السابق

التالي

[5 : 162 ]

و هي المسماة بجهنم و يكون الاضطرام مقدار ألف و أربعمائة سنة فتحلل بتلك النار تلك الأجزاء المنعقدة من النور الممتزجة

بأجزاء الظلمة التي عجز الشمس و القمر عن استقصائها فيرتفع إلى عالم الأنوار و يبطل العالم حينئذ و يعود النور كله إلى حالة

الأولى قبل الامتزاج فكذلك الظلمة. القول الخامس قول متكلمي الإسلام و هو على وجوه أولها قول جمهور أصحابنا إن الله تعالى

إنما خلق العالم للإحسان إليهم و الإنعام على الحيوان لأن خلقه حيا نعمة عليه لأن حقيقة النعمة موجودة فيه و ذلك أن النعمة هي

المنفعة المفعولة للإحسان و وجود الجسم حيا منفعة مفعولة للإحسان أما بيان كون ذلك منفعة فلأن المنفعة هي اللذة و السرور و

دفع المضار المخوفة و ما أدى إلى ذلك و صححه أ لا ترى أن من أشرف على أن يهوى من جبل فمنعه بعض الناس من ذلك فإنه يكون

منعما عليه و من سر غيره بأمر و أوصل إليه لذة يكون قد أنعم عليه و من دفع إلى غيره مالا يكون قد أنعم عليه لأنه قد مكنه بدفعه

إليه من الانتفاع و صححه له و لا ريب أن وجودنا أحياء يصحح لنا اللذات و يمكننا منها لأنا لو لم نكن أحياء لم يصح ذلك فينا قالوا

و إنما قلنا إن هذه المنفعة مفعولة للإحسان لأنها إما أن تكون مفعولة لا لغرض أو لغرض و الأول باطل لأن ما يفعل لا لغرض عبث و

البارئ سبحانه لا يصح أن تكون أفعاله عبثا لأنه حكيم. و أما الثاني فإما أن يكون ذلك الغرض عائدا عليه سبحانه بنفع أو دفع ضرر

أو يعود على غيره و الأول باطل لأنه غني لذاته يستحيل عليه المنافع و المضار و لا يجوز أن يفعله لمضرة يوصلها إلى غيره لأن

القصد إلى الإضرار بالحيوان من غير استحقاق و لا منفعة يوصل إليها بالمضرة قبيح تعالى الله عنه فثبت أنه سبحانه إنما خلق

الحيوان

[5 : 163 ]

لنفعه و أما غير الحيوان فلو لم يفعله لينفع به الحيوان لكان خلقه عبثا و البارئ تعالى لا يجوز عليه العبث فإذا جميع ما في العالم

إنما خلقه لينفع به الحيوان. فهذا هو الكلام في علة خلق العالم عندهم و أما الكلام في وجه حسن تكليف الإنسان فذاك مقام آخر

لسنا الآن في بيانه و لا الحاجة داعية إليه. و ثانيها قول قوم من أصحابنا البغداديين إنه خلق الخلق ليظهر به لأرباب العقول صفاته

الحميدة و قدرته على كل ممكن و علمه بكل معلوم و ما يستحقه من الثناء و الحمد قالوا

و قد ورد الخبر أنه تعالى قال كنت كنزا لا أعرف فأحببت أن أعرف

و هذا القول ليس بعيدا. و ثالثها للمجبرة إنه خلق الخلق لا لغرض أصلا و لا يقال لم كان كل شيء لعلة و لا علة لفعله و مذهب

الأشعري و أصحابه أن إرادته القديمة تعلقت بإيجاد العالم في الحال التي وجد فيها لذاتها و لا لغرض و لا لداع و ما كان يجوز ألا

يوجد العالم حيث وجد لأن الإرادة القديمة لا يجوز أن تتقلب و تتغير حقيقتها و كذلك القول عندهم في أجزاء العالم المجددة من

الحركات و السكنات و الأجسام و سائر الأعراض. و رابعها قول بعض المتكلمين إن البارئ تعالى إنما فعل العالم لأنه ملتذ بأن يفعل

و أجاز أرباب هذا القول عليه اللذة و السرور و الابتهاج قالوا و البارئ سبحانه و إن كان قبل أن يخلق العالم ملتذا بكونه قادرا على

خلق العالم إلا أن لذة الفعل أقوى من لذة القدرة على الفعل كان يلتذ بأنه قادر على أن يكتب خطا مستحسنا أو يبنى بيتا محكما فإنه

إذا أخرج تلك الصناعة من القوة إلى الفعل كانت لذته أتم و أعظم قالوا و لم يثبت بالدليل العقلي استحالة اللذة عليه و قد ورد في

الآثار النبوية أن الله تعالى يسر و اتفقت الفلاسفة على أنه ملتذ بذاته و كماله.

[5 : 164 ]

و عندي في هذا القول نظر و لي في اللذة و الألم رسالة مفردة و أما قوله لم يحلل في الأشياء فيقال لا هو فيها كائن و لا منها مباين

فينبغي أن يحمل على أنه أراد أنه لم ينأ عن الأشياء نأيا مكانيا فيقال هو بائن بالمكان هكذا ينبغي أن يكون مراده لأنه لا يجوز

إطلاق القول بأنه ليس ببائن عن الأشياء و كيف و المجرد بالضرورة بائن عن ذي الوضع و لكنها بينونة بالذات لا بالجهة و

المسلمون كلهم متفقون على أنه تعالى يستحيل أن يحل في شيء إلا من اعتزى إلى الإسلام من الحلولية كالذين قالوا بحلوله في

علي و ولده و كالذين قالوا بحلوله في أشخاص يعتقدون فيها إظهاره كالحلاجية و غيرهم و الدليل على استحالة حلوله سبحانه في

الأجسام أنه لو صح أن يحل فيها لم يعقل منفردا بنفسه أبدا كما أن السواد لا يعقل كونه غير حال في الجسم لأنه لو يعقل غير حال

في الجسم لم يكن سوادا و لا يجوز أن يكون الله تعالى حالا أبدا و لا أن يلاقي الجسم إذ ذلك يستلزم قدم الأجسام و قد ثبت أنها

حادثة. فأما قوله لم يؤده خلق ما ابتدأ إلى قوله عما خلق فهو حق لأنه تعالى قادر لذاته و القادر لذاته لا يتعب و لا يعجز لأنه ليس

بجسم و لا قادر بقدرة يقف مقدورها عند حد و غاية بل إنما يقدر على شيء لأنه تعالى ذات مخصوصة يجب لها أن تقدر على الممكنات

فيكون كل ممكن داخلا تحت هذه القضية الكلية و الذات التي تكون هكذا لا تعجز و لا تقف مقدوراتها عند حد و غاية أصلا و يستحيل

عليها التعب لأنها ليست ذات أعضاء و أجزاء. و أما قوله و لا ولجت عليه شبهة إلى قوله و أمر مبرم فحق لأنه تعالى عالم لذاته أي

إنما علم ما علمه لا بمعنى أن يتعلق بمعلوم دون معلوم بل إنما علم أي شيء أشرت إليه لأنه ذات مخصوصة و نسبة تلك الذات إلى

غير ذلك الشيء المشار إليه

[5 : 165 ]

كنسبتها إلى المشار إليه فكانت عالمة بكل معلوم و استحال دخول الشبهة عليها فيما يقضيه و يقدره. و أما قوله المأمول مع النقم

المرهوب مع النعم فمعنى لطيف و إليه وقعت الإشارة بقوله تعالى أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَ هُمْ نائِمُونَ أَ وَ أَمِنَ

أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَ هُمْ يَلْعَبُونَ و قوله سبحانه سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ و قوله تعالى فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ

يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً و قوله سبحانه فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً و إليه نظر الشاعر في قوله

من عاش لاقى ما يسوء من الأمور و ما يسر

و لرب حتف فوقه ذهب و ياقوت و در

و قال البحتري

يسرك الشيء قد يسوء و كم نوه يوما بخامل لقبه

لا ييئس المرء أن ينجيه ما يحسب الناس أنه عطبه

و قال آخر

رب غم يدب تحت سرور و سرور يأتي من المحذور

و قال سعيد بن حميد

كم نعمة مطوية لك بين أثناء النوائب

[5 : 166 ]

و مسرة قد أقبلت من حيث تنتظر المصائب

و قال آخر

أنتظر الروح و أسبابه أيأس ما كنت من الروح

و قال آخر

ربما تجزع النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال

و قال آخر

العسر أكرمه ليسر بعده و لأجل عين ألف عين تكرم

و المرء يكره يومه و لعله يأتيه فيه سعادة لا تعلم

و قال الحلاج

و لربما هاج الكبير من الأمور لك الصغير

و لرب أمر قد تضيق به الصدور و لا يصير

و قال آخر

يا راقد الليل مسرورا بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

و قال آخر

كم مرة حفت بك المكاره خار لك الله و أنت كاره

و من شعري الذي أناجي به البارئ سبحانه في خلواتي و هو فن أطويه و أكتمه عن الناس و إنما ذكرت بعضه في هذا الموضع لأن

المعنى ساق إليه و الحديث ذو شجون

يا من جفاني فوجدي بعده عدم هبني أسأت فأين العفو و الكرم

[5 : 167 ]

أنا المرابط دون الناس فاجف و صل و اقبل و عاقب و حاسب لست انهزم

إن المحب إذا صحت محبته فما لوقع المواضي عنده ألم

و حق فضلك ما استيأست من نعم تسري إلي و إن حلت بي النقم

و لا أمنت نكالا منك أرهبه و إن ترادفت الآلاء و النعم

حاشاك تعرض عمن في حشاشته نار لحبك طول الدهر تضطرم

أ لم تقل إن من يدنو إلي قدر الذراع أدنو له باعا و أبتسم

و الله و الله لو عاقبتني حقبا بالنار تأكلني حطما و تلتهم

ما حلت عن حبك الباقي فليس على حال بمنصرم و الدهر ينصرم

[5 : 168 ]

65- و من كلام له ع كان يقوله لأصحابه في بعض أيام صفين

مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَشْعِرُوا الْخَشْيَةَ وَ تَجَلْبَبُوا السَّكِينَةَ وَ عَضُّوا عَلَى النَّوَاجِذِ فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ الْهَامِ وَ أَكْمِلُوا اللَّامَةَ وَ قَلْقِلُوا

السُّيُوفَ فِي أَغْمَادِهَا قَبْلَ سَلِّهَا وَ الْحَظُوا الْخَزْرَ وَ اطْعُنُوا الشَّزْرَ وَ نَافِحُوا بِالظُّبَى وَ صِلُوا السُّيُوفَ بِالْخُطَا وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِعَيْنِ اللَّهِ وَ

مَعَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ فَعَاوِدُوا الْكَرَّ وَ اسْتَحْيُوا مِنَ الْفَرِّ فَإِنَّهُ عَارٌ فِي الْأَعْقَابِ وَ نَارٌ يَوْمَ الْحِسَابِ وَ طِيبُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ نَفْساً وَ امْشُوا

إِلَى الْمَوْتِ مَشْياً سُجُحاً وَ عَلَيْكُمْ بِهَذَا السَّوَادِ الْأَعْظَمِ وَ الرِّوَاقِ الْمُطَنَّبِ فَاضْرِبُوا ثَبَجَهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ كَامِنٌ فِي كِسْرِهِ وَ قَدْ قَدَّمَ لِلْوَثْبَةِ

يَداً وَ أَخَّرَ لِلنُّكُوصِ رَجُلًا فَصَمْداً صَمْداً حَتَّى يَنْجَلِيَ لَكُمْ عَمُودُ الْحَقِّ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللَّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ

قوله استشعروا الخشية أي اجعلوا الخوف من الله تعالى من شعاركم و الشعار من الثياب ما يكون دون الدثار و هو يلي الجلد و هو

ألصق ثياب الجسد و هذه استعارة حسنة و المراد بذلك أمرهم بملازمة الخشية و التقوى كما أن الجلد يلازم الشعار.

[5 : 169 ]

قوله و تجلببوا السكينة أي اجعلوا السكينة و الحلم و الوقار جلبابا لكم و الجلباب الثوب المشتمل على البدن. قوله و عضوا على

النواجذ جمع ناجذ و هو أقصى الأضراس و للإنسان أربعة نواجذ في كل شق و النواجذ بعد الأرحاء و يسمى الناجذ ضرس الحلم لأنه

ينبت بعد البلوغ و كمال العقل و يقال إن العاض على نواجذه ينبو السيف عن هامته نبوا ما و هذا مما يساعد التعليل الطبيعي عليه

و ذلك أنه إذا عض على نواجذه تصلبت الأعصاب و العضلات المتصلة بدماغه و زال عنها الاسترخاء فكانت على مقاومة السيف أقدر و

كان تأثير السيف فيها أقل. و قوله فإنه أنبى الضمير راجع إلى المصدر الذي دل الفعل عليه تقديره فإن العض أنبى كقولهم من فعل

خيرا كان له خيرا أي كان فعله خيرا و أنبى أفعل من نبا السيف إذا لم يقطع. قال الراوندي هذا كلام ليس على حقيقته بل هو كناية

عن الأمر بتسكين القلب و ترك اضطرابه و استيلاء الرعدة عليه إلى أن قال ذلك أشد إبعادا لسيف العدو عن هامتكم. قوله و أكملوا

اللأمة اللأمة بالهمزة الدرع و الهمزة ساكنة على فعلة مثل النأمة للصوت و إكمالها أن يزاد عليها البيضة و السواعد و نحوها و يجوز

أن يعبر باللأمة عن جميع أداة الحرب كالدرع و الرمح و السيف يريد أكملوا السلاح الذي تحاربون العدو به. قوله و قلقلوا

السيوف في أغمادها قبل سلها يوم الحرب لئلا يدوم مكثها في الأجفان فتلحج فيها فيستصعب سلها وقت الحاجة إليها. و قوله و

الحظوا الخزر الخزر أن ينظر الإنسان بعينه و كأنه ينظر بمؤخرها و هي أمارة الغضب و الذي أعرفه الخزر بالتحريك قال الشاعر

[5 : 170 ]

إذا تخازرت و ما بي من خزر ثم كسرت العين و ما بي من عور

ألفيتني ألوى بعيد المستمر أحمل ما حملت من خير و شر

فإن كان قد جاء مسكنا فتسكينه جائز للسجعة الثانية و هي قوله و اطعنوا الشزر و الطعن شزرا هو الطعن عن اليمين و الشمال و لا

يسمى الطعن تجاه الإنسان شزرا و أكثر ما تستعمل لفظة الشزر في الطعن لما كان عن اليمين خاصة و كذلك إدارة الرحى و خزرا و

شزرا صفتان لمصدرين محذوفين تقديره الحظوا لحظا خزرا و اطعنوا طعنا شزرا و عين اطعنوا مضمومة يقال طعنت بالرمح اطعن

بالضم و طعنت في نسبه أطعن بالفتح أي قدحت قال

يطوف بي عكب في معد و يطعن بالصملة في قفيا

قوله نافحوا بالظبى أي ضاربوا نفحة بالسيف أي ضربة و نفحت الناقة برجلها أي ضربت و الظبى جمع ظبة و هي طرف السيف. قوله

و صلوا السيوف بالخطا مثل قول الشاعر

إذا قصرت أسيافنا كان وصلها خطانا إلى أعدائنا فنضارب

قالوا بكسر نضارب لأنه معطوف على موضع جزاء الشرط الذي هو إذا. و قال آخر

نصل السيوف إذا قصرن بخطونا يوما و نلحقها إذا لم تلحق

و أنشدني شيخنا أبو القاسم الحسين بن عبد الله العكبري و لم يسم قائله و وجدته بعد لنابغة بني الحارث بن كعب

إن تسألي عنا سمي فإنه يسمو إلى قحم العلا أدنانا

[5 : 171 ]

و تبيت جارتنا حصانا عفة ترضى و يأخذ حقه مولانا

و نقوم إن رق المنون بسحرة لوصاة والدنا الذي أوصانا

ألا نفر إذا الكتيبة أقبلت حتى تدور رحاهم و رحانا

و تعيش في أحلامنا أشياخنا مردا و ما وصل الوجوه لحانا

و إذا السيوف قصرن طولها لنا حتى تناول ما نريد خطانا

و قال حميد بن ثور الهلالي

إلى أن نزلنا بالفضاء و ما لنا به معقل إلا الرماح الشواجر

و وصل الخطا بالسيف و السيف بالخطا إذا ظن أن المرء ذا السيف قاصر

و هذه الأبيات من قطعة لحميد جيدة و من جملتها

قضى الله في بعض المكاره للفتى برشد و في بعض الهوى ما يحاذر

أ لم تعلمي أني إذا الإلف قادني إلى الجور لا انقاد و الإلف جائر

و قد كنت في بعض الصباوة أتقي أمورا و أخشى أن تدور الدوائر

و أعلم أني أن تغطيت مرة من الدهر مكشوف غطائي فناظر

و من المعنى الذي نحن في ذكره ما روي أن رجلا من الأزد رفع إلى المهلب سيفا له فقال يا عم كيف ترى سيفي هذا فقال إنه لجيد لو لا

أنه قصير قال أطوله يا عم بخطوتي فقال و الله يا ابن أخي أن المشي إلى الصين أو إلى آذربيجان على أنياب الأفاعي أسهل من تلك

الخطوة و لم يقل المهلب ذلك جبنا بل قال ما توجبه الصورة إذ كانت

[5 : 172 ]

تلك الخطوة قريبة للموت قال أبو سعد المخزومي في هذا المعنى

رب نار رفعتها و دجى الليل على الأرض مسبل الطيلسان

و أمون نحرتها لضيوف و ألوف نقدتهن لجاني

و حروب شهدتها جامع القلب فلم تنكر الكمأة مكاني

و إذا ما الحسام كان قصيرا طولته إلى العدو بناني

من الناس من يرويها في ديوانه لجاني بالجيم أي حملت الحمالة عنه و منهم من يرويها بالحاء يعني الخمار. و من المعنى المذكور

أولا قول بعض الشعراء يمدح صخر بن عمرو بن الشريد الأسلمي

إن ابن عمرو بن الشريد له فخار لا يرام

و حجا إذا عدم الحجا و ندى إذا بخل الغمام

يصل الحسام بخطوة في الروع إن قصر الحسام

و مثله قول الراجز

يخطو إذا ما قصر العضب الذكر خطوا ترى منه المنايا تبتدر

و مثله

و إنا لقوم ما نرى القتل سبة إذا ما رأته عامر و سلول

يقصر ذكر الموت آجالنا لنا و تكرهه آجالهم فتطول

و منها

و إن قصرت أسيافنا كان وصلها خطانا إلى أعدائنا فتطول

[5 : 173 ]

و مثله قول وداك بن ثميل المازني

مقاديم وصالون في الروع خطوهم بكل رقيق الشفرتين يماني

إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم لأية حرب أم بأي مكان

و قال آخر

إذا الكمأة تنحوا أن يصيبهم حد السيوف وصلناها بأيدينا

و قال آخر

وصلنا الرقاق المرهفات بخطونا على الهول حتى أمكنتنا المضارب

و قال بعض الرجاز

الطاعنون في النحور و الكلى و الواصلون للسيوف بالخطا

قوله ع و اعلموا أنكم بعين الله أي يراكم و يعلم أعمالكم و الباء هاهنا كالباء في قوله أنت بمرأى مني و مسمع. قوله فعاودوا الكر

أي إذا كررتم على العدو كره فلا تقتصروا عليها بل كروا كرة أخرى بعدها ثم قال لهم و استحيوا من الفرار فإنه عار في الأعقاب أي في

الأولاد فإن الأبناء يعيرون بفرار الآباء و يجوز أن يريد بالأعقاب جمع عقب و هو العاقبة و ما يئول إليه الأمر قال سبحانه خَيْرٌ ثَواباً

وَ خَيْرٌ عُقْباً أي خير عاقبة فيعنى على هذا الوجه أن الفرار عار في عاقبة أمركم و ما يتحدث به الناس في مستقبل الزمان عنكم. ثم قال

و نار يوم الحساب لأن الفرار من الزحف ذنب عظيم و هو عند

[5 : 174 ]

أصحابنا المعتزلة من الكبائر قال الله تعالى وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذ دُبُرَهُ إِلّا مُتَحَرِّفاً لِقِتال أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَة فَقَدْ باءَ بِغَضَب مِنَ اللّهِ

وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ و الجهاد بين يدي الإمام كالجهاد بين يدي الرسول ع. قوله ع و طيبوا عن أنفسكم نفسا لما نصب نفسا على التمييز

وحده لأن التمييز لا يكون إلا واحدا و إن كان في معنى الجمع تقول انعموا بالا و لا تضيقوا ذرعا و أبقى الأنفس على جمعها لما لم

يكن به حاجة إلى توحيدها يقول وطنوا أنفسكم على الموت و لا تكرهوه و هونوه عليكم تقول طبت عن مالي نفسا إذا هونت ذهابه.

و قوله و امشوا إلى الموت مشيا سجحا أي سهلا و السجاحة السهولة يقال في أخلاق فلان سجاحة و من رواه سمحا أراد سهلا أيضا.

و السواد الأعظم يعني به جمهور أهل الشام. قوله و الرواق المطنب يريد به مضرب معاوية ذا الأطناب و كان معاوية في مضرب عليه

قبة عالية و حوله صناديد أهل الشام و ثبجه وسطه و ثبج الإنسان ما بين كاهله إلى ظهره. و الكسر جانب الخباء و قوله فإن

الشيطان كامن في كسره يحتمل وجهين أحدهما أن يعنى به الشيطان الحقيقي و هو إبليس و الثاني أن يعنى به معاوية و الثاني هو

الأظهر للقرينة التي تؤيده و هي قوله قد قدم للوثبة يدا و أخر للنكوص رجلا أي إن جبنتم وثب و إن شجعتم نكص أي تأخر و فر و من

حمله على الوجه الأول جعله من باب المجاز أي إن إبليس كالإنسان الذي يعتوره دواع مختلفة بحسب المتجددات فإن أنتم صدقتم

عدوكم القتال فر عنكم بفرار عدوكم و إن تخاذلتم و تواكلتم طمع فيكم بطمعه و أقدم عليكم بإقدامه.

[5 : 175 ]

و قوله ع فصمدا صمدا أي اصمدوا صمدا صمدا صمدت لفلان أي قصدت له. و قوله حتى ينجلي لكم عمود الحق أي يسطع نوره و

ضوءه و هذا من باب الاستعارة و الواو في قوله و أنتم الأعلون واو الحال. و لن يتركم أعمالكم أي لن ينقصكم و هاهنا مضاف محذوف

تقديره جزاء أعمالكم و هو من كلام الله تعالى رصع به خطبته ع. و هذا الكلام خطب به أمير المؤمنين ع في اليوم الذي كانت عشيته

ليلة الهرير في كثير من الروايات. و في رواية نصر بن مزاحم أنه خطب به في أول أيام اللقاء و الحرب بصفين و ذلك في صفر من سنة

سبع و ثلاثين.

من أخبار يوم صفين

قال نصر كان علي ع يركب بغلة له يستلذها قبل أن يلتقي الفئتان بصفين فلما حضرت الحرب و بات تلك الليلة يعبئ الكتائب حتى

أصبح قال ائتوني بفرس فأتي بفرس له ذنوب أدهم يقاد بشطنين يبحث الأرض بيديه جميعا له حمحمة

[5 : 176 ]

و صهيل فركبه و قال سبحان الذي سخر لنا هذا و ما كنا له مقرنين لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر الجعفي قال كان علي ع إذا سار إلى قتال ذكر اسم الله قبل أن يركب كان يقول الحمد لله

على نعمه علينا و فضله سبحان الذي سخر لنا هذا و ما كنا له مقرنين و إنا إلى ربنا لمنقلبون ثم يستقبل القبلة و يرفع يديه إلى

السماء و يقول اللهم إليك نقلت الأقدام و أتعبت الأبدان و أفضت القلوب و رفعت الأيدي و شخصت الأبصار رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ

قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ ثم يقول سيروا على بركة الله ثم يقول الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله الله أكبر يا الله يا أحد يا

صمد يا رب محمد اكفف عنا بأس الظالمين الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد و إياك نستعين بسم

الله الرحمن الرحيم و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم قال و كانت هذه الكلمات شعاره بصفين

قال و روى سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة قال ما كان علي ع في قتال إلا نادى يا كهيعص

قال نصر و حدثنا قيس بن الربيع عن عبد الواحد بن حسان العجلي عمن حدثه أنه سمع عليا ع يقول يوم لقائه أهل الشام بصفين

اللهم إليك رفعت الأبصار و بسطت الأيدي و نقلت الأقدام و دعت الألسن و أفضت القلوب و تحوكم إليك في الأعمال فاحكم بيننا و

بينهم بالحق و أنت خير الفاتحين اللهم إنا نشكو إليك غيبة

[5 : 177 ]

نبينا و قلة عددنا و كثرة عدونا و تشتت أهوائنا و شدة الزمان و ظهور الفتن فأعنا على ذلك بفتح منك تعجله و نصر تعز به سلطان

الحق و تظهره

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن سلام بن سويد عن علي ع في قوله وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى قال هي لا إله إلا الله و في قوله الله

أكبر قال هي آية النصر

قال سلام كانت شعاره ع يقولها في الحرب ثم يحمل فيورد و الله من اتبعه و من حاده حياض الموت. قال نصر و حدثنا عمر بن سعد

عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه قال لما كان غداة الخميس لسبع خلون من صفر من سنة سبع و ثلاثين صلى علي ع الغداة فغلس ما

رأيت عليا غلس بالغداة أشد من تغليسه يومئذ و خرج بالناس إلى أهل الشام فزحف نحوهم و كان هو يبدؤهم فيسير إليهم فإذا رأوه

قد زحف استقبلوه بزحوفهم.

قال نصر فحدثني عمر بن سعد عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب قال لما خرج علي ع إليهم غداة ذلك اليوم فاستقبلوه رفع يديه إلى

السماء و قال اللهم رب هذا السقف المحفوظ المكفوف الذي جعلته محيطا بالليل و النهار و جعلت فيه مجرى الشمس و القمر و

منازل الكواكب و النجوم و جعلت سكانه سبطا من الملائكة لا يسأمون العبادة و رب هذه الأرض التي جعلتها قرارا للأنام و الهوام و

الأنعام و ما لا يحصى مما يرى و مما لا يرى من خلقك العظيم و رب الفلك التي تجري في البحر المحيط بما ينفع الناس و رب

السحاب المسخر بين السماء و الأرض و رب البحر

[5 : 178 ]

المسجور المحيط بالعالمين و رب الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتادا و للخلق متاعا إن أظهرتنا على عدونا فجنبنا البغي و

سددنا للحق و إن أظهرتهم علينا فارزقنا الشهادة و اعصم بقية أصحابي من الفتنة

قال فلما رأوه قد أقبل تقدموا إليه بزحوفهم و كان على ميمنته يومئذ عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي و على ميسرته عبد الله بن

العباس بن عبد المطلب و قراء العراق مع ثلاثة نفر عمار بن ياسر و قيس بن سعد بن عبادة و عبد الله بن بديل و الناس على راياتهم و

مراكزهم و علي ع في القلب في أهل المدينة جمهورهم الأنصار و معه من خزاعة و من كنانة عدد حسن. قال نصر و كان علي ع رجلا

ربعة أدعج العينين كان وجهه القمر ليلة البدر حسنا ضخم البطن عريض المسربة شثن الكفين ضخم الكسور كأن عنقه إبريق فضة

أصلع من خلفه شعر خفيف لمنكبه مشاش كمشاش الأسد الضاري إذا مشى تكفأ و مار به جسده و لظهره سنام كسنام الثور لا يبين

عضده من ساعده قد أدمجت إدماجا لم يمسك بذراع رجل قط إلا أمسك بنفسه فلم يستطع أن يتنفس و لونه إلى سمرة ما و هو أذلف

الأنف إذا مشى إلى الحرب هرول قد أيده الله تعالى في حروبه بالنصر و الظفر.

[5 : 179 ]

قال نصر و رفع معاوية قبة عظيمة و ألقى عليها الكرابيس و جلس تحتها. قال نصر و قد كان لهم قبل هذا اليوم أيام ثلاثة و هي

الرابع من صفر هذا و اليوم الخامس و اليوم السادس كانت فيها مناوشات و قتال ليس بذلك الكثير فأما اليوم الرابع فأن محمد بن

الحنفية ع خرج في جمع من أهل العراق فأخرج إليه معاوية عبيد الله بن عمر بن الخطاب في جمع من أهل الشام فاقتتلوا ثم إن

عبيد الله بن عمر أرسل إلى محمد بن الحنفية أن اخرج إلي أبارزك فقال نعم ثم خرج إليه فبصر بهما علي ع فقال من هذان

المتبارزان قيل محمد بن الحنفية و عبيد الله بن عمر فحرك دابته ثم دعا محمدا إليه فجاءه فقال أمسك دابتي فأمسكها فمشى راجلا

بيده سيفه نحو عبيد الله و قال له أنا أبارزك فهلم إلي فقال عبيد الله لا حاجة بي إلى مبارزتك قال بلى فهلم إلي قال لا أبارزك ثم

رجع إلى صفه فرجع علي ع فقال ابن الحنفية يا أبت لم منعتني من مبارزته فو الله لو تركتني لرجوت أن أقتله قال يا بني لو بارزته أنا

لقتلته و لو بارزته أنت لرجوت لك أن تقتله و ما كنت آمن أن يقتلك فقال يا أبت أ تبرز بنفسك إلى هذا الفاسق اللئيم عدو الله و الله

لو أبوه يسألك المبارزة لرغبت بك عنه فقال يا بني لا تذكر أباه و لا تقل فيه إلا خيرا رحم الله أباه. قال نصر و أما اليوم الخامس فإنه

خرج فيه عبد الله بن العباس فخرج إليه الوليد بن عقبة فأكثر من سب بني عبد المطلب و قال يا ابن عباس قطعتم

[5 : 180 ]

أرحامكم و قتلتم إمامكم فكيف رأيتم صنع الله بكم لم تعطوا ما طلبتم و لم تدركوا ما أملتم و الله إن شاء مهلككم و ناصرنا عليكم

فأرسل إليه عبد الله بن العباس أن ابرز إلي فأبى أن يفعل و قاتل ابن عباس ذلك اليوم قتالا شديدا ثم انصرفوا و كل غير غالب. قال

نصر و خرج في ذلك اليوم شمر بن أبرهة بن الصباح الحميري فلحق بعلي ع في ناس من قراء أهل الشام ففت ذلك في عضد معاوية و

عمرو بن العاص و قال عمرو يا معاوية إنك تريد أن تقاتل بأهل الشام رجلا له من محمد ص قرابة قريبة و رحم ماسة و قدم في الإسلام

لا يعتد أحد بمثله و حده في الحرب لم تكن لأحد من أصحاب محمد ص و إنه قد سار إليك بأصحاب محمد المعدودين و فرسانهم و

قرائهم و أشرافهم و قدمائهم في الإسلام و لهم في النفوس مهابة فبادر بأهل الشام مخاشن الأوعار و مضايق العياض و احملهم على

الجهد و ائتهم من باب الطمع قبل أن ترفههم فيحدث عندهم طول المقام مللا فتظهر فيهم ك آبة الخذلان و مهما نسيت فلا تنس أنك

على باطل و أن عليا على حق فبادر الأمر قبل اضطرابه عليك فقام معاوية في أهل الشام خطيبا فقال أيها الناس أعيرونا جماجمكم و

أنفسكم لا تقتتلوا و لا تتجادلوا فإن اليوم يوم خطار و يوم حقيقة و حفاظ إنكم لعلى حق و بأيديكم حجة إنما تقاتلون من نكث

البيعة و سفك الدم الحرام فليس له في السماء عاذر. قدموا أصحاب السلاح المستلئمة و أخروا الحاسر و احملوا بأجمعكم فقد بلغ

الحق مقطعه و إنما هو ظالم و مظلوم.

[5 : 181 ]

قال نصر و خطب علي ع أصحابه فيما حدثنا به عمر بن سعد عن أبي يحيى عن محمد بن طلحة عن أبي سنان عن أبيه قال كأني أنظر

إليه متوكئا على قوسه و قد جمع أصحاب رسول الله ص عنده فهم يلونه كأنه أحب أن يعلم الناس أن الصحابة متوافرون معه فحمد

الله و أثنى عليه و قال أما بعد فإن الخيلاء من التجبر و إن النخوة من التكبر و إن الشيطان عدو حاضر يعدكم الباطل ألا إن المسلم

أخو المسلم فلا تنابذوا و لا تخاذلوا ألا إن شرائع الدين واحدة و سبله قاصده من أخذ بها لحق و من فارقها محق و من تركها مرق ليس

المسلم بالخائن إذا اؤتمن و لا بالمخلف إذا وعد و لا بالكذاب إذا نطق نحن أهل بيت الرحمة و قولنا الصدق و فعلنا القصد و منا

خاتم النبيين و فينا قادة الإسلام و فينا حملة الكتاب ألا إنا ندعوكم إلى الله و إلى رسوله و إلى جهاد عدوه و الشدة في أمره و ابتغاء

مرضاته و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و حج البيت و صيام شهر رمضان و توفير الفيء على أهله ألا و إن من أعجب العجائب أن معاوية

بن أبي سفيان الأموي و عمرو بن العاص السهمي أصبحا يحرضان الناس على طلب الدين بزعمهما و لقد علمتم أني لم أخالف رسول

الله ص قط و لم أعصه في أمر أقيه بنفسي في المواطن التي ينكص فيها الأبطال و ترعد فيها الفرائص بنجدة أكرمني الله سبحانه بها

و له الحمد و لقد قبض رسول الله ص و إن رأسه لفي حجري و لقد وليت غسله بيدي وحدي تقلبه الملائكة المقربون معي و ايم الله

ما اختلفت أمة قط بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها إلا ما شاء الله

[5 : 182 ]

قال أبو سنان الأسلمي فأشهد لقد سمعت عمار بن ياسر يقول للناس أما أمير المؤمنين فقد أعلمكم أن الأمة لم تستقم عليه أولا و أنها

لن تستقيم عليه آخرا

قال ثم تفرق الناس و قد نفذت أبصارهم في قتال عدوهم فتأهبوا و استعدوا

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب أن عليا ع قال في هذه الليلة حتى متى لا نناهض القوم بأجمعنا ثم

قام في الناس فقال الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض و لا ينقض ما أبرم و لو شاء ما اختلف اثنان من هذه الأمة و لا من خلقه و لا تنازع

البشر في شيء من أمره و لا جحد المفضول ذا الفضل فضله و قد ساقتنا و هؤلاء القوم الأقدار حتى لفت بيننا في هذا الموضع و نحن

من ربنا بمرأى و مسمع و لو شاء لعجل النقمة و لكان منه النصر حتى يكذب الله الظالم و يعلم الحق أين مصيره و لكنه جعل الدنيا

دار الأعمال و الآخرة دار الجزاء و القرار لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ألا إنكم لاقوا العدو غدا إن

شاء الله فأطيلوا الليلة القيام و أكثروا تلاوة القرآن و اسألوا الله الصبر و النصر و ألقوهم بالجد و الحزم و كونوا صادقين

قال فوثب الناس إلى رماحهم و سيوفهم و نبالهم يصلحونها و خرج ع فعبى الناس ليلته تلك كلها حتى أصبح و عقد الألوية و أمر

الأمراء و كتب الكتائب و بعث إلى أهل الشام مناديا نادى فيهم اغدوا على مصافكم فضج أهل الشام في معسكرهم و اجتمعوا إلى

معاوية فعبى خيله و عقد ألويته و أمر أمراءه و كتب كتائبه و أحاط به أهل حمص في راياتهم و عليهم أبو الأعور السلمي و أهل الأردن

في راياتهم عليهم عمرو بن العاص و أهل قنسرين و عليهم زفر بن الحارث الكلابي و أهل دمشق و هم القلب

[5 : 183 ]

و عليهم الضحاك بن قيس الفهري فأطافوا كلهم بمعاوية و كان أهل الشام أكثر من أهل العراق بالضعف و سار أبو الأعور و عمرو بن

العاص و من معهما حتى وقفا بحيال أهل العراق فنظرا إليهم و استقلا جمعهم و طمعا فيهم و نصب لمعاوية منبر فقعد عليه في قبة

ضربها ألقي عليها الثياب و الأرائك و أحاط به أهل يمن و قال لا يقربن هذا المنبر أحد لا تعرفونه إلا قتلتموه كائنا من كان. قال نصر و

أرسل عمرو إلى معاوية قد عرفت ما بيننا من العهد و العقد فاعصب برأسي هذا الأمر و أرسل إلى أبي الأعور فنحه عني و دعني و القوم

فأرسل معاوية إلى أبي الأعور أن لأبي عبد الله رأيا و تجربة ليست لي و لا لك و قد وليته أعنة الخيل فسر أنت حتى تقف بخيلك على

تل كذا و دعه و القوم. فسار أبو الأعور و بقي عمرو بن العاص فيمن معه واقفا بإزاء عسكر العراق فنادى عمرو ابنيه عبد الله و محمدا

فقال لهما قدما هؤلاء الدرع و أخرا هؤلاء الحسر و أقيما الصف قص الشارب فإن هؤلاء قد جاءوا بخطة قد بلغت السماء. فمشيا

برايتهما فعدلا الصفوف و سار بينهما عمرو فأحسن الصف ثانية ثم حمل قيسا و كليبا و كنانة على الخيول و رجل سائر الناس. قال

نصر و بات كعب بن جعيل التغلبي شاعر أهل الشام تلك الليلة يرتجز و ينشد

أصبحت الأمة في أمر عجب و الملك مجموع غدا لمن غلب

أقول قولا صادقا غير كذب إن غدا يهلك أعلام العرب

غدا نلاقي ربنا فنحتسب غدا يصيرون رمادا قد ذهب

[5 : 184 ]

بعد الجمال و الحياء و الحسب يا رب لا تشمت بنا و لا تصب

من خلع الأنداد طرا و الصلب

قال نصر و قال معاوية من في ميسرة أهل العراق فقيل ربيعة فلم يجد في الشام ربيعة فجاء بحمير فجعلها بإزاء ربيعة على قرعة

أقرعها بين حمير و عك فقال ذو الكلاع الحميري باستك من سهم لم تبغ الضراب كأنه أنف عن أن تكون حمير بإزاء ربيعة فبلغ ذلك

حجدرا الحنفي فحلف بالله إن عاينه ليقتلنه أو ليموتن دونه فجاءت حمير حتى وقفت بإزاء ربيعة و جعل السكاسك و السكون بإزاء

كندة و عليهما الأشعث بن قيس و جعل بإزاء همدان العراق الأزد و بإزاء مذحج العراق عكا. و قال راجز من أهل الشام

ويل لأم مذحج من عك و أمهم قائمة تبكي

نصكهم بالسيف أي صك فلا رجال كرجال عك

قال و طرحت عك حجرا بين أيديهم و قالوا لا نفر حتى يفر هذا الحكر بالكاف و عك تقلب الجيم كافا و صف القلب خمسة صفوف و

فعل أهل العراق أيضا مثل ذلك و نادى عمرو بن العاص بأعلى صوته

يا أيها الجند الصليب الإيمان قوموا قياما و استعينوا الرحمن

إني أتاني خبر ذو ألوان إن عليا قتل ابن عفان

ردوا علينا شيخنا كما كان

[5 : 185 ]

فرد عليه أهل العراق و قالوا

أبت سيوف مذحج و همدان بأن ترد نعثلا كما كان

خلقا جديدا مثل خلق الرحمن ذلك شأن قد مضى و ذا شان

ثم نادى عمرو بن العاص ثانية برفع صوته

ردوا علينا شيخنا ثم بجل أو لا تكونوا جزرا من الأسل

فرد عليه أهل العراق

كيف نرد نعثلا و قد قحل نحن ضربنا رأسه حتى انجفل

و أبدل الله به خير بدل أعلم بالدين و أزكى بالعمل

و قال إبراهيم بن أوس بن عبيدة من أهل الشام

لله در كتائب جاءتكم تبكي فوارسها على عثمان

تسعون ألفا ليس فيهم قاسط يتلون كل مفصل و مثان

يسلون حق الله لا يعدونه و مجيبكم للملك و السلطان

فأتوا ببينة على ما جئتم أو لا فحسبكم من العدوان

و أتوا بما يمحو قصاص خليفة لله ليس بكاذب خوان

[5 : 186 ]

قال نصر و بات علي ع ليلته يعبئ الناس حتى إذا أصبح زحف بهم و خرج إليه معاوية في أهل الشام فجعل يقول من هذه القبيلة و من

هذه القبيلة يعني قبائل أهل الشام فيسمون له حتى إذا عرفهم و عرف مراكزهم قال للأزد اكفوني الأزد و قال لخثعم اكفوني خثعما و

أمر كل قبيلة من العراق أن تكفيه أختها من أهل الشام إلا قبيلة ليس منهم بالعراق إلا القليل مثل بجيلة فإن لخما كانت بإزائها ثم

تناهض القوم يوم الأربعاء سادس صفر و اقتتلوا إلى آخر نهارهم و انصرفوا عند المساء و كل غير غالب. قال نصر فأما اليوم السابع

فكان القتال فيه شديدا و الخطب عظيما و كان عبد الله بن بديل الخزاعي على ميمنة العراق فزحف نحو حبيب بن مسلمة و هو على

ميسرة أهل الشام فلم يزل يحوزه و يكشف خيله حتى اضطر بهم إلى قبة معاوية وقت الظهر. قال نصر فحدثنا عمر بن سعد قال حدثنا

مالك بن أعين عن زيد بن وهب أن عبد الله بن بديل قام في أصحابه فخطبهم فقال ألا إن معاوية ادعى ما ليس له و نازع الأمر أهله و

من ليس مثله و جادل بالباطل ليدحض به الحق و صال عليكم بالأعراب و الأحزاب و زين لهم الضلالة و زرع في قلوبهم حب الفتنة و

لبس عليهم الأمور و زادهم رجسا إلى رجسهم و أنتم و الله على نور و برهان مبين قاتلوا الطغاة الجفاة قاتلوهم و لا تخشوهم و كيف

تخشونهم و في أيديكم كتاب من ربكم ظاهر مبين أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ

بِأَيْدِيكُمْ

[5 : 187 ]

وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْم مُؤْمِنِينَ و لقد قاتلتهم مع النبي ص و الله ما هم في هذه بأزكى و لا أتقى و لا أبر

انهضوا إلى عدو الله و عدوكم. قال نصر و حدثنا عمر بن سعد قال حدثني عبد الرحمن عن أبي عمرو عن أبيه أن عليا ع خطب في ليلة

هذا اليوم فقال معاشر المسلمين استشعروا الخشية و تجلببوا السكينة و عضوا على النواجذ فإنه أنبى للسيوف عن الهام... الفصل

بطوله إلى آخره و هو المذكور في الكتاب.

و روى نصر أيضا بالإسناد المذكور أن عليا ع خطب ذلك اليوم و قال أيها الناس إن الله تعالى ذكره قد دلكم على تجارة تنجيكم من

العذاب و تشفي بكم على الخير إيمان بالله و رسوله و جهاد في سبيله و جعل ثوابه مغفرة الذنوب و مساكن طيبة في جنات عدن و

رضوان من الله أكبر و أخبركم بالذي يحب فقال إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ فسووا

صفوفكم كالبنيان المرصوص و قدموا الدارع و أخروا الحاسر و عضوا على الأضراس فإنه أنبى للسيوف عن الهام و أربط للجأش و

أسكن للقلوب و أميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل و أولى بالوقار و التووا في أطراف الرماح فإنه أمور للأسنة و رايتكم فلا تميلوها

و لا تزيلوها و لا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم المانعي الذمار و الصبر عند نزول الحقائق أهل الحفاظ

[5 : 188 ]

الذين يحفون برايتكم و يكتنفونها يضربون خلفها و أمامها و لا تضيعوها أجزاء كل امرئ وقذ قرنه و واسى أخاه بنفسه و لم يكل

قرنه إلى أخيه فيجمع عليه قرنه و قرن أخيه فيكسب بذلك من الإثم و يأتي به دناءة أنى هذا و كيف يكون هكذا هذا يقاتل اثنين و

هذا ممسك يده قد خلى قرنه إلى أخيه هاربا منه أو قائما ينظر إليه من يفعل هذا يمقته الله فلا تعرضوا لمقت الله فإنما مردكم إلى

الله قال الله تعالى لقوم عابهم لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلّا قَلِيلًا و ايم الله لئن فررتم من

سيف العاجلة لا تسلمون من سيف الآخرة استعينوا بالصدق و الصبر فإنه بعد الصبر ينزل النصر

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن الشعبي عن مالك بن قدامة الأرحبي قال قام سعيد بن قيس يخطب أصحابه بقناصرين فقال

الحمد لله الذي هدانا لدينه و أورثنا كتابه و امتن علينا بنبيه فجعله رحمة للعالمين و سيدا للمرسلين و قائدا للمؤمنين و خاتما

للنبيين و حجة الله العظيم على الماضين و الغابرين ثم كان فيما قضى الله و قدره و له الحمد على ما أحببنا و كرهنا أن ضمنا و

عدونا بقناصرين فلا يجمل بنا اليوم الحياص و ليس هذا بأوان انصراف و لات حين مناص و قد خصنا الله منه برحمة لا نستطيع أداء

شكرها و لا نقدر قدرها إن أصحاب محمد المصطفين الأخيار معنا

[5 : 189 ]

و في حيز فو الله الذي هو بالعباد بصير أن لو كان قائدنا رجلا مجدعا إلا أن معنا من البدريين سبعين رجلا لكان ينبغي لنا أن تحسن

بصائرنا و تطيب أنفسنا فكيف و إنما رئيسنا ابن عم نبينا بدري صدق صلى صغيرا و جاهد مع نبيكم كثيرا و معاوية طليق من وثاق

الإسار و ابن طليق ألا إنه أغوى جفاة فأوردهم النار و أوردهم العار و الله محل بهم الذل و الصغار ألا إنكم ستلقون عدوكم غدا

فعليكم بتقوى الله من الجد و الحزم و الصدق و الصبر فإن الله مع الصابرين ألا إنكم تفوزون بقتلهم و يشقون بقتلكم و الله لا

يقتل رجل منكم رجلا منهم إلا أدخل الله القاتل جنات عدن و أدخل المقتول نارا تلظى لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ عصمنا الله

و إياكم بما عصم به أولياءه و جعلنا و إياكم ممن أطاعه و اتقاه و أستغفر الله العظيم لي و لكم و للمؤمنين. ثم قال الشعبي و لقد

صدق فعله ما قال في خطبته. قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر و زيد بن الحسن قالا طلب معاوية إلى عمرو بن

العاص أن يسوي صفوف أهل الشام فقال له عمرو على أن لي حكمي أن قتل الله ابن أبي طالب و استوثقت لك البلاد فقال أ ليس

حكمك في مصر قال و هل مصر تكون عوضا عن الجنة و قتل ابن أبي طالب ثمنا لعذاب النار الذي لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ

فقال معاوية إن لك حكمك أبا عبد الله إن قتل ابن أبي طالب رويدا لا يسمع أهل الشام كلامك فقام عمرو

[5 : 190 ]

فقال معاشر أهل الشام سووا صفوفكم قص الشارب و أعيرونا جماجمكم ساعة فقد بلغ الحق مقطعه فلم يبق إلا ظالم أو مظلوم. قال

نصر و أقبل أبو الهيثم بن التيهان و كان من أصحاب رسول الله ص بدريا نقيبا عقبيا يسوي صفوف أهل العراق و يقول يا معشر أهل

العراق إنه ليس بينكم و بين الفتح في العاجل و الجنة في الآجل إلا ساعة من النهار فأرسوا أقدامكم و سووا صفوفكم و أعيروا

ربكم جماجمكم استعينوا بالله إلهكم و جاهدوا عدو الله و عدوكم و اقتلوهم قتلهم الله و أبادهم و اصبروا فإن الأرض لله يورثها من

يشاء من عباده و العاقبة للمتقين.

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن الفضل بن أدهم عن أبيه أن الأشتر قام يخطب الناس بقناصرين و هو يومئذ على فرس

أدهم مثل حلك الغراب فقال الحمد لله الذي خلق السموات العلى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ

ما بَيْنَهُما وَ ما تَحْتَ الثَّرى أحمده على حسن البلاء و تظاهر النعماء حمدا كثيرا بكرة و أصيلا من هداه الله فقد اهتدى و من يضلل فقد

غوى أرسل محمدا بالصواب و الهدى فأظهره على الدين كله و لو كره المشركون صلى الله عليه و سلم ثم قد كان مما قضى الله

سبحانه و قدر أن ساقتنا المقادير إلى أهل هذه البلدة من الأرض فلفت بيننا و بين عدو الله و عدونا فنحن بحمد الله و نعمه و منه و

فضله قريرة أعيننا طيبة أنفسنا نرجو بقتالهم حسن الثواب و الأمن من العقاب معنا ابن عم نبينا و سيف من سيوف الله علي بن أبي

طالب صلى مع رسول الله لم يسبقه إلى الصلاة

[5 : 191 ]

ذكر حتى كان شيخا لم تكن له صبوة و لا نبوة و لا هفوة و لا سقطة فقيه في دين الله تعالى عالم بحدود الله ذو رأي أصيل و صبر

جميل و عفاف قديم فاتقوا الله و عليكم بالحزم و الجد و اعلموا أنكم على الحق و أن القوم على الباطل إنما تقاتلون معاوية و

أنتم مع البدريين قريب من مائة بدري سوى من حولكم من أصحاب محمد أكثر ما معكم رايات قد كانت مع رسول الله و مع معاوية

رايات قد كانت مع المشركين على رسول الله فما يشك في قتال هؤلاء إلا ميت القلب أنتم على إحدى الحسنيين إما الفتح و إما

الشهادة عصمنا الله و إياكم بما عصم به من أطاعه و اتقاه و ألهمنا و إياكم طاعته و تقواه و أستغفر الله لي و لكم

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن الشعبي عن صعصعة بن صوحان عن زامل بن عمرو الجذامي قال طلب معاوية إلى ذي

الكلاع أن يخطب الناس و يحرضهم على قتال علي ع و من معه من أهل العراق فعقد فرسه و كان من أعظم أصحاب معاوية خطرا و

خطب الناس فقال الحمد لله حمدا كثيرا ناميا واضحا منيرا بكرة و أصيلا أحمده و أستعينه و أومن به و أتوكل عليه و كفى بالله وكيلا

و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله أرسله بالفرقان إماما و بالهدى و دين الحق حين ظهرت

المعاصي و درست الطاعة و امتلأت الأرض جورا و ضلالة و اضطرمت الدنيا نيرانا و فتنة و ورك عدو الله إبليس على أن يكون قد عبد

في أكنافها و استولى على جميع أهلها فكان محمد ص هو الذي أطفأ الله به نيرانها و نزع به أوتادها و أوهن به

[5 : 192 ]

قوى إبليس و آيسه مما كان قد طمع فيه من ظفره بهم و أظهره على الدين كله و لو كره المشركون ثم كان من قضاء الله أن ضم بيننا

و بين أهل ديننا بصفين و إنا لنعلم أن فيهم قوما قد كانت لهم مع رسول الله ص سابقة ذات شأن و خطر عظيم و لكني ضربت الأمر

ظهرا و بطنا فلم أر يسعني أن يهدر دم عثمان صهر نبينا ص الذي جهز جيش العسرة و ألحق في مصلى رسول الله ص بيتا و بنى سقاية

بايع له نبي الله بيده اليمنى على اليسرى و اختصه بكريمتيه أم كلثوم و رقية فإن كان قد أذنب ذنبا فقد أذنب من هو خير منه قال

الله سبحانه لنبيه لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ و قتل موسى نفسا ثم استغفر الله فغفر له و قد أذنب نوح ثم

استغفر الله فغفر له و قد أذنب أبوكم آدم ثم استغفر الله فغفر له و لم يعر أحدكم من الذنوب و إنا لنعلم أنه قد كانت لابن أبي طالب

سابقة حسنة مع رسول الله ص فإن لم يكن مالأ على قتل عثمان فلقد خذله و إنه لأخوه في دينه و ابن عمه و سلفه و ابن عمته ثم قد

أقبلوا من عراقهم حتى نزلوا شامكم و بلادكم و بيضتكم و إنما عامتهم بين قاتل و خاذل فاستعينوا بالله و اصبروا فلقد ابتليتم أيتها

الأمة و لقد رأيت في منامي في ليلتي هذه لكانا و أهل العراق اعتورنا مصحفا نضربه بسيوفنا و نحن في ذلك جميعا ننادي ويحكم الله

و مع أنا و الله لا نفارق العرصة حتى نموت فعليكم بتقوى الله و لتكن النيات لله فإني

سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت رسول الله ص يقول إنما يبعث المقتتلون على النيات

أفرغ الله علينا و عليكم الصبر و أعز لنا و لكم النصر و كان لنا و لكم في كل أمر و أستغفر الله لي و لكم.

[5 : 193 ]

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن ابن عامر عن صعصعة العبدي عن أبرهة بن الصباح قال قام يزيد بن أسد البجلي في أهل الشام

يخطب الناس بصفين و عليه قباء من خز و عمامة سوداء آخذا بقائم سيفه واضعا نصل السيف في الأرض متوكئا عليه قال صعصعة

فذكر لي أبرهة أنه كان يومئذ من أجمل العرب و أكرمها و أبلغها فقال الحمد لله الواحد الفرد ذي الطول و الجلال العزيز الجبار

الحكيم الغفار الكبير المتعال ذي العطاء و الفعال و السخاء و النوال و البهاء و الجمال و المن و الإفضال مالك اليوم الذي لا بيع

فيه و لا خلال أحمده على حسن البلاء و تظاهر النعماء و في كل حال من شدة أو رخاء أحمده على نعمه التؤام و آلائه العظام حمدا

يستنير بالليل و النهار و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كلمة النجاة في الحياة و عند الوفاة و فيها الخلاص يوم القصاص و

أشهد أن محمدا عبده و رسوله النبي المصطفى و إمام الهدى ص ثم كان من قضاء الله أن جمعنا و أهل ديننا في هذه الرقعة من الأرض

و الله يعلم أني كنت كارها لذلك و لكنهم لم يبلعونا ريقنا و لم يتركونا نرتاد لأنفسنا و ننظر لمعادنا حتى نزلوا بين أظهرنا و في

حريمنا و بيضتنا و قد علمنا أن في القوم أحلاما و طغاما و لسنا نأمن من طغامهم على ذرارينا و نسائنا و لقد كنا نحب ألا نقاتل أهل

ديننا فأخرجونا حتى صارت الأمور إلى أن قاتلناهم غدا حمية فإنا لله و إنا إليه راجعون و الحمد لله رب العالمين.

[5 : 194 ]

أما و الذي بعث محمدا بالرسالة لوددت أني مت منذ سنة و لكن الله إذا أراد أمرا لم يستطع العباد رده فنستعين بالله العظيم و

أستغفر الله لي و لكم. قال نصر و حدثنا عمرو عن أبي روق الهمداني أن يزيد بن قيس الأرحبي حرض أهل العراق بصفين يومئذ فقال

إن المسلم السليم من سلم دينه و رأيه و إن هؤلاء القوم و الله ما أن يقاتلوننا على إقامة دين رأونا ضيعناه و لا على إحياء حق رأونا

أمتناه و لا يقاتلوننا إلا على هذه الدنيا ليكونوا فيها جبابرة و ملوكا و لو ظهروا عليكم لا أراهم الله ظهورا و لا سرورا إذا لوليكم

مثل سعيد و الوليد و عبد الله بن عامر السفيه يحدث أحدهم في مجلسه بذيت و ذيت و يأخذ مال الله و يقول لا إثم علي فيه كأنما

أعطي تراثه من أبيه كيف إنما هو مال الله أفاءه علينا بأسيافنا و رماحنا قاتلوا عباد الله القوم الظالمين الحاكمين بغير ما أنزل الله و

لا تأخذكم فيهم لومة لائم إنهم أن يظهروا عليكم يفسدوا عليكم دينكم و دنياكم و هم من قد عرفتم و جربتم و الله ما أرادوا

باجتماعهم عليكم إلا شرا و أستغفر الله العظيم لي و لكم. قال نصر و ارتجز عمرو بن العاص و أرسل بها إلى علي

[5 : 195 ]

لا تأمننا بعدها أبا حسن إنا نمر الأمر إمرار الرسن

و يروى

خذها إليك و اعلمن أبا حسن

لتصبحن مثلها أم لبن طاحنة تدقكم دق الحفن

قال فأجابه شاعر من شعراء أهل العراق

ألا احذروا في حربكم أبا حسن ليثا أبا شبلين محذور فطن

يدقكم دق المهاريس الطحن لتغبنن يا جاهلا أي غبن

حتى تغض الكف أو تقرع سن

قال نصر فحدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن الشعبي أن أول فارسين التقيا في هذا اليوم و هو اليوم السابع من صفر و كان من الأيام

العظيمة في صفين ذا أهوال شديدة حجر الخير و حجر الشر أما حجر الخير فهو حجر بن عدي صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب

ع و أما حجر الشر فابن عمه كلاهما من كندة و كان من أصحاب معاوية فأطعنا برمحيهما و خرج رجل من بني أسد يقال له خزيمة من

عسكر معاوية فضرب حجر بن عدي ضربة برمحه فحمل أصحاب علي ع فقتلوا خزيمة الأسدي و نجا حجر الشر هاربا فالتحق بصف

معاوية ثم برز حجر الشر

[5 : 196 ]

ثانية فبرز إليه الحكم بن أزهر من أهل العراق فقتله حجر الشر فخرج إليه رفاعة بن ظالم الحميري من صف العراق فقتله و عاد إلى

أصحابه يقول الحمد لله الذي قتل حجر الشر بالحكم بن أزهر. ثم إن عليا ع دعا أصحابه إلى أن يذهب واحد منهم بمصحف كان في

يده إلى أهل الشام فقال من يذهب إليهم فيدعوهم إلى ما في هذا المصحف فسكت الناس و أقبل فتى اسمه سعيد فقال أنا صاحبه

فأعاد القول ثانية فسكت الناس و تقدم الفتى فقال أنا صاحبه فسلمه إليه فقبضه بيده ثم أتاهم فأنشدهم الله و دعاهم إلى ما فيه

فقتلوه فقال علي ع لعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي احمل عليهم الآن فحمل عليهم بمن معه من أهل الميمنة و عليه يومئذ

سيفان و درعان فجعل يضرب بسيفه قدما و يقول

لم يبق غير الصبر و التوكل و الترس و الرمح و سيف مقصل

ثم التمشي في الرعيل الأول مشى الجمال في حياض المنهل

فلم يزل يحمل حتى انتهى إلى معاوية و الذين بايعوه إلى الموت فأمرهم أن يصمدوا لعبد الله بن بديل و بعث إلى حبيب بن مسلمة

الفهري و هو في الميسرة أن يحمل عليه بجميع من معه و اختلط الناس و اضطرم الفيلقان ميمنة أهل العراق و ميسرة أهل الشام و

أقبل عبد الله بن بديل يضرب الناس بسيفه قدما حتى أزال معاوية عن موقفه و جعل ينادي يا ثارات عثمان و إنما يعني أخا له قد قتل

و ظن معاوية و أصحابه أنه يعني عثمان بن عفان و تراجع معاوية عن مكانه القهقرى كثيرا و أشفق على نفسه و أرسل إلى حبيب بن

مسلمة مرة ثانية و ثالثة يستنجده و يستصرخه و يحمل حبيب حملة

[5 : 197 ]

شديدة بميسرة معاوية على ميمنة العراق فكشفها حتى لم يبق مع ابن بديل إلا نحو مائة إنسان من القراء فاستند بعضهم إلى بعض

يحمون أنفسهم و لجج ابن بديل في الناس و صمم على قتل معاوية و جعل يطلب موقفه و يصمد نحوه حتى انتهى إليه و مع معاوية

عبد الله بن عامر واقفا فنادى معاوية في الناس ويلكم الصخر و الحجارة إذا عجزتم عن السلاح فرضخه الناس بالصخر و الحجارة

حتى أثخنوه فسقط فأقبلوا عليه بسيوفهم فقتلوه. و جاء معاوية و عبد الله بن عامر حتى وقفا عليه فأما عبد الله بن عامر فألقى عمامته

على وجهه و ترحم عليه و كان له أخا صديقا من قبل فقال معاوية اكشف عن وجهه فقال لا و الله لا يمثل به و في روح فقال معاوية

اكشف عن وجهه فإنا لا نمثل به قد وهبناه لك فكشف ابن عامر عن وجهه فقال معاوية هذا كبش القوم و رب الكعبة اللهم أظفرني

بالأشتر النخعي و الأشعث الكندي و الله ما مثل هذا إلا كما قال الشاعر

أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها و إن شمرت عن ساقها الحرب شمرا

و يحمي إذا ما الموت كان لقاؤه قدى الشبر يحمي الأنف أن يتأخرا

كليث هزبر كان يحمي ذماره رمته المنايا قصدها فتقطرا

ثم قال إن نساء خزاعة لو قدرت على أن تقاتلني فضلا عن رجالها لفعلت. قال نصر فحدثنا عمرو عن أبي روق قال استعلى أهل الشام

عند قتل ابن بديل على أهل العراق يومئذ و انكشف أهل العراق من قبل الميمنة و أجفلوا إجفالا

[5 : 198 ]

شديدا فأمر علي ع سهل بن حنيف فاستقدم من كان معه ليرفد الميمنة و يعضدها فاستقبلهم جموع أهل الشام في خيل عظيمة

فحملت عليهم فألحقتهم بالميمنة و كانت ميمنة أهل العراق متصلة بموقف علي ع في القلب في أهل اليمن فلما انكشفوا انتهت

الهزيمة إلى علي ع فانصرف يمشي نحو الميسرة فانكشف مضر عن الميسرة أيضا فلم يبق مع علي ع من أهل العراق إلا ربيعة وحدها

في الميسرة. قال نصر فحدثنا عمرو قال حدثنا مالك بن أعين عن زيد بن وهب قال لقد مر علي ع يومئذ و معه بنوه نحو الميسرة و معه

ربيعة وحدها و إني لأرى النبل يمر بين عاتقه و منكبيه و ما من بنيه إلا من يقيه بنفسه فيكره علي ع ذلك فيتقدم عليه و يحول بينه و

بين أهل الشام و يأخذه بيده إذا فعل ذلك فيلقيه من ورائه و يبصر به أحمر مولى بني أمية و كان شجاعا و قال علي ع و رب الكعبة

قتلني الله إن لم أقتلك فأقبل نحوه فخرج إليه كيسان مولى علي ع فاختلفا ضربتين فقتله أحمر و خالط عليا ليضربه بالسيف و ينتهزه

علي فتقع يده في جيب درعه فجذبه عن فرسه فحمله على عاتقه فو الله لكأني أنظر إلى رجلي أحمر تختلفان على عنق علي ثم ضرب به

الأرض فكسر منكبه و عضديه و شد ابنا علي حسين و محمد فضرباه بأسيافهما حتى برد فكأني أنظر إلى علي قائما و شبلاه يضربان

الرجل حتى إذا أتيا عليه أقبلا على أبيهما و الحسن قائم معه فقال له علي يا بني ما منعك أن تفعل كما فعل أخواك فقال كفياني يا

أمير المؤمنين.

[5 : 199 ]

قال ثم إن أهل الشام دنوا منه يريدونه و الله ما يزيده قربهم منه و دنوهم إليه سرعة في مشيته فقال له الحسن ما ضرك لو أسرعت

حتى تنتهي إلى الذين صبروا لعدوك من أصحابك قال يعني ربيعة الميسرة فقال علي يا بني إن لأبيك يوما لن يعدوه و لا يبطئ به عند

السعي و لا يقربه إليه الوقوف إن أباك لا يبالي أن وقع على الموت أو وقع الموت عليه.

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن أبي إسحاق قال خرج علي ع يوما من أيام صفين و في يده عنزة فمر على سعيد بن قيس

الهمداني فقال له سعد أ ما تخشى يا أمير المؤمنين أن يغتالك أحد و أنت قرب عدوك فقال علي ع إنه ليس من أحد إلا و عليه من الله

حفظة يحفظونه من أن يتردى في قليب أو يخر عليه حائط أو تصيبه آفة فإذا جاء القدر خلوا بينه و بينه

قال نصر و حدثنا عمرو عن فضيل بن خديج قال لما انهزمت ميمنة العراق يومئذ أقبل علي ع نحو الميسرة يركض يستثيب الناس و

يستوقفهم و يأمرهم بالرجوع نحو الفزع

فمر بالأشتر فقال يا مالك قال لبيك يا أمير المؤمنين قال ائت هؤلاء القوم فقل لهم أين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه إلى

الحياة التي لا تبقى لكم

فمضى الأشتر فاستقبل الناس منهزمين فقال لهم الكلمات و ناداهم إلى أيها الناس أنا مالك بن الحارث يكررها فلم يلو أحد منهم عليه

و ظن أن

[5 : 200 ]

الأشتر أعرف في الناس من مالك بن الحارث فجعل ينادي ألا أيها الناس فأنا الأشتر فانقلب نحوه طائفة و ذهبت عنه طائفة فقال

عضضتم بهن أباكم ما أقبح و الله ما فعلتم اليوم أيها الناس غضوا الأبصار و عضوا على النواجذ و استقبلوا القوم بهامكم و شدوا

عليهم شدة قوم موتورين ب آبائهم و أبنائهم و إخوانهم حنقا على عدوهم قد وطنوا على الموت أنفسهم كي لا يسبقوا بثأر إن هؤلاء

القوم و الله لن يقاتلوكم إلا عن دينكم ليطفئوا السنة و يحيوا البدعة و يدخلوكم في أمر قد أخرجكم الله منه بحسن البصيرة

فطيبوا عباد الله نفسا بدمائكم دون دينكم فإن الفرار فيه سلب العز و الغلبة على الفيء و ذل المحيا و الممات و عار الدنيا و الآخرة

و سخط الله و أليم عقابه. ثم قال أيها الناس أخلصوا إلى مذحجا فاجتمعت إليه مذحج فقال لهم عضضتم بصم الجندل و لله ما

أرضيتم اليوم ربكم و لا نصحتم له في عدوه و كيف ذلك و أنتم أبناء الحرب و أصحاب الغارات و فتيان الصباح و فرسان الطراد و

حتوف الأقران و مذحج الطعان الذين لم يكونوا سبقوا بثأرهم و لم تطل دماؤهم و لم يعرفوا في موطن من المواطن بخسف و أنتم

سادة مصركم و أعز حي في قومكم و ما تفعلوا في هذا اليوم فهو مأثور بعد اليوم فاتقوا مأثور الحديث في غد و اصدقوا عدوكم اللقاء

فإن الله مع الصابرين و الذي نفس مالك بيده ما من هؤلاء و أشار بيده إلى أهل الشام رجل على مثل جناح البعوضة من دين الله لله

أنتم ما أحسنتم اليوم القراع احبسوا سواد وجهي يرجع فيه دمي عليكم هذا السواد الأعظم فإن الله لو قد فضه تبعه من بجانبيه

كما يتبع السيل مقدمه.

[5 : 201 ]

فقالوا خذ بنا حيث أحببت فصمد بهم نحو عظمهم و استقبله أشباههم من همدان و هم نحو ثمانمائة مقاتل قد انهزموا آخر الناس و

كانوا قد صبروا في ميمنة علي ع حتى قتل منهم مائة و ثمانون رجلا و أصيب منهم أحد عشر رئيسا كلما قتل منهم رئيس أخذ الراية

آخر و هم بنو شريح الهمدانيون و غيرهم من رؤساء العشيرة فأول من أصيب منهم كريب بن شريح و شرحبيل بن شريح و مرثد بن

شريح و هبيرة بن شريح و هريم بن شريح و شهر بن شريح و شمر بن شريح قتل هؤلاء الإخوة الستة في وقت واحد. ثم أخذ الراية

سفيان بن زيد ثم كرب بن زيد ثم عبد بن زيد فقتل هؤلاء الإخوة الثلاثة أيضا ثم أخذ الراية عمير بن بشر ثم أخوه الحارث بن بشر

فقتلا جميعا ثم أخذ الراية أبو القلوص وهب بن كريب فقال له رجل من قومه انصرف يرحمك الله بهذه الراية ترحها الله فقد قتل

الناس حولها فلا تقتل نفسك و لا من بقي معك فانصرفوا و هم يقولون ليت لنا عديدا من العرب يحالفوننا على الموت ثم نستقدم

نحن و هم فلا ننصرف حتى نظفر أو نقتل فمروا بالأشتر و هم يقولون هذا القول فقال لهم الأشتر أنا أحالفكم و أعاقدكم على ألا

نرجع أبدا حتى نظفر أو نهلك فوقفوا معه على هذه النية و العزيمة فهذا معنى قول كعب بن جعيل

و همدان زرق تبتغي من تحالف

قال و زحف الأشتر نحو الميمنة و ثاب إليه أناس تراجعوا من أهل الصبر و الوفاء

[5 : 202 ]

و الحياء فأخذ لا يصمد لكتيبة إلا كشفها و لا لجمع إلا حازه و رده فإنه لكذلك إذا مر بزياد بن النضر مستلحما فقال الأشتر هذا و الله

الصبر الجميل هذا و الله الفعل الكريم إلي و قد كان هو و أصحابه في ميمنة العراق فتقدم فرفع رايته لهم فصبروا و قاتل حتى صرع

ثم لم يلبث الأشتر إلا يسيرا كلا شيء حتى مر بهم يزيد بن قيس الأرحبي مستلحما أيضا محمولا فقال الأشتر من هذا قالوا يزيد بن

قيس لما صرع زياد بن النضر دفع رايته لأهل الميمنة فقاتل تحتها حتى صرع فقال الأشتر هذا و الله الصبر الجميل هذا و الله الفعل

الكريم أ لا يستحيي الرجل أن ينصرف أ يقتل و لم يقتل و لم يشف به على القتل. قال نصر و حدثنا عمرو عن الحارث بن الصباح قال

كان بيد الأشتر يومئذ صفيحة له يمانية إذا طأطأها خلت فيها ماء ينصب و إذا رفعها يكاد يعشي البصر شعاعها و مر يضرب الناس بها

قدما و يقول

الغمرات ثم ينجلينا

[5 : 203 ]

قال فبصر به الحارث بن جمهان الجعفي و الأشتر مقنع في الحديد فلم يعرفه فدنا منه و قال له جزاك الله منذ اليوم عن أمير

المؤمنين و عن جماعة المسلمين خيرا فعرفه الأشتر فقال يا ابن جمهان أ مثلك يتخلف اليوم عن مثل موطني هذا فتأمله ابن جمهان

فعرفه و كان الأشتر من أعظم الرجال و أطولهم إلا أن في لحمه خفة قليلة فقال له جعلت فداك لا و الله ما علمت مكانك حتى الساعة

و لا و الله لا أفارقك حتى أموت. قال نصر و حدثنا عمرو عن الحارث بن الصباح قال رأى الأشتر يومئذ منقذا و حميرا ابني قيس

اليقظيان فقال منقذ لحمير ما في العرب رجل مثل هذا إن كان ما أرى من قتاله على نية فقال له حمير و هل النية إلا ما ترى قال إني

أخاف أن يكون يحاول ملكا. قال نصر و حدثنا عمرو عن فضيل بن خديج عن مولى الأشتر قال لما اجتمع مع الأشتر عظم من كان انهزم

من الميمنة حرضهم فقال لهم عضوا على النواجذ من الأضراس و استقبلوا القوم بهامكم فإن الفرار من الزحف فيه ذهاب العز و الغلبة

على الفيء و ذل المحيا و الممات و عار الدنيا و الآخرة.

[5 : 204 ]

ثم حمل على صفوف أهل الشام حتى كشفهم فألحقهم بمضارب معاوية و ذلك بين العصر و المغرب.

قال نصر و حدثنا عمرو عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب أن عليا ع لما رأى ميمنته قد عادت إلى موقفها و مصافها و كشفت من بإزائها

حتى ضاربوهم في مواقفهم و مراكزهم أقبل حتى انتهى إليهم فقال إني قد رأيت جولتكم و انحيازكم من صفوفكم يحوزكم الجفاة

الطغاة و أعراب أهل الشام و أنتم لهاميم العرب و السنام الأعظم و عمار الليل بتلاوة القرآن و أهل دعوة الحق إذ ضل الخاطئون

فلو لا إقبالكم بعد إدباركم و كركم بعد انحيازكم وجب عليكم ما وجب على المولي يوم الزحف دبره و كنتم فيما أرى من الهالكين و

لقد هون علي بعض وجدي و شفى بعض لاعج نفسي إني رأيتكم بأخرة حزتموهم كما حازوكم و أزلتموهم عن مصافهم كما أزالوكم

تحشونهم بالسيوف يركب أولهم آخرهم كالإبل المطرودة الهيم فالآن فاصبروا نزلت عليكم السكينة و ثبتكم الله باليقين و ليعلم

المنهزم أنه يسخط ربه و يوبق نفسه و في الفرار موجدة الله عليه و الذل اللازم له و فساد العيش و أن الفار لا يزيد الفرار في عمره

و لا يرضي ربه فموت الرجل محقا قبل إتيان هذه الخصال خير من الرضا بالتلبس بها و الإصرار عليها

قال نصر و حدثنا عمرو قال حدثنا أبو علقمة الخثعمي أن عبد الله بن حنش الخثعمي رأس خثعم الشام أرسل إلى أبي كعب الخثعمي

رأس خثعم العراق إن شئت تواقفنا فلم نقتتل فإن ظهر صاحبكم كنا معكم و إن ظهر صاحبنا كنتم معنا و لا يقتل

[5 : 205 ]

بعضنا بعضا فأبى أبو كعب ذلك فلما التقت خثعم و خثعم و زحف الناس بعضهم إلى بعض قال عبد الله بن حنش لقومه يا معشر خثعم

إنا قد عرضنا على قومنا من أهل العراق الموادعة صلة لأرحامها و حفظا لحقها فأبوا إلا قتالنا و قد بدءونا بالقطيعة فكفوا أيديكم

عنهم حفظا لحقهم أبدا ما كفوا عنكم فإن قاتلوكم فقاتلوهم فخرج رجل من أصحابه فقال إنهم قد ردوا عليك رأيك و أقبلوا إليك

يقاتلونك ثم برز فنادى رجل يا أهل العراق فغضب عبد الله بن حنش قال اللهم قيض له وهب بن مسعود يعني رجلا من خثعم الكوفة

كان شجاعا يعرفونه في الجاهلية لم يبارزه رجل قط إلا قتله فخرج إليه وهب بن مسعود فقتله ثم اضطربوا ساعة و اقتتلوا أشد قتال

فجعل أبو كعب يقول لأصحابه يا معشر خثعم خدموا أي اضربوا موضع الخدمة و هي الخلخال يعني اضربوهم في سوقهم فناداه عبد

الله بن حنش يا أبا كعب الكل قومك فأنصف قال إي و الله و أعظم و اشتد قتالهم فحمل شمر بن عبد الله الخثعمي من خثعم الشام

على أبي كعب فطعنه فقتله ثم انصرف يبكي و يقول يرحمك الله أبا كعب لقد قتلتك في طاعة قوم أنت أمس بي رحما منهم و أحب إلي

منهم نفسا و لكني و الله لا أدري ما أقول و لا أرى الشيطان إلا قد فتننا و لا أرى قريشا إلا و قد لعبت بنا قال و وثب كعب بن أبي كعب

إلى راية أبيه فأخذها ففقئت عينه و صرع ثم أخذها شريح بن مالك الخثعمي فقاتل القوم تحتها حتى صرع منهم حول رايتهم نحو

ثمانين رجلا و أصيب من خثعم الشام مثلهم ثم ردها شريح بن مالك بعد ذلك إلى كعب بن أبي كعب. قال نصر و حدثنا عمرو قال حدثنا

عبد السلام بن عبد الله بن جابر أن راية بجيلة في صفين مع أهل العراق كانت في أحمس مع أبي شداد قيس بن المكشوح بن

[5 : 206 ]

هلال بن الحارث بن عمرو بن عوف بن عامر بن علي بن أسلم بن أحمس بن الغوث بن أنمار قالت له بجيلة خذ رايتنا فقال غيري خير

لكم مني قالوا لا نريد غيرك قال فو الله لئن أعطيتمونيها لا أنتهي بكم دون صاحب الترس المذهب قالوا و كان على رأس معاوية رجل

قائم معه ترس مذهب يستره من الشمس فقالوا اصنع ما شئت فأخذها ثم زحف بها و هم حوله يضربون الناس حتى انتهى إلى صاحب

الترس المذهب و هو في خيل عظيمة من أصحاب معاوية و كان عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فاقتتل الناس هناك قتالا شديدا و شد

أبو شداد بسيفه نحو صاحب الترس فتعرض له رومي من دونه لمعاوية فضرب قدم أبي شداد فقطعها و ضرب أبو شداد ذلك الرومي

فقتله و أسرعت إليه الأسنة فقتل فأخذ الراية بعده عبد الله بن قلع الأحمسي و ارتجز و قال

لا يبعد الله أبا شداد حيث أجاب دعوة المنادي

و شد بالسيف على الأعادي نعم الفتى كان لدى الطراد

و في طعان الخيل و الجلاد

ثم قاتل حتى قتل فأخذها بعده أخوه عبد الرحمن بن قلع فقاتل حتى قتل ثم أخذها عفيف بن إياس الأحمسي فلم تزل بيده حتى تحاجز

الناس.

[5 : 207 ]

قال نصر و حدثنا عمرو قال حدثنا عبد السلام قال قتل يومئذ من بني أحمس حازم بن أبي حازم أخو قيس بن أبي حازم و نعيم بن شهيد

بن التغلبية فأتى سميه ابن عمه نعيم بن الحارث بن التغلبية معاوية و كان من أصحابه فقال إن هذا القتيل ابن عمي فهبه لي أدفنه

فقال لا تدفنوهم فليسوا لذلك بأهل و الله ما قدرنا على دفن عثمان بينهم إلا سرا قال و الله لتأذنن لي في دفنه أو لألحقن بهم و

لأدعنك قال ويحك ترى أشياخ العرب لا نواريهم و أنت تسألني في دفن ابن عمك ادفنه إن شئت أو دعه فأتاه فدفنه. قال نصر و حدثنا

عمرو قال حدثنا أبو زهير العبسي عن النضر بن صالح أن راية غطفان العراق كانت مع عياش بن شريك بن حارثة بن جندب بن زيد بن

خلف بن رواحة فخرج رجل من آل ذي الكلاع فسأل المبارزة فبرز إليه قائد بن بكير العبسي فبارزه فشد عليه الكلاعي فأوهطه فقال

أبو سليم عياش بن شريك لقومه إني مبارز هذا الرجل فإن أصبت فرأسكم الأسود بن حبيب بن جمانة بن قيس بن زهير فإن أصيب

فرأسكم هرم بن شتير بن عمرو بن جندب فإن أصيب فرأسكم عبد الله بن ضرار من بني حنظلة بن رواحة ثم مشى نحو الكلاعي فلحقه

هرم بن شتير فأخذ بظهره و قال ليمسك رحم لا تبرز إلى هذا الطوال فقال هبلتك الهبول و هل هو إلا الموت قال و هل الفرار إلا منه

قال و هل منه بد و الله لأقتلنه أو ليلحقني

[5 : 208 ]

بقائد بن بكير فبرز له و معه حجفة من جلود الإبل فدنا منه فإذا الحديد مفرغ على الكلاعي لا يبين من نحره إلا مثل شراك النعل من

عنقه بين بيضته و درعه فضربه الكلاعي فقطع جحفته إلا نحوا من شبر فضربه عياش على ذلك الموضع فقطع نخاعه فقتله و خرج ابن

الكلاعي ثائرا بأبيه فقتله بكير بن وائل. قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن الصلت بن زهير النهدي أن راية بني نهد بالعراق أخذها

مسروق بن الهيثم بن سلمة فقتل ثم أخذها صخر بن سمي فارتث ثم أخذها علي بن عمير فقاتل حتى ارتث ثم أخذها عبد الله بن كعب

فقتل ثم أخذها سلمة بن خذيم بن جرثومة فارتث و صرع ثم أخذها عبد الله بن عمرو بن كبشة فارتث ثم أخذها أبو مسبح بن عمرو

فقتل ثم أخذها عبد الله بن النزال فقتل ثم أخذها ابن أخيه عبد الرحمن بن زهير فقتل ثم أخذها مولاه مخارق فقتل حتى صارت إلى

عبد الرحمن بن مخنف الأزدي. قال نصر فحدثنا عمرو قال حدثنا الصلت بن زهير قال حدثني عبد الرحمن بن مخنف قال صرع يزيد بن

المغفل إلى جنبي فقتلت قاتله و قمت على رأسه ثم صرع أبو زينب بن عروة فقتلت قاتله و قمت على رأسه و جاءني سفيان بن عوف

فقال أ قتلتم يزيد بن المغفل فقلت إي و الله

[5 : 209 ]

إنه لهذا الذي تراني قائما على رأسه قال و من أنت حياك الله قلت أنا عبد الرحمن بن مخنف فقال الشريف الكريم حياك الله و مرحبا

بك يا ابن عم أ فلا تدفعه إلي فأنا عمه سفيان بن عوف بن المغفل فقلت مرحبا بك أما الآن فنحن أحق به منك و لسنا بدافعيه إليك و

أما ما عدا ذلك فلعمري أنت عمه و وارثه. قال نصر حدثنا عمرو قال حدثنا الحارث بن حصين عن أشياخ الأزد أن مخنف بن سليم خطب

لما ندبت أزد العراق إلى قتال أزد الشام فقال الحمد لله و الصلاة على محمد رسوله ثم قال إن من الخطب الجليل و البلاء العظيم

إنا صرفنا إلى قومنا و صرفوا إلينا و الله ما هي إلا أيدينا نقطعها بأيدينا و ما هي إلا أجنحتنا نحذفها بأسيافنا فإن نحن لم نفعل لم

نناصح صاحبنا و لم نواس جماعتنا و إن نحن فعلنا فعزنا آلمنا و نارنا أخمدنا. و قال جندب بن زهير الأزدي و الله لو كنا آباؤهم

ولدناهم أو كانوا آباؤنا ولدونا ثم خرجوا عن جماعتنا و طعنوا على إمامنا و وازروا الظالمين الحاكمين بغير الحق على أهل ملتنا و

ديننا ما افترقنا بعد إن اجتمعنا حتى يرجعوا عما هم عليه و يدخلوا فيما ندعوهم إليه أو تكثر القتلى بيننا و بينهم. فقال مخنف أعزبك

الله في التيه و الله ما علمتك صغيرا و لا إلا كبيرا مشئوما و الله ما ميلنا في الرأي بين أمرين قط أيهما نأتي و أيهما ندع في جاهلية و لا إسلام

السابق

التالي