السابق

التالي

[5 : 115 ]

فأقبلنا من قبائل شتى النفر منا على البعير الواحد و عليه زادهم يتعاورون لحافا واحدا قليلون مستضعفون في الأرض ف آوانا الله و

أيدنا بنصره و أصبحنا و الله المحمود من أهل فضله و نعمته ثم لقينا رجالكم بقديد فدعوناهم إلى طاعة الرحمن و حكم القرآن

فدعونا إلى طاعة الشيطان و حكم مروان فشتان لعمر الله ما بين الغي و الرشد ثم أقبلوا يزفون و يهرعون قد ضرب الشيطان فيهم

بجرانه و صدق عليهم إبليس ظنه و أقبل أنصار الله عصائب و كتائب بكل مهند ذي رونق فدارت رحانا و استدارت رحاهم بضرب

يرتاب منه المبطلون. و ايم الله يا أهل المدينة إن تنصروا مروان و آل مروان فيسحتكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا و يشف

صدور قوم مؤمنين. يا أهل المدينة الناس منا و نحن منهم إلا مشركا عباد وثن أو كافرا من أهل الكتاب أو إماما جائرا. يا أهل المدينة

من يزعم أن الله تعالى كلف نفسا فوق طاقتها و سألها عما لم يؤتها فهو لنا حرب. يا أهل المدينة أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها

الله في كتابه على القوي و الضعيف فجاء تاسع ليس له منها سهم فأخذها جميعا لنفسه مكابرا محاربا لربه ما تقولون فيه و فيمن

عاونه على فعله. يا أهل المدينة بلغني أنكم تنتقصون أصحابي قلتم هم شباب أحداث و أعراب جفاة ويحكم يا أهل المدينة و هل

كان أصحاب رسول الله ص إلا شبابا

[5 : 116 ]

أحداثا نعم و الله إن أصحابي لشباب مكتهلون في شبابهم غضيضة عن الشر أعينهم ثقيلة عن الباطل أقدامهم قد باعوا أنفسا تموت

غدا بأنفس لا تموت أبدا قد خلطوا كلالهم بكلالهم و قيام ليلهم بصيام نهارهم محنية أصلابهم على أجزاء القرآن كلما مروا ب آية

خوف شهقوا خوفا من النار و كلما مروا ب آية رجاء شهقوا شوقا إلى الجنة و إذا نظروا إلى السيوف و قد انتضيت و إلى الرماح و قد

أشرعت و إلى السهام و قد فوقت و أرعدت الكتيبة بصواعق الموت استخفوا وعيدها عند وعيد الله و انغمسوا فيها فطوبى لهم و

حسن م آب فكم من عين في منقار طائر طالما بكى بها صاحبها من خشية الله و كم من يد قد أبينت عن ساعدها طالما اعتمد عليها

صاحبها راكعا و ساجدا في طاعة الله أقول قولي هذا و أستغفر الله و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب. و أما الخطبة

الثانية فقوله يا أهل المدينة ما لي رأيت رسم الدين فيكم عافيا و آثاره دارسة لا تقبلون عليه عظة و لا تفقهون من أهله حجة قد بليت

فيكم جدته و انطمست عنكم سنته ترون معروفه منكرا و المنكر من غيره معروفا فإذا انكشفت لكم العبر و أوضحت لكم النذر عميت

عنها أبصاركم و صمت عنها آذانكم ساهين في غمرة لاهين في غفلة تنبسط قلوبكم للباطل إذا نشر و تنقبض عن الحق إذا ذكر

مستوحشة من العلم مستأنسة بالجهل كلما وردت عليها موعظة زادتها عن الحق نفورا تحملون قلوبا في صدوركم كالحجارة أو أشد

قسوة من الحجارة فهي لا تلين بكتاب الله الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله.

[5 : 117 ]

يا أهل المدينة إنه لا تغني عنكم صحة أبدانكم إذا سقمت قلوبكم قد جعل الله لكل شيء سببا غالبا عليه لينقاد إليه مطيع أمره

فجعل القلوب غالبة على الأبدان فإذا مالت القلوب ميلا كانت الأبدان لها تبعا و إن القلوب لا تلين لأهلها إلا بصحتها و لا يصححها

إلا المعرفة بالله و قوة النية و نفاذ البصيرة و لو استشعرت تقوى الله قلوبكم لاستعملت في طاعة الله أبدانكم. يا أهل المدينة

داركم دار الهجرة و مثوى الرسول ص لما نبت به داره و ضاق به قراره و آذاه الأعداء و تجهمت له فنقله الله إليكم بل إلى قوم لعمري

لم يكونوا أمثالكم متوازرين مع الحق على الباطل مختارين الأجل على العاجل يصبرون للضراء رجاء ثوابها فنصروا الله و جاهدوا

في سبيله و آزروا رسوله ص و اتبعوا النور الذي أنزل معه و آثروا الله على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة فقال الله تعالى لهم و

لأمثالهم و لمن اهتدى بهديهم وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ و أنتم أبناؤهم و من بقي من خلفهم تتركون أن تقتدوا بهم

أو تأخذوا بسنتهم عمى القلوب صم الآذان اتبعتم الهوى فأرداكم عن الهدى و أسهاكم عن مواعظ القرآن لا تزجركم فتنزجرون و لا

تعظكم فتتعظون و لا توقظكم فتستيقظون لبئس الخلف أنتم من قوم مضوا قبلكم ما سرتم سيرتهم و لا حفظتم وصيتهم و لا

احتذيتم مثالهم لو شقت عنهم قبورهم فعرضت عليهم أعمالكم لعجبوا كيف صرف العذاب عنكم أ لا ترون إلى خلافة الله و إمامة

المسلمين كيف أضيعت حتى تداولها بنو مروان أهل بيت اللعنة و طرداء رسول الله و قوم من الطلقاء ليسوا من المهاجرين و لا

الأنصار و لا التابعين بإحسان فأكلوا مال الله أكلا و تلعبوا بدين الله لعبا و اتخذوا عباد الله عبيدا يورث الأكبر منهم ذلك الأصغر

فيا لها

[5 : 118 ]

أمة ما أضعفها و أضيعها و مضوا على ذلك من سيئ أعمالهم و استخفافهم بكتاب الله قد نبذوه وراء ظهورهم فالعنوهم لعنهم الله لعنا

كما يستحقونه. و لقد ولى منهم عمر بن عبد العزيز فاجتهد و لم يكد و عجز عن الذي أظهر حتى مضى لسبيله قال و لم يذكره بخير و

لا بشر ثم قال و ولى بعده يزيد بن عبد الملك غلام سفيه ضعيف غير مأمون على شيء من أمور المسلمين لم يبلغ أشده و لم يؤنس

رشده و قد قال الله عز و جل فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ و أمر أمة محمد ص و أحكامها و فروجها و دمائها

أعظم عند الله من مال اليتيم و إن كان عند الله عظيما غلام مأبون في فرجه و بطنه يأكل الحرام و يشرب الخمر و يلبس بردين قد

حيكا من غير حلهما و صرفت أثمانهما في غير وجهها بعد أن ضربت فيهما الأبشار و حلقت فيهما الأشعار استحل ما لم يحله الله لعبد

صالح و لا لنبي مرسل فأجلس حبابة عن يمينه و سلامة عن يساره يغنيانه بمزامير الشيطان و يشرب الخمر الصراح المحرمة نصا

بعينها حتى إذا أخذت منه مأخذها و خالطت روحه و لحمه و دمه و غلبت سورتها على عقله مزق برديه ثم التفت إليهما فقال أ تأذنان لي

بأن أطير نعم فطر إلى النار طر إلى لعنة الله طر إلى حيث لا يردك الله. ثم ذكر بني أمية و أعمالهم فقال أصابوا إمرة ضائعة و قوما

طغاما جهالا لا يقومون لله بحق و لا يفرقون بين الضلالة و الهدى و يرون أن بني أمية أرباب لهم فملكوا الأمر و تسلطوا فيه تسلط

ربوبية بطشهم بطش الجبابرة يحكمون بالهوى و يقتلون على الغضب و يأخذون بالظن و يعطلون الحدود بالشفاعات و يؤمنون

الخونة و يعصون ذوي

[5 : 119 ]

الأمانة و يتناولون الصدقة من غير فرضها و يضعونها غير موضعها فتلك الفرقة الحاكمة بغير ما أنزل الله فالعنوهم لعنهم الله. قال

ثم ذكر شيعة آل أبي طالب فقال و أما إخواننا من الشيعة و ليسوا بإخواننا في الدين لكني سمعت الله يقول يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا

خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَر وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا فإنها فرقة تظاهرت بكتاب الله و آثرت الفرقة على الله لا يرجعون

إلى نظر نافذ في القرآن و لا عقل بالغ في الفقه و لا تفتيش عن حقيقة الثواب قد قلدوا أمورهم أهواءهم و جعلوا دينهم العصبية

لحزب لزموه و أطاعوه في جميع ما يقوله لهم غيا كان أو رشدا ضلالة كان أو هدى ينتظرون الدول في رجعة الموتى و يؤمنون بالبعث

قبل الساعة و يدعون علم الغيب لمخلوقين لا يعلم واحدهم ما في بيته بل لا يعلم ما ينطوي عليه ثوبه أو يحويه جسمه ينقمون

المعاصي على أهلها و يعملون بها و لا يعلمون المخرج منها جفاة في دينهم قليلة عقولهم قد قلدوا أهل بيت من العرب دينهم و زعموا

أن موالاتهم لهم تغنيهم عن الأعمال الصالحة و تنجيهم من عقاب الأعمال السيئة قاتلهم الله أنى يؤفكون. فأي الفرق يا أهل

المدينة تتبعون أم بأي مذاهبهم تقتدون و لقد بلغني مقالكم في أصحابي و ما عبتموه من حداثة أسنانهم ويحكم و هل كان أصحاب

رسول الله ص إلا أحداثا نعم إنهم لشباب مكتهلون في شبابهم غضيضة عن الشر أعينهم ثقيلة في الباطل أرجلهم أنضاء عبادة قد نظر

الله إليهم في جوف الليل محنية أصلابهم على أجزاء القرآن كلما مر أحدهم ب آية فيها ذكر الجنة بكى شوقا و كلما مر ب آية فيها ذكر

النار شهق خوفا كأن زفير جهنم بين أذنيه قد أكلت الأرض جباههم و ركبهم

[5 : 120 ]

و وصلوا كلال ليلهم بكلال نهارهم مصفرة ألوانهم ناحلة أبدانهم من طول القيام و كثرة الصيام يوفون بعهد الله منجزون لوعد الله

قد شروا أنفسهم في طاعة الله حتى إذا التقت الكتيبتان و أبرقت سيوفهما و فوقت سهامهما و أشرعت رماحهما لقوا شبا الأسنة و

زجاج السهام و ظبى السيوف بنحورهم و وجوههم و صدورهم فمضى الشاب منهم قدما حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه و اختضبت

محاسن وجهه بالدماء و عفر جبينه بالتراب و الثرى و انحطت عليه الطير من السماء و مزقته سباع الأرض فكم من عين في منقار طائر

طالما بكى بها صاحبها في جوف الليل من خوف الله و كم من وجه رقيق و جبين عتيق قد فلق بعمد الحديد. ثم بكى فقال آه آه على

فراق الإخوان رحمة الله تعالى على تلك الأبدان اللهم أدخل أرواحها الجنان. قال أبو الفرج و سار أبو حمزة و خلف بالمدينة

المفضل الأزدي في جماعة من أصحابه و بعث مروان بن محمد عبد الملك بن عطية السعدي في أربعة آلاف من أهل الشام فيهم فرسان

عسكره و وجهوهم لحرب أبي حمزة و عبد الله بن يحيى طالب الحق و أمر ابن عطية بالجد في المسير و أعطى كل رجل من الجيش

مائة دينار و فرسا عربيا و بغلا لثقله فخرج ابن عطية حتى إذا كان بالمعلى فكان رجل من أهل وادي القرى يقال له العلاء

[5 : 121 ]

بن أفلح أبي الغيث يقول لقيني في ذلك اليوم و أنا غلام رجل من أصحاب ابن عطية فقال لي ما اسمك يا غلام فقلت العلاء فقال ابن

من قلت ابن أفلح قال أ عربي أم مولى فقلت مولى قال مولى من قلت مولى أبي الغيث قال فأين نحن قلت بالمعلى قال فأين نحن غدا

قلت بغالب قال فما كلمني حتى أردفني خلفه و مضى حتى أدخلني على ابن عطية و قال له أيها الأمير سل الغلام ما اسمه فسأل و أنا أرد

عليه القول فسر بذلك و وهب لي دراهم. قال أبو الفرج و قدم أبو حمزة و أمامه بلج بن عقبة في ستمائة رجل ليقاتل عبد الملك بن

عطية فلقيه بوادي القرى لأيام خلت من جمادى الأولى سنة ثلاثين و مائة فتواقفوا و دعاهم بلج إلى الكتاب و السنة و ذكر بني أمية و

ظلمهم فشتمه أهل الشام و قالوا يا أعداء الله أنتم أحق بهذا ممن ذكرتم فحمل بلج و أصحابه عليهم و انكشفت طائفة من أهل

الشام و ثبت ابن عطية في عصبة صبروا معه فناداهم يا أهل الشام يا أهل الحفاظ ناضلوا عن دينكم و أميركم و اصبروا و قاتلوا قتالا

شديدا فقتل بلج و أكثر أصحابه و انحازت قطعة من أصحابه نحو المائة إلى جبل اعتصموا به فقاتلهم ابن عطية ثلاثة أيام فقتل

منهم سبعين رجلا و نجا منهم ثلاثون. فرجعوا إلى أبي حمزة و هو بالمدينة و قد اغتموا و جزعوا من ذلك الخبر و قالوا فررنا من

الزحف فقال لهم أبو حمزة لا تجزعوا فإنا لكم فئة و إلي تحيزتم. و خرج أبو حمزة إلى مكة فدعا عمر بن عبد الرحمن بن زيد بن

الخطاب أهل المدينة إلى قتال المفضل خليفة أبي حمزة على المدينة فلم يجد أحدا لأن القتل قد كان أسرع في الناس و خرج وجوه

أهل البلد عنه فاجتمع إلى عمر البربر و الزنوج و أهل السوق و العبيد

[5 : 122 ]

فقاتل بهم الشراة فقتل المفضل و عامة أصحابه و هرب الباقون فلم يبق منهم أحد فقال في ذلك سهيل مولى زينب بنت الحكم بن

أبي العاص

ليت مروان رآنا يوم الإثنين عشية

إذ غسلنا العار عنا و انتضينا المشرفية

قال فلما قدم ابن عطية أتاه عمر بن عبد الرحمن فقال له أصلحك الله إني جمعت قضي و قضيضي فقاتلت هؤلاء الشراة فلقبه أهل

المدينة قضي و قضيضي. قال أبو الفرج و أقام ابن عطية بالمدينة شهرا و أبو حمزة مقيم بمكة ثم توجه إليه فقال علي بن الحصين

العبدي لأبي حمزة إني كنت أشرت عليك يوم قديد و قبله أن تقتل الأسرى فلم تفعل حتى قتلوا المفضل و أصحابنا المقيمين معه

بالمدينة و أنا أشير عليك الآن أن تضع السيف في أهل مكة فإنهم كفرة فجرة و لو قد قدم ابن عطية لكانوا أشد عليك من أهل

المدينة فقال لا أرى ذلك لأنهم قد دخلوا في الطاعة و أقروا بالحكم و وجب لهم حق الولاية. فقال إنهم سيغدرون فقال فَمَنْ نَكَثَ

فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ. و قدم ابن عطية مكة فصير أصحابه فرقتين و لقي الخوارج من وجهين فكان هو بإزاء أبي حمزة في أسفل

مكة و جعل طائفة أخرى بالأبطح بإزاء أبرهة بن الصباح فقتل أبرهة كمن له ابن هبار و هو على خيل دمشق فقتله عند بئر ميمون و

التقى ابن عطية بأبي حمزة فخرج أهل مكة بأجمعهم مع ابن عطية و تكاثر الناس على أبي حمزة فقتل على فم الشعب و قتلت معه

امرأته و هي ترتجز

أنا الجديعاء و بنت الأعلم من سأل عن اسمي فاسمي مريم

[5 : 123 ]

بعت سواري بعضب مخذم

و قتلت الخوارج قتلا ذريعا و أسر منهم أربعمائة فقال لهم ابن عطية ويلكم ما دعاكم إلى الخروج مع هذا فقالوا ضمن لنا الكنة

يريدون الجنة فقتلهم كلهم و صلب أبا حمزة و أبرهة بن الصباح على شعب الخيف و دخل علي بن الحصين دارا من دور قريش فأحدق

أهل الشام بها فأحرقوها فرمى بنفسه عليهم و قاتل فأسر و قتل و صلب مع أبي حمزة فلم يزالوا مصلوبين حتى أفضى الأمر إلى بني

هاشم فأنزلوا في خلافة أبي العباس. قال أبو الفرج و ذكر ابن الماجشون أن ابن عطية لما التقى بأبي حمزة قال أبو حمزة لأصحابه لا

تقاتلوهم حتى تختبروهم فصاحوا فقالوا يا أهل الشام ما تقولون في القرآن و العمل به فقال ابن عطية نضعه في جوف الجوالق

قالوا فما تقولون في اليتيم قالوا نأكل ماله و نفجر بأمه في أشياء بلغني أنهم سئلوا عنها فلما سمعوا كلامهم قاتلوهم حتى أمسوا

فصاحت الشراة ويحك يا ابن عطية إن الله جل و عز قد جعل الليل سكنا فاسكن و نسكن فأبى و قاتلهم حتى أفناهم. قال و لما خرج

أبو حمزة من المدينة خطب فقال يا أهل المدينة إنا خارجون لحرب مروان فإن نظهر عليه نعدل في أحكامكم و نحملكم على سنة

نبيكم و إن يكن ما تمنيتم لنا فسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون

[5 : 124 ]

قال و قد كان اتبعه على رأيه قوم من أهل المدينة و بايعوه منهم بشكست النحوي فلما جاءهم قتله وثب الناس على أصحابه فقتلوهم

و كان ممن قتلوه بشكست النحوي طلبوه فرقي في درجة دار فلحقوه فأنزلوه و قتلوه و هو يصيح يا عباد الله فيم تقتلونني فقيل فيه

لقد كان بشكست عبد العزيز من أهل القراءة و المسجد

فبعدا لبشكست عبد العزيز و أما القرآن فلا تبعد

قال أبو الفرج و حدثني بعض أصحابنا أنه رأى رجلا واقفا على سطح يرمي بالحجارة قوم أبي حمزة بمكة فقيل له ويلك أ تدري من

ترمي مع اختلاط الناس فقال و الله ما أبالي من رميت إنما يقع حجري في شام أو شار و الله ما أبالي أيهما قتلت. قال أبو الفرج و خرج

ابن عطية إلى الطائف و أتى قتل أبي حمزة إلى عبد الله بن يحيى طالب الحق و هو بصنعاء فأقبل في أصحابه يريد حرب ابن عطية

فشخص ابن عطية إليه و التقوا فقتل بين الفريقين جمع كثير و ترجل عبد الله بن يحيى في ألف رجل فقاتلوا حتى قتلوا كلهم و قتل

عبد الله بن يحيى و بعث ابن عطية رأسه إلى مروان بن محمد و قال أبو صخر الهذلي يذكر ذلك

قتلنا عبيدا و الذي يكتني الكنى أبا حمزة القارئ المصلي اليمانيا

و أبرهة الكندي خاضت رماحنا و بلجا منحناه السيوف المواضيا

[5 : 125 ]

و ما تركت أسيافنا منذ جردت لمروان جبارا على الأرض عاصيا

و قال عمرو بن الحصين العنبري يرثي أبا حمزة و غيره من الشراة و هذه القصيدة من مختار شعر العرب

هبت قبيل تبلج الفجر هند تقول و دمعها يجري

إذ أبصرت عيني و أدمعها تنهل واكفة على النحر

أنى اعتراك و كنت عهدي لا سرب الدموع و كنت ذا صبر

أ قذى بعينك لا يفاوقها أم عائر أم ما لها تذري

أم ذكر إخوان فجعت بهم سلكوا سبيلهم على قدر

فأجبتها بل ذكر مصرعهم لا غيره عبراتها تمري

يا رب أسلكني سبيلهم ذا العرش و اشدد بالتقى أزري

في فتية صبروا نفوسهم للمشرفية و القنا السمر

تالله ما في الدهر مثلهم حتى أكون رهينة القبر

أوفى بذمتهم إذا عقدوا و أعف عند العسر و اليسر

متأهبون لكل صالحة ناهون من لاقوا عن النكر

صمت إذا حضروا مجالسهم من غير ماعي بهم يزري

إلا تجيئهم فإنهم رجف القلوب بحضرة الذكر

[5 : 126 ]

متأوهون كأن جمر غضا للموت بين ضلوعهم يسري

فهم كأن بهم جرى مرض أو مسهم طرف من السحر

لا ليلهم ليل فيلبسهم فيه غواشي النوم بالسكر

إلا كرى خلسا و آونة حذر العقاب فهم على ذعر

كم من أخ لك قد فجعت به قوام ليلته إلى الفجر

متأوها يتلو قوارع من آي الكتاب مفزع الصدر

ظم آن وقدة كل هاجرة تراك لذته على قدر

رفاض ما تهوى النفوس إذا رغب النفوس دعت إلى المرز

و مبرأ من كل سيئة عف الهوى ذا مرة شزر

و المصطلي بالحرب يوقدها بحسامه في فتية زهر

يختاضها بأفل ذي شطب عضب المضارب ظاهر الأثر

لا شيء يلقاه أسر له من طعنة في ثغرة النحر

منهارة منه تجيش بما كانت عواصم جوفه تجري

[5 : 127 ]

لخليلك المختار أذك به من مغتد في الله أو مسري

خواض غمرة كل متلفة في الله تحت العثير الكدر

نزال ذي النجوات مختضبا بنجيعه بالطعنة الشزر

و ابن الحصين و هل له شبه في العرف أنى كان و النكر

بشهامة لم تحن أضلعه لذوي أحزته على غدر

طلق اللسان بكل محكمة رآب صدع العظم ذي الكسر

لم ينفكك في جوفه حزن تغلي حرارته و تستشري

ترقي و آونة يخفضها بتنفس الصعداء و الزفر

و مخالطي بلج و خالصتي سهم العدو و جابر الكسر

نكل الخصوم إذا هم شغبوا و سداد ثلمة عورة الثغر

و الخائض الغمرات يخطر في وسط الأعادي أيما خطر

بمشطب أو غير ذي شطب هام العدا بذبابه يفري

و أخيك أبرهة الهجان أخي الحرب العوان و موقد الجمر

و الضارب الأخدود ليس لها حد ينهنهها عن السحر

و ولى حكمهم فجعت به عمرو فوا كبدي على عمرو

قوال محكمة و ذو فهم عف الهوى متثبت الأمر

و مسيب فاذكر وصيته لا تنس إما كنت ذا ذكر

[5 : 128 ]

فكلاهما قد كان مختشعا لله ذا تقوى و ذا بر

في مخبتين و لم أسمهم كانوا ندي و هم أولو نصري

و هم مساعر في الوغي رجح و خيار من يمشي على العفر

حتى وفوا لله حيث لقوا بعهود لا كذب و لا غدر

فتخالسوا مهجات أنفسهم و عداتهم بقواضب بتر

و أسنة أثبتن في لدن خطية بأكفهم زهر

تحت العجاج و فوقهم خرق يخفقن من سود و من حمر

فتوقدت نيران حربهم ما بين أعلى البيت و الحجر

و تصرعت عنهم فوارسهم لم يغمضوا عينا على وتر

صرعى فخاوية بيوتهم و خوامع بجسومهم تفري

قال أبو الفرج و أقام ابن عطية بحضرموت بعد ظفره بالخوارج حتى أتاه كتاب مروان يأمره بالتعجيل إلى مكة فيحج بالناس فشخص

إلى مكة متعجلا مخفا في تسعة عشر فارسا و ندم مروان على ما كتبه و قال قتلت ابن عطية و سوف يخرج متعجلا مخفا من اليمن

ليلحق الحج فيقتله الخوارج فكان كما قال صادفه في طريقه جماعة متلففة فمن كان منهم إباضيا قال ما تنتظر أن ندرك ثأر إخواننا و

من لم يكن منهم إباضيا ظن أنه إباضي منهزم من ابن عطية فصمد له سعيد و جمانة ابنا الأخنس

[5 : 129 ]

الكنديان في جماعة من قومهما و كانوا على رأي الخوارج فعطف ابن عطية على سعيد فضربه بالسيف و طعنه جمانة فصرعه فنزل

إليه سعيد فقعد على صدره فقال له ابن عطية هل لك في أن تكون أكرم العرب أسيرا فقال سعيد يا عدو الله أ تظن الله يهملك أو

تطمع في الحياة و قد قتلت طالب الحق و أبا حمزة و بلجا و أبرهة فذبحه و قتل أصحابه أجمعون. فهذا يسير مما هو معلوم من حال

هذه الطائفة في خشونتها في الدين و تلزمها بناموسه و إن كانت في أصل العقيدة على ضلال و هكذا

قال النبي ص عنهم تستحقر صلاة أحدكم في جنب صلاتهم و صيام أحدكم في جنب صيامهم

و معلوم أن معاوية و من بعده من بني أمية لم تكن هذه الطريقة طريقتهم و لا هذه السنة سنتهم و أنهم كانوا أهل دنيا و أصحاب لعب

و لهو و انغماس في اللذات و قلة مبالاة بالدين و منهم من هو مرمي بالزندقة و الإلحاد

أخبار متفرقة عن معاوية

و قد طعن كثير من أصحابنا في دين معاوية و لم يقتصروا على تفسيقه و قالوا عنه إنه كان ملحدا لا يعتقد النبوة و نقلوا عنه في فلتات

كلامه و سقطات ألفاظه ما يدل على ذلك. و روى الزبير بن بكار في الموفقيات و هو غير متهم على معاوية و لا منسوب إلى اعتقاد

الشيعة لما هو معلوم من حاله من مجانبة علي ع و الانحراف عنه قال المطرف بن المغيرة بن شعبة دخلت مع أبي على معاوية و كان

أبي يأتيه فيتحدث معه ثم ينصرف إلي فيذكر معاوية و عقله و يعجب بما يرى منه إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء و رأيته مغتما

فانتظرته ساعة و ظننت أنه لأمر حدث

[5 : 130 ]

فينا فقلت ما لي أراك مغتما منذ الليلة فقال يا بني جئت من عند أكفر الناس و أخبثهم قلت و ما ذاك قال قلت له و قد خلوت به إنك قد

بلغت سنا يا أمير المؤمنين فلو أظهرت عدلا و بسطت خيرا فإنك قد كبرت و لو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم فو

الله ما عندهم اليوم شيء تخافه و إن ذلك مما يبقى لك ذكره و ثوابه فقال هيهات هيهات أي ذكر أرجو بقاءه ملك أخو تيم فعدل و فعل

ما فعل فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره إلا أن يقول قائل أبو بكر ثم ملك أخو عدي فاجتهد و شمر عشر سنين فما عدا أن هلك حتى هلك

ذكره إلا أن يقول قائل عمر و إن ابن أبي كبشة ليصاح به كل يوم خمس مرات أشهد أن محمدا رسول الله فأي عملي يبقى و أي ذكر

يدوم بعد هذا لا أبا لك لا و الله إلا دفنا دفنا. و أما أفعاله المجانبة للعدالة الظاهرة من لبسه الحرير و شربه في آنية الذهب و الفضة

حتى أنكر عليه ذلك أبو الدرداء فقال له

إني سمعت رسول الله ص يقول إن الشارب فيها ليجرجر في جوفه نار جهنم

و قال معاوية أما أنا فلا أرى بذلك بأسا فقال أبو الدرداء من عذيري من معاوية أنا أخبره عن الرسول ص و هو يخبرني عن رأيه لا

أساكنك بأرض أبدا. نقل هذا الخبر المحدثون و الفقهاء في كتبهم في باب الاحتجاج على أن خبر الواحد معمول به في الشرع و هذا

الخبر يقدح في عدالته كما يقدح أيضا في عقيدته لأن من قال في مقابلة خبر قد روى عن رسول الله ص أما أنا فلا أرى بأسا فيما حرمه

رسول الله ص ليس بصحيح العقيدة و من المعلوم أيضا من حالة استئثاره بمال الفيء و ضربه من لا حد عليه و إسقاط الحد عمن

يستحق إقامة الحد عليه و حكمه

[5 : 131 ]

برأيه في الرعية و في دين الله و استلحاقه زيادا و هو يعلم

قول رسول الله ص الولد للفراش و للعاهر الحجر

و قتله حجر بن عدي و أصحابه و لم يجب عليهم القتل و مهانته لأبي ذر الغفاري و جبهه و شتمه و إشخاصه إلى المدينة على قتب بعير

وطاء لإنكاره عليه و لعنه عليا و حسنا و حسينا و عبد الله بن عباس على منابر الإسلام و عهده بالخلافة إلى ابنه يزيد مع ظهور فسقه

و شربه المسكر جهارا و لعبه بالنرد و نومه بين القيان المغنيات و اصطباحه معهن و لعبه بالطنبور بينهن و تطريقه بني أمية للوثوب

على مقام رسول الله ص و خلافته حتى أفضت إلى يزيد بن عبد الملك و الوليد بن يزيد المفتضحين الفاسقين صاحب حبابة و سلامة و

الآخر رامي المصحف بالسهام و صاحب الأشعار في الزندقة و الإلحاد. و لا ريب أن الخوارج إنما بريء أهل الدين و الحق منهم لأنهم

فارقوا عليا و برئوا منه و ما عدا ذلك من عقائدهم نحو القول بتخليد الفاسق في النار و القول بالخروج على أمراء الجور و غير ذلك

من أقاويلهم فإن أصحابنا يقولون بها و يذهبون إليها فلم يبق ما يقتضي البراءة منهم إلا براءتهم من علي و قد كان معاوية يلعنه على

رءوس الأشهاد و على المنابر في الجمع و الأعياد في المدينة و مكة و في سائر مدن الإسلام فقد شارك الخوارج في الأمر المكروه

منهم و امتازوا عليه بإظهار الدين و التلزم بقوانين الشريعة و الاجتهاد في العبادة و إنكار المنكرات و كانوا أحق بأن ينصروا عليه

من أن ينصر عليهم فوضح بذلك قول أمير المؤمنين لا تقاتلوا الخوارج بعدي يعني في ملك معاوية و مما يؤكد هذا المعنى أن عبد

الله بن الزبير استنصر على يزيد بن معاوية بالخوارج و استدعاهم إلى ملكه فقال فيه الشاعر

يا ابن الزبير أ تهوى فتية قتلوا ظلما أباك و لما تنزع الشكك

ضحوا بعثمان يوم النحر ضاحية يا طيب ذاك الدم الزاكي الذي سفكوا

فقال ابن الزبير لو شايعني الترك و الديلم على محاربة بني أمية لشايعتهم و انتصرت بهم

[5 : 132 ]

61- و من كلام له ع لما خوف من الغيلة

وَ إِنَّ عَلَيَّ مِنَ اللَّهِ جُنَّةً حَصِينَةً فَإِذَا جَاءَ يَوْمِي انْفَرَجَتْ عَنِّي وَ أَسْلَمَتْنِي فَحِينَئِذ لَا يَطِيشُ السَّهْمُ وَ لَا يَبْرَأُ الْكَلْمُ

الغيلة القتل على غير علم و لا شعور و الجنة الدرع و ما يجن به أي يستتر من ترس و غيره و طاش السهم إذا صدف عن الغرض و الكلم

الجرح و يعني بالجنة هاهنا الأجل و على هذا المعنى الشعر المنسوب إليه ع

من أي يومي من الموت أفر أ يوم لم يقدر أم يوم قدر

فيوم لا يقدر لا أرهبه و يوم قد قدر لا يغني الحذر

و منه قول صاحب الزنج

و إذا تنازعني أقول لها قري موت يريحك أو صعود المنبر

ما قد قضى سيكون فاصطبري له و لك الأمان من الذي لم يقدر

و مثله

قد علم المستأخرون في الوهل أن الفرار لا يزيد في الأجل

و الأصل في هذا كله قوله تعالى وَ ما كانَ لِنَفْس أَنْ تَمُوتَ إِلّا بِإِذْنِ اللّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا

[5 : 133 ]

و قوله تعالى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ. و قوله سبحانه تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ و في القرآن

العزيز كثير من ذلك

اختلاف الناس في الآجال

و اختلف الناس في الآجال فقالت الفلاسفة و الأطباء لا أجل مضروب لأحد من الحيوان كله من البشر و لا من غيرهم و الموت عندهم

على ضربين قسري و طبيعي. فالقسري الموت بعارض إما من خارج الجسد كالمتردي و الغريق و المقتول و نحو ذلك أو من داخل

الجسد كما يعرض من الأمراض القاتلة مثل السل و الاستسقاء و السرسام و نحو ذلك. و الموت الطبيعي ما يكون بوقوف القوة

الغاذية التي تورد على البدن عوض ما يتحلل منه و هذه القوة المستخدمة للقوى الأربع الجاذبة و الدافعة و الماسكة و الهاضمة و

البدن لا يزال في التحلل دائما من الحركات الخارجية و من الأفكار و الهموم و ملاقاة الشمس و الريح و العوارض الطارئة و من

الجوع و العطش و القوة الغاذية تورد على البدن عوض الأجزاء المتحللة فتصرفها في الغذاء المتناول و استخدام القوى الأربع

المذكورة. و منتهى بقاء هذه القوة في الأعم الأغلب للإنسان مائة و عشرون سنة و قد رأيت في كتب بعض الحكماء أنها تبقى مائة و

ستين سنة و لا يصدق هؤلاء بما يروى من بقاء المعمرين فأما أهل الملل فيصدقون بذلك.

[5 : 134 ]

و اختلف المتكلمون في الآجال فقالت المعتزلة ينبغي أولا أن نحقق مفهوم قولنا أجل ليكون البحث في التصديق بعد تحقق التصور

فالأجل عندنا هو الوقت الذي يعلم الله أن حياة ذلك الإنسان أو الحيوان تبطل فيه كما أن أجل الدين هو الوقت الذي يحل فيه

فإذا سألنا سائل فقال هل للناس آجال مضروبة قلنا له ما تعني بذلك أ تريد هل يعلم الله تعالى الأوقات التي تبطل فيها حياة الناس أم

تريد بذلك أنه هل يراد بطلان حياة كل حي في الوقت الذي بطلت حياته فيه. فإن قال عنيت الأول قيل له نعم للناس آجال مضروبة

بمعنى معلومة فإن الله تعالى عالم بكل شيء. و إن قال عنيت الثاني قيل لا يجوز عندنا إطلاق القول بذلك لأنه قد تبطل حياة نبي أو

ولي بقتل ظالم و البارئ تعالى لا يريد عندنا ذلك. فإن قيل فهل تقولون إن كل حيوان يموت و تبطل حياته بأجله قيل نعم لأن الله

قد علم الوقت الذي تبطل حياته فيه فليس تبطل حياته إلا في ذلك الوقت لا لأن العلم ساق إلى ذلك بل إنما تبطل حياته بالأمر

الذي اقتضى بطلانه و البارئ تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه فإن بطلت حياته بقتل ظالم فذلك ظلم و جور و إن بطلت حياته من

قبل الله تعالى فذلك حكمة و صواب و قد يكون ذلك لطفا لبعض المكلفين. و اختلف الناس لو لم يقتل القاتل المقتول هل كان

يجوز أن يبقيه الله تعالى فقطع الشيخ أبو الهذيل على موته لو لم يقتله القاتل و إليه ذهب الكرامية قال محمد بن الهيصم مذهبنا

أن الله تعالى قد أجل لكل نفس أجلا لن ينقضي عمره دون بلوغه و لا يتأخر عنه و معنى الأجل هو الوقت الذي علم الله أن الإنسان

يموت فيه و كتب ذلك في اللوح المحفوظ و ليس يجوز أن يكون الله تعالى قد أجل له أجلا ثم يقتل قبل بلوغه أو يخترم دونه و لا

أن

[5 : 135 ]

يتأخر عما أجل له ليس على معنى أن القاتل مضطر إلى قتله حتى لا يمكنه الامتناع منه بل هو قادر على أن يمتنع من قتله و لكنه لا

يمتنع منه إذ كان المعلوم أنه يقتله لأجله بعينه و كتب ذلك عليه. و لو توهمنا في التقدير أنه يمتنع من قتله لكان الإنسان يموت

لأجل ذلك لأنهما أمران مؤجلان بأجل واحد فأحدهما قتل القاتل إياه و الثاني تصرم مدة عمره و حلول الموت به فلو قدرنا امتناع

القاتل من قتله لكان لا يجب بذلك ألا يقع المؤجل الثاني الذي هو حلول الموت به بل كان يجب أن يموت بأجله. قال و بيان ذلك

من كتاب الله توبيخه المنافقين على قولهم لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا فقال تعالى لهم قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فدل على أنهم لو تجنبوا مصارع القتل لم يكونوا ليدرءوا بذلك الموت عن أنفسهم. و قالت الأشعرية و الجهمية

و الجبرية كافة إنها آجال مضروبة محدودة و إذا أجل الأجل و كان في المعلوم أن بعض الناس يقتله وجب وقوع القتل منه لا محالة و

ليس يقدر القاتل على الامتناع من قتله و تقدير انتفاء القتل ليقال كيف كانت تكون الحال تقدير أمر محال كتقدير عدم القديم و

إثبات الشريك و تقدير الأمور المستحيلة لغو و خلف من القول. و قال قوم من أصحابنا البغداديين رحمهم الله بالقطع على حياته لو

لم يقتله القاتل و هذا عكس مذهب أبي الهذيل و من وافقه و قالوا لو كان المقتول يموت في ذلك الوقت لو لم يقتله القاتل لما كان

القاتل مسيئا إليه إذ لم يفوت عليه حياة لو لم يبطلها لبقيت و لما استحق

[5 : 136 ]

القود و لكان ذابح الشاة بغير إذن مالكها قد أحسن إلى مالكها لأنه لو لم يذبحها لماتت فلم يكن ينتفع بلحمها. قالوا و الذي احتج

به من كونهما مؤجلين بأجل واحد فلو قدرنا انتفاء أحد الأمرين في ذلك الوقت لم يجب انتفاء الآخر ليس بشيء لأن أحدهما علة

الآخر فإذا قدرنا انتفاء العلة وجب أن ينتفي في ذلك التقدير انتفاء المعلول فالعلة قتل القاتل و المعلول بطلان الحياة و إنما كان

يستمر و يصلح ما ذكروه لو لم يكن بين الأمرين علية العلية و المعلولية. قالوا و الآية التي تعلقوا فيها لا تدل على قولهم لأنه تعالى

لم ينكر ذلك القول إنكار حاكم بأنهم لو لم يقتلوا لماتوا بل قال كل حي ميت أي لا بد من الموت إما معجلا و إما مؤجلا. قالوا فإذا

قال لنا قائل إذا قلتم إنه يبقى لو لم يقتله القاتل أ لستم تكونون قد قلتم إن القاتل قد قطع عليه أجله. قلنا له إنما يكون قاطعا

عليه أجله لو قتله قبل الوقت الذي علم الله تعالى أن حياته تبطل فيه و ليس الأمر كذلك لأن الوقت الذي علم الله تعالى أن حياته

تبطل فيه هو الوقت الذي قتله فيه القاتل و لم يقتله القاتل قبل ذلك فيكون قد قطع عليه أجله. قالوا فإذا قال لنا فهل تقولون إنه

قطع عليه عمره. قلنا له إن الزمان الذي كان يعيش فيه لو لم يقتله القاتل لا يسمى عمرا إلا على طريق المجاز باعتبار التقدير و لسنا

نطلق ذلك إلا مقيدا لئلا يوهم و إنما قلنا إنا نقطع على أنه لو لم يقتل لم يمت و لا نطلق غير ذلك.

[5 : 137 ]

و قال قدماء الشيعة الآجال تزيد و تنقص و معنى الأجل الوقت الذي علم الله تعالى أن الإنسان يموت فيه إن لم يقتل قبل ذلك أو

لم يفعل فعلا يستحق به الزيادة و النقصان في عمره. قالوا و ربما يقتل الإنسان الذي ضرب له من الأجل خمسون سنة و هو ابن

عشرين سنة و ربما يفعل من الأفعال ما يستحق به الزيادة فيبلغ مائة سنة أو يستحق به النقيصة فيموت و هو ابن ثلاثين سنة. قالوا

فمما يقتضي الزيادة صلة الرحم و مما يقتضي النقيصة الزنا و عقوق الوالدين و تعلقوا بقوله تعالى وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّر وَ لا يُنْقَصُ

مِنْ عُمُرِهِ إِلّا فِي كِتاب. و ربما قال قوم منهم إن الله تعالى يضرب الأجل لزيد خمسين سنة أو ما يشاء فيرجع عن ذلك فيما بعد و

يجعله أربعين أو ثلاثين أو ما يشاء و بنوه على قولهم في البداء. و قال أصحابنا هذا يوجب أن يكون الله تعالى قد أجل الآجال على

التخمين دون التحقيق حيث أجل لزيد خمسين فقتل لعشرين و أفسدوا أن يعلم الله تعالى الشيء بشرط و أن يبدو له فيما يقضيه و

يقدره بما هو مشهور في كتبهم. و قالوا في الآية إن المراد بها أن ينقص سبحانه بعض الناس عن مقدار أجل المعمر بأن يكون انتقص

منه عمرا ليس أنه ينقص من عمر ذلك المعمر. فأما مشايخنا أبو علي و أبو هاشم فتوقفا في هذه المسألة و شكا في حياة المقتول و

موته و قالا لا يجوز أن يبقى لو لم يقتل و يجوز أن يموت قالا لأن حياته و موته مقدوران لله عز و جل و ليس في العقل ما يدل على

قبح واحد منهما و لا في الشرع ما يدل على حصول واحد منهما فوجب الشك فيهما إذ لا دليل يدل على واحد منهما.

[5 : 138 ]

قالوا فأما احتجاج القاطعين على موته فقد ظهر فساده بما حكي من الجواب عنه. قالوا و مما يدل على بطلانه من الكتاب العزيز قوله

تعالى وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ فحكم سبحانه بأن إثباته القصاص مما يزجر القاتل عن القتل فتدوم حياة المقتول

فلو كان المقتول يموت لو لم يقتله القاتل ما كان في إثبات القصاص حياة. قالوا و أما احتجاج البغداديين على القطع على حياته بما

حكي عنهم فلا حجة فيه أما إلزام القاتل القود و الغرامة فلأنا غير قاطعين على موت المقتول لو لم يقتل بل يجوز أن يبقى و يغلب

ذلك على ظنوننا لأن الظاهر من حال الحيوان الصحيح ألا يموت في ساعته و لا بعد ساعته و ساعات فنحن نلزم القاتل القود و

الغرامة لأن الظاهر أنه أبطل ما لو لم يبطله لبقي. و أيضا فموت المقتول لو لم يقتله القاتل لا يخرج القاتل من كونه مسيئا لأنه هو

الذي تولى إبطال الحياة أ لا ترى أن زيدا لو قتل عمرا لكان مسيئا إليه و إن كان المعلوم أنه لو لم يقتله لقتله خالد في ذلك الوقت.

و أيضا فلو لم يقتل القاتل المقتول و لم يذبح الشاة حتى ماتا لكان يستحق المقتول و مالك الشاة من الأعواض على البارئ سبحانه

أكثر مما يستحقانه على القاتل و الذابح فقد أساء القاتل و الذابح حيث فوتا على المقتول و مالك الشاة زيادة الأعواض. فأما شيخنا

أبو الحسين فاختار الشك أيضا في الأمرين إلا في صورة واحدة فإنه قطع فيها على دوام الحياة و هي أن الظالم قد يقتل في الوقت

الواحد الألوف الكثيرة في المكان الواحد و لم تجر العادة بموت مثلهم في حالة واحدة في المكان الواحد و اتفاق ذلك نقض العادة و

ذلك لا يجوز.

[5 : 139 ]

قال الشيخ ليس يمتنع أن يقال في مثل هؤلاء إنه يقطع على أن جميعهم ما كانوا يموتون في ذلك المكان في ذلك الوقت لو لم

يقتلهم القاتل إن كان الوقت وقتا لا يجوز انتقاض العادات فيه و لكن يجوز أن يموت بعضهم دون بعض لأنه ليس في موت الواحد و

الاثنين في وقت واحد في مكان واحد نقض عادة و لا يمتنع هذا الفرض من موتهم بأجمعهم في زمان نبي من الأنبياء. و قد ذكرت في

كتبي المبسوطة في علم الكلام في هذا الباب ما ليس هذا الشرح موضوعا لاستقصائه

[5 : 140 ]

62- و من خطبة له ع

أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا دَارٌ لَا يُسْلَمُ مِنْهَا إِلَّا فِيهَا وَ لَا يُنْجَى بِشَيْء كَانَ لَهَا ابْتُلِيَ النَّاسُ بِهَا فِتْنَةً فَمَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لَهَا أُخْرِجُوا مِنْهُ وَ حُوسِبُوا عَلَيْهِ وَ

مَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لِغَيْرِهَا قَدِمُوا عَلَيْهِ وَ أَقَامُوا فِيهِ فَإِنَّهَا عِنْدَ ذَوِي الْعُقُولِ كَفَيْءِ الظِّلِّ بَيْنَا تَرَاهُ سَابِغاً حَتَّى قَلَصَ وَ زَائِداً حَتَّى نَقَصَ

تقدير الكلام أن الدنيا دار لا يسلم من عقاب ذنوبها إلا فيها و هذا حق لأن العقاب المستحق إنما يسقط بأحد أمرين إما بثواب على

طاعات تفضل على ذلك العقاب المستحق أو بتوبة كاملة الشروط. و كلا الأمرين لا يصح من المكلفين إيقاعه إلا في الدنيا فإن الآخرة

ليست دار تكليف ليصح من الإنسان فيها عمل الطاعة و التوبة عن المعصية السالفة فقد ثبت إذا أن الدنيا دار لا يسلم منها إلا فيها.

إن قيل بينوا أن الآخرة ليست بدار تكليف. قيل قد بين الشيوخ ذلك بوجهين أحدهما الإجماع على المنع من تجويز استحقاق ثواب

أو عقاب في الآخرة. و الثاني أن الثواب يجب أن يكون خالصا من المشاق و التكليف يستلزم المشقة لأنها شرط في صحته فبطل أن

يجوز استحقاق ثواب في الآخرة للمكلفين المثابين في الآخرة

[5 : 141 ]

لأجل تكاليفهم في الآخرة و أما المعاقبون فلو كانوا مكلفين لجاز وقوع التوبة منهم و سقوط العقاب بها و هذا معلوم فساده ضرورة

من دين الرسول ع. و هاهنا اعتراضان أحدهما أن يقال فما قولكم في قوله تعالى كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ و هذا أمر و خطاب

لأهل الجنة و الأمر تكليف. و الثاني أن الإجماع حاصل على أن أهل الجنة يشكرون الله تعالى و الشكر عبادة و ذلك يستدعى

استحقاق الثواب. و الجواب عن الأول أن قوله كُلُوا وَ اشْرَبُوا عند شيخنا أبي علي رحمه الله تعالى ليس بأمر على الحقيقة و إن

كانت له صورته كما في قوله تعالى كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً. و أما الشيخ أبو هاشم فعنده أن قوله كُلُوا وَ اشْرَبُوا أمر لكنه زائد في

سرور أهل الجنة إذا علموا أن الله تعالى أراد منهم الأكل و أمرهم به و لكنه ليس بتكليف لأن الأمر إنما يكون تكليفا إذا انضمت إليه

المشقة. و أما الجواب عن الثاني فإن الشكر الذي بالقلب رجوعه إلى الاعتقادات و الله تعالى يفعل في أهل الجنة المعارف كلها فلا

وجوب إذا عليهم و أما الشكر باللسان فيجوز أن يكون لهم فيه لذة فيكون بذلك غير مناف للثواب الحاصل لهم. و بهذا الوجه

نجيب عن قول من يقول أ ليس زبانية النار يعالجون أهل العذاب في جهنم أعاذنا الله منها و هل هذا إلا محض تكليف لأنا نقول إنه

يجوز أن يكون للزبانية في ذلك لذة عظيمة فلا يثبت التكليف معها كما لا يكون الإنسان مكلفا في الدنيا بما يخلص إليه شهوته و لا

مشقة عليه فيه.

[5 : 142 ]

إن قيل هذا الجواب ينبئ على أن معارف أهل الآخرة ضرورية لأنكم أجبتم عن مسألة الشكر بأن الله تعالى يفعل المعارف في أهل

الجنة فدللوا على ذلك بل يجب عليكم أن تدللوا أولا على أن أهل الآخرة يعرفون الله تعالى. قيل أما الدليل على أنهم يعرفونه

تعالى فإن المثاب لا بد أن يعلم وصول الثواب إليه على الوجه الذي استحقه و لا يصح ذلك إلا مع المعرفة بالله تعالى ليعلم أن ما

فعله به هو الذي لمستحقه و القول في المعاقب كالقول في المثاب. و أيضا فإن من شرط الثواب مقارنة التعظيم و التبجيل له من

فاعل الثواب لأن تعظيم غير فاعل الثواب لا يؤثر و التعظيم لا يعلم إلا مع العلم بالقصد إلى التعظيم و يستحيل أن يعلموا قصده

تعالى و لا يعلموه و القول في العقاب و كون الاستحقاق و الإهانة تقارنه تجري هذا المجرى. فأما بيان أن هذه المعرفة ضرورية

فلأنها لو كانت من فعلهم لكانت إما أن تقع عن نظر يتحرون فيه و يلجئون إليه أو عن تذكر نظر أو بأن يلجئوا إلى نفس المعرفة من

غير تقدم نظر و الأول باطل لأن ذلك تكليف و فيه مشقة و قد بينا سقوط التكليف في الآخرة و لا يجوز أن يلجئوا إلى النظر لأنهم لو

ألجئوا إلى النظر لكان إلجاؤهم إلى المعرفة أولا و إلجاؤهم إلى المعرفة يمنع من إلجائهم إلى النظر و لا يجوز وقوعها عند تذكر

النظر لأن المتذكر للنظر تعرض له الشبه و يلزمه دفعها و في ذلك عود الأمر إلى التكليف و ليس معاينة الآيات بمانع عن وقوع الشبه

كما لم تمنع معاينة المعجزات و الأعلام عن وقوعها و لا يجوز أن يكون الإلجاء إلى المعرفة لأن الإلجاء إلى أفعال القلوب لا يصح

إلا من الله تعالى فيجب أن يكون الملجأ إلى المعرفة عارفا بهذه القضية و في ذلك استغناؤه بتقدم هذه المعرفة على الإلجاء إليها. إن

قيل إذا قلتم إنهم مضطرون إلى المعارف فهل تقولون إنهم مضطرون إلى الأفعال.

[5 : 143 ]

قيل لا لأنه تعالى قال وَ فاكِهَة مِمّا يَتَخَيَّرُونَ و لأن من تدبر ترغيبات القرآن في الجنة و الثواب علم قطعا أن أهل الجنة غير

مضطرين إلى أفعالهم كما يضطر المرتعش إلى الرعشة. إن قيل فإذا كانوا غير مضطرين فلم يمنعهم من وقوع القبيح منهم. قيل لأن

الله تعالى قد خلق فيهم علما بأنهم متى حاولوا القبيح منعوا منه و هذا يمنع من الإقدام على القبيح بطريق الإلجاء. و يمكن أيضا أن

يعلمهم استغناءهم بالحسن عن القبيح مع ما في القبيح من المضرة فيكونون ملجئين إلى ألا يفعلوا القبيح. فأما قوله ع و لا ينجى

بشيء كان لها فمعناه أن أفعال المكلف التي يفعلها لأغراضه الدنيوية ليست طريقا إلى النجاة في الآخرة كمن ينفق ماله رئاء الناس و

ليست طرق النجاة إلا بأفعال البر التي يقصد فيها وجه الله تعالى لا غير و قد أوضح ع ذلك بقوله فما أخذوه منها لها أخرجوا منه و

حوسبوا عليه و ما أخذوه منها لغيرها قدموا عليه و أقاموا فيه. فمثال الأول من يكتسب الأموال و يدخرها لملاذه و مثال الثاني من

يكسبها لينفقها في سبيل الخيرات و المعروف. ثم قال ع و إنها عند ذوي العقول كفيء الظل... إلى آخر الفصل و إنما قال كفيء

الظل لأن العرب تضيف الشيء إلى نفسه قال تأبط شرا

إذا حاص عينيه كرى النوم لم يزل له كالئ من قلب شيحان فاتك

[5 : 144 ]

و يمكن أن يقال الظل أعم من الفيء لأن الفيء لا يكون إلا بعد الزوال و كل فيء ظل و ليس كل ظل فيئا فلما كان فيهما تغاير

معنوي بهذا الاعتبار صحت الإضافة. و السابغ التام و قلص أي انقبض. و قوله ع بينا تراه أصل بينا بين فأشبعت الفتحة فصارت بينا

على وزن فعلى ثم تقول بينما فتزيد ما و المعنى واحد تقول بينا نحن نرقبه أتانا أي بين أوقات رقبتنا إياه أتانا و الجمل تضاف إليها

أسماء الزمان كقولك أتيتك زمن الحجاج أمير ثم حذفت المضاف الذي هو أوقات و ولي الظرف الذي هو بين الجملة التي أقيمت مقام

المضاف إليه كقوله وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ. و كان الأصمعي يخفض ببينا إذا صلح في موضعه بين و ينشد بيت أبي ذؤيب بالجر

بينا تعنقه الكمأة و روغه يوما أتيح له جريء سلفع

و غيره يرفع ما بعد بينا و بينما على الابتداء و الخبر و ينشد هذا البيت على الرفع. و هذا المعنى متداول قال الشاعر

ألا إنما الدنيا كظل غمامة أظلت يسيرا ثم خفت فولت

و قال

ظل الغمام و أحلام المنام فما تدوم يوما لمخلوق على حال

[5 : 145 ]

63- و من خطبة له ع

فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ وَ بَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ وَ ابْتَاعُوا مَا يَبْقَى لَكُمْ بِمَا يَزُولُ عَنْكُمْ وَ تَرَحَّلُوا فَقَدْ جُدَّ بِكُمْ وَ اسْتَعِدُّوا لِلْمَوْتِ فَقَدْ

أَظَلَّكُمْ وَ كُونُوا قَوْماً صِيحَ بِهِمْ فَانْتَبَهُوا وَ عَلِمُوا أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ لَهُمْ بِدَار فَاسْتَبْدَلُوا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً وَ لَمْ يَتْرُكْكُمْ

سُدًى وَ مَا بَيْنَ أَحَدِكُمْ وَ بَيْنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ إِلَّا الْمَوْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ وَ إِنَّ غَايَةً تَنْقُصُهَا اللَّحْظَةُ وَ تَهْدِمُهَا السَّاعَةُ لَجَدِيرَةٌ بِقِصَرِ الْمُدَّةِ وَ إِنَّ

غَائِباً يَحْدُوهُ الْجَدِيدَانِ اللَّيْلُ وَ النَّهَارُ لَحَرِيٌّ بِسُرْعَةِ الْأَوْبَةِ وَ إِنَّ قَادِماً يَقْدَمُ بِالْفَوْزِ أَوِ الشِّقْوَةِ لَمُسْتَحِقٌّ لِأَفْضَلِ الْعُدَّةِ فَتَزَوَّدُوا فِي

الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا مَا تُحْرِزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَداً فَاتَّقَى عَبْدٌ رَبَّهُ نَصَحَ نَفْسَهُ وَ قَدَّمَ تَوْبَتَهُ وَ غَلَبَ شَهْوَتَهُ فَإِنَّ أَجَلَهُ مَسْتُورٌ عَنْهُ وَ أَمَلَهُ خَادِعٌ لَهُ

وَ الشَّيْطَانُ مُوَكَّلٌ بِهِ يُزَيِّنُ لَهُ الْمَعْصِيَةَ لِيَرْكَبَهَا وَ يُمَنِّيهِ التَّوْبَةَ لِيُسَوِّفَهَا إِذَا هَجَمَتْ مَنِيَّتُهُ عَلَيْهِ أَغْفَلَ مَا يَكُونُ عَنْهَا فَيَا لَهَا حَسْرَةً عَلَى

ذِي غَفْلَة أَنْ يَكُونَ عُمُرُهُ عَلَيْهِ حُجَّةً وَ أَنْ تُؤَدِّيَهُ أَيَّامُهُ إِلَى الشِّقْوَةِ نَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَنَا وَ إِيَّاكُمْ مِمَّنْ لَا تُبْطِرُهُ نِعْمَةٌ وَ لَا تُقَصِّرُ

بِهِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ غَايَةٌ وَ لَا تَحُلُّ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ نَدَامَةٌ وَ لَا كَ آبَةٌ

[5 : 146 ]

بادروا آجالكم بأعمالكم أي سابقوها و عاجلوها البدار العجلة و ابتاعوا الآخرة الباقية بالدنيا الفانية الزائلة. و قوله فقد جد بكم أي

حثثتم على الرحيل يقال جد الرحيل و قد جد بفلان إذا أزعج و حث على الرحيل. و استعدوا للموت يمكن أن يكون بمعنى أعدوا فقد

جاء استفعل بمعنى أفعل كقولهم استجاب له أي أجابه. و يمكن أن يكون بمعنى الطلب كما تقول استطعم أي طلب الطعام فيكون

بالاعتبار الأول كأنه قال أعدوا للموت عدة و بمعنى الاعتبار الثاني كأنه قال اطلبوا للموت عدة. و أظلكم قرب منكم كأنه ألقى عليهم

ظله و هذا من باب الاستعارة. و العبث اللعب أو ما لا غرض فيه أو ما لا غرض صحيح فيه. و قوله و لم يترككم سدى أي مهملين. و قوله

أن ينزل به موضعه رفع لأنه بدل من الموت و الغائب المشار إليه هو الموت. و يحدوه الجديدان يسوقه الليل و النهار و قيل

الغائب هنا هو الإنسان يسوقه الجديدان إلى الدار التي هي داره الحقيقية و هي الآخرة و هو في الدنيا غائب على الحقيقة عن داره

التي خلق لها و الأول أظهر. و قوله فتزودوا في الدنيا من الدنيا كلام فصيح لأن الأمر الذي به يتمكن المكلف من إحراز نفسه في

الآخرة إنما هو يكتسبه في الدنيا منها و هو التقوى و الإخلاص و الإيمان. و الفاء في قوله فاتقى عبد ربه لبيان ماهية الأمر الذي يحرز

الإنسان به نفسه

[5 : 147 ]

و لتفصيل أقسامه و أنواعه كما تقول فعل اليوم فلان أفعالا جميلة فأعطى فلانا و صفح عن فلان و فعل كذا و قد روي اتقى عبد ربه

بلا فاء بتقدير هلا و معناه التحضيض. و قد روي ليسوفها بكسر الواو و فتحها و الضمير في الرواية الأولى يرجع إلى نفسه و قد تقدم

ذكرها قبل بكلمات يسيرة و يجوز أن يعنى به ليسوف التوبة كأنه جعلها مخاطبة يقول لها سوف أوقعك و التسويف أن يقول في

نفسه سوف أفعل و أكثر ما يستعمل للوعد الذي لا نجاز له و من روى بفتح الواو جعله فعل ما لم يسم فاعله و تقديره و يمنيه

الشيطان التوبة أي يجعلها في أمنيته ليكون مسوفا إياها أي يعد من المسوفين المخدوعين. و قوله فيا لها حسرة يجوز أن يكون

نادى الحسرة و فتحة اللام على أصل نداء المدعو كقولك يا للرجال و يكون المعنى هذا وقتك أيتها الحسرة فاحضري و يجوز أن

يكون المدعو غير الحسرة كأنه قال يا للرجال للحسرة فتكون لامها مكسورة نحو الأصل لأنها المدعو إليه إلا أنها لما كانت للضمير

فتحت أي أدعوكم أيها الرجال لتقضوا العجب من هذه الحسرة

عظة للحسن البصري

و هذا الكلام من مواعظ أمير المؤمنين البالغة و نحوه من كلام الحسن البصري ذكره شيخنا أبو عثمان في البيان و التبيين

[5 : 148 ]

ابن آدم بع دنياك ب آخرتك تربحهما جميعا و لا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا و إذا رأيت الناس في الخير فقاسمهم فيه و إذا

رأيتهم في الشر فلا تغبطهم عليه البقاء هاهنا قليل و البقاء هناك طويل أمتكم آخر الأمم و أنتم آخر أمتكم و قد أسرع بخياركم فما

تنتظرون المعاينة فكأن قد هيهات هيهات ذهبت الدنيا بحاليها و بقيت الأعمال قلائد في الأعناق فيا لها موعظة لو وافقت من القلوب

حياة ألا إنه لا أمة بعد أمتكم و لا نبي بعد نبيكم و لا كتاب بعد كتابكم أنتم تسوقون الناس و الساعة تسوقكم و إنما ينتظر بأولكم

أن يلحق آخركم من رأى محمدا ص فقد رآه غاديا رائحا لم يضع لبنة على لبنة و لا قصبة على قصبة رفع له علم فسما إليه فالوحى

الوحى النجاء النجاء على ما ذا تعرجون ذهب أماثلكم و أنتم ترذلون كل يوم فما تنتظرون. إن الله بعث محمدا على علم منه اختاره

لنفسه و بعثه برسالته و أنزل إليه كتابه و كان صفوته من خلقه و رسوله إلى عباده ثم وضعه من الدنيا موضعا ينظر إليه أهل الأرض

ف آتاه فيها قوتا و بلغة ثم قال لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فركن أقوام إلى غير عيشته و سخطوا ما رضي له ربه فأبعدهم

و أسحقهم. يا ابن آدم طأ الأرض بقدمك فإنها عن قليل قبرك و اعلم أنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك رحم الله امرأ

نظر فتفكر و تفكر فاعتبر و اعتبر

[5 : 149 ]

فأبصر و أبصر فأقصر فقد أبصر أقوام و لم يقصروا ثم هلكوا فلم يدركوا ما طلبوا و لا رجعوا إلى ما فارقوا. يا ابن آدم اذكر قوله عز و

جل وَ كُلَّ إِنسان أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ

حَسِيباً عدل و الله عليك من جعلك حسيب نفسك. خذوا صفوة الدنيا و دعوا كدرها و دعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم ظهر الجفاء و

قلت العلماء و عفت السنة و شاعت البدعة لقد صحبت أقواما ما كانت صحبتهم إلا قرة عين لكل مسلم و جلاء الصدور و لقد رأيت

أقواما كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم أشفق منكم من سيئاتكم أن تعذبوا عليها و كانوا مما أحل الله لهم من الدنيا أزهد منكم فيما

حرم عليكم منها. ما لي أسمع حسيسا و لا أرى أنيسا ذهب الناس و بقي النسناس لو تكاشفتم ما تدافنتم تهاديتم الأطباق و لم تتهادوا

النصائح أعدوا الجواب فإنكم مسئولون إن المؤمن من لا يأخذ دينه عن رأيه و لكن عن ربه ألا إن الحق قد أجهد أهله و حال بينهم و

بين شهواتهم و ما يصبر عليه إلا من عرف فضله و رجا عاقبته فمن حمد الدنيا ذم الآخرة و لا يكره لقاء الله إلا مقيم على ما يسخطه إن

الإيمان ليس بالتمني و لا بالتشهي و لكن ما وقر في القلوب و صدقته الأعمال. و هذا كلام حسن و موعظة بالغة إلا أنه في الجزالة و

الفصاحة دون كلام أمير المؤمنين ع بطبقات

[5 : 150 ]

من خطب عمر بن عبد العزيز

و من خطب عمر بن عبد العزيز إن لكل سفر زادا لا محالة فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة فكونوا كمن عاين ما أعد الله تعالى

من ثوابه و عقابه فرغبوا و رهبوا و لا يطولن عليكم الأمر فتقسو قلوبكم و تنقادوا لعدوكم فإنه و الله ما بسط من لا يدري لعله لا

يصبح بعد إمسائه و لا يمسي بعد إصباحه و ربما كانت بين ذلك خطفات المنايا فكم رأينا و أنتم من كان بالدنيا مغترا فأصبح في

حبائل خطوبها و مناياها أسيرا و إنما تقر عين من وثق بالنجاة من عذاب الله و إنما يفرح من أمن من أهوال يوم القيامة فأما من لا

يبرأ من كلم إلا أصابه جارح من ناحية أخرى فكيف يفرح أعوذ بالله أن أخبركم بما أنهى عنه نفسي فتخيب صفقتي و تظهر عورتي و

تبدو مسكنتي في يوم يبدو فيه الغني و الفقير و الموازين منصوبة و الجوارح ناطقة لقد عنيتم بأمر لو عنيت به النجوم لانكدرت و

لو عنيت به الجبال لذابت أو الأرض لانفطرت أ ما تعلمون أنه ليس بين الجنة و النار منزلة و أنكم صائرون إلى أحدهما. و من خطب

عمر بن عبد العزيز أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثا و لم تتركوا سدى و إن لكم معادا يبين الله لكم فيه الحكم و الفصل بينكم

فخاب و خسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء و حرم الجنة التي عرضها السموات و الأرض.

[5 : 151 ]

و اعلموا أن الأمان لمن خاف الله و باع قليلا بكثير و فانيا بباق أ لا ترون أنكم في أسلاب الهالكين و سيسلبها بعدكم الباقون حتى

ترد إلى خير الوارثين ثم إنكم في كل يوم تشيعون غاديا و رائحا إلى الله عز و جل قد قضى نحبه و بلغ أجله تغيبونه في صدع من

الأرض ثم تدعونه غير ممهد و لا موسد قد صرم الأسباب و فارق الأحباب و واجه الحساب و صار في التراب غنيا عما ترك فقيرا إلى ما

قدم

من خطب ابن نباتة

و من خطب ابن نباتة الجيدة في ذكر الموت أيها الناس ما أسلس قياد من كان الموت جريره و أبعد سداد من كان هواه أميره و أسرع

فطام من كانت الدنيا ظئره و أمنع جناب من أضحت التقوى ظهيره فاتقوا الله عباد الله حق تقواه و راقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه و

تأهبوا لوثبات المنون فإنها كامنة في الحركات و السكون بينما ترى المرء مسرورا بشبابه مغرورا بإعجابه مغمورا بسعة اكتسابه

مستورا عما خلق له لما يغرى به إذ أسعرت فيه الأسقام شهابها و كدرت له الأيام شرابها و حومت عليه المنية عقابها و أعلقت فيه

ظفرها و نابها فسرت فيه أوجاعه و تنكرت عليه طباعه و أظل رحيله و وداعه و قل عنه منعه و دفاعه فأصبح ذا بصر حائر و قلب طائر و

نفس غابر في قطب هلاك دائر قد أيقن بمفارقة أهله و وطنه و أذعن بانتزاع روحه عن بدنه حتى إذا تحقق منه اليأس و حل به المحذور

و البأس أومأ إلى خاص عواده موصيا لهم بأصاغر أولاده جزعا عليهم من ظفر أعدائه و حساده

[5 : 152 ]

و النفس بالسياق تجذب و الموت بالفراق يقرب العيون لهول مصرعه تسكب و الحامة عليه تعدد و تندب حتى تجلى له ملك الموت

من حجبه فقضى فيه قضاء أمر ربه فعافه الجليس و أوحش منه الأنيس و زود من ماله كفنا و حصر في الأرض بعمله مرتهنا وحيدا على

كثرة الجيران بعيدا على قرب المكان مقيما بين قوم كانوا فزالوا و حوت عليهم الحادثات فحالوا لا يخبرون بما إليه آلوا و لو

قدروا على المقال لقالوا قد شربوا من الموت كأسا مرة و لم يفقدوا من أعمالهم ذرة و آلى عليهم الدهر ألية برة ألا يجعل لهم الدنيا

كرة كأنهم لم يكونوا للعيون قرة و لم يعدوا في الأحياء مرة أسكتهم الذي أنطقهم و أبادهم الذي خلقهم و سيوجدهم كما خلقهم و

يجمعهم كما فرقهم يوم يعيد الله العالمين خلقا جديدا و يجعل الله الظالمين لنار جهنم وقودا يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْس ما عَمِلَتْ مِنْ

خَيْر مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً

[5 : 153 ]

64- و من خطبة له ع

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لَهُ حَالٌ حَالًا فَيَكُونَ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِراً وَ يَكُونَ ظَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بَاطِناً كُلُّ مُسَمًّى بِالْوَحْدَةِ غَيْرَهُ

قَلِيلٌ وَ كُلُّ عَزِيز غَيْرَهُ ذَلِيلٌ وَ كُلُّ قَوِيّ غَيْرَهُ ضَعِيفٌ وَ كُلُّ مَالِك غَيْرَهُ مَمْلُوكٌ وَ كُلُّ عَالِم غَيْرَهُ مُتَعَلِّمٌ وَ كُلُّ قَادِر غَيْرَهُ يَقْدِرُ وَ يَعْجِزُ وَ كُلُّ

سَمِيع غَيْرَهُ يَصَمُّ عَنْ لَطِيفِ الْأَصْوَاتِ وَ يُصِمُّهُ كَبِيرُهَا وَ يَذْهَبُ عَنْهُ مَا بَعُدَ مِنْهَا وَ كُلُّ بَصِير غَيْرَهُ يَعْمَى عَنْ خَفِيِّ الْأَلْوَانِ وَ لَطِيفِ

الْأَجْسَامِ وَ كُلُّ ظَاهِر غَيْرَهُ غَيْرُ بَاطِن وَ كُلُّ بَاطِن غَيْرَهُ غَيْرُ ظَاهِر لَمْ يَخْلُقْ مَا خَلَقَهُ لِتَشْدِيدِ سُلْطَان وَ لَا تَخَوُّف مِنْ عَوَاقِبِ زَمَان وَ لَا

اسْتِعَانَة عَلَى نِدّ مُثَاوِر وَ لَا شَرِيك مُكَاثِر وَ لَا ضِدّ مُنَافِر وَ لَكِنْ خَلَائِقُ مَرْبُوبُونَ وَ عِبَادٌ دَاخِرُونَ لَمْ يَحْلُلْ فِي الْأَشْيَاءِ فَيُقَالَ هُوَ فِيهَا كَائِنٌ

وَ لَمْ يَنْأَ عَنْهَا فَيُقَالَ هُوَ مِنْهَا بَائِنٌ لَمْ يَؤُدْهُ خَلْقُ مَا ابْتَدَأَ وَ لَا تَدْبِيرُ مَا ذَرَأَ وَ لَا وَقَفَ بِهِ عَجْزٌ عَمَّا خَلَقَ وَ لَا وَلَجَتْ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ فِيمَا قَضَى وَ

قَدَّرَ بَلْ قَضَاءٌ مُتْقَنٌ وَ عِلْمٌ مُحْكَمٌ وَ أَمْرٌ مُبْرَمٌ الْمَأْمُولُ مَعَ النِّقَمِ الْمَرْهُوبُ مَعَ النِّعَمِ

يصم بفتح الصاد لأن الماضي صممت يا زيد و الصمم فساد حاسة السمع و يصمه بكسرها يحدث الصمم عنده و أصممت زيدا.

[5 : 154 ]

و الند المثل و النظير و المثاور المواثب و الشريك المكاثر المفتخر بالكثرة و الضد المنافر المحاكم في الحسب نافرت زيدا فنفرته

أي غلبته و مربوبون مملوكون و داخرون ذليلون خاضعون. و لم ينأ لم يبعد و لم يؤده لم يتعبه و ذرأ خلق و ولجت عليه الشبهة بفتح

اللام أي دخلت و المرهوب المخوف. فأما قوله الذي لم يسبق له حال حالا فيكون أولا قبل أن يكون آخرا فيمكن تفسيره على

وجهين أحدهما أن معنى كونه أولا أنه لم يزل موجودا و لا شيء من الأشياء بموجود أصلا و معنى كونه آخرا أنه باق لا يزال و كل

شيء من الأشياء يعدم عدما محضا حسب عدمه فيما مضى و ذاته سبحانه ذات يجب لها اجتماع استحقاق هذين الاعتبارين معا في كل

حال فلا حال قط إلا و يصدق على ذاته أنه يجب كونها مستحقة للأولية و الآخرية بالاعتبار المذكور استحقاقا ذاتيا ضروريا و ذلك

الاستحقاق ليس على وجه وصف الترتيب بل مع خلاف غيره من الموجودات الجسمانية فإن غيره مما يبقى زمانين فصاعدا إذا نسبناه

إلى ما يبقى دون زمان بقائه لم يكن استحقاقه الأولية و الآخرية بالنسبة إليه على هذا الوصف بل إما يكون استحقاقا بالكلية بأن

يكون استحقاقا قريبا فيكون إنما يصدق عليه أحدهما لأن الآخر لم يصدق عليه أو يكونا معا يصدقان عليه مجتمعين غير مرتبين لكن

ليس ذلك لذات الموصوف بالأولية و الآخرية بل إنما ذلك الاستحقاق لأمر خارج عن ذاته. الوجه الثاني أن يريد بهذا الكلام أنه

تعالى لا يجوز أن يكون موردا للصفات المتعاقبة على ما يذهب إليه قوم من أهل التوحيد قالوا لأنه واجب لذاته و الواجب لذاته

[5 : 155 ]

واجب من جميع جهاته إذ لو فرضنا جواز اتصافه بأمر جديد ثبوتي أو سلبي لقلنا إن ذاته لا تكفي في تحققه و لو قلنا ذلك لقلنا إن

حصول ذلك الأمر أو سلبه عنه يتوقف على حصول أمر خارج عن ذاته أو على عدم أمر خارج عن ذاته فتكون ذاته لا محالة متوقفة على

حضور ذلك الحصول أو السلب و المتوقف على المتوقف على الغير متوقف على الغير و كل متوقف على الغير ممكن و الواجب لا

يكون ممكنا فيكون معنى الكلام على هذا التفسير نفي كونه تعالى ذا صفة بكونه أولا و آخرا بل إنما المرجع بذلك إلى إضافات لا

وجود لها في الأعيان و لا يكون ذلك من أحوال ذاته الراجعة إليها كالعالمية و نحوها لأن تلك أحوال ثابتة و نحن إنما ننفي عنه بهذه

الحجة الأحوال المتعاقبة. و أما قوله أو يكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا فإن للباطل و الظاهر تفسيرا على وجهين أحدهما أنه ظاهر

بمعنى أن أدلة وجوده و أعلام ثبوته و إلهيته جلية واضحة و معنى كونه باطنا أنه غير مدرك بالحواس الظاهرة بل بقوة أخرى باطنة و

هي القوة العقلية. و ثانيهما أنا نعني بالظاهر الغالب يقال ظهر فلان على بني فلان أي غلبهم و معنى الباطن العالم يقال بطنت سر

فلان أي علمته و القول في نفيه عنه سبحانه أن يكون ظاهرا قبل كونه باطنا كالقول فيما تقدم من نفيه عنه سبحانه كونه أولا قبل

كونه آخرا. و أما قوله كل مسمى بالوحدة غيره قليل فلأن الواحد أقل العدد و معنى كونه واحدا يباين ذلك لأن معنى كونه واحدا إما

نفي الثاني في الإلهية أو كونه يستحيل عليها الانقسام و على كلا التفسيرين يسلب عنها مفهوم القلة. هذا إذا فسرنا كلامه على

التفسير الحقيقي و إن فسرناه على قاعدة البلاغة و صناعة

[5 : 156 ]

الخطابة كان ظاهرا لأن الناس يستحقرون القليل لقلته و يستعظمون الكثير لكثرته قال الشاعر

تجمعتم من كل أوب و وجهة على واحد لا زلتم قرن واحد

و أما قوله و كل عزيز غيره ذليل فهو حق لأن غيره من الملوك و إن كان عزيزا فهو ذليل في قبضة القضاء و القدر و هذا هو تفسير قوله

و كل قوى غيره ضعيف و كل مالك غيره مملوك. و أما قوله و كل عالم غيره متعلم فهو حق لأنه سبحانه مفيض العلوم على النفوس

فهو المعلم الأول جلت قدرته. و أما قوله و كل قادر غيره يقدر و يعجز فهو حق لأنه تعالى قادر لذاته و يستحيل عليه العجز و غيره

قادر لأمر خارج عن ذاته أما لقدرة كما قاله قوم أو لبنية و تركيب كما قاله قوم آخرون و العجز على من عداه غير ممتنع و عليه

مستحيل. و أما قوله ع و كل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات و يصمه كبيرها و يذهب عنه ما بعد منها فحق لأن كل ذي سمع من

الأجسام يضعف سمعه عن إدراك خفي الأصوات و يتأثر من شديدها و قويها لأنه يسمع ب آلة جسمانية و الآلة الجسمانية ذات قوة

متناهية واقفة عند حد محدود و الباري تعالى بخلاف ذلك. و اعلم أن أصحابنا اختلفوا في كونه تعالى مدركا للمسموعات و المبصرات

فقال شيخنا أبو علي و أبو هاشم و أصحابهما إن كونه مدركا صفة زائدة على كونه عالما و قالا إنا نصف الباري تعالى فيما لم يزل

بأنه سميع بصير و لا نصفه بأنه سامع مبصر و معنى كونه سامعا مبصرا أنه مدرك للمسموعات و المبصرات.

[5 : 157 ]

و قال شيخنا أبو القاسم و أبو الحسين و أصحابهما أن معنى كونه تعالى مدركا هو أنه عالم بالمدركات و لا صفة له زائدة على صفته

بكونه عالما و هذا البحث مشروح في كتبي الكلامية لتقرير الطريقين و في شرح الغرر و غيرهما. و القول في شرح قوله و كل بصير

غيره يعمى عن خفي الألوان و لطيف الأجسام كالقول فيما تقدم في إدراك السمع. و أما قوله و كل ظاهر غيره غير باطن و كل باطن

غيره غير ظاهر فحق لأن كل ظاهر غيره على التفسير الأول فليس بباطن كالشمس و القمر و غيرهما من الألوان الظاهرة فإنها ليست

إنما تدرك بالقوة العقلية بل بالحواس الظاهرة و أما هو سبحانه فإنه أظهر وجودا من الشمس لكن ذلك الظهور لم يمكن إدراكه

بالقوى الحاسة الظاهرة بل بأمر آخر إما خفي في باطن هذا الجسد أو مفارق ليس في الجسد و لا في جهة أخرى غير جهة الجسد. و أما

على التفسير الثاني فلأن كل ملك ظاهر على رعيته أو على خصومه و قاهر لهم ليس بعالم ببواطنهم و ليس مطلعا على سرائرهم و

البارئ تعالى بخلاف ذلك و إذا فهمت شرح القضية الأولى فهمت شرح الثانية و هي قوله و كل باطن غيره غير ظاهر

اختلاف الأقوال في خلق العالم

فأما قوله لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطانه إلى قوله عباد داخرون فاعلم أن

[5 : 158 ]

الناس اختلفوا في كمية خلقه تعالى للعالم ما هي على أقوال القول الأول قول الفلاسفة قال محمد بن زكريا الرازي عن أرسطاطاليس

إنه زعم أن العالم كان عن البارئ تعالى لأن جوهره و ذاته جوهر و ذات مسخرة للمعدوم أن يكون مسخرا موجودا. قال و زعم ابن

قيس أن علة وجود العالم وجود البارئ. قال و على كلا القولين يكون العالم قديما أما على قول أرسطو فلأن جوهر ذات البارئ لما

كان قديما لم يزل وجب أن يكون أثرها و معلولها قديما و أما على قول ابن قيس فلأن البارئ موجود لم يزل لأن وجوده من لوازم

ذاته فوجب أن يكون فيضه و أثره أيضا لم يزل هكذا. قال ابن زكريا فأما الذي يقول أصحاب أرسطاطاليس الآن في زماننا فهو أن

العالم لم يجب عن الله سبحانه عن قصد و لا غرض لأن كل من فعل فعلا لغرض كان حصول ذلك الغرض له أولى من لا حصوله فيكون

كاملا لحصول ذلك الغرض و واجب الوجود لا يجوز أن يكون كاملا بأمر خارج عن ذاته لأن الكامل لا من ذاته ناقص من ذاته. قالوا

لكن تمثل نظام العالم في علم واجب الوجود يقتضي فيض ذلك النظام منه قالوا و هذا معنى قول الحكماء الأوائل إن علمه تعالى

فعلي لا انفعالي و إن العلم على قسمين أحدهما ما يكون المعلوم سببا له و الثاني ما يكون هو سبب المعلوم مثال الأول أن نشاهد

صورة فنعلمها و مثال الثاني أن يتصور الصائغ أو النجار أو البناء كيفية العمل فيوقعه في الخارج على حسب ما تصوره.

[5 : 159 ]

قالوا و علمه تعالى من القسم الثاني و هذا هو المعنى المعبر عنه بالعناية و هو إحاطة علم الأول الحق سبحانه بالكل و بالواجب أن

يكون عليه الكل حتى يكون على أحسن النظام و بأن ذلك واجب عن إحاطته فيكون الموجود وفق المعلوم من غير انبعاث قصد و

طلب عن الأول الحق سبحانه فعلمه تعالى بكيفية الصواب في ترتيب الكل هو المنبع لفيضان الوجود في الكل. القول الثاني قول

حكاه أبو القاسم البلخي عن قدماء الفلاسفة و إليه كان يذهب محمد بن زكريا الرازي من المتأخرين. و هو أن علة خلق البارئ للعالم

تنبيه النفس على أن ما تراه من الهيولى و تريده غير ممكن لترفض محبتها إياها و عشقها لها و تعود إلى عالمها الأول غير مشتاقة إلى

هذا العالم. و اعلم أن هذا القول هو القول المحكي عن الحرنانية أصحاب القدماء الخمسة و حقيقة مذهبهم إثبات قدماء خمسة

اثنان منهم حيان فاعلان و هما البارئ تعالى و النفس و مرادهم بالنفس ذات هي مبدأ لسائر النفوس التي في العالم كالأرواح البشرية

و القوى النباتية و النفوس الفلكية و يسمون هذه الذات النفس الكلية و واحد من الخمسة منفعل غير حي و هو الهيولى و اثنان لا

حيان و لا فاعلان و لا منفعلان و هما الدهر و القضاء قالوا و البارئ تعالى هو مبدأ العلوم و المنفعلات و هو قائم العلم و الحكمة كما

أن النفس مبدأ الأرواح و النفوس فالعلوم و المنفعلات تفيض من البارئ سبحانه فيض النور عن قرص الشمس و النفوس و الأرواح

تفيض عن النفس الكلية فيض النور عن القرص إلا أن النفوس جاهلة لا تعرف الأشياء إلا على أحد وجهين إما أن يفيض فيض البارئ

تعالى عليها تعقلا و إدراكا و إما أن تمارس غيرها و تمازجه فتعرف ما تعرف باعتبار الممارسة و المخالطة معرفة ناقصة و كان البارئ

تعالى في الأزل عالما بأن النفس تميل إلى التعلق بالهيولى

[5 : 160 ]

و تعشقها و تطلب اللذة الجسمانية و تكره مفارقة الأجسام و تنسى نفسها و لما كان البارئ سبحانه قائم العلم و الحكمة اقتضت

حكمته تركب الهيولى لما تعلقت النفس بها ضروبا مختلفة من التراكيب فجعل منها أفلاكا و عناصر و حيوانات و نباتات فأفاض على

النفوس تعقلا و شعورا جعله سببا لتذكرها عالمها الأول و معرفتها أنها ما دامت في هذا العالم مخالطة للهيولى لم تنفك عن الآلام

فيصير ذلك مقتضيا شوقها إلى عالمها الأول الذي لها فيه اللذات الخالية عن الآلام و رفضها هذا العالم الذي هو سبب أذاها و مضرتها.

القول الثالث قول المجوس إن الغرض من خلق العالم أن يتحصن الخالق جل اسمه من العدو و أن يجعل العالم شبكة له ليوقع

العدو فيه و يجعله في ربط و وثاق و العدو عندهم هو الشيطان و بعضهم يعتقد قدمه و بعضهم حدوثه. قال قوم منهم إن البارئ تعالى

استوحش ففكر فكرة رديئة فتولد منها الشيطان. و قال آخرون بل شك شكا رديئا فتولد الشيطان من شكه. و قال آخرون بل تولد من

عفونة رديئة قديمة و زعموا أن الشيطان حارب البارئ سبحانه و كان في الظلم لم يزل بمعزل عن سلطان البارئ سبحانه فلم يزل

يزحف حتى رأى النور فوثب وثبة عظيمة فصار في سلطان الله تعالى في النور و أدخل معه الآفات و البلايا و السرور فبنى الله

سبحانه هذه الأفلاك و الأرض و العناصر شبكة له و هو فيها محبوس لا يمكنه الرجوع إلى سلطانه الأول و صار في الظلمة فهو أبدا

يضطرب و يرمي الآفات على خلق الله سبحانه فمن أحياه الله رماه الشيطان بالموت و من أصحه رماه الشيطان بالسقم و من سره رماه

بالحزن و الك آبة فلا يزال كذلك و كل يوم ينتقص سلطانه و قوته لأن الله تعالى يحتال له كل يوم و يضعفه إلى أن تذهب قوته كلها

[5 : 161 ]

و تجمد و تصير جمادا لا حراك به فيضعه الله تعالى حينئذ في الجو و الجو عندهم هو الظلمة و لا منتهى له فيصير في الجو جمادا

جامدا هوائيا و يجمع الله تعالى أهل الأديان فيعذبهم بقدر ما يطهرهم و يصفيهم من طاعة الشيطان و يغسلهم من الأدناس ثم

يدخلهم الجنة و هي جنة لا أكل فيها و لا شرب و لا تمتع و لكنها موضع لذة و سرور. القول الرابع قول المانوية و هو أن النور لا

نهاية له من جهة فوق و أما من جهة تحت فله نهاية و الظلمة لا نهاية لها من جهة أسفل و أما من جهة فوق فلها نهاية و كان النور و

الظلمة هكذا قبل خلق العالم و بينهما فرجة و أن بعض أجزاء النور اقتحم تلك الفرجة لينظر إلى الظلمة فأسرته الظلمة فأقبل عالم

كثير من النور فحارب الظلمة ليستخلص المأسورين من تلك الأجزاء و طالت الحرب و اختلط كثير من أجزاء النور بكثير من أجزاء

الظلمة فاقتضت حكمة نور الأنوار و هو البارئ سبحانه عندهم أن عمل الأرض من لحوم القتلى و الجبال من عظامهم و البحار من

صديدهم و دمائهم و السماء من جلودهم و خلق الشمس و القمر و سيرهما لاستقصاء ما في هذا العالم من أجزاء النور المختلطة

بأجزاء الظلمة و جعل حول هذا العالم خندقا خارج الفلك الأعلى يطرح فيه الظلام المستقصى فهو لا يزال يزيد و يتضاعف و يكثر

في هذا الخندق و هو ظلام صرف قد استقصى نوره و أما النور المستخلص فيلحق بعد الاستقصاء بعالم الأنوار من فوق فلا تزال

الأفلاك متحركة و العالم مستمرا إلى أن يتم استقصاء النور الممتزج و حينئذ يبقى من النور الممتزج شيء يسير فينعقد بالظلمة لا

تقدر النيران على استقصائه فعند ذلك تسقط الأجسام العالية و هي الأفلاك على الأجسام السافلة و هي الأرضون و تثور نار و تضطرم  في تلك الأسافل

السابق

التالي