السابق

التالي

[11 : 55 ]

ليس قوله تكركره الرياح منافيا للنظر الحكمي أيضا لأن كرة الهواء محيطة بكرة و قد تعصف الرياح في كرة الهواء للأسباب

المذكورة في موضعها من هذا العلم فيتموج كثير من الكرة المائية لعصف الرياح. و ليس قوله ع و تمخضه الغمام الذوارف صريحا

في أن السحب تنزل في البحر فتغترف منه كما قد يعتقد في المشهور العامي نحو قول الشاعر

كالبحر تمطره السحاب و ما لها فضل عليه لأنها من مائه

بل يجوز أن تكون الغمام الذراف تمخضه و تحركه بما ترسل عليه من الأمطار السائلة منها فقد ثبت أن كلام أمير المؤمنين ع موجه

إن شئت فسرته بما يقوله أهل الظاهر و إن شئت فسرته بما يعتقده الحكماء. فإن قلت فكيف قال الله تعالى أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا

أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما و هل كان الذين كفروا راءين لذلك حتى يقول لهم أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا. قلت هذا

في قوله اعلموا أن السموات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما كما يقول الإنسان لصاحبه أ لم تعلم أن الأمير صرف حاجبه الليلة عن بابه

أي اعلم ذلك إن كنت غير عالم و الرؤية هنا بمعنى العلم. و اعلم أنه قد ذهب قوم من قدماء الحكماء و يقال أنه مذهب سقراط إلى

تفسير القيامة و جهنم بما يبتني على وضع الأرض على الماء فقالوا الأرض موضوعة على الماء و الماء على الهواء و الهواء على النار

و النار في حشو الأفلاك و لما كان العنصران الخفيفان و هما الهواء و النار يقتضيان صعود ما يحيطان به و العنصران الثقيلان اللذان

في وسطهما و هما

[11 : 56 ]

الماء و الأرض يقتضيان النزول و الهبوط وقعت الممانعة و المدافعة فلزم من ذلك وقوف الماء و الأرض في الوسط. قالوا ثم إن النار

لا تزال يتزايد تأثيرها في إسخان الماء و ينضاف إلى ذلك حر الشمس و الكواكب إلى أن تبلغ البحار و العنصر المائي غايتهما في

الغليان و الفوران فيتصاعد بخار عظيم إلى الأفلاك شديد السخونة و ينضاف إلى ذلك حر فلك الأثير الملاصق للأفلاك فتذوب

الأفلاك كما يذوب الرصاص و تتهافت و تتساقط و تصير كالمهل الشديد الحرارة و نفوس البشر على قسمين أحدهما ما تجوهر و صار

مجردا بطريق العلوم و المعارف و قطع العلائق الجسمانية حيث كان مدبرا للبدن و الآخر ما بقي على جسمانيته بطريق خلوه من

العلوم و المعارف و انغماسه في اللذات و الشهوات الجسمانية فأما الأول فإنه يلتحق بالنفس الكلية المجردة و يخلص من دائرة

هذا العالم بالكلية و أما الثاني فإنه تنصب عليه تلك الأجسام الفلكية الذائبة فيحترق بالكلية و يتعذب و يلقي آلاما شديدة. قالوا

هذا هو باطن ما وردت به الرواية من العذاب عليها و خراب العالم و الأفلاك و انهدامها. ثم نعود إلى شرح الألفاظ قوله ع

فاستمسكت أي وقفت و ثبتت. و الهاء في حده تعود إلى أمره أي قامت على حد ما أمرت به أي لم تتجاوزه و لا تعدته. و الأخضر البحر و

يسمى أيضا خضارة معرفة غير مصروف و العرب تسميه بذلك إما لأنه يصف لون السماء فيرى أخضر أو لأنه يرى أسود لصفائه

فيطلقون عليه لفظ

[11 : 57 ]

الأخضر كما سموا الأخضر أسود نحو قوله مُدْهامَّتانِ و نحو تسميتهم قرى العراق سوادا لخضرتها و كثرة شجرها و نحو قولهم

للديزج من الدواب أخضر. المثعنجر السائل ثعجرت الدم و غيره فاثعنجر أي صببته فانصب و تصغير المثعنجر مثيعج و مثيعيج. و

القمقام بالفتح من أسماء البحر و يقال لمن وقع في أمر عظيم وقع في قمقام من الأمر تشبيها بالبحر. قوله ع و جبل جلاميدها أي و

خلق صخورها جمع جلمود. و النشوز جمع نشز و هو المرتفع من الأرض و يجوز فتح الشين. و متونها جوانبها و أطوادها جبالها و

يروى و أطوادها بالجر عطفا على متونها. فأرساها في مراسيها أثبتها في مواضعها رسا الشيء يرسو ثبت و رست أقدامهم في الحرب

ثبتت و رست السفينة ترسو رسوا و رسوا أي وقفت في البحر و قوله تعالى بِسْمِ اللّهِ مَجْراها وَ مُرْساها بالضم من أجريت و أرسيت و

من قرأ بالفتح فهو من رست هي و جرت هي. و ألزمها قرارتها أمسكها حيث استقرت. قوله فأنهد جبالها أي أعلاها نهد ثدي الجارية ينهد

بالضم إذا أشرف و كعب فهي ناهد و ناهدة. و سهولها ما تطامن منها عن الجبال. و أساخ قواعدها أي غيب قواعد الجبال في جوانب

أقطار الأرض ساخت قوائم

[11 : 58 ]

الفرس في الأرض تسوخ و تسيخ أي دخلت فيها و غابت مثل ثاخت و أسختها أنا مثل أثختها و الأنصاب الأجسام المنصوبة الواحد

نصب بضم النون و الصاد و منه سميت الأصنام نصبا في قوله تعالى وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ لأنها نصبت فعبدت من دون الله قال

الأعشى

و ذا المنصوب لا تنسكنه لعاقبة و الله ربك فاعبدا

أي و أساخ قواعد الجبال في متون أقطار الأرض و في المواضع الصالحة لأن تكون فيها الأنصاب المماثلة و هي الجبال أنفسها.

قوله فأشهق قلالها جمع قلة و هي ما علا من رأس الجبل أشهقها جعلها شاهقة أي عالية. و أرزها أثبتها فيها رزت الجرادة ترز رزا و هو

أن تدخل ذنبها في الأرض فتلقى بيضها و أرزها الله أثبت ذلك منها في الأرض و يجوز أرزت لازما غير متعد مثل رزت و ارتز السهم في

القرطاس ثبت فيه و روي و آرزها بالمد من قولهم شجرة آرزة أي ثابتة في الأرض أرزت بالفتح تأرز بالكسر أي ثبتت و آرزها بالمد

غيرها أي أثبتها. و تميد تتحرك و تسيخ تنزل و تهوي. فإن قلت ما الفرق بين الثلاثة تميد بأهلها أو تسيخ بحملها أو تزول عن

مواضعها. قلت لأنها لو تحركت لكانت إما أن تتحرك على مركزها أو لا على مركزها

[11 : 59 ]

و الأول هو المراد بقوله تميد بأهلها و الثاني تنقسم إلى أن تنزل إلى تحت أو لا تنزل إلى تحت فالنزول إلى تحت هو المراد بقوله أو

تسيخ بحملها و القسم الثاني هو المراد بقوله أو تزول عن مواضعها. فإن قلت ما المراد ب على في قوله فسكنت على حركتها. قلت هي

لهيئة الحال كما تقول عفوت عنه على سوء أدبه و دخلت إليه على شربه أي سكنت على أن من شأنها الحركة لأنها محمولة على سائل

متموج. قوله موجان مياهها بناء فعلان لما فيه اضطراب و حركة كالغليان و النزوان و الخفقان و نحو ذلك. و أجمدها أي أجعلها

جامدة و أكنافها جوانبها و المهاد الفراش. فوق بحر لجي كثير الماء منسوب إلى اللجة و هي معظم البحر. قوله يكركره الرياح

الكركرة تصريف الريح السحاب إذا جمعته بعد تفريق و أصله يكرر من التكرير فأعادوا الكاف كركرت الفارس عني أي دفعته و رددته. و

الرياح العواصف الشديدة الهبوب و تمخضه يجوز فتح الخاء و ضمها و كسرها و الفتح أفصح لمكان حرف الحلق من مخضت اللبن

إذا حركته لتأخذ زبده. و الغمام جمع و الواحدة غمامة و لذلك قال الذوارف لأن فواعل أكثر ما يكون لجمع المؤنث ذرفت عينه أي

دمعت أي السحب المواطر و المضارع من ذرفت عينه تذرف بالكسر ذرفا و ذرفا و المذارف المدامع

[11 : 60 ]

205- و من خطبة له ع

اللَّهُمَّ أَيُّمَا عَبْد مِنْ عِبَادِكَ سَمِعَ مَقَالَتَنَا الْعَادِلَةَ غَيْرَ الْجَائِرَةِ وَ الْمُصْلِحَةَ فِي الدِّينِ وَ الدُّنْيَا غَيْرَ الْمُفْسِدَةِ فَأَبَى بَعْدَ سَمْعِهِ لَهَا إِلَّا النُّكُوصَ

عَنْ نُصْرَتِكَ وَ الْإِبْطَاءَ عَنْ إِعْزَازِ دِينِكَ فَإِنَّا نَسْتَشْهِدُكَ عَلَيْهِ يَا أَكْبَرَ الشَّاهِدِينَ شَهَادَةً وَ نَسْتَشْهِدُ عَلَيْهِ جَمِيعَ مَا أَسْكَنْتَهُ أَرْضَكَ وَ

سمَاوَاتِكَ ثُمَّ أَنْتَ بَعْدَهُ الْمُغْنِي عَنْ نَصْرِهِ وَ الآْخِذُ لَهُ بِذَنْبِهِ

ما في أيما زائدة مؤكدة و معنى الفصل وعيد من استنصره فقعد عن نصره. و وصف المقالة بأنها عادلة إما تأكيد كما قالوا شعر شاعر و

إما ذات عدل كما قالوا رجل تأمر و لابن أي ذو تمر و لبن و يجوز أيضا أن يريد بالعادلة المستقيمة التي ليست كاذبة و لا محرفة عن

جهتها و الجائرة نقيضها و هي المنحرفة جار فلان عن الطريق أي انحرف و عدل. و النكوص التأخر. قوله ع نستشهدك عليه أي نسألك

أن تشهد عليه و وصفه تعالى

[11 : 61 ]

بأنه أكبر الشاهدين شهادة لقوله تعالى قُلْ أَيُّ شَيْء أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللّهُ يقول اللهم إنا نستشهدك على خذلان من استنصرناه و

استنفرناه إلى نصرتك و الجهاد عن دينك فأبى النهوض و نكث عن القيام بواجب الجهاد و نستشهد عبادك من البشر في أرضك و

عبادك من الملائكة في سمواتك عليه أيضا ثم أنت بعد ذلك المغني لنا عن نصرته و نهضته بما تتيحه لنا من النصر و تؤيدنا به من

الإعزاز و القوة و الأخذ له بذنبه في القعود و التخلف. و هذا قريب من قوله تعالى وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا

أَمْثالَكُمْ

[11 : 62 ]

206- و من خطبة له ع

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ عَنْ شَبَهِ الْمَخْلُوقِينَ الْغَالِبِ لِمَقَالِ الْوَاصِفِينَ الظَّاهِرِ بِعَجَائِبِ تَدْبِيرِهِ لِلنَّاظِرِينَ وَ الْبَاطِنِ بِجَلَالِ عِزَّتِهِ عَنْ فِكْرِ

الْمُتَوَهِّمِينَ الْعَالِمِ بِلَا اكْتِسَاب وَ لَا ازْدِيَاد وَ لَا عِلْم مُسْتَفَاد الْمُقَدِّرِ لِجَمِيعِ الْأُمُورِ بِلَا رَوِيَّة وَ لَا ضَمِير الَّذِي لَا تَغْشَاهُ الظُّلَمُ وَ لَا

يَسْتَضِيءُ بِالْأَنْوَارِ وَ لَا يَرْهَقُهُ لَيْلٌ وَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ نَهَارٌ لَيْسَ إِدْرَاكُهُ بِالْإِبْصَارِ وَ لَا عِلْمُهُ بِالْإِخْبَارِ

يجوز شبه و شبه و الرواية هاهنا بالفتح و تعاليه سبحانه عن شبه المخلوقين كونه قديما واجب الوجود و كل مخلوق محدث ممكن

الوجود. قوله الغالب لمقال الواصفين أي إن كنه جلاله و عظمته لا يستطيع الواصفون وصفه و إن أطنبوا و أسهبوا فهو كالغالب

لأقوالهم لعجزها عن إيضاحه و بلوغ منتهاه و الظاهر بأفعاله و الباطن بذاته لأنه إنما يعلم منه أفعاله و أما ذاته فغير معلومة. ثم

وصف علمه تعالى فقال إنه غير مكتسب كما يكتسب الواحد منا علومه بالاستدلال و النظر و لا هو علم يزداد إلى علومه الأولى كما

تزيد علوم الواحد منا و معارفه و تكثر لكثرة الطرق التي يتطرق بها إليها.

[11 : 63 ]

ثم قال و لا علم مستفاد أي ليس يعلم الأشياء بعلم محدث مجدد كما يذهب إليه جهم و أتباعه و هشام بن الحكم و من قال بقوله. ثم

ذكر أنه تعالى قدر الأمور كلها بغير روية أي بغير فكر و لا ضمير و هو ما يطويه الإنسان من الرأي و الاعتقاد و العزم في قلبه. ثم

وصفه تعالى بأنه لا يغشاه ظلام لأنه ليس بجسم و لا يستضيء بالأنوار كالأجسام ذوات البصر و لا يرهقه ليل أي لا يغشاه و لا

يجري عليه نهار لأنه ليس بزماني و لا قابل للحركة ليس إدراكه بالأبصار لأن ذلك يستدعي المقابلة و لا علمه بالإخبار مصدر أخبر أي

ليس علمه مقصورا على أن تخبره الملائكة بأحوال المكلفين بل هو يعلم كل شيء لأن ذاته ذات واجب لها أن تعلم كل شيء لمجرد

ذاتها المخصوصة من غير زيادة أمر على ذاتها

مِنْهَا فِي ذِكْرِ النَّبِيِّ ص أَرْسَلَهُ بِالضِّيَاءِ وَ قَدَّمَهُ فِي الِاصْطِفَاءِ فَرَتَقَ بِهِ الْمَفَاتِقَ وَ سَاوَرَ بِهِ الْمُغَالِبَ وَ ذَلَّلَ بِهِ الصُّعُوبَةَ وَ سَهَّلَ بِهِ الْحُزُونَةَ

حَتَّى سَرَّحَ الضَّلَالَ عَنْ يَمِين وَ شِمَال

أرسله بالضياء أي بالحق و سمى الحق ضياء لأنه يهتدى به أو أرسله بالضياء أي بالقرآن.

[11 : 64 ]

و قدمه في الاصطفاء أي قدمه في الاصطفاء على غيره من العرب و العجم قالت قريش لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُل مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ أي

على رجل من رجلين من القريتين عَظِيم أي إما على الوليد بن المغيرة من مكة أو على عروة بن مسعود الثقفي من الطائف. ثم قال

تعالى أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ أي هو سبحانه العالم بالمصلحة في إرسال الرسل و تقديم من يرى في الاصطفاء على غيره. فرتق به

المفاتق أي أصلح به المفاسد و الرتق ضد الفتق و المفاتق جمع مفتق و هو مصدر كالمضرب و المقتل. و ساور به المغالب ساورت زيدا

أي واثبته و رجل سوار أي وثاب و سورة الخمر وثوبها في الرأس. و الحزونة ضد السهولة و الحزن ما غلظ من الأرض و السهل ما لان

منها و استعير لغير الأرض كالأخلاق و نحوها. قوله حتى سرح الضلال أي طرده و أسرع به ذهابا. عن يمين و شمال من قولهم ناقة

سرح و منسرحة أي سريعة و منه تسريح المرأة أي تطليقها

[11 : 65 ]

207- و من خطبة له ع

وَ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَدْلٌ عَدَلَ وَ حَكَمٌ فَصَلَ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ وَ سَيِّدُ عِبَادِهِ كُلَّمَا نَسَخَ اللَّهُ الْخَلْقَ فِرْقَتَيْنِ جَعَلَهُ فِي خَيْرِهِمَا لَمْ

يُسْهِمْ فِيهِ عَاهِرٌ وَ لَا ضَرَبَ فِيهِ فَاجِرٌ أَلَا وَ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ لِلْخَيْرِ أَهْلًا وَ لِلْحَقِّ دَعَائِمَ وَ لِلطَّاعَةِ عِصَماً وَ إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ كُلِّ طَاعَة

عَوْناً مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يَقُولُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ وَ يُثَبِّتُ بِهِ الْأَفْئِدَةَ فِيهِ كِفَاءٌ لِمُكْتَف وَ شِفَاءٌ لِمُشْتَف وَ اعْلَمُوا أَنَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُسْتَحْفَظِينَ عِلْمَهُ

يَصُونُونَ مَصُونَهُ وَ يُفَجِّرُونَ عُيُونَهُ يَتَوَاصَلُونَ بِالْوِلَايَةِ وَ يَتَلَاقَوْنَ بِالْمَحَبَّةِ وَ يَتَسَاقَوْنَ بِكَأْس رَوِيَّة وَ يَصْدُرُونَ بِرِيَّة لَا تَشُوبُهُمُ الرِّيبَةُ

وَ لَا تُسْرِعُ فِيهِمُ الْغِيبَةُ عَلَى ذَلِكَ عَقَدَ خَلْقَهُمْ وَ أَخْلَاقَهُمْ فَعَلَيْهِ يَتَحَابُّونَ وَ بِهِ يَتَوَاصَلُونَ فَكَانُوا كَتَفَاضُلِ الْبَذْرِ يُنْتَقَى فَيُؤْخَذُ مِنْهُ وَ يُلْقَى

قَدْ مَيَّزَهُ التَّخْلِيصُ وَ هَذَّبَهُ التَّمْحِيصُ فَلْيَقْبَلِ امْرُؤٌ كَرَامَةً بِقَبُولِهَا وَ لْيَحْذَرْ قَارِعَةً قَبْلَ حُلُولِهَا وَ لْيَنْظُرِ امْرُؤٌ فِي قَصِيرِ أَيَّامِهِ وَ قَلِيلِ مُقَامِهِ

فِي مَنْزِل حَتَّى يَسْتَبْدِلَ بِهِ مَنْزِلًا فَلْيَصْنَعْ لِمُتَحَوَّلِهِ وَ مَعَارِفِ مُنْتَقَلِهِ فَطُوبَى لِذِي قَلْب سَلِيم أَطَاعَ مَنْ يَهْدِيهِ وَ تَجَنَّبَ مَنْ يُرْدِيهِ وَ أَصَابَ

سَبِيلَ السَّلَامَةِ بِبَصَرِ مَنْ بَصَّرَهُ وَ طَاعَةِ هَاد أَمَرَهُ وَ بَادَرَ الْهُدَى قَبْلَ أَنْ تُغْلَقَ أَبْوَابُهُ

[11 : 66 ]

وَ تُقْطَعَ أَسْبَابُهُ وَ اسْتَفْتَحَ التَّوْبَةَ وَ أَمَاطَ الْحَوْبَةَ فَقَدْ أُقِيمَ عَلَى الطَّرِيقِ وَ هُدِيَ نَهْجَ السَّبِيلِ

الضمير في أنه يرجع إلى القضاء و القدر المذكور في صدر هذه الخطبة و لم يذكره الرضي رحمه الله يقول أشهد أن قضاءه تعالى عدل

عدل و حكم بالحق فإنه حكم فصل بين العباد بالإنصاف و نسب العدل و الفصل إلى القضاء على طريق المجاز و هو بالحقيقة

منسوب إلى ذي القضاء و القاضي به هو الله تعالى. قوله و سيد عباده هذا كالمجمع عليه بين المسلمين و إن كان قد خالف فيه شذوذ

منهم و احتج الجمهور

بقوله أنا سيد ولد آدم و لا فخر

و بقوله ادعوا لي سيد العرب عليا فقالت عائشة أ لست سيد العرب فقال أنا سيد البشر و علي سيد العرب

و بقوله آدم و من دونه تحت لوائي

و احتج المخالف بقوله ع لا تفضلوني على أخي يونس بن متى

و أجاب الأولون تارة بالطعن في إسناد الخبر و تارة بأنه حكاية كلام حكاه ص عن عيسى ابن مريم و تارة بأن النهي إنما كان عن الغلو

فيه كما غلت الأمم في أنبيائها فهو كما ينهى الطبيب المريض فيقول لا تأكل من الخبز و لا درهما و ليس مراده تحريم أكل الدرهم و

الدرهمين بل تحريم ما يستضر بأكله منه. قوله ع كلما نسخ الله الخلق فرقتين جعله في خيرهما النسخ النقل و منه نسخ الكتاب و

منه نسخت الريح آثار القوم و نسخت الشمس الظل يقول

[11 : 67 ]

كلما قسم الله تعالى الأب الواحد إلى ابنين جعل خيرهما و أفضلهما لولادة محمد ع و سمى ذلك نسخا لأن البطن الأول يزول و

يخلفه البطن الثاني و منه مسائل المناسخات في الفرائض. و هذا المعنى قد ورد مرفوعا في عدة أحاديث نحو

قوله ص ما افترقت فرقتان منذ نسل آدم ولده إلا كنت في خيرهما

و نحو قوله إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل و اصطفى من ولد إسماعيل مضر و اصطفى من مضر كنانة و اصطفى من كنانة

قريشا و اصطفى من قريش هاشما و اصطفاني من بني هاشم

قوله لم يسهم فيه عاهر و لا ضرب فيه فاجر

لم يسهم لم يضرب فيه عاهر بسهم أي بنصيب و جمعه سهمان و العاهر ذو العهر بالتحريك و هو الفجور و الزناء و يجوز تسكين

الهاء مثل نهر و نهر و هذا هو المصدر و الماضي عهر بالفتح و الاسم العهر بكسر العين و سكون الهاء و المرأة عاهرة و معاهرة و

عيهرة و تعيهر الرجل إذا زنى و الفاجر كالعاهر هاهنا و أصل الفجور الميل قال لبيد

فإن تتقدم تغش منها مقدما غليظا و إن أخرت فالكفل فاجر

يقول مقعد الرديف مائل

ذكر بعض المطاعن في النسب و كلام للجاحظ في ذلك

و في الكلام رمز إلى جماعة من الصحابة في أنسابهم طعن كما يقال إن آل سعد بن أبي وقاص ليسوا من بني زهرة بن كلاب و إنهم من

بني عذرة من قحطان

[11 : 68 ]

و كما قالوا إن آل الزبير بن العوام من أرض مصر من القبط و ليسوا من بني أسد بن عبد العزى قال الهيثم بن عدي في كتاب مثالب

العرب إن خويلد بن أسد بن عبد العزى كان أتى مصر ثم انصرف منها بالعوام فتبناه فقال حسان بن ثابت يهجو آل العوام بن خويلد

بني أسد ما بال آل خويلد يحنون شوقا كل يوم إلى القبط

متى يذكروا قهقى يحنوا لذكرها و للرمث المقرون و السمك الرقط

عيون كأمثال الزجاج وضيعة تخالف كعبا في لحى كثة ثط

يرى ذاك في الشبان و الشيب منهم مبينا و في الأطفال و الجلة الشمط

لعمر أبي العوام إن خويلدا غداة تبناه ليوثق في الشرط

و كما يقال في قوم آخرين نرفع هذا الكتاب عن ذكر ما يطعن به في أنسابهم كي لا يظن بنا أنا نحب المقالة في الناس. قال شيخنا أبو

عثمان في كتاب مفاخرات قريش لا خير في ذكر العيوب إلا من ضرورة و لا نجد كتاب مثالب قط إلا لدعي أو شعوبي و لست واجده

لصحيح النسب و لا لقليل الحسد و ربما كانت حكاية الفحش أفحش من الفحش و نقل الكذب أقبح من الكذب و

قال النبي ص اعف عن ذي قبر

و قال لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات

و قيل في المثل يكفيك من شر سماعه و قالوا أسمعك من أبلغك و قالوا من طلب عيبا وجده و قال النابغة

و لست بمستبق أخا لا تلمه على شعث أي الرجال المهذب

[11 : 69 ]

قال أبو عثمان و بلغ عمر بن الخطاب أن أناسا من رواة الأشعار و حملة الآثار يعيبون الناس و يثلبونهم في أسلافهم فقام على المنبر

و قال إياكم و ذكر العيوب و البحث عن الأصول فلو قلت لا يخرج اليوم من هذا الأبواب إلا من لا وصمة فيه لم يخرج منكم أحد

فقام رجل من قريش نكره أن نذكره فقال إذا كنت أنا و أنت يا أمير المؤمنين نخرج فقال كذبت بل كان يقال لك يا قين بن قين اقعد.

قلت الرجل الذي قام هو المهاجر بن خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي كان عمر يبغضه لبغضه أباه خالدا و لأن المهاجر كان علوي

الرأي جدا و كان أخوه عبد الرحمن بخلافه شهد المهاجر صفين مع علي ع و شهدها عبد الرحمن مع معاوية و كان المهاجر مع علي ع

في يوم الجمل و فقئت ذلك اليوم عينه و لأن الكلام الذي بلغ عمر بلغه عن المهاجر و كان الوليد بن المغيرة مع جلالته في قريش و

كونه يسمى ريحانة قريش و يسمى العدل و يسمى الوحيد حداد يصنع الدروع و غيرها بيده ذكر ذلك عنه عبد الله بن قتيبة في كتاب

المعارف. و روى أبو الحسن المدائني هذا الخبر في كتاب أمهات الخلفاء و قال إنه روى عند جعفر بن محمد ع بالمدينة فقال لا تلمه

يا ابن أخي إنه أشفق أن يحدج بقضية نفيل بن عبد العزى و صهاك أمة الزبير بن عبد المطلب ثم قال رحم الله عمر فإنه لم يعد السنة

و تلا إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. أما قول ابن جرير الآملي الطبرستاني في كتاب المسترشد

إن عثمان والد

[11 : 70 ]

أبي بكر الصديق كان ناكحا أم الخير ابنة أخته فليس بصحيح و لكنها ابنة عمه لأنها ابنة صخر بن عامر و عثمان هو ابن عمرو بن عامر

و العجب لمن اتبعه من فضلاء الإمامية على هذه المقالة من غير تحقيق لها من كتب الأنساب و كيف تتصور هذه الواقعة في قريش و لم

يكن أحد منهم مجوسيا و لا يهوديا و لا كان من مذهبهم حل نكاح بنات الأخ و لا بنات الأخت. ثم نعود لإتمام حكاية كلام شيخنا أبي

عثمان قال و متى يقدر الناس حفظك الله على رجل مسلم من كل ابنة و مبرأ من كل آفة في جميع آبائه و أمهاته و أسلافه و أصهاره

حتى تسلم له أخواله و أعمامه و خالاته و عماته و أخواته و بناته و أمهات نسائه و جميع من يناسبه من قبل جداته و أجداده و

أصهاره و أختانه و لو كان ذلك موجودا لما كان لنسب رسول الله ص فضيلة في النقاء و التهذيب و في التصفية و التنقيح

قال رسول الله ص ما مسني عرق سفاح قط و ما زلت أنقل من الأصلاب السليمة من الوصوم و الأرحام البريئة من العيوب

فلسنا نقضي لأحد بالنقاء من جميع الوجوه إلا لنسب من صدقه القرآن و اختاره الله على جميع الأنام و إلا فلا بد من شيء يكون في

نفس الرجل أو في طرفيه أو في بعض أسلافه أو في بعض أصهاره و لكنه يكون مغطى بالصلاح و محجوبا بالفضائل و مغمورا

بالمناقب. و لو تأملت أحوال الناس لوجدت أكثرهم عيوبا أشدهم تعييبا قال الزبرقان من بدر ما استب رجلان إلا غلب ألأمهما و قال

خصلتان كثيرتان في امرئ السوء

[11 : 71 ]

كثرة اللطام و شدة السباب و لو كان ما يقوله أصحاب المثالب حقا لما كان على ظهرها عربي كما قال عبد الملك بن صالح الهاشمي إن

كان ما يقول بعض في بعض حقا فما فيهم صحيح و إن كان ما يقول بعض المتكلمين في بعض حقا فما فيهم مسلم.

قوله ع ألا و إن الله قد جعل للخير أهلا و للحق دعائم و للطاعة عصما الدعائم ما يدعم بها البيت لئلا يسقط و العصم جمع عصمة و

هو ما يحفظ به الشيء و يمنع فأهل الخير هم المتقون و دعائم الحق الأدلة الموصلة إليه المثبتة له في القلوب و عصم الطاعة هي

الإدمان على فعلها و التمرن على الإتيان بها لأن المرون على الفعل يكسب الفاعل ملكة تقتضي سهولته عليه و العون هاهنا هو اللطف

المقرب من الطاعة المبعد من القبيح. ثم قال ع إنه يقول على الألسنة و يثبت الأفئدة و هذا من باب التوسع و المجاز لأنه لما كان

مستهلا للقول أطلق عليه إنه يقول على الألسنة و لما كان الله تعالى هو الذي يثبت الأفئدة كما قال يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ

الثّابِتِ نسب التثبيت إلى اللطف لأنه من فعل الله تعالى كما ينسب الإنبات إلى المطر و إنما المنبت للزرع هو الله تعالى و المطر

فعله. ثم قال ع فيه كفاء لمكتف و شفاء لمشتف و الوجه فيه كفاية فإن الهمز لا وجه له هاهنا لأنه من باب آخر و لكنه أتى بالهمزة

للازدواج بين كفاء

[11 : 72 ]

و شفاء كما قالوا الغدايا و العشايا و كما قال ع مأزورات غير مأجورات فأتى بالهمز و الوجه الواو للازدواج

ذكر بعض أحوال العارفين و الأولياء

ثم ذكر العارفين فقال و اعلموا أن عباد الله المستحفظين علمه إلى قوله و هذبه التمحيص. و اعلم أن الكلام في العرفان لم يأخذه

أهل الملة الإسلامية إلا عن هذا الرجل و لعمري لقد بلغ منه إلى أقصى الغايات و أبعد النهايات و العارفون هم القوم الذين

اصطفاهم الله تعالى و انتخبهم لنفسه و اختصهم بأنسه أحبوه فأحبهم و قربوا منه فقرب منهم قد تكلم أرباب هذا الشأن في المعرفة

و العرفان فكل نطق بما وقع له و أشار إلى ما وجده في وقته. و كان أبو علي الدقاق يقول من أمارات المعرفة حصول الهيبة من الله

فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته. و كان يقول المعرفة توجب السكينة في القلب كما أن العلم يوجب السكون فمن ازدادت معرفته

ازدادت سكينته. و سئل الشبلي عن علامات العارف فقال ليس لعارف علامة و لا لمحب سكون و لا لخائف قرار. و سئل مرة أخرى عن

المعرفة فقال أولها الله و آخرها ما لا نهاية له. و قال أبو حفص الحداد منذ عرفت الله ما دخل قلبي حق و لا باطل و قد أشكل هذا

الكلام على أرباب هذا الشأن و تأوله بعضهم فقال عند القوم إن المعرفة توجب

[11 : 73 ]

غيبة العبد عن نفسه لاستيلاء ذكر الحق عليه فلا يشهد غير الله و لا يرجع إلا إليه و كما إن العاقل يرجع إلى قلبه و تفكره و تذكره

فيما يسنح له من أمر أو يستقبله من حال فالعارف رجوعه إلى ربه لا إلى قلبه و كيف يدخل المعنى قلب من لا قلب له. و سئل أبو يزيد

البسطامي عن العرفان فقال إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً و هذا معنى ما أشار إليه أبو حفص

الحداد. و قال أبو يزيد أيضا للخلق أحوال و لا حال للعارف لأنه محيت رسومه و فنى هو و صارت هويته هوية غيره و غيبت آثاره في

آثار غيره. قلت و هذا هو القول بالاتحاد الذي يبحث فيه أهل النظر. و قال الواسطي لا تصح المعرفة و في العبد استغناء بالله أو

افتقار إليه و فسر بعضهم هذا الكلام فقال إن الافتقار و الاستغناء من أمارات صحو العبد و بقاء رسومه على ما كانت عليه و العارف لا

يصح ذلك عليه لأنه لاستهلاكه في وجوده أو لاستغراقه في شهوده إن لم يبلغ درجة الاستهلاك في الوجود مختطف عن إحساسه

بالغنى و الفقر و غيرهما من الصفات و لهذا قال الواسطي من عرف الله انقطع و خرس و انقمع

قال ص لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك

و قال الحسين بن منصور الحلاج علامة العارف أن يكون فارغا من الدنيا و الآخرة. و قال سهل بن عبد الله التستري غاية العرفان

شيئان الدهش و الحيرة. و قال ذو النون أعرف الناس بالله أشدهم تحيرا فيه. و قيل لأبي يزيد بما ذا وصلت إلى المعرفة قال ببدن

عار و بطن جائع.

[11 : 74 ]

و قيل لأبي يعقوب السوسي هل يتأسف العارف على شيء غير الله فقال و هل يرى شيئا غيره ليتأسف عليه. و قال أبو يزيد العارف

طيار و الزاهد سيار. و قال الجنيد لا يكون العارف عارفا حتى يكون كالأرض يطؤها البر و الفاجر و كالسحاب يظل كل شيء و كالمطر

يسقى ما ينبت و ما لا ينبت. و قال يحيى بن معاذ يخرج العارف من الدنيا و لا يقضى وطره من شيئين بكائه على نفسه و حبه لربه. و

كان ابن عطاء يقول أركان المعرفة ثلاثة الهيبة و الحياء و الأنس و قال بعضهم العارف أنس بالله فأوحشه من خلقه و افتقر إلى الله

فأغناه عن خلقه و ذل لله فأعزه في خلقه. و قال بعضهم العارف فوق ما يقول و العالم دون ما يقول. و قال أبو سليمان الداراني إن الله

يفتح للعارف على فراشه ما لا يفتح للعابد و هو قائم يصلي. و كان رويم يقول رياء العارفين أفضل من إخلاص العابدين. و سئل أبو

تراب النخشبي عن العارف فقال هو الذي لا يكدره شيء و يصفو به كل شيء. و قال بعضهم المعرفة أمواج ترفع و تحط. و سئل يحيى

بن معاذ عن العارف فقال الكائن البائن. و قيل ليس بعارف من وصف المعرفة عند أبناء الآخرة فكيف عند أبناء الدنيا. و قال محمد بن

الفضل المعرفة حياة القلب مع الله. و سئل أبو سعيد الخراز هل يصير العارف إلى حال يجفو عليه البكاء قال

[11 : 75 ]

نعم إنما البكاء في أوقات سيرهم إلى الله فإذا صاروا إلى حقائق القرب و ذاقوا طعم الوصول زال عنهم ذلك. و اعلم أن إطلاق أمير

المؤمنين ع عليهم لفظة الولاية في قوله يتواصلون بالولاية و يتلاقون بالمحبة يستدعي الخوض في مقامين جليلين من مقامات

العارفين المقام الأول الولاية و هو مقام جليل قال الله تعالى أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و

جاء في الخبر الصحيح عن النبي ص يقول الله تعالى من آذى لي وليا فقد استحل محارمي و ما تقرب إلي العبد بمثل أداء ما فرضت

عليه و لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه و لا ترددت في شيء أنا فاعله كترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت و

أكره مساءته و لا بد له منه

و اعلم أن الولي له معنيان أحدهما فعيل بمعنى مفعول كقتيل و جريح و هو من يتولى الله أمره كما قال الله تعالى إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي

نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصّالِحِينَ فلا يكله إلى نفسه لحظة عين بل يتولى رعايته. و ثانيهما فعيل بمعنى فاعل كنذير و عليم و هو

الذي يتولى طاعة الله و عبادته فلا يعصيه. و من شرط كون الولي وليا ألا يعصي مولاه و سيده كما أن من شرط كون النبي

[11 : 76 ]

نبيا العصمة فمن ظن فيه أنه من الأولياء و يصدر عنه ما للشرع فيه اعتراض فليس بولي عند أصحاب هذا العلم بل هو مغرور مخادع.

و يقال إن أبا يزيد البسطامي قصد بعض من يوصف بالولاية فلما وافى مسجده قعد ينتظر خروجه فخرج الرجل و تنخم في المسجد

فانصرف أبو يزيد و لم يسلم عليه و قال هذا رجل غير مأمون على أدب من آداب الشريعة كيف يكون أمينا على أسرار الحق. و قال

إبراهيم بن أدهم لرجل أ تحب أن تكون لله وليا قال نعم قال لا ترغب في شيء من الدنيا و لا من الآخرة و فرغ نفسك لله و أقبل

بوجهك عليه ليقبل عليك و يواليك. و قال يحيى بن معاذ في صفة الأولياء هم عباد تسربلوا بالأنس بعد المكابدة و ادرعوا بالروح

بعد المجاهدة بوصولهم إلى مقام الولاية. و كان أبو يزيد يقول أولياء الله عرائس الله و لا يرى العرائس إلا المحارم فهم مخدرون

عنده في حجاب الأنس لا يراهم أحد في الدنيا و لا في الآخرة. و قال أبو بكر الصيدلاني كنت أصلح لقبر أبي بكر الطمستاني لوحا أنقر

فيه اسمه فيسرق ذلك اللوح فأنقر له لوحا آخر و أنصبه على قبره فيسرق و تكرر ذلك كثيرا دون غيره من ألواح القبور فكنت أتعجب

منه فسألت أبا علي الدقاق عن ذلك فقال إن ذلك الشيخ آثر الخفاء في الدنيا و أنت تريد أن تشهره باللوح الذي تنصبه على قبره

فالله سبحانه يأبى إلا إخفاء قبره كما هو ستر نفسه. و قال بعضهم إنما سمي الولي وليا لأنه توالت أفعاله على الموافقة.

[11 : 77 ]

و قال يحيى بن معاذ الولي لا يرائي و لا ينافق و ما أقل صديق من يكون هذا خلقه. المقام الثاني المحبة قال الله سبحانه مَنْ يَرْتَدَّ

مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ و المحبة عند أرباب هذا الشأن حالة شريفة. قال أبو يزيد البسطامي

المحبة استقلال الكثير من نفسك و استكثار القليل من حبيبك. و قال أبو عبد الله القرشي المحبة أن تهب كلك لمن أحببت فلا يبقى

لك منك شيء و أكثرهم على نفي صفة العشق لأن العشق مجاوزة الحد في المحبة و البارئ سبحانه أجل من أن يوصف بأنه قد تجاوز

أحد الحد في محبته. سئل الشبلي عن المحبة فقال هي أن تغار على المحبوب أن يحبه أحد غيرك. و قال سمنون ذهب المحبون

بشرف الدنيا و الآخرة

لأن النبي ص قال المرء مع من أحب

فهم مع الله تعالى. و قال يحيى بن معاذ حقيقة المحبة ما لا ينقص بالجفاء و لا يزيد بالبر. و قال ليس بصادق من ادعى محبته و لم

يحفظ حدوده. و قال الجنيد إذا صحت المحبة سقطت شروط الأدب. و أنشد في معناه

إذا صفت المودة بين قوم و دام ودادهم سمج الثناء

و كان أبو علي الدقاق يقول أ لست ترى الأب الشفيق لا يبجل ولده في الخطاب و الناس يتكلفون في مخاطبته و الأب يقول له يا

فلان باسمه.

[11 : 78 ]

و قال أبو يعقوب السوسي حقيقة المحبة أن ينسى العبد حظه من الله و ينسى حوائجه إليه. قيل للنصرآباذي يقولون إنه ليس لك

من المحبة شيء قال صدقوا و لكن لي حسراتهم فهو ذو احتراق فيه. و قال النصرآباذي أيضا المحبة مجانبة السلو على كل حال ثم

أنشد

و من كان في طول الهوى ذاق سلوة فإني من ليلى لها غير ذائق

و أكثر شيء نلته في وصالها أماني لم تصدق كلمحة بارق

و كان يقال الحب أوله خبل و آخره قتل. و قال أبو علي الدقاق في معنى

قول النبي ص حبك الشيء يعمي و يصم

قال يعمي و يصم عن الغير إعراضا و عن المحبوب هيبة ثم أنشد

إذا ما بدا لي تعاظمته فأصدر في حال من لم يره

و قال الجنيد سمعت الحارث المحاسبي يقول المحبة إقبالك على المحبوب بكليتك ثم إيثارك له على نفسك و مالك و ولدك ثم

موافقتك له في جميع الأمور سرا و جهرا ثم اعتقادك بعد ذلك أنك مقصر في محبته. و قال الجنيد سمعت السري يقول لا تصلح

المحبة بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر يا أنا. و قال الشبلي المحب إذا سكت هلك و العارف إذا لم يسكت هلك. و قيل المحبة

نار في القلب تحرق ما سوى ود المحبوب. و قيل المحبة بذل الجهد و الحبيب يفعل ما يشاء. و قال الثوري المحبة هتك الأستار و

كشف الأسرار.

[11 : 79 ]

حبس الشبلي في المارستان بين المجانين فدخل عليه جماعة فقال من أنتم قالوا محبوك أيها الشيخ فأقبل يرميهم بالحجارة ففروا

فقال إذا ادعيتم محبتي فاصبروا على بلائي. كتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد البسطامي قد سكرت من كثرة ما شربت من كأس محبته

فكتب إليه أبو يزيد غيرك شرب بحور السموات و الأرض و ما روي بعد و لسانه خارج و يقول هل من مزيد. و من شعرهم في هذا

المعنى

عجبت لمن يقول ذكرت ربي و هل أنسى فأذكر ما نسيت

شربت الحب كأسا بعد كأس فما نفد الشراب و لا رويت

و يقال إن الله تعالى أوحى إلى بعض الأنبياء إذا اطلعت على قلب عبد فلم أجد فيه حب الدنيا و الآخرة ملأته من حبي

و قال أبو علي الدقاق إن في بعض الكتب المنزلة عبدي أنا و حقك لك محب فبحقي عليك كن لي محبا

و قال عبد الله بن المبارك من أعطي قسطا من المحبة و لم يعط مثله من الخشية فهو مخدوع. و قيل المحبة ما تمحو أثرك و تسلبك

عن وجودك. و قيل المحبة سكر لا يصحوا صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه ثم إن السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا يوصف و أنشد

فأكسر القوم دور كأس و كان سكرى من المدير

و كان أبو علي الدقاق ينشد كثيرا

[11 : 80 ]

لي سكرتان و للندمان واحدة شيء خصصت به من بينهم وحدي

و كان يحيى بن معاذ يقول مثقال خردلة من الحب أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب. و قال بعضهم من أراد أن يكون محبا فليكن

كما حكي عن بعض الهند أنه أحب جارية فرحلت عن ذلك البلد فخرج الفتى في وداعها فدمعت إحدى عينيه دون الأخرى فغمض التي لم

تدمع أربعا و ثمانين سنة و لم يفتحها عقوبة لأنها لم تبك على فراق حبيبته. و أنشدوا في هذا المعنى

بكت عيني غداة البين دمعا و أخرى بالبكاء بخلت علينا

فعاقبت التي بخلت علينا بأن غمضتها يوم التقيا

و قيل إن الله تعالى أوحى إلى داود ع إني حرمت على القلوب أن يدخلها حبي و حب غيري

و قيل المحبة إيثار المحبوب على النفس كامرأة العزيز لما أفرط بها الحب قالت أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ و في

الابتداء قالت ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلّا أَنْ يُسْجَنَ فوركت الذنب في الابتداء عليه و نادت في الانتهاء على نفسها بالخيانة و

قال أبو سعيد الخراز رأيت النبي ص في المنام فقلت يا رسول الله اعذرني فإن محبة الله شغلتني عن حبك فقال يا مبارك من أحب الله

فقد أحبني.

[11 : 81 ]

ثم نعود إلى تفسير ألفاظ الفصل قوله ع يصونون مصونه أي يكتمون من العلم الذي استحفظوه ما يجب أن يكتم و يفجرون عيونه

يظهرون منه ما ينبغي إظهاره و ذلك أنه ليس ينبغي إظهار كل ما استودع العارف من الأسرار و أهل هذا الفن يزعمون أن قوما منهم

عجزوا عن أن يحملوا بما حملوه فباحوا به فهلكوا منهم الحسين بن منصور الحلاج و لأبي الفتوح الجارودي المتأخر أتباع يعتقدون

فيه مثل ذلك. و الولاية بفتح الواو المحبة و النصرة و معنى يتواصلون بالولاية يتواصلون و هم أولياء و مثله و يتلاقون بالمحبة

كما تقول خرجت بسلاحي أي خرجت و أنا متسلح فيكون موضع الجار و المجرور نصبا بالحال أو يكون المعنى أدق و ألطف من هذا و

هو أن يتواصلوا بالولاية أي بالقلوب لا بالأجسام كما تقول أنا أراك بقلبي و أزورك بخاطري و أواصلك بضميري. قوله و يتساقون

بكأس روية أي بكأس المعرفة و الأنس بالله يأخذ بعضهم عن بعض العلوم و الأسرار فكأنهم شرب يتساقون بكأس من الخمر. قال و

يصدرون برية يقال من أين ريتكم مفتوحة الراء أي من أين ترتوون الماء. قال لا تشوبهم الريبة أي لا تخالطهم الظنة و التهمة و لا

تسرع فيهم الغيبة لأن أسرارهم مشغولة بالحق عن الخلق. قال على ذلك عقد خلقهم و أخلاقهم الضمير في عقد يرجع إلى الله تعالى

أي على هذه الصفات و الطبائع عقد الخالق تعالى خلقتهم و خلقهم أي هم متهيئون لما صاروا إليه

كما قال ع إذا أرادك لأمر هيأك له

[11 : 82 ]

و قال ع كل ميسر لما خلق له

قال فعليه يتحابون و به يتواصلون أي ليس حبهم بعضهم بعضا إلا في الله و ليست مواصلتهم بعضهم بعضا إلا لله لا للهوى و لا

لغرض من أغراض الدنيا أنشد منشد عند عمر قول طرفة

فلو لا ثلاث هن من عيشة الفتى و جدك لم أحفل متى قام عودي

فمنهن سبقي العاذلات بشربة كميت متى ما تعل بالماء تزبد

و كري إذا نادى المضاف محنبا كسيد الغضا نبهته المتورد

و تقصير يوم الدجن و الدجن معجب ببهكنة تحت الطراف المعمد

فقال عمر و أنا لو لا ثلاث هن من عيشة الفتى لم أحفل متى قام عودي حبي في الله و بغضي في الله و جهادي في سبيل الله. قوله ع

فكانوا كتفاضل البذر أي مثلهم مثل الحب الذي ينتفي للبذر يستصلح بعضه و يسقط بعضه. قد ميزه التخليص قد فرق الانتقاء بين

جيدة و رديئة و هذبه التمحيص

قال النبي ص إن المرض ليمحص الخطايا كما تمحص النار الذهب

أي كما تخلص النار الذهب مما يشوبه. ثم أمر ع المكلفين بقبول كرامة الله و نصحه و وعظه و تذكيره و بالحذر

[11 : 83 ]

من نزول القارعة بهم و هي هاهنا الموت و سميت الداهية قارعة لأنها تقرع أي تصيب بشدة. قوله فليصنع لمتحوله أي فليعد ما يجب

إعداده للموضع الذي يتحول إليه تقول اصنع لنفسك أي اعمل لها. قوله و معارف منتقله معارف الدار ما يعرفها المتوسم بها واحدها

معرف مثل معاهد الدار و معالم الدار و منه معارف المرأة و هو ما يظهر منها كالوجه و اليدين و المنتقل بالفتح موضع الانتقال. قوله

فطوبى هي فعلى من الطيب قلبوا الياء واوا للضمة قبلها و يقال طوبى لك و طوباك بالإضافة. و قول العامة طوبيك بالياء غير جائز.

قوله لذي قلب سليم هو من ألفاظ الكتاب العزيز أي سليم من الغل و الشك. قوله أطاع من يهديه أي قبل مشورة الناصح الآمر له

بالمعروف و الناهي له عن المنكر. و تجنب من يرديه أي يهلكه بإغوائه و تحسين القبيح له. و الباء في قوله ببصر من بصره متعلقة

بأصاب. قوله قبل أن تغلق أبوابه أي قبل أن يحضره الموت فلا تقبل توبته. و الحوبة الإثم و إماطته إزالته و يجوز أمطت الأذى عنه

و مطت الأذى عنه أي نحيته و منع الأصمعي منه إلا بالهمزة

[11 : 84 ]

208- و من دعاء كان يدعو به ع كثيرا

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُصْبِحْ بِي مَيِّتاً وَ لَا سَقِيماً وَ لَا مَضْرُوباً عَلَى عُرُوقِي بِسُوء وَ لَا مَأْخُوذاً بِأَسْوَإِ عَمَلِي وَ لَا مَقْطُوعاً دَابِرِي وَ لَا مُرْتَدّاً عَنْ

دِينِي وَ لَا مُنْكِراً لِرَبِّي وَ لَا مُسْتَوْحِشاً مِنْ إِيمَانِي وَ لَا مُلْتَبِساً عَقْلِي وَ لَا مُعَذَّباً بِعَذَابِ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِي أَصْبَحْتُ عَبْداً مَمْلُوكاً ظَالِماً لِنَفْسِي

لَكَ الْحُجَّةُ عَلَيَّ وَ لَا حُجَّةَ لِي وَ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ إِلَّا مَا أَعْطَيْتَنِي وَ لَا أَتَّقِيَ إِلَّا مَا وَقَيْتَنِي اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَفْتَقِرَ فِي غِنَاكَ أَوْ أَضِلَّ

فِي هُدَاكَ أَوْ أُضَامَ فِي سُلْطَانِكَ أَوْ أُضْطَهَدَ وَ الْأَمْرُ لَكَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ نَفْسِي أَوَّلَ كَرِيمَة تَنْتَزِعُهَا مِنْ كَرَائِمِي وَ أَوَّلَ وَدِيعَة تَرْتَجِعُهَا مِنْ

وَدَائِعِ نِعَمِكَ عِنْدِي اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَذْهَبَ عَنْ قَوْلِكَ أَوْ أَنْ نُفْتَتَنَ عَنْ دِينِكَ أَوْ تَتَتَابَعَ بِنَا أَهْوَاؤُنَا دُونَ الْهُدَى الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِكَ

[11 : 85 ]

قوله كثيرا منصوب بأنه صفة مصدر محذوف أي دعاء كثيرا و ميتا منصوب على الحال أي لم يفلق الصباح على ميتا و لا يجوز أن تكون

يصبح ناقصة و يكون ميتا خبرها كما قال الراوندي لأن خبر كان و أخواتها يجب أن يكون هو الاسم أ لا ترى أنهما مبتدأ و خبر في

الأصل و اسم يصبح ضمير الله تعالى و ميتا ليس هو الله سبحانه. قوله و لا مضروبا على عروقي بسوء أي و لا أبرص و العرب تكني

عن البرص بالسوء و من أمثالهم ما أنكرك من سوء أي ليس إنكاري لك عن برص حدث بك فغير صورتك. و أراد بعروقه أعضاءه و يجوز

أن يريد و لا مطعونا في نسبي و التفسير الأول أظهر. و لا مأخوذا بأسوإ عملي أي و لا معاقبا بأفحش ذنوبي. و لا مقطوعا دابري أي

عقبي و نسلي و الدابر في الأصل التابع لأنه يأتي دبرا و يقال للهالك قد قطع الله دابره كأنه يراد أنه عفا أثره و محا اسمه قال

سبحانه أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ. و لا مستوحشا أي و لا شاكا في الإيمان لأن من شك في عقيدة استوحش منها. و لا متلبسا

عقلي أي و لا مختلطا عقلي لبست عليهم الأمر بالفتح أي خلطته و عذاب الأمم من قبل المسخ و الزلزلة و الظلمة و نحو ذلك.

[11 : 86 ]

قوله لك الحجة علي و لا حجة لي لأن الله سبحانه قد كلفه بعد تمكينه و إقداره و إعلامه قبح القبيح و وجوب الواجب و ترديد

دواعيه إلى الفعل و تركه و هذه حجة الله تعالى على عباده و لا حجة للعباد عليه لأنه ما كلفهم إلا بما يطيقونه و لا كان لهم لطف في

أمر إلا و فعله. قوله لا أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني و لا أتقي إلا ما وقيتني أي لا أستطيع أن أرزق نفسي أمرا و لكنك الرزاق و لا

أدفع عن نفسي محذورا من المرض و الموت إلا ما دفعته أنت عني. و قال الشاعر

لعمرك ما يدرى الفتى كيف يتقي نوائب هذا الدهر أم كيف يحذر

يرى الشيء مما يتقى فيخافه و ما لا يرى مما يقي الله أكثر

و قال عبد الله بن سليمان بن وهب

كفاية الله أجدى من توقينا و عادة الله في الأعداء تكفينا

كاد الأعادي فما أبقوا و لا تركوا عيبا و طعنا و تقبيحا و تهجينا

و لم نزد نحن في سر و في علن على مقالتنا الله يكفينا

و كان ذاك و رد الله حاسدنا بغيظه لم ينل مأموله فينا

قوله ع أن أفتقر في غناك موضع الجار و المجرور نصب على الحال و في متعلقة بمحذوف و المعنى أن أفتقر و أنت الموصوف بالغنى

الفائض على الخلق. و كذلك قوله أو أضل في هداك معناه أو أضل و أنت ذو الهداية العامة للبشر كافة و كذلك أو أضام في سلطانك

كما يقول المستغيث إلى السلطان كيف أظلم في عدلك.

[11 : 87 ]

و كذلك قوله أو أضطهد و الأمر لك أي و أنت الحاكم صاحب الأمر و الطاء في أضطهد هي تاء الافتعال و أصل الفعل ضهدت فلانا فهو

مضهود أي قهرته و فلان ضهده لكل أحد أي كل من شاء أن يقهره فعل. قوله اللهم اجعل نفسي هذه الدعوة مثل دعوة رسول الله ص و

هي

قوله اللهم متعنا بأسماعنا و أبصارنا و اجعله الوارث منا

أي لا تجعل موتنا متأخرا عن ذهاب حواسنا و

كان علي بن الحسين يقول في دعائه اللهم احفظ علي سمعي و بصري إلى انتهاء أجلي

و فسروا قوله ع و اجعله الوارث منا فقالوا الضمير في و اجعله يرجع إلى الإمتاع. فإن قلت كيف يتقى الإمتاع بالسمع و البصر بعد

خروج الروح. قلت هذا توسع في الكلام و المراد لا تبلنا بالعمى و لا الصمم فنكون أحياء في الصورة و لسنا بأحياء في المعنى لأن

من فقدهما لا خير له في الحياة فحملته المبالغة على أن طلب بقاءهما بعد ذهاب النفس إيذانا و إشعارا بحبه ألا يبلى بفقدهما. و

نفتتن على ما لم يسم فاعله نصاب بفتنة تضلنا عن الدين و روي نفتتن بفتح حرف المضارعة على نفتعل افتتن الرجل أي فتن و لا يجوز

أن يكون الافتتان متعديا كما ذكره الراوندي و لكنه قرأ في الصحاح للجوهري و الفتون الافتتان يتعدى و لا يتعدى فظن أن ذلك

للافتتان و ليس كما ظن و إنما ذلك راجع إلى الفتون. و التتابع التهافت في اللجاج و الشر و لا يكون إلا في مثل ذلك و روي أو تتابع

بطرح إحدى التاءات

[11 : 88 ]

209- و من خطبة له ع خطبها بصفين

أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلَايَةِ أَمْرِكُمْ وَ لَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الْحَقِّ مِثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ وَ الْحَقُّ أَوْسَعُ الْأَشْيَاءِ فِي

التَّوَاصُفِ وَ أَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ لَا يَجْرِي لِأَحَد إِلَّا جَرَى عَلَيْهِ وَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ إِلَّا جَرَى لَهُ وَ لَوْ كَانَ لِأَحَد أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَ لَا يَجْرِيَ عَلَيْهِ

لَكَانَ ذَلِكَ خَالِصاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَ لِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى

الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ وَ جَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَ تَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ الْمَزِيدِ أَهْلُهُ

الذي له عليهم من الحق هو وجوب طاعته و الذي لهم عليه من الحق هو وجوب معدلته فيهم و الحق أوسع الأشياء في التواصف و

أضيقها في التناصف معناه أن كل أحد يصف الحق و العدل و يذكر حسنه و وجوبه و يقول لو وليت لعدلت فهو بالوصف باللسان

وسيع و بالفعل ضيق لأن ذلك العالم العظيم الذين كانوا يتواصفون حسنه و يعدون أن لو ولوا باعتماده و فعله لا تجد في الألف

منهم واحدا لو ولي لعدل و لكنه قول بغير عمل.

[11 : 89 ]

ثم عاد إلى تقرير الكلام الأول و هو وجوب الحق له و عليه فقال إنه لا يجري لأحد إلا و جرى عليه و كذلك لا يجري عليه إلا و جرى

له أي ليس و لا واحد من الموجودين بمرتفع عن أن يجري الحق عليه و لو كان أحد من الموجودين كذلك لكان أحقهم بذلك البارئ

سبحانه لأنه غاية الشرف بل هو فوق الشرف و فوق الكمال و التمام و هو مالك الكل و سيد الكل فلو كان لجواز هذه القضية وجه و

لصحتها مساغ لكان البارئ تعالى أولى بها و هي ألا يستحق عليه شيء و تقدير الكلام لكنه يستحق عليه أمور فهو في هذا الباب

كالواحد منا يستحق و يستحق عليه و لكنه ع حذف هذا الكلام المقدر أدبا و إجلالا لله تعالى أن يقول إنه يستحق عليه شيء. فإن

قلت فما بال المتكلمين لا يتأدبون بأدبه ع و كيف يطلقون عليه تعالى الوجوب و الاستحقاق. قلت ليست وظيفة المتكلمين وظيفة

أمير المؤمنين ع في عباراتهم هؤلاء أرباب صناعة و علم يحتاج إلى ألفاظ و اصطلاح لا بد لهم من استعماله للإفهام و الجدل بينهم و

أمير المؤمنين إمام يخطب على منبره يخاطب عربا و رعية ليسوا من أهل النظر و لا مخاطبته لهم لتعليم هذا العلم بل لاستنفارهم

إلى حرب عدوه فوجب عليه بمقتضى الأدب أن يتوقى كل لفظة توهم ما يستهجنه السامع في الأمور الإلهية و في غيرها. فإن قلت فما

هذه الأمور التي زعمت أنها تستحق على البارئ سبحانه و أن أمير المؤمنين ع حذفها من اللفظ و اللفظ يقتضيها. قلت الثواب و

العوض و قبول التوبة و اللطف و الوفاء بالوعد و الوعيد و غير ذلك مما يذكره أهل العدل.

[11 : 90 ]

فإن قلت فما معنى قوله لكان ذلك خالصا لله سبحانه دون خلقه لقدرته على عباده و لعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه و هب أن

تعليل عدم استحقاق شيء على الله تعالى بقدرته على عباده صحيح كيف يصح تعليل ذلك بعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه أ لا

ترى أنه ليس بمستقيم أن تقول لا يستحق على البارئ شيء لأنه عادل و إنما المستقيم أن تقول لا يستحق عليه شيء لأنه مالك و

لذلك عللت الأشعرية هذا الحكم بأنه مالك الكل و الاستحقاق إنما يكون على من دونه. قلت التعليل صحيح و هو أيضا مما عللت به

الأشعرية مذهبها و ذلك لأنه إنما يتصور الاستحقاق على الفاعل المختار إذا كان ممن يتوقع منه أو يصح منه أن يظلم فيمكن حينئذ

أن يقال قد وجب عليه كذا و استحق عليه كذا فأما من لا يمكن أن يظلم و لا يتصور وقوع الظلم منه و لا الكذب و لا خلف الوعد و

الوعيد فلا معنى لإطلاق الوجوب و الاستحقاق عليه كما لا يقال كذا الداعي الخالص يستحق عليه أن يفعل ما دعاه إليه الداعي و

يجب عليه أن يفعل ما دعاه إليه الداعي مثل الهارب من الأسد و الشديد العطش إذا وجد الماء و نحو ذلك. فإن قلت أ ليس يشعر

قوله ع و جعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلا منه بمذهب البغداديين من أصحابكم و هو قولهم إن الثواب تفضل من الله

سبحانه و ليس بواجب. قلت لا و ذلك لأنه جعل المتفضل به هو مضاعفة الثواب لا أصل الثواب و ليس ذلك بمستنكر عندنا. فإن قلت

أ يجوز عندكم أن يستحق المكلف عشرة أجزاء من الثواب فيعطى عشرين جزءا منه أ ليس من مذهبكم أن التعظيم و التبجيل لا

يجوز من البارئ سبحانه أن يفعلهما

[11 : 91 ]

في الجنة إلا على قدر الاستحقاق و الثواب عندكم هو النفع المقارن للتعظيم و التبجيل فيكف قلت إن مضاعفة الثواب عندنا جائزة.

قلت مراده ع بمضاعفة الثواب هنا زيادة غير مستحقة من النعيم و اللذة الجسمانية خاصة في الجنة فسمى تلك اللذة الجسمانية

ثوابا لأنها جزء من الثواب فأما اللذة العقلية فلا يجوز مضاعفتها. قوله ع بما هو من المزيد أهله أي بما هو أهله من المزيد فقدم الجار

و المجرور و موضعه نصب على الحال و فيه دلالة على أن حال المجرور تتقدم عليه كما قال الشاعر

لئن كان برد الماء حران صاديا إلي حبيبا إنها لحبيب

ثُمَّ جَعَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْض فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأُ فِي وُجُوهِهَا وَ يُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً وَ لَا يُسْتَوْجَبُ

بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْض. وَ أَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ حَقُّ الْوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ وَ حَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَى الْوَالِي فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللَّهُ

سُبْحَانَهُ لِكُلّ عَلَى كُلّ فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ وَ عِزّاً لِدِينِهِمْ فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاةِ وَ لَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ

فَإِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ وَ أَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ وَ قَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ وَ اعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ وَ جَرَتْ عَلَى

أَذْلَالِهَا السُّنَنُ فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ وَ طُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ وَ يَئِسَتْ مَطَامِعُ الْأَعْدَاءِ.

[11 : 92 ]

وَ إِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ وَ ظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ وَ كَثُرَ الْإِدْغَالُ فِي الدِّينِ وَ تَرَكَتْ مَحَاجُّ

السُّنَنِ فَعُمِلَ بِالْهَوَى وَ عُطِّلَتِ الْأَحْكَامُ وَ كَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ فَلَا يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقّ عُطِّلَ وَ لَا لِعَظِيمِ بَاطِل فُعِلَ فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الْأَبْرَارُ

وَ تَعِزُّ الْأَشْرَارُ وَ تَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْعِبَادِ. فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ وَ حُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ أَحَدٌ وَ إِنِ اشْتَدَّ عَلَى رِضَا

اللَّهِ حِرْصُهُ وَ طَالَ فِي الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ بِبَالِغ حَقِيقَةَ مَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ وَ لَكِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ

النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ وَ التَّعَاوُنُ عَلَى إِقَامَةِ الْحَقِّ بَيْنَهُمْ وَ لَيْسَ امْرُؤٌ وَ إِنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ وَ تَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ بِفَوْقِ أَنْ

يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ مِنْ حَقِّهِ وَ لَا امْرُؤٌ وَ إِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ وَ اقْتَحَمَتْهُ الْعُيُونُ بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ

تتكافأ في وجوهها تتساوى و هي حق الوالي على الرعية و حق الرعية على الوالي. و فريضة قد روي بالنصب و بالرفع فمن رفع فخبر

مبتدإ محذوف و من نصب فبإضمار فعل أو على الحال. و جرت على أذلالها السنن بفتح الهمزة أي على مجاريها و طرقها. و أجحف

الوالي برعيته ظلمهم. و الإدغال في الدين الفساد.

[11 : 93 ]

و محاج السنن جمع محجة و هي جادة الطريق. قوله و كثرت علل النفوس أي تعللها بالباطل و من كلام الحجاج إياكم و علل النفوس

فإنها أدوى لكم من علل الأجساد. و اقتحمته العيون احتقرته و ازدرته قال ابن دريد

و منه ما تقتحم العين فإن ذقت جناه ساغ عذبا في اللها

و مثل قوله ع و ليس امرؤ و إن عظمت في الحق منزلته قول زيد بن علي ع لهشام بن عبد الملك إنه ليس أحد و إن عظمت منزلته

بفوق أن يذكر بالله و يحذر من سطوته و ليس أحد و إن صغر بدون أن يذكر بالله و يخوف من نقمته. و مثل قوله ع و إذا غلبت الرعية

واليها قول الحكماء إذا علا صوت بعض الرعية على الملك فالملك مخلوع فإن قال نعم فقال أحد من الرعية لا فالملك مقتول

فصل فيما ورد من الآثار فيما يصلح الملك

و قد جاء في وجوب الطاعة لأولي الأمر الكثير الواسع قال الله سبحانه أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ و

روى عبد الله بن عمر عن رسول الله ص السمع و الطاعة على المرء

[11 : 94 ]

المسلم فيما أحب و كره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بها فلا سمع و لا طاعة

و عنه ص إن أمر عليكم عبد أسود مجدع فاسمعوا له و أطيعوا

و من كلام علي ع إن الله جعل الطاعة غنيمة الأكياس عند تفريط الفجرة

بعث سعد بن أبي وقاص جرير بن عبد الله البجلي من العراق إلى عمر بن الخطاب بالمدينة فقال له عمر كيف تركت الناس قال تركتهم

كقداح الجعبة منها الأعصل الطائش و منها القائم الرائش قال فكيف سعد لهم قال هو ثقافها الذي يقيم أودها و يغمز عصلها قال

فكيف طاعتهم قال يصلون الصلاة لأوقاتها و يؤدون الطاعة إلى ولاتها قال الله أكبر إذا أقيمت الصلاة أديت الزكاة و إذا كانت

الطاعة كانت الجماعة. و من كلام أبرويز الملك أطع من فوقك يطعك من دونك. و من كلام الحكماء قلوب الرعية خزائن واليها فما

أودعه فيها وجده. و كان يقال صنفان متباغضان متنافيان السلطان و الرعية و هما مع ذلك متلازمان إن أصلح أحدهما صلح الآخر و إن

فسد فسد الآخر. و كان يقال محل الملك من رعيته محل الروح من الجسد و محل الرعية منه محل الجسد من الروح فالروح تألم

بألم كل عضو من أعضاء البدن و ليس كل واحد من الأعضاء يألم بألم غيره و فساد الروح فساد جميع البدن و قد يفسد بعض البدن و

غيره من سائر البدن صحيح.

[11 : 95 ]

و كان يقال ظلم الرعية استجلاب البلية. و كان يقال العجب ممن استفسد رعيته و هو يعلم أن عزه بطاعتهم. و كان يقال موت الملك

الجائر خصب شامل. و كان يقال لا قحط أشد من جور السلطان. و كان يقال قد تعامل الرعية المشمئزة بالرفق فتزول أحقادها و يذل

قيادها و قد تعامل بالخرق فتكاشف بما غيبت و تقدم على ما عيبت حتى يعود نفاقها شقاقا و رذاذها سيلا بعاقا ثم إن غلبت و قهرت فهو

الدمار و إن غلبت و قهرت لم يكن يغلبها افتخار و لم يدرك بقهرها ثأر و كان يقال الرعية و إن كانت ثمارا مجتناه و ذخائر مقتناه و

سيوفا منتضاه و أحراسا مرتضاه فإن لها نفارا كنفار الوحوش و طغيانا كطغيان السيول و متى قدرت أن تقول قدرت على أن تصول. و

كان يقال أيدي الرعية تبع ألسنتها فلن يملك الملك ألسنتها حتى يملك جسومها و لن يملك جسومها حتى يملك قلوبها فتحبه و لن

تحبه حتى يعدل عليها في أحكامه عدلا يتساوى فيه الخاصة و العامة و حتى يخفف عنها المؤن و الكلف و حتى يعفيها من رفع

أوضاعها و أراذلها عليها و هذه الثالثة تحقد على الملك العلية من الرعية و تطمع السفلة في الرتب السنية. و كان يقال الرعية ثلاثة

أصناف صنف فضلاء مرتاضون بحكم الرئاسة و السياسة يعلمون فضيلة الملك و عظيم غنائه و يرثون له من ثقل أعبائه فهؤلاء

يحصل الملك موداتهم بالبشر عند اللقاء و يلقى أحاديثهم بحسن الإصغاء و صنف فيهم خير و شر ظاهران فصلاحهم يكتسب من

معاملتهم بالترغيب و الترهيب و صنف من السفلة الرعاع أتباع

[11 : 96 ]

لكل داع لا يمتحنون في أقوالهم و أعمالهم بنقد و لا يرجعون في الموالاة إلى عقد. و كان يقال ترك المعاقبة للسفلة على صغار

الجرائم تدعوهم إلى ارتكاب الكبائر العظائم أ لا ترى أول نشور المرأة كلمة سومحت بها و أول حران الدابة حيدة سوعدت عليها. و

يقال إن عثمان قال يوما لجلسائه و هو محصور في الفتنة وددت أن رجلا صدوقا أخبرني عن نفسي و عن هؤلاء فقام إليه فتى فقال إني

أخبرك تطأطأت لهم فركبوك و ما جراهم على ظلمك إلا إفراط حلمك قال صدقت فهل تعلم ما يشب نيران الفتن قال نعم سألت عن

ذلك شيخا من تنوخ كان باقعة قد نقب في الأرض و علم علما جما فقال الفتنة يثيرها أمران أثرة تضغن على الملك الخاصة و حلم يجزئ

عليه العامة قال فهل سألته عما يخمدها قال نعم زعم أن الذي يخمدها في ابتدائها استقالة العثرة و تعميم الخاصة بالأثرة فإذا

استحكمت الفتنة أخمدها الصبر قال عثمان صدقت و إني لصابر حتى يحكم الله بيننا و هو خير الحاكمين و يقال إن يزدجرد بن بهرام

سأل حكيما ما صلاح الملك قال الرفق بالرعية و أخذ الحق منها بغير عنف و التودد إليها بالعدل و أمن السبل و إنصاف المظلوم قال

فما صلاح الملك قال وزراؤه إذا صلحوا صلح قال فما الذي يثير الفتن قال ضغائن يظهرها جرأة عامه و استخفاف خاصة و انبساط

الألسن بضمائر القلوب و إشفاق موسر و أمن معسر و غفلة مرزوق و يقظة محروم قال و ما يسكنها قال أخذ العدة لما يخاف و إيثار

الجد حين يلتذ الهزل و العمل بالحزم و ادراع الصبر و الرضا بالقضاء. و كان يقال خير الملوك من أشرب قلوب رعيته محبته كما

أشعرها هيبته و لن ينال ذلك منها حتى تظفر منه بخمسه أشياء إكرام شريفها و رحمة ضعيفها و إغاثة لهيفها

[11 : 97 ]

و كف عدوان عدوها و تأمين سبل رواحها و غدوها فمتى أعدمها شيئا من ذلك فقد أحقدها بقدر ما أفقدها. و كان يقال الأسباب التي تجر

الهلك إلى الملك ثلاثة أحدها من جهة الملك و هو أن تتأمر شهواته على عقله فتستهويه نشوات الشهوات فلا تسنح له لذة إلا

اقتنصها و لا راحة إلا افترصها. و الثاني من جهة الوزراء و هو تحاسدهم المقتضي تعارض الآراء فلا يسبق أحدهم إلى حق إلا كويد و

عورض و عوند. و الثالث من جهة الجند المؤهلين لحراسة الملك و الدين و توهين المعاندين و هو نكولهم عن الجلاد و تضجيعهم

في المناصحة و الجهاد و هم صنفان صنف وسع الملك عليهم فأبطرهم الإتراف و ضنوا بنفوسهم عن التعريض للإتلاف و صنف قدر

عليهم الأرزاق فاضطغنوا الأحقاد و استشعروا النفاق

الآثار الواردة في العدل و الإنصاف

قوله ع أو أجحف الوالي برعيته قد جاء من نظائره الكثير جدا و قد ذكرنا فيما تقدم نكتا حسنة في مدح العدل و الإنصاف و ذم الظلم

و الإجحاف و

قال النبي ص زين الله السماء بثلاثة الشمس و القمر و الكواكب و زين الأرض بثلاثة العلماء و المطر و السلطان العادل

و كان يقال إذا لم يعمر الملك ملكه بإنصاف الرعية خرب ملكه بعصيان الرعية. و قيل لأنوشروان أي الجنن أوقى قال الدين قيل فأي

العدد أقوى قال العدل.

[11 : 98 ]

وقع جعفر بن يحيى إلى عامل من عماله كثر شاكوك و قل حامدوك فإما عدلت و إما اعتزلت. وجد في خزانة بعض الأكاسرة سفط ففتح

فوجد فيه حب الرمان كل حبة كالنواة الكبيرة من نوى المشمش و في السفط رقعة فيها هذا حب رمان عملنا في خراجه بالعدل. جاء

رجل من مصر إلى عمر بن الخطاب متظلما فقال يا أمير المؤمنين هذا مكان العائذ بك قال له عذت بمعاذ ما شأنك قال سابقت ولد

عمرو بن العاص بمصر فسبقته فجعل يعنفني بسوطه و يقول أنا ابن الأكرمين و بلغ أباه ذلك فحبسني خشية أن أقدم عليك فكتب

إلى عمرو إذا أتاك كتابي هذا فاشهد الموسم أنت و ابنك فلما قدم عمرو و ابنه دفع الدرة إلى المصري و قال اضربه كما ضربك فجعل

يضربه و عمر يقول اضرب ابن الأمير اضرب ابن الأمير يرددها حتى قال يا أمير المؤمنين قد استقدت منه فقال و أشار إلى عمرو ضعها

على صلعته فقال المصري يا أمير المؤمنين إنما أضرب من ضربني فقال إنما ضربك بقوة أبيه و سلطانه فاضربه إن شئت فو الله لو

فعلت لما منعك أحد منه حتى تكون أنت الذي تتبرع بالكف عنه ثم قال يا ابن العاص متى تعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرار.

خطب الإسكندر جنده فقال لهم بالرومية كلاما تفسيره يا عباد الله إنما إلهكم الله الذي في السماء الذي نصرنا بعد حين الذي

يسقيكم الغيث عند الحاجة و إليه مفزعكم عند الكرب و الله لا يبلغني إن الله أحب شيئا إلا أحببته و عملت به إلى يوم أجلي و لا

يبلغني أنه أبغض شيئا إلا أبغضته و هجرته إلى يوم أجلي و قد أنبئت أن الله يحب العدل في عباده و يبغض الجور فويل للظالم من

سوطي و سيفي و من ظهر منه

[11 : 99 ]

العدل من عمالي فليتكئ في مجلسي كيف شاء و ليتمن على ما شاء فلن تخطئه أمنيته و الله المجازي كلا بعمله. قال رجل لسليمان بن

عبد الملك و هو جالس للمظالم يا أمير المؤمنين أ لم تسمع قول الله تعالى فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ قال ما

خطبك قال وكيلك اغتصبني ضيعتي و ضمها إلى ضيعتك الفلانية قال فإن ضيعتي لك و ضيعتك مردودة إليك ثم كتب إلى الوكيل بذلك

و بصرفه عن عمله. و رقى إلى كسرى قباذ أن في بطانة الملك قوما قد فسدت نياتهم و خبثت ضمائرهم لأن أحكام الملك جرت على

بعضهم لبعضهم فوقع في الجواب أنا أملك الأجساد لا النيات و أحكم بالعدل لا بالهوى و أفحص عن الأعمال لا عن السرائر. و تظلم

أهل الكوفة إلى المأمون من واليهم فقال ما علمت في عمالي أعدل و لا أقوم بأمر الرعية و لا أعود بالرفق منه فقال له منهم واحد فلا

أحد أولى منك يا أمير المؤمنين بالعدل و الإنصاف و إذا كان بهذه الصفة فمن عدل أمير المؤمنين أن يوليه بلدا بلدا حتى يلحق أهل

كل بلد من عدله مثل ما لحقنا منه و يأخذوا بقسطهم منه كما أخذ منه سواهم و إذا فعل أمير المؤمنين ذلك لم يصب الكوفة منه أكثر

من ثلاث سنين فضحك و عزله. كتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز أما بعد فإن قبلنا قوما لا يؤدون الخراج إلا أن يمسهم نصب

من العذاب فاكتب إلى أمير المؤمنين برأيك فكتب أما بعد فالعجب لك كل العجب تكتب إلي تستأذنني في عذاب البشر كأن إذني لك

جنة من عذاب الله أو كان رضاي ينجيك من سخط الله فمن أعطاك ما عليه عفوا

[11 : 100 ]

فخذ منه و من أبى فاستحلفه و كله إلى الله فلأن يلقوا الله بجرائمهم أحب إلي من أن ألقاه بعذابهم. فضيل بن عياض ما ينبغي أن

تتكلم بفيك كله أ تدري من كان يتكلم بفيه كله عمر بن الخطاب كان يعدل في رعيته و يجور على نفسه و يطعمهم الطيب و يأكل

الغليظ و يكسوهم اللين و يلبس الخشن و يعطيهم الحق و يزيدهم و يمنع ولده و أهله أعطى رجلا عطاءه أربعة آلاف درهم ثم زاده

ألفا فقيل له أ لا تزيد ابنك عبد الله كما تزيد هذا فقال إن هذا ثبت أبوه يوم أحد و إن عبد الله فر أبوه و لم يثبت. و كان يقال لا

يكون العمران إلا حيث يعدل السلطان. و كان يقال العدل حصن وثيق في رأس نيق لا يحطمه سيل و لا يهدمه منجنيق. وقع المأمون

إلى عامل كثر التظلم منه أنصف من وليت أمرهم و إلا أنصفهم منك من ولي أمرك. بعض السلف العدل ميزان الله و الجور مكيال

الشيطان

[11 : 101 ]

210فَأَجَابَهُ ع رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِكَلَام طَوِيل يَكْثُرُ فِيهِ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ وَ يَذْكُرُ سَمْعَهُ وَ طَاعَتَهُ لَهُ فَقَالَ ع إِنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ عَظُمَ جَلَالُ اللَّهِ

سُبْحَانَهُ فِي نَفْسِهِ وَ جَلَّ مَوْضِعُهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنْ يَصْغُرَ عِنْدَهُ لِعِظَمِ ذَلِكَ كُلُّ مَا سِوَاهُ وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ

لَطُفَ إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمْ تَعْظُمْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَحَد إِلَّا ازْدَادَ حَقُّ اللَّهِ عَلَيْهِ عِظَماً وَ إِنَّ مِنْ أَسْخَفِ حَالَاتِ الْوُلَاةِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ أَنْ

يُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ الْفَخْرِ وَ يُوضَعَ أَمْرُهُمْ عَلَى الْكِبْرِ وَ قَدْ كَرِهْتُ أَنْ يَكُونَ جَالَ فِي ظَنِّكُمْ أَنِّي أُحِبُّ الْإِطْرَاءَ وَ اسْتِمَاعَ الثَّنَاءِ وَ لَسْتُ بِحَمْدِ

اللَّهِ كَذَلِكَ وَ لَوْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ لَتَرَكْتُهُ انْحِطَاطاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ وَ الْكِبْرِيَاءِ وَ رُبَّمَا اسْتَحْلَى

النَّاسُ الثَّنَاءَ بَعْدَ الْبَلَاءِ فَلَا تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاء لِإِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ إِلَيْكُمْ مِنَ الْبَقِيَّةِ فِي حُقُوق لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا وَ

فَرَائِضَ لَا بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا فَلَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ وَ لَا تَتَحَفَّظُوا بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ وَ لَا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ وَ لَا

تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالًا فِي حَقّ قِيلَ لِي وَ لَا الْتِمَاسَ إِعْظَام لِنَفْسِي فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ

بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ

[11 : 102 ]

فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَة بِحَقّ أَوْ مَشُورَة بِعَدْل فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ وَ لَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ

أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي فَإِنَّمَا أَنَا وَ أَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبّ لَا رَبَّ غَيْرُهُ يَمْلِكُ مِنَّا مَا لَا نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا وَ أَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ

فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى وَ أَعْطَانَا الْبَصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَى

هذا الفصل و إن لم يكن فيه ألفاظ غريبة سبيلها أن تشرح ففيه معان مختلفة سبيلها أن تذكر و توضح و تذكر نظائرها و ما يناسبها.

فمنها قوله ع إن من حق من عظمت نعمة الله عليه أن تعظم عليه حقوق الله تعالى و أن يعظم جلال الله تعالى في نفسه و من حق من

كان كذلك أن يصغر عنده كل ما سوى الله. و هذا مقام جليل من مقامات العارفين و هو استحقار كل ما سوى الله تعالى و ذلك أن من

عرف الله تعالى فقد عرف ما هو أعظم من كل عظيم بل لا نسبة لشيء من الأشياء أصلا إليه سبحانه فلا يظهر عند العارف عظمة غيره

البتة كما أن من شاهد الشمس المنيرة يستحقر ضوء القمر و السراج الموضوع في ضوء الشمس حال مشاهدته جرم الشمس بل لا

تظهر له في تلك الحال صنوبرة السراج و لا تنطبع صورتها في بصره. و منها قوله ع من أسخف حالات الولاة أن يظن بهم حب الفخر

و يوضع

[11 : 103 ]

أمرهم على الكبر

قال النبي ص لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر

و قال ص لو لا ثلاث مهلكات لصلح الناس شح مطاع و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسه

و كان يقال ليس لمعجب رأي و لا لمتكبر صديق. و كان أبو مسلم صاحب الدولة يقول ما تاه إلا وضيع و لا فاخر إلا لقيط و لا تعصب

إلا دخيل. و قال عمر لبعض ولده التمس الرفعة بالتواضع و الشرف بالدين و العفو من الله بالعفو عن الناس و إياك و الخيلاء فتضع

من نفسك و لا تحقرن أحدا لأنك لا تدري لعل من تزدريه عيناك أقرب إلى الله وسيلة منك. و منها قوله ع قد كرهت أن تظنوا بي حب

الإطراء و استماع الثناء قد

روي عن النبي ص أنه قال احثوا في وجوه المداحين التراب

و قال عمر المدح هو الذبح. و كان يقال إذا سمعت الرجل يقول فيك من الخير ما ليس فيك فلا تأمن أن يقول فيك من الشر ما ليس

فيك. و يقال إن في بعض الكتب المنزلة القديمة عجبا لمن قيل فيه الخير و ليس فيه كيف يفرح و لمن قيل فيه الشر و ليس فيه

كيف يغضب و أعجب من ذلك من أحب نفسه على اليقين و أبغض الناس على الظن. و كان يقال لا يغلبن جهل غيرك بك علمك بنفسك.

و قال رجل لعبد الملك إني أريد أن أسر إليك يا أمير المؤمنين شيئا فقال لمن حوله

[11 : 104 ]

إذا شئتم فانهضوا فتقدم الرجل يريد الكلام فقال له عبد الملك قف لا تمدحني فإني أعلم بنفسي منك و لا تكذبني فإنه لا رأي

لمكذوب و لا تغتب عندي أحدا فإني أكره الغيبة قال أ فيأذن أمير المؤمنين في الانصراف قال إذا شئت. و ناظر المأمون محمد بن

القاسم النوشجاني في مسألة كلامية فجعل النوشجاني يخضع في الكلام و يستخذي له فقال يا محمد أراك تنقاد إلى ما أقوله قبل

وجوب الحجة لي عليك و قد ساءني منك ذلك و لو شئت أن أفسر الأمور بعزة الخلافة و هيبة الرئاسة لصدقت و إن كنت كاذبا و عدلت

و إن كنت جائرا و صوبت و إن كنت مخطئا و لكني لا أقنع إلا بإقامة الحجة و إزالة الشبهة و إن أنقص الملوك عقلا و أسخفهم رأيا

من رضي بقولهم صدق الأمير. و قال عبد الله بن المقفع في اليتيمة إياك إذا كنت واليا أن يكون من شأنك حب المدح و التزكية و أن

يعرف الناس ذلك منك فتكون ثلمة من الثلم يقتحمون عليك منها و بابا يفتتحونك منه و غيبة يغتابونك بها و يسخرون منك لها و

اعلم أن قابل المدح كمادح نفسه و أن المرء جدير أن يكون حبه المدح هو الذي يحمله على رده فإن الراد له ممدوح و القابل له

معيب. و قال معاوية لرجل من سيد قومك قال أنا قال لو كنت كذلك لم تقله. و قال الحسن ذم الرجل نفسه في العلانية مدح لها في

السر. كان يقال من أظهر عيب نفسه فقد زكاها. و منها قوله ع لو كنت كذلك لتركته انحطاطا لله تعالى عن تناول ما هو أحق به من

الكبرياء في الحديث المرفوع من تواضع لله رفعه الله و من تكبر خفضه الله

السابق

التالي