السابق

التالي

[13 : 55 ]

لأن الماضي منه فلج الرجل على خصمه بالفتح و مصدره الفلج بالسكون فأما من روى و ظهور الفلج بضمتين فقد سقط عنه التأويل لأن

الاسم من هذا اللفظ الفلج بضم أول الكلمة فإذا استعملها الكاتب أو الخطيب جاز له ضم الحرف الثاني. و صادعا بهما مظهرا مجاهدا

و أصله الشق. و الأمراس الحبال و الواحد مرس بفتح الميم و الراء

مِنْهَا فِي صِفَةِ عَجِيبِ خَلْقِ أَصْنَاف مِنَ الْحَيَوَانِ وَ لَوْ فَكَّرُوا فِي عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَ جَسِيمِ النِّعْمَةِ لَرَجَعُوا إِلَى الطَّرِيقِ وَ خَافُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ

وَ لَكِنِ الْقُلُوبُ عَلِيلَةٌ وَ الْبَصَائِرُ مَدْخُولَةٌ أَ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى صَغِيرِ مَا خَلَقَ كَيْفَ أَحْكَمَ خَلْقَهُ وَ أَتْقَنَ تَرْكِيبَهُ وَ فَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ

سَوَّى لَهُ الْعَظْمَ وَ الْبَشَرَ انْظُرُوا إِلَى النَّمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا وَ لَطَافَةِ هَيْئَتِهَا لَا تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ وَ لَا بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى

أَرْضِهَا وَ صُبَّتْ عَلَى رِزْقِهَا تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلَى جُحْرِهَا وَ تُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا وَ فِي وِرْدِهَا لِصَدَرِهَا مَكْفُولٌ بِرِزْقِهَا مَرْزُوقَةٌ

بِوِفْقِهَا لَا يُغْفِلُهَا الْمَنَّانُ وَ لَا يَحْرِمُهَا الدَّيَّانُ وَ لَوْ فِي الصَّفَا الْيَابِسِ وَ الْحَجَرِ الْجَامِسِ وَ لَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أَكْلِهَا وَ فِي عُلْوِهَا وَ سُفْلِهَا

وَ مَا فِي الْجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا وَ مَا فِي الرَّأْسِ مِنْ عَيْنِهَا وَ أُذُنِهَا لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً وَ لَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً

[13 : 56 ]

فَتَعَالَى الَّذِي أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا وَ بَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا لَمْ يَشْرَكْهُ فِي فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ وَ لَمْ يُعِنْهُ عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ وَ لَوْ ضَرَبْتَ فِي مَذَاهِبِ

فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ مَا دَلَّتْكَ الدَّلَالَةُ إِلَّا عَلَى أَنَّ فَاطِرَ النَّمْلَةِ هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَةِ لِدَقِيقِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْء وَ غَامِضِ اخْتِلَافِ كُلِّ حَيّ وَ مَا

الْجَلِيلُ وَ اللَّطِيفُ وَ الثَّقِيلُ وَ الْخَفِيفُ وَ الْقَوِيُّ وَ الضَّعِيفُ فِي خَلْقِهِ إِلَّا سَوَاءٌ وَ كَذَلِكَ السَّمَاءُ وَ الْهَوَاءُ وَ الرِّيَاحُ وَ الْمَاءُ فَانْظُرْ إِلَى

الشَّمْسِ وَ الْقَمَرِ وَ النَّبَاتِ وَ الشَّجَرِ وَ الْمَاءِ وَ الْحَجَرِ وَ اخْتِلَافِ هَذَا اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَ تَفَجُّرِ هَذِهِ الْبِحَارِ وَ كَثْرَةِ هَذِهِ الْجِبَالِ وَ طُولِ هَذِهِ

الْقِلَالِ وَ تَفَرُّقِ هَذِهِ اللُّغَاتِ وَ الْأَلْسُنِ الْمُخْتَلِفَاتِ فَالْوَيْلُ لِمَنْ أَنْكَرَ الْمُقَدِّرَ وَ جَحَدَ الْمُدَبِّرَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَالنَّبَاتِ مَا لَهُمْ زَارِعٌ وَ لَا لِاخْتِلَافِ

صُوَرِهِمْ صَانِعٌ وَ لَمْ يَلْجَئُوا إِلَى حُجَّة فِيمَا ادَّعَوْا وَ لَا تَحْقِيق لِمَا دَعَوْا وَ هَلْ يَكُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَيْرِ بَان أَوْ جِنَايَةٌ مِنْ غَيْرِ جَان

مدخولة معيبة و فلق شق و خلق و البشر ظاهر الجلد. قوله ع و صبت على رزقها قيل هو على العكس أي و صب رزقها عليها و الكلام

صحيح و لا حاجة فيه إلى هذا و المراد كيف همت حتى انصبت على رزقها انصبابا أي انحطت عليه و يروى و ضنت على رزقها بالضاد

المعجمة و النون أي بخلت و جحرها بيتها.

[13 : 57 ]

قوله ع و في وردها لصدرها أي تجمع في أيام التمكن من الحركة لأيام العجز عنها و ذلك لأن النمل يظهر صيفا و يخفى في شدة

الشتاء لعجزه عن ملاقاة البرد. قوله ع رزقها وفقها أي بقدر كفايتها و يروى مكفول برزقها مرزوقة بوفقها. و المنان من أسماء الله

تعالى العائد إلى صفاته الفعلية أي هو كثير المن و الإنعام على عباده. و الديان المجازي للعباد على أفعالهم قال تعالى إِنّا لَمَدِينُونَ

أي مجزيون و الحجر الجامس الجامد و الشراسيف أطراف الأضلاع المشرفة على البطن

فصل في ذكر أحوال الذرة و عجائب النملة

و اعلم أن شيخنا أبا عثمان قد أورد في كتاب الحيوان في باب النملة و الذرة و هي الصغيرة جدا من النمل كلاما يصلح أن يكون كلام

أمير المؤمنين ع أصله و لكن أبا عثمان قد فرع عليه قال الذرة تدخر في الصيف للشتاء و تتقدم في حال المهلة و لا تضيع أوقات

إمكان الحزم ثم يبلغ من تفقدها و صحة تمييزها و النظر في عواقب أمورها أنها تخاف على الحبوب التي ادخرتها للشتاء في الصيف

أن تعفن و تسوس في

[13 : 58 ]

بطن الأرض فتخرجها إلى ظهرها لتنثرها و تعيد إليها جفوفها و يمر بها النسيم فينفي عنها اللخن و الفساد. ثم ربما بل في الأكثر تختار

ذلك العمل ليلا لأن ذلك أخفى و في القمر لأنها فيه أبصر فإن كان مكانها نديا و خافت أن تنبت الحبة نقرت موضع القطمير من

وسطها لعلمها أنها من ذلك الموضع تنبت و ربما فلقت الحبة نصفين فأما إن كان الحب من حب الكزبرة فإنها تفلقه أرباعا لأن أنصاف

حب الكزبرة تنبت من بين جميع الحبوب فهي من هذا الوجه مجاوزة لفطنة جميع الحيوانات حتى ربما كانت في ذلك أحزم من كثير

من الناس و لها مع لطافة شخصها و خفة وزنها في الشم و الاسترواح ما ليس لشيء فربما أكل الإنسان الجراد أو بعض ما يشبه

الجراد فيسقط من يده الواحدة أو صدر واحدة و ليس بقربه ذرة و لا له عهد بالذر في ذلك المنزل فلا يلبث أن تقبل ذرة قاصدة إلى تلك

الجرادة فترومها و تحاول نقلها و جرها إلى جحرها فإذا أعجزتها بعد أن تبلي عذرا مضت إلى جحرها راجعة فلا يلبث ذلك الإنسان أن

يجدها قد أقبلت و خلفها كالخيط الأسود الممدود حتى يتعاون عليها فيحملنها فاعجب من صدق الشم لما لا يشمه الإنسان الجائع ثم

انظر إلى بعد الهمة و الجرأة على محاولة نقل شيء في وزن جسمها مائة مرة و أكثر من مائة مرة بل أضعاف أضعاف المائة و ليس شيء

من الحيوان يحمل ما يكون أضعاف وزنه مرارا كثيرة غيرها. فإن قال قائل فمن أين علمتم أن التي حاولت نقل الجرادة فعجزت هي

التي أخبرت صواحباتها من الذر و أنها التي كانت على مقدمتهن قيل له لطول التجربة و لأنا لم نر قط ذرة حاولت جر جرادة فعجزت

عنها ثم

[13 : 59 ]

رأيناها راجعة إلا رأينا معها مثل ذلك و إن كنا لا نفصل في مرأى العين بينها و بين أخواتها فإنه ليس يقع في القلب غير الذي قلنا

فدلنا ذلك على أنها في رجوعها عن الجرادة أنها إنما كانت لأشباهها كالرائد الذي لا يكذب أهله قال أبو عثمان و لا ينكر قولنا إن

الذرة توحي إلى أخواتها بما أشرنا إليه إلا من يكذب القرآن فإنه تعالى قال في قصة سليمان قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا

مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها فهل بعد هذا ريب أو شك في أن لها قولا و

بيانا و تمييزا. فإن قلت فلعلها مكلفة و مأمورة و منهية و مطيعة و عاصية قيل هذا سؤال جاهل و ذلك أنه لا يلزم أن يكون كل ذي

حس و تمييز مكلفا مأمورا منهيا مطيعا عاصيا لأن الإنسان غير البالغ الحلم قد يحفظ القرآن و كثيرا من الآثار و ضروبا من الأخبار و

يشتري و يبيع و يخدع الرجال و يسخر بالمعلمين و هو غير مكلف و لا مأمور و لا منهي و لا عاص و لا مطيع فلا يلزم مما قلناه في

الذرة أن تكون مكلفة. قال أبو عثمان و من عجيب ما سمعته من أمر النملة ما حدثني به بعض المهندسين عن رجل معروف بصنعة

الأسطرلابات أنه أخرج طوقا من صفر أو قال من حديد من الكير و قد أحماه فرمى به على الأرض ليبرد فاشتمل الطوق على نملة

فأرادت أن تنفر يمنة فلقيها وهج النار فأخذت يسرة فلقيها وهج النار فمضت قدما فكذاك فرجعت إلى خلفها فكذلك فرجعت إلى وسط

الدائرة فوجدها قد ماتت في موضع رجل البركار من الدائرة و هذا من العجائب. قال أبو عثمان و حدثني أبو عبيد الله الأفوه و ما كنت

أقدم عليه في زمانه من مشايخ

[13 : 60 ]

المعتزلة إلا القليل قال قد كنت ألقى من الذر و النمل في الرطب يكون عندي و في الطعام عنتا كثيرا و ذلك لأني كنت لا أستقذر

النملة و لا الذرة ثم وجدت الواحدة منهما إذا وقعت في قارورة بان أو زئبق أو خيري فسد ذلك الدهن و زنخ فقذرتها و نفرت منها و

قلت أخلق بطبيعتها أن تكون فاسدة خبيثة و كنت أرى لها عضا منكرا فأقول إنها من ذوات السموم و لو أن بدن النملة زيد في أجزائه

حتى يلحق ببدن العقرب ثم عضت إنسانا لكانت عضتها أضر عليه من لسعة العقرب. قال فاتخذت عند ذلك لطعامي منملة و قيرتها و

صببت في خندقها الماء و وضعت سلة الطعام على رأسها فغبرت أياما أكشف رأس السلة بعد ذلك و فيها ذر كثير و وجدت الماء في

الخندق على حاله فقلت عسى أن يكون بعض الصبيان أنزلها و أكل مما فيها و طال مكثها في الأرض و قد دخلها الذر ثم أعيدت على

تلك الحال و تكلمت في ذلك و تعرفت الحال فيه فعرفت البراءة في عذرهم و الصدق في خبرهم فاشتد تعجبي و ذهبت بي الظنون و

الخواطر كل مذهب فعزمت على أن أرصدها و أحرسها و أتثبت في أمري و أتعرف شأني فإذا هي بعد أن رامت الخندق فامتنع عليها

تركته جانبا و صعدت في الحائط ثم مرت على جذع السقف فلما صارت محاذية للسلة أرسلت نفسها فقلت في نفسي انظر كيف اهتدت

إلى هذه الحيلة و لم تعلم أنها تبقى محصورة. ثم قلت و ما عليها أن تبقى محصورة بل أي حصار على ذرة و قد وجدت ما تشتهي. قال

أبو عثمان و من أعاجيب الذرة أنها لا تعرض لجعل و لا لجرادة و لا لخنفساء و لا لبنت وردان ما لم يكن بها حبل أو عقر أو قطع رجل

أو يد فإن وجدت بها من ذلك أدنى علة وثبت عليها حتى لو أن حية بها ضربة أو خرق أو خدش ثم كانت من

[13 : 61 ]

ثعابين مصر لوثب عليها الذر حتى يأكلها و لا تكاد الحية تسلم من الذر إذا كان بها أدنى عقر. قال أبو عثمان و قد عذب الله بالذر و

النمل أمما و أمما و أخرج أهل قرى من قراهم و أهل دروب من دروبهم. و حدثني بعض من أصدق خبره قال سألت رجلا كان ينزل ببغداد

في بعض الدروب التي في ناحية باب الكوفة التي جلا أهلها عنها لغلبة النمل و الذر عليها فسألته عن ذلك فقال و ما تصنع بالحديث

امض معي إلى داري التي أخرجني منها النمل قال فدخلتها معه فبعث غلامه فاشترى رءوسا من الرأسين ليتغذى بها فانتقلنا هربا من

النمل في أكثر من عشرين مكانا ثم دعا بطست ضخمة و صب فيها ماء صالحا ثم فرق عظام الرءوس في الدار و معه غلمانه فكان كلما

اسود منها عظم لكثرة النمل و اجتماعه عليه و ذلك في أسرع الأوقات أخذه الغلام ففرغه في الطست بعود ينثر به ما عليه في جوف

الطست فما لبثنا مقدار ساعة من النهار حتى فاضت الطست نملا فقال كم تظن أني فعلت مثل هذا قبل الجلاء طمعا في أن أقطع أصلها

فلما رأيت عددها إما زائدا و إما ثابتا و جاءنا ما لا يصبر عليه أحد و لا يمكن معه مقام خرجت عنها. قال أبو عثمان و عذب عمر بن هبيرة

سعيد بن عمرو الحرشي بأنواع العذاب فقيل له إن أردت ألا يفلح أبدا فمرهم فلينفخوا في دبره النمل ففعلوا فلم يفلح بعدها.

[13 : 62 ]

قال أبو عثمان و من الحيوان أجناس يشبه الإنسان في العقل و الروية و النظر في العواقب و الفكر في الأمور مثل النمل و الذر و

الفأر و الجرذان و العنكبوت و النحل إلا أن النحل لا يدخر من الطعم إلا جنسا واحدا و هو العسل. قال و زعم البقطري أنك لو

أدخلت نملة في جحر ذر لأكلتها حتى تأتي على عامتها و ذكر أنه قد جرب ذلك. قال و زعم صاحب المنطق أن الضبع تأكل النمل أكلا

ذريعا لأنها تأتي قرية النمل وقت اجتماع النمل على باب القرية فتلحس ذلك النمل كله بلسانها بشهوة شديدة و إرادة قوية. قال و

ربما أفسدت الأرضة على أهل القرى منازلهم و أكلت كل شيء لهم فلا تزال كذلك حتى ينشأ في تلك القرى النمل فيسلط الله عز و

جل ذلك النمل على تلك الأرضة حتى تأتي على آخرها على أن النمل بعد ذلك سيكون له أذى إلا أنه دون أذى الأرضة بعيدا و ما أكثر ما

يذهب النمل أيضا من تلك القرى حتى يتم لأهلها السلامة من النوعين جميعا. قال و قد زعم بعضهم أن تلك الأرضة بأعيانها تستحيل

نملا و ليس فناؤها لأكل النمل لها و لكن الأرضة نفسها تستحيل نملا فعلى قدر ما يستحيل منها يرى الناس النقصان في عددها و

مضرتها على الأيام. قال أبو عثمان و كان ثمامة يرى أن الذر صغار النمل و نحن نراه نوعا آخر كالبقر و الجواميس. قال و من أسباب

هلاك النمل نبات أجنحته و قال الشاعر

و إذا استوت للنمل أجنحة حتى يطير فقد دنا عطبه

[13 : 63 ]

و كان في كتاب عبد الحميد إلى أبي مسلم لو أراد الله بالنملة صلاحا لما أنبت لها جناحا فيقال إن أبا مسلم لما قرأ هذا الكلام في

أول الكتاب لم يتم قراءته و ألقاه في النار و قال أخاف إن قرأته أن ينخب قلبي. قال أبو عثمان و يقتل النمل بأن يصب في أفواه

بيوتها القطران و الكبريت الأصفر و أن يدس في أفواهها الشعر على أنا قد جربنا ذلك فوجدناه باطلا. فأما الحكماء فإنهم لا يثبتون

للنمل شراسيف و لا أضلاعا و يجب إن صح قولهم أن يحمل كلام أمير المؤمنين ع على اعتقاد الجمهور و مخاطبة العرب بما تتخيله

و تتوهمه حقا و كذلك لا يثبت الحكماء للنمل آذانا بارزة عن سطوح رءوسها و يجب إن صح ذلك أن نحمل كلام أمير المؤمنين ع

على قوة الإحساس بالأصوات فإنه لا يمكن الحكماء إنكار وجود هذه القوة للنمل و لهذا إذا صيح عليهن هربن. و يذكر الحكماء من

عجائب النمل أشياء منها أنه لا جلد له و كذلك كل الحيوان المخرز. و منها أنه لا يوجد في صقلية نمل كبار أصلا. و منها أن النمل

بعضه ماش و بعضه طائر. و منها أن حراقة النمل إذا أضيف إليها شيء من قشور البيض و ريش هدهد و علقت على العضد منعت من

النوم

قوله ع و لو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته أي غايات فكرك و ضربت بمعنى سرت و المذاهب الطرق قال تعالى وَ إِذا ضَرَبْتُمْ

فِي

[13 : 64 ]

الْأَرْضِ و هذا الكلام استعارة. قال لو أمعنت النظر لعلمت أن خالق النملة الحقيرة هو خالق النخلة الطويلة لأن كل شيء من الأشياء

تفصيل جسمه و هيئته تفصيل دقيق و اختلاف تلك الأجسام في أشكالها و ألوانها و مقاديرها اختلاف غامض السبب فلا بد للكل من

مدبر يحكم بذلك الاختلاف و يفعله على حسب ما يعلمه من المصلحة. ثم قال و ما الجليل و الدقيق في خلقه إلا سواء لأنه تعالى قادر

لذاته لا يعجزه شيء من الممكنات. ثم قال فانظر إلى الشمس و القمر إلى قوله و الألسن المختلفات هذا هو الاستدلال بإمكان

الأعراض على ثبوت الصانع و الطرق إليه أربعة أحدها الاستدلال بحدوث الأجسام. و الثاني الاستدلال بإمكان الأعراض و الأجسام.

و الثالث الاستدلال بحدوث الأعراض. و الرابع الاستدلال بإمكان الأعراض. و صورة الاستدلال هو أن كل جسم يقبل للجسمية

المشتركة بينه و بين سائر الأجسام ما يقبله غيره من الأجسام فإذا اختلفت الأجسام في الأعراض فلا بد من مخصص خصص هذا

الجسم بهذا العرض دون أن يكون هذا العرض لجسم آخر و يكون لهذا الجسم عرض غير هذا العرض لأن الممكنات لا بد لها من مرجح

يرجح أحد طرفيها على الآخر فهذا هو معنى قوله فانظر إلى الشمس و القمر و النبات و الشجر و الماء و الحجر و اختلاف هذا الليل

و النهار و تفجر هذه البحار و كثرة هذه الجبال و طول هذه القلال و تفرق هذه اللغات و الألسن المختلفات أي أنه يمكن أن تكون

هيئة

[13 : 65 ]

الشمس و ضوءها و مقدارها حاصلا لجرم القمر و يمكن أن يكون النبات الذي لا ساق له شجرا و الشجر ذو الساق نباتا و يمكن أن

يكون الماء صلبا و الحجر مائعا و يمكن أن يكون زمان الليل مضيئا و زمان النهار مظلما و يمكن ألا تكون هذه البحار متفجرة بل

تكون جبالا و يمكن ألا تكون هذه الجبال الكبيرة كبيرة و يمكن ألا تكون هذه القلال طويلة و كذلك القول في اللغات و اختلافها و

إذا كان كل هذا ممكنا فاختصاص الجسم المخصوص بالصفات و الأعراض و الصور المخصوصة لا يمكن أن يكون لمجرد الجسمية

لتماثل الأجسام فيها فلا بد من أمر زائد و ذلك الأمر الزائد هو المعني بقولنا صانع العالم. ثم سفه آراء المعطلة و قال إنهم لم

يعتصموا بحجة و لم يحققوا ما وعوه أي لم يرتبوا العلوم الضرورية ترتيبا صحيحا يفضي بهم إلى النتيجة التي هي حق. ثم أخذ في

الرد عليهم من طريق أخرى و هي دعوى الضرورة و قد اعتمد عليها كثير من المتكلمين فقال نعلم ضرورة أن البناء لا بد له من بان. ثم

قال و الجناية لا بد لها من جان و هذه كلمة ساقته إليها القرينة و المراد عموم الفعلية لا خصوص الجناية أي مستحيل أن يكون

الفعل من غير فاعل و الذين ادعوا الضرورة في هذه المسألة من المتكلمين استغنوا عن الطرق الأربع التي ذكرناها و أمير المؤمنين ع

اعتمد أولا على طريق واحدة ثم جنح ثانيا إلى دعوى الضرورة و كلا الطريقين صحيح

وَ إِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي الْجَرَادَةِ إِذْ خَلَقَ لَهَا عَيْنَيْنِ حَمْرَاوَيْنِ وَ أَسْرَجَ لَهَا

[13 : 66 ]

حَدَقَتَيْنِ قَمْرَاوَيْنِ وَ جَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِيَّ وَ فَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِيَّ وَ جَعَلَ لَهَا الْحِسَّ الْقَوِيَّ وَ نَابَيْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ وَ مِنْجَلَيْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ

يَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِي زَرْعِهِمْ وَ لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّهَا وَ لَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِمْ حَتَّى تَرِدَ الْحَرْثَ فِي نَزَوَاتِهَا وَ تَقْضِي مِنْهُ شَهَوَاتِهَا وَ خَلْقُهَا كُلُّهُ لَا

يُكَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً فَتَبَارَكَ الَّذِي يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ يُعَفِّرُ لَهُ خَدّاً وَ وَجْهاً وَ يُلْقِي بِالطَّاعَةِ إِلَيْهِ سِلْماً وَ

ضَعْفاً وَ يُعْطِي الْقِيَادَ رَهْبَةً وَ خَوْفاً فَالطَّيْرُ مُسَخَّرَةٌ لِأَمْرِهِ أَحْصَى عَدَدَ الرِّيشِ مِنْهَا وَ النَّفَسِ وَ أَرْسَى قَوَائِمَهَا عَلَى النَّدَى وَ الْيَبَسِ وَ قَدَّرَ

أَقْوَاتَهَا وَ أَحْصَى أَجْنَاسَهَا فَهَذَا غُرَابٌ وَ هَذَا عُقَابٌ وَ هَذَا حَمَامٌ وَ هَذَا نَعَامٌ دَعَا كُلَّ طَائِر بِاسْمِهِ وَ كَفَلَ لَهُ بِرِزْقِهِ وَ أَنْشَأَ السَّحَابَ الثِّقَالَ

فَأَهْطَلَ دِيَمَهَا وَ عَدَّدَ قِسَمَهَا فَبَلَّ الْأَرْضُ بَعْدَ جُفُوفِهَا وَ أَخْرَجَ نَبْتَهَا بَعْدَ جُدُوبِهَا

قوله و أسرج لها حدقتين أي جعلهما مضيئتين كما يضيء السراج و يقال حدقة قمراء أي منيرة كما يقال ليلة قمراء أي نيرة بضوء

القمر. و بهما تقرض أي تقطع و الراء مكسورة. و المنجلان رجلاها شبههما بالمناجل لعوجهما و خشونتهما. و يرهبها يخافها و

نزواتها وثباتها و الجدب المحل

[13 : 67 ]

ذكر غرائب الجراد و ما احتوت عليه من صنوف الصنعة

قال شيخنا أبو عثمان في كتاب الحيوان من عجائب الجرادة التماسها لبيضها الموضع الصلد و الصخور الملس ثقة منها أنها إذا

ضربت بأذنابها فيها انفرجت لها و معلوم أن ذنب الجرادة ليس في خلقة المنشار و لا طرف ذنبه كحد السنان و لا لها من قوة الأسر و

لا لذنبها من الصلابة ما إذا اعتمدت به على الكدية خرج فيها كيف و هي تتعدى إلى ما هو أصلب من ذلك و ليس في طرفها كإبرة

العقرب و على أن العقرب ليس تخرق القمقم من جهد الأيد و قوة البدن بل إنما ينفرج لها بطبع مجعول هناك و كذاك انفراج

الصخور لأذناب الجراد. و لو أن عقابا أرادت أن تخرق جلد الجاموس لما انخرق لها إلا بالتكلف الشديد و العقاب هي التي تنكدر على

الذئب الأطلس فتقد بدابرتها ما بين صلاه إلى موضع الكاهل. فإذا غرزت الجرادة و ألقت بيضها و انضمت عليها تلك الأخاديد التي هي

أحدثها و صارت كالأفاحيص لها صارت حاضنة لها و مربية و حافظة و صائنة و واقية حتى إذا جاء وقت دبيب الروح فيها حدث عجب

آخر و ذلك لأنه يخرج من بيضه

[13 : 68 ]

أصهب إلى البياض ثم يصفر و تتلون فيه خطوط إلى السواد ثم يصير فيه خطوط سود و بيض ثم يبدو حجم جناحه ثم يستقل فيموج

بعضه في بعض. قال أبو عثمان و يزعم قوم أن الجراد قد يريد الخضرة و دونه النهر الجاري فيصير بعضه جسرا لبعض حتى يعبر إلى

الخضرة و أن ذلك حيلة منها. و ليس كما زعموا و لكن الزحف الأول من الدباء يريد الخضرة فلا يستطيعها إلا بالعبور إليها فإذا صارت

تلك القطعة فوق الماء طافية صارت لعمري أرضا للزحف الثاني الذي يريد الخضرة فإن سموا ذلك جسرا استقام فأما أن يكون الزحف

الأول مهد للثاني و مكن له و آثره بالكفاية فهذا ما لا يعرف و لو أن الزحفين جميعا أشرفا على النهر و أمسك أحدهما عن تكلف العبور

حتى يمهد له الآخر لكان لما قالوه وجه. قال أبو عثمان و لعاب الجراد سم على الأشجار لا يقع على شيء إلا أحرقه. فأما الحكماء

فيذكرون في كتبهم أن أرجل الجراد تقلع الث آليل و أنه إذا أخذت منه اثنتا عشرة جرادة و نزعت رءوسها و أطرافها و جعل معها قليل

آس يابس و شربت للاستسقاء كما هي نفعت نفعا بينا و أن التبخر بالجراد ينفع من عسر البول و خاصة في النساء و أن أكله ينفع من

تقطيره و قد يبخر به للبواسير و ينفع أكله من لسعة العقرب. و يقال إن الجراد الطوال إذا علق على من به حمى الربع نفعه

[13 : 69 ]

232- و من خطبة له ع في التوحيد

و تجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة غيرها

مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ وَ لَا حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ وَ لَا إِيَّاهُ عَنَى مَنْ شَبَّهَهُ وَ لَا صَمَدَهُ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَ تَوَهَّمَهُ كُلُّ مَعْرُوف بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ وَ كُلُّ

قَائِم فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ فَاعِلٌ لَا بِاضْطِرَابِ آلَة مُقَدِّرٌ لَا بِجَوْلِ فِكْرَة غَنِيٌّ لَا بِاسْتِفَادَة لَا تَصْحَبُهُ الْأَوْقَاتُ وَ لَا تَرْفِدُهُ الْأَدَوَاتُ سَبَقَ الْأَوْقَاتَ

كَوْنُهُ وَ الْعَدَمَ وُجُودُهُ وَ الِابْتِدَاءَ أَوَّلُهُ

هذا الفصل يشتمل على مباحث متعددة أولها قوله ما وحده من كيفه و هذا حق لأنه إذا جعله مكيفا جعله ذا هيئة و شكل أو ذا لون و

ضوء إلى غيرهما من أقسام الكيف و متى كان كذلك كان جسما و لم يكن واحدا لأن كل جسم قابل للانقسام و الواحد حقا لا يقبل

الانقسام فقد ثبت أنه ما وحده من كيفه. و ثانيها قوله و لا حقيقته أصاب من مثله و هذا حق لأنه تعالى لا مثل له و قد دلت الأدلة

الكلامية و الحكمية على ذلك فمن أثبت له مثلا فإنه لم يصب

[13 : 70 ]

حقيقته تعالى و السجعة الأخرى تعطي هذا المعنى أيضا من غير زيادة عليه و هي قوله ع و لا إياه عنى من شبهه و لهذا قال شيوخنا إن

المشبه لا يعرف الله و لا تتوجه عباداته و صلواته إلى الله تعالى لأنه يعبد شيئا يعتقده جسما أو يعتقده مشابها لبعض هذه الذوات

المحدثة و العبادة تنصرف إلى المعبود بالقصد فإذا قصد بها غير الله تعالى لم يكن قد عبد الله سبحانه و لا عرفه و إنما يتخيل و

يتوهم أنه قد عرفه و عبده و ليس الأمر كما تخيل و توهم. و ثالثها قوله ع و لا صمده من أشار إليه أي أثبته في جهة كما تقول

الكرامية الصمد في اللغة العربية السيد و الصمد أيضا الذي لا جوف له و صار التصميد في الاصطلاح العرفي عبارة عن التنزيه و

الذي قال ع حق لأن من أشار إليه أي أثبته في جهة كما تقوله الكرامية فإنه ما صمده لأنه ما نزهه عن الجهات بل حكم عليه بما هو من

خواص الأجسام و كذلك من توهمه سبحانه أي من تخيل له في نفسه صورة أو هيئة أو شكلا فإنه لم ينزهه عما يجب تنزيهه عنه. و

رابعها قوله كل معروف بنفسه مصنوع هذا الكلام يجب أن يتأول و يحمل على أن كل معروف بالمشاهدة و الحس فهو مصنوع و ذلك

لأن الباري سبحانه معروف من طريقين إحداهما من أفعاله و الأخرى بنفسه و هي طريقة الحكماء الذين بحثوا في الوجود من حيث هو

وجود فعلموا أنه لا بد من موجود واجب الوجود فلم يستدلوا عليه بأفعاله بل أخرج لهم البحث في الوجود أنه لا بد من ذات

يستحيل عدمها من حيث هي هي. فإن قلت كيف يحمل كلامه على أن كل معروف بالمشاهدة و الحس فهو مصنوع و هذا يدخل فيه كثير

من الأعراض كالألوان و إذا دخل ذلك فسدت عليه الفقرة الثانية

[13 : 71 ]

و هي قوله ع و كل قائم فيما سواه معلول لأنها للأعراض خاصة فيدخل أحد مدلول الفقرتين في الأخرى فيختل النظم قلت يريد ع

بالفقرة الأولى كل معروف بنفسه من طريق المشاهدة مستقلا بذاته غير مفتقر في تقومه إلى غيره فهو مصنوع و هذا يختص بالأجسام

خاصة و لا يدخل الألوان و غيرها من الأعراض فيه لأنها متقومة بمحالها. و خامسها قوله و كل قائم في سواه معلول أي و كل شيء

يتقوم بغيره فهو معلول و هذا حق لا محالة كالأعراض لأنها لو كانت واجبة لاستغنت في تقومها عن سواها لكنها مفتقرة إلى المحل

الذي يتقوم به ذواتها فإذا هي معلولة لأن كل مفتقر إلى الغير فهو ممكن فلا بد له من مؤثر. و سادسها قوله فاعل لا باضطراب آلة هذا

لبيان الفرق بينه و بيننا فإننا نفعل بالآلات و هو سبحانه قادر لذاته فاستغنى عن الآلة. و سابعها قوله مقدر لا بجول فكرة هذا أيضا

للفرق بيننا و بينه لأنا إذا قدرنا أجلنا أفكارنا و ترددت بنا الدواعي و هو سبحانه يقدر الأشياء على خلاف ذلك. و ثامنها قوله غني لا

باستفادة هذا أيضا للفرق بيننا و بينه لأن الغني منا من يستفيد الغنى بسبب خارجي و هو سبحانه غني بذاته من غير استفادة أمر يصير

به غنيا و المراد بكونه غنيا أن كل شيء من الأشياء يحتاج إليه و أنه سبحانه لا يحتاج إلى شيء من الأشياء أصلا. و تاسعها قوله لا

تصحبه الأوقات هذا بحث شريف جدا و ذلك لأنه سبحانه ليس بزمان و لا قابل للحركة فذاته فوق الزمان و الدهر أما المتكلمون

فإنهم يقولون

[13 : 72 ]

إنه تعالى كان و لا زمان و لا وقت و أما الحكماء فيقولون إن الزمان عرض قائم بعرض آخر و ذلك العرض الآخر قائم بجسم معلول

لبعض المعلولات الصادرة عنه سبحانه فالزمان عندهم و إن كان لم يزل إلا أن العلة الأولى ليست واقعة تحته و ذلك هو المراد بقوله

لا تصحبه الأوقات إن فسرناه على قولهم و تفسيره على قول المتكلمين أولى. و عاشرها قوله و لا ترفده الأدوات رفدت فلانا إذا

أعنته و المراد الفرق بيننا و بينه لأننا مرفودون بالأدوات و لولاها لم يصح منا الفعل و هو سبحانه بخلاف ذلك. و حادي عشرها قوله

سبق الأوقات كونه إلى آخر الفصل هذا تصريح بحدوث العالم. فإن قلت ما معنى قوله و العدم وجوده و هل يسبق وجوده العدم مع

كون عدم العالم في الأزل لا أول له قلت ليس يعني بالعدم هاهنا عدم العالم بل عدم ذاته سبحانه أي غلب وجود ذاته عدمها و سبقها

فوجب له وجود يستحيل تطرق العدم إليه أزلا و أبدا بخلاف الممكنات فإن عدمها سابق بالذات على وجودها و هذا دقيق

بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لَا مَشْعَرَ لَهُ وَ بِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الْأُمُورِ عُرِفَ أَنْ لَا ضِدَّ لَهُ وَ بِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ عُرِفَ أَنْ لَا قَرِينَ لَهُ ضَادَّ النُّورَ

بِالظُّلْمَةِ وَ الْوُضُوحَ بِالْبُهْمَةِ وَ الْجُمُودَ بِالْبَلَلِ وَ الْحَرُورَ بِالصَّرْدِ

[13 : 73 ]

مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا مُقَارِنٌ بَيْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا مُقَرِّبٌ بَيْنَ مُتَبَاعِدَاتِهَا مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا لَا يُشْمَلُ بِحَدّ وَ لَا يُحْسَبُ بِعَدّ وَ إِنَّمَا تَحُدُّ

الْأَدَوَاتُ أَنْفُسَهَا وَ تُشِيرُ الآْلَاتُ إِلَى نَظَائِرِهَا

المشاعر الحواس قال بلعاء بن قيس

و الرأس مرتفع فيه مشاعره يهدي السبيل له سمع و عينان

قال بجعله تعالى المشاعر عرف أن لا مشعر له و ذلك لأن الجسم لا يصح منه فعل الأجسام و هذا هو الدليل الذي يعول عليه

المتكلمون في أنه تعالى ليس بجسم. ثم قال و بمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له و ذلك لأنه تعالى لما دلنا بالعقل على أن الأمور

المتضادة إنما تتضاد على موضوع تقوم به و تحله كان قد دلنا على أنه تعالى لا ضد له لأنه يستحيل أن يكون قائما بموضوع يحله

كما تقوم المتضادات بموضوعاتها. ثم قال و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له و ذلك لأنه تعالى قرن بين العرض و الجوهر

بمعنى استحالة انفكاك أحدهما عن الآخر و قرن بين كثير من الأعراض نحو ما يقوله أصحابنا في حياتي القلب و الكبد و نحو

الإضافات التي يذكرها الحكماء كالبنوة و الأبوة و الفوقية و التحتية و نحو كثير من العلل و المعلولات و الأسباب و المسببات فيما

ركبه في العقول من وجوب هذه المقارنة و استحالة انفكاك أحد الأمرين

[13 : 74 ]

عن الآخر علمنا أنه لا قرين له سبحانه لأنه لو قارن شيئا على حسب هذه المقارنة لاستحال انفكاكه عنه فكان محتاجا في تحقق ذاته

تعالى إليه و كل محتاج ممكن فواجب الوجود ممكن هذا محال. ثم شرع في تفصيل المتضادات فقال ضاد النور بالظلمة و هما عرضان

عند كثير من الناس و فيهم من يجعل الظلمة عدمية. قال و الوضوح بالبهمة يعني البياض و السواد. قال و الجمود بالبلل يعني

اليبوسة و الرطوبة. قال و الحرور بالصرد يعني الحرارة و البرودة و الحرور هاهنا مفتوح الحاء يقال إني لأجد لهذا الطعام حرورا و

حرورة في فمي أي حرارة و يجوز أن يكون في الكلام مضاف محذوف أي و حرارة الحرور بالصرد و الحرور هاهنا يكون الريح الحارة و

هي بالليل كالسموم بالنهار و الصرد البرد. ثم قال و إنه تعالى مؤلف بين هذه المتباعدات المتعاديات المتباينات و ليس المراد من

تأليفه بينها جمعه إياها في مكان واحد كيف و ذلك مستحيل في نفسه بل هو سبحانه مؤلف لها في الأجسام المركبة حتى خلع منها

صورة مفردة هي المزاج ألا ترى أنه جمع الحار و البارد و الرطب و اليابس فمزجه مزجا مخصوصا حتى انتزع منه طبيعة مفردة ليست

حارة مطلقة و لا باردة مطلقة و لا رطبة مطلقة و لا يابسة مطلقة و هي المزاج و هو محدود عند الحكماء بأنه كيفية حاصلة من كيفيات

متضادة و هذا هو محصول كلامه ع بعينه. و العجب من فصاحته في ضمن حكمته كيف أعطى كل لفظة من هذه اللفظات ما يناسبها و

يليق بها فأعطى المتباعدات لفظة مقرب لأن البعد بإزاء القرب

[13 : 75 ]

و أعطى المتباينات لفظة مقارن لأن البينونة بإزاء المقارنة و أعطى المتعاديات لفظة مؤلف لأن الائتلاف بإزاء التعادي. ثم عاد ع

فعكس المعنى فقال مفرق بين متدانياتها فجعل الفساد بإزاء الكون و هذا من دقيق حكمته ع و ذلك لأن كل كائن فاسد فلما أوضح ما

أوضح في الكون و التركيب و الإيجاد أعقبه بذكر الفساد و العدم فقال مفرق بين متدانياتها و ذلك لأن كل جسم مركب من العناصر

المختلفة الكيفيات المتضادة الطبائع فإنه سيئول إلى الانحلال و التفرق. ثم قال لا يشمل بحد و ذلك لأن الحد الشامل ما كان

مركبا من جنس و فصل و الباري تعالى منزه عن ذلك لأنه لو شمله الحد على هذا الوجه يكون مركبا فلم يكن واجب الوجود و قد ثبت

أنه واجب الوجود و يجوز أن يعنى به أنه ليس بذي نهاية فتحويه الأقطار و تحده. ثم قال و لا يحسب بعد يحتمل أن يريد لا تحسب

أزليته بعد أي لا يقال له منذ وجد كذا و كذا كما يقال للأشياء المتقاربة العهد و يحتمل أن يريد به أنه ليس مماثلا للأشياء فيدخل

تحت العدد كما تعد الجواهر و كما تعد الأمور المحسوسة. ثم قال و إنما تحد الأدوات أنفسها و تشير الآلات إلى نظائرها هذا يؤكد

معنى التفسير الثاني و ذلك لأن الأدوات كالجوارح إنما تحد و تقدر ما كان مثلها من ذوات المقادير و كذلك إنما تشير الآلات و هي

الحواس إلى ما كان نظيرا لها في الجسمية و لوازمها و الباري تعالى ليس بذي مقدار و لا جسم و لا حال في جسم فاستحال أن تحده

الأدوات و تشير إليه الآلات

[13 : 76 ]

مَنَعَتْهَا مُنْذُ الْقِدْمَةَ وَ حَمَتْهَا قَدْ الْأَزَلِيَّةَ وَ جَنَّبَتْهَا لَوْلَا التَّكْمِلَةَ بِهَا تَجَلَّى صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ وَ بِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُيُونِ وَ لَا تَجْرِي عَلَيْهِ

الْحَرَكَةُ وَ السُّكُونُ وَ كَيْفَ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا هُوَ أَجْرَاهُ وَ يَعُودُ فِيهِ مَا هُوَ أَبْدَاهُ وَ يَحْدُثُ فِيهِ مَا هُوَ أَحْدَثَهُ إِذاً لَتَفَاوَتَتْ ذَاتُهُ وَ لَتَجَزَّأَ كُنْهُهُ وَ

لَامْتَنَعَ مِنَ الْأَزَلِ مَعْنَاهُ وَ لَكَانَ لَهُ وَرَاءٌ إِذْ وُجِدَ لَهُ أَمَامٌ وَ لَالْتَمَسَ التَّمَامَ إِذْ لَزِمَهُ النُّقْصَانُ وَ إِذاً لَقَامَتْ آيَةُ الْمَصْنُوعِ فِيهِ وَ لَتَحَوَّلَ دَلِيلًا

بَعْدَ أَنْ كَانَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ وَ خَرَجَ بِسُلْطَانِ الِامْتِنَاعِ مِنْ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ مَا يُؤَثِّرُ فِي غَيْرِهِ

قد اختلف الرواة في هذا الموضع من وجهين أحدهما قول من نصب القدمة و الأزلية و التكملة فيكون نصبها عنده على أنها مفعول

ثان و المفعول الأول الضمائر المتصلة بالأفعال و تكون منذ و قد و لو لا في موضع رفع بأنها فاعلة و تقدير الكلام أن إطلاق لفظة

منذ على الآلات و الأدوات يمنعها عن كونها قديمة لأن لفظة منذ وضعت لابتداء الزمان كلفظة من لابتداء المكان و القديم لا ابتداء له

و كذلك إطلاق لفظة قد على الآلات و الأدوات تحميها و تمنعها من كونها أزلية لأن قد لتقريب الماضي من الحال تقول قد قام زيد فقد

دل على أن قيامه قريب من الحال التي أخبرت فيها

[13 : 77 ]

بقيامه و الأزلي لا يصح ذلك فيه و كذلك إطلاق لفظة لو لا على الأدوات و الآلات يجنبها التكملة و يمنعها من التمام المطلق لأن

لفظة لو لا وضعت لامتناع الشيء لوجود غيره كقولك لو لا زيد لقام عمرو فامتناع قيام عمرو إنما هو لوجود زيد و أنت تقول في

الأدوات و الآلات و كل جسم ما أحسنه لو لا أنه فان و ما أتمه لو لا كذا فيكون المقصد و المنحى بهذا الكلام على هذه الرواية بيان

أن الأدوات و الآلات محدثة ناقصة و المراد بالآلات و الأدوات أربابها. الوجه الثاني قول من رفع القدمة و الأزلية و التكملة فيكون

كل واحد منها عنده فاعلا و تكون الضمائر المتصلة بالأفعال مفعولا أولا و منذ و قد و لو لا مفعولا ثانيا و يكون المعنى أن قدم الباري

و أزليته و كماله منعت الأدوات و الآلات من إطلاق لفظة منذ و قد و لو لا عليه سبحانه لأنه تعالى قديم كامل و لفظتا منذ و قد لا

يطلقان إلا على محدث لأن إحداهما لابتداء الزمان و الأخرى لتقريب الماضي من الحال و لفظة لو لا لا تطلق إلا على ناقص فيكون

المقصد و المنحى بهذا الكلام على هذه الرواية بيان قدم الباري تعالى و كماله و أنه لا يصح أن يطلق عليه ألفاظ تدل على الحدوث

و النقص. قوله ع بها تجلى صانعها للعقول و بها امتنع عن نظر العيون أي بهذه الآلات و الأدوات التي هي حواسنا و مشاعرنا و بخلقه

إياها و تصويره لها تجلى للعقول و عرف لأنه لو لم يخلقها لم يعرف و بها امتنع عن نظر العيون أي بها استنبطنا استحالة كونه مرئيا

بالعيون لأنا بالمشاعر و الحواس كملت عقولنا و بعقولنا استخرجنا الدلالة على أنه لا تصح رؤيته فإذن بخلقه الآلات و الأدوات لنا

عرفناه عقلا و بذلك

[13 : 78 ]

أيضا عرفنا أنه يستحيل أن يعرف بغير العقل و أن قول من قال إنا سنعرفه رؤية و مشافهة بالحاسة باطل. قوله ع لا تجري عليه

الحركة و السكون هذا دليل أخذه المتكلمون عنه ع فنظموه في كتبهم و قرروه و هو أن الحركة و السكون معان محدثة فلو حلت فيه

لم يخل منها و ما لم يخل من المحدث فهو محدث. فإن قلت إنه ع لم يخرج كلامه هذا المخرج و إنما قال كيف يجري عليه ما هو

أجراه و هذا نمط آخر غير ما يقرره المتكلمون قلت بل هو هو بعينه لأنه إذا ثبت أنه هو الذي أجرى الحركة و السكون أي أحدثهما لم

يجز أن يجريا عليه لأنهما لو جريا عليه لم يخل إما أن يجريا عليه على التعاقب و ليسا و لا واحد منهما بقديم أو يجريا عليه على أن

أحدهما قديم ثم تلاه الآخر و الأول باطل بما يبطل به حوادث لا أول لها و الثاني باطل بكلامه ع و ذلك لأنه لو كان أحدهما قديما

معه سبحانه لما كان أجراه لكن قد قلنا أنه أجراه أي أحدثه و هذا خلف محال و أيضا فإذا كان أحدهما قديما معه لم يجز أن يتلوه

الآخر لأن القديم لا يزول بالمحدث. ثم قال ع إذا لتفاوتت ذاته و لتجزأ كنهه و لامتنع من الأزل معناه هذا تأكيد لبيان استحالة جريان

الحركة و السكون عليه تقول لو صح عليه ذلك لكان محدثا و هو معنى قوله لامتنع من الأزل معناه و أيضا كان ينبغي أن تكون ذاته

منقسمة لأن المتحرك الساكن لا بد أن يكون متحيزا و كل متحيز جسم و كل جسم منقسم أبدا و في هذا إشارة إلى نفي الجوهر

الفرد.

[13 : 79 ]

ثم قال ع و لكان له وراء إذا وجد له أمام هذا يؤكد ما قلناه إنه إشارة إلى نفي الجوهر الفرد يقول لو حلته الحركة لكان جرما و حجما

و لكان أحد وجهيه غير الوجه الآخر لا محالة فكان منقسما و هذا الكلام لا يستقيم إلا مع نفي الجوهر الفرد لأن من أثبته يقول يصح

أن تحله الحركة و لا يكون أحد وجهيه غير الآخر فلا يلزم أن يكون له وراء و أمام. ثم قال ع و لا التمس التمام إذ لزمه النقصان هذا

إشارة إلى ما يقوله الحكماء من أن الكون عدم و نقص و الحركة وجود و كمال فلو كان سبحانه يتحرك و يسكن لكان حال السكون

ناقصا قد عدم عنه كماله فكان ملتمسا كماله بالحركة الطارئة على السكون و واجب الوجود يستحيل أن يكون له حالة نقصان و أن

يكون له حالة بالقوة و أخرى بالفعل. قوله ع إذا لقامت آية المصنوع فيه و ذلك لأن آية المصنوع كونه متغيرا منتقلا من حال إلى

حال لأنا بذلك استدللنا على حدوث الأجسام فلو كان تعالى متغيرا متحركا منتقلا من حال إلى حال لتحقق فيه دليل الحدوث فكان

مصنوعا و قد ثبت أنه الصانع المطلق سبحانه. قوله ع و لتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه يقول إنا وجدنا دليلنا على الباري

سبحانه أنما هو الأجسام المتحركة فلو كان الباري متحركا لكان دليلا على غيره و كان فوقه صانع آخر صنعه و أحدثه لكنه سبحانه

لا صانع له و لا ذات فوق ذاته فهو المدلول عليه و المنتهى إليه. قوله ع و خرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما أثر في غيره في

هذا الكلام يتوهم سامعه أنه عطف على قوله لتفاوتت و لتجزأ و لامتنع

[13 : 80 ]

و لكان له و لالتمس و لقامت و لتحول و ليس كذلك لأنه لو كان معطوفا عليها لاختل الكلام و فسد لأنها كلها مستحيلات عليه تعالى

و المراد لو تحرك لزم هذه المحالات كلها. و قوله و خرج بسلطان الامتناع ليس من المستحيلات عليه بل هو واجب له و من الأمور

الصادقة عليه فإذا فسد أن يكون معطوفا عليها وجب أن يكون معطوفا على ما كان مدلولا عليه و تقدير الكلام كان يلزم أن يتحول

الباري دليلا على غيره بعد أن كان مدلولا عليه و بعد أن خرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما أثر في غيره و خروجه بسلطان

الامتناع المراد به وجوب الوجود و التجريد و كونه ليس بمتحيز و لا حال في المتحيز فهذا هو سلطان الامتناع الذي به خرج عن أن

يؤثر فيه ما أثر في غيره من الأجسام و الممكنات

الَّذِي لَا يَحُولُ وَ لَا يَزُولُ وَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْأُفُولُ لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْلُوداً وَ لَمْ يُولَدْ فَيَصِيرَ مَحْدُوداً جَلَّ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَبْنَاءِ وَ طَهُرَ عَنْ

مُلَامَسَةِ النِّسَاءِ لَا تَنَالُهُ الْأَوْهَامُ فَتُقَدِّرَهُ وَ لَا تَتَوَهَّمُهُ الْفِطَنُ فَتُصَوِّرَهُ وَ لَا تُدْرِكُهُ الْحَوَاسُّ فَتُحِسَّهُ وَ لَا تَلْمِسُهُ الْأَيْدِي فَتَمَسَّهُ وَ لَا يَتَغَيَّرُ

بِحَال وَ لَا يَتَبَدَّلُ فِي الْأَحْوَالِ وَ لَا تُبْلِيهِ اللَّيَالِي وَ الْأَيَّامُ وَ لَا يُغَيِّرُهُ الضِّيَاءُ وَ الظَّلَامُ

هذا الفصل كله واضح مستغن عن الشرح إلا قوله ع لم يلد

[13 : 81 ]

فيكون مولودا لأن لقائل أن يقول كيف يلزم من فرض كونه والدا أن يكون مولودا في جوابه أنه ليس معنى الكلام أنه يلزم من فرض

وقوع أحدهما وقوع الآخر و كيف و آدم والد و ليس بمولود و إنما المراد أنه يلزم من فرض صحة كونه والدا صحة كونه مولودا و

التالي محال و المقدم محال و إنما قلنا إنه يلزم من فرض صحة كونه والدا صحة كونه مولودا لأنه لو صح أن يكون والدا على

التفسير المفهوم من الوالدية و هو أن يتصور من بعض أجزائه حي آخر من نوعه على سبيل الاستحالة لذلك الجزء كما نعقله في

النطفة المنفصلة من الإنسان المستحيلة إلى صورة أخرى حتى يكون منها بشر آخر من نوع الأول لصح عليه أن يكون هو مولودا من

والد آخر قبله و ذلك لأن الأجسام متماثلة في الجسمية و قد ثبت ذلك بدليل عقلي واضح في مواضعه التي هي أملك به و كل مثلين

فإن أحدهما يصح عليه ما يصح على الآخر فلو صح كونه والدا يصح كونه مولودا. و أما بيان أنه لا يصح كونه مولودا فلأن كل مولود

متأخر عن والده بالزمان و كل متأخر عن غيره بالزمان محدث فالمولود محدث و الباري تعالى قد ثبت أنه قديم و أن الحدوث عليه

محال فاستحال أن يكون مولودا و تم الدليل

وَ لَا يُوصَفُ بِشَيْء مِنَ الْأَجْزَاءِ وَ لَا بِالْجَوَارِحِ وَ الْأَعْضَاءِ وَ لَا بِعَرَض مِنَ الْأَعْرَاضِ وَ لَا بِالْغَيْرِيَّةِ وَ الْأَبْعَاضِ وَ لَا يُقَالُ لَهُ حَدٌّ وَ لَا نِهَايَةٌ وَ لَا

انْقِطَاعٌ وَ لَا غَايَةٌ وَ لَا أَنَّ الْأَشْيَاءَ تَحْوِيهِ فَتُقِلَّهُ أَوْ تُهْوِيَهُ أَوْ أَنَّ شَيْئاً يَحْمِلُهُ فَيُمِيلَهُ

[13 : 82 ]

أَوْ يَعْدِلَهُ لَيْسَ فِي الْأَشْيَاءِ بِوَالِج وَ لَا عَنْهَا بِخَارِج يُخْبِرُ لَا بِلِسَان وَ لَهَوَات وَ يَسْمَعُ لَا بِخُرُوق وَ أَدَوَات يَقُولُ وَ لَا يَلْفِظُ وَ يَحْفَظُ وَ لَا

يَتَحَفَّظُ وَ يُرِيدُ وَ لَا يُضْمِرُ يُحِبُّ وَ يَرْضَى مِنْ غَيْرِ رِقَّة وَ يُبْغِضُ وَ يَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّة يَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ كَوْنَهُ كُنْ فَيَكُونُ لَا بِصَوْت يَقْرَعُ وَ لَا

بِنِدَاء يُسْمَعُ وَ إِنَّمَا كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ فِعْلٌ مِنْهُ أَنْشَأَهُ وَ مَثَّلَهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ كَائِناً وَ لَوْ كَانَ قَدِيماً لَكَانَ إِلَهاً ثَانِياً

في هذا الفصل مباحث أولها أن الباري سبحانه لا يوصف بشيء من الأجزاء أي ليس بمركب لأنه لو كان مركبا لافتقر إلى أجزائه و

أجزاؤه ليست نفس هويته و كل ذات تفتقر هويتها إلى أمر من الأمور فهي ممكنة لكنه واجب الوجود فاستحال أن يوصف بشيء من

الأجزاء. و ثانيها أنه لا يوصف بالجوارح و الأعضاء كما يقول مثبتو الصورة و ذلك لأنه لو كان كذلك لكان جسما و كل جسم ممكن و

واجب الوجود غير ممكن. و ثالثها أنه لا يوصف بعرض من الأعراض كما يقوله الكرامية لأنه لو حله العرض لكان ذلك العرض ليس بأن

يحل فيه أولى من أن يحل هو في العرض لأن معنى

[13 : 83 ]

الحلول حصول العرض في حيز المحل تبعا لحصول المحل فيه فما ليس بمتحيز لا يتحقق فيه معنى الحلول و ليس بأن يجعل محلا

أولى من أن يجعل حالا. و رابعها أنه لا يوصف بالغيرية و الأبعاض أي ليس له بعض و لا هو ذو أقسام بعضها غيرا للبعض الآخر و هذا

يرجع إلى البحث الأول. و خامسها أنه لا حد له و لا نهاية أي ليس ذا مقدار و لذلك المقدار طرف و نهاية لأنه لو كان ذا مقدار لكان

جسما لأن المقدار من لوازم الجسمية و قد ثبت أنه تعالى ليس بجسم. و سادسها أنه لا انقطاع لوجوده و لا غاية لأنه لو جاز عليه

العدم في المستقبل لكان وجوده الآن متوقفا على عدم سبب عدمه و كل متوقف على الغير فهو ممكن في ذاته و الباري تعالى واجب

الوجوب فاستحال عليه العدم و أن يكون لوجوده انقطاع أو ينتهي إلى غاية يعدم عندها. و سابعها أن الأشياء لا تحويه فتقله أي

ترفعه أو تهويه أي تجعله هاويا إلى جهة تحت لأنه لو كان كذلك لكان ذا مقدار أصغر من مقدار الشيء الحاوي له لكن قد بينا أنه

يستحيل عليه المقادير فاستحال كونه محويا. و ثامنها أنه ليس يحمله شيء فيميله إلى جانب أو يعدله بالنسبة إلى جميع الجوانب

لأن كل محمول مقدر و كل مقدر جسم و قد ثبت أنه ليس بجسم. و تاسعها أنه ليس في الأشياء بوالج أي داخل و لا عنها بخارج هذا

مذهب الموحدين و الخلاف فيه مع الكرامية و المجسمة و ينبغي أن يفهم قوله ع و لا عنها بخارج أنه لا يريد سلب الولوج فيكون

قد خلا من النقيضين لأن ذلك محال بل المراد بكونه ليس خارجا عنها أنه ليس كما يعتقده كثير من الناس أن الفلك الأعلى المحيط لا

يحتوي عليه و لكنه ذات موجودة متميزة بنفسها قائمة

[13 : 84 ]

بذاتها خارجة عن الفلك في الجهة العليا بينها و بين الفلك بعد إما غير متناه على ما يحكى عن ابن الهيصم أو متناه على ما يذهب إليه

أصحابه و ذلك أن هذه القضية و هي قولنا الباري خارج عن الموجودات كلها على هذا التفسير ليست مناقضة للقضية الأولى و هي

قولنا الباري داخل العالم ليكون القول بخلوه عنهما قولا بخلوه عن النقيضين أ لا ترى أنه يجوز أن تكون القضيتان كاذبتين معا بألا

يكون الفلك المحيط محتويا عليه و لا يكون حاصلا في جهة خارج الفلك و لو كانت القضيتان متناقضتين لما استقام ذلك و هذا كما

تقول زيد في الدار زيد في المسجد فإن هاتين القضيتين ليستا متناقضتين لجواز ألا يكون زيد في الدار و لا في المسجد فإن هاتين لو

تناقضتا لاستحال الخروج عن النقيضين لكن المتناقض زيد في الدار زيد ليس في الدار و الذي يستشنعه العوام من قولنا الباري لا

داخل العالم و لا خارج العالم غلط مبني على اعتقادهم و تصورهم أن القضيتين تتناقضان و إذا فهم ما ذكرناه بان أنه ليس هذا القول

بشنيع بل هو سهل و حق أيضا فإنه تعالى لا متحيز و لا حال في المتحيز و ما كان كذلك استحال أن يحصل في جهة لا داخل العالم و

لا خارج العالم و قد ثبت كونه غير متحيز و لا حال في المتحيز من حيث كان واجب الوجود فإذن القول بأنه ليس في الأشياء بوالج و

لا عنها بخارج صواب و حق. و عاشرها أنه تعالى يخبر بلا لسان و لهوات و ذلك لأن كونه تعالى مخبرا هو كونه فاعلا للخبر كما أن

كونه ضاربا هو كونه فاعلا للضرب فكما لا يحتاج في كونه ضاربا إلى أداة و جارحة يضرب بها كذلك لا يحتاج في كونه مخبرا إلى

لسان و لهوات يخبر بها. و حادي عشرها أنه تعالى يسمع بلا حروف و أدوات و ذلك لأن الباري سبحانه حي لا آفة به و كل حي لا آفة

به فواجب أن يسمع المسموعات و يبصر المبصرات

[13 : 85 ]

و لا حاجة به سبحانه إلى حروف و أدوات كما نحتاج نحن إلى ذلك لأنا أحياء بحياة تحلنا و الباري تعالى حي لذاته فلما افترقنا فيما

به كان سامعا و مبصرا افترقنا في الحاجة إلى الأدوات و الجوارح. و ثاني عشرها أنه يقول و لا يتلفظ هذا بحث لفظي و ذلك لأنه قد

ورد السمع بتسميته قائلا و قد تكرر في الكتاب العزيز ذكر هذه اللفظة نحو قوله إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسى وَ قالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ و لم

يرد في السمع إطلاق كونه متلفظا عليه و في إطلاقه إيهام كونه ذا جارحة فوجب الاقتصار على ما ورد و ترك ما لم يرد. و ثالث عشرها

أنه تعالى يحفظ و لا يتحفظ أما كونه يحفظ فيطلق على وجهين أحدهما أنه يحفظ بمعنى أنه يحصي أعمال عباده و يعلمها و الثاني

كونه يحفظهم و يحرسهم من الآفات و الدواهي و أما كونه لا يتحفظ فيحتمل معنيين أحدهما أنه لا يجوز أن يطلق عليه أنه يتحفظ

الكلام أي يتكلف كونه حافظا له و محيطا و عالما به كالواحد منا يتحفظ الدرس ليحفظه فهو سبحانه حافظ غير متحفظ و الثاني أنه

ليس بمتحرز و لا مشفق على نفسه خوفا أن تبدر إليه بادرة من غيره. و رابع عشرها أنه يريد و لا يضمر أما كونه مريدا فقد ثبت

بالسمع نحو قوله تعالى يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ و بالعقل لاختصاص أفعاله بأوقات مخصوصة و كيفيات مخصوصة جاز أن تقع على

خلافها فلا بد من مخصص لها بما اختصت به و ذلك كونه مريدا و أما كونه لا يضمر فهو إطلاق لفظي لم يأذن فيه الشرع و فيه إيهام

كونه ذا قلب لأن الضمير في العرف اللغوي ما استكن في القلب و الباري ليس بجسم.

[13 : 86 ]

و خامس عشرها أنه يحب و يرضى من غير رقة و يبغض و يغضب من غير مشقة و ذلك لأن محبته للعبد إرادته أن يثيبه و رضاه عنه أن

يحمد فعله و هذا يصح و يطلق على الباري لا كإطلاقه علينا لأن هذه الأوصاف يقتضي إطلاقها علينا رقة القلب و الباري ليس بجسم و

أما بغضه للعبد فإرادة عقابه و غضبه كراهية فعله و وعيده بإنزال العقاب به و في الأغلب إنما يطلق ذلك علينا و يصح منا مع مشقة

تنالنا من إزعاج القلب و غليان دمه و الباري ليس بجسم. و سادس عشرها أنه يقول لما أراد كونه كن فيكون من غير صوت يقرع و

نداء يسمع هذا مذهب شيخنا أبي الهذيل و إليه يذهب الكرامية و أتباعها من الحنابلة و غيرهم و الظاهر أن أمير المؤمنين ع أطلقه

حملا على ظاهر لفظ القرآن في مخاطبة الناس بما قد سمعوه و أنسوا به و تكرر على أسماعهم و أذهانهم فأما باطن الآية و تأويلها

الحقيقي فغير ما يسبق إلى أذهان العوام فليطلب من موضعه. و سابع عشرها أن كلامه سبحانه فعل منه أنشأه و مثله لم يكن من قبل

ذلك كائنا و لو كان قديما لكان إلها ثانيا هذا هو دليل المعتزلة على نفي المعاني القديمة التي منها القرآن و ذلك لأن القدم عندهم

أخص صفات الباري تعالى أو موجب عن الأخص فلو أن في الوجود معنى قديما قائما بذات الباري لكان ذلك المعنى مشاركا للباري في

أخص صفاته و كان يجب لذلك المعنى جميع ما وجب للباري من الصفات نحو العالمية و القادرية و غيرهما فكان إلها ثانيا. فإن قلت

ما معنى قوله ع و مثله قلت يقال مثلت له كذا تمثيلا إذا صورت له مثاله بالكتابة أو بغيرها فالباري مثل القرآن لجبريل ع بالكتابة في

اللوح المحفوظ فأنزله على محمد ص.

[13 : 87 ]

و أيضا يقال مثل زيد بحضرتي إذا حضر قائما و مثلته بين يدي زيد أي أحضرته منتصبا فلما كان الله تعالى فعل القرآن واضحا بينا كان

قد مثله للمكلفين

لَا يُقَالُ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَتَجْرِيَ عَلَيْهِ الصِّفَاتُ الْمُحْدَثَاتُ وَ لَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَ بَيْنَهُ فَصْلٌ وَ لَا لَهُ عَلَيْهَا فَضْلٌ فَيَسْتَوِيَ الصَّانِعُ وَ

الْمَصْنُوعُ وَ يَتَكَافَأَ الْمُبْتَدَعُ وَ الْبَدِيعُ خَلَقَ الْخَلَائِقَ عَلَى غَيْرِ مِثَال خَلَا مِنْ غَيْرِهِ وَ لَمْ يَسْتَعِنْ عَلَى خَلْقِهَا بِأَحَد مِنْ خَلْقِهِ وَ أَنْشَأَ الْأَرْضَ

فَأَمْسَكَهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِغَال وَ أَرْسَاهَا عَلَى غَيْرِ قَرَار وَ أَقَامَهَا بِغَيْرِ قَوَائِمَ وَ رَفَعَهَا بِغَيْرِ دَعَائِمَ وَ حَصَّنَهَا مِنَ الْأَوَدِ وَ الِاعْوِجَاجِ وَ مَنَعَهَا مِنَ

التَّهَافُتِ وَ الِانْفِرَاجِ أَرْسَى أَوْتَادَهَا وَ ضَرَبَ أَسْدَادَهَا وَ اسْتَفَاضَ عُيُونَهَا وَ خَدَّ أَوْدِيَتَهَا فَلَمْ يَهِنْ مَا بَنَاهُ وَ لَا ضَعُفَ مَا قَوَّاهُ

عاد ع إلى تنزيه الباري تعالى عن الحدوث فقال لا يجوز أن يوصف به فتجري عليه الصفات المحدثات كما تجري على كل محدث و

روي فتجري عليه صفات المحدثات و هو أليق ليعود إلى المحدثات ذوات الصفات ما بعده و هو قوله ع و لا يكون بينه و بينها فصل

لأنه لا يحسن أن يعود الضمير في قوله و بينها إلى الصفات بل إلى ذوات الصفات.

[13 : 88 ]

قال لو كان محدثا لجرت عليه صفات الأجسام المحدثة فلم يكن بينه و بين الأجسام المحدثة فرق فكان يستوي الصانع و المصنوع

و هذا محال. ثم ذكر أنه خلق الخلق غير محتذ لمثال و لا مستفيد من غيره كيفية الصنعة بخلاف الواحد منا فإن الواحد منا لا بد أن

يحتذي في الصنعة كالبناء و النجار و الصانع و غيرها. قال ع و لم يستعن على خلقها بأحد من خلقه لأنه تعالى قادر لذاته لا يعجزه

شيء. ثم ذكر إنشاءه تعالى الأرض و أنه أمسكها من غير اشتغال منه بإمساكها و غير ذلك من أفعاله و مخلوقاته ليس كالواحد منا

يمسك الثقيل فيشتغل بإمساكه عن كثير من أموره. قال و أرساها جعلها راسية على غير قرار تتمكن عليه بل واقفة بإرادته التي اقتضت

وقوفها و لأن الفلك يجذبها من جميع جهاتها كما قيل أو لأنه يدفعها من جميع جهاتها أو لأن أحد نصفيها صاعد بالطبع و الآخر هابط

بالطبع فاقتضى التعادل وقوفها أو لأنها طالبة للمركز فوقفت. و الأود الاعوجاج و كرر لاختلاف اللفظ. و التهافت التساقط و الأسداد

جمع سد و هو الجبل و يجوز ضم السين. و استفاض عيونها بمعنى أفاض أي جعلها فائضة. و خد أوديتها أي شقها فلم يهن ما بناه أي

لم يضعف

[13 : 89 ]

هُوَ الظَّاهِرُ عَلَيْهَا بِسُلْطَانِهِ وَ عَظَمَتِهِ وَ هُوَ الْبَاطِنُ لَهَا بِعِلْمِهِ وَ مَعْرِفَتِهِ وَ الْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْء مِنْهَا بِجَلَالِهِ وَ عِزَّتِهِ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ مِنْهَا

طَلَبَهُ وَ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ فَيَغْلِبَهُ وَ لَا يَفُوتُهُ السَّرِيعُ مِنْهَا فَيَسْبِقَهُ وَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذِي مَال فَيَرْزُقَهُ خَضَعَتِ الْأَشْيَاءُ لَهُ وَ ذَلَّتْ مُسْتَكِينَةً

لِعَظَمَتِهِ لَا تَسْتَطِيعُ الْهَرَبَ مِنْ سُلْطَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ فَتَمْتَنِعَ مِنْ نَفْعِهِ وَ ضَرِّهِ وَ لَا كُفْءَ لَهُ فَيُكَافِئَهُ وَ لَا نَظِيرَ لَهُ فَيُسَاوِيَهُ هُوَ الْمُفْنِي لَهَا بَعْدَ

وُجُودِهَا حَتَّى يَصِيرَ مَوْجُودُهَا كَمَفْقُودِهَا وَ لَيْسَ فَنَاءُ الدُّنْيَا بَعْدَ ابْتِدَاعِهَا بِأَعْجَبَ مِنْ إِنْشَائِهَا وَ اخْتِرَاعِهَا وَ كَيْفَ وَ لَوِ اجْتَمَعَ جَمِيعُ

حَيَوَانِهَا مِنْ طَيْرِهَا وَ بَهَائِمِهَا وَ مَا كَانَ مِنْ مُرَاحِهَا وَ سَائِمِهَا وَ أَصْنَافِ أَسْنَاخِهَا وَ أَجْنَاسِهَا وَ مُتَبَلِّدَةِ أُمَمِهَا وَ أَكْيَاسِهَا عَلَى إِحْدَاثِ بَعُوضَة مَا

قَدَرَتْ عَلَى إِحْدَاثِهَا وَ لَا عَرَفَتْ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى إِيجَادِهَا وَ لَتَحَيَّرَتْ عُقُولُهَا فِي عِلْمِ ذَلِكَ وَ تَاهَتْ وَ عَجَزَتْ قُوَاهَا وَ تَنَاهَتْ وَ رَجَعَتْ

خَاسِئَةً حَسِيرَةً عَارِفَةً بِأَنَّهَا مَقْهُورَةٌ مُقِرَّةً بِالْعَجْزِ عَنْ إِنْشَائِهَا مُذْعِنَةً بِالضَّعْفِ عَنْ إِفْنَائِهَا

الظاهر الغالب القاهر و الباطن العالم الخبير. و المراح بضم الميم النعم ترد إلى المراح بالضم أيضا و هو الموضع الذي تأوي إليه

النعم و ليس المراح ضد السائم على ما يظنه بعضهم و يقول إن عطف أحدهما على الآخر عطف

[13 : 90 ]

على المختلف و المتضاد بل أحدهما هو الآخر و ضدهما المعلوفة و إنما عطف أحدهما على الآخر على طريقة العرب في الخطابة و

مثله في القرآن كثير نحو قوله سبحانه لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ. و أسناخها جمع سنخ بالكسر و هو الأصل و

قوله لو اجتمع جميع الحيوان على إحداث بعوضة هو معنى قوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ

اجْتَمَعُوا لَهُ. فإن قلت ما معنى قوله لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره فتمتنع من نفعه و ضره و هلا قال من ضره و لم يذكر النفع

فإنه لا معنى لذكره هاهنا قلت هذا كما يقول المعتصم بمعقل حصين عن غيره ما يقدر اليوم فلان لي على نفع و لا ضر و ليس غرضه إلا

ذكر الضرر و إنما يأتي بذكر النفع على سبيل سلب القدرة عن فلان على كل ما يتعلق بذلك المعتصم و أيضا فإن العفو عن المجرم نفع

له فهو ع يقول إنه ليس شيء من الأشياء يستطيع أن يخرج إذا أجرم من سلطان الله تعالى إلى غيره فيمتنع من بأس الله تعالى و

يستغني عن أن يعفو عنه لعدم اقتداره عليه

وَ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَهُ لَا شَيْءَ مَعَهُ كَمَا كَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا كَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا بِلَا وَقْت وَ لَا مَكَان وَ لَا حِين وَ لَا

زَمَان عُدِمَتْ عِنْدَ ذَلِكَ الآْجَالُ وَ الْأَوْقَاتُ وَ زَالَتِ السِّنُونَ وَ السَّاعَاتُ فَلَا شَيْءَ

[13 : 91 ]

إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الَّذِي إِلَيْهِ مَصِيرُ جَمِيعِ الْأُمُورِ بِلَا قُدْرَة مِنْهَا كَانَ ابْتِدَاءُ خَلْقِهَا وَ بِغَيْرِ امْتِنَاع مِنْهَا كَانَ فَنَاؤُهَا وَ لَوْ قَدَرَتْ عَلَى

الِامْتِنَاعِ لَدَامَ بَقَاؤُهَا لَمْ يَتَكَاءَدْهُ صُنْعُ شَيْء مِنْهَا إِذْ صَنَعَهُ وَ لَمْ يَؤُدْهُ مِنْهَا خَلْقُ مَا بَرَأَهُ وَ خَلَقَهُ وَ لَمْ يُكَوِّنْهَا لِتَشْدِيدِ سُلْطَان وَ لَا لِخَوْف مِنْ

زَوَال وَ نُقْصَان وَ لَا لِلِاسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى نِدّ مُكَاثِر وَ لَا لِلِاحْتِرَازِ بِهَا مِنْ ضِدّ مُثَاوِر وَ لَا لِلِازْدِيَادِ بِهَا فِي مُلْكِهِ وَ لَا لِمُكَاثَرَةِ شَرِيك فِي شِرْكِهِ وَ

لَا لِوَحْشَة كَانَتْ مِنْهُ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِسَ إِلَيْهَا ثُمَّ هُوَ يُفْنِيهَا بَعْدَ تَكْوِينِهَا لَا لِسَأَم دَخَلَ عَلَيْهِ فِي تَصْرِيفِهَا وَ تَدْبِيرِهَا وَ لَا لِرَاحَة وَاصِلَة إِلَيْهِ

وَ لَا لِثِقَلِ شَيْء مِنْهَا عَلَيْهِ لَا يُمِلُّهُ طُولُ بَقَائِهَا فَيَدْعُوَهُ إِلَى سُرْعَةِ إِفْنَائِهَا وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَبَّرَهَا بِلُطْفِهِ وَ أَمْسَكَهَا بِأَمْرِهِ وَ أَتْقَنَهَا بِقُدْرَتِهِ ثُمَّ

يُعِيدُهَا بَعْدَ الْفَنَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَة مِنْهُ إِلَيْهَا وَ لَا اسْتِعَانَة بِشَيْء مِنْهَا عَلَيْهَا وَ لَا لِانْصِرَاف مِنْ حَالِ وَحْشَة إِلَى حَالِ اسْتِئْنَاس وَ لَا مِنْ حَالِ

جَهْل وَ عَمًى إِلَى عِلْم وَ الْتِمَاس وَ لَا مِنْ فَقْر وَ حَاجَة إِلَى غِنًى وَ كَثْرَة وَ لَا مِنْ ذُلّ وَ ضَعَة إِلَى عِزّ وَ قُدْرَة

شرع أولا في ذكر إعدام الله سبحانه الجواهر و ما يتبعها و يقوم بها من الأعراض قبل القيامة و ذلك لأن الكتاب العزيز قد ورد به

نحو قوله تعالى كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْق نُعِيدُهُ و معلوم أنه بدأه عن عدم فوجب أن تكون الإعادة عن عدم أيضا و قال تعالى هُوَ الْأَوَّلُ وَ

الْ آخِرُ و إنما كان أولا لأنه كان موجودا و لا شيء من

[13 : 92 ]

الأشياء بموجود فوجب أن يكون آخرا كذلك هذا هو مذهب جمهور أصحابنا و جمهور المسلمين. ثم ذكر أنه يكون وحده سبحانه بلا

وقت و لا مكان و لا حين و لا زمان و ذلك لأن المكان أما الجسم الذي يتمكن عليه جسم آخر أو الجهة و كلاهما لا وجود له بتقدير

عدم الأفلاك و ما في حشوها من الأجسام أما الأول فظاهر و أما الثاني فلأن الجهة لا تتحقق إلا بتقدير وجود الفلك لأنها أمر إضافي

بالنسبة إليه فبتقدير عدمه لا يبقى للجهة تحقق أصلا و هذا هو القول في عدم المكان حينئذ و أما الزمان و الوقت و الحين فكل هذه

الألفاظ تعطي معنى واحدا و لا وجود لذلك المعنى بتقدير عدم الفلك لأن الزمان هو مقدار حركة الفلك فإذا قدرنا عدم الفلك فلا حركة

و لا زمان. ثم أوضح ع ذلك و أكده فقال عدمت عند ذلك الآجال و الأوقات و زالت السنون و الساعات لأن الأجل هو الوقت الذي يحل

فيه الدين أو تبطل فيه الحياة و إذا ثبت أنه لا وقت ثبت أنه لا أجل و كذلك لا سنة و لا ساعة لأنها أوقات مخصوصة. ثم عاد ع إلى

ذكر الدنيا فقال بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها و بغير امتناع منها كان فناؤها يعني أنها مسخرة تحت الأمر الإلهي. قال و لو قدرت على

الامتناع لدام بقاؤها لأنها كانت تكون ممانعة للقديم سبحانه في مراده و إنما تمانعه في مراده لو كانت قادرة لذاتها و لو كانت قادرة

لذاتها و أرادت البقاء لبقيت. قوله ع لم يتكاءده بالمد أي لم يشق عليه و يجوز لم يتكأده بالتشديد و الهمزة و أصله من العقبة

الكئود و هي الشاقة.

[13 : 93 ]

قال و لم يؤده أي لم يثقله. ثم ذكر أنه تعالى لم يخلق الدنيا ليشد بها سلطانه و لا لخوفه من زوال أو نقص يلحقه و لا ليستعين بها

على ند مماثل له أو يحترز بها عن ضد محارب له أو ليزداد بها ملكه ملكا أو ليكاثر بها شريكا في شركته له أو لأنه كان قبل خلقها

مستوحشا فأراد أن يستأنس بمن خلق. ثم ذكر أنه تعالى سيفنيها بعد إيجادها لا لضجر لحقه في تدبيرها و لا لراحة تصله في إعدامها و

لا لثقل شيء منها عليه حال وجودها و لا لملل أصابه فبعثه على إعدامها. ثم عاد ع فقال إنه سبحانه سيعيدها إلى الوجود بعد الفناء لا

لحاجة إليها و لا ليستعين ببعضها على بعض و لا لأنه استوحش حال عدمها فأحب أن يستأنس بإعادتها و لا لأنه فقد علما عند إعدامها

فأراد بإعادتها استجداد ذلك العلم و لا لأنه صار فقيرا عند إعدامها فأحب أن يتكثر و يثري بإعادتها و لا لذل أصابه بإفنائها فأراد العز

بإعادتها. فإن قلت إذا كان يفنيها لا لكذا و لا لكذا و كان من قبل أوجدها لا لكذا و لا لكذا ثم قلتم إنه يعيدها لا لكذا و لا لكذا فلأي

حال أوجدها أولا و لأي حال أفناها ثانيا و لأي حال أعادها ثالثا خبرونا عن ذلك فإنكم قد حكيتم عنه عليه السلام الحكم و لم تحكوا

عنه العلة قلت إنما أوجدها أولا للإحسان إلى البشر ليعرفوه فإنه لو لم يوجدهم لبقي مجهولا لا يعرف ثم كلف البشر ليعرضهم

للمنزلة الجليلة التي لا يمكن وصولهم إليها إلا بالتكليف و هي الثواب ثم يفنيهم لأنه لا بد من انقطاع التكليف ليخلص الثواب من

مشاق التكاليف و إذا كان لا بد من انقطاعه فلا فرق بين انقطاعه بالعدم المطلق

[13 : 94 ]

أو بتفريق الأجزاء و انقطاعه بالعدم المطلق قد ورد به الشرع و فيه لطف زائد للمكلفين لأنه أردع و أهيب في صدورهم من بقاء

أجزائهم و استمرار وجودها غير معدومة. ثم إنه سبحانه يبعثهم و يعيدهم ليوصل إلى كل إنسان ما يستحقه من ثواب أو عقاب و لا

يمكن إيصال هذا المستحق إلا بالإعادة و إنما لم يذكر أمير المؤمنين ع هذه التعليلات لأنه قد أشار إليها فيما تقدم من كلامه و هي

موجودة في فرش خطبه و لأن مقام الموعظة غير مقام التعليل و أمير المؤمنين ع في هذه الخطبة يسلك مسلك الموعظة في ضمن

تمجيد الباري سبحانه و تعظيمه و ليس ذلك بمظنة التعليل و الحجاج

[13 : 95 ]

233- و من خطبة له ع تختص بذكر الملاحم

أَلَا بِأَبِي وَ أُمِّي هُمْ مِنْ عِدَّة أَسْمَاؤُهُمْ فِي السَّمَاءِ مَعْرُوفَةٌ وَ فِي الْأَرْضِ مَجْهُولَةٌ أَلَا فَتَوَقَّعُوا مَا يَكُونُ مِنْ إِدْبَارِ أُمُورِكُمْ وَ انْقِطَاعِ وُصَلِكُمْ وَ

اسْتِعْمَالِ صِغَارِكُمْ ذَاكَ حَيْثُ تَكُونُ ضَرْبَةُ السَّيْفِ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَهْوَنَ مِنَ الدِّرْهَمِ مِنْ حِلَّهِ ذَاكَ حَيْثُ يَكُونُ الْمُعْطَى أَعْظَمَ أَجْراً مِنَ

الْمُعْطِي ذَاكَ حَيْثُ تَسْكَرُونَ مِنْ غَيْرِ شَرَاب بَلْ مِنَ النِّعْمَةِ وَ النَّعِيمِ وَ تَحْلِفُونَ مِنْ غَيْرِ اضْطِرَار وَ تَكْذِبُونَ مِنْ غَيْرِ إِحْرَاج ذَاكَ إِذَا عَضَّكُمُ

الْبَلَاءُ كَمَا يَعَضُّ الْقَتَبُ غَارِبَ الْبَعِيرِ مَا أَطْوَلَ هَذَا الْعَنَاءَ وَ أَبْعَدَ هَذَا الرَّجَاءَ أَيُّهَا النَّاسُ أَلْقُوا هَذِهِ الْأَزِمَّةَ الَّتِي تَحْمِلُ ظُهُورُهَا الْأَثْقَالَ مِنْ

أَيْدِيكُمْ وَ لَا تَصَدَّعُوا عَلَى سُلْطَانِكُمْ فَتَذُمُّوا غِبَّ فِعَالِكُمْ وَ لَا تَقْتَحِمُوا مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ فَوْرِ نَارِ الْفِتْنَةِ وَ أَمِيطُوا عَنْ سَنَنِهَا وَ خَلُّوا قَصْدَ

السَّبِيلِ لَهَا فَقَدْ لَعَمْرِي يَهْلِكُ فِي لَهَبِهَا الْمُؤْمِنُ وَ يَسْلَمُ فِيهَا غَيْرُ الْمُسْلِمِ إِنَّمَا مَثَلِي بَيْنَكُمْ كَمَثَلِ السِّرَاجِ فِي الظُّلْمَةِ يَسْتَضِيءُ بِهِ مَنْ

وَلَجَهَا فَاسْمَعُوا أَيُّهَا النَّاسُ وَ عُوا وَ أَحْضِرُوا آذَانَ قُلُوبِكُمْ تَفْهَمُوا

[13 : 96 ]

الإمامية تقول هذه العدة هم الأئمة الأحد عشر من ولده ع و غيرهم يقول إنه عنى الأبدال الذين هم أولياء الله في الأرض و قد تقدم

منا ذكر القطب و الأبدال و أوضحنا ذلك إيضاحا جليا. قوله ع أسماؤهم في السماء معروفة أي تعرفها الملائكة المعصومون أعلمهم

الله تعالى بأسمائهم. و في الأرض مجهولة أي عند الأكثرين لاستيلاء الضلال على أكثر البشر. ثم خرج إلى مخاطبة أصحابه على عادته

في ذكر الملاحم و الفتن الكائنة في آخر زمان الدنيا فقال لهم توقعوا ما يكون من إدبار أموركم و انقطاع وصلكم جمع وصلة. و

استعمال صغاركم أي يتقدم الصغار على الكبار و هو من علامات الساعة. قال ذاك حيث يكون احتمال ضربة السيف على المؤمن أقل

مشقة من احتمال المشقة في اكتساب درهم حلال و ذلك لأن المكاسب تكون قد فسدت و اختلطت و غلب الحرام الحلال فيها. قوله

ذاك حيث يكون المعطى أعظم أجرا من المعطي معناه أن أكثر من يعطي و يتصدق في ذلك الزمان يكون ماله حراما فلا أجر له في

التصدق به ثم أكثرهم يقصد الرياء و السمعة بالصدقة أو لهوى نفسه أو لخطرة من خطراته و لا يفعل الحسن لأنه حسن و لا الواجب

لوجوبه فتكون اليد السفلى خيرا من اليد العليا عكس ما ورد في الأثر و أما المعطى فإنه يكون فقيرا ذا عيال لا يلزمه أن يبحث عن

المال أ حرام هو أم حلال فإذا أخذه ليسد به خلته و يصرفه في قوت عياله كان أعظم أجرا ممن أعطاه.

[13 : 97 ]

و قد خطر لي فيه معنى آخر و هو أن صاحب المال الحرام إنما يصرفه في أكثر الأحوال و أغلبها في الفساد و ارتكاب المحظور كما

قال من اكتسب مالا من نهاوش أذهبه الله في نهابر

فإذا أخذه الفقير منه على وجه الصدقة فقد فوت عليه صرفه في تلك القبائح و المحضورات التي كان بعرضته صرف ذلك القدر فيها لو

لم يأخذه الفقير فإذا قد أحسن الفقير إليه بكفه عن ارتكاب القبيح و من العصمة ألا يقدر فكان المعطى أعظم أجرا من المعطي. قوله

ع ذاك حيث تسكرون من غير شراب بل من النعمة بفتح النون و هي غضارة العيش و قد قيل في المثل سكر الهوى أشد من سكر

الخمر. قال تحلفون من غير اضطرار أي تتهاونون باليمين و بذكر الله عز و جل. قال و تكذبون من غير إحراج أي يصير الكذب لكم

عادة و دربة لا تفعلونه لأن آخر منكم قد أحرجكم و اضطركم بالغيظ إلى الحلف و روي من غير إحواج بالواو أي من غير أن يحوجكم

إليه أحد قال ذلك إذا عضكم البلاء كما يعض القتب غارب البعير هذا الكلام غير متصل بما قبله و هذه عادة الرضي رحمه الله يلتقط

الكلام التقاطا و لا يتلو بعضه بعضا و قد ذكرنا هذه الخطبة أو أكثرها فيما تقدم من الأجزاء الأول و قبل هذا الكلام ذكر ما يناله

شيعته من البؤس و القنوط و مشقة انتظار الفرج. قوله ع ما أطول هذا العناء و أبعد هذا الرجاء هذا حكاية كلام شيعته و أصحابه.

[13 : 98 ]

ثم قال مخاطبا أصحابه الموجودين حوله أيها الناس ألقوا هذه الأزمة التي تحمل ظهورها الأثقال عن أيديكم هذه كناية عن النهي عن

ارتكاب القبيح و ما يوجب الإثم و العقاب و الظهور هاهنا هي الإبل أنفسها و الأثقال الم آثم و إلقاء الأزمة ترك اعتماد القبيح فهذا

عمومه و أما خصوصه فتعريض بما كان عليه أصحابه من الغدر و مخامرة العدو عليه و إضمار الغل و الغش له و عصيانه و التلوي عليه

و قد فسره بما بعده فقال و لا تصدعوا عن سلطانكم أي لا تفرقوا فتذموا غب فعالكم أي عاقبته. ثم نهاهم عن اقتحام ما استقبلوه من

فور نار الفتنة و فور النار غليانها و احتدامها و يروى ما استقبلكم. ثم قال و أميطوا عن سننها أي تنحوا عن طريقها و خلوا قصد

السبيل لها أي دعوها تسلك طريقها و لا تقفوا لها فيه فتكونوا حطبا لنارها. ثم ذكر أنه قد يهلك المؤمن في لهبها و يسلم فيه الكافر

كما قيل المؤمن ملقى و الكافر موقى. ثم ذكر أن مثله فيهم كالسرج يستضيء بها من ولجها أي دخل في ضوئها. و آذان قلوبكم كلمة

مستعارة جعل للقلب آذانا كما جعل الشاعر للقلوب أبصارا فقال

يدق على النواظر ما أتاه فتبصره بأبصار القلوب

[13 : 99 ]

234- و من خطبة له ع

أُوصِيكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ كَثْرَةِ حَمْدِهِ عَلَى آلَائِهِ إِلَيْكُمْ وَ نَعْمَائِهِ عَلَيْكُمْ وَ بَلَائِهِ لَدَيْكُمْ فَكَمْ خَصَّكُمْ بِنِعْمَة وَ تَدَارَكَكُمْ بِرَحْمَة

أَعْوَرْتُمْ لَهُ فَسَتَرَكُمْ وَ تَعَرَّضْتُمْ لِأَخْذِهِ فَأَمْهَلَكُمْ وَ أُوصِيكُمْ بِذِكْرِ الْمَوْتِ وَ إِقْلَالِ الْغَفْلَةِ عَنْهُ وَ كَيْفَ غَفْلَتُكُمْ عَمَّا لَيْسَ يُغْفِلُكُمْ وَ طَمَعُكُمْ

فِيمَنْ لَيْسَ يُمْهِلُكُمْ فَكَفَى وَاعِظاً بِمَوْتَى عَايَنْتُمُوهُمْ حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ غَيْرَ رَاكِبينَ وَ أُنْزِلُوا فِيهَا غَيْرَ نَازِلِينَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِلدُّنْيَا

عُمَّاراً وَ كَأَنَّ الآْخِرَةَ لَمْ تَزَلْ لَهُمْ دَاراً أَوْحَشُوا مَا كَانُوا يُوطِنُونَ وَ أَوْطَنُوا مَا كَانُوا يُوحِشُونَ وَ اشْتَغَلُوا بِمَا فَارَقُوا وَ أَضَاعُوا مَا إِلَيْهِ

انْتَقَلُوا لَا عَنْ قَبِيح يَسْتَطِيعُونَ انْتِقَالًا وَ لَا فِي حَسَن يَسْتَطِيعُونَ ازْدِيَاداً أَنِسُوا بِالدُّنْيَا فَغَرَّتْهُمْ وَ وَثِقُوا بِهَا فَصَرَعَتْهُمْ فَسَابِقُوا رَحِمَكُمُ

اللَّهُ إِلَى مَنَازِلِكُمُ الَّتِي أُمِرْتُمْ أَنْ تَعْمُرُوهَا وَ الَّتِي رَغِبْتُمْ فِيهَا وَ دُعِيتُمْ إِلَيْهَا وَ اسْتَتِمُّوا نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَتِهِ وَ الْمُجَانَبَةِ

لِمَعْصِيَتِهِ فَإِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ مَا أَسْرَعَ السَّاعَاتِ فِي الْيَوْمِ وَ أَسْرَعَ الْأَيَّامَ فِي الشَّهْرِ وَ أَسْرَعَ الشُّهُورَ فِي السَّنَةِ وَ أَسْرَعَ السِّنِينَ فِي

الْعُمُرِ

[13 : 100 ]

أعورتم أي انكشفتم و بدت عوراتكم و هي المقاتل تقول أعور الفارس إذا بدت مقاتله و أعورك الصيد إذا أمكنك منه. قوله ع

أوحشوا ما كانوا يوطنون أي أوطنوا قبورهم التي كانوا يوحشونها. قوله ع و اشتغلوا بما فارقوا أي اشتغلوا و هم في القبور بما

فارقوه من الأموال و القينات لأنها أذى و عقاب عليهم في قبورهم و لولاها لكانوا في راحة و يجوز أن يكون حكاية حالهم و هم بعد

في الدنيا أي اشتغلوا أيام حياتهم من الأموال و المنازل بما فارقوه و أضاعوا من أمر آخرتهم ما انتقلوا إليه. ثم ذكر أنهم لا

يستطيعون فعل حسنة و لا توبة من قبيح لأن التكليف سقط و المنازل التي أمروا بعمارتها و المقابر و عمارتها الأعمال الصالحة و

قوله ع إن غدا من اليوم قريب كلام يجري مجرى المثل قال غد ما غد ما أقرب اليوم من غد و الأصل فيه قول الله تعالى إِنَّ مَوْعِدَهُمُ

الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيب. و قوله ع ما أسرع الساعات في اليوم إلى آخر الفصل كلام شريف وجيز بالغ في معناه و الفصل كله نادر

لا نظير له

[13 : 101 ]

235- و من خطبة له ع

فَمِنَ الْإِيمَانِ مَا يَكُونُ ثَابِتاً مُسْتَقِرّاً فِي الْقُلُوبِ وَ مِنْهُ مَا يَكُونُ عَوَارِيَّ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَ الصُّدُورِ إِلَى أَجَل مَعْلُوم فَإِذَا كَانَتْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ مِنْ

أَحَد فَقِفُوهُ حَتَّى يَحْضُرَهُ الْمَوْتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقَعُ حَدُّ الْبَرَاءَةِ وَ الْهِجْرَةُ قَائِمَةٌ عَلَى حَدِّهَا الْأَوَّلِ مَا كَانَ لِلَّهِ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ حَاجَةٌ مِنْ مُسْتَسِرِّ

الْأُمَّةِ وَ مُعْلِنِهَا لَا يَقَعُ اسْمُ الْهِجْرَةِ عَلَى أَحَد إِلَّا بِمَعْرِفَةِ الْحُجَّةِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ عَرَفَهَا وَ أَقَرَّ بِهَا فَهُوَ مُهَاجِرٌ وَ لَا يَقَعُ اسْمُ الِاسْتِضْعَافِ عَلَى

مَنْ بَلَغَتْهُ الْحُجَّةُ فَسَمِعَتْهَا أُذُنُهُ وَ وَعَاهَا قَلْبُهُ إِنَّ أَمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا يَحْمِلُهُ إِلَّا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ وَ لَا يَعِي حَدِيثَنَا

إِلَّا صُدُورٌ أَمِينَةٌ وَ أَحْلَامٌ رَزِينَةٌ أَيُّهَا النَّاسُ سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي فَلَأَنَا بِطُرُقِ السَّمَاءِ أَعْلَمُ مِنِّي بِطُرُقِ الْأَرْضِ قَبْلَ أَنْ تَشْغَرَ بِرِجْلِهَا فِتْنَةٌ

تَطَأُ فِي خِطَامِهَا وَ تَذْهَبُ بِأَحْلَامِ قَوْمِهَا

هذا الفصل يحمل على عدة مباحث أولها قولها ع فمن الإيمان ما يكون كذا فنقول إنه قسم الإيمان إلى ثلاثة أقسام

[13 : 102 ]

أحدها الإيمان الحقيقي و هو الثابت المستقر في القلوب بالبرهان اليقيني. الثاني ما ليس ثابتا بالبرهان اليقيني بل بالدليل الجدلي

كإيمان كثير ممن لم يحقق العلوم العقلية و يعتقد ما يعتقده عن أقيسة جدلية لا تبلغ إلى درجة البرهان و قد سمى ع هذا القسم باسم

مفرد فقال إنه عواري في القلوب و العواري جمع عارية أي هو و إن كان في القلب و في محل الإيمان الحقيقي إلا أن حكمه حكم

العارية في البيت فإنها بعرضة الخروج منه لأنها ليست أصلية كائنة في بيت صاحبها. و الثالث ما ليس مستندا إلى برهان و لا إلى

قياس جدلي بل على سبيل التقليد و حسن الظن بالأسلاف و بمن يحسن ظن الإنسان فيه من عابد أو زاهد أو ذي ورع و قد جعله ع

عواري بين القلوب و الصدور لأنه دون الثاني فلم يجعله حالا في القلب و جعله مع كونه عارية حالا بين القلب و الصدر فيكون

أضعف مما قبله. فإن قلت فما معنى قوله إلى أجل معلوم قلت إنه يرجع إلى القسمين الأخيرين لأن من لا يكون إيمانه ثابتا بالبرهان

القطعي قد ينتقل إيمانه إلى أن يصير قطعيا بأن يمعن النظر و يرتب البرهان ترتيبا مخصوصا فينتج له النتيجة اليقينية و قد يصير

إيمان المقلد إيمانا جدليا فيرتقي إلى ما فوقه مرتبته و قد يصير إيمان الجدلي إيمانا تقليديا بأن يضعف في نظره ذلك القياس

الجدلي و لا يكون عالما بالبرهان فيئول حال إيمانه إلى أن يصير تقليديا فهذا هو فائدة قوله إلى أجل معلوم في هذين القسمين.

فأما صاحب القسم الأول فلا يمكن أن يكون إيمانه إلى أجل معلوم لأن من ظفر بالبرهان استحال أن ينتقل عن اعتقاده لا صاعدا و لا

هابطا أما لا صاعدا فلأنه ليس فوق البرهان مقام آخر و أما لا هابطا فلأن مادة البرهان هي المقدمات البديهية

السابق

التالي