السابق

التالي

[5 : 63 ]

أقول من التعجب ليت شعري أ أيقاظ أمية أم نيام

فالبيت الأول لو ورد بمفرده لكان كناية لأنه لا يجوز حمله على جانبي الحقيقة و المجاز فإذا نظرنا إلى الأبيات بجملتها كان البيت

الأول المذكور استعارة لا كناية. ثم أخذ في الفرق بين الكناية و التعريض فقال التعريض هو اللفظ الدال على الشيء من طريق

المفهوم لا بالوضع الحقيقي و لا بالمجازي فإنك إذا قلت لمن تتوقع معروفه و صلته بغير طلب أنا محتاج و لا شيء في يدي و أنا

عريان و البرد قد آذاني فإن هذا و أشباهه تعريض بالطلب و ليس اللفظ موضوعا للطلب لا حقيقة و لا مجازا و إنما يدل عليه من طريق

المفهوم بخلاف قوله أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ و على هذا ورد تفسير التعريض في خطبة النكاح كقولك للمرأة أنت جميلة أو إنك خلية و أنا

عزب فإن هذا و شبهه لا يدل على طلب النكاح بالحقيقة و لا بالمجاز و التعريض أخفى من الكناية لأن دلالة الكناية وضعية من جهة

المجاز و دلالة التعريض من جهة المفهوم المركب و ليست وضعية و إنما يسمى التعريض تعريضا لأن المعنى فيه يفهم من عرض

اللفظ المفهوم أي من جانبه.

[5 : 64 ]

قال و اعلم أن الكناية تشتمل على اللفظ المفرد و اللفظ المركب فتأتي على هذا مرة و على هذا أخرى و أما التعريض فإنه يختص

باللفظ المركب و لا يأتي في اللفظ المفرد البتة لأنه لا يفهم المعنى فيه من جهة الحقيقة و لا من جهة المجاز بل من جهة التلويح و

الإشارة و هذا أمر لا يستقل به اللفظ المفرد و يحتاج في الدلالة عليه إلى اللفظ المركب. قال فقد ظهر فيما قلنا في البيت الذي ذكره

ابن سنان مثال الكناية و مثال التعريض هو بيت إمرئ القيس لأن غرض الشاعر منه أن يذكر الجماع إلا أنه لم يذكره بل ذكر كلاما آخر

ففهم الجماع من عرضه لأن المصير إلى الحسنى و رقة الكلام لا يدلان على الجماع لا حقيقة و لا مجازا. ثم ذكر أن من باب الكناية

قوله سبحانه أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَ مِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ... الآية قال كنى

بالماء عن العلم و بالأودية عن القلوب و بالزبد عن الضلال. قال و قد تحقق ما اخترعناه و قدرناه من هذه الآية لأنه يجوز حملها على

جانب الحقيقة كما يجوز حملها على جانب المجاز. قال و قد أخطأ الفراء حيث زعم أن قوله سبحانه و تعالى وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ

مِنْهُ الْجِبالُ كناية عن أمر النبي ص و أنه كنى عنه بالجبال قال و وجه الخطأ أنه لا يجوز أن يتجاذب اللفظ هاهنا جانبا الحقيقة و

المجاز لأن مكرهم لم يكن لتزول منه الجبال الحقيقية فالآية إذا من باب المجاز لا من باب الكناية.

[5 : 65 ]

قال و من الكنايات المستحسنة

قوله ع للحادي بالنساء يا أنجشة رفقا بالقوارير

و قول امرأة لرجل قعد منها مقعد القابلة لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه. و قول بديل بن ورقاء الخزاعي لرسول الله ص إن

قريشا قد نزلت على ماء الحديبية معها العوذ المطافيل و إنهم صادوك عن البيت. قال فهذه كناية عن النساء و الصبيان لأن العوذ

المطافيل الإبل الحديثات النتاج و معها أولادها. و من الكناية ما ورد في شهادة الزنا أن يشهد عليه برؤية الميل في المكحلة.

و منها قول عمر لرسول الله ص هلكت يا رسول الله قال و ما أهلكك قال حولت رحلي البارحة

قال أشار بذلك إلى الإتيان في غير المأتي. و منها قول ابن سلام لمن رأى عليه ثوبا معصفرا لو أن ثوبك في تنور أهلك لكان خيرا لك.

قال و من الكنايات المستقبحة قول الرضي يرثي امرأة

إن لم تكن نصلا فغمد نصول

لأن الوهم يسبق في هذا الموضع إلى ما يقبح و إنما سرقه من قول الفرزدق في امرأته و قد ماتت بجمع

و جفن سلاح قد رزئت فلم أنح عليه و لم أبعث عليه البواكيا

[5 : 66 ]

و في جوفه من دارم ذو حفيظة لو أن المنايا أخطأته لياليا

فأخذه الرضي فأفسده و لم يحسن تصريفه. قال فأما أمثلة التعريض فكثيرة منها قوله تعالى فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما

نَراكَ إِلّا بَشَراً مِثْلَنا وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْل بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ فقوله

ما نَراكَ إِلّا بَشَراً مِثْلَنا تعريض بأنهم أحق بالنبوة و أن الله تعالى لو أراد أن يجعلها في واحد من البشر لجعلها فيهم فقالوا هب إنك

واحد من الملأ و موازيهم في المنزلة فما جعلك أحق بالنبوة منهم أ لا ترى إلى قوله وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْل. هذه خلاصة ما

ذكره ابن الأثير في هذا الباب. و اعلم أنا قد تكلمنا عليه في كثير من هذا الموضع في كتابنا الذي أفردناه للنقض عليه و هو الكتاب

المسمى بالفلك الدائر على المثل السائر فقلنا أولا أنه اختار حد الكناية و شرع يبرهن على التحديد و الحدود لا يبرهن عليها و لا هي

من باب الدعاوي التي تحتاج إلى الأدلة لأن من وضع لفظ الكناية لمفهوم مخصوص لا يحتاج إلى دليل كمن وضع لفظ الجدار

للحائط لا يحتاج إلى دليل. ثم يقال له لم قلت إنه لا بد من أن يتردد لفظ الكناية بين محملي حقيقة و مجاز و لم لا يتردد بين مجازين

و ما استدللت به على ذلك لا معنى له.... أما أولا فلأنك أردت أن تقول إما أن تكون للفظة الدالة على المجازين شركة في الدلالة على

الحقيقة أو لا يكون لها في الدلالة على الحقيقة شركة لأن كلامك هكذا يقتضي و لا ينتظم إلا إذا قلت هكذا فلم تقله و قلت إما أن

يكون للحقيقة شركة في

[5 : 67 ]

اللفظ الدال على المجازين و هذا قلب للكلام الصحيح و عكس له. و أما ثانيا فلم قلت إنه لا يكون للفظة الدالة على المجازين شركة

في الدلالة على الحقيقة التي هي أصل لهما فأما قولك هذا فيقتضي أن يكون الإنسان متكلما بشيء و هو يريد شيئين غيره و أصل

الوضع أن يتكلم بشيء و هو يريد غيره فليس معنى قولهم الكناية أن تتكلم بشيء و أنت تريد غيره أنك تريد شيئا واحدا غيره كلا

ليس هذا هو المقصود بل المقصود أن تتكلم بشيء و أنت تريد ما هو مغاير له و إن أردت شيئا واحدا أو شيئين أو ثلاثة أشياء أو ما

زاد فقد أردت ما هو مغاير له لأن كل مغاير لما دل عليه ظاهر لفظك فليس في لفظه غير ما يقتضي الوحدة و الإفراد. و أما ثالثا فلم لا

يجوز أن يكون للفظ الدال على المجازين شركة في الدلالة على الحقيقة أصلا بل يدل على المجازين فقط فأما قولك إذا خرجت

الحقيقة عن أن يكون لها في ذلك شركة لم يكن الذي تكلمت به دالا على ما تكلمت به و هو محال و مرادك بهذا الكلام المقلوب أنه

إذا خرجت اللفظة عن أن يكون لها شركة في الدلالة على الحقيقة التي هي موضوعة لها في الأصل لم يكن ما تكلم به الإنسان دالا

على ما تكلم به و هو حقيقة و لا دالا أيضا على ما تكلم به و هو مجاز لأنه إذا لم يدل على الحقيقة و هي الأصل لم يجز أن يدل على

المجاز الذي هو الفرع لأن انتفاء الدلالة على الأصل يوجب انتفاء الدلالة على الفرع و هكذا يجب أن يتأول استدلاله و إلا لم يكن

له معنى محصل لأن اللفظ هو الدال على مفهوماته و ليس المفهوم دالا على اللفظ و لا له شركة في الدلالة عليه و لا على مفهوم آخر

يعترض اللفظ بتقدير انتقال اللفظ اللهم إلا أن يكون دلالة عقلية و كلامنا في الألفاظ و دلالتها.

[5 : 68 ]

فإذا أصلحنا كلامه على ما ينبغي قلنا له في الاعتراض عليه لم قلت إنه إذا خرج اللفظ عن أن يكون له شركة في الدلالة على الحقيقة

لم يكن ما تكلم به الإنسان دالا على ما تكلم به و لم لا يجوز أن يكون للحقيقة مجازان قد كثر استعمالهما حتى نسيت تلك الحقيقة

فإذا تكلم الإنسان بذلك اللفظ كان دالا به على أحد ذينك المجازين و لا يكون له تعرض ما بتلك الحقيقة فلا يكون الذي تكلم به غير

دال على ما تكلم به لأن حقيقة تلك اللفظة قد صارت ملغاة منسية فلا يكون عدم إرادتها موجبا أن يكون اللفظ الذي يتكلم به المتكلم

غير دال على ما تكلم به لأنها قد خرجت بترك الاستعمال عن أن تكون هي ما تكلم به المتكلم. ثم يقال إنك منعت أن يكون قولنا زيد

أسد كناية و قلت لأنه لا يجوز أن يحمل أحد هذا اللفظ على أن زيدا هو السبع ذو الأنياب و المخالب و منعت من قول الفراء إن

الجبال في قوله لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ كناية عن دعوة محمد ص و شريعته لأن أحدا لا يعتقد و لا يتصور أن مكر البشر يزيل الجبال

الحقيقية عن أماكنها و منعت من قول من قال إن قول الشاعر

و لو سكتوا أثنت عليك الحقائب

من باب الكناية لأن أحدا لا يتصور أن الحقائب و هي جمادات تثني و تشكر. و قلت لا بد أن يصح حمل لفظ الكناية على محملي

الحقيقة و المجاز ثم قلت إن

[5 : 69 ]

قول عبد الله بن سلام لصاحب الثوب المعصفر لو أنك جعلت ثوبك في تنور أهلك كناية و قول الرضي في امرأة ماتت

إن لم تكن نصلا فغمد نصول

كناية و إن كانت مستقبحة

و قول النبي ص يا أنجشة رفقا بالقوارير

و هو يحدو بالنساء كناية فهل يجيز عاقل قط أو يتصور في الأذهان أن تكون المرأة غمدا للسيف و هل يحمل أحد قط قوله للحادي

رفقا بالقوارير على أنه يمكن أن يكون نهاه عن العنف بالزجاج أو يحمل أحد قط قول ابن سلام على أنه أراد إحراق الثوب بالنار أو

يحمل قط أحد قوله الميل في المكحلة على حقيقتها أو يحمل قط أحد قوله لا يحل لك فض الخاتم على حقيقته و هل يشك عاقل قط

في أن هذه الألفاظ ليست دائرة بين المحملين دوران اللمس و الجماع و المصافحة و هذه مناقضة ظاهرة و لا جواب عنها إلا بإخراج

هذه المواضع من باب الكناية أو بحذف ذلك الشرط الذي اشترطته في حد الكناية. فأما ما ذكره حكاية عن غيره في حد الكناية بأنها

اللفظ الدال على الشيء بغير الوضع الحقيقي بوصف جامع بين الكناية و المكنى عنه و قوله هذا الحد هو حد التشبيه فلا يجوز أن

يكون حد الكناية. فلقائل أن يقول إذا قلنا زيد أسد كان ذلك لفظا دالا على غير الوضع الحقيقي و ذلك المدلول هو بعينه الوصف

المشترك بين المشبه و المشبه به أ لا ترى أن المدلول هو الشجاعة و هي المشترك بين زيد و الأسد و أصحاب الحد قالوا في حدهم

الكناية هي اللفظ الدال على الشيء بغير الوضع الحقيقي باعتبار وصف جامع بينهما فجعلوا المدلول أمرا

[5 : 70 ]

و الوصف الجامع أمرا آخر باعتباره وقت الدلالة أ لا ترى أن لفظ لامَسْتُمُ يدل على الجماع الذي لم يوضع لفظ لامَسْتُمُ له و إنما

يدل عليه باعتبار أمر آخر هو كون الملامسة مقدمة الجماع و مفضية إليه فقد تغاير إذن حد التشبيه و حد الكناية و لم يكن أحدهما

هو الآخر. فأما قوله إن الكناية قد تكون بالمفردات و التعريض لا يكون بالمفردات فدعوى و ذلك أن اللفظ المفرد لا ينتظم منه فائدة

و إنما تفيد الجملة المركبة من مبتدأ و خبر أو من فعل و فاعل و الكناية و التعريض في هذا الباب سواء و أقل ما يمكن أن يقيد في

الكناية قولك لامست هندا و كذلك أقل ما يمكن أن يفيد في التعريض أنا عزب كما قد ذكره هو في أمثلة التعريض فإن قال أردت أنه قد

يقال اللمس يصلح أن يكنى به عن الجماع و اللمس لفظ مفرد قيل له و قد يقال التعزب يصلح أن يعرض به في طلب النكاح. فأما

قوله إن بيت نصر بن سيار إذا نظر إليه لمفرده صلح أن يكون كناية و إنما يخرجه عن كونه كناية ضم الأبيات التي بعده إليه و يدخله

في باب الاستعارة فلزم عليه أن يخرج قول عمر حولت رحلي عن باب الكناية بما انضم إليه من قوله هلكت

و بما أجابه رسول الله ص من قوله أقبل و أدبر و اتق الدبر و الحيضة

و بقرينة الحال و كان يجب إلا تذكر هذه اللفظة في أمثلة الكنايات. فأما بيت إمرئ القيس فلا وجه لإسقاطه من باب الكناية و إدخاله

في باب

[5 : 71 ]

التعريض إلا فيما اعتمد عليه من أن من شرط الكناية أن يتجاذبها جانبا حقيقة و مجاز و قد بينا بطلان اشتراط ذلك فبطل ما يتفرع

عليه. و أما قول بديل بن ورقاء معها العوذ المطافيل فإنه ليس بكناية عن النساء و الأولاد كما زعم بل أراد به الإبل و نتاجها فإن

كتب السير كلها متفقة على أن قريشا لم يخرج معها في سنة الحديبية نساؤها و أولادها و لم يحارب رسول الله ص قوما أحضروا

معهم نساءهم و أولادهم إلا هوازن يوم حنين و إذا لم يكن لهذا الوجه حقيقة و لا وجود فقد بطل حمل اللفظ عليه. فأما ما زرى به

على الرضي رحمه الله تعالى من قوله

إن لم تكن نصلا فغمد نصول

و قوله هذا مما يسبق الوهم فيه إلى ما يستقبح و استحسانه شعر الفرزدق و قوله إن الرضي أخذه منه فأساء الأخذ فالوهم الذي

يسبق إلى بيت الرضي يسبق مثله إلى بيت الفرزدق لأنه قد جعل هذه المرأة جفن السلاح فإن كان الوهم يسبق هناك إلى قبيح فهاهنا

أيضا يسبق إلى مثله. و أما الآية التي مثل بها على التعريض فإنه قال إن قوله تعالى ما نَراكَ إِلّا بَشَراً مِثْلَنا تعريض بأنهم أحق

بالنبوة منه و لم يبين ذلك و إنما قال فحوى الكلام أنهم قالوا له هب إنك واحد من الملإ و موازيهم في المنزلة فما جعلك أحق

بالنبوة منهم أ لا ترى إلى قوله وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْل و هذا الكلام لا يقتضي ما ادعاه أولا من التعريض لأنه ادعى أن قوله ما

نَراكَ إِلّا بَشَراً مِثْلَنا تعريض بأنهم أحق بالنبوة منه و ما قرره به يقتضي مساواته لهم و لا يقتضي كونهم أحق بالنبوة منه فبطل دعوى

الأحقية التي زعم أن التعريض إنما كان بها.

[5 : 72 ]

فأما قوله تعالى أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً و قوله إن هذا من باب الكناية و إنه تعالى كنى به

عن العلم و الضلال و قلوب البشر فبعيد و الحكيم سبحانه لا يجوز أن يخاطب قوما بلغتهم فيعمي عليهم و أن يصطلح هو نفسه

على ألفاظ لا يفهمون المراد بها و إنما يعلمها هو وحده أ لا ترى أنه لا يجوز أن يحمل قوله تعالى وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا

بِمَصابِيحَ وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ على أنه أراد أنا زينا رءوس البشر بالحواس الباطنة و الظاهرة المجعولة فيها و جعلناها

بالقوى الفكرية و الخيالية المركبة في الدماغ راجمة و طاردة للشبه المضلة و إن من حمل كلام الحكيم سبحانه على ذلك فقد نسبه

إلى الإلغاز و التعمية و ذلك يقدح في حكمته تعالى و المراد بالآية المقدم ذكرها ظاهرها و المتكلف لحملها على غيرها سخيف العقل

و يؤكد ذلك قوله تعالى وَ مِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَة أَوْ مَتاع زَبَدٌ مِثْلُهُ أ فترى الحكيم سبحانه يقول إن للذهب و

الفضة زبدا مثل الجهل و الضلال و يبين ذلك قوله كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْأَمْثالَ فضرب سبحانه الماء الذي يبقى في الأرض فينتفع به

الناس و الزبد الذي يعلو فوق الماء فيذهب جفاء مثلا للحق و الباطل كما صرح به سبحانه فقال كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ و

لو كانت هذه الآية من باب الكنايات و قد كنى سبحانه بالأودية عن القلوب و بالماء الذي أنزله من السماء عن العلم و بالزبد عن

الضلال لما جعل تعالى هذه الألفاظ أمثالا فإن الكناية خارجة عن باب المثل و لهذا لا تقول إن قوله تعالى أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ من باب

المثل و لهذا أفرد هذا الرجل في كتابه بابا آخر غير باب الكناية سماه باب المثل و جعلهما قسمين متغايرين في علم البيان و الأمر في

هذا

[5 : 73 ]

الموضع واضح و لكن هذا الرجل كان يحب هذه الترهات و يذهب وقته فيها و قد استقصينا في مناقضته و الرد عليه في كتابنا الذي

أشرنا إليه. فأما قوله ع كلما نجم منهم قرن قطع فاستعارة حسنة يريد كلما ظهر منهم قوم استؤصلوا فعبر عن ذلك بلفظة قرن كما

يقطع قرن الشاة إذا نجم و قد صح إخباره ع عنهم أنهم لم يهلكوا بأجمعهم في وقعة النهروان و أنها دعوة سيدعو إليها قوم لم

يخلقوا بعد و هكذا وقع و صح إخباره ع أيضا أنه سيكون آخرهم لصوصا سلابين فإن دعوة الخوارج اضمحلت و رجالها فنيت حتى

أفضى الأمر إلى أن صار خلفهم قطاع طريق متظاهرين بالفسوق و الفساد في الأرض

مقتل الوليد بن طريف الخارجي و رثاء أخته له

فممن انتهى أمره منهم إلى ذلك الوليد بن طريف الشيباني في أيام الرشيد بن المهدي فأشخص إليه يزيد بن مزيد الشيباني فقتله و

حمل رأسه إلى الرشيد و قالت أخته ترثيه و تذكر أنه كان من أهل التقى و الدين على قاعدة شعراء الخوارج و لم يكن الوليد كما

زعمت

أيا شجر الخابور ما لك مورقا كأنك لم تجزع على ابن طريف

فتى لا يحب الزاد إلا من التقى و لا المال إلا من قنا و سيوف

[5 : 74 ]

و لا الذخر إلا كل جرداء شطبة و كل رقيق الشفرتين خفيف

فقدناك فقدان الربيع و ليتنا فديناك من ساداتنا بألوف

و قال مسلم بن الوليد يمدح يزيد بن مزيد و يذكر قتله الوليد

و المارق ابن طريف قد دلفت له بعارض للمنايا مسبل هطل

لو أن شيئا بكى مما أطاف به فاز الوليد بقدح الناضل الخصل

ما كان جمعهم لما لقيتهم إلا كرجل جراد ريع منجفل

فاسلم يزيد فما في الملك من أود إذا سلمت و لا في الدين من خلل

خروج ابن عمرو الخثعمي و أمره مع محمد بن يوسف الطائي

ثم خرج في أيام المتوكل ابن عمرو الخثعمي بالجزيرة فقطع الطريق و أخاف السبيل و تسمى بالخلافة فحاربه أبو سعيد محمد بن

يوسف الطائي الثغري الصامتي فقتل كثيرا من أصحابه و أسر كثيرا منهم و نجا بنفسه هاربا فمدحه أبو عبادة البحتري و ذكر ذلك فقال

كنا نكفر من أمية عصبة طلبوا الخلافة فجرة و فسوقا

و نلوم طلحة و الزبير كليهما و نعنف الصديق و الفاروقا

و نقول تيم أقربت و عديها أمرا بعيدا حيث كان سحيقا

و هم قريش الأبطحون إذا انتموا طابوا أصولا في العلا و عروقا

[5 : 75 ]

حتى غدت جشم بن بكر تبتغي إرث النبي و تدعيه حقوقا

جاءوا براعيهم ليتخذوا به عمدا إلى قطع الطريق طريقا

عقدوا عمامته برأس قناته و رأوه برا فاستحال عقوقا

و أقام ينفذ في الجزيرة حكمه و يظن وعد الكاذبين صدوقا

حتى إذا ما الحية الذكر انكفى من أرزن حربا يمج حريقا

غضبان يلقى الشمس منه بهامة يعشى العيون تألقا و بروقا

أوفى عليه فظل من دهش يظن البر بحرا و الفضاء مضيقا

غدرت أمانيه به و تمزقت عنه غيابة سكره تمزيقا

طلعت جيادك من ربا الجودي قد حملن من دفع المنون وسوقا

فدعا فريقا من سيوفك حتفهم و شددت في عقد الحديد فريقا

و مضى ابن عمرو قد أساء بعمره ظنا ينزق مهره تنزيقا

فاجتاز دجلة خائضا و كأنها قعب على باب الكحيل أريقا

لو خاضها عمليق أو عوج إذا ما جوزت عوجا و لا عمليقا

لو لا اضطراب الخوف في أحشائه رسب العباب به فمات غريقا

لو نفسته الخيل لفتة ناظر ملأ البلاد زلازلا و فتوقا

لثنى صدور الخيل تكشف كربة و لوى رماح الخط تفرج ضيقا

و لبكرت بكر و راحت تغلب في نصر دعوته إليه طروقا

حتى يعود الذئب ليثا ضيغما و الغصن ساقا و القرارة نيقا

[5 : 76 ]

هيهات مارس فليقا متيقظا قلقا إذا سكن البليد رشيقا

مستسلفا جعل الغبوق صبوحه و مرى صبوح غد فكان غبوقا

و هذه القصيدة من ناصع شعر البحتري و مختاره

ذكر جماعة ممن كان يرى رأي الخوارج

و قد خرج بعد هذين جماعة من الخوارج بأعمال كرمان و جماعة أخرى من أهل عمان لا نباهة لهم و قد ذكرهم أبو إسحاق الصابي في

الكتاب التاجي و كلهم بمعزل عن طرائق سلفهم و إنما وكدهم و قصدهم إخافة السبيل و الفساد في الأرض و اكتساب الأموال من غير

حلها و لا حاجة لنا إلى الإطالة بذكرهم و من المشهورين برأي الخوارج الذين تم بهم صدق قول أمير المؤمنين ع إنهم نطف في

أصلاب الرجال و قرارات النساء عكرمة مولى ابن عباس و مالك بن أنس الأصبحي الفقيه يروى عنه أنه كان يذكر عليا ع و عثمان و

طلحة و الزبير فيقول و الله ما اقتتلوا إلا على الثريد الأعفر. و منهم المنذر بن الجارود العبدي و منهم يزيد بن أبي مسلم مولى

الحجاج. و روي أن الحجاج أتي بامرأة من الخوارج و بحضرته مولاه يزيد بن أبي مسلم و كان يستسر برأي الخوارج فكلم الحجاج

المرأة فأعرضت عنه فقال لها يزيد الأمير ويلك يكلمك فقالت بل الويل لك أيها الفاسق الرديء و الرديء عند الخوارج هو الذي يعلم

الحق من قولهم و يكتمه. و منهم صالح بن عبد الرحمن صاحب ديوان العراق. و ممن ينسب إلى هذا الرأي من السلف جابر بن زيد و

عمرو بن دينار و مجاهد. و ممن ينسب إليه بعد هذه الطبقة أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي يقال إنه كان يرى رأي الصفرية.

[5 : 77 ]

و منهم اليمان بن رباب و كان على رأي البيهسية و عبد الله بن يزيد و محمد بن حرب و يحيى بن كامل و هؤلاء إباضية. و قد نسب

إلى هذا المذهب أيضا من قبل أبو هارون العبدي و أبو الشعثاء و إسماعيل بن سميع و هبيرة بن بريم. و زعم ابن قتيبة أن ابن هبيرة

كان من غلاة الشيعة. و نسب أبو العباس محمد بن يزيد المبرد إلى رأي الخوارج لإطنابه في كتاب المعروف ب الكامل في ذكرهم و

ظهور الميل منه إليهم

[5 : 78 ]

60- و قال ع في الخوارج

لَا تُقَاتِلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ

قال الرضي رحمه الله يعني معاوية و أصحابه

مراده أن الخوارج ضلوا بشبهة دخلت عليهم و كانوا يطلبون الحق و لهم في الجملة تمسك بالدين و محاماة عن عقيدة اعتقدوها و إن

أخطئوا فيها و أما معاوية فلم يكن يطلب الحق و إنما كان ذا باطل لا يحامي عن اعتقاد قد بناه على شبهة و أحواله كانت تدل على

ذلك فإنه لم يكن من أرباب الدين و لا ظهر عنه نسك و لا صلاح حال و كان مترفا يذهب مال الفيء في م آربه و تمهيد ملكه و يصانع به

عن سلطانه و كانت أحواله كلها مؤذنة بانسلاخه عن العدالة و إصراره على الباطل و إذا كان كذلك لم يجز أن ينصر المسلمون

سلطانه و تحارب الخوارج عليه و إن كانوا أهل ضلال لأنهم أحسن حالا منه فإنهم كانوا ينهون عن المنكر و يرون الخروج على

أئمة الجور واجبا. و عند أصحابنا أن الخروج على أئمة الجور واجب و عند أصحابنا أيضا أن الفاسق المتغلب

[5 : 79 ]

بغير شبهة يعتمد عليها لا يجوز أن ينصر على من يخرج عليه ممن ينتمي إلى الدين و يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر بل يجب أن

ينصر الخارجون عليه و إن كانوا ضالين في عقيدة اعتقدوها بشبهة دينية دخلت عليهم لأنهم أعدل منه و أقرب إلى الحق و لا ريب في

تلزم الخوارج بالدين كما لا ريب في أن معاوية لم يظهر عنه مثل ذلك

[5 : 80 ]

عود إلى أخبار الخوارج و ذكر رجالهم و حروبهم

ذكر أبو العباس المبرد في الكتاب الكامل أن عروة بن أدية أحد بني ربيعة بن حنظلة و يقال إنه أول من حكم حضر حرب النهروان و

نجا فيها فيمن نجا فلم يزل باقيا مدة من خلافة معاوية ثم أخذ فأتي به زياد و معه مولى له فسأله عن أبي بكر و عمر فقال خيرا فقال له

فما تقول في عثمان و في أبي تراب فتولي عثمان ست سنين من خلافته ثم شهد عليه بالكفر و فعل في أمر علي ع مثل ذلك إلى أن حكم

ثم شهد عليه بالكفر ثم سأله عن معاوية فسبه سبا قبيحا ثم سأله عن نفسه فقال أولك لريبة و آخرك لدعوة و أنت بعد عاص ربك فأمر

فضربت عنقه ثم دعا مولاه فقال صف لي أموره فقال أ أطنب أم أختصر قال بل اختصر قال ما أتيته بطعام في نهار قط و لا فرشت له

فراشا في ليل قط. قال و حدثت أن واصل بن عطاء أبا حذيفة أقبل في رفقة فأحسوا بالخوارج فقال واصل لأهل الرفقة إن هذا ليس

من شأنكم فاعتزلوا و دعوني و إياهم و قد كانوا قد أشرفوا على العطب فقالوا شأنك فخرج إليهم فقالوا ما أنت و أصحابك فقال قوم

مشركون مستجيرون بكم ليسمعوا كلام الله و يفهموا حدوده فقالوا قد أجرناكم قال فعلمونا فجعلوا يعلمونهم أحكامهم و واصل

يقول قد قبلت أنا و من معي قالوا فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا فقال ليس ذاك إليكم قال الله و عز و جل وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ

[5 : 81 ]

فأبلغونا مأمننا فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا ذاك لكم فساروا معهم بجمعهم حتى أبلغوهم المأمن. و قال أبو العباس أتي عبد

الملك بن مروان برجل من الخوارج فبحثه فرأى منه ما شاء فهما و علما ثم بحثه فرأى منه ما شاء أدبا و ذهنا فرغب فيه فاستدعاه إلى

الرجوع عن مذهبه فرآه مستبصرا محققا فزاده في الاستدعاء فقال تغنيك الأولى عن الثانية و قد قلت و سمعت فاسمع أقل قال قل

فجعل يبسط من قول الخوارج و يزين له من مذهبهم بلسان طلق و ألفاظ بينة و معان قريبة فقال عبد الملك بعد ذلك على معرفته و

فضله لقد كاد يوقع في خاطري أن الجنة إنما خلقت لهم و أني أولى العباد بالجهاد منهم ثم رجعت إلى ما ثبت الله علي من الحجة و

قرر في قلبي من الحق فقلت له الدنيا و الآخرة لله و قد سلطنا الله في الدنيا و مكن لنا فيها و أراك لست تجيبنا إلى ما نقول و الله

لأقتلنك إن لم تطع فأنا في ذلك إذ دخل علي بابني مروان. قال أبو العباس و كان مروان أخا يزيد بن عبد الملك لأمه أمهما عاتكة بنت

يزيد بن معاوية و كان أبيا عزيز النفس فدخل به على أبيه في هذا الوقت باكيا

[5 : 82 ]

لضرب المؤدب إياه فشق ذلك على عبد الملك فأقبل عليه الخارجي و قال له دعه يبك فإنه أرحب لشدقه و أصح لدماغه و أذهب

لصوته و أحرى ألا تأبى عليه عينه إذا حضرته طاعة و استدعى عبرتها. فأعجب ذلك من قوله عبد الملك و قال له متعجبا أ ما يشغلك ما

أنت فيه و يعرضك عن هذا فقال ما ينبغي أن يشغل المؤمن عن قول الحق شيء فأمر بحبسه و صفح عن قتله و قال بعد معتذرا إليه لو

لا أن تفسد بألفاظك أكثر رعيتي ما حبستك ثم قال عبد الملك لقد شككني و وهمني حتى مالت بي عصمة الله و غير بعيد أن يستهوي

من بعدي

مرداس بن حدير

قال أبو العباس و كان من المجتهدين من الخوارج البلجاء و هي امرأة من بني حرام بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن

تميم. و كان مرداس بن حدير أبو بلال أحد بني ربيعة بن حنظلة ناسكا تعظمه الخوارج و كان كثير الصواب في لفظه مجتهدا فلقيه

غيلان بن خرشة الضبي فقال يا أبا بلال إني سمعت الأمير البارحة يعني عبيد الله بن زياد يذكر البلجاء و أحسبها ستؤخذ فمضى إليها

أبو بلال فقال إن الله قد وسع على المؤمنين في التقية فاستتري فإن هذا

[5 : 83 ]

المسرف على نفسه الجبار العنيد قد ذكرك قالت إن يأخذني فهو أشقى به فأما أنا فما أحب أن يعنت إنسان بسببي فوجه إليها عبيد

الله بن زياد فأتي بها فقطع يديها و رجليها و رمى بها في السوق فمر بها أبو بلال و الناس مجتمعون فقال ما هذا قالوا البلجاء فعرج

إليها فنظر ثم عض على لحيته و قال لنفسه لهذه أطيب نفسا من بقية الدنيا منك يا مرداس. قال ثم إن عبيد الله أخذ مرداسا فحبسه

فرأى صاحب السجن منه شدة اجتهاده و حلاوة منطقه فقال له إني أرى لك مذهبا حسنا و إني لأحب أن أوليك معروفا أ فرأيتك إن

تركتك تنصرف ليلا إلى بيتك أ تدلج إلي قال نعم فكان يفعل ذلك به. و لج عبيد الله في حبس الخوارج و قتلهم و كلم في بعضهم

فأبى و قال أقمع النفاق قبل أن ينجم لكلام هؤلاء أسرع إلى القلوب من النار إلى اليراع. فلما كان ذات يوم قتل رجل من الخوارج

رجلا من الشرطة فقال ابن زياد ما أدري ما أصنع بهؤلاء كلما أمرت رجلا بقتل رجل منهم فتكوا بقاتله لأقتلن من في حبسي منهم و

أخرج السجان مرداسا إلى منزله كما كان يفعل فأتى مرداسا الخبر فلما كان في السحر تهيأ للرجوع إلى السجن فقال له أهله اتق

الله في نفسك فإنك إذا رجعت قتلت فأبى و قال و الله ما كنت لألقى الله غادرا فرجع إلى السجان فقال إني قد علمت ما عزم عليه

صاحبك قال أعلمت ثم جئت.

[5 : 84 ]

قال أبو العباس و يروى أن مرداسا مر بأعرابي يهنأ بعيرا له فهرج البعير فسقط مرداس مغشيا عليه فظن الأعرابي أنه صرع فقرأ في

أذنه فلما أفاق قال له الأعرابي إني قرأت في أذنك فقال مرداس ليس بي ما خفته علي و لكني رأيت بعيرا هرج من القطران فذكرت به

قطران جهنم فأصابني ما رأيت فقال الأعرابي لا جرم و الله لا أفارقك أبدا. قال أبو العباس و كان مرداس قد شهد مع علي ع صفين ثم

أنكر التحكيم و شهد النهروان و نجا فيمن نجا ثم حبسه ابن زياد كما ذكرناه و خرج من حبسه فرأى جد ابن زياد في طلب الشراة

فعزم على الخروج فقال لأصحابه إنه و الله ما يسعنا المقام مع هؤلاء الظالمين تجري علينا أحكامهم مجانبين للعدل مفارقين للقصد

و الله إن الصبر على هذا لعظيم و إن تجريد السيف و إخافة الناس لعظيم و لكنا ننتبذ عنهم و لا نجرد سيفا و لا نقاتل إلا من قاتلنا

فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلا منهم حريث بن حجل و كهمس بن طلق الصريمي و أرادوا أن يولوا أمرهم حريثا فأبى فولوا

أمرهم مرداسا فلما مضى بأصحابه لقيه عبد الله بن رباح الأنصاري و كان له صديقا فقال يا أخي أين تريد قال أريد أن أهرب بديني و

دين أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة فقال أ علم بكم أحد قال لا قال فارجع قال أ و تخاف علي نكرا قال نعم و أن يؤتى بك قال لا

تخف فإني لا أجرد سيفا و لا أخيف أحدا و لا أقاتل إلا من قاتلني. ثم مضى حتى نزل آسك و هي ما بين رامهرمز و أرجان فمر به مال

يحمل إلى ابن

[5 : 85 ]

زياد و قد قارب أصحابه الأربعين فحط ذلك المال و أخذ منه عطاءه و عطاء أصحابه و رد الباقي على الرسل و قال قولوا لصاحبكم إنا

قبضنا أعطياتنا فقال بعض أصحابه علام ندع الباقي فقال إنهم يقيمون هذا الفيء كما يقيمون الصلاة فلا نقاتلهم على الصلاة. قال

أبو العباس و لأبي بلال مرداس في الخروج أشعار اخترت منها قوله

أ بعد ابن وهب ذي النزاهة و التقى و من خاض في تلك الحروب المهالكا

أحب بقاء أو أرجي سلامة و قد قتلوا زيد بن حصن و مالكا

فيا رب سلم نيتي و بصيرتي و هب لي التقى حتى ألاقي أولئكا

قال أبو العباس ثم إن عبيد الله بن زياد ندب جيشا إلى خراسان فحكى بعض من كان في ذلك الجيش قال مررنا ب آسك فإذا نحن بهم

ستة و ثلاثين رجلا فصاح بنا أبو بلال أ قاصدون لقتالنا أنتم قال و كنت أنا و أخي قد دخلنا زربا فوقف أخي ببابه فقال السلام عليكم

فقال مرداس و عليكم السلام ثم قال لأخي أ جئتم لقتالنا قال لا إنما نريد خراسان قال فأبلغوا من لقيتم أنا لم نخرج لنفسد في الأرض

و لا لنروع أحدا و لكن هربا من الظلم و لسنا نقاتل إلا من يقاتلنا و لا نأخذ من الفيء إلا أعطياتنا ثم قال أ ندب لنا أحد قلنا نعم أسلم

بن زرعة الكلابي قال فمتى ترونه يصل إلينا قلنا يوم كذا و كذا فقال أبو بلال حسبنا الله و نعم الوكيل. قال أبو العباس و جهز عبيد

الله بن زياد أسلم بن زرعة في أسرع مدة و وجهه إليهم

[5 : 86 ]

في ألفين و قد تتام أصحاب مرداس أربعين رجلا فلما صار أسلم إليهم صاح به أبو بلال اتق الله يا أسلم فإنا لا نريد فسادا في الأرض و

لا نحتجر فيئا فما الذي تريد قال أريد أن أردكم إلى ابن زياد قال إذن يقتلنا قال و إن قتلكم قال تشرك في دمائنا قال إني أدين بأنه

محق و أنتم مبطلون فصاح به حريث بن حجل أ هو محق و هو يطيع الفجرة و هو أحدهم و يقتل بالظنة و يخص بالفيء و يجور في

الحكم أ ما علمت أنه قتل بابن سعاد أربعة برآء و أنا أحد قتلته و قد وضعت في بطنه دراهم كانت معه. ثم حملوا على أسلم حملة رجل

واحد فانهزم هو و أصحابه من غير قتال و كاد يأسره معبد أحد الخوارج فلما عاد إلى ابن زياد غضب عليه غضبا شديدا و قال ويلك أ

تمضي في ألفين فتهزم بهم من حملة أربعين فكان أسلم يقول لأن يذمني ابن زياد و أنا حي أحب إلي أن يمدحني و أنا ميت. و كان إذا

خرج إلى السوق أو مر بصبيان صاحوا به أبو بلال وراءك و ربما صاحوا به يا معبد خذه حتى شكا إلى ابن زياد فأمر الشرط أن يكفوا

الناس عنه ففي ذلك يقول عيسى بن فاتك من بني تيم اللات بن ثعلبة أحد الخوارج

فلما أصبحوا صلوا و قاموا إلى الجرد العتاق مسومينا

فلما استجمعوا حملوا عليهم فظل ذوو الجعائل يقتلونا

بقية يومهم حتى أتاهم سواد الليل فيه يراوغونا

يقول نصيرهم لما أتاهم فإن القوم ولوا هاربينا

أ ألفا مؤمن فيكم زعمتم و يهزمكم ب آسك أربعونا

[5 : 87 ]

كذبتم ليس ذاك كما زعمتم و لكن الخوارج مؤمنونا

هم الفئة القليلة غير شك على الفئة الكثيرة ينصرونا

قال أبو العباس أما قول حريث بن حجل أ ما علمت أنه قتل بابن سعاد أربعة برآء و أنا أحد قتلته فابن سعاد هو المثلم بن مسروح

الباهلي و سعاد اسم أمه و كان من خبره أنه ذكر لعبيد الله بن زياد رجل من سدوس يقال له خالد بن عباد أو ابن عبادة و كان من نساك

الخوارج فوجه إليه فأخذه فأتاه رجل من آل ثور فكذب عنه و قال هو صهري و في ضمني فخلى عنه فلم يزل الرجل يتفقده حتى تغيب

فأتى ابن زياد فأخبره فلم يزل يبعث إلى خالد بن عباد حتى ظفر به فأخذه فقال أين كنت في غيبتك هذه قال كنت عند قوم يذكرون الله

و يسبحونه و يذكرون أئمة الجور فيتبرءون منهم قال ادللني عليهم قال إذن يسعدوا و تشقى و لم أكن لأروعهم قال فما تقول في

أبي بكر و عمر فقال خيرا قال فما تقول في عثمان و في معاوية أ تتولاهما فقال إن كانا وليين لله فلست معاديهما فأراغه مرارا ليرجع

عن قوله فلم يفعل فعزم على قتله فأمر بإخراجه إلى رحبة تعرف برحبة الرسي و قتله بها فجعل الشرطة يتفادون من قتله و يروغون

عنه توقيا لأنه كان متقشفا عليه أثر العبادة حتى أتى المثلم بن مسروح الباهلي و كان من الشرطة فتقدم فقتله فائتمر به الخوارج أن

يقتلوه و كان مغرما باللقاح يتبعها فيشتريها من مظانها و هم في تفقده فدسوا إليه رجلا في هيئة الفتيان عليه ردع

[5 : 88 ]

زعفران فلقيه بالمربد و هو يسأل عن لقحة صفي فقال له الفتى إن كنت تبتغي فعندي ما يغنيك عن غيره فامض معي فمضى المثلم معه

على فرسه يمشي الفتى أمامه حتى أتى به بني سعد فدخل دارا و قال له أدخل علي فرسك فلما دخل و توغل في الدار أغلق الباب و

ثارت به الخوارج فاعتوره حريث بن حجل و كهمس بن طلق الصريمي فقتلاه و جعلا دراهم كانت معه في بطنه و دفناه في ناحية الدار

و حكا آثار الدم و خليا فرسه في الليل فأصيب في الغد في المربد و تجسس عنه الباهليون فلم يروا له أثرا فاتهموا بني سدوس به

فاستعدوا عليهم السلطان و جعل السدوسية يحلفون فتحامل ابن زياد مع الباهليين فأخذ من السدوسيين أربع ديات و قال ما أدري

ما أصنع بهؤلاء الخوارج كلما أمرت بقتل رجل اغتالوا قاتله فلم يعلم بمكان المثلم حتى خرج مرداس و أصحابه فلما واقفهم ابن

زرعة الكلابي صاح بهم حريث و قال أ هاهنا من باهلة أحد قالوا نعم قال يا أعداء الله أخذتم للمثلم من بني سدوس أربع ديات و أنا

قتلته و جعلت دراهم كانت معه في بطنه و هو في موضع كذا مدفون فلما انهزم ابن زرعة و أصحابه صاروا إلى الدار فأصابوا أشلاءه

ففي ذلك يقول أبو الأسود

و آليت لا أغدو إلى رب لقحة أساومه حتى يئوب المثلم

[5 : 89 ]

قال أبو العباس فأما ما كان من مرداس فإن عبيد الله بن زياد ندب إليه الناس فاختار عباد بن أخضر المازني و ليس بابن أخضر بل هو

عباد بن علقمة المازني و كان أخضر زوج أمه و غلب عليه فوجهه إلى مرداس و أصحابه في أربعة آلاف فارس و كانت الخوارج قد تنحت

من موضعها بدارابجرد من أرض فارس فصار إليهم عباد فكان التقاؤهم في يوم جمعة فناداه أبو بلال اخرج إلي يا عباد فإني أريد أن

أحاورك فخرج إليه فقال ما الذي تبغي قال أن آخذ بأقفيتكم فأردكم إلى الأمير عبيد الله بن زياد قال أ و غير ذلك إن نرجع فإنا لا

نخيف سبيلا و لا نذعر مسلما و لا نحارب إلا من يحاربنا و لا نجبي إلا ما حمينا فقال عباد الأمر ما قلت لك فقال له حريث بن حجل أ

تحاول أن ترد فئة من المسلمين إلى جبار عنيد ضال فقال لهم أنتم أولى بالضلال منه و ما من ذاك من بد. قال و قدم القعقاع بن عطية

الباهلي من خراسان يريد الحج فلما رأى الجمعين قال ما هذا قالوا الشراة فحمل عليهم و نشبت الحرب بينهم فأخذت الخوارج

القعقاع أسيرا فأتوا به أبا بلال فقال له من أنت قال ما أنا من أعدائك إنما قدمت للحج فحملت و غررت فأطلقه فرجع إلى عباد و

أصلح من شأنه و حمل على الخوارج ثانية و هو يقول

أقاتلهم و ليس علي بعث نشاطا ليس هذا بالنشاط

أكر على الحروريين مهري لأحملهم على وضح الصراط

فحمل عليه حريت بن حجل السدوسي و كهمس بن طلق الصريمي فأسراه و قتلاه و لم يأتيا به أبا بلال و لم يزل القوم يجتلدون حتى

جاء وقت صلاة الجمعة فناداهم أبو بلال يا قوم هذا وقت الصلاة فوادعونا حتى نصلي و تصلوا قالوا لك ذاك فرمى القوم

[5 : 90 ]

أجمعون بأسلحتهم و عمدوا للصلاة فأسرع عباد و من معه و قضوا صلاتهم و الحرورية مبطئون فيهم ما بين راكع و ساجد و قائم في

الصلاة و قاعد حتى مال عليهم عباد و من معه فقتلوهم جميعا و أتي برأس أبي بلال. قال و يرى الشراة أن مرداسا أبا بلال لما عقد على

أصحابه و عزم على الخروج رفع يديه فقال اللهم إن كان ما نحن فيه حقا فأرنا آية فرجف البيت. و قال آخرون فارتفع السقف. و

يقال إن رجلا من الخوارج ذكر ذلك لأبي العالية الرياحي يعجبه من الآية و يرغبه في مذهب القوم فقال أبو العالية كاد الخسف ينزل

بهم ثم أدركتهم نظرة من الله. قال فلما فرغ عباد من الجماعة أقبل بهم فصلب رءوسهم و فيهم داود بن شبيب و كان ناسكا و فيهم

حبيبة البكري من عبد القيس و كان مجتهدا و يروى عنه أنه قال لما عزمت على الخروج فكرت في بناتي فقلت ذات ليلة لأمسكن عن

نفقتهن حتى أنظر فلما كان في جوف الليل استسقت بنية لي فقالت يا أبت اسقني فلم أجبها و أعادت فقامت أخت لها فسقتها فعلمت

أن الله عز و جل غير مضيعهن فأتممت عزمي. و كان في القوم كهمس و كان من أبر الناس بأمه فقال لها يا أمه لو لا مكانك لخرجت

فقالت يا بني وهبتك لله. ففي مقتلهم يقول عيسى بن فاتك الخطي

ألا في الله لا في الناس سالت بداود و إخوته الجذوع

مضوا قتلا و تمزيقا و صلبا تحوم عليهم طير وقوع

إذا ما الليل أظلم كابدوه فيسفر عنهم و هم ركوع

أطار الخوف نومهم فقاموا و أهل الأرض في الدنيا هجوع

[5 : 91 ]

و قال عمران بن حطان

يا عين بكي لمرداس و مصرعه يا رب مرداس اجعلني كمرداس

تركتني هائما أبكي لمرزئه في منزل موحش من بعد إيناس

أنكرت بعدك من قد كنت أعرفه ما الناس بعدك يا مرداس بالناس

إما شربت بكأس دار أولها على القرون فذاقوا جرعة الكأس

فكل من لم يذقها شاربا عجلا يسقى بأنفاس ورد بعد أنفاس

و قال أيضا

لقد زاد الحياة إلي بغضا و حبا للخروج أبو بلال

أحاذر أن أموت على فراشي و أرجو الموت تحت ذرا العوالي

فمن يك همه الدنيا فإني لها و الله رب البيت قال

عمران بن حطان

و قال أبو العباس و عمران هذا أحد بني عمرو بن يسار بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عك بن بكر بن وائل و كان رأس القعد

من الصفرية و فقيههم و خطيبهم و شاعرهم و شعره هذا بخلاف شعر أبي خالد القناني و كان من قعد الخوارج أيضا و قد كان كتب

قطري بن الفجاءة المازني يلومه على القعود

[5 : 92 ]

أبا خالد أيقن فلست بخالد و ما جعل الرحمن عذرا لقاعد

أ تزعم أن الخارجي على الهدى و أنتم مقيم بين لص و جاحد

فكتب إليه أبو خالد

لقد زاد الحياة إلي حبا بناتي إنهن من الضعاف

أحاذر أن يرين الفقر بعدي و أن يشربن رنقا بعد صاف

و أن يعرين إن كسي الجواري فتنبو العين عن كرم عجاف

و لو لا ذاك قد سومت مهري و في الرحمن للضعفاء كاف

و قال أبو العباس و مما حدثني به العباس بن أبي الفرج الرياشي عن محمد بن سلام أن عمران بن حطان لما طرده الحجاج جعل يتنقل

في القبائل و كان إذا نزل بحي انتسب نسبا يقرب منهم ففي ذلك يقول

نزلنا في بني سعد بن زيد و في عك و عامر عوبثان

و في لخم و في أدد بن عمرو و في بكر و حي بني الغدان

ثم خرج حتى لقي روح بن زنباع الجذامي و كان روح يقري الأضياف و كان مسايرا لعبد الملك بن مروان أثيرا عنده و قال ابن عبد

الملك فيه من أعطي مثل ما أعطي أبو زرعة أعطي فقه الحجاز و دهاء أهل العراق و طاعة أهل الشام. و انتمى عمران إليه أنه من الأزد

فكان روح لا يسمع شعرا نادرا و لا حديثا غريبا

[5 : 93 ]

عند عبد الملك فيسأل عنه عمران إلا عرفه و زاد فيه فقال روح لعبد الملك إن لي ضيفا ما أسمع من أمير المؤمنين خبرا و لا شعرا إلا

عرفه و زاد فيه فقال أخبرني ببعض أخباره فأخبره و أنشده فقال إن اللغة لغة عدنانية و لا أحسبه إلا عمران بن حطان حتى تذاكروا

ليلة البيتين اللذين أولهما يا ضربة.... فلم يدر عبد الملك لمن هما فرجع روح فسأل عمران عنهما فقال هذا الشعر لعمران بن حطان

يمدح عبد الرحمن بن ملجم فرجع روح إليه فأخبره فقال ضيفك عمران بن حطان فاذهب فجئني به فرجع إليه فقال أمير المؤمنين قد

أحب أن يراك فقال له عمران قد أردت أن أسألك ذاك فاستحييت منك فاذهب فإني بالأثر فرجع روح إلى عبد الملك فخبره فقال أما

إنك سترجع فلا تجده فرجع فوجد عمران قد احتمل و خلف رقعة فيها

يا روح كم من أخي مثوى نزلت به قد ظن ظنك من لخم و غسان

حتى ذا خفته زايلت منزله من بعد ما قيل عمران بن حطان

قد كنت جارك حولا لا يروعني فيه طوارق من إنس و لا جان

حتى أردت بي العظمى فأدركني ما أدرك الناس من خوف ابن مروان

فاعذر أخاك ابن زنباع فإن له في الحادثات هنات ذات ألوان

يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن و إن لقيت معديا فعدناني

لو كنت مستغفرا يوما لطاغية كنت المقدم في سري و إعلاني

لكن أبت ذاك آيات مطهرة عند التلاوة في طه و عمران

[5 : 94 ]

. ثم ارتحل حتى نزل بزفر بن الحارث أحد بني عمرو بن كلاب فانتسب له أوزاعيا و كان عمران يطيل الصلاة فكان غلمان بني عامر

يضحكون منه فأتاه رجل ممن كان عند روح فسلم عليه فدعاه زفر فقال له من هذا فقال رجل من الأزد رأيته ضيفا لروح بن زنباع فقال

له زفر يا هذا أزديا مرة و أوزاعيا أخرى إن كنت خائفا أمناك و إن كنت فقيرا جبرناك فلما أمسى خلف في منزله رقعة و هرب فوجدوا

فيها

إن التي أصبحت يعيا بها زفر أعيت عياء على روح بن زنباع

ما زال يسألني حولا لأخبره و الناس ما بين مخدوع و خداع

حتى إذا انقطعت مني وسائله كف السؤال و لم يولع بإهلاع

فاكفف لسانك عن لومي و مسألتي ما ذا تريد إلى شيخ بلا راع

فاكفف كما كف عني إنني رجل إما صميم و إما فقعة القاع

[5 : 95 ]

أما الصلاة فإني غير تاركها كل امرئ للذي يعنى به ساع

أكرم بروح بن زنباع و أسرته قوم دعا أوليهم للعلا داع

جاورتهم سنة مما أسر به عرضي صحيح و نومي غير تهجاع

فاعمل فإنك منعي بواحدة حسب اللبيب بهذا الشيب من داع

ثم ارتحل حتى أتى عمان فوجدهم يعظمون أمر أبي بلال و يظهر فيهم فأظهر أمره فيهم فبلغ ذلك الحجاج فكتب فيه إلى أهل عمان

فهرب حتى أتى قوما من الأزد في سواد الكوفة فنزل بهم فلم يزل عندهم حتى مات و في نزوله فيهم يقول

نزلنا بحمد الله في خير منزل نسر بما فيه من الأنس و الخفر

نزلنا بقوم يجمع الله شملهم و ليس لهم دعوى سوى المجد يعتصر

من الأزد إن الأزد أكرم أسوة يمانية طابوا إذا انتسب البشر

فأصبحت فيهم آمنا لا كمعشر أتوني فقالوا من ربيعة أو مضر

أم الحي قحطان فتلكم سفاهة كما قال لي روح و صاحبه زفر

و ما منهما إلا يسر بنسبة تقربني منه و إن كان ذا نفر

فنحن عباد الله و الله واحد و أولى عباد الله بالله من شكر

[5 : 96 ]

قال أبو العباس و من الخوارج من مشى في الرمح و هو في صدره خارجا من ظهره حتى خالط طاعنه فضربه بالسيف فقتله و هو يقول و

عجلت إليك رب لترضى. و منهم الذي سأل عليا ع يوم النهروان المبارزة في قوله

أطعنهم و لا أرى عليا و لو بدا أوجرته الخطيا

فخرج إليه علي فضربه بالسيف فقتله فلما خالطه السيف قال يا حبذا الروحة إلى الجنة. و منهم ابن ملجم و قطع الحسن بن علي

يديه و رجليه و هو في ذلك يذكر الله ثم عمد إلى لسانه فقطعه فجزع فقيل له في ذلك قال أحببت ألا يزال لساني رطبا من ذكر الله.

و منهم القوم الذين وثب رجل منهم على رطبة سقطت من نخلة فوضعها في فيه فلفظها تورعا. و منهم أبو بلال مرداس الذي ينحله من

الفرق لتقشفه و تصرمه و صحة عبادته و صلابة نيته. أما المعتزلة فتنتحله و تقول إنه خرج منكرا لجور السلطان داعيا إلى الحق و

إنه من أهل العدل و يحتجون لذلك بقوله لزياد و قد كان قال في خطبته على المنبر و الله لآخذن المحسن بالمسيء و الحاضر

بالغائب و الصحيح بالسقيم فقام إليه مرداس فقال قد سمعنا ما قلت أيها الإنسان و ما هكذا قال الله تعالى لنبيه إبراهيم إذ يقول

[5 : 97 ]

وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفّى أَلّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثم خرج عليه عقيب هذا اليوم. و أما الشيعة فتنتحله و تزعم أنه كتب إلى الحسين بن

علي إني و الله لست من الخوارج و لا أرى رأيهم و إني على دين أبيك إبراهيم

المستورد السعدي

و منهم المستورد أحد بني سعد بن زيد بن مناة كان ناسكا مجتهدا و هو أحد من ترأس على الخوارج في أيام علي و له الخطبة

المشهورة التي أولها أن رسول الله ص أتانا بالعدل تخفق راياته و تلمع معالمه فبلغنا عن ربه و نصح لأمته حتى قبضه الله تعالى

مخيرا مختارا. و نجا يوم النخيلة من سيف علي فخرج بعد مدة على المغيرة بن شعبة و هو والي الكوفة فبارزه معقل بن قيس الرياحي

فاختلفا ضربتين فخر كل واحد منهما ميتا. و من كلام المستورد لو ملكت الدنيا بحذافيرها ثم دعيت إلى أن أستفيد بها خطيئة ما

فعلت. و من كلامه إذا أفضيت بسري إلى صديقي فأفشاه لم ألمه لأني كنت أولى بحفظه. و من كلامه كن أحرص على حفظ سرك منك

على حقن دمك. و كان يقول أول ما يدل على عيب عائب الناس معرفته بالعيوب و لا يعيب إلا معيب.

[5 : 98 ]

و كان يقول المال غير باق عليك فاشتر به من الحمد و الأجر ما يبقى عليك

حوثرة الأسدي

قال أبو العباس و خرج من الخوارج على معاوية بعد قتل علي حوثرة الأسدي و حابس الطائي خرجا في جمعهما فصارا إلى مواضع

أصحاب النخيلة و معاوية يومئذ بالكوفة قد دخلها في عام الجماعة و قد نزل الحسن بن علي و خرج يريد المدينة فوجه إليه معاوية

و قد تجاوز في طريقه يسأله أن يكون المتولي لمحاربة الخوارج فكان جواب الحسن و الله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين و

ما أحسب ذاك يسعني أ فأقاتل عنك قوما أنت و الله أولى بالقتال منهم. قلت هذا موافق لقول أبيه لا تقاتلوا الخوارج بعدي فليس من

طلب الحق فأخطأه مثل من طلب الباطل فأدركه و هو الحق الذي لا يعدل عنه و به يقول أصحابنا فإن الخوارج عندهم أعذر من

معاوية و أقل ضلالا و معاوية أولى بأن يحارب منهم. قال أبو العباس فلما رجع الجواب إلى معاوية أرسل إلى حوثرة الأسدي أباه و

قال له اذهب فاكفني أمر ابنك فصار إليه أبوه فدعاه إلى الرجوع فأبى فماراه فصمم فقال يا بني أجيئك بابنك فلعلك تراه فتحن إليه

فقال يا أبت أنا و الله إلى طعنة نافذة أتقلب فيها على كعوب الرمح أشوق مني إلى ابني.

[5 : 99 ]

فرجع إلى معاوية فأخبره فقال يا أبا حوثرة لقد عتا بحق هذا جدا ثم وجه إليه جيشا أكثره أهل الكوفة فلما نظر إليهم حوثرة قال لهم

يا أعداء الله أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا سلطانه و أنتم اليوم تقاتلون معه لتشدوا سلطانه فخرج إليه أبوه فدعاه إلى

البراز فقال يا أبت لك في غيري مندوحة و لي في غيرك مذهب ثم حمل على القوم و هو يقول

أكرر على هذي الجموع حوثرة فعن قليل ما تنال المغفرة

فحمل عليه رجل من طيئ فقتله فلما رأى أثر السجود قد لوح جبهته ندم على قتله

الرهين المرادي

و قال الرهين المرادي أحد فقهاء الخوارج و نساكها

يا نفس قد طال في الدنيا مراوغتي لا تأمنن لصرف الدهر تنغيصا

إني لبائع ما يفنى لباقية إن لم يعقني رجاء العيش تربيصا

و أسأل الله بيع النفس محتسبا حتى ألاقي في الفردوس حرقوصا

و ابن المنيح و مرداسا و إخوته إذ فارقوا هذه الدنيا مخاميصا

قال أبو العباس و أكثرهم لم يكن يبالي بالقتل و شيمتهم استعذاب الموت و الاستهانة بالمنية. و منهم الهازئ بالأمراء و قد قدم إلى

السيف ولى زياد شيبان بن عبد الله الأشعري صاحب مقبرة بني شيبان باب عثمان و ما يليه بالبصرة فجد في طلب الخوارج و أخافهم

فلم

[5 : 100 ]

يزل على ذلك حتى أتاه ليلة و هو متكئ بباب داره رجلان من الخوارج فضرباه بأسيافهما فقتلاه فأتي زياد بعد ذلك برجل من الخوارج

فقال اذهبوا به فاقتلوه متكئا كما قتل شيبان متكئا فصاح به الخارجي يا عدلاه يهزأ به

عباد بن أخضر المازني

قال و أما عباد بن أخضر قاتل أبي بلال مرداس بن أدية و قد ذكرنا قصته فإنه لم يزل بعد قتله مرداسا محمودا في المصر موصوفا بما

كان منه حتى ائتمر جماعة من الخوارج أن يقتلوه فذمر بعضهم بعضا على ذلك فجلسوا له يوم جمعة بعد أن أقبل على بغلته و ابنه

رديفه فقام إليه رجل منهم فقال له أسألك عن مسألة قال قل قال رأيت رجلا قتل رجلا بغير حق و للقاتل جاه و قدر و ناحية من

السلطان و لم يعد عليه السلطان لجوره أ لولي ذلك المقتول أن يقتل القاتل إن قدر عليه فقال بل يرفعه إلى السلطان قال إن

السلطان لا يعدي عليه لمكانه منه و لعظم جاهه عنده قال أخاف عليه إن فتك به فتك به السلطان قال دع ما تخافه من السلطان أ

يلحقه تبعة فيما بينه و بين الله قال لا فحكم هو و أصحابه ثم خبطوه بأسيافهم و رمى عباد بابنه فنجا و تنادي الناس قتل عباد

فاجتمعوا فأخذوا أفواه الطرق و كان مقتل عباد في سكة بني مازن عند مسجد بني كليب بن يربوع فجاء معبد بن أخضر أخو عباد و هو

معبد

[5 : 101 ]

بن علقمة و أخضر زوج أمهما في جماعة من بني مازن و صاحوا بالناس دعونا و ثارنا فأحجم الناس فتقدم المازنيون فحاربوا الخوارج

حتى قتلوهم جميعا لم يفلت منهم أحد إلا عبيدة بن هلال فإنه خرق خصا و نفذ فيه ففي ذلك يقول الفرزدق

لقد أدرك الأوتار غير ذميمة إذا ذم طلاب الترات الأخاضر

هم جردوا الأسياف يوم ابن أخضر فنالوا التي ما فوقها نال ثائر

أقادوا به أسدا لها في اقتحامها إذا برزت نحو الحروب بصائر

ثم هجا كليب بن يربوع رهط جرير بن الخطفى لأنه قتل بحضرة مسجدهم و لم ينصروه فقال في كلمته هذه

كفعل كليب إذ أخلت بجارها و نصر اللئيم معتم و هو حاضر

و ما لكليب حين تذكر أول و ما لكليب حين تذكر آخر

قال و كان مقتل عباد بن أخضر و عبيد الله بن زياد بالكوفة و خليفته على البصرة عبيد الله بن أبي بكرة فكتب إليه يأمره ألا يدع أحدا

يعرف بهذا الرأي إلا حبسه فجد في طلب من تغيب عنه و جعل يتبعهم و يأخذهم فإذا شفع إليه أحد منهم كفله إلى أن يقدم به على

ابن زياد حتى أتوه بعروة بن أدية فأطلقه و قال أنا كفيلك فلما قدم ابن زياد أخذ من في الحبس فقتلهم جميعا و طلب الكفلاء بمن

كفلوا به فكل من جاء بصاحبه أطلقه و قتل الخارجي و من لم يأت بمن كفل به منهم قتله. ثم قال لابن أبي بكرة هات عروة بن أدية قال

لا أقدر عليه قال إذا و الله أقتلك فإنك كفيله فلم يزل يطلبه حتى دل عليه في سرب العلاء بن سوية المنقري فكتب بذلك إلى عبيد

الله بن زياد فقرأ عليه كتابه فقال إنا قد أصبناه في شرب

[5 : 102 ]

العلاء فتهانف به عبيد الله و قال صحفت و لؤمت إنما هو في سرب العلاء و لوددت أنه كان ممن شرب النبيذ فلما أقيم عروة بين يديه

قال لم جهزت أخاك علي يعني أبا بلال فقال و الله لقد كنت به ضنينا و كان لي عزا و لقد أردت له ما أريد لنفسي فعزم عزما فمضى عليه

و ما أحب لنفسي إلا المقام و ترك الخروج فقال له أ فأنت على رأيه قال كلنا نعبد ربا واحدا قال أما و الله لأمثلن بك قال اختر لنفسك

من القصاص ما شئت فأمر به فقطعوا يديه و رجليه ثم قال له كيف ترى قال أفسدت علي دنياي و أفسدت عليك آخرتك فأمر به فصلب

على باب داره

أبو الوازع الراسبي

قال أبو العباس و كان أبو الوازع الراسبي من مجتهدي الخوارج و نساكها و كان يذم نفسه و يلومها على القعود و كان شاعرا و كان

يفعل ذلك بأصحابه فأتى نافع بن الأزرق و هو في جماعة من أصحابه يصف لهم جور السلطان و فساد العامة و كان نافع ذا لسان

عضب و احتجاج و صبر على المنازعة فأتاه أبو الوازع فقال له يا نافع إنك

[5 : 103 ]

أعطيت لسانا صارما و قلبا كليلا فلوددت أن صرامة لسانك كانت لقلبك و كلال قلبك كان للسانك أ تحض على الحق و تقعد عنه و

تقبح الباطل و تقيم عليه فقال نافع يا أبا الوازع إنما ننتظر الفرص إلى أن تجمع من أصحابك من تنكئ به عدوك فقال أبو الوازع

لسانك لا تنكي به القوم إنما تنال بكفيك النجاة من الكرب

فجاهد أناسا حاربوا الله و اصطبر عسى الله أن يجزي غوي بني حرب

يعني معاوية ثم قال و الله لا ألومك و نفسي ألوم و لأغدون غدوة لا أنثني بعدها أبدا ثم مضى فاشترى سيفا و أتى صيقلا كان يذم

الخوارج و يدل على عوارتهم فشاوره في السيف فحمده ثم قال اشحذه فشحذه حتى إذا رضيه خبط به الصيقل فقتله و حمل على

الناس فهربوا منه حتى أتى مقبرة بني يشكر فدفع عليه رجل حائط ستره فشدخه و أمر ابن زياد بصلبه

عمران بن الحارث الراسبي

قال أبو العباس و من نساكهم الذين قتلوا في الحرب عمران بن الحارث الراسبي قتل يوم دولاب التقى هو و الحجاج بن باب

الحميري و كان الأمير يومئذ على أهل البصرة و صاحب رايتهم فاختلفا ضربتين فخرا ميتين فقالت أم عمران ترثيه

الله أيد عمرانا و طهره و كان يدعو الله في السحر

[5 : 104 ]

يدعوه سرا و إعلانا ليرزقه شهادة بيدي ملحادة غدر

ولى صحابته عن حر ملحمة و شد عمران كالضرغامة الذكر

قال و ممن قتل من رؤسائهم يوم دولاب نافع بن الأزرق و كان خليفتهم خاطبوه بإمرة المؤمنين فقال رجل منهم يرثيه

شمت ابن بدر و الحوادث جمة و الجائرون بنافع بن الأزرق

و الموت حتم لا محالة واقع من لا يصبحه نهارا يطرق

فئن أمير المؤمنين أصابه ريب المنون فمن يصبه يغلق

و قال قطري بن الفجاءة يذكر يوم دولاب

لعمرك إني في الحياة لزاهد و في العيش ما لم ألق أم حكيم

من الخفرات البيض لم ير مثلها شفاء لذي بث و لا لسقيم

[5 : 105 ]

لعمرك إني يوم ألطم وجهها على نائبات الدهر جد لئيم

فلو شهدتنا يوم دولاب شاهدت طعان فتى في الحرب غير ذميم

غداة طفت علماء بكر بن وائل و عجنا صدور الخيل نحو تميم

و كان بعبد القيس أول جدنا و أحلافها من يحصب و سليم

و ظلت شيوخ الأزد في حومة الوغى تعوم فمن مستنزل و هزيم

فلم أر يوما كان أكثر مقعصا يمج دما من فائظ و كليم

و ضاربة خدا كريما على فتى أغر نجيب الأمهات كريم

[5 : 106 ]

أصيب بدولاب و لم تك موطنا له أرض دولاب و أرض حميم

فلو شهدتنا يوم ذاك و خيلنا تبيح الكفار كل حريم

رأت فتية باعوا الإله نفوسهم بجنات عدن عنده و نعيم

عبد الله بن يحيى طالب الحق

و من رؤساء الخوارج و كبارهم عبد الله بن يحيى الكندي الملقب طالب الحق و صاحبه المختار بن عوف الأزدي صاحب وقعة قديد و

نحن نذكر ما ذكره أبو الفرج الأصفهاني من قصتهما في كتاب الأغاني مختصرا محذوفا منه ما لا حاجة بنا في هذا الموضع إليه. قال أبو

الفرج كان عبد الله بن يحيى من حضرموت و كان مجتهدا عابدا و كان يقول قبل أن يخرج لقيني رجل فأطال النظر إلي و قال ممن

أنت قلت من كندة فقال من أيهم فقلت من بني شيطان فقال و الله لتملكن و تبلغن وادي القرى و ذلك بعد أن تذهب إحدى عينيك و قد

ذهبت و أنا أتخوف ما قال و أستخير الله. فرأى باليمن جورا ظاهرا و عسفا شديدا و سيرة في الناس قبيحة فقال لأصحابه إنه لا يحل

لنا المقام على ما نرى و لا الصبر عليه و كتب إلى جماعة من الإباضية بالبصرة و غيرها يشاورهم في الخروج فكتبوا إليه إن استطعت

ألا تقيم يوما واحدا فافعل

[5 : 107 ]

فإن المبادرة بالعمل الصالح أفضل و لست تدري متى يأتي أجلك و لله بقية خير من عباده يبعثهم إذا شاء بنصر دينه و يختص بالشهادة

منهم من يشاء. و شخص إليه أبو حمزة المختار بن عوف الأزدي و بلج بن عقبة المسعودي في رجال من الإباضية فقدموا عليه

حضرموت فحرضوه على الخروج و أتوه بكتب أصحابه يوصونه و يوصون أصحابه إذا خرجتم فلا تغلوا و لا تغدروا و اقتدوا بسلفكم

الصالحين و سيروا بسيرتهم فقد علمتم أن الذي أخرجهم على السلطان العيب لأعمالهم. فدعا عبد الله أصحابه فبايعوه و قصدوا دار

الإمارة و على حضرموت يومئذ إبراهيم بن جبلة بن مخرمة الكندي فأخذه فحبسه يوما ثم أطلقه فأتى صنعاء و أقام عبد الله

بحضرموت و كثر جمعه و سموه طالب الحق. و كتب إلى من كان من أصحابه بصنعاء أني قادم عليكم ثم استخلف على حضرموت عبد

الله بن سعيد الحضرمي و توجه إلى صنعاء و ذلك في سنة تسع و عشرين و مائة في ألفين و العامل على صنعاء يومئذ القاسم بن عمرو

أخو يوسف بن عمرو الثقفي فجرت بينه و بين عبد الله بن يحيى حروب و مناوشات كانت الدولة فيها و النصرة لعبد الله بن يحيى

فدخل إلى صنعاء و جمع ما فيها من الخزائن و الأموال فأحرزها. فلما استولى على بلاد اليمن خطب فحمد الله و أثنى عليه و صلى

على رسوله و ذكر و حذر ثم قال إنا ندعوكم أيها الناس إلى كتاب الله و سنة نبيه و إجابة من دعا إليهما الإسلام ديننا و محمد نبينا و

الكعبة قبلتنا و القرآن إمامنا رضينا بالحلال حلالا لا نبتغي به بدلا و لا نشتري به ثمنا و حرمنا الحرام و نبذناه وراء ظهورنا و لا حول

و لا قوة إلا بالله و إلى الله المشتكى و عليه المعول من زنى فهو كافر و من سرق فهو كافر و من شرب الخمر فهو كافر و من شك في

أنه كافر فهو كافر ندعوكم إلى فرائض بينات و آيات محكمات

[5 : 108 ]

و آثار نقتدي بها و نشهد أن الله صادق فيما وعد و عدل فيما حكم و ندعو إلى توحيد الرب و اليقين بالوعد و الوعيد و أداء الفرائض

و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الولاية لأهل ولاية الله و العداوة و لأعداء الله أيها الناس إن من رحمة الله أن جعل في كل

فترة بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى و يصبرون على الألم في جنب الله و يقتلون على الحق في سالف الأيام شهداء فما

نسيهم ربهم و ما كان ربك نسيا أوصيكم بتقوى الله و حسن القيام على ما وكلتم بالقيام عليه و قابلوا الله حسنا في أمره و زجره

أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم. قال و أقام عبد الله بن يحيى بصنعاء أشهرا يحسن السيرة في الناس و يلين جانبه لهم و

يكف الأذى عنهم و كثر جمعه و أتته الشراة من كل جانب فلما كان في وقت الحج وجه أبا حمزة المختار بن عوف و بلج بن عقبة و

أبرهة بن الصباح إلى مكة و الأمير عليهم أبو حمزة في ألف و أمره أن يقيم بمكة إذا صدر الناس و يوجه بلجا إلى الشام فأقبل

المختار إلى مكة يوم التروية و عليها و على المدينة عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك في خلافة مروان بن محمد بن مروان و أم

عبد الواحد بنت عبد الله بن خالد بن أسيد فكره عبد الواحد قتالهم و فزع الناس منهم حين رأوهم و قد طلعوا عليهم بعرفة و معهم

أعلام سود في رءوس الرماح و قالوا لهم ما لكم و ما حالكم فأخبروهم بخلافهم مروان و آل مروان و التبري منهم فراسلهم عبد

الواحد في ألا يعطلوا على الناس حجتهم فقال أبو حمزة نحن بحجنا أضن و عليه أشح فصالحهم على أنهم جميعا آمنون بعضهم من

بعض حتى ينفر الناس النفر الأخير و أصبحوا من الغد و وقفوا بحيال عبد الواحد بعرفة و دفع عبد الواحد بالناس فلما كانوا بمنى

قيل لعبد الواحد قد أخطأت فيهم و لو حملت عليهم الحاج ما كانوا إلا أكلة رأس.

[5 : 109 ]

و بعث عبد الواحد إلى أبي حمزة عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب و محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان و عبد

الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر و عبيد الله بن عمر بن حفص العمري و ربيعة بن عبد الرحمن و رجالا أمثالهم فلما قربوا من

أبي حمزة أخذتهم مسالحه فأدخلوا على أبي حمزة فوجدوه جالسا و عليه إزار قطري قد ربطه بحوره في قفاه فلما دنوا تقدم إليه عبد

الله بن الحسن العلوي و محمد بن عبد الله العثماني فنسبهما فلما انتسبا له عبس في وجوههما و أظهر الكراهية لهما ثم تقدم إليه

بعدهما البكري و العمري فنسبهما فانتسبا له فهش إليهما و تبسم في وجوههما و قال و الله ما خرجنا إلا لنسير سيرة أبويكما فقال

له عبد الله بن حسن و الله ما جئناك لتفاخر بين آبائنا و لكن الأمير بعثنا إليك برسالة و هذا ربيعة يخبركها فلما أخبره ربيعة قال له

إن الأمير يخاف نقض العهد قال معاذ الله أن ننقض العهد أو نخيس به و الله لا أفعل و لو قطعت رقبتي هذه و لكن إلى أن تنقضي

الهدنة بيننا و بينكم. فخرجوا من عنده فأبلغوا عبد الواحد فلما كان النفر الأخير نفر عبد الواحد و خلى مكة لأبي حمزة فدخل بغير

قتال فقال بعض الشعراء يهجو عبد الواحد

زار الحجيج عصابة قد خالفوا دين الإله ففر عبد الواحد

ترك الإمارة و المواسم هاربا و مضى يخبط كالبعير الشارد

فلو أن والده تخير أمه لصفت خلائقه بعرق الوالد

[5 : 110 ]

ثم مضى عبد الواحد حتى دخل المدينة و دعا بالديوان فضرب على الناس البعث و زادهم في العطاء عشرة عشرة و استعمل على

الجيش عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان فخرجوا فلقيتهم جزر منحورة فتشاءم الناس بها فلما كانوا بالعقيق علق

لواء عبد العزيز بسمرة فانكسر الرمح فتشاءموا بذلك أيضا. ثم ساروا حتى نزلوا قديدا فنزل بها قوم معتزلون ليسوا بأصحاب حرب

و أكثرهم تجار أغمار قد خرجوا في المصبغات و الثياب الناعمة و اللهو لا يظنون أن للخوارج شوكة و لا يشكون في أنهم في

أيديهم. و قال رجل منهم من قريش لو شاء أهل الطائف لكفونا أمر هؤلاء و لكنهم داهنوا في دين الله و الله لنظفرن و لنسيرن إلى

أهل الطائف فلنسبينهم ثم قال من يشتري مني من سبي أهل الطائف. قال أبو الفرج فكان هذا الرجل أول المنهزمين فلما وصل

المدينة و دخل داره أراد أن يقول لجاريته أغلقي الباب قال لها غاق باق دهشا فلقبه أهل المدينة بعد ذلك غاق باق و لم تفهم الجارية

قوله حتى أومأ إليها بيده فأغلقت الباب. قال و كان عبد العزيز يعرض الجيش بذي الحليفة فمر به أمية بن عنبسة بن سعيد بن العاص

فرحب به و ضحك إليه ثم مر به عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير فلم يكلمه و لم يلتفت إليه فقال له عمران بن عبد الله بن مطيع و

كان ابن خالته أما هما ابنتا عبد الله بن خالد بن أسيد سبحان الله مر بك شيخ من شيوخ قريش فلم تنظر

[5 : 111 ]

إليه و لم تكلمه و مر بك غلام من بني أمية فضحكت إليه و لاطفته أما و الله لو التقى الجمعان لعلمت أيهما أصبر. قال فكان أمية بن

عنبة أول من انهزم و ركب فرسه و مضى و قال لغلامه يا مجيب أما و الله لئن أحرزت هذه الأكلب من بني الشراة إني لعاجز. و أما عمارة

بن حمزة بن مصعب بن الزبير فقاتل يومئذ حتى قتل و كان يحمل و يتمثل

و إني إذا ضن الأمير بإذنه على الإذن من نفسي إذا شئت قادر

و الشعر للأغر بن حماد اليشكري. قال فلما بلغ أبا حمزة إقبال أهل المدينة إليه استخلف على مكة أبرهة بن الصباح و شخص إليهم

و على مقدمته بلج بن عقبة. فلما كان في الليلة التي وافاهم في صبيحتها و أهل المدينة نزول بقديد قال لأصحابه إنكم ملاقو القوم

غدا و أميرهم فيما بلغني ابن عثمان أول من خالف سنة الخلفاء و بدل سنة رسول الله ص و قد وضح الصبح لذي عينين فأكثروا ذكر

الله و تلاوة القرآن و وطنوا أنفسكم على الموت و صبحهم غداة الخميس لتسع خلون من صفر سنة ثلاثين و مائة. قال أبو الفرج و

قال عبد العزيز لغلامه في تلك الليلة ابغنا علفا قال هو غال فقال ويحك البواكي علينا غدا أغلى و أرسل أبو حمزة إليهم بلج بن عتبة

ليدعوهم فأتاهم في ثلاثين راكبا فذكرهم الله و سألهم أن يكفوا عنهم و قال لهم خلوا سبيلنا إلى الشام لنسير

[5 : 112 ]

إلى من ظلمكم و جار في الحكم عليكم و لا تجعلوا حدنا بكم فإنا لا نريد قتالكم فشتمهم أهل المدينة و قالوا يا أعداء الله أ نحن

نخليكم و نترككم تفسدون في الأرض. فقالت الخوارج يا أعداء الله أ نحن نفسد في الأرض إنما خرجنا لنكف الفساد و نقاتل من

قاتلنا منكم و استأثر بالفيء فانظروا لأنفسكم و اخلعوا من لم يجعل الله له طاعة فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فادخلوا

في السلم و عاونوا أهل الحق. فناداه عبد العزيز ما تقول في عثمان قال قد برئ منه المسلمون قبلي و إنا متبع آثارهم و مقتد بهم قال

ارجع إلى أصحابك فليس بيننا و بينكم إلا السيف فرجع إلى أبي حمزة فأخبره فقال كفوا عنهم و لا تقاتلوهم حتى يبدءوكم بالقتال

فواقفوهم و لم يقاتلوهم فرمى رجل من أهل المدينة بسهم في عسكر أبي حمزة فجرح منهم رجلا فقال أبو حمزة شأنكم الآن فقد حل

قتالهم فحملوا عليهم فثبت بعضهم لبعض و راية قريش مع إبراهيم بن عبد الله بن مطيع ثم انكشف أهل المدينة فلم يتبعوهم و

كان على عامتهم صخر بن الجهم بن حذيفة العدوي فكبر و كبر الناس معه فقاتلوا قليلا ثم انهزموا فلم يبعدوا حتى كبر ثانية فثبت

معه ناس و قاتلوا ثم انهزموا هزيمة لم يبق بعدها منهم باقية فقال علي بن الحصين لأبي حمزة اتبع آثار القوم أو دعني أتبعهم فأقتل

المدبر و أذفف على الجريح فإن هؤلاء شر علينا من أهل الشام و لو قد جاءك أهل الشام غدا لرأيت من هؤلاء ما تكره قال لا أفعل و لا

أخالف سيرة أسلافنا. و أخذ جماعة منهم أسرا و أراد إطلاقهم فمنعه علي بن الحصين و قال إن لكل

[5 : 113 ]

زمان سيرة و هؤلاء لم يؤسروا و هم هراب و إنما أسروا و هم يقاتلون و لو قتلوا في ذلك الوقت لم يحرم قتلهم فهكذا الآن قتلهم

حلال و دعا بهم فكان إذا رأى رجلا من قريش قتله و إذا رأى رجلا من الأنصار أطلقه. قال أبو الفرج و ذلك لأن قريشا كانوا أكثر

الجيش و بهم كانت الشوكة و أتى محمد بن عبد العزيز بن عمرو بن عثمان فنسبه فقال أنا رجل من الأنصار فسأل الأنصار فأقرت

بذلك فأطلقه فلما ولى قال و الله إني لأعلم أنه قرشي و لكن قد أطلقته. قال و قد بلغت قتلى قديد ألفين و مائتين و ثلاثين رجلا منهم

من قريش أربعمائة و خمسون رجلا و من الأنصار ثمانون رجلا و من الموالي و سائر الناس ألف و سبعمائة رجل. قال و كان في قتلى

قريش من بني أسد بن عبد العزى بن قصي أربعون رجلا. قال و قتل يومئذ أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان خرج مقنعا فلم يكلم

أحدا و قاتل حتى قتل و دخل بلج المدينة بغير حرب فدخلوا في طاعته و كف عنهم و رجع إلى ملكه و كان على شرطته أبو بكر بن عبد

الله بن عمر من آل سراقة فكان أهل المدينة يقولون لعن الله السراقي و لعن الله بلجا العراقي و قالت نائحة أهل المدينة تبكيهم

ما للزمان و ما ليه أفنت قديد رجاليه

فلأبكين سريرة و لأبكين علانية

و لأبكين على قديد بسوء ما أولانيه

و لأعوين إذا خلوت مع الكلاب العاوية

[5 : 114 ]

أبو حمزة الشاري

قال أبو الفرج و لما سار عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك إلى الشام و خلف المدينة لبلج أقبل أبو حمزة من مكة حتى دخلها

فرقي المنبر فحمد الله و قال يا أهل المدينة سألناكم عن ولاتكم هؤلاء فأسأتم لعمري و الله القول فيهم و سألناكم هل يقتلون

بالظن فقلتم نعم و سألناكم هل يستحلون المال الحرام و الفرج الحرام فقلتم نعم فقلنا لكم تعالوا نحن و أنتم فأنشدوا الله وحده

أن يتنحوا عنا و عنكم ليختار المسلمون لأنفسهم فقلتم لا نفعل فقلنا لكم تعالوا نحن و أنتم نلقاهم فإن نظهر نحن و أنتم يأت من

يقيم لنا كتاب الله و سنة نبيه و يعدل في أحكامكم و يحملكم على سنة نبيكم فأبيتم و قاتلتمونا فقاتلناكم و قتلناكم فأبعدكم الله و

أسحقكم يا أهل المدينة مررت بكم في زمن الأحول هشام بن عبد الملك و قد أصابتكم عاهة في ثماركم فركبتم إليه تسألونه أن يضع

خراجكم عنكم فكتب بوضعه عن قوم من ذوي اليسار منكم فزاد الغني غنى و الفقير فقرا و قلتم جزاه الله خيرا فلا جزاه خيرا و لا

جزاكم. قال أبو الفرج فأما خطبتا أبي حمزة المشهورتان اللتان خطب بهما في المدينة فإن إحداهما قوله تعلمون يا أهل المدينة أنا

لم نخرج من ديارنا و أموالنا أشرا و لا بطرا و لا عبثا و لا لهوا و لا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه و لا لثأر قديم نيل منا و لكنا لما

رأينا مصابيح الحق قد أطفئت و معالم العدل قد عطلت و عنف القائم بالحق و قتل القائم بالقسط ضاقت علينا الأرض بما رحبت و

سمعنا داعيا يدعو إلى طاعة الرحمن و حكم القرآن فأجبنا داعي الله وَ مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِز فِي الْأَرْضِ

السابق

التالي