السابق

التالي

[18 : 59 ]

ثم أمره أن يقبل إليه و هذه كناية عن العزل. فأما الكلمات التي ذكرها الرضي عنه ع في أمر المنذر فهي دالة على أنه نسبه إلى التيه و

العجب فقال نظار في عطفيه أي جانبيه ينظر تارة هكذا و تارة هكذا ينظر لنفسه و يستحسن هيئته و لبسته و ينظر هل عنده نقص في

ذلك أو عيب فيستدركه بإزالته كما يفعل أرباب الزهو و من يدعي لنفسه الحسن و الملاحة. قال مختال في برديه يمشي الخيلاء عجبا

قال محمد بن واسع لابن له و قد رآه يختال في برد له ادن فدنا فقال من أين جاءتك هذه الخيلاء ويلك أما أمك فأمة ابتعتها بمائتي

درهم و أما أبوك فلا أكثر الله في الناس أمثاله. قوله تفال في شراكيه الشراك السير الذي يكون في النعل على ظهر القدم. و التفل

بالسكون مصدر تفل أي بصق و التفل محركا البصاق نفسه و إنما يفعله المعجب و التائه في شراكيه ليذهب عنهما الغبار و الوسخ

يتفل فيهما و يمسحهما ليعودا كالجديدين

[18 : 60 ]

72- و من كتاب له ع إلى عبد الله بن العباس رضي الله عنه

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ لَسْتُ بِسَابِق أَجَلَكَ وَ لَا مَرْزُوق مَا لَيْسَ لَكَ وَ اعْلَمْ بِأَنَّ الدَّهْرَ يَوْمَانِ يَوْمٌ لَكَ وَ يَوْمٌ عَلَيْكَ وَ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ دُوَل فَمَا كَانَ مِنْهَا

لَكَ أَتَاكَ عَلَى ضَعْفِكَ وَ مَا كَانَ مِنْهَا عَلَيْكَ لَمْ تَدْفَعْهُ بِقُوَّتِكَ

قد تقدم شرح مثل هذا الكلام و هذا معنى مطروق قد قال الناس فيه فأكثروا قال الشاعر

قد يرزق العاجز الضعيف و ما شد بكور رحلا و لا قتبا

و يحرم المرء ذو الجلادة و الرأي و من لا يزال مغتربا

و من جيد ما قيل في هذا المعنى قول أبي يعقوب الخريمي

هل الدهر إلا صرفه و نوائبه و سراء عيش زائل و مصائبه

يقول الفتى ثمرت مالي و إنما لوارثه ما ثمر المال كاسبه

[18 : 61 ]

يحاسب فيه نفسه في حياته و يتركه نهبا لمن لا يحاسبه

فكله و أطعمه و خالسه وارثا شحيحا و دهرا تعتريك نوائبه

أرى المال و الإنسان للدهر نهبة فلا البخل مبقية و لا الجود خاربه

لكل امرئ رزق و للرزق جالب و ليس يفوت المرء ما خط كاتبه

يخيب الفتى من حيث يرزق غيره و يعطى الفتى من حيث يحرم صاحبه

يساق إلى ذا رزقه و هو وادع و يحرم هذا الرزق و هو يغالبه

و إنك لا تدري أ رزقك في الذي تطالبه أم في الذي لا تطالبه

تناس ذنوب الأقربين فإنه لكل حميم راكب هو راكبه

له هفوات في الرخاء يشوبها بنصرة يوم لا توارى كواكبه

تراه غدوا ما أمنت و تتقي بجبهته يوم الوغى من يحاربه

لكل امرئ إخوان بؤس و نعمة و أعظمهم في النائبات أقاربه

[18 : 62 ]

73- و من كتاب له ع إلى معاوية

أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي عَلَى التَّرَدُّدِ فِي جَوَابِكَ وَ الِاسْتِمَاعِ إِلَى كِتَابِكَ لَمُوَهِّنٌ رَأْيِي وَ مُخَطِّئٌ فِرَاسَتِي وَ إِنَّكَ إِذْ تُحَاوِلُنِي الْأُمُورَ وَ تُرَاجِعُنِي السُّطُورَ

كَالْمُسْتَثْقِلِ النَّائِمِ تَكْذِبُهُ أَحْلَامُهُ وَ الْمُتَحَيِّرِ الْقَائِمِ يَبْهَظُهُ مَقَامُهُ لَا يَدْرِي أَ لَهُ مَا يَأْتِي أَمْ عَلَيْهِ وَ لَسْتَ بِهِ غَيْرَ أَنَّهُ بِكَ شَبِيهٌ وَ أُقْسِمُ بِاللَّهِ

إِنَّهُ لَوْ لَا بَعْضُ الِاسْتِبْقَاءِ لَوَصَلَتْ مِنِّي إِلَيْكَ قَوَارِعُ تَقْرَعُ الْعَظْمَ وَ تَنْهَسُ اللَّحْمَ وَ اعْلَمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ ثَبَّطَكَ عَنْ أَنْ تُرَاجِعَ أَحْسَنَ

أُمُورِكَ وَ تَأْذَنَ لِمَقَالِ نَصِيحِكَ وَ السَّلَامُ لِأَهْلِهِ

روي نوازع جمع نازعة أي جاذبة قالعة و روي تهلس اللحم و تلهس بتقديم اللام و تهلس بكسر اللام تذيبه حتى يصير كبدن به

الهلاس و هو السل و أما تلهس فهو بمعنى تلحس أبدلت الحاء هاء و هو عن لحست كذا بلساني بالكسر ألحسه أي تأتي على اللحم

حتى تلحسه لحسا لأن الشيء إنما يلحس إذا ذهب و بقي أثره و أما ينهس و هي الرواية المشهورة فمعناه يعترق.

[18 : 63 ]

و تأذن بفتح الذال أي تسمع. قوله ع إني لموهن رأيي بالتشديد أي إني لائم نفسي و مستضعف رأيي في أن جعلتك نظيرا أكتب و

تجيبني و تكتب و أجيبك و إنما كان ينبغي أن يكون جواب مثلك السكوت لهوانك. فإن قلت فما معنى قوله على التردد. قلت ليس

معناه التوقف بل معناه الترداد و التكرار أي أنا لائم نفسي على أني أكرر تارة بعد تارة أجوبتك عما تكتبه ثم قال و إنك في مناظرتي و

مقاومتي بالأمور التي تحاولها و الكتب التي تكتبها كالنائم يرى أحلاما كاذبة أو كمن قام مقاما بين يدي سلطان أو بين قوم عقلاء

ليعتذر عن أمر أو ليخطب بأمر في نفسه قد بهظه مقامه ذلك أي أثقله فهو لا يدري هل ينطق بكلام هو له أم عليه فيتحير و يتبلد و

يدركه العمى و الحصر. قال و إن كنت لست بذلك الرجل فإنك شبيه به أما تشبيهه بالنائم ثم ذي الأحلام فإن معاوية لو رأى في

المنام في حياة رسول الله ص أنه خليفة يخاطب بإمرة المؤمنين و يحارب عليا على الخلافة و يقوم في المسلمين مقام رسول الله ص

لما طلب لذلك المنام تأويلا و لا تعبيرا و لعده من وساوس الخيال و أضغاث الأحلام و كيف و أنى له أن يخطر هذا بباله و هو أبعد

الخلق منه و هذا كما يخطر للنفاط أن يكون ملكا و لا تنظرن إلى نسبه في المناقب بل انظر إلى أن

[18 : 64 ]

الإمامة هي نبوة مختصره و أن الطليق المعدود من المؤلفة قلوبهم المكذب بقلبه و أن أقر بلسانه الناقص المنزلة عند المسلمين

القاعد في أخريات الصف إذا دخل إلى مجلس فيه أهل السوابق من المهاجرين كيف يخطر ببال أحد أنها تصير فيه و يملكها و يسمه

الناس وسمها و يكون للمؤمنين أميرا و يصير هو الحاكم في رقاب أولئك العظماء من أهل الدين و الفضل و هذا أعجب من العجب أن

يجاهد النبي ص قوما بسيفه و لسانه ثلاثا و عشرين سنة و يلعنهم و يبعدهم عنه و ينزل القرآن بذمهم و لعنهم و البراءة منهم فلما

تمهدت له الدولة و غلب الدين على الدنيا و صارت شريعة دينية محكمة مات فشيد دينه الصالحون من أصحابه و أوسعوا رقعة ملته و

عظم قدرها في النفوس فتسلمها منهم أولئك الأعداء الذين جاهدهم النبي ص فملكوها و حكموا فيها و قتلوا الصلحاء و الأبرار و

أقارب نبيهم الذين يظهرون طاعته و آلت تلك الحركة الأولى و ذلك الاجتهاد السابق إلى أن كان ثمرته لهم فليته كان يبعث فيرى

معاوية الطليق و ابنه و مروان و ابنه خلفاء في مقامه يحكمون على المسلمين فوضح أن معاوية فيما يراجعه و يكاتبه به كصاحب

الأحلام. و أما تشبيهه إياه بالقائم مقاما قد بهظه فلأن الحجج و الشبه و المعاذير التي يذكرها معاوية في كتبه أوهن من نسج

العنكبوت فهو حال ما يكتب كالقائم ذلك المقام يخبط خبط العشواء و يكتب ما يعلم هو و العقلاء من الناس أنه سفه و باطل. فإن

قلت فما معنى قوله ع لو لا بعض الاستبقاء و هل كانت الحال تقتضي أن يستبقي و ما تلك القوارع التي أشار إليها.

[18 : 65 ]

قلت قد قيل إن النبي ص فوض إليه أمر نسائه بعد موته و جعل إليه أن يقطع عصمة أيتهن شاء إذا رأى ذلك و له من الصحابة جماعة

يشهدون له بذلك فقد كان قادرا على أن يقطع عصمة أم حبيبة و يبيح نكاحها الرجال عقوبة لها و لمعاوية أخيها فإنها كانت تبغض

عليا كما يبغضه أخوها و لو فعل ذلك لانتهس لحمه و هذا قول الإمامية و قد رووا عن رجالهم أنه ع تهدد عائشة بضرب من ذلك و أما

نحن فلا نصدق هذا الخبر و نفسر كلامه على معنى آخر و هو أنه قد كان معه من الصحابة قوم كثيرون سمعوا من رسول الله ص يلعن

معاوية بعد إسلامه و يقول إنه منافق كافر و إنه من أهل النار و الأخبار في ذلك مشهورة فلو شاء أن يحمل إلى أهل الشام خطوطهم

و شهاداتهم بذلك و يسمعهم قولهم ملافظة و مشافهة لفعل و لكنه رأى العدول عن ذلك مصلحة لأمر يعلمه هو ع و لو فعل ذلك

لانتهس لحمه و إنما أبقى عليه. و قلت لأبي زيد البصري لم أبقى عليه فقال و الله ما أبقى عليه مراعاة له و لا رفقا به و لكنه خاف أن

يفعل كفعله فيقول لعمرو بن العاص و حبيب بن مسلمة و بسر بن أبي أرطاة و أبي الأعور و أمثالهم ارووا أنتم عن النبي ص أن عليا ع

منافق من أهل النار ثم يحمل ذلك إلى أهل العراق فلهذا السبب أبقى عليه

[18 : 66 ]

74- و من حلف له ع كتبه بين ربيعة و اليمن

و نقل من خط هشام بن الكلبي

هَذَا مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْيَمَنِ حَاضِرُهَا وَ بَادِيهَا وَ رَبِيعَةُ حَاضِرُهَا وَ بَادِيهَا أَنَّهُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ يَدْعُونَ إِلَيْهِ وَ يَأْمُرُونَ بِهِ وَ يُجِيبُونَ مَنْ

دَعَا إِلَيْهِ وَ أَمَرَ بِهِ لَا يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا وَ لَا يَرْضَوْنَ بِهِ بَدَلًا وَ أَنَّهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ وَ تَرَكَهُ وَ أَنَّهُمْ أَنْصَارٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْض

دَعْوَتُهُمْ وَاحِدَةٌ لَا يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ لِمَعْتَبَةِ عَاتِب وَ لَا لِغَضَبِ غَاضِب وَ لَا لِاسْتِذْلَالِ قَوْم قَوْماً وَ لَا لِمَسَبَّةِ قَوْم قَوْماً عَلَى ذَلِكَ شَاهِدُهُمْ وَ

غَائِبُهُمْ وَ سَفِيهُهُمْ وَ عَالِمُهُمْ وَ حَلِيمُهُمْ وَ جَاهِلُهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ عَهْدَ اللَّهِ وَ مِيثَاقَهُ إِنَّ عَهْدَ اللَّهِ كَانَ مَسْئُولًا وَ كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي

طَالِب

الحلف العهد أي و من كتاب حلف فحذف المضاف و اليمن كل من ولده قحطان نحو حمير و عك و جذام و كندة و الأزد و غيرهم. و

ربيعة هو ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان و هم بكر و تغلب و عبد القيس. و هشام هو هشام بن محمد بن السائب الكلبي نسابة ابن

نسابة عالم بأيام العرب و أخبارها و أبوه أعلم منه و هو يروى عن أبيه.

[18 : 67 ]

و الحاضر ساكنو الحضر و البادي ساكنو البادية و اللفظ لفظ المفرد و المعنى الجمع. قوله إنهم على كتاب الله حرف الجر يتعلق

بمحذوف أي مجتمعون. قوله لا يشترون به ثمنا قليلا أي لا يتعوضون عنه بالثمن فسمى التعوض اشتراء و الأصل هو أن يشترى

الشيء بالثمن لا الثمن بالشيء لكنه من باب اتساع العرب و هو من ألفاظ القرآن العزيز. و إنهم يد واحدة أي لا خلف بينهم. قوله

لمعتبة عاتب أي لا يؤثر في هذا العهد و الحلف و لا ينقضه أن يعتب أحد منهم على بعضهم لأنه استجداه فلم يجده أو طلب منه أمرا

فلم يقم به و لا لأن أحدا منهم غضب من أمر صدر من صاحبه و لا لأن عزيزا منهم استذل ذليلا منهم و لا لأن إنسانا منهم سب أو هجا

بعضهم فإن أمثال هذه الأمور يتعذر ارتفاعها بين الناس و لو كانت تنقض الحلف لما كان حلف أصلا. و اعلم أنه قد ورد

في الحديث عن النبي ص كل حلف كان في الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة

و لا حلف في الإسلام لكن فعل أمير المؤمنين ع أولى بالاتباع من خبر الواحد و قد تحالفت العرب في الإسلام مرارا و من أراد

الوقوف على ذلك فليطلبه من كتب التواريخ

[18 : 68 ]

75- و من كتاب له ع إلى معاوية من المدينة في أول ما بويع له بالخلافة

ذكره الواقدي في كتاب الجمل

مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ عَلِمْتَ إِعْذَارِي فِيكُمْ وَ إِعْرَاضِي عَنْكُمْ حَتَّى كَانَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَ لَا

دَفْعَ لَهُ وَ الْحَدِيثُ طَوِيلٌ وَ الْكَلَامُ كَثِيرٌ وَ قَدْ أَدْبَرَ مَا أَدْبَرَ وَ أَقْبَلَ مَا أَقْبَلَ فَبَايِعْ مَنْ قِبَلَكَ وَ أَقْبِلْ إِلَيَّ فِي وَفْد مِنْ أَصْحَابِكَ وَ السَّلَامُ

كتابه إلى معاوية و مخاطبته لبني أمية جميعا قال و قد علمت إعذاري فيكم أي كوني ذا عذر لو لمتكم أو ذممتكم يعني في أيام عثمان.

ثم قال و إعراضي عنكم أي مع كوني ذا عذر لو فعلت ذلك فلم أفعله بل أعرضت عن إساءتكم إلي و ضربت عنكم صفحا حتى كان ما لا

بد منه يعني قتل عثمان و ما جرى من الرجبة بالمدينة. ثم قاطعه الكلام مقاطعة و قال له و الحديث طويل و الكلام كثير و قد أدبر

ذلك الزمان و أقبل زمان آخر فبايع و أقدم فلم يبايع و لا قدم و كيف يبايع

[18 : 69 ]

و عينه طامحة إلى الملك و الرئاسة منذ أمره عمر على الشام و كان عالي الهمة تواقا إلى معالي الأمور و كيف يطيع عليا و

المحرضون له على حربه عدد الحصى و لو لم يكن إلا الوليد بن عقبة لكفى و كيف يسمع قوله

فو الله ما هند بأمك إن مضى النهار و لم يثأر بعثمان ثائر

أ يقتل عبد القوم سيد أهله و لم تقتلوه ليت أمك عاقر

و من عجب أن بت بالشام وادعا قريرا و قد دارت عليه الدوائر

و يطيع عليا و يبايع له و يقدم عليه و يسلم نفسه إليه و هو نازل بالشام في وسط قحطان و دونه منهم حرة لا ترام و هم أطوع له

من نعله و الأمر قد أمكنه الشروع فيه و تالله لو سمع هذا التحريض أجبن الناس و أضعفهم نفسا و أنقصهم همة لحركه و شحذ من

عزمه فكيف معاوية و قد أيقظ الوليد بشعره من لا ينام

[18 : 70 ]

76- و من وصية له ع لعبد الله بن العباس عند استخلافه إياه على البصرة

سَعِ النَّاسَ بِوَجْهِكَ وَ مَجْلِسِكَ وَ حُكْمِكَ وَ إِيَّاكَ وَ الْغَضَبَ فَإِنَّهُ طَيْرَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَ اعْلَمْ أَنَّ مَا قَرَّبَكَ مِنَ اللَّهِ يُبَاعِدُكَ مِنَ النَّارِ وَ مَا

بَاعَدَكَ مِنَ اللَّهِ يُقَرِّبُكَ مِنَ النَّارِ

روي و حلمك و القرب من الله هو القرب من ثوابه و لا شبهة أن ما قرب من الثواب باعد من العقاب و بالعكس لتنافيهما. فأما وصيته

له أن يسع الناس بوجهه و مجلسه و حكمه فقد تقدم شرح مثله و كذلك القول في الغضب. و طيرة من الشيطان بفتح الطاء و سكون

الياء أي خفة و طيش قال الكميت

و حلمك عز إذا ما حلمت و طيرتك الصاب و الحنظل

[18 : 71 ]

77- و من وصية له ع لعبد الله بن العباس أيضا لما بعثه للاحتجاج على الخوارج

لَا تُخَاصِمْهُمْ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ حَمَّالٌ ذُو وُجُوه تَقُولُ وَ يَقُولُونَ... وَ لَكِنْ حَاجِجْهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَجِدُوا عَنْهَا مَحِيصاً

هذا الكلام لا نظير له في شرفه و علو معناه و ذلك أن القرآن كثير الاشتباه فيه مواضع يظن في الظاهر أنها متناقضة متنافية نحو قوله

لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ و قوله إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ و نحو قوله وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ

و قوله وَ أَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى و نحو ذلك و هو كثير جدا و أما السنة فليست كذلك و ذلك لأن

الصحابة كانت تسأل رسول الله ص و تستوضح منه الأحكام في الوقائع و ما عساه يشتبه عليهم من كلامهم يراجعونه فيه و لم

يكونوا يراجعونه في القرآن إلا فيما قل بل كانوا يأخذونه منه تلقفا و أكثرهم لا يفهم معناه

[18 : 72 ]

لا لأنه غير مفهوم بل لأنهم ما كانوا يتعاطون فهمه إما إجلالا له أو لرسول الله أن يسألوه عنه أو يجرونه مجرى الأسماء الشريفة

التي إنما يراد منها بركتها لا الإحاطة بمعناها فلذلك كثر الاختلاف في القرآن و أيضا فإن ناسخه و منسوخه أكثر من ناسخ السنة و

منسوخها و قد كان في الصحابة من يسأل الرسول عن كلمة في القرآن يفسرها له تفسيرا موجزا فلا يحصل له كل الفهم لما أنزلت

آية الكلالة و قال في آخرها يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا سأله عمر عن الكلالة ما هو فقال له يكفيك آية الصيف لم يزد على ذلك فلم

يراجعه عمر و انصرف عنه فلم يفهم مراده و بقي عمر على ذلك إلى أن مات و كان يقول بعد ذلك اللهم مهما بينت فإن عمر لم يتبين

يشير إلى قوله يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا و كانوا في السنة و مخاطبة الرسول على خلاف هذه القاعدة فلذلك أوصاه علي ع أن

يحاجهم بالسنة لا بالقرآن. فإن قلت فهل حاجهم بوصيته. قلت لا بل حاجهم بالقرآن مثل قوله فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ

أَهْلِها و مثل قوله في صيد المحرم يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْل مِنْكُمْ و لذلك لم يرجعوا و التحمت الحرب و إنما رجع باحتجاجه نفر منهم.

فإن قلت فما هي السنة التي أمره أن يحاجهم بها. قلت كان لأمير المؤمنين ع في ذلك غرض صحيح و إليه أشار و حوله كان يطوف و

يحوم و ذلك أنه أراد أن يقول لهم

قال رسول الله ص علي مع الحق و الحق مع علي يدور معه حيثما دار

و قوله اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله

و نحو ذلك من الأخبار التي

[18 : 73 ]

كانت الصحابة قد سمعتها من فلق فيه ص و قد بقي ممن سمعها جماعة تقوم الحجة و تثبت بنقلهم و لو احتج بها على الخوارج أنه لا

يحل مخالفته و العدول عنه بحال لحصل من ذلك غرض أمير المؤمنين في محاجتهم و أغراض أخرى أرفع و أعلى منهم فلم يقع الأمر

بموجب ما أراد و قضي عليهم بالحرب حتى أكلتهم عن آخرهم و كان أمر الله مفعولا

[18 : 74 ]

78- و من كتاب له ع أجاب به أبا موسى الأشعري

عن كتاب كتبه إليه من المكان الذي اتعدوا فيه للحكومة و ذكر هذا الكتاب سعيد بن يحيى الأموي في كتاب المغازي

فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ تَغَيَّرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَنْ كَثِير مِنْ حَظِّهِمْ فَمَالُوا مَعَ الدُّنْيَا وَ نَطَقُوا بِالْهَوَى وَ إِنِّي نَزَلْتُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَنْزِلًا مُعْجِباً اجْتَمَعَ بِهِ

أَقْوَامٌ أَعْجَبَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وَ أَنَا أُدَاوِي مِنْهُمْ قَرْحاً أَخَافُ أَنْ يَعُودَ عَلَقاً يَعُودُ وَ لَيْسَ رَجُلٌ فَاعْلَمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى جَمَاعَةِ أُمَّةِ مُحَمَّد ص وَ

أُلْفَتِهَا مِنِّي أَبْتَغِي بِذَلِكَ حُسْنَ الثَّوَابِ وَ كَرَمَ الْمَ آبِ وَ سَأَفِي بِالَّذِي وَأَيْتُ عَلَى نَفْسِي وَ إِنْ تَغَيَّرْتَ عَنْ صَالِحِ مَا فَارَقْتَنِي عَلَيْهِ فَإِنَّ الشَّقِيَّ

مَنْ حُرِمَ نَفْعَ مَا أُوتِيَ مِنَ الْعَقْلِ وَ التَّجْرِبَةِ وَ إِنِّي لَأَعْبَدُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ بِبَاطِل وَ أَنْ أُفْسِدَ أَمْراً قَدْ أَصْلَحَهُ اللَّهُ فَدَعْ عَنْكَ مَا لَا تَعْرِفُ فَإِنَّ

شِرَارَ النَّاسِ طَائِرُونَ إِلَيْكَ بِأَقَاوِيلِ السُّوءِ وَ السَّلَامُ

روي و نطقوا مع الهوى أي مائلين مع الهوى. و روي و أنا أداري بالراء من المداراة و هي الملاينة و المساهلة.

[18 : 75 ]

و روي نفع ما أولى باللام يقول أوليته معروفا. و روي إن قال قائل بباطل و يفسد أمرا قد أصلحه الله. و اعلم أن هذا الكتاب كتاب

من شك في أبي موسى و استوحش منه و من قد نقل عنه إلى أبي موسى كلاما إما صدقا و إما كذبا و قد نقل عن أبي موسى إليه كلاما إما

صدقا أيضا و إما كذبا قال ع إن الناس قد تغير كثير منهم عن حظهم من الآخرة فمالوا مع الدنيا و إني نزلت من هذا الأمر منزلا معجبا

بكسر الجيم أي يعجب من رآه أي يجعله متعجبا منه. و هذا الكلام شكوى من أصحابه و نصاره من أهل العراق فإنهم كان اختلافهم

عليه و اضطرابهم شديدا جدا و المنزل و النزول هاهنا مجاز و استعارة و المعنى أني حصلت في هذا الأمر الذي حصلت فيه على حال

معجبة لمن تأملها لأني حصلت بين قوم كل واحد منهم مستبد برأي يخالف فيه رأي صاحبه فلا تنتظم لهم كلمة و لا يستوثق لهم أمر

و إن حكمت عليهم برأي أراه أنا خالفوه و عصوه و من لا يطاع فلا رأي له و أنا معهم كالطبيب الذي يداوي قرحا أي جراحة قد قاربت

الاندمال و لم تندمل بعد فهو يخاف أن يعود علقا أي دما. ثم قال له ليس أحد فاعلم أحرص على ألفة الأمة و ضم نشر المسلمين. و

أدخل قوله فاعلم بين اسم ليس و خبرها فصاحة و يجوز رفع أحرص بجعله صفة لاسم ليس و يكون الخبر محذوفا أي ليس في

الوجود رجل. و تقول قد وأيت وأيا أي وعدت وعدا قال له أما أنا فسوف أفي بما وعدت و ما استقر بيني و بينك و إن كنت أنت قد

تغيرت عن صالح ما فارقتني عليه.

[18 : 76 ]

فإن قلت فهل يجوز أن يكون قوله و إن تغيرت من جملة قوله فيما بعد فإن الشقي كما تقول إن خالفتني فإن الشقي من يخالف الحق.

قلت نعم و الأول أحسن لأنه أدخل في مدح أمير المؤمنين ع كأنه يقول أنا أفي و إن كنت لا تفي و الإيجاب يحسنه السلب الواقع

في مقابلته

و الضد يظهر حسنه الضد

ثم قال و إني لأعبد أي آنف من عبد بالكسر أي أنف و فسروا قوله فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ بذلك يقول إني لآنف من أن يقول غيري قولا

باطلا فكيف لا آنف أنا من ذلك لنفسي ثم تختلف الروايات في اللفظة بعدها كما ذكرنا. ثم قال فدع عنك ما لا تعرف أي لا تبن أمرك

إلا على اليقين و العلم القطعي و لا تصغ إلى أقوال الوشاة و نقلة الحديث فإن الكذب يخالط أقوالهم كثيرا فلا تصدق ما عساه

يبلغك عني شرار الناس فإنهم سراع إلى أقاويل السوء و لقد أحسن القائل فيهم

أن يسمعوا الخير يخفوه و إن سمعوا شرا أذاعوا و إن لم يسمعوا كذبوا

و نحو قول الآخر

إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا و إن ذكرت بخير عندهم دفنوا

[18 : 77 ]

79- و من كتاب كتبه ع لما استخلف إلى أمراء الأجناد

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ مَنَعُوا النَّاسَ الْحَقَّ فَاشْتَرَوْهُ وَ أَخَذُوهُمْ بِالْبَاطِلِ فَاقْتَدَوْهُ

أي منعوا الناس الحق فاشترى الناس الحق منهم بالرشى و الأموال أي لم يضعوا الأمور مواضعها و لا ولوا الولايات مستحقيها و

كانت أمورهم الدينية و الدنياوية تجري على وفق الهوى و الغرض الفاسد فاشترى الناس منهم الميراث و الحقوق كما تشترى السلع

بالمال. ثم قال و أخذوهم بالباطل فاقتدوه أي حملوهم على الباطل فجاء الخلف من بعد السلف فاقتدوا ب آبائهم و أسلافهم في

ارتكاب ذلك الباطل ظنا أنه حق لما قد ألفوه و نشئوا و ربوا عليه. و روي فاستروه بالسين المهملة أي اختاروه يقال استريت خيار

المال أي اخترته و يكون الضمير عائدا إلى الظلمة لا إلى الناس أي منعوا الناس حقهم من المال و اختاروه لأنفسهم و استأثروا به

[18 : 79 ]

باب الحكم و المواعظ

[18 : 81 ]

باب المختار من حكم أمير المؤمنين و مواعظه و يدخل في ذلك المختار من أجوبة مسائله و الكلام القصير الخارج من سائر أغراضه

اعلم أن هذا الباب من كتابنا كالروح من البدن و السواد من العين و هو الدرة المكنونة التي سائر الكتاب صدفها و ربما وقع فيه

تكرار لبعض ما تقدم يسير جدا و سبب ذلك طول الكتاب و بعد أطرافه عن الذهن و إذا كان الرضي رحمه الله قدسها فكرر في مواضع

كثيرة في نهج البلاغة على اختصاره كنا نحن في تكرار يسير في كتابنا الطويل أعذر

[18 : 82 ]

1كُنْ فِي الْفِتْنَةِ كَابْنِ اللَّبُونِ لَا ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ وَ لَا ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ

ابن اللبون ولد الناقة الذكر إذا استكمل السنة الثانية و دخل في الثالثة و يقال للأنثى ابنة اللبون و ذلك لأن أمهما في الأغلب

ترضع غيرهما فتكون ذات لبن و اللبون من الإبل و الشاة ذات اللبن غزيرة كانت أو بكيئة فإذا أرادوا الغزيرة قالوا لبنة و يقال ابن

لبون و ابن اللبون منكرا أو معرفا قال الشاعر

و ابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس

و ابن اللبون لا يكون قد كمل و قوي ظهره على أن يركب و ليس بأنثى ذات ضرع فيحلب و هو مطرح لا ينتفع به. و أيام الفتنة هي

أيام الخصومة و الحرب بين رئيسين ضالين يدعوان كلاهما إلى ضلالة كفتنة عبد الملك و ابن الزبير و فتنة مروان و الضحاك و فتنة

الحجاج و ابن الأشعث و نحو ذلك فأما إذا كان أحدهما صاحب حق فليست أيام فتنة كالجمل و صفين و نحوهما بل يجب الجهاد مع

صاحب الحق و سل السيف و النهي عن المنكر و بذل النفس في إعزاز الدين و إظهار الحق.

[18 : 83 ]

قال ع أخمل نفسك أيام الفتنة و كن ضعيفا مغمورا بين الناس لا تصلح لهم بنفسك و لا بمالك و لا تنصر هؤلاء و هؤلاء. و قوله

فيركب فيحلب منصوبان لأنهما جواب النفي و في الكلام محذوف تقديره له و هو يستحق الرفع لأنه خبر المبتدإ مثل قولك لا إله إلا

الله تقديره لنا أو في الوجود

[18 : 84 ]

2أَزْرَى بِنَفْسِهِ مَنِ اسْتَشْعَرَ الطَّمَعَ وَ رَضِيَ بِالذُّلِّ مَنْ كَشَفَ عَنْ ضُرِّهِ وَ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ مَنْ أَمَّرَ عَلَيْهَا لِسَانَهُ

هذه ثلاثة فصول الفصل الأول في الطمع قوله ع أزرى بنفسه أي قصر بها من استشعر الطمع أي جعله شعاره أي لازمه. و

في الحديث المرفوع أن الصفا الزلزال الذي لا تثبت عليه أقدام العلماء الطمع

و في الحديث أنه قال للأنصار إنكم لتكثرون عند الفزع و تقلون عند الطمع

أي عند طمع الرزق. و كان يقال أكثر مصارع الألباب تحت ظلال الطمع. و قال بعضهم العبيد ثلاثة عبد رق و عبد شهوة و عبد طمع. و

سئل رسول الله ص عن الغنى فقال اليأس عما في أيدي الناس و من مشى منكم إلى طمع الدنيا فليمش رويدا

[18 : 85 ]

و قال أبو الأسود

البس عدوك في رفق و في دعة طوبى لذي إربة للدهر لباس

و لا تغرنك أحقاد مزملة قد يركب الدبر الدامي بأحلاس

و استغن عن كل ذي قربى و ذي رحم إن الغني الذي استغنى عن الناس

قال عمر ما الخمر صرفا بأذهب لعقول الرجال من الطمع و

في الحديث المرفوع الطمع الفقر الحاضر

قال الشاعر

رأيت مخيلة فطمعت فيها و في الطمع المذلة للرقاب

الفصل الثاني في الشكوى قال ع من كشف للناس ضره أي شكا إليهم بؤسه و فقره فقد رضي بالذل. كان يقال لا تشكون إلى أحد فإنه

إن كان عدوا سره و إن كان صديقا ساءه و ليست مسرة العدو و لا مساءة الصديق بمحمودة. سمع الأحنف رجلا يقول لم أنم الليلة من

وجع ضرسي فجعل يكثر فقال يا هذا لم تكثر فو الله لقد ذهبت عيني منذ ثلاثين سنة فما شكوت ذلك إلى أحد و لا أعلمت بها أحدا.

الفصل الثالث في حفظ اللسان قد تقدم لنا قول شاف في ذلك و كان يقال حفظ اللسان راحة الإنسان و كان يقال رب كلمة سفكت دما و

أورثت ندما. و في الأمثال العامية قال اللسان للرأس كيف أنت قال بخير لو تركتني. و في وصية المهلب لولده يا بني تباذلوا تحابوا

فإن بني الأعيان يختلفون فكيف ببني العلات إن البر ينسأ في الأجل و يزيد في العدد و إن القطيعة تورث القلة و تعقب

[18 : 86 ]

النار بعد الذلة اتقوا زلة اللسان فإن الرجل تزل رجله فينتعش و يزل لسانه فيهلك و عليكم في الحرب بالمكيدة فإنها أبلغ من

النجدة و إن القتال إذا وقع وقع القضاء فإن ظفر الرجل ذو الكيد و الحزم سعد و إن ظفر به لم يقولوا فرط. و قال الشاعر في هذا

المعنى

يموت الفتى من عثرة بلسانه و ليس يموت المرء من عثرة الرجل

[18 : 87 ]

3الْبُخْلُ عَارٌ وَ الْجُبْنُ مَنْقَصَةٌ وَ الْفَقْرُ يُخْرِسُ الْفَطِنَ عَنْ حَاجَتِهِ وَ الْمُقِلُّ غَرِيبٌ فِي بَلْدَتِهِ

هذه ثلاثة فصول الفصل الأول في البخل و قد تقدم لنا كلام مقنع في ذلك. و من كلام بعض الحكماء في ذلك ما أقل من يحمده

الطالب و تستقل به العشائر و يرضى عنه السائل و ما زالت أم الكرم نزورا و أم اللؤم ذلولا و أكثر الواجدين من لا يجود و أكثر

الأجواد من لا يجد. و ما أحسن قول القائل كفى حزنا أن الجواد مقتر عليه و لا معروف عند بخيل. و كان يقال البخل مهانة و الجود

مهابة. و من أحسن ما نقل من جود عبد الله المأمون أن عمر بن مسعدة كاتبه مات في سنة سبع عشرة و مائتين و خلف تركة جليلة

فبعث أخاه أبا إسحاق المعتصم و جماعة معه من الكتاب ليحصروا مبلغها فجاء المعتصم إليه و هو في مجلس الخلافة و معه الكتاب

فقال ما رأيتم فقال المعتصم معظما لما رآه وجدنا عينا و صامتا و ضياعا قيمة ذلك أجمع ثمانية آلاف ألف دينار و مد صوته فقال

المأمون إنا لله و الله ما كنت أرضاها

[18 : 88 ]

لتابع من أتباعه ليوفر هذا على مخلفيه فخجل المعتصم حتى ظهر خجله للحاضرين الفصل الثاني في الجبن و قد تقدم قولنا في فضل

الشجاعة. و قال هشام بن عبد الملك لمسلمة أخيه يا أبا سعيد هل دخلك ذعر في حرب قط شهدتها قال ما سلمت في ذلك عن ذعر ينبه

على حيلة و لا غشيني ذعر سلبني رأيي فقال له هشام هذه و الله البسالة قال أبو دلامة و كان جبانا

إني أعوذ بروح أن يقدمني إلى القتال فتشقى بي بنو أسد

إن المهلب حب الموت أورثكم و لم أرث رغبة في الموت عن أحد

قال المنصور لأبي دلامة في حرب إبراهيم تقدم ويلك قال يا أمير المؤمنين شهدت مع مروان بن محمد أربعة عساكر كلها انهزمت و

كسرت و إني أعيذك بالله أن يكون عسكرك الخامس. الفصل الثالث في الفقر و قد تقدم القول فيه أيضا. و مثل قوله الفقر يخرس

الفطن عن حاجته قول الشاعر

سأعمل نص العيس حتى يكفني غنى المال يوما أو غنى الحدثان

فللموت خير من حياة يرى لها على الحر بالإقلال وسم هوان

متى يتكلم يلغ حكم كلامه و إن لم يقل قالوا عديم بيان

كأن الغنى عن أهله بورك الغنى بغير لسان ناطق بلسان

و مثل قوله ع و المقل غريب في بلدته قول خلف الأحمر

لا تظني أن الغريب هو النائي و لكنما الغريب المقل

و كان يقال مالك نورك فإن أردت أن تنكسف ففرقه و أتلفه.

[18 : 89 ]

قيل للإسكندر لم حفظت الفلاسفة المال مع حكمتها و معرفتها بالدنيا قال لئلا تحوجهم الدنيا إلى أن يقوموا مقاما لا يستحقونه. و

قال بعض الزهاد ابدأ برغيفيك فاحرزهما ثم تعبد. و

قال الحسن ع من زعم أنه لا يحب المال فهو عندي كاذب فإن علمت صدقه فهو عندي أحمق

[18 : 90 ]

4الْعَجْزُ آفَةٌ وَ الصَّبْرُ شَجَاعَةٌ وَ الزُّهْدُ ثَرْوَةٌ وَ الْوَرَعُ جُنَّةٌ وَ نِعْمَ الْقَرِينُ الرِّضَا

فهذه فصول خمسة الفصل الأول قوله ع العجز آفة و هذا حق لأن الآفة هي النقص أو ما أوجب النقص و العجز كذلك. و كان يقال

العجز المفرط ترك التأهب للمعاد. و قالوا العجز عجزان أحدهما عجز التقصير و قد أمكن الأمر و الثاني الجد في طلبه و قد فات. و

قالوا العجز نائم و الحزم يقظان. الفصل الثاني في الصبر و الشجاعة قد تقدم قولنا في الصبر. و كان يقال الصبر مر لا يتجرعه إلا

حر. و كان يقال إن للأزمان المحمودة و المذمومة أعمارا و آجالا كأعمار الناس و آجالهم فاصبروا لزمان السوء حتى يفنى عمره و يأتي

أجله. و كان يقال إذا تضيفتك نازلة فاقرها الصبر عليها و أكرم مثواها لديك بالتوكل

[18 : 91 ]

و الاحتساب لترحل عنك و قد أبقت عليك أكثر مما سلبت منك و لا تنسها عند رخائك فإن تذكرك لها أوقات الرخاء يبعد السوء عن

فعلك و ينفى القساوة عن قلبك و يوزعك حمد الله و تقواه. الفصل الثالث قوله و الزهد ثروة و هذا حق لأن الثروة ما استغنى به

الإنسان عن الناس و لا غناء عنهم كالزهد في دنياهم فالزهد على الحقيقة هو الغنى الأكبر. و

روي أن عليا ع قال لعمر بن الخطاب أول ما ولي الخلافة إن سرك أن تلحق بصاحبيك فقصر الأمل و كل دون الشبع و ارقع القميص

و اخصف النعل و استغن عن الناس بفقرك تلحق بهما

وقف ملك على سقراط و هو في المشرفة قد أسند ظهره إلى جب كان يأوي إليه فقال له سل حاجتك فقال حاجتي أن تتنحى عني فقد

منعني ظلك المرفق بالشمس فسأله عن الجب قال آوي إليه قال فإن انكسر الجب لم ينكسر المكان. و كان يقال الزهد في الدنيا هو

الزهد في المحمدة و الرئاسة لا في المطعم و المشرب و عند العارفين الزهد ترك كل شيء يشغلك عن الله. و كان يقال العالم إذا لم

يكن زاهدا لكان عقوبة لأهل زمانه لأنهم يقولون لو لا أن علمه لم يصوب عنده الزهد لزهد فهم يقتدون بزهده في الزهد. الفصل

الرابع قوله و الورع جنة كان يقال لا عصمة كعصمة الورع و العبادة أما الورع فيعصمك من المعاصي و أما العبادة فتعصمك من

خصمك فإن عدوك لو رآك قائما تصلي و قد دخل ليقتلك لصد عنك و هابك.

[18 : 92 ]

و قال رجل من بني هلال لبنيه يا بني أظهروا النسك فإن الناس إن رأوا من أحد منكم بخلا قالوا مقتصد لا يحب الإسراف و إن رأوا عيا

قالوا متوق يكره الكلام و إن رأوا جبنا قالوا متحرج يكره الإقدام على الشبهات. الفصل الخامس قوله و نعم القرين الرضا قد سبق

منا قول مقنع في الرضا. و قال أبو عمرو بن العلاء دفعت إلى أرض مجدبة بها نفر من الأعراب فقلت لبعضهم ما أرضكم هذه قال كما

ترى لا زرع و لا ضرع قلت فكيف تعيشون قالوا نحترش الضباب و نصيد الدواب قلت فكيف صبركم على ذلك قالوا يا هذا سل خالق

الخلق هل سويت فقال بل رضيت. و كان يقال من سخط القضاء طاح و من رضي به استراح. و كان يقال عليك بالرضا و لو قلبت على

جمر الغضا. و

في الخبر المرفوع أنه ص قال عن الله تعالى من لم يرض بقضائي فليتخذ ربا سوائي

[18 : 93 ]

5الْعِلْمُ وِرَاثَةٌ كَرِيمَةٌ وَ الآْدَابُ حُلَلٌ مُجَدَّدَةٌ وَ الْفِكْرُ مِرْآةٌ صَافِيَةٌ

إنما قال العلم وراثة لأن كل عالم من البشر إنما يكتسب علمه من أستاذ يهذبه و موقف يعلمه فكأنه ورث العلم عنه كما يرث الابن

المال عن أبيه و قد سبق منا كلام شاف في العلم و الأدب. و كان يقال عطية العالم شبيهة بمواهب الله عز و جل لأنها لا تنفد عند

الجود بها و تبقى بكمالها عند مفيدها. و كان يقال الفضائل العلمية تشبه النخل بطيء الثمرة بعيد الفساد. و كان يقال ينبغي للعالم

ألا يترفع على الجاهل و أن يتطامن له بمقدار ما رفعه الله عليه و ينقله من الشك إلى اليقين و من الحيرة إلى التبيين لأن مكافحته

قسوة و الصبر عليه و إرشاده سياسة. و مثاله قول بعض الحكماء الخير من العلماء من يرى الجاهل بمنزلة الطفل الذي هو بالرحمة

أحق منه بالغلظة و يعذره بنقصه فيما فرط منه و لا يعذر نفسه في التأخر عن هدايته.

[18 : 94 ]

و كان يقال العلم في الأرض بمنزلة الشمس في الفلك لو لا الشمس لأظلم الجو و لو لا العلم لأظلم أهل الأرض. و كان يقال لا حلة

أجمل من حلة الأدب لأن حلل الثياب تبلى و حلل الأدب تبقى و حلل الثياب قد يغتصبها الغاصب و يسرقها السارق و حلل الآداب

باقية مع جوهر النفس. و كان يقال الفكرة الصحيحة أصطرلاب روحاني. و قال أوس بن حجر يرثي

إن الذي جمع السماحة و النجدة و الحزم و النهي جمعا

الألمعي الذي يظن بك الظن كان قد رأى و قد سمعا

و من كلام الحكماء النار لا ينقصها ما أخذ منها و لكن يخمدها ألا تجد حطبا و كذلك العلم لا يفنيه الاقتباس و لكن فقد الحاملين له

سبب عدمه. قيل لبعضهم أي العلوم أفضل قال ما العامة فيه أزهد. و قال أفلاطون من جهل الشيء و لم يسأل عنه جمع على نفسه

فضيحتين. و كان يقال ثلاثة لا تجربة معهن أدب يزين و مجانبة الريبة و كف الأذى. و كان يقال عليكم بالأدب فإنه صاحب في السفر و

مؤنس في الوحدة و جمال في المحفل و سبب إلى طلب الحاجة. و كان عبد الملك أديبا فاضلا و لا يجالس إلا أديبا. و روى الهيثم بن

عدي عن مسعر بن كدام قال حدثني سعيد بن خالد الجدلي

[18 : 95 ]

قال لما قدم عبد الملك الكوفة بعد قتل مصعب دعا الناس يعرضهم على فرائضهم فحضرنا بين يديه فقال من القوم قلنا جديلة فقال

جديلة عدوان قلنا نعم فأنشده

عذير الحي من عدوان كانوا حية الأرض

بغى بعضهم بعضا فلم يرعوا على بعض

و منهم كانت السادات و الموفون بالقرض

و منهم حكم يقضي فلا ينقض ما يقضي

و منهم من يجيز الناس بالسنة و الفرض

ثم أقبل على رجل منا وسيم جسيم قدمناه أمامنا فقال أيكم يقول هذا الشعر قال لا أدري فقلت أنا من خلفه يقوله ذو الإصبع فتركني و

أقبل على ذلك الرجل الجسيم فقال ما كان اسم ذي الإصبع قال لا أدري فقلت أنا من خلفه اسمه حرثان فتركني و أقبل عليه فقال له و

لم سمي ذا الإصبع قال لا أدري فقلت أنا من خلفه نهشته حية في إصبعه فأقبل عليه و تركني فقال من أيكم كان فقال لا أدري فقلت أنا

من خلفه من بني تاج الذين يقول الشاعر فيهم

فأما بنو تاج فلا تذكرنهم و لا تتبعن عيناك من كان هالكا

فأقبل على الجسيم فقال كم عطاؤك قال سبعمائة درهم فأقبل علي و قال و كم عطاؤك أنت قلت أربعمائة فقال يا أبا الزعيزعة حط من

عطاء هذا ثلاثمائة و زدها في عطاء هذا فرحت و عطائي سبعمائة و عطاؤه أربعمائة. و أنشد منشد بحضرة الواثق هارون بن المعتصم

[18 : 96 ]

أ ظلوم إن مصابكم رجلا أهدى السلام تحية ظلم

فقال شخص رجل هو خبر إن و وافقه على ذلك قوم و خالفه آخرون فقال الواثق من بقي من علماء النحويين قالوا أبو عثمان المازني

بالبصرة فأمر بإشخاصه إلى سر من رأى بعد إزاحة علته قال أبو عثمان فأشخصت فلما أدخلت عليه قال ممن الرجل قلت من مازن قال

من مازن تميم أم من مازن ربيعة أم مازن قيس أم مازن اليمين قلت من مازن ربيعة قال باسمك بالباء يريد ما اسمك لأن لغة مازن ربيعة

هكذا يبدلون الميم باء و الباء ميما فقلت مكر أي بكر فضحك و قال اجلس و اطمئن فجلست فسألني عن البيت فأنشدته منصوبا فقال

فأين خبر إن فقلت ظلم قال كيف هذا قلت يا أمير المؤمنين ألا ترى أن البيت إن لم يجعل ظلم خبر إن يكون مقطوع المعنى معدوم

الفائدة فلما كررت القول عليه فهم و قال قبح الله من لا أدب له ثم قال أ لك ولد قلت بنية قال فما قالت لك حين ودعتها قلت ما قالت

بنت الأعشى

تقول ابنتي حين جد الرحيل أرانا سواء و من قد يتم

أبانا فلا رمت من عندنا فإنا بخير إذا لم ترم

أبانا إذا أضمرتك البلاد نجفى و تقطع منا الرحم

قال فما قلت لها قال قلت أنشدتها بيت جرير

ثقي بالله ليس له شريك و من عند الخليفة بالنجاح

فقال ثق بالنجاح إن شاء الله تعالى ثم أمر لي بألف دينار و كسوة و ردني إلى البصرة

[18 : 97 ]

6وَ صَدْرُ الْعَاقِلِ صُنْدُوقُ سِرِّهِ وَ الْبَشَاشَةُ حِبَالَةُ الْمَوَدَّةِ وَ الِاحْتِمَالُ قَبْرُ الْعُيُوبِ وَ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْعِبَارَةِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضاً

الْمُسَالَمَةُ خَبْءُ الْعُيُوبِ

هذه فصول ثلاثة الفصل الأول قوله صدر العاقل صندوق سره قد ذكرنا فيما تقدم طرفا صالحا في كتمان السر. و كان يقال لا تنكح

خاطب سرك. قال معاوية للنجار العذري ابغ لي محدثا قال معي يا أمير المؤمنين قال نعم أستريح منك إليه و منه إليك و أجعله كتوما

فإن الرجل إذا اتخذ جليسا ألقى إليه عجره و بجره. و قال بعض الأعراب لا تضع سرك عند من لا سر له عندك. و قالوا إذا كان سر

الملك عند اثنين دخلت على الملك الشبهة و اتسعت على الرجلين المعاذير فإن عاقبهما عند شياعه عاقب اثنين بذنب واحد و إن

اتهمهما اتهم بريئا

[18 : 98 ]

بجناية مجرم و إن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما و لا ذنب له و عن الآخر و لا حجة عليه. الفصل الثاني قوله البشاشة حبالة المودة

قد قلنا في البشر و البشاشة فيما سبق قولا مقنعا. و كان يقال البشر دال على السخاء من ممدوحك و على الود من صديقك دلالة النور

على الثمر. و كان يقال ثلاث تبين لك الود في صدر أخيك تلقاه ببشرك و تبدؤه بالسلام و توسع له في المجلس. و قال الشاعر

لا تدخلنك ضجرة من سائل فلخير دهرك أن ترى مسئولا

لا تجبهن بالرد وجه مؤمل قد رام غيرك أن يرى مأمولا

تلقى الكريم فتستدل ببشره و ترى العبوس على اللئيم دليلا

و اعلم بأنك عن قليل صائر خبرا فكن خبرا يروق جميلا

و قال البحتري

لو أن كفك لم تجد لمؤمل لكفاه عاجل بشرك المتهلل

و لو أن مجدك لم يكن متقادما أغناك آخر سؤدد عن أول

أدركت ما فات الكهول من الحجا من عنفوان شبابك المستقبل

فإذا أمرت فما يقال لك اتئد و إذا حكمت فما يقال لك اعدل

الفصل الثالث قوله الاحتمال قبر العيوب أي إذا احتملت صاحبك و حلمت

[18 : 99 ]

عنه ستر هذا الخلق الحسن منك عيوبك كما يستر القبر الميت و هذا مثل قولهم في الجود كل عيب فالكرم يغطيه. فأما الخبء

فمصدر خبأته أخبؤه و المعنى في الروايتين واحد و قد ذكرنا في فضل الاحتمال و المسالمة فيما تقدم أشياء صالحة. و

من كلامه ع وجدت الاحتمال أنصر لي من الرجال

و من كلامه من سالم الناس سلم منهم و من حارب الناس حاربوه فإن العثرة للكاثر

و كان يقال العاقل خادم الأحمق أبدا إن كان فوقه لم يجد من مداراته و التقرب إليه بدا و إن كان دونه لم يجد من احتماله و

استكفاف شره بدا. و أسمع رجل يزيد بن عمر بن هبيرة فأعرض عنه فقال الرجل إياك أعني قال و عنك أعرض. و قال الشاعر

إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوت

سكت عن السفيه فظن أني عييت عن الجواب و ما عييت

[18 : 100 ]

7مَنْ رَضِيَ عَنْ نَفْسِهِ كَثُرَ السَّاخِطُ عَلَيْهِ وَ الصَّدَقَةُ دَوَاءٌ مُنْجِحٌ وَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ فِي عَاجِلِهِمْ نُصْبُ أَعْيُنِهِمْ فِي آجِلِهِمْ

هذه فصول ثلاثة الفصل الأول قوله من رضي عن نفسه كثر الساخط عليه قال بعض الفضلاء لرجل كان يرضى عن نفسه و يدعي التميز

على الناس بالعلم عليك بقوم تروقهم بزبرجك و تروعهم بزخرفك فإنك لا تعدم عزا و لا تفقد غمرا لا يبلغ مسبارهما غورك و لا

تستغرق أقدارهما طورك. و قال الشاعر

أرى كل إنسان يرى عيب غيره و يعمى عن العيب الذي هو فيه

و ما خير من تخفى عليه عيوبه و يبدو له العيب الذي بأخيه

و قال بعضهم دخلت على ابن منارة و بين يديه كتاب قد صنفه فقلت ما هذا قال كتاب عملته مدخلا إلى التوراة فقلت إن الناس ينكرون

هذا فلو قطعت الوقت بغيره قال الناس جهال قلت و أنت ضدهم قال نعم قلت

[18 : 101 ]

فينبغي أن يكون ضدهم جاهلا عندهم قال كذاك هو قلت فقد بقيت أنت جاهلا بإجماع الناس و الناس جهال بقولك وحدك و مثل هذا

المعنى قول الشاعر

إذا كنت تقضي أن عقلك كامل و أن بني حواء غيرك جاهل

و أن مفيض العلم صدرك كله فمن ذا الذي يدري بأنك عاقل

الفصل الثاني الصدقة دواء منجح قد جاء في الصدقة فضل كثير و ذكرنا بعض ذلك فيما تقدم و

في الحديث المرفوع تاجروا الله بالصدقة تربحوا

و قيل الصدقة صداق الجنة. و قيل للشبلي ما يجب في مائتي درهم فقال أما من جهة الشرع فخمسة دراهم و أما من جهة الإخلاص

فالكل. و

روى أبو هريرة عن النبي ص أنه سئل فقيل أي الصدقة أفضل فقال أن تعطي و أنت صحيح شحيح تأمل البقاء و تخشى الفقر و لا

تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا و لفلان كذا

و مثل قوله ع الصدقة دواء منجح

قول النبي ص داووا مرضاكم بالصدقة

الفصل الثالث قوله أعمال العباد في عاجلهم نصب أعينهم في آجلهم هذا من قوله تعالى يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْس ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْر مُحْضَراً

وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوء تَوَدُّ

[18 : 102 ]

لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً و قال تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّة شَرًّا يَرَهُ. و من كلام بعضهم إنما

تقدم على ما قدمت و لست تقدم على ما تركت ف آثر ما تلقاه غدا على ما لا تراه أبدا. و من حكمة أفلاطون اكتم حسن صنيعك عن أعين

البشر فإن له ممن بيده ملكوت السماء أعينا ترمقه فتجازي عليه

[18 : 103 ]

8اعْجَبُوا لِهَذَا الْإِنْسَانِ يَنْظُرُ بِشَحْم وَ يَتَكَلَّمُ بِلَحْم وَ يَسْمَعُ بِعَظْم وَ يَتَنَفَّسُ مِنْ خَرْم

هذا كلام محمول بعضه على ظاهره لما تدعو إليه الضرورة من مخاطبة العامة بما يفهمونه و العدول عما لا تقبله عقولهم و لا تعيه

قلوبهم. أما الإبصار فقد اختلف فيه فقيل إنه بخروج شعاع من العين يتصل بالمرئي و قيل إن القوة المبصرة التي في العين تلاقي

بذاتها المرئيات فتبصرها و قال قوم بل بتكيف الهواء بالشعاع البصري من غير خروج فيصير الهواء باعتبار تكيفه بالشعاع به آلة

العين في الإدراك. و قال المحققون من الحكماء إن الإدراك البصري هو بانطباع أشباح المرئيات في الرطوبة الجلدية من العين عند

توسط الهواء الشفاف المضيء كما تنطبع الصورة في المرآة قالوا و لو كانت المرآة ذات قوة مبصرة لأدركت الصور المنطبعة فيها و

على جميع الأقوال فلا بد من إثبات القوة المبصرة في الرطوبة الجلدية و إلى الرطوبة الجلدية وقعت إشارته ع بقوله ينظر بشحم.

و أما الكلام فمحله اللسان عند قوم و قال قوم ليس اللسان آلة ضرورية في الكلام لأن من يقطع لسانه من أصله يتكلم و أما إذا

قطع رأسه لم يتكلم قالوا و إنما الكلام

[18 : 104 ]

باللهوات و على كلا القولين فلا بد أن تكون آلة الكلام لحما و إليه وقعت إشارة أمير المؤمنين ع و ليس هذه البنية المخصوصة

شرطا في الكلام على الإطلاق لجواز وجوده في الشجر و الجماد عند أصحابنا و إنما هي شرط في كلام الإنسان و لذا قال أمير

المؤمنين اعجبوا لهذا الإنسان. فأما السمع للصوت فليس بعظم عند التحقيق و إنما هو بالقوة المودعة في العصب المفروش في

الصماخ كالغشاء فإذا حمل الهواء الصوت و دخل في ثقب الأذن المنتهي إلى الصماخ بعد تعويجات فيه جعلت لتجري مجرى اليراعة

المصوتة و أفضى ذلك الصوت إلى ذلك العصب الحامل للقوة السامعة حصل الإدراك و بالجملة فلا بد من عظم لأن الحامل اللحم و

العصب إنما هو العظم. و أما التنفس فلا ريب أنه من خرم لأنه من الأنف و إن كان قد يمكن لو سد الأنف أن يتنفس الإنسان من الفم

و هو خرم أيضا و الحاجة إلى التنفس إخراج الهواء الحار عن القلب و إدخال النسيم البارد إليه فجعلت الرئة كالمروحة تنبسط و

تنقبض فيدخل الهواء بها و يخرج من قصبتها النافذة إلى المنخرين

[18 : 105 ]

9إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَى قَوْم أَعَارَتْهُمْ مَحَاسِنَ غَيْرِهِمْ وَ إِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُمْ سَلَبَتْهُمْ مَحَاسِنَ أَنْفُسِهِمْ

كان الرشيد أيام كان حسن الرأي في جعفر بن يحيى يحلف بالله أن جعفرا أفصح من قس بن ساعدة و أشجع من عامر بن الطفيل و

أكتب من عبد الحميد بن يحيى و أسوس من عمر بن الخطاب و أحسن من مصعب بن الزبير و كان جعفر ليس بحسن الصورة و كان

طويل الوجه جدا و أنصح له من الحجاج لعبد الملك و أسمح من عبد الله بن جعفر و أعف من يوسف بن يعقوب فلما تغير رأيه فيه

أنكر محاسنه الحقيقية التي لا يختلف اثنان أنها فيه نحو كياسته و سماحته و لم يكن أحد يجسر أن يرد على جعفر قولا و لا رأيا

فيقال إن أول ما ظهر من تغير الرشيد له أنه كلم الفضل بن الربيع بشيء فرده عليه الفضل و لم تجر عادته من قبل أن يفتح فاه في

وجهه فأنكر سليمان بن أبي جعفر ذلك على الفضل فغضب الرشيد لإنكار سليمان و قال ما دخولك بين أخي و مولاي كالراضي بما كان

من الفضل ثم تكلم جعفر بشيء قاله للفضل فقال الفضل اشهد عليه يا أمير المؤمنين فقال جعفر فض الله فاك يا جاهل إذا كان أمير

المؤمنين الشاهد فمن الحاكم المشهود عنده فضحك الرشيد و قال يا فضل لا تمار جعفرا فإنك لا تقع منه موقعا.

[18 : 106 ]

و اعلم أنا قد وجدنا تصديق ما قاله ع في العلوم و الفضائل و الخصائص النفسانية دع حديث الدنيا و السلطان و الرئاسة فإن

المحظوظ من علم أو من فضيلة تضاف إليه شوارد تلك الفضيلة و شوارد ذلك الفن مثاله حظ علي ع من الشجاعة و من الأمثال

الحكمية قل أن ترى مثلا شاردا أو كلمة حكمية إلا و تضيفها الناس إليه و كذلك ما يدعي العامة له من الشجاعة و قتل الأبطال حتى

يقال إنه حمل على سبعين ألفا فهزمهم و قتل الجن في البئر و فتل الطوق الحديد في عنق خالد بن الوليد و كذلك حظ عنترة بن شداد

في الشجاعة يذكر له من الأخبار ما لم يكن و كذلك ما اشتهر به أبو نواس في وصف الخمر يضاف إليه من الشعر في هذا الفن ما لم

يكن قاله و كذلك جود حاتم و عبد الله بن جعفر و نحو ذلك و بالعكس من لا حظ له ينفى عنه ما هو حقيقة له فقد رأينا كثيرا من الشعر

الجيد ينفى عن قائله استحقارا له لأنه خامل الذكر و ينسب إلى غيره بل رأينا كتبا مصنفة في فنون من العلوم خمل ذكر مصنفيها و

نسبت إلى غيرهم من ذوي النباهة و الصيت و كل ذلك منسوب إلى الجد و الإقبال

[18 : 107 ]

10خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ وَ إِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ

و قد روي خنوا بالخاء المعجمة من الخنين و هو صوت يخرج من الأنف عند البكاء و إلى تتعلق بمحذوف أي حنوا شوقا إليكم. و قد

ورد في الأمر بإحسان العشرة مع الناس الكثير الواسع و قد ذكرنا طرفا من ذلك فيما تقدم. و

في الخبر المرفوع إذا وسعتم الناس ببسط الوجوه و حسن الخلق و حسن الجوار فكأنما وسعتموهم بالمال

و قال أبو الدرداء إنا لنهش في وجوه أقوام و إن قلوبنا لتقليهم. و قال محمد بن الفضل الهاشمي لأبيه لم تجلس إلى فلان و قد عرفت

عداوته قال أخبئ نارا و أقدح عن ود. و قال المهاجر بن عبد الله

و إني لأقصى المرء من غير بغضة و أدنى أخا البغضاء مني على عمد

ليحدث ودا بعد بغضاء أو أرى له مصرعا يردي به الله من يردي

و قال عقال بن شبة التميمي كنت ردف أبي فلقيه جرير بن الخطفى على بغلة

[18 : 108 ]

فحياه أبي و ألطفه فلما مضى قلت له أ بعد أن قال لنا ما قال قال يا بني أ فأوسع جرحي. و

قال محمد بن الحنفية ع قد يدفع باحتمال المكروه ما هو أعظم منه

و قال الحسن ع حسن السؤال نصف العلم و مداراة الناس نصف العقل و القصد في المعيشة نصف المئونة

و مدح ابن شهاب شاعرا فأعطاه و قال إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر. و قال الشاعر

و أنزلني طول النوى دار غربة متى شئت لاقيت أمرا لا أشاكله

أخا ثقة حتى يقال سجية و لو كان ذا عقل لكنت أعاقله

و في الحديث المرفوع للمسلم على المسلم ست يسلم عليه إذا لقيه و يجيبه إذا دعاه و يشمته إذا عطس و يعوده إذا مرض و يحب له

ما يحب لنفسه و يشيع جنازته إذا مات

ووقف ص على عجوز فجعل يسألها و يتحفاها و قال إن حسن العهد من الإيمان إنها كانت تأتينا أيام خديجة

[18 : 109 ]

11إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ

قد أخذت أنا هذا المعنى فقلت في قطعة لي

إن الأماني أكساب الجهول فلا تقنع بها و اركب الأهوال و الخطرا

و اجعل من العقل جهلا و اطرح نظرا في الموبقات و لا تستشعر الحذرا

و إن قدرت على الأعداء منتصرا فاشكر بعفوك عن أعدائك الظفرا

و قد تقدم لنا كلام طويل في الحلم و الصفح و العفو. و نحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك شجر بين أبي مسلم و بين صاحب مرو كلام

أربى فيه صاحب مرو عليه و أغلظ له في القول فاحتمله أبو مسلم و ندم صاحب مرو و قام بين يدي أبي مسلم معتذرا و كان قال له في

جملة ما قال يا لقيط فقال أبو مسلم مه لسان سبق و وهم أخطأ و الغضب شيطان و أنا جرأتك علي باحتمالك قديما فإن كنت للذنب

معتذرا فقد شاركتك فيه و إن كنت مغلوبا فالعفو يسعك فقال صاحب مرو أيها الأمير إن عظم ذنبي يمنعني من الهدوء فقال أبو مسلم يا

عجبا أقابلك بإحسان و أنت مسيء ثم أقابلك بإساءة و أنت محسن فقال الآن وثقت بعفوك. و أذنب بعض كتاب المأمون ذنبا و تقدم

إليه ليحتج لنفسه فقال يا هذا قف

[18 : 110 ]

مكانك فإنما هو عذر أو يمين فقد وهبتهما لك و قد تكرر منك ذلك فلا تزال تسيء و نحسن و تذنب و نغفر حتى يكون العفو هو الذي

يصلحك. و كان يقال أحسن أفعال القادر العفو و أقبحها الانتقام. و كان يقال ظفر الكريم عفو و عفو اللئيم عقوبة. و كان يقال رب

ذنب مقدار العقوبة عليه إعلام المذنب به و لا يجاوز به حد الارتفاع إلى الإيقاع. و كان يقال ما عفا عن الذنب من قرع به. و من الحلم

الذي يتضمن كبرا مستحسنا ما روي أن مصعب بن الزبير لما ولي العراق عرض الناس ليدفع إليهم أرزاقهم فنادى مناديه أين عمرو بن

جرموز فقيل له أيها الأمير إنه أبعد في الأرض قال أ و ظن الأحمق أني أقتله بأبي عبد الله قولوا له فليظهر آمنا و ليأخذ عطاءه مسلما.

و أكثر رجل من سب الأحنف و هو لا يجيبه فقال الرجل ويلي عليه و الله ما منعه من جوابي إلا هواني عنده. و قال لقيط بن زرارة

فقل لبني سعد و ما لي و ما لكم ترقون مني ما استطعتم و أعتق

أ غركم أني بأحسن شيمة بصير و أني بالفواحش أخرق

و أنك قد ساببتني فقهرتني هنيئا مريئا أنت بالفحش أحذق

و قال المأمون لإبراهيم بن المهدي لما ظفر به إني قد شاورت في أمرك فأشير علي بقتلك إلا أني وجدت قدرك فوق ذنبك فكرهت

قتلك للازم حرمتك فقال إبراهيم يا أمير المؤمنين إن المشير أشار بما تقتضيه السياسة و توجيه العادة إلا أنك أبيت أن

[18 : 111 ]

تطلب النصر إلا من حيث عودته من العفو فإن قتلت فلك نظراء و إن عفوت فلا نظير لك قال قد عفوت فاذهب آمنا. ضل الأعشى في

طريقه فأصبح بأبيات علقمة بن علاثة فقال قائده و قد نظر إلى قباب الأدم وا سوء صباحاه يا أبا بصير هذه و الله أبيات علقمة فخرج

فتيان الحي فقبضوا على الأعشى فأتوا به علقمة فمثل بين يديه فقال الحمد لله الذي أظفرني بك من غير ذمة و لا عقد قال الأعشى أ و

تدري لم ذلك جعلت فداك قال نعم لانتقم اليوم منك بتقوالك علي الباطل مع إحساني إليك قال لا و الله و لكن أظفرك الله بي

ليبلو قدر حلمك في فأطرق علقمة فاندفع الأعشى فقال

أ علقم قد صيرتني الأمور إليك و ما كان بي منكص

كساكم علاثة أثوابه و ورثكم حلمه الأحوص

فهب لي نفسي فدتك النفوس فلا زلت تنمي و لا تنقص

فقال قد فعلت أما و الله لو قلت في بعض ما قلته في عامر بن عمر لأغنيتك طول حياتك و لو قلت في عامر بعض ما قلته في ما أذاقك برد

الحياة. قال معاوية لخالد بن معمر السدوسي على ما ذا أحببت عليا قال على ثلاث حلمه إذا غضب و صدقه إذا قال و وفاؤه إذا وعد

[18 : 112 ]

12أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الْإِخْوَانِ وَ أَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ

قد ذكرنا قطعة صالحة من الإخوانيات فيما تقدم و

في الحديث المرفوع أن النبي ص بكى لما قتل جعفر بمؤتة و قال المرء كثير بأخيه

و قال جعفر بن محمد ع لكل شيء حلية و حلية الرجل أوداؤه

و أنشد ابن الأعرابي

لعمرك ما مال الفتى بذخيرة و لكن إخوان الصفاء الذخائر

و كان أبو أيوب السختياني يقول إذا بلغني موت أخ كان لي فكأنما سقط عضو مني. و كان يقال الإخوان ثلاث طبقات طبقة كالغذاء لا

يستغني عنه و طبقة كالدواء يحتاج إليه عند المرض و طبقة كالداء لا يحتاج إليه أبدا. و كان يقال صاحبك كرقعة في قميصك فانظر

بما ترقع قميصك.

[18 : 113 ]

و كان يونس بن عبيد يقول اثنان ما في الأرض أقل منهما و لا يزدادان إلا قلة درهم يوضع في حق و أخ يسكن إليه في الله. و قال

الشاعر

أخاك أخاك إن من لا أخا له كساع إلى الهيجا بغير سلاح

و إن ابن عم المرء فاعلم جناحه و هل ينهض البازي بغير جناح

و قال آخر

و لن تنفك تحسد أو تعادى فأكثر ما استطعت من الصديق

و بغضك للتقي أقل ضرا و أسلم من مودة ذي الفسوق

و أوصى بعضهم ابنه فقال يا بني إذا نازعتك نفسك إلى مصاحبة الرجال فاصحب من إذا صحبته زانك و إذا خدمته صانك و إذا عرضت

لك مؤنة أعانك و إن قلت صدق قولك و إن صلت شد صولك و إن مددت يدك لأمر مدها و إن بدت لك عورة سدها و إن رأى منك حسنة

عدها و إن سألته أعطاك و إن سكت ابتدأك و إن نزلت بك ملمة واساك من لا تأتيك منه البوائق و لا تحتار عليك منه الطرائق و لا

يخذلك عند الحقائق. و

من الشعر المنسوب إلى علي ع

إن أخاك الحق من كان معك و من يضر نفسه لينفعك

و من إذا ريب الزمان صدعك شتت فيك شمله ليجمعك

[18 : 114 ]

و من الشعر المنسوب إليه ع أيضا

أخوك الذي إن أجرضتك ملمة من الدهر لم يبرح لها الدهر واجما

و ليس أخوك بالذي إن تشعبت عليك أمور ظل يلحاك لائما

. و قال بعض الحكماء ينبغي للإنسان أن يوكل بنفسه كالئين أحدهما يكلؤه من أمامه و الآخر يكلؤه من ورائه و هما عقله الصحيح و

أخوه النصيح فإن عقله و إن صح فلن يبصره من عيبه إلا بمقدار ما يرى الرجل من وجهه في المرآة و يخفى عليه ما خلفه و أما أخوه

النصيح فيبصره ما خلفه و ما أمامه أيضا. و كتب ظريف إلى صديق له أني غير محمود على الانقياد إليك لأني صادقتك من جوهر نفسي

و النفس يتبع بعضها بعضا. و

في الحديث المرفوع إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه

و قال الأحنف خير الإخوان من إذا استغنيت عنه لم يزدك ودا و إن احتجت إليه لم ينقصك. و قال أعشى باهلة يرثي المنتشر بن وهب

إما سلكت سبيلا كنت سالكها فاذهب فلا يبعدنك الله منتشر

من ليس في خيره شر ينكده على الصديق و لا في صفوه كدر

و قال آخر يرثي صديقا له

أخ طالما سرني ذكره و أصبحت أشجى لدى ذكره

و قد كنت أغدو إلى قصره فأصبحت أغدو إلى قبره

و كنت أراني غنيا به عن الناس لو مد في عمره

إذا جئته طالبا حاجة فأمري يجوز على أمره

رأى بعض الحكماء مصطحبين لا يفترقان فسأل عنهما فقيل صديقان قال فما بال أحدهما غنيا و الآخر فقيرا

[18 : 115 ]

13وَ قَالَ ع فِي الَّذِينَ اعْتَزَلُوا الْقِتَالَ مَعَهُ خَذَلُوا الْحَقَّ وَ لَمْ يَنْصُرُوا الْبَاطِلَ

قد سبق ذكر هؤلاء فيما تقدم و هم عبد الله بن عمر بن الخطاب و سعد بن أبي وقاص و سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل و أسامة بن زيد

و محمد بن مسلمة و أنس بن مالك و جماعة غيرهم. و قد ذكر شيخنا أبو الحسين في الغرر أن أمير المؤمنين ع لما دعاهم إلى القتال

معه و اعتذروا بما اعتذروا به قال لهم أ تنكرون هذه البيعة قالوا لا لكنا لا نقاتل فقال إذا بايعتم فقد قاتلتم قال فسلموا بذلك من

الذم لأن إمامهم رضي عنهم. و معنى قوله خذلوا الحق و لم ينصروا الباطل أي خذلوني و لم يحاربوا معي معاوية و بعض أصحابنا

البغداديين يتوقف في هؤلاء و إلى هذا القول يميل شيخنا أبو جعفر الإسكافي

[18 : 116 ]

14إِذَا وَصَلَتْ إِلَيْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلَا تُنَفِّرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ

قد سبق القول في الشكر و نحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك. قال بعضهم ما شيبتني السنون بل شكري من أحتاج أن أشكره. و قالوا

العفاف زينة الفقر و الشكر زينة الغنى. و قالوا من سعادة المرء أن يضع معروفه عند من يشكره. و من جيد ما قيل في الشكر قول أبي

نواس

قد قلت للعباس معتذرا من ضعف شكريه و معترفا

أنت امرؤ حملتني نعما أوهت قوى شكري فقد ضعفا

فإليك مني اليوم معذرة جاءتك بالتصريح منكشفا

لا تسدين إلى عارفة حتى أقوم بشكر ما سلفا

و قال البحتري

فإن أنا لم أشكر لنعماك جاهدا فلا نلت نعمى بعدها توجب الشكرا

[18 : 117 ]

و قال أيضا

سأجهد في شكري لنعماك إنني أرى الكفر للنعماء ضربا من الكفر

و قال ابن أبي طاهر

شكرت عليا بره و بلاءه فقصر بي شكري و إني لجاهد

و ما أنا من شكري عليا بواحد و لكنه في الفضل و الجود واحد

و قال أبو الفتح البستي

لا تظنن بي و برك حي أن شكري و شكر غيري موات

أنا أرض و راحتاك سحاب و الأيادي وبل و شكري نبات

و قال أيضا

و خر لما أوليت شكري ساجدا و مثل الذي أوليت يعبده الشكر

البحتري

أراك بعين المكتسي ورق الغنى ب آلائك اللاتي يعددها الشكر

و يعجبني فقري إليك و لم يكن ليعجبني لو لا محبتك الفقر

آخر

بدأت بمعروف و ثنيت بالرضا و ثلثت بالحسنى و ربعت بالكرم

و باشرت أمري و اعتنيت بحاجتي و أخرت لا عني و قدمت لي نعم

و صدقت لي ظني و أنجزت موعدي و طبت به نفسا و لم تتبع الندم

فإن نحن كافأنا بشكر فواجب و إن نحن قصرنا فما الود متهم

[18 : 118 ]

15مَنْ ضَيَّعَهُ الْأَقْرَبُ أُتِيحَ لَهُ الْأَبْعَدُ

إن الإنسان قد ينصره من لا يرجو نصره و إن أهمله أقربوه و خذلوه فقد تقوم به الأجانب من الناس و قد وجدنا ذلك في حق رسول الله

ص ضيعه أهله و رهطه من قريش و خذلوه و تمالئوا عليه فقام بنصره الأوس و الخزرج و هم أبعد الناس نسبا منه لأنه من عدنان و هم

من قحطان و كل واحد من الفريقين لا يحب الآخر حتى تحب الأرض الدم و قامت ربيعة بنصر علي ع في صفين و هم أعداء مضر الذين

هم أهله و رهطه و قامت اليمن بنصر معاوية في صفين و هم أعداء مضر و قامت الخراسانية و هم عجم بنصر الدولة العباسية و هي

دولة العرب و إذا تأملت السير وجدت هذا كثيرا شائعا

[18 : 119 ]

16مَا كُلُّ مَفْتُون يُعَاتَبُ هذه الكلمة قالها علي ع لسعد بن أبي وقاص و محمد بن مسلمة و عبد الله بن عمر لما امتنعوا من الخروج معه

لحرب أصحاب الجمل و نظيرها أو قريب منها قول أبي الطيب

فما كل فعال يجازى بفعله و لا كل قوال لدي يجاب

و رب كلام مر فوق مسامعي كما طن في لفح الهجير ذباب

[18 : 120 ]

17تَذِلُّ الْأُمُورُ لِلْمَقَادِيرِ حَتَّى يَكُونَ الْحَتْفُ فِي التَّدْبِيرِ

إذا تأملت أحوال العالم وجدت صدق هذه الكلمة ظاهرا و لو شئنا أن نذكر الكثير من ذلك لذكرنا ما يحتاج في تقييده بالكتابة إلى

مثل حجم كتابنا هذا و لكنا نذكر لمحا و نكتا و أطرافا و دررا من القول. فرش مروان بن محمد و قد لقي عبد الله بن علي أنطاعا و بسط

عليها المال و قال من جاءني برأس فله مائة درهم فعجزت الحفظة و الحراس عن حمايته و اشتغلت طائفة من الجند بنهبه و تهافت

الجيش عليه لينتهبوه فغشيهم عبد الله بن علي بعساكره فقتل منهم ما لا يحصى و هزم الباقون. و كسر إبراهيم بن عبد الله بن

الحسن بن الحسن جيش أبي جعفر المنصور بباخمرى و أمر أصحابه باتباعهم فحال بينهم و بين أصحاب أبي جعفر ماء ضحضاح فكره

إبراهيم و جيشه خوض ذلك الماء و كان واسعا فأمر صاحب لوائه أن يتعرج باللواء على مسناة كانت على ذلك الماء يابسة فسلكها

صاحب اللواء و هي تفضي بانعراج و انعكاس إلى الأرض اليبس فلما رأى عسكر أبي جعفر أن لواء القوم قد تراجع

[18 : 121 ]

القهقرى ظنوهم منهزمين فعطفوا عليهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة و جاء سهم غرب فأصاب إبراهيم فقتله. و قد دبرت من قبل قريش

في حماية العير بأن نفرت على الصعب و الذلول لتدفع رسول الله ص عن اللطيمة فكان هلاكها في تدبيرها. و كسرت الأنصار يوم

أحد بأن أخرجت النبي ص عن المدينة ظنا منها أن الظفر و النصرة كانت بذلك و كان سبب عطبها و ظفر قريش بها و لو أقامت بين

جدران المدينة لم تظفر قريش منها بشيء. و دبر أبو مسلم الدولة الهاشمية و قام بها حتى كان حتفه في تدبيره. و كذلك جرى لأبي

عبد الله المحتسب مع عبد الله المهدي بالمغرب. و دبر أبو القاسم بن المسلمة رئيس الرؤساء في إخراج البساسيري عن العراق

حتى كان هلاكه على يده و كذلك أيضا انعكس عليه تدبيره في إزالة الدولة البويهية من الدولة السلجوقية ظنا منه أنه يدفع الشر

بغير الشر فدفع الشر بما هو شر منه. و أمثال هذا و نظائره أكثر من أن تحصى

[18 : 122 ]

18وَ سُئِلَ ع عَنْ قَوْلِ الرَّسُولِ ص غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَ لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ فَقَالَ ع إِنَّمَا قَالَ ص ذَلِكَ وَ الدِّينُ قُلٌّ فَأَمَّا الآْنَ وَ قَدِ اتَّسَعَ نِطَاقُهُ وَ

ضَرَبَ بِجِرَانِهِ فَامْرُؤٌ وَ مَا اخْتَارَ

اليهود لا تخضب و كان النبي ص أمر أصحابه بالخضاب ليكونوا في مرأى العين شبابا فيجبن المشركون عنهم حال الحرب فإن

الشيخ مظنة الضعف. قال علي ع كان ذلك و الإسلام قل أي قليل و أما الآن و قد اتسع نطاقه و ضرب بجرانه فقد سقط ذلك الأمر و

صار الخضاب مباحا غير مندوب. و النطاق ثوب تلبسه المرأة لبسة مخصوصة ليس بصدرة و لا سراويل و سميت أسماء بنت أبي بكر

ذات النطاقين لأنها قطعت من ثوبها ذلك قطعة شدت بها سفرة لها حملها أبو بكر معه حين خرج من مكة مع النبي ص يوم الهجرة فقال

النبي ص لقد أبدلها الله بها نطاقين في الجنة و كان نفر الشام ينادون عبد الله ابنها حين حصره الحجاج بمكة يشتمونه كما زعموا

يا ابن ذات النطاقين فيضحك عبد الله منهم و قال لابن أبي عتيق أ لا تسمع يظنونه ذما ثم يقول

[18 : 123 ]

و تلك شكاة ظاهر عنك عارها

و استعار أمير المؤمنين ع هذه اللفظة لسعة رقعة الإسلام و كذلك استعار قوله و ضرب بجرانه أي أقام و ثبت و ذلك لأن البعير إذا

ضرب بجرانه الأرض و جرانه مقدم عنقه فقد استناخ و برك. و امرؤ مبتدأ و إن كان نكرة كقولهم شر أهر ذا ناب لحصول الفائدة و

الواو بمعنى مع و هي و ما بعدها الخبر و ما مصدرية أي امرؤ مع اختياره

نبذ مما قيل في الشيب و الخضاب

فأما القول في الخضاب فقد روى قوم أن رسول الله ص بدا شيب يسير في لحيته فغيره بالخضاب خضب بالحناء و الكتم و قال قوم

لم يشب أصلا. و روي أن عائشة قالت ما كان الله ليشينه بالشيب فقيل أ و شين هو يا أم المؤمنين قالت كلكم يكرهه و أما أبو بكر

فصح الخبر عنه بذلك و كذلك أمير المؤمنين و قيل إنه لم يخضب و قتل الحسين ع يوم الطف و هو مخضوب و

في الحديث المرفوع رواه عقبة بن عامر عليكم بالحناء فإنه خضاب الإسلام إنه يصفي البصر و يذهب بالصداع و يزيد في الباه و

إياكم و السواد فإنه من سود سود الله وجهه يوم القيامة

و عنه ص عليكم بالخضاب فإنه أهيب لعدوكم و أعجب إلى نسائكم

[18 : 124 ]

و يقال في أبواب الكناية للمختضب هو يسود وجه النذير لأن النذير الشيب قيل في قوله تعالى وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ إنه الشيب. و كان

عبد الرحمن بن الأسود أبيض الرأس و اللحية فأصبح ذات يوم و قد حمرهما و قال إن عائشة أرسلت إلى البارحة جاريتها فأقسمت

علي لأغيرن و قالت إن أبا بكر كان يصبغ. و روى قيس بن أبي حازم قال كان أبو بكر يخرج إلينا و كان لحيته ضرام عرفج. و عن أبي

عامر الأنصاري رأيت أبا بكر يغير بالحناء و الكتم و رأيت عمر لا يغير شيئا من شيبه و

قال إني سمعت رسول الله ص يقول من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة

و لا أحب أن أغير نوري. و كان أنس بن مالك يخضب و ينشد

نسود أعلاها و تأبى أصولها و ليس إلى رد الشباب سبيل

و روي أن عبد المطلب وفد على سيف بن ذي يزن فقال له لو خضبت فلما عاد إلى مكة خضب فقالت له امرأته نثيلة أم العباس و ضرار

ما أحسن هذا الخضاب لو دام فقال

فلو دام لي هذا الخضاب حمدته و كان بديلا من خليل قد انصرم

تمتعت منه و الحياة قصيرة و لا بد من موت نثيلة أو هرم

و موت جهيز عاجل لا شوى له أحب إلينا من مقالكم حكم

قال يعني إنه صار شيخا فصار حكما بين الناس من قوله

لا تغبط المرء أن يقال له أضحى فلان لسنه حكما

[18 : 125 ]

و قال أسماء بن خارجة لجاريته اخضبيني فقالت حتى متى أرقعك فقال

عيرتني خلقا أبليت جدته و هل رأيت جديدا لم يعد خلقا

و أما من يروى أن عليا ع ما خضب فيحتج بقوله و

قد قيل له لو غيرت شيبك يا أمير المؤمنين فقال الخضاب زينة و نحن في مصيبة

يعني برسول الله ص. و

سئل الحسن ع عن الخضاب فقال هو جزع قبيح

و قال محمود الوراق

يا خاضب الشيب الذي في كل ثالثة يعود

إن الخضاب إذا مضى فكأنه شيب جديد

فدع المشيب و ما يريد فلن تعود كما تريد

و قد روى قوم عن النبي ص كراهية الخضاب و أنه قال لو استقبلتم الشيب بالتواضع لكان خيرا لكم

قال الشاعر

و صبغت ما صبغ الزمان فلم يدم صبغي و دامت صبغة الأيام

و قال آخر

يا أيها الرجل المغير شيبه كيما تعد به من الشبان

أقصر فلو سودت كل حمامة بيضاء ما عدت من الغربان

و يقولون في ديوان عرض الجيش ببغداد لمن يخضب إذا ذكروا حليته مستعار و هي كناية لطيفة و أنا أستحسن قول البحتري خضبت

بالمقراض كناية عن قص الشعر الأبيض فجعل ذلك خضابه عوضا عن الصبغ و الأبيات هذه

لابس من شبيبة أم ناض و مليح من شيبة أم راض

السابق

التالي