السابق

التالي

[11 : 3 ]

الجزء الحادي عشر

تتمة باب الخطب و الأوامر

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل

196- و من كلام له ع

أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا الدُّنْيَا دَارُ مَجَاز وَ الآْخِرَةُ دَارُ قَرَار فَخُذُوا مِنْ مَمَرِّكُمْ لِمَقَرِّكُمْ وَ لَا تَهْتِكُوا أَسْتَارَكُمْ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ أَسْرَارَكُمْ وَ أَخْرِجُوا مِنَ

الدُّنْيَا قُلُوبَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا أَبْدَانُكُمْ فَفِيهَا اخْتُبِرْتُمْ وَ لِغَيْرِهَا خُلِقْتُمْ إِنَّ الْمَرْءَ إِذَا هَلَكَ قَالَ النَّاسُ مَا تَرَكَ وَ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ مَا

قَدَّمَ لِلَّهِ آبَاؤُكُمْ فَقَدِّمُوا بَعْضاً يَكُنْ لَكُمْ وَ لَا تُخْلِفُوا كُلًّا فَيَكُونَ فَرْضاً عَلَيْكُمْ

ذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في الكامل عن الأصمعي قال خطبنا أعرابي بالبادية فحمد الله و استغفره و وحده و صلى على

نبيه ص فأبلغ في إيجاز ثم قال أيها الناس إن الدنيا دار بلاغ و الآخرة دار قرار فخذوا لمقركم من ممركم و لا تهتكوا أستاركم عند من

لا تخفى عليه أسراركم في الدنيا أنتم

[11 : 4 ]

و لغيرها خلقتم أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم و المصلى عليه رسول الله و المدعو له الخليفة و الأمير جعفر بن سليمان. و

ذكر غيره الزيادة التي في كلام أمير المؤمنين ع و هي أن المرء إذا هلك إلى آخر الكلام. و أكثر الناس على أن هذا الكلام لأمير

المؤمنين ع. و يجوز أن يكون الأعرابي حفظه فأورده كما يورد الناس كلام غيرهم. قوله ع دار مجاز أي يجاز فيها إلى الآخرة و منه

سمي المجاز في الكلام مجازا لأن المتكلم قد عبر الحقيقة إلى غيرها كما يعبر الإنسان من موضع إلى موضع. و دار القرار دار

الاستقرار الذي لا آخر له. فخذوا من ممركم أي من الدنيا لمقركم و هو الآخرة. قوله ع قال الناس ما ترك يريد أن بني آدم مشغولون

بالعاجلة لا يفكرون في غيرها و لا يتساءلون إلا عنها فإذا هلك أحدكم فإنما قولهم بعضهم لبعض ما الذي ترك فلان من المال ما الذي

خلف من الولد و أما الملائكة فإنهم يعرفون الآخرة و لا تستهويهم شهوات الدنيا و إنما هم مشغولون بالذكر و التسبيح فإذا هلك

الإنسان قالوا ما قدم أي أي شيء قدم من الأعمال. ثم أمرهم ع بأن يقدموا من أموالهم بعضها صدقة فإنها تبقى لهم و نهاهم أن

يخلفوا أموالهم كلها بعد موتهم فتكون وبالا عليهم في الآخرة

[11 : 5 ]

197- و من كلام له ع كان كثيرا ما ينادي به أصحابه

تَجَهَّزُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحِيلِ وَ أَقِلُّوا الْعَرْجَةَ عَلَى الدُّنْيَا وَ انْقَلِبُوا بِصَالِحِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ الزَّادِ فَإِنَّ أَمَامَكُمْ عَقَبَةً

كَئُوداً وَ مَنَازِلَ مَخُوفَةً مَهُولَةً لَا بُدَّ مِنَ الْوُرُودِ عَلَيْهَا وَ الْوُقُوفِ عِنْدَهَا. وَ اعْلَمُوا أَنَّ مَلَاحِظَ الْمَنِيَّةِ نَحْوَكُمْ دَائِبَةٌ وَ كَأَنَّكُمْ بِمَخَالِبِهَا وَ قَدْ

نَشِبَتْ فِيكُمْ وَ قَدْ دَهَمَتْكُمْ مِنْهَا مُفْظِعَاتُ الْأُمُورِ وَ مُضْلِعَاتُ الْمَحْذُورِ. فَقَطِّعُوا عَلَائِقَ الدُّنْيَا وَ اسْتَظْهِرُوا بِزَادِ التَّقْوَى

و قد مضى شيء من هذا الكلام فيما تقدم يخالف هذه الرواية

تجهزوا لكذا أي تهيئوا له. و العرجة التعريج و هو الإقامة تقول ما لي على ربعك عرجة أي إقامة و عرج فلان على المنزل إذا حبس

عليه مطيته.

[11 : 6 ]

و العقبة الكئود الشاقة المصعد و دائبة جادة و المخلب للسبع بمنزلة الظفر للإنسان. و أفظع الأمر فهو مفظع إذا جاوز المقدار شدة.

و مضلعات المحذور الخطوب التي تضلع أي تجعل الإنسان ضليعا أي معوجا و الماضي ضلع بالكسر يضلع ضلعا. و من رواها بالظاء

أراد الخطوب التي تجعل الإنسان ظالعا أي يغمز في مشيه لثقلها عليه و الماضي ظلع بالفتح يظلع ظلعها فهو ظالع

[11 : 7 ]

198- و من كلام له ع كلم به طلحة و الزبير بعد بيعته بالخلافة

و قد عتبا عليه من ترك مشورتهما و الاستعانة في الأمور بهما

لَقَدْ نَقَمْتُمَا يَسِيراً وَ أَرْجَأْتُمَا كَثِيراً أَ لَا تُخْبِرَانِي أَيُّ شَيْء كَانَ لَكُمَا فِيهِ حَقٌّ دَفَعْتُكُمَا عَنْهُ أَمْ أَيُّ قَسْم اسْتَأْثَرْتُ عَلَيْكُمَا بِهِ أَوْ أَيُّ حَقّ رَفَعَهُ

إِلَيَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ضَعُفْتُ عَنْهُ أَمْ جَهِلْتُهُ أَمْ أَخْطَأْتُ بَابَهُ. وَ اللَّهِ مَا كَانَتْ لِي فِي الْخِلَافَةِ رَغْبَةٌ وَ لَا فِي الْوَلَايَةِ إِرْبَةٌ وَ لَكِنَّكُمْ

دَعَوْتُمُونِي إِلَيْهَا وَ حَمَلْتُمُونِي عَلَيْهَا فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَيَّ نَظَرْتُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَ مَا وَضَعَ لَنَا وَ أَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِهِ فَاتَّبَعْتُهُ وَ مَا اسْتَنَّ النَّبِيُّ ص

فَاقْتَدَيْتُهُ فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَى رَأْيِكُمَا وَ لَا رَأْيِ غَيْرِكُمَا وَ لَا وَقَعَ حُكْمٌ جَهِلْتُهُ فَأَسْتَشِيرَكُمَا وَ إِخْوَانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ أَرْغَبْ

عَنْكُمَا وَ لَا عَنْ غَيْرِكُمَا. وَ أَمَّا مَا ذَكَرْتُمَا مِنْ أَمْرِ الْأُسْوَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَمْ أَحْكُمْ أَنَا فِيهِ بِرَأْيِي وَ لَا وَلِيتُهُ هَوًى مِنِّي بَلْ وَجَدْتُ أَنَا وَ أَنْتُمَا مَا

جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ص قَدْ فُرِغَ مِنْهُ فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَيْكُمَا فِيمَا قَدْ فَرَغَ اللَّهُ مِنْ قَسْمِهِ وَ أَمْضَى فِيهِ حُكْمَهُ فَلَيْسَ لَكُمَا وَ اللَّهِ عِنْدِي وَ لَا لِغَيْرِكُمَا

فِي هَذَا عُتْبَى. أَخَذَ اللَّهُ بِقُلُوبِنَا وَ قُلُوبِكُمْ إِلَى الْحَقِّ وَ أَلْهَمَنَا وَ إِيَّاكُمُ الصَّبْرَ.

[11 : 8 ]

ثُمَّ قَالَ ع رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا رَأَى حَقّاً فَأَعَانَ عَلَيْهِ أَوْ رَأَى جَوْراً فَرَدَّهُ وَ كَانَ عَوْناً بِالْحَقِّ عَلَى صَاحِبِهِ

نقمت عليه بالفتح أنقم هذه اللغة الفصيحة و جاء نقمت بالكسر أنقم. و أرجأتما أخرتما أي نقمتما من أحوالي اليسير و تركتما الكثير

الذي ليس لكما و لا لغيركما فيه مطعن فلم تذكراه فهلا اغتفرتما اليسير للكثير. و ليس هذا اعترافا بأن ما نقماه موضع الطعن و

العيب و لكنه على جهة الجدل و الاحتجاج كما تقول لمن يطعن في بيت من شعر شاعر مشهور لقد ظلمته إذ تتعلق عليه بهذا البيت و

تنسى ما له من المحاسن الكثيرة في غيره. ثم ذكر وجوه العتاب و الاسترادة و هي أقسام إما أن يكون لهما حق يدفعهما عنه أو استأثر

عليهما في قسم أو ضعف عن السياسة أو جهل حكما من أحكام الشريعة أو أخطأ بابه. فإن قلت أي فرق بين الأول و الثاني قلت أما

دفعهما عن حقهما فمنعهما عنه سواء صار إليه ع أو إلى غيره أو لم يصر إلى أحد بل بقي بحاله في بيت المال.

[11 : 9 ]

و أما القسم الثاني فهو أن يأخذ حقهما لنفسه و بين القسمين فرق ظاهر و الثاني أفحش من الأول. فإن قلت فأي فرق بين قوله أم

جهلته أو أخطأت بابه. قلت جهل الحكم أن يكون الله تعالى قد حكم بحرمة شيء فأحله الإمام أو المفتي و كونه يخطئ بابه هو أن

يصيب في الحكم و يخطئ في الاستدلال عليه. ثم أقسم أنه لم يكن له في الخلافة رغبة و لا إربة بكسر الهمزة و هي الحاجة و صدق

ع فهكذا نقل أصحاب التواريخ و أرباب علم السير كلهم و

روى الطبري في التاريخ و رواه غيره أيضا إن الناس غشوه و تكاثروا عليه يطلبون مبايعته و هو يأبى ذلك و يقول دعوني و التمسوا

غيري فإنا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان لا تثبت عليه العقول و لا تقوم له القلوب قالوا ننشدك الله أ لا ترى الفتنة أ لا ترى إلى ما

حدث في الإسلام أ لا تخاف الله فقال قد أجبتكم لما أرى منكم و اعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم و إن تركتموني فإنما أنا

كأحدكم بل أنا أسمعكم و أطوعكم لمن وليتموه أمركم إليه فقالوا ما نحن بمفارقيك حتى نبايعك قال إن كان لا بد من ذلك ففي

المسجد فإن بيعتي لا تكون خفيا و لا تكون إلا عن رضا المسلمين و في ملإ و جماعة فقام و الناس حوله فدخل المسجد و انثال عليه

المسلمون فبايعوه و فيهم طلحة و الزبير

قلت قوله إن بيعتي لا تكون خفيا و لا تكون إلا في المسجد بمحضر من جمهور الناس يشابه قوله بعد وفاة رسول الله ص للعباس لما

سامه مد يده للبيعة إني أحب أن أصحر بها و أكره أن أبايع من وراء رتاج.

[11 : 10 ]

ثم ذكر ع أنه لما بويع عمل بكتاب الله و سنة رسوله و لم يحتج إلى رأيهما و لا رأي غيرهما و لم يقع حكم يجهله فيستشيرهما و لو

وقع ذلك لاستشارهما و غيرهما و لم يأنف من ذلك. ثم تكلم في معنى التنفيل في العطاء فقال إني عملت بسنة رسول الله ص في ذلك

و صدق ع فإن رسول الله ص سوى في العطاء بين الناس و هو مذهب أبي بكر. و العتبى الرضا أي لست أرضيكما بارتكاب ما لا يحل لي

في الشرع ارتكابه و الضمير في صاحبه و هو الهاء المجرورة يرجع إلى الجور أي و كان عونا بالعمل على صاحب الجور

من أخبار طلحة و الزبير

قد تقدم منا ذكر ما عتب به طلحة و الزبير على أمير المؤمنين ع و أنهما قالا ما نراه يستشيرنا في أمر و لا يفاوضنا في رأي و يقطع

الأمر دوننا و يستبد بالحكم عنا و كانا يرجوان غير ذلك و أراد طلحة أن يوليه البصرة و أراد الزبير أن يوليه الكوفة فلما شاهدا

صلابته في الدين و قوته في العزم و هجره الادهان و المراقبة و رفضه المدالسة و المواربة و سلوكه في جميع مسالكه منهج الكتاب

و السنة و قد كانا يعلمان ذلك قديما من طبعه و سجيته و كان عمر قال لهما و لغيرهما إن الأجلح إن وليها ليحملنكم على المحجة

البيضاء و الصراط المستقيم و

كان رسول الله ص

[11 : 11 ]

من قبل قال و إن تولوها عليا تجدوه هاديا مهديا

إلا أنه ليس الخبر كالعيان و لا القول كالفعل و لا الوعد كالإنجاز و حالا عنه و تنكرا له و وقعا فيه و عاباه و غمصاه و تطلبا له العلل

و التأويلات و تنقما عليه الاستبداد و ترك المشاورة و انتقلا من ذلك إلى الوقيعة فيه بمساواة الناس في قسمة المال و أثنيا على عمر

و حمدا سيرته و صوبا رأيه و قالا إنه كان يفضل أهل السوابق و ضللا عليا ع فيما رآه و قالا إنه أخطأ و إنه خالف سيرة عمر و هي

السيرة المحمودة التي لم تفضحها النبوة مع قرب عهدنا منها و اتصالها بها و استنجدا عليه بالرؤساء من المسلمين كان عمر يفضلهم

و ينفلهم في القسم على غيرهم و الناس أبناء الدنيا و يحبون المال حبا جما فتنكرت على أمير المؤمنين ع بتنكرهما قلوب كثيرة و

نغلت عليه نيات كانت من قبل سليمة و لقد كان عمر موفقا حيث منع قريشا و المهاجرين و ذوي السوابق من الخروج من المدينة و

نهاهم عن مخالطة الناس و نهى الناس عن مخالطتهم و رأى أن ذلك أس الفساد في الأرض و أن الفتوح و الغنائم قد أبطرت المسلمين

و متى بعد الرءوس و الكبراء منهم عن دار الهجرة و انفردوا بأنفسهم و خالطهم الناس في البلاد البعيدة لم يأمن أن يحسنوا لهم

الوثوب و طلب الإمرة و مفارقة الجماعة و حل نظام الألفة و لكنه رضي الله عنه نقض هذا الرأي السديد بما فعله بعد طعن أبي لؤلؤة

له من أمر الشورى فإن ذلك كان سبب كل فتنة وقعت و تقع إلى أن تنقضي الدنيا و قد قدمنا ذكر ذلك و شرحنا ما أدى إليه أمر الشورى

من الفساد بما حصل في نفس كل من الستة من ترشيحه للخلافة.

[11 : 12 ]

و روى أبو جعفر الطبري في تاريخه قال كان عمر قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان إلا بإذن و أجل فشكوه

فبلغه فقام فخطب فقال ألا إني قد سننت الإسلام سن البعير يبدأ فيكون جذعا ثم ثنيا ثم يكون رباعيا ثم سديسا ثم بازلا ألا فهل

ينتظر بالبازل إلا النقصان ألا و إن الإسلام قد صار بازلا و إن قريشا يريدون أن يتخذوا مال الله معونات على ما في أنفسهم ألا إن في

قريش من يضمر الفرقة و يروم خلع الربقة أما و ابن الخطاب حي فلا إني قائم دون شعب الحرة آخذ بحلاقيم قريش و حجزها أن

يتهافتوا في النار. و قال أبو جعفر الطبري في التاريخ أيضا فلما ولي عثمان لم يأخذهم بالذي كان عمر يأخذهم به فخرجوا إلى البلاد

فلما نزلوها و رأوا الدنيا و رآهم الناس خمل من لم يكن له طول و لا قدم في الإسلام و نبه أصحاب السوابق و الفضل فانقطع إليهم

الناس و صاروا أوزاعا معهم و أملوهم و تقربوا إليهم و قالوا يملكون فيكون لنا في ملكهم حظوة فكان ذلك أول وهن على الإسلام و

أول فتنة كانت في العامة. و روى أبو جعفر الطبري عن الشعبي قال لم يمت عمر حتى ملته قريش و قد كان حصرهم بالمدينة و سألوه

أن يأذن لهم في الخروج إلى البلاد فامتنع عليهم و قال إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد حتى أن الرجل كان

يستأذنه في غزو الروم أو الفرس و هو ممن حبسه بالمدينة من قريش و لا سيما من المهاجرين فيقول له إن لك في غزوك مع رسول

الله ص ما يكفيك و يبلغك و يحسبك و هو خير لك من الغزو اليوم و إن خيرا لك ألا ترى الدنيا و لا تراك.

[11 : 13 ]

فلما مات عمر و ولي عثمان خلى عنهم فانتشروا في البلاد و اضطربوا و انقطع إليهم الناس و خالطوهم فلذلك كان عثمان أحب إلى

قريش من عمر. فقد بان لك حسن رأي عمر في منع المهاجرين و أهل السابقة من قريش من مخالطة الناس و الخروج من المدينة و بان

لك أن عثمان أرخى لهم في الطول فخالطهم الناس و أفسدوهم و حببوا إليهم الملك و الإمرة و الرئاسة لا سيما مع الثروة العظيمة

التي حصلت لهم و الثراء مفسدة و أي مفسدة و حصل لطلحة و الزبير من ذلك ما لم يحصل لغيرهما ثروة و يسارا و قدما في الإسلام و

صار لهما لفيف عظيم من المسلمين يمنونهما الخلافة و يحسنون لهما طلب الإمرة لا سيما و قد رشحهما عمر لها و أقامهما مقام

نفسه في تحملها و أي امرئ منى بها قط نفسه ففارقها حتى يغيب في اللحد و لا سيما طلحة قد كان يحدث بها نفسه و أبو بكر حي و

يروم أن يجعلها فيه بشبهة أنه ابن عمه و سخط خلافة عمر و قال لأبي بكر ما تقول لربك و قد وليت علينا فظا غليظا و كان له في أيام

عمر قوم يجلسون إليه و يحادثونه سرا في معنى الخلافة و يقولون له لو مات عمر لبايعناك بغتة جلب الدهر علينا ما جلب و بلغ ذلك

عمر فخطب الناس بالكلام المشهور أن قوما يقولون إن بيعة أبي بكر كانت فلتة و إنه لو مات عمر لفعلنا و فعلنا أما إن بيعة أبي بكر

كانت فلتة إلا أن الله وقى شرها و ليس فيكم من تقطع إليه الرقاب كأبي بكر فأي امرئ بايع امرأ من غير مشورة من المسلمين فإنهما

بغرة أن يقتلا فلما صارت إلى عثمان سخطها طلحة بعد أن كان رضيها و أظهر ما في نفسه و ألب عليه حتى قتل و لم يشك أن الأمر له

فلما صارت إلى علي ع حدث منه ما حدث و آخر الدواء الكي. و أما الزبير فلم يكن إلا علوي الرأي شديد الولاء جاريا من الرجل مجرى

نفسه.

[11 : 14 ]

و يقال إنه ع لما استنجد بالمسلمين عقيب يوم السقيفة و ما جرى فيه و كان يحمل فاطمة ع ليلا على حمار و ابناها بين يدي الحمار

و هو ع يسوقه فيطرق بيوت الأنصار و غيرهم و يسألهم النصرة و المعونة أجابه أربعون رجلا فبايعهم على الموت و أمرهم أن

يصبحوا بكرة محلقي رءوسهم و معهم سلاحهم فأصبح لم يوافه منهم إلا أربعة الزبير و المقداد و أبو ذر و سلمان ثم أتاهم من الليل

فناشدهم فقالوا نصبحك غدوة فما جاءه منهم إلا أربعة و كذلك في الليلة الثالثة و كان الزبير أشدهم له نصرة و أنفذهم في طاعته

بصيرة حلق رأسه و جاء مرارا و في عنقه سيفه و كذلك الثلاثة الباقون إلا أن الزبير هو كان الرأس فيهم و قد نقل الناس خبر الزبير

لما هجم عليه ببيت فاطمة ع و كسر سيفه في صخرة ضربت به و نقلوا اختصاصه بعلي ع و خلواته به و لم يزل مواليا له متمسكا

بحبه و مودته حتى نشأ ابنه عبد الله و شب فنزع به عرق من الأم و مال إلى تلك الجهة و انحرف عن هذه و محبة الوالد للولد معروفة

فانحرف الزبير لانحرافه على أنه قد كانت جرت بين علي ع و الزبير هنات في أيام عمر كدرت القلوب بعض التكدير و كان سببها قصة

موالي صفية و منازعة علي للزبير في الميراث فقضى عمر للزبير فأذعن علي ع لقضائه بحكم سلطانه لا رجوعا عما كان يذهب إليه من

حكم الشرع في هذه المسألة و بقيت في نفس الزبير على أن شيخنا أبا جعفر الإسكافي رحمه الله ذكر في كتاب نقض العثمانية عن

الزبير كلاما إن صح فإنه يدل على انحراف شديد و رجوع عن موالاة أمير المؤمنين ع. قال تفاخر علي ع و الزبير فقال الزبير أسلمت

بالغا و أسلمت طفلا و كنت أول من سل سيفا في سبيل الله بمكة و أنت مستخف في الشعب يكفلك الرجال

[11 : 15 ]

و يمونك الأقارب من بني هاشم و كنت فارسا و كنت راجلا و في هيأتي نزلت الملائكة و أنا حواري رسول الله ص. قال شيخنا أبو جعفر

و هذا الخبر مفتعل مكذوب و لم يجر بين علي و الزبير شيء من هذا الكلام و لكنه من وضع العثمانية و لم يسمع به في أحاديث

الحشوية و لا في كتب أصحاب السيرة. و لعلي ع أن يقول طفل مسلم خير من بالغ كافر و أما سل السيف بمكة فلم يكن في موضعه و

في ذلك قال الله تعالى أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ الآية و أنا على منهاج الرسول في الكف و الإقدام و ليس كفالة

الرجال و الأقارب بالشعب عارا علي فقد كان رسول الله ص في الشعب يكفله الرجال و الأقارب و أما حربك فارسا و حربي راجلا فهلا

أغنت فروسيتك يوم عمرو بن عبد ود في الخندق و هلا أغنت فروسيتك يوم طلحة بن أبي طلحة في أحد و هلا أغنت فروسيتك يوم

مرحب بخيبر ما كانت فرسك التي تحارب عليها في هذه الأيام إلا أذل من العنز الجرباء و من سلمت عليه الملائكة أفضل ممن نزلت في

هيأته و قد نزلت الملائكة في صورة دحية الكلبي أ فيجب من ذلك أن يكون دحية أفضل مني و أما كونك حواري رسول الله ص فلو

عددت خصائصي في مقابلة هذه اللفظة الواحدة لك لاستغرقت الوقت و أفنيت الزمان و رب صمت أبلغ من نطق. ثم نرجع إلى الحديث

الأول فتقول إن طلحة و الزبير لما أيسا من جهة علي ع

[11 : 16 ]

و من حصول الدنيا من قبله قلبا له ظهر المجن فكاشفاه و عاتباه قبل المفارقة عتابا لاذعا روى شيخنا أبو عثمان قال أرسل طلحة و

الزبير إلى علي ع قبل خروجهما إلى مكة مع محمد بن طلحة و قالا لا تقل له يا أمير المؤمنين و لكن قل له يا أبا الحسن لقد فال

فيك رأينا و خاب ظننا أصلحنا لك الأمر و وطدنا لك الإمرة و أجلبنا على عثمان حتى قتل فلما طلبك الناس لأمرهم أسرعنا إليك و

بايعناك و قدنا إليك أعناق العرب و وطئ المهاجرون و الأنصار أعقابنا في بيعتك حتى إذا ملكت عنانك استبددت برأيك عنا و رفضتنا

رفض التريكة و أذلتنا إذالة الإماء و ملكت أمرك الأشتر و حكيم بن جبلة و غيرهما من الأعراب و نزاع الأمصار فكنا فيما رجوناه منك و

أملناه من ناحيتك كما قال الأول

فكنت كمهريق الذي في سقائه لرقراق آل فوق رابية صلد

فلما جاء محمد بن طلحة أبلغه ذاك فقال اذهب إليهما فقل لهما فما الذي يرضيكما فذهب و جاءه فقال إنهما يقولان ول أحدنا البصرة

و الآخر الكوفة فقال لاها الله إذن يحلم الأديم و يستشرى الفساد و تنتقض على البلاد من أقطارها و الله إني لا آمنهما و هما عندي

بالمدينة فكيف آمنهما و قد وليتهما العراقين اذهب إليهما فقل أيها الشيخان احذرا من سطوة الله و نقمته و لا تبغيا للمسلمين

غائلة و كيدا و قد سمعتما قول الله تعالى تِلْكَ الدّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ

فقام محمد بن طلحة فأتاهما و لم يعد إليه و تأخرا عنه أياما ثم جاءاه فاستأذناه في الخروج إلى مكة للعمرة فأذن لهما بعد أن

أحلفهما

[11 : 17 ]

ألا ينقضا بيعته و لا يغدرا به و لا يشقا عصا المسلمين و لا يوقعا الفرقة بينهم و أن يعودا بعد العمرة إلى بيوتهما بالمدينة فحلفا

على ذلك كله ثم خرجا ففعلا ما فعلا. و روى شيخنا أبو عثمان قال لما خرج طلحة و الزبير إلى مكة و أوهما الناس أنهما خرجا للعمرة

قال علي ع لأصحابه و الله ما يريدان العمرة و إنما يريدان الغدرة فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ

اللّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. و روى الطبري في التاريخ قال لما بايع طلحة و الزبير عليا ع سألاه أن يؤمرهما على الكوفة و البصرة

فقال بل تكونان عندي أتجمل بكما فإنني أستوحش لفراقكما. قال الطبري و قد كان قال لهما قبل بيعتهما له إن أحببتما أن تبايعاني

و إن أحببتما بايعتكما فقالا لا بل نبايعك ثم قالا بعد ذلك إنما بايعناه خشية على أنفسنا و قد عرفنا أنه لم يكن ليبايعنا ثم ظهرا إلى

مكة و ذلك بعد قتل عثمان بأربعة أشهر. و روى الطبري أيضا في التاريخ قال لما بايع الناس عليا و تم له الأمر قال طلحة للزبير ما أرى

أن لنا من هذا الأمر إلا كحسة أنف الكلب. و روى الطبري أيضا في التاريخ قال لما بايع الناس عليا ع بعد قتل عثمان جاء علي إلى

الزبير فاستأذن عليه قال أبو حبيبه مولى الزبير فأعلمته به فسل السيف و وضعه تحت فراشه و قال ائذن له فأذنت له فدخل فسلم

على الزبير و هو واقف ثم خرج فقال الزبير لقد دخل لأمر ما قضاه قم مقامه و انظر هل ترى من

[11 : 18 ]

السيف شيئا فقمت في مقامه فرأيت ذباب السيف فأخبرته و قلت إن ذباب السيف ليظهر لمن قام في هذا الموضع فقال ذاك أعجل

الرجل و روى شيخنا أبو عثمان قال كتب مصعب بن الزبير إلى عبد الملك من مصعب بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان سلام عليك

فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد

ستعلم يا فتى الزرقاء أني سأهتك عن حلائلك الحجابا

و أترك بلدة أصبحت فيها تهور من جوانبها خرابا

أما إن لله على الوفاء بذلك إلا أن تتراجع أو تتوب و لعمري ما أنت كعبد الله بن الزبير و لا مروان كالزبير بن العوام حواري رسول

الله ص و ابن عمته فسلم الأمر إلى أهله فإن نجاتك بنفسك أعظم الغنيمتين و السلام. فكتب إليه عبد الملك من عبد الله عبد الملك

أمير المؤمنين إلى الذلول الذي أخطأ من سماه المصعب سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد

أ توعدني و لم أر مثل يومي خشاش الطير يوعدن العقابا

متى تلق العقاب خشاش طير يهتك عن مقاتلها الحجابا

أ توعد بالذئاب أسود غاب و أسد الغاب تلتهم الذئابا

أما ما ذكرت من وفائك فلعمري لقد وفى أبوك لتيم و عدي بعداء قريش و زعانفها حتى إذا صارت الأمور إلى صاحبها عثمان الشريف

النسب الكريم الحسب بغاة الغوائل و أعد له المخاتل حتى نال منه حاجته ثم دعا الناس إلى علي و بايعه فلما

[11 : 19 ]

دانت له أمور الأمة و أجمعت له الكلمة و أدركه الحسد القديم لبني عبد مناف فنقض عهده و نكث بيعته بعد توكيدها ف فَكَّرَ وَ قَدَّرَ

فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ و تمزقت لحمه الضباع بوادي السباع و لعمري إنك تعلم يا أخا بني عبد العزى بن قصي أنا بنو عبد مناف لم نزل

سادتكم و قادتكم في الجاهلية و الإسلام و لكن الحسد دعاك إلى ما ذكرت و لم ترث ذلك عن كلالة بل عن أبيك و لا أظن حسدك و

حسد أخيك يئول بكما إلا إلى ما آل إليه حسد أبيكما من قبل وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلّا بِأَهْلِهِ وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَب

يَنْقَلِبُونَ. و روى أبو عثمان أيضا قال دخل الحسن بن علي ع على معاوية و عنده عبد الله بن الزبير و كان معاوية يحب أن يغري بين

قريش فقال يا أبا محمد أيهما كان أكبر سنا علي أم الزبير فقال الحسن ما أقرب ما بينهما و علي أسن من الزبير رحم الله عليا فقال ابن

الزبير رحم الله الزبير و هناك أبو سعيد بن عقيل بن أبي طالب فقال يا عبد الله و ما يهيجك من أن يترحم الرجل على أبيه قال و أنا

أيضا ترحمت على أبي قال أ تظنه ندا له و كفؤا قال و ما يعدل به عن ذلك كلاهما من قريش و كلاهما دعا إلى نفسه و لم يتم له قال دع

ذاك عنك يا عبد الله إن عليا من قريش و من الرسول ص حيث تعلم و لما دعا إلى نفسه أتبع فيه و كان رأسا و دعا الزبير إلى أمر و كان

الرأس فيه امرأة و لما تراءت الفئتان نكص على عقبيه و ولى مدبرا قبل أن يظهر الحق فيأخذه أو يدحض الباطل فيتركه فأدركه رجل

لو قيس ببعض أعضائه لكان أصغر فضرب عنقه و أخذ سلبه و جاء برأسه و مضى علي قدما كعادته مع ابن عمه رحم الله عليا

[11 : 20 ]

فقال ابن الزبير أما لو أن غيرك تكلم بهذا يا أبا سعيد لعلم فقال إن الذي تعرض به يرغب عنك و كفه معاوية فسكتوا. و أخبرت عائشة

بمقالتهم و مر أبو سعيد بفنائها فنادته يا أبا سعيد أنت القائل لابن أختي كذا فالتفت أبو سعيد فلم ير شيئا فقال إن الشيطان يرانا و

لا نراه فضحكت عائشة و قالت لله أبوك ما أذلق لسانك

[11 : 21 ]

199- و من كلام له ع و قد سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين

إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ وَ لَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَ ذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَ أَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ وَ قُلْتُمْ مَكَانَ

سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَ دِمَاءَهُمْ وَ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَ بَيْنِهِمْ وَ اهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ وَ يَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ

وَ الْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ

السب الشتم سبه يسبه بالضم و التساب التشاتم و رجل مسب بكسر الميم كثير السباب و رجل سبه أي يسبه الناس و رجل سببه

أي يسب الناس و رجل سب كثير السباب و سبك الذي يسابك قال

لا تسبنني فلست بسبي إن سبي من الرجال الكريم

و الذي كرهه ع منهم أنهم كانوا يشتمون أهل الشام و لم يكن يكره منهم لعنهم إياهم و البذاءة منهم لا كما يتوهمه قوم من

الحشوية فيقولون لا يجوز

[11 : 22 ]

لعن أحد ممن عليه اسم الإسلام و ينكرون على من يلعن و منهم من يغالي في ذلك فيقول لا ألعن الكافر و ألعن إبليس و إن الله تعالى

لا يقول لأحد يوم القيامة لم لم تلعن و إنما يقول لم لعنت. و اعلم أن هذا خلاف نص الكتاب لأنه تعالى قال إِنَّ اللّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَ

أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً. و قال أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللّاعِنُونَ. و قال في إبليس وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ. و قال مَلْعُونِينَ

أَيْنَما ثُقِفُوا. و في الكتاب العزيز من ذلك الكثير الواسع. و كيف يجوز للمسلم أن ينكر التبرؤ ممن يجب التبرؤ منه أ لم يسمع

هؤلاء قول الله تعالى قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ

دُونِ اللّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً و إنما يجب النظر فيمن قد اشتبهت حاله فإن كان قد قارف كبيرة

من الذنوب يستحق بها اللعن و البراءة فلا ضير على من يلعنه و يبرأ منه و إن لم يكن قد قارف كبيرة لم يجز لعنه و لا البراءة منه. و

مما يدل على أن من عليه اسم الإسلام إذا ارتكب الكبيرة يجوز لعنه بل يجب في وقت قول الله تعالى في قصة اللعان فَشَهادَةُ

أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهادات بِاللّهِ إِنَّهُ

[11 : 23 ]

لَمِنَ الصّادِقِينَ وَ الْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ. و قال تعالى في القاذف إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ

الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. فهاتان الآيتان في المكلفين من أهل القبلة و الآيات قبلهما في الكافرين و

المنافقين و لهذا قنت أمير المؤمنين ع على معاوية و جماعة من أصحابه و لعنهم في أدبار الصلوات. فإن قلت فما صوره السب الذي

نهى أمير المؤمنين ع عنه. قلت كانوا يشتمونهم بالآباء و الأمهات و منهم من يطعن في نسب قوم منهم و منهم من يذكرهم باللؤم و

منهم من يعيرهم بالجبن و البخل و بأنواع الأهاجي التي يتهاجى بها الشعراء و أساليبها معلومة فنهاهم ع عن ذلك و قال إني أكره

لكن أن تكونوا سبابين و لكن الأصوب أن تصفوا لهم أعمالهم و تذكروا حالهم أي أن تقولوا إنهم فساق و إنهم أهل ضلال و باطل.

ثم قال اجعلوا عوض سبهم أن تقولوا اللهم احقن دماءنا و دماءهم. حقنت الدم أحقنه بالضم منعت أن يسفك أي ألهمهم الإنابة إلى

الحق و العدول عن الباطل فإن ذلك إذا تم حقنت دماء الفريقين. فإن قلت كيف يجوز أن يدعو الله تعالى بما لا يفعله أ ليس من

أصولكم أن الله تعالى لا يضطر المكلف إلى اعتقاد الحق و إنما يكله إلى نظره. قلت الأمر و إن كان كذلك إلا أن المكلفين قد تعبدوا

بأن يدعوا الله تعالى

[11 : 24 ]

بذلك لأن في دعائهم إياه بذلك لطفا لهم و مصالح في أديانهم كالدعاء بزيادة الرزق و تأخير الأجل. قوله و أصلح ذات بيننا و بينهم

يعني أحوالنا و أحوالهم و لما كانت الأحوال ملابسة للبين قيل لها ذات البين كما أنه لما كانت الضمائر ملابسة للصدور قيل ذات

الصدور و كذلك قولهم اسقني ذا إنائك لما كان ما فيه من الشراب ملابسا له و يقولون للمتبرز قد وضع ذا بطنه و للحبلى تضع ألقت

ذا بطنها. و ارعوى عن الغي رجع و كف. لهج به بالكسر يلهج أغرى به و ثابر عليه

[11 : 25 ]

200- و من كلام له ع في بعض أيام صفين و قد رأى الحسن ابنه ع يتسرع إلى الحرب

امْلِكُوا عَنِّي هَذَا الْغُلَامَ لَا يَهُدَّنِي فَإِنَّنِي أَنْفَسُ بِهَذَيْنِ يَعْنِي الْحَسَنَ وَ الْحُسَيْنَ ع عَلَى الْمَوْتِ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ بِهِمَا نَسْلُ رَسُولِ اللَّهِ ص

قال الرضي أبو الحسن رحمه الله قوله ع املكوا عني هذا الغلام من أعلى الكلام و أفصحه

الألف في املكوا ألف وصل لأن الماضي ثلاثي من ملكت الفرس و العبد و الدار أملك بالكسر أي احجروا عليه كما يحجر المالك على

مملوكه. و عن متعلقة بمحذوف تقديره استولوا عليه و أبعدوه عني و لما كان الملك سبب الحجر على المملوك عبر بالسبب عن

المسبب كما عبر بالنكاح عن العقد و هو في الحقيقة اسم الوطء لما كان العقد طريقا إلى الوطء و سببا له. و وجه علو هذا الكلام و

فصاحته أنه لما كان في املكوا معنى البعد أعقبه

[11 : 26 ]

بعن و ذلك أنهم لا يملكونه دون أمير المؤمنين ع إلا و قد أبعدوه عنه أ لا ترى أنك إذا حجرت على زيد دون عمرو فقد باعدت زيدا عن

عمرو فلذلك قال املكوا عني هذا الغلام و استفصح الشارحون قول أبي الطيب

إذا كان شم الروح أدنى إليكم فلا برحتني روضة و قبول

قالوا و لما كان في فلا برحتني معنى فارقتني عدي اللفظة و إن كانت لازمة نظرا إلى المعنى. قوله لا يهدني أي لئلا يهدني فحذف كما

حذف طرفه في قوله

ألا أي هذا الزاجري أحضر الوغى

أي لأن أحضر. و أنفس أبخل نفست عليه بكذا بالكسر. فإن قلت أ يجوز أن يقال للحسن و الحسين و ولدهما أبناء رسول الله و ولد

رسول الله و ذرية رسول الله و نسل رسول الله. قلت نعم لأن الله تعالى سماهم أبناءه في قوله تعالى نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ و إنما

عنى الحسن و الحسين و لو أوصى لولد فلان بمال دخل فيه أولاد البنات و سمى الله تعالى عيسى ذرية إبراهيم في قوله وَ مِنْ

ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إلى أن قال وَ يَحْيى وَ عِيسى و لم يختلف أهل اللغة في أن ولد البنات من نسل الرجل.

[11 : 27 ]

فإن قلت فما تصنع بقوله تعالى ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَد مِنْ رِجالِكُمْ قلت أسألك عن أبوته لإبراهيم بن مارية فكما تجيب به عن ذلك

فهو جوابي عن الحسن و الحسين ع. و الجواب الشامل للجميع أنه عنى زيد بن حارثة لأن العرب كانت تقول زيد بن محمد على

عادتهم في تبني العبيد فأبطل الله تعالى ذلك و نهى عن سنة الجاهلية و قال إن محمدا ع ليس أبا لواحد من الرجال البالغين

المعروفين بينكم ليعتزي إليه بالنبوة و ذلك لا ينفي كونه أبا لأطفال لم تطلق عليهم لفظة الرجال كإبراهيم و حسن و حسين ع. فإن

قلت أ تقول إن ابن البنت ابن على الحقيقة الأصلية أم على سبيل المجاز. قلت لذاهب أن يذهب إلى أنه حقيقة أصلية لأن أصل

الإطلاق الحقيقة و قد يكون اللفظ مشتركا بين مفهومين و هو في أحدهما أشهر و لا يلزم من كونه أشهر في أحدهما ألا يكون حقيقة

في الآخر. و لذاهب أن يذهب إلى أنه حقيقة عرفية و هي التي كثر استعمالها و هي في الأكثر مجاز حتى صارت حقيقة في العرف

كالراوية للمزادة و السماء للمطر. و لذاهب أن يذهب إلى كونه مجازا قد استعمله الشارع فجاز إطلاقه في كل حال و استعماله

كسائر المجازات المستعملة. و مما يدل على اختصاص ولد فاطمة دون بني هاشم كافة بالنبي ع أنه ما كان يحل له ع أن ينكح بنات

الحسن و الحسين ع و لا بنات ذريتهما و إن بعدن و طال الزمان و يحل له نكاح بنات غيرهم من بني هاشم من الطالبيين و غيرهم و

هذا يدل على مزيد الأقربية و هي كونهم أولاده لأنه ليس هناك من القربى غير

[11 : 28 ]

هذا الوجه لأنهم ليسوا أولاد أخيه و لا أولاد أخته و لا هناك وجه يقتضي حرمتهم عليه إلا كونه والدا لهم و كونهم أولادا له فإن قلت

قد قال الشاعر

بنونا بنو أبنائنا و بناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد

و قال حكيم العرب أكثم بن صيفي في البنات يذمهن إنهن يلدن الأعداء و يورثن البعداء. قلت إنما قال الشاعر ما قاله على المفهوم

الأشهر و ليس في قول أكثم ما يدل على نفي بنوتهم و إنما ذكر أنهن يلدن الأعداء و قد يكون ولد الرجل لصلبه عدوا قال الله تعالى

إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَ أَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ و لا ينفي كونه عدوا كونه ابنا. قيل لمحمد بن الحنفية ع لم يغرر بك أبوك في الحرب و لم لا

يغرر بالحسن و الحسين فقال لأنهما عيناه و أنا يمينه فهو يذب عن عينيه بيمينه

[11 : 29 ]

201- و من كلام له ع قاله لما اضطرب عليه أصحابه في أمر الحكومة

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَزَلْ أَمْرِي مَعَكُمْ عَلَى مَا أُحِبُّ حَتَّى نَهِكَتْكُمُ الْحَرْبُ وَ قَدْ وَ اللَّهِ أَخَذَتْ مِنْكُمْ وَ تَرَكَتْ وَ هِيَ لِعَدُوِّكُمْ أَنْهَكُ. لَقَدْ كُنْتُ

أَمْسِ أَمِيراً فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَأْمُوراً وَ كُنْتُ أَمْسِ نَاهِياً فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَنْهِيّاً وَ قَدْ أَحْبَبْتُمُ الْبَقَاءَ وَ لَيْسَ لِي أَنْ أَحْمِلَكُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُونَ

نهكتكم بكسر الهاء أدنفتكم و أذابتكم و يجوز فتح الهاء و قد نهك الرجل أي دنف و ضني فهو منهوك و عليه نهكه المرض أي أثرة

الحرب مؤنثة. و قد أخذت منكم و تركت أي لم تستأصلكم بل فيكم بعد بقية و هي لعدوكم أنهك لأن القتل في أهل الشام كان أشد

استحرارا و الوهن فيهم أظهر و لو لا فساد أهل العراق برفع المصاحف لاستؤصل الشام و خلص الأشتر إلى معاوية فأخذه بعنقه و لم

يكن قد بقي من قوة الشام إلا كحركة ذنب الوزغة عند قتلها يضطرب يمينا و شمالا و لكن الأمور السماوية لا تغالب. فأما قوله كنت

أمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا فقد قدمنا شرح حالهم من قبل و أن أهل العراق لما رفع عمرو بن العاص و من معه المصاحف على

وجه المكيدة

[11 : 30 ]

حين أحس بالعطب و علو كلمة أهل الحق ألزموا أمير المؤمنين ع بوضع أوزار الحرب و كف الأيدي عن القتال و كانوا في ذلك على

أقسام فمنهم من دخلت عليه الشبهة برفع المصاحف و غلب على ظنه أن أهل الشام لم يفعلوا ذلك خدعة و حيلة بل حقا و دعاء إلى

الدين و موجب الكتاب فرأى أن الاستسلام للحجة أولى من الإصرار على الحرب. و منهم من كان قد مل الحرب و آثر السلم فلما رأى

شبهة ما يسوغ التعلق بها في رفض المحاربة و حب العافية أخلد إليهم. و منهم من كان يبغض عليا ع بباطنه و يطيعه بظاهره كما

يطيع كثير من الناس السلطان في الظاهر و يبغضه بقلبه فلما وجدوا طريقا إلى خذلانه و ترك نصرته أسرعوا نحوها فاجتمع جمهور

عسكره عليه و طالبوه بالكف و ترك القتال فامتنع امتناع عالم بالمكيدة و قال لهم إنها حيلة و خديعة و إني أعرف بالقوم منكم إنهم

ليسوا بأصحاب قرآن و لا دين قد صحبتهم و عرفتهم صغيرا و كبيرا فعرفت منهم الإعراض عن الدين و الركون إلى الدنيا فلا تراعوا

برفع المصاحف و صمموا على الحرب و قد ملكتموهم فلم يبق منهم إلا حشاشة ضعيفة و ذماء قليل فأبوا عليه و ألحوا و أصروا على

القعود و الخذلان و أمروه بالإنفاذ إلى المحاربين من أصحابه و عليهم الأشتر أن يأمرهم بالرجوع و تهددوه إن لم يفعل بإسلامه إلى

معاوية فأرسل إلى الأشتر يأمره بالرجوع و ترك الحرب فأبى عليه فقال كيف أرجع و قد لاحت أمارات الظفر فقولوا له ليمهلني ساعة

واحدة و لم يكن علم صورة الحال كيف قد وقعت فلما عاد إليه الرسول بذلك غضبوا و نفروا و شغبوا و قالوا أنفذت إلى الأشتر سرا

و باطنا تأمره بالتصميم و تنهاه عن الكف و إن لم تعده الساعة و إلا قتلناك كما قتلنا عثمان فرجعت الرسل إلى الأشتر فقالوا له أ

تحب أن تظفر بمكانك و أمير المؤمنين قد سل عليه

[11 : 31 ]

خمسون ألف سيف فقال ما الخبر قال إن الجيش بأسره قد أحدق به و هو قاعد بينهم على الأرض تحته نطع و هو مطرق و البارقة تلمع

على رأسه يقولون لئن لم تعد الأشتر قتلناك قال ويحكم فما سبب ذلك قالوا رفع المصاحف قال و الله لقد ظننت حين رأيتها رفعت

أنها ستوقع فرقة و فتنة. ثم كر راجعا على عقبيه فوجد أمير المؤمنين ع تحت الخطر قد ردده أصحابه بين أمرين إما أن يسلموه إلى

معاوية أو يقتلوه و لا ناصر له منهم إلا ولداه و ابن عمه و نفر قليل لا يبلغون عشرة فلما رآهم الأشتر سبهم و شتمهم و قال ويحكم أ

بعد الظفر و النصر صب عليكم الخذلان و الفرقة يا ضعاف الأحلام يا أشباه النساء يا سفهاء العقول فشتموه و سبوه و قهروه و قالوا

المصاحف المصاحف و الرجوع إليها لا نرى غير ذلك فأجاب أمير المؤمنين ع إلى التحكيم دفعا للمحذور الأعظم بارتكاب المحظور

الأضعف فلذلك قال كنت أميرا فأصبحت مأمورا و كنت ناهيا فصرت منهيا و قد سبق من شرح حال التحكيم و ما جرى فيه ما يغني عن

إعادته

[11 : 32 ]

202- و من كلام له ع بالبصرة و قد دخل على العلاء بن زياد الحارثي

و هو من أصحابه يعوده فلما رأى سعة داره قال

مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسَعَةِ هَذِهِ الدَّارِ فِي الدُّنْيَا أَمَا أَنْتَ إِلَيْهَا فِي الآْخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ وَ بَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الآْخِرَةَ تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ وَ تَصِلُ

فِيهَا الرَّحِمَ وَ تُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا فَإِذاً أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الآْخِرَةَ فَقَالَ لَهُ الْعَلَاءُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَشْكُو إِلَيْكَ أَخِي عَاصِمَ بْنَ زِيَاد

قَالَ وَ مَا لَهُ قَالَ لَبِسَ الْعَبَاءَ وَ تَخَلَّى مِنَ الدُّنْيَا قَالَ عَلَيَّ بِهِ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ يَا عُدَيَّ نَفْسِهِ لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ أَ مَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَ وَلَدَكَ

أَ تَرَى اللَّهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ وَ هُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وَ

جُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ قَالَ وَيْحَكَ إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْحَقِّ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ

فَقْرُهُ

[11 : 33 ]

كنت هاهنا زائدة مثل قوله تعالى كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا. و قوله و بلى إن شئت بلغت بها الآخرة لفظ فصيح كأنه

استدرك و قال و بلى على أنك قد تحتاج إليها في الدنيا لتجعلها وصلة إلى نبل الآخرة بأن تقري فيها الضيف و الضيف لفظ يقع على

الواحد و الجمع و قد يجمع فيقال ضيوف و أضياف و الرحم القرابة. و تطلع منها الحقوق مطالعها توقعها في مظان استحقاقها. و

العباء جمع عباءة و هي الكساء و قد تلين كما قالوا عظاءة و عظاية و صلاءة و صلاية. و تقول علي بفلان أي أحضره و الأصل أعجل به

علي فحذف فعل الأمر و دل الباقي عليه. و يا عدي نفسه تصغير عدو و قد يمكن أن يراد به التحقير المحض هاهنا. و يمكن أن يراد به

الاستعظام لعداوته لها و يمكن أن يخرج مخرج التحنن و الشفقة كقولك يا بني. و استهام بك الخبيث يعني الشيطان أي جعلك

هائما ضالا و الباء زائدة. فإن قيل ما معنى قوله ع أنت أهون على الله من ذلك. قلت لأن في المشاهد قد يحل الواحد منا لصاحبه فعلا

مخصوصا محاباة و مراقبة له

[11 : 34 ]

و هو يكره أن يفعله و البشر أهون على الله تعالى من أن يحل لهم أمرا مجاملة و استصلاحا للحال معهم و هو يكره منهم فعله. و قوله

هذا أنت أي فما بالنا نراك خشن الملبس و التقدير فها أنت تفعل كذا فكيف تنهى عنه. و طعام جشب أي غليظ و كذلك مجشوب و

قيل إنه الذي لا أدم معه. قوله ع أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس أي يشبهوا و يمثلوا. و تبيغ الدم بصاحبه و تبوغ به أي هاج به و

في الحديث عليكم بالحجامة لا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله

و قيل أصل يتبيغ يتبغى فقلب جذب و جبذ أي يجب على الإمام العادل أن يشبه نفسه في لباسه و طعامه بضعفة الناس جمع ضعيف

لكيلا يهلك الفقراء من الناس فإنهم إذا رأوا إمامهم بتلك الهيئة و بذلك المطعم كان أدعى لهم إلى سلوان لذات الدنيا و الصبر عن

شهوات النفوس

ذكر بعض مقامات العارفين و الزهاد

و روي أن قوما من المتصوفة دخلوا خراسان على علي بن موسى الرضا فقالوا له إن أمير المؤمنين فكر فيما ولاه الله من الأمور فرآكم

أهل البيت أولى الناس أن تؤموا الناس و نظر فيك من أهل البيت فرآك أولى الناس بالناس فرأى أن يرد هذا الأمر إليك و الإمامة

تحتاج إلى من يأكل الجشب و يلبس الخشن و يركب الحمار و يعود المريض فقال لهم إن يوسف كان نبيا يلبس أقبية الديباج

المزررة بالذهب و يجلس على متكآت آل فرعون ويحكم إنما يراد من الإمام قسطه و عدله إذا قال صدق

[11 : 35 ]

و إذا حكم عدل و إذا وعد أنجز إن الله لم يحرم لبوسا و لا مطعما ثم قرأ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ

الرِّزْقِ الآية. و هذا القول مخالف للقانون الذي أشار أمير المؤمنين إليه و للفلاسفة في هذا الباب كلام لا بأس به و قد أشار إليه أبو

علي بن سينا في كتاب الإشارات و عليه يتخرج قولا أمير المؤمنين و علي بن موسى الرضا ع قال أبو علي في مقامات العارفين

العارفون قد يختلفون في الهمم بحسب ما يختلف فيهم من الخواطر على حسب ما يختلف عندهم من دواعي العبر فربما استوى عند

العارف القشف و الترف بل ربما آثر القشف و كذلك ربما سوى عنده التفل و العطر بل ربما آثر التفل و ذلك عند ما يكون الهاجس

بباله استحقار ما عدا الحق و ربما صغا إلى الزينة و أحب من كل شيء عقيلته و كره الخداج و السقط و ذلك عند ما يعتبر عادته من

صحبته الأحوال الظاهرة فهو يرتاد إليها في كل شيء لأنه مزية خطوة من العناية الأولى و أقرب أن يكون من قبيل ما عكف عليه

بهواه و قد يختلف هذا في عارفين و قد يختلف في عارف بحسب وقتين. و اعلم أن الذي رويته عن الشيوخ و رأيته بخط عبد الله بن

أحمد بن الخشاب رحمه الله أن الربيع بن زياد الحارثي أصابته نشابة في جبينه فكانت تنتقض عليه في كل عام فأتاه علي ع عائدا

فقال كيف تجدك أبا عبد الرحمن قال أجدني يا أمير المؤمنين لو كان لا يذهب ما بي إلا بذهاب بصري لتمنيت ذهابه قال و ما قيمة

بصرك عندك قال لو كانت لي الدنيا لفديته بها قال لا جرم ليعطينك الله على قدر ذلك إن الله تعالى يعطي على قدر الألم و المصيبة

و عنده تضعيف كثير قال الربيع

[11 : 36 ]

يا أمير المؤمنين أ لا أشكو إليك عاصم بن زياد أخي قال ما له قال لبس العباء و ترك الملاء و غم أهله و حزن ولده فقال علي ادعوا لي

عاصما فلما أتاه عبس في وجهه و قال ويحك يا عاصم أ ترى الله أباح لك اللذات و هو يكره ما أخذت منها لأنت أهون على الله من

ذلك أ و ما سمعته يقول مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ثم يقول يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ و قال وَ مِنْ كُلّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ

تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها أما و الله إن ابتذال نعم الله بالفعال أحب إليه من ابتذالها بالمقال و قد سمعتم الله يقول وَ أَمّا بِنِعْمَةِ

رَبِّكَ فَحَدِّثْ و قوله مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ إن الله خاطب المؤمنين بما خاطب به المرسلين فقال

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ و قال يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً و

قال رسول الله ص لبعض نسائه ما لي أراك شعثاء مرهاء سلتاء

قال عاصم فلم اقتصرت يا أمير المؤمنين على لبس الخشن و أكل الجشب قال إن الله تعالى افترض على أئمة العدل أن يقدروا

لأنفسهم بالقوام كيلا يتبيغ بالفقير فقره فما قام علي ع حتى نزع عاصم العباء و لبس ملاءة. و الربيع بن زياد هو الذي افتتح بعض

خراسان و فيه قال عمر دلوني على رجل إذا كان

[11 : 37 ]

في القوم أميرا فكأنه ليس بأمير و إذا كان في القوم ليس بأمير فكأنه الأمير بعينه و كان خيرا متواضعا و هو صاحب الوقعة مع عمر

لما أحضر العمال فتوحش له الربيع و تقشف و أكل معه الجشب من الطعام فأقره على عمله و صرف الباقين و قد ذكرنا هذه الحكاية

فيما تقدم. و كتب زياد ابن أبيه إلى الربيع بن زياد و هو على قطعة من خراسان أن أمير المؤمنين معاوية كتب إلي يأمرك أن تحرز

الصفراء و البيضاء و تقسم الخرثي و ما أشبهه على أهل الحرب فقال له الربيع إني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين ثم

نادى في الناس أن اغدوا علي غنائمكم فأخذ الخمس و قسم الباقي على المسلمين ثم دعا الله أن يميته فما جمع حتى مات. و هو

الربيع بن زياد بن أنس بن ديان بن قطر بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن مالك بن كعب بن الحارث بن عمرو بن وعلة

بن خالد بن مالك بن أدد. و أما العلاء بن زياد الذي ذكره الرضي رحمه الله فلا أعرفه لعل غيري يعرفه

[11 : 38 ]

203- و من كلام له ع و قد سأله سائل عن أحاديث البدع و عما في أيدي الناس من اختلاف الخبر

فقال عإِنَّ فِي أَيْدِي النَّاسِ حَقّاً وَ بَاطِلًا وَ صِدْقاً وَ كَذِباً وَ نَاسِخاً وَ مَنْسُوخاً وَ عَامّاً وَ خَاصّاً وَ مُحْكَماً وَ مُتَشَابِهاً وَ حِفْظاً وَ وَهَماً وَ قَدْ كُذِبَ

عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص عَلَى عَهْدِهِ حَتَّى قَامَ خَطِيباً فَقَالَ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ وَ إِنَّمَا أَتَاكَ بِالْحَدِيثِ أَرْبَعَةُ رِجَال لَيْسَ

لَهُمْ خَامِسٌ رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلْإِيمَانِ مُتَصَنِّعٌ بِالْإِسْلَامِ لَا يَتَأَثَّمُ وَ لَا يَتَحَرَّجُ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص مُتَعَمِّداً فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ

كَاذِبٌ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ وَ لَمْ يُصَدِّقُوا قَوْلَهُ وَ لَكِنَّهُمْ قَالُوا صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ ص رَآهُ وَ سَمِعَ مِنْهُ وَ لَقِفَ عَنْهُ فَيَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ وَ قَدْ أَخْبَرَكَ

اللَّهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَخْبَرَكَ وَ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ لَكَ ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ فَتَقَرَّبُوا إِلَى أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ وَ الدُّعَاةِ إِلَى النَّارِ بِالزُّورِ وَ الْبُهْتَانِ

فَوَلَّوْهُمُ الْأَعْمَالَ وَ جَعَلُوهُمْ حُكَّاماً عَلَى رِقَابِ النَّاسِ فَأَكَلُوا بِهِمُ الدُّنْيَا وَ إِنَّمَا النَّاسُ مَعَ الْمُلُوكِ وَ الدُّنْيَا إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ فَهَذَا أَحَدُ

الْأَرْبَعَةِ وَ رَجُلٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ شَيْئاً لَمْ يَحْفَظْهُ عَلَى وَجْهِهِ فَوَهِمَ فِيهِ وَ لَمْ يَتَعَمَّدْ

[11 : 39 ]

كَذِباً فَهُوَ فِي يَدَيْهِ وَ يَرْوِيهِ وَ يَعْمَلُ بِهِ وَ يَقُولُ أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص فَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ وَهِمَ فِيهِ لَمْ يَقْبَلُوهُ مِنْهُ وَ لَوْ عَلِمَ

هُوَ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَرَفَضَهُ وَ رَجُلٌ ثَالِثٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص شَيْئاً يَأْمُرُ بِهِ ثُمَّ إِنَّهُ نَهَى عَنْهُ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ أَوْ سَمِعَهُ يَنْهَى عَنْ شَيْء ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وَ

هُوَ لَا يَعْلَمُ فَحَفِظَ الْمَنْسُوخَ وَ لَمْ يَحْفَظِ النَّاسِخَ فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ وَ لَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ إِذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ وَ

آخَرُ رَابِعٌ لَمْ يَكْذِبْ عَلَى اللَّهِ وَ لَا عَلَى رَسُولِهِ مُبْغِضٌ لِلْكَذِبِ خَوْفاً مِنَ اللَّهِ وَ تَعْظِيماً لِرَسُولِ اللَّهِ ص وَ لَمْ يَهِمْ بَلْ حَفِظَ مَا سَمِعَ عَلَى

وَجْهِهِ فَجَاءَ بِهِ عَلَى سَمْعِهِ لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ فَهُوَ حَفِظَ النَّاسِخَ فَعَمِلَ بِهِ وَ حَفِظَ الْمَنْسُوخَ فَجَنَّبَ عَنْهُ وَ عَرَفَ الْخَاصَّ وَ الْعَامَّ وَ

الْمُحْكَمَ وَ الْمُتَشَابِهَ فَوَضَعَ كُلَّ شَيْء مَوْضِعَهُ وَ قَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص الْكَلَامُ لَهُ وَجْهَانِ فَكَلَامٌ خَاصٌّ وَ كَلَامٌ عَامٌّ فَيَسْمَعُهُ مَنْ

لَا يَعْرِفُ مَا عَنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ وَ لَا مَا عَنَى رَسُولُ اللَّهِ ص فَيَحْمِلُهُ السَّامِعُ وَ يُوَجِّهُهُ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَة بِمَعْنَاهُ وَ مَا قَصَدَ بِهِ وَ مَا خَرَجَ مِنْ

أَجْلِهِ وَ لَيْسَ كُلُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ص مَنْ كَانَ يَسْأَلُهُ وَ يَسْتَفْهِمُهُ حَتَّى إِنْ كَانُوا لَيُحِبُّونَ أَنْ يَجِيءَ الْأَعْرَابِيُّ وَ الطَّارِئُ فَيَسْأَلَهُ ع حَتَّى

يَسْمَعُوا وَ كَانَ لَا يَمُرُّ بِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ وَ حَفِظْتُهُ فَهَذِهِ وُجُوهُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي اخْتِلَافِهِمْ وَ عِلَلِهِمْ فِي رِوَايَاتِهِمْ

[11 : 40 ]

الكلام في تفسير الألفاظ الأصولية و هي العام و الخاص و الناسخ و المنسوخ و الصدق و الكذب و المحكم و المتشابه موكول إلى

فن أصول الفقه و قد ذكرناه فيما أمليناه من الكتب الأصولية و الإطالة بشرح ذلك في هذا الموضع مستهجنة. قوله ع و حفظا و وهما

الهاء مفتوحة و هي مصدر وهمت بالكسر أوهم أي غلطت و سهوت و قد روي وهما بالتسكين و هو مصدر وهمت بالفتح أوهم إذا ذهب

وهمك إلى شيء و أنت تريد غيره و المعنى متقارب. و

قول النبي ص فليتبوأ مقعده من النار

كلام صيغته الأمر و معناه الخبر كقوله تعالى قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا و تبوأت المنزل نزلته و بوأته منزلا

أنزلته فيه. و التأثم الكف عن موجب الإثم و التحرج مثله و أصله الضيق كأنه يضيق على نفسه. و لقف عنه تناول عنه. و جنب عنه أخذ

عنه جانبا. و إن في قوله حتى إن كانوا ليحبون مخففة من الثقيلة و لذلك جاءت اللام في الخبر. و الطارئ بالهمز الطالع عليهم طرأ

أي طلع و قد روي عللهم بالرفع عطفا على وجوه و روي بالجر عطفا على اختلافهم

[11 : 41 ]

ذكر بعض أحوال المنافقين بعد وفاة محمد ع

و اعلم أن هذا التقسيم صحيح و قد كان في أيام الرسول ص منافقون و بقوا بعده و ليس يمكن أن يقال إن النفاق مات بموته و

السبب في استتار حالهم بعده أنه ص كان لا يزال بذكرهم بما ينزل عليه من القرآن فإنه مشحون بذكرهم أ لا ترى أن أكثر ما نزل

بالمدينة من القرآن مملوء بذكر المنافقين فكان السبب في انتشار ذكرهم و أحوالهم و حركاتهم هو القرآن فلما انقطع الوحي بموته

ص لم يبق من ينعى عليهم سقطاتهم و يوبخهم على أعمالهم و يأمر بالحذر منهم و يجاهرهم تارة و يجاملهم تارة و صار المتولي للأمر

بعده يحمل الناس كلهم على كاهل المجاملة و يعاملهم بالظاهر و هو الواجب في حكم الشرع و السياسة الدنيوية بخلاف حال

الرسول ص فإنه كان تكليفه معهم غير هذا التكليف أ لا ترى أنه قيل له وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَد مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً فهذا يدل على أنه كان

يعرفهم بأعيانهم و إلا كان النهي له عن الصلاة عليهم تكليف ما لا يطاق و الوالي بعده لا يعرفهم بأعيانهم فليس مخاطبا بما خوطب

به ص في أمرهم و لسكوت الخلفاء عنهم بعده خمل ذكرهم فكان قصارى أمر المنافق أن يسر ما في قلبه و يعامل المسلمين بظاهره و

يعاملونه بحسب ذلك ثم فتحت عليهم البلاد و كثرت الغنائم فاشتغلوا بها عن الحركات التي كانوا يعتمدونها أيام رسول الله و

بعثهم الخلفاء مع الأمراء إلى بلاد فارس و الروم فألهتهم الدنيا عن الأمور التي كانت تنقم منهم في حياة رسول الله ص و منهم من

استقام اعتقاده و خلصت نيته لما رأوا الفتوح و إلقاء الدنيا أفلاذ كبدها من الأموال العظيمة و الكنوز الجليلة إليهم فقالوا لو لم

يكن هذا الدين

[11 : 42 ]

حقا لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه و بالجملة لما تركوا تركوا و حيث سكت عنهم سكتوا عن الإسلام و أهله إلا في دسيسة خفية

يعملونها نحو الكذب الذي أشار إليه أمير المؤمنين ع فإنه خالط الحديث كذب كثير صدر عن قوم غير صحيحي العقيدة قصدوا به

الإضلال و تخبيط القلوب و العقائد و قصد به بعضهم التنويه بذكر قوم كان لهم في التنويه بذكرهم غرض دنيوي و قد قيل إنه افتعل

في أيام معاوية خاصة حديث كثير على هذا الوجه و لم يسكت المحدثون الراسخون في علم الحديث عن هذا بل ذكروا كثيرا من هذه

الأحاديث الموضوعة و بينوا وضعها و أن رواتها غير موثوق بهم إلا أن المحدثين إنما يطعنون فيما دون طبقة الصحابة و لا

يتجاسرون في الطعن على أحد من الصحابة لأن عليه لفظ الصحبة على أنهم قد طعنوا في قوم لهم صحبة كبسر بن أرطاة و غيره. فإن

قلت من هم أئمة الضلالة الذين يتقرب إليهم المنافقون الذين رأوا رسول الله ص و صحبوه للزور و البهتان و هل هذا إلا تصريح بما

تذكره الإمامية و تعتقده. قلت ليس الأمر كما ظننت و ظنوا و إنما يعني معاوية و عمرو بن العاص و من شايعهما على الضلال كالخبر

الذي رواه من في حق معاوية اللهم قه العذاب و الحساب و علمه الكتاب و كرواية عمرو بن العاص تقربا إلى قلب معاوية إن آل أبي

طالب ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله و صالح المؤمنين و كرواية قوم في أيام معاوية أخبارا كثيرة من فضائل عثمان تقربا إلى

معاوية بها و لسنا نجحد فضل عثمان و سابقته و لكنا نعلم أن بعض الأخبار الواردة فيه موضوع كخبر عمرو بن مرة فيه و هو مشهور و

عمر بن مرة ممن له صحبة و هو شامي

[11 : 43 ]

ذكر بعض ما مني به آل البيت من الأذى و الاضطهاد

و ليس يجب من قولنا إن بعض الأخبار الواردة في حق شخص فاضل مفتعلة أن تكون قادحة في فضل ذلك الفاضل فإنا مع اعتقادنا أن

عليا أفضل الناس نعتقد أن بعض الأخبار الواردة في فضائله مفتعل و مختلق. و قد روي

أن أبا جعفر محمد بن علي الباقر ع قال لبعض أصحابه يا فلان ما لقينا من ظلم قريش إيانا و تظاهرهم علينا و ما لقي شيعتنا و محبونا

من الناس إن رسول الله ص قبض و قد أخبر أنا أولى الناس بالناس فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه و احتجت على

الأنصار بحقنا و حجتنا ثم تداولتها قريش واحد بعد واحد حتى رجعت إلينا فنكثت بيعتنا و نصبت الحرب لنا و لم يزل صاحب الأمر في

صعود كئود حتى قتل فبويع الحسن ابنه و عوهد ثم غدر به و أسلم و وثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه و نهبت عسكره

و عولجت خلاليل أمهات أولاده فوادع معاوية و حقن دمه و دماء أهل بيته و هم قليل حق قليل ثم بايع الحسين ع من أهل العراق

عشرون ألفا ثم غدروا به و خرجوا عليه و بيعته في أعناقهم و قتلوه ثم لم نزل أهل البيت نستذل و نستضام و نقصى و نمتهن و

نحرم و نقتل و نخاف و لا نأمن على دمائنا و دماء أوليائنا و وجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم و جحودهم موضعا يتقربون به إلى

أوليائهم و قضاة السوء و عمال السوء في كل بلدة فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة و رووا عنا ما لم نقله و ما لم نفعله

ليبغضونا إلى الناس و كان عظم ذلك و كبره زمن معاوية بعد موت الحسن ع فقتلت شيعتنا بكل بلدة و قطعت الأيدي و الأرجل على

الظنة و كان من يذكر بحبنا و الانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره ثم لم يزل البلاء يشتد و يزداد

[11 : 44 ]

إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين ع ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة و أخذهم بكل ظنة و تهمة حتى أن الرجل ليقال له

زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال شيعة علي و حتى صار الرجل الذي يذكر بالخير و لعله يكون ورعا صدوقا يحدث بأحاديث عظيمة

عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة و لم يخلق الله تعالى شيئا منها و لا كانت و لا وقعت و هو يحسب أنها حق لكثرة من قد

رواها ممن لم يعرف بكذب و لا بقلة ورع

و روى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني في كتاب الأحداث قال كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة

أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب و أهل بيته فقامت الخطباء في كل كورة و على كل منبر يلعنون عليا و يبرءون منه و

يقعون فيه و في أهل بيته و كان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي ع فاستعمل عليهم زياد ابن سمية و

ضم إليه البصرة فكان يتتبع الشيعة و هو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي ع فقتلهم تحت كل حجر و مدر و أخافهم و قطع الأيدي و

الأرجل و سمل العيون و صلبهم على جذوع النخل و طرفهم و شردهم عن العراق فلم يبق بها معروف منهم و كتب معاوية إلى عماله

في جميع الآفاق ألا يجيزوا لأحد من شيعة علي و أهل بيته شهادة و كتب إليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان و محبيه و أهل

ولايته و الذين يروون فضائله و مناقبه فادنوا مجالسهم و قربوهم و أكرموهم و اكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم و اسمه و اسم

أبيه و عشيرته. ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان و مناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات و الكساء و الحباء و

القطائع و يفيضه في العرب منهم و الموالي فكثر ذلك في كل مصر و تنافسوا في المنازل و الدنيا فليس يجيء أحد مردود من الناس

عاملا من

[11 : 45 ]

عمال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه و قربه و شفعه فلبثوا بذلك حينا. ثم كتب إلى عماله أن الحديث في

عثمان قد كثر و فشا في كل مصر و في كل وجه و ناحية فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة و الخلفاء

الأولين و لا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا و تأتوني بمناقض له في الصحابة فإن هذا أحب إلى و أقر لعيني و

أدحض لحجة أبي تراب و شيعته و أشد عليهم من مناقب عثمان و فضله. فقرئت كتبه على الناس فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة

مفتعلة لا حقيقة لها وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر و ألقي إلى معلمي الكتاتيب فعلموا

صبيانهم و غلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه و تعلموه كما يتعلمون القرآن و حتى علموه بناتهم و نساءهم و خدمهم و

حشمهم فلبثوا بذلك ما شاء الله. ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا و

أهل بيته فامحوه من الديوان و أسقطوا عطاءه و رزقه و شفع ذلك بنسخة أخرى من اتهمتموه بمولاه هؤلاء القوم فنكلوا به و أهدموا

داره فلم يكن البلاء أشد و لا أكثر منه بالعراق و لا سيما بالكوفة حتى أن الرجل من شيعة علي ع ليأتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقي

إليه سره و يخاف من خادمه و مملوكه و لا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه فظهر حديث كثير موضوع و بهتان

منتشر و مضى على ذلك الفقهاء و القضاة و الولاة و كان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراءون و المستضعفون الذين يظهرون

الخشوع و النسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم و يقربوا مجالسهم و يصيبوا به الأموال و الضياع

[11 : 46 ]

و المنازل حتى انتقلت تلك الأخبار و الأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب و البهتان فقبلوها و رووها و هم يظنون

أنها حق و لو علموا أنها باطلة لما رووها و لا تدينوا بها. فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي ع فازداد البلاء و الفتنة فلم

يبق أحد من هذا القبيل إلا و هو خائف على دمه أو طريد في الأرض. ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين ع و ولي عبد الملك بن مروان

فاشتد على الشيعة و ولى عليهم الحجاج بن يوسف فتقرب إليه أهل النسك و الصلاح و الدين ببغض علي و موالاة أعدائه و موالاة

من يدعي من الناس أنهم أيضا أعداؤه فأكثروا في الرواية في فضلهم و سوابقهم و مناقبهم و أكثروا من الغض من علي ع و عيبه و

الطعن فيه و الشنئان له حتى أن إنسانا وقف للحجاج و يقال إنه جد الأصمعي عبد الملك بن قريب فصاح به أيها الأمير إن أهلي

عقوني فسموني عليا و إني فقير بائس و أنا إلى صلة الأمير محتاج فتضاحك له الحجاج و قال للطف ما توسلت به قد وليتك موضع

كذا. و قد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه و هو من أكابر المحدثين و أعلامهم في تاريخه ما يناسب هذا الخبر و قال إن أكثر

الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية تقربا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم. قلت و لا

يلزم من هذا أن يكون علي ع يسوءه أن يذكر الصحابة و المتقدمون عليه بالخير و الفضل إلا أن معاوية و بني أمية كانوا يبنون الأمر

من هذا على ما يظنونه في علي ع من أنه عدو من تقدم عليه و لم يكن الأمر في الحقيقة كما

[11 : 47 ]

يظنونه و لكنه كان يرى أنه أفضل منهم و أنهم استأثروا عليه بالخلافة من غير تفسيق منه لهم و لا براءة منهم.

فأما قوله ع و رجل سمع من رسول الله شيئا و لم يحفظه على وجهه فوهم فيه فقد وقع ذلك و قال أصحابنا في الخبر الذي رواه عبد

الله بن عمر أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه إن ابن عباس لما روي له هذا الخبر قال ذهل ابن عمر إنما مر رسول الله ص على قبر

يهودي فقال إن أهله ليبكون عليه و إنه ليعذب. و قالوا أيضا إن عائشة أنكرت ذلك و قالت ذهل أبو عبد الرحمن كما ذهل في خبر

قليب بدر

إنما قال ع إنهم ليبكون عليه و إنه ليعذب بجرمه

قالوا و موضع غلطه في خبر القليب أنه

روى أن النبي ص وقف على قليب بدر فقال هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ثم قال إنهم يسمعون ما أقول لهم

فأنكرت عائشة ذلك و قالت إنما

قال إنهم يعلمون أن الذي كنت أقوله لهم هو الحق

و استشهد بقوله تعالى إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى. فأما الرجل الثالث و هو الذي يسمع المنسوخ و لم يسمع الناسخ فقد وقع كثيرا و

كتب الحديث و الفقه مشحونة بذلك كالذين أباحوا لحوم الحمر الأهلية لخبر رووه في ذلك و لم يرووا الخبر الناسخ. و أما الرجل

الرابع فهم العلماء الراسخون في العلم. و أما قوله ع و قد كان يكون من رسول الله ص الكلام له

[11 : 48 ]

وجهان فهذا داخل في القسم الثاني و غير خارج عنه و لكنه كالنوع من الجنس لأن الوهم و الغلط جنس تحته أنواع. و اعلم أن أمير

المؤمنين ع كان مخصوصا من دون الصحابة رضوان الله عليهم بخلوات كان يخلو بها مع رسول الله ص لا يطلع أحد من الناس على

ما يدور بينهما و كان كثير السؤال للنبي ص عن معاني القرآن و عن معاني كلامه ص و إذا لم يسأل ابتدأه النبي ص بالتعليم و التثقيف

و لم يكن أحد من أصحاب النبي ص كذلك بل كانوا أقساما فمنهم من يهابه أن يسأله و هم الذين يحبون أن يجيء الأعرابي أو

الطارئ فيسأله و هم يسمعون و منهم من كان بليدا بعيد الفهم قليل الهمة في النظر و البحث و منهم من كان مشغولا عن طلب العلم

و فهم المعاني إما بعبادة أو دنيا و منهم المقلد يرى أن فرضه السكوت و ترك السؤال و منهم المبغض الشانئ الذي ليس للدين عنده

من الموقع ما يضيع وقته و زمانه بالسؤال عن دقائقه و غوامضه و انضاف إلى الأمر الخاص بعلي ع ذكاؤه و فطنته و طهارة طينته و

إشراق نفسه و ضوءها و إذا كان المحل قابلا متهيئا كان الفاعل المؤثر موجودا و الموانع مرتفعة حصل الأثر على أتم ما يمكن

فلذلك كان علي ع كما قال الحسن البصري رباني هذه الأمة و ذا فضلها و لذا تسميه الفلاسفة إمام الأئمة و حكيم العرب

فصل فيما وضع الشيعة و البكرية من الأحاديث

و اعلم أن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة فإنهم وضعوا

[11 : 49 ]

في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم حملهم على وضعها عداوة خصومهم نحو حديث السطل و حديث الرمانة و حديث غزوة

البئر التي كان فيها الشياطين و تعرف كما زعموا بذات العلم و حديث غسل سلمان الفارسي و طي الأرض و حديث الجمجمة و نحو

ذلك فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث نحو لو كنت متخذا خليلا فإنهم وضعوه في

مقابلة حديث الإخاء و نحو سد الأبواب فإنه كان لعلي ع فقلبته البكرية إلى أبي بكر و نحو ايتوني بدواة و بياض أكتب فيه لأبي بكر

كتابا لا يختلف عليه اثنان ثم قال يأبى الله تعالى و المسلمون إلا أبا بكر فإنهم وضعوه في مقابلة

الحديث المروي عنه في مرضه ايتوني بدواة و بياض أكتب لكم ما لا تضلون بعده أبدا

فاختلفوا عنده و قال قوم منهم لقد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله و نحو حديث أنا راض عنك فهل أنت عني راض و نحو ذلك فلما رأت

الشيعة ما قد وضعت البكرية أوسعوا في وضع الأحاديث فوضعوا حديث الطوق الحديد الذي زعموا أنه فتله في عنق خالد و حديث

اللوح الذي زعموا أنه كان في غدائر الحنفية أم محمد و حديث لا يفعلن خالد ما آمر به و حديث الصحيفة التي علقت عام الفتح

بالكعبة و حديث الشيخ الذي صعد المنبر يوم بويع أبو بكر فسبق الناس إلى بيعته و أحاديث مكذوبة كثيرة تقتضي نفاق قوم من

أكابر الصحابة و التابعين الأولين و كفرهم و علي أدون الطبقات فيهم فقابلتهم البكرية بمطاعن كثيرة في علي و في ولديه و نسبوه

تارة إلى ضعف العقل و تارة إلى ضعف السياسة و تارة إلى حب الدنيا و الحرص عليها و لقد كان الفريقان في غنية عما اكتسباه و

اجترحاه و لقد كان في فضائل علي ع الثابتة الصحيحة و فضائل أبي بكر المحققة

[11 : 50 ]

المعلومة ما يغني عن تكلف العصبية لهما فإن العصبية لهما أخرجت الفريقين من ذكر الفضائل إلى ذكر الرذائل و من تعديد المحاسن

إلى تعديد المساوئ و المقابح و نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الميل إلى الهوى و حب العصبية و أن يجرينا على ما عودنا من حب

الحق أين وجد و حيث كان سخط ذلك من سخط و رضي به من رضي بمنه و لطفه

[11 : 51 ]

204- و من خطبة له ع

وَ كَانَ مِنِ اقْتِدَارِ جَبَرُوتِهِ وَ بَدِيعِ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ أَنْ جَعَلَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ الزَّاخِرِ الْمُتَرَاكِمِ الْمُتَقَاصِفِ يَبَساً جَامِداً ثُمَّ فَطَرَ مِنْهُ أَطْبَاقاً

فَفَتَقَهَا سَبْعَ سَمَوَات بَعْدَ ارْتِتَاقِهَا فَاسْتَمْسَكَتْ بِأَمْرِهِ وَ قَامَتْ عَلَى حَدِّهِ يَحْمِلُهَا الْأَخْضَرُ الْمُثْعَنْجِرُ وَ الْقَمْقَامُ الْمُسَخَّرُ قَدْ ذَلَّ لِأَمْرِهِ وَ أَذْعَنَ

لِهَيْبَتِهِ وَ وَقَفَ الْجَارِي مِنْهُ لِخَشْيَتِهِ وَ جَبَلَ جَلَامِيدَهَا وَ نُشُوزَ مُتُونِهَا وَ أَطْوَادَهَا فَأَرْسَاهَا فِي مَرَاسِيهَا وَ أَلْزَمَهَا قَرَارَتَهَا فَمَضَتْ رُءُوسُهَا فِي

الْهَوَاءِ وَ رَسَتْ أُصُولُهَا فِي الْمَاءِ فَأَنْهَدَ جِبَالَهَا عَنْ سُهُولِهَا وَ أَسَاخَ قَوَاعِدَهَا فِي مُتُونِ أَقْطَارِهَا وَ مَوَاضِعِ أَنْصَابِهَا فَأَشْهَقَ قِلَالَهَا وَ أَطَالَ

أَنْشَازَهَا وَ جَعَلَهَا لِلْأَرْضِ عِمَاداً وَ أَرَّزَهَا فِيهَا أَوْتَاداً فَسَكَنَتْ عَلَى حَرَكَتِهَا مِنْ أَنْ تَمِيدَ بِأَهْلِهَا أَوْ تَسِيخَ بِحِمْلِهَا أَوْ تَزُولَ عَنْ مَوَاضِعِهَا

فَسُبْحَانَ مَنْ أَمْسَكَهَا بَعْدَ مَوَجَانِ مِيَاهِهَا وَ أَجْمَدَهَا بَعْدَ رُطُوبَةِ أَكْنَافِهَا فَجَعَلَهَا لِخَلْقِهِ مِهَاداً وَ بَسَطَهَا لَهُمْ فِرَاشاً فَوْقَ بَحْر لُجِّيّ رَاكِد لَا

يَجْرِي وَ قَائِم لَا يَسْرِي تُكَرْكِرُهُ الرِّيَاحُ الْعَوَاصِفُ وَ تَمْخُضُهُ الْغَمَامُ الذَّوَارِفُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى

[11 : 52 ]

أراد أن يقول و كان من اقتداره فقال و كان من اقتدار جبروته تعظيما و تفخيما كما يقال للملك أمرت الحضرة الشريفة بكذا و البحر

الزاخر الذي قد امتد جدا و ارتفع و المتراكم المجتمع بعضه على بعض و المتقاصف الشديد الصوت قصف الرعد و غيره قصيفا. و

اليبس بالتحريك المكان يكون رطبا ثم ييبس و منه قوله تعالى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً و اليبس بالسكون اليابس

خلقة حطب يبس هكذا يقوله أهل اللغة و فيه كلام لأن الحطب ليس يابسا خلقة بل كان رطبا من قبل فالأصوب أن يقال لا تكون هذه

اللفظة محركة إلا في المكان خاصة و فطر خلق و المضارع يفطر بالضم فطرا. و الأطباق جمع طبق و هو أجزاء مجتمعة من جراد أو

غيم أو ناس أو غير ذلك من حيوان أو جماد يقول خلق منه أجساما مجتمعة مرتتقة ثم فتقها سبع سموات و روي ثم فطر منه طباقا أي

أجساما منفصلة في الحقيقة متصلة في الصورة بعضها فوق بعض و هي من ألفاظ القرآن المجيد و الضمير في منه يرجع إلى ماء البحر

في أظهر النظر و قد يمكن أن يرجع إلى اليبس. و اعلم أنه قد تكرر في كلام أمير المؤمنين ما يماثل هذا القول و يناسبه و هو مذهب

[11 : 53 ]

كثير من الحكماء الذين قالوا بحدوث السماء منهم ثاليس الملطي قالوا أصل الأجسام الماء و خلقت الأرض من زبده و السماء من

بخاره و قد جاء القرآن العزيز بنحو هذا قال سبحانه الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّام وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ. قال شيخنا

أبو علي و أبو القاسم رحمهما الله في تفسيريهما هذه الآية دالة على أن الماء و العرش كانا قبل خلق السموات و الأرض قالا و كان

الماء على الهواء قالا و هذا يدل أيضا علي أن الملائكة كانوا موجودين قبل خلق السموات و الأرض لأن الحكيم سبحانه لا يجوز أن

يقدم خلق الجماد على خلق المكلفين لأنه يكون عبثا. و قال علي بن عيسى الرماني من مشايخنا أنه غير ممتنع أن يخلق الجماد قبل

الحيوان إذا علم أن في إخبار المكلفين بذلك لطفا لهم و لا يصح أن يخبرهم إلا و هو صادق فيما أخبر به و إنما يكون صادقا إذا كان

المخبر خبره على ما أخبر عنه و في ذلك حسن تقديم خلق الجماد على خلق الحيوان و كلام أمير المؤمنين ع يدل على أنه كان يذهب

إلى أن الأرض موضوعة على ماء البحر و أن البحر حامل لها بقدرة الله تعالى و هو معنى قوله يحملها الأخضر المثعنجر و القمقام

المسخر و أن البحر الحامل لها قد كان جاريا فوقف تحتها و أنه تعالى خلق الجبال في الأرض فجعل أصولها راسخة في ماء البحر

الحامل للأرض و أعاليها شامخة في الهواء و أنه سبحانه جعل هذه الجبال عمادا للأرض و أوتادا تمنعها من الحركة و الاضطراب و

لولاها لماجت و اضطربت و أن هذا البحر الحامل للأرض تصعد فيه الرياح الشديدة فتحركه حركة عنيفة و تموج السحب التي تغترف

الماء منه لتمطر الأرض به و هذا كله مطابق لما في الكتاب العزيز و السنة النبوية و النظر الحكمي أ لا ترى إلى قوله تعالى أَ وَ لَمْ يَرَ

الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ

[11 : 54 ]

كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما

و هذا هو صريح قوله ع ففتقها سبع سموات بعد ارتتاقها و إلى قوله تعالى وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ و إلى ما ورد في

الخبر من أن الأرض مدحوة على الماء و أن الرياح تسوق السحب إلى الماء نازلة ثم تسوقها عنه صاعدة بعد امتلائها ثم تمطر. و أما

النظر الحكمي فمطابق لكلامه إذا تأمله المتأمل و حمله على المحمل العقلي و ذلك لأن الأرض هي آخر طبقات العناصر و قبلها عنصر

الماء و هو محيط بالأرض كلها إلا ما برز منها و هو مقدار الربع من كرة الأرض على ما ذكره علماء هذا الفن و برهنوا عليه فهذا تفسير

قوله ع يحملها الأخضر المثعنجر. و أما قوله و وقف الجاري منه لخشيته فلا يدل دلالة قاطعة على أنه كان جاريا و وقف و لكن ذلك

كلام خرج مخرج التعظيم و التبجيل و معناه أن الماء طبعه الجريان و السيلان فهو جار بالقوة و إن لم يكن جاريا بالفعل و إنما

وقف و لم يجر بالفعل بقدرة الله تعالى المانعة له من السيلان و ليس قوله و رست أصولها في الماء مما ينافي النظر العقلي لأنه لم

يقل و رست أصولها في ماء البحر و لكنه قال في الماء و لا شبهة في أن أصول الجبال راسية في الماء المتخلخل بين أجزاء الأرض

فإن الأرض كلها يتخلخل الماء بين أجزائها على طريق استحالة البخار من الصورة الهوائية إلى الصورة المائية. و ليس ذكره للجبال

و كونها مانعة للأرض من الحركة بمناف أيضا للنظر الحكمي لأن الجبال في الحقيقة قد تمنع من الزلزلة إذا وجدت أسبابها الفاعلة

فيكون ثقلها مانعا من الهدة و الرجفة.

السابق

التالي