السابق

التالي

[13 : 3 ]

الجزء الثالث عشر

تتمة باب الخطب و الأوامر

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل

224- و من كلام له ع في وصف بيعته بالخلافة

و قد تقدم مثله بألفاظ مختلفة

وَ بَسَطْتُمْ يَدِي فَكَفَفْتُهَا وَ مَدَدْتُمُوهَا فَقَبَضْتُهَا ثُمَّ تَدَاكَكْتُمْ عَلَيَّ تَدَاكَّ الْإِبِلِ الْهِيمِ عَلَى حِيَاضِهَا يَوْمَ وِرْدِهَا حَتَّى انْقَطَعَتِ النَّعْلُ وَ سَقَطَ

الرِّدَاءُ وَ وُطِئَ الضَّعِيفُ وَ بَلَغَ مِنْ سُرُورِ النَّاسِ بِبَيْعَتِهِمْ إِيَّايَ أَنِ ابْتَهَجَ بِهَا الصَّغِيرُ وَ هَدَجَ إِلَيْهَا الْكَبِيرُ وَ تَحَامَلَ نَحْوَهَا الْعَلِيلُ وَ حَسَرَتْ

إِلَيْهَا الْكِعَابُ

التداك الازدحام الشديد و الإبل الهيم العطاش. و هدج إليها الكبير مشى مشيا ضعيفا مرتعشا و المضارع يهدج بالكسر. و تحامل

نحوها العليل تكلف المشي على مشقة.

[13 : 4 ]

و حسرت إليها الكعاب كشفت عن وجهها حرصا على حضور البيعة و الكعاب الجارية التي قد نهد ثديها كعبت تكعب بالضم. قوله حتى

انقطع النعل و سقط الرداء شبيه

بقوله في الخطبة الشقشقية حتى لقد وطئ الحسنان و شق عطفاي

و قد تقدم ذكر بيعته ع بعد قتل عثمان و إطباق الناس عليها و كيفية الحال فيها و شرح شرحا يستغنى عن إعادته

[13 : 5 ]

225- و من خطبة له ع

فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ مِفْتَاحُ سَدَاد وَ ذَخِيرَةُ مَعَاد وَ عِتْقٌ مِنْ كُلِّ مَلَكَة وَ نَجَاةٌ مِنْ كُلِّ هَلَكَة بِهَا يَنْجَحُ الطَّالِبُ وَ يَنْجُو الْهَارِبُ وَ تُنَالُ الرَّغَائِبُ

فَاعْمَلُوا وَ الْعَمَلُ يُرْفَعُ وَ التَّوْبَةُ تَنْفَعُ وَ الدُّعَاءُ يُسْمَعُ وَ الْحَالُ هَادِئَةٌ وَ الْأَقْلَامُ جَارِيَةٌ وَ بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ عُمُراً نَاكِساً أَوْ مَرَضاً حَابِساً أَوْ

مَوْتاً خَالِساً فَإِنَّ الْمَوْتَ هَادِمُ لَذَّاتِكُمْ وَ مُكَدِّرُ شَهَوَاتِكُمْ وَ مُبَاعِدُ طِيَّاتِكُمْ زَائِرٌ غَيْرُ مَحْبُوب وَ قِرْنٌ غَيْرُ مَغْلُوب وَ وَاتِرٌ غَيْرُ مَطْلُوب قَدْ

أَعْلَقَتْكُمْ حَبَائِلُهُ وَ تَكَنَّفَتْكُمْ غَوَائِلُهُ وَ أَقْصَدَتْكُمْ مَعَابِلُهُ وَ عَظُمَتْ فِيكُمْ سَطْوَتُهُ وَ تَتَابَعَتْ عَلَيْكُمْ عَدْوَتُهُ وَ قَلَّتْ عَنْكُمْ نَبْوَتُهُ فَيُوشِكُ أَنْ

تَغْشَاكُمْ دَوَاجِي ظُلَلِهِ وَ احْتِدَامُ عِلَلِهِ وَ حَنَادِسُ غَمَرَاتِهِ وَ غَوَاشِي سَكَرَاتِهِ وَ أَلِيمُ إِرْهَاقِهِ وَ دُجُوُّ أَطْبَاقِهِ وَ خُشُونَةُ مَذَاقِهِ فَكَأَنْ قَدْ أَتَاكُمْ

بَغْتَةً فَأَسْكَتَ نَجِيَّكُمْ وَ فَرَّقَ نَدِيَّكُمْ وَ عَفَّى آثَارَكُمْ وَ عَطَّلَ دِيَارَكُمْ وَ بَعَثَ وُرَّاثَكُمْ يَقْتَسِمُونَ تُرَاثَكُمْ بَيْنَ حَمِيم خَاصّ لَمْ يَنْفَعْ وَ قَرِيب

مَحْزُون لَمْ يَمْنَعْ وَ آخَرَ شَامِت لَمْ يَجْزَعْ فَعَلَيْكُمْ بِالْجَدِّ وَ الِاجْتِهَادِ وَ التَّأَهُّبِ وَ الِاسْتِعْدَادِ وَ التَّزَوُّدِ فِي مَنْزِلِ الزَّادِ وَ لَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ

الدُّنْيَا كَمَا غَرَّتْ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ الَّذِينَ احْتَلَبُوا دِرَّتَهَا وَ أَصَابُوا غِرَّتَهَا وَ أَفْنَوْا عِدَّتَهَا وَ أَخْلَقُوا جِدَّتَهَا

[13 : 6 ]

وَ أَصْبَحَتْ مَسَاكِنُهُمْ أَجْدَاثاً وَ أَمْوَالُهُمْ مِيرَاثاً لَا يَعْرِفُونَ مَنْ أَتَاهُمْ وَ لَا يَحْفِلُونَ مَنْ بَكَاهُمْ وَ لَا يُجِيبُونَ مَنْ دَعَاهُمْ فَاحْذَرُوا الدُّنْيَا فَإِنَّهَا

غَدَّارَةٌ غَرَّارَةٌ خَدُوعٌ مُعْطِيَةٌ مَنُوعٌ مُلْبِسَةٌ نَزُوعٌ لَا يَدُومُ رَخَاؤُهَا وَ لَا يَنْقَضِي عَنَاؤُهَا وَ لَا يَرْكُدُ بَلَاؤُهَا

عتق من كل ملكة هو مثل

قوله ع التوبة تجب ما قبلها

أي كل ذنب موبق يملك الشيطان فاعله و يستحوذ عليه فإن تقوى الله تعتق منه و تكفر عقابه و مثله قوله و نجاة من كل هلكة. قوله

ع و العمل ينفع أي اعملوا في دار التكليف فإن العمل يوم القيامة غير نافع. قوله ع و الحال هادئة أي ساكنة ليس فيها ما في أحوال

الموقف من تلك الحركات الفظيعة نحو تطاير الصحف و نطق الجوارح و عنف السياق إلى النار. قوله ع و الأقلام جارية يعني أن

التكليف باق و أن الملائكة الحفظة تكتب أعمال العباد بخلاف يوم القيامة فإنه يبطل ذلك و يستغنى عن الحفظة لسقوط التكليف.

قوله عمرا ناكسا يعني الهرم من قوله تعالى وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ لرجوع الشيخ الهرم إلى مثل حال الصبي الصغير في

ضعف العقل و البنية

[13 : 7 ]

و الموت الخالس المختطف و الطيات جمع طية بالكسر و هي منزل السفر و الواتر القاتل و الوتر بالكسر الذحل. و أعلقتكم حبائله

جعلتكم معتلقين فيها و يروى قد علقتكم بغير همز. و تكنفتكم غوائله أحاطت بكم دواهيه و مصائبه و أقصدتكم أصابتكم. و المعابل

نصال عراض الواحدة معبلة بالكسر. و عدوته بالفتح ظلمه و نبوته مصدر نبا السيف إذا لم يؤثر في الضريبة. و يوشك بالكسر يقرب

و تغشاكم تحيط بكم. و الدواجي الظلم الواحدة داجية و الظلل جمع ظلة و هي السحاب و الاحتدام الاضطرام و الحنادس الظلمات.

و إرهاقه مصدر أرهقته أي أعجلته و يروى إزهاقه بالزاي. و الأطباق جمع طبق و هذا من باب الاستعارة أي تكاثف ظلماتها طبق فوق

طبق. و يروى و جشوبة مذاقه بالجيم و الباء و هي غلظ الطعام. و النجي القوم يتناجون و الندي القوم يجتمعون في النادي. و

احتلبوا درتها فازوا بمنافعها كما يحتلب الإنسان اللبن. و هذه الخطبة من محاسن خطبه ع و فيها من صناعة البديع ما هو ظاهر

للمتأمل

مِنْهَا فِي صِفَةِ الزُّهَّادِ كَانُوا قَوْماً مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا فَكَانُوا فِيهَا كَمَنْ لَيْسَ مِنْهَا

[13 : 8 ]

عَمِلُوا فِيهَا بِمَا يُبْصِرُونَ وَ بَادَرُوا فِيهَا مَا يَحْذَرُونَ تَقَلُّبُ أَبْدَانِهِمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِ الآْخِرَةِ وَ يَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُعَظِّمُونَ مَوْتَ أَجْسَادِهِمْ

وَ هُمْ أَشَدُّ إِعْظَاماً لِمَوْتِ قُلُوبِ أَحْيَائِهِمْ

بين ظهراني أهل الآخرة بفتح النون و لا يجوز كسرها و يجوز بين ظهري أهل الآخرة لو روي و المعنى في وسطهم. قوله ع كانوا

قوما من أهل الدنيا و ليسوا من أهلها أي هم من أهلها في ظاهر الأمر و في مرأى العين و ليسوا من أهلها لأنه لا رغبة عندهم في ملاذها

و نعيمها فكأنهم خارجون عنها. قوله عملوا فيها بما يبصرون أي بما يرونه أصلح لهم و يجوز أن يريد أنهم لشدة اجتهادهم قد

أبصروا الم آل فعملوا فيها على حسب ما يشاهدونه من دار الجزاء و هذا

كقوله ع لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا

قوله ع و بادروا فيها ما يحذرون أي سابقوه يعني الموت. قوله ع تقلب أبدانهم هذا محمول تارة على الحقيقة و تارة على المجاز أما

الأول فلأنهم لا يخالطون إلا أهل الدين و لا يجالسون أهل الدنيا و أما الثاني فلأنهم لما استحقوا الثواب كان الاستحقاق بمنزلة

وصولهم إليه فأبدانهم تتقلب بين ظهراني أهل الآخرة أي بين ظهراني قوم هم بمنزلة أهل الآخرة لأن المستحق للشيء نظير لمن

فعل به ذلك الشيء. ثم قال هؤلاء الزهاد يرون أهل الدنيا إنما يستعظمون موت الأبدان و هم أشد استعظاما لموت القلوب و قد

تقدم من كلامنا في صفات الزهاد و العارفين ما فيه كفاية

[13 : 9 ]

226- و من خطبة له ع خطبها بذي قار و هو متوجه إلى البصرة

ذكرها الواقدي في كتاب الجمل

فَصَدَعَ بِمَا أُمِرَ بِهِ وَ بَلَّغَ رِسَالَاتِ رَبِّهِ فَلَمَّ اللَّهُ بِهِ الصَّدْعَ وَ رَتَقَ بِهِ الْفَتْقَ وَ أَلَّفَ بِهِ الشَّمْلَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ بَعْدَ الْعَدَاوَةِ الْوَاغِرَةِ فِي

الصُّدُورِ وَ الضَّغَائِنِ الْقَادِحَةِ فِي الْقُلُوبِ

ذو قار اسم موضع قريب من البصرة و فيه كانت وقعة للعرب مع الفرس قبل الإسلام. و صدع بما أمر به أي جهر و أصل الصدع الشق.

و لم به جمع و رتق خاط و ألحم. و العداوة الواغرة ذات الوغرة و هي شدة الحر. و الضغائن الأحقاد. و القادحة في القلوب كأنها تقدح

النار فيها كما تقدح النار بالمقدحة

[13 : 10 ]

227- و من كلام له ع كلم به عبد الله بن زمعة

و هو من شيعته و ذلك أنه قدم عليه في خلافته يطلب منه مالا

فَقَالَ ع إِنَّ هَذَا الْمَالَ لَيْسَ لِي وَ لَا لَكَ وَ إِنَّمَا هُوَ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَ جَلْبُ أَسْيَافِهِمْ فَإِنْ شَرِكْتَهُمْ فِي حَرْبِهِمْ كَانَ لَكَ مِثْلُ حَظِّهِمْ وَ إِلَّا

فَجَنَاةُ أَيْدِيهِمْ لَا تَكُونُ لِغَيْرِ أَفْوَاهِهِمْ

عبد الله بن زمعة و نسبه

هو عبد الله بن زمعة بفتح الميم لا كما ذكره الراوندي و هو عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي.

كان الأسود من المستهزءين الذين كفى الله رسوله أمرهم بالموت و القتل و ابنه زمعة بن الأسود قتل يوم بدر كافرا و كان يدعى زاد

الركب و قتل أخوه عقيل بن الأسود أيضا كافرا يوم بدر و قتل الحارث بن زمعة أيضا يوم بدر كافرا و الأسود هو الذي سمع امرأة

تبكي على بعير تضله بمكة بعد يوم بدر فقال

أ تبكي أن يضل لها بعير و يمنعها من النوم الهجود

[13 : 11 ]

و لا تبكي على بدر و لكن على بدر تقاصرت الجدود

ألا قد ساد بعدهم أناس و لو لا يوم بدر لم يسودوا

و كان عبد الله بن زمعة شيعة لعلي ع و من أصحابه و من ولد عبد الله هذا أبو البختري القاضي و هو وهب بن وهب بن كبير بن عبد

الله بن زمعة قاضي الرشيد هارون بن محمد المهدي و كان منحرفا عن علي ع و هو الذي أفتى الرشيد ببطلان الأمان الذي كتبه ليحيى

بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع و أخذه بيده فمزقه. و قال أمية بن أبي الصلت يرثي قتلى بدر و يذكر زمعة

بن الأسود

عين بكي لنوفل و لعمرو ثم لا تبخلي على زمعه

نوفل بن خويلد من بني أسد بن عبد العزى و يعرف بابن العدوية قتله علي ع و عمرو أبو جهل بن هشام قتله عوف بن عفراء و أجهز

عليه عبد الله بن مسعود

قوله ع و جلب أسيافهم أي ما جلبته أسيافهم و ساقته إليهم و الجلب المال المجلوب و جناة الثمر ما يجنى منه و هذه استعارة

فصيحة

[13 : 12 ]

228- و من كلام له ع

أَلَا وَ إِنَّ اللِّسَانَ بَضْعَةٌ مِنَ الْإِنْسَانِ فَلَا يُسْعِدُهُ الْقَوْلُ إِذَا امْتَنَعَ وَ لَا يُمْهِلُهُ النُّطْقُ إِذَا اتَّسَعَ وَ إِنَّا لَأُمَرَاءُ الْكَلَامِ وَ فِينَا تَنَشَّبَتْ عُرُوقُهُ وَ

عَلَيْنَا تَهَدَّلَتْ غُصُونُهُ وَ اعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنَّكُمْ فِي زَمَان الْقَائِلُ فِيهِ بِالْحَقِّ قَلِيلٌ وَ اللِّسَانُ عَنِ الصِّدْقِ كَلِيلٌ وَ اللَّازِمُ لِلْحَقِّ ذَلِيلٌ أَهْلُهُ

مُعْتَكِفُونَ عَلَى الْعِصْيَانِ مُصْطَلِحُونَ عَلَى الْإِدْهَانِ فَتَاهُمْ عَارِمٌ وَ شَائِبُهُمْ آثِمٌ وَ عَالِمُهُمْ مُنَافِقٌ وَ فَارِئُهُمْ مُمَاذِقٌ لَا يُعَظِّمُ صَغِيرُهُمْ كَبِيرَهُمْ وَ

لَا يَعُولُ غَنِيُّهُمْ فَقِيرَهُمْ

بضعة من الإنسان قطعة منه و الهاء في يسعده ترجع إلى اللسان. و الضمير في امتنع يرجع إلى الإنسان و كذلك الهاء في لا يمهله

يرجع إلى اللسان. و الضمير في اتسع يرجع إلى الإنسان و تقديره فلا يسعد اللسان القول إذا امتنع الإنسان عن أن يقول و لا يمهل

اللسان النطق إذا اتسع للإنسان القول و المعنى أن اللسان آلة للإنسان فإذا صرفه صارف عن الكلام لم يكن اللسان

[13 : 13 ]

ناطقا و إذا دعاه داع إلى الكلام نطق اللسان بما في ضمير صاحبه. و تنشبت عروقه أي علقت و روي انتشبت و الرواية الأولى أدخل

في صناعة الكلام لأنها بإزاء تهدلت و التهدل التدلي و قد أخذ هذه الألفاظ بعينها أبو مسلم الخراساني فخطب بها في خطبة مشهورة

من خطبه

ذكر من أرتج عليهم أو حصروا عند الكلام

و اعلم أن هذا الكلام قاله أمير المؤمنين ع في واقعة اقتضت أن يقوله و ذلك أنه أمر ابن أخته جعدة بن هبيرة المخزومي أن يخطب

الناس يوما فصعد المنبر فحصر و لم يستطع الكلام فقام أمير المؤمنين ع فتسنم ذروة المنبر و خطب خطبة طويلة ذكر الرضي رحمه

الله منها هذه الكلمات و روى شيخنا أبو عثمان في كتاب البيان و التبيين أن عثمان صعد المنبر فأرتج عليه فقال إن أبا بكر و عمر كانا

يعدان لهذا المقام مقالا و أنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام خطيب و ستأتيكم الخطبة على وجهها ثم نزل. قال أبو عثمان و

روى أبو الحسن المدائني قال صعد ابن لعدي بن أرطاة المنبر فلما رأى الناس حصر فقال الحمد لله الذي يطعم هؤلاء و يسقيهم و

صعد روح بن حاتم المنبر فلما رأى الناس قد رشقوه بأبصارهم و صرفوا أسماعهم

[13 : 14 ]

نحوه قال نكسوا رءوسكم و غضوا أبصاركم فإن أول مركب صعب فإذا يسر الله عز و جل فتح قفل تيسر ثم نزل. و خطب مصعب بن

حيان أخو مقاتل بن حيان خطبة نكاح فحصر فقال لقنوا موتاكم لا إله إلا الله فقالت أم الجارية عجل الله موتك أ لهذا دعوناك. و

خطب مروان بن الحكم فحصر فقال اللهم إنا نحمدك و نستعينك و لا نشرك بك. و لما حصر عبد الله بن عامر بن كريز على المنبر

بالبصرة و كان خطيبا شق عليه ذلك فقال له زياد ابن أبيه و كان خليفته أيها الأمير لا تجزع فلو أقمت على المنبر عامة من ترى أصابهم

أكثر مما أصابك فلما كانت الجمعة تأخر عبد الله بن عامر و قال زياد للناس إن الأمير اليوم موعوك فقيل لرجل من وجوه أمراء

القبائل قم فاصعد المنبر فلما صعد حصر فقال الحمد لله الذي يرزق هؤلاء و بقي ساكتا فأنزلوه و أصعدوا آخر من الوجوه فلما استوى

قائما قابل بوجهه الناس فوقعت عينه على صلعة رجل فقال أيها الناس إن هذا الأصلع قد منعني الكلام اللهم فالعن هذه الصلعة

فأنزلوه و قالوا لوازع اليشكري قم إلى المنبر فتكلم فلما صعد و رأى الناس قال أيها الناس إني كنت اليوم كارها لحضور الجمعة و

لكن امرأتي حملتني على إتيانها و أنا أشهدكم أنها طالق ثلاثا فأنزلوه فقال زياد لعبد الله بن عامر كيف رأيت قم الآن فاخطب الناس.

[13 : 15 ]

و قال سهل بن هارون دخل قطرب النحوي على المخلوع فقال يا أمير المؤمنين كانت عدتك أرفع من جائزتك و هو يتبسم فاغتاظ

الفضل بن الربيع فقلت له إن هذا من الحصر و الضعف و ليس من الجلد و القوة أما تراه يفتل أصابعه و يرشح جبينه. و دخل معبد بن

طوق العنبري على بعض الأمراء فتكلم و هو قائم فأحسن فلما جلس تلهيع في كلامه فقال له ما أظرفك قائما و أموقك قاعدا قال إني

إذا قمت جددت و إذا قعدت هزلت فقال ما أحسن ما خرجت منها. و كان عمرو بن الأهتم المنقري و الزبرقان بن بدر عند رسول الله ص

فسأل ع عمرا عن الزبرقان فقال يا رسول الله إنه لمانع لحوزته مطاع في أدانيه فقال الزبرقان حسدني يا رسول الله فقال عمرو يا

رسول الله إنه لزمر المروءة ضيق العطن لئيم الخال فنظر رسول الله ص إلى وجه عمرو فقال يا رسول الله رضيت فقلت أحسن ما

علمت و غضبت فقلت أقبح ما علمت و ما كذبت في الأولى و لقد صدقت في الأخرى

فقال ع إن من البيان لسحرا

و قال خالد بن صفوان ما الإنسان لو لا اللسان إلا صورة ممثلة أو بهيمة مهملة

[13 : 16 ]

و قال ابن أبي الزناد كنت كاتبا لعمر بن عبد العزيز فكان يكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب في المظالم

فيراجعه فكتب إليه إنه يخيل إلي أني لو كتبت إليك أن تعطي رجلا شاة لكتبت إلي أ ضأنا أم معزا فإذا كتبت إليك بأحدهما كتبت إلي

أ ذكرا أم أنثى و إذا كتبت إليك بأحدهما كتبت إلي صغيرا أم كبيرا فإذا كتبت إليك في مظلمة فلا تراجعني و السلام. و أخذ المنصور

هذا فكتب إلى سلم بن قتيبة عامله بالبصرة يأمره بهدم دور من خرج مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن و عقر نخلهم فكتب إليه

بأيهما أبدأ بالدور أم بالنخل يا أمير المؤمنين فكتب إليه لو قلت لك بالنخل لكتبت إلي بما ذا أبدأ بالشهريز أم بالبرني و عزله و

ولى محمد بن سليمان. و خطب عبد الله بن عامر مرة فأرتج عليه و كان ذلك اليوم يوم الأضحى فقال لا أجمع عليكم عيا و لؤما من

أخذ شاة من السوق فهي له و ثمنها علي. و خطب السفاح أول يوم صعد فيه المنبر فأرتج عليه فقام عمه داود بن علي فقال أيها الناس

إن أمير المؤمنين يكره أن يتقدم قوله فيكم فعله و لأثر الأفعال أجدى عليكم من تشقيق المقال و حسبكم كتاب الله علما فيكم و ابن

عم رسول الله ص خليفة عليكم. قال الشاعر

[13 : 17 ]

و ما خير من لا ينفع الدهر عيشه و إن مات لم يحزن عليه أقاربه

كهام على الأقصى كليل لسانه و في بشر الأدنى حديد مخالبه

و قال أحيحة بن الجلاح

و الصمت أجمل بالفتى ما لم يكن عي يشينه

و القول ذو خطل إذا ما لم يكن لب يزينه

[13 : 18 ]

229- و من كلام له ع

رَوَى ذِعْلَبٌ الْيَمَامِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ قُتَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِحْيَةَ قَالَ كُنَّا عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمنِيِنَ ع فَقَالَ وَ قَدْ ذُكِرَ عِنْدَهُ اخْتِلَافُ

النَّاسِ إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمْ مَبَادِئُ طِينِهِمْ وَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِلْقَةً مِنْ سَبَخِ أَرْض وَ عَذْبِهَا وَ حَزْنِ تُرْبَة وَ سَهْلِهَا فَهُمْ عَلَى حَسَبِ قُرْبِ أَرْضِهِمْ

يَتَقَارَبُونَ وَ عَلَى قَدْرِ اخْتِلَافِهَا يَتَفَاوَتُونَ فَتَامُّ الرُّوَاءِ نَاقِصُ الْعَقْلِ وَ مَادُّ الْقَامَةِ قَصِيرُ الْهِمَّةِ وَ زَاكِي الْعَمَلِ قَبِيحُ الْمَنْظَرِ وَ قَرِيبُ الْقَعْرِ

بَعِيدُ السَّبْرِ وَ مَعْرُوفُ الضَّرِيبَةِ مُنْكَرُ الْجَلِيبَةِ وَ تَائِهُ الْقَلْبِ مُتَفَرِّقُ اللُّبِّ وَ طَلِيقُ اللِّسَانِ حَدِيدُ الْجَنَانِ

ذعلب و أحمد و عبد الله و مالك رجال من رجال الشيعة و محدثيهم و هذا الفصل عندي لا يجوز أن يحمل على ظاهره و ما يتسارع إلى

أفهام العامة منه و ذلك لأن قوله إنهم كانوا فلقة من سبخ أرض و عذبها إما أن يريد به أن كل واحد من الناس ركب من طين و جعل

صورة بشرية طينية برأس و بطن و يدين و رجلين ثم نفخت فيه الروح كما فعل ب آدم أو يريد به أن الطين الذي ركبت منه صورة آدم

فقط كان مختلطا من سبخ و عذب فإن أريد الأول فالواقع خلافه لأن البشر الذين نشاهدهم و الذين بلغتنا أخبارهم لم يخلقوا من

الطين كما خلق آدم و إنما خلقوا من نطف آبائهم و ليس لقائل أن يقول لعل تلك النطف

[13 : 19 ]

افترقت لأنها تولدت من أغذية مختلفة المنبت من العذوبة و الملوحة و ذلك لأن النطفة لا تتولد من غذاء بعينه بل من مجموع

الأغذية و تلك الأغذية لا يمكن أن تكون كلها من أرض سبخة محضة في السبخية لأن هذا من الاتفاقات التي يعلم عدم وقوعها كما

يعلم أنه لا يجوز أن يتفق أن يكون أهل بغداد في وقت بعينه على كثرتهم لا يأكلون ذلك اليوم إلا السكباج خاصة و أيضا فإن الأرض

السبخة أو التي الغالب عليها السبخية لا تنبت الأقوات أصلا و إن أريد الثاني و هو أن يكون طين آدم ع مختلطا في جوهره مختلفا

في طبائعه فلم كان زيد الأحمق يتولد من الجزء السبخي و عمرو العاقل يتولد من الجزء العذبي و كيف يؤثر اختلاف طين آدم من

ستة آلاف سنة في أقوام يتوالدون الآن. و الذي أراه أن لكلامه ع تأويلا باطنا و هو أن يريد به اختلاف النفوس المدبرة للأبدان و

كنى عنها بقوله مبادئ طينهم و ذلك أنها لما كانت الماسكة للبدن من الانحلال العاصمة له من تفرق العناصر صارت كالمبدإ و كالعلة

له من حيث إنها كانت علة في بقاء امتزاجه و اختلاط عناصره بعضها ببعض و لذلك إذا فارقت عند الموت افترقت العناصر و انحلت

الأجزاء فرجع اللطيف منها إلى الهواء و الكثيف إلى الأرض. و قوله كانوا فلقة من سبخ أرض و عذبها و حزن تربة و سهلها تفسيره أن

البارئ جل جلاله لما خلق النفوس خلقها مختلفة في ماهيتها فمنها الزكية و منها الخبيثة و منها العفيفة و منها الفاجرة و منها القوية و

منها الضعيفة و منها الجريئة المقدمة و منها الفشلة الذليلة إلى غير ذلك من أخلاق النفوس المختلفة المتضادة. ثم فسر ع و علل

تساوي قوم في الأخلاق و تفاوت آخرين فيها فقال

[13 : 20 ]

إن نفس زيد قد تكون مشابهة أو قريبة من المشابهة لنفس عمرو فإذا هما في الأخلاق متساويتان أو متقاربتان و نفس خالد قد تكون

مضادة لنفس بكر أو قريبة من المضادة فإذا هما في الأخلاق متباينتان أو قريبتان من المباينة. و القول باختلاف النفوس في ماهياتها هو

مذهب أفلاطون و قد اتبعه عليه جماعة من أعيان الحكماء و قال به كثير من مثبتي النفوس من متكلمي الإسلام. و أما أرسطو و أتباعه

فإنهم لا يذهبون إلى اختلاف النفوس في ماهيتها و القول الأول عندي أمثل. ثم بين ع اختلاف آحاد الناس فقال منهم من هو تام

الرواء لكنه ناقص العقل و الرواء بالهمز و المد المنظر الجميل و من أمثال العرب ترى الفتيان كالنخل و ما يدريك ما الدخل. و قال

الشاعر

عقله عقل طائر و هو في خلقة الجمل

و قال أبو الطيب

و ما الحسن في وجه الفتى شرف له إذا لم يكن في فعله و الخلائق

و قال الآخر

و ما ينفع الفتيان حسن وجوههم إذا كانت الأخلاق غير حسان

فلا يغررنك المرء راق رواؤه فما كل مصقول الغرار يماني

[13 : 21 ]

و من شعر الحماسة

لقومي أرعى للعلا من عصابة من الناس يا حار بن عمرو تسودها

و أنتم سماء يعجب الناس رزها ب آبدة تنحي شديد وئيدها

تقطع أطناب البيوت بحاصب و أكذب شيء برقها و رعودها

فويل أمها خيلا بهاء و شارة إذا لاقت الأعداء لو لا صدودها

و منه أيضا

و كاثر بسعد إن سعدا كثيرة و لا ترج من سعد وفاء و لا نصرا

يروعك من سعد بن زيد جسومها و تزهد فيها حين تقتلها خبرا

قوله ع و ماد القامة قصير الهمة قريب من المعنى الأول إلا أنه خالف بين الألفاظ فجعل الناقص بإزاء التام و القصير بإزاء الماد و

يمكن أن يجعل المعنيان مختلفين و ذلك لأنه قد يكون الإنسان تام العقل إلا أن همته قصيرة و قد رأينا كثيرا من الناس كذلك فإذن

هذا قسم آخر من الاختلاف غير الأول. قوله ع و زاكي العمل قبيح المنظر يريد بزكاء أعماله حسنها و طهارتها فيكون قد أوقع

الحسن بإزاء القبيح و هذا القسم موجود فاش بين الناس. قوله و قريب القعر بعيد السبر أي قد يكون الإنسان قصير القامة و هو مع

ذلك داهية باقعة و المراد بقرب قعره تقارب ما بين طرفيه فليست بطنه بمديدة

[13 : 22 ]

و لا مستطيلة و إذا سبرته و اختبرت ما عنده وجدته لبيبا فطنا لا يوقف على أسراره و لا يدرك باطنه و من هذا المعنى قول الشاعر

ترى الرجل النحيف فتزدريه و في أثوابه أسد مزير

و يعجبك الطرير فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطرير

و قيل لبعض الحكماء ما بال القصار من الناس أدهى و أحذق قال لقرب قلوبهم من أدمغتهم. و من شعر الحماسة

إلا يكن عظمي طويلا فإنني له بالخصال الصالحات وصول

و لا خير في حسن الجسوم و طولها إذا لم تزن حسن الجسوم عقول

و من شعر الحماسة أيضا و هو تمام البيتين المقدم ذكرهما

فما عظم الرجال لهم بفخر و لكن فخرهم كرم و خير

ضعاف الطير أطولها جسوما و لم تطل البزاة و لا الصقور

بغاث الطير أكثرها فراخا و أم الصقر مقلات نزور

لقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير

قوله ع و معروف الضريبة منكر الجليبة الجليبة هي الخلق الذي

[13 : 23 ]

يتكلفه الإنسان و يستجلبه مثل أن يكون جبانا بالطبع فيتكلف الشجاعة أو شحيحا بالطبع فيتكلف الجود و هذا القسم أيضا عام

في الناس. ثم لما فرغ من الأخلاق المتضادة ذكر بعدها ذوي الأخلاق و الطباع المتناسبة المتلائمة فقال و تائه القلب متفرق اللب و

هذان الوصفان متناسبان لا متضادان. ثم قال و طليق اللسان حديد الجنان و هذان الوصفان أيضا متناسبان و هما متضادان للوصفين

قبلهما فالأولان ذم و الآخران مدح

[13 : 24 ]

230- و من كلام له ع

قَالَهُ وَ هُوَ يَلِي غُسْلَ رَسُولِ اللَّهِ ص وَ تَجْهِيزَهُ بِأَبِي أَنْتَ وَ أُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَ

الْإِنْبَاءِ وَ أَخْبَارِ السَّمَاءِ خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ وَ عَمَّمْتَ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَوَاءً وَ لَوْ لَا أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ وَ نَهَيْتَ عَنِ

الْجَزَعِ لَأَنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ الشُّئُونِ وَ لَكَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلًا وَ الْكَمَدُ مُحَالِفاً وَ قَلَّا لَكَ وَ لَكِنَّهُ مَا لَا يُمْلَكُ رَدُّهُ وَ لَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ بِأَبِي أَنْتَ وَ

أُمِّي اذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ وَ اجْعَلْنَا مِنْ بَالِكَ

بأبي أنت و أمي أي بأبي أنت مفدي و أمي. و الإنباء الإخبار مصدر أنبأ ينبئ و روي و الأنباء بفتح الهمزة جمع نبأ و هو الخبر و أخبار

السماء الوحي. قوله ع خصصت و عممت أي خصت مصيبتك أهل بيتك حتى أنهم لا يكترثون بما يصيبهم بعدك من المصائب و لا بما

أصابهم من قبل و عمت هذه

[13 : 25 ]

المصيبة أيضا الناس حتى استوى الخلائق كلهم فيها فهي مصيبة خاصة بالنسبة و عامة بالنسبة. و مثل قوله حتى صرت مسليا عمن

سواك قول الشاعر

رزئنا أبا عمر و لا حي مثله فلله در الحادثات بمن تقع

فإن تك قد فارقتنا و تركتنا ذوي خلة ما في انسداد لها طمع

لقد جر نفعا فقدنا لك أننا أمنا على كل الرزايا من الجزع

و قال آخر

أقول للموت حين نازله و الموت مقدامة على البهم

أظفر بمن شئت إذ ظفرت به ما بعد يحيى للموت من ألم

و لي في هذا المعنى كتبته إلى صديق غاب عني من جملة أبيات

و قد كنت أخشى من خطوب غوائل فلما نأى عني أمنت من الحذر

فأعجب لجسم عاش بعد حياته و أعجب لنفع حاصل جره ضرر

و قال إسحاق بن خلف يرثي بنتا له

أمست أميمة معمورا بها الرجم لقا صعيد عليها الترب مرتكم

يا شقة النفس إن النفس والهة حرى عليك و إن الدمع منسجم

قد كنت أخشى عليها أن تقدمني إلى الحمام فيبدي وجهها العدم

فالآن نمت فلا هم يؤرقني تهدا العيون إذا ما أودت الحرم

[13 : 26 ]

للموت عندي أياد لست أكفرها أحيا سرورا و بي مما أتى ألم

و قال آخر

فلو أنها إحدى يدي رزيتها و لكن يدي بانت على إثرها يدي

ف آليت لا آسى على إثر هالك قدي الآن من حزن على هالك قدي

و قال آخر

أ جاري ما أزداد إلا صبابة عليك و ما تزداد إلا تنائيا

أ جاري لو نفس فدت نفس ميت فديتك مسرورا بنفسي و ماليا

و قد كنت أرجو أن أملاك حقبة فحال قضاء الله دون رجائيا

ألا فليمت من شاء بعدك إنما عليك من الأقدار كان حذاريا

و قال آخر

لتغد المنايا حيث شاءت فإنها محللة بعد الفتى ابن عقيل

فتى كان مولاه يحل بنجوة فحل الموالي بعده بمسيل

قوله ع و لكان الداء مماطلا أي مماطلا بالبرء أي لا يجيب إلى الإقلاع. و الإبلال الإفاقة

[13 : 27 ]

ذكر طرف من سيرة النبي ع عند موته

فأما وفاة رسول الله ص و ما ذكره أرباب السيرة فيها فقد ذكرنا طرفا منه فيما تقدم و نذكر هاهنا طرفا آخر مما أورده أبو جعفر محمد

بن جرير الطبري في تاريخه.

قال أبو جعفر روى أبو مويهبة مولى رسول الله ص قال أرسل إلي رسول الله ص في جوف الليل فقال يا أبا مويهبة إني قد أمرت أن

أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم قال السلام عليكم يا أهل المقابر ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما

أصبح الناس فيه أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها الآخرة شر من الأولى ثم أقبل علي فقال يا أبا مويهبة إني قد

أوهبت مفاتيح خزائن الدنيا و الخلد فيها و الجنة فخيرت بينها و بين الجنة فاخترت الجنة فقلت بأبي أنت و أمي فخذ مفاتيح خزائن

الدنيا و الخلد فيها و الجنة جميعا فقال لا يا أبا مويهبة اخترت لقاء ربي ثم استغفر لأهل البقيع و انصرف فبدأ بوجعه الذي قبضه

الله فيه

و روى محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة قالت رجع رسول الله ص تلك الليلة من البقيع

فوجدني و أنا أجد صداعا في رأسي و أقول وا رأساه فقال بل أنا وا رأساه ثم قال ما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك فكفنتك و صليت

عليك و دفنتك فقلت و الله لكأني

[13 : 28 ]

بك لو كان ذلك رجعت إلى منزلي فأعرست ببعض نسائك فتبسم ع و تتام به وجعه و هو مع ذلك يدور على نسائه حتى استعز به و هو

في بيت ميمونة فدعا نساءه فاستأذنهن أن يمرض في بيتي فأذن له فخرج بين رجلين من أهله أحدهما الفضل بن العباس و رجل آخر

تخط قدماه في الأرض عاصبا رأسه حتى دخل بيته قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة فحدثت عبد الله بن العباس بهذا الحديث فقال أ

تدري من الرجل الآخر قلت لا قال علي بن أبي طالب لكنها كانت لا تقدر أن تذكره بخير و هي تستطيع قالت ثم غمر رسول الله ص و

اشتد به الوجع فقال أهريقوا علي سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم قالت فأقعدته في مخضب لحفصة بنت

عمر و صببنا عليه الماء حتى طفق يقول بيده حسبكم حسبكم

قلت المخضب المركن. و روى عطاء عن الفضل بن عباس رحمه الله قال جاءني رسول الله ص حين بدأ به مرضه فقال اخرج فخرجت

إليه فوجدته موعوكا قد عصب رأسه فقال خذ بيدي فأخذت بيده حتى جلس على المنبر ثم قال ناد في الناس فصحت فيهم فاجتمعوا

إليه فقال أيها الناس إني أحمد إليكم الله إنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه و

من كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه و من كنت أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه و لا يقل رجل إني أخاف الشحناء من

قبل رسول الله ألا و إن الشحناء ليست من طبيعتي و لا من شأني ألا و إن أحبكم إلي من أخذ مني حقا

[13 : 29 ]

إن كان له أو حللني فلقيت الله و أنا طيب النفس و قد أراني أن هذا غير مغن عني حتى أقوم فيكم به مرارا ثم نزل فصلى الظهر ثم

رجع فجلس على المنبر فعاد لمقالته الأولى في الشحناء و غيرها فقام رجل فقال يا رسول الله إن لي عندك ثلاثة دراهم فقال إنا لا

نكذب قائلا و لا نستحلفه على يمين فيم كانت لك عندي قال أ تذكر يا رسول الله يوم مر بك المسكين فأمرتني فأعطيته ثلاثة دراهم

قال أعطه يا فضل فأمرته فجلس ثم قال أيها الناس من كان عنده شيء فليؤده و لا يقل فضوح الدنيا فإن فضوح الدنيا أهون من

فضوح الآخرة فقام رجل فقال يا رسول الله عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله قال و لم غللتها قال كنت محتاجا إليها قال خذها

منه يا فضل ثم قال أيها الناس من خشي من نفسه شيئا فليقم أدعو له فقام رجل فقال يا رسول الله إني لكذاب و إني لفاحش و إني

لنئوم فقال اللهم ارزقه صدقا و صلاحا و أذهب عنه النوم إذا أراد ثم قام رجل فقال يا رسول الله إني لكذاب و إني لمنافق و ما شيء

أو قال و إن من شيء إلا و قد جئته فقام عمر بن الخطاب فقال فضحت نفسك أيها الرجل فقال النبي ص يا ابن الخطاب فضوح الدنيا

أهون من فضوح الآخرة اللهم ارزقه صدقا و إيمانا و صير أمره إلى خير

و روى عبد الله بن مسعود قال نعى إلينا نبينا و حبيبنا نفسه قبل موته بشهر جمعنا في بيت أمنا عائشة فنظر إلينا و شدد و دمعت عينه

و قال مرحبا بكم حياكم الله رحمكم الله آواكم الله حفظكم الله رفعكم الله نفعكم الله

[13 : 30 ]

وفقكم الله رزقكم الله هداكم الله نصركم الله سلمكم الله تقبلكم الله أوصيكم بتقوى الله و أوصى الله بكم و استخلفه عليكم إني

لكم منه نذير و بشير ألا تعلوا على الله في عباده و بلاده فإنه قال لي و لكم تِلْكَ الدّارُ الْ آخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي

الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ فقلنا يا رسول الله فمتى أجلك قال قد دنا الفراق و المنقلب إلى الله و إلى سدرة المنتهى و

الرفيق الأعلى و جنة المأوى و العيش المهنا قلنا فمن يغسلك يا رسول الله قال أهلي الأدنى فالأدنى قلنا ففيم نكفنك قال في ثيابي

هذه إن شئتم أو في بياض مصر أو حلة يمنية قلنا فمن يصلي عليك فقال إذا غسلتموني و كفنتموني فضعوني على سريري في بيتي هذا

على شفير قبري ثم اخرجوا عني ساعة فإن أول من يصلي علي جليسي و حبيبي و خليلي جبرائيل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك

الموت مع جنوده من الملائكة ثم ادخلوا علي فوجا فوجا فصلوا علي و سلموا و لا تؤذوني بتزكية و لا ضجة و لا رنة و ليبدأ بالصلاة

علي رجال أهل بيتي ثم نساؤهم ثم أنتم بعد و أقرءوا أنفسكم مني السلام و من غاب من أهلي فأقرءوه مني السلام و من تابعكم بعدي

على ديني فأقرءوه مني السلام فإني أشهدكم أني قد سلمت على من بايعني على ديني من اليوم إلى يوم القيامة قلنا فمن يدخلك قبرك

يا رسول الله قال أهلي مع ملائكة كثيرة يرونكم و لا ترونهم

قلت العجب لهم كيف لم يقولوا له في تلك الساعة فمن يلي أمورنا بعدك لأن ولاية الأمر أهم من السؤال عن الدفن و عن كيفية

الصلاة عليه و ما أعلم ما أقول في هذا المقام

قال أبو جعفر الطبري و روى سعيد بن جبير قال كان ابن عباس رحمه الله يقول

[13 : 31 ]

يوم الخميس و ما يوم الخميس ثم يبكي حتى تبل دموعه الحصباء فقلنا له و ما يوم الخميس قال يوم اشتد برسول الله ص وجعه

فقال ائتوني باللوح و الدواة أو قال بالكتف و الدواة أكتب لكم ما لا تضلون بعدي فتنازعوا فقال اخرجوا و لا ينبغي عند نبي أن

يتنازع قالوا ما شأنه أ هجر استفهموه فذهبوا يعيدون عليه فقال دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه ثم أوصى بثلاث قال

أخرجوا المشركين من جزيرة العرب و أجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجيزهم و سكت عن الثالثة عمدا أو قالها و نسيتها

و روى أبو جعفر عن ابن عباس قال خرج علي بن أبي طالب ع من عند رسول الله ص في وجعه الذي توفي فيه فقال له الناس يا أبا

الحسن كيف أصبح رسول الله ص قال أصبح بحمد الله بارئا فأخذ العباس بيده و قال أ لا ترى أنك بعد ثلاث عبد العصا إني لأعرف

الموت في وجوه بني عبد المطلب فاذهب إلى رسول الله ص فسله فيمن يكن هذا الأمر فإن كان فينا علمنا ذلك و إن كان في غيرنا

وصى بنا فقال علي أخشى أن أسأله فيمنعناها فلا يعطيناها الناس أبدا

و روت عائشة قالت أغمي على رسول الله ص و الدار مملوءة من النساء أم سلمة و ميمونة و أسماء بنت عميس و عندنا عمه العباس بن

عبد المطلب فأجمعوا على أن يلدوه فقال العباس لا ألده فلدوه فلما أفاق قال من صنع بي هذا قالوا عمك قال لنا هذا دواء جاءنا من

نحو هذه الأرض و أشار إلى أرض الحبشة قال فلم فعلتم ذلك فقال العباس خشينا يا رسول الله أن يكون بك ذات الجنب فقال إن ذلك

[13 : 32 ]

لداء ما كان الله ليقذفني به لا يبقى أحد في البيت إلا لد إلا عمي قال فلقد لدت ميمونة و إنها لصائمة لقسم رسول الله ص عقوبة لهم

بما صنعوا

قال أبو جعفر و قد وردت رواية أخرى عن عائشة قالت لددنا رسول الله ص في مرضه فقال لا تلدوني فقلنا كراهية المريض للدواء فلما

أفاق قال لا يبقى أحد إلا لد غير العباس عمي فإنه لم يشهدكم

قال أبو جعفر و الذي تولى اللدود بيده أسماء بنت عميس. قلت العجب من تناقض هذه الروايات في إحداها أن العباس لم يشهد اللدود

فلذلك أعفاه رسول الله ص من أن يلد و لد من كان حاضرا و في إحداها أن العباس حضر لده ع و في هذه الرواية التي تتضمن حضور

العباس في لده كلام مختلف فيها أن العباس قال لا ألده ثم قال فلد فأفاق فقال من صنع بي هذا قالوا عمك إنه قال هذا دواء جاءنا من

أرض الحبشة لذات الجنب فكيف يقول لا ألده ثم يكون هو الذي أشار بأن يلد و قال هذا دواء جاءنا من أرض الحبشة لكذا. و سألت

النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد البصري عن حديث اللدود فقلت أ لد علي بن أبي طالب ذلك اليوم فقال معاذ الله لو كان لد لذكرت

عائشة ذلك فيما تذكره و تنعاه عليه قال و قد كانت فاطمة حاضرة في الدار و ابناها معها أ فتراها لدت أيضا و لد الحسن و الحسين كلا

و هذا أمر لم يكن و إنما هو حديث ولده من ولده تقربا إلى بعض الناس و الذي كان أن أسماء بنت عميس أشارت بأن يلد و قالت هذا

دواء جاءنا من أرض الحبشة جاء به جعفر بن أبي طالب و كان بعلها

[13 : 33 ]

و ساعدتها على تصويب ذلك و الإشارة به ميمونة بنت الحارث فلد رسول الله ص فلما أفاق أنكره و سأل عنه فذكر له كلام أسماء و

موافقة ميمونة لها فأمر أن تلد الامرأتان لا غير فلدتا و لم يجر غير ذلك و الباطل لا يكاد يخفى على مستبصر. و

روت عائشة قالت كثيرا ما كنت أسمع رسول الله يقول إن الله لم يقبض نبيا حتى يخيره فلما احتضر رسول الله ص كان آخر كلمة

سمعتها منه بل الرفيق الأعلى فقلت إذا و الله لا يختارنا و علمت أن ذلك ما كان يقوله من قبل

و روى الأرقم بن شرحبيل قال سألت ابن عباس رحمه الله هل أوصى رسول الله ص فقال لا قلت فكيف كان فقال إن رسول الله ص قال

في مرضه ابعثوا إلى علي فادعوه فقالت عائشة لو بعثت إلى أبي بكر و قالت حفصة لو بعثت إلى عمر فاجتمعوا عنده جميعا هكذا لفظ

الخبر على ما أورده الطبري في التاريخ و لم يقل فبعث رسول الله ص إليهما قال ابن عباس فقال رسول الله ص انصرفوا فإن تكن لي

حاجة أبعث إليكم فانصرفوا و قيل لرسول الله الصلاة فقال مروا أبا بكر أن يصلي بالناس فقالت عائشة إن أبا بكر رجل رقيق فمر عمر

فقال مروا عمر فقال عمر ما كنت لأتقدم و أبو بكر شاهد فتقدم أبو بكر فوجد رسول الله ص خفة فخرج فلما سمع أبو بكر حركته تأخر

فجذب رسول الله ص ثوبه فأقامه مكانه و قعد رسول الله ص فقرأ من حيث انتهى أبو بكر

قلت عندي في هذه الواقعة كلام و يعترضني فيها شكوك و اشتباه إذا كان قد

[13 : 34 ]

أراد أن يبعث إلى علي ليوصي إليه فنفست عائشة عليه فسألت أن يحضر أبوها و نفست حفصة عليه فسألت أن يحضر أبوها ثم حضرا

و لم يطلبا فلا شبهة أن ابنتيهما طلبتاهما هذا هو الظاهر و قول رسول الله ص و قد اجتمعوا كلهم عنده انصرفوا فإن تكن لي حاجة

بعثت إليكم قول من عنده ضجر و غضب باطن لحضورهما و تهمة للنساء في استدعائهما فكيف يطابق هذا الفعل و هذا القول ما روي

من أن عائشة قالت لما عين على أبيها في الصلاة أن أبي رجل رقيق فمر عمر و أين ذلك الحرص من هذا الاستعفاء و الاستقالة و هذا

يوهم صحة ما تقوله الشيعة من أن صلاة أبي بكر كانت عن أمر عائشة و إن كنت لا أقول بذلك و لا أذهب إليه إلا أن تأمل هذا الخبر و

لمح مضمونه يوهم ذلك فلعل هذا الخبر غير صحيح و أيضا ففي الخبر ما لا يجيزه أهل العدل و هو أن يقول مروا أبا بكر ثم يقول

عقيبه مروا عمر لأن هذا نسخ الشيء قبل تقضي وقت فعله. فإن قلت قد مضى من الزمان مقدار ما يمكن الحاضرين فيه أن يأمروا أبا

بكر و ليس في الخبر إلا أنه أمرهم أن يأمروه و يكفي في صحة ذلك مضي زمان يسير جدا يمكن فيه أن يقال يا أبا بكر صل بالناس قلت

الإشكال ما نشأ من هذا الأمر بل من كون أبي بكر مأمورا بالصلاة و إن كان بواسطة ثم نسخ عنه الأمر بالصلاة قبل مضي وقت يمكن

فيه أن يفعل الصلاة فإن قلت لم قلت في صدر كلامك هذا إنه أراد أن يبعث إلى علي ليوصي إليه و لم لا يجوز أن يكون بعث إليه

لحاجة له قلت لأن مخرج كلام ابن عباس هذا المخرج أ لا ترى أن الأرقم بن شرحبيل الراوي لهذا الخبر قال سألت ابن عباس هل

أوصى رسول الله ص فقال لا فقلت فكيف كان فقال إن رسول الله ص قال في مرضه

[13 : 35 ]

ابعثوا إلى علي فادعوه فسألته المرأة أن يبعث إلى أبيها و سألته الأخرى أن يبعث إلى أبيها فلو لا أن ابن عباس فهم من قوله ص

ابعثوا إلى علي فادعوه أنه يريد الوصية إليه لما كان لإخبار الأرقم بذلك متصلا بسؤاله عن الوصية معنى و

روى القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة قالت رأيت رسول الله ص يموت و عنده قدح فيه ماء يدخل يده في القدح ثم يمسح

وجهه بالماء و يقول اللهم أعني على سكرة الموت

و روى عروة عن عائشة قالت اضطجع رسول الله ص يوم موته في حجري فدخل على رجل من آل أبي بكر في يده مسواك أخضر فنظر

رسول الله ص إليه نظرا عرفت أنه يريده فقلت له أ تحب أن أعطيك هذا المسواك قال نعم فأخذته فمضغته حتى ألنته ثم أعطيته إياه

فاستن به كأشد ما رأيته يستن بسواك قبله ثم وضعه و وجدت رسول الله ص يثقل في حجري فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد

شخص و هو يقول بل الرفيق الأعلى من الجنة فقلت لقد خيرت فاخترت و الذي بعثك بالحق و قبض رسول الله ص

قال الطبري و قد وقع الاتفاق على أنه كان يوم الإثنين من شهر ربيع الأول و اختلف في أي الأثانين كان فقيل لليلتين خلتا من الشهر

و قيل لاثنتي عشرة خلت من الشهر و اختلف في تجهيزه أي يوم كان فقيل يوم الثلاثاء الغد من وفاته و قيل إنما دفن بعد وفاته بثلاثة

أيام اشتغل القوم عنه بأمر البيعة. و قد روى الطبري ما يدل على ذلك عن زياد بن كليب عن إبراهيم النخعي أن

[13 : 36 ]

أبا بكر جاء بعد ثلاث إلى رسول الله ص و قد أربد بطنه فكشف عن وجهه و قبل عينيه و قال بأبي أنت و أمي طبت حيا و طبت ميتا

قلت و أنا أعجب من هذا هب أن أبا بكر و من معه اشتغلوا بأمر البيعة فعلي بن أبي طالب و العباس و أهل البيت بما ذا اشتغلوا حتى

يبقى النبي ص مسجى بينهم ثلاثة أيام بلياليهن لا يغسلونه و لا يمسونه. فإن قلت الرواية التي رواها الطبري في حديث الأيام

الثلاثة إنما كانت قبل البيعة لأن لفظ الخبر عن إبراهيم و أنه لما قبض النبي ص كان أبو بكر غائبا فجاء بعد ثلاث و لم يتجرأ أحد أن

يكشف عن وجهه ع حتى أربد بطنه فكشف عن وجهه و قبل عينيه و قال بأبي أنت و أمي طبت حيا و طبت ميتا ثم خرج إلى الناس فقال

من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات الحديث بطوله قلت لعمري إن الرواية هكذا أوردها و لكنها مستحيلة لأن أبا بكر فارق رسول

الله ص و هو حي و مضى إلى منزله بالسنح في يوم الإثنين و هو اليوم الذي مات فيه رسول الله ص لأنه رآه بارئا صالح الحال هكذا

روى الطبري في كتابه و بين السنح و بين المدينة نصف فرسخ بل هو طائفة من المدينة فكيف يبقى رسول الله ص ميتا يوم الإثنين و

يوم الثلاثاء و يوم الأربعاء لا يعلم به أبو بكر و بينهما غلوة ثلاثة أسهم و كيف يبقى طريحا بين أهله ثلاثة أيام لا يجترئ أحد منهم

أن يكشف عن وجهه و فيهم علي بن أبي طالب و هو روحه بين جنبيه و العباس عمه القائم مقام أبيه و ابنا فاطمة و هما كولديه و

فيهم فاطمة بضعة منه أ فما كان في هؤلاء من يكشف عن وجهه و لا من يفكر في جهازه و لا من يأنف له من

[13 : 37 ]

انتفاخ بطنه و اخضرارها و ينتظر بذلك حضور أبي بكر ليكشف عن وجهه أنا لا أصدق ذلك و لا يسكن قلبي إليه و الصحيح أن دخول

أبي بكر إليه و كشفه عن وجهه و قوله ما قال إنما كان بعد الفراغ من البيعة و أنهم كانوا مشتغلين بها كما ذكر في الرواية الأخرى. و

بقي الإشكال في قعود علي ع عن تجهيزه إذا كان أولئك مشتغلين بالبيعة فما الذي شغله هو فأقول يغلب على ظني إن صح ذلك أن

يكون قد فعله شناعة على أبي بكر و أصحابه حيث فاته الأمر و استؤثر عليه به فأراد أن يتركه ص بحاله لا يحدث في جهازه أمرا ليثبت

عند الناس أن الدنيا شغلتهم عن نبيهم ثلاثة أيام حتى آل أمره إلى ما ترون و قد كان ع يتطلب الحيلة في تهجين أمر أبي بكر حيث

وقع في السقيفة ما وقع بكل طريق و يتعلق بأدنى سبب من أمور كان يعتمدها و أقوال كان يقولها فلعل هذا من جملة ذلك أو لعله إن

صح ذلك فإنما تركه ص بوصية منه إليه و سر كانا يعلمانه في ذلك. فإن قلت فلم لا يجوز أن يقال إن صح ذلك إنه أخر جهازه ليجتمع

رأيه و رأي المهاجرين على كيفية غسله و تكفينه و نحو ذلك من أموره قلت لأن الرواية الأولى تبطل هذا الاحتمال و هي

قوله ص لهم قبل موته يغسلني أهلي الأدنى منهم فالأدنى و أكفن في ثيابي أو في بياض مصر أو في حلة يمنية

قال أبو جعفر فأما الذين تولوا غسله فعلي بن أبي طالب و العباس بن عبد المطلب و الفضل بن العباس و قثم بن العباس و أسامة بن

زيد و شقران مولى رسول الله ص

[13 : 38 ]

و حضر أوس بن خولي أحد الخزرج فقال لعلي بن أبي طالب أنشدك الله يا علي و حظنا من رسول الله و كان أوس من أصحاب بدر فقال

له ادخل فدخل فحضر غسله ع و صب الماء عليه أسامة و شقران و كان علي ع يغسله و قد أسنده إلى صدره و عليه قميصه يدلكه من

ورائه لا يفضي بيده إلى بدن رسول الله ص و كان العباس و ابناه الفضل و قثم يساعدونه على قلبه من جانب إلى جانب. قال أبو جعفر

و روت عائشة أنهم اختلفوا في غسله هل يجرد أم لا فألقى الله عليهم السنة حتى ما منهم رجل إلا و ذقنه على صدره ثم كلمهم متكلم

من ناحية البيت لا يدرى من هو غسلوا النبي و عليه ثيابه فقاموا إليه فغسلوه و عليه قميصه فكانت عائشة تقول لو استقبلت من

أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه. قلت حضرت عند محمد بن معد العلوي في داره ببغداد و عنده حسن بن معالي الحلي المعروف

بابن الباقلاوي و هما يقرءان هذا الخبر و هذه الأحاديث من تاريخ الطبري فقال محمد بن معد لحسن بن معالي ما تراها قصدت بهذا

القول قال حسدت أباك على ما كان يفتخر به من غسل رسول الله ص فضحك محمد فقال هبها استطاعت أن تزاحمه في الغسل هل

تستطيع أن تزاحمه في غيره من خصائصه. قال أبو جعفر الطبري ثم كفن ص في ثلاثة أثواب ثوبين صحاريين و برد حبرة أدرج فيها

إدراجا و لحد له على عادة أهل المدينة فلما فرغوا منه وضعوه على سريره.

[13 : 39 ]

و اختلفوا في دفنه فقال قائل ندفنه في مسجده و قال قائل ندفنه في البقيع مع أصحابه و

قال أبو بكر سمعت رسول الله ص يقول ما قبض نبي إلا و دفن حيث قبض

فرفع فراش رسول الله الذي توفي فيه فحفر له تحته. قلت كيف اختلفوا في موضع دفنه و

قد قال لهم فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري

و هذا تصريح بأنه يدفن في البيت الذي جمعهم فيه و هو بيت عائشة فإما أن يكون ذلك الخبر غير صحيح أو يكون الحديث الذي

تضمن أنهم اختلفوا في موضع دفنه و أن أبا بكر روى لهم أنه قال الأنبياء يدفنون حيث يموتون غير صحيح لأن الجمع بين هذين

الخبرين لا يمكن. و أيضا فهذا الخبر ينافي ما ورد في موت جماعة من الأنبياء نقلوا من موضع موتهم إلى مواضع أخر و قد ذكر

الطبري بعضهم في أخبار أنبياء بني إسرائيل. و أيضا فلو صح هذا الخبر لم يكن مقتضيا إيجاب دفن النبي ص حيث قبض لأنه ليس

بأمر بل هو إخبار محض اللهم إلا أن يكونوا فهموا من مخرج لفظه ع و من مقصده أنه أراد الوصية لهم بذلك و الأمر بدفنه حيث

يقبض. قال أبو جعفر ثم دخل الناس فصلوا عليه أرسالا حتى إذا فرغ الرجال أدخل النساء حتى إذا فرغ النساء أدخل الصبيان ثم

أدخل العبيد و لم يؤمهم إمام ثم دفن ع وسط الليل من ليلة الأربعاء.

قال أبو جعفر و قد روت عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة عن عائشة قالت ما علمنا بدفن رسول الله ص حتى سمعنا صوت

المساحي في جوف الليل ليلة الأربعاء

[13 : 40 ]

قلت و هذا أيضا من العجائب لأنه إذا مات يوم الإثنين وقت ارتفاع الضحى كما ذكر في الرواية و دفن ليلة الأربعاء وسط الليل فلم

يمض عليه ثلاثة أيام كما ورد في تلك الرواية. و أيضا فمن العجب كون عائشة و هو في بيتها لا تعلم بدفنه حتى سمعت صوت

المساحي أ تراها أين كانت و قد سألت عن هذا جماعة فقالوا لعلها كانت في بيت يجاور بيتها عندها نساء كما جرت عادة أهل الميت و

تكون قد اعتزلت بيتها و سكنت ذلك البيت لأن بيتها مملوء بالرجال من أهل رسول الله ص و غيرهم من الصحابة و هذا قريب و

يحتمل أن يكون. قال الطبري و نزل في قبر رسول الله ص علي بن أبي طالب ع و الفضل بن عباس و قثم أخوه و شقران مولاهم و قال

أوس بن خولي لعلي ع أنشدك الله يا علي و حظنا من رسول الله ص فقال له انزل فنزل مع القوم و أخذ شقران قطيفة كان رسول الله

ص يلبسها فقذفها معه في القبر و قال لا يلبسها أحد بعده. قلت من تأمل هذه الأخبار علم أن عليا ع كان الأصل و الجملة و التفصيل

في أمر رسول الله ص و جهازه أ لا ترى أن أوس بن خولي لا يخاطب أحدا من الجماعة غيره و لا يسأل غيره في حضور الغسل و النزول

في القبر ثم انظر إلى كرم علي ع و سجاحة أخلاقه و طهارة شيمته كيف لم يضن بمثل هذه المقامات الشريفة عن أوس و هو رجل

غريب من الأنصار فعرف له حقه و أطلبه بما طلبه فكم بين هذه السجية الشريفة و بين قول من قال لو استقبلت من أمري ما استدبرت

[13 : 41 ]

ما غسل رسول الله ص إلا نساؤه و لو كان في ذلك المقام غيره من أولي الطباع الخشنة و أرباب الفظاظة و الغلظة و قد سأل أوس

ذلك لزجر و انتهر و رجع خائبا. قال الطبري و كان المغيرة بن شعبة يدعي أنه أحدث الناس عهدا برسول الله ص و يقول للناس إنني

أخذت خاتمي فألقيته في القبر و قلت إن خاتمي قد سقط مني و إنما طرحته عمدا لأمس رسول الله ص فأكون آخر الناس به عهدا. قال

الطبري فروى عبد الله بن الحارث بن نوفل قال اعتمرت مع علي بن أبي طالب ع في زمان عمر أو عثمان فنزل على أخته أم هانئ بنت

أبي طالب فلما فرغ من عمرته رجع و قد سكب له غسل فلما فرغ من غسله دخل عليه نفر من أهل العراق فقالوا يا أبا الحسن جئناك

نسألك عن أمر نحب أن تخبرنا به فقال أظن المغيرة يحدثكم أنه أحدث الناس عهدا برسول الله ص قالوا أجل عن ذا جئنا نسألك قال

كذب أحدث الناس عهدا برسول الله ص قثم بن العباس كان آخرنا خروجا من قبره. قلت بحق ما عاب أصحابنا رحمهم الله المغيرة و

ذموه و انتقصوه فإنه كان على طريقة غير محمودة و أبى الله إلا أن يكون كاذبا على كل حال لأنه إن لم يكن أحدثهم بالنبي عهدا فقد

كذب في دعواه أنه أحدثهم به عهدا و إن كان أحدثهم به عهدا كما يزعم فقد اعترف بأنه كذب في قوله لهم سقط خاتمي مني و إنما

ألقاه عمدا و أين المغيرة و رسول الله ص ليدعي القرب منه و أنه أحدث الناس عهدا به

[13 : 42 ]

و قد علم الله تعالى و المسلمون أنه لو لا الحدث الذي أحدث و القوم الذين صحبهم فقتلهم غدرا و اتخذ أموالهم ثم التجأ إلى

رسول الله ص ليعصمه لم يسلم و لا وطئ حصا المدينة. قال الطبري و قد اختلف في سن رسول الله ص فالأكثرون أنه كان ابن ثلاث

و ستين سنة و قال قوم ابن خمس و ستين سنة و قال قوم ابن ستين. فهذا ما ذكره الطبري في تاريخه. و روى محمد بن حبيب في أماليه

قال تولى غسل النبي ص علي ع و العباس رضي الله عنه. و

كان علي ع يقول بعد ذلك ما شممت أطيب من ريحه و لا رأيت أضوأ من وجهه حينئذ و لم أره يعتاد فاه ما يعتاد أفواه الموتى

قال محمد بن حبيب فلما كشف الإزار عن وجهه بعد غسله انحنى عليه فقبله مرارا و بكى طويلا و قال بأبي أنت و أمي طبت حيا و

طبت ميتا انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد سواك من النبوة و الأنباء و أخبار السماء خصصت حتى صرت مسليا عمن سواك و

عممت حتى صارت المصيبة فيك سواء و لو لا أنك أمرت بالصبر و نهيت عن الجزع لأنفدنا عليك ماء الشئون و لكن أتى ما لا يدفع

أشكو إليك كمدا و إدبارا مخالفين و داء الفتنة فإنها قد استعرت نارها و داؤها الداء الأعظم بأبي أنت و أمي اذكرنا عند ربك و اجعلنا

من بالك و همك ثم نظر إلى قذاة في عينه فلفظها بلسانه ثم رد الإزار على وجهه

[13 : 43 ]

و قد روى كثير من الناس ندبة فاطمة ع أباها يوم موته و بعد ذلك اليوم و هي ألفاظ معدودة مشهورة منها

يا أبتاه جنة الخلد مثواه يا أبتاه عند ذي العرش مأواه يا أبتاه كان جبرئيل يغشاه يا أبتاه لست بعد اليوم أراه

و من الناس من يذكر أنها كانت تشوب هذه الندبة بنوع من التظلم و التألم لأمر يغلبها و الله أعلم بصحة ذلك و الشيعة تروي أن

قوما من الصحابة أنكروا بكاءها الطويل و نهوها عنه و أمروها بالتنحي عن مجاورة المسجد إلى طرف من أطراف المدينة. و أنا

أستبعد ذلك و الحديث يدخله الزيادة و النقصان و يتطرق إليه التحريف و الافتعال و لا أقول أنا في أعلام المهاجرين إلا خيرا

[13 : 44 ]

231- و من خطبة له ع

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الشَّوَاهِدُ وَ لَا تَحْوِيهِ الْمَشَاهِدُ وَ لَا تَرَاهُ النَّوَاظِرُ وَ لَا تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ الدَّالِّ عَلَى قِدَمِهِ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ وَ

بِحُدُوثِ خَلْقِهِ عَلَى وُجُودِهِ وَ بِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لَا شَبَهَ لَهُ الَّذِي صَدَقَ فِي مِيعَادِهِ وَ ارْتَفَعَ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ وَ قَامَ بِالْقِسْطِ فِي خَلْقِهِ وَ عَدَلَ

عَلَيْهِمْ فِي حُكْمِهِ مُسْتَشْهِدٌ بِحُدُوثِ الْأَشْيَاءِ عَلَى أَزَلِيَّتِهِ وَ بِمَا وَسَمَهَا بِهِ مِنَ الْعَجْزِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَ بِمَا اضْطَرَّهَا إِلَيْهِ مِنَ الْفَنَاءِ عَلَى دَوَامِهِ

وَاحِدٌ لَا بِعَدَد وَ دَائِمٌ لَا بِأَمَد وَ قَائِمٌ لَا بِعَمَد تَتَلَقَّاهُ الْأَذْهَانُ لَا بِمُشَاعَرَة وَ تَشْهَدُ لَهُ الْمَرَائِي لَا بِمُحَاضَرَة لَمْ تُحِطْ بِهِ الْأَوْهَامُ بَلْ تَجَلَّى لَهَا

بِهَا وَ بِهَا امْتَنَعَ مِنْهَا وَ إِلَيْهَا حَاكَمَهَا لَيْسَ بِذِي كِبَر امْتَدَّتْ بِهِ النِّهَايَاتُ فَكَبَّرَتْهُ تَجْسِيماً وَ لَا بِذِي عِظَم تَنَاهَتْ بِهِ الْغَايَاتُ فَعَظَّمَتْهُ

تَجْسِيداً بَلْ كَبُرَ شَأْناً وَ عَظُمَ سُلْطَاناً وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ الصَّفِيُّ وَ أَمِينُهُ الرَّضِيُّ ص أَرْسَلَهُ بِوُجُوبِ الْحُجَجِ وَ ظُهُورِ الْفَلَجِ وَ

إِيضَاحِ الْمَنْهَجِ فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ صَادِعاً بِهَا وَ حَمَلَ عَلَى الْمَحَجَّةِ دَالًّا عَلَيْهَا وَ أَقَامَ أَعْلَامَ الِاهْتِدَاءِ وَ مَنَارَ الضِّيَاءِ وَ جَعَلَ أَمْرَاسَ الْإِسْلَامِ

مَتِينَةً وَ عُرَا الْإِيمَانِ وَثِيقَةً

[13 : 45 ]

الشواهد هاهنا يريد بها الحواس و سماها شواهد إما لحضورها شهد فلان كذا أي حضره أو لأنها تشهد على ما تدركه و تثبته عند العقل

كما يشهد الشاهد بالشيء و يثبته عند الحاكم. و المشاهد هاهنا المجالس و النوادي يقال حضرت مشهد بني فلان أي ناديهم و

مجتمعهم. ثم فسر اللفظة الأولى و أبان عن مراده بها بقوله و لا تراه النواظر و فسر اللفظة الثانية و أبان عن مرادها فقال و لا تحجبه

السواتر. ثم قال الدال على قدمه بحدوث خلقه و بحدوث خلقه على وجوده هذا مشكل لأن لقائل أن يقول إذا دل على قدمه بحدوث

خلقه فقد دخل في جملة المدلول كونه موجودا لأن القديم هو الموجود و لم يزل فأي حاجه إلى أن يعود فيقول و بحدوث خلقه على

وجوده. و لمجيب أن يجيب على طريقة شيوخنا أصحاب أبي هاشم فيقول لا يلزم من الاستدلال بحدوث الأجسام على أنه لا بد من

محدث قديم كونه موجودا لأن عندهم أن الذات المعدومة قد تتصف بصفات ذاتية و هي معدومة فلا يلزم من كون صانع العالم عندهم

عالما قادرا حيا أن يكون موجودا بل لا بد من دلالة زائدة على أن له صفة الوجود و هي و الدلالة التي يذكرونها من أن كونه قادرا

عالما تقتضي تعلقه بالمقدور و المعلوم و كل ذات متعلقة فإن عدمها يخرجها عن التعلق كالإرادة فلو كان تعالى معدوما لم يجز أن

يكون متعلقا فحدوث الأجسام إذا قد دل على أمرين من وجهين مختلفين أحدهما أنه لا بد من صانع له و هذا هو المعني بقدمه.

[13 : 46 ]

و الثاني أن هذا الصانع له صفة لأجلها يصح على ذاته أن تكون قادرة عالمة و هذا هو المعني بوجوده. فإن قلت أ يقول أصحاب

شيخكم أبي هاشم إن الذات المعدومة التي لا أول لها تسمى قديمة قلت لا و البحث في هذا بحث في اللفظ لا في المعنى. و المراد

بقوله ع الدال بحدوث الأشياء على قدمه أي على كونه ذاتا لم يجعلها جاعل و ليس المراد بالقدم هاهنا الوجود لم يزل بل مجرد

الذاتية لم يزل. ثم يستدل بعد ذلك بحدوث الأشياء على أن له صفة أخرى لم تزل زائدة على مجرد الذاتية و تلك الصفة هي وجوده

فقد اتضح المراد الآن. فإن قلت فهل لهذا الكلام مساغ على مذهب البغداديين قلت نعم إذا حمل على منهج التأويل بأن يريد بقوله و

بحدوث خلقه على وجوده أي على صحة إيجاده له فيما بعد أي إعادته بعد العدم يوم القيامة لأنه إذا صح منه تعالى إحداثه ابتداء صح

منه إيجاده ثانيا على وجه الإعادة لأن الماهية قابلة للوجود و العدم و القادر قادر لذاته فأما من روى بحدوث خلقه على وجوده فإنه قد

سقطت عنه هذه الكلف كلها و المعنى على هذا ظاهر لأنه تعالى دل المكلفين بحدوث خلقه على أنه جواد منعم و مذهب أكثر

المتكلمين أنه خلق العالم جودا و إنعاما و إحسانا إليهم. قوله ع و باشتباههم على أن لا شبه له هذا دليل صحيح و ذلك لأنه إذا ثبت

أن جسما ما محدث ثبت أن سائر الأجسام محدثة لأن الأجسام متماثلة و كل ما صح على الشيء صح على مثله و كذلك إذا ثبت أن

سوادا ما أو بياضا ما محدث ثبت أن سائر السوادات و البياضات محدثة لأن حكم الشيء حكم مثله و السواد في معنى

[13 : 47 ]

كونه سوادا غير مختلف و كذلك البياض فصارت الدلالة هكذا الذوات التي عندنا يشبه بعضها بعضا و هي محدثة فلو كان الباري

سبحانه يشبه شيئا منها لكان مثلها و لكان محدثا لأن حكم الشيء حكم مثله لكنه تعالى ليس بمحدث فليس بمشابه لشيء منها فقد

صح إذا قوله ع و باشتباههم على أن لا شبه له. قوله ع الذي صدق في ميعاده لا يجوز ألا يصدق لأن الكذب قبيح عقلا و الباري تعالى

يستحيل منه من جهة الداعي و الصارف أن يفعل القبيح. قوله ع و ارتفع عن ظلم عباده هذا هو مذهب أصحابنا المعتزلة و عن أمير

المؤمنين ع أخذوه و هو أستاذهم و شيخهم في العدل و التوحيد فأما الأشعرية فإنها و إن كانت تمتنع عن إطلاق القول بأن الله

تعالى يظلم العباد إلا أنها تعطي المعنى في الحقيقة لأن الله عندهم يكلف العباد ما لا يطيقونه بل هو سبحانه عندهم لا يكلفهم إلا

ما لا يطيقونه بل هو سبحانه عندهم لا يقدر على أن يكلفهم ما يطيقونه و ذلك لأن القدرة عندهم مع الفعل فالقاعد غير قادر على

القيام و إنما يكون قادرا على القيام عند حصول القيام و يستحيل عندهم أن يوصف الباري تعالى بإقدار العبد القاعد على القيام و

هو مع ذلك مكلف له أن يقوم و هذا غاية ما يكون من الظلم سواء أطلقوا هذه اللفظة عليه أو لم يطلقوها. ثم أعاد الكلام الأول في

التوحيد تأكيدا فقال حدوث الأشياء دليل على قدمه و كونها عاجزة عن كثير من الأفعال دليل على قدرته و كونها فانية دليل على

بقائه. فإن قلت أما الاستدلال بحدوث الأشياء على قدمه فمعلوم فكيف يكون الاستدلال على الأمرين الأخيرين

[13 : 48 ]

قلت إذا شاركه سبحانه بعض الموجودات في كونه موجودا و افترقا في أن أحدهما لا يصح منه فعل الجسم و لا الكون و لا الحياة و

لا الوجود المحدث و يصح ذلك من الموجودات القديمة دل على افتراقهما في أمر لأجله صح من القديم ذلك و تعذر ذلك على المحدث

و ذلك الأمر هو الذي يسمى من كان عليه قادرا و ينبغي أن تحمل لفظة العجز هاهنا على المفهوم اللغوي و هو تعذر الإيجاد لا على

المفهوم الكلامي. و أما الاستدلال الثاني فينبغي أن يحمل الفناء هاهنا على المفهوم اللغوي و هو تغير الصفات و زوالها لا على

المفهوم الكلامي فيصير تقدير الكلام لما كانت الأشياء التي بيننا تتغير و تتحول و تنتقل من حال إلى حال و علمنا أن العلة

المصححة لذلك كونها محدثة علمنا أنه سبحانه لا يصح عليه التنقل و التغير لأنه ليس بمحدث ثم قال واحد لا بعدد لأن وحدته

ذاتية و ليست صفة زائدة عليه و هذا من الأبحاث الدقيقة في علم الحكمة و ليس هذا الكتاب موضوعا لبسط القول في أمثاله. ثم قال

دائم لا بأمد لأنه تعالى ليس بزماني و داخل تحت الحركة و الزمان و هذا أيضا من دقائق العلم الإلهي و العرب دون أن تفهم هذا أو

تنطق به و لكن هذا الرجل كان ممنوحا من الله تعالى بالفيض المقدس و الأنوار الربانية. ثم قال قائم لا بعمد لأنه لما كان في الشاهد

كل قائم فله عماد يعتمد عليه أبان ع تنزيهه تعالى عن المكان و عما يتوهمه الجهلاء من أنه مستقر على عرشه بهذه اللفظة و معنى

القائم هاهنا ليس ما يسبق إلى الذهن من أنه المنتصب بل ما تفهمه من قولك فلان قائم بتدبير البلد و قائم بالقسط. ثم قال تتلقاه

الأذهان لا بمشاعرة أي تتلقاه تلقيا عقليا ليس كما يتلقى الجسم الجسم بمشاعره و حواسه و جوارحه و ذلك لأن تعقل الأشياء و هو

حصول صورها

[13 : 49 ]

في العقل بريئة من المادة و المراد بتلقيه سبحانه هاهنا تلقي صفاته لا تلقي ذاته تعالى لأن ذاته تعالى لا تتصورها العقول و سيأتي

إيضاح أن هذا مذهبه ع. ثم قال و تشهد له المرائي لا بمحاضرة المرائي جمع مرئي و هو الشيء المدرك بالبصر يقول المرئيات تشهد

بوجود الباري لأنه لو لا وجوده لما وجدت و لو لم توجد لم تكن مرئيات و هي شاهدة بوجوده لا كشهادتها بوجود الأبصار لأنها شهدت

بوجود الأبصار لحضورها فيها و أما شهادتها بوجود الباري فليست بهذه الطريق بل بما ذكرناه و الأولى أن يكون المرائي هاهنا جمع

مرآة بفتح الميم من قولهم هو حسن في مرآة عيني يقول إن جنس الرؤية يشهد بوجود الباري من غير محاضرة منه للحواس. قوله ع

لم تحط به الأوهام إلى قوله ع و إليها حاكمها هذا الكلام دقيق و لطيف و الأوهام هاهنا هي العقول يقول إنه سبحانه لم تحط به

العقول أي لم تتصور كنه ذاته و لكنه تجلى للعقول بالعقول و تجليه هاهنا هو كشف ما يمكن أن تصل إليه العقول من صفاته

الإضافية و السلبية لا غير و كشف ما يمكن أن تصل إليه العقول من أسرار مخلوقاته فأما غير ذلك فلا و ذلك لأن البحث النظري قد

دل على أنا لم نعلم منه سبحانه إلا الإضافة و السلب أما الإضافة فكقولنا عالم قادر و أما السلب فكقولنا ليس بجسم و لا عرض و لا

يرى فأما حقيقة الذات المقدسة المخصوصة من حيث هي هي فإن العقل لا يتصورها و هذا مذهب الحكماء و بعض المتكلمين من

أصحابنا و من غيرهم. ثم قال و بالعقول امتنع من العقول أي و بالعقول و بالنظر علمنا أنه تعالى يمتنع أن تدركه العقول. ثم قال و

إلى العقول حكم العقول أي جعل العقول المدعية أنها أحاطت

[13 : 50 ]

به و أدركته كالخصم له سبحانه ثم حاكمها إلى العقول السليمة الصحيحة النظر فحكمت له سبحانه على العقول المدعية لما

ليست أهلا له. و اعلم أن القول بالحيرة في جلال ذات الباري و الوقوف عند حد محدود لا يتجاوزه العقل قول ما زال فضلاء العقلاء

قائلين به

من أشعار الشارح في المناجاة

و من شعري الذي أسلك فيه مسلك المناجاة عند خلواتي و انقطاعي بالقلب إليه سبحانه قولي

و الله لا موسى و لا عيسى المسيح و لا محمد

علموا و لا جبريل و هو إلى محل القدس يصعد

كلا و لا النفس البسيطة لا و لا العقل المجرد

من كنه ذاتك غير أنك واحدي الذات سرمد

وجدوا إضافات و سلبا و الحقيقة ليس توجد

و رأوا وجودا واجبا يفنى الزمان و ليس ينفد

فلتخسأ الحكماء عن جرم له الأفلاك تسجد

من أنت يا رسطو و من أفلاط قبلك يا مبلد

و من ابن سينا حين قرر ما بنيت له و شيد

هل أنتم إلا الفراش رأى الشهاب و قد توقد

فدنا فأحرق نفسه و لو اهتدى رشدا لأبعد

[13 : 51 ]

و مما قلته أيضا في قصور العقل عن معرفته سبحانه و تعالى

فيك يا أعجوبة الكون غدا الفكر كليلا

أنت حيرت ذوي اللب و بلبلت العقولا

كلما أقدم فكري فيك شبرا فر ميلا

ناكصا يخبط في عمياء لا يهدى السبيلا

و لي في هذا المعنى

فيك يا أغلوطة الفكر تاه عقلي و انقضى عمري

سافرت فيك العقول فما ربحت إلا أذى السفر

رجعت حسرى و ما وقفت لا على عين و لا أثر

فلحى الله الألى زعموا أنك المعلوم بالنظر

كذبوا إن الذي طلبوا خارج عن قوة البشر

و قلت أيضا في المعنى

أفنيت خمسين عاما معملا نظري فيه فلم أدر ما آتي و ما أذر

من كان فوق عقول القائسين فما ذا يدرك الفكر أو ما يبلغ النظر

و لي أيضا

حبيبي أنت لا زيد و عمرو و إن حيرتني و فتنت ديني

طلبتك جاهدا خمسين عاما فلم أحصل على برد اليقين

[13 : 52 ]

فهل بعد الممات بك اتصال فأعلم غامض السر المصون

نوى قذف و كم قد مات قبلي بحسرته عليك من القرون

و من شعري أيضا في المعنى و كنت أنادي به ليلا في مواضع مقفرة خالية من الناس بصوت رفيع و أجدح قلبي أيام كنت مالكا أمري

مطلقا من قيود الأهل و الولد و علائق الدنيا

يا مدهش الألباب و الفطن و محير التقوالة اللسن

أفنيت فيك العمر أنفقه و المال مجانا بلا ثمن

أتتبع العلماء أسألهم و أجول في الآفاق و المدن

و أخالط الملل التي اختلفت في الدين حتى عابد الوثن

و ظننت أني بالغ غرضي لما اجتهدت و مبرئ شجني

و مطهر من كل رجس هوى قلبي بذاك و غاسل درني

فإذا الذي استكثرت منه هو الجاني علي عظائم المحن

فضللت في تيه بلا علم و غرقت في يم بلا سفن

و رجعت صفر الكف مكتئبا حيران ذا هم و ذا حزن

أبكي و أنكت في الثرى بيدي طورا و أدعم تارة ذقني

و أصيح يا من ليس يعرفه أحد مدى الأحقاب و الزمن

يا من له عنت الوجوه و من قرنت له الأعناق في قرن

آمنت يا جذر الأصم من الأعداد بل يا فتنة الفتن

أن ليس تدركك العيون و أن الرأي ذو أفن و ذو غبن

[13 : 53 ]

و الكل أنت فكيف يدركه بعض و أنت السر في العلن

و مما قلته في المعنى

ناجيته و دعوته اكشف عن عشا قلبي و عن بصري و أنت النور

و ارفع حجابا قد سدلت ستوره دوني و هل دون المحب ستور

فأجابني صه يا ضعيف فبعض ذا قد رامه موسى فدك الطور

أعجبني هذا المعنى فنقلته إلى لفظ آخر فقلت

حبيبي أنت من دون البرايا و إن لم أحظ منك بما أريد

قنعت من الوصال بكشف حال فقيل ارجع فمطلبها بعيد

أ لم تسمع جواب سؤال موسى و ليس على مكانته مزيد

تعرض للذي حاولت يوما فدك الصخر و اضطرم الصعيد

و لي في هذا المعنى أيضا

قد حار في النفس جميع الورى و الفكر فيها قد غدا ضائعا

و برهن الكل على ما ادعوا و ليس برهانهم قاطعا

من جهل الصنعة عجزا فما أجدره أن يجهل الصانعا

و لي أيضا في الرد على الفلاسفة الذين عللوا حركة الفلك بأنه أراد استخراج الوضع أولا ليتشبه بالعقل المجرد في كماله و أن كل ما

له بالقوة فهو خارج إلى الفعل

تحير أرباب النهى و تعجبوا من الفلك الأقصى لما ذا تحركا

فقيل بطبع كالثقيل إذا هوى و قيل اختيارا و المحقق شككا

فرد حديث الطبع إذ كان دائرا و ليس على سمت قويم فيسلكا

[13 : 54 ]

و قيل لمن قال اختيارا فما الذي دعاه إلى أن دار ركضا فأوشكا

فقالوا لوضع حادث يستجده يعاقب منه مطلبا ثم متركا

فقيل لهم هذا الجنون بعينه و لو رامه منا امرؤ كان أعفكا

و لو أن إنسانا غدا ليس قصده سوى الوضع و استخراجه عد مضحكا

و لي أيضا في الرد على من زعم أن النبي ص رأى الله سبحانه بالعين و هو الذي أنكرته عائشة و العجب لقوم من أرباب النظر جهلوا

ما أدركته امرأة من نساء العرب

عجبت لقوم يزعمون نبيهم رأى ربه بالعين تبا لهم تبا

و هل تدرك الأبصار غير مكيف و كيف تبيح العين ما يمنع القلبا

إذا كان طرف القلب عن كنهه نبا حسيرا فطرف العين عن كنهه أنبى

و المقطعات التي نظمتها في إجلال الباري سبحانه عن أن تحيط به العقول كثيرة موجودة في كتبي و مصنفاتي فلتلمح من مظانها و

غرضنا بإيراد بعضها أن لها هنا تشييدا لما قاله أمير المؤمنين ع علي في هذا الباب.

قوله ع ليس بذي كبر إلى قوله و عظم سلطانا معناه أنه تعالى يطلق عليه من أسمائه الكبير و العظيم و قد ورد بهما القرآن العزيز و

ليس المراد بهما ما يستعمله الجمهور من قولهم هذا الجسم أعظم و أكبر مقدارا من هذا الجسم بل المراد عظم شأنه و جلالة

سلطانه. و الفلج النصرة و أصله سكون العين و إنما حركه ليوازن بين الألفاظ و ذلك

السابق

التالي