا كان أقوم من قدح لوجدت له غامزا. و قال إياكم و المدح فإنه الذبح. و قال لقبيصه بن ذؤيب أنت رجل

حديث السن فصيح اللسان و إنه يكون في الرجل تسعة أخلاق حسنة و خلق واحد سيئ فيغلب الواحد التسعة فتوق عثرات السيئات.

و قال بحسب امرئ من الغي أن يؤذي جليسه أو يتكلف ما لا يعنيه أو يعيب الناس بما يأتي مثله و يظهر له منهم ما يخفى عليهم من

نفسه. و قال احترسوا من الناس بسوء الظن. و قال في خطبة له لا يعجبنكم من الرجل طنطنته و لكن من أدى الأمانة و كف عن

أعراض الناس فهو الرجل. و قال الراحة في مهاجرة خلطاء السوء.

[12 : 73 ]

و قال إن لؤما بالرجل أن يرفع يديه من الطعام قبل أصحابه. و أثنى رجل على رجل عند عمر فقال له أ عاملته قال لا قال أ صحبته في

السفر قال لا قال فأنت إذا القائل ما لا يعلم. و قال لأن أموت بين شعبتي رحلي أسعى في الأرض أبتغي من فضل الله كفاف وجهي أحب

إلي من أن أموت غازيا. و كان عمر قاعدا و الدرة معه و الناس حوله إذ أقبل الجارود العامري فقال رجل هذا سيد ربيعة فسمعها عمر و

من حوله و سمعها الجارود فلما دنا منه خفقه بالدرة فقال ما لي و لك يا أمير المؤمنين قال ويلك سمعتها قال و سمعتها فمه قال

خشيت أن تخالط القوم و يقال هذا أمير فأحببت أن أطأطئ منك. و قال من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده. و

قال إن أخوف ما أخاف أن يكون إعجاب المرء برأيه فمن قال إني عالم فهو جاهل و من قال إني في الجنة فهو في النار. و خرج للحج

فسمع غناء راكب يغني و هو محرم فقيل يا أمير المؤمنين أ لا تنهاه عن الغناء و هو محرم فقال دعوه فإن الغناء زاد الراكب. و قال يثغر

الغلام لسبع و يحتلم لأربع عشرة و ينتهي طوله لإحدى و عشرين و يكمل عقله لثمان و عشرين و يصير رجلا كاملا لأربعين.

[12 : 74 ]

و روى سعيد بن المسيب أن عمر لما صدر من الحج في الشهر الذي قتل فيه كوم كومة من بطحاء و ألقى عليها طرف ثوبه ثم استلقى

عليها و رفع يديه إلى السماء و قال اللهم كبرت سني و ضعفت قوتي و انتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع و لا مفرط. ثم قدم

المدينة فخطب الناس فقال أيها الناس قد فرضت لكم الفرائض و سننت لكم السنن و تركتكم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس

يمينا و شمالا إياكم أن تنتهوا عن آية الرجم و أن يقول قائل لا نجد ذلك حدا في كتاب الله فقد رأيت رسول الله رجم و رجمنا بعده و

لو لا أن يقول الناس إن ابن الخطاب أحدث آية في كتاب الله لكتبتها و لقد كنا نقرؤها و الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة

فما انسلخ ذو الحجة حتى طعن دفع إلى عمر صك محله في شعبان فقال أي شعبان الذي مضى أم الذي نحن فيه ثم جمع أصحاب

رسول الله ص و قال ضعوا للناس تاريخا يرجعون إليه فقال قائل منهم اكتبوا على تاريخ الروم فقيل إنه يطول و إنه مكتوب من عهد

ذي القرنين و قال قائل بل اكتبوا على تاريخ الفرس فقيل إن الفرس كلما قام ملك طرحوا ما كان قبله

فقال علي ع اكتبوا تاريخكم منذ خرج رسول الله ص من دار الشرك إلى دار النصرة و هي دار الهجرة

فقال عمر نعم ما أشرت به فكتب للهجرة بعد مضي سنتين و نصف من خلافة عمر.

[12 : 75 ]

قال المؤرخون إن عمر أول من سن قيام رمضان في جماعة و كتب به إلى البلدان و أقام الحد في الخمر ثمانين و أحرق بيت رويشد

الثقفي و كان نباذا و أقام في عمله بنفسه و أول من حمل الدرة و أدب بها و قيل بعده كانت درة عمر أهيب من سيف الحجاج. و هو أول

من فتح الفتوح فتح العراق كله السواد و الجبال و أذربيجان و كور البصرة و كور الكوفة و الأهواز و فارس و فتح الشام كلها ما خلا

أجنادين فإنها فتحت في خلافة أبي بكر و فتح كور الجزيرة و الموصل و مصر و الإسكندرية و قتله أبو لؤلؤة و خيله على الري. و هو

أول من مسح السواد و وضع الخراج على الأرض و الجزية على جماجم أهل الذمة فيما فتحه من البلدان و بلغ خراج السواد في

أيامه مائة ألف ألف درهم و عشرين ألف ألف درهم بالوافية و هي وزن الدينار من الذهب و هو أول من مصر الأمصار و كوف الكوفة و

بصر البصرة و أنزلها العرب و أول من استقضى القضاة في الأمصار و أول من دون الدواوين و كتب الناس على قبائلهم و فرض لهم

الأعطية و هو أول من قاسم العمال و شاطرهم أموالهم و كان يستعمل قوما و يدع أفضل منهم لبصرهم بالعمل و قال أكره أن أدنس

هؤلاء بالعمل و هو الذي هدم مسجد رسول الله ص و زاد فيه و أدخل دار العباس فيما زاد و هو الذي أخرج اليهود من الحجاز و

أجلاهم عن جزيرة العرب إلى الشام و هو الذي فتح البيت المقدس و حضر الفتح بنفسه و هو الذي أخر المقام إلى موضعه اليوم و

كان ملصقا بالبيت و حج بنفسه خلافته كلها إلا السنة الأولى فإنه استخلف على الحج عبد الرحمن بن عوف و هو

[12 : 76 ]

الذي جاء بالحصى من العقيق فبسطه في مسجد المدينة و كان الناس إذا رفعوا رءوسهم من السجود نفضوا أيديهم. و روى أبو هريرة

قال قدمت على عمر من عند أبي موسى بثمانمائة ألف درهم فقال لي بما ذا قدمت قلت بثمانمائة ألف درهم فقال أ لم أقل لك إنك يمان

أحمق ويحك إنما قدمت بثمانين ألف درهم فقلت يا أمير المؤمنين إنما قدمت بثمانمائة ألف درهم فجعل يعجب و يكررها فقال

ويحك و كم ثمانمائة ألف درهم فعددت مائة ألف و مائة ألف حتى بلغت ثمانية فاستعظم ذلك و قال أ طيب هو ويحك قلت نعم فبات

عمر ليلته تلك أرقا حتى إذا نودي لصلاة الصبح قالت له امرأته ما نمت هذه الليلة قال و كيف أنام و قد جاء الناس ما لم يأتهم مثله

منذ قام الإسلام فظنت المرأة أنها داهية فسألته فقال مال جم حمله أبو موسى قالت فما بالك قال ما يؤمنني لو مت و هذا المال عندي

لم أضعه في حقه فخرج يصلي الصبح و اجتمع الناس إليه فقال لهم قد رأيت في هذا المال رأيا فأشيروا علي رأيت أن أكيله للناس

بالمكيال قالوا لا يا أمير المؤمنين قال لا بل أبدأ برسول الله ص و بأهله ثم الأقرب فالأقرب فبدأ ببني هاشم ثم ببني المطلب ثم

بعبد شمس و نوفل ثم بسائر بطون قريش. قسم عمر مروطا بين نساء المدينة فبقي مرط جيد له فقال بعض من عنده أعط هذا يا أمير

المؤمنين ابنة رسول الله التي عندك يعنون أم كلثوم ابنة علي ع

[12 : 77 ]

فقال أم سليط أحق به فإنها ممن بايع رسول الله ص و كانت تزفر لنا القرب يوم أحد. و روى زيد بن أسلم عن أبيه قال خرجت مع عمر

إلى السوق فلحقته امرأة شابة فقالت يا أمير المؤمنين هلك زوجي و ترك صبية صغارا لا ينضحون كراعا لا زرع لهم و لا ضرع و قد

خشيت عليهم الضيعة و أنا ابنة خفاف بن أسماء الغفاري و قد شهد أبي الحديبية فوقف عمر معها و لم يمض و قال مرحبا بنسيب

قريب ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطا في الدار فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاما و جعل بينهما نفقة و ثيابا ثم ناولها خطامه و

قال اقتاديه فلن يفنى هذا حتى يأتيكم الله بخير فقال له رجل لقد أكثرت لها يا أمير المؤمنين فقال ثكلتك أمك و الله لكأني أرى أبا

هذه و أخاها و قد حاصرا حصنا فافتتحاه فافترقنا ثم أصبحنا نستقرئ سهماننا فيه. و روى الأوزاعي أن طلحة تبع عمر ليلة فرآه دخل

بيتا ثم خرج فلما أصبح ذهب طلحة إلى ذلك البيت فرأى امرأة عمياء مقعده فقال لها ما بال رجل أتاك الليلة قالت إنه رجل يتعاهدني

منذ كذا و كذا يأتيني بما يصلحني فقال طلحة ثكلتك أمك يا طلحة تريد تتبع عمر. خرج عمر إلى الشام حتى إذا كان ببعض الطريق

لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح و أصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام فقال لابن عباس ادع لي المهاجرين فدعاهم

فسألهم فاختلفوا عليه فقال بعضهم خرجت لأمر و لا نرى أن

[12 : 78 ]

ترجع عنه و قال بعضهم معك بقية الناس و أصحاب رسول الله ص و لا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء فقال ارتفعوا عني ثم قال لابن

عباس ادع لي الأنصار فدعاهم فاستشارهم فاختلفوا عليه اختلاف المهاجرين فقال لابن عباس ادع لي من كان من مشيخة قريش من

مهاجرة الفتح فدعاهم فقالوا بأجمعهم نرى أن ترجع بالناس و لا تقدمهم على هذا الوباء فنادى عمر في الناس إني مصبح على ظهر

فأصبحوا عليه فقال له أبو عبيدة بن الجراح أ فرارا من قدر الله تعالى فقال عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم نفر من قدر الله إلى

قدر الله أ رأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة و الأخرى جدبة أ ليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله و إن

رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله فجاء عبد الرحمن بن عوف و كان متغيبا في بعض حاجته فقال إن عندي من هذا علما

سمعت رسول الله ص يقول إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه و إذا وقع بأرض و أنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه

فحمد عمر الله عز و جل و انصرف إلى المدينة. و روى ابن عباس قال خرجت مع عمر إلى الشام في إحدى خرجاته فانفرد يوما يسير

على بعيره فاتبعته فقال لي يا ابن عباس أشكو إليك ابن عمك سألته أن يخرج معي فلم يفعل و لم أزل أراه واجدا فيم تظن موجدته

قلت يا أمير المؤمنين إنك لتعلم قال أظنه لا يزال كئيبا لفوت الخلافة قلت هو ذاك إنه يزعم أن رسول الله أراد الأمر له فقال يا ابن

عباس و أراد رسول الله ص الأمر له فكان ما ذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك إن رسول الله ص أراد أمرا و أراد

[12 : 79 ]

الله غيره فنفذ مراد الله تعالى و لم ينفذ مراد رسوله أ و كلما أراد رسول الله ص كان إنه أراد إسلام عمه و لم يرده الله فلم يسلم. و

قد روي معنى هذا الخبر بغير هذا اللفظ و هو قوله إن رسول الله ص أراد أن يذكره للأمر في مرضه فصددته عنه خوفا من الفتنة و

انتشار أمر الإسلام فعلم رسول الله ما في نفسي و أمسك و أبى الله إلا إمضاء ما حتم و حدثني الحسين بن محمد السيني قال قرأت

على ظهر كتاب أن عمر نزلت به نازلة فقام لها و قعد و ترنح لها و تقطر و قال لمن عنده معشر الحاضرين ما تقولون في هذا الأمر

فقالوا يا أمير المؤمنين أنت المفزع و المنزع فغضب و قال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً ثم قال أما و الله

إني و إياكم لنعلم ابن بجدتها و الخبير بها قالوا كأنك أردت ابن أبي طالب قال و أنى يعدل بي عنه و هل طفحت حرة مثله قالوا فلو

دعوت به يا أمير المؤمنين قال هيهات إن هناك شمخا من هاشم و أثرة من علم و لحمة من رسول الله ص يؤتى و لا يأتي فامضوا بنا

إليه فانقصفوا نحوه و أفضوا إليه فألفوه في حائط له عليه تبان و هو يتركل على مسحاته و يقرأ أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً إلى

آخر السورة و دموعه تهمي على خديه فأجهش الناس لبكائه فبكوا ثم سكت و سكتوا فسأله عمر عن تلك الواقعة فأصدر جوابها فقال

عمر أما

[12 : 80 ]

و الله لقد أرادك الحق و لكن أبى قومك فقال يا أبا حفص خفض عليك من هنا و من هنا إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً فوضع عمر إحدى

يديه على الأخرى و أطرق إلى الأرض و خرج كأنما ينظر في رماد. قلت أجدر بهذا الخبر أن يكون موضوعا و فيه ما يدل على ذلك من

كون عمر أتى عليا يستفتيه في المسألة و الأخبار كثيرة بأنه ما زال يدعوه إلى منزله و إلى المسجد و أيضا فإن عليا لم يخاطب عمر

منذ ولي الخلافة بالكنية و إنما كان يخاطبه بإمرة المؤمنين هكذا تنطق كتب الحديث و كتب السير و التواريخ كلها. و أيضا فإن هذا

الخبر لم يسند إلى كتاب معين و لا إلى راو معين بل ذكر ذلك أنه قرأه على ظهر كتاب فيكون مجهولا و الحديث المجهول غير

الصحيح. فأما ثناء عمر على أمير المؤمنين فصحيح غير منكر و في الروايات منه الكثير الواسع و لكنا أنكرنا هذا الخبر بعينه خاصة

و قد روي عن ابن عباس أيضا قال دخلت على عمر يوما فقال يا ابن العباس لقد أجهد هذا الرجل نفسه في العبادة حتى نحلته رياء قلت

من هو فقال هذا ابن عمك يعني عليا قلت و ما يقصد بالرياء أمير المؤمنين قال يرشح نفسه بين الناس للخلافة قلت و ما يصنع

بالترشيح قد رشحه لها رسول الله ص فصرفت عنه قال إنه كان شابا حدثا فاستصغرت العرب سنه و قد كمل الآن أ لم تعلم أن الله

تعالى لم يبعث نبيا إلا بعد الأربعين قلت يا أمير المؤمنين أما أهل الحجى و النهى فإنهم ما زالوا يعدونه كاملا منذ رفع الله منار

الإسلام و لكنهم يعدونه محروما مجدودا فقال أما إنه سيليها بعد هياط و مياط ثم تزل فيها قدمه و لا يقضى منها أربه و لتكونن شاهدا

ذلك يا عبد الله ثم يتبين الصبح لذي عينين و تعلم العرب صحة رأي المهاجرين الأولين

[12 : 81 ]

الذين صرفوها عنه بادئ بدء فليتني أراكم بعدي يا عبد الله إن الحرص محرمة و إن دنياك كظلك كلما هممت به ازداد عنك بعدا. نقلت

هذا الخبر من أمالي أبي جعفر محمد بن حبيب رحمه الله. و نقلت منه أيضا ما رواه عن ابن عباس قال تبرم عمر بالخلافة في آخر أيامه

و خاف العجز و ضجر من سياسة الرعية فكان لا يزال يدعو الله بأن يتوفاه فقال لكعب الأحبار يوما و أنا عنده إني قد أحببت أن أعهد

إلى من يقوم بهذا الأمر و أظن وفاتي قد دنت فما تقول في علي أشر علي في رأيك و أذكرني ما تجدونه عندكم فإنكم تزعمون أن أمرنا

هذا مسطور في كتبكم فقال أما من طريق الرأي فإنه لا يصلح إنه رجل متين الدين لا يغضي على عورة و لا يحلم عن زلة و لا يعمل

باجتهاد رأيه و ليس هذا من سياسة الرعية في شيء و أما ما نجده في كتبنا فنجده لا يلي الأمر و لا ولده و إن وليه كان هرج شديد قال

كيف ذاك قال لأنه أراق الدماء فحرمه الله الملك إن داود لما أراد أن يبني حيطان بيت المقدس أوحى الله إليه إنك لا تبنيه لأنك

أرقت الدماء و إنما يبنيه سليمان فقال عمر أ ليس بحق أراقها قال كعب و داود بحق أراقها يا أمير المؤمنين قال فإلى من يفضي الأمر

تجدونه عندكم قال نجده ينتقل بعد صاحب الشريعة و الاثنين من أصحابه إلى أعدائه الذين حاربهم و حاربوه و حاربهم على الدين

فاسترجع عمر مرارا و قال أ تستمع يا ابن عباس أما و الله لقد سمعت من رسول الله ما يشابه هذا

سمعته يقول ليصعدن بنو أمية على منبري و لقد أريتهم في منامي ينزون عليه نزو القردة

و فيهم أنزل وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلّا فِتْنَةً لِلنّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ

[12 : 82 ]

و قد روى الزبير بن بكار في الموفقيات ما يناسب هذا عن المغيرة بن شعبة قال قال لي عمر يوما يا مغيرة هل أبصرت بهذه عينك

العوراء منذ أصيبت قلت لا قال أما و الله ليعورن بنو أمية الإسلام كما أعورت عينك هذه ثم ليعمينه حتى لا يدري أين يذهب و لا أين

يجيء قلت ثم ما ذا يا أمير المؤمنين قال ثم يبعث الله تعالى بعد مائة و أربعين أو بعد مائة و ثلاثين وفدا كوفد الملوك طيبة ريحهم

يعيدون إلى الإسلام بصره و شتاته قلت من هم يا أمير المؤمنين قال حجازي و عراقي و قليلا ما كان و قليلا ما دام. و روى أبو بكر

الأنباري في أماليه أن عليا ع جلس إلى عمر في المسجد و عنده ناس فلما قام عرض واحد بذكره و نسبه إلى التيه و العجب فقال عمر

حق لمثله أن يتيه و الله لو لا سيفه لما قام عمود الإسلام و هو بعد أقضى الأمة و ذو سابقتها و ذو شرفها فقال له ذلك القائل فما

منعكم يا أمير المؤمنين عنه قال كرهناه على حداثة السن و حبه بني عبد المطلب. قلت سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن أبي

زيد و قد قرأت عليه هذه الأخبار فقلت له ما أراها إلا تكاد تكون دالة على النص و لكني أستبعد أن يجتمع الصحابة على دفع نص

رسول الله ص على شخص بعينه كما استبعدنا من الصحابة على رد نصه على الكعبة و شهر رمضان و غيرهما من معالم الدين فقال لي

رحمه الله أبيت إلا ميلا إلى المعتزلة ثم قال إن القوم لم يكونوا يذهبون في الخلافة إلى أنها من معالم الدين و أنها جارية مجرى

العبادات الشرعية كالصلاة و الصوم و لكنهم كانوا يجرونها مجرى الأمور الدنيوية و يذهبون لهذا مثل تأمير الأمراء و تدبير

الحروب و سياسة الرعية و ما كانوا يبالون في أمثال هذا من مخالفة نصوصه ص إذا رأوا المصلحة في

[12 : 83 ]

غيرها أ لا تراه كيف نص على إخراج أبي بكر و عمر في جيش أسامة و لم يخرجا لما رأيا أن في مقامهما مصلحة للدولة و للملة و حفظا

للبيضة و دفعا للفتنة و قد كان رسول الله ص يخالف و هو حي في أمثال ذلك فلا ينكره و لا يرى به بأسا أ لست تعلم أنه نزل في غزاة

بدر منزلا على أن يحارب قريشا فيه فخالفته الأنصار و قالت له ليس الرأي في نزولك هذا المنزل فاتركه و انزل في منزل كذا فرجع

إلى آرائهم و هو الذي قال للأنصار عام قدم إلى المدينة لا تؤبروا النخل فعملوا على قوله فحالت نخلهم في تلك السنة و لم تثمر

حتى قال لهم أنتم أعرف بأمر دنياكم و أنا أعرف بأمر دينكم و هو الذي أخذ الفداء من أسارى بدر فخالفه عمر فرجع إلى تصويب رأيه

بعد أن فات الأمر و خلص الأسرى و رجعوا إلى مكة و هو الذي أراد أن يصالح الأحزاب على ثلث تمر المدينة ليرجعوا عنه فأتى سعد

بن معاذ و سعد بن عبادة فخالفاه فرجع إلى قولهما و قد كان قال لأبي هريرة اخرج فناد في الناس من قال لا إله إلا الله مخلصا بها قلبه

دخل الجنة فخرج أبو هريرة فأخبر عمر بذلك فدفعه في صدره حتى وقع على الأرض فقال لا تقلها فإنك إن تقلها يتكلوا عليها و يدعوا

العمل فأخبر أبو هريرة رسول الله ص بذلك فقال لا تقلها و خلهم يعملون فرجع إلى قول عمر و قد أطبقت الصحابة إطباقا واحدا على

ترك كثير من النصوص لما رأوا المصلحة في ذلك كإسقاطهم سهم ذوي القربى و إسقاط سهم المؤلفة قلوبهم و هذان الأمران أدخل

في باب الدين منهما في باب الدنيا و قد عملوا ب آرائهم أمورا لم يكن لها ذكر في الكتاب و السنة كحد الخمر فإنهم عملوه اجتهادا و

لم يحد رسول الله ص شاربي الخمر و قد شربها الجم الغفير في زمانه بعد نزول آية التحريم و لقد كان أوصاهم في مرضه

[12 : 84 ]

أن أخرجوا نصارى نجران من جزيرة العرب فلم يخرجوهم حتى مضى صدر من خلافة عمر و عملوا في أيام أبي بكر برأيهم في ذلك

باستصلاحهم و هم الذين هدموا المسجد بالمدينة و حولوا المقام بمكة و عملوا بمقتضى ما يغلب في ظنونهم من المصلحة و لم

يقفوا مع موارد النصوص حتى اقتدى بهم الفقهاء من بعد فرجح كثير منهم القياس على النص حتى استحالت الشريعة و صار أصحاب

القياس أصحاب شريعة جديدة. قال النقيب و أكثر ما يعملون ب آرائهم فيما يجري مجرى الولايات و التأمير و التدبير و تقرير قواعد

الدولة و ما كانوا يقفون مع نصوص الرسول ص و تدبيراته إذا رأوا المصلحة في خلافها كأنهم كانوا يقيدون نصوصه المطلقة بقيد

غير مذكور لفظا و كأنهم كانوا يفهمونه من قرائن أحواله و تقدير ذلك القيد افعلوا كذا إن رأيتموه مصلحة. قال و أما مخالفتهم له

فيما هو محض الشرع و الدين و ليس بمتعلق بأمور الدنيا و تدبيراتها فإنه يقل جدا نحو أن يقول الوضوء شرط في الصلاة فيجمعوا

على رد ذلك و يجيزوا الصلاة من غير وضوء أو يقول صوم شهر رمضان واجب فيطبقوا على مخالفة ذلك و يجعلوا شوالا عوضا عنه

فإنه بعيد إذ لا غرض لهم فيه و لا يقدرون على إظهار مصلحة عثروا عليها خفيت عنه ص و القوم الذين كانوا قد غلب على ظنونهم أن

العرب لا تطيع عليا ع فبعضها للحسد و بعضها للوتر و الثأر و بعضها لاستحداثهم سنه و بعضها لاستطالته عليهم و رفعه عنهم و بعضها

كراهة اجتماع النبوة و الخلافة في بيت واحد و بعضها للخوف من شدة وطأته و شدته في دين الله و بعضها خوفا لرجاء تداول قبائل

العرب الخلافة إذا لم يقتصر بها على بيت مخصوص عليه فيكون رجاء كل حي لوصولهم إليها ثابتا مستمرا و بعضها ببغضه لبغضهم

من قرابته

[12 : 85 ]

لرسول الله ص و هم المنافقون من الناس و من في قلبه زيغ من أمر النبوة فأصفق الكل إصفاقا واحدا على صرف الأمر عنه لغيره و قال

رؤساؤهم إنا خفنا الفتنة و علمنا أن العرب لا تطيعه و لا تتركه و تأولوا عند أنفسهم النص و لا ينكر النص و قالوا إنه النص و لكن

الحاضر يرى ما لا يرى الغائب و الغائب قد يترك لأجل المصلحة الكلية و أعانهم على ذلك مسارعة الأنصار إلى ادعائهم الأمر و

إخراجهم سعد بن عبادة من بيته و هو مريض لينصبوه خليفة فيما زعموا و اختلط الناس و كثر الخبط و كادت الفتنة أن تشتعل نارها

فوثب رؤساء المهاجرين فبايعوا أبا بكر و كانت فلتة كما قال قائلهم و زعموا أنهم أطفئوا بها نائرة الأنصار فمن سكت من المسلمين

و أغضى و لم يتعرض فقد كفاهم أمر نفسه و من قال سرا أو جهرا إن فلانا قد كان رسول الله ص ذكره أو نص عليه أو أشار إليه أسكتوه

في الجواب بأنا بادرنا إلى عقد البيعة مخافة الفتنة و اعتذروا عنده ببعض ما تقدم إما أنه حديث السن أو تبغضه العرب لأنه وترها و

سفك دماءها أو لأنه صاحب زهو و تيه أو كيف تجتمع النبوة و الخلافة في مغرس واحد بل قد قالوا في العذر ما هو أقوى من هذا و

أوكد قالوا أبو بكر أقوى على هذا الأمر منه لا سيما و عمر يعضده و يساعده و العرب تحب أبا بكر و يعجبها لينه و رفقه و هو شيخ

مجرب للأمور لا يحسده أحد و لا يحقد عليه أحد و لا يبغضه أحد و ليس بذي شرف في النسب فيشمخ على الناس بشرفه و لا بذي

قربى من الرسول ص فيدل بقربه و دع ذا كله فإنه فضل مستغنى عنه قالوا لو نصبنا عليا ع ارتد الناس عن الإسلام و عادت الجاهلية

كما كانت فأيما أصلح في الدين الوقوف مع النص المفضي إلى ارتداد الخلق و رجوعهم إلى الأصنام و الجاهلية أم العمل بمقتضى

الأصلح و استبقاء الإسلام و استدامة العمل بالدين و إن كان فيه مخالفة النص.

[12 : 86 ]

قال رحمه الله و سكت الناس عن الإنكار فإنهم كانوا متفرقين فمنهم من هو مبغض شانئ لعلي ع فالذي تم من صرف الأمر عنه هو قرة

عينه و برد فؤاده و منهم ذو الدين و صحة اليقين إلا أنه لما رأى كبراء الصحابة قد اتفقوا على صرف الأمر عنه ظن أنهم إنما فعلوا

ذلك لنص سمعوه من رسول الله ص ينسخ ما قد كان سمعه من النص على أمير المؤمنين ع لا سيما ما

رواه أبو بكر من قول النبي ص الأئمة من قريش

فإن كثيرا من الناس توهموا أنه ناسخ للنص الخاص و إن معنى الخبر أنكم مباحون في نصب إمام من قريش من أي بطون قريش كان

فإنه يكون إماما. و أكد أيضا في نفوسهم رفض النص الخاص ما سمعوه

من قول رسول الله ص ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن

و قوله ع سألت الله ألا يجمع أمتي على ضلال فأعطانيها فأحسنوا الظن بعاقدي البيعة

و قالوا هؤلاء أعرف بأغراض رسول الله ص من كل أحد فأمسكوا و كفوا عن الإنكار و منهم فرقة أخرى و هم الأكثرون أعراب و جفاة و

طغام أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح فهؤلاء مقلدون لا يسألون و لا ينكرون و لا يبحثون و هم مع أمرائهم و ولاتهم لو أسقطوا

عنهم الصلاة الواجبة لتركوها فلذلك أمحق النص و خفي و درس و قويت كلمة العاقدين لبيعة أبي بكر و قواها زيادة على ذلك اشتغال

علي و بني هاشم برسول الله ص و إغلاق بابهم عليهم و تخليتهم الناس يعملون ما شاءوا و أحبوا من غير مشاركة لهم فيما هم فيه

لكنهم أرادوا استدراك ذلك بعد ما فات و هيهات الفائت لا رجعة له. و أراد علي ع بعد ذلك نقض البيعة فلم يتم له ذلك و كانت العرب

لا ترى

[12 : 87 ]

الغدر و لا تنقض البيعة صوابا كانت أو خطأ و قد قالت له الأنصار و غيرها أيها الرجل لو دعوتنا إلى نفسك قبل البيعة لما عدلنا بك

أحدا و لكنا قد بايعنا فكيف السبيل إلى نقض البيعة بعد وقوعها. قال النقيب و مما جرأ عمر على بيعة أبي بكر و العدول عن علي مع

ما كان يسمعه من الرسول ص في أمره أنه أنكر مرارا على الرسول ص أمورا اعتمدها فلم ينكر عليه رسول الله ص إنكاره بل رجع في

كثير منها إليه و أشار عليه بأمور كثيرة نزل القرآن فيها بموافقته فأطمعه ذلك في الإقدام على اعتماد كثير من الأمور التي كان يرى

فيها المصلحة مما هي خلاف النص و ذلك نحو إنكاره عليه في الصلاة على عبد الله بن أبي المنافق و إنكاره فداء أسارى بدر و إنكاره

عليه تبرج نسائه للناس و إنكاره قضية الحديبية و إنكاره أمان العباس لأبي سفيان بن حرب و إنكاره واقعة أبي حذيفة بن عتبة و

إنكاره أمره بالنداء

من قال لا إله إلا الله دخل الجنة

و إنكاره أمره بذبح النواضح و إنكاره على النساء بحضرة رسول الله ص هيبتهن له دون رسول الله ص إلى غير ذلك من أمور كثيرة

تشتمل عليها كتب الحديث و لو لم يكن إلا إنكاره قول رسول الله ص في مرضه

ائتوني بدواة و كتف أكتب لكم ما لا تضلون بعدي

و قوله ما قال و سكوت رسول الله ص عنه و أعجب الأشياء أنه قال ذلك اليوم حسبنا كتاب الله فافترق الحاضرون من المسلمين في

الدار فبعضهم يقول القول ما قال رسول الله ص و بعضهم يقول القول ما قال عمر فقال رسول الله و قد كثر اللغط و علت الأصوات

قوموا عني فما ينبغي لنبي أن يكون عنده هذا التنازع

فهل بقي للنبوة مزية أو فضل إذا كان الاختلاف قد وقع بين القولين و ميل

[12 : 88 ]

المسلمون بينهما فرجح قوم هذا و قوم هذا فليس ذلك دالا على أن القوم سووا بينه و بين عمر و جعلوا القولين مسألة خلاف ذهب

كل فريق إلى نصرة واحد منهما كما يختلف اثنان من عرض المسلمين في بعض الأحكام فينصر قوم هذا و ينصر ذاك آخرون فمن بلغت

قوته و همته إلى هذا كيف ينكر منه أنه يبايع أبا بكر لمصلحة رآها و يعدل عن النص و من الذي كان ينكر عليه ذلك و هو في القول

الذي قاله للرسول ص في وجهه غير خائف من الأنصار و لا ينكر عليه أحد لا رسول الله ص و لا غيره و هو أشد من مخالفة النص في

الخلافة و أفظع و أشنع قال النقيب على أن الرجل ما أهمل أمر نفسه بل أعد أعذارا و أجوبة و ذلك لأنه قال لقوم عرضوا له بحديث

النص أن رسول الله ص رجع عن ذلك بإقامته أبا بكر في الصلاة مقامه و أوهمهم أن ذلك جار مجرى النص عليه بالخلافة و قال يوم

السقيفة أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله ص في الصلاة ثم أكد ذلك بأن قال لأبي بكر و قد عرض عليه البيعة أنت

صاحب رسول الله ص في المواطن كلها شدتها و رخائها رضيك لديننا أ فلا نرضاك لدنيانا. ثم عاب عليا بخطبته بنت أبي جهل فأوهم

أن رسول الله ص كرهه لذلك و وجد عليه و أرضاه عمرو بن العاص فروى حديثا افتعله و اختلقه على رسول الله

قال سمعته يقول إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله و صالح المؤمنين

فجعلوا ذلك كالناسخ لقوله ص من كنت مولاه فهذا مولاه

قلت للنقيب أ يصح النسخ في مثل هذا أ ليس هذا نسخا للشيء قبل تقضي وقت فعله فقال سبحان الله من أين تعرف العرب هذا و أنى

لها أن تتصوره فضلا عن أن تحكم بعدم جوازه فهل يفهم حذاق الأصوليين هذه المسألة فضلا عن حمقى العرب هؤلاء قوم ينخدعون

بأدنى شبهة و يستمالون بأضعف سبب و تبنى الأمور معهم على ظواهر

[12 : 89 ]

النصوص و أوائل الأدلة و هم أصحاب جهل و تقليد لا أصحاب تفضيل و نظر. قال ثم أكد حسن ظن الناس بهم أنهم أطلقوا أنفسهم

عن الأموال و زهدوا في متاع الدنيا و زخرفها و سلكوا مسلك الرفض لزينتها و الرغبة عنها و القناعة بالطفيف النزر منها و أكلوا

الخشن و لبسوا الكرابيس و لما ألقت إليهم الدنيا أفلاذ كبدها و فرقوا الأموال على الناس و قسموها بينهم و لم يتدنسوا منها

بقليل و لا كثير فمالت إليهم القلوب و أحبتهم النفوس و حسنت فيهم الظنون و قال من كان في نفسه شبهة منهم أو وقفه في أمرهم

لو كان هؤلاء قد خالفوا النص لهوى أنفسهم لكانوا أهل الدنيا و لظهر عليهم الميل إليها و الرغبة فيها و الاستئثار بها و كيف

يجمعون على أنفسهم مخالفة النص و ترك لذات الدنيا و م آربها فيخسروا الدنيا و الآخرة و هذا لا يفعله عاقل و القوم عقلاء ذوو

الباب و آراء صحيحة فلم يبق عند أحد شك في أمرهم و لا ارتياب لفعلهم و ثبتت العقائد على ولايتهم و تصويب أفعالهم و نسوا لذة

الرئاسة و أن أصحاب الهمم العالية لا يلتفون إلى المأكل و المشرب و المنكح و إنما يريدون الرئاسة و نفوذ الأمر كما قال الشاعر

و قد رغبت عن لذة المال أنفس و ما رغبت عن لذة النهي و الأمر

قال رحمه الله و الفرق بين الرجلين و بين الثالث ما أصيب به الثالث و قتل تلك القتلة و خلعه الناس و حصروه و ضيقوا عليه بعد أن

توالى إنكارهم أفعاله و جبهوه في وجهه و فسقوه و ذلك لأنه استأثر هو و أهله بالأموال و انغمسوا فيها و استبدوا بها فكانت

طريقته و طريقتهم مخالفة لطريق الأولين فلم تصبر العرب على ذلك و لو كان عثمان سلك طريق عمر في الزهد و جمع الناس و ردع

الأمراء و الولاة عن الأموال و تجنب استعمال أهل بيته و وفر أعراض الدنيا و ملاذها و شهواتها على الناس زاهدا فيها تاركا لها معرضا

عنها لما ضره شيء قط و لا أنكر عليه أحد قط و لو حول الصلاة من

[12 : 90 ]

الكعبة إلى بيت المقدس بل لو أسقط عن الناس إحدى الصلوات الخمس و اقتنع منهم بأربع و ذلك لأن همم الناس مصروفة إلى

الدنيا و الأموال فإذا وجدوها سكتوا و إذا فقدوها هاجوا و اضطربوا أ لست ترى رسول الله ص كيف قسم غنائم هوازن على المنافقين

و على أعدائه الذين يتمنون قتله و موته و زوال دولته فلما أعطاهم أحبوه إما كلهم أو أكثرهم و من لم يحبه منهم بقلبه جامله و داراه

و كف عن إظهار عداوته و الإجلاب عليه و لو أن عليا صانع أصحابه بالمال و أعطاه الوجوه و الرؤساء لكان أمره إلى الانتظام و

الاطراد أقرب و لكنه رفض جانب التدبير الدنيوي و آثر لزوم الدين و تمسك بأحكام الشريعة و الملك أمر آخر غير الدين فاضطرب

عليه أصحابه و هرب كثير منهم إلى عدوه. و قد ذكرت في هذا الفصل خلاصة ما حفظته عن النقيب أبي جعفر و لم يكن إمامي المذهب و

لا كان يبرأ من السلف و لا يرتضي قول المسرفين من الشيعة و لكنه كلام أجراه على لسانه البحث و الجدل بيني و بينه على أن

العلوي لو كان كراميا لا بد أن يكون عنده نوع من تعصب و ميل على الصحابة و إن قل. و لنرجع إلى ذكر كلام عمر من خطبته و

سيرته. كتب عمر إلى أبي موسى لما استعمله قاضيا و بعثه إلى العراق من عبد الله أمير المؤمنين عمر إلى عبد الله بن قيس سلام

عليك أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة و سنة متبعة فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاد له آس بين الناس في وجهك و

عدلك و مجلسك حتى لا يطمع شريف في

[12 : 91 ]

حيفك و لا ييأس ضعيف من عدلك البينة على من ادعى و اليمين على من أنكر و الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو

حرم حلالا لا يمنعنك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك و هديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم و مراجعة الحق

خير من التمادي في الباطل الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب و لا سنة ثم اعرف الأشباه و الأمثال و قس الأمور

عند ذلك و اعمد إلى أقربها إلى الله عز و جل و أشبهها بالحق و اجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه فإن أحضر بينته

أخذت له بحقه و إلا استحللت عليه القضية فإنه أنفى للشك و أجلى للعمى المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو

مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو نسب فإن الله عز و جل تولى منكم السرائر و درأ عنكم بالبينات و الأيمان الشبهات إياك

و الغلق و الضجر و التأذي بالخصوم و التنكر عند الخصومات فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر و يحسن به الذخر فمن

صحت نيته و أقبل على نفسه كفاه الله ما بينه و بين الناس و من تخلق للناس بما يعلم الله عز و جل منه إنه ليس من نفسه شانه الله

فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه و خزائن رحمته و السلام. ذكر هذه الرسالة أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب الكامل و

أطراها فقال إنه جمع فيها جمل الأحكام و اختصرها بأجود الكلام و جعل الناس بعده يتخذونه إماما فلا يجد محق عنها معدلا و لا

ظالم عن حدودها محيصا.

[12 : 92 ]

و كتب عمر إلى عماله يوصيهم فقال في جملة الكتاب ارتدوا و ائتزروا و انتعلوا و ألقوا الخفاف و السراويلات و ألقوا الركب و

انزوا نزوا على الخيل و اخشوشنوا و عليكم بالمعدية أو قال و تمعددوا و ارموا الأغراض و علموا فتيانكم العوم و الرماية و ذروا

التنعم و زي العجم و إياكم و الحرير فإن رسول الله ص نهى عنه و قال لا تلبسوا من الحرير إلا ما كان هكذا و أشار بإصبعه. و كتب

إلى بعض عماله أن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته و أن أشقى الرعاة من شقيت به رعيته فإياك أن تزيغ فتزيغ رعيتك فيكون مثلك

عند الله مثل البهيمة رأت الخضرة في الأرض فرعت فيها تبغي السمن و حتفها في سمنها و كتب إلى أبي موسى و هو بالبصرة بلغني

أنك تأذن للناس الجماء الغفير فإذا جاءك كتابي هذا فأذن لأهل الشرف و أهل القرآن و التقوى و الدين فإذا أخذوا مجالسهم فأذن

للعامة و لا تؤخر عمل اليوم لغد فتتداك عليك الأعمال فتضيع و إياك و اتباع الهوى فإن للناس أهواء متبعة و دنيا مؤثرة و ضغائن

محمولة و حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة فإنه من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة كان مرجعه إلى الرضا و

الغبطة و من ألهته حياته و شغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة و الحسرة إنه لا يقيم أمر الله في الناس إلا خصيف العقدة بعيد القرارة

لا يحنق على جرة و لا يطلع الناس منه على عورة و لا يخاف في الحق لومة لائم الزم أربع خصال يسلم لك دينك و تحيط بأفضل حظك

إذا حضر الخصمان فعليك بالبينات العدول و الأيمان القاطعة ثم ائذن

[12 : 93 ]

للضعيف حتى ينبسط لسانه و يجترئ قلبه و تعاهد الغريب فإنه إذا طال حبسه ترك حاجته و انصرف إلى أهله و احرص على الصلح ما

لم يبن لك القضاء و السلام عليك. و كان رجل من الأنصار لا يزال يهدي لعمر فخذ جزور إلى أن جاء ذات يوم مع خصم له فجعل في

أثناء الكلام يقول يا أمير المؤمنين افصل القضاء بيني و بينه كما يفصل فخذ الجزور. قال عمر فما زال يرددها حتى خفت على نفسي

فقضيت عليه و كتبت إلى عمالي أما بعد فإياكم و الهدايا فإنها من الرشا ثم لم أقبل له هدية فيما بعد و لا لغيره. و كان عمر يقول

اكتبوا عن الزاهدين في الدنيا ما يقولون فإن الله عز و جل وكل بهم ملائكة واضعة أيديهم على أفواههم فلا يتكلمون إلا بما هيأه

الله لهم. و روى أبو جعفر الطبري في تاريخه قال كان عمر يقول جردوا القرآن و لا تفسروه و أقلوا الرواية عن رسول الله ص و أنا

شريككم. و قال أبو جعفر و كان عمر إذا أراد أن ينهى الناس عن شيء جمع أهله فقال إني عسيت أن أنهى الناس عن كذا و أن الناس

ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم و أقسم بالله لا أجد أحدا منكم يفعل إلا أضعفت عليه العقوبة. قال أبو جعفر و كان عمر شديدا

على أهل الريب و في حق الله صليبا حتى يستخرجه و لينا سهلا فيما يلزمه حتى يؤديه و بالضعيف رحيما.

[12 : 94 ]

و روى زيد بن أسلم عن أبيه أن نفرا من المسلمين كلموا عبد الرحمن بن عوف فقالوا كلم لنا عمر بن الخطاب فقد و الله أخشانا حتى

لا نستطيع أن نديم إليه أبصارنا فذكر عبد الرحمن له ذلك فقال أ و قد قالوا ذلك و الله لقد لنت لهم حتى تخوفت الله في أمرهم و قد

تشددت عليهم حتى خفت الله في أمرهم و أنا و الله أشد فرقا لله منهم لي. و روى جابر بن عبد الله قال قال رجل لعمر يا خليفة الله

قال خالف الله بك قال جعلني الله فداك قال إذن يهينك الله. و روى أبو جعفر قال استشار عمر في أمر المال كيف يقسمه فقال له علي

بن أبي طالب ع تقسم كل سنة ما اجتمع معك من المال و لا تمسك منه شيئا و قال عثمان بن عفان أرى مالا كثيرا يسع الناس و إن لم

يحصوا حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر فقال الوليد بن هشام بن المغيرة يا أمير المؤمنين قد جئت الشام

فرأيت ملوكها قد دونوا ديوانا و جندوا جنودا و فرضوا لهم أرزاقا فأخذ بقوله فدعا عقيل بن أبي طالب و مخرمة بن نوفل و جبير بن

مطعم و كانوا نساب قريش و قال اكتبوا الناس على منازلهم فكتبوا فبدءوا ببني هاشم ثم أتبعوهم أبا بكر و قومه ثم عمر و قومه

على ترتيب الخلافة فلما نظر إليه قال وددت أنه كان هكذا لكن ابدأ بقرابة النبي ص الأقرب فالأقرب حتى تضعوا عمر حيث وضعه

الله. قال أبو جعفر جاءت بنو عدي إلى عمر فقالوا له يا عمر أنت خليفة رسول الله

[12 : 95 ]

ص قال أو خليفة أبي بكر و أبو بكر خليفة رسول الله ص قالوا و ذاك فلو جعلت نفسك حيث جعلك هؤلاء القوم فقال بخ بخ يا بني

عدي أردتم الأكل على ظهري و أن أذهب حسناتي لكم لا و الله و لو كتبتم آخر الناس إن لي صاحبين سلكا طريقا فإن أنا خالفتهما

خولف بي و الله ما أدركنا الفضل في الدنيا إلا بمحمد و لا نرجو ما نرجو من الآخرة و ثوابها إلا بمحمد ص فهو شرفنا و قومه أشرف

العرب ثم الأقرب منه فالأقرب و ما بيننا و بين أن نلقاه ثم لا نفارقه إلى آدم إلا آباء يسيرة و الله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال و جئنا

بغير عمل فإنهم أولى بمحمد ص منا يوم القيامة لا ينظرن رجل إلى قرابته و ليعمل بما عند الله فإن من قصر به عمله لم يسرع به

نسبه. و روى السائب بن يزيد قال سمعت عمر بن الخطاب يقول و الله ما من أحد إلا له في هذا المال حق أعطيه أو منعه و ما أحد أحق

به من أحد إلا عبد مملوك و ما أنا فيه إلا كأحدكم و لكنا على منازلنا من كتاب الله و قسمنا من رسول الله ص فالرجل و بلاؤه في

الإسلام و الرجل و غناؤه و الرجل و حاجته و الله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من المال و هو مكانه. و روى نافع مولى

آل الزبير قال سمعت أبا هريرة يقول رحم الله ابن حنتمة لقد رأيته عام الرمادة و إنه ليحمل على ظهره جرابين و عكة زيت في يده و

إنه ليعتقب هو و أسلم فلما رآني قال من أين يا أبا هريرة قلت قريبا فأخذت

[12 : 96 ]

أعقبه فحملناه حتى انتهينا إلى ضرار فإذا صرم من نحو عشرين بيتا من محارب فقال عمر ما أقدمكم قالوا الجهد و أخرجوا لنا جلد

الميتة مشويا كانوا يأكلونه و رمة العظام مسحوقة كانوا يستفونها فرأيت عمر طرح رداءه ثم برز فما زال يطبخ لهم حتى شبعوا و

أرسل أسلم إلى المدينة فجاء بأبعرة فحملهم عليها ثم أنزلهم الجبانة ثم كساهم و كان يختلف إليهم و إلى غيرهم حتى كفى الله

ذلك. و روى راشد بن سعد أن عمر أتي بمال فجعل يقسم بين الناس فازدحموا عليه فأقبل سعد بن أبي وقاص يزاحم الناس حتى خلص

إليه فعلاه عمر بالدرة و قال إنك أقبلت لا تهابن سلطان الله في الأرض فأحببت بأن أعلمك أن سلطان الله لا يهابك. و قالت الشفاء

ابنة عبد الله و رأت فتيانا من النساك يقتصدون في المشي و يتكلمون رويدا ما هؤلاء فقيل نساك فقالت كان عمر بن الخطاب هو

الناسك حقا و كان إذا تكلم أسمع و إذا مشى أسرع و إذا ضرب أوجع. أعان عمر رجلا على حمل شيء فدعا له الرجل و قال نفعك بنوك

يا أمير المؤمنين قال بل أغناني الله عنهم. و من كلامه القوة في العمل ألا يؤخر عمل اليوم لغد و الأمانة ألا تخالف سريرتك

علانيتك و التقوى بالتوقي و من يتق الله يقه.

[12 : 97 ]

و قال عمر كنا نعد المقرض بخيلا إنما كانت المواساة. أتى رهط إلى عمر فقالوا يا أمير المؤمنين كثر العيال و اشتدت المئونة فزدنا

في أعطياتنا فقال فعلتموها جمعتم بين الضرائر و اتخذتم الخدم من مال الله أما لوددت أني و إياكم في سفينتين في لجة البحر تذهب

بنا شرقا و غربا فلن يعجز الناس أن يولوا رجلا منهم فإن استقام اتبعوه و إن جنف قتلوه فقال طلحة و ما عليك لو قلت و إن أعوج

عزلوه فقال القتل أرهب لمن بعده احذروا فتى قريش فإنه كريمها الذي لا ينام إلا على الرضا و يضحك عند الغضب و يتناول ما فوقه

من تحته. و كان يقول في آخر أيامه عند تبرمه بالأمر و ضجره من الرعية اللهم ملوني و مللتهم و أحسست من نفسي و أحسوا مني و لا

أدري بأينا يكون اللوت و قد أعلم أن لهم قتيلا منهم فاقبضني إليك. و ذكر قوم من الصحابة لعمر رجلا فقالوا فاضل لا يعرف الشر

قال ذاك أوقع له فيه و روى الطبري في التاريخ أن عمر استعمل عتبة بن أبي سفيان على عمل فقدم منه بمال فقال له ما هذا يا عتبة

قال مال خرجت به معي و تجرت فيه قال و ما لك تخرج المال معك إلى هذا الوجه فأخذ المال منه فصيره في بيت المال فلما قام

عثمان قال لأبي سفيان

[12 : 98 ]

إنك إن طلبت ما أخذه عمر من عتبة رددته عليك فقال له أبو سفيان إياك و ما هممت به إنك إن خالفت صاحبك قبلك ساء رأي الناس

فيك إياك أن ترد على من كان قبلك فيرد عليك من بعدك. و روى الطبري أيضا أن هندا بنت عتبة بن ربيعة قامت إلى عمر فسألته أن

يقرضها من بيت المال أربعة آلاف درهم تتجر فيها و تضمنها فخرجت بها إلى بلاد كلب فباعت و اشترت و بلغها أن أبا سفيان قد أتى

معاوية يستميحه و معه ابنه عمرو بن أبي سفيان فعدلت إليه من بلاد كلب و كان أبو سفيان قد طلقها فقال معاوية ما أقدمك يا أمه

قالت النظر إليك يا بني إنه عمر و إنما يعمل لله و قد أتاك أبوك فخشيت أن تخرج إليه من كل شيء و أهل ذلك هو و لكن لا يعلم

عمر من أين أعطيته فيؤنبوك و يؤنبك و لا تستقبلها أبدا فبعث معاوية إلى أبيه و أخيه مائة دينار و كساهما و حملهما فسخطها عمر

فقال أبو سفيان لا تسخطها فإنها عطاء لم تغب عنه هند و رجع هو و ابنه إلى المدينة فسأله عمر بكم أجازك معاوية فقال بمائة دينار

فسكت عمر. و روى الأحنف قال أتى عبد الله بن عمير عمر و هو يقرض الناس فقال يا أمير المؤمنين أقرض لي فلم يلتفت إليه فنخسه

فقال عمر حس و أقبل عليه فقال من أنت فقال عبد الله بن عمير و كان أبوه استشهد يوم حنين فقال يا يرفأ أعطه ستمائة فأعطاه

ستمائة فلم يقبلها و رجع إلى عمر فأخبره فقال يا يرفأ أعطه

[12 : 99 ]

ستمائة حلة فأعطاه فلبس الحلة التي كساه عمر و رمى ما كان عليه فقال له خذ ثيابك هذه فلتكن في مهنة أهلك و هذه لزينتك. و روى

إياس بن سلمة عن أبيه قال مر عمر في السوق و معه الدرة فخفقني خفقة فأصاب طرف ثوبي و قال أمط عن الطريق فلما كان في العام

المقبل لقيني فقال يا سلمة أ تريد الحج قلت نعم فأخذ بيدي و انطلق بي إلى منزله فأعطاني ستمائة درهم و قال استعن بها على حجك

و اعلم أنها بالخفقة التي خفقتك فقلت يا أمير المؤمنين ما ذكرتها قال و أنا ما نسيتها. و خطب عمر فقال أيتها الرعية إن لنا عليكم حقا

النصيحة بالغيب و المعاونة على الخير إنه ليس من حلم أحب إلى الله و لا أعم نفعا من حلم إمام و رفقه و ليس من جهل أبغض إلى

الله من جهل إمام و خرفه أيها الرعية إنه من يأخذ بالعافية من بين ظهرانيه فوته الله العافية من فوقه. و روى الربيع بن زياد قال

قدمت على عمر بمال من البحرين فصليت معه العشاء ثم سلمت عليه فقال ما قدمت به قلت خمسمائة ألف قال ويحك إنما قدمت

بخمسين ألفا قلت بل خمسمائة ألف قال كم يكون ذلك قلت مائة ألف و مائة ألف و مائة ألف حتى عددت خمسا فقال إنك ناعس

ارجع إلى بيتك ثم اغد علي فغدوت عليه فقال ما جئت به قلت ما قلته لك قال كم هو قلت خمسمائة ألف قال أ طيب هو قلت نعم لا

أعلم إلا ذلك فاستشار الصحابة فيه فأشير عليه بنصب الديوان فنصبه و قسم المال بين المسلمين ففضلت عنده فضلة

[12 : 100 ]

فأصبح فجمع المهاجرين و الأنصار و فيهم علي بن أبي طالب و قال للناس ما ترون في فضل فضل عندنا من هذا المال فقال الناس يا

أمير المؤمنين إنا شغلناك بولاية أمورنا عن أهلك و تجارتك و صنعتك فهو لك فالتفت إلى علي فقال ما تقول أنت قال قد أشاروا عليك

قال فقل أنت فقال له لم تجعل يقينك ظنا فلم يفهم عمر قوله فقال لتخرجن مما قلت قال أجل و الله لأخرجن منه أ تذكر حين بعثك

رسول الله ص ساعيا فأتيت العباس بن عبد المطلب فمنعك صدقته فكان بينكما شيء فجئتما إلي و قلتما انطلق معنا إلى رسول الله ص

فجئنا إليه فوجدناه خاثرا فرجعنا ثم غدونا عليه فوجدناه طيب النفس فأخبرته بالذي صنع العباس فقال لك يا عمر أ ما علمت أن عم

الرجل صنو أبيه فذكرنا له ما رأينا من خثوره في اليوم الأول و طيب نفسه في اليوم الثاني فقال إنكم أتيتم في اليوم الأول و قد

بقي عندي من مال الصدقة ديناران فكان ما رأيتم من خثوري لذلك و أتيتم في اليوم الثاني و قد وجهتهما فذاك الذي رأيتم من طيب

نفسي أشير عليك ألا تأخذ من هذا الفضل شيئا و أن تفضه على فقراء المسلمين فقال صدقت و الله لأشكرن لك الأولى و الأخيرة. و

روى أبو سعيد الخدري قال حججنا مع عمر أول حجة حجها في خلافته فلما دخل المسجد الحرام دنا من الحجر الأسود فقبله و

استلمه و قال إني لأعلم أنك حجر لا تضر و لا تنفع و لو لا أني رأيت رسول الله ص قبلك و استلمك لما قبلتك و لا استلمتك فقال له

علي بلى يا أمير المؤمنين إنه ليضر و ينفع و لو علمت تأويل ذلك من كتاب الله لعلمت أن الذي أقول لك كما أقول قال الله تعالى وَ

إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ

السابق

التالي