السابق

التالي

[9 : 50 ]

طلحة يومئذ بالشام و قال عمر إن رسول الله ص قبض و هو عن هؤلاء راض فهم أحق بهذا الأمر من غيرهم و أوصى صهيب بن سنان

مولى عبد الله بن جدعان و يقال إن أصله من حي من ربيعة بن نزار يقال لهم عنزة فأمره أن يصلي بالناس حتى يرضى هؤلاء القوم رجلا

منهم و كان عمر لا يشك أن هذا الأمر صائر إلى أحد الرجلين علي و عثمان و قال إن قدم طلحة فهو معهم و إلا فلتختر الخمسة واحدا

منها و روي أن عمر قبل موته أخرج سعد بن مالك من أهل الشورى و قال الأمر في هؤلاء الأربعة و دعوا سعدا على حاله أميرا بين يدي

الإمام ثم قال و لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا لما تخالجتني فيه الشكوك فإن اجتمع ثلاثة على واحد فكونوا مع الثلاثة و إن

اختلفوا فكونوا مع الجانب الذي فيه عبد الرحمن. و قال لأبي طلحة الأنصاري يا أبا طلحة فو الله لطالما أعز الله بكم الدين و نصر

بكم الإسلام اختر من المسلمين خمسين رجلا فائت بهم هؤلاء القوم في كل يوم مرة فاستحثوهم حتى يختاروا لأنفسهم و للأمة رجلا

منهم. ثم جمع قوما من المهاجرين و الأنصار فأعلمهم ما أوصى به و كتب في وصيته أن يولي الإمام سعد بن مالك الكوفة و أبا موسى

الأشعري لأنه كان عزل سعدا عن سخطة فأحب أن يطلب ذلك إلى من يقوم بالأمر من بعده استرضاء لسعد. قال الشعبي فحدثني من لا

أتهمه من الأنصار و قال أحمد بن عبد العزيز الجوهري هو سهل بن سعد الأنصاري قال مشيت وراء علي بن أبي طالب حيث انصرف من

عند عمر و العباس بن عبد المطلب يمشي في جانبه فسمعته يقول للعباس ذهبت منا و الله فقال كيف علمت قال أ لا تسمعه يقول

كونوا في الجانب الذي فيه عبد الرحمن لأنه ابن عمه و عبد الرحمن نظير عثمان و هو صهره فإذا اجتمع هؤلاء فلو أن الرجلين

[9 : 51 ]

الباقيين كانا معي لم يغنيا عني شيئا مع أني لست أرجو إلا أحدهما و مع ذلك فقد أحب عمر أن يعلمنا أن لعبد الرحمن عنده فضلا علينا

لعمر الله ما جعل الله ذلك لهم علينا كما لم يجعله لأولادهم على أولادنا أما و الله لئن عمر لم يمت لأذكرته ما أتى إلينا قديما و

لأعلمته سوء رأيه فينا و ما أتى إلينا حديثا و لئن مات و ليموتن ليجتمعن هؤلاء القوم على أن يصرفوا هذا الأمر عنا و لئن فعلوها و

ليفعلن ليرونني حيث يكرهون و الله ما بي رغبة في السلطان و لا حب الدنيا و لكن لإظهار العدل و القيام بالكتاب و السنة. قال ثم

التفت فرآني وراءه فعرفت أنه قد ساءه ذلك فقلت لا ترع أبا حسن لا و الله لا يستمع أحد الذي سمعت منك في الدنيا ما اصطحبنا

فيها فو الله ما سمعه مني مخلوق حتى قبض الله عليا إلى رحمته. قال عوانة فحدثنا إسماعيل قال حدثني الشعبي قال فلما مات عمر و

أدرج في أكفانه ثم وضع ليصلى عليه تقدم علي بن أبي طالب فقام عند رأسه و تقدم عثمان فقام عند رجليه فقال علي ع هكذا ينبغي أن

تكون الصلاة فقال عثمان بل هكذا فقال عبد الرحمن ما أسرع ما اختلفتم يا صهيب صل على عمر كما رضي أن تصلي بهم المكتوبة

فتقدم صهيب فصلى على عمر. قال الشعبي و أدخل أهل الشورى دارا فأقبلوا يتجادلون عليها و كلهم بها ضنين و عليها حريص إما

لدنيا و إما لآخرة فلما طال ذلك قال عبد الرحمن من رجل منكم يخرج نفسه عن هذا الأمر و يختار لهذه الأمة رجلا منكم فإني طيبة

نفسي أن أخرج منها و أختار لكم قالوا قد رضينا إلا علي بن أبي طالب فإنه اتهمه و قال أنظر و أرى فأقبل أبو طلحة عليه و قال يا أبا

الحسن ارض برأي عبد الرحمن كان الأمر لك أو لغيرك فقال علي أعطني يا عبد الرحمن موثقا من الله لتؤثرن الحق و لا تتبع الهوى

[9 : 52 ]

و لا تمل إلى صهر و لا ذي قرابة و لا تعمل إلا لله و لا تألو هذه الأمة أن تختار لها خيرها قال فحلف له عبد الرحمن بالله الذي لا إله

إلا هو لأجتهدن لنفسي و لكم و للأمة و لا أميل إلى هوى و لا إلى صهر و لا ذي قرابة قال فخرج عبد الرحمن فمكث ثلاثة أيام يشاور

الناس ثم رجع و اجتمع الناس و كثروا على الباب لا يشكون أنه يبايع علي بن أبي طالب و كان هوى قريش كافة ما عدا بني هاشم في

عثمان و هوى طائفة من الأنصار مع علي و هوى طائفة أخرى مع عثمان و هي أقل الطائفتين و طائفة لا يبالون أيهما بويع. قال فأقبل

المقداد بن عمرو و الناس مجتمعون فقال أيها الناس اسمعوا ما أقول أنا المقداد بن عمرو إنكم إن بايعتم عليا سمعنا و أطعنا و إن

بايعتم عثمان سمعنا و عصينا فقام عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي فنادى أيها الناس إنكم إن بايعتم عثمان سمعنا و

أطعنا و إن بايعتم عليا سمعنا و عصينا فقال له المقداد يا عدو الله و عدو رسوله و عدو كتابه و متى كان مثلك يسمع له الصالحون

فقال له عبد الله يا ابن الحليف العسيف و متى كان مثلك يجترئ على الدخول في أمر قريش. فقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح أيها

الملأ إن أردتم ألا تختلف قريش فيما بينها فبايعوا عثمان فقال عمار بن ياسر إن أردتم ألا يختلف المسلمون فيما بينهم فبايعوا عليا

ثم أقبل على عبد الله بن سعد بن أبي سرح فقال يا فاسق يا ابن الفاسق أ أنت ممن يستنصحه المسلمون أو يستشيرونه في أمورهم و

ارتفعت الأصوات و نادى مناد لا يدرى من هو فقريش تزعم أنه رجل من بني مخزوم و الأنصار تزعم أنه رجل طوال آدم مشرف على

الناس لا يعرفه أحد منهم يا عبد الرحمن افرغ من أمرك و امض على ما في نفسك فإنه الصواب.

[9 : 53 ]

قال الشعبي فأقبل عبد الرحمن على علي بن أبي طالب فقال عليك عهد الله و ميثاقه و أشد ما أخذ الله على النبيين من عهد و ميثاق إن

بايعتك لتعملن بكتاب الله و سنة رسوله و سيرة أبي بكر و عمر فقال علي ع طاقتي و مبلغ علمي و جهد رأيي و الناس يسمعون. فأقبل

على عثمان فقال له مثل ذلك فقال نعم لا أزول عنه و لا أدع شيئا منه ثم أقبل على علي فقال له ذلك ثلاث مرات و لعثمان ثلاث مرات

في كل ذلك يجيب علي مثل ما كان أجاب به و يجيب عثمان بمثل ما كان أجاب به. فقال ابسط يدك يا عثمان فبسط يده فبايعه و قام

القوم فخرجوا و قد بايعوا إلا علي بن أبي طالب فإنه لم يبايع. قال فخرج عثمان على الناس و وجهه متهلل و خرج علي و هو كاسف

البال مظلم و هو يقول يا ابن عوف ليس هذا بأول يوم تظاهرتم علينا من دفعنا عن حقنا و الاستئثار علينا و إنها لسنة علينا و طريقة

تركتموها. فقال المغيرة بن شعبة لعثمان أ ما و الله لو بويع غيرك لما بايعناه فقال عبد الرحمن بن عوف كذبت و الله لو بويع غيره

لبايعته و ما أنت و ذاك يا ابن الدباغة و الله لو وليها غيره لقلت له مثل ما قلت الآن تقربا إليه و طمعا في الدنيا فاذهب لا أبا لك.

فقال المغيرة لو لا مكان أمير المؤمنين لأسمعتك ما تكره و مضيا. قال الشعبي فلما دخل عثمان رحله دخل إليه بنو أمية حتى امتلأت

بهم الدار ثم أغلقوها عليهم فقال أبو سفيان بن حرب أ عندكم أحد من غيركم قالوا لا قال يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة فو الذي

يحلف به أبو سفيان ما من عذاب و لا حساب و لا جنة و لا نار و لا بعث و لا قيامة.

[9 : 54 ]

قال فانتهره عثمان و ساءه بما قال و أمر بإخراجه. قال الشعبي فدخل عبد الرحمن بن عوف على عثمان فقال له ما صنعت فو الله ما

وفقت حيث تدخل رحلك قبل أن تصعد المنبر فتحمد الله و تثني عليه و تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر و تعد الناس خيرا. قال

فخرج عثمان فصعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال هذا مقام لم نكن نقومه و لم نعد له من الكلام الذي يقام به في مثله و

سأهيئ ذلك إن شاء الله و لن آلو أمة محمد خيرا و الله المستعان. ثم نزل.

قال عوانة فحدثني يزيد بن جرير عن الشعبي عن شقيق بن مسلمة أن علي بن أبي طالب لما انصرف إلى رحله قال لبني أبيه يا بني عبد

المطلب إن قومكم عادوكم بعد وفاة النبي كعداوتهم النبي في حياته و إن يطع قومكم لا تؤمروا أبدا و و الله لا ينيب هؤلاء إلى

الحق إلا بالسيف قال و عبد الله بن عمر بن الخطاب داخل إليهم قد سمع الكلام كله فدخل و قال يا أبا الحسن أ تريد أن تضرب

بعضهم ببعض فقال اسكت ويحك فو الله لو لا أبوك و ما ركب مني قديما و حديثا ما نازعني ابن عفان و لا ابن عوف

فقام عبد الله فخرج. قال و أكثر الناس في أمر الهرمزان و عبيد الله بن عمر و قتله إياه و بلغ ما قال فيه علي بن أبي طالب فقام عثمان

فصعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أيها الناس إنه كان من قضاء الله أن عبيد الله بن عمر بن الخطاب أصاب الهرمزان و هو

رجل من

[9 : 55 ]

المسلمين و ليس له وارث إلا الله و المسلمون و أنا إمامكم و قد عفوت أ فتعفون عن عبيد الله ابن خليفتكم بالأمس قالوا نعم فعفا

عنه فلما بلغ ذلك عليا تضاحك و قال سبحان الله لقد بدأ بها عثمان أ يعفو عن حق امرئ ليس بواليه تالله إن هذا لهو العجب قالوا

فكان ذلك أول ما بدا من عثمان مما نقم عليه. قال الشعبي و خرج المقداد من الغد فلقي عبد الرحمن بن عوف فأخذ بيده و قال إن كنت

أردت بما صنعت وجه الله فأثابك الله ثواب الدنيا و الآخرة و إن كنت إنما أردت الدنيا فأكثر الله مالك فقال عبد الرحمن اسمع

رحمك الله اسمع قال لا أسمع و الله و جذب يده من يده و مضى حتى دخل على علي ع فقال قم فقاتل حتى نقاتل معك قال علي فبمن

أقاتل رحمك الله و أقبل عمار بن ياسر ينادي

يا ناعي الإسلام قم فانعه قد مات عرف و بدا نكر

أما و الله لو أن لي أعوانا لقاتلتهم و الله لئن قاتلهم واحد لأكونن له ثانيا

فقال علي يا أبا اليقظان و الله لا أجد عليهم أعوانا و لا أحب أن أعرضكم لما لا تطيقون

و بقي ع في داره و عنده نفر من أهل بيته و ليس يدخل إليه أحد مخافة عثمان. قال الشعبي و اجتمع أهل الشورى على أن تكون

كلمتهم واحدة على من لم يبايع فقاموا إلى علي فقالوا قم فبايع عثمان قال فإن لم أفعل قالوا نجاهدك قال فمشى إلى عثمان حتى

بايعه و هو يقول صدق الله و رسوله فلما بايع أتاه عبد الرحمن بن عوف فاعتذر إليه و قال إن عثمان أعطانا يده و يمينه و لم تفعل

أنت فأحببت أن أتوثق للمسلمين فجعلتها فيه فقال إيها عنك إنما آثرته بها لتنالها بعده دق الله بينكما عطر منشم.

[9 : 56 ]

قال الشعبي و قدم طلحة من الشام بعد ما بويع عثمان فقيل له رد هذا الأمر حتى ترى فيه رأيك فقال و الله لو بايعتم شركم لرضيت

فكيف و قد بايعتم خيركم قال ثم عدا عليه بعد ذلك و صاحبه حتى قتلاه ثم زعما أنهما يطلبان بدمه. قال الشعبي فأما ما يذكره الناس

من المناشدة و

قول علي ع لأهل الشورى أ فيكم أحد قال له رسول الله ص كذا فإنه لم يكن يوم البيعة و إنما كان بعد ذلك بقليل دخل علي ع على

عثمان و عنده جماعة من الناس منهم أهل الشورى و قد كان بلغه عنهم هنات و قوارص فقال لهم أ فيكم أ فيكم كل ذلك يقولون لا قال

لكني أخبركم عن أنفسكم أما أنت يا عثمان ففررت يوم حنين و توليت يوم التقى الجمعان و أما أنت يا طلحة فقلت إن مات محمد

لنركضن بين خلاخيل نسائه كما ركض بين خلاخيل نسائنا و أما أنت يا عبد الرحمن فصاحب قراريط و أما أنت يا سعد فتدق عن أن

تذكر

قال ثم خرج فقال عثمان أ ما كان فيكم أحد يرد عليه قالوا و ما منعك من ذلك و أنت أمير المؤمنين و تفرقوا قال عوانة قال إسماعيل

قال الشعبي فحدثني عبد الرحمن بن جندب عن أبيه جندب بن عبد الله الأزدي قال كنت جالسا بالمدينة حيث بويع عثمان فجئت

فجلست إلى المقداد بن عمرو فسمعته يقول و الله ما رأيت مثل ما أتي إلى أهل هذا البيت و كان عبد الرحمن بن عوف جالسا فقال و

ما أنت و ذاك يا مقداد قال المقداد إني و الله أحبهم لحب رسول الله ص و إني لأعجب من قريش و تطاولهم على الناس بفضل رسول

الله ثم انتزاعهم سلطانه من أهله قال عبد الرحمن أما و الله لقد أجهدت نفسي

[9 : 57 ]

لكم قال المقداد أما و الله لقد تركت رجلا من الذين يأمرون بالحق و به يعدلون أما و الله لو أن لي على قريش أعوانا لقاتلتهم قتالي

إياهم ببدر و أحد فقال عبد الرحمن ثكلتك أمك لا يسمعن هذا الكلام الناس فإني أخاف أن تكون صاحب فتنة و فرقة. قال المقداد إن

من دعا إلى الحق و أهله و ولاة الأمر لا يكون صاحب فتنة و لكن من أقحم الناس في الباطل و آثر الهوى على الحق فذلك صاحب

الفتنة و الفرقة. قال فتربد وجه عبد الرحمن ثم قال لو أعلم أنك إياي تعني لكان لي و لك شأن. قال المقداد إياي تهدد يا ابن أم عبد

الرحمن ثم قام عن عبد الرحمن فانصرف. قال جندب بن عبد الله فاتبعته و قلت له يا عبد الله أنا من أعوانك فقال رحمك الله إن هذا

الأمر لا يغني فيه الرجلان و لا الثلاثة قال فدخلت من فوري ذلك على علي ع فلما جلست إليه قلت يا أبا الحسن و الله ما أصاب قومك

بصرف هذا الأمر عنك فقال صبر جميل و الله المستعان. فقلت و الله إنك لصبور قال فإن لم أصبر فما ذا أصنع قلت إني جلست إلى

المقداد بن عمرو آنفا و عبد الرحمن بن عوف فقالا كذا و كذا ثم قام المقداد فاتبعته فقلت له كذا فقال لي كذا فقال علي ع لقد صدق

المقداد فما أصنع فقلت تقوم في الناس فتدعوهم إلى نفسك و تخبرهم أنك أولى بالنبي ص و تسألهم النصر على هؤلاء المظاهرين

عليك فإن أجابك عشرة من مائة شددت بهم على الباقين فإن دانوا لك فذاك و إلا قاتلتهم و كنت أولى بالعذر قتلت أو بقيت و كنت

أعلى عند الله حجة. فقال أ ترجو يا جندب أن يبايعني من كل عشرة واحد قلت أرجو ذلك قال لكني لا أرجو ذلك لا و الله و لا من المائة

واحد و سأخبرك أن الناس إنما ينظرون

[9 : 58 ]

إلى قريش فيقولون هم قوم محمد و قبيله و أما قريش بينها فتقول إن آل محمد يرون لهم على الناس بنبوته فضلا و يرون أنهم

أولياء هذا الأمر دون قريش و دون غيرهم من الناس و هم إن ولوه لم يخرج السلطان منهم إلى أحد أبدا و متى كان في غيرهم تداولته

قريش بينها لا و الله لا يدفع الناس إلينا هذا الأمر طائعين أبدا. فقلت جعلت فداك يا ابن عم رسول الله لقد صدعت قلبي بهذا القول أ

فلا أرجع إلى المصر فأوذن الناس بمقالتك و أدعو الناس إليك فقال يا جندب ليس هذا زمان ذاك. قال فانصرفت إلى العراق فكنت

أذكر فضل علي على الناس فلا أعدم رجلا يقول لي ما أكره و أحسن ما أسمعه قول من يقول دع عنك هذا و خذ فيما ينفعك فأقول إن هذا

مما ينفعني و ينفعك فيقوم عني و يدعني. و زاد أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري حتى رفع ذلك من قولي إلى الوليد بن عقبة أيام

ولينا فبعث إلي فحبسني حتى كلم في فخلى سبيلي. و روى الجوهري قال نادى عمار بن ياسر ذلك اليوم يا معشر المسلمين إنا قد كنا

و ما كنا نستطيع الكلام قلة و ذلة فأعزنا الله بدينه و أكرمنا برسوله فالحمد لله رب العالمين يا معشر قريش إلى متى تصرفون هذا

الأمر عن أهل بيت نبيكم تحولونه هاهنا مرة و هاهنا مرة ما أنا آمن أن ينزعه الله منكم و يضعه في غيركم كما نزعتموه من أهله و

وضعتموه في غير أهله. فقال له هاشم بن الوليد بن المغيرة يا ابن سمية لقد عدوت طورك و ما عرفت قدرك ما أنت و ما رأت قريش

لأنفسها إنك لست في شيء من أمرها و إماراتها فتنح عنها. و تكلمت قريش بأجمعها فصاحوا بعمار و انتهروه فقال الحمد لله رب

العالمين ما زال أعوان الحق أذلاء ثم قام فانصرف

[9 : 59 ]

140- و من كلام له ع في النهي عن غيبة الناس

وَ إِنَّمَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعِصْمَةِ وَ الْمَصْنُوعِ إِلَيْهِمْ فِي السَّلَامَةِ أَنْ يَرْحَمُوا أَهْلَ الذُّنُوبِ وَ الْمَعْصِيَةِ وَ يَكُونَ الشُّكْرُ هُوَ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ وَ

الْحَاجِزَ لَهُمْ عَنْهُمْ فَكَيْفَ بِالْعَائِبِ الَّذِي عَابَ أَخَاهُ وَ عَيَّرَهُ بِبَلْوَاهُ أَ مَا ذَكَرَ مَوْضِعَ سَتْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ ذُنُوبِهِ مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي

عَابَهُ بِهِ وَ كَيْفَ يَذُمُّهُ بِذَنْب قَدْ رَكِبَ مِثْلَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَكِبَ ذَلِكَ الذَّنْبَ بِعَيْنِهِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ فِيمَا سِوَاهُ مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَ ايْمُ اللَّهِ لَئِنْ

لَمْ يَكُنْ عَصَاهُ فِي الْكَبِيرِ وَ عَصَاهُ فِي الصَّغِيرِ لَجُرْأَتُهُ عَلَى عَيْبِ النَّاسِ أَكْبَرُ يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَعْجَلْ فِي عَيْبِ أَحَد بِذَنْبِهِ فَلَعَلَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ وَ لَا

تَأْمَنْ عَلَى نَفْسِكَ صَغِيرَ مَعْصِيَة فَلَعَلَّكَ مُعَذَّبٌ عَلَيْهِ فَلْيَكْفُفْ مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ عَيْبَ غَيْرِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ عَيْبِ نَفْسِهِ وَ لْيَكُنِ الشُّكْرُ شَاغِلًا لَهُ عَلَى

مُعَافَاتِهِ مِمَّا ابْتُلِيَ غَيْرُهُ بِهِ

ليس في هذا الفصل من غريب اللغة ما نشرح

[9 : 60 ]

أقوال مأثورة في ذم الغيبة و الاستماع إلى المغتابين

و نحن نذكر مما ورد في الغيبة لمعا نافعة على عادتنا في ذكر الشيء عند مرورنا على ما يقتضيه و يستدعيه. و قد ورد في الكتاب العزيز

ذم الغيبة قال سبحانه وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً و

قال رسول الله ص لا تحاسدوا و لا تباغضوا و لا يغتب بعضكم بعضا و كونوا عباد الله إخوانا

و روى جابر و أبو سعيد عنه ص إياكم و الغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا إن الرجل يزني فيتوب الله عليه و إن صاحب الغيبة لا يغفر له

حتى يغفر له صاحبه

و روى أنس عنه ص مررت ليلة أسري بي فرأيت قوما يخمشون وجوههم بأظافيرهم فسألت جبريل عنهم فقال هؤلاء الذين يغتابون

الناس

و في حديث سلمان قلت يا رسول الله علمني خيرا ينفعني الله به قال لا تحقرن من المعروف شيئا و لو أرفضت من دلوك في إناء

المستقي و الق أخاك ببشر حسن و لا تغتابنه إذا أدبر

و في حديث البراء بن عازب خطبنا رسول الله ص حتى أسمع العواتق في بيوتهن فقال ألا لا تغتابوا المسلمين و لا تتبعوا عوراتهم

فإنه من يتتبع عورة أخيه تتبع الله عورته و من يتتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته

[9 : 61 ]

و في حديث أنس أن رسول الله ص قال في يوم صوم إن فلانة و فلانة كانتا تأكلان اليوم شحم امرأة مسلمة يعني الغيبة فمرهما

فلتتقيئا فقاءت كل واحدة منهما علقة دم

و في الصحاح المجمع عليها أنه ع مر بقبرين جديدين فقال إنهما ليعذبان و ما يعذبان بكبير أما أحدهما فكان يغتاب الناس و أما

الآخر فكان لا يتنزه من البول و دعا بجريدة رطبة فكسرها اثنتين أو قال دعا بجريدتين ثم غرسهما في القبرين و قال أما إنه سيهون

من عذابهما ما دامتا رطبتين

و في حديث ابن عباس أن رجلين من أصحابه اغتابا بحضرته رجلا و هو يمشي ع و هما يمشيان معه فمر على جيفة فقال انهشا منها

فقالا يا رسول الله أ و ننهش الجيفة فقال ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه

و في حديث أبي هريرة من أكل لحم أخيه حيا قرب إليه لحمه في الآخرة فقيل له كله ميتا كما أكلته حيا فيأكله و يضج و يكلح

و روي أن رجلين كانا عند باب المسجد فمر بهما رجل كان مخنثا فترك ذلك فقالا لقد بقي عنده منه شيء فأقيمت الصلاة فصليا مع

الناس و ذلك يجول في أنفسهما فأتيا عطاء بن أبي رباح فسألاه فأمرهما أن يعيدا الوضوء و الصلاة و إن كانا صائمين أن يقضيا صيام

ذلك اليوم. و عن مجاهد وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَة لُمَزَة الهمزة الطعان في الناس و اللمزة النمام. و عن الحسن و الله للغيبة أسرع في دين

المؤمن من الأكلة في الجسد.

[9 : 62 ]

بعضهم أدركنا السلف و هم لا يرون العبادة في الصوم و لا في الصلاة و لكن في الكف عن أعراض الناس. ابن عباس إذا أردت أن تذكر

عيوب صاحبك فاذكر عيوبك و هذا مشتق من كلام أمير المؤمنين ع. أبو هريرة يبصر أحدهما القذى في عين أخيه و لا يبصر الجذع في

عين نفسه و هذا كالأول. الحسن يا ابن آدم إنك إن قضيت حقيقة الإيمان فلا تعب الناس بعيب هو فيك حتى تبدأ بإصلاح ذلك العيب

من نفسك فإذا فعلت ذلك كان شغلك في خاصة نفسك و أحب العباد إلى الله من كان هكذا. و

يروى أن المسيح ع مر على جيفة كلب فقال بعض التلامذة ما أشد نتنه فقال المسيح ما أشد بياض أسنانه

كأنه نهاهم عن غيبة الكلب و نبههم إلى أنه لا ينبغي أن يذكر من كل شيء إلا أحسنه. و

سمع علي بن الحسين ع رجلا يغتاب آخر فقال إن لكل شيء إداما و إدام كلاب الناس الغيبة

و في خطبة حجة الوداع أيها الناس إن دماءكم و أموالكم و أعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا

إن الله حرم الغيبة كما حرم المال و الدم

عمر ما يمنعكم إذا رأيتم من يخرق أعراض الناس أن تعربوا عليه أي تقبحوا قالوا نخاف سفهه و شره قال ذلك أدنى ألا تكونوا شهداء

أنس يرفعه من مات على الغيبة حشر يوم القيامة مزرقة عيناه ينادى بالويل و الندامة يعرف أهله و لا يعرفونه

[9 : 63 ]

و قال هشام بن عبد الملك في بعض ولد الوليد بن عقبة

أبلغ أبا وهب إذا ما لقيته بأنك شر الناس غيبا لصاحب

فتبدي له بشرا إذا ما لقيته و تلسعه بالغيب لسع العقارب

مر الشعبي بقوم يغتابونه في المسجد و فيهم بعض أصدقائه فأخذ بعضادتي الباب و قال

هنيئا مريئا غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت

و من كلام بعض الحكماء أبصر الناس بالعوار المعوار هذا مثل قول الشاعر

و أجرأ من رأيت بظهر غيب على عيب الرجال ذوو العيوب

قيل لشبيب بن شبة بن عقال ما بال عبد الله بن الأهتم يغتابك و ينتقصك قال لأنه شقيقي في النسب و جاري في البلد و شريكي في

الصنعة. دخل أبو العيناء على المتوكل و عنده جلساؤه فقال له يا محمد كلهم كانوا في غيبتك منذ اليوم و لم يبق أحد لم يذممك

غيري فقال

إذا رضيت عني كرام عشيرتي فلا زال غضبان علي لئامها

قال بعضهم بت بالبصرة ليلة مع المسجديين فلما كان وقت السحر حركهم واحد فقال إلى كم هذا النوم عن أعراض الناس و قيل

لشاعر وصله بعض الرؤساء و أنعم عليه ما صنع بك فلان قال ما وفت نعمته بإساءته منعني لذة الثلب و حلاوة الشكوى. أعرابي من

عاب سفلة فقد رفعه و من عاب شريفا فقد وضع نفسه.

[9 : 64 ]

نظر بعض السلف إلى رجل يغتاب رجلا و قال يا هذا إنك تملي على حافظيك كتابا فانظر ما ذا تقول. ابن عباس ما الأسد الضاري على

فريسة بأسرع من الدنيء في عرض السري بعضهم

و مطروفة عيناه عن عيب نفسه فإن لاح عيب من أخيه تبصرا

و قالت رابعة العدوية إذا نصح الإنسان لله أطلعه الله تعالى على مساوئ عمله فتشاغل بها عن ذكر مساوئ خلقه. قال عبد الله بن

عروة بن الزبير لابنه يا بني عليك بالدين فإن الدنيا ما بنت شيئا إلا هدمه الدين و إذا بنى الدين شيئا لم تستطع الدنيا هدمه أ لا ترى

علي بن أبي طالب و ما يقول فيه خطباء بني أمية من ذمه و عيبه و غيبته و الله لكأنما يأخذون بناصيته إلى السماء أ لا تراهم كيف

يندبون موتاهم و يرثيهم شعراؤهم و الله لكأنما يندبون جيف الحمر. و من كلام بعض الصالحين الورع في المنطق أشد منه في

الذهب و الفضة لأنك إذا استودعك أخوك مالا لم تجد بك نفسك لخيانة فيه و قد استودعك عرضه و أنت تغتابه و لا تبالي. كان محمد

بن سيرين قد جعل على نفسه كلما اغتاب أحدا أن يتصدق بدينار و كان إذا مدح أحدا قال هو كما يشاء الله و إذا ذمه قال هو كما يعلم

الله. الأحنف في خلتان لا أغتاب جليسي إذا قام عني و لا أدخل بين القوم فيما لم يدخلوني فيه. قيل لرجل من العرب من السيد فيكم

قال الذي إذا أقبل هبناه و إذا أدبر اغتبناه.

[9 : 65 ]

قيل للربيع بن خيثم ما نراك تعيب أحدا فقال لست راضيا على نفسي فأتفرغ لذكر عيوب الناس ثم قال

لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها لنفسي في نفسي عن الناس شاغل

عبد الله بن المبارك قلت لسفيان ما أبعد أبا حنيفة من الغيبة ما سمعته يغتاب عدوا قال هو و الله أعقل من أن يسلط على حسناته ما

يذهب بها. سئل فضيل عن غيبة الفاسق فقال لا تشتغل بذكره و لا تعود لسانك الغيبة أشغل لسانك بذكر الله و إياك ذكر الناس فإن

ذكر الناس داء و ذكر الله دواء. بعض الشعراء

و لست بذي نيرب في الصديق خئون العشيرة سبابها

و لا من إذا كان في مجلس أضاع القبيلة و اغتابها

و لكن أبجل ساداتها و لا أتعلم ألقابها

و كان يقال الغيبة فاكهة القراء و قيل لإسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة أي اللحمان أطيب قال لحوم الناس هي و الله أطيب من

لحوم الدجاج و الدراج يعني الغيبة. ابن المغيرة لا تذكر الميت بسوء فتكون الأرض أكتم عليه منك. و كان عبد الملك بن صالح

الهاشمي إذا ذكر عنده الميت بسوء يقول كفوا عن أسارى الثرى. و

في الأثر سامع الغيبة أحد المغتابين

[9 : 66 ]

أبو نواس

ما حطك الواشون من رتبة عندي و ما ضرك مغتاب

كأنهم أثنوا و لم يعلموا عليك عندي بالذي عابوا

الحسن ذم الرجل في السر مدح له في العلانية.

علي ع الغيبة جهد العاجز

أخذه المتنبي فقال

و أكبر نفسي عن جزاء بغيبة و كل اغتياب جهد من ما له جهد

بلغ الحسن أن رجلا اغتابه فأهدى إليه طبقا من رطب فجاءه الرجل معتذرا و قال أصلحك الله اغتبتك فأهديت لي قال إنك أهديت إلي

حسناتك فأردت أن أكافئك. أتى رجل عمرو بن عبيد الله فقال له إن الأسواري لم يزل أمس يذكرك و يقول عمرو الضال فقال له يا هذا

و الله ما رعيت حق مجالسة الرجل حين نقلت إلينا حديثه و لا رعيت حقي حين بلغت عن أخي ما أكرهه أعلمه أن الموت يعمنا و البعث

يحشرنا و القيامة تجمعنا و الله يحكم بيننا

حكم الغيبة في الدين

و اعلم أن العلماء ذكروا في حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه سواء ذكرت نقصانا في بدنه مثل أن تقول الأقرع أو الأعور

أو في نسبه نحو أن تقول ابن النبطي و ابن الإسكاف أو الزبال أو الحائك أو خلقه نحو سيئ الخلق أو بخيل

[9 : 67 ]

أو متكبر أو في أفعاله الدنيئة نحو قولك كذاب و ظالم و متهاون بالصلاة أو الدنيوية نحو قولك قليل الأدب متهاون بالناس كثير

الكلام كثير الأكل أو في ثوبه كقولك وسخ الثياب كبير العمامة طويل الأذيال. و قد قال قوم لا غيبة في أمور الدين لأن المغتاب

إنما ذم ما ذمه الله تعالى و احتجوا بما روي أنه ذكر لرسول الله ص امرأة و كثرة صومها و صلاتها و لكنها تؤذي جارتها فقال هي في

النار و لم ينكر عليهم غيبتهم إياها.

و روي أن امرأة ذكرت عنده ع بأنها بخيلة فقال فما خيرها إذن

و أكثر العلماء على أن الغيبة في أمور الدين محرمة أيضا و ادعوا الإجماع على أن من ذكر غيره بما يكرهه فهو مغتاب سواء أ كان في

الدين أو في غيره قالوا و المخالف مسبوق بهذا الإجماع و قالوا و

قد روي عن النبي ص أنه قال هل تدرون ما الغيبة قالوا الله و رسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكرهه فقائل قال أ رأيت يا رسول الله

إن كان ذلك في أخي قال إن كان فيه فقد اغتبته و إن لم يكن فقد بهته

قالوا و روى معاذ بن جبل أن رجلا ذكر عند رسول الله ص فقال قوم ما أعجزه فقال ع اغتبتم صاحبكم فقالوا قلنا ما فيه فقال إن قلتم

ما ليس فيه فقد بهتموه

قالوا و ما احتج به الزاعمون أن لا غيبة في الدين ليس بحجة لأن الصحابة إنما ذكرت ذلك في مجلس رسول الله ص لحاجتها إلى

تعرف الأحكام بالسؤال و لم يكن غرضها التنقص. و اعلم أن الغيبة ليست مقصورة على اللسان فقط بل كل ما عرفت به صاحبك

[9 : 68 ]

نقص أخيك فهو غيبة فقد يكون ذلك باللسان و قد يكون بالإشارة و الإيماء و بالمحاكاة نحو أن تمشي خلف الأعرج متعارجا و

بالكتاب فإن القلم أحد اللسانين. و إذا ذكر المصنف شخصا في تصنيفه و هجن كلامه فهو غيبة فأما قوله قال قوم كذا فليس بغيبة

لأنه لم يعين شخصا بعينه. و

كان رسول الله ص يقول ما بال أقوام يقولون كذا فكان لا يعين و يكون مقصوده واحدا بعينه

و أخبث أنواع الغيبة غيبة القراء المراءين و ذلك نحو أن يذكر عندهم إنسان فيقول قائلهم الحمد لله الذي لم يبلنا بدخول أبواب

السلطان و التبذل في طلب الحطام و قصده أن يفهم الغير عيب ذلك الشخص فتخرج الغيبة في مخرج الحمد و الشكر لله تعالى

فيحصل من ذلك غيبة المسلم و يحصل منه الرياء و إظهار التعفف عن الغيبة و هو واقع فيها و كذلك يقول لقد ساءني ما يذكر به

فلان نسأل الله أن يعصمه و يكون كاذبا في دعوى أنه ساءه و في إظهار الدعاء له بل لو قصد الدعاء له لأخفاه في خلوة عقب صلواته

و لو كان قد ساءه لساءه أيضا إظهار ما يكرهه ذلك الإنسان. و اعلم أن الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجب كالغيبة بل أشد لأنه

إنما يظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة فيندفع فيها حكاية يستخرج الغيبة منه بذلك و إذا كان السامع الساكت شريك

المغتاب فما ظنك بالمجتهد في حصول الغيبة و الباعث على الاستزادة منها و قد روي أن أبا بكر و عمر ذكرا إنسانا عند رسول الله

فقال أحدهما إنه لنئوم ثم أخرج رسول الله ص خبزا قفارا فطلبا منه أدما فقال قد ائتدمتما قالا ما نعلمه قال بلى بما أكلتما من لحم

صاحبكما فجمعهما في الإثم و قد

[9 : 69 ]

كان أحدهما قائلا و الآخر مستمعا فالمستمع لا يخرج من إثم الغيبة إلا بأن ينكر بلسانه فإن خاف فبقلبه و إن قدر على القيام أو قطع

الكلام بكلام آخر لزمه ذلك فإن قال بلسانه اسكت و هو مريد للغيبة بقلبه فذلك نفاق و لا يخرجه عن الإثم إلا أن يكرهه بقلبه و لا

يكفي أن يشير باليد أي اكفف أو بالحاجب و العين فإن ذلك استحقار للمذكور بل ينبغي أن يذب عنه صريحا

فقد قال رسول الله ص من أذل عنده مؤمن و هو يقدر على أن ينصره فلم ينصره أذله الله يوم القيامة على رءوس الخلائق

فصل في الأسباب الباعثة على الغيبة

و اعلم أن الأسباب الباعثة على الغيبة على أمور منها شفاء الغيظ و ذلك أن يجري من الإنسان سبب يغضب به عليه آخر فإذا هاج

غضبه تشفى بذكر مساوئه و سبق إليها لسانه بالطبع إن لم يكن هناك دين وازع و قد يمنع تشفي الغيظ عند الغضب فيحتقن الغضب

في الباطن فيصير حقدا ثابتا فيكون سببا دائما لذكر المساوئ. و منها موافقة الأقران و مساعدتهم على الكلام فإنهم إذا اجتمعوا

ربما أخذوا يتفكهون بذكر الأعراض فيرى أنه لو أنكر أو قطع المجلس استثقلوه و نفروا عنه فيساعدهم و يرى ذلك من حسن

المعاشرة و يظن أنه مجاملة في الصحبة و قد يغضب رفقاؤه من أمر فيحتاج إلى أن يغضب لغضبهم إظهارا للمساهمة في السراء و

الضراء فيخوض معهم في ذكر العيوب و المساوئ.

[9 : 70 ]

و منها أن يستشعر من إنسان أنه سيذمه و يطول لسانه فيه و يقبح حاله عند بعض الرؤساء أو يشهد عليه بشهادة فيبادره قبل أن

يقبح حاله فيطعن فيه ليسقط أثر شهادته عليه. و قد يبتدئ بذكر بعض ما فيه صادقا ليكذب عليه بعد ذلك فيروج كذبه بالصدق الأول.

و منها أن ينسب إلى أمر فيريد التبرؤ منه فيذكر الذي فعله و كان من حقه أن يبرئ نفسه و لا يذكر الذي فعله لكنه إنما يذكر غيره

تأكيدا لبراءة نفسه و كيلا يكون تبرؤا مبتورا و ربما يعتذر بأن يقول فلان فعله و كنت شريكا في بعض الأمر ليبرئ نفسه بعض

البراءة. و منها المباهاة و حب الرئاسة مثل أن يقول كلام فلان ركيك و معرفته بالفن الفلاني ناقصة و غرضه إظهار فضله عليه. و منها

الحسد و إرادة إسقاط قدر من يمدحه الناس بذكر مساوئه لأنه يشق عليه ثناء الناس عليه و لا يجد سبيلا إلى سد باب الثناء عليه إلا

بذكر عيوبه. و منها اللعب و الهزل و المطايبة و تزجية الوقت بالضحك و السخرية فيذكر غيره بما يضحك الحاضرين على سبيل

الهزء و المحاكاة. و اعلم أن الذي يقوى في نفسي أن الغيبة لا تكون محرمة إلا إذا كانت على سبيل القصد إلى تنقص الإنسان فقط و

غض قدره فأما إذا خرجت مخرجا آخر فليست بحرام كمن يظلمه القاضي و يأخذ الرشوة على إسقاط حقوقه فإن له أن يذكر حاله

للسلطان متظلما من حيف الحاكم عليه إذ لا يمكنه استيفاء حقوقه إلا بذلك

فقد قال ص مطل الغني ظلم

و قال لي الواجد يحل عقوبته و عرضه

[9 : 71 ]

و كذلك النهي عن المنكر واجب و قد يحتاج الإنسان إلى الاستعانة بالغير على تغييره و رد القاضي إلى منهج الصلاح فلا بد له أن

يشرح للغير حال ذلك الإنسان المرتكب المنكر و من ذكر الإنسان بلقب مشهور فعرف عن عيبه كالأعرج و الأعمش المحدثين لم يكن

مغتابا إذا لم يقصد الغض و النقص. و الصحيح أن المجاهر بالفسق لا غيبة له كصاحب الماخور و المخنث و من يدعو الناس إلى نفسه

أبنة و كالعشار و المستخرج بالضرب فإن هؤلاء غير كارهين لما يذكرون به و ربما تفاخروا بذلك و

قد قال النبي ص من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له

و قال عمر ليس لفاجر حرمة و أراد المجاهر بالفسق دون المستتر. و قال الصلت بن طريف قلت للحسن رحمه الله الرجل الفاجر

المعلن بالفجور غير مراقب هل ذكري له بما فيه غيبة فقال لا و لا كرامة له

طريق التوبة من الغيبة

و اعلم أن التوبة من الغيبة تكفر عقابها و التوبة منها هي الندم عليها و العزم على ألا يعود فإن لم يكن الشخص المذكور قد بلغته

الغيبة فلا حاجة إلى الاستحلال منه بل لا يجوز إعلامه بذلك هكذا قال شيخنا أبو الحسين رحمه الله لأنه لم يؤلمه فيحتاج إلى أن

يستوهب منه إثم ذلك الإيلام و في إعلامه تضييق صدره و إدخال مشقة عليه و إن كان الشخص المذكور قد بلغته الغيبة وجب عليه أن

يستحله و يستوهبه فإن كان قد مات سقط بالتوبة عقاب ما يختص بالبارئ سبحانه من ذلك الوقت و بقي ما يختص بذلك الميت لا

يسقط حتى يؤخذ العوض له من المذنب يوم القصاص

[9 : 72 ]

141- و من كلام له ع

أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِين وَ سَدَادَ طَرِيق فَلَا يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ الرِّجَالِ أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي الرَّامِي وَ تُخْطِئُ السِّهَامُ وَ يُحِيلُ

الْكَلَامُ وَ بَاطِلُ ذَلِكَ يَبُورُ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ وَ شَهِيدٌ أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ إِلَّا أَرْبَعُ أَصَابِعَ فَسُئِلَ ع عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ هَذَا فَجَمَعَ

أَصَابِعَهُ وَ وَضَعَهَا بَيْنَ أُذُنِهِ وَ عَيْنِهِ ثُمَّ قَالَ الْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ سَمِعْتُ وَ الْحَقُّ أَنْ تَقُولَ رَأَيْتُ

هذا الكلام هو نهي عن التسرع إلى التصديق بما يقال من العيب و القدح في حق الإنسان المستور الظاهر المشتهر بالصلاح و الخير

و هو خلاصة قوله سبحانه إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَة فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ثم ضرب ع

لذلك مثلا فقال قد يرمي الرامي فلا يصيب الغرض و كذلك قد يطعن الطاعن فلا يكون طعنه صحيحا و ربما كان لغرض فاسد أو سمعه

ممن له غرض

[9 : 73 ]

فاسدا كالعدو و الحسود و قد يشتبه الأمر فيظن المعروف منكرا فيعجل الإنسان بقول لا يتحققه كمن يرى غلام زيد يحمل في إناء

مستور مغطى خلا فيظنه خمرا. قال ع و يحيل الكلام أي يكون باطلا أحال الرجل في منطقه إذا تكلم الذي لا حقيقة له و من الناس

من يرويه و يحيك الكلام بالكاف من قولك ما حاك فيه السيف و يجوز أحاك بالهمزة أي ما أثر يعني أن القول يؤثر في العرض و إن

كان باطلا و الرواية الأولى أشهر و أظهر. و يبور يفسد و قوله و باطل ذلك يبور مثل قولهم للباطل جولة و للحق دولة و هذا من

قوله تعالى وَ قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً. و الإصبع مؤنثة و لذلك قال أربع أصابع فحذف الهاء. فإن قلت

كيف يقول ع الباطل ما يسمع و الحق ما يرى و أكثر المعلومات إنما هي من طريق السماع كعلمنا الآن بنبوة محمد ص بما بلغنا من

معجزاته التي لم نرها و إنما سمعناها. قلت ليس كلامه في المتواتر من الأخبار و إنما كلامه في الأقوال الشاذة الواردة من طريق

الآحاد التي تتضمن القدح فيمن قد غلبت نزاهته فلا يجوز العدول عن المعلوم بالمشكوك

[9 : 74 ]

142- و من كلام له ع

وَ لَيْسَ لِوَاضِعِ الْمَعْرُوفِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ مِنَ الْحَظِّ فِيمَا أَتَى إِلَّا مَحْمَدَةُ اللِّئَامِ وَ ثَنَاءُ الْأَشْرَارِ وَ مَقَالَةُ الْجُهَّالَ مَا دَامَ مُنْعِماً

عَلَيْهِمْ مَا أَجْوَدَ يَدَهُ وَ هُوَ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ بِخَيْلٌ فَمَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلْيَصِلْ بِهِ الْقَرَابَةَ وَ لْيُحْسِنْ مِنْهُ الضِّيَافَةَ وَ لْيَفُكَّ بِهِ الْأَسِيرَ وَ الْعَانِيَ وَ

لْيُعْطِ مِنْهُ الْفَقِيرَ وَ الْغَارِمَ وَ لْيَصْبِرْ نَفْسَهُ عَلَى الْحُقُوقِ وَ النَّوَائِبِ ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ فَإِنَّ فَوْزاً بِهَذِهِ الْخِصَالِ شَرَفُ مَكَارِمِ الدُّنْيَا وَ دَرْكُ

فَضَائِلِ الآْخِرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ

هذا الكلام يتضمن ذم من يخرج ماله إلى الفتيان و الأقران و الشعراء و نحوهم و يبتغي به المدح و السمعة و يعدل عن إخراجه في

وجوه البر و ابتغاء الثواب قال ع ليس له من الحظ إلا محمدة اللئام و ثناء الأشرار و قولهم ما أجود يده أي ما أسمحه و هو بخيل بما

يرجع إلى ذات الله يعني الصدقات و ما يجري مجراها من صلة الرحم و الضيافة و فك الأسير و العاني و هو الأسير بعينه و إنما

اختلف اللفظ.

[9 : 75 ]

و الغارم من عليه الديون و يقال صبر فلان نفسه على كذا مخففا أي حبسها قال تعالى وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ. و قال

عنترة يذكر حربا

فصبرت عارفة لذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع

و في الحديث النبوي في رجل أمسك رجلا و قتله آخر فقال ع اقتلوا القاتل و اصبروا الصابر

أي احبسوا الذي حبسه للقتل إلى أن يموت. و قوله فإن فوزا أفصح من أن يقول فإن الفوز أو فإن في الفوز كما قال الشاعر

إن شواء و نشوة و خبب البازل الأمون

من لذة العيش و الفتى للدهر و الدهر ذو شئون

و لم يقل إن الشواء و النشوة و السر في هذا أنه كأنه يجعل هذا الشواء شخصا من جملة أشخاص داخلة تحت نوع واحد و يقول إن

واحدا منها أيها كان فهو من لذة العيش و إن لم يحصل له كل أشخاص ذلك النوع و مراده تقرير فضيلة هذه الخصال في النفوس أي

متى حصل للإنسان فوز ما بها فقد حصل له الشرف و هذا المعنى و إن أعطاه لفظة الفوز بالألف و اللام إذا قصد بها الجنسية إلا أنه

قد يسبق إلى الذهن منها الاستغراق لا الجنسية فأتى بلفظة لا توهم الاستغراق و هي اللفظة المنكرة و هذا دقيق و هو من لباب علم

البيان

[9 : 76 ]

143- و من خطبة له ع في الاستسقاء

إِلَّا وَ إِنَّ الْأَرْضَ الَّتِي تَحْمِلُكُمْ وَ السَّمَاءَ الَّتِي تُظِلُّكُمْ مُطِيعَتَانِ لِرَبِّكُمْ وَ مَا أَصْبَحَتَا تَجُودَانِ لَكُمْ بِبَرَكَتِهِمَا تَوَجُّعاً لَكُمْ وَ لَا زُلْفَةً إِلَيْكُمْ وَ

لَا لِخَيْر تَرْجُوَانِهِ مِنْكُمْ وَ لَكِنْ أُمِرَتَا بِمَنَافِعِكُمْ فَأَطَاعَتَا وَ أُقِيمَتَا عَلَى حُدُودِ مَصَالِحِكُمْ فَقَامَتَا إِنَّ اللَّهَ يَبْتَلِي عِبَادَهُ عِنْدَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ

بِنَقْصِ الثَّمَرَاتِ وَ حَبْسِ الْبَرَكَاتِ وَ إِغْلَاقِ خَزَائِنِ الْخَيْرَاتِ لِيَتُوبَ تَائِبٌ وَ يُقْلِعَ مُقْلِعٌ وَ يَتَذَكَّرَ مُتَذَكِّرٌ وَ يَزْدَجِرَ مُزْدَجِرٌ وَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ

سُبْحَانَهُ الِاسْتِغْفَارَ سَبَباً لِدُرُورِ الرِّزْقِ وَ رَحْمَةِ الْخَلْقِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ

يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوال وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنّات وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً اسْتَقْبَلَ تَوْبَتَهُ وَ اسْتَقَالَ خَطِيئَتَهُ وَ بَادَرَ مَنِيَّتَهُ اللَّهُمَّ

إِنَّا خَرَجْنَا إِلَيْكَ مِنْ تَحْتِ الْأَسْتَارِ وَ الْأَكْنَانِ وَ بَعْدَ عَجِيجِ الْبَهَائِمِ وَ الْوِلْدَانِ رَاغِبِينَ فِي رَحْمَتِكَ وَ رَاجِينَ فَضْلَ نِعْمَتِكَ وَ خَائِفِينَ مِنْ

عَذَابِكَ وَ نِقْمَتِكَ

[9 : 77 ]

اللَّهُمَّ فَاسْقِنَا غَيْثَكَ وَ لَا تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِينَ وَ لَا تُهْلِكْنَا بِالسِّنِينَ وَ لَا تُؤَاخِذْنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ اللَّهُمَّ إِنَّا خَرَجْنَا

إِلَيْكَ نَشْكُو إِلَيْكَ مَا لَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَلْجَأَتْنَا الْمَضَايِقُ الْوَعْرَةُ وَ أَجَاءَتْنَا الْمَقَاحِطُ الْمُجْدِبَةُ وَ أَعْيَتْنَا الْمَطَالِبُ الْمُتَعَسِّرَةُ وَ تَلَاحَمَتْ عَلَيْنَا

الْفِتَنُ الْمَسْتَصْعَبَةُ اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَلَّا تَرُدَّنَا خَائِبِينَ وَ لَا تَقْلِبَنَا وَاجِمِينَ وَ لَا تُخَاطِبَنَا بِذُنُوبِنَا وَ لَا تُقَايِسَنَا بِأَعْمَالِنَا اللَّهُمَّ انْشُرْ عَلَيْنَا

غَيْثَكَ وَ بَرَكَتِكَ وَ رِزْقَكَ وَ رَحْمَتَكَ وَ اسْقِنَا سُقْيَا نَاقِعَةً مُرْوِيَةً مُعْشِبَةً تُنْبِتُ بِهَا مَا قَدْ فَاتَ وَ تُحْيِي بِهَا مَا قَدْ مَاتَ نَافِعَةَ الْحَيَا كَثِيرَةَ

الْمُجْتَنَى تُرْوِي بِهَا الْقِيعَانَ وَ تُسِيلُ الْبُطْنَانَ وَ تَسْتَوْرِقُ الْأَشْجَارَ وَ تُرْخِصُ الْأَسْعَارَ إِنَّكَ عَلَى مَا تَشَاءُ قَدِيرٌ

تظلكم تعلو عليكم و قد أظلتني الشجرة و استظللت بها و الزلفة القربة يقول إن السماء و الأرض إذا جاءتا بمنافعكم أما السماء

فبالمطر و أما الأرض فبالنبات فإنهما لم تأتيا بذلك تقربا إليكم و لا رحمة لكم و لكنهما أمرتا بنفعكم فامتثلتا الأمر لأنه أمر من تجب

طاعته و لو أمرتا بغير ذلك لفعلتاه و الكلام مجاز و استعارة لأن الجماد لا يؤمر و المعنى أن الكل مسخر تحت القدرة الإلهية و مراده

تمهيد قاعدة الاستسقاء كأنه يقول إذا كانت السماء و الأرض أيام الخصب و المطر و النبات لم يكن ما كان منهما محبة لكم و لا رجاء

منفعة منكم بل طاعة الصانع الحكيم سبحانه فيما سخرهما له

[9 : 78 ]

فكذلك السماء و الأرض أيام الجدب و انقطاع المطر و عدم الكلأ ليس ما كان منهما بغضا لكم و لا استدفاع ضرر يخاف منكم بل

طاعة الصانع الحكيم سبحانه فيما سخرهما له و إذا كان كذلك فبالحري ألا نأمل السماء و لا الأرض و أن نجعل آمالنا معلقة بالملك

الحق المدبر لهما و أن نسترحمه و ندعوه و نستغفره لا كما كانت العرب في الجاهلية يقولون مطرنا بنوء كذا و قد سخط النوء

الفلاني على بني فلان فأمحلوا. ثم ذكر ع أن الله تعالى يبتلي عباده عند الذنوب بتضييق الأرزاق عليهم و حبس مطر السماء عنهم و

هذا الكلام مطابق للقواعد الكلامية لأن أصحابنا يذهبون إلى أن الغلاء قد يكون عقوبة على ذنب و قد يكون لطفا للمكلفين في

الواجبات العقلية و هو معنى قوله ليتوب تائب إلى آخر الكلمات و يقلع يكف و يمسك. ثم ذكر أن الله سبحانه جعل الاستغفار سببا

في درور الرزق و استدل عليه بالآية التي أمر نوح ع فيها قومه بالاستغفار يعني التوبة عن الذنوب و قدم إليهم الموعد بما هو واقع

في نفوسهم و أحب إليهم من الأمور الآجلة فمناهم الفوائد العاجلة ترغيبا في الإيمان و بركاته و الطاعة و نتائجها كما قال سبحانه

للمسلمين وَ أُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللّهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ فوعدهم بمحبوب الأنفس الذي يرونه في العاجل عيانا و نقدا لا جزاء و

نسيئة و قال تعالى في موضع آخر وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكات مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ و قال سبحانه وَ لَوْ

أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ

[9 : 79 ]

و قال تعالى وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً

الثواب و العقاب عند المسلمين و أهل الكتاب

و كل ما في التوراة من الوعد و الوعيد فهو لمنافع الدنيا و مضارها أما منافعها فمثل أن يقول إن أطعتم باركت فيكم و كثرت من

أولادكم و أطلت أعماركم و أوسعت أرزاقكم و استبقيت اتصال نسلكم و نصرتكم على أعدائكم و إن عصيتم و خالفتم اخترمتكم و

نقصت من آجالكم و شتت شملكم و رميتكم بالجوع و المحل و أذللت أولادكم و أشمت بكم أعداءكم و نصرت عليكم خصومكم و

شردتكم في البلاد و ابتليتكم بالمرض و الذل و نحو ذلك. و لم يأت في التوراة وعد و وعيد بأمر يتعلق بما بعد الموت و أما المسيح

ع فإنه صرح بالقيامة و بعث الأبدان و لكن جعل العقاب روحانيا و كذلك الثواب أما العقاب فالوحشة و الفزع و تخيل الظلمة و

خبث النفس و كدرها و خوف شديد و أما الثواب فما زاد على أن قال إنهم يكونون كالملائكة و ربما قال يصعدون إلى ملكوت السماء

و ربما قال أصحابه و علماء ملته الضوء و اللذة و السرور و الأمن من زوال اللذة الحاصلة لهم هذا هو قول المحققين منهم و قد أثبت

بعضهم نارا حقيقية لأن لفظة النار وردت في الإنجيل فقال محققوهم نار قلبية أي نفسية روحانية و قال الأفلون نار كهذه النار و

منهم من أثبت عقابا غير النار و هو بدني فقال الرعدة و صرير الأسنان فأما الجنة بمعنى الأكل و الشرب و الجماع فإنه لم يقل منهم

قائل به أصلا و الإنجيل صرح بانتفاء ذلك في القيامة تصريحا لا يبقى بعده ريب لمرتاب و جاء خاتم الأنبياء محمد

[9 : 80 ]

ص فأثبت المعاد على وجه محقق كامل أكمل مما ذكره الأولان فقال إن البدن و النفس معا مبعوثان و لكل منهما حظ في الثواب و

العقاب. و قد شرح الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا هذا الموضع في رسالة له في المعاد تعرف بالرسالة الأصحوبة شرحا

جيدا فقال إن الشريعة المحمدية أثبتت في القيامة رد النفس إلى البدن و جعلت للمثاب و المعاقب ثوابا و عقابا بحسب البدن و

النفس جميعا فكان للمثاب لذات بدنية من حور عين و ولدان مخلدين و فاكهة يشتهون و كأس لا يصدعون عنها و لا ينزفون و جنات

تجري من تحتها الأنهار من لبن و عسل و خمر و ماء زلال و سرر و أرائك و خيام و قباب فرشها من سندس و إستبرق و ما جرى مجرى

ذلك و لذات نفسانية من السرور و مشاهدة الملكوت و الأمن من العذاب و العلم اليقيني بدوام ما هم فيه و أنه لا يتعقبه عدم و لا

زوال و الخلو عن الأحزان و المخاوف و للمعاقب عقاب بدني و هو المقامع من الحديد و السلاسل و الحريق و الحميم و الغسلين و

الصراخ و الجلود التي كلما نضجت بدلوا جلودا غيرها و عقاب نفساني من اللعن و الخزي و الخجل و الندم و الخوف الدائم و

اليأس من الفرج و العلم اليقيني بدوام الأحوال السيئة التي هم عليها. قال فوفت الشريعة الحكمة حقها من الوعد الكامل و الوعيد

الكامل و بهما ينتظم الأمر و تقوم الملة فأما النصارى و ما ذهبوا إليه من أمر بعث الأبدان ثم خلوها في الدار الآخرة من المطعم و

الملبس و المشرب و المنكح فهو أرك ما ذهب إليه أرباب الشرائع و أسخفه و ذلك أنه إن كان السبب في البعث هو أن الإنسان هو

البدن أو أن البدن شريك النفس في الأعمال الحسنة و السيئة فوجب أن يبعث فهذا القول بعينه إن أوجب ذلك فإنه يوجب أن يثاب

البدن و يعاقب بالثواب و العقاب البدني المفهوم عند العالم و إن كان الثواب و العقاب روحانيا فما الغرض في بعث الجسد ثم ما

ذلك

[9 : 81 ]

الثواب و العقاب الروحانيان و كيف تصور العامة ذلك حتى يرغبوا و يرهبوا كلا بل لم تصور لهم الشريعة النصرانية من ذلك شيئا

غير أنهم يكونون في الآخرة كالملائكة و هذا لا يفي بالترغيب التام و لا ما ذكروه من العقاب الروحاني و هو الظلمة و خبث النفس

كاف في الترهيب و الذي جاءت به شريعة الإسلام حسن لا زيادة عليه انقضى كلام هذا الحكيم. فأما كون الاستغفار سببا لنزول القطر

و درور الرزق فإن الآية بصريحها ناطقة به لأنها أمر و جوابه قال اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً كما

تقول قم أكرمك أي إن قمت أكرمتك و عن عمر أنه خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار فقيل له ما رأيناك استسقيت فقال لقد

استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر. و عن الحسن أن رجلا شكا إليه الجدب فقال استغفر الله فشكا آخر إليه الفقر و

آخر قلة النسل و آخر قلة ريع أرضه فأمرهم كلهم بالاستغفار فقال له الربيع بن صبيح رجال أتوك يشكون أبوابا و يشكون أنواعا

فأمرتهم كلهم بالاستغفار فتلا له الآية

قوله استقبل توبته أي استأنفها و جددها و استقال خطيئته طلب الإقالة منها و الرحمة و بادر منيته سابق الموت قبل أن يدهمه.

[9 : 82 ]

قوله ع لا تهلكنا بالسنين جمع سنة و هي الجدب و المحل قال تعالى وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ و

قال النبي ص يدعو على المشركين اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف

و السنة لفظ محذوف منه حرف قيل إنه الهاء و قيل الواو فمن قال المحذوف هاء قال أصله سنهة مثل جبهة لأنهم قالوا نخلة سنهاء

أي تحمل سنة و لا تحمل أخرى و قال بعض الأنصار

فليست بسنهاء و لا رجبية و لكن عرايا في السنين الجوائح

و من قال أصلها الواو احتج بقولهم أسنى القوم يسنون إسناء إذا لبثوا في المواضع سنة فأما التصغير فلا يدل على أحد المذهبين

بعينه لأنه يجوز سنية و سنيهة و الأكثر في جمعها بالواو و النون سنون بكسر السين كما في هذه الخطبة و بعضهم يقول سنون

بالضم. و المضايق الوعرة بالتسكين و لا يجوز التحريك و قد وعر هذا الشيء بالضم وعورة و كذلك توعر أي صار وعرا و استوعرت

الشيء استصعبته. و أجاءتنا ألجأتنا قال تعالى فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ. و المقاحط المجدبة السنون الممحلة جمع

مقحطة. و تلاحمت اتصلت. و الواجم الذي قد اشتد حزنه حتى أمسك عن الكلام و الماضي وجم بالفتح يجم وجوما. قوله و لا

تخاطبنا بذنوبنا و لا تقايسنا بأعمالنا أي لا تجعل جواب دعائنا لك ما تقتضيه ذنوبنا كأنه يجعله كالمخاطب لهم و المجيب عما

سألوه إياه كما يفاوض الواحد

[9 : 83 ]

منا صاحبه و يستعطفه فقد يجيبه و يخاطبه بما يقتضيه ذنبه إذا اشتدت موجدته عليه و نحوه. و لا تقايسنا بأعمالنا قست الشيء

بالشيء إذا حذوته و مثلته به أي لا تجعل ما تجيبنا به مقايسا و مماثلا لأعمالنا السيئة. قوله سقيا ناقعة هي فعلى مؤنثة غير مصروفة.

و الحيا المطر و ناقعة مروية مسكنة للعطش نقع الماء العطش نقعا و نقوعا سكنه و في المثل الرشف أنقع أي أن الشراب الذي

يرشف قليلا قليلا أنجع و أقطع للعطش و إن كان فيه بطء. و كثيرة المجتنى أي كثيرة الكلأ و الكلأ الذي يجتنى و يرعى و القيعان

جمع قاع و هو الفلاة. و البطنان جمع بطن و هو الغامض من الأرض مثل ظهر و ظهران و عبد و عبدان

[9 : 84 ]

144- و من خطبة له ع

بَعَثَ رُسُلَهُ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ وَحْيِهِ وَ جَعَلَهُمْ حُجَّةً لَهُ عَلَى خَلْقِهِ لِئَلَّا تَجِبَ الْحُجَّةُ لَهُمْ بِتَرْكِ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ فَدَعَاهُمْ بِلِسَانِ الصِّدْقِ إِلَى

سَبِيلِ الْحَقِّ أَلَا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَشَفَ الْخَلْقَ كَشْفَةً لَا أَنَّهُ جَهِلَ مَا أَخْفَوْهُ مِنْ مَصُونِ أَسْرَارِهِمْ وَ مَكْنُونِ ضَمَائِرِهِمْ وَ لَكِنْ لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ

أَحْسَنُ عَمَلًا فَيَكُونَ الثَّوَابُ جَزَاءً وَ الْعِقَابُ بَوَاءً أَيْنَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ دُونَنَا كَذِباً وَ بَغْياً عَلَيْنَا أَنْ رَفَعَنَا اللَّهُ وَ

وَضَعَهُمْ وَ أَعْطَانَا وَ حَرَمَهُمْ وَ أَدْخَلَنَا وَ أَخْرَجَهُمْ بِنَا يُسْتَعْطَى الْهُدَى وَ يُسْتَجْلَى الْعَمَى إِنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْش غُرِسُوا فِي هَذَا الْبَطْنِ مِنْ

هَاشِم لَا تَصْلُحُ عَلَى سِوَاهُمْ وَ لَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ مِنْ غَيْرِهِمْ

أول الكلام مأخوذ من قوله سبحانه رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ و قوله تعالى وَ ما كُنّا

مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا.

[9 : 85 ]

فإن قلت فهذا يناقض مذهب المعتزلة في قولهم بالواجبات عقلا و لو لم تبعث الرسل. قلت صحة مذهبهم تقتضي أن تحمل عموم

الألفاظ على أن المراد بها الخصوص فيكون التأويل لئلا يكون للناس على الله حجة فيما لم يدل العقل على وجوبه و لا قبحه

كالشرعيات و كذلك وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا على ما لم يكن العقل دليلا عليه حتى نبعث رسولا. الإعذار تقديم العذر ثم

قال إن الله تعالى كشف الخلق بما تعبدهم به من الشرعيات على ألسنة الأنبياء و لم يكن أمرهم خافيا عنه فيحتاج إلى أن يكشفهم

بذلك و لكنه أراد ابتلاءهم و اختبارهم ليعلم أيهم أحسن عملا فيعاقب المسيء و يثيب المحسن. فإن قلت الإشكال قائم لأنه إذا كان

يعلم أيهم يحسن و أيهم يسيء فما فائدة الابتلاء و هل هو إلا محض العبث قلت فائدة الابتلاء إيصال نفع إلى زيد لم يكن ليصح

إيصاله إليه إلا بواسطة هذا الابتلاء و هو ما يقوله أصحابنا إن الابتلاء بالثواب قبيح و الله تعالى يستحيل أن يفعل القبيح. قوله و

للعقاب بواء أي مكافأة قالت ليلى الأخيلية

فإن تكن القتلى بواء فإنكم فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر

و أبأت القاتل بالقتيل و استبأته أيضا إذا قتلته به و قد باء الرجل بصاحبه أي قتل به

[9 : 86 ]

و في المثل باءت عرار بكحل و هما بقرتان قتلت إحداهما بالأخرى و قال مهلهل لبجير لما قتل بؤ بشسع نعل كليب. قوله ع أين

الذين زعموا هذا الكلام كناية و إشارة إلى قوم من الصحابة كانوا ينازعونه الفضل فمنهم من كان يدعي له أنه أفرض و منهم من كان

يدعي له أنه أقرأ و منهم من كان يدعي له أنه أعلم بالحلال و الحرام هذا مع تسليم هؤلاء له أنه ع أقضى الأمة و أن القضاء يحتاج

إلى كل هذه الفضائل و كل واحدة منها لا تحتاج إلى غيرها فهو إذن أجمع للفقه و أكثرهم احتواء عليه إلا أنه ع لم يرض بذلك و لم

يصدق الخبر الذي قيل أفرضكم فلان إلى آخره فقال إنه كذب و افتراء حمل قوما على وضعه الحسد و البغي و المنافسة لهذا الحي

من بني هاشم أن رفعهم الله على غيرهم و اختصهم دون من سواهم. و أن هاهنا للتعليل أي لأن فحذف اللام التي هي أداة التعليل على

الحقيقة قال سبحانه لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ و قال بعض النحاة لبعض الفقهاء الزاعمين أن لا حاجة

للفقه إلى النحو ما تقول لرجل قال لزوجته أنت طالق إن دخلت الدار فقال لا يقع إلا بالدخول فقال فإن فتح الهمزة قال كذلك فعرفه

أن العربية نافعة في الفقه و أن الطلاق منجز لا معلق إن كان مراده تعليل الطلاق بوقوع الدخول لاشتراطه به. ثم قال بنا يستعطى

الهدى أي يطلب أن يعطى و كذلك يستجلى أي يطلب جلاؤه. ثم قال إن الأئمة من قريش إلى آخر الفصل

[9 : 87 ]

اختلاف الفرق الإسلامية في كون الأئمة من قريش

و قد اختلف الناس في اشتراط النسب في الإمامة فقال قوم من قدماء أصحابنا إن النسب ليس بشرط فيها أصلا و إنها تصلح في

القرشي و غير القرشي إذا كان فاضلا مستجمعا للشرائط المعتبرة و اجتمعت الكلمة عليه و هو قول الخوارج. و قال أكثر أصحابنا و

أكثر الناس إن النسب شرط فيها و إنها لا تصلح إلا في العرب خاصة و من العرب في قريش خاصة و قال أكثر أصحابنا معنى

قول النبي ص الأئمة من قريش

أن القرشية شرط إذا وجد في قريش من يصلح للإمامة فإن لم يكن فيها من يصلح فليست القرشية شرطا فيها. و قال بعض أصحابنا

معنى الخبر أنه لا تخلو قريش أبدا ممن يصلح للإمامة فأوجبوا بهذا الخبر وجود من يصلح من قريش لها في كل عصر و زمان. و قال

معظم الزيدية إنها في الفاطميين خاصة من الطالبيين لا تصلح في غير البطنين و لا تصح إلا بشرط أن يقوم بها و يدعو إليها فاضل

زاهد عالم عادل شجاع سائس و بعض الزيدية يجيز الإمامة في غير الفاطميين من ولد علي ع و هو من أقوالهم الشاذة. و أما الراوندية

فإنهم خصصوها بالعباس رحمه الله و ولده من بين بطون قريش كلها و هذا القول هو الذي ظهر في أيام المنصور و المهدي و أما

الإمامية فإنهم جعلوها سارية في ولد الحسين ع في أشخاص مخصوصين و لا تصلح عندهم لغيرهم. و جعلها الكيسانية في محمد بن

الحنفية و ولده و منهم من نقلها منه إلى ولد غيره. فإن قلت إنك شرحت هذا الكتاب على قواعد المعتزلة و أصولهم فما قولك في هذا

[9 : 88 ]

الكلام و هو تصريح بأن الإمامة لا تصلح من قريش إلا في بني هاشم خاصة و ليس ذلك بمذهب للمعتزلة لا متقدميهم و لا متأخريهم.

قلت هذا الموضع مشكل و لي فيه نظر و إن صح أن عليا ع قاله قلت كما قال لأنه ثبت عندي

أن النبي ص قال إنه مع الحق و أن الحق يدور معه حيثما دار

و يمكن أن يتأول و يطبق على مذهب المعتزلة فيحمل على أن المراد به كمال الإمامة كما حمل

قوله ص لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد

على نفي الكمال لا على نفي الصحة

مِنْهَا آثَرُوا عَاجِلًا وَ أَخَّرُوا آجِلًا وَ تَرَكُوا صَافِياً وَ شَرِبُوا آجِناً كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى فَاسِقِهِمْ وَ قَدْ صَحِبَ الْمُنْكَرَ فَأَلِفَهُ وَ بَسِئَ بِهِ وَ وَافَقَهُ حَتَّى

شَابَتْ عَلَيْهِ مَفَارِقُهُ وَ صُبِغَتْ بِهِ خَلَائِقُهُ ثُمَّ أَقْبَلَ مُزْبِداً كَالتَّيَّارِ لَا يُبَالِي مَا غَرَّقَ أَوْ كَوَقْعِ النَّارِ فِي الْهَشِيمِ لَا يَحْفِلُ مَا حَرَّقَ أَيْنَ الْعُقُولُ

الْمُسْتَصْبِحَةُ بِمَصَابِيحِ الْهُدَى وَ الْأَبْصَارُ اللَّامِحَةُ إِلَى مَنَازِلِ التَّقْوَى أَيْنَ الْقُلُوبُ الَّتِي وُهِبَتْ لِلَّهِ وَ عُوقِدَتْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ ازْدَحَمُوا عَلَى

الْحُطَامِ وَ تَشَاحُّوا عَلَى الْحَرَامِ وَ رُفِعَ لَهُمْ عَلَمُ الْجَنَّةِ وَ النَّارِ فَصَرَفُوا عَنِ الْجَنَّةِ وُجُوهَهُمْ وَ أَقْبَلُوا إِلَى النَّارِ بِأَعْمَالِهِمْ وَ دَعَاهُمْ رَبُّهُمْ

فَنَفَرُوا وَ وَلَّوْا وَ دَعَاهُمُ الشَّيْطَانُ فَاسْتَجَابُوا وَ أَقْبَلُوا

[9 : 89 ]

آثروا اختاروا و أخروا تركوا الآجن الماء المتغير أجن الماء يأجن و يأجن. و بسئ به ألفه و ناقة بسوء ألفت الحالب و لا تمنعه و

شابت عليه مفارقه طال عهده به مذ زمن الصبا حتى صار شيخا و صبغت به خلائقه ما صارت طبعا لأن العادة طبيعة ثانية. مزبدا أي ذو

زبد و هو ما يخرج من الفم كالرغوة يضرب مثلا للرجل الصائل المقتحم. و التيار معظم اللجة و المراد به هاهنا السيل و الهشيم

دقاق الحطب. و لا يحفل بفتح حرف المضارعة لأن الماضي ثلاثي أي لا يبالي. و الأبصار اللامحة الناظرة و تشاحوا تضايقوا كل منهم

يريد ألا يفوته ذلك و أصله الشح و هو البخل. فإن قلت هذا الكلام يرجع إلى الصحابة الذين تقدم ذكرهم في أول الخطبة. قلت لا و

إن زعم قوم أنه عناهم بل هو إشارة إلى قوم ممن يأتي من الخلف بعد السلف أ لا تراه قال كأني أنظر إلى فاسقهم قد صحب المنكر

فألفه و هذا اللفظ إنما يقال في حق من لم يوجد بعد كما قال في حق الأتراك كأني أنظر إليهم قوما كأن وجوههم المجان و كما قال في

حق صاحب الزنج كأني به يا أحنف قد سار في الجيش و كما قال في الخطبة التي ذكرناها آنفا كأني به قد نعق بالشام يعني به عبد

الملك و حوشي ع أن يعني بهذا الكلام الصحابة لأنهم ما آثروا العاجل و لا أخروا الآجل و لا صحبوا المنكر و لا أقبلوا كالتيار لا

يبالي ما غرق و لا كالنار لا تبالي ما أحرقت و لا ازدحموا على الحطام و لا تشاحوا على الحرام و لا صرفوا عن الجنة وجوههم و لا

أقبلوا

[9 : 90 ]

إلى النار بأعمالهم و لا دعاهم الرحمن فولوا و لا دعاهم الشيطان فاستجابوا و قد علم كل أحد حسن سيرتهم و سداد طريقتهم و

إعراضهم عن الدنيا و قد ملكوها و زهدهم فيها و قد تمكنوا منها و لو لا قوله كأني أنظر إلى فاسقهم لم أبعد أن يعني بذلك قوما ممن

عليه اسم الصحابة و هو رديء الطريقة كالمغيرة بن شعبة و عمرو بن العاص و مروان بن الحكم و معاوية و جماعة معدودة أحبوا

الدنيا و استغواهم الشيطان و هم معدودون في كتب أصحابنا و من اشتغل بعلوم السيرة و التواريخ عرفهم بأعيانهم

[9 : 91 ]

145- و من خطبة له ع

أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنْتُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا غَرَضٌ تَنْتَضِلُ فِيهِ الْمَنَايَا مَعَ كُلِّ جَرْعَة شَرَقٌ وَ فِي كُلِّ أَكْلَة غَصَصٌ لَا تَنَالُونَ مِنْهَا نِعْمَةً إِلَّا بِفِرَاقِ

أُخْرَى وَ لَا يُعَمَّرُ مُعَمَّرٌ مِنْكُمْ يَوْماً مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا بِهَدْمِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ وَ لَا تُجَدَّدُ لَهُ زِيَادَةٌ فِي أَكْلِهِ إِلَّا بِنَفَادِ مَا قَبْلَهَا مِنْ رِزْقِهِ وَ لَا يَحْيَا لَهُ أَثَرٌ

إِلَّا مَاتَ لَهُ أَثَرٌ وَ لَا يَتَجَدَّدُ لَهُ جَدِيدٌ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَخْلَقَ لَهُ جَدِيدٌ وَ لَا تَقُومُ لَهُ نَابِتَةٌ إِلَّا وَ تَسْقُطُ مِنْهُ مَحْصُودَةٌ وَ قَدْ مَضَتْ أُصُولٌ نَحْنُ فُرُوعُهَا

فَمَا بَقَاءُ فَرْع بَعْدَ ذَهَابِ أَصْلِهِ

الغرض ما ينصب ليرمى و هو الهدف و تنتضل فيه المنايا تترامى فيه للسبق و منه الانتضال بالكلام و بالشعر كأنه يجعل المنايا

أشخاصا تتناضل بالسهام من الناس من يموت قتلا و منهم من يموت غرقا أو يتردى في بئر أو تسقط عليه حائط أو يموت على فراشه.

ثم قال مع كل جرعة شرق و في كل أكلة غصص بفتح الغين مصدر قولك غصصت يا فلان بالطعام و روي غصص جمع غصة و هي الشجا

و هذا مثل قول بعضهم المنحة فيها مقرونة بالمحنة و النعمة مشفوعة بالنقمة

[9 : 92 ]

و قد بالغ بعض الشعراء في الشكوى فأتى بهذه الألفاظ لكنه أسرف فقال.

حظي من العيش أكل كله غصص مر المذاق و شرب كله شرق

و مراد أمير المؤمنين ع بكلامه أن نعيم الدنيا لا يدوم فإذا أحسنت أساءت و إذا أنعمت أنقمت. ثم قال لا ينالون منها نعمة إلا بفراق

أخرى هذا معنى لطيف و ذلك أن الإنسان لا يتهيأ له أن يجمع بين الملاذ الجسمانية كلها في وقت فحال ما يكون آكلا لا يكون

مجامعا و حال ما يشرب لا يأكل و حال ما يركب للقنص و الرياضة لا يكون جالسا على فراش وثير ممهد و على هذا القياس لا يأخذ في

ضرب من ضروب الملاذ إلا و هو تارك لغيره منها. ثم قال و لا يعمر معمر منكم يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله و هذا أيضا لطيف

لأن المسرور ببقائه إلى يوم الأحد لم يصل إليه إلا بعد أن قضى يوم السبت و قطعه و يوم السبت من أيام عمره فإذا قد هدم من

عمره يوما فيكون قد قرب إلى الموت لأنه قد قطع من المسافة جزءا. ثم قال و لا تجدد له زيادة في أكله إلا بنفاد ما قبلها من رزقه و

هذا صحيح فإن فسرنا الرزق بما وصل إلى البطن على أحد تفسيرات المتكلمين فإن الإنسان لا يأكل لقمة إلا و قد فرغ من اللقمة

التي قبلها فهو إذا لا يتجدد له زيادة في أكله إلا بنفاد ما قبلها من رزقه. ثم قال و لا يحيا له أثر إلا مات له أثر و ذلك أن الإنسان في

الأعم الأغلب لا ينتشر صيته و يشيع فضله إلا عند الشيخوخة و كذلك لا تعرف أولاده و يصير لهم اسم في الدنيا إلا بعد كبره و علو

سنه فإذا ما حيي له أثر إلا بعد أن مات له أثر و هو قوته و نشاطه و شبيبته و مثله قوله و لا يتجدد له جديد إلا بعد أن يخلق له جديد.

[9 : 93 ]

ثم قال و لا تقوم له نابتة إلا و تسقط منه محصودة هذه إشارة إلى ذهاب الآباء عند حدوث أبنائهم في الأعم الأغلب و لهذا قال و قد

مضت أصول نحن فروعها فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله و قد نظر الشعراء إلى هذا المعنى فقالوا فيه و أكثروا نحو قول الشاعر

فإن أنت لم تصدقك نفسك فانتسب لعلك تهديك القرون الأوائل

فإن لم تجد من دون عدنان والدا و دون معد فلتزعك العواذل

و قال الشاعر

فعددت آبائي إلى عرق الثرى فدعوتهم فعلمت أن لم يسمعوا

لا بد من تلف مصيب فانتظر أ بأرض قومك أم بأخرى تصرع

و قد صرح أبو العتاهية بالمعنى فقال

كل حياة إلى ممات و كل ذي جدة يحول

كيف بقاء الفروع يوما و قد ذوت قبلها الأصول

مِنْهَا وَ مَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلَّا تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ فَاتَّقُوا الْبِدَعَ وَ الْزَمُوا الْمَهْيَعَ إِنَّ عَوَازِمَ الْأُمُورِ أَفْضَلُهَا وَ إِنَّ مُحْدَثَاتِهَا شِرَارُهَا

[9 : 94 ]

البدعة كل ما أحدث مما لم يكن على عهد رسول الله ص فمنها الحسن كصلاة التراويح و منها القبيح كالمنكرات التي ظهرت في

أواخر الخلافة العثمانية و إن كانت قد تكلفت الأعذار عنها. و معنى قوله ع ما أحدثت بدعة إلا ترك بها سنة أن من السنة ألا تحدث

البدعة فوجود البدعة عدم للسنة لا محالة. و المهيع الطريق الواضح من قولهم أرض هيعة أي مبسوطة واسعة و الميم مفتوحة و هي

زائدة. و عوازم الأمور ما تقادم منها من قولهم عجوز عوزم أي مسنة قال الراجز

لقد غدوت خلق الثياب أحمل عدلين من التراب

لعوزم و صبية سغاب فآكل و لاحس و آبي

و يجمع فوعل على فواعل كدورق و هوجل و يجوز أن يكون عوازم جمع عازمة و يكون فاعل بمعنى مفعول أي معزوم عليها أي

مقطوع معلوم بيقين صحتها و مجيء فاعلة بمعنى مفعولة كثير كقولهم عيشة راضية بمعنى مرضية و الأول أظهر عندي لأن في مقابلته

قوله و إن محدثاتها شرارها و المحدث في مقابلة القديم

[9 : 95 ]

146- و من كلام له ع و قد استشاره عمر في الشخوص لقتال الفرس بنفسه

إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ نَصْرُهُ وَ لَا خِذْلَانُهُ بِكَثْرَة وَ لَا بِقِلَّة وَ هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي أَظْهَرَهُ وَ جُنْدُهُ الَّذِي أَعَدَّهُ وَ أَمَدَّهُ حَتَّى بَلَغَ مَا بَلَغَ وَ طَلَعَ

حَيْثُمَا طَلَعَ وَ نَحْنُ عَلَى مَوْعُود مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ وَ نَاصِرٌ جُنْدَهُ وَ مَكَانُ الْقَيِّمِ بِالْأَمْرِ مَكَانُ النِّظَامِ مِنَ الْخَرَزِ يَجْمَعُهُ وَ يَضُمُّهُ فَإِنِ

انْقَطَعَ النِّظَامُ تَفَرَّقَ وَ ذَهَبَ ثُمَّ لَمْ يَجْتَمِعْ بِحَذَافِيرِهِ أَبَداً وَ الْعَرَبُ الْيَوْمَ وَ إِنْ كَانُوا قَلِيلًا فَهُمْ كَثِيرُونَ بِالْإِسْلَامِ عَزِيزُونَ بِالِاجْتِمَاعِ

فَكُنْ قُطْباً وَ اسْتَدِرِ الرَّحَى بِالْعَرَبِ وَ أَصْلِهِمْ دُونَكَ نَارَ الْحَرْبِ فَإِنَّكَ إِنْ شَخَصْتَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ انْتَقَضَتْ عَلَيْكَ الْعَرَبُ مِنْ أَطْرَافِهَا وَ

أَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ مَا تَدَعُ وَرَاءَكَ مِنَ الْعَوْرَاتِ أَهَمَّ إِلَيْكَ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْكَ إِنَّ الْأَعَاجِمَ إِنْ يَنْظُرُوا إِلَيْكَ غَداً يَقُولُوا هَذَا أَصْلُ الْعَرَبِ فَإِذَا

اقْتَطَعْتُمُوهُ اسْتَرَحْتُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَشَدَّ لِكَلْبِهِمْ عَلَيْكَ وَ طَمَعِهِمْ فِيكَ فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ مَسِيرِ الْقَوْمِ إِلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ

هُوَ أَكْرَهُ لِمَسِيرِهِمْ مِنْكَ وَ هُوَ أَقْدَرُ عَلَى تَغْيِيرِ مَا يَكْرَهُ وَ أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ عَدَدِهِمْ فَإِنَّا لَمْ نَكُنْ نُقَاتِلُ فِيمَا مَضَى بِالْكَثْرَةِ وَ إِنَّمَا كُنَّا نُقَاتِلُ

بِالنَّصْرِ وَ الْمَعُونَةِ

[9 : 96 ]

نظام العقد الخيط الجامع له و تقول أخذته كله بحذافيره أي بأصله و أصل الحذافير أعالي الشيء و نواحيه الواحد حذفار. و أصلهم

نار الحرب اجعلهم صالين لها يقال صليت اللحم و غيره أصليه صليا مثل رميته أرميه رميا إذا شويته و في الحديث أنه ص أتي بشاة

مصلية أي مشوية و يقال أيضا صليت الرجل نارا إذا أدخلته النار و جعلته يصلاها فإن ألقيته فيها إلقاء كأنك تريد الإحراق قلت

أصليته بالألف و صليته تصلية و قرئ وَ يَصْلى سَعِيراً و من خفف فهو من قولهم صلى فلان بالنار بالكسر يصلى صليا احترق قال الله

تعالى هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا و يقال أيضا صلى فلان بالأمر إذا قاسى حره و شدته قال الطهوي

و لا تبلى بسالتهم و إن هم صلوا بالحرب حينا بعد حين

و على هذا الوجه يحمل كلام أمير المؤمنين ع و هو مجاز من الإحراق و الشيء الموضوع لها هذا اللفظ حقيقة. و العورات الأحوال

التي يخاف انتقاضها في ثغر أو حرب قال تعالى يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَة و الكلب الشر و الأذى

يوم القادسية

و اعلم أن هذا الكلام قد اختلف في الحال التي قاله فيها لعمر فقيل قاله له في

[9 : 97 ]

غزاة القادسية و قيل في غزاة نهاوند و إلى هذا القول الأخير ذهب محمد بن جرير الطبري في التاريخ الكبير و إلى القول الأول ذهب

المدائني في كتاب الفتوح و نحن نشير إلى ما جرى في هاتين الوقعتين إشارة خفيفة على مذهبنا في ذكر السير و الأيام. فأما وقعة

القادسية فكانت في سنة أربع عشرة للهجرة استشار عمر المسلمين في أمر القادسية فأشار عليه علي بن أبي طالب في رواية أبي

الحسن علي بن محمد بن سيف المدائني ألا يخرج بنفسه و

قال إنك إن تخرج لا يكن للعجم همة إلا استئصالك لعلمهم أنك قطب رحى العرب فلا يكون للإسلام بعدها دولة

و أشار عليه غيره من الناس أن يخرج بنفسه فأخذ برأي علي ع. و روى غير المدائني أن هذا الرأي أشار به عبد الرحمن بن عوف قال أبو

جعفر محمد بن جرير الطبري لما بدا لعمر في المقام بعد أن كان عزم على الشخوص بنفسه أمر سعد بن أبي وقاص على المسلمين و

بعث يزدجرد رستم الأرمني أميرا على الفرس فأرسل سعد النعمان بن مقرن رسولا إلى يزدجرد فدخل عليه و كلمه بكلام غليظ فقال

يزدجرد لو لا أن الرسل لا تقتل لقتلتك ثم حمله وقرا من تراب على رأسه و ساقه حتى أخرجه من باب من أبواب المدائن و قال ارجع

إلى صاحبك فقد كتبت إلى رستم أن يدفنه و جنده من العرب في خندق القادسية ثم لأشغلن العرب بعدها بأنفسهم و لأصيبنهم بأشد

مما أصابهم به سابور ذو الأكتاف فرجع النعمان إلى سعد فأخبره فقال لا تخف فإن الله قد ملكنا أرضهم تفاؤلا بالتراب. قال أبو جعفر

و تثبط رستم عن القتال و كرهه و آثر المسالمة و استعجله يزدجرد مرارا و استحثه على الحرب و هو يدافع بها و يرى المطاولة و كان

عسكره مائة و عشرين ألفا

[9 : 98 ]

و كان عسكر سعد بضعا و ثلاثين ألفا و أقام رستم بريدا من الرجال الواحد منهم إلى جانب الآخر من القادسية إلى المدائن كلما تكلم

رستم كلمة أداها بعضهم إلى بعض حتى تصل إلى سمع يزدجرد في وقتها و شهد وقعة القادسية مع المسلمين طليحة بن خويلد و عمرو

بن معديكرب و الشماخ بن ضرار و عبدة بن الطبيب الشاعر و أوس بن معن الشاعر و قاموا في الناس ينشدونهم الشعر و يحرضونهم

و قرن أهل فارس أنفسهم بالسلاسل لئلا يهربوا فكان المقرنون منهم نحو ثلاثين ألفا و التحم الفريقان في اليوم الأول فحملت

الفيلة التي مع رستم على الخيل فطحنتها و ثبت لها جمع من الرجالة و كانت ثلاثة و ثلاثين فيلا منها فيل الملك و كان أبيض عظيما

فضربت الرجال خراطيم الفيلة بالسيوف فقطعتها و ارتفع عواؤها و أصيب في هذا اليوم و هو اليوم الأول خمسمائة من المسلمين و

ألفان من الفرس و وصل في الثاني أبو عبيدة بن الجراح من الشام في عساكر من المسلمين فكان مددا لسعد و كان هذا اليوم على

الفرس أشد من اليوم الأول قتل من المسلمين ألفان و من المشركين عشرة آلاف و أصبحوا في اليوم الثالث على القتال و كان عظيما

على العرب و العجم معا و صبر الفريقان و قامت الحرب ذلك اليوم و تلك الليلة جمعاء لا ينطقون كلامهم الهرير فسميت ليلة

الهرير. و انقطعت الأخبار و الأصوات عن سعد و رستم و انقطع سعد إلى الصلاة و الدعاء و البكاء و أصبح الناس حسرى لم يغمضوا

ليلتهم كلها و الحرب قائمة بعد إلى وقت الظهر فأرسل الله تعالى ريحا عاصفا في اليوم الرابع أمالت الغبار و النقع على العجم

فانكسروا و وصلت العرب إلى سرير رستم و قد قام عنه ليركب جملا و على رأسه العلم فضرب هلال بن علقمة الحمل الذي رستم

فوقه فقطع حباله و وقع على هلال أحد العدلين فأزال فقار ظهره و مضى رستم نحو العتيق فرمى نفسه فيه و اقتحم هلال عليه فأخذ

السابق

التالي