السابق

التالي

[16 : 246 ]

بأخبار الآحاد و هو المذهب الصحيح و قد أشرنا إلى ما يمكن أن يعتمد في الدلالة عليه من أن الظن لا يقابل العلم و لا يرجع عن

المعلوم بالمظنون قال و ليس لهم أن يقولوا إن التخصيص بأخبار الآحاد يستند أيضا إلى علم و إن كان الطريق مظنونا و يشيروا

إلى ما يدعونه من الدلالة على وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة و أنه حجة لأن ذلك مبني من قولهم على ما لا نسلمه و قد دل

الدليل على فساده أعني قولهم خبر الواحد حجة في الشرع على أنهم لو سلم لهم ذلك لاحتاجوا إلى دليل مستأنف على أنه يقبل في

تخصيص القرآن لأن ما دل على العمل به في الجملة لا يتناول هذا الموضع كما لا يتناول جواز النسخ به. قلت أما قول المرتضى لو

سلمنا أن هؤلاء المهاجرين الستة رووه لما خرج عن كونه خبرا واحدا و لما جاز أن يرجع عن عموم الكتاب به لأنه معلوم و الخبر

مظنون. و لقائل أن يقول ليته حصل في كل واحد من آيات القرآن رواية مثل هذه الستة حيث جمع القرآن على عهد عثمان و من قبله

من الخلفاء فإنهم بدون هذا العدد كانوا يعملون في إثبات الآية في المصحف بل كانوا يحلفون من أتاهم بالآية و من نظر في كتب

التواريخ عرف ذلك فإن كان هذا العدد إنما يفيد الظن فالقول في آيات الكتاب كذلك و إن كانت آيات الكتاب أثبتت عن علم مستفاد

من رواية هذا العدد و نحوه فالخبر مثل ذلك. فأما مذهب المرتضى في خبر الواحد فإنه قول انفرد به عن سائر الشيعة لأن من قبله من

فقهائهم ما عولوا في الفقه إلا على أخبار الآحاد كزرارة و يونس و أبي بصير و ابني بابويه و الحلبي و أبي جعفر القمي و غيرهم ثم من

كان في عصر المرتضى منهم

[16 : 247 ]

كأبي جعفر الطوسي و غيره و قد تكلمت في اعتبار الذريعة على ما أعتمد عليه في هذه المسألة و أما تخصيص الكتاب بخبر الواحد

فالظاهر أنه إذا صح كون خبر الواحد حجة في الشرع جاز تخصيص الكتاب به و هذا من فن أصول الفقه فلا معنى لذكره هنا. قال

المرتضى رضي الله عنه و هذا يسقط قول صاحب الكتاب إن الشاهدين لو شهدا أن في التركة حقا لكان يجب أن ينصرف عن الإرث و

ذلك لأن الشهادة و إن كانت مظنونة فالعمل بها يستند إلى علم لأن الشريعة قد قررت العمل بالشهادة و لم تقرر العمل بخبر الواحد

و ليس له أن يقيس خبر الواحد على الشهادة من حيث اجتمعا في غلبة الظن لأنا لا نعمل على الشهادة من حيث غلبة الظن دون ما

ذكرناه من تقرير الشريعة العمل بها أ لا ترى أنا قد نظن بصدق الفاسق و المرأة و الصبي و كثير ممن لا يجوز العمل بقوله فبان أن

المعول في هذا على المصلحة التي نستفيدها على طريق الجملة من دليل الشرع. قال و أبو بكر في حكم المدعي لنفسه و الجار إليها

بخلاف ما ظنه صاحب الكتاب و كذلك من شهد له إن كانت هناك شهادة و ذلك أن أبا بكر و سائر المسلمين سوى أهل بيت الرسول ص

يحل لهم الصدقة و يجوز أن يصيبوا فيها و هذه تهمة في الحكم و الشهادة. قال و ليس له أن يقول فهذا يقتضي ألا يقبل شهادة

شاهدين في تركة فيها صدقة لمثل ما ذكرتم.

[16 : 248 ]

قال و ذلك لأن الشاهدين إذا شهدا في الصدقة فحظهما منها كحظ صاحب الميراث بل سائر المسلمين و ليس كذلك حال تركة

الرسول لأن كونها صدقة يحرمها على ورثته و يبيحها لسائر المسلمين. قلت هذا فرق غير مؤثر اللهم إلا أن يعني به تهمة أبي بكر و

الشهود الستة في جر النفع إلى أنفسهم يكون أكثر من تهمتهم لو شهدوا على أبي هريرة مثلا أن ما تركه صدقة لأن أهل أبي هريرة

يشاركون في القسمة و أهل النبي ص لا يشاركون الشهود فيما يصيبهم إذ هم لا تحل لهم الصدقة فتكون حصة أبي بكر و الشهود

مما تركه رسول الله أكثر من حصتهم مما يتركه أبو هريرة فيكون تطرق التهمة إلى أبي بكر و الشهود أكثر حسب زيادة حصتهم و ما

وقفت للمرتضى على شيء أطرف من هذا لأن رسول الله ص مات و المسلمون أكثر من خمسين ألف إنسان لأنه قاد في غزاة تبوك

عشرين ألفا ثم وفدت إليه الوفود كلها بعد ذلك فليت شعري كم مقدار ما يتوفر على أبي بكر و ستة نفر معه و هم من جملة خمسين ألفا

بين ما إذا كان بنو هاشم و بنو المطلب و هم حينئذ عشرة نفر لا يأخذون حصة و بين ما إذا كانوا يأخذون أ ترى أ يكون المتوفر على

أبي بكر و شهوده من التركة عشر عشر درهم ما أظن أنه يبلغ ذلك و كم مقدار ما يقلل حصص الشهود على أبي هريرة إذا شركهم أهله

في التركة لتكون هذه القلة موجبة رفع التهمة و تلك الزيادة و الكثرة موجبة حصول التهمة و هذا الكلام لا أرتضيه للمرتضى. قال

المرتضى رضي الله عنه و أما قوله يخص القرآن بالخبر كما خصصناه في العبد و القاتل فليس بشيء لأنا إنما خصصنا من ذكر بدليل

مقطوع عليه معلوم و ليس هذا موجودا في الخبر الذي ادعاه فأما قوله و ليس ذلك ينقص الأنبياء بل هو إجلال لهم

[16 : 249 ]

فمن الذي قال له إن فيه نقصا و كما أنه لا نقص فيه فلا إجلال فيه و لا فضيلة لأن الداعي و إن كان قد يقوى على جمع المال ليخلف

على الورثة فقد يقويه أيضا إرادة صرفه في وجوه الخير و البر و كلا الأمرين يكون داعيا إلى تحصيل المال بل الداعي الذي ذكرناه

أقوى فيما يتعلق بالدين. قال و أما قوله إن فاطمة لما سمعت ذلك كفت عن الطلب فأصابت أولا و أصابت ثانيا فلعمري إنها كفت عن

المنازعة و المشاحة لكنها انصرفت مغضبة متظلمة متألمة و الأمر في غضبها و سخطها أظهر من أن يخفى على منصف فقد روى أكثر

الرواة الذين لا يتهمون بتشيع و لا عصبية فيه من كلامها في تلك الحال و بعد انصرافها عن مقام المنازعة و المطالبة ما يدل على ما

ذكرناه من سخطها و غضبها.

أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني قال حدثني محمد بن أحمد الكاتب قال حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي قال

حدثني الزيادي قال حدثنا الشرقي بن القطامي عن محمد بن إسحاق قال حدثنا صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة قالت لما بلغ

فاطمة إجماع أبي بكر على منعها فدك لاثت خمارها على رأسها و اشتملت بجلبابها و أقبلت في لمة من حفدتها...

قال المرتضى و أخبرنا المرزباني قال حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد المكي قال حدثنا أبو العيناء بن القاسم اليماني قال حدثنا ابن

عائشة قال لما قبض رسول الله ص أقبلت فاطمة إلى أبي بكر في لمة من حفدتها ثم اجتمعت الروايتان من هاهنا... و نساء قومها تطأ

ذيولها ما تخرم مشيتها مشية رسول الله ص

[16 : 250 ]

حتى دخلت على أبي بكر و هو في حشد من المهاجرين و الأنصار و غيرهم فنيطت دونها ملاءة ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء و

ارتج المجلس ثم أمهلت هنيهة حتى إذا سكن نشيج القوم و هدأت فورتهم افتتحت كلامها بالحمد لله عز و جل و الثناء عليه و الصلاة

على رسول الله ص ثم قالت لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فإن تعزوه

تجدوه أبي دون آبائكم و أخا ابن عمي دون رجالكم فبلغ الرسالة صادعا بالنذارة مائلا عن سنن المشركين ضاربا ثبجهم يدعو إلى

سبيل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة آخذا بأكظام المشركين يهشم الأصنام و يفلق الهام حتى انهزم الجمع و ولوا الدبر و حتى

تفرى الليل عن صبحه و أسفر الحق عن محضه و نطق زعيم الدين و خرست شقائق الشياطين و تمت كلمة الإخلاص و كنتم على شفا

حفرة من النار نهزة الطامع و مذقة الشارب و قبسة العجلان و موطإ الأقدام تشربون الطرق و تقتاتون القد أذلة خاسئين يختطفكم

الناس من حولكم حتى أنقذكم الله برسوله ص بعد اللتيا و التي و بعد أن مني بهم الرجال و ذؤبان العرب و مردة أهل الكتاب و كلما

أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة قذف أخاه في لهواتها و لا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه و

يطفئ عادية لهبها بسيفه أو قالت يخمد لهبها بحده مكدودا في ذات الله و أنتم في رفاهية فكهون آمنون وادعون

[16 : 251 ]

إلى هنا انتهى خبر أبي العيناء عن ابن عائشة و أما

عروة عن عائشة فزاد بعد هذا حتى إذا اختار الله لنبيه دار أنبيائه ظهرت حسيكة النفاق و شمل جلباب الدين و نطق كاظم الغاوين و

نبغ خامل الآفكين و هدر فنيق المبطلين فخطر في عرصاتكم و أطلع الشيطان رأسه صارخا بكم فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين و

لقربه متلاحظين ثم استنهضكم فوجدكم خفافا و أحمشكم فألفاكم غضابا فوسمتم غير إبلكم و وردتم غير شربكم هذا و العهد قريب و

الكلم رحيب و الجرح لما يندمل إنما زعمتم ذلك خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا و إن جهنم لمحيطة بالكافرين فهيهات و أنى بكم

و أنى تؤفكون و كتاب الله بين أظهركم زواجره بينة و شواهده لائحة و أوامره واضحة أ رغبة عنه تريدون أم لغيره تحكمون بئس

للظالمين بدلا و من يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه و هو في الآخرة من الخاسرين ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها تسرون

حسوا في ارتغاء و نحن نصبر منكم على مثل حز المدى و أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا أ فحكم الجاهلية يبغون و من أحسن من

الله حكما لقوم يوقنون يا ابن أبي قحافة أ ترث أباك و لا أرث أبي لقد جئت شيئا فريا فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك

فنعم الحكم الله و الزعيم محمد و الموعد القيامة و عند الساعة يخسر المبطلون ثم انكفأت إلى قبر أبيها ع فقالت

قد كان بعدك أنباء و هنبثة لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إذا فقدناك فقد الأرض وابلها و اختل قومك فاشهدهم و لا تغب

. و روى حرمي بن أبي العلاء مع هذين البيتين بيتا ثالثا

فليت بعدك كان الموت صادفنا لما قضيت و حالت دونك الكتب

[16 : 252 ]

قال فحمد أبو بكر الله و أثنى عليه و صلى على رسوله ص و قال يا خير النساء و ابنة خير الآباء و الله ما عدوت رأي رسول الله ص و

لا عملت إلا بإذنه و إن الرائد لا يكذب أهله و إني أشهد الله و كفى بالله شهيدا

أني سمعت رسول الله يقول إنا معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا و لا فضة و لا دارا و لا عقارا و إنما نورث الكتاب و الحكمة و العلم و

النبوة

قال فلما وصل الأمر إلى علي بن أبي طالب ع كلم في رد فدك فقال إني لأستحيي من الله أن أرد شيئا منع منه أبو بكر و أمضاه عمر

قال المرتضى و أخبرنا أبو عبد الله المرزباني قال حدثني علي بن هارون قال أخبرني عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر عن أبيه قال

ذكرت لأبي الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ع كلام فاطمة ع عند منع أبي بكر إياها فدك و قلت له إن هؤلاء

يزعمون أنه مصنوع و أنه من كلام أبي العيناء لأن الكلام منسوق البلاغة فقال لي رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم و

يعلمونه أولادهم و قد حدثني به أبي عن جدي يبلغ به فاطمة ع على هذه الحكاية

و قد رواه مشايخ الشيعة و تدارسوه قبل أن يوجد جد أبي العيناء و قد حدث الحسين بن علوان عن عطية العوفي أنه سمع عبد الله

بن الحسن بن الحسن يذكر عن أبيه هذا الكلام. ثم قال أبو الحسن زيد و كيف تنكرون هذا من كلام فاطمة ع و هم

[16 : 253 ]

يروون من كلام عائشة عند موت أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة ع و يحققونه لو لا عداوتهم لنا أهل البيت ثم ذكر الحديث بطوله

على نسقه و زاد في الأبيات بعد البيتين الأولين

ضاقت علي بلادي بعد ما رحبت وسم سبطاك خسفا فيه لي نصب

فليت قبلك كان الموت صادفنا قوم تمنوا فأعطوا كل ما طلبوا

تجهمتنا رجال و استخف بنا مذ غبت عنا و كل الإرث قد غصبوا

قال فما رأينا يوما أكثر باكيا أو باكية من ذلك اليوم. قال المرتضى و قد روى هذا الكلام على هذا الوجه من طرق مختلفة و وجوه

كثيرة فمن أرادها أخذها من مواضعها فكيف يدعي أنها ع كفت راضية و أمسكت قانعة لو لا البهت و قلة الحياء. قلت ليس في هذا

الخبر ما يدل على فساد ما ادعاه قاضي القضاة لأنه ادعى أنها نازعت و خاصمت ثم كفت لما سمعت الرواية و انصرفت تاركة للنزاع

راضية بموجب الخبر المروي و ما ذكره المرتضى من هذا الكلام لا يدل إلا على سخطها حال حضورها و لا يدل على أنها بعد رواية

الخبر و بعد أن أقسم لها أبو بكر بالله تعالى أنه ما روى عن رسول الله ص إلا ما سمعه منه انصرفت ساخطة و لا في الحديث المذكور

و الكلام المروي ما يدل على ذلك و لست أعتقد أنها انصرفت راضية كما قال قاضي القضاة بل أعلم أنها انصرفت ساخطة و ماتت و هي

على أبي بكر واجدة و لكن لا من هذا الخبر بل من أخبار أخر كان الأولى بالمرتضى أن يحتج بها على

[16 : 254 ]

ما يرويه في انصرافها ساخطة و موتها على ذلك السخط و أما هذا الخبر و هذا الكلام فلا يدل على هذا المطلوب. قال المرتضى رحمه

الله فأما قوله إنه يجوز أن يبين ع أنه لا حق لميراثه في ورثته لغير الورثة و لا يمتنع أن يرد من جهة الآحاد لأنه من باب العمل و

كل هذا بناء منه على أصوله الفاسدة في أن خبر الواحد حجة في الشرع و أن العمل به واجب و دون صحة ذلك خرط القتاد و إنما

يجوز أن يبين من جهة أخرى إذا تساويا في الحجة و وقوع العمل فأما مع تباينهما فلا يجوز التخيير فيهما و إذا كان ورثة النبي ص

متعبدين بألا يرثوه فلا بد من إزاحة علتهم في هذه العبادة بأن يوقفهم على الحكم و يشافههم به و يلقيه إلى من يقيم الحجة عليهم

بنقله و كل ذلك لم يكن. فأما قوله أ تجوزون صدقه في الرواية أم لا تجوزون ذلك فالجواب إنا لا نجوزه لأن كتاب الله أصدق منه و

هو يدفع روايته و يبطلها فأما اعتراضه على قولنا إن إطلاق الميراث لا يكون إلا في الأموال بقوله تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ

اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا و قولهم ما ورثت الأبناء من الآباء شيئا أفضل من أدب حسن و قولهم العلماء ورثة الأنبياء فعجيب لأن كل ما

ذكر مقيد غير مطلق و إنما قلنا إن مطلق لفظ الميراث من غير قرينة و لا تقييد يفيد بظاهره ميراث الأموال فبعد ما ذكره و عارض به لا

يخفى على متأمل. فأما استدلاله على أن سليمان ورث داود علمه دون ماله بقوله يا أَيُّهَا النّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ

شَيْء إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ و أن المراد أنه

[16 : 255 ]

ورث العلم و الفضل و إلا لم يكن لهذا القول تعلق بالأول فليس بشيء يعول عليه لأنه لا يمتنع أن يريد به أنه ورث المال بالظاهر و

العلم بهذا المعنى من الاستدلال فليس يجب إذا دلت الدلالة في بعض الألفاظ على معنى المجاز أن يقتصر بها عليه بل يجب أن

يحملها على الحقيقة التي هي الأصل إذا لم يمنع من ذلك مانع على أنه لا يمتنع أن يريد ميراث المال خاصة ثم يقول مع ذلك إنا

عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ و يشير الْفَضْلُ الْمُبِينُ إلى العلم و المال جميعا فله بالأمرين جميعا فضل على من لم يكن عليهما و قوله وَ أُوتِينا

مِنْ كُلِّ شَيْء يحتمل المال كما يحتمل العلم فليس بخالص ما ظنه. فأما قوله في قصة زكريا إنه خاف على العلم أن يندرس لأن

الأنبياء و إن كانوا لا يحرصون على الأموال و إنما خاف أن يضيع العلم فسأل الله تعالى وليا يقوم بالدين مقامه فقد بينا أن

الأنبياء و إن كانوا لا يحرصون على الأموال و لا يبخلون بها فإنهم يجتهدون في منع المفسدين من الانتفاع بها على الفساد و لا يعد

ذلك بخلا و لا حرصا بل فضلا و دينا و ليس يجوز من زكريا أن يخاف على العلم الاندراس و الضياع لأنه يعلم أن حكمة الله تعالى

تقتضي حفظ العلم الذي هو الحجة على العباد و به تنزاح عللهم في مصالحهم فكيف يخاف ما لا يخاف من مثله. فإن قيل فهبوا أن

الأمر كما ذكرتم من أن زكريا كان يأمن على العلم أن يندرس أ ليس لا بد أن يكون مجوزا أن يحفظه الله تعالى بمن هو من أهله و

أقاربه كما يجوز حفظه بغريب أجنبي فما أنكرتم أن يكون خوفه إنما كان من بني عمه ألا يتعلموا العلم و لا يقوموا فيه مقامه فسأل

الله ولدا يجمع فيه هذه العلوم حتى لا يخرج العلم عن بيته و يتعدى إلى غير قومه فيلحقه بذلك وصمة.

[16 : 256 ]

قلنا أما إذا رتب السؤال هذا الترتيب فالجواب عنه ما أجبنا به صاحب الكتاب و هو أن الخوف الذي أشاروا إليه ليس من ضرر ديني و

إنما هو من ضرر دنياوي و الأنبياء إنما بعثوا لتحمل المضار الدنياوية و منازلهم في الثواب إنما زادت على كل المنازل لهذا الوجه و

من كانت حاله هذه الحال فالظاهر من خوفه إذا لم يعلم وجهه بعينه أن يكون محمولا على مضار الدين لأنها هي جهة خوفهم و الغرض

في بعثهم تحمل ما سواها من المضار فإذا قال النبي ص أنا خائف فلم يعلم جهة خوفه على التفصيل يجب أن يصرف خوفه بالظاهر

إلى مضار الدين دون الدنيا لأن أحوالهم و بعثهم يقتضي ذلك فإذا كنا لو اعتدنا من بعضنا الزهد في الدنيا و أسبابها و التعفف عن

منافعها و الرغبة في الآخرة و التفرد بالعمل لها لكنا نحمل على ما يظهر لنا من خوفه الذي لا يعلم وجهه بعينه على ما هو أشبه و أليق

بحاله و نضيفه إلى الآخرة دون الدنيا و إذا كان هذا واجبا فيمن ذكرناه فهو في الأنبياء ع أوجب. قلت ينبغي ألا يقول المعترض

فيلحقه بذلك وصمة فيجعل الخوف من هذه الوصمة بل يقول إنه خاف ألا يفلح بنو عمه و لا يتعلموا العلم لما رأى من الأمارات

الدالة على ذلك فالخوف على هذا الترتيب يتعلق بأمر ديني لا دنيوي فسأل الله تعالى أن يرزقه ولدا يرث عنه علمه أي يكون عالما

بالدينيات كما أنا عالم بها و هذا السؤال متعلق بأمر ديني لا دنيوي و على هذا يندفع ما ذكره المرتضى على أنه لا يجوز إطلاق القول

بأن الأنبياء بعثوا لتحمل المضار الدنياوية و لا القول الغرض في بعثتهم تحمل ما سوى المضار الدينية من المضار فإنهم ما بعثوا

لذلك و لا الغرض في بعثتهم ذلك و إنما بعثوا لأمر آخر و قد تحصل المضار في أداء الشرع ضمنا و تبعا لا على أنها الغرض و لا داخلة

[16 : 257 ]

في الغرض و على أن قول المرتضى لا يجوز أن يخاف زكريا من تبديل الدين و تغييره لأنه محفوظ من الله فكيف يخاف ما لا يخاف من

مثله غير مستمر على أصوله لأن المكلفين الآن قد حرموا بغيبة الإمام عنده ألطافا كثيرة الوصلة بالشرعيات كالحدود و صلاة الجمعة

و الأعياد و هو و أصحابه يقولون في ذلك أن اللوم على المكلفين لأنهم قد حرموا أنفسهم اللطف فهلا جاز أن يخاف زكريا من تبديل

الدين و تغييره و إفساد الأحكام الشرعية لأنه إنما يجب على الله تعالى التبليغ بالرسول إلى المكلفين فإذا أفسدوا هم الأديان و

بدلوها لم يجب عليه أن يحفظها عليهم لأنهم هم الذين حرموا أنفسهم اللطف. و اعلم أنه قد قرئ وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي و

قيل إنها قراءة زين العابدين و ابنه محمد بن علي الباقر ع و عثمان بن عفان و فسروه على وجهين أحدهما أن يكون ورائي بمعنى

خلفي و بعدي أي قلت الموالي و عجزوا عن إقامة الدين تقول قد خف بنو فلان أي قل عددهم فسأل زكريا ربه تقويتهم و مظاهرتهم

بولي يرزقه. و ثانيهما أن يكون ورائي بمعنى قدامي أي خف الموالي و أنا حي و درجوا و انقرضوا و لم يبق منهم من به اعتضاد و على

هذه القراءة لا يبقى متعلق بلفظة الخوف. و قد فسر قوم قوله وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ أي خفت الذين يلون الأمر من بعدي لأن الموالي

يستعمل في الوالي و جمعه موال أي خفت أن يلي بعد موتي أمراء و رؤساء يفسدون شيئا من الدين فارزقني ولدا تنعم عليه بالنبوة و

العلم كما أنعمت

[16 : 258 ]

علي و اجعل الدين محفوظا به و هذا التأويل غير منكر و فيه أيضا دفع لكلام المرتضى. قال المرتضى و أما تعلق صاحب الكتاب في أن

الميراث محمول على العلم بقوله وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ لأنه لا يرث أموال آل يعقوب في الحقيقة و إنما يرث ذلك غيره فبعيد من

الصواب لأن ولد زكريا يرث بالقرابة من آل يعقوب أموالهم على أنه لم يقل يرث آل يعقوب بل قال يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ تنبيها بذلك

على أنه يرث من كان أحق بميراثه في القرابة. فأما طعنه على من تأول الخبر بأنه ع لا يورث ما تركه للصدقة بقوله إن أحدا من

الصحابة لم يتأوله على هذا الوجه فهذا التأويل الذي ذكرناه أحد ما قاله أصحابنا في هذا الخبر فمن أين له إجماع الصحابة على

خلافه و إن أحدا لم يتأوله على هذا الوجه. فإن قال لو كان ذلك لظهر و اشتهر و لوقف أبو بكر عليه فقد مضى من الكلام فيما يمنع

من الموافقة على هذا المعنى ما فيه كفاية. قلت لم يكن ذلك اليوم أعني يوم حضور فاطمة ع و قولها لأبي بكر ما قالت يوم تقية و

خوف و كيف يكون يوم تقية و هي تقول له و هو الخليفة يا ابن أبي قحافة أ ترث أباك و لا أرث أبي و تقول له أيضا لقد جئت شيئا

فريا فكان ينبغي إذا لم يؤثر أمير المؤمنين ع أن يفسر لأبي بكر معنى الخبر أن يعلم فاطمة ع

[16 : 259 ]

تفسيره فتقول لأبي بكر أنت غالط فيما ظننت إنما قال أبي ما تركناه صدقة فإنه لا يورث. و اعلم أن هذا التأويل كاد يكون مدفوعا

بالضرورة لأن من نظر في الأحاديث التي ذكرناها و ما جرت عليه الحال يعلم بطلانه علما قطعيا. قال المرتضى و قوله إنه لا يكون إذ

ذلك تخصيص للأنبياء و لا مزية ليس بصحيح و قد قيل في الجواب عن هذا إن النبي ص يجوز أن يريد أن ما ننوي فيه الصدقة و

نفرده لها من غير أن نخرجه عن أيدينا لا تناله ورثتنا و هذا تخصيص للأنبياء و مزية ظاهرة. قلت هذه مخالفة لظاهر الكلام و إحالة

اللفظ عن وضعه و بين قوله ما ننوي فيه الصدقة و هو بعد في ملكنا ليس بموروث و قوله ما نخلفه صدقة ليس بموروث فرق عظيم فلا

يجوز أن يراد أحد المعنيين باللفظ المفيد للمعنى الآخر لأنه إلباس و تعمية و أيضا فإن العلماء ذكروا خصائص الرسول في الشرعيات

عن أمته و عددوها نحو حل الزيادة في النكاح على أربع و نحو النكاح بلفظ الهبة على قول فرقة من المسلمين و نحو تحريم أكل

البصل و الثوم عليه و إباحة شرب دمه و غير ذلك و لم يذكروا في خصائصه أنه إذا كان قد نوى أن يتصدق بشيء فإنه لا يناله ورثته

لو قدرنا أنه يورث الأموال و لا الشيعة قبل المرتضى ذكرت ذلك و لا رأينا في كتاب من كتبهم و هو مسبوق بإجماع طائفته عليه و

إجماعهم عندهم حجة. قال المرتضى فأما قوله إن قوله ع ما تركناه صدقة جملة من الكلام

[16 : 260 ]

مستقلة بنفسها فصحيح إذا كانت لفظة ما مرفوعة على الابتداء و لم تكن منصوبة بوقوع الفعل عليها و كانت لفظة صدقة أيضا

مرفوعة غير منصوبة و في هذا وقع النزاع فكيف يدعى أنها جملة مستقلة بنفسها و أقوى ما يمكن أن نذكره أن نقول الرواية جاءت

بلفظ صدقة بالرفع و على ما تأولتموه لا تكون إلا منصوبة و الجواب عن ذلك إنا لا نسلم الرواية بالرفع و لم تجر عادة الرواة بضبط

ما جرى هذا المجرى من الإعراب و الاشتباه يقع في مثله فمن حقق منهم و صرح بالرواية بالرفع يجوز أن يكون اشتبه عليه فظنها

مرفوعة و هي منصوبة قلت و هذا أيضا خلاف الظاهر و فتح الباب فيه يؤدي إلى إفساد الاحتجاج بكثير من الأخبار. قال و أما حكايته

عن أبي علي أن أبا بكر لم يدفع إلى أمير المؤمنين ع السيف و البغلة و العمامة على جهة الإرث و قوله كيف يجوز ذلك مع الخبر

الذي رواه و كيف خصصه بذلك دون العم الذي هو العصبة فما نراه زاد على التعجب و مما عجب منه عجبنا و لم يثبت عصمة أبي بكر

فينتفي عن أفعاله التناقض. قلت لا يشك أحد في أن أبا بكر كان عاقلا و إن شك قوم في ذلك فالعاقل في يوم واحد لا يدفع فاطمة ع

عن الإرث و يقول إن أباك قال لي إنني لا أورث ثم يورث في ذلك اليوم شخصا آخر من مال ذلك المتوفى الذي حكى عنه أنه لا يورث

و ليس انتفاء هذا التناقض عن أفعاله موقوفا على العصمة بل على العقل.

[16 : 261 ]

قال المرتضى و قوله يجوز أن يكون النبي ص نحله إياه و تركه أبو بكر في يده لما في ذلك من تقوية الدين و تصدق ببدله و كل ما

ذكره جائز إلا أنه قد كان يجب أن يظهر أسباب النحلة و الشهادة بها و الحجة عليها و لم يظهر من ذلك شيء فنعرفه و من العجائب أن

تدعي فاطمة فدك نحلة و تستشهد على قولها أمير المؤمنين ع و غيره فلا يصغى إلى قولها و يترك السيف و البغلة و العمامة في يد

أمير المؤمنين على سبيل النحلة بغير بينة ظهرت و لا شهادة قامت. قلت لعل أبا بكر سمع الرسول ص و هو ينحل ذلك عليا ع فلذلك

لم يحتج إلى البينة و الشهادة فقد روى أنه أعطاه خاتمه و سيفه في مرضه و أبو بكر حاضر و أما البغلة فقد كان نحله إياها في حجة

الوداع على ما وردت به الرواية و أما العمامة فسلب الميت و كذلك القميص و الحجزة و الحذاء فالعادة أن يأخذ ذلك ولد الميت و لا

ينازع فيه لأنه خارج أو كالخارج عن التركة فلما غسل ع أخذت ابنته ثيابه التي مات فيها و هذه عادة الناس على أنا قد ذكرنا في

الفصل الأول كيف دفع إليه آلة النبي ص و حذاءه و دابته و الظاهر أنه فعل ذلك اجتهادا لمصلحة رآها و للإمام أن يفعل ذلك. قال

المرتضى على أنه كان يجب على أبي بكر أن يبين ذلك و يذكر وجهه بعينه لما نازع العباس فيه فلا وقت لذكر الوجه في ذلك أولى من

هذا الوقت. قلت لم ينازع العباس في أيام أبي بكر لا في البغلة و العمامة و نحوها و لا في غير

[16 : 262 ]

ذلك و إنما نازع عليا في أيام عمر و قد ذكرنا كيفية المنازعة و فيما ذا كانت. قال المرتضى رضي الله عنه في البردة و القضيب إن كان

نحلة أو على الوجه الآخر يجري مجرى ما ذكرناه في وجوب الظهور و الاستشهاد و لسنا نرى أصحابنا يعني المعتزلة يطالبون

أنفسهم في هذه المواضع بما يطالبوننا بمثله إذا ادعينا وجوها و أسبابا و عللا مجوزة لأنهم لا يقنعون منا بما يجوز و يمكن بل

يوجبون فيما ندعيه الظهور و الاستشهاد و إذا كان هذا عليهم نسوه أو تناسوه. قلت أما القضيب فهو السيف الذي نحله رسول الله

ص عليا ع في مرضه و ليس بذي الفقار بل هو سيف آخر و أما البردة فإنه وهبها كعب بن زهير ثم صار هذا السيف و هذه البردة إلى

الخلفاء بعد تنقلات كثيرة مذكورة في كتب التواريخ. قال المرتضى فأما قوله فإن أزواج النبي ص إنما طلبن الميراث لأنهن لم يعرفن

رواية أبي بكر للخبر و كذلك إنما نازع علي ع بعد موت فاطمة ع في الميراث لهذا الوجه فمن أقبح ما يقال في هذا الباب و أبعده عن

الصواب و كيف لا يعرف أمير المؤمنين ع رواية أبي بكر و بها دفعت زوجته عن الميراث و هل مثل ذلك المقام الذي قامته و ما رواه

أبو بكر في دفعها يخفى على من هو في أقاصي البلاد فضلا عمن هو في المدينة حاضر شاهد يراعي الأخبار و يعني بها إن هذا لخروج في

المكابرة عن الحد و كيف يخفى على الأزواج ذلك حتى يطلبنه مرة بعد أخرى و يكون عثمان الرسول لهن و المطالب عنهن و عثمان

على زعمهم أحد من شهد

[16 : 263 ]

أن النبي ص لا يورث و قد سمعن على كل حال أن بنت النبي ص لم تورث ماله و لا بد أن يكن قد سألن عن السبب في دفعها فذكر لهن

الخبر فكيف يقال إنهن لم يعرفنه. قلت الصحيح أن أمير المؤمنين ع لم ينازع بعد موت فاطمة في الميراث و إنما نازع في الولاية

لفدك و غيرها من صدقات رسول الله ص و جرى بينه و بين العباس في ذلك ما هو مشهور و أما أزواج النبي ص فما ثبت أنهن نازعن في

ميراثه و لا أن عثمان كان المرسل لهن و المطالب عنهن إلا في رواية شاذة و الأزواج لما عرفن أن فاطمة ع قد دفعت عن الميراث

أمسكن و لم يكن قد نازعن و إنما اكتفين بغيرهن و حديث فدك و حضور فاطمة عند أبي بكر كان بعد عشرة أيام من وفاة رسول الله ص

و الصحيح أنه لم ينطق أحد بعد ذلك من الناس من ذكر أو أنثى بعد عود فاطمة ع من ذلك المجلس بكلمة واحدة في الميراث. قال

المرتضى فإن قيل فإذا كان أبو بكر قد حكم بالخطإ في دفع فاطمة ع عن الميراث و احتج بخبر لا حجة فيه فما بال الأمة أقرته على

هذا الحكم و لم تنكر عليه و في رضاها و إمساكها دليل على صوابه. قلت قد مضى أن ترك النكير لا يكون دليل الرضا إلا في هذا

الموضع الذي لا يكون له وجه سوى الرضا و ذكرنا في ذلك قولا شافيا و قد أجاب أبو عثمان الجاحظ في كتاب العباسية عن هذا

السؤال جوابا حسن المعنى و اللفظ نحن

[16 : 264 ]

نذكره على وجهه ليقابل بينه و بين كلامه في العثمانية و غيرها. قلت ما كناه المرتضى رحمه الله في غير هذا الموضع أصلا بل كان

ساخطا عليه و كناه في هذا الموضع و استجاد قوله لأنه موافق غرضه فسبحان الله ما أشد حب الناس لعقائدهم. قال قال أبو عثمان و

قد زعم أناس أن الدليل على صدق خبرهما يعني أبا بكر و عمر في منع الميراث و براءة ساحتهما ترك أصحاب رسول الله ص النكير

عليهما ثم قال قد يقال لهم لئن كان ترك النكير دليلا على صدقهما ليكونن ترك النكير على المتظلمين و المحتجين عليهما و

المطالبين لهما دليلا على صدق دعواهم أو استحسان مقالتهم و لا سيما و قد طالت المناجاة و كثرت المراجعة و الملاحاة و ظهرت

الشكية و اشتدت الموجدة و قد بلغ ذلك من فاطمة ع حتى إنها أوصت ألا يصلي عليها أبو بكر و لقد كانت قالت له حين أتته طالبة

بحقها و محتجة لرهطها من يرثك يا أبا بكر إذا مت قال أهلي و ولدي قالت فما بالنا لا نرث النبي ص فلما منعها ميراثها و بخسها حقها

و اعتل عليها و جلح في أمرها و عاينت التهضم و أيست من التورع و وجدت نشوة الضعف و قلة الناصر قالت و الله لأدعون الله عليك

قال و الله لأدعون الله لك قالت و الله لا أكلمك أبدا قال و الله لا أهجرك أبدا فإن يكن ترك النكير على أبي بكر دليلا على صواب

منعها إن في ترك النكير على فاطمة ع دليلا على صواب طلبها و أدنى ما كان يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت و تذكيرها ما نسيت

و صرفها عن الخطإ و رفع قدرها عن البذاء و أن تقول هجرا أو تجور عادلا أو تقطع واصلا فإذا لم تجدهم أنكروا على الخصمين جميعا

فقد تكافأت

[16 : 265 ]

الأمور و استوت الأسباب و الرجوع إلى أصل حكم الله من المواريث أولى بنا و بكم و أوجب علينا و عليكم. قال فإن قالوا كيف

تظن به ظلمها و التعدي عليها و كلما ازدادت عليه غلظة ازداد لها لينا و رقة حيث تقول له و الله لا أكلمك أبدا فيقول و الله لا أهجرك

أبدا ثم تقول و الله لأدعون الله عليك فيقول و الله لأدعون الله لك ثم يحتمل منها هذا الكلام الغليظ و القول الشديد في دار

الخلافة و بحضرة قريش و الصحابة مع حاجة الخلافة إلى البهاء و التنزيه و ما يجب لها من الرفعة و الهيبة ثم لم يمنعه ذلك أن قال

معتذرا متقربا كلام المعظم لحقها المكبر لمقامها و الصائن لوجهها المتحنن عليها ما أحد أعز علي منك فقرا و لا أحب إلي منك غنى و

لكني سمعت رسول الله ص يقول إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة قيل لهم ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم و

السلامة من الجور و قد يبلغ من مكر الظالم و دهاء الماكر إذا كان أريبا و للخصومة معتادا أن يظهر كلام المظلوم و ذلة المنتصف و

حدب الوامق و مقة المحق و كيف جعلتم ترك النكير حجة قاطعة و دلالة واضحة و قد زعمتم أن عمر قال على منبره متعتان كانتا على

عهد رسول الله ص متعة النساء و متعة الحج أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما فما وجدتم أحدا أنكر قوله و لا استشنع مخرج نهيه و لا

خطأه في معناه و لا تعجب منه و لا استفهمه و كيف تقضون بترك النكير و قد شهد عمر يوم السقيفة و بعد ذلك

أن النبي ص قال الأئمة من قريش

ثم قال في شكاته لو كان سالم حيا ما تخالجني فيه شك حين أظهر الشك في استحقاق كل واحد من الستة الذين

[16 : 266 ]

جعلهم شورى و سالم عبد لامرأة من الأنصار و هي أعتقته و حازت ميراثه ثم لم ينكر ذلك من قوله منكر و لا قابل إنسان بين قوله و لا

تعجب منه و إنما يكون ترك النكير على من لا رغبة و لا رهبة عنده دليلا على صدق قوله و صواب عمله فأما ترك النكير على من يملك

الضعة و الرفعة و الأمر و النهي و القتل و الاستحياء و الحبس و الإطلاق فليس بحجة تشفي و لا دلالة تضيء. قال و قال آخرون بل

الدليل على صدق قولهما و صواب عملهما إمساك الصحابة عن خلعهما و الخروج عليهما و هم الذين وثبوا على عثمان في أيسر من

جحد التنزيل و رد النصوص و لو كان كما تقولون و ما تصفون ما كان سبيل الأمة فيهما إلا كسبيلهم فيه و عثمان كان أعز نفرا و

أشرف رهطا و أكثر عددا و ثروة و أقوى عدة. قلنا إنهما لم يجحدا التنزيل و لم ينكرا النصوص و لكنهما بعد إقرارهما بحكم الميراث

و ما عليه الظاهر من الشريعة ادعيا رواية و تحدثا بحديث لم يكن محالا كونه و لا ممتنعا في حجج العقول مجيئه و شهد لهما عليه من

علته مثل علتهما فيه و لعل بعضهم كان يرى تصديق الرجل إذا كان عدلا في رهطه مأمونا في ظاهره و لم يكن قبل ذلك عرفه بفجرة و

لا جرت عليه غدرة فيكون تصديقه له على جهة حسن الظن و تعديل الشاهد و لأنه لم يكن كثير منهم يعرف حقائق الحجج و الذي

يقطع بشهادته على الغيب و كان ذلك شبهة على أكثرهم فلذلك قل النكير و تواكل الناس فاشتبه الأمر فصار لا يتخلص إلى معرفة حق

ذلك من باطله إلا العالم المتقدم أو المؤيد المرشد و لأنه لم يكن لعثمان في صدور العوام و قلوب السفلة و الطغام ما كان لهما من

المحبة و الهيبة و لأنهما كانا أقل استئثارا بالفيء و تفضلا بمال الله منه و من شأن الناس إهمال السلطان ما وفر عليهم أموالهم و لم

يستأثر بخراجهم و لم يعطل ثغورهم و لأن الذي صنع أبو بكر

[16 : 267 ]

من منع العترة حقها و العمومة ميراثها قد كان موافقا لجلة قريش و كبراء العرب و لأن عثمان أيضا كان مضعوفا في نفسه مستخفا

بقدره لا يمنع ضيما و لا يقمع عدوا و لقد وثب ناس على عثمان بالشتم و القذف و التشنيع و النكير لأمور لو أتى أضعافها و بلغ

أقصاها لما اجترءوا على اغتيابه فضلا على مبادأته و الإغراء به و مواجهته كما أغلظ عيينة بن حصن له فقال له أما إنه لو كان عمر

لقمعك و منعك فقال عيينة إن عمر كان خيرا لي منك أرهبني فاتقاني. ثم قال و العجب أنا وجدنا جميع من خالفنا في الميراث على

اختلافهم في التشبيه و القدر و الوعيد يرد كل صنف منهم من أحاديث مخالفيه و خصومه ما هو أقرب إسنادا و أصح رجالا و أحسن

اتصالا حتى إذا صاروا إلى القول في ميراث النبي ص نسخوا الكتاب و خصوا الخبر العام بما لا يداني بعض ما ردوه و أكذبوا قائليه و

ذلك أن كل إنسان منهم إنما يجري إلى هواه و يصدق ما وافق رضاه. هذا آخر كلام الجاحظ ثم قال المرتضى رضي الله عنه فإن قيل

ليس ما عارض به الجاحظ من الاستدلال بترك النكير و قوله كما لم ينكروا على أبي بكر فلم ينكروا أيضا على فاطمة ع و لا على غيرها

من الطالبين بالإرث كالأزواج و غيرهن معارضة صحيحة و ذلك أن نكير أبي بكر لذلك و دفعها و الاحتجاج عليها و يكفيهم و يغنيهم

عن تكلف نكير آخر و لم ينكر على أبي بكر ما رواه منكر فيستغنوا بإنكاره. قلنا أول ما يبطل هذا السؤال أن أبا بكر لم ينكر عليها ما

أقامت عليه بعد

[16 : 268 ]

احتجاجها من التظلم و التألم و التعنيف و التبكيت و قولها على ما روي و الله لأدعون الله عليك و لا أكلمك أبدا و ما جرى هذا

المجرى فقد كان يجب أن ينكره غيره و من المنكر الغضب على المنصف و بعد فإن كان إنكار أبي بكر مقنعا و مغنيا عن إنكار غيره من

المسلمين فإنكار فاطمة حكمه و مقامها على التظلم منه مغن عن نكير غيرها و هذا واضح

الفصل الثالث في أن فدك هل صح كونها نحلة رسول الله ص لفاطمة ع أم لا

نذكر في هذا الفصل ما حكاه المرتضى عن قاضي القضاة في المغني و ما اعترض به عليه ثم نذكر ما عندنا في ذلك. قال المرتضى حاكيا

عن قاضي القضاة و مما عظمت الشيعة القول في أمر فدك قالوا و قد روى أبو سعيد الخدري أنه لما أنزلت وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ أعطى

رسول الله ص فاطمة ع فدك ثم فعل عمر بن عبد العزيز مثل ذلك فردها على ولدها قالوا و لا شك أن أبا بكر أغضبها إن لم يصح كل

الذي روي في هذا الباب و قد كان الأجمل أن يمنعهم التكرم مما ارتكبوا منها فضلا عن الدين ثم ذكروا أنها استشهدت أمير المؤمنين

ع و أم أيمن فلم يقبل شهادتهما هذا مع تركه أزواج النبي ص في حجرهن و لم يجعلها صدقة و صدقهن في ذلك أن ذلك لهن و لم

يصدقها.

[16 : 269 ]

قال و الجواب عن ذلك أن أكثر ما يروون في هذا الباب غير صحيح و لسنا ننكر صحة ما روي من ادعائها فدك فأما أنها كانت في يدها

فغير مسلم بل إن كانت في يدها لكان الظاهر أنها لها فإذا كانت في جملة التركة فالظاهر أنها ميراث و إذا كان كذلك فغير جائز لأبي

بكر قبول دعواها لأنه لا خلاف في أن العمل على الدعوى لا يجوز و إنما يعمل على مثل ذلك إذا علمت صحته بمشاهدة أو ما جرى

مجراها أو حصلت بينة أو إقرار ثم إن البينة لا بد منها و إن أمير المؤمنين ع لما خاصمه اليهودي حاكمه و أن أم سلمة التي يطبق على

فضلها لو ادعت نحلا ما قبلت دعواها. ثم قال و لو كان أمير المؤمنين ع هو الوالي و لم يعلم صحة هذه الدعوى ما الذي كان يجب أن

يعمل فإن قلتم يقبل الدعوى فالشرع بخلاف ذلك و إن قلتم يلتمس البينة فهو الذي فعله أبو بكر. ثم قال و أما قول أبي بكر رجل

مع الرجل و امرأة مع المرأة فهو الذي يوجبه الدين و لم يثبت أن الشاهد في ذلك كان أمير المؤمنين ع بل الرواية المنقولة أنه

شهد لها مولى لرسول الله ص مع أم أيمن. قال و ليس لأحد أن يقول فلما ذا ادعت و لا بينة معها لأنه لا يمتنع أن تجوز أن يحكم أبو

بكر بالشاهد و اليمين أو تجوز عند شهادة من شهد لها أن تذكر غيره فيشهد لا و هذا هو الموجب على ملتمس الحق و لا عيب عليها في

ذلك و لا على أبي بكر في التماس البينة و إن لم يحكم لها لما لم يتم و لم يكن لها خصم لأن التركة صدقة على ما ذكرنا و كان لا

يمكن أن يعول في ذلك على يمين أو نكول و لم يكن في الأمر إلا ما فعله قال و قد أنكر أبو علي ما قاله السائل من أنها لما ردت في

دعوى النحلة ادعته إرثا و قال بل كان طلبت الإرث قبل ذلك فلما سمعت منه الخبر كفت و ادعت النحلة.

[16 : 270 ]

قال فأما فعل عمر بن عبد العزيز فلم يثبت أنه رده على سبيل النحلة بل عمل في ذلك ما عمله عمر بن الخطاب بأن أقره في يد أمير

المؤمنين ع ليصرف غلاتها في المواضع التي كان يجعلها رسول الله ص فيه فقام بذلك مدة ثم ردها إلى عمر في آخر سنته و كذلك

فعل عمر بن عبد العزيز و لو ثبت أنه فعل بخلاف ما فعل السلف لكان هو المحجوج بفعلهم و قولهم و أحد ما يقوي ما ذكرناه أن

الأمر لما انتهى إلى أمير المؤمنين ع ترك فدك على ما كان و لم يجعله ميراثا لولد فاطمة و هذا يبين أن الشاهد كان غيره لأنه لو كان

هو الشاهد لكان الأقرب أن يحكم بعلمه على أن الناس اختلفوا في الهبة إذا لم تقبض فعند بعضهم تستحق بالعقد و عند بعضهم أنها

إذا لم تقبض يصير وجودها كعدمها فلا يمتنع من هذا الوجه أن يمتنع أمير المؤمنين ع من ردها و إن صح عنده عقد الهبة و هذا هو

الظاهر لأن التسليم لو كان وقع لظهر أنه كان في يدها و لكان ذلك كافيا في الاستحقاق فأما حجر أزواج النبي ص فإنما تركت في

أيديهن لأنها كانت لهن و نص الكتاب يشهد بذلك و قوله وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ و روي في الأخبار أن النبي ص قسم ما كان له من

الحجر على نسائه و بناته و يبين صحة ذلك أنه لو كان ميراثا أو صدقة لكان أمير المؤمنين ع لما أفضى الأمر إليه يغيره. قال و ليس

لأحد أن يقول إنما لم يغير ذلك لأن الملك قد صار له فتبرع به و ذلك أن الذي يحصل له ليس إلا ربع ميراث فاطمة ع و هو الثمن من

ميراث رسول الله ص فقد كان يجب أن ينتصف لأولاد العباس و أولاد فاطمة منهن في باب الحجر و يأخذ هذا الحق منهن فتركه ذلك

يدل على صحة ما قلناه و ليس يمكنهم بعد ذلك إلا التعلق بالتقية و قد سبق الكلام فيها.

[16 : 271 ]

قال و مما يذكرونه أن فاطمة ع لغضبها على أبي بكر و عمر أوصت ألا يصليا عليها و أن تدفن سرا منهما فدفنت ليلا و هذا كما ادعوا

رواية رووها عن جعفر بن محمد ع و غيره أن عمر ضرب فاطمة ع بالسوط و ضرب الزبير بالسيف و أن عمر قصد منزلها و فيه علي ع و

الزبير و المقداد و جماعة ممن تخلف عن أبي بكر و هم مجتمعون هناك فقال لها ما أحد بعد أبيك أحب إلينا منك و ايم الله لئن اجتمع

هؤلاء النفر عندك لنحرقن عليهم فمنعت القوم من الاجتماع. قال و نحن لا نصدق هذه الروايات و لا نجوزها و أما أمر الصلاة فقد روي

أن أبا بكر هو الذي صلى على فاطمة ع و كبر عليها أربعا و هذا أحد ما استدل به كثير من الفقهاء في التكبير على الميت و لا يصح أيضا

أنها دفنت ليلا و إن صح ذلك فقد دفن رسول الله ص ليلا و دفن عمر ابنه ليلا و قد كان أصحاب رسول الله ص يدفنون بالنهار و

يدفنون بالليل فما في هذا مما يطعن به بل الأقرب في النساء أن دفنهن ليلا أستر و أولى بالسنة. ثم حكى عن أبي علي تكذيب ما روي

من الضرب بالسوط قال و المروي عن جعفر بن محمد ع أنه كان يتولاهما و يأتي القبر فيسلم عليهما مع تسليمه على رسول الله ص

روى ذلك عباد بن صهيب و شعبة بن الحجاج و مهدي بن هلال و الدراوردي و غيرهم و قد روى عن أبيه محمد بن علي ع و عن علي بن

الحسين مثل ذلك فكيف يصح ما ادعوه و هل هذه الرواية إلا كروايتهم على أن علي بن أبي طالب ع هو إسرافيل و الحسن ميكائيل و

الحسين جبرائيل و فاطمة ملك الموت و آمنة أم النبي ص ليلة القدر فإن صدقوا ذلك أيضا قيل لهم فعمر بن الخطاب كيف يقدر على

ضرب ملك الموت و إن قالوا لا نصدق ذلك فقد جوزوا رد هذه الروايات و صح أنه لا يجوز التعويل على هذا الخبر

[16 : 272 ]

و إنما يتعلق بذلك من غرضه الإلحاد كالوراق و ابن الراوندي لأن غرضهم القدح في الإسلام. و حكى عن أبي علي أنه قال و لم صار

غضبها إن ثبت كأنه غضب رسول الله ص من حيث

قال فمن أغضبها فقد أغضبني

أولى من أن يقال فمن أغضب أبا بكر و عمر فقد نافق و فارق الدين لأنه روي عنه ع

قال حب أبي بكر و عمر إيمان و بغضهما نفاق

و من يورد مثل هذا فقصده الطعن في الإسلام و أن يتوهم الناس أن أصحاب النبي ص نافقوا مع مشاهدة الأعلام ليضعفوا دلالة العلم

في النفوس. قال و أما حديث الإحراق فلو صح لم يكن طعنا على عمر لأن له أن يهدد من امتنع من المبايعة إرادة للخلاف على

المسلمين لكنه غير ثابت انتهى كلام قاضي القضاة. قال المرتضى نحن نبتدئ فندل على أن فاطمة ع ما ادعت من نحل فدك إلا ما

كانت مصيبة فيه و إن مانعها و مطالبها بالبينة متعنت عادل عن الصواب لأنها لا تحتاج إلى شهادة و بينة ثم نعطف على ما ذكره على

التفصيل فنتكلم عليه. أما الذي يدل على ما ذكرناه فهو أنها كانت معصومة من الغلط مأمونا منها فعل القبيح و من هذه صفته لا يحتاج

فيما يدعيه إلى شهادة و بينة فإن قيل دللوا على الأمرين قلنا بيان الأول قوله تعالى إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ

وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً و الآية تتناول جماعة منهم فاطمة

[16 : 273 ]

ع بما تواترت الأخبار في ذلك و الإرادة هاهنا دلالة على وقوع الفعل للمراد و أيضا فيدل على ذلك

قوله ع فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني و من آذاني فقد آذى الله عز و جل

و هذا يدل على عصمتها لأنها لو كانت ممن تقارف الذنوب لم يكن من يؤذيها مؤذيا له على كل حال بل كان متى فعل المستحق من

ذمها أو إقامة الحد عليها إن كان الفعل يقتضيه سارا له و مطيعا على أنا لا نحتاج أن ننبه هذا الموضع على الدلالة على عصمتها بل

يكفي في هذا الموضع العلم بصدقها فيما ادعته و هذا لا خلاف فيه بين المسلمين لأن أحدا لا يشك أنها لم تدع ما ادعته كاذبة و ليس

بعد ألا تكون كاذبة إلا أن تكون صادقة و إنما اختلفوا في هل يجب مع العلم بصدقها تسلم ما ادعته بغير بينة أم لا يجب ذلك قال

الذي يدل على الفصل الثاني أن البينة إنما تراد ليغلب في الظن صدق المدعي أ لا ترى أن العدالة معتبرة في الشهادات لما كانت

مؤثرة في غلبة الظن لما ذكرناه و لهذا جاز أن يحكم الحاكم بعلمه من غير شهادة لأن علمه أقوى من الشهادة و لهذا كان الإقرار أقوى

من البينة من حيث كان أغلب في تأثير غلبة الظن و إذا قدم الإقرار على الشهادة لقوة الظن عنده فأولى أن يقدم العلم على الجميع و

إذا لم يحتج مع الإقرار إلى شهادة لسقوط حكم الضعيف مع القوي لا يحتاج أيضا مع العلم إلى ما يؤثر الظن من البينات و

الشهادات. و الذي يدل على صحة ما ذكرناه أيضا أنه لا خلاف بين أهل النقل في أن أعرابيا نازع النبي ص في ناقة فقال ع هذه لي و قد

خرجت إليك من ثمنها فقال الأعرابي من يشهد لك بذلك فقال خزيمة بن ثابت أنا أشهد بذلك فقال النبي ص من أين علمت و ما حضرت

ذلك قال لا و لكن علمت ذلك من حيث علمت أنك رسول الله فقال قد أجزت شهادتك و جعلتها شهادتين فسمي ذا الشهادتين.

[16 : 274 ]

و هذه القصة شبيهة لقصة فاطمة ع لأن خزيمة اكتفى في العلم بأن الناقة له ص و شهد بذلك من حيث علم لأنه رسول الله ص و لا

يقول إلا حقا و أمضى النبي ص ذلك له من حيث لم يحضر الابتياع و تسليم الثمن فقد كان يجب على من علم أن فاطمة ع لا تقول إلا

حقا ألا يستظهر عليها بطلب شهادة أو بينة هذا و قد روي أن أبا بكر لما شهد أمير المؤمنين ع كتب بتسليم فدك إليها فاعترض عمر

قضيته و خرق ما كتبه.

روى إبراهيم بن السعيد الثقفي عن إبراهيم بن ميمون قال حدثنا عيسى بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب ع عن أبيه عن جده

عن علي ع قال جاءت فاطمة ع إلى أبي بكر و قالت إن أبي أعطاني فدك و علي و أم أيمن يشهدان فقال ما كنت لتقولي على أبيك إلا

الحق قد أعطيتكها و دعا بصحيفة من أدم فكتب لها فيها فخرجت فلقيت عمر فقال من أين جئت يا فاطمة قالت جئت من عند أبي بكر

أخبرته أن رسول الله ص أعطاني فدك و أن عليا و أم أيمن يشهدان لي بذلك فأعطانيها و كتب لي بها فأخذ عمر منها الكتاب ثم رجع

إلى أبي بكر فقال أعطيت فاطمة فدك و كتبت بها لها قال نعم فقال إن عليا يجر إلى نفسه و أم أيمن امرأة و بصق في الكتاب فمحاه و

خرقه

و قد روي هذا المعنى من طرق مختلفة على وجوه مختلفة فمن أراد الوقوف عليها و استقصاءها أخذها من مواضعها. و ليس لهم أن

يقولوا إنها أخبار آحاد لأنها و إن كانت كذلك فأقل أحوالها أن توجب الظن و تمنع من القطع على خلاف معناها و ليس لهم أن

يقولوا كيف يسلم إليها

[16 : 275 ]

فدك و هو يروي عن الرسول أن ما خلفه صدقة و ذلك لأنه لا تنافي بين الأمرين لأنه إنما سلمها على ما وردت به الرواية على سبيل

النحل فلما وقعت المطالبة بالميراث روى الخبر في معنى الميراث فلا اختلاف بين الأمرين. فأما إنكار صاحب الكتاب لكون فدك في

يدها فما رأيناه اعتمد في إنكار ذلك على حجة بل قال لو كان ذلك في يدها لكان الظاهر أنها لها و الأمر على ما قال فمن أين أنه لم

يخرج عن يدها على وجه يقتضي الظاهر خلافه و قد روي من طرق مختلفة غير طريق أبي سعيد الذي ذكره صاحب الكتاب أنه لما نزل

قوله تعالى وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ دعا النبي ص فاطمة ع فأعطاها فدك و إذا كان ذلك مرويا فلا معنى لدفعه بغير حجة. و قوله لا خلاف

أن العمل على الدعوى لا يجوز صحيح و قد بينا أن قولها كان معلوما صحته و إنما قوله إنما يعمل على ذلك متى علم صحته بشهادة

أو ما يجري مجراها أو حصلت بينة أو إقرار فيقال له إما علمت بمشاهدة فلم يكن هناك و إما بينة فقد كانت على الحقيقة لأن شهادة

أمير المؤمنين ع من أكبر البينات و أعدلها و لكن على مذهبك أنه لم تكن هناك بينة فمن أين زعمت أنه لم يكن هناك علم و إن لم

يكن عن مشاهدة فقد أدخلت ذلك في جملة الأقسام. فإن قال لأن قولها بمجرده لا يكون جهة للعلم قيل له لم قلت ذلك أو ليس قد

دللنا على أنها معصومة و أن الخطأ مأمون عليها ثم لو لم يكن كذلك لكان قولها في تلك القضية معلوما صحته على كل حال لأنها لو

لم تكن مصيبة لكانت مبطلة عاصية فيما ادعته إذ الشبهة لا تدخل في مثله و قد أجمعت الأمة على أنها لم يظهر منها بعد

[16 : 276 ]

رسول الله ص معصية بلا شك و ارتياب بل أجمعوا على أنها لم تدع إلا الصحيح و إن اختلفوا فمن قائل يقول مانعها مخطئ و آخر

يقول هو أيضا مصيب لفقد البينة و إن علم صدقها. و أما قوله إنه لو حاكم غيره لطولب بالبينة فقد تقدم في هذا المعنى ما يكفي و

قصة خزيمة بن ثابت و قبول شهادته تبطل هذا الكلام. و أما قوله إن أمير المؤمنين ع حاكم يهوديا على الوجه الواجب في سائر

الناس فقد روي ذلك إلا أن أمير المؤمنين لم يفعل من ذلك ما كان يجب عليه أن يفعله و إنما تبرع به و استظهر بإقامة الحجة فيه و

قد أخطأ من طالبه ببينة كائنا من كان فأما اعتراضه بأم سلمة فلم يثبت من عصمتها ما ثبت من عصمة فاطمة ع فلذلك احتاجت في

دعواها إلى بينة فأما إنكاره و ادعاؤه أنه لم يثبت أن الشاهد في ذلك كان أمير المؤمنين فلم يزد في ذلك إلا مجرد الدعوى و الإنكار و

الأخبار مستفيضة بأنه ع شهد لها فدفع ذلك بالزيغ لا يغني شيئا و قوله إن الشاهد لها مولى لرسول الله ص هو المنكر الذي ليس

بمعروف. و أما قوله إنها جوزت أن يحكم أبو بكر بالشاهد و اليمين فطريف مع قوله فيما بعد إن التركة صدقة و لا خصم فيها فتدخل

اليمين في مثلها أ فترى أن فاطمة لم تكن تعلم من الشريعة هذا المقدار الذي نبه صاحب الكتاب عليه و لو لم تعلمه ما كان أمير

المؤمنين ع و هو أعلم الناس بالشريعة يوافقها عليه. و قوله إنها جوزت عند شهادة من شهد لها أن يتذكر غيرهم فيشهد باطل لأن

مثلها لا يتعرض للظنة و التهمة و يعرض قوله للرد و قد كان يجب أن تعلم من يشهد لها

[16 : 277 ]

ممن لا يشهد حتى تكون دعواها على الوجه الذي يجب معه القبول و الإمضاء و من هو دونها في الرتبة و الجلالة و الصيانة من أفناء

الناس لا يتعرض لمثل هذه الخطة و يتورطها للتجويز الذي لا أصل له و لا أمارة عليه. فأما إنكار أبي علي لأن يكون النحل قبل ادعاء

الميراث و عكسه الأمر فيه فأول ما فيه أنا لا نعرف له غرضا صحيحا في إنكار ذلك لأن كون أحد الأمرين قبل الآخر لا يصحح له

مذهبا فلا يفسد على مخالفه مذهبا. ثم إن الأمر في أن الكلام في النحل كان المتقدم ظاهرا و الروايات كلها به واردة و كيف يجوز أن

تبتدئ بطلب الميراث فيما تدعيه بعينه نحلا أ و ليس هذا يوجب أن تكون قد طالبت بحقها من وجه لا تستحقه منه مع الاختيار و

كيف يجوز ذلك و الميراث يشركها فيه غيرها و النحل تنفرد به و لا ينقلب مثل ذلك علينا من حيث طالبت بالميراث بعد النحل لأنها

في الابتداء طالبت بالنحل و هو الوجه الذي تستحق فدك منه فلما دفعت عنه طالبت ضرورة بالميراث لأن للمدفوع عن حقه أن

يتوصل إلى تناوله بكل وجه و سبب و هذا بخلاف قول أبي علي لأنه أضاف إليها ادعاء الحق من وجه لا تستحقه منه و هي مختارة. و

أما إنكاره أن يكون عمر بن عبد العزيز رد فدك على وجه النحل و ادعاؤه أنه فعل في ذلك ما فعله عمر بن الخطاب من إقرارها في يد

أمير المؤمنين ع ليصرف غلاتها في وجوهها فأول ما فيه أنا لا نحتج عليه بفعل عمر بن عبد العزيز على أي وجه وقع لأن فعله ليس

بحجة و لو أردنا الاحتجاج بهذا الجنس من الحجج لذكرنا فعل المأمون فإنه رد فدك بعد أن جلس مجلسا مشهورا حكم فيه بين

خصمين نصبهما أحدهما لفاطمة و الآخر لأبي بكر و ردها بعد قيام الحجة و وضوح الأمر

[16 : 278 ]

و مع ذلك فإنه قد أنكر من فعل عمر بن عبد العزيز ما هو معروف مشهور بلا خلاف بين أهل النقل فيه و قد روى محمد بن زكريا

الغلابي عن شيوخه عن أبي المقدام هشام بن زياد مولى آل عثمان قال لما ولي عمر بن عبد العزيز رد فدك على ولد فاطمة و كتب إلى

واليه على المدينة أبي بكر بن عمرو بن حزم يأمره بذلك فكتب إليه إن فاطمة قد ولدت في آل عثمان و آل فلان و فلان فعلى من أرد

منهم فكتب إليه أما بعد فإني لو كتبت إليك آمرك أن تذبح شاة لكتبت إلي أ جماء أم قرناء أو كتبت إليك أن تذبح بقرة لسألتني ما

لونها فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقسمها في ولد فاطمة ع من علي ع و السلام. قال أبو المقدام فنقمت بنو أمية ذلك على عمر بن عبد

العزيز و عاتبوه فيه و قالوا له هجنت فعل الشيخين و خرج إليه عمر بن قيس في جماعة من أهل الكوفة فلما عاتبوه على فعله قال

إنكم جهلتم و علمت و نسيتم و ذكرت إن أبا بكر محمد بن عمرو بن حزم حدثني عن أبيه عن جده

أن رسول الله ص قال فاطمة بضعة مني يسخطها ما يسخطني و يرضيني ما أرضاها

و إن فدك كان صافية على عهد أبي بكر و عمر ثم صار أمرها إلى مروان فوهبها لعبد العزيز أبي فورثتها أنا و إخوتي عنه فسألتهم أن

يبيعوني حصتهم منها فمن بائع و واهب حتى استجمعت لي فرأيت أن أردها على ولد فاطمة قالوا فإن أبيت إلا هذا فأمسك الأصل و

اقسم الغلة ففعل. و أما ما ذكره من ترك أمير المؤمنين ع فدك لما أفضى الأمر إليه و استدلاله بذلك على أنه لم يكن الشاهد فيها

فالوجه في تركه ع رد فدك هو الوجه في إقراره

[16 : 279 ]

أحكام القوم و كفه عن نقضها و تغييرها و قد بينا ذلك فيما سبق و ذكرنا أنه كان في انتهاء الأمر إليه في بقية من التقية قوية. فأما

استدلاله على أن حجر أزواج النبي ص كانت لهن بقوله تعالى وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ فمن عجيب الاستدلال لأن هذه الإضافة لا تقتضي

الملك بل العادة جارية فيها أن تستعمل من جهة السكنى و لهذا يقال هذا بيت فلان و مسكنه و لا يراد بذلك الملك و قد قال تعالى لا

تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ إِلّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَة مُبَيِّنَة و لا شبهة في أنه تعالى أراد منازل الرجال التي يسكنون فيها زوجاتهم

و لم يرد بهذه الإضافة الملك. فأما ما رواه من أن رسول الله ص قسم حجره على نسائه و بناته فمن أين له إذا كان الخبر صحيحا أن

هذه القسمة على وجه التمليك دون الإسكان و الإنزال و لو كان قد ملكهن ذلك لوجب أن يكون ظاهرا مشهورا. فأما الوجه في ترك

أمير المؤمنين لما صار الأمر إليه في يده منازعة الأزواج في هذه الحجر فهو ما تقدم و تكرر. و أما قوله إن أبا بكر هو الذي صلى على

فاطمة و كبر أربعا و إن كثيرا من الفقهاء يستدلون به في التكبير على الميت و هو شيء ما سمع إلا منه و إن كان تلقاه عن غيره فممن

يجري مجراه في العصبية و إلا فالروايات المشهورة و كتب الآثار و السير خالية من ذلك و لم يختلف أهل النقل في أن عليا ع هو

الذي صلى على فاطمة إلا رواية نادرة شاذة وردت بأن العباس رحمه الله صلى عليها. و روى الواقدي بإسناده في تاريخه عن الزهري

قال سألت ابن عباس

[16 : 280 ]

متى دفنتم فاطمة ع قال دفناها بليل بعد هدأة قال قلت فمن صلى عليها قال علي. و روى الطبري عن الحارث بن أبي أسامة عن المدائني

عن أبي زكريا العجلاني أن فاطمة ع عمل لها نعش قبل وفاتها فنظرت إليه فقالت سترتموني ستركما الله. قال أبو جعفر محمد بن

جرير و الثبت في ذلك أنها زينب لأن فاطمة دفنت ليلا و لم يحضرها إلا علي و العباس و المقداد و الزبير. و روى القاضي أبو بكر أحمد

بن كامل بإسناده في تاريخه عن الزهري قال حدثني عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أن فاطمة عاشت بعد رسول الله ص ستة أشهر

فلما توفيت دفنها علي ليلا و صلى عليها و ذكر في كتابه هذا أن عليا و الحسن و الحسين ع دفنوها ليلا و غيبوا قبرها. و روى سفيان

بن عيينة عن عمرو بن عبيد عن الحسن بن محمد بن الحنفية أن فاطمة دفنت ليلا. و روى عبد الله بن أبي شيبة عن يحيى بن سعيد

القطان عن معمر عن الزهري مثل ذلك. و قال البلاذري في تاريخه إن فاطمة ع لم تر متبسمة بعد وفاة النبي ص و لم يعلم أبو بكر و

عمر بموتها. و الأمر في هذا أوضح و أشهر من أن نطنب في الاستشهاد عليه و نذكر الروايات فيه

[16 : 281 ]

فأما قوله و لا يصح أنها دفنت ليلا و إن صح فقد دفن فلان و فلان ليلا فقد بينا أن دفنها ليلا في الصحة أظهر من الشمس و أن منكر

ذلك كالدافع للمشاهدات و لم يجعل دفنها ليلا بمجرده هو الحجة ليقال لقد دفن فلان و فلان ليلا بل يقع الاحتجاج بذلك على ما

وردت به الروايات المستفيضة الظاهرة التي هي كالتواتر أنها أوصت بأن تدفن ليلا حتى لا يصلي الرجلان عليها و صرحت بذلك و

عهدت فيه عهدا بعد أن كانا استأذنا عليها في مرضها ليعوداها فأبت أن تأذن لهما فلما طالت عليهما المدافعة رغبا إلى أمير المؤمنين

ع في أن يستأذن لهما و جعلاها حاجة إليه و كلمها ع في ذلك و ألح عليها فأذنت لهما في الدخول ثم أعرضت عنهما عند دخولهما و لم

تكلمهما فلما خرجا قالت لأمير المؤمنين ع هل صنعت ما أردت قال نعم قالت فهل أنت صانع ما آمرك به قال نعم قالت فإني أنشدك

الله ألا يصليا على جنازتي و لا يقوما على قبري. و روى أنه عفى قبرها و علم عليه و رش أربعين قبرا في البقيع و لم يرش قبرها حتى لا

يهتدى إليه و أنهما عاتباه على ترك إعلامهما بشأنها و إحضارهما الصلاة عليها فمن هاهنا احتججنا بالدفن ليلا و لو كان ليس غير

الدفن بالليل من غير ما تقدم عليه و ما تأخر عنه لم يكن فيه حجة. و أما حكايته عن أبي علي إنكار ضرب الرجل لها و قوله إن جعفر بن

محمد و أباه و جده كانوا يتولونهما فكيف لا ينكر أبو علي ذلك و اعتقاده فيهما اعتقاده و قد كنا نظن أن مخالفينا يقتنعون أن ينسبوا

إلى أئمتنا الكف عن القوم و الإمساك و ما ظننا أنهم يحملون أنفسهم على أن ينسبوا إليهم الثناء و الولاء

[16 : 282 ]

و قد علم كل أحد أن أصحاب هؤلاء السادة المختصين بهم قد رووا عنهم ضد ما روى شعبة بن الحجاج و فلان و فلان و قولهم هما

أول من ظلمنا حقنا و حمل الناس على رقابنا و قولهم أنهما أصفيا بإنائنا و اضطجعا بسبلنا و جلسا مجلسا نحن أحق به منهما إلى غير

ذلك من فنون التظلم و الشكاية و هو طويل متسع و من أراد استقصاء ذلك فلينظر في كتاب المعرفة لأبي إسحاق إبراهيم بن سعيد

الثقفي فإنه قد ذكر عن رجل من أهل البيت بالأسانيد النيرة ما لا زيادة عليه ثم لو صح ما ذكره شعبة لجاز أن يحمل على التقية. و أما

ذكره إسرافيل و ميكائيل فما كنا نظن أن مثله يذكر ذلك و هذا من أقوال الغلاة الذين ضلوا في أمير المؤمنين ع و أهل البيت و

ليسوا من الشيعة و لا من المسلمين فأي عيب علينا فيما يقولونه ثم إن جماعة من مخالفينا قد غلوا في أبي بكر و عمر و رووا روايات

مختلفة فيهما تجري مجرى ما ذكره في الشناعة و لا يلزم العقلاء و ذوي الألباب من المخالفين عيب من ذلك. و أما معارضة ما روي في

فاطمة ع بما روي في أن حبهما إيمان و بغضهما نفاق فالخبر الذي رويناه مجمع عليه و الخبر الآخر مطعون فيه فكيف يعارض ذلك

بهذا. و أما قوله إنما قصد من يورد هذه الأخبار تضعيف دلالة الأعلام في النفوس من حيث أضاف النفاق إلى من شاهدها فتشنيع في غير

موضعه و استناد إلى ما لا يجدي نفعا لأن من شاهد الأعلام لا يضعفها و لا يوهن دليلها و لا يقدح في كونها حجة لأن الأعلام ليست

ملجئة إلى العلم و لا موجبة لحصوله على كل حال و إنما تثمر العلم لمن أمعن النظر فيها من الوجه الذي تدل منه فمن عدل عن ذلك

لسوء اختياره لا يكون

[16 : 283 ]

عدوله مؤثرا في دلالتها فكم قد عدل من العقلاء و ذوي الأحلام الراجحة و الألباب الصحيحة عن تأمل هذه الأعلام و إصابة الحق منها

و لم يكن ذلك عندنا و عند صاحب الكتاب قادحا في دلالة الأعلام على أن هذا القول يوجب أن ينفي الشك و النفاق عن كل من صحب

النبي ص و عاصره و شاهد أعلامه كأبي سفيان و ابنه و عمرو بن العاص و فلان و فلان ممن قد اشتهر نفاقهم و ظهر شكهم في الدين و

ارتيابهم باتفاق بيننا و بينه و إن كانت إضافة النفاق إلى هؤلاء لا تقدح في دلالة الأعلام فكذلك القول في غيرهم. فأما قوله إن حديث

الإحراق لم يصح و لو صح لساغ لعمر مثل ذلك فقد بينا أن خبر الإحراق قد رواه غير الشيعة. و قوله إنه يسوغ مثل ذلك فكيف

يسوغ إحراق بيت علي و فاطمة ع و هل في ذلك عذر يصغى إليه أو يسمع و إنما يكون علي و أصحابه خارقين للإجماع و مخالفين

للمسلمين لو كان الإجماع قد تقرر و ثبت و ليس بمتقرر و لا ثابت مع خلاف علي وحده فضلا عن أن يوافقه على ذلك غيره و بعد فلا

فرق بين أن يهدد بالإحراق لهذه العلة و بين أن يضرب فاطمة ع لمثلها فإن إحراق المنازل أعظم من ضرب سوط أو سوطين فلا وجه

لامتعاض المخالف من حديث الضرب إذا كان عنده مثل هذا الاعتذار قلت أما الكلام في عصمة فاطمة ع فهو بفن الكلام أشبه و للقول

فيه موضع غير هذا. و أما قول المرتضى إذا كانت صادقة لم يبق حاجة إلى من يشهد لها فلقائل أن

[16 : 284 ]

يقول لم قلت ذلك و لم زعمت أن الحاجة إلى البينة إنما كانت لزيادة غلبة الظن و لم لا يجوز أن يكون الله تعالى يعبد بالبينة

لمصلحة يعلمها و إن كان المدعي لا يكذب أ ليس قد تعبد الله تعالى بالعدة في العجوز التي قد أيست من الحمل و إن كان أصل

وضعها لاستبراء الرحم. و أما قصة خزيمة بن ثابت فيجوز أن يكون الله تعالى قد علم أن مصلحة المكلفين في تلك الصورة أن يكتفى

بدعوى النبي ص وحدها و يستغنى فيها عن الشهادة. و لا يمتنع أن يكون غير تلك الصورة مخالفا لها و إن كان المدعي لا يكذب و

يبين ذلك أن مذهب المرتضى جواز ظهور خوارق العادات على أيدي الأئمة و الصالحين و لو قدرنا أن واحدا من أهل الصلاح و الخير

ادعى دعوى و قال بحضرة جماعة من الناس من جملتهم القاضي اللهم إن كنت صادقا فأظهر علي معجزة خارقة للعادة فظهرت عليه

لعلمنا أنه صادق و مع ذلك لا تقبل دعواه إلا ببينة. و سألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له أ كانت فاطمة

صادقة قال نعم قلت فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك و هي عنده صادقة فتبسم ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه و حرمته و قلة

دعابته قال لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجاءت إليه غدا و ادعت لزوجها الخلافة و زحزحته عن مقامه و لم يكن يمكنه الاعتذار

و الموافقة بشيء لأنه يكون قد أسجل على نفسه أنها صادقة فيها تدعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بينة و لا شهود و هذا كلام

صحيح و إن كان أخرجه مخرج الدعابة و الهزل. فأما قول قاضي القضاة لو كان في يدها لكان الظاهر أنها لها و اعتراض المرتضى عليه

بقوله إنه لم يعتمد في إنكار ذلك على حجة بل قال لو كانت في يدها لكان الظاهر إنها لها و الأمر على ما قال فمن أين أنها لم تخرج

عن يدها على وجه كما أن الظاهر

[16 : 285 ]

يقتضي خلافه فإنه لم يجب عما ذكره قاضي القضاة لأن معنى قوله إنها لو كانت في يدها أي متصرفة فيها لكانت اليد حجة في الملكية

لأن اليد و التصرف حجة لا محالة فلو كانت في يدها تتصرف فيها و في ارتفاقها كما يتصرف الناس في ضياعهم و أملاكهم لما احتاجت

إلى الاحتجاج ب آية الميراث و لا بدعوى النحل لأن اليد حجة فهلا قالت لأبي بكر هذه الأرض في يدي و لا يجوز انتزاعها مني إلا

بحجة و حينئذ كان يسقط احتجاج أبي بكر بقوله نحن معاشر الأنبياء لا نورث لأنها ما تكون قد ادعتها ميراثا ليحتج عليها بالخبر و

خبر أبي سعيد في قوله فأعطاها فدك يدل على الهبة لا على القبض و التصرف و لأنه يقال أعطاني فلان كذا فلم أقبضه و لو كان

الإعطاء هو القبض و التصرف لكان هذا الكلام متناقضا. فأما تعجب المرتضى من قول أبي علي إن دعوى الإرث كانت متقدمة على دعوى

النحل و قوله إنا لا نعرف له غرضا في ذلك فإنه لا يصح له بذلك مذهب و لا يبطل على مخالفيه مذهب فإن المرتضى لم يقف على مراد

الشيخ أبي علي في ذلك و هذا شيء يرجع إلى أصول الفقه فإن أصحابنا استدلوا على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد بإجماع

الصحابة لأنهم أجمعوا على تخصيص قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ

برواية أبي بكر عن النبي ص لا نورث ما تركناه صدقة

قالوا و الصحيح في الخبر أن فاطمة ع طالبت بعد ذلك بالنحل لا بالميراث فلهذا قال الشيخ أبو علي إن دعوى الميراث تقدمت على

دعوى النحل و ذلك لأنه ثبت أن فاطمة انصرفت عن ذلك المجلس غير راضية و لا موافقة لأبي بكر فلو كانت دعوى الإرث متأخرة و

انصرفت عن سخط لم يثبت الإجماع على تخصيص الكتاب بخبر الواحد أما إذا كانت دعوى الإرث متقدمة فلما روى لها الخبر أمسكت

و انتقلت إلى النزاع من جهة أخرى فإنه يصح حينئذ الاستدلال بالإجماع على تخصيص الكتاب بخبر الواحد.

[16 : 286 ]

فأما أنا فإن الأخبار عندي متعارضة يدل بعضها على أن دعوى الإرث متأخرة و يدل بعضها على أنها متقدمة و أنا في هذا الموضع

متوقف. و ما ذكره المرتضى من أن الحال تقتضي أن تكون البداية بدعوى النحل فصحيح و أما إخفاء القبر و كتمان الموت و عدم

الصلاة و كل ما ذكره المرتضى فيه فهو الذي يظهر و يقوى عندي لأن الروايات به أكثر و أصح من غيرها و كذلك القول في موجدتها و

غضبها فأما المنقول عن رجال أهل البيت فإنه يختلف فتارة و تارة و على كل حال فميل أهل البيت إلى ما فيه نصرة أبيهم و بيتهم. و

قد أخل قاضي القضاة بلفظة حكاها عن الشيعة فلم يتكلم عليها و هي لفظة جيدة قال قد كان الأجمل أن يمنعهم التكرم مما ارتكبا

منها فضلا عن الدين و هذا الكلام لا جواب عنه و لقد كان التكرم و رعاية حق رسول الله ص و حفظ عهده يقتضي أن تعوض ابنته بشيء

يرضيها إن لم يستنزل المسلمون عن فدك و تسلم إليها تطييبا لقلبها و قد يسوغ للإمام أن يفعل ذلك من غير مشاورة المسلمين إذا

رأى المصلحة فيه و قد بعد العهد الآن بيننا و بينهم و لا نعلم حقيقة ما كان و إلى الله نرجع الأمور

وَ لَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ وَ لُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ وَ نَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ وَ لَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَ يَقُودَنِي

جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ وَ لَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ بِالْيَمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَ لَا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَ حَوْلِي بُطُونٌ

غَرْثَى وَ أَكْبَادٌ حَرَّى أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ

وَ حَسْبُكَ عَاراً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَة وَ حَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ

[16 : 287 ]

أَ أَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَ لَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي

أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا وَ تَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا أَوْ أُتْرَكَ سُدًى أَوْ أُهْمَلَ

عَابِثاً أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلَالَةِ أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ

قد روي و لو شئت لاهتديت إلى هذا العسل المصفى و لباب هذا البر المنقى فضربت هذا بذاك حتى ينضج وقودا و يستحكم معقودا. و

روي و لعل بالمدينة يتيما تربا يتضور سغبا أ أبيت مبطانا و حولي بطون غرثى إذن يحضرني يوم القيامة و هم من ذكر و أنثى

و روي بطون غرثى بإضافة بطون إلى غرثى. و القمح الحنطة. و الجشع أشد الحرص. و المبطان الذي لا يزال عظيم البطن من كثرة

الأكل فأما المبطن فالضامر البطن و أما البطين فالعظيم البطن لا من الأكل و أما البطن فهو الذي لا يهمه إلا بطنه و أما المبطون

فالعليل البطن و بطون غرثى جائعة و البطنة الكظة و ذلك أن يمتلئ الإنسان من الطعام امتلاء شديدا و كان يقال ينبغي للإنسان أن

يجعل وعاء بطنه أثلاثا فثلث للطعام و ثلث للشراب و ثلث للنفس.

[16 : 288 ]

و التقمم أكل الشاة ما بين يديها بمقمتها أي بشفتها و كل ذي ظلف كالثور و غيره فهو ذو مقمة. و تكترش من أعلافها تملأ كرشها من

العلف. قوله أو أجر حبل الضلالة منصوب بالعطف على يشغلني و كذلك أترك و يقال أجررته رسنه إذا أهملته. و الاعتساف السلوك

في غير طريق واضح. و المتاهة الأرض يتاه فيها أي يتحير. و في قوله لو شئت لاهتديت شبه من قول عمر لو نشاء لملأنا هذا الرحاب

من صلائق و صناب و قد ذكرناه فيما تقدم. و هذا البيت من أبيات منسوبة إلى حاتم بن عبد الله الطائي الجواد و أولها

أيا ابنة عبد الله و ابنة مالك و يا ابنة ذي الجدين و الفرس الورد

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلا فإني لست آكله وحدي

قصيا بعيدا أو قريبا فإنني أخاف مذمات الأحاديث من بعدي

كفى بك عارا أن تبيت ببطنة و حولك أكباد تحن إلى القد

و إني لعبد الضيف ما دام نازلا و ما من خلالي غيرها شيمة العبد

السابق

التالي