السابق

التالي

[1: 2]

الجزء الأول

[1: 3]

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل الحمد لله الذي تفرد بالكمال فكل كامل سواه منقوص و استوعب عموم المحامد و الممادح فكل ذي عموم عداه مخصوص الذي وزع منفسات نعمه بين من يشاء من خلقه و اقتضت حكمته أن نافس الحاذق في حذقه فاحتسب به عليه من رزقه و زوى الدنيا عن الفضلاء فلم يأخذها الشريف بشرفه و لا السابق بسبقه و قدم المفضول على الأفضل لمصلحة اقتضاها التكليف و اختص الأفضل من جلائل المآثر و نفائس المفاخر بما يعظم عن التشبيه و يجل عن التكييف و صلى الله على رسوله محمد الذي المكني عنه شعاع من شمسه و غصن من غرسه و قوة من قوى نفسه و منسوب إليه نسبة الغد إلى يومه و اليوم إلى أمسه فما هما إلا سابق و لاحق و قائد و سائق و ساكت و ناطق و مجل و مصل سبقا لمحة البارق و أنارا سدفة الغاسق صلى الله عليهما ما استخلب خبير و تناوح حراء و ثبير. و بعد فإن مراسم المولى الوزير الأعظم الصاحب الصدر الكبير المعظم العالم العادل المظفر المنصور المجاهد المرابط مؤيد الدين عضد الإسلام سيد وزراء الشرق و الغرب أبي طالب

[1: 4]

محمد بن أحمد بن محمد العلقمي نصير أمير المؤمنين أسبغ الله عليه من ملابس النعم أضفاها و أحله من مراقب السعادة و مراتب السيادة أشرفها و أعلاها لما شرفت عبد دولته و ربيب نعمته بالاهتمام بشرح نهج البلاغة على صاحبه أفضل الصلوات و لذكره أطيب التحيات بادر إلى ذلك مبادرة من بعثه من قبل عزم ثم حمله أمر جزم و شرع فيه بادي الرأي شروع مختصر و على ذكر الغريب و المعنى مقتصر ثم تعقب الفكر فرأى أن هذه النغبة لا تشفي أواما و لا تزيد الحائم إلا خياما فتنكب ذلك المسلك و رفض ذلك المنهج و بسط القول في شرحه بسطا اشتمل على الغريب و المعاني و علم البيان و ما عساه يشتبه و يشكل من الإعراب و التصريف و أورد في كل موضع ما يطابقه من النظائر و الأشباه نثرا و نظما و ذكر ما يتضمنه من السير و الوقائع و الأحداث فصلا فصلا و أشار إلى ما ينطوي عليه من دقائق علم التوحيد و العدل إشارة خفيفة و لوح إلى ما يستدعي الشرح ذكره من الأنساب و الأمثال و النكت تلويحات لطيفة و رصعه من المواعظ الزهدية و الزواجر الدينية و الحكم النفسية و الآداب الخلقية المناسبة لفقره و المشاكلة لدرره و المنتظمة مع معانيه في سمط و المتسقة مع جواهره في لط بما يهزأ بشنوف النضار و يخجل قطع الروض غب القطار و أوضح ما يومئ إليه من المسائل الفقهية و برهن على أن كثيرا من فصوله داخل في باب المعجزات المحمدية لاشتمالها على

[1: 5]

الأخبار الغيبية و خروجها عن وسع الطبيعة البشرية و بين من مقامات العارفين التي يرمز إليها في كلامه ما لا يعقله إلا العالمون و لا يدركه إلا الروحانيون المقربون و كشف عن مقاصده ع في لفظة يرسلها و معضلة يكني عنها و غامضة يعرض بها و خفايا يجمجم بذكرها و هنات تجيش في صدره فينفث بها نفثة المصدور و مرمضات مؤلمات يشكوها فيستريح بشكواها استراحة المكروب. فخرج هذا الكتاب كتابا كاملا في فنه واحدا بين أبناء جنسه ممتعا بمحاسنه جليلة فوائده شريفة مقاصده عظيما شأنه عالية منزلته و مكانه و لا عجب أن يتقرب بسيد الكتب إلى سيد الملوك و بجامع الفضائل إلى جامع المناقب و بواحد العصر إلى أوحد الدهر فالأشياء بأمثالها أليق و إلى أشكالها أقرب و شبه الشيء إليه منجذب و نحوه دان و مقترب. و لم يشرح هذا الكتاب قبلي فيما أعلمه إلا واحد و هو سعيد بن هبة الله بن الحسن الفقيه المعروف بالقطب الراوندي و كان من فقهاء الإمامية و لم يكن من رجال هذا الكتاب لاقتصاره مدة عمره على الاشتغال بعلم الفقه وحده و أنى للفقيه أن يشرح هذه الفنون المتنوعة و يخوض في هذه العلوم المتشعبة لا جرم أن شرحه لا يخفى حاله عن الذكي و جرى الوادي فطم على القرى و قد تعرضت في هذا الشرح لمناقضته

[1: 6]

في مواضع يسيرة اقتضت الحال ذكرها و أعرضت عن كثير مما قاله إذ لم أر في ذكره و نقضه كبير فائدة. و أنا قبل أن أشرع في الشرح أذكر أقوال أصحابنا رحمهم الله في الإمامة و التفضيل و البغاة و الخوارج و متبع ذلك بذكر نسب أمير المؤمنين ع و لمع يسيرة من فضائله ثم أثلث بذكر نسب الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين الموسوي رحمه الله و بعض خصائصه و مناقبه ثم أشرع في شرح خطبة نهج البلاغة التي هي من كلام الرضي أبي الحسن رحمه الله فإذا انتهيت من ذلك كله ابتدأت بعون الله و توفيقه في شرح كلام أمير المؤمنين ع شيئا فشيئا. و من الله سبحانه أستمد المعونة و أستدر أسباب العصمة و أستميح غمائم الرحمة و أمتري أخلاف البركة و أشيم بارق النماء و الزيادة فما المرجو إلا فضله و لا المأمول إلا طوله و لا الوثوق إلا برحمته و لا السكون إلا إلى رأفته رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

[1: 7]

القول فيما يذهب إليه أصحابنا المعتزلة:

في الإمامة و التفضيل و البغاة و الخوارج

اتفق شيوخنا كافة رحمهم الله المتقدمون منهم و المتأخرون و البصريون و البغداديون على أن بيعة أبي بكر الصديق بيعة صحيحة شرعية و أنها لم تكن عن نص و إنما كانت بالاختيار الذي ثبت بالإجماع و بغير الإجماع كونه طريقا إلى الإمامة. و اختلفوا في التفضيل فقال قدماء البصريين كأبي عثمان عمرو بن عبيد و أبي إسحاق إبراهيم بن سيار النظام و أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ و أبي معن ثمامة بن أشرس و أبي محمد هشام بن عمرو الفوطي و أبي يعقوب يوسف بن عبد الله الشحام و جماعة غيرهم إن أبا بكر أفضل من علي ع و هؤلاء يجعلون ترتيب الأربعة في الفضل كترتيبهم في الخلافة. و قال البغداديون قاطبة قدماؤهم و متأخروهم كأبي سهل بشر بن المعتمر و أبي موسى عيسى بن صبيح و أبي عبد الله جعفر بن مبشر و أبي جعفر الإسكافي و أبي الحسين الخياط و أبي القاسم عبد الله بن محمود البلخي و تلامذته إن عليا ع أفضل من أبي بكر. و إلى هذا المذهب ذهب من البصريين أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي أخيرا و كان من قبل من المتوقفين كان يميل إلى التفضيل و لا يصرح به و إذا صنف ذهب إلى الوقف في مصنفاته و قال في كثير من تصانيفه إن صح خبر الطائر فعلي أفضل

[1: 8]

ثم إن قاضي القضاة رحمه الله ذكر في شرح المقالات لأبي القاسم البلخي أن أبا علي رحمه الله ما مات حتى قال بتفضيل علي ع و قال إنه نقل ذلك عنه سماعا و لم يوجد في شيء من مصنفاته و قال أيضا إن أبا علي رحمه الله يوم مات استدنى ابنه أبا هاشم إليه و كان قد ضعف عن رفع الصوت فألقى إليه أشياء من جملتها القول بتفضيل علي ع. و ممن ذهب من البصريين إلى تفضيله ع الشيخ أبو عبد الله الحسين بن علي البصري رضي الله عنه كان متحققا بتفضيله و مبالغا في ذلك و صنف فيه كتابا مفردا. و ممن ذهب إلى تفضيله ع من البصريين قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد رحمه الله ذكر ابن متويه عنه في كتاب الكفاية في علم الكلام أنه كان من المتوقفين بين علي ع و أبي بكر ثم قطع على تفضيل علي ع بكامل المنزلة. و من البصريين الذاهبين إلى تفضيله ع أبو محمد الحسن بن متويه صاحب التذكرة نص في كتاب الكفاية على تفضيله ع على أبي بكر احتج لذلك و أطال في الاحتجاج. فهذان المذهبان كما عرفت. و ذهب كثير من الشيوخ رحمهم الله إلى التوقف فيهما و هو قول أبي حذيفة واصل بن عطاء و أبي الهذيل محمد بن الهذيل العلاف من المتقدمين و هما و إن ذهبا إلى التوقف بينه ع و بين أبي بكر و عمر قاطعان على تفضيله على عثمان.

[1: 9]

و من الذاهبين إلى الوقف الشيخ أبو هاشم عبد السلام بن أبي علي رحمهما الله و الشيخ أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري رحمه الله. و أما نحن فنذهب إلى ما يذهب إليه شيوخنا البغداديون من تفضيله ع و قد ذكرنا في كتبنا الكلامية ما معنى الأفضل و هل المراد به الأكثر ثوابا أو الأجمع لمزايا الفضل و الخلال الحميدة و بينا أنه ع أفضل على التفسيرين معا و ليس هذا الكتاب موضوعا لذكر الحجاج في ذلك أو في غيره من المباحث الكلامية لنذكره و لهذا موضع هو أملك به. و أما القول في البغاة عليه و الخوارج فهو على ما أذكره لك. أما أصحاب الجمل فهم عند أصحابنا هالكون كلهم إلا عائشة و طلحة و الزبير رحمهم الله فإنهم تابوا و لو لا التوبة لحكم لهم بالنار لإصرارهم على البغي. و أما عسكر الشام بصفين فإنهم هالكون كلهم عند أصحابنا لا يحكم لأحد منهم إلا بالنار لإصرارهم على البغي و موتهم عليه رؤساؤهم و الأتباع جميعا. و أما الخوارج فإنهم مرقوا عن الدين بالخبر النبوي المجمع عليه و لا يختلف أصحابنا في أنهم من أهل النار. و جملة الأمر أن أصحابنا يحكمون بالنار لكل فاسق مات على فسقه و لا ريب في أن الباغي على الإمام الحق و الخارج عليه بشبهة أو بغير شبهة فاسق و ليس هذا مما يخصون به عليا ع فلو خرج قوم من المسلمين على غيره من أئمة الإسلام العدول لكان حكمهم حكم من خرج على علي ص. و قد برئ كثير من أصحابنا من قوم من الصحابة أحبطوا ثوابهم كالمغيرة بن شعبة

[1 : 10 ]

و كان شيخنا أبو القاسم البلخي إذا ذكر عنده عبد الله بن الزبير يقول لا خير فيه و قال مرة لا يعجبني صلاته و صومه و ليسا بنافعين له مع قول رسول الله ص لعلي ع لا يبغضك إلا منافق و قال أبو عبد الله البصري رحمه الله لما سئل عنه ما صح عندي أنه تاب من يوم الجمل و لكنه استكثر مما كان عليه. فهذه هي المذاهب و الأقوال أما الاستدلال عليها فهو مذكور في الكتب الموضوعة لهذا الفن

[1 : 11 ]

القول في نسب أمير المؤمنين علي ع و ذكر لمع يسيرة من فضائله

هو أبو الحسن علي بن أبي طالب و اسمه عبد مناف بن عبد المطلب و اسمه شيبة بن هاشم و اسمه عمرو بن عبد مناف بن قصي الغالب عليه من الكنية ع أبو الحسن و كان ابنه الحسن ع يدعوه في حياة رسول الله ص أبا الحسين و يدعوه الحسين ع أبا الحسن و يدعوان رسول الله ص أباهما فلما توفي النبي ص دعواه بأبيهما.

و كناه رسول الله ص أبا تراب وجده نائما في تراب قد سقط عنه رداؤه و أصاب التراب جسده فجاء حتى جلس عند رأسه و أيقظه و جعل يمسح التراب عن ظهره و يقول له اجلس إنما أنت أبو تراب فكانت من أحب كناه إليه ص و كان يفرح إذا دعي بها و كانت ترغب بنو أمية خطباءها

[1 : 12 ]

أن يسبوه بها على المنابر و جعلوها نقيصة له و وصمة عليه فكأنما كسوة بها الحلي و الحلل كما قال الحسن البصري رحمه الله. و كان اسمه الأول الذي سمته به أمه حيدرة باسم أبيها أسد بن هاشم و الحيدرة الأسد فغير أبوه اسمه و سماه عليا. و قيل إن حيدرة اسم كانت قريش تسميه به و القول الأول أصح يدل عليه خبره يوم برز إليه مرحب و ارتجز عليه فقال :

أنا الذي سمتني أمي مرحبا

فأجابه ع رجزا

أنا الذي سمتني أمي حيدرة.

و رجزهما معا مشهور منقول لا حاجة لنا الآن إلى ذكره. و تزعم الشيعة أنه خوطب في حياة رسول الله ص بأمير المؤمنين خاطبه بذلك جلة المهاجرين و الأنصار و لم يثبت ذلك في أخبار المحدثين إلا أنهم قد رووا ما يعطي هذا المعنى و إن لم يكن اللفظ بعينه و هو قول رسول الله ص له أنت يعسوب الدين و المال يعسوب الظلمة و في رواية أخرى هذا يعسوب المؤمنين

[1 : 13 ]

و قائد الغر المحجلين و اليعسوب ذكر النحل و أميرها روى هاتين الروايتين أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني في المسند في كتابه فضائل الصحابة و رواهما أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء. و دعي بعد وفاة رسول الله ص بوصي رسول الله لوصايته إليه بما أراده و أصحابنا لا ينكرون ذلك و لكن يقولون إنها لم تكن وصية بالخلافة بل بكثير من المتجددات بعده أفضى بها إليه ع و سنذكر طرفا من هذا المعنى فيما بعد. و أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي أول هاشمية ولدت لهاشمي كان علي ع أصغر بنيها و جعفر أسن منه بعشر سنين و عقيل أسن منه بعشر سنين و طالب أسن من عقيل بعشر سنين و فاطمة بنت أسد أمهم جميعا. و أم فاطمة بنت أسد فاطمة بنت هرم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي و أمها حدية بنت وهب بن ثعلبة بن واثلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر و أمها فاطمة بنت عبيد بن منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤي و أمها سلمى بنت عامر بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر و أمها عاتكة بنت أبي همهمة و اسمه عمرو بن عبد العزى بن عامر بن عميرة بن وديعة بن الحارث بن فهر و أمها تماضر بنت عمرو بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي و أمها حبيبة و هي أمة الله بنت عبد ياليل بن سالم بن مالك بن حطيط بن جشم بن قسي و هو ثقيف و أمها فلانة بنت مخزوم بن أسامة بن ضبع بن وائلة بن نصر بن صعصعة بن ثعلبة بن كنانة بن عمرو بن قين بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان

[1 : 14 ]

بن مضر و أمها ريطة بنت يسار بن مالك بن حطيط بن جشم بن ثقيف و أمها كلة بنت حصين بن سعد بن بكر بن هوازن و أمها حبى بنت الحارث بن النابغة بن عميرة بن عوف بن نصر بن بكر بن هوازن ذكر هذا النسب أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني في كتاب مقاتل الطالبيين. أسلمت فاطمة بنت أسد بعد عشرة من المسلمين و كانت الحادية عشرة و كان رسول الله ص يكرمها و يعظمها و يدعوها أمي و أوصت إليه حين حضرتها الوفاة فقبل وصيتها و صلى عليها و نزل في لحدها و اضطجع معها فيه بعد أن ألبسها قميصه فقال له أصحابه أنا ما رأيناك صنعت يا رسول الله بأحد ما صنعت بها فقال إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبر بي منها إنما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة و اضطجعت معها ليهون عليها ضغطة القبر و فاطمة أول امرأة بايعت رسول الله ص من النساء. و أم أبي طالب بن عبد المطلب فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم و هي أم عبد الله والد سيدنا رسول الله ص و أم الزبير بن عبد المطلب و سائر ولد عبد المطلب بعد لأمهات شتى. و اختلف في مولد علي ع أين كان فكثير من الشيعة يزعمون أنه ولد في الكعبة و المحدثون لا يعترفون بذلك و يزعمون أن المولود في الكعبة حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي. و اختلف في سنه حين أظهر النبي ص الدعوة إذ تكامل له ص أربعون سنة فالأشهر من الروايات أنه كان ابن عشر و كثير من أصحابنا المتكلمين يقولون إنه كان ابن ثلاث عشرة سنة ذكر ذلك شيخنا أبو القاسم البلخي و غيره من شيوخنا.

[1 : 15 ]

و الأولون يقولون إنه قتل و هو ابن ثلاث و ستين سنة و هؤلاء يقولون ابن ست و ستين و الروايات في ذلك مختلفة و من الناس من يزعم أن سنه كانت دون العشر و الأكثر الأظهر خلاف ذلك. و ذكر أحمد بن يحيى البلاذري و علي بن الحسين الأصفهاني أن قريشا أصابتها أزمة و قحط فقال رسول الله ص لعمية حمزة و العباس أ لا نحمل ثقل أبي طالب في هذا المحل فجاءوا إليه و سألوه أن يدفع إليهم ولده ليكفوه أمرهم فقال دعوا لي عقيلا و خذوا من شئتم و كان شديد الحب لعقيل فأخذ العباس طالبا و أخذ حمزة جعفرا و أخذ محمد ص عليا و قال لهم قد اخترت من اختاره الله لي عليكم عليا قالوا فكان علي ع في حجر رسول الله ص منذ كان عمره ست سنين. و كان ما يسدي إليه ص من إحسانه و شفقته و بره و حسن تربيته كالمكافأة و المعاوضة لصنيع أبي طالب به حيث مات عبد المطلب و جعله في حجره و هذا يطابق قوله ع لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة سبع سنين و قوله كنت أسمع الصوت و أبصر الضوء سنين سبعا و رسول الله ص حينئذ صامت ما أذن له في الإنذار و التبليغ و ذلك لأنه إذا كان عمره يوم إظهار الدعوة ثلاث عشرة سنة و تسليمه إلى رسول الله ص من أبيه و هو ابن ست فقد صح أنه كان يعبد الله قبل الناس بأجمعهم سبع سنين و ابن ست تصح منه العبادة إذا كان ذا تمييز على أن عبادة مثله هي التعظيم و الإجلال و خشوع القلب و استخذاء الجوارح إذا شاهد شيئا من جلال الله سبحانه و آياته الباهرة و مثل هذا موجود في الصبيان. و قتل ع ليلة الجمعة لثلاث عشرة بقين من شهر رمضان سنة أربعين في

[1 : 16 ]

رواية أبي عبد الرحمن السلمي و هي الرواية المشهورة و في رواية أبي مخنف أنها كانت لإحدى عشرة ليلة بقين من شهر رمضان و عليه الشيعة في زماننا. و القول الأول أثبت عند المحدثين و الليلة السابعة عشرة من شهر رمضان هي ليلة بدر و قد كانت الروايات وردت أنه يقتل في ليلة بدر ع و قبره بالغري. و ما يدعيه أصحاب الحديث من الاختلاف في قبره و أنه حمل إلى المدينة أو أنه دفن في رحبة الجامع أو عند باب قصر الإمارة أو ند البعير الذي حمل عليه فأخذته الأعراب باطل كله لا حقيقة له و أولاده أعرف بقبره و أولاد كل الناس أعرف بقبور آبائهم من الأجانب و هذا القبر الذي زاره بنوه لما قدموا العراق منهم جعفر بن محمد ع و غيره من أكابرهم و أعيانهم و روى أبو الفرج في مقاتل الطالبيين بإسناد ذكره هناك أن الحسين ع لما سئل أين دفنتم أمير المؤمنين فقال خرجنا به ليلا من منزله بالكوفة حتى مررنا به على مسجد الأشعث حتى انتهينا به إلى الظهر بجنب الغري. و سنذكر خبر مقتله ع فيما بعد. فأما فضائله ع فإنها قد بلغت من العظم و الجلالة و الانتشار و الاشتهار مبلغا يسمج معه التعرض لذكرها و التصدي لتفصيلها فصارت كما قال أبو العيناء لعبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل و المعتمد رأيتني فيما أتعاطى من وصف فضلك كالمخبر عن ضوء النهار الباهر و القمر الزاهر الذي لا يخفى على الناظر فأيقنت أني حيث انتهى بي القول منسوب إلى العجز مقصر عن الغاية فانصرفت عن الثناء عليك إلى الدعاء لك و وكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك. و ما أقول في رجل أقر له أعداؤه و خصومه بالفضل و لم يمكنهم جحد مناقبه

[1 : 17 ]

و لا كتمان فضائله فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض و غربها و اجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره و التحريض عليه و وضع المعايب و المثالب له و لعنوه على جميع المنابر و توعدوا مادحيه بل حبسوهم و قتلوهم و منعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة أو يرفع له ذكرا حتى حظروا أن يسمى أحد باسمه فما زاده ذلك إلا رفعة و سموا و كان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه و كلما كتم تضوع نشره و كالشمس لا تستر بالراح و كضوء النهار أن حجبت عنه عين واحدة أدركته عيون كثيرة. و ما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة و تنتهي إليه كل فرقة و تتجاذبه كل طائفة فهو رئيس الفضائل و ينبوعها و أبو عذرها و سابق مضمارها و مجلي حلبتها كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ و له اقتفى و على مثاله احتذى. و قد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الإلهي لأن شرف العلم بشرف المعلوم و معلومه أشرف الموجودات فكان هو أشرف العلوم و من كلامه ع اقتبس و عنه نقل و إليه انتهى و منه ابتدأ فإن المعتزلة الذين هم أهل التوحيد و العدل و أرباب النظر و منهم تعلم الناس هذا الفن تلامذته و أصحابه لأن كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية و أبو هاشم تلميذ أبيه و أبوه تلميذه ع و أما الأشعرية فإنهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري و هو تلميذ أبي علي الجبائي و أبو علي أحد مشايخ المعتزلة فالأشعرية ينتهون بآخره إلى أستاذ المعتزلة و معلمهم و هو علي بن أبي طالب ع. و أما الإمامية و الزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر.

[1 : 18 ]

و من العلوم علم الفقه و هو ع أصله و أساسه و كل فقيه في الإسلام فهو عيال عليه و مستفيد من فقهه أما أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف و محمد و غيرهما فأخذوا عن أبي حنيفة و أما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة و أما أحمد بن حنبل فقرأ على الشافعي فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة و أبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد ع و قرأ جعفر على أبيه ع و ينتهي الأمر إلى علي ع و أما مالك بن أنس فقرأ على ربيعة الرأي و قرأ ربيعة على عكرمة و قرأ عكرمة على عبد الله بن عباس و قرأ عبد الله بن عباس على علي بن أبي طالب. و إن شئت فرددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك كان لك ذلك فهؤلاء الفقهاء الأربعة. و أما فقه الشيعة فرجوعه إليه ظاهر و أيضا فإن فقهاء الصحابة كانوا عمر بن الخطاب و عبد الله بن عباس و كلاهما أخذ عن علي ع أما ابن عباس فظاهر و أما عمر فقد عرف كل أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه و على غيره من الصحابة و قوله غير مرة لو لا علي لهلك عمر و قوله لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن و قوله لا يفتين أحد في المسجد و علي حاضر فقد عرف بهذا الوجه أيضا انتهاء الفقه إليه.

فأما قوله و أهل الأرض يومئذ ملل متفرقة فإن العلماء يذكرون أن النبي ص بعث و الناس أصناف شتى في أديانهم يهود و نصارى و مجوس

و صائبون و عبده أصنام و فلاسفة و زنادقة.

القول في أديان العرب في الجاهلية

فأما الأمة التي بعث محمد ص فيها فهم العرب و كانوا أصنافا شتى

[1 : 118 ]

فمنهم معطلة و منهم غير معطلة فأما المعطلة منهم فبعضهم أنكر الخالق و البعث و الإعادة و قالوا ما قال القرآن العزيز عنهم ما هِيَ

إِلّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ فجعلوا الجامع لهم الطبع و المهلك لهم الدهر و بعضهم اعترف بالخالق

سبحانه و أنكر البعث و هم الذين أخبر سبحانه عنهم بقوله قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ و منهم من أقر بالخالق و نوع من

الإعادة و أنكروا الرسل و عبدوا الأصنام و زعموا أنها شفعاء عند الله في الآخرة و حجوا لها و نحروا لها الهدي و قربوا لها القربان و

حللوا و حرموا و هم جمهور العرب و هم الذين قال الله تعالى عنهم وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ.

فممن نطق شعره بإنكار البعث بعضهم يرثي قتلى بدر

فما ذا بالقليب قليب بدر من الفتيان و القوم الكرام

و ما ذا بالقليب قليب بدر من الشيزى تكلل بالسنام

أ يخبرنا ابن كبشة أن سنحيا و كيف حياة أصداء وهام

إذا ما الرأس زال بمنكبيه فقد شبع الأنيس من الطعام

أ يقتلني إذا ما كنت حيا و يحييني إذ رمت عظامي

[1 : 119 ]

و كان من العرب من يعتقد التناسخ و تنقل الأرواح في الأجساد و من هؤلاء أرباب الهامة التي

قال ع عنهم لا عدوى و لا هامة و لا صفر

و قال ذو الإصبع

يا عمرو إلا تدع شتمي و منقصتي أضربك حيث تقول الهامة اسقوني

و قالوا إن ليلى الأخيلية لما سلمت على قبر توبة بن الحمير خرج إليها هامة من القبر صائحة أفزعت ناقتها فوقصت بها فماتت و كان

ذلك تصديق قوله

و لو أن ليلى الأخيلية سلمت علي و دوني جندل و صفائح

لسلمت تسليم البشاشة أو زقا إليها صدى من جانب القبر صائح

و كان توبة و ليلى في أيام بني أمية. و كانوا في عبادة الأصنام مختلفين فمنهم من يجعلها مشاركة للبارئ تعالى و يطلق عليها لفظة

الشريك و من ذلك قولهم في التلبية لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه و ما ملك و منهم من لا يطلق عليها لفظ

الشريك و يجعلها وسائل و ذرائع إلى الخالق سبحانه و هم الذين قالوا ما نَعْبُدُهُمْ إِلّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللّهِ زُلْفى. و كان في العرب

مشبهة و مجسمة منهم أمية بن أبي الصلت و هو القائل

من فوق عرش جالس قد حط رجليه إلى كرسيه المنصوب

و كان جمهورهم عبدة الأصنام فكان ود لكلب بدومة الجندل و سواع لهذيل

[1 : 120 ]

و نسر لحمير و يغوث لهمدان و اللات لثقيف بالطائف و العزى لكنانة و قريش و بعض بني سليم و مناة لغسان و الأوس و الخزرج و

كان هبل لقريش خاصة على ظهر الكعبة و أساف و نائلة على الصفا و المروة و كان في العرب من يميل إلى اليهودية منهم جماعة من

التبابعة و ملوك اليمن و منهم نصارى كبني تغلب و العباديين رهط عدي بن زيد و نصارى نجران و منهم من كان يميل إلى الصابئة و

يقول بالنجوم و الأنواء. فأما الذين ليسوا بمعطلة من العرب فالقليل منهم و هم المتألهون أصحاب الورع و التحرج عن القبائح

كعبد الله و عبد المطلب و ابنه أبي طالب و زيد بن عمرو بن نفيل و قس بن ساعدة الإيادي و عامر بن الظرب العدواني و جماعة غير

هؤلاء. و غرضنا من هذا الفصل بيان قوله ع بين مشبه لله بخلقه أو ملحد في اسمه إلى غير ذلك و قد ظهر بما شرحناه

ثم ذكر ع أن محمدا ص خلف في الأمة بعده كتاب الله تعالى طريقا واضحا و علما قائما و العلم المنار يهتدى به. ثم قسم ما بينه ع في

الكتاب أقساما فمنها حلاله و حرامه فالحلال كالنكاح و الحرام كالزنا. و منها فضائله و فرائضه فالفضائل النوافل أي هي فضلة غير

واجبة كركعتي الصبح و غيرهما و الفرائض كفريضة الصبح. و قال الراوندي الفضائل هاهنا جمع فضيلة و هي الدرجة الرفيعة و ليس

بصحيح أ لا تراه كيف جعل الفرائض في مقابلتها و قسيما لها فدل ذلك على أنه أراد النوافل.

[1 : 121 ]

و منها ناسخه و منسوخه فالناسخ كقوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ و المنسوخ كقوله لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ. و منها رخصه و عزائمه فالرخص

كقوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَة و العزائم كقوله فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللّهُ. و منها خاصه و عامه فالخاص كقوله تعالى وَ امْرَأَةً

مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ و العام كالألفاظ الدالة على الأحكام العامة لسائر المكلفين كقوله وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ و يمكن أن يراد

بالخاص العمومات التي يراد بها الخصوص كقوله وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْء و بالعام ما ليس مخصوصا بل هو على عمومه كقوله تعالى وَ

اللّهُ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ. و منها عبره و أمثاله فالعبر كقصة أصحاب الفيل و كالآيات التي تتضمن النكال و العذاب النازل بأمم الأنبياء

من قبل و الأمثال كقوله كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً. و منها مرسله و محدوده و هو عبارة عن المطلق و المقيد و سمي المقيد محدودا و

هي لفظة فصيحة جدا كقوله تَحْرِيرُ رَقَبَة و قال في موضع آخر وَ تَحْرِيرُ رَقَبَة مُؤْمِنَة و منها محكمه و متشابهه فمحكمه كقوله تعالى

قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ و المتشابه كقوله إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ. ثم قسم ع الكتاب قسمة ثانية فقال إن منه ما لا يسع أحدا جهله

[1 : 122 ]

و منه ما يسع الناس جهله مثال الأول قوله اللّهُ لا إِلهَ إِلّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ و مثال الثاني كهيعص حم عسق. ثم قال و منه ما حكمه

مذكور في الكتاب منسوخ بالسنة و ما حكمه مذكور في السنة منسوخ بالكتاب مثال الأول قوله تعالى فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّى

يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ نسخ بما سنه ع من رجم الزاني المحصن و مثال الثاني صوم يوم عاشوراء كان واجبا بالسنة ثم نسخه صوم شهر

رمضان الواجب بنص الكتاب. ثم قال و بين واجب بوقته و زائل في مستقبله يريد الواجبات الموقتة كصلاة الجمعة فإنها تجب في

وقت مخصوص و يسقط وجوبها في مستقبل ذلك الوقت. ثم قال ع و مباين بين محارمه الواجب أن يكون و مباين بالرفع لا بالجر

فإنه ليس معطوفا على ما قبله أ لا ترى أن جميع ما قبله يستدعي الشيء و ضده أو الشيء و نقيضه و قوله و مباين بين محارمه لا

نقيض و لا ضد له لأنه ليس القرآن العزيز على قسمين أحدهما مباين بين محارمه و الآخر غير مباين فإن ذلك لا يجوز فوجب رفع

مباين و أن يكون خبر مبتدأ محذوف ثم فسر ما معنى المباينة بين محارمه فقال إن محارمه تنقسم إلى كبيرة و صغيرة فالكبيرة أوعد

سبحانه عليها بالعقاب و الصغيرة مغفورة و هذا نص مذهب المعتزلة في الوعيد. ثم عدل ع عن تقسيم المحارم المتباينة و رجع إلى

تقسيم الكتاب فقال و بين مقبول في أدناه و موسع في أقصاه كقوله فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ. فإن القليل من القرآن مقبول و الكثير منه

موسع مرخص في تركه

[1 : 123 ]

وَ فَرَضَ عَلَيْكُمْ حَجَّ بَيْتِهِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلْأَنَامِ يَرِدُونَهُ وُرُودَ الْأَنْعَامِ وَ يَوْلَهُونَ إِلَيْهِ وَلَهَ الْحَمَامِ وَ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلَامَةً

لِتَوَاضُعِهِمْ لِعَظَمَتِهِ وَ إِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِهِ وَ اخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً أَجَابُوا إِلَيْهِ دَعْوَتَهُ وَ صَدَّقُوا كَلِمَتَهُ وَ وَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِيَائِهِ وَ تَشَبَّهُوا

بِمَلَائِكَتِهِ الْمُطِيفِينَ بِعَرْشِهِ يُحْرِزُونَ الْأَرْبَاحَ فِي مَتْجَرِ عِبَادَتِهِ وَ يَتَبَادَرُونَ عِنْدَهُ مَوْعِدَ مَغْفِرَتِهِ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى لِلْإِسْلَامِ عَلَماً وَ

لِلْعَائِذِينَ حَرَماً وَ فَرَضَ حَقَّهُ وَ أَوْجَبَ حَجَّهُ وَ كَتَبَ عَلَيْهِ وِفَادَتَهُ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ

كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ

الوله شدة الوجد حتى يكاد العقل يذهب وله الرجل يوله ولها و من روى يألهون إليه ولوه الحمام فسره بشيء آخر و هو يعكفون

عليه عكوف الحمام و أصل أله عبد و منه الإله أي المعبود و لما كان العكوف على الشيء كالعبادة له لملازمته و الانقطاع إليه قيل

أله فلان إلى كذا أي عكف عليه كأنه يعبده و لا يجوز أن يقال يألهون إليه في هذا الموضع بمعنى يولهون و أن أصل الهمزة الواو

كما فسره الراوندي لأن فعولا لا يجوز أن يكون مصدرا من فعلت بالكسر و لو كان يألهون هو يولهون كان أصله أله بالكسر فلم يجز

أن يقول ولوه الحمام و أما على ما فسرناه نحن فلا يمتنع أن يكون الولوه مصدرا لأن أله مفتوح فصار كقولك دخل دخولا و باقي

الفصل غني عن التفسير

[1 : 124 ]

فصل في فضل البيت و الكعبة

جاء في الخبر الصحيح أن في السماء بيتا يطوف به الملائكة طواف البشر بهذا البيت اسمه الضراح و أن هذا البيت تحته على خط

مستقيم و أنه المراد بقوله تعالى وَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ أقسم سبحانه به لشرفه و منزلته عنده

و في الحديث أن آدم لما قضى مناسكه و طاف بالبيت لقيته الملائكة فقالت يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام

قال مجاهد إن الحاج إذا قدموا مكة استقبلتهم الملائكة فسلموا على ركبان الإبل و صافحوا ركبان الحمير و اعتنقوا المشاة اعتناقا.

من سنة السلف أن يستقبلوا الحاج و يقبلوا بين أعينهم و يسألوهم الدعاء لهم و يبادروا ذلك قبل أن يتدنسوا بالذنوب و الآثام.

و في الحديث أن الله تعالى قد وعد هذا البيت أن يحجه في كل سنة ستمائة ألف فإن نقصوا أتمهم الله بالملائكة و أن الكعبة تحشر

كالعروس المزفوفة و كل من حجها متعلق بأستارها يسعون حولها حتى تدخل الجنة فيدخلون معها

و في الحديث أن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الوقوف بعرفة و فيه أعظم الناس ذنبا من وقف بعرفة فظن أن الله لا يغفر له

عمر بن ذر الهمداني لما قضى مناسكه أسند ظهره إلى الكعبة و قال مودعا للبيت ما زلنا نحل إليك عروة و نشد إليك أخرى و نصعد

لك أكمة و نهبط أخرى و تخفضنا أرض و ترفعنا أخرى حتى أتيناك فليت شعري بم يكون منصرفنا أ بذنب مغفور فأعظم بها من نعمة أم

بعمل مردود فأعظم بها من مصيبة فيا من له خرجنا و إليه

[1 : 125 ]

قصدنا و بحرمه أنخنا ارحم يا معطي الوفد بفنائك فقد أتيناك بها معراة جلودها ذابلة أسنمتها نقبة أخفافها و إن أعظم الرزية أن

نرجع و قد اكتنفتنا الخيبة اللهم و إن للزائرين حقا فاجعل حقنا عليك غفران ذنوبنا فإنك جواد كريم ماجد لا ينقصك نائل و لا

يبخلك سائل. ابن جريج ما ظننت أن الله ينفع أحدا بشعر عمر بن أبي ربيعة حتى كنت باليمن فسمعت منشدا ينشد قوله

بالله قولا له في غير معتبة ما ذا أردت بطول المكث في اليمن

إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها فما أخذت بترك الحج من ثمن

فحركني ذلك على ترك اليمن و الخروج إلى مكة فخرجت فحججت. سمع أبو حازم امرأة حاجة ترفث في كلامها فقال يا أمة الله أ

لست حاجة أ لا تتقين الله فسفرت عن وجه صبيح ثم قالت له أنا من اللواتي قال فيهن العرجي

أماطت كساء الخز عن حر وجهها و ردت على الخدين بردا مهلهلا

من اللاء لم يحججن يبغين حسبة و لكن ليقتلن البريء المغفلا

فقال أبو حازم فأنا أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار فبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال رحم الله أبا حازم لو كان من عباد العراق

لقال لها اعزبي يا عدوة الله و لكنه ظرف نساك الحجاز

[1 : 126 ]

فصل في الكلام على السجع

و اعلم أن قوما من أرباب علم البيان عابوا السجع و أدخلوا خطب أمير المؤمنين ع في جملة ما عابوه لأنه يقصد فيها السجع و قالوا

إن الخطب الخالية من السجع و القرائن و الفواصل هي خطب العرب و هي المستحسنة الخالية من التكلف

كخطبة النبي ص في حجة الوداع و هي الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره و نتوب إليه و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات

أعمالنا من يهد الله فلا مضل له و من يضلل الله فلا هادي له و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و

رسوله أوصيكم عباد الله بتقوى الله و أحثكم على العمل بطاعته و أستفتح الله بالذي هو خير أما بعد أيها الناس اسمعوا مني أبين

لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا أيها الناس إن دماءكم و أموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة

يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا أ هل بلغت اللهم اشهد من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها و إن ربا

الجاهلية موضوع و أول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب و إن دماء الجاهلية موضوعة و أول دم أبدأ به دم آدم بن ربيعة بن

الحارث بن عبد المطلب و إن مآثر الجاهلية موضوعة غير

[1 : 127 ]

السدانة و السقاية و العمد قود و شبه العمد ما قتل بالعصا و الحجر فيه مائة بعير فمن ازداد فهو من الجاهلية أيها الناس إن

الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه و لكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك فيما تحتقرون من أعمالكم أيها الناس إنما النسيء

زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما و يحرمونه عاما و إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات و الأرض و

إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات و الأرض منها أربعة حرم ثلاثة متواليات و واحد فرد ذو

القعدة و ذو الحجة و محرم و رجب الذي بين جمادى و شعبان ألا هل بلغت أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقا و لكم عليهن حقا

فعليهن ألا يوطئن فرشكم غيركم و لا يدخلن بيوتكم أحدا تكرهونه إلا بإذنكم و لا يأتين بفاحشة فإن فعلن فقد أذن لكم أن

تهجروهن في المضاجع و تضربوهن فإن انتهين و أطعنكم فعليكم كسوتهن و رزقهن بالمعروف فإنما النساء عندكم عوان لا يملكن

لأنفسهن شيئا أخذتموهن بأمانة الله و استحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في النساء و استوصوا بهن خيرا

السابق

التالي