السابق

التالي

[19 : 7 ]

الجزء التاسع عشر

تتمة باب الحكم و المواعظ

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل

186إِنَّمَا الْمَرْءُ فِي الدُّنْيَا غَرَضٌ تَنْتَضِلُ فِيهِ الْمَنَايَا وَ نَهْبٌ تُبَادِرُهُ الْمَصَائِبُ وَ مَعَ كُلِّ جُرْعَة شَرَقٌ وَ فِي كُلِّ أَكْلَة غَصَصٌ وَ لَا يَنَالُ الْعَبْدُ

نِعْمَةً إِلَّا بِفِرَاقِ أُخْرَى وَ لَا يَسْتَقْبِلُ يَوْماً مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا بِفِرَاقِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ فَنَحْنُ أَعْوَانُ الْمَنُونِ وَ أَنْفُسُنَا نَصْبُ الْحُتُوفِ فَمِنْ أَيْنَ نَرْجُو

الْبَقَاءَ وَ هَذَا اللَّيْلُ وَ النَّهَارُ لَمْ يَرْفَعَا منْ شَيْء شَرَفاً إِلَّا أَسْرَعَا الْكَرَّةَ فِي هَدْمِ مَا بَنَيَا وَ تَفْرِيقِ مَا جَمَعَا

قد سبق ذرء من هذا الكلام في أثناء خطبته ع و قد ذكرنا نحن أشياء كثيرة في الدنيا و تقلبها بأهلها. و من كلام بعض الحكماء طوبى

للهارب من زخارف الدنيا و الصاد عن زهرة دمنتها و الخائف عند أمانها و المتهم لضمانها و الباكي عند ضحكها إليه و المتواضع عند

إعزازها له و الناظر بعين عقله إلى فضائحها و المتأمل لقبح مصارعها و التارك

[19 : 8 ]

لكلابها على جيفها و المكذب لمواعيدها و المتيقظ لخدعها و المعرض عن لمعها و العامل في إمهالها و المتزود قبل إعجالها. قوله

تنتضل النضل شيء يرمى و يروى تبادره أي تتبادره و الغرض الهدف. و النهب المال المنهوب غنيمة و جمعه نهاب. و قد سبق تفسير

قوله لا ينال العبد نعمة إلا بفراق أخرى و قلنا إن الذي حصلت له لذة الجماع حال ما هي حاصلة له لا بد أن يكون مفارقا لذة الأكل و

الشرب و كذلك من يأكل و يشرب يكون مفارقا حال أكله و شربه لذة الركض على الخيل في طلب الصيد و نحو ذلك. قوله فنحن

أعوان المنون لأنا نأكل و نشرب و نجامع و نركب الخيل و الإبل و نتصرف في الحاجات و الم آرب و الموت إنما يكون بأحد هذه

الأسباب إما من أخلاط تحدثها الم آكل و المشارب أو من سقطة يسقط الإنسان من دابة هو راكبها أو من ضعف يلحقه من الجماع

المفرط أو لمصادمات و اصطكاكات تصيبه عند تصرفه في م آربه و حركته و سعيه و نحو ذلك فكأنا نحن أعنا الموت على أنفسنا. قوله

نصب الحتوف يروى بالرفع و النصب فمن رفع فهو خبر المبتدإ و من نصبه جعله ظرفا

[19 : 9 ]

187لَا خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ كَمَا أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ

قد تكرر ذكر هذا القول و تكرر منا شرحه و شرح نظائره و كان يقال ما الإنسان لو لا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة. و كان

يقال اللسان عضو إن مرنته مرن و إن تركته خزن

[19 : 10 ]

188يَا ابْنَ آدَمَ مَا كَسَبْتَ فَوْقَ قُوتِكَ فَأَنْتَ فِيهِ خَازِنٌ لِغَيْرِكَ

أخذ هذا المعنى بعضهم فقال

ما لي أراك الدهر تجمع دائبا أ لبعل عرسك لا أبا لك تجمع

و عاد الحسن البصري عبد الله بن الأهتم في مرضه الذي مات فيه فأقبل عبد الله يصرف بصره إلى صندوق في جانب البيت ثم قال

للحسن يا أبا سعيد فيه مائة ألف لم يؤد منها زكاة و لم توصل بها رحم قال الحسن ثكلتك أمك فلم أعددتها قال لروعة الزمان و

مكاثرة الإخوان و جفوة السلطان ثم مات فحضر الحسن جنازته فلما دفن صفق بإحدى راحتيه الأخرى و قال إن هذا تاه شيطانه فحذره

روعة زمانه و جفوة سلطانه و مكاثرة إخوانه فيما استودعه الله إياه فادخره ثم خرج منه كئيبا حزينا لم يؤد زكاة و لم يصل رحما ثم

التفت فقال أيها الوارث كل هنيئا فقد أتاك هذا المال حلالا فلا يكن عليك وبالا أتاك ممن كان له جموعا منوعا يركب فيه لجج البحار

و مفاوز القفار من باطل جمعه و من حق منعه لم ينتفع به في حياته و ضره بعد وفاته جمعه فأوعاه و شده فأوكاه إلى يوم القيامة يوم

ذي حسرات و إن أعظم الحسرات أن ترى مالك في ميزان غيرك بخلت بمال أوتيته من رزق الله أن تنفقه في طاعة الله فخزنته لغيرك

فأنفقه في مرضاة ربه يا لها حسرة لا تقال و رحمة لا تنال إنا لله و إنا إليه راجعون

[19 : 11 ]

189إِنَّ لِلْقُلُوبِ شَهْوَةً وَ إِقْبَالًا وَ إِدْبَاراً فَأْتُوهَا مِنْ قِبَلِ شَهْوَتِهَا وَ إِقْبَالِهَا فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا أُكْرِهَ عَمِيَ

قد تقدم القول في هذا المعنى. و العلة في كون القلب يعمى إذا أكره على ما لا يحبه أن القلب عضو من الأعضاء يتعب و يستريح كما

تتعب الجثة عند استعمالها و أحمالها و تستريح عند ترك العمل كما يتعب اللسان عند الكلام الطويل و يستريح عند الإمساك و إذا

تواصل إكراه القلب على أمر لا يحبه و لا يؤثره تعب لأن فعل غير المحبوب متعب أ لا ترى أن جماع غير المحبوب يحدث من الضعف

أضعاف ما يحدثه جماع المحبوب و الركوب إلى مكان غير محبوب متعب و لا يشتهى يتعب البدن أضعاف ما يتعبه الركوب إلى تلك

المسافة إذا كان المكان محبوبا و إذا أتعب القلب و أعيا عجز عن إدراك ما نكلفه إدراكه لأن فعله هو الإدراك و كل عضو يتعب فإنه

يعجز عن فعله الخاص به فإذا عجز القلب عن فعله الخاص به و هو العلم و الإدراك فذاك هو عماه

[19 : 12 ]

190وَ كَانَ ع يَقُولُ مَتَى أَشْفِي غَيْظِي إِذَا غَضِبْتُ أَ حِينَ أَعْجِزُ عَنِ الِانْتِقَامِ فَيُقَالُ لِي لَوْ صَبَرْتَ أَمْ حِينَ أَقْدِرُ عَلَيْهِ فَيُقَالُ لِي لَوْ عَفَوْتَ

قد تقدم القول في الغضب مرارا. و هذا الفصل فصيح لطيف المعنى قال لا سبيل لي إلى شفاء غيظي عند غضبي لأني إما أن أكون قادرا

على الانتقام فيصدني عن تعجيله قول القائل لو غفرت لكان أولى و إما ألا أكون قادرا على الانتقام فيصدني عنه كوني غير قادر عليه

فإذن لا سبيل لي إلى الانتقام عند الغضب. و كان يقال العقل كالمرآة المجلوة يصدئه الغضب كما تصدأ المرآة بالخل فلا يثبت فيها

صورة القبح و الحسن. و اجتمع سفيان الثوري و فضيل بن عياض فتذاكرا الزهد فأجمعا على أن أفضل الأعمال الحلم عند الغضب و

الصبر عند الطمع

[19 : 13 ]

191وَ قَالَ ع وَ قَدْ مَرَّ بِقَذَر عَلَى مَزْبَلَة هَذَا مَا بَخِلَ بِهِ الْبَاخِلُونَ وَ فِي خَبَر آخَرَ أَنَّهُ قَالَ هَذَا مَا كُنْتُمْ تَتَنَافَسُونَ فِيهِ بِالْأَمْسِ

قد سبق القول في مثل هذا و أن الحسن البصري مر على مزبلة فقال انظروا إلى بطهم و دجاجهم و حلوائهم و عسلهم و سمنهم و

الحسن إنما أخذه من كلام أمير المؤمنين ع و قال ابن وكيع في قول المتنبي

لو أفكر العاشق في منتهى حسن الذي يسبيه لم يسبه

إنه أراد لو أفكر في حاله و هو في القبر و قد تغيرت محاسنه و سالت عيناه قال و هذا مثل قولهم لو أفكر الإنسان فيما يئول إليه

الطعام لعافته نفسه. و قد ضرب العلماء مثلا للدنيا و مخالفة آخرها أولها و مضادة مباديها عواقبها فقالوا إن شهوات الدنيا في القلب

لذيذة كشهوات الأطعمة في المعدة و سيجد الإنسان عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة و النتن و القبح ما يجده

للأطعمة اللذيذة إذا طبختها المعدة و بلغت غاية نضجها و كما أن الطعام كلما كان ألذ طعما و أظهر حلاوة كان رجيعه أقذر و أشد نتنا

فكذلك كل شهوة في القلب أشهى و ألذ و أقوى

[19 : 14 ]

فإن نتنها و كراهتها و التأذي بها عند الموت أشد بل هذه الحال في الدنيا مشاهدة فإن من نهبت داره و أخذ أهله و ولده و ماله تكون

مصيبته و ألمه و تفجعه في الذي فقد بمقدار لذته به و حبه له و حرصه عليه فكل ما كان في الوجود أشهى و ألذ فهو عند الفقد أدهى و

أمر و لا معنى للموت إلا فقد ما في الدنيا. و

قد روي أن النبي ص قال للضحاك بن سفيان الكلابي أ لست تؤتى بطعامك و قد قزح و ملح ثم تشرب عليه اللبن و الماء قال بلى قال

فإلى ما ذا يصير قال إلى ما قد علمت يا رسول الله قال فإن الله عز و جل ضرب مثل الدنيا بما يصير إليه طعام ابن آدم

و روى أبي بن كعب أن رسول الله ص قال إن أنت ضربت مثلا لابن آدم فانظر ما يخرج من ابن آدم و إن كان قزحه و ملحه إلى ما ذا صار

و قال الحسن رحمه الله قد رأيتهم يطيبونه بالطيب و الأفاويه ثم يرمونه حيث رأيتم قال الله عز و جل فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى

طَعامِهِ قال ابن عباس إلى رجيعه. و قال رجل لابن عمر إني أريد أن أسألك و أستحيي فقال لا تستحي و سل قال إذا قضى أحدنا حاجته

فقام هل ينظر إلى ذلك منه فقال نعم إن الملك يقول له انظر هذا ما بخلت به انظر إلى ما ذا صار

[19 : 15 ]

192لَمْ يَذْهَبْ مِنْ مَالِكَ مَا وَعَظَكَ

مثل هذا قولهم إن المصائب أثمان التجارب. و قيل لعالم فقير بعد أن كان غنيا أين مالك قال تجرت فيه فابتعت به تجربة الناس و

الوقت فاستفدت أشرف العوضين

[19 : 16 ]

193إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الْأَبْدَانُ فَابْتَغُوا لَهَا طَرَائِفَ الْحِكْمَةِ

هذا قد تكرر و تكرر منا ذكر ما قيل في إجمام النفس و التنفيس عنها من كرب الجد و الإحماض و فسرنا معنى قوله ع فابتغوا لها

طرائف الحكمة و قلنا المراد ألا يجعل الإنسان وقته كله مصروفا إلى الأنظار العقلية في البراهين الكلامية و الحكمية بل ينقلها من

ذلك أحيانا إلى النظر في الحكمة الخلقية فإنها حكمة لا تحتاج إلى إتعاب النفس و الخاطر. فأما القول في الدعابة فقد ذكرناه أيضا

فيما تقدم و أوضحنا أن كثيرا من أعيان الحكماء و العلماء كانوا ذوي دعابة مقتصدة لا مسرفة فإن الإسراف فيها يخرج صاحبه إلى

الخلاعة و لقد أحسن من قال

أفد طبعك المكدود بالجد راحة تجم و علله بشيء من المزح

و لكن إذا أعطيته ذاك فليكن بمقدار ما يعطى الطعام من الملح

[19 : 17 ]

194وَ قَالَ ع لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ الْخَوَارِجِ لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ كَلِمَةُ حَقّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ

معنى قوله سبحانه إِنِ الْحُكْمُ إِلّا لِلّهِ أي إذا أراد شيئا من أفعال نفسه فلا بد من وقوعه بخلاف غيره من القادرين بالقدرة فإنه لا يجب

حصول مرادهم إذا أرادوه أ لا ترى ما قبل هذه الكلمة يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ باب واحِد وَ ادْخُلُوا مِنْ أَبْواب مُتَفَرِّقَة وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ

مِنَ اللّهِ مِنْ شَيْء إِنِ الْحُكْمُ إِلّا لِلّهِ خاف عليهم من الإصابة بالعين إذا دخلوا من باب واحد فأمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة ثم قال

لهم وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ شَيْء أي إذا أراد الله بكم سوءا لم يدفع عنكم ذلك السوء ما أشرت به عليكم من التفرق ثم قال إِنِ

الْحُكْمُ إِلّا لِلّهِ أي ليس حي من الأحياء ينفذ حكمه لا محالة و مراده لما هو من أفعاله إلا الحي القديم وحده فهذا هو معنى هذه الكلمة

و ضلت الخوارج عندها فأنكروا على أمير المؤمنين ع موافقته على التحكيم و قالوا كيف يحكم و قد قال الله سبحانه إِنِ الْحُكْمُ إِلّا

لِلّهِ فغلطوا لموضع اللفظ المشترك و ليس هذا الحكم هو ذلك الحكم فإذن هي كلمة حق يراد بها باطل لأنها حق على المفهوم الأول

و يريد بها الخوارج نفي كل ما يسمى حكما إذا صدر عن غير الله تعالى و ذلك باطل لأن الله تعالى قد أمضى حكم المخلوقين في

كثير من الشرائع

[19 : 18 ]

195وَ قَالَ ع فِي صِفَةِ الْغَوْغَاءِ هُمُ الَّذِينَ إِذَا اجْتَمَعُوا غَلَبُوا وَ إِذَا تَفَرَّقُوا لَمْ يُعْرَفُوا وَ قِيلَ بَلْ قَالَ ع هُمُ الَّذِينَ إِذَا اجْتَمَعُوا ضَرُّوا وَ إِذَا

تَفَرَّقُوا نَفَعُوا فَقِيلَ قَدْ عَلِمْنَا مَضَرَّةَ اجْتِمَاعِهِمْ فَمَا مَنْفَعَةُ افْتِرَاقِهِمْ فَقَالَ ع يَرْجِعُ أَهْلُ الْمِهَنِ إِلَى مِهَنِهِمْ فَيَنْتَفِعُ النَّاسُ بِهِمْ كَرُجُوعِ الْبَنَّاءِ

إِلَى بِنَائِهِ وَ النَّسَّاجِ إِلَى مَنْسَجِهِ وَ الْخَبَّازِ إِلَى مَخْبَزِهِ

كان الحسن إذا ذكر الغوغاء و أهل السوق قال قتلة الأنبياء و كان يقال العامة كالبحر إذا هاج أهلك راكبه و قال بعضهم لا تسبوا

الغوغاء فإنهم يطفئون الحريق و ينقذون الغريق و يسدون البثوق. و قال شيخنا أبو عثمان الغاغة و الباغة و الحاكة كأنهم أعذار

عام واحد أ لا ترى أنك لا تجد أبدا في كل بلدة و في كل عصر هؤلاء بمقدار واحد و جهة واحدة من السخف و النقص و الخمول و

الغباوة و كان المأمون يقول كل شر و ظلم في العالم

[19 : 19 ]

فهو صادر عن العامة و الغوغاء لأنهم قتلة الأنبياء و المغرون بين العلماء و النمامون بين الأوداء و منهم اللصوص و قطاع الطريق و

الطرارون و المحتالون و الساعون إلى السلطان فإذا كان يوم القيامة حشروا على عادتهم في السعاية فقالوا رَبَّنا إِنّا أَطَعْنا سادَتَنا

وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً

[19 : 20 ]

196وَ قَالَ ع وَ قَدْ أُتِيَ بِجَان وَ مَعَهُ غَوْغَاءُ فَقَالَ لَا مَرْحَباً بِوُجُوه لَا تُرَى إِلَّا عِنْدَ كُلِّ سَوْأَة

أخذ هذا اللفظ المستعين بالله و قد أدخل عليه ابن أبي الشوارب القاضي و معه الشهود ليشهدوا عليه أنه قد خلع نفسه من الخلافة

و بايع للمعتز بالله فقال لا مرحبا بهذه الوجوه التي لا ترى إلا يوم سوء. و قال من مدح الغوغاء و العامة إن

في الحديث المرفوع أن الله ينصر هذا الدين بقوم لا خلاق لهم

و كان الأحنف يقول أكرموا سفهاءكم فإنهم يكفونكم النار و العار. و قال الشاعر

و إني لأستبقي امرأ السوء عدة لعدوة عريض من الناس جائب

أخاف كلاب الأبعدين و هرشها إذا لم تجاوبها كلاب الأقارب

[19 : 21 ]

197إِنَّ مَعَ كُلِّ إِنْسَان مَلَكَيْنِ يَحْفَظَانِهِ فَإِذَا جَاءَ الْقَدَرُ خَلَّيَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَهُ وَ إِنَّ الْأَجَلَ جُنَّةٌ حَصِينَةٌ

قد تقدم هذا و قلنا إنه ذهب كثير من الحكماء هذا المذهب و إن لله تعالى ملائكة موكلة تحفظ البشر من التردي في بئر و من إصابة

سهم معترض في طريق و من رفس دابة و من نهش حية أو لسع عقرب و نحو ذلك و الشرائع أيضا قد وردت بمثله و إن الأجل جنة أي

درع و لهذا في علم الكلام مخرج صحيح و ذلك لأن أصحابنا يقولون إن الله تعالى إذا علم أن في بقاء زيد إلى وقت كذا لطفا له أو

لغيره من المكلفين صد من يهم بقتله عن قتله بألطاف يفعلها تصده عنه أو تصرفه عنه بصارف أو يمنعه عنه بمانع كي لا يقطع ذلك

الإنسان بقتل زيد الألطاف التي يعلم الله أنها مقربة من الطاعة و مبعدة من المعصية لزيد أو لغيره فقد بان أن الأجل على هذا التقدير

جنة حصينة لزيد من حيث كان الله تعالى باعتبار ذلك الأجل مانعا من قتله و إبطال حياته و لا جنة أحصن من ذلك

[19 : 22 ]

198وَ قَالَ ع وَ قَدْ قَالَ لَهُ طَلْحَةُ وَ الزُّبَيْرُ نُبَايِعُكَ عَلَى أَنَّا شُرَكَاؤُكَ فِي هَذَا الْأَمْرِ فَقَالَ لَا وَ لَكِنَّكُمَا شَرِيكَانِ فِي الْقُوَّةِ وَ الِاسْتِعَانَةِ وَ

عَوْنَانِ عَلَى الْعَجْرِ وَ الْأَوَدِ

قد ذكرنا هذا فيما تقدم حيث شرحنا بيعة المسلمين لعلي ع كيف وقعت بعد مقتل عثمان و لقد أحسن فيما قال لهما لما سألاه أن

يشركاه في الأمر فقال أما المشاركة في الخلافة فكيف يكون ذلك و هل يصح أن يدبر أمر الرعية إمامان

و هل يجمع السيفان ويحك في غمد

و إنما تشركاني في القوة و الاستعانة أي إذا قوي أمري و أمر الإسلام بي قويتما أنتما أيضا و إذا عجزت عن أمر أو تأود علي أمر أي

اعوج كنتما عونين لي و مساعدين على إصلاحه. فإن قلت فما معنى قوله و الاستعانة قلت الاستعانة هاهنا الفوز و الظفر كانوا

يقولون للقامر يفوز قدحه قد جرى ابنا عنان و هما خطان يخطان في الأرض يزجر بهما الطير و استعان الإنسان إذا قال وقت الظفر و

الغلبة هذه الكلمة

[19 : 23 ]

199أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِنْ قُلْتُمْ سَمِعَ وَ إِنْ أَضْمَرْتُمْ عَلِمَ وَ بَادِرُوا الْمَوْتَ الَّذِي إِنْ هَرَبْتُمْ مِنْهُ أَدْرَكَكُمْ وَ إِنْ أَقَمْتُمْ أَخَذَكُمْ وَ إِنْ

نَسِيتُمُوهُ ذَكَرَكُمْ

قد تقدم منا كلام كثير في ذكر الموت و رأى الحسن البصري رجلا يجود بنفسه فقال إن أمرا هذا آخره لجدير أن يزهد في أوله و إن

أمرا هذا أوله لجدير أن يخاف من آخره. و من كلامه فضح الموت الدنيا. و قال خالد بن صفوان لو قال قائل الحسن أفصح الناس لهذه

الكلمة لما كان مخطئا و قال لرجل في جنازة أ ترى هذا الميت لو عاد إلى الدنيا لكان يعمل عملا صالحا قال نعم قال فإن لم يكن ذلك

فكن أنت ذاك

[19 : 24 ]

200لَا يُزَهِّدَنَّكَ فِي الْمَعْرُوفِ مَنْ لَا يَشْكُرُهُ لَكَ فَقَدْ يَشْكُرُكَ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَسْتَمْتِعُ بِشَيْء مِنْهُ وَ قَدْ يُدْرَكُ مِنْ شُكْرِ الشَّاكِرِ أَكْثَرَ مِمَّا أَضَاعَ

الْكَافِرُ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ

قد أخذت أنا هذا المعنى فقلت من جملة قصيدة لي حكمية

لا تسدين إلى ذي اللؤم مكرمة فإنه سبخ لا ينبت الشجرا

فإن زرعت فمحفوظ بمضيعة و أكل زرعك شكر الغير إن كفرا

و قد سبق منا كلام طويل في الشكر. و رأى العباس بن المأمون يوما بحضرة المعتصم خاتما في يد إبراهيم بن المهدي فاستحسنه

فقال له ما فص هذا الخاتم و من أين حصلته فقال إبراهيم هذا خاتم رهنته في دولة أبيك و افتككته في دولة أمير المؤمنين فقال

العباس فإن لم تشكر أبي على حقنه دمك فأنت لا تشكر أمير المؤمنين على فكه خاتمك. و قال الشاعر

لعمرك ما المعروف في غير أهله و في أهله إلا كبعض الودائع

فمستودع ضاع الذي كان عنده و مستودع ما عنده غير ضائع

و ما الناس في شكر الصنيعة عندهم و في كفرها إلا كبعض المزارع

فمزرعة طابت و أضعف نبتها و مزرعة أكدت على كل زارع

[19 : 25 ]

201كُلُّ وِعَاء يَضِيقُ بِمَا جُعِلَ فِيهِ إِلَّا وِعَاءَ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ يَتَّسِعُ بِهِ

هذا الكلام تحته سر عظيم و رمز إلى معنى شريف غامض و منه أخذ مثبتو النفس الناطقة الحجة على قولهم و محصول ذلك أن القوى

الجسمانية يكلها و يتعبها تكرار أفاعيلها عليها كقوة البصر يتعبها تكرار إدراك المرئيات حتى ربما أذهبها و أبطلها أصلا و كذلك قوة

السمع يتعبها تكرار الأصوات عليها و كذلك غيرها من القوى الجسمانية و لكنا وجدنا القوة العاقلة بالعكس من ذلك فإن الإنسان

كلما تكررت عليه المعقولات ازدادت قوته العقلية سعة و انبساطا و استعدادا لإدراك أمور أخرى غير ما أدركته من قبل حتى كان تكرار

المعقولات عليها يشحذها و يصقلها فهي إذن مخالفة في هذا الحكم للقوى الجسمانية فليست منها لأنها لو كانت منها لكان حكمها

حكم واحد من أخواتها و إذا لم تكن جسمانية فهي مجردة و هي التي نسميها بالنفس الناطقة

[19 : 26 ]

202أَوَّلُ عِوَضِ الْحَلِيمِ مِنْ حِلْمِهِ أَنَّ النَّاسَ أَنْصَارُهُ عَلَى الْجَاهِلِ

قد تقدم من أقوالنا في الحلم ما في بعضه كفاية. و في الحكم القديمة لا تشن حسن الظفر بقبح الانتقام. و كان يقال اعف عمن أبطأ

عن الذنب و أسرع إلى الندم. و كان يقال شاور الأناة و التثبت و ذاكر الحفيظة عند هيجانها ما في عواقب العقوبة من الندم و خاصمها

بما يؤدى إليه الحلم من الاغتباط. و كان يقال ينبغي للحازم أن يقدم على عذابه و صفحه تعريف المذنب بما جناه و إلا نسب حلمه

إلى الغفلة و كلال حد الفطنة و

قالت الأنصار للنبي ص يوم فتح مكة إنهم فعلوا بك ثم فعلوا يغرونه بقريش فقال إنما سميت محمدا لأحمد

[19 : 27 ]

203إِنْ لَمْ تَكُنْ حَلِيماً فَتَحَلَّمْ فَإِنَّهُ قَلَّ مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْم إِلَّا أَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ

التحلم تكلف الحلم و الذي قاله ع صحيح في مناهج الحكمة و ذلك لأن من تشبه بقوم و تكلف التخلق بأخلاقهم و التأدب ب آدابهم و

استمر على ذلك و مرن عليه الزمان الطويل اكتسب رياضة قوية و ملكة تامة و صار ذلك التكلف كالطبع له و انتقل عن الخلق الأول أ

لا ترى أن الأعرابي الجلف الجافي إذا دخل المدن و القرى و خالط أهلها و طال مكثه فيهم انتقل عن خلق الأعراب الذي نشأ عليه و

تلطف طبعه و صار شبيها بساكني المدن و كالأجنبي عن ساكني الوبر و هذا قد وجدناه في حيوانات أخرى غير البشر كالبازي و الصقر

و الفهد التي تراض حتى تذل و تأنس و تترك طبعها القديم بل قد شاهدناه في الأسد و هو أبعد الحيوان من الإنس. و ذكر ابن الصابي

أن عضد الدولة بن بويه كانت له أسود يصطاد بها كالفهود فتمسكه عليه حتى يدركه فيذكيه و هذا من العجائب الطريفة

[19 : 28 ]

204مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ رَبِحَ وَ مَنْ غَفَلَ عَنْهَا خَسِرَ وَ مَنْ خَافَ أَمِنَ وَ مَنِ اعْتَبَرَ أَبْصَرَ وَ مَنْ أَبْصَرَ فَهِمَ وَ مَنْ فَهِمَ عَلِمَ

قد جاء في الحديث المرفوع حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا

قوله و من خاف أمن أي من اتقى الله أمن من عذابه يوم القيامة. ثم قال و من اعتبر أبصر أي من قاس الأمور بعضها ببعض و اتعظ ب آيات

الله و أيامه أضاءت بصيرته و من أضاءت بصيرته فهم و من فهم علم. فإن قلت الفهم هو العلم فأي حاجة له إلى أن يقول و من فهم

علم قلت الفهم هاهنا هو معرفة المقدمات و لا بد أن يستعقب معرفة المقدمات معرفة النتيجة فمعرفة النتيجة هو العلم فكأنه قال من

اعتبر تنور قلبه بنور الله تعالى و من تنور قلبه عقل المقدمات البرهانية و من عقل المقدمات البرهانية علم النتيجة الواجبة عنها و

تلك هي الثمرة الشريفة التي في مثلها يتنافس المتنافسون

[19 : 29 ]

205وَ قَالَ ع لَتَعْطِفَنَّ الدُّنْيَا عَلَيْنَا بَعْدَ شِمَاسِهَا عَطْفَ الضَّرُوسِ عَلَى وَلَدِهَا وَ تَلَا عَقِيبَ ذَلِكَ وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي

الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ

الشماس مصدر شمس الفرس إذا منع من ظهره. و الضروس الناقة السيئة الخلق تعض حالبها و الإمامية تزعم أن ذلك وعد منه بالإمام

الغائب الذي يملك الأرض في آخر الزمان و أصحابنا يقولون إنه وعد بإمام يملك الأرض و يستولي على الممالك و لا يلزم من ذلك أنه

لا بد أن يكون موجودا و إن كان غائبا إلى أن يظهر بل يكفي في صحة هذا الكلام أن يخلق في آخر الوقت. و بعض أصحابنا يقول إنه

إشارة إلى ملك السفاح و المنصور و ابني المنصور بعده فإنهم الذين أزالوا ملك بني أمية و هم بنو هاشم و بطريقهم عطفت الدنيا

على بني عبد المطلب عطف الضروس. و تقول الزيدية إنه لا بد من أن يملك الأرض فاطمي يتلوه جماعة من الفاطميين على مذهب زيد

و إن لم يكن أحد منهم الآن موجودا

[19 : 30 ]

206اتَّقُوا اللَّهَ تُقَاةَ مَنْ شَمَّرَ تَجْرِيداً وَ جَدَّ تَشْمِيراً وَ أَكْمَشَ فِي مَهَل وَ بَادَرَ عَنْ وَجَل وَ نَظَرَ فِي كَرَّةِ الْمَوْئِلِ وَ عَاقِبَةِ الْمَصْدَرِ وَ مَغَبَّةِ

الْمَرْجِعِ

لو قال و جرد تشميرا لكان قد أتى بنوع مشهور من أنواع البديع لكنه لم يحفل بذلك و جرى على مقتضي طبعه من البلاغة الخالية

من التكلف و التصنع على أن ذلك قد روي و المشهور الرواية الأولى. و أكمش جد و أسرع و رجل كميش أي جاد و في مهل أي في

مهلة العمل قبل أن يضيق عليه وقته بدنو الأجل

[19 : 31 ]

207الْجُودُ حَارِسُ الْأَعْرَاضِ وَ الْحِلْمُ فِدَامُ السَّفِيهِ وَ الْعَفْوُ زَكَاةُ الظَّفَرِ وَ السُّلُوُّ عِوَضُكَ مِمَّنْ غَدَرَ وَ الِاسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ وَ قَدْ خَاطَرَ مَنِ

اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ وَ الصَّبْرُ يُنَاضِلُ الْحِدْثَانَ وَ الْجَزَعُ مِنْ أَعْوَانِ الزَّمَانِ وَ أَشْرَفُ الْغِنَى تَرْكُ الْمُنَى وَ كَمْ مِنْ عَقْل أَسِير عِنْدَ هَوَى أَمِير وَ مِنَ

التَّوْفِيقِ حِفْظُ التَّجْرِبَةِ وَ الْمَوَدَّةُ قَرَابَةٌ مُسْتَفَادَةٌ وَ لَا تَأْمَنَنَّ مَلُولًا

مثل قوله الجود حارس الأعراض قولهم كل عيب فالكرم يغطيه و الفدام خرقة تجعل على فم الإبريق فشبه الحلم بها فإنه يرد

السفيه عن السفه كما يرد الفدام الخمر عن خروج القذى منها إلى الكأس. فأما و العفو زكاة الظفر فقد تقدم أن لكل شيء زكاة و زكاة

الجاه رفد المستعين و زكاة الظفر العفو. و أما السلو عوضك ممن غدر فمعناه أن من غدر بك من أحبائك و أصدقائك فاسل عنه و تناسه

و اذكر ما عاملك به من الغدر فإنك تسلو عنه و يكون ما استفدته من السلو عوضا عن وصاله الأول قال الشاعر

[19 : 32 ]

أعتقني سوء ما صنعت من الرق فيا بردها على كبدي

فصرت عبدا للسوء فيك و ما أحسن سوء قبلي إلى أحد

و قد سبق القول في الاستشارة و إن المستغني برأيه مخاطر و كذلك القول في الصبر و المناضلة المراماة. و كذلك القول في الجزع

و أن الإنسان إذا جزع عند المصيبة فقد أعان الزمان على نفسه و أضاف إلى نفسه مصيبة أخرى. و سبق أيضا القول في المنى و أنها

من بضائع النوكى. و كذلك القول في الهوى و أنه يغلب الرأي و يأسره. و كذلك القول في التجربة و قولهم من حارب المجرب حلت

به الندامة و إن من أضاع التجربة فقد أضاع عقله و رأيه. و قد سبق القول في المودة و ذكرنا قولهم الصديق نسيب الروح و الأخ

نسيب الجسم و سبق القول في الملال. و قال العباس بن الأحنف

لو كنت عاتبة لسكن عبرتي أملي رضاك وزرت غير مراقب

لكن مللت فلم يكن لي حيلة صد الملول خلاف صد العاتب

[19 : 33 ]

208عُجْبُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ أَحَدُ حُسَّادِ عَقْلِهِ

قد تقدم القول في العجب و معنى هذه الكلمة أن الحاسد لا يزال مجتهدا في إظهار معايب المحسود و إخفاء محاسنه فلما كان عجب

الإنسان بنفسه كاشفا عن نقص عقله كان كالحاسد الذي دأبه إظهار عيب المحسود و نقصه. و كان يقال من رضي عن نفسه كثر الساخط

عليه. و قال مطرف بن الشخير لأن أبيت نائما و أصبح نادما أحب إلي من أن أبيت قائما و أصبح نادما

[19 : 34 ]

209أَغْضِ عَلَى الْقَذَى وَ الْأَلَمِ تَرْضَ أَبَداً

نظير هذا قول الشاعر

و من لم يغمض عينه عن صديقه و عن بعض ما فيه يمت و هو عاتب

و من يتتبع جاهدا كل عثرة يجدها و لا يسلم له الدهر صاحب

و قال الشاعر

إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ظمئت و أي الناس تصفو مشاربه

و كان يقال أغض عن الدهر و إلا صرعك و كان يقال لا تحارب الأيام و إن جنحت دون مطلوبك منها و اصحبها بسلاسة القياد فإنك إن

تصحبها بذلك تعطك بعد المنع و تلن لك بعد القساوة و إن أبيت عليها قادتك إلى مكروه صروفها

[19 : 35 ]

210مَنْ لَانَ عُودُهُ كَثُفَتْ أَغْصَانُهُ

تكاد هذه الكلمة أن تكون إيماء إلى قوله تعالى وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ و معنى هذه الكلمة أن من حسن خلقه و لانت

كلمته كثر محبوه و أعوانه و أتباعه. و نحوه قوله من لانت كلمته وجبت محبته. و قال تعالى وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا

مِنْ حَوْلِكَ و أصل هذه الكلمة مطابق للقواعد الحكمية أعني الشجرة ذات الأغصان حقيقة و ذلك لأن النبات كالحيوان في القوى

النفسانية أعني الغاذية و المنمية و ما يخدم الغاذية من القوى الأربع و هي الجاذبة و الماسكة و الدافعة و الهاضمة فإذا كان اليبس

غالبا على شجرة كانت أغصانها أخف و كان عودها أدق و إذا كانت الرطوبة غالبة كانت أغصانها أكثر و عودها أغلظ و ذلك لاقتضاء

اليبس الذبول و اقتضاء الرطوبة الغلظ و العبالة و الضخامة أ لا ترى أن الإنسان الذي غلب اليبس على مزاجه لا يزال مهلوسا نحيفا

و الذي غلبت الرطوبة عليه لا يزال ضخما عبلا

[19 : 36 ]

211الْخِلَافُ يَهْدِمُ الرَّأْيَ هذا مثل

قوله ع في موضع آخر لا رأي لمن لا يطاع

و يروى لا إمرة لمن لا يطاع

و في أخبار قصير و جذيمة لو كان يطاع لقصير أمر. و كان يقال اللجاج يشحذ الزجاج و يثير العجاج. و قال دريد بن الصمة

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد

فلما عصوني كنت منهم و قد أرى غوايتهم و أنني غير مهتدي

و كان يقال أهدى رأي الرجل ما نفذ حكمه فإذا خولف فسد. و من كلام أفلاطون اللجاج عسر انطباع المعقولات في النفس و ذلك إما

لفرط حدة تكون في الإنسان و إما لغلظ طبع فلا ينقاد للرأي

[19 : 37 ]

212مَنْ نَالَ اسْتَطَالَ يجوز أن يريد به من أثرى و نال من الدنيا حظا استطال على الناس. و يجوز أن يريد به من جاد استطال بجوده.

يقال نالني فلان بكذا أي جاد به علي و رجل نال أي جواد ذو نائل و مثله رجل طان أي ذو طين و رجل مال أي ذو مال

[19 : 38 ]

213فِي تَقَلُّبِ الْأَحْوَالِ عِلْمُ جَوَاهِرِ الرِّجَالِ

معناه لا تعلم أخلاق الإنسان إلا بالتجربة و اختلاف الأحوال عليه و قديما قيل ترى الفتيان كالنخل و ما يدريك ما الدخل. و قال

الشاعر

لا تحمدن امرأ حتى تجربه و لا تذمنه إلا بتجريب

و قالوا التجربة محك و قالوا مثل الإنسان مثل البطيخة ظاهرها مونق و قد يكون في باطنها العيب و الدود و قد يكون طعمها حامضا

و تفها. و قالوا للرجل المجرب يمدحونه قد آل وائل عليه. و قال الشاعر يمدح

ما زال يحلب هذا الدهر أشطره يكون متبعا طورا و متبعا

حتى استمرت على شزر مريرته مستحكم الرأي لا قحما و لا ضرعا

[19 : 39 ]

214حَسَدُ الصَّدِيقِ مِنْ سُقْمِ الْمَوَدَّةِ

إذا حسدك صديقك على نعمة أعطيتها لم تكن صداقته صحيحة فإن الصديق حقا من يجري مجرى نفسك و الإنسان لم يحسد نفسه. و

قيل لحكيم ما الصديق فقال إنسان هو أنت إلا أنه غيرك. و أخذ هذا المعنى أبو الطيب فقال

ما الخل إلا من أود بقلبه و أرى بطرف لا يرى بسوائه

و من أدعية الحكماء اللهم اكفني بوائق الثقات و احفظني من كيد الأصدقاء و قال الشاعر

احذر عدوك مرة و احذر صديقك ألف مره

فلربما انقلب الصديق فكان أعرف بالمضره

و قال آخر

احذر مودة ماذق شاب المرارة بالحلاوة

[19 : 40 ]

يحصي الذنوب عليك أيام الصداقة للعداوة

و ذكر خالد بن صفوان شبيب بن شيبة فقال ذاك رجل ليس له صديق في السر و لا عدو في العلانية. و قال الشاعر

إذا كان دواما أخوك مصارما موجهة في كل أوب ركائبه

فخل له ظهر الطريق و لا تكن مطية رحال كثير مذاهبه

[19 : 41 ]

215أَكْثَرُ مَصَارِعِ الْعُقُولِ تَحْتَ بُرُوقِ الْمَطَامِعِ

قد تقدم منا قول في هذا المعنى و منه قول الشاعر

طمعت بليلى أن تريع و إنما تقطع أعناق الرجال المطامع

و قال آخر

إذا حدثتك النفس أنك قادر على ما حوت أيدي الرجال فكذب

و إياك و الأطماع إن وعودها رقارق آل أو بوارق خلب

[19 : 42 ]

216لَيْسَ مِنَ الْعَدْلِ الْقَضَاءُ عَلَى الثِّقَةِ بِالظَّنِّ

هذا مثل قول أصحاب أصول الفقه لا يجوز نسخ القرآن و السنة المتواترة بخبر الواحد لأن المظنون لا يرفع المعلوم. و لفظ الثقة

هاهنا مرادف للفظ العلم فكأنه قال لا يجوز أن يزال ما علم بطريق قطعية لأمر ظني. فإن قلت أ ليس البراءة الأصلية معلومة بالعقل و

مع ذلك ترفع بالأمارات الظنية كأخبار الآحاد. قلت ليست البراءة الأصلية معلومة بالعقل مطلقا بل مشروطة بعدم ما يرفعها من طريق

علمي أو ظني أ لا ترى أن أكل الفاكهة و شرب الماء معلوم بالعقل حسنه و لكن لا مطلقا بل بشرط انتفاء ما يقتضي قبحه فإنا لو

أخبرنا إنسان أن هذه الفاكهة أو هذا الماء مسموم لقبح منا الإقدام على تناولهما و إن كان قول ذلك المخبر الواحد لا يفيد العلم

القطعي

[19 : 43 ]

217بِئْسَ الزَّادُ إِلَى الْمَعَادِ الْعُدْوَانُ عَلَى الْعِبَادِ

قد تقدم من قولنا في الظلم و العدوان ما فيه كفاية. و كان يقال عجبا لمن عومل فأنصف إذا عامل كيف يظلم و أعجب منه من عومل

فظلم إذا عامل كيف يظلم. و كان يقال العدو عدوان عدو ظلمته و عدو ظلمك فإن اضطرك الدهر إلى أحدهما فاستعن بالذي ظلمك

فإن الآخر موتور

[19 : 44 ]

218مِنْ أَشْرَفِ أَفْعَالِ الْكَرِيمِ غَفْلَتُهُ عَمَّا يَعْلَمُ

كان يقال التغافل من السؤدد و قال أبو تمام

ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي

و قال طاهر بن الحسين بن مصعب

و يكفيك من قوم شواهد أمرهم فخذ صفوهم قبل امتحان الضمائر

فإن امتحان القوم يوحش منهم و ما لك إلا ما ترى في الظواهر

و إنك إن كشفت لم تر مخلصا و أبدى لك التجريب خبث السرائر

و كان يقال بعض التغافل فضيلة و تمام الجود الإمساك عن ذكر المواهب و من الكرم أن تصفح عن التوبيخ و أن تلتمس ستر هتك

الكريم

[19 : 45 ]

219مَنْ كَسَاهُ الْحَيَاءُ ثَوْبَهُ لَمْ يَرَ النَّاسُ عَيْبَهُ

قد سبق منا قول كثير في الحياء

فصل في الحياء و ما قيل فيه

و كان يقال الحياء تمام الكرم و الحلم تمام العقل. و قال بعض الحكماء الحياء انقباض النفس عن القبائح و هو من خصائص

الإنسان لأنه لا يوجد في الفرس و لا في الغنم و البقر و نحو ذلك من أنواع الحيوانات فهو كالضحك الذي يختص به نوع الإنسان و

أول ما يظهر من قوة الفهم في الصبيان الحياء و قد جعله الله تعالى في الإنسان ليرتدع به عما تنزع إليه نفسه من القبيح فلا يكون

كالبهيمة و هو خلق مركب من جبن و عفة و لذلك لا يكون المستحي فاسقا و لا الفاسق مستحيا لتنافي اجتماع العفة و الفسق و قلما

يكون الشجاع مستحيا و المستحي شجاعا لتنافي اجتماع الجبن و الشجاعة و لعزة وجود ذلك ما يجمع الشعراء بين المدح

بالشجاعة و المدح بالحياء نحو قول القائل

يجري الحياء الغض من قسماتهم في حين يجري من أكفهم الدم

[19 : 46 ]

و قال آخر

كريم يغض الطرف فضل حيائه و يدنو و أطراف الرماح دوان

و متى قصد به الانقباض فهو مدح للصبيان دون المشايخ و متى قصد به ترك القبيح فهو مدح لكل أحد و بالاعتبار الأول قيل الحياء

بالأفاضل قبيح و بالاعتبار الثاني ورد إن الله ليستحيي من ذي شيبة في الإسلام أن يعذبه أي يترك تعذيبه و يستقبح لكرمه ذلك. فأما

الخجل فحيرة تلحق النفس لفرط الحياء و يحمد في النساء و الصبيان و يذم بالاتفاق في الرجال. فأما القحة فمذمومة بكل لسان إذ

هي انسلاخ من الإنسانية و حقيقتها لجاج النفس في تعاطي القبيح و اشتقاقها من حافر و قاح أي صلب و لهذه المناسبة قال الشاعر

يا ليت لي من جلد وجهك رقعة فأعد منها حافرا للأشهب

و ما أصدق قول الشاعر

صلابة الوجه لم تغلب على أحد إلا تكامل فيه الشر و اجتمعا

فأما كيف يكتسب الحياء فمن حق الإنسان إذا هم بقبيح أن يتصور أجل من نفسه أنه يراه فإن الإنسان يستحيي ممن يكبر في نفسه

أن يطلع على عيبه و لذلك لا يستحيي من الحيوان غير الناطق و لا من الأطفال الذين لا يميزون و يستحيي من العالم أكثر مما

يستحيي من الجاهل و من الجماعة أكثر مما يستحيي من الواحد و الذين يستحيي الإنسان منهم ثلاثة البشر و نفسه و الله تعالى أما

البشر فهم أكثر

[19 : 47 ]

من يستحيي منه الإنسان في غالب الناس ثم نفسه ثم خالقه و ذلك لقلة توفيقه و سوء اختياره. و اعلم أن من استحيا من الناس و لم

يستحي من نفسه فنفسه عنده أخس من غيره و من استحيا منهما و لم يستحي من الله تعالى فليس عارفا لأنه لو كان عارفا بالله لما

استحيا من المخلوق دون الخالق أ لا ترى أن الإنسان لا بد أن يستحيي من الذي يعظمه و يعلم أنه يراه أو يستمع بخبره فيبكته و

من لا يعرف الله تعالى كيف يستعظمه و كيف يعلم أنه يطلع عليه و

في قول رسول الله ص استحيوا من الله حق الحياء

أمر في ضمن كلامه هذا بمعرفته سبحانه و حث عليها و قال سبحانه أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللّهَ يَرى تنبيها على أن العبد إذا علم أن ربه يراه

استحيا من ارتكاب الذنب. و سئل الجنيد رحمه الله عما يتولد منه الحياء من الله تعالى فقال أن يرى العبد آلاء الله سبحانه و نعمه

عليه و يرى تقصيره في شكره. فإن قال قائل فما معنى

قول النبي ص من لا حياء له فلا إيمان له

قيل له لأن الحياء أول ما يظهر من أمارة العقل في الإنسان و أما الإيمان فهو آخر المراتب و محال حصول المرتبة الآخرة لمن لم

تحصل له المرتبة الأولى فالواجب إذن أن من لا حياء له فلا إيمان له. و

قال ع الحياء شعبة من الإيمان

و قال الإيمان عريان و لباسه التقوى و زينته الحياء

[19 : 48 ]

220بِكَثْرَةِ الصَّمْتِ تَكُونُ الْهَيْبَةُ وَ بِالنَّصَفَةِ يَكْثُرُ الْمُوَاصِلُونَ وَ بِالْإِفْضَالِ تَعْظُمُ الْأَقْدَارُ وَ بِالتَّوَاضُعِ تَتِمُّ النِّعْمَةُ وَ بِاحْتِمَالِ الْمُؤَنِ يَجِبُ

السُّؤْدُدُ وَ بِالسِّيرَةِ الْعَادِلَةِ يُقْهَرُ الْمُنَاوِئُ وَ بِالْحِلْمِ عَنِ السَّفِيهِ تَكْثُرُ الْأَنْصَارُ عَلَيْهِ

قال يحيى بن خالد ما رأيت أحدا قط صامتا إلا هبته حتى يتكلم فإما أن تزداد تلك الهيبة أو تنقص و لا ريب أن الإنصاف سبب انعطاف

القلوب إلى المنصف و أن الإفضال و الجود يقتضي عظم القدر لأنه إنعام و المنعم مشكور و التواضع طريق إلى تمام النعمة و لا

سؤدد إلا باحتمال المؤن كما قال أبو تمام

و الحمد شهد لا ترى مشتاره يجنيه إلا من نقيع الحنظل

غل لحامله و يحسبه الذي لم يوه عاتقه خفيف المحمل

و السيرة العادلة سبب لقهر الملك الذي يسير بها أعداءه و من حلم عن سفيه و هو قادر على الانتقام منه نصره الناس كلهم عليه و

اتفقوا كلهم على ذم ذلك السفيه و تقبيح فعله و الاستقراء و اختبار العادات تشهد بجميع ذلك

[19 : 49 ]

221الْعَجَبُ لِغَفْلَةِ الْحُسَّادِ عَنْ سَلَامَةِ الْأَجْسَادِ

إنما لم يحسد الحاسد على صحة الجسد لأنه صحيح الجسد فقد شارك في الصحة و ما يشارك الإنسان غيره فيه لا يحسده عليه و

لهذا أرباب الحسد إذا مرضوا حسدوا الأصحاء على الصحة. فإن قلت فلما ذا تعجب أمير المؤمنين ع قلت لكلامه ع وجه و هو أن

الحسد لما تمكن في أربابه و صار غريزة فيهم تعجب كيف لا يتعدى هذا الخلق الذميم إلى أن يحسد الإنسان غيره على ما يشاركه فيه

فإن زيدا إذا أبغض عمرا بغضا شديدا ود أن تزول عنه نعمته إليه و إن كان ذا نعمة كنعمته بل ربما كان أقوى و أحسن حالا. و يجوز أن

يريد معنى آخر و هو تعجبه من غفلة الحساد على أن الحسد مؤثر في سلامة أجسادهم و مقتض سقمهم و هذا أيضا واضح

[19 : 50 ]

222الطَّامِعُ فِي وِثَاقِ الذُّلِّ من أمثال البحتري قوله

و اليأس إحدى الراحتين و لن ترى تعبا كظن الخائب المكدود

و كان يقال ما طمعت إلا و ذلت يعنون النفس. و في البيت المشهور

تقطع أعناق الرجال المطامع

و قالوا عز من قنع و ذل من طمع. و قد تقدم القول في الطمع مرارا

[19 : 51 ]

223وَ قَالَ ع وَ قَدْ سُئِلَ عَنِ الْإِيمَانِ الْإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَ إِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَ عَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ

قد تقدم قولنا في هذه المسألة و هذا هو مذهب أصحابنا المعتزلة بعينه لأن العمل بالأركان عندنا داخل في مسمى الإيمان أعني فعل

الواجبات فمن لم يعمل لم يسم مؤمنا و إن عرف بقلبه و أقر بلسانه و هذا خلاف قول المرجئة من الأشعرية و الإمامية و الحشوية.

فإن قلت فما قولك في النوافل هل هي داخلة في مسمى الإيمان أم لا قلت في هذا خلاف بين أصحابنا و هو مستقصى في كتبي الكلامية

[19 : 52 ]

224مَنْ أَصْبَحَ عَلَى الدُّنْيَا حَزِيناً فَقَدْ أَصْبَحَ لِقَضَاءِ اللَّهِ سَاخِطاً وَ مَنْ أَصْبَحَ يَشْكُو مُصِيبَةً نَزَلَتْ بِهِ فَإِنَّمَا يَشْكُو رَبَّهُ وَ مَنْ أَتَى غَنِيّاً

فَتَوَاضَعَ لَهُ لِغِنَاهُ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ وَ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَهُوَ كَانَ مِمَّنْ يَتَّخِذُ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَ مَنْ لَهِجَ قَلْبُهُ بِحُبِّ الدُّنْيَا الْتَاطَ

مِنْهَا بِثَلَاث هَمّ لَا يُغِبُّهُ وَ حِرْص لَا يَتْرُكُهُ وَ أَمَل لَا يُدْرِكُهُ

إذا كان الرزق بقضاء الله و قدره فمن حزن لفوات شيء منه فقد سخط قضاء الله و ذلك معصية لأن الرضا بقضاء الله واجب و كذلك من

شكا مصيبة حلت به فإنما يشكو فاعلها لا هي لأنها لم تنزل به من تلقاء نفسها و فاعلها هو الله و من اشتكى الله فقد عصاه و التواضع

للأغنياء تعظيما لغناهم أو رجاء شيء مما في أيديهم فسق. و كان يقال لا يحمد التيه إلا من فقير على غني فأما قوله ع و من قرأ القرآن

فمات فدخل النار فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزوا. فلقائل أن يقول قد يكون مؤمنا بالقرآن ليس بمتخذ له هزوا و يقرؤه ثم

[19 : 53 ]

يدخل النار لأنه أتى بكبيرة أخرى نحو القتل و الزنا و الفرار من الزحف و أمثال ذلك. و الجواب أن معنى كلامه ع هو أن من قرأ

القرآن فمات فدخل النار لأجل قراءته القرآن فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزوا أي يقرؤه هازئا به ساخرا منه مستهينا بمواعظه و

زواجره غير معتقد أنه من عند الله. فإن قلت إنما دخل من ذكرت النار لا لأجل قراءته القرآن بل لهزئه به و جحوده إياه و أنت قلت

معنى كلامه أنه من دخل النار لأجل قراءته القرآن فهو ممن كان يستهزئ بالقرآن. قلت بل إنما دخل النار لأنه قرأه على صفة

الاستهزاء و السخرية أ لا ترى أن الساجد للصنم يعاقب لسجوده له على جهة العبادة و التعظيم و إن كان لو لا ما يحدثه مضافا

للسجود من أفعال القلوب لما عوقب. و يمكن أن يحمل كلامه ع على تفسير آخر فيقال إنه عنى بقوله إنه كما كان ممن يتخذ آيات

الله هزوا أنه يعتقد أنها من عند الله و لكنه لا يعمل بموجبها كما يفعله الآن كثير من الناس. قوله ع التاط بقلبه أي لصق و لا يغبه أي

لا يأخذه غبا بل يلازمه دائما و صدق ع فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة و حب الدنيا هو الموجب للهم و الغم و الحرص و الأمل و

الخوف على ما اكتسبه أن ينفد و للشح بما حوت يده و غير ذلك من الأخلاق الذميمة

[19 : 54 ]

225كَفَى بِالْقَنَاعَةِ مُلْكاً وَ بِحُسْنِ الْخُلُقِ نَعِيماً

قد تقدم القول في هذين و هما القناعة و حسن الخلق. و كان يقال يستحق الإنسانية من حسن خلقه و يكاد السيئ الخلق يعد من

السباع. و قال بعض الحكماء حد القناعة هو الرضا بما دون الكفاية و الزهد الاقتصار على الزهيد أي القليل و هما متقاربان و في

الأغلب إنما الزهد هو رفض الأمور الدنيوية مع القدرة عليها و أما القناعة فهي إلزام النفس الصبر عن المشتهيات التي لا يقدر عليها و

كل زهد حصل عن قناعة فهو تزهد و ليس بزهد و كذلك قال بعض الصوفية القناعة أول الزهد تنبيها على أن الإنسان يحتاج أولا إلى

قدع نفسه و تخصصه بالقناعة ليسهل عليه تعاطي الزهد و القناعة التي هي الغنى بالحقيقة لأن الناس كلهم فقراء من وجهين أحدهما

لافتقارهم إلى الله تعالى كما قال يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللّهِ وَ اللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. و الثاني لكثرة حاجاتهم فأغناهم لا

محالة أقلهم حاجة و من سد مفاقره بالمقتنيات فما في انسدادها مطمع و هو كمن يرقع الخرق بالخرق و من يسدها بالاستغناء عنها

بقدر وسعه و الاقتصار على تناول ضرورياته فهو الغني المقرب من الله سبحانه كما أشار إليه في قصة طالوت إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَر

فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ قال أصحاب المعاني و الباطن هذا إشارة إلى الدنيا

[19 : 55 ]

226وَ سُئِلَ ع عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً فَقَالَ هِيَ الْقَنَاعَةُ

لا ريب أن الحياة الطيبة هي حياة الغنى و قد بينا أن الغني هو القنوع لأنه إذا كان الغنى عدم الحاجة فأغنى الناس أقلهم حاجة إلى

الناس و لذلك كان الله تعالى أغنى الأغنياء لأنه لا حاجة به إلى شيء و على هذا

دل النبي بقوله ص ليس الغنى بكثرة العرض إنما الغنى غنى النفس

و قال الشاعر

فمن أشرب اليأس كان الغني و من أشرب الحرص كان الفقيرا

و قال الشاعر

غنى النفس ما يكفيك من سد خلة فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا

و قال بعض الحكماء المخير بين أن يستغني عن الدنيا و بين أن يستغني بالدنيا كالمخير بين أن يكون مالكا أو مملوكا. و لهذا

قال ع تعس عبد الدينار و الدرهم تعس فلا انتعش و شيك فلا انتقش

[19 : 56 ]

و قيل لحكيم لم لا تغتم قال لأني لم أتخذ ما يغمني فقده. و قال الشاعر

فمن سره ألا يرى ما يسوءه فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا

و قال أصحاب هذا الشأن القناعة من وجه صبر و من وجه جود لأن الجود ضربان جود بما في يدك منتزعا و جود عما في يد غيرك متورعا

و ذلك أشرفهما و لا يحصل الزهد في الحقيقة إلا لمن يعرف الدنيا ما هي و يعرف عيوبها و آفاتها و يعرف الآخرة و افتقاره إليها و لا بد

في ذلك من العلم أ لا ترى إلى قوله تعالى قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيم وَ

قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ لا يُلَقّاها إِلَّا الصّابِرُونَ. و لأن الزاهد في الدنيا راغب في

الآخرة و هو يبيعها بها كما قال الله تعالى إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الآية. و الكيس لا يبيع عينا بأثر إلا إذا عرفهما و عرف فضل ما

يبتاع على ما يبيع

[19 : 57 ]

227شَارِكُوا الَّذِينَ قَدْ أَقْبَلَ عَلَيْهِمُ الرِّزْقُ فَإِنَّهُ أَخْلَقُ لِلْغِنَى وَ أَجْدَرُ بِإِقْبَالِ الْحَظِّ

قد تقدم القول في الحظ و البخت. و كان يقال الحظ يعدي كما يعدي الجرب و هذا يطابق كلمة أمير المؤمنين ع لأن مخالطة

المجدود ليست كمخالطة غير المجدود فإن الأولى تقتضي الاشتراك في الحظ و السعادة و الثانية تقتضي الاشتراك في الشقاء و

الحرمان. و القول في الحظ وسيع جدا. و قال بعضهم البخت على صورة رجل أعمى أصم أخرس و بين يديه جواهر و حجارة و هو يرمي

بكلتا يديه. و كان مالك بن أنس فقيه المدينة و أخذ الفقه عن الليث بن سعد و كانوا يزدحمون عليه و الليث جالس لا يلتفتون إليه

فقيل لليث إن مالكا إنما أخذ عنك فما لك خاملا و هو أنبه الناس ذكرا فقال دانق بخت خير من جمل بختي حمل علما. و قال الرضي

أسيغ الغيظ من نوب الليالي و ما يحفلن بالحنق المغيظ

و أرجو الرزق من خرق دقيق يسد بسلك حرمان غليظ

و أرجع ليس في كفي منه سوى عض اليدين على الحظوظ

[19 : 58 ]

228وَ قَالَ ع فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَ جَلَّ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ الْعَدْلُ الْإِنْصَافُ وَ الْإِحْسَانُ التَّفَضُّلُ

هذا تفسير صحيح اتفق عليه المفسرون كافة و إنما دخل الندب تحت الأمر لأن له صفة زائدة على حسنه و ليس كالمباح الذي لا صفة

له زائدة على حسنه. و قال الزمخشري العدل هو الواجب لأن الله عز و جل عدل فيه على عباده فجعل ما فرضه عليهم منه واقعا تحت

طاقتهم و الإحسان الندب و إنما علق أمره بهما جميعا لأن الفرض لا بد أن يقع فيه تفريط فيجبره الندب و لذلك

قال رسول الله ص لإنسان علمه الفرائض فقال و الله لا زدت فيها و لا نقصت منها أفلح إن صدق

فعقد الفلاح بشرط الصدق و السلامة من التفريط و

قال ص استقيموا و لن تحصوا

فليس ينبغي أن يترك ما يجبر كسر التفريط من النوافل. و لقائل أن يقول إن كان إنما سمي الواجب عدلا لأنه داخل تحت طاقة

المكلف فليسم الندب عدلا لأنه داخل تحت طاقة المكلف و أما قوله إنما أمر بالندب لأنه يجبر ما وقع فيه التفريط من الواجب فلا

يصح على مذهبه و هو من أعيان المعتزلة لأنه لو جبرت النافلة بالتفريط في الواجب لكانت واجبة مثله و كيف يقول الزمخشري هذا

و من قول مشايخنا إن تارك صلاة واحدة من الفرائض لو صلى مائة ألف ركعة من النوافل لم يكفر ثوابها عقاب ترك تلك الصلاة

[19 : 59 ]

229وَ قَالَ ع مَنْ يُعْطِ بِالْيَدِ الْقَصِيرَةِ يُعْطَ بِالْيَدِ الطَّوِيلَةِ

قال الرضي رحمه الله تعالى و معنى ذلك أن ما ينفقه المرء من ماله في سبيل الخير و البر و إن كان يسيرا فإن الله تعالى يجعل

الجزاء عليه عظيما كثيرا و اليدان هاهنا عبارة عن النعمتين ففرق ع بين نعمة العبد و نعمة الرب تعالى ذكره بالقصيرة و الطويلة

فجعل تلك قصيرة و هذه طويلة لأن نعم الله أبدا تضعف على نعم المخلوقين أضعافا كثيرة إذ كانت نعم الله أصل النعم كلها فكل

نعمة إليها ترجع و منها تنزع

هذا الفصل قد شرحه الرضي رحمه الله فأغنى عن التعرض بشرحه

[19 : 60 ]

230وَ قَالَ ع لِابْنِهِ الْحَسَنِ لَا تَدْعُوَنَّ إِلَى مُبَارَزَة فَإِنْ دُعِيتَ إِلَيْهَا فَأَجِبْ فَإِنَّ الدَّاعِيَ إِلَيْهَا بَاغ وَ الْبَاغِيَ مَصْرُوعٌ

مثل من شجاعة علي

قد ذكر ع الحكمة ثم ذكر العلة و ما سمعنا أنه ع دعا إلى مبارزة قط و إنما كان يدعى هو بعينه أو يدعو من يبارز فيخرج إليه فيقتله

دعا بنو ربيعة بن عبد بن شمس بني هاشم إلى البراز يوم بدر فخرج ع فقتل الوليد و اشترك هو و حمزة ع في قتل عتبة و دعا طلحة

بن أبي طلحة إلى البراز يوم أحد فخرج إليه فقتله و دعا مرحب إلى البراز يوم خيبر فخرج إليه فقتله. فأما الخرجة التي خرجها يوم

الخندق إلى عمرو بن عبد ود فإنها أجل من أن يقال جليلة و أعظم من أن يقال عظيمة و ما هي إلا كما قال شيخنا أبو الهذيل و قد سأله

سائل أيما أعظم منزلة عند الله علي أم أبو بكر فقال يا ابن أخي و الله لمبارزة علي عمرا يوم الخندق تعدل أعمال المهاجرين و

الأنصار و طاعاتهم كلها و تربي عليها فضلا عن أبي بكر وحده و قد روي عن حذيفة بن اليمان ما يناسب هذا بل ما هو أبلغ منه

روى قيس بن الربيع عن أبي هارون العبدي عن ربيعة بن مالك السعدي قال أتيت حذيفة بن اليمان فقلت يا أبا عبد الله إن الناس

يتحدثون عن علي بن أبي طالب و مناقبه فيقول لهم أهل

[19 : 61 ]

البصيرة إنكم لتفرطون في تقريظ هذا الرجل فهل أنت محدثي بحديث عنه أذكره للناس فقال يا ربيعة و ما الذي تسألني عن علي و ما

الذي أحدثك عنه و الذي نفس حذيفة بيده لو وضع جميع أعمال أمة محمد ص في كفة الميزان منذ بعث الله تعالى محمدا إلى يوم

الناس هذا و وضع عمل واحد من أعمال علي في الكفة الأخرى لرجح على أعمالهم كلها فقال ربيعة هذا المدح الذي لا يقام له و لا

يقعد و لا يحمل إني لأظنه إسرافا يا أبا عبد الله فقال حذيفة يا لكع و كيف لا يحمل و أين كان المسلمون يوم الخندق و قد عبر

إليهم عمرو و أصحابه فملكهم الهلع و الجزع و دعا إلى المبارزة فأحجموا عنه حتى برز إليه علي فقتله و الذي نفس حذيفة بيده

لعمله ذلك اليوم أعظم أجرا من أعمال أمة محمد ص إلى هذا اليوم و إلى أن تقوم القيامة

و جاء في الحديث المرفوع أن رسول الله ص قال ذلك اليوم حين برز إليه برز الإيمان كله إلى الشرك كله

و قال أبو بكر بن عياش لقد ضرب علي بن أبي طالب ع ضربة ما كان في الإسلام أيمن منها ضربته عمرا يوم الخندق و لقد ضرب علي

ضربة ما كان في الإسلام أشأم منها يعني ضربة ابن ملجم لعنه الله. و

في الحديث المرفوع أن رسول الله ص لما بارز علي عمرا ما زال رافعا يديه مقمحا رأسه نحو السماء داعيا ربه قائلا اللهم إنك أخذت

مني عبيدة يوم بدر و حمزة يوم أحد فاحفظ علي اليوم عليا رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ

و قال جابر بن عبد الله الأنصاري و الله ما شبهت يوم الأحزاب قتل علي عمرا

[19 : 62 ]

و تخاذل المشركين بعده إلا بما قصه الله تعالى من قصة طالوت و جالوت في قوله فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللّهِ وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ

و روى عمرو بن أزهر عن عمرو بن عبيد عن الحسن أن عليا ع لما قتل عمرا احتز رأسه و حمله فألقاه بين يدي رسول الله ص فقام أبو

بكر و عمر فقبلا رأسه و وجه رسول الله ص يتهلل فقال هذا النصر أو قال هذا أول النصر

و في الحديث المرفوع أن رسول الله ص قال يوم قتل عمرو ذهبت ريحهم و لا يغزوننا بعد اليوم و نحن نغزوهم إن شاء الله

قصة غزوة الخندق

و ينبغي أن نذكر ملخص هذه القصة من مغازي الواقدي و ابن إسحاق قالا خرج عمرو بن عبد ود يوم الخندق و قد كان شهد بدرا فارتث

جريحا و لم يشهد أحدا فحضر الخندق شاهرا سيفه معلما مدلا بشجاعته و بأسه و خرج معه ضرار بن الخطاب الفهري و عكرمة بن أبي

جهل و هبيرة بن أبي وهب و نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميون فطافوا بخيولهم على الخندق إصعادا و انحدارا يطلبون

موضعا ضيقا يعبرونه حتى وقفوا على أضيق موضع فيه في المكان المعروف بالمزار فأكرهوا خيولهم على العبور فعبرت و صاروا مع

المسلمين على أرض واحدة و رسول الله ص جالس و أصحابه قيام على رأسه فتقدم عمرو بن عبد ود فدعا

[19 : 63 ]

إلى البراز مرارا فلم يقم إليه أحد فلما أكثر قام علي ع فقال أنا أبارزه يا رسول الله فأمره بالجلوس و أعاد عمرو النداء و الناس

سكوت كان على رءوسهم الطير فقال عمرو أيها الناس إنكم تزعمون أن قتلاكم في الجنة و قتلانا في النار أ فما يحب أحدكم أن يقدم

على الجنة أو يقدم عدوا له إلى النار فلم يقم إليه أحد فقام علي ع دفعة ثانية و قال أنا له يا رسول الله فأمره بالجلوس فجال عمرو

بفرسه مقبلا و مدبرا و جاءت عظماء الأحزاب فوقفت من وراء الخندق و مدت أعناقها تنظر فلما رأى عمرو أن أحدا لا يجيبه قال

و لقد بححت من الندا بجمعهم هل من مبارز

و وقفت مذ جبن المشيع موقف القرن المناجز

إني كذلك لم أزل متسرعا قبل الهزاهز

أن الشجاعة في الفتى و الجود من خير الغرائز

فقام علي ع فقال يا رسول الله ائذن لي في مبارزته فقال ادن فدنا فقلده سيفه و عممه بعمامته و قال امض لشأنك فلما انصرف قال

اللهم أعنه عليه فلما قرب منه قال له مجيبا إياه عن شعره

لا تعجلن فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز

ذو نية و بصيرة يرجو بذاك نجاة فائز

إني لآمل أن أقيم عليك نائحة الجنائز

من ضربة فوهاء يبقى ذكرها عند الهزاهز

فقال عمرو من أنت و كان عمرو شيخا كبيرا قد جاوز الثمانين و كان نديم أبي طالب بن عبد المطلب في الجاهلية فانتسب علي ع له و

قال أنا علي بن أبي طالب فقال أجل لقد كان أبوك نديما لي و صديقا فارجع فإني لا أحب أن

[19 : 64 ]

أقتلك كان شيخنا أبو الخير مصدق بن شبيب النحوي يقول إذا مررنا في القراءة عليه بهذا الموضع و الله ما أمره بالرجوع إبقاء عليه

بل خوفا منه فقد عرف قتلاه ببدر و أحد و علم أنه إن ناهضه قتله فاستحيا أن يظهر الفشل فأظهر الإبقاء و الإرعاء و إنه لكاذب فيهما

قالوا فقال له علي ع لكني أحب أن أقتلك فقال يا ابن أخي إني لأكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك فارجع وراءك خير لك فقال علي ع

إن قريشا تتحدث عنك أنك قلت لا يدعوني أحد إلى ثلاث إلا أجبت و لو إلى واحدة منها قال أجل فقال علي ع فإني أدعوك إلى

الإسلام قال دع عنك هذه قال فإني أدعوك إلى أن ترجع بمن تبعك من قريش إلى مكة قال إذن تتحدث نساء قريش عني أن غلاما

خدعني قال فإني أدعوك إلى البراز فحمى عمرو و قال ما كنت أظن أن أحدا من العرب يرومها مني ثم نزل فعقر فرسه و قيل ضرب

وجهه ففر و تجاولا فثارت لهما غبرة وارتهما عن العيون إلى أن سمع الناس التكبير عاليا من تحت الغبرة فعلموا أن عليا قتله و

انجلت الغبرة عنهما و على راكب صدره يحز رأسه و فر أصحابه ليعبروا الخندق فظفرت بهم خيلهم إلا نوفل بن عبد الله فإنه قصر

فرسه فوقع في الخندق فرماه المسلمون بالحجارة فقال يا معاشر الناس قتلة أكرم من هذه فنزل إليه علي ع فقتله و أدرك الزبير هبيرة

بن أبي وهب فضربه فقطع ثفر فرسه و سقطت درع كان حملها من ورائه فأخذها الزبير و ألقى عكرمة رمحه و ناوش عمر بن الخطاب

ضرار بن عمرو فحمل عليه ضرار حتى إذا وجد عمر مس الرمح رفعه عنه و قال إنها لنعمة مشكورة فاحفظها يا ابن الخطاب إني كنت

آليت ألا تمكنني يداي من قتل قرشي فأقتله و انصرف ضرار راجعا إلى أصحابه و قد كان جرى له معه مثل هذه في يوم أحد و قد ذكر

هاتين القصتين معا محمد بن عمر الواقدي في كتاب المغازي

[19 : 65 ]

231خِيَارُ خِصَالِ النِّسَاءِ شِرَارُ خِصَالِ الرِّجَالِ الزَّهْوُ وَ الْجُبْنُ وَ الْبُخْلُ فَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَزْهُوَّةً لَمْ تُمَكِّنْ مِنْ نَفْسِهَا وَ إِذَا كَانَتْ بَخِيلَةً

حَفِظَتْ مَالَهَا وَ مَالَ بَعْلِهَا وَ إِذَا كَانَتْ جَبَانَةً فَرِقَتْ مِنْ كُلِّ شَيْء يَعْرِضُ لَهَا

أخذ هذا المعنى الطغرائي شاعر العجم فقال

الجود و الإقدام في فتيانهم و البخل في الفتيات و الإشفاق

و الطعن في الأحداق دأب رماتهم و الراميات سهاما الأحداق

و له

قد زاد طيب أحاديث الكرام بها ما بالكرائم من جبن و من بخل

و في حكمة أفلاطون من أقوى الأسباب في محبة الرجل لامرأته و اتفاق ما بينهما أن يكون صوتها دون صوته بالطبع و تميزها دون

تميزه و قلبها أضعف من قلبه فإذا زاد من هذا عندها شيء على ما عند الرجل تنافرا على مقداره. و تقول زهي الرجل علينا فهو مزهو إذا

افتخر و كذلك نخي فهو منخو من النخوة و لا يجوز زها إلا في لغة ضعيفة. و فرقت خافت و الفرق الخوف

[19 : 66 ]

232وَ قِيلَ لَهُ ع صِفْ لَنَا الْعَاقِلَ فَقَالَ هُوَ الَّذِي يَضَعُ الشَّيْءَ مَوَاضِعَهُ فَقِيلَ فَصِفْ لَنَا الْجَاهِلَ قَالَ قَدْ قُلْتُ

قال الرضي رحمه الله تعالى يعني أن الجاهل هو الذي لا يضع الشيء مواضعه فكان ترك صفته صفة له إذ كان بخلاف وصف العاقل

هذا مثل الكلام الذي تنسبه العرب إلى الضب قالوا اختصمت الضبع و الثعلب إلى الضب فقالت الضبع يا أبا الحسل إني التقطت

تمرة قال طيبا جنيت قالت و إن هذا أخذها مني قال حظ نفسه أحرز قالت فإني لطمته قال كريم حمى حقيقته قالت فلطمني قال حر

انتصر قالت اقض بيننا قال قد فعلت

[19 : 67 ]

233وَ اللَّهِ لَدُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَهْوَنُ فِي عَيْنِي مِنْ عُرَاقِ خِنْزِير فِي يَدِ مَجْذُوم

العراق جمع عرق و هو العظم عليه شيء من اللحم و هذا من الجموع النادرة نحو رخل و رخال و توأم و تؤام و لا يكون شيء أحقر و

لا أبغض إلى الإنسان من عراق خنزير في يد مجذوم فإنه لم يرض بأن يجعله في يد مجذوم و هو غاية ما يكون من التنفير حتى جعله

عراق خنزير. و لعمري لقد صدق و ما زال صادقا و من تأمل سيرته في حالتي خلوه من العمل و ولايته الخلافة عرف صحة هذا القول

[19 : 68 ]

234إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ وَ إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ وَ إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ شُكْراً فَتِلْكَ عِبَادَةُ

الْأَحْرَارِ

هذا مقام جليل تتقاصر عنه قوى أكثر البشر و قد شرحناه فيما تقدم و قلنا إن العبادة لرجاء الثواب تجارة و معاوضة و إن العبادة

لخوف العقاب لمنزلة من يستجدي لسلطان قاهر يخاف سطوته. و هذا معنى قوله عبادة العبيد أي خوف السوط و العصا و تلك ليس

عبادة نافعة و هي كمن يعتذر إلى إنسان خوف أذاه و نقمته لا لأن ما يعتذر منه قبيح لا ينبغي له فعله فأما العبادة لله تعالى شكرا

لأنعمه فهي عبادة نافعة لأن العبادة شكر مخصوص فإذا أوقعها على هذا الوجه فقد أوقعها الموقع الذي وضعت عليه. فأما أصحابنا

المتكلمون فيقولون ينبغي أن يفعل الإنسان الواجب لوجه وجوبه و يترك القبيح لوجه قبحه و ربما قالوا يفعل الواجب لأنه واجب

و يترك القبيح لأنه قبيح و الكلام في هذا الباب مشروح مبسوط في الكتب الكلامية

[19 : 69 ]

235الْمَرْأَةُ شَرٌّ كُلُّهَا وَ شَرُّ مَا فِيهَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهَا

حلف إنسان عند بعض الحكماء أنه ما دخل بابي شر قط فقال الحكيم فمن أين دخلت امرأتك. و كان يقال أسباب فتنة النساء ثلاثة

عين ناظرة و صورة مستحسنة و شهوة قادرة فالحكيم من لا يردد النظرة حتى يعرف حقائق الصورة و لو أن رجلا رأى امرأة فأعجبته ثم

طالبها فامتنعت هل كان إلا تاركها فإن تأبى عقله عليه في مطالبتها كتأبيها عليه في مساعفتها قدع نفسه عن لذته قدع الغيور إياه عن

حرمة مسلم. و كان يقال من أتعب نفسه في الحلال من النساء لم يتق إلى الحرام منهن كالطليح مناه أن يستريح

[19 : 70 ]

236مَنْ أَطَاعَ التَّوَانِيَ ضَيَّعَ الْحُقُوقَ وَ مَنْ أَطَاعَ الْوَاشِيَ ضَيَّعَ الصَّدِيقَ

قد تقدم الكلام في التواني و العجز و تقدم أيضا الكلام في الوشاية و السعاية. و رفع إلى كسرى أبرويز أن النصارى الذين

يحضرون باب الملك يعرفون بالتجسس إلى ملك الروم فقال من لم يظهر له ذنب لم يظهر منا عقوبة له. و رفع إليه أن بعض الناس

ينكر إصغاء الملك إلى أصحاب الأخبار فوقع هؤلاء بمنزلة مداخل الضياء إلى البيت المظلم و ليس لقطع مواد النور مع الحاجة إليه

وجه عند العقلاء. قال أبو حيان أما الأصل في التدبير فصحيح لأن الملك محتاج إلى الأخبار لكن الأخبار تنقسم إلى ثلاثة أوجه خبر

يتصل بالدين فالواجب عليه أن يبالغ و يحتاط في حفظه و حراسته و تحقيقه و نفى القذى عن طريقه و ساحته. و خبر يتصل بالدولة

و رسومها فينبغي أن يتيقظ في ذلك خوفا من كيد ينفذ و بغي يسري. و خبر يدور بين الناس في منصرفهم و شأنهم و حالهم متى

زاحمتهم فيه اضطغنوا

[19 : 71 ]

عليك و تمنوا زوالي ملكك و ارصدوا العداوة لك و جهروا إلى عدوك و فتحوا له باب الحيلة إليك. و إنما لحق الناس من هذا الخبر

هذا العارض لأن في منع الملك إياهم عن تصرفاتهم و تتبعه لهم في حركاتهم كربا على قلوبهم و لهيبا في صدورهم و لا بد لهم في

الدهر الصالح و الزمان المعتدل و الخصب المتتابع و السبيل الآمن و الخير المتصل من فكاهة و طيب و استرسال و أشر و بطر و كل

ذلك من آثار النعمة الدارة و القلوب القارة فإن أغضى الملك بصره على هذا القسم عاش محبوبا و إن تنكر لهم فقد استأسدهم أعداء و

السلام

[19 : 72 ]

237الْحَجَرُ الْغَصْبُ فِي الدَّارِ رَهْنٌ عَلَى خَرَابِهَا

قال الرضي رحمه الله تعالى و قد روي ما يناسب هذا الكلام عن النبي ص و لا عجب أن يشتبه الكلامان فإن مستقاهما من قليب و

مفرغهما من ذنوب

الذنوب الدلو الملأى و لا يقال لها و هي فارغة ذنوب و معنى الكلمة أن الدار المبنية بالحجارة المغصوبة و لو بحجر واحد لا بد أن

يتعجل خرابها و كأنما ذلك الحجر رهن على حصول التخرب أي كما أن الرهن لا بد أن يفتك كذلك لا بد لما جعل ذلك الحجر رهنا

عليه أن يحصل. و قال ابن بسام لأبي علي بن مقلة لما بنى داره بالزاهر ببغداد من الغصب و ظلم الرعية

بجنبك داران مهدومتان و دارك ثالثة تهدم

فليت السلامة للمنصفين دامت فكيف لمن يظلم

[19 : 73 ]

و الداران دار أبي الحسن بن الفرات و دار محمد بن داود بن الجراح و قال فيه أيضا

قل لابن مقلة مهلا لا تكن عجلا فإنما أنت في أضغاث أحلام

تبني بأنقاض دور الناس مجتهدا دارا ستنقض أيضا بعد أيام

و كان ما تفرسه ابن بسام فيه حقا فإن داره نقضت حتى سويت بالأرض في أيام الراضي بالله

[19 : 74 ]

238يَوْمُ الْمَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ أَشَدُّ مِنْ يَوْمِ الظَّالِمِ عَلَى الْمَظْلُومِ

قد تقدم الكلام في الظلم مرارا و كان يقال اذكر عند الظلم عدل الله تعالى فيك و عند القدرة قدرة الله تعالى عليك. و إنما كان يوم

المظلوم على الظالم أشد من يومه على المظلوم لأن ذلك اليوم يوم الجزاء الكلي و الانتقام الأعظم و قصارى أمر الظالم في الدنيا

أن يقتل غيره فيميته ميتة واحدة ثم لا سبيل له بعد إماتته إلى أن يدخل عليه ألما آخر و أما يوم الجزاء فإنه يوم لا يموت الظالم

فيه فيستريح بل عذابه دائم متجدد نعوذ بالله من سخطه و عقابه

[19 : 75 ]

239اتَّقِ اللَّهَ بَعْضَ التُّقَى وَ إِنْ قَلَّ وَ اجْعَلْ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اللَّهِ سِتْراً وَ إِنْ رَقَّ

يقال في المثل ما لا يدرك كله لا يترك كله. فالواجب على من عسرت عليه التقوى بأجمعها أن يتقي الله في البعض و أن يجعل بينه و

بينه سترا و إن كان رقيقا. و في أمثال العامة اجعل بينك و بين الله روزنة و الروزنة لفظة صحيحة معربة أي لا تجعل ما بينك و بينه

مسدودا مظلما بالكلية

[19 : 76 ]

240إِذَا ازْدَحَمَ الْجَوَابُ خَفِيَ الصَّوَابُ

هذا نحو أن يورد الإنسان إشكالا في بعض المسائل النظرية بحضرة جماعة من أهل النظر فيتغالب القوم و يتسابقون إلى الجواب

عنه كل منهم يورد ما خطر له. فلا ريب أن الصواب يخفى حينئذ و هذه الكلمة في الحقيقة أمر للناظر البحاث أن يتحرى الإنصاف في

بحثه و نظره مع رفيقه و ألا يقصد المراء و المغالبة و القهر

[19 : 77 ]

241إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ نِعْمَة حَقّاً فَمَنْ أَدَّاهُ زَادَهُ مِنْهَا وَ مَنْ قَصَّرَ فِيهِ خَاطَرَ بِزَوَالِ نِعْمَتِهِ

قد تقدم الكلام في هذا المعنى و

جاء في الخبر من أوتي نعمة فأدى حق الله منها برد اللهفة و إجابة الدعوة و كشف المظلمة كان جديرا بدوامها و من قصر قصر به

[19 : 78 ]

242إِذَا كَثُرَتِ الْمَقْدُرَةُ قَلَّتِ الشَّهْوَةُ

هذا مثل قولهم كل مقدور عليه مملول و مثل قول الشاعر

و كل كثير عدو الطبيعة

و مثل قول الآخر

و أخ كثرت عليه حتى ملني و الشيء مملول إذا هو يرخص

يا ليته إذ باع ودي باعه ممن يزيد عليه لا من ينقص

و لهذا الحكم علة في العلم العقلي و ذلك أن النفس عندهم غنية بذاتها مكتفية بنفسها غير محتاجة إلى شيء خارج عنها و إنما عرضت

لها الحاجة و الفقر إلى ما هو خارج عنها لمقارنتها الهيولى و ذلك أن أمر الهيولى بالضد من أمر النفس في الفقر و الحاجة و لما كان

الإنسان مركبا من النفس و الهيولى عرض له الشوق إلى تحصيل العلوم و القنيات لانتفاعه بهما و التذاذه بحصولهما فأما العلوم

فإنه يحصلها في شبيه بالخزانة له يرجع إليها متى شاء و يستخرج منها ما أراد أعني القوى النفسانية التي هي محل الصور و المعاني

على ما هو مذكور في موضعه و أما القنيات و المحسوسات

[19 : 79 ]

فإنه يروم منها مثل ما يروم من تلك و أن يودعها خزانة محسوسة خارجة عن ذاته لكنه يغلط في ذلك من حيث يستكثر منها إلى أن

يتنبه بالحكمة على ما ينبغي أن يقتني منها و إنما حرص على ما منع لأن الإنسان إنما يطلب ما ليس عنده لأن تحصيل الحاصل محال

و الطلب إنما يتوجه إلى المعدوم لا إلى الموجود فإذا حصله سكن و علم أنه قد ادخره و متى رجع إليه وحده إن كان مما يبقى بالذات

خزنه و تشوق إلى شيء آخر منه و لا يزال كذلك إلى أن يعلم أن الجزئيات لا نهاية لها و ما لا نهاية له فلا مطمع في تحصيله و لا

فائدة في النزوع إليه و لا وجه لطلبه سواء كان معلوما أو محسوسا فوجب أن يقصد من المعلومات إلى الأهم و من المقتنيات إلى

ضرورات البدن و مقيماته و يعدل عن الاستكثار منها فإن حصولها كلها مع أنها لا نهاية لها غير ممكن و كلما فضل عن الحاجة و قدر

الكفاية فهو مادة الأحزان و الهموم و ضروب المكاره و الغلط في هذا الباب كثير و سبب ذلك طمع الإنسان في الغنى من معدن الفقر

لأن الفقر هو الحاجة و الغنى هو الاستقلال إلى أن يحتاج إليه و لذلك قيل إن الله تعالى غني مطلقا لأنه غير محتاج البتة فأما من

كثرت قنياته فإنه يستكثر حاجاته بحسب كثرة قنياته و على قدرها رغبه إلى الاستكثار بكثرة وجوه فقره و قد بين ذلك في شرائع

الأنبياء و أخلاق الحكماء فأما الشيء الرخيص الموجود كثيرا فإنما يرغب عنه لأنه معلوم أنه إذا التمس وجد و الغالي فإنما يقدر

عليه في الأحيان و يصيبه الواحد بعد الواحد و كل إنسان يتمنى أن يكون ذلك الواحد ليصيبه و ليحصل له ما لا يحصل لغيره

[19 : 80 ]

243احْذَرُوا نِفَارَ النِّعَمِ فَمَا كُلُّ شَارِد بِمَرْدُود

هذا أمر بالشكر على النعمة و ترك المعاصي فإن المعاصي تزيل النعم كما قيل

إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم

و قال بعض السلف كفران النعمة بوار و قلما أقلعت نافرة فرجعت في نصابها فاستدع شاردها بالشكر و استدم راهنها بكرم الجوار و

لا تحسب أن سبوغ ستر الله عليك غير متقلص عما قليل عنك إذا أنت لم ترج لله وقارا. و قال أبو عصمة شهدت سفيان و فضيلا فما

سمعتهما يتذاكران إلا النعم يقولان أنعم الله سبحانه علينا بكذا و فعل بنا كذا. و قال الحسن إذا استوى يوماك فأنت ناقص قيل له

كيف ذاك قال إن زادك الله اليوم نعما فعليك أن تزداد غدا له شكرا. و كان يقال الشكر جنة من الزوال و أمنة من الانتقال. و كان

يقال إذا كانت النعمة وسيمة فاجعل الشكر لها تميمة

السابق

التالي