السابق

التالي

[17 : 3 ]

الجزء السابع عشر

تتمة أبواب الكتب و الرسائل

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل

46- و من كتاب له ع إلى بعض عماله

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ وَ أَقْمَعُ بِهِ نَخْوَةَ الْأَثِيمِ وَ أَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ الثَّغْرِ الْمَخُوفِ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ عَلَى مَا أَهَمَّكَ وَ اخْلِطِ

الشِّدَّةَ بِضِغْث مِنَ اللِّينِ وَ ارْفُقْ مَا كَانَ الرِّفْقُ أَرْفَقَ وَ اعْتَزِمْ بِالشِّدَّةِ حِينَ لَا تُغْنِي عَنْكَ إِلَّا الشِّدَّةُ وَ اخْفِضْ لِلرَّعِيَّةِ جَنَاحَكَ وَ ابْسُطْ لَهُمْ

وَجْهَكَ وَ أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ وَ آسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَ النَّظْرَةِ وَ الْإِشَارَةِ وَ التَّحِيَّةِ حَتَّى لَا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ وَ لَا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ

عَدْلِكَ وَ السَّلَامُ

قد أخذ الشاعر معنى قوله و آس بينهم في اللحظة و النظرة فقال

[17 : 4 ]

اقسم اللحظ بيننا إن في اللحظ لعنوان ما تجن الصدور

إنما البر روضة فإذا ما كان بشر فروضة و غدير

قوله و آس بينهم في اللحظة أي اجعلهم أسوة و روي و ساو بينهم في اللحظة و المعنى واحد. و أستظهر به أجعله كالظهر. و النخوة

الكبرياء و الأثيم المخطئ المذنب. و قوله و أسد به لهاة الثغر استعارة حسنة. و الضغث في الأصل قبضة حشيش مختلط يابسها

بشيء من الرطب و منه أضغاث الأحلام للرؤيا المختلطة التي لا يصح تأويلها فاستعار اللفظة هاهنا و المراد امزج الشدة بشيء من

اللين فاجعلهما كالضغث و قال تعالى وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً. قوله فاعتزم بالشدة أي إذا جد بك الحد فدع اللين فإن في حال الشدة لا

تغني إلا الشدة قال الفند الزماني

فلما صرح الشر فأمسى و هو عريان

و لم يبق سوى العدوان دناهم كما دانوا

قوله حتى لا يطمع العظماء في حيفك أي حتى لا يطمع العظماء في أن تمالئهم على حيف الضعفاء و قد تقدم مثل هذا فيما سبق

[17 : 5 ]

47- و من وصية له ع للحسن و الحسين ع لما ضربه ابن ملجم لعنه الله

أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللَّهِ وَ أَلَّا تَبْغِيَا الدُّنْيَا وَ إِنْ بَغَتْكُمَا وَ لَا تَأْسَفَا عَلَى شَيْء مِنْهَا زُوِيَ عَنْكُمَا وَ قُولَا بِالْحَقِّ وَ اعْمَلَا لِلْأَجْرِ وَ كُونَا لِلظَّالِمِ

خَصْماً وَ لِلْمَظْلُومِ عَوْناً أُوصِيكُمَا وَ جَمِيعَ وَلَدِي وَ أَهْلِي وَ مَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي بِتَقْوَى اللَّهِ وَ نَظْمِ أَمْرِكُمْ وَ صَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ فَإِنِّي سَمِعْتُ

جَدَّكُمَا ص يَقُولُ صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ وَ الصِّيَامِ اللَّهَ اللَّهَ فِي الْأَيْتَامِ فَلَا تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ وَ لَا يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُمْ وَ

اللَّهَ اللَّهَ فِي جِيرَانِكُمْ فَإِنَّهُمْ وَصِيَّةُ نَبِيِّكُمْ مَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُمْ وَ اللَّهَ اللَّهَ فِي الْقُرْآنِ لَا يَسْبِقُكُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ

غَيْرُكُمْ وَ اللَّهَ اللَّهَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا عَمُودُ دِينِكُمْ وَ اللَّهَ اللَّهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ لَا تُخَلُّوهُ مَا بَقِيتُمْ فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا وَ اللَّهَ اللَّهَ فِي

الْجِهَادِ بِأَمْوَالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ أَلْسِنَتِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ عَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ وَ التَّبَاذُلِ وَ إِيَّاكُمْ وَ التَّدَابُرَ وَ التَّقَاطُعَ لَا تَتْرُكُوا

[17 : 6 ]

الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَيُوَلَّى عَلَيْكُمْ أَشْرَارُكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ ثُمَّ قَالَ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُلْفِيَنَّكُمْ

تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً تَقُولُونَ قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا لَا تَقْتُلُنَّ بِي إِلَّا قَاتِلِي انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ

هَذِهِ فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَة وَ لَا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ إِيَّاكُمْ وَ الْمُثْلَةَ وَ لَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ

روي و اعملا للآخرة و روي فلا تغيروا أفواهكم يقول لا تطلبا الدنيا و إن طلبتكما فإذا كان من تطلبه الدنيا منهيا عن طلبها فمن لا

تطلبه يكون منهيا عن طلبها بالطريق الأولى. ثم قال و لا تأسفا على شيء منها زوي عنكما أي قبض

قال رسول الله ص زويت لي الدنيا فأريت مشارقها و مغاربها و سيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها

و روي و لا تأسيا و كلاهما بمعنى واحد أي لا تحزنا و هذا من قوله تعالى لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ.

[17 : 7 ]

قوله صلاح ذات البين أخذه هذه اللفظة عبد الملك بن مروان فقال لبنيه و قد جمعوا عنده يوم موته

انفوا الضغائن بينكم و عليكم عند المغيب و في حضور المشهد

بصلاح ذات البين طول حياتكم إن مد في عمري و إن لم يمدد

إن القداح إذا اجتمعن فرامها بالكسر ذو بطش شديد أيد

عزت فلم تكسر و إن هي بددت فالوهن و التكسير للمتبدد

و ذات هاهنا زائدة مقحمة. قوله فلا تغبوا أفواههم أي لا تجيعوهم بأن تطمعوهم غبا و من روى فلا تغيروا أفواههم فذاك لأن الجائع

يتغير فمه

قال ع لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك

قال و لا يضيعوا بحضرتكم أي لا تضيعوهم فالنهي في الظاهر للأيتام و في المعنى للأوصياء و الأولياء و الظاهر أنه لا يعني الأيتام

الذين لهم مال تحت أيدي أوصيائهم لأن أولئك الأوصياء محرم عليهم أن يصيبوا من أموال اليتامى إلا القدر النزر جدا عند الضرورة

ثم يقضونه مع التمكن و من هذه حاله لا يحسن أن يقال له لا تغيروا أفواه أيتامكم و إنما الأظهر أنه يعني الذين مات آباؤهم و هم

فقراء يتعين مواساتهم و يقبح القعود عنهم كما قال تعالى وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً و اليتم في الناس

من قبل الأب و في البهائم من قبل الأم لأن الآباء من البهائم لا عناية لهم بالأولاد بل العناية للأم لأنها المرضعة المشفقة و أما

الناس فإن الأب هو الكافل القيم بنفقة الولد فإذا مات وصل الضرر إليه لفقد كافله و الأم بمعزل عن ذلك و جمع يتيم على أيتام كما

قالوا شريف و أشراف و حكى أبو علي في التكملة كميء و أكماء و لا يسمى الصبي يتيما إلا إذا

[17 : 8 ]

كان دون البلوغ و إذا بلغ زال اسم اليتيم عنه و اليتامى أحد الأصناف الذين عينوا في الخمس بنص الكتاب العزيز

فصل في الآثار الواردة في حقوق الجار

ثم أوصى بالجيران و اللفظ الذي ذكره ع

قد ورد مرفوعا في رواية عبد الله بن عمر لما ذبح شاة فقال أهديتم لجارنا اليهودي فإني سمعت رسول الله ص يقول ما زال جبريل

يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه

و في الحديث أنه ص قال من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم جاره

و عنه ع جار السوء في دار المقامة قاصمة الظهر

و عنه ع من جهد البلاء جار سوء معك في دار مقامة إن رأى حسنة دفنها و إن رأى سيئة أذاعها و أفشاها

و من أدعيتهم اللهم إني أعوذ بك من مال يكون علي فتنة و من ولد يكون علي كلا و من حليلة تقرب الشيب و من جار تراني عيناه و

ترعاني أذناه إن رأى خيرا دفنه و إن سمع شرا طار به

ابن مسعود يرفعه و الذي نفسي بيده لا يسلم العبد حتى يسلم قلبه و لسانه و يأمن جاره بوائقه قالوا ما بوائقه قال غشمه و ظلمه

لقمان يا بني حملت الحجارة و الحديد فلم أر شيئا أثقل من جار السوء

و أنشدوا

ألا من يشتري دارا برخص كراهة بعض جيرتها تباع

و قال الأصمعي جاور أهل الشام الروم فأخذوا عنهم خصلتين اللؤم و قلة الغيرة

[17 : 9 ]

و جاور أهل البصرة الخزر فأخذوا عنهم خصلتين الزناء و قلة الوفاء و جاور أهل الكوفة السواد فأخذوا عنهم خصلتين السخاء و

الغيرة. و كان يقال من تطاول على جاره حرم بركة داره. و كان يقال من آذى جاره ورثه الله داره. باع أبو الجهم العدوي داره و كان في

جوار سعيد بن العاص بمائة ألف درهم فلما أحضرها المشتري قال له هذا ثمن الدار فأعطني ثمن الجوار قال أي جوار قال جوار سعيد

بن العاص قال و هل اشترى أحد جوارا قط فقال رد علي داري و خذ مالك لا أدع جوار رجل إن قعدت سأل عني و إن رآني رحب بي و إن

غبت عنه حفظني و إن شهدت عنده قربني و إن سألته قضى حاجتي و إن لم أسأله بدأني و إن نابتني نائبة فرج عني فبلغ ذلك سعيدا

فبعث إليه مائة ألف درهم و قال هذا ثمن دارك و دارك لك. الحسن ليس حسن الجوار كف الأذى و لكن حسن الجوار الصبر على

الأذى. جاءت امرأة إلى الحسن فشكت إليه الخلة و قالت أنا جارتك قال كم بيني و بينك قالت سبع أدؤر فنظر الحسن فإذا تحت

فراشه سبعة دراهم فأعطاها إياها و قال كدنا نهلك. و كان كعب بن مامة إذا جاوره رجل قام له بما يصلحه و حماه ممن يقصده و إن

هلك له شيء أخلفه عليه و إن مات وداه لأهله فجاوره أبو دواد الإيادي فزاره على العادة فبالغ في إكرامه و كانت العرب إذا حمدت

جارا قالت جار كجار أبي دواد قال قيس بن زهير

[17 : 10 ]

أطوف ما أطوف ثم آوي إلى جار كجار أبي دواد

ثم تعلم منه أبو دواد و كان يفعل لجاره فعل كعب به. و قال مسكين الدارمي

ما ضر جارا لي أجاوره ألا يكون لبابه ستر

أعمى إذا ما إذا جارتي خرجت حتى يواري جارتي الخدر

ناري و نار الجار واحدة و إلبه قبلي ينزل القدر

استعرض أبو مسلم صاحب الدولة فرسا محضيرا فقال لأصحابه لما ذا يصلح هذا فذكروا سباق الخيل و صيد الحمر و النعام و اتباع

الفار من الحرب فقال لم تصنعوا شيئا يصلح للفرار من الجار السوء. سأل سليمان علي بن خالد بن صفوان عن ابنيه محمد و سليمان و

كانا جاريه فقال كيف إحمادك جوارهما فتمثل بقول يزيد بن مفرغ الحميري

سقى الله دارا لي و أرضا تركتها إلى جنب داري معقل بن يسار

أبو مالك جار لها و ابن مرثد فيا لك جاري ذلة و صغار

و في الحديث المرفوع أيضا من رواية جابر الجيران ثلاثة فجار له حق و جار له حقان و جار له ثلاثة حقوق فصاحب الحق الواحد جار

مشرك لا رحم له فحقه

[17 : 11 ]

حق الجوار و صاحب الحقين جار مسلم لا رحم له و صاحب الثلاثة جار مسلم ذو رحم و أدنى حق الجوار ألا تؤذي جارك بقتار قدرك إلا

أن تقتدح له منها

قلت تقتدح تغترف و المقدحة المغرفة. و كان يقال الجيران خمسة الجار الضار السيئ الجوار و الجار الدمس الحسن الجوار و

الجار اليربوعي المنافق و الجار البراقشي المتلون في أفعاله و الجار الحسدلي الذي عينه تراك و قلبه يرعاك. و

روى أبو هريرة كان رسول الله ص يقول اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة فإن دار البادية تتحول

قوله ع الله الله في القرآن أمرهما بالمسارعة إلى العمل به و نهاها أن يسبقهما غيرهما إلى ذلك ثم أمرهما بالصلاة و الحج. و شدد

الوصاة في الحج فقال فإنه إن ترك لم تناظروا أي يتعجل الانتقام منكم. فأما المثلة فمنهي عنها

أمر رسول الله ص أن يمثل بهبار بن الأسود لأنه روع زينب حتى أجهضت ثم نهى عن ذلك و قال لا مثلة المثلة حرام

[17 : 12 ]

48- و من كتاب له ع إلى معاوية

فَإِنَّ الْبَغْيَ وَ الزُّورَ يُوتِغَانِ الْمَرْءَ فِي دِينِهِ وَ دُنْيَاهُ وَ يُبْدِيَانِ خَلَلَهُ عِنْدَ مَنْ يَعِيبُهُ وَ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ غَيْرُ مُدْرِك مَا قُضِيَ فَوَاتُهُ وَ قَدْ رَامَ أَقْوَامٌ

أَمْراً بِغَيْرِ الْحَقِّ فَتَأَلَّوْا عَلَى اللَّهِ فَأَكْذَبَهُمْ فَاحْذَرْ يَوْماً يَغْتَبِطُ فِيهِ مَنْ أَحْمَدَ عَاقِبَةَ عَمَلِهِ وَ يَنْدَمُ مَنْ أَمْكَنَ الشَّيْطَانَ مِنْ قِيَادِهِ فَلَمْ يُجَاذِبْهُ وَ

قَدْ دَعَوْتَنَا إِلَى حُكْمِ الْقُرْآنِ وَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِهِ وَ لَسْنَا إِيَّاكَ أَجَبْنَا وَ لَكِنَّا أَجَبْنَا الْقُرْآنَ فِي حُكْمِهِ وَ السَّلَامُ

يوتغان يهلكان و الوتغ بالتحريك الهلاك و قد وتغ يوتغ وتغا أي أثم و هلك و أوتغه الله أهلكه الله و أوتغ فلان دينه بالإثم. قوله

فتألوا على الله أي حلفوا من الألية و هي اليمين و

في الحديث من تألى على الله أكذبه الله

و معناه من أقسم تجبرا و اقتدارا لأفعلن كذا أكذبه الله و لم يبلغ أمله. و قد روي تأولوا على الله أي حرفوا الكلم عن مواضعه و

تعلقوا بشبهة في تأويل القرآن انتصارا لمذاهبهم و آرائهم فأكذبهم الله بأن أظهر للعقلاء فساد تأويلاتهم و الأول أصح.

[17 : 13 ]

و يغتبط فيه يفرح و يسر و الغبطة السرور روي يغبط فيه أي يتمنى مثل حاله هذه. قوله و يندم من أمكن الشيطان من قياده فلم

يجاذبه الياء التي هي حرف المضارعة عائدة على المكلف الذي أمكن الشيطان من قياده يقول إذا لم يجاذب الشيطان من قياده فإنه

يندم فأما من جاذبه قياده فقد قام بما عليه. و مثله قوله و لسنا إياك أجبنا قوله و الله ما حكمت مخلوقا و إنما حكمت القرآن و معنى

مخلوقا بشرا لا محدثا

[17 : 14 ]

49- و من كتاب له ع إلى معاوية أيضا

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا مَشْغَلَةٌ عَنْ غَيْرِهَا وَ لَمْ يُصِبْ صَاحِبُهَا مِنْهَا شَيْئاً إِلَّا فَتَحَتْ لَهُ حِرْصاً عَلَيْهَا وَ لَهَجاً بِهَا وَ لَنْ يَسْتَغْنِيَ صَاحِبُهَا بِمَا نَالَ

فِيهَا عَمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْهَا وَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ فِرَاقُ مَا جَمَعَ وَ نَقْضُ مَا أَبْرَمَ وَ لَوِ اعْتَبَرْتَ بِمَا مَضَى حَفِظْتَ مَا بَقِيَ وَ السَّلَامُ

هذا كما قيل في المثل صاحب الدنيا كشارب ماء البحر كلما ازداد شربا ازداد عطشا و الأصل في هذا

قول الله تعالى لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا و لا يملأ عين ابن آدم إلا التراب

و هذا من القرآن الذي رفع و نسخت تلاوته. و قد ذكر نصر بن مزاحم هذا الكتاب و قال إن أمير المؤمنين ع كتبه إلى عمرو بن العاص

و زاد فيه زيادة لم يذكرها الرضي

أما بعد فإن الدنيا مشغلة عن الآخرة و صاحبها منهوم عليها لم يصب شيئا منها قط إلا فتحت عليه حرصا و أدخلت عليه مئونة تزيده

رغبة فيها

[17 : 15 ]

و لن يستغني صاحبها بما نال عما لم يدرك و من وراء ذلك فراق ما جمع و السعيد من وعظ بغيره فلا تحبط أجرك أبا عبد الله و لا

تشرك معاوية في باطله فإن معاوية غمص الناس و سفه الحق و السلام

قال نصر و هذا أول كتاب كتبه علي ع إلى عمرو بن العاص فكتب إليه عمرو جوابه أما بعد فإن الذي فيه صلاحنا و ألفة ذات بيننا أن

تنيب إلى الحق و أن تجيب إلى ما ندعوكم إليه من الشورى فصبر الرجل منا نفسه على الحق و عذره الناس بالمحاجزة و السلام. قال

نصر فكتب علي ع إلى عمرو بن العاص بعد ذلك كتابا غليظا. و هو الذي ضرب مثله فيه بالكلب يتبع الرجل و هو مذكور في نهج

البلاغة و اللهج الحرص. و معنى قوله ع لو اعتبرت بما مضى حفظت ما بقي أي لو اعتبرت بما مضى من عمرك لحفظت باقيه أن تنفقه

في الضلال و طلب الدنيا و تضيعه

[17 : 16 ]

50- و من كتاب له ع إلى أمرائه على الجيوش

مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِب أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ رَفَعَهُ إِلَى أَصْحَابِ الْمَسَالِحِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ حَقّاً عَلَى الْوَالِي أَلَّا يُغَيِّرَهُ عَلَى رَعِيَّتِهِ فَضْلٌ نَالَهُ وَ

لَا طَوْلٌ خُصَّ بِهِ وَ أَنْ يَزِيدَهُ مَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ نِعَمِهِ دُنُوّاً مِنْ عِبَادِهِ وَ عَطْفاً عَلَى إِخْوَانِهِ أَلَا وَ إِنَّ لَكُمْ عِنْدِي أَلَّا أَحْتَجِزَ دُونَكُمْ سِرّاً إِلَّا فِي

حَرْب وَ لَا أَطْوِيَ دُونَكُمْ أَمْراً إِلَّا فِي حُكْم وَ لَا أُؤَخِّرَ لَكُمْ حَقّاً عَنْ مَحَلِّهِ وَ لَا أَقِفَ بِهِ دُونَ مَقْطَعِهِ وَ أَنْ تَكُونُوا عِنْدِي فِي الْحَقِّ سَوَاءً فَإِذَا

فَعَلْتُ ذَلِكَ وَجَبَتْ لِلَّهِ عَلَيْكُمُ النِّعْمَةُ وَ لِي عَلَيْكُمُ الطَّاعَةُ وَ أَلَّا تَنْكُصُوا عَنْ دَعْوَة وَ لَا تُفَرِّطُوا فِي صَلَاح وَ أَنْ تَخُوضُوا الْغَمَرَاتِ إِلَى

الْحَقِّ فَإِنْ أَنْتُمْ لَمْ تَسْتَقِيمُوا لِي عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِمَّنِ اعْوَجَّ مِنْكُمْ ثُمَّ أُعْظِمُ لَهُ الْعُقُوبَةَ وَ لَا يَجِدُ عِنْدِي فِيهَا رُخْصَةً

فَخُذُوا هَذَا مِنْ أُمَرَائِكُمْ وَ أَعْطُوهُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ مَا يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ أَمْرَكُمْ وَ السَّلَامُ

[17 : 17 ]

أصحاب المسالح جماعات تكون بالثغر يحمون البيضة و المسلحة هي الثغر كالمرغبة و

في الحديث كان أدنى مسالح فارس إلى العرب العذيب

قال يجب على الوالي ألا يتطاول على الرعية بولايته و ما خص به عليهم من الطول و هو الفضل و أن تكون تلك الزيادة التي أعطيها

سببا لزيادة دنوه من الرعية و حنوه عليهم. ثم قال لكم عندي ألا أحتجز دونكم بسر أي لا أستتر قال إلا في حرب و ذلك لأن الحرب

يحمد فيها طي الأسرار و الحرب خدعة. ثم قال و لا أطوي دونكم أمرا إلا في حكم أي أظهركم على كل ما نفسي مما يحسن أن

أظهركم عليه فأما أحكام الشريعة و القضاء على أحد الخصمين فإني لا أعلمكم به قبل وقوعه كيلا تفسد القضية بأن يحتال ذلك

الشخص لصرف الحكم عنه. ثم ذكر أنه لا يؤخر لهم حقا عن محله يعني العطاء و أنه لا يقف دون مقطعه و الحق هاهنا غير العطاء بل

الحكم قال زهير

فإن الحق مقطعه ثلاث يمين أو نفار أو جلاء

أي متى تعين الحكم حكمت به و قطعت و لا أقف و لا أتحبس. و لما استوفى ما شرط لهم قال فإذا أنا وفيت بما شرطت على نفسي

وجبت لله عليكم النعمة و لي عليكم الطاعة. ثم أخذ في الاشتراط عليهم كما شرط لهم فقال و لي عليكم ألا تنكصوا عن

[17 : 18 ]

دعوة أي لا تتقاعسوا عن الجهاد إذا دعوتكم إليه و لا تفرطوا في صلاح أي إذا أمكنتكم فرصة أو رأيتم مصلحة في حرب العدو أو

حماية الثغر فلا تفرطوا فيها فتفوت و أن تخوضوا الغمرات إلى الحق أي تكابدوا المشاق العظيمة و لا يهولنكم خوضها إلى الحق.

ثم توعدهم إن لم يفعلوا ذلك ثم قال فخذوا هذا من أمرائكم ليس يعني به أن على هؤلاء أصحاب المسالح أمراء من قبله ع

كالواسطة بينهم و بينه بل من أمرائكم يعني مني و ممن يقوم في الخلافة مقامي بعدي لأنه لو كان الغرض هو الأول لما كان محلهم

عنده أن يقول ألا أحتجز دونكم بسر و لا أطوي دونكم أمرا لأن محل من كان بتلك الصفة دون هذا

[17 : 19 ]

51- و من كتاب له ع إلى عماله على الخراج

مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَصْحَابِ الْخَرَاجِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَحْذَرْ مَا هُوَ سَائِرٌ إِلَيْهِ لَمْ يُقَدِّمْ لِنَفْسِهِ مَا يُحْرِزُهَا وَ اعْلَمُوا أَنَّ مَا

كُلِّفْتُمْ يَسِيرٌ وَ أَنَّ ثَوَابَهُ كَثِيرٌ وَ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْبَغْيِ وَ الْعُدْوَانِ عِقَابٌ يُخَافُ لَكَانَ فِي ثَوَابِ اجْتِنَابِهِ مَا لَا عُذْرَ فِي تَرْكِ

طَلَبِهِ فَأَنْصِفُوا النَّاسَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ وَ اصْبِرُوا لِحَوَائِجِهِمْ فَإِنَّكُمْ خُزَّانُ الرَّعِيَّةِ وَ وُكَلَاءُ الْأُمَّةِ وَ سُفَرَاءُ الْأَئِمَّةِ وَ لَا تُحْشِمُوا أَحَداً عَنْ

حَاجَتِهِ وَ لَا تَحْبِسُوهُ عَنْ طَلِبَتِهِ وَ لَا تَبِيعُنَّ النَّاسَ فِي الْخَرَاجِ كِسْوَةَ شِتَاء وَ لَا صَيْف وَ لَا دَابَّةً يَعْتَمِلُونَ عَلَيْهَا وَ لَا عَبْداً وَ لَا تَضْرِبُنَّ أَحَداً

سَوْطاً لِمَكَانِ دِرْهَم وَ لَا تَمَسُّنَّ مَالَ أَحَد مِنَ النَّاسِ مُصَلّ وَ لَا مُعَاهَد إِلَّا أَنْ تَجِدُوا فَرَساً أَوْ سِلَاحاً يُعْدَى بِهِ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي

لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدَعَ ذَلِكَ فِي أَيْدِي أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونَ شَوْكَةً عَلَيْهِ وَ لَا تَدَّخِرُوا أَنْفُسَكُمْ نَصِيحَةً وَ لَا الْجُنْدَ حُسْنَ سِيرَة وَ لَا الرَّعِيَّةَ

مَعُونَةً وَ لَا دِينَ اللَّهِ قُوَّةً وَ أَبْلُوهُ فِي سَبِيلِ مَا اسْتَوْجَبَ عَلَيْكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ اصْطَنَعَ عِنْدَنَا

[17 : 20 ]

وَ عِنْدَكُمْ أَنْ نَشْكُرَهُ بِجُهْدِنَا وَ أَنْ نَنْصُرَهُ بِمَا بَلَغَتْ قُوَّتُنَا وَ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ

يقول لو قدرنا أن القبائح العقلية كالظلم و البغي لا عقاب على فعلها بل في تركها ثواب فقط لم يكن الإنسان معذورا إذا فرط في ذلك

الترك لأنه يكون قد حرم نفسه نفعا هو قادر على إيصاله إليها. قوله و لا تحشموا أحدا أي لا تغضبوا طالب حاجة فتقطعوه عن طلبها

أحشمت زيدا و جاء حشمته و هو أن يجلس إليك فتغضبه و تؤذيه و قال ابن الأعرابي حشمته أخجلته و أحشمته أغضبته و الاسم

الحشمة و هي الاستحياء و الغضب. ثم نهاهم أن يبيعوا لأرباب الخراج ما هو من ضرورياتهم كثياب أبدانهم و كدابة يعتملون عليها

نحو بقر الفلاحة و كعبد لا بد للإنسان منه يخدمه و يسعى بين يديه. ثم نهاهم عن ضرب الأبشار لاستيفاء الخراج. و كتب عدي بن

أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز يستأذنه في عذاب العمال فكتب إليه كأني لك جنة من عذاب الله و كأن رضاي ينجيك من سخط الله من

قامت عليه بينة أو أقر بما لم يكن مضطهدا مضطرا إلا الإقرار به فخذه بأدائه فإن كان قادرا عليه فاستأد و إن أبى فاحبسه و إن لم يقدر

فخل سبيله بعد أن تحلفه بالله أنه لا يقدر على شيء فلأن يلقوا الله بجناياتهم أحب إلي من أن ألقاه بدمائهم.

[17 : 21 ]

ثم نهاهم أن يعرضوا لمال أحد من المسلمين أو من المعاهدين المعاهد هاهنا هو الذمي أو من يدخل دار الإسلام من بلاد الشرك على

عهد إما لأداء رسالة أو لتجارة و نحو ذلك ثم يعود إلى بلاده. ثم نهاهم عن الظلم و أخذ أموال الناس على طريق المصادرة و التأويل

الباطل قال إلا أن تخافوا غائلة المعاهدين بأن تجدوا عندهم خيولا أو سلاحا و تظنوا منهم وثبة على بلد من بلاد المسلمين فإنه لا

يجوز الإغضاء عن ذلك حينئذ. قوله و أبلوا في سبيل الله أي اصطنعوا من المعروف في سبيل الله ما استوجب عليكم يقال هو يبلوه

معروفا أي يصنعه إليه قال زهير

جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم و أبلاهما خير البلاء الذي يبلو

قوله ع قد اصطنعا عندنا و عندكم أن نشكره أي لأن نشكره بلام التعليل و حذفها أي أحسن إلينا لنشكره و حذفها أكثر نحو قوله

تعالى لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ

[17 : 22 ]

52- و من كتاب له ع إلى أمراء البلاد في معنى الصلاة

أَمَّا بَعْدُ فَصَلُّوا بِالنَّاسِ الظُّهْرَ حَتَّى تَفِيءَ الشَّمْسُ مِثْلَ مَرْبِضِ الْعَنْزِ وَ صَلُّوا بِهِمُ الْعَصْرَ وَ الشَّمْسُ بَيْضَاءُ حَيَّةٌ فِي عُضْو مِنَ النَّهَارِ حِينَ يُسَارُ

فِيهَا فَرْسَخَانِ وَ صَلُّوا بِهِمُ الْمَغْرِبَ حِينَ يُفْطِرُ الصَّائِمُ وَ يَدْفَعُ الْحَاجُّ إِلَى مِنًى وَ صَلُّوا بِهِمُ الْعِشَاءَ حِينَ يَتَوَارَى الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ

وَ صَلُّوا بِهِمُ الْغَدَاةَ وَ الرَّجُلُ يَعْرِفُ وَجْهَ صَاحِبِهِ وَ صَلُّوا بِهِمْ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ وَ لَا تَكُونُوا فَتَّانِينَ

بيان اختلاف الفقهاء في أوقات الصلاة

قد اختلف الفقهاء في أوقات الصلاة فقال أبو حنيفة أول وقت الفجر إذا طلع الفجر الثاني و هو المعترض في الأفق و آخر وقتها ما لم

تطلع الشمس و أول وقت الظهر إذا زالت الشمس و آخر وقتها إذا صار ظل كل شيء مثليه سوى الزوال و قال أبو يوسف و محمد آخر

وقتها إذا صار الظل مثله. قال أبو حنيفة و أول وقت العصر إذا خرج وقت الظهر و هذا على القولين و آخر وقتها ما لم تغرب الشمس و

أول وقت المغرب إذا غربت الشمس و آخر وقتها

[17 : 23 ]

ما لم يغب الشفق و هو البياض الذي في الأفق بعد الحمرة و قال أبو يوسف و محمد هو الحمرة. قال أبو حنيفة و أول وقت العشاء إذا

غاب الشفق و هذا على القولين و آخر وقتها ما لم يطلع الفجر. و قال الشافعي أول وقت الفجر إذا طلع الفجر الثاني و لا يزال وقتها

المختار باقيا إلى أن يسفر ثم يبقى وقت الجواز إلى طلوع الشمس. و قال أبو سعيد الإصطخري من الشافعية لا يبقى وقت الجواز

بل يخرج وقتها بعد الإسفار و يصلى قضاء و لم يتابعه على هذا القول أحد قال الشافعي و أول وقت الظهر إذا زالت الشمس و حكى

أبو الطيب الطبري من الشافعية أن من الناس من قال لا تجوز الصلاة حتى يصير الفيء بعد الزوال مثل الشراك. و قال مالك أحب أن

يؤخر الظهر بعد الزوال بقدر ما يصير الظل ذراعا و هذا مطابق لما قال أمير المؤمنين ع حين تفيء الشمس كمربض العنز أي كموضع

تربض العنز و ذلك نحو ذراع أو أكثر بزيادة يسيرة. قال الشافعي و آخر وقت الظهر إذا صار ظل كل شيء مثله و يعتبر المثل من حد

الزيادة على الظل الذي كان عند الزوال و بهذا القول قال أبو يوسف و محمد و قد حكيناه من قبل و به أيضا قال الثوري و أحمد و هو

رواية الحسن بن زياد اللؤلؤي عن أبي حنيفة فأما الرواية المشهورة عنه و هي التي رواها أبو يوسف فهو أن آخر وقت الظهر صيرورة

الظل مثليه و قد حكيناه عنه فيما تقدم. و قال ابن المنذر تفرد أبو حنيفة بهذا القول و عن أبي حنيفة رواية ثالثة أنه إذا صار ظل كل

شيء مثله خرج وقت الظهر و لم يدخل وقت العصر إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه.

[17 : 24 ]

و قال أبو ثور و محمد بن جرير الطبري قدر أربع ركعات بين المثل و المثلين يكون مشتركا بين الظهر و العصر. و حكي عن مالك أنه

قال إذا صار ظل كل شيء مثله فهو آخر وقت الظهر و أول وقت العصر فإذا زاد على المثل زيادة بينة خرج وقت الظهر و اختص الوقت

بالعصر. و حكى ابن الصباغ من الشافعية عن مالك أن وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شيء مثله وقتا مختارا فأما وقت الجواز و

الأداء ف آخره إلى أن يبقى إلى غروب الشمس قدر أربع ركعات و هذا القول مطابق لمذهب الإمامية. و قال ابن جريج و عطاء لا يكون

مفرطا بتأخيرها حتى تكون في الشمس صفرة. و عن طاوس لا يفوت حتى الليل. فأما العصر فإن الشافعي يقول إذا زاد على المثل أدنى

زيادة فقد دخل وقت العصر و الخلاف في ذلك بينه و بين أبي حنيفة لأنه يقول أول وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثليه و زاد عليه

أدنى زيادة و قد حكيناه عنه فيما تقدم. و كلام أمير المؤمنين ع في العصر مطابق لمذهب أبي حنيفة لأن بعد صيرورة الظل مثليه هو

الوقت الذي تكون فيه الشمس حية بيضاء في عضو من النهار حين يسار فيه فرسخان و أما قبل ذلك فإنه فوق ذلك يسار من الفراسخ

أكثر من ذلك و لا يزال وقت الاختيار عند الشافعي للعصر باقيا حتى يصير ظل كل شيء مثليه ثم يبقى وقت الجواز إلى غروب

الشمس. و قال أبو سعيد الإصطخري من أصحابه يصير قضاء بمجاوزة المثلين فأما وقت المغرب فإذا غربت الشمس و غروبها سقوط

القرص. و قال أبو الحسن علي بن حبيب الماوردي من الشافعية لا بد أن يسقط القرص و يغيب

[17 : 25 ]

حاجب الشمس و هو الضياء المستعلي عليها كالمتصل بها و لم يذكر ذلك من الشافعية أحد غيره. و ذكر الشاشي في كتاب حلية

العلماء أن الشيعة قالت أول وقت المغرب إذا اشتبكت النجوم قال قد حكي هذا عنهم و لا يساوي الحكاية و لم تذهب الشيعة إلى

هذا و سنذكر قولهم فيما بعد. و كلام أمير المؤمنين ع في المغرب لا ينص على وقت معين لأنه عرف ذلك بكونه وقت الإفطار و وقت ما

يدفع الحاج و كلا الأمرين يحتاج إلى تعريف كما يحتاج وقت الصلاة اللهم إلا أن يكون قد عرف أمراء البلاد الذين يصلون بالناس

من قبل هذا الكتاب متى هذا الوقت الذي يفطر فيه الصائم ثم يدفع فيه الحاج بعينه ثم يحيلهم في هذا الكتاب على ذلك التعريف

المخصوص. قال الشافعي و للمغرب وقت واحد و هو قول مالك. و حكى أبو ثور عن الشافعي أن لها وقتين و آخر وقتها إذا غاب

الشفق و ليس بمشهور عنه و المشهور القول الأول و قد ذكرنا قول أبي حنيفة فيما تقدم و هو امتداد وقتها إلى أن يغيب الشفق و به

قال أحمد و داود. و اختلف أصحاب الشافعي في مقدار الوقت الواحد فمنهم من قال هو مقدر بقدر الطهارة و ستر العورة و الأذان و

الإقامة و فعل ثلاث ركعات و منهم من قدره بغير ذلك. و قال أبو إسحاق الشيرازي منهم التضييق إنما هو في الشروع فأما الاستدامة

فتجوز إلى مغيب الشفق. فأما وقت العشاء فقال الشافعي هو أن يغيب الشفق و هو الحمرة و هو قول مالك و أحمد و داود و أبي

يوسف و محمد و قد حكينا مذهب أبي حنيفة فيما تقدم و هو أن يغيب الشفق الذي هو البياض و به قال زفر و المزني.

[17 : 26 ]

قال الشافعي و آخر وقتها المختار إلى نصف الليل هذا هو قوله القديم و هو مذهب أبي حنيفة و قال في الجديد إلى ثلث الليل و

يجب أن يحمل قول أمير المؤمنين ع في العشاء إنها إلى ثلث الليل على وقت الاختيار ليكون مطابقا لهذا القول و به قال مالك و

إحدى الروايتين عن أحمد ثم يذهب وقت الاختيار و يبقى وقت الجواز إلى طلوع الفجر الثاني. و قال أبو سعيد الإصطخري لا يبقى

وقت الجواز بعد نصف الليل بل يصير قضاء. فقد ذكرنا مذهبي أبي حنيفة و الشافعي في الأوقات و هما الإمامان المعتبران في الفقه و

دخل في ضمن حكاية مذهب الشافعي ما يقوله مالك و أحمد و غيرهما من الفقهاء. فأما مذهب الإمامية من الشيعة فنحن نذكره نقلا عن

كتاب أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رحمه الله المعروف بالرسالة المقنعة قال وقت الظهر من بعد زوال الشمس إلى أن

يرجع الفيء سبعي الشخص و علامة الزوال رجوع الفيء بعد انتهائه إلى النقصان و طريق معرفة ذلك بالأصطرلاب أو ميزان الشمس

و هو معروف عند كثير من الناس أو بالعمود المنصوب في الدائرة الهندية أيضا فمن لم يعرف حقيقة العمل بذلك أو لم يجد آلته

فلينصب عودا من خشب أو غيره في أرض مستوية السطح و يكون أصل العود غليظا و رأسه دقيقا شبه المذري الذي ينسج به التكك

أو المسلة التي تخاط بها الأحمال فإن ظل هذا العود يكون بلا شك في أول النهار أطول من العود و كلما ارتفعت الشمس نقص من

طوله حتى يقف القرص في وسط السماء فيقف الفيء حينئذ فإذا زال القرص عن الوسط إلى جهة المغرب رجع الفيء إلى الزيادة

فليعتبر من أراد الوقوف على وقت الزوال ذلك بخطط و علامات يجعلها على رأس ظل العود عند وضعه

[17 : 27 ]

في صدر النهار و كلما نقص في الظل شيء علم عليه فإذا رجع إلى الزيادة على موضع العلامة عرف حينئذ برجوعه أن الشمس قد زالت.

و بذلك تعرف أيضا القبلة فإن قرص الشمس يقف فيها وسط النهار و يصير عن يسارها و يمين المتوجه إليها بعد وقوفها و زوالها عن

القطب فإذا صارت مما يلي حاجبه الأيمن من بين عينيه علم أنها قد زالت و عرف أن القبلة تلقاء وجهه و من سبقت معرفته بجهة القبلة

فهو يعرف زوال الشمس إذا توجه إليها فرأى عين الشمس مما يلي حاجبه الأيمن إلا أن ذلك لا يبين إلا بعد زوالها بزمان و يبين

الزوال من أول وقته بما ذكرناه من الأصطرلاب و ميزان الشمس و الدائرة الهندية و العمود الذي وصفناه و من لم يحصل له معرفة

ذلك أو فقد الآلة توجه إلى القبلة فاعتبر صيرورة الشمس على طرف حاجبه الأيمن وقت العصر من بعد الفراغ من الظهر إذا صليت

الظهر في أول أوقاتها أعني بعد زوال الشمس بلا فصل و يمتد إلى أن يتغير لون الشمس باصفرارها للغروب و للمضطر و الناسي إلى

مغيبها بسقوط القرص عما تبلغه أبصارنا من السماء و أول وقت المغرب مغيب الشمس و علامة مغيبها عدم الحمرة في المشرق

المقابل للمغرب في السماء و ذلك أن المشرق في السماء مطل على المغرب فما دامت الشمس ظاهرة فوق أرضنا فهي تلقى ضوءها

على المشرق في السماء فيرى حمرتها فيه فإذا ذهبت الحمرة منه علم أن القرص قد سقط و غاب و آخره أول وقت العشاء الآخرة و أول

وقتها مغيب الشمس و هو الحمرة في المغرب و آخره مضي الثلث الأول من الليل و أول وقت الغداة اعتراض الفجر و هو البياض في

المشرق يعقبه الحمرة في مكانه و يكون مقدمة لطلوع الشمس على الأرض من السماء و ذلك أن الفجر الأول و هو البياض الظاهر في

المشرق يطلع طولا ثم ينعكس بعد مدة عرضا ثم يحمر الأفق بعده للشمس.

[17 : 28 ]

و لا ينبغي للإنسان أن يصلي فريضة الغداة حتى يعترض البياض و ينتشر صعدا في السماء كما ذكرنا و آخر وقت الغداة طلوع

الشمس. هذا ما تقوله الفقهاء في مواقيت الصلاة

فأما قوله ع و الرجل يعرف وجه صاحبه فمعناه الإسفار و قد ذكرناه. و قوله ع و صلوا بهم صلاة أضعفهم أي لا تطيلوا بالقراءة الكثيرة

و الدعوات الطويلة. ثم قال و لا تكونوا فتانين أي لا تفتنوا الناس بإتعابهم و إدخال المشقة عليهم بإطالة الصلاة و إفساد صلاة

المأمومين بما يفعلونه من أفعال مخصوصة نحو أن يحدث الإمام فيستخلف فيصلي الناس خلف خليفته فإن ذلك لا يجوز على أحد

قولي الشافعي و نحو أن يطيل الإمام الركوع و السجود فيظن المأمومون أنه قد رفع فيرفعون أو يسبقونه بأركان كثيرة و نحو

ذلك من مسائل يذكرها الفقهاء في كتبهم. و اعلم أن أمير المؤمنين ع إنما بدأ بصلاة الظهر لأنها أول فريضة افترضت على المكلفين

من الصلاة على ما كان يذهب إليه ع و إلى ذلك تذهب الإمامية و ينصر قولهم تسميتها بالأولى و لهذا بدأ أبو عبد الله محمد بن محمد

بن النعمان بذكرها قبل غيرها فأما من عدا هؤلاء فأول الصلاة المفروضة عندهم الصبح و هي أول النهار. و أيضا يتفرع على هذا البحث

القول في الصلاة الوسطى ما هي فذهب جمهور

[17 : 29 ]

الناس إلى أنها العصر لأنها بين صلاتي نهار و صلاتي ليل و قد رووا أيضا في ذلك روايات بعضها في الصحاح و قياس مذهب الإمامية

أنها المغرب لأن الظهر إذا كانت الأولى كانت المغرب الوسطى إلا أنهم يروون عن أئمتهم ع أنها الظهر و يفسرون الوسطى بمعنى

الفضلى لأن الوسط في اللغة هو خيار كل شيء و منه قوله تعالى جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً و قد ذهب إلى أنها المغرب قوم من الفقهاء

أيضا. و قال كثير من الناس أنها الصبح لأنها أيضا بين صلاتي ليل و صلاتي نهار و رووا أيضا فيها روايات و هو مذهب الشافعي و من

الناس من قال إنها الظهر كقول الإمامية و لم يسمع عن أحد معتبرا أنها العشاء إلا قولا شاذا ذكره بعضهم. و قال لأنها بين صلاتين لا

تقصران

[17 : 30 ]

53- و من كتاب له ع كتبه للأشتر النخعي رحمه الله لما ولاه على مصر و أعمالها

حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر و هو أطول عهد كتبه و أجمعه للمحاسن

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلَّاهُ مِصْرَ جِبَايَةَ

خَرَاجِهَا وَ جِهَادَ عَدُوِّهَا وَ اسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا وَ عِمَارَةَ بِلَادِهَا أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ إِيْثَارِ طَاعَتِهِ وَ اتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَ سُنَنِهِ

الَّتِي لَا يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهَا وَ لَا يَشْقَى إِلَّا مَعَ جُحُودِهَا وَ إِضَاعَتِهَا وَ أَنْ يَنْصُرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِيَدِهِ وَ قَلْبِهِ وَ لِسَانِهِ فَإِنَّهُ جَلَّ اسْمُهُ قَدْ

تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وَ إِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ وَ أَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ مِنْ نَفْسِهِ عِنْدَ الشَّهَوَاتِ وَ يَنْزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا

رَحِمَ اللَّهُ ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالِكُ أَنِّي قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَى بِلَاد قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ مِنْ عَدْل وَ جَوْر وَ أَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِي مِثْلِ مَا

كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ

[17 : 31 ]

الْوُلَاةِ قَبْلَكَ وَ يَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُهُ فِيهِمْ وَ إِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِينَ بِمَا يُجْرِي اللَّهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ

إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَامْلِكْ هَوَاكَ وَ شُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الْإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ

نصرة الله باليد الجهاد بالسيف و بالقلب الاعتقاد للحق و باللسان قول الحق و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و قد تكفل الله

بنصرة من نصره لأنه تعالى قال وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ. و الجمحات منازعة النفس إلى شهواتها و م آربها و نزعها بكفها. ثم قال له

قد كنت تسمع أخبار الولاة و تعيب قوما و تمدح قوما و سيقول الناس في إمارتك الآن نحو ما كنت تقول في الأمراء فاحذر أن تعاب و

تذم كما كنت تعيب و تذم من يستحق الذم. ثم قال إنما يستدل على الصالحين بما يكثر سماعه من ألسنة الناس بمدحهم و الثناء

عليهم و كذلك يستدل على الفاسقين بمثل ذلك. و كان يقال ألسنة الرعية أقلام الحق سبحانه إلى الملوك. ثم أمره أن يشح بنفسه و

فسر له الشح ما هو فقال إن تنتصف منها فيما أحبت

[17 : 32 ]

و كرهت أي لا تمكنها من الاسترسال في الشهوات و كن أميرا عليها و مسيطرا و قامعا لها من التهور و الانهماك. فإن قلت هذا معنى

قوله فيما أحبت فما معنى قوله و كرهت قلت لأنها تكره الصلاة و الصوم و غيرهما من العبادات الشرعية و من الواجبات العقلية و

كما يجب أن يكون الإنسان مهيمنا عليها في طرف الفعل يجب أن يكون مهيمنا عليها في طرف الترك

وَ أَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَ الْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَ اللُّطْفَ بِهِمْ وَ لَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ

وَ إِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَ تَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ وَ يُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَ الْخَطَإِ فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَ صَفْحِكَ مِثْلِ

الَّذِي تُحِبُّ وَ تَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَ صَفْحِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَ وَالِي الْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ وَ اللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ وَ قَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ

وَ ابْتَلَاكَ بِهِمْ وَ لَا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَدَيْ لَكَ بِنِقْمَتِهِ وَ لَا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَ رَحْمَتِهِ وَ لَا تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْو وَ لَا تَبْجَحَنَّ

بِعُقُوبَة وَ لَا تُسْرِعَنَّ إِلَى بَادِرَة وَجَدْتَ عَنْهَا مَنْدُوحَةً وَ لَا تَقُولَنَّ إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ فَإِنَّ ذَلِكَ إِدْغَالٌ فِي الْقَلْبِ وَ مَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ وَ تَقَرُّبٌ مِنَ

الْغِيَرِ

[17 : 33 ]

وَ إِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً فَانْظُرْ إِلَى عِظَمِ مُلْكِ اللَّهِ فَوْقَكَ وَ قُدْرَتِهِ مِنْكَ عَلَى مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ فَإِنَّ

ذَلِكَ يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ وَ يَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ وَ يَفِيءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ إِيَّاكَ وَ مُسَامَاةَ اللَّهِ فِي عَظَمَتِهِ وَ التَّشَبُّهَ بِهِ فِي

جَبَرُوتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّار وَ يُهِينُ كُلَّ مُخْتَال

أشعر قلبك الرحمة أي اجعلها كالشعار له و هو الثوب الملاصق للجسد قال لأن الرعية إما أخوك في الدين أو إنسان مثلك تقتضي رقة

الجنسية و طبع البشرية الرحمة له. قوله و يؤتى على أيديهم مثل قولك و يؤخذ على أيديهم أي يهذبون و يثقفون يقال خذ على يد

هذا السفيه و قد حجر الحاكم على فلان و أخذ على يده. ثم قال فنسبتهم إليك كنسبتك إلى الله تعالى و كما تحب أن يصفح الله عنك

ينبغي أن تصفح أنت عنهم. قوله لا تنصبن نفسك لحرب الله أي لا تبارزه بالمعاصي فإنه لا يدي لك بنقمته اللام مقحمة و المراد

الإضافة و نحوه قولهم لا أبا لك. قوله و لا تقولن إني مؤمر أي لا تقل إني أمير و وال آمر بالشيء فأطاع.

[17 : 34 ]

و الإدغال الإفساد و منهكة للدين ضعف و سقم. ثم أمره عند حدوث الأبهة و العظمة عنده لأجل الرئاسة و الإمرة أن يذكر عظمة الله

تعالى و قدرته على إعدامه و إيجاده و إماتته و إحيائه فإن تذكر ذلك يطامن من غلوائه أي يغض من تعظمه و تكبره و يطأطئ منه. و

الغرب حد السيف و يستعار للسطوة و السرعة في البطش و الفتك. قوله و يفيء أي يرجع إليك بما بعد عنك من عقلك و حرف

المضارعة مضموم لأنه من أفاء. و مساماة الله تعالى مباراته في السمو و هو العلو

أَنْصِفِ اللَّهَ وَ أَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ وَ مِنْ خَاصَّةً أَهْلِكَ وَ مَنْ لَكَ هَوًى فِيهِ مِنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ وَ مَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ

خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ وَ مَنْ خَاصَمَهُ اللَّهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ وَ كَانَ لِلَّهِ حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ أَوْ يَتُوبَ وَ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللَّهِ وَ تَعْجِيلِ

نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَة عَلَى ظُلْم فَإِنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ وَ هُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ وَ لْيَكُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ وَ

أَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وَ أَجْمَعُهَا لِرِضَا الرَّعِيَّةِ فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَا الْخَاصَّةِ وَ إِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَا الْعَامَّةِ

[17 : 35 ]

وَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَئُونَةً فِي الرَّخَاءِ وَ أَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلَاءِ وَ أَكْرَهَ لِلْإِنْصَافِ وَ أَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ وَ أَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ

الْإِعْطَاءِ وَ أَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ وَ أَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ وَ إِنَّمَا عَمُودُ الدِّينِ وَ جِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَ الْعُدَّةُ لِلْأَعْدَاءِ

الْعَامَّةُ مِنَ الْأُمَّةِ فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ وَ مَيْلُكَ مَعَهُمْ

قال له أنصف الله أي قم له بما فرض عليك من العبادة و الواجبات العقلية و السمعية. ثم قال و أنصف الناس من نفسك و من ولدك و

خاصة أهلك و من تحبه و تميل إليه من رعيتك فمتى لم تفعل ذلك كنت ظالما. ثم نهاه عن الظلم و أكد الوصاية عليه في ذلك. ثم عرفه

أن قانون الإمارة الاجتهاد في رضا العامة فإنه لا مبالاة بسخط خاصة الأمير مع رضا العامة فأما إذا سخطت العامة لم ينفعه رضا

الخاصة و ذلك مثل أن يكون في البلد عشرة أو عشرون من أغنيائه و ذوي الثروة من أهله يلازمون الوالي و يخدمونه و يسامرونه و

قد صار كالصديق لهم فإن هؤلاء و من ضارعهم من حواشي الوالي و أرباب الشفاعات و القربات عنده لا يغنون عنه شيئا عند تنكر

العامة له و كذاك لا يضر سخط هؤلاء إذا رضيت العامة و ذلك لأن هؤلاء عنهم غنى و لهم بدل و العامة لا غنى عنهم و لا بدل منهم و

لأنهم إذا شغبوا عليه كانوا كالبحر إذا هاج و اضطرب فلا يقاومه أحد و ليس الخاصة كذلك.

[17 : 36 ]

ثم قال ع و نعم ما قال ليس شيء أقل نفعا و لا أكثر ضررا على الوالي من خواصه أيام الولاية لأنهم يثقلون عليه بالحاجات و

المسائل و الشفاعات فإذا عزل هجروه و رفضوه حتى لو لقوه في الطريق لم يسلموا عليه. و الصغو بالكسر و الفتح و الصغا مقصور

الميل

وَ لْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وَ أَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ أَطْلَبُهُمْ لِمَعَايِبِ النَّاسِ فَإِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا فَلَا تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ

مِنْهَا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ وَ اللَّهُ يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اللَّهُ مِنْكَ مَا تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ

أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْد وَ اقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْر وَ تَغَابَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَضِحُ لَكَ وَ لَا تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاع فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ وَ

إِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ وَ لَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلًا يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ وَ يَعِدُكَ الْفَقْرَ وَ لَا جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ وَ لَا حَرِيصاً يُزَيِّنُ

لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ فَإِنَّ الْبُخْلَ وَ الْجُبْنَ وَ الْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ

[17 : 37 ]

أشناهم عندك أبغضهم إليك. و تغاب تغافل يقال تغابى فلان عن كذا. و يضح يظهر و الماضي وضح

فصل في النهي عن ذكر عيوب الناس و ما ورد في ذلك من الآثار

عاب رجل رجلا عند بعض الأشراف فقال له لقد استدللت على كثرة عيوبك بما تكثر فيه من عيوب الناس لأن طالب العيوب إنما يطلبها

بقدر ما فيه منها. و قال الشاعر

و أجرأ من رأيت بظهر غيب على عيب الرجال أولو العيوب

و قال آخر

يا من يعيب و عيبه متشعب كم فيك من عيب و أنت تعيب

و في الخبر المرفوع دعوا الناس بغفلاتهم يعيش بعضهم مع بعض

و قال الوليد بن عتبة بن أبي سفيان كنت أساير أبي و رجل معنا يقع في رجل فالتفت أبي إلي فقال يا بني نزه سمعك عن استماع الخنى

كما تنزه لسانك عن الكلام به فإن المستمع شريك القائل إنما نظر إلى أخبث ما في وعائه فأفرغه في وعائك و لو ردت كلمة جاهل في

فيه لسعد رادها كما شقي قائلها. و

قال ابن عباس الحدث حدثان حدث من فيك و حدث من فرجك

[17 : 38 ]

و عاب رجل رجلا عند قتيبة بن مسلم فقال له قتيبة أمسك ويحك فقد تلمظت بمضغه طالما لفظها الكرام. و مر رجل بجارين له و معه

ريبة فقال أحدهما لصاحبه أ فهمت ما معه من الريبة قال و ما معه قال كذا قال عبدي حر لوجه الله شكرا له تعالى إذ لم يعرفني من

الشر ما عرفك. و قال الفضيل بن عياض إن الفاحشة لتشيع في كثير من المسلمين حتى إذا صارت إلى الصالحين كانوا لها خزانا. و

قيل لبزرجمهر هل من أحد لا عيب فيه فقال الذي لا عيب فيه لا يموت. و قال الشاعر

و لست بذي نيرب في الرجا ل مناع خير و سبابها

و لا من إذا كان في جانب أضاع العشيرة و اغتابها

و لكن أطاوع ساداتها و لا أتعلم ألقابها

و قال آخر

لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا فيكشف الله سترا من مساويكا

و اذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا و لا تعب أحدا منهم بما فيكا

و قال آخر

ابدأ بنفسك فإنهما عن عيبها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك تعذر إن وعظت و يقتدى بالقول منك و يقبل التعليم

[17 : 39 ]

فأما قوله ع أطلق عن الناس عقدة كل حقد فقد استوفى هذا المعنى زياد في خطبته البتراء فقال و قد كانت بيني و بين أقوام إحن و قد

جعلت ذلك دبر أذني و تحت قدمي فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا و من كان منكم مسيئا فلينزع عن إساءته إني لو علمت أن

أحدكم قد قتله السلال من بغضي لم أكشف عنه قناعا و لم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته فإذا فعل لم أناظره ألا فليشمل كل

امرئ منكم على ما في صدره و لا يكونن لسانه شفرة تجري على ودجه

فصل في النهي عن سماع السعاية و ما ورد ذلك من الآثار

فأما قوله ع و لا تعجلن إلى تصديق ساع فقد ورد في هذا المعنى كلام حسن قال ذو الرئاستين قبول السعاية شر من السعاية لأن

السعاية دلالة و القبول إجازة و ليس من دل على شيء كمن قبله و أجازه فامقت الساعي على سعايته فإنه لو كان صادقا كان لئيما إذ

هتك العورة و أضاع الحرمة. و عاتب مصعب بن الزبير الأحنف على أمر بلغه عنه فأنكره فقال مصعب أخبرني به الثقة قال كلا أيها

الأمير إن الثقة لا يبلغ. و كان يقال لو لم يكن من عيب الساعي إلا أنه أصدق ما يكون أضر ما يكون على الناس لكان كافيا. كانت

الأكاسرة لا تأذن لأحد أن يطبخ السكباج و كان ذلك مما يختص به الملك فرفع ساع إلى أنوشروان إن فلانا دعانا و نحن جماعة إلى

طعام له و فيه

[17 : 40 ]

سكباج فوقع أنوشروان على رقعته قد حمدنا نصيحتك و ذممنا صديقك على سوء اختياره للإخوان. جاء رجل إلى الوليد بن عبد

الملك و هو خليفة عبد الملك على دمشق فقال أيها الأمير إن عندي نصيحة قال اذكرها قال جار لي رجع من بعثه سرا فقال أما أنت فقد

أخبرتنا أنك جار سوء فإن شئت أرسلنا معك فإن كنت كاذبا عاقبناك و إن كنت صادقا مقتناك و إن تركتنا تركناك قال بل أتركك أيها

الأمير قال فانصرف. و مثل هذا يحكى عن عبد الملك أن إنسانا سأله الخلوة فقال لجلسائه إذا شئتم فانصرفوا فلما تهيأ الرجل

للكلام قال له اسمع ما أقول إياك أن تمدحني فأنا أعرف بنفسي منك أو تكذبني فإنه لا رأي لمكذوب أو تسعى بأحد إلي فإني لا أحب

السعاية قال أ فيأذن أمير المؤمنين بالانصراف قال إذا شئت. و قال بعض الشعراء

لعمرك ما سب الأمير عدوه و لكنما سب الأمير المبلغ

و قال آخر

حرمت منائي منك إن كان ذا الذي أتاك به الواشون عني كما قالوا

و لكنهم لما رأوك شريعة إلي تواصوا بالنميمة و احتالوا

فقد صرت أذنا للوشاة سميعة ينالون من عرضي و لو شئت ما نالوا

و قال عبد الملك بن صالح لجعفر بن يحيى و قد خرج يودعه لما شخص إلى خراسان أيها الأمير أحب أن تكون لي كما قال الشاعر

[17 : 41 ]

فكوني على الواشين لداء شغبة كما أنا للواشي ألد شغوب

قال بل أكون كما قال القائل

و إذا الواشي وشى يوما بها نفع الواشي بما جاء يضر

و قال العباس بن الأحنف

ما حطك الواشون من رتبة عندي و لا ضرك مغتاب

كأنهم أثنوا و لم يعلموا عليك عندي بالذي عابوا

قوله ع و لا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل و يعدك الفقر مأخوذ من قول الله تعالى الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ

يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَ اللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلًا قال المفسرون الفحشاء هاهنا البخل و معنى يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ يخيل إليكم

أنكم إن سمحتم بأموالكم افتقرتم فيخوفكم فتخافون فتبخلون. قوله ع فإن البخل و الجبن و الحرص غرائز شتى يجمعها سوء

الظن بالله كلام شريف عال على كلام الحكماء يقول إن بينها قدرا مشتركا و إن كانت غرائز و طبائع مختلفة و ذلك القدر المشترك

هو سوء الظن بالله لأن الجبان يقول في نفسه إن أقدمت قتلت و البخيل يقول إن سمحت و أنفقت افتقرت و الحريص يقول إن لم

أجد و أجتهد و أدأب فاتني ما أروم و كل هذه الأمور ترجع إلى سوء الظن بالله و لو أحسن الظن الإنسان بالله و كان يقينه صادقا

لعلم أن الأجل مقدر و أن الرزق مقدر و أن الغنى و الفقر مقدران و أنه لا يكون من ذلك إلا ما قضى الله تعالى كونه

[17 : 42 ]

شَرُّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ لِلْأَشْرَارِ وَزِيراً وَ مَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآْثَامِ فَلَا يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الْأَثَمَةِ وَ إِخْوَانُ الظَّلَمَةِ وَ أَنْتَ وَاجِدٌ

مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَ نَفَاذِهِمْ وَ لَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ وَ أَوْزَارِهِمْ وَ آثَامِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ وَ لَا آثِماً

عَلَى إِثْمِهِ أُولَئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَئُونَةً وَ أَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً وَ أَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً وَ أَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً فَاتَّخِذْ أُولَئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ وَ حَفَلَاتِكَ

ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ وَ أَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيمَا يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِهَ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ

نهاه ع ألا يتخذ بطانة قد كانوا من قبل بطانة للظلمة و ذلك لأن الظلم و تحسينه قد صار ملكة ثابتة في أنفسهم فبعيد أن يمكنهم

الخلو منها إذ قد صارت كالخلق الغريزي اللازم لتكرارها و صيرورتها عادة فقد جاءت النصوص في الكتاب و السنة بتحريم معاونة

الظلمة و مساعدتهم و تحريم الاستعانة بهم فإن من استعان بهم كان معينا لهم قال تعالى وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً و قال لا

تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْ آخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ و

جاء في الخبر المرفوع ينادى يوم القيامة أين من بري لهم أي الظالمين قلما

[17 : 43 ]

أتي الوليد بن عبد الملك برجل من الخوارج فقال له ما تقول في الحجاج قال و ما عسيت أن أقول فيه هل هو إلا خطيئة من خطاياك

و شرر من نارك فلعنك الله و لعن الحجاج معك و أقبل يشتمهما فالتفت الوليد إلى عمر بن عبد العزيز فقال ما تقول في هذا قال ما

أقول فيه هذا رجل يشتمكم فإما أن تشتموه كما شتمكم و إما أن تعفوا عنه فغضب الوليد و قال لعمر ما أظنك إلا خارجيا فقال عمر و

ما أظنك إلا مجنونا و قام فخرج مغضبا و لحقه خالد بن الريان صاحب شرطة الوليد فقال له ما دعاك إلى ما كلمت به أمير المؤمنين

لقد ضربت بيدي إلى قائم سيفي أنتظر متى يأمرني بضرب عنقك قال أ و كنت فاعلا لو أمرك قال نعم فلما استخلف عمر جاء خالد بن

الريان فوقف على رأسه متقلدا سيفه فنظر إليه و قال يا خالد ضع سيفك فإنك مطيعنا في كل أمر نأمرك به و كان بين يديه كاتب

للوليد فقال له ضع أنت قلمك فإنك كنت تضر به و تنفع اللهم إني قد وضعتهما فلا ترفعهما قال فو الله ما زالا وضيعين مهينين حتى

ماتا. و روى الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين قال لما خالط الزهري السلطان كتب أخ له في الدين إليه عافانا الله و إياك أبا بكر

من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو الله لك و يرحمك فقد أصبحت شيخا كبيرا و قد أثقلتك نعم الله عليك بما

فهمك من كتابه و علمك من سنة نبيه و ليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء فإنه تعالى قال لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ و اعلم

أن أيسر ما ارتكبت و أخف ما احتملت أنك آنست وحشة الظالم و سهلت سبيل الغي بدنوك إلى من لم يؤد حقا و لم يترك باطلا حين

أدناك اتخذوك أبا بكر قطبا تدور

[17 : 44 ]

عليه رحى ظلمهم و جسرا يعبرون عليه إلى بلائهم و معاصيهم و سلما يصعدون فيه إلى ضلالتهم يدخلون بك الشك على العلماء و

يقتادون بك قلوب الجهلاء فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك و ما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا من حالك و دينك

و ما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا يا أبا

بكر إنك تعامل من لا يجهل و يحفظ عليك من لا يغفل فداو دينك فقد دخله سقم و هيئ زادك فقد حضر سفر بعيد و ما يخفى على الله

من شيء في الأرض و لا في السماء و السلام

وَ الْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَ الصِّدْقِ ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَلَّا يُطْرُوكَ وَ لَا يَبْجَحُوكَ بِبَاطِل لَمْ تَفْعَلْهُ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْإِطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ وَ تُدْنِي مِنَ

الْعِزَّةِ وَ لَا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَ الْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَة سَوَاء فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ فِي الْإِحْسَانِ وَ تَدْرِيباً لِأَهْلِ الْإِسَاءَةِ وَ

أَلْزِمْ كُلًّا مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ

[17 : 45 ]

قوله و الصق بأهل الورع كلمة فصيحة يقول اجعلهم خاصتك و خلصاءك. قال ثم رضهم على ألا يطروك أي عودهم ألا يمدحوك في

وجهك و لا يبجحوك بباطل لا يجعلوك ممن يبجح أي يفخر بباطل لم يفعله كما يبجح أصحاب الأمراء الأمراء بأن يقولوا لهم ما

رأينا أعدل منكم و لا أسمح و لا حمى هذا الثغر أمير أشد بأسا منكم و نحو ذلك و قد جاء

في الخبر احثوا في وجوه المداحين التراب

و قال عبد الملك لمن قام يساره ما تريد أ تريد أن تمدحني و تصفني أنا أعلم بنفسي منك. و قام خالد بن عبد الله القسري إلى عمر بن

عبد العزيز يوم بيعته فقال يا أمير المؤمنين من كانت الخلافة زائنته فقد زينتها و من كانت شرفته فقد شرفتها فإنك لكما قال القائل

و إذا الدر زان حسن وجوه كان للدر حسن وجهك زينا

فقال عمر بن عبد العزيز لقد أعطي صاحبكم هذا مقولا و حرم معقولا و أمره أن يجلس. و لما عقد معاوية البيعة لابنه يزيد قام الناس

يخطبون فقال معاوية لعمرو بن سعيد الأشدق قم فاخطب يا أبا أمية فقام فقال أما بعد فإن يزيد ابن أمير المؤمنين أمل تأملونه و

أجل تأمنونه إن افتقرتم إلى حلمه وسعكم و إن احتجتم إلى رأيه أرشدكم و إن اجتديتم ذات يده أغناكم و شملكم جذع قارح سوبق

فسبق و موجد فمجد

[17 : 46 ]

و قورع فقرع و هو خلف أمير المؤمنين و لا خلف منه فقال معاوية أوسعت يا أبا أمية فاجلس فإنما أردنا بعض هذا.

و أثنى رجل على علي ع في وجهه ثناء أوسع فيه و كان عنده متهما فقال له أنا دون ما تقول و فوق ما في نفسك

و قال ابن عباس لعتبة بن أبي سفيان و قد أثنى عليه فأكثر رويدا فقد أمهيت يا أبا الوليد يعني بالغت يقال أمهى حافر البئر إذا

استقصى حفرها. فأما قوله ع و لا يكونن المحسن و المسيء عندك بمنزلة سواء فقد أخذه الصابي فقال و إذا لم يكن للمحسن ما

يرفعه و للمسيء ما يضعه زهد المحسن في الإحسان و استمر المسيء على الطغيان و قال أبو الطيب

شر البلاد بلاد لا صديق بها و شر ما يكسب الإنسان ما يصم

و شر ما قبضته راحتي قنص شهب البزاة سواء فيه و الرخم

و كان يقال قضاء حق المحسن أدب للمسيء و عقوبة المسيء جزاء للمحسن

وَ اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِأَدْعَى إِلَى حُسْنِ ظَنِّ وَال بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وَ تَخْفِيفِهِ الْمَئُونَاتِ عَلَيْهِمْ وَ تَرْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا

لَيْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ يَجْتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلًا وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ

ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلَاؤُكَ عِنْدَهُ وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلَاؤُكَ عِنْدَهُ

[17 : 47 ]

وَ لَا تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَ اجْتَمَعَتْ بِهَا الْأُلْفَةُ وَ صَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ وَ لَا تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيْء مِنْ مَاضِي تِلْكَ

السُّنَنِ فَيَكُونَ الْأَجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا وَ الْوِزْرُ عَلَيْكَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا وَ أَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَ مُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ

بِلَادِكَ وَ إِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ

خلاصة صدر هذا الفصل أن من أحسن إليك حسن ظنه فيك و من أساء إليك استوحش منك و ذلك لأنك إذا أحسنت إلى إنسان و تكرر

منك ذلك الإحسان تبع ذلك اعتقادك أنه قد أحبك ثم يتبع ذلك الاعتقاد أمر آخر و هو أنك تحبه لأن الإنسان مجبول على أن يحب من

يحبه و إذا أحببته سكنت إليه و حسن ظنك فيه و بالعكس من ذلك إذا أسأت إلى زيد لأنك إذا أسأت إليه و تكررت الإساءة تبع ذلك

اعتقادك أنه قد أبغضك ثم يتبع ذلك الاعتقاد أمر آخر و هو أن تبغضه أنت و إذا أبغضته انقبضت منه و استوحشت و ساء ظنك به. قال

المنصور للربيع سلني لنفسك قال يا أمير المؤمنين ملأت يدي فلم يبق عندي موضع للمسألة قال فسلني لولدك قال أسألك أن تحبه

فقال المنصور يا ربيع إن الحب لا يسأل و إنما هو أمر تقتضيه الأسباب قال يا أمير المؤمنين و إنما أسألك أن تزيد من إحسانك فإذا

تكرر أحبك و إذا أحبك أحببته فاستحسن

[17 : 48 ]

المنصور ذلك ثم نهاه عن نقض السنن الصالحة التي قد عمل بها من قبله من صالحي الأمة فيكون الوزر عليه بما نقض و الأجر لأولئك

بما أسسوا ثم أمره بمطارحة العلماء و الحكماء في مصالح عمله فإن المشورة بركة و من استشار فقد أضاف عقلا إلى عقله. و مما جاء

في معنى الأول قال رجل لإياس بن معاوية من أحب الناس إليك قال الذين يعطوني قال ثم من قال الذين أعطيهم. و قال رجل لهشام

بن عبد الملك إن الله جعل العطاء محبة و المنع مبغضة فأعني على حبك و لا تعني في بغضك

وَ اعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لَا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْض وَ لَا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْض فَمِنْهَا جُنُودُ اللَّهِ وَ مِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ وَ الْخَاصَّةِ وَ مِنْهَا قُضَاةُ

الْعَدْلِ وَ مِنْهَا عُمَّالُ الْإِنْصَافِ وَ الرِّفْقِ وَ مِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَ الْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَ مُسْلِمَةِ النَّاسِ وَ مِنْهَا التُّجَّارُ وَ أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ وَ مِنْهَا

الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ وَ الْمَسْكَنَةِ وَ كُلٌّ قَدْ سَمَّى اللَّهُ لَهُ سَهْمَهُ وَ وَضَعَ عَلَى حَدِّهِ وَ فَرِيضَتِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ص عَهْداً

مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللَّهِ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ وَ زَيْنُ الْوُلَاةِ وَ عِزُّ الدِّينِ وَ سُبُلُ الْأَمْنِ وَ لَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِهِمْ ثُمَّ لَا قِوَامَ

لِلْجُنُودِ إِلَّا بِمَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ وَ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ وَ يَكُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ

ثُمَّ لَا قِوَامَ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ إِلَّا بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ الْقُضَاةِ وَ الْعُمَّالِ

[17 : 49 ]

وَ الْكُتَّابِ لِمَا يُحْكِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ وَ يَجْمَعُونَ مِنَ الْمَنَافِعِ وَ يُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَوَاصِّ الْأُمُورِ وَ عَوَامِّهَا وَ لَا قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلَّا

بِالتُّجَّارِ وَ ذَوِي الصِّنَاعَاتِ فِيمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ وَ يُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ وَ يَكْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ بِأَيْدِيهِمْ مِمَّا لَا يَبْلُغُهُ رِفْقُ

غَيْرِهِمْ ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَ الْمَسْكَنَةِ الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَ مَعُونَتُهُمْ وَ فِي اللَّهِ لِكُلّ سَعَةٌ وَ لِكُلّ عَلَى الْوَالِي حَقٌّ بِقَدْرِ

مَا يُصْلِحُهُ وَ لَيْسَ يَخْرُجُ الْوَالِي مِنْ حَقِيقَةِ مَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِالِاهْتِمَامِ وَ الِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ وَ تَوْطِينِ نَفْسِهِ عَلَى لُزُومِ الْحَقِّ

وَ الصَّبْرِ عَلَيْهِ فِيمَا خَفَّ عَلَيْهِ أَوْ ثَقُلَ

قالت الحكماء الإنسان مدني بالطبع و معناه أنه خلق خلقة لا بد معها من أن يكون منضما إلى أشخاص من بني جنسه و متمدنا في

مكان بعينه و ليس المراد بالمتمدن ساكن المدينة ذات السور و السوق بل لا بد أن يقيم في موضع ما مع قوم من البشر و ذلك لأن

الإنسان مضطر إلى ما يأكله و يشربه ليقيم صورته و مضطر إلى ما يلبسه ليدفع عنه أذى الحر و البرد و إلى مسكن يسكنه ليرد عنه

عادية غيره من الحيوانات و ليكون منزلا له ليتمكن من التصرف و الحركة عليه و معلوم أن الإنسان وحده لا يستقل بالأمور التي

عددناها بل لا بد من جماعة يحرث بعضهم لغيره الحرث و ذلك الغير يحوك للحراث الثوب و ذلك الحائك يبني له غيره المسكن و

ذلك البناء يحمل له

[17 : 50 ]

غيره الماء و ذلك السقاء يكفيه غيره أمر تحصيل الآلة التي يطحن بها الحب و يعجن بها الدقيق و يخبز بها العجين و ذلك المحصل

لهذه الأشياء يكفيه غيره الاهتمام بتحصيل الزوجة التي تدعو إليها داعية الشبق فيحصل مساعدة بعض الناس لبعض لو لا ذلك لما

قامت الدنيا فلهذا معنى قوله ع إنهم طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض و لا غناء ببعضها عن بعض. ثم فصلهم و قسمهم فقال منهم

الجند و منهم الكتاب و منهم القضاة و منهم العمال و منهم أرباب الجزية من أهل الذمة و منهم أرباب الخراج من المسلمين و منهم

التجار و منهم أرباب الصناعات و منهم ذوو الحاجات و المسكنة و هم أدون الطبقات. ثم ذكر أعمال هذه الطبقات فقال الجند

للحماية و الخراج يصرف إلى الجند و القضاة و العمال و الكتاب لما يحكمونه من المعاقد و يجمعونه من المنافع و لا بد لهؤلاء

جميعا من التجار لأجل البيع و الشراء الذي لا غناء عنه و لا بد لكل من أرباب الصناعات كالحداد و النجار و البناء و أمثالهم ثم تلي

هؤلاء الطبقة السفلى و هم أهل الفقر و الحاجة الذين تجب معونتهم و الإحسان إليهم. و إنما قسمهم في هذا الفصل هذا التقسيم

تمهيدا لما يذكره فيما بعد فإنه قد شرع بعد هذا الفصل فذكر طبقة طبقة و صنفا صنفا و أوصاه في كل طبقة و في كل صنف منهم بما

يليق بحاله و كأنه مهد هذا التمهيد كالفهرست لما يأتي بعده من التفصيل

[17 : 51 ]

فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لِلَّهِ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِإِمَامِكَ وَ أَطْهَرَهُمْ جَيْباً وَ أَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَ يَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ

وَ يَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ وَ يَنْبُو عَلَى الْأَقْوِيَاءِ وَ مِمَّنْ لَا يُثِيرُهُ الْعُنْفُ وَ لَا يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَ الْأَحْسَابِ وَ أَهْلِ

الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَ السَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَ الشَّجَاعَةِ وَ السَّخَاءِ وَ السَّمَاحَةِ فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَ شُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ ثُمَّ

تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا وَ لَا يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ وَ لَا تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَ إِنْ قَلَّ فَإِنَّهُ

دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَى بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ وَ حُسْنِ الظَّنِّ بِكَ وَ لَا تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِيفِ أُمُورِهِمُ اتِّكَالًا عَلَى جَسِيمِهَا فَإِنَّ لِلْيَسِيرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً

يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَ لِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ وَ لْيَكُنْ آثَرُ رُءُوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِي مَعُونَتِهِ وَ أَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتِهِ بِمَا

يَسَعُهُمْ وَ يَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِيهِمْ حَتَّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَيْهِمْ يَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْكَ وَ لَا

تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ إِلَّا بِحِيطَتِهِمْ عَلَى وُلَاةِ أُمُورِهِمْ وَ قِلَّةِ اسْتَثْقَالِ دُوَلِهِمْ وَ تَرْكِ اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ وَ وَاصِلْ مِنْ

حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَ تَعْدِيدِ مَا أَبْلَى ذَوُو الْبَلَاءِ

[17 : 52 ]

مِنْهُمْ فَإِنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ لِحُسْنِ فِعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ وَ تُحَرِّضُ النَّاكِلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِئ مِنْهُمْ مَا أَبْلَى وَ لَا تَضُمَّنَّ بَلَاءَ امْرِئ

إِلَى غَيْرِهِ وَ لَا تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غَايَةِ بَلَائِهِ وَ لَا يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِئ إِلَى أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلَائِهِ مَا كَانَ صَغِيراً وَ لَا ضَعَةُ امْرِئ إِلَى أَنْ تَسْتَصْغِرَ

مِنْ بَلَائِهِ مَا كَانَ عَظِيماً وَ ارْدُدْ إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ مَا يُضْلِعُكَ مِنَ الْخُطُوبِ وَ يَشْتَبِهُ عَلَيْكَ مِنَ الْأُمُورِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِقَوْم أَحَبَّ

إِرْشَادَهُمْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَ الرَّسُولِ

فَالرَّدُّ إِلَى اللَّهِ الْأَخْذُ بِمُحْكَمِ كِتَابِهِ وَ الرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ الْأَخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعَةِ غَيْرِ الْمُفَرِّقَةِ

هذا الفصل مختص بالوصاة فيما يتعلق بأمراء الجيش أمره أن يولى أمر الجيش من جنوده من كان أنصحهم لله في ظنه و أطهرهم

جيبا أي عفيفا أمينا و يكنى عن العفة و الأمانة بطهارة الجيب لأن الذي يسرق يجعل المسروق في جيبه. فإن قلت و أي تعلق لهذا

بولاة الجيش إنما ينبغي أن تكون هذه الوصية في ولاة الخراج قلت لا بد منها في أمراء الجيش لأجل الغنائم. ثم وصف ذلك الأمير

فقال ممن يبطئ عن الغضب و يستريح إلى العذر أي يقبل

[17 : 53 ]

أدنى عذر و يستريح إليه و يسكن عنده و يرؤف على الضعفاء يرفق بهم و يرحمهم و الرأفة الرحمة و ينبو عن الأقوياء يتجافى عنهم و

يبعد أي لا يمكنهم من الظلم و التعدي على الضعفاء و لا يثيره العنف لا يهيج غضبه عنف و قسوة و لا يقعد به الضعف أي ليس عاجزا.

ثم أمره أن يلصق بذوي الأحساب و أهل البيوتات أي يكرمهم و يجعل معوله في ذلك عليهم و لا يتعداهم إلى غيرهم و كان يقال

عليكم بذوي الأحساب فإن هم لم يتكرموا استحيوا. ثم ذكر بعدهم أهل الشجاعة و السخاء ثم قال إنها جماع من الكرم و شعب من

العرف من هاهنا زائدة و إن كانت في الإيجاب على مذهب أبي الحسن الأخفش أي جماع الكرم أي يجمعه

كقول النبي ص الخمر جماع الإثم

و العرف المعروف. و كذلك من في قوله و شعب من العرف أي شعب العرف أي هي أقسامه و أجزاؤه و يجوز أن تكون من على حقيقتها

للتبعيض أي هذه الخلال جملة من الكرم و أقسام المعروف و ذلك لأن غيرها أيضا من الكرم و المعروف و نحو العدل و العفة. قوله

ثم تفقد من أمورهم الضمير هاهنا يرجع إلى الأجناد لا إلى الأمراء لما سنذكره مما يدل الكلام عليه. فإن قلت إنه لم يجر للأجناد ذكر

فيما سبق و إنما المذكور الأمراء قلت كلا بل سبق ذكر الأجناد و هو قوله الضعفاء و الأقوياء.

[17 : 54 ]

و أمره ع أن يتفقد من أمور الجيش ما يتفقد الوالدان من حال الولد و أمره ألا يعظم عنده ما يقويهم به و إن عظم و ألا يستحقر شيئا

تعهدهم به و إن قل و ألا يمنعه تفقد جسيم أمورهم عن تفقد صغيرها و أمره أن يكون آثر رءوس جنوده عنده و أحظاهم عنده و أقربهم

إليه من واساهم في معونته هذا هو الضمير الدال على أن الضمير المذكور أولا للجند لا لأمراء الجند لو لا ذلك لما انتظم الكلام.

قوله من خلوف أهليهم أي ممن يخلفونه من أولادهم و أهليهم. ثم قال لا يصح نصيحة الجند لك إلا بحيطتهم على ولاتهم أي

بتعطفهم عليهم و تحننهم و هي الحيطة على وزن الشيمة مصدر حاطه يحوطه حوطا و حياطا و حيطة أي كلأه و رعاه و أكثر الناس

يروونها إلا بحيطتهم بتشديد الياء و كسرها و الصحيح ما ذكرناه. قوله و قلة استثقال دولهم أي لا تصح نصيحة الجند لك إلا إذا

أحبوا أمراءهم ثم لم يستثقلوا دولهم و لم يتمنوا زوالها. ثم أمره أن يذكر في المجالس و المحافل بلاء ذوي البلاء منهم فإن ذلك

مما يرهف عزم الشجاع و يحرك الجبان. قوله و لا تضمن بلاء امرئ إلى غيره أي اذكر كل من أبلى منهم مفردا غير مضموم ذكر بلائه

إلى غيره كي لا يكون مغمورا في جنب ذكر غيره. ثم قال له لا تعظم بلاء ذوي الشرف لأجل شرفهم و لا تحقر بلاء ذوي الضعة لضعة

أنسابهم بل اذكر الأمور على حقائقها. ثم أمره أن يرد إلى الله و رسوله ما يضلعه من الخطوب أي ما يئوده و يميله

[17 : 55 ]

لثقله و هذه الرواية أصح من رواية من رواها بالظاء و إن كان لتلك وجه

رسالة الإسكندر إلى أرسطو و رد أرسطو عليه

و ينبغي أن نذكر في هذا الموضع رسالة أرسطو إلى الإسكندر في معنى المحافظة على أهل البيوتات و ذوي الأحساب و أن يخصهم

بالرئاسة و الإمرة و لا يعدل عنهم إلى العامة و السفلة فإن في ذلك تشييدا لكلام أمير المؤمنين ع و وصيته. لما ملك الإسكندر

ايرانشهر و هو العراق مملكة الأكاسرة و قتل دارا بن دارا كتب إلى أرسطو و هو ببلاد اليونان عليك أيها الحكيم منا السلام أما بعد

فإن الأفلاك الدائرة و العلل السمائية و إن كانت أسعدتنا بالأمور التي أصبح الناس لنا بها دائبين فإنا جد واجدين لمس الاضطرار

إلى حكمتك غير جاحدين لفضلك و الإقرار بمنزلتك و الاستنامة إلى مشورتك و الاقتداء برأيك و الاعتماد لأمرك و نهيك لما بلونا من

جدا ذلك علينا و ذقنا من جنا منفعته حتى صار ذلك بنجوعه فينا و ترسخه في أذهاننا و عقولنا كالغذاء لنا فما ننفك نعول عليه و نستمد

منه استمداد الجداول من البحور و تعويل الفروع على الأصول و قوة الأشكال بالأشكال و قد كان مما سيق إلينا من النصر و الفلج و

أتيح لنا من الظفر و بلغنا في العدو من النكاية و البطش ما يعجز القول عن وصفه و يقصر شكر المنعم عن موقع الإنعام به و كان من

ذلك أنا جاوزنا أرض سورية و الجزيرة إلى بابل و أرض فارس فلما حللنا بعقوة أهلها و ساحة بلادهم لم يكن إلا ريثما تلقانا نفر منهم

برأس ملكهم هدية إلينا و طلبا للحظوة عندنا فأمرنا بصلب من

[17 : 56 ]

جاء به و شهرته لسوء بلائه و قلة ارعوائه و وفائه ثم أمرنا بجمع من كان هناك من أولاد ملوكهم و أحرارهم و ذي الشرف منهم فرأينا

رجالا عظيمة أجسامهم و أحلامهم حاضرة ألبابهم و أذهانهم رائعة مناظرهم و مناطقهم دليلا على أن ما يظهر من روائهم و منطقهم أن

وراءه من قوة أيديهم و شدة نجدتهم و بأسهم ما لم يكن ليكون لنا سبيل إلى غلبتهم و إعطائهم بأيديهم لو لا أن القضاء أدالنا منهم

و أظفرنا بهم و أظهرنا عليهم و لم نر بعيدا من الرأي في أمرهم أن نستأصل شأفتهم و نجتث أصلهم و نلحقهم بمن مضى من أسلافهم

لتسكن القلوب بذلك الأمن إلى جرائرهم و بوائقهم فرأينا ألا نجعل بإسعاف بادئ الرأي في قتلهم دون الاستظهار عليهم بمشورتك

فيهم فارفع إلينا رأيك فيما استشرناك فيه بعد صحته عندك و تقليبك إياه بجلي نظرك و سلام أهل السلام فليكن علينا و عليك.

فكتب إليه أرسطو لملك الملوك و عظيم العظماء الإسكندر المؤيد بالنصر على الأعداء المهدي له الظفر بالملوك من أصغر عبيده و

أقل خوله أرسطوطاليس البخوع بالسجود و التذلل في السلام و الإذعان في الطاعة أما بعد فإنه لا قوة بالمنطق و إن احتشد الناطق

فيه و اجتهد في تثقيف معانيه و تأليف حروفه و مبانيه على الإحاطة بأقل ما تناله القدرة من بسطة علو الملك و سمو ارتفاعه عن كل

قول و إبرازه على كل وصف و اغترافه بكل إطناب و قد كان تقرر عندي من مقدمات إعلام فضل الملك في صهلة سبقه و بروز شأوه و

يمن نقيبته مذ أدت إلي حاسة بصري صورة شخصه و اضطرب في حس سمعي صوت لفظه و وقع وهمي

[17 : 57 ]

على تعقيب نجاح رأيه أيام كنت أؤدي إليه من تكلف تعليمي إياه ما أصبحت قاضيا على نفسي بالحاجة إلى تعلمه منه و مهما يكن مني

إليه في ذلك فإنما هو عقل مردود إلى عقله مستنبطة أواليه و تواليه من علمه و حكمته و قد جلا إلى كتاب الملك و مخاطبته إياي و

مسألته لي عما لا يتخالجني الشك في لقاح ذلك و إنتاجه من عنده فعنه صدر و عليه ورد و أنا فيما أشير به على الملك و إن اجتهدت

فيه و احتشدت له و تجاوزت حد الوسع و الطاقة مني في استنظافه و استقصائه كالعدم مع الوجود بل كما لا يتجزأ في جنب معظم

الأشياء و لكني غير ممتنع من إجابة الملك إلى ما سأل مع علمي و يقيني بعظيم غناه عني و شدة فاقتي إليه و أنا راد إلى الملك ما

اكتسبته منه و مشير عليه بما أخذته منه فقائل له إن لكل تربة لا محالة قسما من الفضائل و إن لفارس قسمها من النجدة و القوة و

إنك إن تقتل أشرافهم تخلف الوضعاء علي أعقابهم و تورث سفلتهم على منازل عليتهم و تغلب أدنياءهم على مراتب ذوي أخطارهم و

لم يبتل الملوك قط ببلاء هو أعظم عليهم و أشد توهينا لسلطانهم من غلبة السفلة و ذل الوجوه فاحذر الحذر كله أن تمكن تلك

الطبقة من الغلبة و الحركة فإنه إن نجم منهم بعد اليوم على جندك و أهل بلادك ناجم دهمهم منه ما لا روية فيه و لا بقية معه

فانصرف عن هذا الرأي إلى غيره و اعمد إلى من قبلك من أولئك العظماء و الأحرار فوزع بينهم مملكتهم و ألزم اسم الملك كل من

وليته منهم ناحيته و اعقد التاج على رأسه و إن صغر ملكه فإن المتسمي بالملك لازم لاسمه و المعقود التاج على رأسه لا يخضع

لغيره فليس ينشب ذلك أن يوقع كل ملك منهم بينه و بين صاحبه تدابرا و تقاطعا و تغالبا على الملك و تفاخرا بالمال و الجند حتى

ينسوا بذلك أضغانهم عليك و أوتارهم فيك و يعود حربهم لك حربا

السابق

التالي