تفسير الميزان - السيد الطباطبائي ج 20

تفسير الميزان

السيد الطباطبائي ج 20


[ 1 ]

الميزان في تفسير القرآن 20

[ 3 ]

الميزان في تفسير القرآن كتاب علمي، فني، فلسفي، أدبي، تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي المجلد العشرون منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة

[ 4 ]

تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف دام ظله

[ 5 ]

(سورة المعارج مكية وهي أربع وأربعون آية) بسم الله الرحمن الرحيم سأل سائل بعذاب واقع - 1. للكافرين ليس له دافع - 2. من الله ذي المعارج - 3. تعرج الملئكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة - 4. فاصبر صبرا جميلا - 5. انهم يرونه بعيدا - 6. ونراه قريبا - 7. يوم تكون السماء كالمهل - 8. وتكون الجبال كالعهن - 9. ولا يسئل حميم حميما - 10. يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه - 11. وصاحبته وأخيه - 12. وفصيلته التي تؤويه - 13. ومن في الارض جميعا ثم ينجيه - 14. كلا انها لظى - 15. نزاعة للشوى - 16. تدعوا من أدبر وتولى - 17. وجمع فأوعى - 18. (بيان) الذي يعطيه سياق السورة أنها تصف يوم القيامة بما أعد فيه من أليم العذاب للكافرين. تبتدئ السورة فتذكر سؤال سائل سأل عذابا من الله للكافرين فتشير إلى أنه واقع ليس له دافع قريب غير بعيد كما يحسبونه ثم تصف اليوم الذي يقع فيه والعذاب الذي أعد لهم فيه وتستثني المؤمنين الذين قاموا بوظائف الاعتقاد الحق والعمل الصالح. وهذا السياق يشبه سياق السور المكية غير أن المنقول عن بعضهم أن قوله: " والذين في أموالهم حق معلوم " مدنى والاعتبار يؤيده لان ظاهره الزكاة وقد شرعت بالمدينة بعد الهجرة، وكون هذه الآية مدنية يستتبع كون الآيات الحافة بها الواقعة تحت الاستثناء وهي أربع عشرة آية (قوله: إلا المصلين - إلى قوله - في

[ 6 ]

جنات مكرمون) مدنية لما في سياقها من الاتحاد واستلزام البعض للبعض. ومدنية هذه الآيات الواقعة تحت الاستثناء تستدعي ما استثنيت منه وهو على الاقل ثلاث آيات (قوله: إن الانسان خلق هلوعا - إلى قوله - منوعا). على أن قوله: " فما للذين كفروا قبلك مهطعين " متفرع على ما قبله تفرعا ظاهرا وهو ما بعده إلى آخر السورة ذو سياق واحد فتكون هذه الآيات أيضا مدنية. ومن جهة اخرى مضامين هذا الفصل من الآيات تناسب حال المنافقين الحافين حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن اليمين وعن الشمال عزين وهم الرادون لبعض ما أنزل الله من الحكم وخاصة قوله: " أيطمع كل امرئ منهم " الخ، وقوله: " على أن نبدل خيرا منهم " الخ على ما سيجئ، وموطن ظهور هذا النفاق المدينة لا مكة، ولا ضير في التعبير عن هؤلاء بالذين كفروا فنظير ذلك موجود في سورة التوبة وغيرها. على أنهم رووا أن السورة نزلت في قول القائل: " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " الانفال: 32 وقد تقدم في تفسير الآية أن سياقها والتي بعدها سياق مدني لا مكي. لكن المروي عن الصادق عليه السلام أن المراد بالحق المعلوم في الآية حق يسميه صاحب المال في ماله غير الزكاة المفروضة. ولا عبرة بما نسب إلى اتفاق المفسرين أن السورة مكية على أن الخلاف ظاهر وكذا ما نسب إلى ابن عباس أنها نزلت بعد سورة الحاقة. قوله تعالى: " سأل سائل بعذاب واقع " السؤال بمعنى الطلب والدعاء، ولذا عدي بالباء كما في قوله: " يدعون فيها بكل فاكهة آمنين " الدخان: 55 وقيل: الفعل مضمن معنى الاهتمام والاعتناء ولذا عدي بالباء، وقيل: الباء زائدة للتأكيد، ومآل الوجوه واحد وهو طلب العذاب من الله كفرا وعتوا. وقيل: الباء بمعنى عن كما في قوله: " فاسأل به خبيرا " الفرقان: 59، وفيه أن كونها في الآية المستشهد بها بمعنى عن ممنوع. على أن سياق الآيات التالية وخاصة قوله: " فاصبر صبرا جميلا " لا يلائم كون السؤال بمعنى الاستفسار والاستخبار. فالآية تحكي سؤال العذاب وطلبه عن بعض من كفر طغيانا وكفرا، وقد وصف العذاب المسؤل من الاوصاف بما يدل على إجابة الدعاء بنوع من التهكم والتحقير وهو قوله: " واقع "

[ 7 ]

وقوله: " ليس له دافع ". والمعنى سأل سائل من الكفار عذابا للكافرين من الله سيصيبهم ويقع عليهم لا محالة ولا دافع له أي إنه واقع عليهم سأل أو لم يسأل ففيه جواب تحقيري وإجابة لمسؤله تهكما. قوله تعالى: " للكافرين ليس له دافع " للكافرين متعلق بعذاب وصفة له، وكذا قوله: " ليس له دافع " وقد مرت الاشارة إلى معنى الآية. قوله تعالى: " من الله ذي المعارج " الجار والمجرور متعلق بقوله: " دافع " أي ليس له دافع من جانب الله ومن المعلوم أنه لو اندفع لم يندفع إلا من جانب الله سبحانه، ومن المحتمل أن يتعلق بقوله: " بعذاب ". والمعارج جمع معرج وفسروه بالمصاعد وهي الدرجات وهي مقامات الملكوت التي يعرج إليها الملائكة عند رجوعهم إلى الله سبحانه على ما يفسره قوله بعد: " تعرج الملائكة والروح إليه في يوم " الخ فله سبحانه معارج الملكوت ومقاماتها المترتبة علوا وشرفا التي تعرج فيها الملائكة والروح بحسب قربهم من الله وليست بمقامات وهمية اعتبارية. وقيل: المراد بالمعارج الدرجات التي يصعد فيها الاعتقاد الحق والعمل الصالح قال تعالى: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " الفاطر 10، وقال: " ولكن يناله التقوى منكم " الحج: 37. وقيل: المراد به مقامات القرب التي يعرج إليها المؤمنون بالايمان والعمل الصالح قال تعالى: " هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون " آل عمران: 163 وقال: " لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم " الانفال: 4 وقال: " رفيع الدرجات ذو العرش " المؤمن: 15. والحق أن مآل الوجهين إلى الوجه الاول، والدرجات المذكورة حقيقية ليست بالوهمية الاعتبارية. قوله تعالى: " تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " المراد بهذا اليوم يوم القيامة على ما يفيده سياق الآيات التالية. والمراد بكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة على ما ذكروا أنه بحيث لو وقع في الدنيا وانطبق على الزمان الجاري فيها كان مقداره من الزمان خمسين ألف سنة من سني الدنيا.

[ 8 ]

والمراد بعروج الملائكة والروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكل إليه فإن يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط وتقطع الاسباب وارتفاع الروابط بينها وبين مسبباتها والملائكة وسائط موكلة على امور العالم وحوادث الكون فإذا تقطعت الاسباب عن مسبباتها وزيل الله بينهم ورجع الكل إلى الله عز اسمه رجعوا إليه وعرجوا معارجهم فحفوا من حول عرش ربهم وصفوا قال تعالى: " وترى الملائكة حافين من حول العرش " الزمر: 75، وقال: " يوم يقوم الروح والملائكة صفا " النبأ: 38. والظاهر أن المراد بالروح الروح الذي هو من أمره تعالى كما قال: " قل الروح من أمر ربي " أسرى: 85 وهو غير الملائكة كما هو ظاهر قوله تعالى: " ينزل الملائكة بالروح من أمره " النحل: 2. فلا يعبأ بما قيل: أن المراد بالروح جبريل وإن أطلق عليه الروح الامين وروح القدس في قوله: " نزل به الروح الامين على قلبك " الشعراء: 194 وقوله: " قل نزله روح القدس من ربك " النحل: 103 فإن المقيد غير المطلق. قوله تعالى: " فاصبر صبرا جميلا " لما كان سؤال السائل للعذاب عن تعنت واستكبار وهو مما يشق تحمله أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر ووصفه بالجميل - والجميل من الصبر ما ليس فيه شائبة الجزع والشكوى، وعلله بأن اليوم بما فيه من العذاب قريب. قوله تعالى: " إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا " ضميرا " يرونه " و " نراه " للعذاب أو ليوم القيامة بما فيه من العذاب الواقع ويؤيد الاول قوله فيما بعد: " يوم تكون السماء كالمهل " الخ. والمراد بالرؤية الاعتقاد بنوع من العناية المجازية ورؤيتهم ذلك بعيدا ظنهم أنه بعيد من الامكان فإن سؤال العذاب من الله سبحانه استكبارا عن دينه وردا لحكمه لا يجامع الايمان بالمعاد وإن تفوه به السائل، ورؤيته تعالى ذلك قريبا علمه بتحققه وكل ما هو آت قريب. وفي الآيتين تعليل أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر الجميل فإن تحمل الاذى والصبر على المكاره يهون على الانسان إذا استيقن أن الفرج قريب وتذكر ذلك فالكلام في معنى قولنا فاصبر على تعنتهم واستكبارهم في سؤالهم العذاب صبرا جميلا لا يشوبه جزع وشكوى فإنا نعلم أن

[ 9 ]

العذاب قريب على خلاف ما يستبعدونه، وعلمنا لا يتخلف عن الواقع بل هو نفس الواقع. قوله تعالى: " يوم تكون السماء كالمهل " المهل المذاب من المعدنيات كالنحاس والذهب وغيرهما، وقيل: دردي الزيت، وقيل: عكر القطران (1). والظرف متعلق بقوله: " واقع " على ما يفيده السياق. قوله تعالى: " وتكون الجبال كالعهن " العهن مطلق الصوف، ولعل المراد المنفوش منه كما في قوله تعالى: " وتكون الجبال كالعهن المنفوش " القارعة: 5. وقيل: هو الصوف الاحمر، وقيل: المصبوغ ألوانا لان الجبال ذات ألوان مختلفة فمنها جدد بيض وحمر وغرابيب سود (2). قوله تعالى: " ولا يسأل حميم حميما " الحميم القريب الذي تهتم بأمره وتشفق عليه. إشارة إلى شدة اليوم فالانسان يومئذ تشغله نفسه عن غيره حتى أن الحميم لا يسأل حميمه عن حاله لاشتغاله بنفسه. قوله تعالى: " يبصرونهم " الضميران للاحماء المعلوم من السياق والتبصير الاراءة والايضاح أي يرى ويوضح الاحماء للاحماء فلا يسألونهم عن حالهم اشتغالا بأنفسهم. والجملة مستأنفة في معنى الجواب عن سؤال مقدر كأنه لما قيل: لا يسأل حميم حميما سئل فقيل: هل يرى الاحماء يومئذ أحماءهم ؟ فأجيب: يبصرونهم ويمكن أن يكون " يبصرونهم " صفة " حميما ". ومن ردي التفسير قول بعضهم: إن معنى قوله: " يبصرونهم " يبصر الملائكة الكفار، وما قيل: إن المعنى يبصر المؤمنون أعداءهم من الكفار وما هم فيه من العذاب فيشمتون بهم، وما قيل: إن المعنى يبصر أتباع الضلالة رؤساءهم. وهي جميعا وجوه لا دليل عليها. قوله تعالى: " يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الارض جميعا ثم ينجيه " قال في المجمع: المودة مشتركة بين التمني وبين المحبة يقال: وددت الشئ أي تمنيته ووددته أي أحببته أود فيهما جميعا. انتهى، ويمكن أن يكون استعماله بمعنى التمني من باب التضمين.


(1) اي رديه وخبيثه. (2) كما في الآية 27 من سورة فاطر.

[ 10 ]

وقال: والافتداء افتداء الضرر عن الشئ ببدل منه انتهى، وقال: الفصيلة الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى ابوة خاصة عن ابوة عامة. انتهى، وذكر بعضهم أن الفصيلة عشيرته الاقربين الذين فصل عنهم كالآباء الادنين. وسياق هذه الآيات سياق الاضراب والترقي بالنسبة إلى قوله: " ولا يسأل حميم حميما " فيفيد أن المجرم يبلغ به شدة العذاب إلى أن يتمنى أن يفتدي من العذاب بأحب أقاربه وأكرمهم عليه بنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته وجميع من في الارض ثم ينجيه الافتداء فيود ذلك فضلا عن عدم سؤاله عن حال حميمه. والمعنى " يود " ويتمنى " المجرم " وهو المتلبس بالاجرام أعم من الكافر " لو يفتدي من عذاب يومئذ " وهذا هو الذي يتمناه، والجملة قائمة مقام مفعول يود. " ببنيه " الذين هم أحب الناس عنده " وصاحبته " التي كانت سكنا له وكان يحبها وربما قدمها على أبويه " وأخيه " الذي كان شقيقه وناصره " وفصيلته " من عشيرته الاقربين " التي تؤويه " وتضمه إليها " ومن في الارض جميعا " من اولي العقل " ثم ينجيه " هذا الافتداء. قوله تعالى: " كلا إنها لظى نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى " كلا للردع، وضمير " إنها " لجهنم أو للنار وسميت لظى لكونها تتلظى وتشتعل، والنزاعة اسم مبالغة من النزع بمعنى الاقتلاع، والشوى الاطراف كاليد والرجل يقال: رماه فأشواه أي أصاب شواه كذا قال الراغب، وإيعاء المال إمساكه في وعاء. فقوله: " كلا " ردع لتمنيه النجاة من العذاب بالافتداء وقد علل الردع بقوله: " إنها لظى " الخ ومحصله أن جهنم نار مشتعلة محرقة للاطراف شأنها أنها تطلب المجرمين لتعذبهم فلا تصرف عنهم بافتداء كائنا ما كان. فقوله: " إنها لظى " أي نار صفتها الاشتعال لا تنعزل عن شأنها ولا تخمد، وقوله: " نزاعة للشوى " أي صفتها إحراق الاطراف واقتلاعها لا يبطل ما لها من الاثر فيمن تعذبه. وقوله: " تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى " أي تطلب من أدبر عن الدعوة الالهية إلى الايمان بالله وأعرض عن عبادته تعالى وجمع المال فأمسكه في وعائه ولم ينفق منه للسائل والمحروم. وهذا المعنى هو المناسب لسياق الاستثناء الآتي وذكر الصلاة والانفاق فيه.

[ 11 ]

(بحث روائي) في المجمع حدثنا السيد أبو الحمد قال: حدثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني وساق السند عن جعفر بن محمد الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: لما نصب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، طار ذلك في البلاد فقدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم النعمان بن الحارث الفهري. فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شئ منك أو أمر من عند الله ؟ فقال: والله الذي لا إله إلا هو إن هذا من الله. فولى النعمان بن الحارث وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله وأنزل الله تعالى: " سأل سائل بعذاب واقع ". أقول: وهذا المعنى مروي بغير طريق من طرق الشيعة، وقد رد الحديث بعضهم بأنه موضوع لكون سورة المعارج مكية، وقد عرفت الكلام في مكية السورة. وفي الدر المنثور أخرج الفاريابي وعبد بن حميد والنسائي وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " سأل سائل " قال هو النضر بن الحارث قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء. وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله " سأل سائل " قال. نزلت بمكة في النضر بن الحارث وقد قال: " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك " الآية وكان عذابه يوم بدر. أقول: وهذا المعنى مروي أيضا عن غير السدي، وفي بعض رواياتهم أن القائل: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية هو الحارث بن علقمة رجل من عبد الدار، وفي بعضها أن سائل العذاب هو أبو جهل بن هشام سأله يوم بدر ولازمه مدنية السورة والمعتمد على أي حال نزول السورة بعد قول القائل: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية وقد تقدم كلام في سياق الآية. وفي أمالي الشيخ بإسناده إلى أبي عبد الله عليه السلام في حديث: ألا فحاسبوا أنفسكم قبل

[ 12 ]

أن تحاسبوا فإن في القيامة خمسين موقفا كل موقف مثل ألف سنة مما تعدون ثم تلا هذه الآية " في يوم كان مقداره خمسين ألف سنه ". أقول: وروى هذا المعنى في روضة الكافي عن حفص بن غياث عنه عليه السلام. وفي المجمع روى أبو سعيد الخدري قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أطول هذا اليوم فقال: والذي نفس محمد بيده إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا. أقول: ورواه في الدر المنثور عن عدة من الجوامع عن أبي سعيد عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " يوم تكون السماء كالمهل " قال: الرصاص الذائب والنحاس كذلك تذوب السماء. وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " يبصرونهم " يقول: يعرفونهم ثم لا يتساءلون. وفيه في قوله تعالى: " نزاعة للشوى " قال: تنزع عينه وتسود وجهه. وفيه في قوله تعالى: " تدعو من أدبر وتولى " قال: تجره إليها. ان الانسان خلق هلوعا - 19. إذا مسه الشر جزوعا - 20. وإذا مسه الخير منوعا - 21. الا المصلين - 22. الذين هم على صلاتهم دائمون - 23. والذين في أموالهم حق معلوم - 24. للسائل والمحروم - 25. والذين يصدقون بيوم الدين - 26. والذين هم من عذاب ربهم مشفقون - 27. ان عذاب ربهم غير مأمون - 28. والذين هم لفروجهم حافظون - 29. الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فانهم غير ملومين - 30. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون - 31. والذين

[ 13 ]

هم لاماناتهم وعهدهم راعون - 32. والذين هم بشهاداتهم قائمون - 33. والذين هم على صلاتهم يحافظون - 34. أولئك في جنات مكرمون - 35. (بيان) تشير الآيات إلى السبب الاولي الذي يدعو الانسان إلى رذيلة الادبار والتولي والجمع والايعاء التي تؤديه إلى دخول النار الخالدة التي هي لظى نزاعة للشوى على ما تذكره الآيات. وذلك السبب صفة الهلع التي اقتضت الحكمة الالهية أن يخلق الانسان عليها ليهتدي بها إلى ما فيه خيره وسعادته غير أن الانسان يفسدها على نفسه ويسئ استعمالها في سبيل سعادته فتسلك به إلى هلكة دائمة إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في جنات مكرمون. قوله تعالى: " إن الانسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا " الهلوع صفة مشتقة من الهلع بفتحتين وهو شدة الحرص، وذكروا أيضا أن الهلوع تفسره الآيتان بعده فهو الجزوع عند الشر والمنوع عند الخير وهو تفسير سديد والسياق يناسبه. وذلك أن الحرص الشديد الذي جبل عليه الانسان ليس حرصا منه على كل شئ خيرا كان أو شرا أو نافعا أو ضارا بل حرصا على الخير والنافع ولا حرصا على كل خير أو نافع سواء ارتبط به أو لم يرتبط وكان له أو لغيره بل حرصا منه على ما يراه خيرا لنفسه أو نافعا في سبيل الخير، ولازم هذا الحرص ان يظهر منه التزعزع والاضطراب عند مس الشر وهو خلاف الخير وأن يمتنع عن ترك الخير عند مسه ويؤثر نفسه على غيره إلا أن يرى الترك أكثر خيرا وأنفع بحاله فالجزع عند مس الشر والمنع عند مس الخير من لوازم الهلع وشدة الحرص. وليس الهلع وشدة الحرص المجبول عليه الانسان - وهو من فروع حب الذات - في حد نفسه من الرذائل المذمومة كيف ؟ وهي الوسيلة الوحيدة التي تدعو الانسان إلى بلوغ سعادته وكمال وجوده، وإنما تكون رذيلة مذمومة إذا أساء الانسان في تدبيرها

[ 14 ]

فاستعملها فيما ينبغي وفيما لا ينبغي وبالحق وبغير حق كسائر الصفات النفسانية التي هي كريمة ما لزمت حد الاعتدال وإذا انحرفت إلى جانب الافراط أو التفريط عادت رذيلة ذميمة. فالانسان في بدء نشأته وهو طفل يرى ما يراه خيرا لنفسه أو شرا لنفسه بما جهز به من الغرائز العاطفة وهي التى تهواه نفسه وتشتهيه قواه من غير أن يحده بحد أو يقدره بقدر فيجزع إذا مسه ألم أو أي مكروه، ويمنع من يزاحمه فيما أمسك به بكل ما يقدر عليه من بكاء ونحوه. وهو على هذه الحال حتى إذا رزق العقل والرشد أدرك الحق والباطل والخير والشر واعترفت نفسه بما أدرك وحينئذ يتبدل عنده كثير من مصاديق الحق والباطل والخير والشر فعاد كثير مما كان يراه خيرا لنفسه شرا عنده وبالعكس. فإن أقام على ما كان عليه من اتباع أهواء النفس والعكوف على المشتهيات واشتغل بها عن اتباع الحق وغفل عنه، طبع على قلبه فلم يواجه حقا إلا دحضه ولا ذا حق إلا اضطهده وإن أدركته العناية الالهية عاد ما كان عنده من الحرص على ما تهواه النفس حرصا على الحق فلم يستكبر على حق واجهه ولا منع ذا حق حقه. فالانسان في بادئ أمره وهو عهد الصبي قبل البلوغ والرشد مجهز بالحرص الشديد على الخير وهو صفة كمالية له بحسب حاله بها ينبعث إلى جلب الخير واتقاء الشر قال تعالى: " وإنه لحب الخير لشديد " العاديات: 8. ثم إذا رزق البلوغ والرشد زاد تجهيزا آخر وهو العقل الذي بها يدرك حقائق الامور على ما هي عليها فيدرك ما هو الاعتقاد الحق وما هو الخير في العمل، ويتبدل حرصه الشديد على الخير وكونه جزوعا عند مس الشر ومنوعا عند مس الخير من الحرص الشديد على الخير الواقعي من الفزع والخوف إذا مسه شر اخروى وهو المعصية والمسابقة إلى مغفرة ربه إذا مسه خير أخروي وهو مواجهة الحسنة، وأما الشر والخير الدنيويان فإنه لا يتعدى فيهما ما حده الله له من الصبر عند المصيبة والصبر على الطاعة والصبر عن المعصية وهذه الصفة صفة كمالية لهذا الانسان. وأما إذا أعرض الانسان عما يدركه عقله ويعترف به فطرته وعكف على اتباع الهوى واعتنق الباطل وتعدى إلى حق كل ذي حق ولم يقف في حرصه على الخير على حد

[ 15 ]

فقد بدل نعمة الله نقمة وأخذ صفة غريزية خلقها الله وسيلة له يتوسل بها إلى سعادة الدنيا والآخرة وسيلة إلى الشقوة والهلكة تسوقه إلى الادبار والتولي والجمع والايعاء كما في الآيات. وقد بان مما تقدم أنه لا ضير في نسبة هلع الانسان في الآيات إلى الخلقة والكلام مسوق للذم وقد قال تعالى: " الذي أحسن كل شئ خلقه " السجدة: 7، وذلك أن ما يلحقه من الذم إنما هو من قبل الانسان وسوء تدبيره لا من قبله تعالى فهو كسائر نعمه تعالى على الانسان التي يصيرها نقما بسوء اختياره. وذكر الزمخشري فرارا من الاشكال أن في الكلام استعارة، والمعنى أن الانسان لايثاره الجزع والمنع وتمكنهما منه كأنه مجبول مطبوع عليهما، وكأنه أمر مخلوق فيه ضروري غير اختياري فالكلام موضوع على التشبيه لا لافادة كونه مخلوقا لله حقيقة لان الكلام مسوق للذم والله سبحانه لا يذم فعل نفسه، ومن الدليل عليه استثناء المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم فنجوا عن الجزع والمنع جميعا. وفيه أن الصفة مخلوقة نعمة وفضيلة والانسان هو الذي يخرجها من الفضيلة إلى الرذيلة ومن النعمة إلى النقمة والذم راجع إلى الصفة من جهة سوء تدبيره لا من حيث إنها فعله تعالى. واستثناء المؤمنين ليس لاجل أن الصفة غير مخلوقة فيهم بل لاجل أنهم أبقوها على كمالها ولم يبدلوها رذيلة ونقمة. وأجيب أيضا عن الاستثناء بأنه منقطع وهو كما ترى. قوله تعالى: " إلا المصلين " استثناء من الانسان الموصوف بالهلع، وفي تقديم الصلاة على سائر الاعمال الصالحة المعدودة في الآيات التالية دلالة على شرفها وأنها خير الاعمال. على أن لها الاثر البارز في دفع رذيلة الهلع المذموم وقد قال تعالى: " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " العنكبوت: 45. قوله تعالى: " الذين هم على صلاتهم دائمون " في إضافة الصلاة إلى الضمير دلالة على أنهم مداومون على ما يأتون به من الصلاة كائنة ما كانت لا أنهم دائما في الصلاة، وفيه إشارة إلى أن العمل إنما يكمل أثره بالمداومة. قوله تعالى: " والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم " فسره بعضهم بالزكاة المفروضة، وفي الحديث عن الصادق عليه السلام أن الحق المعلوم ليس من الزكاة وإنما هو مقدار

[ 16 ]

معلوم ينفقونه للفقراء، والسائل هو الفقير الذي يسأل، والمحروم الفقير الذي يتعفف ولا يسأل والسياق لا يخلو من تأييده فإن للزكاة موارد مسماة في قوله: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله " التوبة: 60 وليست مختصة بالسائل والمحروم على ما هو ظاهر الآية. قوله تعالى: " والذين يصدقون بيوم الدين " الذي يفيده سياق عد الاعمال الصالحة أن المراد بتصديقهم يوم الدين التصديق العملي دون التصديق الاعتقادي وذلك بأن تكون سيرتهم في الحياة سيرة من يرى ان ما يأتي به من عمل سيحاسب عليه فيجازى به إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا. وفي التعبير بقوله: " يصدقون " دلالة على الاستمرار فهو المراقبة الدائمة بذكره تعالى عند كل عمل يواجهونه فيأتون بما يريده ويتركون ما يكرهه. قوله تعالى: " والذين هم من عذاب ربهم مشفقون " أي خائفون، والكلام في إشفاقهم من عذاب ربهم نظير الكلام في تصديقهم بيوم الدين فهو الاشفاق العملي الظاهر من حالهم. ولازم إشفاقهم من عذاب ربهم مع لزومهم الاعمال الصالحة ومجاهدتهم في الله أن لا يثقوا بما يأتون به من الاعمال الصالحة ولا يأمنوا عذاب الله فإن الامن لا يجامع الخوف. والملاك في الاشفاق من العذاب أن العذاب على المخالفة فلا منجى منه إلا بالطاعة من النفس ولا ثقة بالنفس إذ لا قدرة لها في ذاتها إلا ما أقدرها الله عليه والله سبحانه مالك غير مملوك، قال تعالى. " قل فمن يملك من الله شيئا " المائدة: 17. على أن الله سبحانه وإن وعد أهل الطاعة النجاة وذكر أنه لا يخلف الميعاد لكن الوعد لا يقيد إطلاق قدرته فهو مع ذلك قادر على ما يريد ومشيته نافذة فلا أمن بمعنى انتفاء القدرة على ما يخالف الوعد فالخوف على حاله ولذلك نرى أنه تعالى يقول في ملائكته: " يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون " فيصفهم بالخوف وهو يصرح بعصمتهم، ويقول في أنبيائه: " ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله " الاحزاب: 39، ويصف المؤمنين في هذه الآية بالاشفاق وهو يعدهم في آخر الآيات بقول جازم فيقول: " اولئك في جنات مكرمون ". قوله تعالى: " إن عذاب ربهم غير مأمون " تعليل لاشفاقهم من عذاب ربهم فيتبين به أنهم مصيبون في إشفاقهم من العذاب وقد تقدم وجهه.

[ 17 ]

قوله تعالى: " والذين هم لفروجهم حافظون - إلى قوله - هم العادون " تقدم تفسير الآيات الثلاث في اول سورة المؤمنون. قوله تعالى: " والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون " المتبادر من الامانات أنواع الامانة التي يؤتمنون عليها من المال وسائر ما يوصى به من نفس أو عرض ورعايتهم لها ان يحفظوها ولا يخونوها قيل: ولكثرة أنواعها جئ بلفظ الجمع بخلاف العهد. وقيل: المراد بها جميع ما كلفهم الله من اعتقاد وعمل فتعم حقوق الله وحقوق الناس فلو ضيعوا شيئا منها فقد خانوه. وقيل: كل نعمة أعطاها الله عبده من الاعضاء وغيرها أمانة فمن استعمل شيئا منها في غير ما أعطاه الله لاجله وأذن له في استعماله فقد خانه. وظاهر العهد عقد الانسان مع غيره قولا أو فعلا على أمر ورعايته أن يحفظه ولا ينقضه من غير مجوز. وقيل: العهد كل ما التزم به الانسان لغيره فإيمان العبد لربه عهد منه عاهد به ربه أن يطيعه في كل ما كلفه به فلو عصاه في شئ مما أمره به أو نهاه عنه فقد نقض عهده. قوله تعالى: " والذين هم بشهاداتهم قائمون " الشهادة معروفة، والقيام بالشهادة عدم الاستنكاف عن تحملها وأداء ما تحمل منها كما تحمل من غير كتمان ولا تغيير، والآيات في هذا المعنى كثيرة. قوله تعالى: " والذين هم على صلاتهم يحافظون " المراد بالمحافظة على الصلاة رعاية صفات كمالها على ما ندب إليه الشرع. قيل: والمحافظة على الصلاة غير الدوام عليها فإن الدوام متعلق بنفس الصلاة والمحافظة بكيفيتها فلا تكرار في ذكر المحافظة عليها بعد ذكر الدوام عليها. قوله تعالى: " اولئك في جنات مكرمون " الاشارة إلى المصلين في قوله: " إلا المصلين " وتنكير جنات للتفخيم، و " في جنات " خبر و " مكرمون " خبر بعد خبر أو ظرف لقوله: " مكرمون ".

[ 18 ]

(بحث روائي) في تفسير القمي: " إذا مسه الشر جزوعا " قال: الشر هو الفقر والفاقة " وإذا مسه الخير منوعا " قال: الغنى والسعه. وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال: ثم استثنى فقال " إلا المصلين " فوصفهم بأحسن أعمالهم " الذين هم على صلاتهم دائمون " يقول: إذا فرض على نفسه شيئا من النوافل دام عليه. أقول: قوله: إذا فرض على نفسه " الخ " استفاد عليه السلام هذا المعنى من إضافة الصلاة إلى ضمير " هم " وقد أشرنا إليه فيما مر. وفي الكافي بإسناده إلى الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عزوجل: " والذين هم على صلاتهم يحافظون " قال: هي الفريضة. قلت: " الذين هم على صلاتهم دائمون " قال: هي النافلة. وفي المجمع في قوله تعالى: " والذين في أموالهم حق معلوم " وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: الحق المعلوم ليس من الزكاة وهو الشئ الذي تخرجه من مالك إن شئت كل جمعة وإن شئت كل يوم، ولكل ذي فضل فضله. قال: وروي عنه أيضا أنه قال: هو أن تصل القرابة وتعطي من حرمك وتصدق على من عاداك. أقول: وروى هذا المعنى في الكافي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام بعدة طرق ورواه في المحاسن عن أبي جعفر عليه السلام. وفي الكافي بإسناده عن صفوان الجمال عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل " للسائل والمحروم " قال: المحروم المحارف الذي قد حرم كد يمينه في الشراء والبيع. قال: وفي رواية اخرى عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام أنهما قالا: المحروم الرجل الذي ليس بعقله بأس ولم يبسط له في الرزق وهو محارف. وفي المجمع في قوله تعالى: " والذين هم على صلاتهم يحافظون " روى محمد بن الفضيل

[ 19 ]

عن أبي الحسن عليه السلام أنه قال. اولئك أصحاب الخمسين صلاة من شيعتنا. أقول: ولعله مبني على ما ورد عنهم (عليهم السلام) أن تشريع النوافل اليومية لتتميم الفرائض. فمال الذين كفروا قبلك مهطعين - 36. عن اليمين وعن الشمال عزين - 37. أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم - 38. كلا إنا خلقناهم مما يعلمون - 39. فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون - 40. على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين - 41. فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون - 42. يوم يخرجون من الاجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون - 43. خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون - 44. (بيان) لما ذكر سبحانه في الفصل الاول من آيات السورة في ذيل ما حكى من سؤالهم العذاب أن لهم عذابا واقعا ليس له دافع وهو النار المتلظية النزاعة للشوى التي تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى. ثم بين في الفصل الثاني منها الملاك في ابتلائهم بهذه الشقوة وهو أن الانسان مجهز بغريزة الهلع وحب خير نفسه ويؤديه اتباع الهوى في استعمالها إلى الاستكبار على كل حق يواجهه فيورده ذلك النار الخالدة، ولا ينجو من ذلك إلا الصالحون عملا المصدقون ليوم الدين المشفقون من عذاب ربهم. انعطف في هذا الفصل من الآيات - وهو الفصل الثالث - على اولئك الكفار كالمتعجب

[ 20 ]

من أمرهم حيث يجتمعون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين مقبلين عليه بأبصارهم لا يفارقونه فخاطبه صلى الله عليه وآله وسلم: ما بالهم يحيطون بك مهطعين عليك يلازمونك ؟ هل يريد كل امرء منهم أن يدخل جنة نعيم وهو كافر وقد قدر الله سبحانه أن لا يكرم بجنته إلا من استثناه من المؤمنين فهل يريدون أن يسبقوا الله ويعجزوه بنقض ما حكم به وإبطال ما قدره كلا إن الله الذي خلقهم من نطفة مهينة قادر أن يبدلهم خيرا منهم ويخلق مما خلقهم منه، غيرهم ممن يعبده ويدخل جنته. ثم أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقطع خصامهم ويذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون. قوله تعالى: " فما للذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين " قال في المجمع: قال الزجاج: المهطع المقبل ببصره على الشئ لا يزايله وذلك من نظر العدو، وقال أبو عبيدة الاهطاع الاسراع، وعزين جماعات في تفرقة، واحدتهم عزة. انتهى، وقبل الشئ بالكسر فالفتح الجهة التي تليه والفاء في " فما " فصيحة. والمعنى: إذا كان الانسان بكفره واستكباره على الحق مصيره إلى النار إلا من استثنى من المؤمنين فما للذين كفروا عندك مقبلين عليك لا يرفعون عنك أبصارهم وهم جماعات متفرقة عن يمينك وشمالك أيطمعون أن يدخلوا الجنة فيعجزوا الله ويسبقوه فيما قضى به أن لا يدخل الجنة إلا الصلحاء من المؤمنين. قوله تعالى: " أيطمع كل امرء منهم أن يدخل جنه نعيم "، الاستفهام للانكار أي - ما هو الذي يحملهم على أن يحتفوا بك ويهطعوا عليك ؟ - هل يحملهم على ذلك طمع كل منهم أن يدخل جنة نعيم وهو كافر فلا مطمع للكافر في دخول الجنة. ونسب الطمع إلى كل امرء منهم ولم ينسب إلى جماعتهم بأن يقال: أيطمعون أن يدخلوا " الخ " كما نسب الاهطاع إلى جماعتهم فقيل: مهطعين لان النافع من الطمع في السعادة والفلاح هو الطمع القائم بنفس الفرد الباعث له إلى الايمان والعمل الصالح دون القائم بالجماعة بما أنها جماعة فطمع المجموع من حيث أنه مجموع لا يكفي في سعادة كل واحد واحد. وفي قوله: " أن يدخل " مجهولا من باب الافعال إشارة إلى أن دخولهم في الجنة ليس منوطا باختيارهم ومشيتهم بل لو كان فانما هو إلى الله سبحانه فهو الذي يدخلهم الجنة

[ 21 ]

إن شاء ولن يدخل بما قدر أن لا يدخلها كافر. قيل: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي عند الكعبة ويقرأ القرآن فكان المشركون يجتمعون حوله حلقا حلقا وفرقا يستمعون ويستهزؤن بكلامه، ويقولون إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلندخلها قبلهم فنزلت الآيات. وهذا القول لا يلائمه سياق الآيات الظاهر في تفرع صنعهم ذلك على ما مر من حرمان الناس من دخول الجنة إلا من استثني من المؤمنين إذ من الضروري على هذا أن اجتماعهم حوله صلى الله عليه وآله وسلم وإهطاعهم عليه إنما حملهم عليه إفراطهم في عداوته ومبالغتهم في إيذائه وإهانته، وأن قولهم: سندخل الجنة قبل المؤمنين - وهم مشركون مصرون على إنكار المعاد غير معترفين بنار ولا جنة - إنما كان استهزاء وتهكما. فلا مساغ لتفريع عملهم ذاك على ما تقدم من حديث النار والجنة والسؤال - في سياق التعجيب - عن السبب الحامل لهم عليه ثم استفهام طمعهم في دخول الجنة وإنكاره عليهم. فبما تقدم يتأيد أن يكون المراد بالذين كفروا في قوله: " فما للذين كفروا " قوما من المنافقين آمنوا به صلى الله عليه وآله وسلم ظاهرا ولازموه ثم كفروا برد بعض ما نزل عليه كما يشير إليه أمثال قوله تعالى: " ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم " المنافقون: 3، وقوله: " لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم " التوبة: 66، وقوله: " فأعقبهم نفاقا في قلوبهم " التوبة: 77. فهؤلاء قوم كانوا قد آمنوا ودخلوا في جماعة المؤمنين ولازموا النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهطعين عليه عن اليمين وعن الشمال عزين ثم كفروا ببعض ما نزل إليه لا يبالون به فقرعهم الله سبحانه في هذه الآيات أنهم لا ينتفعون بملازمته ولا لهم أن يطمعوا في دخول الجنة فليسوا ممن يدخلها وليسوا بسابقين ولا معجزين ويؤيده قوله الآتي: " إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم " الخ على ما سنشير إليه. قوله تعالى: " كلا إنا خلقناهم مما يعلمون " ردع لهم عن الطمع في دخول الجنة مع كفرهم. وقوله: " إنا خلقناهم مما يعلمون " المراد بما يعلمون النطفة فإن الانسان مخلوق منها. والكلام مرتبط بما بعده والمجموع تعليل للردع، ومحصل التعليل أنا خلقناهم من النطفة

[ 22 ]

- وهم يعلمون به - فلنا أن نذهب بهم ونخلق مكانهم قوما آخرين يكونون خيرا منهم مؤمنين غبر رادين لشئ من دين الله، ولسنا بمسبوقين حتى يعجزنا هؤلاء الكفار ويسبقونا فندخلهم الجنة وينتقض به ما قدرنا أن لا يدخل الجنة كافر. وقيل: " من " في قوله: " مما يعلمون " تفيد معنى لام التعليل، والمعنى إنا خلقناهم لاجل ما يعلمون وهو الاستكمال بالايمان والطاعة فمن الواحب أن يتلبسوا بذلك حتى ندخلهم الجنة فكيف يطمعون في دخولها وهم كفار ؟ وإنما علموا بذلك من طريق إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: " من " لابتداء الغاية، والمعنى: إنا خلقناهم من نطفة قذرة لا تناسب عالم القدس والطهارة حتى تتطهر بالايمان والطاعة وتتخلق بأخلاق الملائكة فتدخل وأنى لهم ذلك وهم كفار. وقيل: المراد بما في " ما لا يعلمون " الجنس، والمعنى إنا خلقناهم من جنس الآدميين الذين يعلمون أو من الخلق الذين يعلمون لا من جنس الحيوانات التي لا تعقل ولا تفقه فالحجة لازمة لهم تامة عليهم، والوجوه الثلاثة سخيفة. قوله تعالى: " فلا اقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين " المراد بالمشارق والمغارب مشارق الشمس ومغاربها فإن لها في كل يوم من أيام السنة الشمسية مشرقا ومغربا لا يعود اليهما إلى مثل اليوم من السنة القابلة، ومن المحتمل أن يكون المراد بها مشارق جميع اللنجوم ومغاربها. وفي الآية على قصرها وجوه من الالتفات ففي قوله: " فلا أقسم " التفات من التكلم مع الغير في " إنا خلقناهم " إلى التكلم وحده، والوجوه فيه تأكيد القسم بإسناده إلى الله تعالى نفسه. وفي قوله: " برب المشارق والمغارب " التفات من التكلم وحده إلى الغيبة، والوجه فيه الاشارة إلى صفة من صفاته تعالى هي المبدء في خلق الناس جيلا بعد جيل وهي ربوبيته للمشارق والمغارب فإن الشروق بعد الشروق والغروب بعد الغروب الملازم لمرور الزمان دخلا تاما في تكون الانسان جيلا بعد جيل وسائر الحوادث الارضية المقارنة له. وفي قوله: " إنا لقادرون " التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير، والوجه فيه الاشارة

[ 23 ]

إلى العظمة المناسبة لذكر القدرة، وفي ذكر ربوبيته للمشارق والمغارب إشارة إلى تعليل القدرة فإن الذي ينتهي إليه تدبير الحوادث في تكونها لا يعجزه شئ من الحوادث التي هي أفعاله عن شئ منها ولا يمنعه شئ من خلقه من أن يبدله خيرا منه وإلا شاركه المانع في أمر التدبير والله سبحانه واحد لا شريك له في ربوبيته فافهم ذلك. وقوله: " إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم " " على " متعلق بقوله: " لقادرون " والمفعول الاول لنبدل ضمير محذوف راجع إليهم وإنما حذف للاشارة إلى هوان أمرهم وعدم الاهتمام بهم، و " خيرا " مفعوله الثاني وهو صفة أقيمت مقام موصوفها، والتقدير إنا لقادرون على أن نبدلهم قوما خيرا منهم، وخيريتهم منهم أن يؤمنوا بالله ولايكفروا به ويتبعوا الحق ولا يردوه. وقوله: " وما نحن بمسبوقين " المراد بالسبق الغلبة على سبيل الاستعارة، وكونه تعالى مسبوقا هو أن يمنعه خلقهم أن يذهب بهم ويأتي بدلهم بقوم خير منهم. وسياق الآية لا يخلو من تأييد ما لما تقدم من كون المراد بالذين كفروا قوما من المنافقين دون المشركين المعاندين للدين النافين لاصل المعاد فإن ظاهر قوله: " خيرا منهم " لا يخلو من دلالة أو إشعار بأن فيهم شائبة خيرية ولله أن يبدل خيرا منهم، والمشركون لا خير فيهم لكن هذه الطائفة من المنافقين لا يخلو تحفظهم على ظواهر الدين مما آمنوا به ولم يردوه من خير للاسلام. فقد بان بما تقدم أن قوله: " إنا خلقناهم مما يعلمون " إلى آخر الآيات الثلاث تعليل للردع بقوله: " كلا " وأن محصل مضمون الآيات الثلاث أنهم مخلوقون من نطفة - وهم يعلمون ذلك - وهي خلقة جارية والله الذي هو رب الحوادث الجارية التي منها خلق الانسان جيلا بعد جيل والمدبر لها قادر أن يذهب بهم ويبدلهم خيرا منهم يعتنون بأمر الدين ويستأهلون لدخول الجنة، ولا يمنعه خلق هؤلاء أن يبدلهم خيرا منهم ويدخلهم الجنة بكمال إيمانهم من غير أن يضطر إلى إدخال هؤلاء الجنة فلا ينتقض تقديره أن الجنة للصالحين من أهل الايمان. قوله تعالى: " فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون " أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتركهم وما هم فيه، ولا يلح عليهم بحجاج ولا يتعب نفسه فيهم بعظة، وقد سمى ما هم عليه بالخوض واللعب دلالة على أنهم لا ينتفعون به انتفاعا حقيقيا على ما لهم

[ 24 ]

فيه من الامعان والاصرار كاللعب الذي لا نفع فيه وراء الخيال فليتركوا حتى يلاقوا اليوم الذي يوعدون وهو يوم القيامة. وفي إضافة اليوم إليهم إشارة إلى نوع اختصاص له بهم وهو الاختصاص بعذابهم. قوله تعالى: " يوم يخرجون من الاجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون " بيان ليومهم الذي يوعدون وهو يوم القيامة. والاجداث جمع جدث وهو القبر، وسراعا جمع سريع، والنصب ما ينصب علامة في الطريق يقصده السائرون للاهتداء به، وقيل: هو الصنم المنصوب للعبادة وهو بعيد من كلامه تعالى، والايفاض الاسراع والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون " الخشوع تأثر خاص في القلب عن مشاهدة العظمة والكبرياء، ويناظره الخضوع في الجوارح، ونسبة الخشوع إلى الابصار لظهور آثاره فيها، والرهق غشيان الشئ بقهر. وقوله: " ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون " الاشارة إلى ما مر من أوصافه من الخروج من الاجداث سراعا وخشوع الابصار ورهق الذلة. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج عبد بن حميد عن عبادة بن أنس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فقال: مالي أراكم عزين حلقا حلق الجاهلية قعد رجل خلف أخيه. أقول: ورواه عن ابن مردويه عن أبي هريرة، ولفظه خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه جلوس حلقا حلقا فقال: مالي أراكم عزين، وروى هذا المعنى أيضا عن جابر بن سمرة. وفي تفسير القمي: وقوله: " كلا إنا خلقناهم مما يعلمون " قال: من نطفة ثم علقة، وقوله: " فلا أقسم " أي أقسم " برب المشارق والمغارب " قال: مشارق الشتاء ومشارق الصيف ومغارب الشتاء ومغارب الصيف. وفي المعاني بإسناده إلى عبد الله بن أبى حماد رفعه إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال: لها ثلاثمائة وستون مشرقا وثلاثمائة وستون مغربا فيومها الذي تشرق فيه لا تعود فيه إلا من قابل. وفي تفسير القمي: وقوله: " يوم يخرجون من الاجداث سراعا " قال: من القبر " كأنهم إلى نصب يوفضون " قال: إلى الداعي ينادون، وقوله: " ترهقهم ذلة " قال: تصيبهم ذلة.

[ 25 ]

(سورة نوح مكية وهي ثمان وعشرون آية) بسم الله الرحمن الرحيم إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم - 1. قال يا قوم إني لكم نذير مبين - 2. أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون - 3. يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون - 4. قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا - 5. فلم يزدهم دعائي إلا فرارا - 6. وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا - 7. ثم اني دعوتهم جهارا - 8. ثم اني أعلنت لهم واسررت لهم اسرارا - 9. فقلت استغفروا ربكم انه كان غفارا - 10. يرسل السماء عليكم مدرارا - 11. ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا - 12. ما لكم لا ترجون لله وقارا - 13. وقد خلقكم أطوارا - 14. ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا - 15. وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا - 16. والله أنبتكم من الارض نباتا - 17. ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا - 18. والله جعل لكم الارض بساطا - 19. لتسلكوا منها سبلا فجاجا - 20. قال نوح رب

[ 26 ]

إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده الا خسارا - 21. ومكروا مكرا كبارا - 22. وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا - 23. وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا - 24. (بيان) تشير السورة إلى رسالة نوح عليه السلام إلى قومه وإجمال دعوته وعدم استجابتهم له ثم شكواه إلى ربه منهم ودعائه عليهم واستغفاره لنفسه ولوالديه ولمن دخل بيته مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ثم حلول العذاب بهم وإهلاكهم بالاغراق والسورة مكية بشهادة سياق آياتها. قوله تعالى: " إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم " " أن أنذر قومك " الخ، تفسير لرسالته أي أوحينا إليه أن أنذر " الخ ". وفي الكلام دلالة على أن قومه كانوا عرضة للعذاب بشركهم ومعاصيهم كما يدل عليه ما حكى من قوله عليه السلام في الآية التالية: " اعبدوا الله واتقوه " وذلك أن الانذار تخويف والتخويف إنما يكون من خطر محتمل لا دافع له لولا التحذر، وقد أفاد قوله: " من قبل أن يأتيهم عذاب أليم " أنه متوجه إليهم غير تاركهم لولا تحذرهم منه. قوله تعالى: " قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون " بيان لتبليغه رسالته إجمالا بقوله: " إني لكم نذير مبين "، وتفصيلا بقوله: " أن اعبدوا الله " الخ. وفي إضافته اليوم إلى نفسه إظهار إشفاق ورحمة أي إنكم قومي يجمعكم وإياي مجتمعنا القومي تسوؤني ما أساءكم فلست أريد إلا ما فيه خيركم وسعادتكم إني لكم نذير الخ. وفي قوله: " أن اعبدوا الله دعوتهم إلى توحيده تعالى في عبادته فإن القوم كانوا وثنيين يعبدون الاصنام، والوثنية لا تجوز عبادة الله سبحانه لا وحده ولا مع غيره، وإنما يعبدون أرباب الاصنام بعبادة الاصنام ليكونوا شفعاء لهم عند الله، ولو جوزوا

[ 27 ]

عبادته تعالى لعبدوه وحده فدعوتهم إلى عبادة الله دعوة لهم إلى توحيده في العبادة. وفي قوله: " واتقوه " دعوتهم إلى اجتناب معاصيه من كبائر الاثم وصغائره وهي الشرك فما دونه، وفعل الاعمال الصالحة التي في تركها معصية. وفي قوله: " وأطيعون " دعوة لهم إلى طاعة نفسه المستلزم لتصديق رسالته وأخذ معالم دينهم مما يعبد به الله سبحانه ويستن به في الحياة منه عليه السلام ففي قوله: " اعبدوا الله واتقوه وأطيعون " ندب إلى اصول الدين الثلاثة: التوحيد المشار إليه بقوله: " اعبدوا الله " والمعاد الذي هو أساس التقوى (1) والتصديق بالنبوة المشار إليه بالدعوة إلى الطاعة المطلقة. قوله تعالى: " يغفر لكم من ذنوبكم " مجزوم في جواب الامر وكلمة " من " للتبعيض على ما هو المتبادر من السياق، والمعنى إن تعبدوه وتتقوه وتطيعوني يغفر لكم بعض ذنوبكم وهي الذنوب التي قبل الايمان: الشرك فما دونه، وأما الذنوب التي لم تقترف بعد مما سيستقبل فلا معنى لمغفرتها قبل تحققها، ولا معنى أيضا للوعد بمغفرتها إن تحققت في المستقبل أو كلما تحققت لاستلزام ذلك إلغاء التكاليف الدينية بإلغاء المجازاة على مخالفتها. ويؤيد ذلك ظاهر قوله تعالى: " يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم " الاحقاف: 31، وقوله: " يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم " إبراهيم: 10 وقوله: " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " الانفال: 38. وأما قوله تعالى يخاطب المؤمنين من هذه الامة: " يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات " الصف: 12 فهو وإن كان ظاهرا في مغفرة جميع الذنوب لكن رتبت المغفرة فيه على استمرار الايمان والعمل الصالح وإدامتهما ما دامت الحياة فلا مغفرة فيه متعلقة بما لم يتحقق بعد من المعاصي والذنوب المستقبلة ولا وعد بمغفرتها كلما تحققت. وقد مال بعضهم اعتمادا على عموم المغفرة في آيه الصف إلى القول بأن المغفور بسبب الايمان في هذه الامة جميع الذنوب وفي سائر الامم بعضها كما هو ظاهر قول نوح لامته:


(1) إذ لولا المعاد بما فيه من الحساب والجزاء لم يكن للتقوى الديني وجه، منه.

[ 28 ]

" يغفر لكم من ذنوبكم " وقول الرسل: كما في سورة ابراهيم " يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم " وقول الجن كما في سورة الاحقاف لقومهم: " يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ". وفيه أن آية الصف موردها غير مورد المغفرة بسبب الايمان فقط كما أشرنا إليه. على أن آية الانفال صريحة في مغفرة ما قد سلف، والمخاطب به كفار هذه الامة. وذهب بعضهم إلى كون " من " في قوله: " من ذنوبكم " زائدة، ولم تثبت زيادة " من " في الاثبات فهو ضعيف ومثله في الضعف قول من ذهب إلى أن " من " بيانية، وقول من ذهب إلى أنها لابتداء الغاية. قوله تعالى: " ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون " تعليق تأخيرهم إلى أجل مسمى على عبادة الله والتقوى وطاعة الرسول يدل على أن هناك أجلين أجل مسمى يؤخرهم الله إليه إن أجابوا الدعوة، وأجل غيره يعجل إليهم لو بقوا على الكفر، وأن الاجل المسمى اقصى الاجلين وابعدهما. ففي الآية وعدهم بالتأخير إلى الاجل المسمى إن آمنوا وفي قوله: " أن أجل الله إذا جاء لا يؤخر " تعليل للتأخير إلى الاجل المسمى إن آمنوا فالمراد بأجل الله إذا جاء مطلق الاجل المقضي المتحتم أعم من الاجل المسمى وغير المسمى فلا راد لقضائه تعالى ولا معقب لحكمه. والمعنى: أن أعبدوا الله واتقوه وأطيعوني يؤخركم الله إلى أجل مسمى هو أقصى الاجلين فإنكم إن لم تفعلوا ذلك جاءكم الاجل غير المسمى بكفركم ولم تؤخروا فإن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، ففي الكلام مضافا إلى وعد التأخير إلى الاجل المسمى إن آمنوا، تهديد بعذاب معجل إن لم يؤمنوا. وقد ظهر بما تقدم عدم استقامة تفسير بعضهم لاجل الله بالاجل غير المسمى وأضعف منه تفسيره بالاجل المسمى. وذكر بعضهم: أن المراد بأجل الله يوم القيامة والظاهر أنه يفسر الاجل المسمى أيضا بيوم القيامة فيرجع معنى الآية حينئذ إلى مثل قولنا: إن لم تؤمنوا عجل الله إليكم بعذاب الدنيا وإن آمنتم أخركم إلى يوم القيامة إنه إذا جاء لا يؤخر. وأنت خبير بأنه لا يلائم التبشير الذي في قوله: " يغفر لكم من ذنوبكم ".

[ 29 ]

وقوله: " لو كنتم تعلمون " متعلق بأول الكلام أي لو كنتم تعلمون أن لله اجلين وأن أجله إذا جاء لا يؤخر استجبتم دعوتي وعبدتم الله واتقيتموه وأطعتموني هذا فمفعول " تعلمون " محذوف يدل عليه سابق الكلام. وقيل: إن " تعلمون " منزل منزلة الفعل اللازم، وجواب لو متعلق بأول الكلام، والمعنى: لو كنتم من أهل العلم لاستجبتم دعوتي وآمنتم، أو متعلق بآخر الكلام، والمعنى: لو كنتم من أهل العلم لعلمتم أن أجل الله إذا جاء لا يؤخر. قوله تعالى: " قال ربي إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا " القائل هو نوح عليه السلام والذي دعا إليه هو عبادة الله وتقواه وطاعة رسوله، والدعاء ليلا ونهارا كناية عن دوامه من غير فتور ولا توان. وقوله: " فلم يزدهم دعائي إلا فرارا " أي من إجابة دعوتي فالمراد بالفرار التمرد والتأبي عن القبول استعارة، وإسناد زيادة الفرار إلى دعائه لما فيه من شائبة السببية لان الخير إذا وقع في محل غير صالح قاومه المحل بما فيه من الفساد فأفسده فانقلب شرا، وقد قال تعالى في صفة القرآن: " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " أسرى: 82. قوله تعالى: " وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم " الخ ذكر مغفرته تعالى غاية لدعوته والاصل (دعوتهم ليؤمنوا فتغفر لهم) لان الغرض الاشارة إلى أنه كان ناصحا لهم في دعوته ولم يرد إلا ما فيه خير دنياهم وعقباهم. وقوله: " جعلوا أصابعهم في آذانهم " كناية عن استنكافهم عن الاستماع إلى دعوته، وقوله: " واستغشوا ثيابهم " أي غطوا بها رؤوسهم ووجوههم لئلا يروني ولا يسمعوا كلامي وهو كناية عن التنفر وعدم الاستماع إلى قوله: وقوله: " وأصروا واستكبروا استكبارا " أي وألحوا على الامتناع من الاستماع واستكبروا عن قبول دعوتي استكبارا عجيبا. قوله تعالى: " ثم إني دعوتهم جهارا " " ثم " للتراخي بحسب رتبة الكلام والجهار النداء بأعلى الصوت. قوله تعالى: " ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا " الاعلان والاسرار متقابلان

[ 30 ]

وهما الاظهار والاخفاء، وظاهر السياق أن مرجع ضمير لهم في الموضعين واحد فالمعنى دعوتهم سرا وعلانية فتارة علانية وتارة سرا سالكا في دعوتي كل مذهب ممكن وسائرا في كل مسير مرجو. قوله تعالى: " فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا - إلى قوله - أنهارا " علل أمرهم بالاستغفار بقوله: " إنه كان غفارا " دلالة على أنه تعالى كثير المغفرة وهي مضافا إلى كثرتها منه سنة مستمرة له تعالى. وقوله: " يرسل السماء عليكم مدرارا " مجزوم في جواب الامر، والمراد بالسماء السحاب، والمدرار كثير الدرور بالامطار. وقوله: " ويمددكم بأموال وبنين " الامداد إلحاق المدد وهو ما يتقوى به الممد على حاجته، والاموال والبنون أقرب الاعضاد الابتدائية التي يستعين بها المجتمع الانساني على حوائجه الحيوية. وقوله: " ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا " هما من قسم الاموال غير أنهما لكونهما من أبسط ضروريات المعاش خصا بالذكر. والآيات - كما ترى - تعد النعم الدنيوية وتحكي عنه عليه السلام أنه يعد قومه توافر النعم وتواترها عليهم إن استغفروا ربهم فلمغفرة الذنوب أثر بالغ في رفع المصائب والنقمات العامة وانفتاح أبواب النعم من السماء والارض أي أن هناك ارتباطا خاصا بين صلاح المجتمع الانساني وفساده وبين الاوضاع العامة الكونية المربوطة بالحياة الانسانية وطيب عيشه ونكده. كما يدل عليه قوله تعالى: " ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس " الروم: 61، وقوله: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " الشورى: 30، وقوله: " ولو أن اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض " الاعراف: 94، وقد تقدم في تفسير الآيات ما لا يخلو من نفع في هذا المقام. قوله تعالى: " ما لكم لا ترجون لله وقارا " استفهام إنكاري والوقار - كما في المجمع - بمعنى العظمة اسم من التوقير بمعنى التعظيم، والرجاء مقابل الخوف وهو الظن بما فيه مسرة، والمراد به في الآية مطلق الاعتقاد على ما قيل، وقيل: المراد به الخوف للملازمة بينهما.

[ 31 ]

والمعنى: أي سبب حصل لكم حال كونكم لا تعتقدون أو لا تخافون لله عظمة توجب أن تعبدوه. والحق أن المراد بالرجاء معناه المعروف وهو ما يقابل الخوف ونفيه كناية عن اليأس فكثيرا ما يكنى به عنه يقال: لا أرجو فيه خيرا أي أنا آئس من أن يكون فيه خير، والوقار الثبوت والاستقرار والتمكن وهو الاصل في معناه كما صرح به في المجمع، ووقاره تعالى ثبوته واستقراره في الربوبية المستتبع لالوهيته ومعبوديته. كأن الوثنيين طلبوا ربا له وقار في الربوبية لعبدوه فيئسوا منه تعالى فعبدوا غيره وهو كذلك فإنهم يرون أنه تعالى لا يحيط به أفهامنا فلا سبيل للتوجه العبادي إليه، والعبادة أداء لحق الربوبية التي يتفرع عليها تدبير الامر وتدبير امور العالم مفوض إلى أصناف الملائكة والجن فهم أربابنا الذين يجب علينا عبادتهم ليكونوا شفعاء لنا عند الله، وأما هو تعالى فليس له إلا الايجاد إيجاد الارباب ومربوبيهم جميعا دون التدبير. والآية أعني قوله: " ما لكم لا ترجون لله وقارا " وما يتلوها إلى تمام سبع آيات مسوقة لاثبات وقاره تعالى في الربوبية وحجة قاطعة في نفي ما لفقوه لوجوب عبادة غيره من الملائكة وغيرهم لاستناد تدبير العالم إليهم، ويتبين به إمكان التوجه العبادي إليه تعالى. ومحصل الحجة: ما الذي دعاكم إلى نفي ربوبيته تعالى المستتبع للالوهية والمعبودية واليأس عن وقاره ؟ وأنتم تعلمون أنه تعالى خلقكم وخلق العالم الذي تعيشون فيه طورا من الخلق لا ينفك عن هذا النظام الجاري فيه، وليس تدبير الكون ومن فيه من الانسان إلا التطورات المخلوقة في أجزائه والنظام الجاري فيه فكونه تعالى خالقا هو كونه مالكا مدبرا فهو الرب لا رب سواه فيجب أن يتخذ إلها معبودا. ويتبين به صحة التوجه إليه تعالى بالعبادة فإنا نعرفه بصفاته الكريمة من الخلق والرزق والرحمة وسائر صفاته الفعلية فلنا أن نتوجه إليه بما نعرفه من صفاته (1).


(1) وإنما أخذنا بما نعرفه من صفاته الفعلية لان من المنسوب إليهم أنهم ينكرون صفاته الذاتية ويفسرونها بسلب النقائص فمعنى كونه حيا قديرا عليما عندهم أنه ليس بميت ولا عاجز ولا جاهل على أن الآيات ايضا تصفه بالصفات الفعلية، منه.

[ 32 ]

قوله تعالى: " وقد خلقكم أطوارا " حال من فاعل " لا ترجون " والاطوار جمع طور وهو حد الشئ وحاله التي هو عليها. ومحصل المعنى - لا ترجعون لله وقارا في ربوبية - والحال أنه أنشأكم طورا بعد طور يستعقب طورا آخر فأنشأ الواحد منكم ترابا ثم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم جنينا ثم طفلا ثم شابا ثم شيخا وأنشأ جمعكم مختلفة الافراد في الذكورة والانوثة والالوان والهيآت والقوة والضعف إلى غير ذلك، وهل هذا إلا التدبير فهو مدبر أمركم فهو ربكم. قوله تعالى: " ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا " مطابقة السماوات السبع بعضها لبعض كون بعضها فوق بعض أو تطابقهن وتماثلهن على الاحتمالين المتقدمين في تفسير أوائل سورة الملك. والمراد بالرؤية العلم، وتوصيف السماوات السبع - والكلام مسوق سوق الحجة - يدل على أنهم كانوا يرون كونها سبعا ويسلمون ذلك فاحتج عليهم بالمسلم عندهم. وكيف كان فوقوع حديث السماوات السبع في كلام نوح دليل على كونه مأثورا من الانبياء (عليه السلام) من أقدم العهود. قوله تعالى: " وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا " الآيات - كما يشهد به سياقها - مسوقة لبيان وقوع التدبير الالهي على الانسان بما يفيض عليه من النعم حتى تثبت ربوبيته فتجب عبادته. وعلى هذا فكون الشمس سراجا هو كونها مضيئة لعالمنا ولولاها لانغمرنا في ظلمة ظلماء، وكون القمر نورا هو كونه منورا لارضنا بنور مكتسب من الشمس فليس منورا بنفسه حتى يعد سراجا. وأما أخذ السماوات ظرفا للقمر في قوله: " وجعل القمر فيهن نورا " فالمراد به كما قيل كونه في حيزهن وإن كان في واحدة منها كما تقول: إن في هذه الدور لبئرا وإن كانت في واحدة منها لان ما كان في إحداهن كان فيهن وكما تقول: أتيت بني تميم وانما أتيت بعضهم. قوله تعالى: " والله أنبتكم من الارض نباتا: أي أنبتكم إنبات النبات وذلك أن

[ 33 ]

الانسان تنتهي خلقته إلى عناصر أرضية تركبت تركبا خاصا به يغتذي وينمو ويولد المثل، وهذه حقيقة النبات، فالكلام مسوق سوق الحقيقة من غير تشبيه واستعارة. قوله تعالى: " ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا " الاعادة فيها بالاماتة والاقبار، والاخراج للجزاء يوم القيامة فالآية والتي قبلها قريبتا المعنى من قوله تعالى: " فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون " الاعراف: 25. وفي قوله: " ويخرجكم " دون أن يقول: ثم يخرجكم إيماء إلى أن الاعادة والاخراج كالصنع الواحد والاعادة مقدمة للاخراج، والانسان في حالتي الاعادة والاخراج في دار الحق كما أنه في الدنيا في دار الغرور. قوله تعالى: " والله جعل لكم الارض بساطا " أي كالبساط يسهل لكم التقلب من جانب إلى جانب، والانتقال من قطر إلى قطر. قوله تعالى: " لتسلكوا منها سبلا فجاجا " السبل جمع سبيل بمعنى الطريق والفجاج جمع فج بمعنى الطريق الواسعة، وقيل: الطريق الواقعة بين الجبلين. قوله تعالى: " قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا " رجوع منه عليه السلام إلى شكواه من قومه إلى ربه بعد ما ذكر تفصيل دعوته لهم وما ألقاه من القول إليهم من قوله: " ثم إني دعوتهم جهارا " إلى آخر الآيات. وشكواه السابق له قوله: " فلم يزدهم دعائي إلا فرارا " بعد ما أخبر بإجمال دعوته بقوله: " رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا ". وفي الآية دلالة على أن العظماء المترفين من قومه عليه السلام كانوا يصدون الناس عنه ويحرضونهم على مخالفته وإيذائه. ومعنى قوله: " لم يزده ماله وولده إلا خسارا " - وقد عد المال والولد في سابق كلامه من النعم - أن المال والولد اللذين هما من نعمك وكان يجب عليهم شكرهما لم يزيداهم إلا كفرا وأورثهم ذلك خسرانا من رحمتك. قوله تعالى: " ومكروا مكرا كبارا " الكبار اسم مبالغة من الكبر. قوله تعالى: " وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا " توصية منهم بالتمسك بآلهتهم وعدم ترك عبادتها.

[ 34 ]

وود وسواع ويغوث ويعوق ونسر خمس من آلهتهم لهم اهتمام تام بعبادتهن ولذا خصوها بالذكر مع الوصية بمطلق الآلهة، ولعل تصدير ود وذكر سواع ويغوث بلا المؤكدة للنفي لكونها أعظم أمرا عندهم من يعوق ونسر والله أعلم. قوله تعالى: " وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا " ضمير " أضلوا " للرؤساء المتبوعين ويتأيد به أنهم هم المحدث عنهم في قوله: " ومكروا " " وقالوا لا تذرن آلهتكم " وقيل: الضمير للاصنام فهم المضلون، ولا يخلو من بعد. وقوله: " ولا تزد الظالمين إلا ضلالا " دعاء من نوح على الظالمين بالضلال والمراد به الضلال مجازاة دون الضلال الابتدائي فهو دعاء منه أن يجازيهم الله بكفرهم وفسقهم مضافا إلى ما سيحكي عنه من دعائه عليهم بالهلاك. (بحث روائي) في نهج البلاغة: وقد جعل الله سبحانه الاستغفار سببا لدرور الرزق ورحمة الخلق فقال سبحانه: " استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين " فرحم الله امرء استقبل توبته، واستقال خطيئته، وبادر منيته. أقول: والروايات في استفادة سببية الاستغفار لسعة الرزق والامداد بالاولاد من هذه الآيات كثيرة. وفي الخصال عن علي عليه السلام في حديث الاربعماة: أكثر الاستغفار تجلب الرزق. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " لا ترجون لله وقارا " قال ؟ لا تخافون لله عظمة. أقول: وقد روي هذا المعنى من طرق أهل السنة عن ابن عباس. وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " سبع سماوات طباقا " يقول بعضها فوق بعض. وفيه في قوله تعالى: " رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا " قال: اتبعوا الاغنياء.

[ 35 ]

وفي الدر المنثور أخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: صارت الاصنام والاوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد. أما ود فكانت لكلب في دومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع. وكانوا أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التى كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك اولئك ونسخ العلم عبدت. أقول: لعل المراد بصيرورة تلك الاصنام التي كانت لقوم نوح إلى العرب مطابقة ما عند العرب لما كان عندهم في الاسماء أو في الاوصاف والاسماء، وأما انتقال تلك الاصنام بأشخاصهن إلى العرب فبعيد غايته. وروى القصة أيضا في علل الشرائع بإسناده عن جعفر بن محمد عليه السلام كما في الرواية. وفي روضة الكافي بإسناده عن المفضل عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث: فعمل نوح سفينته في مسجد الكوفة بيده فأتى بالخشب من بعد حتى فرغ منها. قال: فالتفت عن يساره وأشار بيده إلى موضع دار الداريين وهو موضع دار ابن حكيم، وذاك فرات اليوم، فقال لي يا مفضل وهنا نصبت أصنام قوم نوح: يغوث ويعوق ونسر. مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا _ 25. وقال نوح رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا _ 26. إنك ان تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا الا فاجرا كفارا _ 27. رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين الا تبارا _ 28.

[ 36 ]

(بيان) تتضمن الآيات هلاك القوم وتتمة دعاء نوح عليه السلام عليهم. قوله تعالى: " مما خطيئاتهم اغرقوا فادخلوا نارا " الخ " من " لابتداء الغاية تفيد بحسب المورد التعليل و " ما " زائدة لتأكيد أمر الخطايا وتفخيمه، والخطيئات المعاصي والذنوب، وتنكير النار للتفخيم. والمعنى: من أجل معاصيهم وذنوبهم أغرقوا بالطوفان فادخلوا - أدخلهم الله - نارا لا يقدر عذابها بقدر، ومن لطيف نظم الآية الجمع بين الاغراق بالماء وإدخال النار. والمراد بالنار نار البرزخ التي يعذب بها المجرمون بين الموت والبعث دون نار الآخرة، والآية من أدلة البرزخ إذ ليس المراد أنهم أغرقوا وسيدخلون النار يوم القيامة، ولا يعبأ بما قيل: ان من الجائز أن يراد بها نار الآخرة. وقوله: " فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا " أي ينصرونهم في صرف الهلاك والعذاب عنهم. تعريض لاصنامهم وآلهتهم. قوله تعالى: " وقال نوح رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا " الديار نازل الدار، والآية تتمة دعائه عليه السلام عليهم، وكان قوله: " مما خطيأتهم اغرقوا " الخ معترضا واقعا بين فقرتي الدعاء للاشارة إلى أنهم اهلكوا لما عد نوح من خطيأتهم ولتكون كالتمهيد لسؤاله الهلاك فيتبين أن اغراقهم كان استجابة لدعائه، وأن العذاب استوعبهم عن آخرهم. قوله تعالى: " انك أن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا الا فاجرا كفارا " تعليل لسؤال اهلاكهم عن آخرهم مفاده أن لا فائدة في بقائهم لا لمن دونهم من المؤمنين فانهم يضلونهم، ولا فيمن يلدونه من الاولاد فإنهم لا يلدون الا فاجرا كفارا - والفجور الفسق الشنيع والكفار المبالغ في الكفر. وقد استفاد عليه السلام ما ذكره من صفتهم من الوحي الالهى على ما تقدم في تفسير قصة نوح من سورة هود. قوله تعالى: " رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات "

[ 37 ]

" الخ " المراد بمن دخل بيته مؤمنا المؤمنون به من قومه، وبالمؤمنين والمؤمنات عامتهم إلى يوم القيامة. وقوله: " ولا تزد الظالمين الا تبارا " التبار الهلاك، والظاهر أن المراد بالتبار ما يوجب عذاب الآخرة وهو الضلال وهلاك الدنيا بالغرق، وقد تقدما جميعا في دعائه، وهذا الدعاء آخر ما نقل من كلامه عليه السلام في القرآن الكريم. (سورة الجن مكية وهي ثمان وعشرون آية) بسم الله الرحمن الرحيم قل أوحي الي أنه استمع نفر من الجن فقالوا انا سمعنا قرآنا عجبا _ 1. يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا _ 2. وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا _ 3. وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا _ 4. وأنا ظننا أن لن تقول الانس والجن على الله كذبا _ 5. وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا _ 6. وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا _ 7. وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا _ 8. وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا _ 9. وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الارض أم أراد بهم ربهم رشدا _ 10. وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا

[ 38 ]

طرائق قددا _ 11. وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الارض ولن نعجزه هربا _ 12. وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا _ 13. وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا _ 14. وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا _ 15. وأن لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا _ 16. لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا _ 17. (بيان) تشير السورة إلى قصة نفر من الجن استمعوا القرآن فآمنوا به وأقروا باصول معارفه، وتتخلص منها إلى تسجيل نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والاشارة إلى وحدانيته تعالى في ربوبيته وإلى المعاد، والسورة مكية بشهادة سياقها. قوله تعالى: " قل اوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد " أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقص القصة لقومه، والموحي هو الله سبحانه، ومفعول " استمع " القرآن حذف لدلالة الكلام عليه، والنفر الجماعة من ثلاثة إلى تسعة على المشهور، وقيل: بل إلى أربعين. والعجب بفتحتين ما يدعو إلى التعجب منه لخروجه عن العادة الجارية في مثله، وإنما وصفوا القرآن بالعجب لانه كلام خارق للعادة في لفظه ومعناه أتى به رجل امي ما كان يقرء ولا يكتب. والرشد إصابة الواقع وهو خلاف الغي، وهداية القرآن إلى الرشد دعوته إلى عقائد وأعمال تتضمن للمتلبس بها سعادته الواقعية. والمعنى: يا أيها الرسول قل للناس: اوحى - أي أوحى الله - إلى أنه استمع القرآن جماعة من الجن فقالوا - لقومهم لما رجعوا إليهم - إنا سمعنا كلاما مقروا خارقا للعادة يهدي إلى معارف من عقائد وأعمال في التلبس بها إصابة الواقع والظفر بحقيقة السعادة.

[ 39 ]

(كلام في الجن) الجن نوع من الخلق مستورون من حواسنا يصدق القرآن الكريم بوجودهم ويذكر أنهم بنوعهم مخلوقون قبل نوع الانسان، وأنهم مخلوقون من النار كما أن الانسان مخلوق من التراب قال تعالى: " والجان خلقناه من قبل من نار السموم " الحجر: 27. وأنهم يعيشون ويموتون ويبعثون كالانسان قال تعالى: " اولئك الذين حق عليهم القول في امم قد خلت من قبلهم من الجن والانس " الاحقاف: 18. وأن فيهم ذكورا واناثا يتكاثرون بالتوالد والتناسل قال تعالى: " وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن " الجن: 6. وأن لهم شعورا وارادة وأنهم يقدرون على حركات سريعة وأعمال شاقة كما في قصص سليمان عليه السلام وتسخير الجن له وقصة ملكة سبأ. وأنهم مكلفون كالانسان، منهم مؤمنون ومنهم كفار، ومنهم صالحون وآخرون طالحون، قال تعالى: " وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون " الذاريات: 54 وقال تعالى: " انا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به " الجن: 2 وقال: " وانا منا المسلمون ومنا القاسطون " الجن: 14 وقال: " وانا منا الصالحون ومنا دون ذلك " الجن: 11 وقال تعالى: " قالوا يا قومنا انا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق والى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعى الله " الاحقاف: 31 إلى غير ذلك من خصوصيات أحوالهم التي تشير إليها الآيات القرآنية. ويظهر من كلامه تعالى أن ابليس من الجن وان له ذرية وقبيلا قال تعالى: " كان من الجن ففسق عن أمر ربه " الكهف: 50 وقال تعالى: " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني " الكهف: 50 وقال تعالى: " انه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم " الاعراف: 27. قوله تعالى: " فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا " إخبار عن إيمانهم بالقرآن وتصديقهم بأنه حق، وقوله: " ولن نشرك بربنا أحدا " تأكيد لمعنى إيمانهم به أن إيمانهم بالقرآن إيمان بالله الذي أنزله فهو ربهم، وأن إيمانهم به تعالى إمان توحيد لا يشركون به أحدا أبدا.

[ 40 ]

قوله تعالى: " وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا " فسر الجد بالعظمة وفسر بالحظ، والآية في معنى التأكيد لقولهم: " ولن نشرك بربنا أحدا ". والقراءة المشهورة " أنه " بالفتح، وقرء بالكسر في هذه الآية وفيما بعدها من الآيات - اثنا عشر موردا - إلى قوله: " وأن لو استقاموا " فبالفتح وهو الارجح لظهور سياق الآيات في أنها مقولة قول الجن. وأما قراءة الفتح فوجهها لا يخلو من خفاء، وقد وجهها بعضهم بأن الجملة " وأنه " " الخ " معطوفة على الضمير المجرور في قوله " آمنا به " والتقدير وآمنا بأنه تعالى جد ربنا الخ فهو إخبار منهم بالايمان بنفي الصاحبة والولد منه تعالى على ما يقول به الوثنيون. وهذا إنما يستقيم على قول الكوفيين من النحاة بجواز العطف على الضمير المتصل المجرور، وأما على قول البصريين منهم من عدم جوازه فقد وجهه بعضهم كما عن الفراء والزجاج والزمخشري بأنها معطوفة على محل الجار والمجرور وهو النصب فإن قوله: " آمنا به " في معنى صدقناه، والتقدير وصدقنا أنه تعالى جد ربنا الخ، ولا يخفى ما فيه من التكلف. ووجهه بعضهم بتقدير حرف الجر في الجملة المعطوفة وذلك مطرد في أن وأن، والتقدير آمنا به وبأنه تعالى جد ربنا " الخ ". ويرد على الجميع أعم من العطف على الضمير المجرور أو على محله أو بتقدير حرف الجر أن المعنى إنما يستقيم حينئذ في قوله: " وأنه تعالى جد ربنا " الخ، وقوله: " وأنه كان يقول سفيهنا " الخ، وأما بقية الآيات المصدرة بأن كقوله: " وأنا ظننا أن لن تقول " الخ، وقوله: " وأنه كان رجال من الانس " الخ، وقوله: " وأنا لمسنا السماء " فلا يصح قطعا فلا معنى لان يقال: آمنا أو صدقنا أنا ظننا أن لن تقول الانس والجن على الله شططا، أو يقال: آمنا أو صدقنا أنه كان رجال من الانس يعوذون الخ، أو يقال: آمنا أو صدقنا أنا لمسنا السماء الخ. ولا يندفع الاشكال إلا بالمصير إلى ما ذكره بعضهم أنه إذا وجه الفتح في الآيتين الاوليين بتقدير الايمان أو التصديق فليوجه في كل من الآيات الباقية بما يناسبها من التقدير. ووجه بعضهم الفتح بأن قوله: " وأنه تعالى " الخ وسائر الآيات المصدرة بأن

[ 41 ]

معطوفة على قوله: " أنه استمع " الخ. ولا يخفى فساده فان محصله أن الآيات في مقام الاخبار عما اوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أقوالهم وقد أخبر عن قولهم: إنا سمعنا قرآنا عجبا فآمنا به بعنوان أنه إخبار عن قولهم ثم حكى سائر أقوالهم بألفاظها فالمعنى اوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا كذا وكذا واوحي إلى أنه تعالى جد ربنا " الخ " واوحي إلى أنه كان يقول سفيهنا إلى آخر الآيات. فيرد عليه أن ما وقع في صدر الآيات من لفظة " أنه " و " أنهم " و " أنا " إن لم يكن جزء من لفظهم المحكى كان زائدا مخلا بالكلام، وإن كان جزء من كلامهم المحكي بلفظه لم يكن المحكي من مجموع أن وما بعدها كلاما تاما واحتاج إلى تقدير ما يتم به كلاما حتى تصح الحكاية، ولم ينفع في ذلك عطفه على قوله: " أنه استمع " شيئا فلا تغفل. قوله تعالى: " وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا " السفه - على ما ذكره الراغب - خفة النفس لنقصان العقل، والشطط القول البعيد من الحق. والآية أيضا في معنى التأكيد لقولهم: " لن نشرك بربنا أحدا " ومرادهم بسفيههم من سبقهم من مشركي الجن، وقيل: المراد إبليس وهو من الجن، وهو بعيد من سياق قوله: " كان يقول سفيهنا " الخ. قوله تعالى: " وأنا ظننا أن لن تقول الانس والجن على الله كذبا " اعتراف منهم بأنهم ظنوا أن الانس والجن صادقون فيما يقولون ولا يكذبون على الله فلما وجدوهم مشركين وسمعوهم ينسبون إليه تعالى الصاحبة والولد أذعنوا به وقلدوهم فيما يقولون فأشركوا مثلهم حتى سمعوا القرآن فانكشف لهم الحق، وفيه تكذيب منهم للمشركين من الانس والجن. قوله تعالى: " وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا " قال الراغب: العوذ الالتجاء إلى الغير، وقال: رهقه الامر غشيه بقهر انتهى. وفسر الرهق بالاثم، وبالطغيان، وبالخوف، وبالشر، وبالذلة والضعف، وهي تفاسير بلازم المعنى.

[ 42 ]

والمراد بعوذ الانس بالجن - على ما قيل: أن الرجل من العرب كان إذا نزل الوادي في سفره ليلا قال: أعوذ بعزيز هذا الوادي من شر سفهاء قومه، ونقل عن مقاتل أن أول من تعوذ بالجن قوم من اليمن ثم بنو حنيفة ثم فشا في العرب. ولا يبعد أن يكون المراد بالعوذ بالجن الاستعانة بهم في المقاصد من طريق الكهانة، وإليه يرجع ما نقل عن بعضهم أن المعنى كان رجال من الانس يعوذون برجال من أجل الجن ومن معرتهم وأذاهم. والضميران في قوله: " فزادوهم " أولهما لرجال من الانس وثانيهما لرجال من الجن والمعنى فزاد رجال الانس رجال الجن رهقا بالتجائهم إليهم فاستكبر رجال الجن وطغوا وأثموا، ويجوز العكس بأن يكون الضمير الاول لرجال الجن والثاني لرجال الانس، والمعنى فزاد رجال الجن رجال الانس رهقا أي إثما وطغيانا أو ذلة وخوفا. قوله تعالى: " وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا " ضمير " انهم " لرجال من الانس، والخطاب في " ظننتم " لقومهم من الجن، والمراد بالبعث بعث الرسول بالرسالة فالمشركون ينكرون ذلك، وقيل: المراد به الاحياء بعد الموت، وسياق الآيات التالية يؤيد الاول. وعن بعضهم أن هذه الآية والتي قبلها ليستا من كلام الجن بل كلامهه تعالى معترضا بين الآيات المتضمنة لكلام الجن، وعليه فضمير " أنهم " للجن وخطاب " ظننتم " للناس، وفيه أنه بعيد من السياق. قوله تعالى: " وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا " لمس السماء الاقتراب منها بالصعود إليها، والحرس - على ما قيل - اسم جمع لحارس ولذا وصف بالمفرد والمراد بالحرس الشديد الحفاظ الاقوياء في دفع من يريد الاستراق منها ولذا شفع بالشهب وهي سلاحهم. قوله تعالى: " وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا " يفيد انضمام صدر الآية إلى الآية السابقة أن مل ء السماء بالحرس الشديد والشهب مما حدث أخيرا وأنهم كانوا من قبل يقعدون من السماء مقاعد لاستماع كلام الملائكة ويفيد ذيل الآية بالتفريع على جميع ما تقدم أن من يستمع الآن منا بالقعود منها مقعدا للسمع يجد له

[ 43 ]

شهابا من صفته أنه راصد له يرميه به الحرس. فيتحصل من مجموع الآيتين الاخبار بأنهم عثروا على حادثة سماوية جديدة مقارنة لنزول القرآن وبعثة النبي صلى الله عليه وآله وهي منع الجن من تلقي أخبار السماء باستراق السمع. ومن عجيب الاستدلال ما عن بعضهم أن في الآيتين ردا على من زعم أن الرجم حدث بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لظهور قوله: " ملئت حرسا " في أن الحادث هو المل ء وكثرة الحرس لا أصل الحرس، وظهور قوله: " نقعد منها مقاعد للسمع " في أنا كنا نجد فيها بعض المقاعد خاليا من الحرس والشهب، والآن ملئت المقاعد كلها فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا. ويدفعه أنه لو كان المراد بالآيتين هو الاخبار عن مل ء السماء بالحرس وتكثير عددهم بحيث لا يوجد فيها مقاعد خالية منهم وقد كانت توجد قبل ذلك كان الواجب أن يتوجه النفي في قوله: " فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا " إلى السمع عن جميع المقاعد قبال إثبات السمع من بعض تلك المقاعد لا نفي مجرد السمع. سلمنا أن المراد نفي السمع على الاطلاق وهو يكفي في ذلك لكن تعلق الغرض في الكلام بالاخبار عن الامتلاء بالحرس مع كون بعض المقاعد خالية عنهم قبل ذلك، وكذا تقييد قوله: " فمن يستمع " الخ بقوله: " الآن " يدل على حدوث أمر جديد في رجم الجن وهو استيعاب الرجم لهم في أي مقعد قعدوا والمنع من السمع مطلقا بعدما كانوا يستمعون من بعض المقاعد من غير منع، وهذا المقدار كاف للمدعي فيما يدعيه. وليتنبه أن مدلول الآية حدوث رجم الجن بشهاب رصد وهو غير حدوث الشهاب السماوي وهو ظاهر فلا ورود لما قيل: أن الشهب السماوية كانت من الحوادث الجوية الموجودة قبل زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن. وجه عدم الورود أن الذي يظهر من القرآن حدوث رجم الشياطين من الجن بالشهب من غير تعرض لحدوث أصل الشهب، وقد تقدم في تفسير أول سورة الصافات بعض ما يتعلق بهذا المقام. قوله تعالى: " وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الارض أم أراد بهم ربهم رشدا "

[ 44 ]

الرشد بفتحتين والرشد بالضم فالسكون خلاف الغي وتنكير " رشدا " لافادة النوع أي نوعا من الرشد. هذا منهم إظهار للجهل والتحير فيما شاهدوه من أمر الرجم ومنع شياطين الجن من الاطلاع على أخبار السماء غير أنهم تنبهوا على أن ذلك لامر ما يرجع إلى أهل الارض إما خير أو شر وإذا كان خيرا فهو نوع هدى لهم وسعاده ولذا بدلوا الخير وهو المقابل للشر من الرشد، ويؤيده قولهم: " أراد بهم ربهم " المشعر بالرحمة والعناية. وقد صرحوا بالفاعل لارادة الرشد وحذفوه في جانب الشر أدبا ولا يراد شر من جانبه تعالى إلا لمن استحقه. قوله تعالى: " وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا " الصلاح مقابل الطلاح، والمراد بدون ذلك ما يقرب منه رتبة - على ما قيل -، والظاهر أن دون بمعنى غير، ويؤيده قوله: " كنا طرائق قددا " الدال على التفرق والتشتت والطرائق جمع طريقة وهي الطريق المطروقة المسلوكة، والقدد القطع جمع قدة بمعنى قطعة من القد بمعنى القطع وصفت الطرائق بالقدد لان كل واحدة منها مقطوعة عن غيرها تنتهي بسالكها إلى غاية غير ما ينتهى به إليه غيرها، وإلى هذا المعنى يرجع تفسير القدد بالطرائق المتفرقة المتشتتة. والظاهر أن المراد بقوله: " الصالحون " الصالحون بحسب الطبع الاولي في المعاشرة والمعاملة دون الصالحين بحسب الايمان، ولو كان المراد صلاح الايمان لكان الانسب أن يذكر بعدما سيجئ من حديث إيمانهم لما سمعوا الهدى. وذكر بعضهم أن قوله: " طرائق قددا " منصوب على الظرفية أي في طرائق قدد وهي المذاهب المتفرقة المتشتتة، وقال آخرون إنه على تقدير مضاف أي ذوى طرائق، ولا يبعد أن يكون من الاستعارة بتشبيههم أنفسهم في الاختلاف والتباين بالطرق المقطوع بعضها من بعض الموصلة إلى غايات متشتتة. والمعنى: وأنا منا الصالحون طبعا ومنا غير ذلك كنا في مذاهب مختلفة أو ذوي مذاهب مختلفة أو كالطرق المقطوعة بعضها عن بعض. قوله تعالى: " وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الارض ولن نعجزه هربا " الظن هو

[ 45 ]

العلم اليقيني، والانسب أن يكون المراد بقوله: " لن نعجز الله في الارض " إعجازه تعالى بالغلبة عليه فيما يشاء فيها وذلك بالافساد في الارض وإخلال النظام الذي يجري فيها فإن إفسادهم لو أفسدوا من القدر، والمراد بقوله: " ولن نعجزه هربا " إعجازه تعالى بالهرب منه إذا طلبهم حتى يفوتوه فلا يقدر على الظفر بهم وقيل: المعنى لن نعجزه تعالى كائنين في الارض ولن نعجزه هربا إلى السماء أي لن نعجزه لا في الارض ولا في السماء هذا وهو كما ترى. قوله تعالى: " وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا " المراد بالهدى القرآن باعتبار ما يتضمنه من الهدى، والبخس النقص على سبيل الظلم، والرهق غشيان المكروه. والفاء في قوله: " فمن يؤمن " للتفريع وهو من تفريع العلة على المعلول لافادة الحجة في إيمانهم بالقرآن من دون ريث ولا مهل. ومحصل المعنى: أنا لما سمعنا القرآن الذى هو الهدى بادرنا إلى الايمان به من دون مكث لان من آمن به فقد آمن بربه ومن يؤمن بربه فلا يخاف نقصانا في خير أو غشيانا من مكروه حتى يكف عن المبادرة والاستعجال ويتروى في الاقدام عليه لئلا يقع في بخس أو رهق. قوله تعالى: " وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فاولئك تحروا رشدا " المراد بالاسلام تسليم الامر لله تعالى فالمسلمون المسلمون له الامر المطيعون له فيما يريده ويأمر به، والقاسطون هم المائلون إلى الباطل قال في المجمع: القاسط هو العادل عن الحق والمقسط العادل إلى الحق، انتهى. والمعنى: أنا معشر الجن منقسمون إلى من يسلم لامر الله مطيعين له، وإلى من يعدل عن التسليم لامر الله وهو الحق. وقوله: " فمن أسلم فاولئك تحروا رشدا " تحري الشئ توخيه وقصده، والمعنى فالذين أسلموا فاولئك قصدوا إصابة الواقع والظفر بالحق. قوله تعالى: " وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا " فيعذبون بتسعرهم واشتعالهم بأنفسهم كالقاسطين من الانس قال تعالى: " فاتقوا النار التي وقودها الناس " البقرة: 26.

[ 46 ]

وقد عد كثير منهم قوله: " فمن أسلم فاولئك - إلى قوله - لجهنم حطبا " تتمة لكلام الجن يخاطبون به قومهم وقيل: إنه من كلامه تعالى يخاطب به النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: " وأن لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ": " أن " مخففة من الثقيلة، والمراد بالطريقخ طريقة الاسلام، والاستقامة عليها لزومها والثبات على ما تقتضيه من الايمان بالله وآياته. والماء الغدق الكثير منه، ولا يبعد أن يستفاد من السياق أن قوله: " لاسقيناهم ماء غدقا " مثل اريد به التوسعة في الرزق، ويؤيده قوله بعده: " لنفتنهم فيه ". والمعنى: وأنه لو استقاموا أي الجن والانس على طريقة الاسلام لله لرزقناهم رزقا كثيرا لنمتحنهم في رزقهم فالآية في معنى قوله: " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض " الاعراف: 96. والآية من كلامه تعالى معطوف على قوله في أول السورة: " أنه استمع " الخ. قوله تعالى: " ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا " العذاب الصعد هو الذي يتصعد على المعذب ويغلبه، وقيل: هو العذاب الشاق. والاعراض عن ذكر الله لازم عدم الاستقامة على الطريقة وهو الاصل في سلوك العذاب، ولذا وضع موضعه ليدل على السبب الاصلي في دخول النار. وهو الوجه أيضا في الالتفات عن التكلم مع الغير إلى الغيبة في قوله: " ذكر ربه " وكان مقتضى الظاهر أن يقال: ذكرنا وذلك أن صفة الربوبية هي المبدأ الاصلي لتعذيب المعرضين عن ذكره تعالى فوضعت موضع ضمير المتكلم مع الغير ليدل على المبدء الاصلي كما وضع الاعراض عن الذكر موضع عدم الاستقامة ليدل على السبب. قيل: وقوله: " يسلكه " مضمن معنى يدخله ولذا عدي إلى المفعول الثاني، والمعنى ظاهر. (بحث روائي) في المجمع روى الواحدى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما قرء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الجن وما رآهم، انطلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى

[ 47 ]

سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: مالكم: قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا: ما ذاك الا من شيئ حدث فاضربوا مشارق الارض ومغاربها. فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم وقالوا: " انا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا " فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: " قل اوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ". ورواه البخاري ومسلم أيضا في الصحيح. أقول: وروى القمي في تفسيره ما يقرب منه وقد أوردنا الرواية في تفسير سورة الاحقاف في ذيل قوله: " وإذا صرفنا اليك نفرا من الجن " الخ. لكن ظاهر روايته أن النفر الذين نزلت فيهم آيات سورة الاحقاف هم النفر الذين نزلت فيهم هذه السورة وظاهر آيات السورتين لا يلائم ذلك فان ظاهر قولهم المنقول في سورة الاحقاف: " انا سمعنا كتابا أنزل بعد موسى يهدي إلى الحق " الآية أنهم كانوا مؤمنين بموسى ومصدقين للتوراة وظاهر آيات هذه السورة أنهم كانوا مشركين لا يرون النبوة ولازم ذلك تغاير الطائفتين اللهم الا أن يمنع الظهور. وفيه عن علقمة بن قيس قال: قلت لعبد الله بن مسعود: من كان منكم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الجن ؟ فقال: ما كان منا معه أحد فقدناه ذات ليلة ونحن بمكة فقلنا: اغتيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو استطير فانطلقنا نطلبه من الشعاب فلقيناه مقبلا من نحو حراء فقلنا: يا رسول الله أين كنت ؟ لقد أشفقنا عليك، وقلنا له: بتنا الليلة بشر ليلة بات بها قوم حين فقدناك، فقال لنا: إنه أتاني داعي الجن فذهبت أقرؤهم القرآن فذهب بنا وأرانا آثارهم وآثار نيرانهم فأما أن يكون صحبه منا أحد فلا. وفيه وعن الربيع بن أنس قال: ليس لله تعالى جد وإنما قالته الجن بجهالة فحكاه الله سبحانه كما قالت، وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام. اقول: المراد بالجد المنفي عنه تعالى الحظ والبخت. وفي الاحتجاج عن علي عليه السلام في حديث: فأقبل إليه الجن والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ببطن

[ 48 ]

النخل فاعتذروا بأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا، ولقد أقبل إليه أحد وسبعون ألفا منهم فبايعوه على الصوم والصلاة والزكاه والحج والجهاد ونصح المسلمين فاعتذروا بأهم قالوا على الله شططا. اقول: بيعتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على الصوم والصلاة الخ، يصدقها قولهم المحكي في أول السورة: " فآمنا به " وقولهم: " وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به "، وأما كيفية عملهم بها وخاصة بالزكاة والجهاد فمجهولة لنا، واعتذارهم الاول المذكور لا يخلو من خفاء. وفي تفسير القمي بإسناده إلى زرارة قال: سألت أبا جعفر عن قول الله: " وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا " قال: كان الرجل ينطلق إلى الكاهن الذي يوحي إليه الشيطان فيقول: قل للشيطان: فلان قد عاذ بك. وفيه في قوله تعالى: " فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا " قال: البخس النقصان، والرهق العذاب. وسئل العالم عن مؤمني الجن أيدخلون الجنة ؟ فقال: لا ولكن لله حظائر بين الجنة والنار يكون فيها مؤمنو الجن وفساق الشيعة. اقول: لعل المراد بهذه الحظائر هي بعض درجات الجنة التي هي دون جنة الصالحين. واعلم أنه ورد في بعض الروايات من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام تطبيق ما في الآيات من الهدى والطريقة على ولاية علي عليه السلام وهي من الجري وليست من التفسير في شئ. وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا _ 18. وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا _ 19. قل إنما أدعوا ربي ولا أشرك به أحدا _ 20. قل إنى لا أملك لكم ضرا ولا رشدا _ 21. قل إنى لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا _

[ 49 ]

22. إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا _ 23. حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا _ 24. قل ان أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا _ 25. عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا _ 26. إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا _ 27. ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شئ عددا _ 28. (بيان) في الآيات تسجيل للنبوة وذكر وحدانيتة تعالى والمعاد كالاستنتاج من القصة وتختتم بالاشارة إلى عصمة الرسالة. قوله تعالى: " وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا " معطوف على قوله: " أنه استمع " الخ، وجملة " أن المساجد لله " في موضع التعليل لقوله: " فلا تدعوا مع الله أحدا " والتقدير لا تدعوا مع الله أحدا غيره لان المساجد له. والمراد بالدعاء العبادة قد سماها الله دعاء كما في قوله: " وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " المؤمن: 60. وقد اختلف في المراد من المساجد فقيل: المراد به الكعبة، وقيل المسجد الحرام، وقيل: المسجد الحرام وبيت المقدس، ويدفعها كون المساجد جمعا لا ينطبق على الواحد والاثنين. وقيل: الحرم، وهو تهكم لا دليل عليه، وقيل: الارض كلها لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: جعلت لي الارض مسجدا وطهورا، وفيه أنه لا يدل على أزيد من جواز العبادة في أي بقعة من

[ 50 ]

بقاع الارض خلافا لما هو المعروف عن اليهود والنصارى من عدم جواز عبادته تعالى في غير البيع والكنائس، وأما تسمية بقاعها مساجد حتى يحمل عليها عند الاطلاق فلا. وقيل: المراد به الصلوات فلا يصلى إلا لله، وهو تهكم لا دليل عليه. وعن الامام الجواد عليه السلام أن المراد بالمساجد الاعضاء السبعة التي يسجد عليها في الصلاة وهي الجبهة والكفان والركبتان وأصابع الرجلين، وستوافيك روايته في البحث الروائي التالي إن شاء الله، ونقل ذلك أيضا عن سعيد بن جبير والفراء والزجاج. والانسب على هذا أن يكون المراد بكون مواضع السجود من الانسان لله اختصاصها به اختصاصا تشريعيا، والمراد بالدعاء السجدة لكونها أظهر مصاديق العبادة أو الصلاة بما أنها تتضمن السجود لله سبحانه. والمعنى: وأوحى إلي أن أعضاء السجود يختص بالله تعالى فاسجدوا له بها - أو اعبدوه بها - ولا تسجدوا - أو لا تعبدوا - أحدا غيره. قوله تعالى " " وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا " اللبد بالكسر فالفتح جمع لبدة بالضم فالسكون المجتمعة المتراكمة، والمراد بعبد الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما تدل عليه الآية التالية، والتعبير بعبد الله كالتمهيد لقوله في الآية التالية: " قل إنما أدعو ربي ". والانسب لسياق الآيات التالية أن يكون مرجع ضميري الجمع في قوله: " كادوا يكونون " المشركين وقد كانوا يزدحمون عليه صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى وقرء القرآن يستهزؤن ويرفعون أصواتهم فوق صوته على ما نقل. والمعنى: وأنه لما قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعبد الله بالصلاة كاد المشركون يكونون بازدحامهم لبدا مجتمعين متراكمين. وقيل: الضميران للجن وإنهم اجتمعوا عليه وتراكموا ينظرون إليه متعجبين مما يشاهدون من عبادته وقراءته قرآنا لم يسمعوا كلاما يماثله. وقيل: الضميران للمؤمنين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم المجتمعين عليه اقتداء به في صلاته إذا صلى وإنصاتا لما يتلوه من كلام الله. والوجهان لا يلائمان سياق الآيات التالية تلك الملاءمة كما تقدمت الاشارة إليه. قوله تعالى: " قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا " أمر منه تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم

[ 51 ]

أن يبين لهم وجه عبادته بيانا يزيل عنهم الحيرة حيث رأوا منه ما لم يكونوا رأوه من أحد غيره، ويتعجبون حاملين له على نوع من المكيدة والمكر بأصنامهم أو خدعة بهم لاغراض أخر دنيوية. ومحصل البيان: أني لست أريد بما آتي به من العمل شيئا من المقاصد التي تحسبونها وترمونني بها وإنما أدعو ربي وحده غير مشرك به أحدا وعبادة الانسان لمن عرفه ربا لنفسه مما لا ينبغي أن يلام عليه أو يتعجب منه. قوله تعالى: " قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا " الذي يفيده سياق الآيات الكريمة أنه صلى الله عليه وآله وسلم يبين فيها بأمر من ربه موقع نفسه وبالنسبة إلى ربه وبالنسبة إلى الناس. أما موقعه بالنسبة إلى ربه فهو أنه يدعوه ولا يشرك به أحدا وهو قوله: " قل إنما أدعوا ربي ولا أشرك به أحدا ". وأما موقعه بالنسبة إليهم فهو أنه بشر مثلهم لا يملك لهم ضرا ولا رشدا حتى يضرهم بما يريد أن يرشدهم من الخير إلى ما يريد بما عنده من القدرة، وأنه مأمور من الله بدعوتهم أمرا ليس له إلا أن يمتثله فلا مجير يجيره منه ولا ملجأ يلتجئ إليه لو خالف وعصى كما ليس لهم إلا أن يطيعوا الله ورسوله ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا، وسيعلمون إذا رأوا ما يوعدون. ولازم هذا السياق أن يكون المراد بملك الضر القدرة على إيقاع الضر بهم فيوقعه بهم إذا أراد، والمراد بملك الرشد القدرة على إيصال النفع إليهم بإصابة الواقع أي أني لا أدعي أني أقدر أن أضركم أو أنفعكم، وقيل: المراد بالضر الغي المقابل للرشد تعبيرا باسم المسبب عن السبب. قوله تعالى: " قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته " الاجارة إعطاء الجوار وحكمه حماية المجير للجار ومنعه ممن يقصده بسوء، والظاهر أن الملتحد اسم مكان وهو المكان الذي يعدل وينحرف إليه للتحرز من الشر، وقيل: المدخل ويتعلق به قوله: " من دونه " وهو كالقيد التوضيحي والضمير لله والبلاغ التبليغ. وقوله: " إلا بلاغا " استثناء من قوله: " ملتحدا " وقوله: " من الله " متعلق بمقدر

[ 52 ]

أي كائنا من الله وليس متعلقا بقوله: " بلاغا " لانه يتعدى بعن لا بمن ولذا قال بعض من جعله متعلقا ببلاغا: إن " من " بمعنى عن، والمعنى على أي حال إلا تبليغ ما هو تعالى عليه من الاسماء والصفات. وقوله: " ورسالاته " قيل: معطوف على " بلاغا " والتقدير إلا بلاغا من الله وإلا رسالاته وقيل: معطوف على لفظ الجلالة ومن بمعنى عن، والمعنى إلا بلاغا عن الله وعن رسالاته. وفيما استثني منه بلاغا قول آخر وهو أنه مفعول " لا أملك " والمعنى لا أملك لكم ضرا ولا رشدا إلا تبليغا من الله ورسالاته، ويبعده الفصل بين المستثنى والمستثنى منه بقوله: " لن يجيرني من الله أحد " الخ وهو كلام مستأنف. ومعنى الآيتين على ما قدمنا: قل لن يجيرني من الله أحد فيمنعني منه ولن أجد من دونه مكانا ألتجى إليه إلا تبليغا كائنا منه ورسالاته أي إلا أن أمتثل ما أمرني به من التبليغ منه تعالى ببيان أسمائه وصفاته وإلا رسالاته في شرائع الدين. قوله تعالى: " ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا " إفراد ضمير " له " باعتبار لفظ " من " كما أن جمع " خالدين " باعتبار معناها. وعطف الرسول على الله في قوله: " ومن يعص الله ورسوله " لكون معصيته معصية لله تعالى إذ ليس له إلا رسالة ربه فالرد عليه فيما أتى به رد على الله سبحانه وطاعته فيما يأمر به طاعة لله قال تعالى: " من يطع الرسول فقد أطاع الله " النساء: 80. والمراد بالمعصية - كما يشهد به سياق الآيات السابقة - معصية ما أمر به من التوحيد أو التوحيد وما يتفرع عليه من اصول الدين وفروعه فلا يشمل التهديد والوعيد بخلود النار إلا الكافرين بأصل الدعوة دون مطلق أهل المعصية المتخلفين عن فروع الدين فالاحتجاج بالآية على تخليد مطلق العصاة في النار في غير محله. والظاهر أن قوله: " ومن يعص الله " إلى آخر الآية من كلام الله سبحانه لا من تتمة كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: " حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا " لقوله: " حتى " دلالة على معنى مدخولها غاية له ومدخولها يدل على أنهم كانوا يستضعفون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ناصريه - وهم المؤمنون - ضعفاء واستقلال عدده بعد عددهم قليلا

[ 53 ]

فالكلام يدل على معنى محذوف هو غايته كقولنا: لا يزالون يستضعفون ناصريك ويستقلون عددهم حتى إذا رأوا ما يوعدون الخ. والمراد بما يوعدون نار جهنم لانها هي الموعودة في الآية، والآية من كلامه تعالى يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولو كانت من كلامه وهي مصدرة بقوله تعالى " قل " لكان من حق الكلام أن يقال: حتى إذا رأيتم ما توعدون فستعلمون الخ. قوله تعالى: " قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربى أمدا " الامد الغاية التي ينتهي إليها، والآية بمنزلة دفع دخل تقتضيه حالهم كأنهم لما سمعوا الوعيد قالوا: متى يكون ذلك فقيل له: " قل إن أدري أقريب " الخ. قوله تعالى: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا " إظهار الشئ على الشئ إعانته وتسليطه عليه، و " عالم الغيب " خبر لمبتدء محذوف، والتقدير هو عالم الغيب، ومفاد الكلمة بإعانة من السياق اختصاص علم الغيب به تعالى مع استيعاب علمه كل غيب، ولذا أضاف الغيب إلى نفسه ثانيا فقال: " على غيبه " بوضع الظاهر موضع المضمر ليفيد الاختصاص ولو قال: " فلا يظهر عليه " لم يفد ذلك. والمعنى هو عالم كل غيب علما يختص به فلا يطلع على الغيب وهو مختص به أحدا من الناس فالمفاد سلب كلي وإن أصر بعضهم على كونه سلبا جزئيا محصل معناه لا يظهر على كل غيبه أحدا ويؤيد ما قلنا ظاهر ما سيأتي من الآيات. قوله تعالى: " إلا من ارتضى من رسول " استثناء من قوله: " أحدا " و " من رسول " بيان لقوله " من ارتضى " فيفيد أن الله تعالى يظهر رسله على ما شاء من الغيب المختص به فالآية إذا انضمت إلى الايات التي تخص علم الغيب به تعالى كقوله: " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو " الانعام: 59، وقوله: " ولله غيب السماوات والارض " النحل: " 77، وقوله: " قل لا يعلم من في السماوات والارض الغيب إلا الله " النمل: 65 أفاد ذلك معنى الاصالة والتبعية فهو تعالى يعلم الغيب لذاته وغيره يعلمه بتعليم من الله. فهذه الآيات نظيرة الآيات المتعرضة للتوفي كقوله: " الله يتوفى الانفس " الزمر: 42 الدال على الحصر، وقوله: " قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم " ألم السجدة: 11، وقوله: " حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا " الانعام: 61 فالتوفي منسوب إليه تعالى على

[ 54 ]

نحو الاصالة وإلى الملائكة على نحو التبعية لكونهم أسبابا متوسطة مسخرة له تعالى. قوله تعالى: " فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا - إلى قوله - عددا " ضمير " فإنه " لله تعالى، وضميرا " يديه " و " خلفه " للرسول، والراصد المراقب للامر الحارس له، والرصد الراصد يطلق على الواحد والجماعة وهو في الاصل مصدر، والمراد بما بين يدي الرسول ما بينه وبين الناس المرسل إليهم، وبما خلفه ما بينه وبين مصدر الوحي الذي هو الله سبحانه وقد اعتبر في هذا التصوير ما يوهمه معنى الرسالة من امتداد متوهم يأخذ من المرسل - اسم فاعل - وينتهي إلى المرسل إليه يقطعه الرسول حتى ينتهي إلى المرسل إليه فيؤدي رسالته، والآية تصف طريق بلوغ الغيب إلى الرسول وهو الرسالات التي توحي إليه كما يشير إلى ذلك قوله: " ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ". والمعنى: فإن الله يسلك ما بين الرسول ومن ارسل إليه وما بين الرسول ومصدر الوحي مراقبين حارسين من الملائكة - ومن المعلوم أن سلوك الرصد من بين يديه ومن خلفه لحفظ الوحي من كل تخليط وتغيير بالزيادة والنقصان يقع فيه من ناحية الشياطين بلا واسطة أو معها. وقوله: " ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم " ضمير " ليعلم " لله سبحانه، وضميرا " قد أبلغوا و " ربهم " لقوله: " من " باعتبار المعنى أو لرسول باعتبار الجنس، والمراد بعلمه تعالى بإبلاغهم رسالات ربهم العلم الفعلي وهو تحقق الابلاغ في الخارج على حد قوله: " فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين " العنكبوت: 3 وهو كثير الورود في كلامه تعالى. والجملة تعليل لسلوك الرصد بين يدي الرسول ومن خلفه، والمعنى ليتحقق إبلاغ رسالات ربهم أي لتبلغ الناس رسالاته تعالى على ما هي عليه من غير تغير وتبدل. ومن المحتمل أن يرجع ضميرا " بين يديه ومن خلفه " إلى " غيبه " فيكون الرصد الحرس مسلوكين بين يدي الغيب النازل ومن خلفه إلى أن يبلغ الرسول، ويضعفه أنه لا يلائم قوله: " ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم " بالمعنى الذي تقدم لعدم استلزام بلوغ الغيب للرسول سليما من تعرض الشياطين حصول العلم بإبلاغه إلى الناس. وإلى هذا المعنى يرجع قول بعضهم إن الضميرين يرجعان إلى جبريل حامل الوحي. ويضعفه مضافا إلى ما مر عدم سبق ذكره.

[ 55 ]

وقيل: ضمير ليعلم للرسول وضميرا " قد أبلغوا " و " ربهم " للملائكة الرصد والمعنى يرصد الملائكة الوحي ويحرسونه ليعلم الرسول أن الملائكة قد أبلغوا إليه الوحي كما صدر فتطمئن نفسه أنه سليم من تعرض الشياطين فإن لازم العلم بإبلاغهم إياه العلم ببلوغه. ويبعده أن ظاهر السياق - ويؤيده سبق ذكر الرسول - أن المراد بالرسالات الرسالات التي حملها الرسول ليبلغها إلى الناس لا ما حملها ملك الوحي فضمير " ربهم " للرسل دون الملائكة، على أن الآية تشير إلى الملائكة بعنوان الرصد وهو غير عنوان الرسالة وشأن الرصد الحفظ والحراسة دون الرسالة. وقيل: المعنى ليعلم محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الرسل قبله قد أبلغوا رسالات ربهم، وهو وجه سخيف لا دليل عليه، وأسخف منه ما قيل: إن المعنى ليعلم مكذب الرسل أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم إليهم. وقوله: " وأحاط بما لديهم " ضمير الجمع للرسل بناء على ما تقدم من المعنى والظاهر أن الجملة متممة لمعنى الحراسة المذكورة سابقا فقوله: " من بين يديه " يشير إلى رصد ما بين الرسول والمرسل إليهم، وقوله: " ومن خلفه " إلى حفظ ما بينه ومصدر الوحي، وقوله: " وأحاط بما لديهم " يشير إلى ظرف نفس الرسول والاحاطة إحاطة علمية فالوحي في أمن من تطرق التغيير والتبديل فيما بين مصدر الوحي والرسول وفي نفس الرسول وفيما بين الرسول والمرسل إليهم. ويمكن أن يكون المراد بما لديهم جميع ماله تعلق ما بالرسل أعم من مسير الوحي أو أنفسهم كما أن قوله: " وأحصى كل شئ عددا " مسوق لافادة عموم العلم بالاشياء غير أنه العلم بعددها وتميز بعضها من بعض. فقد تبين مما مر في الآيات الثلاث: أولا: أن اختصاصه تعالى بعلم الغيب على نحو الاصالة بالمعنى الذي أوضحناه فهو تعالى يعلم الغيب بذاته وغيره يعلمه بتعليم منه. وبه يظهر أن ما حكى في كلامه تعالى من إنكارهم العلم بالغيب اريد به نفى الاصالة والاستقلال دون ما كان بوحي كقوله تعالى: " قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا

[ 56 ]

أعلم الغيب " الانعام: 50، وقوله: " ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير " الاعراف: 188 وقوله: " قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي " الاحقاف: 9. وثانيا: أن عموم قوله: " فلا يظهر على غيبه أحدا " لما خصص بقوله: " إلا من ارتضى من رسول " عاد عاما مخصصا لا يأبى تخصيصا بمخصص آخر كما في مورد الانبياء فإن الآيات القرآنية تدل على أنهم يوحى إليهم كقوله: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " النساء: 163 وتدل على أن الوحي من الغيب فالنبي ينال الغيب كما يناله الرسول هذا على تقدير أن يكون المراد بالرسول في الآية ما يقابل النبي وأما لو أريد مطلق من أرسله الله إلى الناس والنبي ممن أرسله الله إليهم كما يشهد به قوله: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي " الآية الحج: 52، وقوله: " وما أرسلنا في قرية من نبي " الاعراف: 94 فالنبي خارج من عموم النفي من غير تخصيص جديد. وكذا في مورد الامام بالمعنى الذي يستعمله فيه القرآن فإنه تعالى يصفه بالصبر واليقين كما في قوله: " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون " الم السجدة: 24 ويعرفهم بانكشاف الغطاء لهم كما في قوله: " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين " الانعام: 75، وقوله: " كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم " التكاثر: 6 وقد تقدم كلام في ذلك في بعض المباحث السابقة. وأما الملائكة فما يحملونه من الوحي السماوي قبل نزوله وكذا ما يشاهدونه من عالم الملكوت شهادة بالنسبة إليهم وإن كان غيبا بالنسبة إلينا. على أن قوله: " فلا يظهر على غيبة أحدا " إنما يشمل أهل الدنيا ممن يعيش على بسيط الارض وإلا لانتقض بالاموات المشاهدين لامور الآخرة وهي من الغيب بنص القرآن فلم يبق تحت عموم النفي حتى فرد واحد إذ ما من أحد إلا وهو مبعوث ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود، وكما أن الاموات نشأتهم غير نشأة الدنيا كذلك نشأة الملائكة غير نشأة المادة. وثالثا: أن قوله: " فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه " إلى آخر الايتين يدل على أن الوحي الالهي محفوظ من لدن صدوره من مصدر الوحي إلى بلوغه الناس مصون في طريق نزوله إلى أن يصل إلى من قصد نزوله عليه.

[ 57 ]

أما مصونيته من حين صدوره من مصدره إلى أن ينتهي إلى الرسول فيكفي في الدلالة عليه قوله " من خلفه " (1) وأما مصونيته حين أخذ الرسول إياه وتلقيه من ملك الوحي بحيث يعرفه ولا يغلط في أخذه، ومصونيته في حفظه بحيث يعيه كما اوحي إليه من غير أن ينساه أو يغيره أو يبدله، ومصونيته في تبليغه إلى الناس من تصرف الشيطان فيه فالدليل عليه قوله: ليعلم أن قد ابلغوا رسالات ربهم " حيث يدل على ان الغرض الالهي من سلوك الرصد ان يعلم ابلاغهم رسالات ربهم اي ان يتحقق في الخارج ابلاغ الوحي إلى الناس، ولازمه بلوغه اياهم ولولا مصونية الرسول في الجهات الثلاث المذكورة جميعا لم يتم الغرض الالهي وهو ظاهر، وحيث لم يذكر تعالى للحصول على هذا الغرض طريقا غير سلوك الرصد دل ذلك على ان الوحي محروس بالملائكة وهو عند الرسول كما انه محروس بهم في طريقه إلى الرسول حتى ينتهي إليه، ويؤكده قوله بعد: " واحاط بما لديهم ". واما مصونيته في مسيره من الرسول حتى ينتهي إلى الناس فيكفي فيه قوله: " من بين يديه " على ما تقدم من معناه. اضف إلى ذلك دلالة قوله: " ليعلم ان قد ابلغوا رسالات ربهم " بما تقدم من تقريب دلالته. ويتفرع على هذا البيان أن الرسول مؤيد بالعصمة في أخذ الوحي من ربه وفي حفظه وفي تبليغه إلى الناس مصون من الخطأ في الجهات الثلاث جميعا لما مر من دلالة الآية على أن ما نزله الله من دينه على الناس من طريق الرسالة بالوحي مصون في جميع مراحله إلى أن ينتهي إلى الناس ومن مراحله مرحلة أخذ الرسول للوحي وحفظه له وتبليغه إلى الناس. والتبليغ يعم القول والفعل فإن في الفعل تبليغا كما في القول فالرسول معصوم من المعصية باقتراف المحرمات وترك الواجبات الدينية لان في ذلك تبليغا لما يناقض الدين فهو معصوم من فعل المعصية كما أنه معصوم من الخطإ في أخذ الوحي وحفظه وتبليغه قولا. وقد تقدمت الاشارة إلى أن النبوة كالرسالة في دورانها مدار الوحي فالنبي كالرسول في خاصة العصمة، ويتحصل بذلك أن أصحاب الوحي سواء كانوا رسلا أو أنبياء


(1) هذا بناء على رجوع الضمير إلى الرسول واما بناء على احتمال رجوع الضمير إلى الغيب فالدال عليه مجموع " من بين يديه ومن خلفه " لكنه ضعيف كما تقدم.

[ 58 ]

معصومون في أخذ الوحي وفي حفظ ما أوحي إليهم وفي تبليغه إلى الناس قولا وفعلا. ورابعا: أن الذي استثني في الآية من الاظهار على الغيب إظهار الرسول على ما يتوقف عليه تحقق إبلاغ رسالته أعم من أن يكون متن الرسالة كالمعارف الاعتقادية وشرائع الدين والقصص والعبر والحكم والمواعظ أو يكون من آيات الرسالة والمعجزات الدالة على صدق الرسول في دعواه كالذي حكي عن بعض الرسل من الاخبار بالمغيبات كقول صالح لقومه: " تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب " هود: 65، وقول عيسى لبني إسرائيل: " وانبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم " آل عمران: 49، وكذا ما ورد من مواعد الرسل، وما ورد في الكتاب العزيز من الملاحم كل ذلك من إظهارهم على الغيب. (بحث روائي) عن تفسير العياشي عن أبي جعفر عليه السلام أنه سأله المعتصم عن السارق من اي موضع يجب أن يقطع ؟ فقال: إن القطع يجب أن يكون من مفصل اصول الاصابع فتترك الكف. فقال: وما الحجة في ذلك ؟ قال: قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: السجود على سبعة أجزاء: الوجه واليدين والركبتين والرجلين فإذا قطع من الكرسوع أو المرفق لم يدع له يدا يسجد عليها وقال الله: " وأن المساجد لله " يعني به هذه الاعضاء السبعة التي يسجد عليها " فلا تدعوا مع الله أحدا " وما كان لله فلا يقطع. الحديث. وفي الكافي بإسناده عن حماد بن عيسى عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث: وسجديعني أبا عبد الله عليه السلام على ثمانية أعظم: الكفين والركبتين وإبهامي الرجلين والجبهة والانف، وقال: سبعة منها فرض يسجد عليها وهي التي ذكرها الله في كتابه فقال: " وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا " وهي الجبهة والكفان والركبتان والابهامان ووضع الانف على الارض سنة. وعن الخرائج والجرائح روى محمد بن الفضل الهاشمي عن الرضا عليه السلام أنه نظر إلى ابن هذاب فقال: إن أنا أخبرتك أنك ستبتلي في هذه الايام بدم ذي رحم لك لكنت مصدقا لي ؟ قال: لا فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى. قال: أو ليس إنه يقول: " عالم

[ 59 ]

الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول " فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الله مرتضى، ونحن ورثة ذلك الرسول الذي أطلعه الله على ما يشاء من غيبه فعلمنا ما كان وما يكون إلى يوم القيامة. أقول: والاخبار في هذا الباب فوق حد الاحصاء، ومدلولها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذه بوحي من ربه وأنهم أخذوه بالوراثة منه صلى الله عليه وآله وسلم. (سورة المزمل مكية وهي عشرون آية) بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها المزمل _ 1. قم الليل الا قليلا _ 2. نصفه أو انقص منه قليلا _ 3. أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا _ 4. انا سنلقي عليك قولا ثقيلا _ 5. ان ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا _ 6. ان لك في النهار سبحا طويلا _ 7. واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا _ 8. رب المشرق والمغرب لا آله الا هو فاتخذه وكيلا _ 9. واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا _ 10. وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا _ 11. ان لدينا أنكالا وجحيما _ 12. وطعاما ذا غصة وعذابا أليما _ 13. يوم ترجف الارض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا _ 14. انا أرسلنا اليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا _ 15. فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا _ 16. فكيف تتقون ان كفرتم

[ 60 ]

يوما يجعل الولدان شيبا _ 17. السماء منفطر به كان وعده مفعولا _ 18. إن هذه تذكرة فمن شآء اتخذ إلى ربه سبيلا _ 19. (بيان) السورة تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقيام الليل والصلاة فيه ليستعد بذلك لتلقى ثقل ما سيلقى عليه من القول الثقيل والقرآن الموحي إليه، وتأمره أن يصبر على ما يقولون فيه إنه شاعر أو كاهن أو مجنون إلى غير ذلك ويهجرهم هجرا جميلا، وفيها وعيد وإنذار للكفار وتعميم الحكم لسائر المؤمنين، وفى آخرها تخفيف ما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين. والسورة مكية من عتائق السور النازلة في أول البعثة حتى قيل: انها ثانية السور النازلة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو ثالثتها. قوله تعالى: " يا أيها المزمل " بتشديد الزاي والميم وأصله المتزمل اسم فاعل من التزمل بمعنى التلفف بالثوب لنوم ونحوه، وظاهرة أنه صلى الله عليه آله وسلم كان قد تزمل بثوب للنوم فنزل عليه الوحي وخوطب بالمزمل. وليس في الخطاب به تهجين ولا تحسين كما توهمه بعضهم، نعم يمكن أن يستفاد من سياق الآيات أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان قد قوبل في دعوته بالهزء والسخرية والايذاء فاغتم في الله فتزمل بثوب لينام دفعا للهم فخوطب بالمزمل وأمر بقيام الليل والصلاة فيه والصبر على ما يقولون على حد قوله تعالى: " واستعينوا بالصبر والصلاة " البقرة: 153 فأفيد بذلك أن عليه أن يقاوم الكرب العظام والنوائب المرة بالصلاة والصبر لا بالتزمل والنوم. وقيل: المراد يا أيها المتزمل بعباءة النبوة أي المتحمل لاثقالها، ولا شاهد عليه من جهة اللفظ. قوله تعالى: " قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا " المراد بقيام الليل القيام فيه إلى الصلاة فالليل مفعول به توسعا كما في قولهم: دخلت الدار، وقيل: معمول " قم " مقدر و " الليل " منصوب على الظرفية والتقدير قم إلى الصلاة في الليل، وقوله: " إلا قليلا " استثناء من الليل.

[ 61 ]

وقوله: " نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه " ظاهر السياق أنه بدل من " الليل إلا قليلا " المتعلق به تكليف القيام، وضميرا " منه " و " عليه " للنصف، وضمير " نصفه " لليل، والمعنى قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلا أو زد على النصف قليلا، والترديد بين الثلاثة للتخيير فقد خير بين قيام النصف وقيام أقل من النصف بقليل وقيام أكثر منه بقليل. وقيل: " نصفه " بدل من المستثنى أعني " قليلا " فيكون المعنى قم الليل إلا نصفه أو انقص من النصف قليلا فقم أكثر من النصف بقليل أو زد على النصف فقم أقل من النصف، وتكون جملة البدل رافعا لابهام المستثنى بالمطابقة ولابهام المستثنى منه بالالتزام عكس الوجه السابق. ولوجهان وإن اتحدا في النتيجة غير أن الوجه السابق أسبق إلى الذهن لان الحاجة إلى رفع الابهام عن متعلق الحكم أقدم من الحاجة إلى رفع الابهام عن توابعه وملحقاته فكون قوله: " نصفه: الخ بدلا من الليل ولازمه رفع إبهام متعلق التكليف بالمطابقة أسبق إلى الذهن من كونه بدلا من " قليلا ". وقيل: ان نصفه بدل من الليل لكن المراد بالقليل القليل من الليالي دون القليل من أجزاء الليل، والمعنى قم نصف الليل أو انقص منه قليلا أو زد عليه إلا قليلا من الليالي وهي ليالي العذر من مرض أو غلبة نوم أو نحو ذلك، ولا بأس بهذا الوجه لكن الوجه الاول أسبق منه إلى الذهن. وقوله: " ورتل القرآن ترتيلا " ترتيل القرآن تلاوته بتبيين حروفه على تواليها، والجملة معطوفة على قوله: " قم الليل " أي قم الليل واقرا القرآن بترتيل. والظاهر أن المراد بترتيل القرآن ترتيله في الصلاة أو المراد به الصلاة نفسها وقد عبر سبحانه عن الصلاة بنظير هذا التعبير في قوله: " أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا " أسرى: 78، وقيل: المراد إيجاب قراءة القرآن دون الصلاة. قوله تعالى: إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا " الثقل كيفية جسمانية من خاصته أنه يشق حمل الجسم الثقيل ونقله من مكان إلى مكان وربما يستعار للمعاني إذا شق على النفس

[ 62 ]

تحملها أو لم تطقها فربما أضيف إلى القول من جهة معناه فعد ثقيلا لتضمنه معنى يشق على النفس إدراكه أو لا تطيق فهمه أو تتحرج من تلقيه كدقائق الانظار العلمية إذا القيت على الافهام العامة، أو لتضمنه حقائق يصعب التحقق بها أو تكاليف يشق الاتيان بها والمداومة عليها. والقرآن قول إلهي ثقيل بكلا المعنيين: أما من حيث تلقي معناه فإنه كلام إلهي مأخوذ من ساحة العظمة والكبرياء لا تتلقاه إلا نفس طاهرة من كل دنس منقطع عن كل سبب إلا الله سبحانه، وكتاب عزيز له ظهر وبطن وتنزيل وتأويل تبيانا لكل شئ، وقد كان ثقله مشهودا من حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما كان يأخذه من البرحاء وشبه الاغماء على ما وردت به الاخبار المستفيضة. وأما من حيث التحقق بحقيقة التوحيد وما يتبعها من الحقائق الاعتقادية فكفى في الاشارة إلى ثقله قوله تعالى: " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون " الحشر: 21، وقوله تعالى: " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الارض أو كلم به الموتى " الرعد 31. وأما من حيث القيام بما يشتمل عليه من أمر الدعوة واقامة مراسم الدين الحنيف، واظهاره على الدين كله فيشهد به ما لقي صلى الله عليه وآله وسلم من المصائب والمحن في سبيل الله والاذى في جنب الله على ما يشهد به الآيات القرآنية الحاكية لما لقيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المشركين والكفار والمنافقين والذين في قلوبهم مرض من أنواع الايذاء والهزء والجفاء. فقوله: " إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا " المراد بالقول الثقيل القرآن العظيم على ما يسبق إلى الذهن من سياق هذه الآيات النازلة في أول البعثة، وبه فسره المفسرون. والآية في مقام التعليل للحكم المدلول عليه بقوله: " قم الليل " الخ فتفيد بمقتضى السياق - والخطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم - أن أمره بقيام الليل والتوجه فيه إليه تعالى بصلاة الليل تهيئة له واعداد لكرامة القرب وشرف الحضور والقاء قول ثقيل فقيام الليل هي السبيل المؤدية إلى هذا الموقف الكريم وقد عد سبحانه صلاة الليل سبيلا إليه في قوله الآتي: " ان هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ". وقد زاد سبحانه وعدا على ما في هذه الآية في قوله: " ومن الليل فتهجد به نافلة

[ 63 ]

لك عسى ان يبعثك ربك مقاما محمودا " اسرى: 79 وقد تقدم معنى المقام المحمود في تفسير الآية. واذ كان من ثقل القرآن ثقله من حيث التحقق بحقائقه ومن حيث استجابته فيما يندب إليه من الشرائع والاحكام فهو ثقيل على الامة كما هو ثقيل عليه صلى الله عليه وآله وسلم ومعنى الآية انا سنوحي اليك قولا يثقل عليك وعلى امتك أما ثقله عليه صلى الله عليه وآله وسلم فلما في التحقق بحقائقه من الصعوبة ولما فيه من محنة الرسالة وما يتبعها من الاذى في جنب الله وترك الراحة والدعة ومجاهدة النفس والانقطاع إلى الله مضافا إلى ما في تلقيه من مصدرالوحي من الجهد، وأما ثقله على امته فلانهم ييشاركونه صلى الله عليه وآله وسلم في لزوم التحقق بحقائقه واتباع أوامره ونواهيه ورعاية حدوده كل طائفة منهم على قدر طاقته. وللقوم في معنى ثقل القرآن أقول أخر: منها: أنه ثقيل بمعنى أنه عظيم الشأن متين رصين كما يقال: هذا كلام له وزن إذا كان واقعا موقعه. ومنها: أنه ثقيل في الميزان يوم القيامة حقيقة أو مجازا بمعنى كثرة الثواب عليه. ومنها: أنه ثقيل على الكفار والمنافقين بما له من الاعجاز وبما فيه من الوعيد. ومنها: أن ثقله كناية عن بقائه على وجه الدهر لان الثقيل من شأنه أن يبقى ويثبت في مكانه. ومنها: غير ذلك والوجوه المذكورة وان كانت لا بأس بها في نفسها لكن ما تقدم من الوجه هو الظاهر السابق إلى الذهن. قوله تعالى: " ان ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا ان لك في النهار سبحا طويلا " الآية الاولى في مقام التعليل لاختيار الليل وقتا لهذه الصلاة، والآية الثانية في مقام التعليل لترك النهار والاعراض عنه كما أن الآية السابقة أعني قوله: " انا سنلقي عليك قولا ثقيلا " في مقام التعليل لتشريع أصل هذه الصلاة. فقوله: " ان ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا " الناشئة اما مصدر كالعاقبة والعافية بمعنى النشأة وهي الحدوث والتكون، واما اسم فاعل من النشأة مضاف إلى موصوفه وكيف كان فالمراد بها الليل واطلاق الحادثة على الليل كاطلاقها على سائر أجزاء

[ 64 ]

الخلقة وربما قيل: انها الصلاة في الليل ووطؤ الارض وضع القدم عليها، وكونها أشد وطأ كناية عن كونها أثبت قدما لصفاء النفس وعدم تكدرها بالشواغل النهارية وقيل: الوطئ مواطاة القلب اللسان وأيد بقراءة " أشد وطاء " والمراد بكونها أقوم قيلا كونها أثبت قولا وأصوب لحضور القلب وهدو الاصوات. والمعنى ان حادثة الليل أو الصلاة في الليل هي أثبت قدما - أو أشد في مواطاة القلب اللسان وأثبت قولا وأصوب لما أن الله جعل الليل سكنا يستتبع انقطاع الانسان عن شواغل المعيشة إلى نفسه وفراغ باله. وقوله: " إن لك في النهار سبحا طويلا " السبح المشي السريع في الماء والسبح الطويل في النهار كناية عن الغور في مهمات المعاش وأنواع التقلب في قضاء حوائج الحياة. والمعنى إن لك في النهار مشاغل كثيرة تشتغل بها مستوعبة لا تدع لك فراغا تشتغل فيه بالتوجه التام إلى ربك والانقطاع إليه بذكره فعليك بالليل والصلاة فيه. وقيل: المعنى إن لك في النهار فراغا لنومك وتدبير أمر معاشك والتصرف في حوائجك فتهجد في الليل. وقيل: المعنى إن لك في النهار فراغا فإن فاتك من الليل شئ أمكنك أن تتداركه في النهار وتقضيه فيه فالآية في معنى قوله: " وهو الذي جعل الليل والنهار خلفه لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا " الفرقان: 62. والذي قدمناه من المعنى انسب للمقام. قوله تعالى: " واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا " الظاهر أنه يصف صلاة الليل فهو كالعطف التفسيري على قوله: " ورتل القرآن ترتيلا " وعلى هذا فالمراد بذكر اسم الرب تعالى الذكر اللفظي بمواطاة من القلب وكذا المراد بالتبتل التبتل مع اللفظ. وقيل: الآية تعميم بعد التخصيص والمراد بالذكر دوام ذكره تعالى ليلا ونهارا على أي وجه كان من تسبيح وتحميد وصلاة وقراءة قرآن وغير ذلك، وإنما فسر الذكر بالدوام لانه صلى الله عليه وآله وسلم لم ينسه تعالى حتى يؤمر بذكره، والمراد الدوام العرفي دون الحقيقي لعدم إمكانه. انتهى. وفيه أنه إن أراد بالذكر الذكر اللفظي فعدم نسيانه صلى الله عليه وآله وسلم ربه تعالى لا ينافي أمره

[ 65 ]

بالذكر اللفظي، وإن أراد ما يعم الذكر القلبي فهو ممنوع ولو سلم ففيه أولا أن عدم نسيانه صلى الله عليه وآله وسلم ربه إلى حين الخطاب لا ينافي أمره بذكره بعده وثانيا أن عده الدوام الحقيقي غير ممكن وحمل الدوام على العرفي وهم ناش عن عدم تحصيل المعنى على ما هو عليه فالله جل ذكره مذكور للانسان لا يغيب عنه ولا لحظه سواء تنبه عليه الانسان أو غفل عنه. ومن الممكن أن يعرفه الله نفسه بحيث لا يغفل عنه ولا في حال قال تعالى: " فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون " حم السجدة: 38 وقال: " يسبحون الليل والنهار لا يفترون " الانبياء: 20 وقد تقدم في تفسير الآيتين وآخر سورة الاعراف أن ذلك لا يختص بالملائكة. وبالجملة قوله: " واذكر اسم ربك " أمر بذكر اسم من أسمائه أو لفظ الجلالة خاصة وقيل: المراد به البسملة. وفي قوله: " ربك " التفات عن التكلم مع الغير في قوله: إنا سنلقي " إلى الغيبة ولعل الوجه فيه إيقاظ ذلة العبودية التي هي الرابطة بين العبد وربه، بذكر صفة الربوبية. وقوله " وتبتل إليه تبتيلا " فسر التبتل بالانقطاع أي وانقطع إلى الله، ومن المروى عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أن التبتل رفع اليد إلى الله والتضرع إليه، وهذا المعنى أنسب بناء على حمل الذكر على الذكر اللفظي كما تقدم. و " تبتيلا " مفعول مطلق ظاهرا وكان مقتضى الظاهر أن يقال: وتبتل إليه تبتلا فالعدول إلى التبتيل قيل: لتضمين تبتل معنى بتل، والمعنى وقطع نفسك من غيره إليه تقطيعا أو احمل نفسك على رفع اليد إليه والتضرع حملا، وقيل: لمراعاة الفواصل. قوله تعالى: " رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا " وصف مقطوع عن الوصفية والتقدير هو رب المشرق والمغرب، ورب المشرق والمغرب في معنى رب العالم كله فان المشرق والمغرب جهتان نسبيتان تشملان جهات العالم المشهود كلها، وإنما اختصا بالذكر لمناسبة ما تقدم من ذكر الليل والنهار المرتبطين بالشروق والغروب. وإنما لم يقتصر في الاشارة إلى ربوبيته تعالى بقوله السابق: " ربك " للايذان بأنه صلى الله عليه وآله وسلم مأمور باتخاذه ربا لانه ربه ورب العالم كله لا لانه ربه وحده كما ربما كان الرجل

[ 66 ]

من الوثنيين يتخذ صنما لنفسه فحسب غير ما اتخذه غيره من الاصنام ولو كان اتخاذه صلى الله عليه وآله وسلم له تعالى ربا من هذا القبيل أو احتمل ذلك لم تصح دعوته إلى التوحيد. وليكون قوله: ربك رب المشرق والمغرب - وهو في معنى رب العالم كله - توطئة وتمهيدا لقوله بعده: " لا إله إلا هو " يعلل به توحيد الالوهية فإن الالوهية وهي المعبودية من فروع الربوبية التي هي الملك والتدبير كما تقدم مرارا فهو تعالى الاله وحده لا إله إلا هو لانه الرب وحده لا رب إلا هو. وقوله: " فاتخذه وكيلا " أي في جميع امورك، وتوكيل الوكيل هو إقامة الانسان غيره مقام نفسه بحيث تقوم إرادته مقام إرادته وعمله مقام عمله فاتخاذه تعالى وكيلا أن يرى الانسان الامر كله له وإليه تعالى أما في الامور الخارجية والحوادث الكونية فأن لا يرى لنفسه ولا لشئ من الاسباب الظاهرية استقلالا في التأثير فلا مؤثر في الوجود بحقيقة معنى التأثير إلا الله فلا يتعلق بتأثير سبب من الاسباب برضى أو سخط أو سرور أو أسف وغير ذلك بل يتوسل إلى مقاصده ومآربه بما عرفه الله من الاسباب من غير أن يطمئن إلى استقلالها في التأثير ويرجع الظفر بالمطلوب إلى الله ليختار له ما يرتضيه. وأما الامور التي لها تعلق بالعمل من العبادات والمعاملات فأن يجعل ارادته تابعة لارادة ربه التشريعية فيعمل على حسب ما يريده الله تعالى منه فيما شرع من الشريعة. ومن هنا يظهر أن لقوله: " فاتخذه وكيلا " ارتباطا بقوله: " واذكر اسم ربك " الخ وما تقدم عليه من الاوامر التشريعية كما أن له ارتباطا بما تأخر عنه من قوله " واصبر " وقوله " اهجر " وقوله: و " ذرني ". قوله تعالى: " واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا " معطوف هو وما بعده على مدخول الفاء في قوله: " فاتخذه وكيلا " فالمعنى اتخذه وكيلا ولازم اتخاذه وكيلا أن تصبر على ما يقولون مما فيه إيذاؤك والاستهزاء بك ورميك بما ليس فيك كقولهم: افترى على الله، كاهن شاعر، مجنون، أساطير الاولين وغير ذلك مما يقصه القرآن. وأن تهجرهم هجرا جميلا، والمراد بالهجر الجميل على ما يعطيه السياق أن يعاملهم بحسن الخلق والدعوة إلى الحق بالمناصحة، ولا يواجه قولهم بما في وسعه من المقابلة بالمثل، والآية لا تدافع آية القتال فلا وجه لقول من قال: إنها منسوخة بآية القتال.

[ 67 ]

قوله تعالى: " وذرني والمكذبين اولي النعمة ومهلهم قليلا " تهديد للكفار يقال: دعني وفلانا وذرني وفلانا أي لا تحل بيني وبينه حتى أنتقم منه. والمراد بالمكذبين اولي النعمة الكفار المذكورون في الآية السابقة أو رؤساؤهم المتبوعون، والجمع بين توصيفهم بالمكذبين وتوصيفهم باولي النعمة للاشارة إلى علة مايهددهم به من العذاب فإن تكذيبهم بالدعوة الالهية وهم متنعمون بنعمة ربهم كفران منهم بالنعمة وجزاء الكفران سلب النعمة وتبديلها من النقمة. والمراد بالقليل الذي يمهلونه الزمان القليل الذي يمكثون في الارض حتى يرجعوا إلى ربهم فيحاسبهم ويجازيهم قال تعالى: " إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا " المعارج: 7، وقال: " متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد " آل عمران: 197. والآية بظاهرها عامة، وقيل: وعيد لهم بوقعة بدر وليس بظاهر، وفي الآية التفات عن الغيبة في " ربك " إلى التكلم وحده في " ذرني " ولعل الوجه فيه تشديد التهديد بنسبة الامر إليه سبحانه نفسه ثم التفت في قوله: " إن لدينا " إلى التكلم مع الغير للدلالة على العظمة. قوله تعالى: " إن لدينا أنكالا وجحيما " تعليل لقوله " ذرني " الخ والانكال القيود، قال الراغب يقال: نكل عن الشئ ضعف وعجز، ونكلته قيدته والنكل - بالكسر فالسكون - قيد الدابة وحديدة اللجام لكونهما مانعين والجمع الانكال انتهى، وقال: الجحمة شدة تأجج النار ومنه الجحيم، انتهى. قوله تعالى: " وطعاما ذا غصة وعذابا أليما " قال في المجمع: الغصة تردد اللقمة في الحلق ولا يسيغها آكلها يقال: غص بريقه يغص غصصا، وفي قلبه غصة من كذا وهي كاللدغة التي لا يسوغ معها الطعام والشراب، انتهى. والآيتان تذكران نقم الآخرة التى بدلت منها نعم الدنيا جزاء لكفرانهم بنعم الله. قوله تعالى: " يوم ترجف الارض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا " ظرف للعذاب الموعود في الآيتين السابقتين، قال الراغب: الرجف الاضطراب الشديد يقال: رجفت الارض والبحر انتهى. وفي المجمع: الكثيب الرمل المجتمع الكثير، وهلت أهيله هيلا فهو مهيل إذا حرك أسفله فسال أعلاه انتهى، والمعنى ظاهر.

[ 68 ]

قوله تعالى: " إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا " إنذار للمكذبين اولي النعمة من قومه صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما أوعد مطلق المكذبين اولي النعمة بما أعد لهم من العذاب يوم القيامة بقياس حالهم إلى حال فرعون المستكبر على الله ورسوله المستذل لرسول الله ومن آمن معه من قومه ثم قرع أسماعهم بما انتهى إليه أمر فرعون من أخذ الله له أخذا وبيلا فليتعظوا وليأخذوا حذرهم. وفي الآية التفات عن الغيبة إلى الخطاب كأن المتكلم لما أوعدهم بالعذاب على الغيبة هاج به الوجد على اولئك المكذبين بما يلقون أنفسهم بأيديهم إلى الهلاك الابدي لسفاهة رأيهم فشافههم بالانذار ليرتفع عن أنفسهم أي شك وترديد وتتم عليهم الحجة ولعلهم يتقون، ولذا عقب قياسهم إلى فرعون وقياس النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى موسى عليه السلام والاشارة إلى عقابه أمر فرعون بقوله " فكيف تتقون إن كفرتم يوما " الخ. فقوله: " إنا أرسلنا اليكم رسولا شاهدا عليكم " إشارة إلى تصديق رسالة النبي صلى الله عليه وآله من قبله تعالى وشهادته على أعمالهم بتحملها في الدنيا وتأديتها يوم القيامة، وقد تقدم البحث عن معنى شهادة الاعمال في الآيات المشتملة عليها مرارا، وفي الاشارة إلى شهادته صلى الله عليه وآله وسلم نوع زجرلهم عن عصيانه ومخالفته وتكذيبه. وقوله: " كما أرسلنا إلى فرعون رسولا " هو موسى بن عمران عليه السلام. قوله تعالى: " فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا " أي شديدا ثقيلا. إشارة إلى عاقبة أمر فرعون في عصيانه موسى عليه السلام، وفي التعبير عن موسى بالرسول إشارة إلى أن السبب الموجب لاخذ فرعون مخالفته أمر رسالته لا نفس موسى بما أنه موسى، وإذا كان السبب هو مخالفة الرسالة فليحذروا مخالفة رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. كما أن وضع الظاهر موضع الضمير في قوله: " فعصى فرعون " للايماء إلى أن ما كان له من العزة والعلو في الارض والتبجح بكثرة العدة وسعة المملكة ونفوذ المشية لم يغن عنه شيئا ولم يدفع عنه عذاب الله فما الظن بهؤلاء المكذبين ؟ وهم كما قال الله: " جند ما هنالك مهزوم من الاحزاب " ص: 11. قوله تعالى: " فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا " نسبة الاتقاء إلى اليوم من المجاز العقلي والمراد اتقاء العذاب الموعود فيه، وعليه فيوما مفعول به لتتقون،

[ 69 ]

وقيل: مفعول " تتقون " محذوف و " يوما " ظرف له والتقدير فكيف تتقون العذاب الكائن في يوم، وقيل: المفعول محذوف و " يوما " ظرف للاتقاء وقيل غير ذلك. وقوله: " يجعل الولدان شيبا " الشيب جمع أشيب مقابل الشاب، وجعل الولدان شيبا كناية عن شدة اليوم لا عن طوله. قوله تعالى: " السماء منفطر به كان وعده مفعولا " إشارة بعد إشارة إلى شدة اليوم، والانفطار الانشقاق وتذكير الصفة لكون السماء جائز الوجهين يذكر ويؤنث، وضمير " به " لليوم، والباء بمعنى في أو للسببية، والمعنى السماء منشقة في ذلك اليوم أو بسبب ذلك اليوم أي بسبب شدته. وقوله: " كان وعده مفعولا " استئناف لتسجيل ما تقدم من الوعيد وأنه حتم مقضي ونسبة الوعد إلى ضميره تعالى لعله للاشعار بأن لا يصلح لهذا الوعد إلا الله تعالى فيكفي فيه الضمير من غير حاجة إلى ذكره باسمه. قوله تعالى: " إن هذه تذكر فمن شاء أتخذ إلى ربه سبيلا " الاشارة بهذه إلى الآيات السابقة بما تشتمل عليه من القوارع والزواجر، والتذكرة الموعظة التي يذكر بها ما يعمل عليه. وقوله: " فمن شاء " مفعول " شاء " محذوف والمعروف في مثل هذا المورد أن يقدر المفعول من جنس الجواب والسياق يلائمه، والتقدير فمن شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا اتخذ الخ، وقيل: المقدر الاتعاظ، والمراد باتخاذ السبيل إليه اتخاذ السبيل إلى التقرب منه، والسبيل هو الايمان والطاعة هذا ما ذكره المفسرون. ومن الممكن أن تكون هذه اشارة إلى ما تقدم في صدر السورة من الآيات النادبة إلى قيام الليل والتهجد فيه، والآية مسوقة لتوسعة الخطاب وتعميمه لغير النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المؤمنين بعد ما كان خطاب صدر الصورة مختصا به صلى الله عليه وآله وسلم، والدليل على هذا التعميم قوله: " فمن شاء " الخ. ويؤيد ما ذكرنا وقوع هذه الآية " ان هذه تذكرة " الخ بعينها في سورة الدهر بعدما أشير إلى صلاة الليل بقوله تعالى: " وسبحه ليلا طويلا " ويستنتج من ذلك أن صلاة الليل سبيل خاصة تهدي العبد إلى ربه.

[ 70 ]

(بحث روائي) في الدر المنثور أخرج البزار والطبراني في الاوسط وأبو نعيم في الدلائل عن جابر قال: اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سموا هذا الرجل اسما يصدر الناس عنه فقالوا: كاهن. قالوا ليس بكاهن. قالوا: مجنون. قالوا: ليس بمجنون. قالوا ساحر. قالوا: ليس بساحر. قالوا: يفرق بين الحبيب وحبيبه فتفرق المشركون على ذلك. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتزمل في ثيابه وتدثر فيها فأتاه جبريل فقال: يا أيها المزمل يا أيها المدثر. أقول: آخر الرواية لا يخلو من شئ حيث إن ظاهرها نزول السورتين معا. على أن القرآن حتى في سورة المدثر يحكي تسميتهم له صلى الله عليه وآله وسلم بألقاب السوء كالكاهن والساحر والمجنون والشاعر ولم يذكر فيها قولهم: يفرق بين الحبيب وحبيبه. وفيه أخرج عبد الله بن أحمد في كتاب الزهد ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قلما ينام من الليل لما قال الله له: " قم الليل إلا قليلا ". وفي الكشاف عن عائشة أنها سئلت: ما كان تزميله ؟ قالت: كان مرطا طوله أربع عشرة ذراعا نصفه علي وأنا نائمة ونصفه عليه وهو يصلي. فسئلت: ما كان ؟ قالت: والله ما كان خزا ولا قزا ولا مر عزيا ولا أبريسما ولا صوفا. كان سداه شعرا ولحمته وبرا. أقول: الرواية مرمية بالوضع فإن السورة من العتائق النازلة بمكة، وعائشة إنما بنى عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة بعد الهجرة. وعن جوامع الجامع روي أنه قد دخل على خديجة وقد جئث فرقا (1) فقال: زملوني فبينا هو على ذلك إذ ناداه جبريل: " يا أيها المزمل ". وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت " يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا " مكث النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هذه الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه فأنزل الله بعد عشر سنين " إن ربك يعلم أنك تقوم - إلى قوله - فأقيموا الصلاة " فخفف الله عنهم بعد عشر سنين.


(1) جئت الرجل ثقل عند القيام أو عند حمل شئ ثقيل والفرق: الفزع والخوف. (*)

[ 71 ]

أقول: وروي نزول آية التخفيف بعد سنة وروي أيضا نزولها بعد ثمانية أشهر، ولم يكن قيام الليل واجبا على غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما اشير إليه بقوله تعالى " إن هذه تذكرة " الآية كما تقدم، ويؤيده ما في الرواية من قوله: " وطائفة من أصحابه ". وفي التهذيب بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن قول الله تعالى: " قم الليل إلا قليلا " قال: أمره الله أن يصلي كل ليلة إلا أن تاتي عليه ليلة من الليالي لا يصلي فيها شيئا. أقول: الرواية تشير إلى أحد الوجوه في الآية وفي المجمع: وقيل: إن نصفه بدل من القليل فيكون بيانا للمستثنى، ويؤيد هذا القول ما روي عن الصادق عليه السلام قال: القليل النصف أو انقص من القليل قليلا أو زد على القليل قليلا. وفي الدر المنثور أخرج العسكري في المواعظ عن علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله: " ورتل القرآن ترتيلا " قال: بينه تبيينا، ولا تنثره نثر الدقل، ولاتهزه هز الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة. أقول: وروي هذا المعنى في أصول الكافي باسناده عن عبد الله بن سليمان عن الصادق عن علي عليه السلام ولفظ بينه تبيينا ولا تهذه هذ الشعر، ولا تنثره نثر الرمل، ولكن افرغوا (1) قلوبكم القاسية ولا يكن هم أحدكم آخر السورة. وفيه أخرج ابن أبي شيبة عن طاوس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي الناس أحسن قراءة قال الذي إذا سمعته يقرا رأيت أنه يخشى الله. وفي اصول الكافي بإسناده عن علي بن أبى حمزة قال قال أبو عبد الله عليه السلام: إن القرآن لا يقرء هذرمة (2) ولكن يرتل ترتيلا فإذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فقف عندها واسأل الله عزوجل الجنة، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها وتعوذ بالله من النار. وفي المجمع في معنى الترتيل عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: هو أن تتمكث فيه وتحسن به صوتك.


(1) أفرغ الاتاء: أخلاه. (2) الهذرمة: الاسراع في القراءة.

[ 72 ]

وفيه روي عن ام سلمة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقطع قراءته آية آية. وفيه عن انس قال: كان صلى الله عليه وآله وسلم يمد صوته مدا. وفيه سأل الحارث بن هشام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو اشد علي فيفصم (1) عني وقد وعيت ما قال واحيانا يتمثل الملك رجلا فأعي ما يقول. قالت عائشة: إنه كان ليوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو على راحلته فتضرب بجرانها. قالت: ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليرفض عرقا. وعن تفسير العياشي بإسناده عن عيسى بن عبيد عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام قال: كان القرآن ينسخ بعضه بعضا، وإنما يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله بآخره. وكان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة نسخت ما قبلها ولم ينسخها شئ لقد نزلت عليه وهو على بغلة شهباء وثقل عليها الوحي حتى وقفت وتدلى بطنها حتى رأيت سرتها تكاد تمس الارض. أقول: إن صحت الرواية كان ظهور أثر ثقل الوحي على الناقة أو البغلة من قبيل تجسم المعاني وكثيرا ما يوجد مثله فيما نقل من المعجزات وكرامات الاولياء، وأما اتصاف الوحي وهو كلام بالثقل المادي فغير معقول. وفي التهذيب بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا " قال: يعني بقوله: " وأقوم قيلا " قيام الرجل عن فراشه يريد به الله عزوجل لا يريد به غيره. أقول: ورواه أيضا بسندين آخرين في التهذيب والعلل عن هشام عنه عليه السلام. وفي المجمع في قوله تعالى: " إن ناشئة الليل " الآية والمروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام أنهما قالا: هي القيام في آخر الليل.


(1) الفصم: القطع.

[ 73 ]

وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن حسين بن علي أنه رؤي يصلي بين المغرب والعشاء فقيل له في ذلك ؟ فقال: انهما من الناشئة. وفي المجمع في قوله تعالى: " وتبتل إليه تبتيلا " وروى محمد بن مسلم وزراره وحمران عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام أن التبتل هذا رفع اليدين في الصلاة وفي رواية أبي بصير قال: هو رفع يدك إلى الله وتضرعك. أقول: وينطبق على قنوت الصلاة، وفي رواية هو رفع اليدين وتحريك السبابتين، وفي رواية الايماء بالاصبع وفي رواية الدعاء باصبع واحدة يشير بها. وفيه في قوله تعالى: " وطعاما ذا غصة " الآية عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع قارئا يقرء هذا فصعق. وفي تفسير القمي في قوله: " وكانت الجبال كثيبا مهيلا " قال: مثل الرمل ينحدر. ان ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم ان لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم ان سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الارض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله ان الله غفور رحيم _ 20.

[ 74 ]

(بيان) آية مبنية على التخفيف فيما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صدر السورة من قيام الليل والصلاة فيه ثم عمم الحكم لسائر المؤمنين بقوله: " إن هذه تذكرة " الآية. ولسان الآية هو التخفيف بما تيسر من القرآن من غير نسخ لاصل الحكم السابق بالمنع عن قيام ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه. وقد ورد في غير واحد من الاخبار أن الآية مكية نزلت بعد ثمانية أشهر أو سنة أو عشر سنين من نزول آيات صدر السورة لكن يوهنه اشتمال الآية على قوله تعالى: " واقيموا الصلوة وآتوا الزكوة وأقرضوا الله قرضا حسنا " فإن ظاهره أن المراد بالزكاة - وقد ذكرت قبلها الصلاة وبعدها الانفاق المستحب - هو الزكاة المفروضة وإنما فرضت الزكاة بالمدينة بعد الهجرة. وقول بعضهم: إن الزكاة فرضت بمكة من غير تعيين الانصباء والذي فرض بالمدينة تعيين الانصباء، تحكم من غير دليل، وكذا قول بعضهم: إنه من الممكن أن تكون الآية مما تأخر حكمه عن نزوله. على أن في الآية ذكرا من القتال إذ يقول: " وآخرون يقاتلون في سبيل الله " ولم يكن من مصلحة الدعوة الحقة يومئذ ذاك والظرف ذلك الظرف أن يقع في متنها ذكر من القتال بأي وجه كان، فالظاهر أن الآية مدنية وليست بمكية وقد مال إليه بعضهم. قوله تعالى: " إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه " إلى آخر الآية. الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي التعبير بقوله: " ربك " تلويح إلى شمول الرحمة والعناية الالهية، وكذا في قوله: " يعلم أنك تقوم " الخ مضافا إلى ما فيه من لائحة الشكر قال تعالى: " وكان سعيكم مشكورا " الدهر: 22. وقوله: " تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه " " أدنى " اسم تفضيل من الدنو بمعنى القرب، وقد جرى العرف على استعمال أدنى فيما يقرب من الشئ وهو أقل فيقال: إن عدتهم أدنى من عشرة إذا كانوا تسعة مثلا دون ما لو كانوا أحد عشر فمعنى قوله: " أدنى من ثلثي الليل " أقرب من ثلثيه وأقل بقليل.

[ 75 ]

والواو العاطفة في قوله: " ونصفه وثلثه " لمطلق الجمع والمراد أنه يعلم أنك تقوم في بعض الليالي أدنى من ثلثي الليل وفي بعضها نصفه وفي بعضها ثلثه. وقوله: " وطائفة من الذين معك " المراد المعية في الايمان و " من " للتبعيض فالآية تدل على أن بعضهم كان يقوم الليل كما كان يقومه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل " من " بيانية، وهو كما ترى. وقوله: " والله يقدر الليل والنهار " في مقام التعليل لقوله: " إن ربك يعلم " والمعنى وكيف لا يعلم وهو الله الذي إليه الخلق والتقدير ففي تعيين قدر الليل والنهار تعيين ثلثهما ونصفهما وثلثيهما، ونسبة تقدير الليل والنهار إلى اسم الجلالة دون اسم الرب وغيره لان التقدير من شؤن الخلق والخلق إلى الله الذي إليه ينتهي كل شئ. وقوله: " علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن " الاحصاء تحصيل مقدار الشئ وعدده والاحاطة به، وضمير " لن تحصوه " للتقدير أو للقيام مقدار ثلث الليل أو نصفه أو أدنى من ثلثيه، وإحصاء ذلك مع اختلاف الليالي طولا وقصرا في أيام السنة ممالا يتيسر لعامة المكلفين ويشتد عسرا لمن نام أول الليل وأراد القيام بأحد المقادير الثلاثة دون أن يحتاط بقيام جميع الليل أو ما في حكمه. فالمراد بقوله: " علم أن لا تحصوه " علمه تعالى بعدم تيسر إحصاء المقدار الذي أمروا بقيامه من الليل لعامة المكلفين. والمراد بقوله: " فتاب عليكم " توبته تعالى ورجوعه إليهم بمعنى انعطاف الرحمة الالهية عليهم بالتخفيف فلله سبحانه توبة على عباده ببسط رحمته عليهم وأثرها توفيقهم للتوبة أو لمطلق الطاعة أو رفع بعض التكاليف أو التخفيف قال تعالى: " ثم تاب عليهم ليتوبوا " التوبة: 118. كما أن له توبة عليهم بمعنى الرجوع إليهم بعد توبتهم وأثرها مغفرة ذنوبهم، وقد تقدمت الاشارة إليه. والمراد بقوله: " فاقرءوا ما تيسر من القرآن " التخفيف في قيام الليل من حيث المقدار لعامة المكلفين تفريعا على علمه تعالى أنهم لن يحصوه. ولازم ذلك التوسعة في التكليف بقيام الليل من حيث المقدار حتى يسع لعامة المكلفين الشاق عليهم إحصاؤه دون النسخ بمعنى كون قيام الثلث أو النصف أو الادنى من الثلثين

[ 76 ]

لمن استطاع ذلك بدعة محرمة وذلك أن الاحصاء المذكور إنما لا يتيسر لمجموع المكلفين لا لجميعهم ولو امتنع لجميعهم ولم يتيسر لاحدهم لم يشرع من أصله ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. على أنه تعالى يصدق لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم وطائفة من الذين معه قيام الثلث والنصف والادنى من الثلثين وينسب عدم التمكن من الاحصاء إلى الجميع وهم لا محالة هم القائمون وغيرهم فالحكم إنما كان شاقا على المجموع من حيث المجموع دون كل واحد فوسع في التكليف بقوله: " فاقرءوا ما تيسر من القرآن " وسهل الامر بالتخفيف ليكون لعامة المكلفين فيه نصيب مع بقاء الاصل المشتمل عليه صدر السورة على حاله لمن تمكن من الاحصاء وأراده، والحكم استحبابي لسائر المؤمنين وإن كان ظاهر ما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من الخطاب الوجوب كما تقدمت الاشارة إليه. وللقوم في كون المراد بقيام الليل الصلاة فيه أو قراءة القرآن خارج الصلاة، وعلى الاول في كونه واجبا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين أو مستحبا للجميع أو واجبا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستحبا لغيره ثم في نسخ الحكم بالتخفيف بما تيسر بهذه الآية أو تبديل الصلاة من قراءه ما تيسر من القرآن أقوال لا كثير جدوى في التعرض لها والبحث عنها. وقوله: " علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الارض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله " إشارة إلى مصلحة اخرى مقتضية للتخفيف في أمر القيام ثلث الليل أو نصفه أو أدنى من ثلثيه، وراء كونه شاقا على عامة المكلفين بالصفة المذكورة أولا فإن الاحصاء المذكور للمريض والمسافر والمقاتل مع ما هم عليه من الحال شاق عسير جدا. والمراد بالضرب في الارض للابتغاء من فضل الله طلب الرزق بالمسافرة من أرض إلى أرض للتجارة. وقوله: " فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واقرضوا الله قرضا حسنا " تكرار للتخفيف تأكيدا، وضمير " منه للقرآن، والمراد الاتيان بالصلاة على ما يناسب سعة الوقت الذي قاموا فيه. والمراد بالصلاة المأمور بإقامتها الفريضة فإن كانت الآية مدنية فالفرائض الخمس اليومية وإن كانت مكية فبحسب ما كانت مفروضة من الصلاة، والمراد بالزكاة الزكاة

[ 77 ]

المفروضة، والمراد بإقراضه تعالى غير الزكاة من الانفاقات المالية في سبيل الله. وعطف الامر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاقراض للتلويح إلى أن التكاليف الدينية على حالها في وجوب الاهتمام بها والاعتناء بأمرها، فلا يتوهمن متوهم سريان التخفيف والمسامحة في جميع التكاليف فالآية نظيرة قوله في آية النجوى: " فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله " المجادلة: 13. وقوله: " وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا " " من خير " بيان للموصول، والمراد بالخير مطلق الطاعة أعم من الواجبة والمندوبة، و " هو " ضمير فصل أو تأكيد للضمير في " تجدوه ". والمعنى: والطاعة التي تقدمونها لانفسكم - أي لتعيشوا بها في الآخرة - تجدونها عند الله - أي في يوم اللقاء - خيرا من كل ما تعملون أو تتركون وأعظم أجرا. وقوله: " واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ختم " الكلام بالامر بالاستغفار، وفي قوله: " إن الله غفور رحيم " إشعار بوعد المغفرة والرحمة، ولا يبعد أن يكون المراد بالاستغفار الاتيان بمطلق الطاعات لانها وسائل يتوسل بها إلى مغفرة الله فالاتيان بها استغفار. (بحث روائي) في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه " ففعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك وبشر الناس به فاشتد ذلك عليهم و " علم أن لن تحصوه "، وكان الرجل يقوم ولا يدري متى ينتصف الليل ومتى يكون الثلثان، وكان الرجل يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظه. فأنزل الله " ان ربك يعلم انك تقوم - إلى قوله - علم أن لن تحصوه " يقول: متى يكون النصف والثلث نسخت هذه الآية " فاقرءوا ما تيسر من القرآن "، واعلموا أنه لم يأت نبي قط إلا خلا بصلاة الليل، ولا جاء نبي قط بصلاة الليل في أول الليل. أقول: محصل الرواية أن صدر السورة توجب صلاة الليل وذيلها تنسخها، وروي ما يقرب منه من طرق أهل السنة عن ابن عباس وغيره، وقد تقدم ما يتعلق به في البيان السابق.

[ 78 ]

وفي المجمع روى الحاكم أبو القاسم إبراهيم الحسكاني بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: " وطائفة من الذين معك " قال: علي وأبو ذر. وفيه في قوله تعالى: " فاقرءوا ما تيسر منه " روي عن الرضا عن أبيه عن جده عليهم السلام قال: ما تيسر منه لكم فيه خشوع القلب وصفاء السر. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم " فاقرءوا ما تيسر منه " قال: مائة آية. وفيه أخرج ابن مردويه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من جالب يجلب طعاما إلى بلد من بلاد المسلمين فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله منزلة الشهيد. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " وآخرون يضربون في الارض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله ". وفي تفسير القمي بإسناده عن زرعة عن سماعة قال: سألته عن قول الله: " وأقرضوا الله قرضا حسنا " قال: هو غير الزكاة. وفي الخصال عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث الاربعمائة: أكثروا الاستغفار تجلبوا الرزق، وقدموا ما استطعتم من عمل الخير تجدوه غدا. أقول: ذيله مأخوذ من قوله تعالى: " وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا ". (سورة المدثر مكية وهي ست وخمسون آية) بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها المدثر - 1. قم فأنذر - 2. وربك فكبر - 3. وثيابك فطهر - 4. والرجز فاهجر - 5. ولا تمنن تستكثر - 6. ولربك فاصبر - 7.

[ 79 ]

(بيان) تتضمن السورة أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالانذار في سياق يلوح منه كونه من أوامر أوائل البعثة ثم الاشارة إلى عظم شأن القرآن الكريم وجلالة قدره، والوعيد الشديد على من يواجهه بالانكار والرمي بالسحر، وذم المعرضين عن دعوته. والسورة مكية من العتائق النازلة في أوائل البعثة وظهور الدعوة حتى قيل: إنها أول سورة نزلت من القرآن وإن كان يكذبه نفس آيات السورة الصريحة في سبق قراءته صلى الله عليه وآله وسلم القرآن على القوم وتكذيبهم به وإعراضهم عنهم ورميهم له بأنه سحر يؤثر. ولذا مال بعضهم إلى أن النازل أولا هي الآيات السبع الواقعة في أول السورة ولازمه كون السورة غير نازلة دفعة وهو وإن كان غير بعيد بالنظر إلى متن الآيات السبع لكن يدفعه سياق أول سورة العلق الظاهر في كونه أول ما نزل من القرآن. واحتمل بعضهم أن تكون السورة أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الامر بإعلان الدعوة بعد إخفائها مدة في أول البعثة فهي في معنى قوله: " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين " الحجر: 94، وبذلك جمع بين ما ورد من أنها أول ما نزل، وما ورد أنها نزلت بعد سورة العلق، وما ورد أن سورتي المزمل والمدثر نزلتا معا، وهذا القول لا يتعدى طور الاحتمال. وكيف كان فالمتيقن أن السورة من أوائل ما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من السور القرآنية. والآيات السبع التي نقلناها تتضمن الامر بالانذار وسائر الخصال التي تلزمه مما وصاه الله به. قوله تعالى: " يا أيها المدثر " المدثر بتشديد الدال والثاء أصله المتدثر اسم فاعل من التدثر بمعنى التغطي بالثياب عند النوم. والمعنى: يا أيها المتغطي بالثياب للنوم خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد كان على هذه الحال فخوطب بوصف مأخوذ من حاله تأنيسا وملاطفة نظير قوله: " يا أيها المزمل ". وقيل: المراد بالتدثر تلبسه صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة بتشبيهها بلباس يتحلى به ويتزين وقيل: المراد به اعتزاله صلى الله عليه وآله وسلم وغيبته عن النظر فهو خطاب له بما كان عليه في غار حراء، وقيل: المراد به الاستراحة والفراغ فكأنه قيل له صلى الله عليه وآله وسلم: يا أيها المستريح الفارغ قد

[ 80 ]

انقضى زمن الراحة وأقبل زمن متاعب التكاليف وهداية الناس. وهذه الوجوه وإن كانت في نفسها لا بأس بها لكن الذي يسبق إلى الذهن هو المعنى الاول. قوله تعالى: " قم فأنذر " الظاهر أن المراد به الامر بالانذار من غير نظر إلى من ينذر فالمعنى افعل الانذار، وذكر بعضهم أن مفعول الفعل محذوف، والتقدير أنذر عشيرتك الاقربين لمناسبته لابتداء الدعوة كما ورد في سورة الشعراء. وذكر آخرون أن المفعول المحذوف عام وهو جميع الناس لقوله: " وما أرسلناك إلا كافة للناس " سبأ: 28. ولم يذكر التبشير مع الانذار مع أنهما كالمتلازمين في تمام الدعوة لان السورة مما نزل في ابتداء الدعوة والانذار هو الغالب إذ ذاك. قوله تعالى: " وربك فكبر " أي انسب ربك إلى الكبرياء والعظمة اعتقادا وعملا قولا وفعلا وهو تنزيهه تعالى من أن يعادله أو يفوقه شئ فلا شئ يشاركه أو يغلبه أو يمانعه، ولا نقص يعرضه، ولا وصف يحده. ولذا ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أن معنى التكبير: الله أكبر من أن يوصف، فهو تعالى اكبر من كل وصف نصفه به حتى من هذا الوصف، وهذا هو المناسب للتوحيد الاسلامي الذي يفوق ما نجده من معنى التوحيد في سائر الشرائع السماوية. وهذا الذي ذكرناه هو الفرق بين كلمتي التكبير والتسبيح - الله أكبر وسبحان الله - فسبحان الله تنزيه له تعالى عن كل وصف عدمي مبني على النقص كالموت والعجز والجهل وغير ذلك، والله أكبر تنزيه مطلق له تعالى عن كل وصف نصفه به أعم من أن يكون عدميا أو وجوديا حتى من نفس هذا الوصف لما أن كل مفهوم محدود في نفسه لا يتعدى إلى غيره من المفاهيم وهو تعالى لا يحيط به حد، فافهم ذلك. وقيل: المراد الامر بالتكبير في الصلاه. والتعبير عنه تعالى بربك لا يخلو من إشعار بأن توحيده تعالى يومئذ كان يختص به. قال في الكشاف في قوله: " فكبر ": ودخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل: وما كان فلا تدع تكبيره.

[ 81 ]

قوله تعالى: " وثيابك فطهر " قيل: كناية عن إصلاح العمل، ولا يخلو من وجه فإن العمل بمنزلة الثياب للنفس بما لها من الاعتقاد فالظاهر عنوان الباطن، وكثيرا ما يكنى في كلامهم عن صلاح العمل بطهارة الثياب. وقيل: كناية عن تزكية النفس وتنزيهها عن الذنوب والمعاصي. وقيل: المراد تقصير الثياب لانه أبعد من النجاسة ولو طالت وانجرت على الارض لم يؤمن أن تتنجس. وقيل: المراد تطهير الازواج من الكفر والمعاصي لقوله تعالى: " هن لباس لكم " البقرة: 187 وقيل: الكلام على ظاهره والمراد تطهير الثياب من النجاسات للصلاة والاقرب على هذا أن يجعل قوله: " وربك فكبر " إشارة إلى تكبير الصلاة وتكون الآيتان مسوقتين لتشريع أصل الصلاة مقارنا للامر بالدعوة. ولا يرد عليه ما قيل: إن نزول هذه الآيات كان حيث لا صلاة أصلا وذلك أن تشريع الفرائض الخمس اليومية على ما هي عليها اليوم وإن كان في ليلة المعراج وهي جميعا عشر ركعات ثم زيد عليها سبع ركعات إلا أن أصل الصلاة كان منذ أوائل البعثة كما يشهد به ذكرها في هذه السورة وسورتي العلق والمزمل، ويدل عليه الروايات. وقيل: المراد بتطهير الثياب الخلق بالاخلاق الحميدة والملكات الفاضلة. وفي معنى تطهير الثياب أقوال أخر أغمضنا عن نقلها لامكان إرجاعها إلى بعض ما تقدم من الوجوه، وأرجح الوجوه المتقدمة أولها وخامسها. قوله تعالى: " والرجز فاهجر " قيل: الرجز بضم الراء وكسرها العذاب، والمراد بهجره هجر سببه وهو الاثم والمعصية، والمعنى اهجر الاثم والمعصية. وقيل: الرجز اسم لكل قبيح مستقذر من الافعال والاخلاق فالامر بهجره أمر بترك كل ما يكرهه الله ولا يرتضيه مطلقا، أو أمر بترك خصوص الاخلاق الرذيلة الذميمة على تقدير أن يكون المراد بتطهير الثياب ترك الذنوب والمعاصي. وقيل: الرجز هو الصنم فهو أمر بترك عبادة الاصنام.

[ 82 ]

قوله تعالى: " ولا تمنن تستكثر " الذي يعطيه سياق الآيات ويناسب المقام أن يكون المراد بالمن تكدير الصنيعة بذكرها للمنعم عليه كما في قوله تعالى: " لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى " البقرة: 264، وقوله: " يمنون عليك أن أسلموا " الحجرات: 17 والمراد بالاستكثار رؤية الشئ وحسبانه كثيرا لا طلب الكثرة. والمعنى لا تمنن امتثالك لهذه الاوامر وقيامك بالانذار وتكبيرك ربك وتطهيرك ثيابك وهجرك الرجز حالكونك ترى ذلك كثيرا وتعجبه - فانما أنت عبد لا تملك من نفسك شيئا إلا ما ملكك الله وأقدرك عليه وهو المالك لما ملكك والقادر على ما عليه أقدرك فله الامر وعليك الامتثال -. وللقوم في الآية وجوه أخر من التفسير لا تلائم السياق تلك الملاءمة فقيل المعنى لا تعط عطية لتعطي أكثر منها. وقيل: المعنى لاتمنن ما اعطاك الله من النبوة والقرآن على الناس مستكثرا به الاجر. وقيل: أي لا تمنن ابلاغ الرسالة على امتك. وقيل: المعنى لا تضعف في عملك مستكثرا لطاعاتك. وقيل: المعنى لا تمنن بعطائك على الناس مستكثرا له. وقيل: أي إذا أعطيت عطية فأعطها لربك واصبر حتى يكون هو الذي يثيبك. وقيل: هو نهى عن الربا المحرم أي لا تعط شيئا طالبا أن تعطي أكثر مما أعطيت. قوله تعالى: " ولربك فاصبر " أي لوجه ربك، والصبر مطلق يشمل الصبر عند المصيبة والصبر على الطاعة والصبر عن المعصية، والمعنى ولوجه ربك فاصبر عندما يصيبك من المصيبة والاذى في قيامك بالانذار وامتثالك هذه الاوامر واصبر على طاعة الله واصبر عن معصيته، وهذا معنى جامع لمتفرقات ما ذكروه في تفسير الآية كقول بعضهم: إنه أمر بنفس الفعل من غير نظر إلى متعلقه، وقول بعضهم: إنه الصبر على أذى المشركين، وقول بعضهم: إنه الصبر على أداء الفرائض، إلى غير ذلك.

[ 83 ]

(بحث روائي) في الدر المنثور أخرج الطيالسي وعبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وابن الانباري في المصاحف عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن فقال: يا أيها المدثر قلت: يقولون: اقرء باسم ربك الذي خلق ؟ فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك، قلت له مثل ما قلت. قال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: جاورت بحراء فلما قضيت جواري نوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فإذا الملك الذى جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والارض فجثت منه رعبا فرجعت فقلت: دثروني دثروني فنزلت: " يا أيها المدثر قم فأنذر - إلى قوله - والرجز فاهجر ". أقول: الحديث معارض بالاحاديث الاخر الدالة على كون سورة اقرء أول ما نزل من القرآن ويؤيدها سياق سوره اقرء، على أن قوله: " فإذا الملك الذي جاءني بحراء " يشعر بنزول الوحي عليه قبلا. وفيه أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة: قلنا: يا رسول الله كيف نقول إذا دخلنا في الصلاة ؟ فأنزل الله " فربك فكبر " فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نفتتح الصلاة بالتكبير. أقول: وفي الرواية شئ فأبو هريرة ممن آمن بعد الهجرة بكثير والسورة مما نزل في أول البعثة فأين كان أبو هريرة أو الصحابة يومئذ ؟ وفي الخصال عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث الاربعمائة: تشمير الثياب طهور لها قال الله تبارك وتعالى: " وثيابك فطهر " يعنى فشمر. أقول: وفي المعنى عدة أخبار مروية في الكافي والمجمع عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن عليهم السلام. وفي الدر المنثور أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والرجز فاهجر " برفع الراء، وقال: هي الاوثان.

[ 84 ]

أقول: وقوله: " هي الاوثان " من كلام جابر أو غيره من رجال السند. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " ولا تمنن تستكثر " وفي رواية أبي الجارود يقول: لا تعط تلتمس أكثر منها. فإذا نقر في الناقور - 8. فذلك يومئذ يوم عسير - 9. على الكافرين غير يسير - 10. ذرني ومن خلقت وحيدا - 11. وجعلت له مالا ممدودا - 12. وبنين شهودا - 13. ومهدت له تمهيدا - 14. ثم يطمع أن أزيد - 15. كلا إنه كان لآياتنا عنيدا - 16. سأرهقه صعودا - 17. إنه فكر وقدر - 18. فقتل كيف قدر - 19. ثم قتل كيف قدر - 20. ثم نظر - 21. ثم عبس وبسر - 22. ثم أدبر واستكبر - 23. فقال إن هذا إلا سحر يؤثر - 24. إن هذا إلا قول البشر - 25. سأصليه سقر - 26. وما أدراك ما سقر - 27. لا تبقي ولا تذر - 28. لواحة للبشر - 29. عليها تسعة عشر - 30. وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك الا هو وما هي إلا ذكرى للبشر - 31.

[ 85 ]

(بيان) في الآيات وعيد شديد للطاعنين في القرآن الرامين له بأنه سحر والمستهزئين لبعض ما فيه من الحقائق. قوله تعالى: " فإذا نقر في الناقور " النقر القرع والناقور ما ينقر فيه للتصويت، والنقر في الناقور كالنفخ في الصور كناية عن بعث الموتى وإحضارهم لفصل القضاء يوم القيامة والجملة شرطية جزاؤها قوله " فذلك " الخ. قوله تعالى: " فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير " الاشارة بقوله " فذلك " إلى زمان نقر الناقور ولا يبعد أن يكون المراد بيومئذ يوم إذ يرجعون إلى الله للحساب والجزاء أو يوم إذ يرجع الخلائق إلى الله فيكون ظرفا ليوم نقر الناقور فمن الجائز أن تعتبر قطعة من الزمان ظرفا لبعض أجزائه كالسنة تجعل ظرفا للشهر والشهر يجعل ظرفا لليوم لنوع من العناية أو يعتبر زمان متعددا مختلفا باختلاف صفاته أو الحوادث الواقعة فيه ثم يجعل باعتبار بعض صفاته ظرفا لنفسه باعتبار صفة اخرى. والمعنى فزمان نقر الناقور الواقع في يوم رجوع الخلائق إلى الله زمان عسير على الكافرين أو زمان نقر الناقور زمان عسير على الكافرين في يوم الرجوع - بناء على كون قوله: " يومئذ " قيدا لقوله: " فذلك " أو لقوله: " يوم " -. وقال في الكشاف: فان قلت: بم انتصب إذا وكيف صح أن يقع يومئذ ظرفا ليوم عسير ؟ قلت: انتصب إذا بما دل عليه الجزاء لان المعنى إذا نقر في الناقور عسر الامر على الكافرين، والذي أجاز وقوع يومئذ ظرفا ليوم عسير أن المعنى فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير لان يوم القيامة يأتي ويقع حين ينقر في الناقور. انتهى. وقال: ويجوز أن يكون يومئذ مبنيا مرفوع المحل بدلا من ذلك، ويوم عسير خبر كأنه قيل: فيوم النقر يوم عسير. انتهى. وقوله: " غير يسير " وصف آخر ليوم مؤكد لعسره ويفيد أنه عسير من كل وجه لا من وجه دون وجه. قوله تعالى: " ذرني ومن خلقت وحيدا " كلمة تهديد وقد استفاض النقل أن الآية

[ 86 ]

وما يتلوها إلى تمام عشرين آية نزلت في الوليد بن المغيرة، وستأتي قصته في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى. وقوله: " وحيدا " حال من فاعل " خلقت " ومحصل المعنى: دعني ومن خلقته حالكوني وحيدا لا يشاركني في خلقه أحد ثم دبرت أمره أحسن التدبير، ولا تحل بيني وبينه فأنا أكفيه. ومن المحتمل أن يكون حالا من مفعول " ذرني ". وقيل حال من مفعول خلقت المحذوف وهو ضمير عائد إلى الموصول، ومحصل المعنى دعني ومن خلقته حالكونه وحيدا لا مال له ولا بنون، واحتمل أيضا أن يكون " وحيدا " منصوبا بتقدير " أذم " وأحسن الوجوه أولها. قوله تعالى: " وجعلت له مالا ممدودا " أي مبسوطا كثيرا أو ممدودا بمدد النماء. قوله تعالى: " وبنين شهودا " أي حضورا يشاهدهم ويتأيد بهم، وهو عطف على قوله: " مالا ". قوله تعالى: " ومهدت له تمهيدا " التمهيد التهيئة ويتجوز به عن بسطة المال والجاه وانتظام الامور. قوله تعالى: " ثم يطمع أن يزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا " أي ثم يطمع أن أزيد فيما جعلت له من المال والبنين ومهدت له من التمهيد. وقوله: " كلا " ردع له، وقوله: " إنه كان " الخ تعليل للردع، والعنيد المعاند المباهي بما عنده، قيل، ما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك. قوله تعالى: " سأرهقه صعودا " الارهاق الغشيان بالعنف، والصعود عقبة الجبل التي يشق مصعدها شبه ما سيناله من سوء الجزاء ومر العذاب بغشيانه عقبة وعرة صعبة الصعود. قوله تعالى: " إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر " التفكير معروف، والتقدير عن تفكير نظم معان وأوصاف في الذهن بالتقديم والتأخير والوضع والرفع لاستنتاج غرض مطلوب، وقد كان الرجل يهوى أن يقول في أمر القرآن شيئا يبطل به

[ 87 ]

دعوته ويرضي به قومه المعاندين ففكر فيه أيقول: شعر أو كهانة أو هذرة جنون أو اسطورة فقدر أن يقول: سحر من كلام البشر لانه يفرق بين المرء وأهله وولده ومواليه. وقوله: " فقتل كيف قدر " دعا عليه على ما يعطيه السياق نظير قوله: " قاتلهم الله أنى يؤفكون " التوبة: 30. وقوله: " ثم قتل كيف قدر " تكرار للدعاء تأكيدا. قوله تعالى: " ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر " تمثيل لحاله بعد التكفير والتقدير وهو من ألطف التمثيل وأبلغه. فقوله: " ثم نظر " أي ثم نظر بعد التفكير والتقدير نظرة من يريد أن يقضي في أمر سئل أن ينظر فيه - على ما يعطيه سياق التمثيل -. وقوله: " ثم عبس وبسر " العبوس تقطيب الوجه، قال في المجمع: وعبس يعبس عبوسا إذا قبض وجهه والعبوس والتكليح والتقطيب نظائر وضدها الطلاقة والبشاشة، وقال: والبسور بدء التكره في الوجه انتهى، فالمعنى ثم قبض وجهه وأبدا التكره في وجهه بعد ما نظر. وقوله: " ثم أدبر واستكبر " الادبار عن شئ الاعراض عنه، والاستكبار الامتناع كبرا وعتوا، والامران أعني الادبار والاستكبار من الاحوال الروحية، وإنما رتبا في التمثيل على النظر والعبوس والبسور وهي أحوال صورية محسوسة لظهورهما بقوله: " أن هذا إلا سحر " الخ، ولذا عطف قوله: " فقال إن هذا إلا سحر يؤثر بالفاء دون " ثم ". وقوله: " فقال إن هذا إلا سحر يؤثر " أي أظهر إدباره واستكباره بقوله مفرعا عليه: " إن هذا - أي القرآن - إلا سحر يؤثر " أي يروى ويتعلم من السحرة. وقوله: " إن هذا إلا قول البشر " أي ليس بكلام الله كما يدعيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قيل: إن هذه الآية كالتأكيد للآية السابقة وإن اختلفتا معنى لان المقصود منهما نفي كونه قرآنا من كلام الله، وباعتبار الاتحاد في المقصود لم تعطف الجملة على الجملة. قوله تعالى: " ساصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر " أي سأدخله سقر وسقر من أسماء جهنم في القرآن أو دركة من دركاتها، وجمله

[ 88 ]

" ساصليه سقر " بيان أو بدل من قوله: " سارهقه صعودا ". وقوله: " وما أدراك ما سقر " تفخيم لامرها وتهويل. وقوله: " لا تبقى ولا تذر قضية إطلاق النفي أن يكون المراد أنها لا تبقي شيئا ممن نالته إلا أحرقته، ولا تدع أحدا ممن ألقي فيها إلا نالته بخلاف نار الدنيا التي ربما تركت بعض ما ألقي فيها ولم تحرقه، وإذا نالت إنسانا مثلا نالت جسمه وصفاته الجسمية ولم تنل شيئا من روحه وصفاته الروحية، وأما سقر فلا تدع أحدا ممن ألقي فيها إلا نالته قال تعالى: " تدعوا من أدبر وتولى " المعارج: 17 وإذا نالته لم تبق منه شيئا من روح أو جسم إلا أحرقته قال تعالى: " نار الله الموقدة التي تطلع على الافئدة " الهمزة: 7. ويمكن أن يراد أنها لا تبقيهم أحياء ولا تتركهم يموتون فيكون في معنى قوله تعالى: " الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيى " الاعلى: 13. وقيل: المعنى لا تبقي شيئا يلقى فيها إلا أهلكته، وإذا هلك لم تذره هالكا حتى يعاد فيعذب ثانيا. وقيل: المراد أنها لا تبقي لهم لحما ولا تذر عظما، وقيل غير ذلك. قوله تعالى: " لواحة للبشر " اللواحة من التلويح بمعنى تغيير اللون إلى السواد وقيل: إلى الحمرة، والبشر جمع بشرة بمعنى ظاهر الجلد. قوله تعالى: " عليها تسعة عشر " يتولون أمر عذاب المجرمين وقد أبهم ولم يصرح أنهم من الملائكة أو غيرهم غير أن المستفاد من آيات القيامة - وتصرح به الآية التالية - أنهم من الملائكة. وقد استظهر بعضهم أن مميز قوله: " تسعة عشر " ملكا ثم قال: ألا ترى العرب وهم الفصحاء كيف فهموا منه ذلك فقد روي عن ابن عباس أنها لما نزلت " عليها تسعة عشر " قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وانتم الدهم أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم ؟ فقال أبو الاسد بن اسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش: انا اكفيكم سبعة عشر فاكفوني انتم اثنين انتهى، وانت ترى ان لا دليل في كلامه على ما يدعيه. على انه سمى الواحد من الخزنة رجلا ولا يطلق الرجل على الملك البتة ولا سيما عند المشركين الذين قال تعالى فيهم:

[ 89 ]

" وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا " الزخرف: 19. قوله تعالى: " وما جعلنا اصحاب النار إلا ملائكة " إلى آخر الآية. سياق الآية يشهد على انهم تكلموا فيما ذكر في الآية من عدد خزان النار فنزلت هذه الآية، ويتأيد بذلك ما ورد من سبب النزول وسيوافيك في البحث الروائي التالي. فقوله: " وما جعلنا اصحاب النار إلا ملائكة " المراد بأصحاب النار خزنتها الموكلون عليها المتولون لتعذيب المجرمين فيها كما يفيده قوله: " عليها تسعة عشر " ويشهد بذلك قوله بعد: " وما جعلنا عدتهم إلا فتنة " الخ. ومحصل المعنى: انا جعلناهم ملائكة يقدرون على ما امروا به كما قال: " عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " التحريم: 6 فليسوا من البشر حتى يرجوا المجرمون أن يقاوموهم ويطيقوهم. وقوله: " وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا " الفتنة المحنة والاختبار. ذكروا أن المراد بالجعل الجعل بحسب الاخبار دون الجعل بحسب التكوين فالمعنى وما أخبرنا عن عدتهم أنها تسعة عشر إلا ليكون فتنة للذين كفروا، ويؤيده ذيل الكلام: ليستيقن الذين اوتوا الكتاب " الخ. وقوله: " ليستيقن الذين اوتوا الكتاب " الاستيقان وجدان اليقين في النفس أي ليوقن أهل الكتاب بأن القرآن النازل عليك حق حيث يجدون ما أخبرنا به من عدة أصحاب النار موافقا لما ذكر فيما عندهم من الكتاب. وقوله: " ويزداد الذين آمنوا إيمانا " أي بسبب ما يجدون من تصديق أهل الكتاب ذلك. وقوله: " وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا " اللام في " ليقول " للعاقبة بخلاف اللام في " ليستيقن " فللتعليل بالغاية، والفرق أن قولهم: " ماذا أراد الله بهذا مثلا " تحقير وتهكم وهو كفر لا يعد غاية لفعله سبحانه إلا بالعرض بخلاف الاستيقان الذي هو من الايمان، ولعل اختلاف المعنيين هو الموجب لاعادة اللام في قوله: " وليقول ". وقد فسروا " الذين في قلوبهم مرض " بالشك والجحود بالمنافقين وفسروا الكافرين

[ 90 ]

بالمتظاهرين بالكفر من المشركين وغيرهم. وقولهم: ماذا أراد الله بهذا مثلا " أرادوا به التحقير والتهكم يشيرون بهذا إلى قوله تعالى: " عليها تسعة عشر " والمثل الوصف، والمعنى ما الذي يعنيه من وصف الخزنة بأنهم تسعة عشر ؟ فهذه العدة القليلة كيف تقوى على تعذيب أكثر الثقلين من الجن والانس ؟ (ذنابة لما تقدم من الكلام في النفاق) ذكر بعضهم أن قوله تعالى: " وليقول الذين في قلوبهم مرض " الآية - بناء على أن السورة بتمامها مكية، وأن النفاق إنما حدث بالمدينة - إخبار عما سيحدث من المغيبات بعد الهجرة. انتهى. أما كون السورة بتمامها مكية فهو المتعين من طريق النقل وقد ادعي عليه اجماع المفسرين، وما نقل عن مقاتل أن قوله: " وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة " الآية مدني لم يثبت من طريق النقل، وعلى فرض الثبوت هو قول نظري مبني على حدوث النفاق بالمدينة والآية تخبر عنه. وأما حديث حدوث النفاق بالمدينة فقد أصر عليه بعضهم محتجا عليه بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لم يكونوا قبل الهجرة من القوة ونفوذ الامر وسعة الطول بحيث يهابهم الناس أو يرجى منهم خير حتى يتقوهم ويظهروا لهم الايمان ويلحقوا بجمعهم مع إبطان الكفر وهذا بخلاف حالهم بالمدينة بعد الهجرة. والحجة غير تامة - كما أشرنا إليه في تفسير سورة المنافقون في كلام حول النفاق - فإن علل النفاق ليست تنحصر في المخافة والاتقاء أو الاستدرار من خير معجل فمن علله الطمع ولو في نفع مؤجل ومنها العصبية والحمية ومنها استقرار العادة ومنها غير ذلك. ولا دليل على انتفاء جميع هذه العلل عن جميع من آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة قبل الهجرة وقد نقل عن بعضهم أنه آمن ثم رجع أو آمن عن ريب ثم صلح. على أنه تعالى يقول: " ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا اوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في

[ 91 ]

صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين " العنكبوت: 11. والآيتان في سورة مكية وهى سورة العنكبوت، وهما ناطقتان بوجود النفاق فيها ومع الغض عن كون السورة مكية فاشتمال الآية على حديث الايذاء في الله والفتنة أصدق شاهد على نزول الآيتين بمكة فلم يكن بالمدينة إيذاء في الله وفتنة، واشتمال الآية على قوله: " ولئن جاء نصر من ربك " الخ لا يدل على النزول بالمدينة فللنصر مصاديق اخرى غير الفتح المعجل. واحتمال أن يكون المراد بالفتنة ما وقعت بمكة بعد الهجرة غير ضائر فإن هؤلاء المفتونين بمكة بعد الهجرة إنما كانوا من الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة وإن أوذوا بعدها. وعلى مثل ذلك ينبغي أن يحمل قوله تعالى: " ومن الناس من يعبد الله على حرف فان أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه " الحج: 11 إن كان المراد بالفتنة العذاب وإن كانت السورة مدنية. وقوله: " كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء " الاشارة بذلك إلى مضمون قوله: " وما جعلنا عدتهم إلا فتنة " الخ. وقوله: " وما يعلم جنود ربك إلا هو " علق تعالى العلم المنفي بالجنود - وهي الجموع الغليظة التي خلقهم وسائط لاجراء أوامره - لا بخصوص عدتهم فأفاد بإطلاقه أن العلم بحقيقتهم وخصوصيات خلقتهم وعدتهم وما يعملونه من عمل ودقائق الحكمة في جميع ذلك يختص به تعالى لا يشاركه فيه أحد، فليس لاحد أن يستقل عدتهم أو يستكثر أو يطعن في شئ مما يرجع إلى صفاتهم وهو جاهل بها. وقوله: " وما هي إلا ذكرى للبشر " الضمير راجع إلى ما تقدم من قوله: " عليها تسعة عشر " وتأنيثه لتأنيث الخبر، والمعنى ان البشر لا سبيل لهم إلى العلم بجنود ربك وإنما اخبرنا عن خزنة النار ان عدتهم تسعة عشر ليكون ذكرى لهم يتعظون بها. وقيل: الضمير للجنود، وقيل: لسقر، وقيل للسورة، وقيل: لنار الدنيا وهو

[ 92 ]

أسخف الاقوال. وفي الآية دلالة على أن الخطابات القرآنية لعامة البشر. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " فإذا نقر في الناقور - إلى قوله - وحيدا " فإنها نزلت في الوليد بن المغيرة وكان شيخا كبيرا مجربا من دهاة العرب، وكان من المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقعد في الحجر ويقرء القرآن فاجتمعت قريش إلى الوليد بن المغيرة فقالوا: يا أبا عبد شمس ما هذا الذي يقول محمد ؟ أشعر هو أم كهانة أم خطب ؟ فقال دعوني أسمع كلامه فدنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد أنشدني من شعرك قال: ما هو شعر ولكنه كلام الله الذي ارتضاه لملائكته وأنبيائه ورسله فقال: اتل علي منه شيئا ! فقرء عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حم السجدة فلما بلغ قوله: " فإن اعرضوا فقل انذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " قال: فاقشعر الوليد وقامت كل شعرة في رأسه ولحيته، ومر إلى بيته ولم يرجع إلى قريش من ذلك. فمشوا إلى أبي جهل فقالوا: يا أبا الحكم إن أبا عبد شمس صبا إلى دين محمد أما تراه لم يرجع إلينا فغدا أبو جهل الي الوليد فقال: يا عم نكست رؤوسنا وفضحتنا واشمت بنا عدونا وصبوت إلى دين محمد، فقال: ما صبوت إلى دينه ولكني سمعت كلاما صعبا تقشعر منه الجلود فقال له أبو جهل: اخطب هو ؟ قال: لا إن الخطب كلام متصل وهذا كلام منثور ولا يشبه بعضه بعضا. قال: افشعر هو ؟ قال: لا اما إني لقد سمعت اشعار العرب بسيطها ومديدها ورملها ورجزها وما هو بشعر. قال: فما هو ؟ قال: دعني افكر فيه. فلما كان من الغد قالوا له: يا ابا عبد شمس ما تقول فيما قلناه ؟ قال: قولوا: هو سحر فانه آخذ بقلوب الناس فأنزل على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك: " ذرني ومن خلقت وحيدا ". وإنما سمي وحيدا لانه قال لقريش: أنا أتوحد لكسوة البيت سنة وعليكم في جماعتكم

[ 93 ]

سنة، وكان له مال كثير وحدائق، وكان له عشر بنين بمكة، وكان له عشرة عبيد عند كل عبد الف دينار يتجر بها وتلك القنطار في ذلك الزمان، ويقال: إن القنطار جلد ثور مملو ذهبا. وفي الدر المنثور أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل من طريق عكرمة عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجعلوا لك مالا ليعطوه لك فانك أتيت محمدا لتصيب مما عنده. قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر أو أنك كاره له، قال: وماذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقوله حلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، ومغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه قال: دعني حتى أفكر فلما فكر قال ما هو إلا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت: ذرني ومن خلقت وحيدا " وفي المجمع روى العياشي بإسناده عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله وأبي جعفر عليهما السلام أن الوحيد ولد الزنا. قال زرارة: ذكر لابي جعفر عليه السلام عن أحد بني هشام أنه قال في خطبته: أنا ابن الوحيد فقال: ويله لو علم ما الوحيد ما فخر بها فقلنا له، وما هو ؟ قال، من لا يعرف له أب. وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن المنذر والترمذي وابن أبي الدنيا في صفة النار وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، الصعود جبل في النار يصعد فيه الكافر سبعين خريفا ثم يهوى وهو كذلك فيه أبدا. وفي تفسير القمي في قوله تعالى، " ثم عبس " قال، عبس وجهه " وبسر " قال،


(1) زاوية الفم.

[ 94 ]

كلا والقمر - 32. والليل إذ أدبر - 33. والصبح إذا أسفر - 34. انها لاحدى الكبر - 35. نذيرا للبشر - 36. لمن شآء منكم أن يتقدم أو يتأخر - 37 كل نفس بما كسبت رهينة - 38. إلا أصحاب اليمين - 39. في جنات يتساءلون - 40. عن المجرمين - 41. ما سلككم في سقر - 42. قالوا لم نك من المصلين - 43. ولم نك نطعم المسكين - 44. وكنا نخوض مع الخائضين - 45. وكنا نكذب بيوم الدين - 46. حتى أتانا اليقين - 47. فما تنفعهم شفاعة الشافعين - 48. (بيان) في الآيات تنزيه للقرآن الكريم عما رموه به، وتسجيل إنه إحدى الآيات الالهية الكبرى فيه إنذار البشر كافة وفي اتباعه فك نفوسهم عن رهانة أعمالهم التي تسوقهم إلى سقر. قوله تعالى: " كلا " ردع وإنكار لما تقدم قال في الكشاف: انكار بعد أن جعلها ذكرى أن يكون لهم ذكرى لانهم لا يتذكرون، أو ردع لمن ينكر أن يكون إحدى الكبر نذيرا. انتهى. فعلى الاول إنكار لما تقدم وعلى الثاني ردع لما سيأتي، وهناك وجه آخر سيوافيك. قوله تعالى: " والقمر والليل إذ أدبر والصبح إذا أسفر " قسم بعد قسم، وإدبار الليل مقابل إقباله، وإسفار الصبح انجلاؤه وانكشافه. قوله تعالى: " إنها لاحدى الكبر " ذكروا ان الضمير لسقر، والكبر جمع كبرى،

[ 95 ]

والمراد بكون سقر احدى الكبر إنها إحدى الدواهي الكبر لا يعادلها غيرها من الدواهي كما يقال: هو أحد الرجال أي لا نظير له بينهم، والجملة جواب للقسم. والمعنى اقسم بكذا وكذا إن سقر لاحدى الدواهي الكبر - أكبرها - انذارا للبشر. ولا يبعد أن يكون " كلا " ردعا لقوله في القرآن: " إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر " ويكون ضمير " إنها " للقرآن بما أنه آيات أو من باب مطابقة اسم إن لخبرها. والمعنى: ليس كما قال اقسم بكذا وكذا إن القرآن - آياته - لاحدى الآيات الالهية الكبرى انذارا للبشر. وقيل: الجملة " إنها لاحدى الكبر " تعليل للردع، والقسم معترض للتأكيد لا جواب له أو جوابه مقدر يدل عليه كلا. قوله تعالى: " نذيرا للبشر " مصدر بمعنى الانذار منصوب للتمييز، وقيل: حال مما يفهم من سياق قوله: " إنها لاحدى الكبر " أي كبرت وعظمت حالكونها إنذارا أي منذرة. وقيل فيه وجوه أخر لا يعبأ بها كقول بعضهم: إنه صفة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والآية متصلة بأول السورة والتقدير قم نذيرا للبشر فأنذر، وقول بعضهم: صفة له تعالى. قوله تعالى: " لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر " تعميم للانذار " ولمن شاء " بدل من البشر، و " ان يتقدم " الخ مفعول " شاء " والمراد بالتقدم والتأخر: الاتباع للحق ومصداقه الايمان والطاعة، وعدم الاتباع ومصداقه الكفر والمعصية. والمعنى: نذيرا لمن اتبع منكم الحق ولمن لم يتبع أي لجميعكم من غير استثناء. وقيل: " أن يتقدم " في موضع الرفع على الابتداء و " لمن شاء " خبره كقولك لمن توضأ أن يصلي، والمعنى مطلق لمن شاء التقدم أو التأخر أن يتقدم أو يتأخر، وهو كقوله. " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " والمراد بالتقدم والتأخر السبق إلى الخير والتخلف عنه. انتهى. قوله تعالى: " كل نفس بما كسبت رهينة " الباء بمعنى مع أو للسببية أو للمقابلة و " رهينة "

[ 96 ]

بمعنى الرهن على ما ذكره الزمخشري قال في الكشاف: رهينة ليست بتأنيث رهين في قوله: " كل امرئ بما كسب رهين " لتأنيث النفس لانه لو قصدت لقيل: رهين لان فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنما هي اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهن. انتهى. وكأن العناية في عد كل نفس رهينة أن لله عليها حق العبودية بالايمان والعمل الصالح فهي رهينة محفوظة محبوسة عند الله حتى توفي دينه وتؤدي حقه تعالى فإن آمنت وصلحت فكت وأطلقت، وإن كفرت وأجرمت وماتت على ذلك كانت رهينة محبوسة دائما، وهذا غير كونها رهين عملها ملازمة لما اكتسبت من خير وشر كما تقدم في قوله تعالى: " كل امرئ بما كسب رهين " الطور: 21. والآية في مقام بيان وجه التعميم المستفاد من قوله: " نذيرا للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر " فإن كون النفس الانسانية رهينة بما كسبت يوجب على كل نفس أن تتقي النار التي ستحبس فيها إن أجرمت ولم تتبع الحق. قوله تعالى: " إلا أصحاب اليمين " هم الذين يؤتون كتابهم بأيمانهم يوم الحساب وهم أصحاب العقائد الحقة والاعمال الصالحة من متوسطي المؤمنين، وقد تكرر ذكرهم وتسميتهم بأصحاب اليمين في مواضع من كلامه تعالى، وعلى هذا فالاستثناء متصل. والمتحصل من مجموع المستثنى منه والمستثنى انقسام النفوس ذوات الكسب إلى نفوس رهينة بما كسبت وهي نفوس المجرمين، ونفوس مفكوكة من الرهن مطلقة وهي نفوس أصحاب اليمين، وأما السابقون المقربون وهم الذين ذكرهم الله في مواضع من كلامه وعدهم ثالثة الطائفتين وغيرهما كما في قوله تعالى: " وكنتم أزواجا ثلاثة - إلى أن قال - والسابقون السابقون اولئك المقربون " الواقعة: 11، فهؤلاء قد استقروا في مستقر العبودية لا يملكون نفسا ولا عمل نفس فنفوسهم لله وكذلك أعمالهم فلا يحضرون ولا يحاسبون قال تعالى: " فانهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين " الصافات: 128، فهم خارجون عن المقسم رأسا. وعن بعضهم تفسير أصحاب اليمين بالملائكة، وعن بعضهم التفسير بأطفال المسلمين وعن بعضهم أنهم الذين كانوا عن يمين آدم يوم الميثاق، وعن بعضهم أنهم الذين سبقت

[ 97 ]

لهم من الله الحسنى، وهي وجوه ضعيفة غير خفية الضعف. قوله تعالى: " في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر " في جنات " خبر لمبتدء محذوف وتنوين جنات للتعظيم، والتقدير هم في جنات لا يدرك وصفها، ويمكن أن يكون حالا من أصحاب اليمين. وقوله: " يتساءلون عن المجرمين " أي يتسأل جمعهم عن جمع المجرمين. وقوله: " ما سلككم في سقر " أي ما أدخلكم في سقر بيان لتساؤلهم من بيان الجملة بالجملة، أو بتقدير القول أي قائلين ما سلككم في سقر. قوله تعالى: " قالوا لم نك من المصلين " ضمير الجمع للمجرمين، والمراد بالصلاة التوجه العبادي الخاص إلى الله سبحانه فلا يضره اختلاف الصلاة كما وكيفا باختلاف الشرائع السماوية الحقة. قوله تعالى: " ولم نك نطعم المسكين " المراد بإطعام المسكين الانفاق على فقراء المجتمع بما يقوم به صلبهم ويرتفع به حاجتهم، وإطعام المسكين إشارة إلى حق الناس عملا كما أن الصلاة إشارة إلى حق الله كذلك. قوله تعالى: " وكنا نخوض مع الخائضين " المراد بالخوض الاشتغال بالباطل قولا أو فعلا والغور فيه. قوله تعالى: " وكنا نكذب بيوم الدين " وهو يوم الجزاء فهذه خصال أربع من طبع المجرم أن يبتلي بها كلا أو بعضا، ولما كان المجيب عن التساؤل جمع المجرمين صحت نسبة الجميع إلى الجميع وإن كان بعضهم مبتلى ببعضها دون بعض. قوله تعالى: " حتى أتانا اليقين " قيد للتكذيب، وفسروا اليقين بالموت لكونه مما لا شك فيه فالمعنى وكنا في الدنيا نكذب بيوم الجزاء حتى أتانا الموت فانقطعت به الحياة الدنيا أي كنا نكذب به ما دامت الحياة. وقيل: المراد به اليقين الحاصل بحقية يوم الجزاء بمشاهدة آيات الآخرة ومعاينة الحياة البرزخية حين الموت وبعده، وهو معنى حسن. قوله تعالى: " فما تنفعهم شفاعة الشافعين " تقدم في بحث الشفاعة أن في الآية دلالة

[ 98 ]

على أن هناك شافعين يشفعون فيشفعون لكن لا تنفع هؤلاء شفاعتهم لانهم محرومون من نيلها. وقد أوردنا جملة من أخبار الشفاعة في الجزء الاول من الكتاب. فما لهم عن التذكرة معرضين - 49. كأنهم حمر مستنفرة - 50. فرت من قسورة - 51. بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة - 52. كلا بل لا يخافون الآخرة - 53. كلا إنه تذكرة - 54. فمن شآء ذكره - 55. وما يذكرون إلا أن يشآء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة - 56. (بيان) في معنى الاستنتاج مما تقدم من الوعيد والوعد أورد في صورة التعجب من إعراضهم عن تذكرة القرآن وتنفرهم عن الحق الصريح كأنه قيل: " فإذا كان كذلك فعليهم أن يجيبوا دعوة الحق ويتذكروا بالتذكرة فمن العجب أنهم معرضون عن ذلك كلا بل لا يؤمنون بالرسالة ويريد كل امرئ منهم أن ينزل عليه كتاب من الله. كلا بل لا يخافون الآخرة فلا يرتدعون عن وعيد. ثم يعرض عليهم التذكرة عرضا فهم على خيرة من القبول والرد فان شاءوا قبلوا وإن شاؤا ردوا، لكن عليهم أن يعلموا أنهم غير مستقلين في مشيتهم وليسوا بمعجزين لله سبحانه فليس لهم أن يذكروا إلا أن يشاء الله، وحكم القدر جار فيهم البتة. قوله تعالى: " فما لهم عن التذكرة معرضين " تفريع على ما تقدم من التذكرة والموعظة، والاستفهام للتعجيب، و " لهم " متعلق بمحذوف والتقدير فما كان لهم: و " معرضين " حال من ضمير " لهم " و " عن التذكرة " متعلق بمعرضين.

[ 99 ]

والمعنى: فإذا كان كذلك فأي شئ كان - عرض - للمشركين الذين يكذبون بتذكرة القرآن حال كونهم معرضين عنها أي كان من الواجب عليهم أن يصدقوا ويؤمنوا لكنهم أعرضوا عنها وهو من العجب. قوله تعالى: " كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة " تشبيه لهم من حيث حالهم في الاعراض عن التذكرة، والحمر جمع حمار، والمراد الحمر الوحشية والاستنفار بمعنى النفرة والقسورة الاسد والصائد، وقد فسر بكل من المعنيين. والمعنى: معرضين عن التذكرة كأنهم حمر وحشية نفرت من أسد أو من الصائد. قوله تعالى: " بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة " المراد بالصحف المنشرة الكتاب السماوي المشتمل على الدعوة الحقه. وفي الكلام إضراب عما ذكر من إعراضهم، والمعنى ليس إعراضهم عن التذكرة لمجرد النفرة بل يريد كل امرئ منهم أن ينزل عليه كتاب من عند الله مشتمل على ما تشتمل عليه دعوة القرآن. وهذه النسبة إليهم كناية عن استكبارهم على الله سبحانه أنهم إنما يقبلون دعوته ولا يرونها لو دعا كل واحد منهم بإنزال كتاب سماوي إليه مستقلا وأما الدعوة من طريق الرسالة فليسوا يستجيبونها وإن كانت حقة مؤيدة بالآيات البينة. فالآية في معنى ما حكاه الله سبحانه من قولهم: " لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله " الانعام: 124، وفي معنى قول الامم لرسلهم: " إن أنتم إلا بشر مثلنا " على ما قررنا من حجتهم على نفي رسالة الرسل. وقيل: إن الآية في معنى قولهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي حكاه الله في قوله: " ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه " أسرى: 93. ويدفعه أن مدلول الآية أن ينزل على كل واحد منهم صحف منشرة غير ما ينزل على غيره لا نزول كتاب واحد من السماء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرؤه الجميع كما هو مدلول آية الاسراء. وقيل: المراد نزول كتب من السماء عليهم بأسمائهم أن آمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: المراد أن ينزل عليهم كتب من السماء بالبراءة من العذاب وإسباغ النعمة حتى

[ 100 ]

يؤمنوا وإلا بقوا على كفرهم وقيل غير ذلك. وهي جميعا معان بعيدة من السياق والتعويل على ما تقدم. قوله تعالى: " كلا بل لا يخافون الآخرة " ردع لهم بما يريدونه من نزول كتاب سماوي على كل واحد منهم فإن دعوة الرسالة مؤيدة بآيات بينة وحجج قاطعة لا تدع ريبا لمرتاب فالحجة تامة قائمة على الرسول وغيره على حد سواء من غير حاجة إلى أن يؤتى كل واحد من الناس المدعوين صحفا منشرة. على أن الرسالة تحتاج من طهارة الذات وصلاحية النفس إلى ما يفقده نفوس سائر الناس كما هو مدلول جوابه تعالى في سورة الانعام عن قولهم: " لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله " بقوله: " الله أعلم حيث يجعل رسالته ". وقوله: " بل لا يخافون الآخرة " إضراب عن قوله: " يريد كل امرئ منهم " الخ، والمراد أن اقتراحهم نزول كتاب على كل امرئ منهم قول ظاهري منهم يريدون به صرف الدعوة عن أنفسهم، والسبب الحقيقي لكفرهم وتكذيبهم بالدعوة أنهم لا يخافون الآخرة، ولو خافوها لآمنوا ولم يقترحوا آية بعد قيام الحجة بظهور الآيات البينات. قوله تعالى: " كلا إنه تذكرة " ردع ثان لاقتراحهم نزول كتاب سماوي لكل امرئ منهم، والمعنى لا ننزل كتابا كذلك إن القرآن تذكرة وموعظة نعظهم به لا نريد به أزيد من ذلك، وأثر ذلك ما أعد للمطيع والعاصي عندنا من الجزاء. قوله تعالى: " فمن شاء ذكره " أي فمن شاء اتعظ به فإنما هي دعوة في ظرف الاختيار من غير إكراه. قوله تعالى: " وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة " دفع لما يمكن أن يتوهموه من قوله تعالى: " فمن شاء ذكره " أن الامر إليهم وأنهم مستقلون في إرادتهم وما يترتب عليها من أفعالهم فإن لم يشأوا الذكر ولم يذكروا غلبوه تعالى فيما أراد وأعجزوه فيما شاء من ذكرهم. والمحصل من الدفع أن حكم القدر جاء في أفعالهم كغيرها من الحوادث، وتذكرهم إن تذكروا وإن كان فعلا اختياريا صادرا عنهم باختيارهم من غير إكراه فالمشية الالهية متعلقة به بما هو اختياري بمعنى أن الله تعالى يريد بارادة تكوينية أن يفعل الانسان

[ 101 ]

الفعل الفلاني بإرادته واختياره فالفعل اختياري ممكن بالنسبة إلى الانسان وهو بعينه متعلق الارادة الالهية ضروري التحقق بالنسبة إليها ولولاها لم يتحقق. وقوله: " هو أهل التقوى وأهل المغفرة " أي أهل لان يتقى منه لان له الولاية المطلقة على كل شئ، وبيده سعادة الانسان وشقاوته، وأهل لان يغفر لمن اتقاه لانه غفور رحيم. والجملة أعني قوله: " هو أهل التقوى وأهل المغفرة " صالحة لتعليل ما تقدم من الدعوة في قوله: " إنه تذكرة فمن شاء ذكره " وهو ظاهر، ولتعليل قوله: " وما يذكرون إلا أن يشاء الله " فإن كونه تعالى أهل التقوى وأهل المغفرة لا يتم إلا بكونه ذا إرادة نافذة فيهم سارية في أعمالهم فليسوا بمخلين وما يهوونه وهم معجزون لله بتمردهم واستكبارهم. (بحث روائي) في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة " وذلك أنهم قالوا: يا محمد قد بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يذنب الذنب فيصبح وذنبه مكتوب عند رأسه وكفارته. فنزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: يسألك قومك سنة بني إسرائيل في الذنوب فإن شاءوا فعلنا ذلك بهم وأخذناهم بما كنا نأخذ بني إسرائيل فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كره ذلك لقومه. أقول: والقصة لا تلائم لحن الآية والرواية لا تخلو من إيماء إلى ضعف القضة. وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن السدي عن أبي صالح قال: قالوا: إن كان محمد صادقا فليصبح تحت رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنته من النار فنزلت: " بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة ". أقول: سياق الآيات وما فيها من الردع لا يلائم القصة. وفيه أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد " بل يريد كل امرئ منهم ان يؤتى صحفا منشرة " قال: إلى فلان بن فلان من رب العالمين يصبح عند رأس كل رجل صحيفة موضوعة يقرؤها.

[ 102 ]

أقول: ما في الرواية يقبل الانطباق على الرواية السابقة وعلى ما قدمناه من معنى الآية. وفيه أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله تعالى: " بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة " قال: قد قال قائلون من الناس لمحمد صلى الله عليه وسلم إن سرك أن نتابعك فأتنا بكتاب خاصة يأمرنا باتباعك. أقول: الرواية قابلة التطبيق لما في تفسير الآية من القول بأن الآية في معنى قوله تعالى: " ولن نؤمن لرقيك " الآية وقد تقدم ما فيه. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " هو أهل التقوى وأهل المغفرة " قال: هو أهل أن يتقى وأهل أن يغفر. وفي التوحيد بإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل: " هو أهل التقوى وأهل المغفرة " قال: قال الله عزوجل: أنا اهل ان أتقى ولا يشرك بي عبدي شيئا وأنا أهل إن لم يشرك بي عبدي شيئا أن أدخله الجنة. وقال: إن الله تبارك وتعالى أقسم بعزته وجلاله أن لا يعذب أهل توحيده بالنار. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن عبد الله بن دينار قال: سمعت أبا هريرة وابن عمر وابن عباس يقولون: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله: " هو أهل التقوى وأهل المغفرة " قال: يقول الله: أنا أهل أن اتقى فلا يجعل معي شريك فإذا اتقيت ولم يجعل معي شريك فأنا أهل أن أغفر ما سوى ذلك. أقول: وفي معناه غير واحد من الروايات عنه صلى الله عليه وآله وسلم. (سورة القيامة مكية وهي اربعون آية) بسم الله الرحمن الرحيم لا أقسم بيوم القيمة - 1. ولا أقسم بالنفس اللوامة - 2. أيحسب الانسان أن لن نجمع عظامه - 3. بلى قادرين على أن نسوي بنانه - 4. بل يريد الانسان ليفجر أمامه - 5. يسئل

[ 103 ]

ايان يوم القيمة - 6. فإذا برق البصر - 7. وخسف القمر - 8. وجمع الشمس والقمر - 9. يقول الانسان يومئذ اين المفر - 10. كلا لا وزر - 11. إلى ربك يومئذ المستقر - 12. ينبؤا الانسان يومئذ بما قدم واخر - 13. بل الانسان على نفسه بصيرة - 14. ولو ألقى معاذيره - 5. (بيان) يطوف بيان السورة حول القيامة الكبرى فتنبئ بوقوع يوم القيامة أولا ثم تصفه ببعض أشراطه تارة، وبإجمال ما يجرى على الانسان اخرى، وينبئ أن المساق إليه يبدأ من يوم الموت، وتختتم بالاحتجاج على القدرة على الاعادة بالقدرة على الابتداء. والسورة مكية بشهادة سياق آياتها. قوله تعالى: " لا اقسم بيوم القيامة " إقسام بيوم القيامة سواء قيل بكون " لا اقسم " كلمة قسم أو بكون لازائدة أو نافية على اختلاف الاقوال. قوله تعالى: " ولا اقسم بالنفس اللوامة " إقسام ثان على ما يقتضيه السياق ومشاكلة اللفظ فلا يعبأ بما قيل: أنه نفي الاقسام وليس بقسم، والمراد اقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة. والمراد بالنفس اللوامة نفس المؤمن التي تلومه في الدنيا على المعصية والتثاقل في الطاعة وتنفعه يوم القيامة. وقيل: المراد به النفس الانسانية أعم من المؤمنة الصالحة والكافرة الفاجرة فإنها تلوم الانسان يوم القيامة أما الكافرة فانها تلومه على كفره وفجوره، وأما المؤمنة فانها تلومه على قلة الطاعة وعدم الاستكثار من الخير. وقيل. المراد نفس الكافر الذي تلومه يوم القيامة على ما قدمت من كفر ومعصية قال تعالى: " وأسروا الندامة لما رأوا العذاب " يونس: 54. ولكل من الاقوال وجه.

[ 104 ]

وجواب القسم محذوف يدل عليه الآيات التالية، والتقدير ليبعثن، وإنما حذف للدلالة على تفخيم اليوم وعظمة أمره قال تعالى: " ثقلت في السماوات والارض لا تأتيكم إلا بغتة " الاعراف: 187، وقال: " إن الساعة آتية أكاد اخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى " طه 15، وقال: " عم يتساءلون عن النبأ العظيم " النباء: 1. قوله تعالى: " أيحسب الانسان أن لن نجمع عظامه " الحسبان الظن، وجمع العظام كناية عن الاحياء بعد الموت، والاستفهام للتوبيخ، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " بلى قادرين على أن نسوي بنانه " أي بلى نجمعها " وقادرين " حال من فاعل مدخول بلى المقدر، والبنان أطراف الاصابع وقيل: الاصابع وتسوية البنان تصويرها على ما هي عليها من الصور، والمعنى بلى نجمعها والحال أنا قادرون على أن نصور بنانه على صورها التي هي عليها بحسب خلقنا الاول. وتخصيص البنان بالذكر - لعله - للاشارة إلى عجيب خلقها بما لها من الصور وخصوصيات التركيب والعدد تترتب عليها فوائد جمة لا تكاد تحصى من أنواع القبض والبسط والاخذ والرد وسائر الحركات اللطيفة والاعمال الدقيقة والصنائع الظريفة التي يمتاز بها الانسان من سائر الحيوان مضافا إلى ما عليها من الهيئات والخطوط التي لا يزال ينكشف للانسان منها سر بعد سر. وقيل: المراد بتسوية البنان جعل أصابع اليدين والرجلين مستوية شيئا واحدا من غير تفريق كخف البعير وحافر الحمار، والمعنى قادرين على أن نجعلها شيئا واحدا فلا يقدر الانسان حينئذ على ما يقدر عليه مع تعدد الاصابع من فنون الاعمال، والوجه المتقدم أرجح. قوله تعالى: " بل يريد الانسان ليفجر أمامه " قال الراغب: الفجر شق الشئ شقا واسعا. قال: والفجور شق ستر الديانة يقال: فجر فجورا فهو فاجر وجمعه فجار وفجرة. انتهى، و " أمام " ظرف مكان استعير لمستقبل الزمان، والمراد من فجوره أمامه فجوره مدى عمره وما دام حيا، وضمير " أمامه " للانسان. وقوله: " ليفجر أمامه " تعليل ساد مسد معلله وهو التكذيب بالبعث والاحياء بعد الموت، و " بل " إضراب عن حسبانه عدم البعث والاحياء بعد الموت.

[ 105 ]

والمعنى: أنه لا يحسب أن لن نجمع عظامه بل يريد أن يكذب بالبعث ليفجر مدى عمره إذ لا موجب للايمان والتقوى لو لم يكن هناك بعث للحساب والجزاء. هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية، ولهم وجوه أخر ذكروها في معنى الآية بعيدة لا تلائم السياق أغمضنا عن ذكرها. وذكر الانسان في الآية من وضع الظاهر موضع الضمير والنكتة فيه زيادة التوبيخ والمبالغة، في التقريع، وقد كرر ذلك في الآية وما يتلوها من الآيات أربع مرات. قوله تعالى: " يسأل أيان يوم القيامة " الظاهر أنه بيان لقوله: " بل يريد الانسان ليفجر أمامه " فيفيد التعليل وأن السائل في مقام التكذيب والسؤال سؤال تكذيب إذ من الواجب على من دعي إلى الايمان والتقوى، وأنذر بهذا النبأ العظيم مع دلالة الآيات البينة وقيام الحجج القاطعة أن يتخذ حذره ويتجهز بالايمان والتقوى ويتهيأ للقاء اليوم قريبا كان أو بعيدا فكل ما هو آت قريب لا أن يسأل متى تقوم الساعة ؟ وأيان يوم القيامة ؟ فليس إلا سؤال مكذب مستهزئ. قوله تعالى: " فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر " ذكر جملة من أشراط الساعة، وبريق البصر تحيره في إبصاره ودهشته، وخسوف القمر زوال نوره. قوله تعالى: " يقول الانسان يومئذ أين المفر " أي أين موضع الفرار، وقوله: " أين المفر " مع ظهور السلطنة الالهية له وعلمه بأن لا مفر ولا فرار يومئذ من باب ظهور ملكاته يومئذ فقد كان في الدنيا يسأل عن المفر إذا وقع في شدة أو هددته مهلكة وذلك كإنكارهم الشرك يومئذ وحلفهم كذبا قال تعالى: " ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين " الانعام: 23، وقال: " يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم " المجادلة: 18. قوله تعالى: " كلا لا وزر " ردع عن طلبهم المفر، والوزر الملجأ من جبل أو حصن أو غيرهما، وهو من كلامه تعالى لا من تمام كلام الانسان. قوله تعالى: " إلى ربك يومئذ المستقر " الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتقديم " إلى ربك " وهو متعلق بقوله: " المستقر " يفيد الحصر فلا مستقر إلى غيره فلا وزر ولا ملجأ يلتجأ إليه فيمنع عنه.

[ 106 ]

وذلك أن الانسان سائر إليه تعالى كما قال: " يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " الانشقاق: 6 وقال: " إن إلى ربك الرجعى " العلق: 8 وقال: " وأن إلى ربك المنتهى " النجم: 42 فهو ملاقي ربه راجع ومنته إليه لا حاجب يحجبه عنه ولا مانع يمنعه منه واما الحجاب الذي يشير إليه قوله: " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " المطففين: 15 فسياق الآيتين يعطي ان المراد به حجاب الحرمان من الكرامة لا حجاب الجهل أو الغيبة. ويمكن ان يكون المراد بكون مستقره إليه رجوع امر ما يستقر فيه من سعادة أو شقاوة وجنة أو نار إلى مشيته تعالى فمن شاء جعله في الجنة وهم المتقون ومن شاء جعله في النار وهم المجرمون قال تعالى: " يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء " المائدة: 40. ويمكن ان يراد به ان استقرارهم يومئذ إلى حكمه تعالى فهو النافذ فيهم لا غير قال تعالى: " كل شئ هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون " القصص: 88. قوله تعالى: " ينبؤ الانسان يومئذ بما قدم واخر " المراد بما قدم واخر ما عمله من حسنة أو سيئة في أول عمره وآخره أو ما قدمه على موته من حسنة أو سيئة وما اخر من سنة حسنة سنها أو سنة سيئة فيثاب بالحسنات ويعاقب على السيئات. وقيل: المراد بما قدم ما عمله من حسنة أو سيئة فيثاب على الاول ويعاقب على الثاني، وبما أخر ما تركه من حسنة أو سيئة فيعاقب على الاول ويثاب على الثاني، وقيل، المراد ما قدم من المعاصي وما أخر من الطاعات، وقيل، ما قدم من طاعة الله واخر من حقه فضيعه، وقيل: ما قدم من ماله لنفسه وما ترك لورثته وهي وجوه ضعيفة بعيدة عن الفهم. قوله تعالى: " بل الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره " إضراب عن قوله، ينبؤا الانسان " الخ، والبصيرة رؤية القلب والادراك الباطني وإطلاقها على الانسان من باب زيد عدل أو التقدير الانسان ذو بصيرة على نفسه. وقيل: المراد بالبصيرة الحجة كما في قوله تعالى، " ما انزل هؤلاء إلا رب السموات والارض بصائر " اسرى، 102 والانسان نفسه حجة على نفسه يومئذ حيث يسأل عن سمعه وبصره وفؤاده ويشهد عليه سمعه وبصره وجلده ويتكلم يداه ورجلاه، قال تعالى:

[ 107 ]

" إن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤلا " اسرى 36، وقال " شهد عليهم سمعهم وابصارهم وجلودهم " حم السجدة، 20. وقال، " وتكلمنا ايديهم وتشهد ارجلهم " يس: 65. وقوله: " ولو القى معاذيره " المعاذير جمع معذرة وهي ذكر موانع تقطع عن الفعل المطلوب، والمعنى هو ذو بصيرة على نفسه ولو جادل عن نفسه واعتذر بالمعاذير لصرف العذاب عنها. وقيل: المعاذير جمع مذار وهو الستر، والمعنى وإن أرخى الستور ليخفى ما عمل فإن نفسه شاهدة عليه ومآل الوجهين واحد. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " ولا أقسم بالنفس اللوامة " قال: نفس آدم التي عصت فلامها الله عزوجل. أقول: وفي انطباقها على الآية خفاء. وفيه في قوله: " بل يريد الانسان ليفجر أمامه " قال: يقدم الذنب ويؤخر التوبة ويقول: سوف أتوب. وفيه في قوله: " فإذا برق البصر " قال: يبرق البصر فلا يقدر أن يطرف. وفيه في قوله تعالى: " بل الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره " قال: يعلم ما صنع وإن اعتذر. وفي الكافي باسناده عن عمر بن يزيد قال: إني لاتعشى مع ابي عبد الله عليه السلام وتلا هذه الآية " بل الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره، ثم قال: يا ابا حفص ما يصنع الانسان ان يعتذر إلى الناس بخلاف ما يعلم الله منه ؟ إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: من اسر سريرة البسه الله رداها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وفي المجمع وروي العياشي باسناده عن محمد بن مسلم عن ابي عبد الله عليه السلام قال: ما يصنع احدكم ان يظهر حسنا ويستر سيئا ؟ اليس إذا رجع إلى نفسه يعلم انه

[ 108 ]

ليس كذلك ؟ والله سبحانه يقول: " بل الانسان على نفسه بصيرة " إن السريرة إذا صلحت قويت العلانية. أقول: ورواه في اصول الكافي باسناده عن فضل ابي العباس عنه عليه السلام. وفيه عن العياشي عن زرارة قال، سألت ابا عبد الله عليه السلام ما حد المرض الذي يفطر صاحبه ؟ قال، " بل الانسان على نفسه بصيرة " هو اعلم بما يطيق. أقول: ورواه في الفقيه ايضا. لا تحرك به لسانك لتعجل به - 16. ان علينا جمعه وقرآنه - 17. فإذا قرأناه فاتبع قرآنه - 18. ثم ان علينا بيانه - 19. كلا بل تحبون العاجلة - 20. وتذرون الآخرة - 21. وجوه يومئذ ناضرة - 22. إلى ربها ناظرة - 23. ووجوه يومئذ باسرة - 24. تظن أن يفعل بها فاقرة - 25. كلا إذا بلغت التراقي - 26. وقيل من راق - 27. وظن أنه الفراق - 28. والتفت الساق بالساق - 29. إلى ربك يومئذ المساق - 30. فلا صدق ولا صلى - 31. ولكن كذب وتولى - 32. ثم ذهب إلى أهله يتمطى - 33. أولى لك فأولى - 34. ثم أولى لك فأولى - 35. أيحسب الانسان أن يترك سدى - 36. ألم يك نطفة من مني يمنى - 37. ثم كان علقة فخلق فسوى - 38. فجعل منه الزوجين الذكر والانثى - 39. أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى - 40.

[ 109 ]

(بيان) تتمة صفة يوم القيامة باعتبار حال الناس فيه وانقسامهم إلى طائفة ناضرة الوجوه مبتهجين واخرى باسرة الوجوه عابسين آيسين من النجاة، والاشارة إلى ان هذا المساق تبتدئ من حين نزول الموت ثم الاشارة إلى ان الانسان لا يترك سدى فالذي خلقه أولا قادر على أن يحييه ثانيا وبه تختتم السورة. قوله تعالى: " لا تحرك به لسانك لتعجل به - إلى قوله - ثم إن علينا بيانه " الذي يعطيه سياق الآيات الاربع بما يحفها من الآيات المتقدمة والمتأخرة الواصفة ليوم القيامة أنها معترضة متضمن أدبا إلهيا كلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتأدب به حينما يتلقى ما يوحى إليه من القرآن الكريم فلا يبادر إلى قراءة ما لم يقرء بعد ولا يحرك به لسانه وينصت حتى يتم الوحي. فالآيات الاربع في معنى قوله تعالى: " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه " طه: 114. فالكلام في هذه الآيات يجري مجرى قول المتكلم منا أثناء حديثه لمخاطبة إذا بادر إلى تتميم بعض كلام المتكلم باللفظة واللفظتين قبل أن يلفظ بها المتكلم وذلك يشغله عن التجرد للانصات فيقطع المتكلم حديثه ويعترض ويقول لا تعجل بكلامي وأنصت لتفقه ما أقول لك ثم يمضى في حديثه. فقوله: " لا تحرك به لسانك لتعجل به " الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والضميران للقرآن الذي يوحى إليه أو للوحي. والمعنى لا تحرك بالوحي لسانك لتأخذه عاجلا فتسبقنا إلى قراءة ما لم نقرا بعد فهو كما مر في معنى قوله: " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه " طه: 114. وقوله: " إن علينا جمعه وقرآنه " القرآن ههنا مصدر كالفرقان والرجحان، والضميران للوحي، والمعنى لا تعجل به إذ علينا أن نجمع ما نوحيه إليك بضم بعض أجزائه إلى بعض وقراءته عليك فلا يفوتنا شئ منه حتى يحتاج إلى أن تسبقنا إلى قراءة ما لم نوحه بعد.

[ 110 ]

وقيل: المعنى إن علينا أن نجمعه في صدرك بحيث لا يذهب عليك شئ من معانيه وان نثبت قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت ولا يخلو من بعد. وقوله: " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " أي فإذا اتممنا قراءته عليك وحيا فاتبع قراءتنا له واقرء بعد تمامها. وقيل: المراد باتباع قرآنه اتباعه ذهنا بالانصات والتوجه التام إليه وهو معنى لا بأس به. وقيل: المراد فاتبع في الاوامر والنواهي قرآنه، وقيل: المراد اتباع قراءته بالتكرار حتى يرسخ في الذهن وهما معنيان بعيدان. وقوله: " ثم إن علينا بيانه " اي علينا ايضاحه عليك بعد ما كان علينا جمعه وقرآنه فثم للتأخير الرتبي لان البيان مترتب على الجمع والقراءة رتبة. وقيل، المعنى ثم إن علينا بيانه للناس بلسانك نحفظه في ذهنك عن التغير والزوال حتى تقرأه على الناس. وقال بعضهم في معنى هذه الآيات إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحرك لسانه عند الوحي بما ألقي إليه من القرآن مخافة أن ينساه فنهي عن ذلك بالآيات وأمر بالانصات حتى يتم الوحي فضمير " لا تحرك به " للقرآن أو الوحي باعتبار ما قرء عليه منه لا باعتبار ما لم يقرء بعد. وفيه أنه لا يلائم سياق الآيات، تلك الملاءمة نظرا إلى ما فيها من النهي عن العجل والامر باتباع قرآنه تعالى بعد ما قرء، وكذا قوله، " إن علينا جمعه وقرآنه " فذلك كله أظهر فيما تقدم منها في هذا المعنى. وعن بعضهم في معنى هذه الآيات، الذي اختاره انه لم يرد القرآن، وانما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة يدل على ذلك ما قبله وما بعده، وليس فيه شئ يدل على أنه القرآن ولا شئ من احكام الدنيا. وفي ذلك تقريع وتوبيخ له حين لا تنفعه العجلة يقول: لا تحرك لسانك بما تقرأه من صحيفتك التي فيها أعمالك يعني اقرأ كتابك ولا تعجل فإن هذا الذي هو على نفسه بصيرة إذا رأى سيئاته ضجر واستعجل فيقال له توبيخا: لا تعجل وتثبت لتعلم الحجة عليك

[ 111 ]

فإنا نجمعها لك فإذا جمعناه فاتبع ما جمع عليك بالانقياد لحكمه والاستسلام للتبعة فيه فإنه لا يمكنك إنكاره ثم إن علينا بيانه لو انكرت. انتهى. ويدفعه أن المعترضة لا تحتاج في تمام معناها إلى دلالة مما قبلها وما بعدها عليه على أن مشاكلة قوله: " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى اليك وحيه " في سياقه لهذه الآيات تؤيد مشاكلتها له في المعنى. وعن بعضهم أن الآيات الاربع متصلة بما تقدم من حديث يوم القيامة، وخطاب " لا تحرك " للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وضمير " به " ليوم القيامة، والمعنى لا تتفوه بالسؤال عن وقت القيامة أصلا ولو كنت غير مكذب ولا مستهزئ " لتعجل به " أي بالعلم به " إن علينا جمعه وقرآنه " أي من الواجب في الحكمة أن نجمع من نجمعه فيه ونوحي شرح وصفه اليك في القرآن " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " أي إذا قرأنا ما يتعلق به فاتبع ذلك بالعمل بما يقتضيه من الاستعداد له " ثم إن علينا بيانه " أي إظهار ذلك بالنفخ في الصور انتهى ملخصا وهو كما ترى. وقد تقدم في تفسير قوله: " ولا تعجل بالقرآن " أن هذا النهي عن العجل بالقرآن يؤيد ما ورد في الروايات أن للقرآن نزولا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم دفعة غير نزوله تدريجا. قوله تعالى: " كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة " خطاب للناس وليس من تعميم الخطاب السابق في شئ لان خطاب " لا تحرك " اعتراضي غير مرتبط بشئ من طرفيه. وقوله: " كلا " ردع عن قوله السابق: " يحسب الانسان أن لن نجمع عظامه " وقوله: " بل تحبون العاجلة " - أي الحياة العاجلة وهي الحياة الدنيا - " وتذرون الآخرة " أي تتركون الحياة الآخرة، وما في الكلام من الاضراب إضراب عن حسبان عدم الاحياء بعد الموت نظير الاضراب في قوله: " بل يريد الانسان ليفجر أمامه ". قوله تعالى: " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " وصف ليوم القيامة بانقسام الوجوه فيه إلى قسمين: ناضرة وباسرة، ونضرة الوجه واللون والشجر ونحوها ونضارتها حسنها وبهجتها. والمعنى: نظرا إلى ما يقابله من قوله: " ووجوه يومئذ باسرة " الخ وجوه يوم إذ تقوم القيامة حسنة متهللة ظاهرة المسرة والبشاشة قال تعالى: " تعرف في وجوههم نضرة

[ 112 ]

النعيم " المطففين: 24، وقال: " ولقاهم نضرة وسرورا " الدهر: 11. وقوله: " إلى ربها ناظرة " خبر بعد خبر لوجوه، و " إلى ربها " متعلق بناظرة قدم عليها لافادة الحصر أو الاهمية. والمراد بالنظر إليه تعالى ليس هو النظر الحسي المتعلق بالعين الجسمانية المادية التي قامت البراهين القاطعة على استحالته في حقه تعالى بل المراد النظر القلبي ورؤية القلب بحقيقة الايمان على ما يسوق إليه البرهان ويدل عليه الاخبار المأثورة عن أهل العصمة عليهم السلام وقد أوردنا شطرا منها في ذيل تفسير قوله تعالى: " قال رب أرني أنظر اليك " الاعراف: 143، وقوله تعالى: " ما كذب الفؤاد ما رأى " النجم: 11. فهؤلاء قلوبهم متوجهة إلى ربهم لا يشغلهم عنه سبحانه شاغل من الاسباب لتقطع الاسباب يومئذ، ولا يقفون موقفا من مواقف اليوم ولا يقطعون مرحلة من مراحله إلا والرحمة الالهية شاملة لهم " وهم من فزع يومئذ آمنون " النمل: 89 ولا يشهدون مشهدا من مشاهد الجنة ولا يتنعمون بشئ من نعيمها إلا وهم يشاهدون ربهم به لانهم لا ينظرون إلى شئ ولا يرون شيئا إلا من حيث إنه آية لله سبحانه والنظر إلى الآية من حيث إنها آية ورؤيتها نظر إلى ذي الآية ورؤية له. ومن هنا يظهر الجواب عما اورد على القول بأن تقديم " إلى ربها " على " ناظرة " يفيد الحصر والاختصاص، أن من الضروري أنهم ينظرون إلى غيره تعالى كنعم الجنة. والجواب أنهم لما لم يحجبوا عن ربهم كان نظرهم إلى كل ما ينظرون إليه انما هو بما أنه آية، والآية بما أنها آية لا تحجب ذا الآية ولا تحول بينه وبين الناظر إليه فالنظر إلى الآية نظر إلى ذي الآية فهؤلاء لا ينظرون في الحقيقة إلا إلى ربهم. وأما ما أجيب به عنه أن تقديم " إلى ربها " لرعاية الفواصل ولو سلم أنه للاختصاص فالنظر إلى غيره في جنب النظر إليه لا يعد نظرا، ولو سلم فالنظر إليه تعالى في بعض الاحوال لا في جميعها. فلا يخلو من تكلف التقييد من غير مقيد على أنه أسند النظر إلى الوجوه لا إلى العيون أو الابصار ووجوه أهل الجنة إلى ربهم دائما من غير أن يواجهوا بها غيره. قوله تعالى: " ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة " فسر البسور بشدة

[ 113 ]

العبوس والظن بالعلم و " فاقرة " صفة محذوفة الموصوف أي فعلة فاقرة، والفاقرة من فقره إذا أصاب فقار ظهره، وقيل: من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار. والمعنى: ووجوه يومئذ شديدة العبوس تعلم أنه يفعل بها فعلة تقصم ظهورها أو تسم انوفها بالنار، واحتمل أن يكون تظن خطابا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بما أنه سامع والظن بمعناه المعروف. قوله تعالى: " كلا إذا بلغت التراقي " ردع عن حبهم العاجلة وإيثارها على الآخرة كأنه قيل: ارتدعوا عن ذلك فليس يدوم عليكم وسينزل عليكم الموت فتساقون إلى ربكم وفاعل " بلغت " محذوف يدل عليه السياق كما في قوله تعالى: " فلولا إذا بلغت الحلقوم " الواقعة: 83 والتقدير إذا بلغت النفس التراقي. والتراقي العظام المكتنفة للنحر عن يمين وشمال جمع ترقوة، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " وقيل من راق " اسم فاعل من الرقى أي قال من حضره من اهله واصدقائه من يرقيه ويشفيه ؟ كلمة يأس، وقيل: المعنى قال بعض الملائكة لبعض: من يرقي بروحه من الملائكة أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب ؟ قوله تعالى: " وظن انه الفراق " اي وعلم الانسان المحتضر من مشاهدة هذه الاحوال انه مفارقته للعاجلة التي كان يحبها ويؤثرها على الآخرة. قوله تعالى: " والتفت الساق بالساق " ظاهره ان المراد به التفاف ساق المحتضر بساقه ببطلان الحياة السارية في اطراف البدن عند بلوغ الروح التراقي. وقيل: المراد به التفاف شدة امر الآخرة بأمر الدنيا، وقيل: التفاف حال الموت بحال الحياة، وقيل: التفاف ساق الدنيا وهي شدة كرب الموت بساق الاخرة وهي شدة هول المطلع. ولا دليل من جهة اللفظ على شئ من هذه المعاني نعم من الممكن ان يقال: ان المراد بالتفاف الساق بالساق غشيان الشدائد وتعاقبها عليه واحدة بعد اخرى من حينه ذلك إلى يوم القيامة فينطبق على كل من المعاني. قوله تعالى: " إلى ربك يومئذ المساق " المساق مصدر ميمي بمعنى السوق، والمراد بكون السوق يومئذ إليه تعالى انه الرجوع إليه، وعبر بالمساق للاشارة إلى ان لا خيرة للانسان في هذا المسير ولا مناص له عنه فهو مسوق مسير من يوم موته وهو قوله، " إلى ربك يومئذ المساق " حتى يرد على ربه يوم القيامة وهو قوله: " إلى ربك يومئذ المستقر "

[ 114 ]

ولو كان تقديم " إلى ربك " لافادة الحصر افاد انحصار الغاية في الرجوع إليه تعالى. وقيل: الكلام على تقدير مضاف وتقديم " إلى ربك " لافادة الحصر والتقدير إلى حكم ربك يومئذ المساق اي يساق ليحكم الله ويقضي فيه بحكمه، أو التقدير إلى موعد ربك وهو الجنة والنار، وقيل: المراد برجوع المساق إليه تعالى انه تعالى هو السائق لا غير، والوجه ما تقدم. قوله تعالى: " فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى اهله يتمطى " الضمائر راجعة إلى الانسان المذكور في قوله: " أيحسب الانسان " الخ، والمراد بالتصديق المنفي تصديق الدعوة الحقة التي يتضمنها القرآن الكريم، وبالتصلية المنفية التوجه العبادي إليه تعالى بالصلاة التي هي عمود الدين. والتمطي - على ما في المجمع - تمدد البدن من الكسل واصله أن يلوي مطاه اي ظهره، والمراد بتمطيه في ذهابه التبختر والاختيال استعارة. والمعنى: فلم يصدق هذا الانسان الدعوة فيما فيها من الاعتقاد ولم يصل لربه أي لم يتبعها فيما فيها من الفروع وركنها الصلاة ولكن كذب بها وتولى عنها ثم ذهب إلى أهله يتبختر ويختال مستكبرا. قوله تعالى: " أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى " لا ريب أنه كلمة تهديد كررت لتأكيد التهديد، ولا يبعد - والله أعلم - أن يكون قوله: " أولى لك " خبرا لمبتدء محذوف هو ضمير عائد إلى ما ذكر من حال هذا الانسان وهو أنه لم يصدق ولم يصل ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله متبخترا مختالا، وإثبات ما هو فيه من الحال له كناية عن إثبات ما هو لازمه من التبعة والعقاب. فيكون الكلام وهي كلمة ملقاة من الله تعالى إلى هذا الانسان كلمة طبع طبع الله بها على قلبه حرم بها الايمان والتقوى وكتب عليه أنه من أصحاب النار، والآيتان تشبهان بوجه قوله تعالى: " فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم " سورة محمد: " 20. والمعنى: ما أنت عليه من الحال أولى وأرجح لك فأولى ثم أولى لك فأولى لتذوق وبال أمرك ويأخذك ما أعد لك من العذاب. وقيل: اولى لك اسم فعل مبني ومعناه وليك شر بعد شر. وقيل: أولى فعل ماض دعائي من الولي بمعنى القرب وفاعل الفعل ضمير مستتر عائد إلى الهلاك واللام مزيدة والمعنى أولاك الهلاك.

[ 115 ]

وقيل: الفاعل ضمير مستتر راجع إليه تعالى واللام مزيدة، والمعنى أولاك الله ما تكرهه، أو غير مزيدة والمعنى أدناك الله مما تكرهه. وقيل: معناه الذم أولى لك من تركه إلا أنه حذف وكثر في الكلام حتى صار بمنزلة الويل لك وصار من المحذوف الذي لا يجوز إظهاره. وقيل: المعنى أهلكك الله هلاكا أقرب لك من كل شر وهلاك. وقيل: أولى أفعل تفضيل بمعنى الاحرى، وخبر لمبتدء محذوف يقدر كما يليق بمقامه فالتقدير هنا النار أولى لك أي أنت أحق بها وأهل لها فأولى. وهي وجوه ضعيفة لا تخلو من تكلف والوجه الاخير قريب مما قدمنا وليس به. قوله تعالى: " أيحسب الانسان ان يترك سدى " مختتم فيه رجوع إلى ما في مفتتح السورة من قوله: " أيحسب الانسان أن لن نجمع عظامه ". والاستفهام للتوبيخ، والسدى المهمل، والمعنى أيظن الانسان ان يترك مهملا لا يعتنى به فلا يبعث بإحيائه بعد الموت ولازمه ان لا يكلف ولا يجزى. قوله تعالى: " ألم يك نطفة من مني يمنى " اسم كان ضمير راجع إلى الانسان، وإمناء المني صبه في الرحم. قوله تعالى: " ثم كان علقة فخلق فسوى " أي ثم كان الانسان - أو المني - قطعة من دم منعقد فقدره فصوره بالتعديل والتكميل. قوله تعالى: " فجعل منه الزوجين الذكر والانثى " أي فجعل من الانسان الصنفين: الذكر والانثى. قوله تعالى: " أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى " احتجاج على البعث الذي ينكرونه استبعادا له بعموم القدرة وثبوتها على الخلق الابتدائي والاعادة لا تزيد على الابتداء مؤنة بل هي أهون، وقد تقدم الكلام في تقريب هذه الحجة في تفسير الآيات المتعرضة لها مرارا. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج الطيالسي وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الانباري في المصاحف والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معا في الدلائل عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج

[ 116 ]

من التنزيل شدة، وكان يحرك به لسانه وشفتيه مخافة أن ينفلت منه يريد أن يحفظه فأنزل الله " لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه " قال: إن علينا أن نجمعه في صدرك ثم نقرأه " فإذا قرأناه " يقول: إذا أنزلناه عليك " فاتبع قرآنه " فاستمع له وانصت " ثم إن علينا بيانه " بينه [ نبينه ظ ] بلسانك، وفي لفظ علينا أن نقرأه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل أطرق - وفي لفظ استمع - فإذا ذهب قرء كما وعده الله. وفيه أخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه القرآن تعجل بقراءته ليحفظه فنزلت هذه الآية " لا تحرك به لسانك ". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم ختم سورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم. أقول: وروى ما في معنى صدر الحديث في المجمع عن ابن جبير وفي معناه غير واحد من الروايات، وقد تقدم أن في انطباق هذا المعنى على الآيات خفاء. وفي تفسير القمي قوله تعالى: " كلا بل تحبون العاجلة " قال: الدنيا الحاضرة " وتذرون الآخرة " قال: تدعون " وجوه يومئذ ناضرة " أي مشرقة " إلى ربها ناظرة " قال: ينظرون إلى وجه الله أي رحمة الله ونعمته. وفي العيون في باب ما جاء عن الرضا عليه السلام من أخبار التوحيد باسناده إلى ابراهيم بن أبي محمود قال: قال علي بن موسى الرضا عليه السلام في قوله تعالى: " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " يعني مشرقة تنتظر ثواب ربها. أقول: ورواه في التوحيد والاحتجاج والمجمع عن علي عليه السلام، وقد اعترض على أخذ ناظرة بمعنى منتظرة بأن الانتظار لا يتعدى بالى بل هو متعد بنفسه، ورد عليه في مجمع البيان بالاستشهاد بقول جميل بن معمر: وإذا نظرت إليك من ملك * والبحر دونك جدتنى نعما وقول الآخر: إنى إليك لما وعدت لناظر * نظر الفقير إلى الغني الموسر وعد في الكشاف إطلاق النظر في الآية بمعنى الانتظار استعمالا كنائيا وهو معنى حسن.

[ 117 ]

وفي الدر المنثور أخرج ابن ابي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر والآجري في الشريعة والدارقطني في الرؤية والحاكم وابن مردويه واللالكائي في السنة والبيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أدنى أهل الجنة منزلا لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وجوه يومئذ ناضرة " قال: البياض والصفاه " إلى ربها ناظرة " قال: ينظر كل يوم في وجهه. أقول: الرواية تقبل الانطباق على المعنى الذي أوردناه في تفسير الآية، ومع الغض عنه تقبل الحمل على رحمته وفضله وكرمه تعالى وسائر صفاته الفعلية فإن وجه الشئ ما يستقبل به الشئ غيره وما يستقبل به الله سبحانه خلقه هو صفاته الكريمي فالنظر إلى رحمة الله وفضله وكرمه وصفاته الكريمة نظر إلى وجه الله الكريم. وفيه أخرج ابن مردويه عن انس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله: " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " قال: ينظرون إلى ربهم بلا كيفية ولا حد محدود ولا صفة معلومة. أقول: والرواية تؤيد ما قدمنا في تفسير الآية أن المراد به النظر القلبي ورؤية القلب دون العين الحسية، وهي تفسر ما ورد في عدة روايات من طرق أهل السنة مما ظاهره التشبيه وأن الرؤية بالعين الحسية التي لا تفارق المحدودية. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " كلا إذا بلغت التراقي " قال: يعني النفس إذا بلغت الترقوة " وقيل من راق " قال: يقال له: من يرقيك " وظن أنه الفراق " علم أنه الفراق وفي الكافي بإسناده إلى جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن قول الله عزوجل " وقيل من راق وظن أنه الفراق " قال: فان ذلك ابن آدم إذا حل به الموت قال: هل من طبيب " وظن أنه الفراق " أيقن بمفارقة الاحبة " والتفت الساق بالساق " قال: التفت الدنيا بالآخرة " إلى ربك يومئذ المساق " قال: المسير إلى رب العالمين. وفي تفسير القمي " والتفت الساق بالساق " قال: التفت الدنيا بالآخرة " إلى ربك يومئذ المساق " قال: يساقون إلى الله.

[ 118 ]

وفي العيون باسناده عن عبد العظيم الحسني قال، سألت محمد بن علي الرضا عليه السلام عن قول الله عزوجل، " أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى " قال: يقول الله عزوجل بعدا لك من خير الدنيا وبعدا لك من خير الآخرة. أقول: يمكن إرجاعه إلى ما قدمناه من معنى الآيتين، وكذا إلى بعض ما قيل فيه. وفي المجمع وجاءت الرواية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد أبي جهل ثم قال له: أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى. فقال أبو جهل: بأي شئ تهددني لا تستطيع انت وربك أن تفعلا بى شيئا، وإني لاعز اهل هذا الوادي، فأنزل الله سبحانه كما قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أقول: وروى ما في معناه في الدر المنثور عن عدة عن قتادة قال: ذكر لنا وساق الحديث. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " أيحسب الانسان أن يترك سدى " قال: لا يحاسب ولا يعذب ولا يسأل عن شئ. وفي العلل بإسناده إلى مسعده بن زياد قال: قال رجل لجعفر بن محمد عليه السلام، يا أبا عبد الله إنا خلقنا للعجب قال: وما ذلك لله انت ؟ قال: خلقنا للفناء فقال يابن أخ خلقنا للبقاء، وكيف يفنى جنة لا تبيد ونار لا تخمد ؟ ولكن قل: إنما نتحول من دار إلى دار. وفي المجمع وجاء في الحديث عن البراء عن عازب قال: لما نزلت هذه الآية " أليس ذلك بقادر على ان يحيي الموتى " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سبحانك اللهم وبلى وروي ذلك عن ابي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام. أقول: وروى في الدر المنثور عن ابي هريرة وغيره انه صلى الله عليه وسلم إذا قرء الآية قال: سبحانك اللهم وبلى، وكذا في العيون عن الرضا عليه السلام انه كان إذا قرء السورة قال عند الفراغ سبحانك اللهم بلى.

[ 119 ]

(سورة الدهر مدنية وهي إحدى وثلاثون آية) بسم الله الرحمن الرحيم هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا - 1. إنا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا - 2. إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا - 3. إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا - 4. إن الابرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا - 5. عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا - 6. يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا - 7. ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا - 8. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا - 9. إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا - 10. فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا - 11. وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا - 12. متكئين فيها على الارائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا - 13. ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا - 14. ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا - 15. قوارير من فضة قدروها تقديرا - 16. ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا - 17. عينا فيها تسمى سلسبيلا - 18. ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا - 19. وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا - 20.

[ 120 ]

عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا - 21. إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا - 22. (بيان) تذكر السورة خلق الانسان بعد ما لم يكن شيئا مذكورا ثم هدايته السبيل إما شاكرا وإما كفورا وأن الله إعتد للكافرين أنواع العذاب وللابرار ألوان النعم - وقد فصل القول في وصف نعيمهم في ثمان عشرة آية وهو الدليل على أنه المقصود بالبيان -. ثم تذكر مخاطبا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن القرآن تنزيل منه تعالى عليه وتذكرة فليصبر لحكم ربه ولا يتبع الناس في أهوائهم وليذكر اسم ربه بكرة وعشيا وليسجد له من الليل وليسبحه ليلا طويلا. والسورة مدنية بتمامها أو صدرها - وهي اثنتان وعشرون آية من أولها - مدني، وذيلها - وهي تسع آيات من آخرها - مكي وقد أطبقت روايات أهل البيت عليهم السلام على كونها مدنية، واستفاضت بذلك روايات أهل السنة. وقيل بكونها مكية بتمامها، وسيوافيك تفصيل القول في ذلك في البحث الروائي التالي ان شاء الله تعالى. قوله تعالى. " هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا " الاستفهام للتقرير فيفيد ثبوت معنى الجملة وتحققه أي قد أتى على الانسان " الخ " ولعل هذا مراد من قال من قدماء المفسرين: إن " هل " في الآية بمعنى قد، لا على أن ذلك أحد معاني " هل " كما ذكره بعضهم. والمراد بالانسان الجنس. وأما قول بعضهم: إن المراد به آدم عليه السلام فلا يلائمه قوله في الآية التالية: " إنا خلقنا الانسان من نطفة ". والحين قطعة من الزمان محدودة قصيرة كانت أو طويلة، والدهر الزمان الممتد من دون تحديد ببداية أو نهاية. وقوله: " شيئا مذكورا " أي شيئا يذكر باسمه في المذكورات أي كان يذكر مثلا الارض والسماء والبر والبحر وغير ذلك ولا يذكر الانسان لانه لم يوجد بعد حتى وجد

[ 121 ]

فقيل: الانسان فكونه مذكورا كناية عن كونه موجودا بالفعل فالنفي في قوله: " لم يكن شيئا مذكورا متوجه إلى كونه شيئا مذكورا لا إلى أصل كونه شيئا فقد كان شيئا ولم يكن شيئا مذكورا ويؤيده قوله: " إنا خلقنا الانسان من نطفة " الخ فقد كان موجودا بمادته ولم يتكون بعد إنسانا بالفعل والآية وما يتلوها من الآيات واقعة في سياق الاحتجاج يبين بها أن الانسان حادث يحتاج في وجوده إلى صانع يصنعه وخالق يخلقه، وقد خلقه ربه وجهزه التدبير الربوبي بأدوات الشعور من السمع والبصر يهتدي بها إلى السبيل الحق الذي من الواجب أن يسلكه مدى حياته فان كفر فمصيره إلى عذاب أليم وان شكر فالى نعيم مقيم. والمعنى هل أتى - قد أتى - على الانسان قطعة محدودة من هذا الزمان الممتد - غير المحدود والحال أنه لم يكن موجودا بالفعل مذكورا في عداد المذكورات. قوله تعالى: " انا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا " النطفة في الاصل بمعنى الماء القليل غلب استعماله في ماء الذكور من الحيوان الذي يتكون منه مثله، وأمشاج جمع مشيج أو المشج بفتحتين أو بفتح فكسر بمعنى المختلط الممتزج، ووصفت بها النطفة باعتبار اجزائها المختلفة أو اختلاط ماء الذكور والاناث. والابتلاء نقل الشئ من حال إلى حال ومن طور إلى طور كابتلاء الذهب في البوتقة، وابتلاؤه تعالى الانسان في خلقه من النطفة هو ما ذكره في مواضع من كلامه انه يخلق النطفة فيجعلها علقة والعلقة مضغة إلى آخر الاطوار التي تتعاقبها حتى ينشئه خلقا آخر. وقيل: المراد بابتلائه إمتحانه بالتكليف، ويدفعه تفريع قوله: " فجعلناه سميعا بصيرا " على الابتلاء ولو كان المراد به التكليف كان من الواجب تفريعه على جعله سميعا بصيرا لا بالعكس، والجواب عنه بأن في الكلام تقديما وتأخيرا والتقدير إنا خلقناه من نطفة أمشاج فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه، لا يصغى إليه. وقوله: " فجعلناه سميعا بصيرا " سياق الآيات وخاصة قوله: " إنا هديناه السبيل " الخ يفيد أن ذكر جعله سميعا بصيرا للتوسل به في التدبير الربوبي إلى غايته وهي أن يرى آيات الله الدالة على المبدإ والمعاد ويسمع كلمة الحق التي تأتيه من جانب ربه بإرسال الرسل وإنزال الكتب فيدعوه البصر والسمع إلى سلوك سبيل الحق والسير في مسير الحياة بالايمان والعمل الصالح فإن لزم السبيل الذي هدي إليه أداه إلى نعيم الابد وإلا فإلى عذاب مخلد.

[ 122 ]

وذكر الانسان في الآية من وضع الظاهر موضع الضمير والنكتة فيه تسجيل أنه تعالى هو خالقه ومدبر أمره. والمعنى: إنا خلقنا الانسان من نطفة هي أجزاء مختلطة ممتزجة والحال أنا ننقله من حال إلى حال ومن طور إلى طور فجعلناه سميعا بصيرا ليسمع ما يأتيه من الدعوة الالهية، ويبصر الآيات الالهية الدالة على وحدانيته تعالى والنبوة والمعاد. قوله تعالى: " إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا " الهداية بمعنى إراءة الطريق دون الايصال إلى المطلوب والمراد بالسبيل السبيل بحقيقة معنى الكلمة وهو المؤدي إلى الغاية المطلوبة وهو سبيل الحق. والشكر استعمال النعمة بإظهار كونها من منعمها وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: " وسيجزي الله الشاكرين " آل عمران: 144 أن حقيقة كون العبد شاكرا لله كونه مخلصا لربه، والكفران استعمالها مع ستر كونها من المنعم. وقوله: " إما شاكرا وإما كفورا " حالان من ضمير " هديناه " لا من " السبيل " كما قاله بعضهم، و " إما " يفيد التقسيم والتنويع أي إنا هديناه السبيل حالكونه منقسما إلى الشاكر والكفور أي إنه مهدي سواء كان كذا أو كذلك. والتعبير بقوله: " إما شاكرا وإما كفورا " هو الدليل أولا: على أن المراد بالسبيل السنة والطريقة التي يجب على الانسان أن يسلكها في حياته الدنيا لتوصله إلى سعادته في الدنيا والآخرة وتسوقه إلى كرامة القرب والزلفى من ربه ومحصله الدين الحق وهو عند الله الاسلام. وبه يظهر أن تفسير بعضهم السبيل بسبيل الخروج من الرحم غير سديد. وثانيا: أن السبيل المهدي إليه سبيل اختياري وأن الشكر والكفر اللذين يترتبان على الهداية المذكورة واقعان في مستقر الاختيار للانسان أن يتلبس بأيهما شاء من غير اكراه واجبار كما قال تعالى: " ثم السبيل يسره " عبس: 20، وما في آخر السورة من قوله تعالى: " فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاؤن الا أن يشاء الله " انما يفيد تعلق مشيته تعالى بمشية العبد لا بفعل العبد الذي تعلقت به مشية العبد حتى يفيد نفي تأثير مشية العبد المتعلقة بفعله، وقد تقدمت الاشارة إلى هذا المعنى في هذا الكتاب مرارا.

[ 123 ]

والهداية التي هي نوع ايذان واعلام منه تعالى للانسان هداية فطرية هي تنبيه بسبب نوع خلقته وما جهز به وجوده بإلهام من الله سبحانه على حق الاعتقاد وصالح العمل قال تعالى: " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها " الشمس: 8 وأوسع مدلولا منه قوله تعالى: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " الروم: 30. وهداية قولية من طريق الدعوة يبعث الانبياء وارسال الرسل وانزال الكتب وتشريع الشرائع الالهية، ولم يزل التدبير الربوبي تدعم الحياة الانسانية بالدعوة الدينية القائم بها أنبياؤه ورسله، ويؤيد بذلك دعوة الفطرة كما قال: " انا أوحينا اليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده - إلى أن قال - رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " النساء: 165. ومن الفرق بين الهدايتين أن الهداية الفطرية عامة بالغة لا يستثني منها انسان لانها لازم الخلقة الانسانية وهي في الافراد بالسوية غير أنها ربما تضعف أو يلغو أثرها لعوامل وأسباب تشغل الانسان وتصرفه عن التوجه إلى ما يدعو إليه عقله ويهديه إليه فطرته أو ملكات وأحوال رديئة سيئة تمنعه عن اجابة نداء الفطرة كالعناد واللجاج وما يشبه ذلك قال تعالى: " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله " الجاثية: 23، والهداية المنفية في الآية بمعنى الايصال إلى المطلوب دون اراءة الطريق بدليل قوله: " وأضله الله على لم ". وأما الهداية القولية وهي التي تتضمنها الدعوة الدينية فان من شأنها أن تبلغ المجتمع فتكون في معرض من عقول الجماعة فيرجع إليها من آثر الحق على الباطل وأما بلوغها لكل واحد واحد منهم فإن العلل والاسباب التي يتوسل بها إلى بيان أمثال هذه المقاصد ربما لا تساعد على ذلك على ما في الظروف والازمنة والبيئات من الاختلاف وكيف يمكن لانسان أن يدعو كل انسان إلى ما يريد بنفسه أو بوسائط من نوعه ؟ فمن المتعذر ذلك جدا. والى المعنى الاول أشار تعالى بقوله: " وان من أمة الا خلى فيها نذير " فاطر: 24، والى الثاني بقوله: " لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون " يس: 6. فمن بلغته الدعوة وانكشف له الحق فقد تمت عليه الحجة ومن لم تبلغه الدعوة بلوغا ينكشف به الجق فقد أدركه الفضل الالهي بعده مستضعفا أمره إلى الله ان يشأ يغفر

[ 124 ]

له وان يشأ يعذبه قال تعالى: " الا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا " النساء: 98. ثم من الدليل على أن الدعوة الالهية وهي الهداية إلى السبيل حق يجب على الانسان أن يتبعها فطرة الانسان وخلقته المجهزة بما يهدي إليها من الاعتقاد والعمل، ووقوع الدعوة خارجا من طريق النبوة والرسالة فإن سعادة كل موجود وكماله في الآثار والاعمال التي تناسب ذاته وتلائمها بما جهزت به من القوى والادوات فسعادة الانسان وكماله في اتباع الدين الالهي الذي هو سنة الحياة الفطرية وقد حكم به العقل وجاءت به الانبياء والرسل عليهم السلام. قوله تعالى: " إنا اعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا " الاعتاد التهيئة، وسلاسل جمع سلسلة وهي القيد الذي يقاد به المجرم، وأغلال جمع غل بالضم قيل هي القيد الذي يجمع اليدين على العنق، وقال الراغب: فالغل مختص بما يقيد به فيجعل الاعضاء وسطه. انتهى والسعير النار المشتعلة، والمعنى ظاهر. والآية تشير إلى تبعة الانسان الكفور المذكور في قوله: " إما شاكرا وإما كفورا " وقدم بيان تبعته على بيان جزاء الانسان الشاكر لاختصار الكلام فيه. قوله تعالى: " إن الابرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا " الكأس إناء الشراب إذا كان فيه شراب، والمزاج ما يمزج به كالحزام لما يحزم به، والكافور معروف يضرب به المثل في البرودة وطيب الرائحة، وقيل: هو اسم عين في الجنة. والابرار جمع بر بفتح الباء صفة مشبهة من البر وهو الاحسان ويتحصل معناه في أن يحسن الانسان في عمله من غير أن يريد به نفعا يرجع إليه من جزاء أو شكور فهو يريد الخير لانه خير لا لان فيه نفعا يرجع إلى نفسه وإن كرهت نفسه ذلك فيصبر على مر مخالفة نفسه فيما يريده ويعمل العمل لانه خير في نفسه كالوفاء بالنذر أو لان فيه خيرا لغيره كاطعام الطعام للمستحقين من عباد الله. وإذ لا خير في عمل ولا صلاح إلا بالايمان بالله ورسوله واليوم الآخر كما قال تعالى: " أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم " الاحزاب: 19 إلى غير ذلك من الآيات. فالابرار مؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر، وإذ كان إيمانهم إيمان رشد وبصيرة فهم يرون أنفسهم عبيدا مملوكين لربهم، له خلقهم وأمرهم، لا يملكون لانفسهم نفعا ولاضرا

[ 125 ]

عليهم أن لا يريدوا إلا ما أراده ربهم ولا يفعلوا إلا ما يرتضيه فقدموا إرادته على ارادة أنفسهم وعملوا له فصبروا على مخالفة أنفسهم فيما تهواه وتحبه وكلفة الطاعة، وعملوا ما عملوه لوجه الله، فأخلصوا العبودية في مرحلة العمل لله سبحانه. وهذه الصفات هي التي عرف سبحانه الابرار بها كما يستفاد من قوله: " يشرب بها عباد الله " وقوله: " انما نطعمكم لوجه الله " وقوله: " وجزاهم بما صبروا " وهي المستفادة من قوله في صفتهم: " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله " الخ البقرة: 177 وقد مر بعض الكلام في معنى البر في تفسير الآية وسيأتي بعضه في قوله: " كلا ان كتاب الابرار لفي عليين " المطففين: 18. والآية أعني قوله: " ان الابرار يشربون " الخ بما يتبادر من معناها من حيث مقابلتها لقوله: " انا اعتدنا للكافرين " الخ المبين لحال الكافرين في الآخرة، تبين حال الابرار في الآخرة في الجنة، وانهم يشربون من شراب ممزوج بالكافور باردا طيب الرائحة. قوله تعالى: " عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا " " عينا " منصوب بنزع الخافض والتقدير من عين أو بالاختصاص والتقدير اخص عينا، والشرب - على ما قيل - يتعدى بنفسه وبالباء فشرب بها وشربها واحد، والتعبير عنهم بعباد الله للاشارة إلى تحليهم بحلية العبودية وقيامهم بلوازمها على ما يفيده سياق المدح. وتفجير العين شق الارض لاجرائها، وينبغي ان يحمل تفجيرهم العين على ارادتهم جريانها لان نعم الجنة لا تحتاج في تحققها والتنعم بها إلى ازيد من مشية اهلها قال تعالى: " لهم ما يشاؤن فيها " ق: 35. والآيتان - كما تقدمت الاشارة إليه - تصفان تنعم الابرار بشراب الجنة في الآخرة، وبذلك فسرت الآيتان ولا يبعد أن تكون الآيتان مسوقتين على مسلك تجسم الاعمال تصفان حقيقة عملهم الصالح من الايفاء بالنذر واطعام الطعام لوجه الله، وان اعمالهم المذكورة بحسب باطنها شرب من كأس مزاجها كافور من عين لا يزالون يفجرونها بأعمالهم الصالحة وستظهر لهم بحقيقتها في جنة الخلد وإن كانت في الدنيا في صورة الاعمال فتكون الآيتان في مجرى أمثال قوله تعالى: " إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الاذقان فهم مقمحون " يس: 8.

[ 126 ]

ويؤيد ذلك ظاهر قوله " يشربون " و " يشرب بها " ولم يقل: سيشربون وسيشرب بها، ووقوع قوله: يشربون ويوفون ويخافون ويطعمون متعاقبة في سياق واحد، وذكر التفجير في قوله: " يفجرونها تفجيرا " الظاهر في استخراج العين وإجرائها بالتوسل بالاسباب. ولهم في مفردات الآيتين وإعرابها أقاويل كثيرة مختلفة مذكورة في المطولات فليراجعها من أراد الوقوف عليها. قوله تعالى: " يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا " المستطير اسم فاعل من استطار إذا فشى وانتشر في الاقطار غاية الانتشار وهو أبلغ من طار كما قيل: يقال: استطار الحريق واستطار الفجر إذا اتسعا غايته، والمراد باستطارة شر اليوم وهو يوم القيامة بلوغ شدائده وأهواله وما فيه من العذاب غايته. والمراد بالايفاء بالنذر ما هو ظاهره المعروف من معناه، وقول القائل: إن المراد به ما عقدوا عليه قلوبهم من العمل بالواجبات أو ما عقدوا عليه القلوب من اتباع الشارع في جميع ما شرعه خلاف ظاهر اللفظ من غير دليل يدل عليه. قوله تعالى: " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا " ضمير " على حبه " للطعام على ما هو الظاهر، والمراد بحبه توقان النفس إليه لشدة الحاجة، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " آل عمران: 92. وقيل: الضمير لله سبحانه أي يطعمون الطعام حبا لله لا طمعا في الثواب، ويدفعه ان قوله تعالى حكاية منهم: " إنما نطعمكم لوجه الله " يغني عنه. ويليه في الضعف ما قيل: إن الضمير للاطعام المفهوم من قوله: " ويطعمون " وجه الضعف أنه إن أريد بحب الاطعام حقيقة معناه فليس في حب الاطعام في نفسه فضل حتى يمدحوا به، وإن أريد به كون الاطعام بطيب النفس وعدم التكلف فهو خلاف الظاهر، ورجوع الضمير إلى الطعام هو الظاهر. والمراد بالمسكين واليتيم معلوم، والمراد بالاسير ما هو الظاهر منه وهو المأخوذ من أهل دار الحرب. وقول بعضهم: إن المراد به اسارى بدر أو الاسير من أهل القبلة في دار الحرب

[ 127 ]

بأيدي الكفار أو المحبوس أو المملوك من العبيد أو الزوجة كل ذلك تكلف من غير دليل يدل عليه. والذي يجب أن يتنبه له أن سياق هذه الآيات سياق الاقتصاص تذكر قوما من المؤمنين تسميهم الابرار وتكشف عن بعض أعمالهم وهو الايفاء بالنذر وإطعام مسكين ويتيم وأسير وتمدحهم وعدهم الوعد الجميل. فما تشير إليه من القصة سبب النزول، وليس سياقها سياق فرض موضوع وذكر آثارها الجميلة، ثم الوعد الجميل عليها، ثم إن عد الاسير فيمن أطعمه هؤلاء الابرار نعم الشاهد على كون الآيات مدنية فإن الاسر إنما كان بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وظهور الاسلام على الكفر والشرك لا قبلها. قوله تعالى: " إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا " وجه الشئ هو ما يستقبل به غيره، ووجهه تعالى صفاته الفعلية الكريمة التي يفيض بها الخير على خلقه من الخلق والتدبير والرزق وبالجملة الرحمة العامة التي بها قيام كل شئ، ومعنى كون العمل لوجه الله على هذا كون الغاية في العمل هي الاستفاضة من رحمة الله وطلب مرضاته بالاقتصار على ذلك والاعراض عما عند غيره من الجزاء المطلوب، ولذا ذيلوا قولهم: " إنما نطعمكم لوجه الله " بقولهم " لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ". ووراء ذلك صفاته الذاتية الكريمة التي هي المبدء لصفاته الفعلية ولما يترتب عليها من الخير في العالم، ومرجع كون العمل لوجه الله على هذا هو الاتيان بالعمل حبا لله لانه الجميل على الاطلاق، وإن شئت فقل: عبادته تعالى لانه اهل للعبادة. وابتغاء وجه الله بجعله غاية داعية في الاعمال مذكور في مواضع من كلامه تعالى كقوله: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه " الكهف: 28، وقوله: " وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله " البقرة: 272، وفي هذا المعنى قوله: " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين " البينة: 5، وقوله: " فادعوه مخلصين له الدين " المؤمن: 65، وقوله: " ألا لله الدين الخالص " الزمر: 3. وقوله: " لا نريد منكم جزاء ولا شكورا " الجزاء مقابلة العمل بما يعادله إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا، ويعم الفعل والقول لكن المراد به في الآية بقرينة مقابلته الشكور مقابلة إطعامهم عملا لا لسانا.

[ 128 ]

والشكر والشكور ذكر النعمة وإظهارها قلبا أو لسانا أو عملا، والمراد به في الآية وقد قوبل بالجزاء الثناء الجميل لسانا. والآية أعني قوله: " إنما نطعمكم لوجه الله " الخ خطاب منهم لمن أطعموه من المسكين واليتيم والاسير إما بلسان المقال فهي حكاية قولهم أو بتقدير القول وكيف كان فقد أرادوا به تطييب قلوبهم أن يأمنوا المن والاذى، وإما بلسان الحال وهو ثناء من الله عليهم لما يعلم من الاخلاص في قلوبهم. قوله تعالى: " إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا " عد اليوم وهو يوم القيامة عبوسا من الاستعارة، والمراد بعبوسه ظهوره على المجرمين بكمال شدته، والقمطرير الصعب الشديد على ما قيل. والآية في مقام التعليل لقولهم المحكي: " إنما نطعمكم لوجه الله " الخ ينبهون بقولهم هذا أن قصرهم العمل في ابتغاء وجه الله تعالى إخلاصا للعبودية لمخافتهم ذاك اليوم الشديد، ولم يكتفوا بنسبة المخافة إلى اليوم حتى نسبوه نحوا من النسبة إلى ربهم فقالوا: " نخاف من ربنا يوما " الخ لانهم لما لم يريدوا إلا وجه ربهم فهم لا يخافون غيره كما لا يرجون غيره وإنما يخافون ويرجون ربهم فلا يخافون يوم القيامة إلا لانه من ربهم يحاسب فيه عباده على أعمالهم فيجزيهم بها. وأما قوله قبلا: " ويخافون يوما كان شره مستطيرا " حيث نسب خوفهم إلى اليوم فإن الواصف فيه هو الله سبحانه وقد نسب اليوم بشدائده إلى نفسه قبلا حيث قال: إنا أعتدنا للكافرين سلاسل " الخ. وبالجملة ما ذكروه من الخوف مخافة في مقام العمل لما يحاسب العبد على عمله فالعبودية لازمة للانسان لا تفارقه وإن بلغ ما بلغ قال تعالى: " إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم " الغاشية: 26. قوله تعالى: " فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا " الوقاية الحفظ والمنع من الاذى ولقى بكذا يلقيه أي استقبله به والنضرة البهجة وحسن اللون والسرور مقابل المساءة والحزن. والمعنى: فحفظهم الله ومنع عنهم شر ذلك اليوم واستقبلهم بالنضرة والسرور، فهم ناضرة الوجوه مسرورون يومئذ كما قال: " وجوه يومئذ ناضرة " القيامة: 22.

[ 129 ]

قوله تعالى: " وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا " المراد بالصبر صبرهم عند المصيبة وعلى الطاعة وعن المعصية فإنهم ابتغوا في الدنيا وجه ربهم وقدموا إرادته على إرادتهم فصبروا على ما قضى به فيهم وأراده من المحن ومصائب الدنيا في حقهم، وصبروا على امتثال ما أمرهم به وصبروا على ترك ما نهاهم عنه وإن كان مخالفا لاهواء أنفسهم فبدل الله مالقوه من المشقة والكلفة نعمة وراحة. قوله تعالى: " متكئين فيها على الارائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا " الارائك جمع أريكة وهو ما يتكئ عليه، والزمهرير البرد الشديد، والمعنى حالكونهم متكئين في الجنة على الارائك لا يرون فيها شمسا حتى يتأذوا بحرها ولا زمهريرا حتى يتأذوا ببرده. قوله تعالى: " ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا " الظلال جمع ظل، ودنو الظلال عليهم قربها منهم بحيث تنبسط عليهم فكأن الدنو مضمن معنى الانبساط وقطوف جمع قطف بالكسر فالسكون وهو الثمرة المقطوفة المجتباة، وتذليل القطوف لهم جعلها مسخرة لهم يقطفونها كيف شاؤا من غير مانع أو كلفة. قوله تعالى: " ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا " الآنية جمع إناء كأكسية جمع كساء وهو الوعاء، وأكواب جمع كوب وهو إناء الشراب الذي لا عروة له ولا خرطوم والمراد طواف الولدان المخلدين عليهم بالآنية وأكواب الشراب كما سيأتي في قوله: " ويطوف عليهم ولدان " الآية. قوله تعالى: " قوارير من فضة قدروها تقديرا " بدل من قوارير في الآية السابقة، وكون القوارير من فضة مبني على التشبيه البليغ أي إنها في صفاء الفضة وإن لم تكن منها حقيقة، كذا قيل. واحتمل أن يكون بحذف مضاف والتقدير من صفاء الفضة. وضمير الفاعل في " قدروها " للابرار والمراد بتقديرهم الآنية والاكواب كونها على ما شاؤوا من القدر ترويهم بحيث لا تزيد ولا تنقص كما قال تعالى: " لهم ما يشاؤن فيها " ق: 35 وقد قال تعالى قبل: " يفجرونها تفجيرا ". ويحتمل رجوع الضمير إلى الطائفين المفهوم من قوله: " يطاف عليهم " والمراد بتقديرهم الآنية والاكواب إتيانهم بها على قدر ما أرادوا محتوية على ما اشتهوا قدر ما اشتهوا.

[ 130 ]

قوله تعالى: " ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا " قيل: إنهم كانوا يستطيبون الزنجبيل في الشراب فوعد الابرار بذلك وزنجبيل الجنة أطيب وألذ. قوله تعالى: " عينا فيها تسمى سلسبيلا " أي من عين أو التقدير أعني أو أخص عينا. قال الراغب: وقوله: " سلسبيلا " أي سهلا لذيذا سلسا حديد الجرية. قوله تعالى: " ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا " أي ولدان دائمون على ما هم عليه من الطراوة والبهاء وصباحة المنظر، وقيل: أي مقرطون بخلدة وهي ضرب من القرط. والمراد بحسبانهم لؤلؤا منثورا أنهم في صفاء ألوانهم وإشراق وجوههم وانعكاس أشعة بعضهم على بعض وانبثاثهم في مجالسهم كاللؤلؤ المنثور. قوله تعالى: " وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا " " ثم " ظرف مكان ممحض في الظرفية، ولذا قيل: إن معنى " رأيت " الاول: رميت ببصرك، والمعنى وإذا رميت ببصرك ثم يعني الجنة رأيت نعيما لا يوصف وملكا كبيرا لا يقدر قدره. وقيل: " ثم " صله محذوفة الموصول والتقدير وإذا رأيت ما ثم من النعيم والملك، وهو كقوله: " لقد تقطع بينكم " الانعام: 94 والكوفيون من النحاة يجوزون حذف الموصول وإبقاء الصلة وإن منعه البصريون منهم. قوله تعالى: " عاليهم ثياب سندس خضر واستبرق " الخ الظاهر أن " عاليهم " حال من الابرار الراجعة إليه الضمائر و " ثياب " فاعله، والسندس - كما قيل - ما رق نسجه من الحرير، والخضر صفة ثياب والاستبرق ما غلظ نسجه من ثياب الحرير، وهو معرب كالسندس. وقوله: " وحلوا أساور من فضة " التحلية التزيين، وأساور جمع سوار وهو معروف، وقال الراغب: هو معرب دستواره. وقوله: " وسقاهم ربهم شرابا طهورا " أي بالغا في التطهير لا تدع قذارة إلا أزالها ومن القذارة قذارة الغفلة عن الله سبحانه والاحتجاب عن التوجه إليه فهم غير محجوبين عن ربهم ولذا كان لهم أن يحمدوا ربهم كما قال: " " وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين " يونس: 10 وقد تقدم في تفسير سورة الحمد أن الحمد وصف لا يصلح له إلا المخلصون من عباد الله تعالى لقوله: " سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين " الصافات: 160.

[ 131 ]

وقد أسقط تعالى في قوله: " وسقاهم ربهم " الوسائط كلها ونسب سقيهم إلى نفسه، وهذا أفضل ما ذكره الله تعالى من النعيم الموهوب لهم في الجنة، ولعله من المزيد المذكور في قوله: " لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد " ق: 35. قوله تعالى: " إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا " حكاية ما يخاطبون به من عنده تعالى عند توفيته أجرهم أو بحذف القول والتقدير ويقال لهم: إن هذا كان لكم جزاء " الخ ". وقوله: " وكان سعيكم مشكورا " إنشاء شكر لمساعيهم المرضية وأعمالهم المقبولة، ويا لها من كلمة طيبة تطيب بها نفوسهم. واعلم أنه تعالى لم يذكر فيما ذكر من نعيم الجنة في هذه الآيات نساء الجنة من الحور العين وهي من أهم ما يذكره عند وصف نعم الجنة في سائر كلامه ويمكن أن يستظهر منه أنه كانت بين هؤلاء الابرار الذين نزلت فيهم الآيات من هي من النساء. وقال في روح المعاني: ومن اللطائف على القول بنزول السورة فيهم يعني في أهل البيت أنه سبحانه لم يذكر فيها الحور العين وإنما صرح عزوجل بولدان مخلدين رعاية لحرمة البتول وقرة عين الرسول، انتهى. (بحث روائي) في إتقان السيوطي عن البيهقي في دلائل النبوة باسناده عن عكرمة والحسن بن أبي الحسن قالا: أنزل الله من القرآن بمكة اقرء باسم ربك ون والمزمل - إلى أن قالا - وما نزل بالمدينة ويل للمطففين، والبقرة وآل عمران، والانفال، والاحزاب، والمائدة، والممتحنة، والنساء، وإذا زلزلت، والحديد، ومحمد، والرعد، والرحمان، وهل أتى على الانسان. الحديث. وفيه عن ابن الضريس في فضائل القرآن بإسناده عن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن ابن عباس قال: كان إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ثم يزيد الله فيها ما شاء. وكان أول ما انزل من القرآن اقرء باسم ربك، ثم ن، ثم يا أيها المزمل - إلى أن قال -

[ 132 ]

ثم انزل بالمدينة سورة البقرة ثم الانفال ثم آل عمران ثم الاحزاب ثم الممتحنة ثم النساء ثم إذا زلزلت ثم الحديد ثم القتال ثم الرعد ثم الرحمان ثم الانسان. الحديث. وفيه عن البيهقي في الدلائل بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال: إن أول ما أنزل الله على نبيه من القرآن اقرء باسم ربك، وذكر مثل حديث عكرمة والحسين وفيه ذكر ثلاث من السور المكية التي سقطت من روايتهما وهي الفاتحة والاعراف وكهيعص. وفي الدر المنثور أخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الانسان بالمدينة. وفيه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله تعالى: " ويطعمون الطعام على حبه " الآية قال: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. أقول: الآية تشارك سائر آيات صدر السورة مما تقدم عليها أو تأخر عنها في سياق واحد متصل فنزولها فيهما عليه السلام لا ينفك نزولها جميعا بالمدينة. وفي الكشاف: وعن ابن عباس أن الحسن والحسين مرضا فعادهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ناس معه فقالوا يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك (ولديك ظ) فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن برءآ مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا وما معهم شئ. فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير فطحنت فاطمة صاعا واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل وقال: السلام عليكم أهل بيت محمد مسكين من مساكين المسلمين أطعمونة أطعمكم الله من موائد الجنة فأثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياما. فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فأثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك. فلما أصبحوا أخذ علي بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال: ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم فانطلق معهم فرآى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها (1) ببطنها وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبريل وقال: خذها يا محمد هناك الله في أهل بيتك فأقرءه السورة.


(1) بطنها بظهرها ظ.

[ 133 ]

أقول: الرواية مروية بغير واحد من الطرق عن عطاء عن ابن عباس ونقلها البحراني في غاية المرام عن أبي المؤيد الموفق بن احمد كتاب فضائل أمير المؤمنين باسناده عن مجاهد عن ابن عباس، وعنه باسناد آخر عن الضحاك عن ابن عباس وعن الحمويني في كتاب فرائد السمطين باسناده عن مجاهد عن ابن عباس، وعن الثعلبي باسناده عن أبي صالح عن ابن عباس، ورواه في المجمع عن الواحدي في تفسيره. وفي المجمع باسناده عن الحاكم باسناده عن سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب أنه قال سألت النبي عن ثواب القرآن: فأخبرني بثواب سورة سورة على نحو ما نزلت من السماء. فأول ما نزل عليه بمكة فاتحة الكتاب ثم اقرء باسم ربك، ثم ن - إلى ان قال - وأول ما نزل بالمدينة سورة البقرة ثم الانفال ثم آل عمران ثم الاحزاب ثم الممتحنة ثم النساء ثم إذا زلزلت ثم الحديد ثم سورة محمد ثم الرعد ثم سورة الرحمن ثم هل أتى. الحديث. وفيه عن أبي حمزة الثمالي في تفسيره قال: حدثني الحسن بن الحسن أبو عبد الله بن الحسن أنها مدنية نزلت في علي وفاطمة السورة كلها. وفي تفسير القمي عن أبيه عن عبد الله بن ميمون عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان عند فاطمة عليها السلام شعير فجعلوه عصيدة (1) فلما أنضجوها ووضعوها بين أيديهم جاء مسكين فقال: مسكين رحمكم الله فقام علي عليه السلام فأعطاه ثلثا فلم يلبث أن جاء يتيم فقال: اليتيم رحمكم الله فقام علي عليه السلام فأعطاه الثلث ثم جاء أسير فقال: الاسير رحمكم الله فأعطاه علي عليه السلام الثلث وما ذاقوها فأنزل الله سبحانه الآيات فيهم وهي جارية في كل مؤمن فعل ذلك لله عزوجل. أقول: القصة كما ترى ملخصة في الرواية وروى ذلك البحراني في غاية المرام عن المفيد في الاختصاص مسندا وعن ابن بابويه في الامالي باسناده عن مجاهد عن ابن عباس، وباسناده عن سلمة بن خالد عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام، وعن محمد بن العباس ابن ماهيار في تفسيره باسناده عن أبي كثير الزبيري عن عبد الله بن عباس، وفي المناقب أنه مروي عن الاصبغ بن نباتة.


(1) العصيدة: شعير يلت بالسمن ويطبخ.

[ 134 ]

وفي الاحتجاج عن علي عليه السلام في حديث يقول فيه للقوم بعد موت عمر بن الخطاب: نشدتكم بالله هل فيكم أحد نزل فيه وفي ولده " إن الابرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا " إلى آخر السورة غيري ؟ قالوا: لا. وفي كتاب الخصال في احتجاج علي على أبي بكر قال: أنشدك بالله أنا صاحب الآية " يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا " أم أنت ؟ قال: بل أنت. وفي الدر المنثور أخرج الطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمر قال: جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل واستفهم فقال: يا رسول الله فضلتم علينا بالالوان والصور والنبوة أفرأيت إن آمنت بما آمنت به وعملت بمثل ما عملت به أني لكائن معك في الجنة ؟ قال: نعم والذى نفسي بيده إنه ليرى بياض الاسود في الجنة من مسيرة ألف عام. ثم قال: من قال: لا إله إلا الله كان له عهد عند الله ومن قال: سبحان الله وبحمده كتبت له مائة الف حسنة واربعة وعشرون الف حسنة ونزلت عليه السورة هل أتى على الانسان حين من الدهر إلى قوله: ملكا كبيرا. فقال الحبشي: وإن عينى لترى ما ترى عيناك في الجنة ؟ قال: نعم فاشتكى حتى فاضت نفسه. قال عمر: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه في حفرته بيده. وفيه أخرج أحمد في الزهد عن محمد بن مطرف قال: حدثني الثقة أن رجلا أسود كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن التسبيح والتهليل فقال له عمر بن الخطاب: مه أكثرت على رسول الله فقال: مه يا عمر وانزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل أتى على الانسان حين من الدهر " حتى إذا أتى على ذكر الجنة زفر الاسود زفرة خرجت نفسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مات شوقا إلى الجنة. وفيه أخرج ابن وهب عن ابن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرء هذه السورة هل أتى على الانسان حين من الدهر وقد انزلت عليه وعنده رجل أسود فلما بلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرج نفس صاحبكم الشوق إلى الجنة. أقول: وهذه الروايات الثلاث على تقدير صحتها لا تدل على أزيد من كون نزول السورة مقارنا لقصة الرجل وأما كونها سببا للنزول فلا، وهذا المعنى في الرواية الاخيرة أظهر وبالجملة لا تنافي الروايات الثلاث نزول السورة في أهل البيت عليهم السلام.

[ 135 ]

على أن رواية ابن عمر للقصة الظاهرة في حضوره القصة وقد هاجر إلى المدينة وهو ابن إحدى عشرة سنة من شواهد وقوع القصة بالمدينة. وفي الدر المنثور أيضا أخرج النحاس عن ابن عباس قال: نزلت سورة الانسان بمكة. أقول: هو تلخيص حديث طويل أورده النحاس في كتاب الناسخ والمنسوخ، وقد نقله في الاتقان وهو معارض لما تقدم نقله مستفيضا عن ابن عباس من نزول السورة بالمدينة وأنها نزلت في أهل البيت عليهم السلام. على أن سياق آياتها وخاصة قوله: " يوفون بالنذر " " ويطعمون الطعام " الخ سياق قصه واقعة وذكر الاسير فيمن أطعموهم نعم الشاهد على نزول الآيات بالمدينة إذ لم يكن للمسلمين أسير بمكة كما تقدمت الاشاره إلى ذلك. قال بعضهم ما ملخصه: ان الروايات مختلفة في مكية هذه السورة ومدنيتها والارجح أنها مكية بل الظاهر من سياقها انها من عتائق السور القرآنية النازلة بمكة في أوائل البعثة يؤيد ذلك ما ورد فيها من صور النعم الحسية المفصلة الطويلة وصور العذاب الغليظ كما يؤيده ما ورد فيها من أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر لحكم ربه وأن لا يطيع منهم آثما أو كفورا ويثبت على ما نزل عليه من الحق ولا يداهن المشركين من الاوامر التي كانت تنزل بمكة عند اشتداد الاذى على الدعوة وأصحابها بمكة كما في سورة القلم والمزمل والمدثر فلا عبرة باحتمال مدنية السورة. وهو فاسد اما ما ذكره من اشتمال السورة على صور النعم الحسية المفصلة الطويلة وصور العذاب الغليظ فليس ذلك مما يختص بالسور المكية حتى يقضي بها على كون السورة مكية فهذه سورة الرحمن وسورة الحج مدنيتان على ما تقدمت في الروايات المشتملة على ترتيب نزول السور القرآنية وقد اشتملتا من صور النعم الحسية المفصلة الطويلة وصور العذاب الغليظ على ما يربو ويزيد على هذه السورة بكثير. واما ما ذكره من اشتمال السورة على امر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر وان لا يطيع منهم آثما أو كفورا ولا يداهنهم ويثبت على ما نزل عليه من الحق ففيه ان هذه الاوامر واقعة في الفصل الثاني من آيات السورة وهو قوله: " إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا " إلى آخر السورة ومن المحتمل جدا ان يكون هذا الفصل من الآيات - وهو ذو سياق تام مستقل

[ 136 ]

- نازلا بمكة، ويؤيده ما في كثير من الروايات المتقدمة ان الذي نزل في اهل البيت بالمدينة هو الفصل الاول من الآيات، وعلى هذا اول السورة مدني وآخرها مكي. ولو سلم نزولها دفعة واحدة فأمره صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر لا اختصاص له بالسور المكية فقد ورد في قوله: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان امره فرطا " الكهف: 28 والآية - على ما روي - مدنية والآية - كما ترى - متحدة المعنى مع قوله: " فاصبر لحكم ربك " الخ وهي في سياق شبيه جدا بسياق هذه الآيات فراجع وتأمل. ثم الذي كان يلقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من اذى المنافقين والذين في قلوبهم مرض والجفاة من ضعفاء الايمان لم يكن بأهون من اذى المشركين بمكة يشهد بذلك اخبار سيرته. ولا دليل ايضا على انحصار الاثم والكفور في مشركي مكة فهناك غيرهم من الكفار وقد اثبت القرآن الاثم لجمع من المسلمين في موارد كقوله: " لكل امرئ منهم ما اكتسب من الاثم " النور: 11، وقوله: " ومن يكسب خطيئة أو اثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا واثما مبينا " النساء: 112. وفي المجمع وروى العياشي باسناده عن عبد الله بن بكير عن زرارة قال: سألت ابا جعفر عليه السلام عن قوله: " لم يكن شيئا مذكورا " قال: كان شيئا ولم يكن مذكورا. أقول: وروى فيه ايضا عن عبد الاعلى مولى آل سام عن ابي عبد الله عليه السلام مثله. وفيه ايضا عن العياشي باسناده عن سعيد الحذاء عن ابي جعفر عليه السلام قال: كان مذكورا في العلم ولم يكن مذكورا في الخلق. أقول: يعني انه كان له ثبوت في علم الله ثم خلق بالفعل فصار مذكورا فيمن خلق. وفي الكافي باسناده عن مالك الجهني عن ابي عبد الله عليه السلام في الآية قال: كان مقدرا غير مذكور. أقول: هو في معنى الحديث السابق. وفي تفسير القمي في الآية قال: لم يكن في العلم ولا في الذكر، وفي حديث آخر: كان في العلم ولم يكن في الذكر.

[ 137 ]

أقول: معنى الحديث الاول انه لم يكن في علم الناس ولا فيمن يذكرونه فيما بينهم، ومعنى الثاني انه كان في علم الله ولم يكن مذكورا عند الناس. وفي تفسير القمي ايضا في رواية ابي الجارود عن ابي جعفر عليه السلام في قوله تعالى " امشاج نبتليه " قال: ماء الرجل والمرأة اختلطا جميعا. وفي الكافي باسناده عن حمران بن اعين قال: سألت ابا عبد الله عليه السلام عن قوله عز وجل، " إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا " قال: إما آخذ فهو شاكر وإما تارك فهو كافر. أقول: ورواه القمي في تفسيره باسناده عن ابن ابي عمير عن ابي جعفر عليه السلام مثله وفي التوحيد باسناده إلى حمزة بن الطيار عن ابي عبد الله عليه السلام ما يقرب منه ولفظه: عرفناه إما آخذا وإما تاركا. وفي الدر المنثور اخرج احمد وابن المنذر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه فإذا عبر عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا والله تعالى اعلم. وفي أمالي الصدوق باسناده عن الصادق عن أبيه عليهما السلام في حديث، " عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا " قال: هي عين في دار النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفجر إلى دور الانبياء والمؤمنين " يوفون بالنذر " يعني عليا وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وجاريتهم " ويخافون يوما كان شره مستطيرا " يقول عابسا كلوحا " ويطعمون الطعام على حبه " يقول: على شهوتهم للطعام وايثارهم له " مسكينا " من مساكين المسلمين و " يتيما " من يتامى المسلمين و " أسيرا " من أسارى المشركين. ويقولون إذا اطعموهم: " انما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا " قال: والله ما قالوا هذا لهم ولكنهم أضمروه في أنفسهم فأخبر الله باضمارهم يقولون: لا نريد جزاء تكافؤننا به ولا شكورا تثنون علينا به، ولكنا انما أطعمناكم لوجه الله وطلب ثوابه. وفي الدر المنثور اخرج سعيد بن منصور وابن ابي شيبة وابن المنذر وابن مردويه عن الحسن قال: كان الاسارى مشركين يوم نزلت هذه الآية " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا.

[ 138 ]

أقول: مدلول الرواية نزول الآية بالمدينة، ونظيرها ما رواه فيه عن عبد بن حميد عن قتادة، وما رواه عن ابن المنذر عن ابن جريح، وما رواه عن عبد الرزاق وابن المنذر عن ابن عباس. وفيه أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " يوما عبوسا قمطريرا " قال: يقبض ما بين الابصار. وفي روصة الكافي باسناده عن محمد بن اسحاق المدني عن أبي جعفر عليه السلام في صفة الجنة قال: والثمار دانية منهم وهو قوله عزوجل: " ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا " من قربها منهم يتناول المؤمن من النوع الذي يشتهيه من الثمار بفيه وهو متكئ وإن الانواع من الفاكهة ليقلن لولي الله: يا ولي الله كلمني قبل أن تأكل هذه قبلي. وفي تفسير القمي في قوله: " ولدان مخلدون " قال: مسورون. وفي المعاني بإسناده عن عباس بن يزيد قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام وكنت عنده ذات يوم: أخبرني عن قول الله عزوجل: " وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكان كبيرا " ما هذا الملك الذي كبر الله عزوجل حتى سماه كبيرا ؟ قال: إذا أدخل الله أهل الجنة الجنة أرسل رسولا إلى ولي من أوليائه فيجد الحجبة على بابه ففتقول له: قف حتى نستأذن لك، فما يصل إليه رسول ربه إلا بإذن فهو قوله عزوجل: " وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا ". وفي المجمع " وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا " لا يزول ولا يفنى عن الصادق عليه السلام. وفيه " عاليهم ثياب سندس خضر " وروي عن الصادق عليه السلام في معناه: تعلوهم الثياب فيلبسونها. (كلام في هوية الانسان على ما يفيده القرآن) لا ريب أن في هذا الهيكل المحسوس الذي نسميه إنسانا مبدء للحياة ينتسب إليه الشعور والارادة، وقد عبر تعالى عنه في الكلام في خلق الانسان - آدم - بالروح وفى سائر المواضع من كلامه بالنفس قال تعالى: " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له

[ 139 ]

ساجدين " الحجر: 29 ص: 72، وقال: " ثم سواه ونفخ فيه من روحه " الم السجدة: 9. والذي يسبق من الآيتين إلى النظر البادئ أن الروح والبدن حقيقتان اثنتان متفارقتان نظير العجين المركب من الماء والدقيق والانسان مجموع الحقيقتين فإذا قارنت الروح الجسد كان إنسانا حيا وإذا فارقت فهو الموت. لكن يفسرها قوله تعالى: " قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم " لم السجدة 11 حيث يفيد أن الروح التي يتوفاها ويأخذها قابض الارواح هي التي يعبر عنها بلفظة " كم " وهو الانسان بتمام حقيقته لا جزء من مجموع فالمراد بنفخ الروح في الجسد جعل الجسد بعينه إنسانا لا ضم واحد إلى واحد آخر يغايره في ذاته وآثار ذاته فالانسان حقيقة واحدة حين تعلق روحه ببدنه وبعد مفارقة روحه البدن. ويفيد هذا المعنى قوله تعالى: " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر " المؤمنون: 14 فالذي أنشأه الله خلقا آخر هو النطفة التي تكونت علقة ثم مضغة ثم عظاما بعينها. وفي معناها قوله تعالى: " هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا " فتقييد الشئ المنفي بالمذكور يعطي أنه كان شيئا لكن لم يكن مذكورا فقد كان أرضا أو نطفة مثلا لكن لم يكن مذكورا أنه الانسان الفلاني ثم صار هو هو. فمفاد كلامه تعالى أن الانسان واحد حقيقي هو المبدء الوحيد لجميع آثار البدن الطبيعية والآثار الروحية كما أنه مجرد في نفسه عن المادة كما يفيده أمثال قوله تعالى: " قل يتوفاكم ملك الموت " وقوله: " الله يتوفى الانفس حين موتها " الزمر: 42 وقوله: " ثم أنشأناه خلقا آخر " وقد تقدم بيانه. إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا - 23. فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا - 24. واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا -

[ 140 ]

25. ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا - 26. إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون ورائهم يوما ثقيلا - 27. نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا - 28. إن هذه تذكرة فمن شآء اتخذ إلى ربه سبيلا - 29. وما تشاؤن إلا أن يشاء الله أن الله كان عليما حكيما - 30. يدخل من يشآء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما - 31. (بيان) لما وصف جزاء الابرار وما قدر لهم من النعيم المقيم والملك العظيم بما صبروا في جنب الله وجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمره بالصبر لحكم ربه وأن لا يطيع هؤلاء الآثمين والكفار المحبين للعاجلة المتعلقين بها المعرضين عن الآخرة من المشركين وسائر الكفار والمنافقين وأهل الاهواء، وأن يذكر اسم ربه ويسجد له ويسبحه مستمرا عليه ثم عمم الحكم لامته بقوله: " إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ". فهذا وجه اتصال الآيات بما قبلها وسياقها مع ذلك لا يخلو من شبه بالسياقات المكية وعلى تقدير مكيتها فصدر السورة مدني وذيلها مكي. قوله تعالى: " إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا " تصدير الكلام بإن وتكرار ضمير المتكلم مع الغير والاتيان بالمفعول المطلق كل ذلك للتأكيد، ولتسجيل أن الذي نزل من القرآن نجوما متفرقة هو من الله سبحانه لم يداخله نفث شيطاني ولا هو نفساني. قوله تعالى: " فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا " تفريع على ما هو لازم مضمون الآية السابقة فإن لازم كون الله سبحانه هو الذي نزل القرآن عليه أن يكون ما في القرآن من الحكم حكم ربه يجب أن يطاع فالمعنى إذا كان تنزيله منا فما فيه من الحكم حكم ربك فيجب عليك أن تصبر له فاصبر لحكم ربك.

[ 141 ]

وقوله " ولا تطع منهم آثما أو كفورا " ورود الترديد في سياق النهي يفيد عموم الحكم فالنهي عن طاعتهما سواء اجتمعا أو افترقا، والظاهر أن المراد بالاثم المتلبس بالمعصيه وبالكفور المبالغ في الكفر فتشمل الآية الكفار والفساق جميعا. وسبق النهي عن طاعة الاثم والكفور بالامر بالصبر لحكم ربه يفيد كون النهي مفسرا للامر فمفاد النهي أن لا تطع منهم آثما إذا دعاك إلى إثمه ولا كفورا إذا دعاك إلى كفره لان إثم الآثم منهم وكفر الكافر مخالفان لحكم ربك وأما تعليق الحكم بالوصف المشعر بالعلية فإنما يفيد علية الاثم والكفر للنهي عن الطاعة مطلقا لا عليتهما للنهي إذا دعا الآثم إلى خصوص إثمه والكافر إلى خصوص كفره. قوله تعالى: " واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا " أي داوم على ذكر ربك وهو الصلاة في كل بكرة وأصيل وهما الغدو والعشي. قوله تعالى: " ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا " " من " للتبعيض والمراد بالسجود له الصلاة، ويقبل ما في الآيتين من ذكر اسمه بكرة وأصيلا والسجود له بعض الليل الانطباق على صلاة الصبح والعصر والمغرب والعشاء وهذا يؤيد نزول الآيات بمكة قبل فرض الفرائض الخمس بقوله في آية الاسراء: " أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر " أسرى: 78. فالآيتان كقوله تعالى: " وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل " هود: 114، وقوله " وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار " طه: 130. نعم قيل: على ان الاصيل يطلق على ما بعد الزوال فيشمل قوله " وأصيلا " وقتي صلاتي الظهر والعصر جميعا، ولا يخلو من وجه. وقوله: " وسبحه ليلا طويلا " أي في ليل طويل ووصف الليل بالطويل توضيحي لا احترازي، والمراد بالتسبيح صلاة الليل، واحتمل أن يكون طويلا صفة لمفعول مطلق محذوف، والتقدير سبحه في الليل تسبيحا طويلا. قوله تعالى: " إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا " تعليل لما تقدم من الامر والنهي والاشارة بهؤلاء إلى جمع الاثم والكفور المدلول عليه بوقوع النكرة في

[ 142 ]

سياق النهي، والمراد بالعاجلة الحياة الدنيا، وعد اليوم ثقيلا من الاستعارة، والمراد بثقله شدته كأنه محمول ثقيل يشق حمله، واليوم يوم القيامة. وكون اليوم وراءهم تقرره أمامهم لان وراء تفيد معنى الاحاطة، أو جعلهم إياه خلفهم ووراء ظهورهم بناء على إفادة " يذرون " معنى الاعراض. والمعنى: فاصبر لحكم ربك وأقم الصلاة ولا تطع الآثمين والكفار منهم لان هؤلاء الآثمين والكفار يحبون الحياة الدنيا فلا يعملون إلا لها ويتركون أمامهم يوما شديدا أو يعرضون فيجعلون خلفهم يوما شديدا سيلقونه. قوله تعالى: " نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا " الشد خلاف الفك، والاسر في الاصل الشد والربط ويطلق على ما يشد ويربط به فمعنى شددنا أسرهم أحكمنا ربط مفاصلهم بالرباطات والاعصاب والعضلات أو الاسر بمعنى المأسور والمعنى أحكمنا ربط أعضائهم المختلفة المشدودة بعضها ببعض حتى صار الواحد منهم بذلك إنسانا واحدا. وقوله: " وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا " أي إذا شئنا بدلناهم أمثالهم فذهبنا بهم وجئنا بأمثالهم مكانهم وهو إماتة قرن وإحياء آخرين، وقيل المراد به تبديل نشأتهم الدنيا من نشأة القيامة وهو بعيد من السياق. والآية في معنى دفع الدخل كأن متوهما يتوهم أنهم بحبهم للدنيا وإعراضهم عن الآخرة يعجزونه تعالى ويفسدون عليه إرادته منهم أن يؤمنوا ويطيعوا فاجيب بأنهم مخلوقون لله خلقهم وشد أسرهم وإذا شاء أذهبهم وجاء بآخرين فكيف يعجزونه وخلقهم وأمرهم وحياتهم وموتهم بيده ؟ قوله تعالى: " إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا " تقدم تفسيره في سورة المزمل والاشارة بهذه إلى ما ذكر في السورة. قوله تعالى: " وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما " الاستثناء من النفي يفيد أن مشية العبد متوقفة في وجودها على مشيته تعالى فلمشيته تعالى تأثير في فعل العبد من طريق تعلقها بمشية العبد، وليست متعلقة بفعل العبد مستقلا وبلا واسطة حتى تستلزم بطلان تأثير إرادة العبد وكون الفعل جبريا ولا أن العبد مستقل في إرادة يفعل ما يشاؤه شاء الله أولم يشأ، فالفعل اختياري لاستناده إلى اختيار العبد، وأما

[ 143 ]

اختيار العبد فليس مستندا إلى اختيار آخر، وقد تكرر توضيح هذا البحث في مواضع مما تقدم. والآية مسوقة لدفع توهم أنهم مستقلون في مشيتهم منقطعون من مشية ربهم، ولعل تسجيل هذا التنبيه عليهم هو الوجه في الالتفات إلى الخطاب في قوله: " وما تشاؤن إلا أن يشاء الله " كما أن الوجه في الالتفات من التكلم بالغير إلى الغيبة في قوله: " يشاء الله إن الله " هو الاشارة إلى علة الحكم فإن مسمى هذا الاسم الجليل يبتدئ منه كل شئ وينتهي إليه كل شئ فلا تكون مشية إلا بمشيته ولا تؤثر مشية إلا بإذنه. وقوله: " إن الله كان عليما حكيما " توطئة لبيان مضمون الآية التالية. قوله تعالى: " يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما " مفعول " يشاء " محذوف يدل عليه الكلام، والتقدير يدخل في رحمته من يشاء دخوله في رحمته، ولا يشاء إلا دخول من آمن واتقى، وأما غيرهم وهم أهل الاثم والكفر فبين حالهم بقوله: " والظالمين أعد لهم عذابا أليما ". والآية تبين سنته تعالى الجارية في عباده من حيث السعادة والشقاء، وقد علل ذلك بما في ذيل الآية السابقة من قوله: " إن الله كان عليما حكيما " فأفاد به أن سنته تعالى ليست سنة جزافية مبنية على الجهالة بل هو يعامل كلا من الطائفتين بما هو أهل له وسينبئهم حقيقة ما كانوا يعملون. (بحث روائي) وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: " ولا تطع منهم آثما أو كفورا " قال: حدثنا أنها نزلت في عدو الله أبي جهل أقول: وهو أشبه بالتطبيق. وفي المجمع في قوله تعالى " وسبحه ليلا طويلا " روي عن الرضا عليه السلام أنه سأله أحمد بن محمد عن هذه الآية وقال: ما ذلك التسبيح ؟ قال: صلاة الليل. وفي الخرائج والجرائح عن القائم عليه السلام في حديث يقول لكامل بن إبراهيم المدني: وجئت تسأل عن مقالة المفوضة كذبوا بل قلوبنا أوعية لمشية الله عزوجل فإذا شاء شئنا، والله يقول " وما تشاؤن إلا أن يشاء الله ".

[ 144 ]

وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه من طريق ابن شهاب عن سالم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا خطب: كل ما هو آت قريب، لا بعد لما يأتي، ولا يعجل الله لعجلة أحد، ما شاء الله لا ما شاء الناس، يريد الناس أمرا ويريد الله أمرا، ما شاء الله كان ولو كره الناس، لا مباعد لما قرب الله، ولا مقرب لما باعد الله، لا يكون شئ إلا باذن الله. أقول: وفي بعض الروايات من طرق أهل البيت عليهم السلام تطبيق الحكم في قوله: " فاصبر لحكم ربك والرحمة في قوله: " يدخل من يشاء في رحمته " على الولاية وهو من الجري أو البطن وليس من التفسير في شئ. (سورة المرسلات مكية وهي خمسون آية) بسم الله الرحمن الرحيم والمرسلات عرفا - 1. فالعاصفات عصفا - 2. والناشرات نشرا - 3. فالفارقات فرقا - 4. فالملقيات ذكرا - 5. عذرا أو نذرا - 6. إنما توعدون لواقع - 7. فإذا النجوم طمست - 8. وإذا السماء فرجت - 9. وإذا الجبال نسفت - 10. وإذا الرسل أقتت - 11. لاي يوم أجلت - 12. ليوم الفصل - 13. وما أدراك ما يوم الفصل - 14. ويل يومئذ للمكذبين - 15. (بيان) تذكر السورة يوم الفصل وهو يوم القيامة وتؤكد الاخبار بوقوعه وتشفعه بالوعيد الشديد للمكذبين به والانذار والتبشير لغيرهم ويربو فيها جانب الوعيد على غيره فقد كرر فيها قوله: " ويل يومئذ للمكذبين " عشر مرات.

[ 145 ]

والسورة مكية بشهادة سياق آياتها. قوله تعالى: " والمرسلات عرفا " الآية وما يتلوها إلى تمام ست آيات إقسام منه تعالى بامور يعبر عنها بالمرسلات فالعاصفات والناشرات فالفارقات فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا، والاوليان أعني المرسلات عرفا والعاصفات عصفا لا تخلوان لو خليتا ونفسهما مع الغض عن السياق من ظهور ما في الرياح المتعاقبة الشديدة الهبوب لكن الاخيرة أعني الملقيات ذكرا عذرا أو نذرا كالصريحة في الملائكة النازلين على الرسل الحاملين لوحي الرسالة الملقين له إليهم إتماما للحجة أو إنذارا وبقية الصفات لا تأبى الحمل على ما يناسب هذا المعنى. وحمل جميع الصفات الخمس على إرادة الرياح كما هو ظاهر المرسلات والعاصفات - على ما عرفت - يحتاج إلى تكلف شديد في توجيه الصفات الثلاث الباقية وخاصة في الصفة الاخيرة. وكذا حمل المرسلات والعاصفات على إرادة الرياح وحمل الثلاث الباقية أو الاخيرتين أو الاخيرة فحسب على ملائكة الوحي إذ لا تناسب ظاهرا بين الرياح وبين ملائكة الوحي حتى يقارن بينها في الاقسام وينظم الجميع في سلك واحد، وما وجهوه به من مختلف التوجيهات معان بعيدة عن الذهن لا ينتقل إليها في مفتتح الكلام من غير تنبيه سابق. فالوجه هو الغض عن هذه الاقاويل وهي كثيرة جدا لا تكاد تنضبط، وحمل المذكورات على إرادة ملائكة الوحي كنظيرتها في مفتتح سورة الصافات " والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا " وفي معناها قوله تعالى: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فانه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم " الجن: 28. فقوله: " والمرسلات عرفا " إقسام منه تعالى بها والعرف بالضم فالسكون الشعر النابت على عنق الفرس ويشبه به الامور إذا تتابعت يقال: جاؤا كعرف الفرس، ويستعار فيقال: جاء القطا عرفا أي متتابعة وجاؤا إليه عرفا واحدا أي متتابعين، والعرف أيضا المعروف من الامر والنهي و " عرفا " حال بالمعنى الاول مفعول له بالمعنى الثاني، والارسال خلاف الامساك، وتأنيث المرسلات باعتبار الجماعات أو باعتبار الروح التي

[ 146 ]

تنزل بها الملائكة قال تعالى: " ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده " النحل: 2 وقال " يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده " المؤمن: 15. والمعنى أقسم بالجماعات المرسلات من ملائكة الوحي. وقيل: المراد بالمرسلات عرفا الرياح المتتابعة المرسلة وقد تقدمت الاشارة إلى ضعفه، ومثله في الضعف القول بأن المراد بها الانبياء عليهم السلام فلا يلائمه ما يتلوها. قوله تعالى: " فالعاصفات عصفا " عطف على المرسلات والمراد بالعصف سرعة السير استعارة من عصف الرياح أي سرعة هبوبها إشارة إلى سرعة سيرها إلى ما ارسلت إليه، والمعنى أقسم بالملائكة الذين يرسلون متتابعين فيسرعون في سيرهم كالرياح العاصفة. قوله تعالى: " والناشرات نشرا " إقسام آخر، ونشر الصحيفة والكتاب والتوب ونحوها: بسطه، والمراد بالنشر نشر صحف الوحي كما يشير إليه قوله تعالى: " كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة " عبس: 16 والمعنى واقسم بالملائكة الناشرين للصحف المكتوبة عليها الوحي للنبي ليتلقاه. وقيل: المراد بها الرياح ينشرها الله تعالى بين يدي رحمته وقيل: الرياح الناشرة للسحاب، وقيل: الملائكة الناشرين لصحائف الاعمال، وقيل: الملائكة نشروا أجنحتهم حين النزول وقيل: غير ذلك. قوله تعالى: " فالفارقات فرقا " المراد به الفرق بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام، والفرق المذكور صفة متفرعة على النشر المذكور. قوله تعالى: " فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا " المراد بالذكر القرآن يقرؤنه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو مطلق الوحي النازل على الانبياء المقرو عليهم. والصفات الثلاث أعني النشر والفرق وإلقاء الذكر مترتبإ فإن الفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام يتحقق بنشر الصحف والقاء الذكر فبالنشر يشرع الفرق في التحقق وبالتلاوة يتم تحققه فالنشر يترتب عليه مرتبة من وجود الفرق ويترتب عليها تمام وجوده بالالقاء.

[ 147 ]

وقوله: " عذرا أو نذرا " هما من المفعول له و " أو " للتنويع قيل: هما مصدران بمعنى الاعذار والانذار، والاعذار الاتيان بما يصير به معذورا والمعنى أنهم يلقون الذكر لتكون عذرا لعباده المؤمنين بالذكر وتخويفا لغيرهم. وقيل: ليكون عذرا يعتذر به الله إلى عباده في العقاب أنه لم يكن إلا على وجه الحكمة، ويؤل إلى إتمام الحجة فمحصل المعنى عليه أنهم يلقون الذكر ليكون إتماما للحجة على المكذبين وتخويفا لغيرهم، وهو معنى حسن. قوله تعالى: " إن ما توعدون لواقع " جواب القسم، وما موصولة والخطاب لعامة البشر، والمراد بما توعدون يوم القيامة بما فيه من العقاب والثواب والواقع أبلغ من الكائن لما فيه من شائبة الاستقرار، والمعنى أن الذي وعدكم الله به من البعث والعقاب والثواب سيتحقق لا محالة. (كلام في اقسامه تعالى في القرآن) من لطيف صنعة البيان في هذه الآيات الست أنها مع ما تتضمن الاقسام لتأكيد الخبر الذي في الجواب تتضمن الحجة على مضمون الجواب وهو وقوع الجزاء الموعود فإن التدبير الربوبي الذي يشير إليه القسم أعني إرسال المرسلات العاصفات ونشرها الصحف وفرقها وإلقاءها الذكر للنبي تدبير لا يتم إلا مع وجود التكليف الالهي والتكليف لا يتم إلا مع تحتم وجود يوم معد للجزاء يجازى فيه العاصي والمطيع من المكلفين. فالذي أقسم تعالى به من التدبير لتأكيد وقوع الجزاء الموعود هو بعينه حجة على وقوعه كأنه قيل: اقسم بهذه الحجة أن مدلولها واقع. وإذا تأملت الموارد التي اورد فيها القسم في كلامه تعالى وأمعنت فيها وجدت المقسم به فيها حجة دالة على حقية الجواب كقوله تعالى في الرزق: " فو رب السماء والارض إنه لحق " الذاريات: 23 فإن ربوبية السماء والارض هي المبدء لرزق المرزوقين، وقوله: " لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون " الحجر: 72 فإن حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الطاهرة المصونة بعصمة من الله دالة على سكرهم وعمههم، وقوله: " والشمس وضحاها - إلى أن قال - ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من

[ 148 ]

دساها " الشمس: 10 فإن هذا النظام المتقن المنتهي إلى النفس الملهمة المميزة لفجورها وتقواها هو الدليل على فلاح من زكاها وخيبة من دساها. وعلى هذا النسق سائر ما ورد من القسم في كلامه تعالى وإن كان بعضها لا يخلو من خفاء يحوج إلى إمعان من النظر كقوله: " والتين والزيتون وطور سينين " التين: 2 وعليك بالتدبر فيها. قوله تعالى: " فإذا النجوم طمست - إلى قوله - أقتت " بيان لليوم الموعود الذي اخبر بوقوعه في قوله: " إنما توعدون لواقع " وجواب إذا محذوف يدل عليه قوله: " لاي يوم اجلت - إلى قوله - للمكذبين ". وقد عرف سبحانه اليوم الموعود بذكر حوادث واقعة تلازم انقراض العالم الانساني وانقطاع النظام الدنيوي كانطماس النجوم وانشقاق الارض واندكاك الجبال وتحول النظام إلى نظام آخر يغايره، وقد تكرر ذلك في كثير من السور القرآنية وخاصة السور القصار كسورة النبأ والنازعات والتكوير والانفطار والانشقاق والفجر والزلزال والقارعة، وغيرها، وقد عدت الامور المذكورة فيها في الاخبار من أشراط الساعة. ومن المعلوم بالضرورة من بيانات الكتاب والسنة أن نظام الحياة في جميع شؤنها في الآخرة غير نظامها في الدنيا فالدار الآخرة دار أبدية فيها محض السعادة لساكنيها لهم فيها ما يشاؤن أو محض الشقاء وليس لهم فيها إلا ما يكرهون والدار الدنيا دار فناء وزوال لا يحكم فيها إلا الاسباب والعوامل الخارجية الظاهرية مخلوط فيها الموت بالحياة، والفقدان بالوجدان، والشقاء بالسعادة، والتعب بالراحة، والمساءة بالسرور، والآخرة دار جزاء ولا عمل والدنيا دار عمل ولا جزاء، وبالجملة النشأة غير النشأة. فتعريفه تعالى نشأة البعث والجزاء بأشراطها التي فيها انطواء بساط الدنيا بخراب بنيان أرضها وانتساف جبالها وانشقاق سمائها وانطماس نجومها إلى غير ذلك من قبيل تحديد نشأة بسقوط النظام الحاكم في نشأة أخرى قال تعالى: " ولقد علمتم النشأة الاولى فلولا تذكرون " الواقعة: 62.

[ 149 ]

فقوله: " فإذا النجوم طمست " أي محي أثرها من النور وغيره، والطمس إزالة الاثر بالمحو قال تعالى: " وإذا النجوم انكدرت " التكوير: 2. وقوله: " وإذا السماء فرجت " أي انشقت، والفرج والفرجة الشق بين الشيئين قال تعالى: " إذا السماء انشقت " الانشقاق: 1. وقوله: " وإذا الجبال نسفت " أي قلعت وازيلت من قولهم: نسفت الريح الشئ أي اقتلعته وأزالته قال تعالى: " ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا " طه: 105. وقوله: " وإذا الرسل أقتت " أي عين لها الوقت الذي تحضر فيه للشهادة على الامم أو بلغت الوقت الذي تنتظره لاداء شهادتها على الامم من التأقيت بمعنى التوقيت، قال تعالى: " فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين " الاعراف 6، وقال: " يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا اجبتم " المائدة: 109. قوله تعالى: " لاي يوم أجلت - إلى قوله: - للمكذبين " الاجل المدة المضروبة للشئ، والتأجيل جعل الاجل للشئ، ويستعمل في لازمه وهو التأخير كقولهم: دين مؤجل أي له مدة بخلاف الحال وهذا المعنى هو الانسب للآية، والضمير في " اجلت " للامور المذكورة قبلا من طمس النجوم وفرج السماء ونسف الجبال وتأقيت الرسل، والمعنى لاي يوم اخرت يوم أخرت هذه الامور. واحتمل أن يكون " أجلت " بمعنى ضرب الاجل للشئ وأن يكون الضمير المقدر فيه راجعا إلى الرسل، أو إلى ما يشعر به الكلام من الامور المتعلقة بالرسل مما أخبروا به من أحوال الآخرة وأهوالها وتعذيب الكافرين وتنعيم المؤمنين فيها، ولا يخلو كل ذلك من خفاء. وقد سقيت الآية والتي بعدها أعني قوله: " لاي يوم أجلت ليوم الفصل " في صورة الاستفهام وجوابه للتعظيم والتهويل والتعجيب وأصل المعنى أخرت هذه الامور ليوم الفصل. وهذا النوع من الجمل الاستفهامية في معنى تقدير القول، والمعنى إن من عظمة هذا اليوم وهوله وكونه عجبا أنه يسأل فيقال: لاي يوم أخرت هذه الامور العظيمة الهائلة العجيبة فيجاب: ليوم الفصل. وقوله: " ليوم الفصل " هو يوم الجزاء الذي فيه فصل القضاء قال تعالى: " إن الله يفصل بينهم يوم القيامة " الحج: 17.

[ 150 ]

وقوله: " وما أدراك ما يوم الفصل " تعظيم لليوم وتفخيم لامره. وقوله: " ويل يومئذ للمكذبين " الويل الهلاك، والمراد بالمكذبين المكذبون بيوم الفصل الذي فيه ما يوعدون فإن الآيات مسوقة لبيان وقوعه وقد أقسم على أنه واقع. وفي الآية دعاء على المكذبين، وقد استغني به عن ذكر جواب إذا في قوله: " فإذا النجوم طمست " الخ والتقدير فإذا كان كذا وكذا وقع ما توعدون من العذاب على التكذيب أو التقدير فإذا كان كذا وكذا كان يوم الفصل وهلك المكذبون به. (بحث روائي) في الخصال عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: أسرع الشيب إليك يا رسول الله قال صلى الله عليه وآله وسلم: شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون. وفي الدر المنثور أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن مردويه عن ابن مسعود قال: بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة والمرسلات عرفا فإنه يتلوها وإني لالقاها من فيه وإن فاه لرطب بها إذ وثبت عليه حية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اقتلوها فابتدرناها فذهبت فقال النبي صلى الله عليه وسلم وقيت شركم كما وقيتم شرها. أقول: ورواها أيضا بطريقين آخرين. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " والمرسلات عرفا " قال: آيات تتبع بعضها بعضا. وفي المجمع في الآية وقيل: إنها الملائكة ارسلت بالمعروف من أمر الله ونهيه. في رواية الهروي عن ابن مسعود، وعن أبي حمزة الثمالي عن أصحاب علي عنه عليه السلام. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " فإذا النجوم طمست " قال: يذهب نورها وتسقط. وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " فإذا النجوم طمست " فطمسها ذهاب ضوئها " وإذا السماء فرجت " قال: تفرج وتنشق " وإذا الرسل اقتت " قال: بعثت في أوقات مختلفة. وفي المجمع قال: الصادق عليه السلام: " اقتت " أي بعثت في أوقات مختلفة. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " لاي يوم أجلت " قال: أخرت.

[ 151 ]

ألم نهلك الاولين - 16. ثم نتبعهم الآخرين - 17. كذلك نفعل بالمجرمين - 18. ويل يومئذ للمكذبين - 19. ألم نخلقكم من ماء مهين - 20. فجعلناه في قرار مكين - 21. إلى قدر معلوم - 22. فقدرنا فنعم القادرون - 23. ويل يومئذ للمكذبين - 24. ألم نجعل الارض كفاتا - 25. أحياء وأمواتا - 26. وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا - 27. ويل يومئذ للمكذبين - 28. إنطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون - 29. إنطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب - 30. لا ظليل ولا يغني من اللهب - 31. إنها ترمى بشرر كالقصر - 32. كأنه جمالت صفر - 33. ويل يومئذ للمكذبين - 34. هذا يوم لا ينطقون - 35. ولا يؤذن لهم فيعتذرون - 36. ويل يومئذ للمكذبين - 37. هذا يوم الفصل جمعناكم والاولين - 38. فإن كان لكم كيد فكيدون - 39. ويل يومئذ للمكذبين - 40. إن المتقين في ظلال وعيون - 41. وفواكه مما يشتهون - 42. كلوا واشربوا هنيئا بكا كنتم تعملون - 43. إنا كذلك نجزي المحسنين - 44. ويل يومئذ للمكذبين - 45. كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون - 46. ويل يومئذ للمكذبين - 47.

[ 152 ]

وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون - 48. ويل يومئذ للمكذبين - 49. فبأي حديث بعده يؤمنون - 50. (بيان) حجج دالة على توحد الربوبية تقضي بوجود يوم الفصل الذي فيه جزاء المكذبين به، وإشارة إلى ما فيه من الجزاء المعد لهم الذي كانوا يكذبون به، وإلى ما فيه من النعمة والكرامة للمتقين، وتختتم بتوبيخهم وذمهم على استكبارهم عن عبادته تعالى والايمان بكلامه. قوله تعالى: " ألم نهلك الاولين ثم نتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين " الاستفهام للانكار، والمراد بالاولين أمثال قوم نوح وعاد وثمود من الامم القديمة عهدا، وبالآخرين الملحقون بعهم من الامم الغابرة، والاتباع جعل الشئ إثر الشئ. وقوله: " ثم نتبعهم " برفع نتبع على الاستيناف وليس بمعطوف على " نهلك " وإلا جرام. والمعنى قد أهلكنا المكذبين من الامم الاولين ثم إنا نهلك الامم الآخرين على إثرهم. وقوله: " كذلك نفعل بالمجرمين " في موضع التعليل لما تقدمه ولذا أورد بالفصل من غير عطف كأن قائلا قال: لماذا اهلكوا ؟ فقيل: كذلك نفعل بالمجرمين. والآيات - كما ترى - إنذار وإرجاع للبيان إلى الاصل المضروب في السورة أعني قوله: " ويل يومئذ للمكذبين " وهي بعينها حجة على توحد الربوبية فإن أهلاك المجرمين من الانسان تصرف في العالم الانساني وتدبير، وإذ ليس المهلك إلا الله - وقد اعترف به المشركون - فهو الرب لا رب سواه ولا إله غيره. على أنها تدل على وجود يوم الفصل لان أهل إهلاك قوم لاجرامهم لا يتم إلا بعد توجه تكليف إليهم يعصونه ولا معنى للتكليف إلا مع مجازاة المطيع بالثواب والعاصي بالعقاب فهناك يوم يفصل فيه القضاء فيثاب فيه المطيع ويعاقب فيه العاصي وليس هو الثواب والعقاب الدنيويين لانهما لا يستوعبان في هذه الدار فهناك يوم يجازى فيه كل بما عمل، وهو يوم الفصل ذلك يوم مجموع له الناس.

[ 153 ]

قوله تعالى: " ألم نخلقكم من ماء مهين - إلى قوله - فنعم القادرون " الاستفهام للانكار، والماء المهين الحقير قليل الغناء والمراد به النطفة، والمراد بالقرار المكين الرحم وبقوله: " قدر معلوم مدة الحمل. وقوله: " فقدرنا " من القدر بمعنى التقدير، والفاء لتفريع القدر على الخلق أي خلقناكم فقدرنا ما سيجري عليكم من الحوادث وما يستقبلكم من الاوصاف والاحوال من طول العمر وقصره وهيئة وجمال وصحة ومرض ورزق إلى غير ذلك. واحتمل أن يكون " قدرنا " من القدرة مقابل العجز والمراد فقدرنا على جميع ذلك، وما تقدم أوجه. والمعنى: قد خلقناكم من ماء حقير هو النطفة فجعلنا ذلك الماء في قرار مكين هي الرحم إلى مدة معلومة هي مده الحمل فقدرنا جميع ما يتعلق بوجودكم من الحوادث والصفات والاحوال فنعم المقدرون نحن. ويجري في كون مضمون هذه الآيات حجة على توحد الربوبية نظير البيان السابق في الآيات المتقدمة، وكذا في كونه حجة على تحقق يوم الفصل فإن الربوبية تستوجب خضوع المربوبين لساحتها وهو الدين المتضمن للتكليف، ولا يتم التكليف إلا بجعل جزاء على الطاعة والعصيان، واليوم الذي يجازى فيه بالاعمال هو يوم الفصل. قوله تعالى: " ألم نجعل الارض كفاتا أحياء وأمواتا - إلى قوله - فراتا " الكفت والكفات بمعنى الضم والجمع أي ألم نجعل الارض كفاتا يجمع العباد أحياء وأمواتا، وقيل: الكفات جمع كفت بمعنى الوعاء، والمعنى ألم نجعل الارض أوعية تجمع الاحياء والاموات. وقوله: " وجعلنا فيها رواسي شامخات " الرواسي الثابتات من الجبال، والشامخات العاليات، وكأن في ذكر الرواسي توطئة لقوله: " وأسقيناكم ماء فراتا " لان الانهار والعيون الطبيعية تنفجر من الجبال فتجري على السهول، والفرات الماء العذب. ويجري في حجية الآيات نظير البيان السابق في الآيات المتقدمة. قوله تعالى: " انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون " حكاية لما يقال لهم يوم الفصل والقائل هو الله سبحانه بقرينة قوله في آخر الآيات: " إن كان لكم كيد فكيدون " والمراد بما كانوا

[ 154 ]

به يكذبون: جهنم، والانطلاق الانتقال من مكان إلى مكان من غير مكث، والمعنى يقال لهم: انتقلوا من المحشر من غير مكث إلى النار التي كنتم تكذبون به. قوله تعالى: " انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب " ذكروا أن المراد بهذا الظل ظل دخان نار جهنم قال تعالى: " وظل من يحموم " الواقعة: 43. وذكروا أن في ذكر انشعابه إلى ثلاث شعب إشارة إلى عظم الدخان فان الدخان العظيم يتفرق تفرق الذوائب. قوله تعالى: " لا ظليل ولا يغني من اللهب " الظل الظليل هو المانع من الحر والاذى بستره على المستظل فكون الظل غير ظليل كونه لا يمنع ذلك، واللهب ما يعلو على النار من أحمر وأصفر وأخضر. قوله تعالى: " إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر " ضمير " إنها " للنار المعلومة من السياق، والشرر ما يتطاير من النار، والقصر معروف، والجمالة جمع جمل وهو البعير. والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون " الاشارة إلى يوم الفصل، والمراد بالاذن الاذن في النطق أو في الاعتذار. وقوله: " فيعتذرون " معطوف على " يؤذن " منتظم معه في سلك النفي، والمعنى هذا اليوم يوم لا ينطقون فيه أي أهل المحشر من الناس ولا يؤذن لهم في النطق أو في الاعتذار فلا يعتذرون، ولا ينافي نفي النطق ههنا اثباته في آيات أخر لان اليوم ذو مواقف كثيرة مختلفة يسألون في بعضها فينطقون ويختم على أفواههم في آخر فلا ينطقون. وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: " يوم يأت لا تكلم نفس الا بإذنه " هود: 105 فليراجع. قوله تعالى: " هذا يوم الفصل جمعناكم والاولين فإن كان لكم كيد فكيدون " سمي يوم الفصل لما أن الله تعالى يفصل ويميز فيه بين أهل الحق وأهل الباطل بالقضاء بينهم قال تعالى: " ان ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " السجدة: 25، وقال: " ان ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " يونس: 93. والخطاب في قوله: " جمعناكم والاولين " لمكذبي هذه الامة بما أنهم من الآخرين ولذا قوبلوا بالاولين قال تعالى: " ذلك يوم مجموع له الناس " هود: 103 وقال " وحشرناهم

[ 155 ]

فلم نغادر منهم أحدا " الكهف: 67. وقوله: " فإن كان لكم كيد فكيدون " أي ان كانت لكم حيلة تحتالون بي في دفع عذابي عن أنفسكم فاحتالوا، وهذا خطاب تعجيزي منبئ عن انسلاب القوة والقدرة عنهم يومئذ بالكلية بظهور أن لا قوة الا لله عز اسمه قال تعالى: " ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب إذ تبرء الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب " البقرة: 166. والآية أعني قوله: " ان كان لكم كيد فكيدون " أوسع مدلولا من قوله: " يا معشر الجن والانس ان استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والارض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان " الرحمن: 33 لاختصاصه بنفي القدرة على الفرار بخلاف الآية التي نحن فيها وفي قوله: " فكيدون " التفات من التكلم مع الغير إلى التكلم وحده والنكتة فيه أن متعلق هذا الامر التعجيزي إنما هو الكيد لمن له القوة والقدرة فحسب وهو الله وحده ولو قيل: فكيدونا فات الاشعار بالتوحد. قوله تعالى: " إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون - إلى - قوله - المحسنين " الظلال والعيون ظلال الجنة وعيونها التي يتنعمون بالاستظلال بها وشربها، والفواكه جمع فاكهة وهي الثمرة. وقوله: " كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون " مفاده الاذن والاباحة، وكأن الاكل والشرب كناية عن مطلق التنعم بنعم الجنة والتصرف فيها وإن لم يكن بالاكل والشرب وهو شائع كما يطلق أكل المال على مطلق التصرف فيه. وقوله: " انا كذلك نجزي المحسنين " تسجيل لسعادتهم. قوله تعالى: " كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون " الخطاب من قبيل قولهم: إفعل ما شئت فانه لا ينفعك، وهذا النوع من الامر إياس للمخاطب أن ينتفع بما يأتي به من الفعل للحصول على ما يريده، ومنه قوله: " فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا " طه: 72، وقوله: " اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير " حم السجدة: 60. فقوله: " كلوا وتمتعوا قليلا " أي تمتعا قليلا أو زمانا قليلا إياس لهم من أن ينتفعوا بمثل الاكل والتمتع في دفع العذاب عن أنفسهم فليأكلوا وليتمتعوا قليلا فليس يدفع عنهم شيئا.

[ 156 ]

وإنما ذكر الاكل والتمتع لان منكري المعاد لا يرون من السعادة إلا سعادة الحياة الدنيا ولا يرون لها من السعادة إلا الفوز بالاكل والتمتع كالحيوان العجم قال تعالى: " والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الانعام والنار مثوى لهم " سورة محمد: 12. وقوله: " إنكم مجرمون " تعليل لما يستفاد من الجملة السابقة المشتملة على الامر أي لا ينفعكم الاكل والتمتع قليلا لانكم مجرمون بتكذيبكم بيوم الفصل وجزاء المكذبين به النار لا محالة. قوله تعالى: " وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون " المراد بالركوع الصلاة كما قيل ولعل ذلك باعتبار اشتمالها على الركوع. وقيل: المراد بالركوع المأمور به الخشوع والخضوع والتواضع له تعالى باستجابة دعوته وقبول كلامه واتباع دينه، وعبادته. وقيل: المراد بالركوع ما يؤمرون بالسجود يوم القيامة كما يشير إليه قوله تعالى " ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون " القلم: 42 والوجهان لا يخلوان من بعد. ووجه اتصال الآية بما قبلها أن الكلام كان مسوقا لتهديد المكذبين بيوم الفصل وبيان تبعة تكذيبهم به وتمم ذلك في هذه الآية بأنهم لا يعبدون الله إذا دعوا إلى عبادته كما ينكرون ذلك اليوم فلا معنى للعبادة مع نفي الجزاء، وليكون كالتوطئة لقوله الآتي: " فبأي حديث بعده يؤمنون ". ونسب إلى الزمخشري أن الآية متصلة بقوله في الآية السابقة: " للمكذبين " كأنه قيل: ويل يومئذ للذين كذبوا والذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون. وفي الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: " وإذا قيل لهم " الخ وجهه الاعراض عن مخاطبتهم بعد تركهم وأنفسهم يفعلون ما يشاؤن بقوله: " كلوا وتمتعوا ". قوله تعالى: " فبأي حديث بعده يؤمنون " أي إذا لم يؤمنوا بالقرآن وهو آية معجزة إلهية، وقد بين لهم أن الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له وأن أمامهم يوم الفصل بأوضح البيان وساطع البرهان فبأي كلام بعد القرآن يؤمنون. وهذا إيئاس من إيمانهم بالله ورسوله واليوم الآخر وكالتنبيه على أن رفع اليد عن دعوتهم إلى الايمان بإلقاء قوله: " كلوا وتمتعوا " إليهم في محله فليسوا بمؤمنين ولا فائدة في دعوتهم غير أن فيها إتماما للحجة.

[ 157 ]

(بحث روائي) في تفسير القمي، وقوله: " ألم نخلقكم من ماء مهين " قال: منتن " فجعلناه في قرار مكين " قال: في الرحم وأما قوله: " إلى قدر معلوم " يقول: منتهى الاجل. أقول: وفي اصول الكافي في رواية عن أبي الحسن الماضي عليه السلام تطبيق قوله: " ألم نهلك الاولين " على مكذبي الرسل في طاعة الاوصياء، وقوله: " ثم نتبعهم الآخرين " على من أجرم إلى آل محمد عليهم السلام. وعلى اضطراب في متن الخبر، وهو من الجري دون التفسير. وفيه: وقوله " ألم نجعل الارض كفاتا أحياء وأمواتا " قال الكفات المساكن وقال: نظر أمير المؤمنين عليه السلام في رجوعه من صفين إلى المقابر فقال: هذه كفات الاموات أي مساكنهم ثم نظر إلى بيوت الكوفة فقال: هذه كفات الاحياء. ثم تلا قوله: " ألم نجعل الارض كفاتا أحياء وأمواتا ". أقول: وروى في المعاني بإسناده عن حماد عن أبي عبد الله عليه السلام أنه نظر إلى المقابر. وذكر مثل الحديث السابق. وفيه: وقوله " وجعلنا قيها رواسي شامخات " قال: جبال مرتفعة. وفيه: وقوله " انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب " قال فيه ثلاث شعب من النار وقوله: " إنها ترمي بشرر كالقصر " قال: شر النار مثل القصور والجبال. وفيه: وقوله " إن المتقين في ظلال وعيون " قال: في ظلال من نور أنور من الشمس. وفي المجمع في قوله: " وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون " قال مقاتل: نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة فقالوا: لا ننحني. والرواية لا نحني فإن ذلك سبة علينا. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا خير في دين ليس فيه ركوع وسجود. أقول: وفي انطباق القصة - وقد وقعت بعد الهجرة - على الآية خفاء. وفي تفسير القمي في الآية السابقة قال: وإذا قيل لهم " تولوا الامام لم يتولوه ". أقول: وهو من الجرى دون التفسير.

[ 158 ]

(سورة النبأ مكية وهي أربعون آية) بسم الله الرحمن الرحيم عم يتساءلون - 1. عن النبإ العظيم - 2. الذي هم فيه مختلفون - 3. كلا سيعلمون - 4. ثم كلا سيعلمون - 5. ألم نجعل الارض مهادا - 6. والجبال أوتادا - 7. وخلقناكم أزواجا - 8. وجعلنا نومكم سباتا - 9. وجعلنا الليل لباسا - 10. وجعلنا النهار معاشا - 11. وبنينا فوقكم سبعا شدادا - 12. وجعلنا سراجا وهاجا - 13. وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا - 14. لنخرج به حبا ونباتا - 15. وجنات ألفافا - 16. (بيان) تتضمن السورة الاخبار بمجئ يوم الفصل وصفته والاحتجاج على أنه حق لا ريب فيه، فقد افتتحت بذكر تساؤلهم عن نبإه ثم ذكر في سياق الجواب ولحن التهديد أنهم سيعلمون ثم احتج على ثبوته بالاشارة إلى النظام المشهود في الكون بما فيه من التدبير الحكيم الدال بأوضح الدلالة على أن وراء هذه النشأة المتغيرة الدائرة نشأة ثابتة باقية، وأن عقيب هذه الدار التي فيها عمل ولا جزاء دارا فيها جزاء ولا عمل فهناك يوم يفصح عنه هذا النظام. ثم تصف اليوم بما يقع فيه من إحضار الناس وحضورهم وانقلاب الطاغين إلى عذاب أليم والمتقين إلى نعيم مقيم ويختم الكلام بكلمة في الانذار، والسورة مكية بشهادة سياق آياتها. قوله تعالى: " عم يتساءلون " " عم " أصله عما وما استفهامية تحذف الالف منها

[ 159 ]

اطرادا إذا دخل عليها حرف الجر نحو لم ومم وعلى م وإلى م، والتساؤل سؤال القوم بعضهم بعضا عن أمر أو سؤال بعضهم بعد بعض عن أمر وإن كان المسؤول غيرهم، فهم كان يسأل بعضهم بعضا عن أمر أو كان بعضهم بعد بعض يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أمر وحيث كان سياق السورة سياق جواب يغلب فيه الانذار والوعيد تأيد به أن المتسائلين هم كفار مكة من المشركين النافين للنبوة والمعاد دون المؤمنين ودون الكفار والمؤمنين جميعا. فالتساؤل من المشركين والاخبار عنه في صورة الاستفهام للاشعار بهوانه وحقارته لظهور الجواب عنه ظهورا ما كان ينبغي معه أن يتساءلوا عنه. قوله تعالى: " عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون " جواب عن الاستفهام السابق أي يتسائلون عن النبأ العظيم، ولا يخفى ما في توصيف النبأ المتسائل عنه بالعظيم من تعظيمه وتفخيم أمره. والمراد بالنبإ العظيم نبؤ البعث والقيامة الذي يهتم به القرآن العظيم في سوره المكية ولا سيما في العتائق النازلة في أوائل البعثة كل الاهتمام. ويؤيد ذلك سياق آيات السورة بما فيه من الاقتصار على ذكر صفه يوم الفصل وما تقدم عليها من الحجة على أنه حق واقع. وقيل: المراد به نبؤ القرآن العظيم، ويدفعه كون السياق بحسب مصبه أجنبيا عنه وإن كان الكلام لا يخلو من إشارة إليه استلزاما. وقيل: النبؤ العظيم ما كانوا يختلفون فيه من إثبات الصانع وصفاته والملائكة والرسل والبعث والجنة والنار وغيرها، وكأن القائل به اعتبر فيه ما في السورة من الاشارة إلى حقية جميع ذلك مما تتضمنه الدعوة الحقة الاسلامية. ويدفعه أن الاشارة إلى ذلك كله من لوازم صفة البعث المتضمنة لجزاء الاعتقاد الحق والعمل الصالح والكفر والاجرام، وقد دخل فيما في السورة من صفة يوم الفصل تبعا وبالقصد الثاني. على أن المراد بهؤلاء المتسائلين - كما تقدم - المشركون وهم يثبتون الصانع والملائكة وينفون ما وراء ذلك مما ذكر. وقوله: " الذي هم فيه مختلفون " إنما اختلفوا في نحو إنكاره وهم متفقون في نفيه

[ 160 ]

فمنهم من كان يرى استحالته فينكره كما هو ظاهر قولهم على ما حكاه الله: " هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لقي خلق جديد " سبأ: 7، ومنهم من كان يستبعده فينكره وهو قوله: " أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم نرابا وعظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون " المؤمنون: 36، ومنهم من كان يشك فيه فينكره قال تعالى: " بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها " النمل 66، ومنهم من كان يوقن به لكنه لا يؤمن عنادا فينكره كما كان لا يؤمن بالتوحيد والنبوة وسائر فروع الدين بعد تمام الحجة عنادا قال تعالى: " بل لجوا في عتو ونفور " الملك: 21. والمحصل من سياق الآيات الثلاث وما يتلوها أنهم لما سمعوا ما ينذرهم به القرآن من أمر البعث والجزاء يوم الفصل ثقل عليهم ذلك فغدوا يسأل بعضهم بعضا عن شأن هذا النبإ العجيب الذي لم يكن مما قرع أسماعهم حتى اليوم، وربما راجعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم والؤمنين وسألوهم عن صفة اليوم وأنه متى هذا الوعد إن كنتم صادقين وربما كانوا يراجعون في بعض ما قرع سمعهم من حقائق القرآن واحتوته دعوته الجديدة أهل الكتاب وخاصة اليهود ويستمدونهم في فهمه. وقد أشار تعالى في هذه السورة إلى قصة تساؤلهم في صورة السؤل والجواب فقال: " عم يتساءلون " وهو سؤال عما يتساءلون عنه. ثم قال: " عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون " وهو جواب السؤال عما يتساءلون عنه. ثم قال: كلا سيعلمون " الخ، وهو جواب عن تساؤلهم. وللمفسرين في مفردات الآيات الثلاث وتقرير معانيها وجوه كثيرة تركناها لعدم ملاءمتها السياق والذي أوردناه هو الذي يعطيه السياق. قوله تعالى: " كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون " ردع عن تساؤلهم عنه بانين ذلك على الاختلاف في النفي أي ليرتدعوا عن التساؤل لانه سينكشف لهم الامر بوقوع هذا النبأ فيعلمونه، وفي هذا التعبير تهديد كما في قوله: " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " الشعراء: 227. وقوله: " ثم كلا سيعلمون " تأكيد للردع والتهديد السابقين ولحن التهديد هو القرينة على أن المتسائلين هم المشركون النافون للبعث ولجزاء دون المؤمنين ودون المشركين والمؤمنين جميعا.

[ 161 ]

قوله تعالى: " ألم نجعل الارض مهادا " الآية إلى تمام إحدى عشرة آية مسوق سوق الاحتجاج على ثبوت البعث والجزاء وتحقق هذا النبإ العظيم ولازم ثبوته صحة ما في قوله: " سيعلمون " من الاخبار بأنهم سيشاهدونه فيعلمون. تقرير الحجة: أن العالم المشهود بأرضه وسمائه وليله ونهاره والبشر المتناسلين والنظام الجاري فيها والتدبير المتقن الدقيق لامورها من المحال أن يكون لعبا باطلا لا غاية لها ثابتة باقية فمن الضروري أن يستعقب هذا النظام المتحول المتغير الدائر إلى عالم ذي نظام ثابت باق، وأن يظهر فيه أثر الصلاح الذي تدعو إليه الفطرة الانسانية والفساد الذي ترتدع عنه، ولم يظهر في هذا العالم المشهود أعني سعادة المتقين وشقاء المفسدين، ومن المحال أن يودع الله الفطرة دعوة غريزية أو ردعا غريزيا بالنسبة إلى ما لا أثر له في الخارج ولا حظ له من الوقوع فهناك يوم يلقاه الانسان ويجزى فيه على عمله إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا. فالآيات في معنى قوله تعالى " وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار " ص: 28. وبهذا البيان يثبت أن هناك يوما يلقاه الانسان ويجزى فيه بما عمل إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا فليس للمشركين أن يختلفوا فيه فيشك فيه بعضهم ويستبعده طائفة، ويحيله قوم، ولا يؤمن به مع العلم به عنادا آخرون، فاليوم ضروري الوقوع والجزاء لا ريب فيه. ويظهر من بعضهم أن الآيات مسوقة لاثبات القدرة وأن العود يماثل البدء والقادر على الابداء قادر على الاعادة، وهذه الحجة وإن كانت تامة وقد وقعت في كلامه تعالى لكنها حجة على الامكان دون الوقوع والسياق فيما نحن فيه سياق الوقوع دون الامكان فالانسب في تقريرها ما تقدم. وكيف كان فقوله: " ألم نجعل الارض مهادا " الاستفهام للانكار، والمهاد الوطاء والقرار الذي يتصرف فيه، ويطلق على البساط الذي يجلس عليه والمعنى قد جعلنا الارض قرارا لكم تستقرون عليها وتتصرفون فيها.

[ 162 ]

قوله تعالى: " والجبال أوتادا " الاوتاد جمع وتد وهو المسمار إلا أنه أغلظ منه كما في المجمع، ولعل عد الجبال أوتادا مبني على أن عمدة جبال الارض من عمل البركانات بشق الارض فتخرج منه مواد أرضية مذابة تنتصب على فم الشقة متراكمة كهيئة الوتد المنصوب على الارض تسكن به فورة البركان الذي تحته فيرتفع به ما في الارض من الاضطراب والميدان. وعن بعضهم: أن المراد بجعل الجبال أوتادا انتظام معاش أهل الارض بما أودع فيها من المنافع ولولاها لمادت الارض بهم أي لما تهيأت لانتفاعهم. وفيه أنه صرف اللفظ عن ظاهره من غير ضرورة موجبة. قوله تعالى: " وخلقناكم أزواجا " أي زوجا زوجا من ذكر وأنثى لتجري بينكم سنة التناسل فيدوم بقاء النوع إلى ما شاء الله. وقيل: المراد به الاشكال أي كل منكم شكل للآخر. وقيل: المراد به الاصناف أي أصنافا مختلفة كالابيض والاسود والاحمر والاصفر إلى غير ذلك، وقيل: المراد به خلق كل منهم من منيين مني الرجل ومني المرأة، وهذه وجوه ضعيفة. قيل: الالتفات في الآية من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في الالزام والتبكيت. قوله تعالى: " وجعلنا نومكم سباتا " السبات الراحة والدعة فإن في المنام سكوتا وراحة للقوى الحيوانية البدنية مما اعتراها في اليقظة من التعب والكلال بواسطة تصرفات النفس فيها. وقيل: السبات بمعنى القطع وفي النوم قطع التصرفات النفسانية في البدن، وهو قريب من سابقه. وقيل: المراد بالسبات الموت، وقد عد سبحانه النوم من الموت حيث قال: " وهو الذي يتوفاكم بالليل " الانعام: 60 وهو بعيد، وأما الآية فإنه تعالى عد النوم توفيا ولم يعده موتا بل القرآن يصرح بخلافه قال تعالى: " الله يتوفى الانفس حين موتها والتي لم تمت في منامها " الزمر: 42. قوله تعالى: " وجعلنا الليل لباسا " أي ساترا يستر الاشياء بما فيه من الظلمة الساترة للمبصرات كما يستر اللباس البدن وهذا سبب إلهي يدعو إلى ترك التقلب والحركة والميل إلى السكن والدعة والرجوع إلى الاهل والمنزل.

[ 163 ]

وعن بعضهم: أن المراد بكون الليل لباسا كونه كاللباس للنهار يسهل إخراجه منه وهو كما ترى. قوله تعالى: " وجعلنا النهار معاشا " العيش هو الحياة - على ما ذكره الراغب - غير أن العيش يختص بحياة الحيوان فلا يقال: عيشه تعالى وعيش الملائكة ويقال حياته تعالى وحياة الملائكة، والمعاش مصدر ميمي واسم زمان واسم مكان، وهو في الآية بأحد المعنيين الاخيرين، والمعنى وجعلنا النهار زمانا لحياتكم أو موضعا لحياتكم تبتغون فيه من فضل ربكم، وقيل: المراد به المعنى المصدري بحذف مضاف، والتقدير وجعلنا النهار طلب معاش أي مبتغي معاش. قوله تعالى: " وبنينا فوقكم سبعا شدادا " أي سبع سماوات شديدة في بنائها. قوله تعالى: " وجعلنا سراجا وهاجا " الوهاج شديد النور والحرارة والمراد بالسراج الوهاج: الشمس. قوله تعالى: " وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا " المعصرات السحب الماطرة وقيل: الرياح التي تعصر السحب لتمطر والثجاج الكثير الصب للماء، والاولى على هذا المعنى أن تكون " من " بمعنى الباء. قوله تعالى: " لنخرج به حبا ونباتا " أي حبا ونباتا يقتات بهما الانسان وسائر الحيوان. قوله تعالى: " وجنات ألفافا " معطوف على قوله: " حبا " وجنات ألفاف أي ملتفة أشجارها بعضها ببعض. قيل: إن الالفاف جمع لا واحد له من لفظه. (بحث روائي) في بعض الاخبار أن النبأ العظيم علي عليه السلام وهو من البطن. عن الخصال عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله أسرع إليك الشيب. قال: شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون.

[ 164 ]

في تفسير القمي في قوله تعالى: " ألم نجعل الارض مهادا " قال: يمهد فيها الانسان " والجبال أوتادا " أي أوتاد الارض. وفي نهج البلاغة قال عليه السلام ووتد بالصخور ميدان أرضه. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وجعلنا الليل لباسا " قال: يلبس على النهار. أقول: ولعل المراد به أنه يخفي ما يظهره النهار ويستر ما يكشفه. وفيه في قوله تعالى: " وجعلنا سراجا وهاجا " قال: الشمس المضيئة " وأنزلنا من المعصرات " قال: من السحاب " ماء ثجاجا " قال: صبا على صب. وعن تفسير العياشي عن أبي عبد الله عليه السلام " عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون " بالياء يمطرون. ثم قال: أما سمعت قوله: " وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ". أقول: المراد أن " يعصرون " بضم الياء بصيغة المجهول والمراد به أنهم يمطرون واستشهاده عليه السلام بقوله: " وأنزلنا من المعصرات " دليل على أنه عليه السلام أخذ المعصرات بمعنى الممطرات من أعصرت السحابة إذا أمطرت. وروى العياشي مثل الحديث عن علي بن معمر عن أبيه عن أبي عبد الله عليه السلام وروى القمي في تفسيره مثله عن أمير المؤمنين عليه السلام. إن يوم الفصل كان ميقاتا - 17. يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا - 18. وفتحت السماء فكانت أبوابا - 19. وسيرت الجبال فكانت سرابا - 20. إن جهنم كانت مرصادا - 21. للطاغين مآبا - 22. لابثين فيها أحقابا - 23. لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا - 24. إلا حميما وغساقا - 25. جزاء وفاقا - 26. إنهم كانوا لا يرجون حسابا - 27. وكذبوا بآياتنا كذابا - 28. وكل شئ أحصيناه كتابا - 29.

[ 165 ]

فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا - 30. إن للمتقين مفازا - 31. حدائق وأعنابا - 32. وكواعب أترابا - 33. وكأسا دهاقا - 34. لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا - 35. جزاء من ربك عطاء حسابا - 36. رب السموات والارض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا - 37. يوم يقوم الروح والملئكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا - 38. ذلك اليوم الحق فمن شآء اتخذ إلى ربه مآبا - 39. إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا - 40. (بيان) تصف الآيات يوم الفصل الذي أخبر به إجمالا بقوله: " كلا سيعلمون " ثم تصف ما يجري فيه على الطاغين والمتقين، وتختتم بكلمة في الانذار وهي كالنتيجة. قوله تعالى: " إن يوم الفصل كان ميقاتا " قال في المجمع: الميقات منتهى المقدار المضروب لحدوث أمر من الامور وهو من الوقت كما أن الميعاد من الوعد والمقدار من القدر، انتهى. شروع في وصف ما تضمنه النبأ العظيم الذي أخبر بوقوعه وهددهم به في قوله: " كلا سيعلمون " ثم أقام الحجة عليه بقوله: " ألم نجعل الارض مهادا " الخ، وقد سماه يوم الفصل ونبه به على أنه يوم يفصل فيه القضاء بين الناس فينال كل طائفة ما يستحقه بعمله فهو ميقات وحد مضروب لفصل القضاء بينهم والتعبير بلفظ " كان " للدلالة على ثبوته وتعينه في العلم الالهي على ما ينطق به الحجة السابقة الذكر، ولذا أكد الجملة بإن.

[ 166 ]

والمعنى: إن يوم فصل القضاء الذي نبؤه نبأ عظيم كان في علم الله يوم خلق السماوات والارض وحكم فيها النظام الجاري حدا مضروبا ينتهي إليه هذا العالم فإنه تعالى كان يعلم أن هذه النشأة التي أنشأها لا تتم إلا بالانتهاء إلى يوم يفصل فيه القضاء بينهم. قوله تعالى: " يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا " قد تقدم الكلام في معنى نفخ الصور كرارا، والافواج جمع فوج وهي الجماعة المارة المسرعة على ما ذكره الراغب. وفي قوله: " فتأتون أفواجا " جري على الخطاب السابق الملتفت إليه قضاء لحق الوعيد الذي يتضمنه قوله: " كلا سيعلمون " وكان الآية ناظرة إلى قوله تعالى: " يوم ندعوا كل أناس بإمامهم " أسرى: 71. قوله تعالى: " وفتحت السماء فكانت أبوابا " فاتصل به عالم الانسان بعالم الملائكة. وقيل: التقدير فكانت ذات أبواب، وقيل: صار فيها طرق ولم يكن كذلك من قبل، ولا يخلو الوجهان من تحكم فليتدبر. قوله تعالى: " وسيرت الجبال فكانت سرابا " السراب هو الموهوم من الماء اللامع في المفاوز ويطلق على كل ما يتوهم ذا حقيقة ولا حقيقة له على طريق الاستعارة. ولعل المراد بالسراب في الآية هو المعنى الثاني. بيان ذلك: أن تسيير الجبال ودكها ينتهي بالطبع إلى تفرق أجزائها وزوال شكلها كما وقع في مواضع من كلامه تعالى عند وصف زلزلة الساعة وآثارها إذ قال: " وتسير الجبال سيرا " الطور: 10 وقال: " وحملت الارض والجبال فدكتا دكة واحدة " الحاقة: 14، وقال: " وكانت الجبال كثيبا مهيلا " المزمل 14، وقال: " وتكون الجبال كالعهن المنفوش " القارعة: 5، وقال: " وبست الجبال بسا " الواقعة: 5، وقال: " وإذا الجبال نسفت " المرسلات: 10. فتسيير الجبال ودكها ينتهي بها إلى بسها ونسفها وصيرورتها كثيبا مهيلا وكالعهن المنفوش كما ذكره الله تعالى وأما صيرورتها سرابا بمعنى ما يتوهم ماء لامعا فلا نسبة بين التسيير وبين السراب بهذا المعنى. نعم ينتهي تسييرها إلى انعدامها وبطلان كينونتها وحقيقتها بمعنى كونها جبلا فالجبال الراسيات التي كانت ترى حقائق ذوات كينونة قوية لا تحركه العواصف تتبدل بالتسيير

[ 167 ]

سرابا باطلا لا حقيقة له، ونظيره من كلامه تعالى قوله في أقوام أهلكهم وقطع دابرهم، " فجعلناهم أحاديث " سبأ: 19، وقوله: " فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث " المؤمنون: 44، وقوله في الاصنام " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم " النجم: 23. فالآية بوجه كقوله تعالى " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب " النمل: 88 - بناء على كونه ناظرا إلى صفة زلزلة الساعة -. قوله تعالى: " إن جهنم كانت مرصادا " قال في المفردات: الرصد الاستعداد للترقب - إلى أن قال - والمرصد موضع الرصد قال تعالى: " واقعدوا لهم كل مرصد " والمرصاد نحوه لكن يقال للمكان الذي اختص بالرصد قال تعالى: " إن جهنم كانت مرصادا " تنبيها على أن عليها مجاز الناس، وعلى هذا قوله تعالى: " وإن منكم إلا واردها ". انتهى. قوله تعالى: " للطاغين مآبا " الطاغون الملتبسون بالطغيان وهو الخروج عن الحد، والمآب اسم مكان من الاوب بمعنى الرجوع، والعناية في عدها مآبا للطاغين أنهم هيئوها مأوى لانفسهم وهم في الدنيا ثم إذا انقطعوا عن الدنيا آبوا ورجعوا إليها. قوله تعالى: " لابثين فيها أحقابا " الاحقاب الازمنة الكثيرة والدهور الطويلة من غير تحديد. وهو جمع اختلفوا في واحدة فقيل: واحده حقب بالضم فالسكون أو بضمتين، وقد وقع في قوله تعالى: " أو أمضى حقبا " الكهف: 60، وقيل: حقب بالفتح فالسكون وواحد الحقب حقبة بالكسر فالسكون قال الراغب: والحق أن الحقبة مدة من الزمان مبهمة. انتهى. وحد بعضهم الحقب بثمانين سنة أو ببضع وثمانين سنة وزاد آخرون أن السنة منها ثلاثمائة وستون يوما كل يوم يعدل ألف سنة، وعن بعضهم أن الحقب أربعون سنة وعن آخرين أنه سبعون ألف سنة إلى غير ذلك ولا دليل من الكتاب يدل على شئ من هذه التحديدات ولم يثبت من اللغة شئ منها. وظاهر الآية أن المراد يالطاغين المعاندون من الكفار ويؤيده قوله ذيلا: " إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا ".

[ 168 ]

وقد فسروا " أحقابا " في الآية بالحقب بعد الحقب فالمعنى حالكون الطاغين لابثين في جهنم حقبا بعد حقب بلا تحديد ولا نهاية فلا تنافي الآية ما نص عليه القرآن من خلود الكفار في النار. وقيل: إن قوله: " لا يذوقون فيها " الخ صفة " أحقابا " والمعنى لابثين فيها أحقابا هي على هذه الصفة وهي أنهم لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا، ثم يكونون على غير هذه الصفة إلى غير النهاية. وهو حسن لو ساعد السياق. قوله تعالى: " لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا " ظاهر المقابلة بين البرد والشراب أن المراد بالبرد مطلق ما يايتبرد به غير الشراب كالظل الذي يستراح إليه بالاستظلال فالمراد بالذوق مطلق النيل والمس. قوله تعالى: " إلا حميما وغساقا " الحميم الماء الحار شديد الحر، والغساق صديد أهل النار. قوله تعالى: " جزاء وفاقا - إلى قوله - كتابا " المصدر بمعنى اسم الفاعل والمعنى يجزون جزاء موافقا لما عملوا أو بتقدير مضاف أي جزاء ذا وفاق أو اطلاق الوفاق على الجزاء للمبالغة كزيد عدل. وقوله: " إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا " أي تكذيبا عجبيا يصرون عليه، تعليل يوضح موافقة جزائهم لعملهم، وذلك أنهم لم يرجوا الجساب يوم الفصل فأيسوا من الحياة الآخرة وكذبوا بالآيات الدالة عليها فأنكروا التوحيد والنبوة وتعدوا في أعمالهم طور العبودية فنسوا الله تعالى فنسيهم وحرم عليهم سعادة الدار الآخرة فلم يبق لهم إلا الشقاء ولا يجدون فيها إلا ما يكرهون، ولا يواجهون إلا ما يتعذبون به وهو قوله: " فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ". وفي الآية أعني قوله: " جزاء وفاقا " دلالة على المطابقة التامة بين الجزاء والعمل فالانسان لا يريد بعمله إلا الجزاء الذي بإزائه والتلبس بالجزاء تلبس بالعمل بالحقيقة قال تعالى: " يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون " التحريم: 7. وقوله: " وكل شئ أحصيناه كتابا " أي كل شئ ومنه الاعمال ضبطناه وبيناه في

[ 169 ]

كتاب جليل القدر فالآية في معنى قوله تعالى: " وكل شئ أحصيناه في إمام مبين " يس: 12. أو المراد وكل شئ حفظناه حالكونه مكتوبا أي في اللوح المحفوظ أو في صحائف الاعمال، وجوز أن يكون الاحصاء بمعنى الكتابة أو الكتاب بمعنى الاحصاء فإن الاحصاء والكتابة بتشاركان في معنى الضبط والمعنى كل شئ أحصيناه إحصاء أو كل شئ كتبناه كتابا. والآية على أي حال متمم للتعليل السابق، والمعنى الجزاء وموافق لاعمالهم لانهم كانوا على حال كذا وكذا وقد حفظناها عليهم فجزيناهم بها جزاء وفاقا. قوله تعالى: " فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا " تفريع على ما تقدم من تفصيل عذابهم مسوق لايئاسهم من أن يرجوا نجاة من الشقوة وراحة ينالونها. والالتفات إلى خطابهم بقوله: " فذوقوا " تقدير لحضورهم ليخاطبوا بالتوبيخ والتقريع بلا واسطة. والمراد بقوله: " فلن نزيدكم إلا عذابا " أن ما تذوقونه بعد عذاب ذقتموه عذاب آخر فهو عذاب بعد عذاب وعذاب على عذاب فلا تزالون يضاف عذاب جديد إلى عذابكم القديم فاقنطوا من أن تنالوا شيئا مما تطلبون وتحبون. والآية لا تخلو من ظهور في كون المراد بقوله: " لابثين فيها أحقابا " الخلود دون الانقطاع. قوله تعالى: " إن للمتقين مفازا - إلى قوله - كذابا " الفوز الظفر بالخير مع حصول السلامة - على ما قاله الراغب ففيه معنى النجاة والتخلص من الشر والحصول على الخير، والمفاز مصدر ميمي أو اسم مكان من الفوز والآية تحتمل الوجهين جميعا. وقوله: " حدائق وأعنابا " الحدائق جمع حديقة وهي البستان المحوط، والاعناب جمع عنب وهو ثمر شجرة الكرم وربما يطلق على نفس الشجرة. وقوله: " وكواعب " جمع كاعب وهي الفتاة التي تكعب ثدياها واستدار مع ارتفاع يسير، والترائب جمع ترب وهي المماثلة لغيرها من اللذات. وقوله: " وكأسا دهاقا " أي ممتلئة شرابا مصدر بمعنى اسم الفاعل.

[ 170 ]

وقوله: " لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا " أي لا يسمعون في الجنة لغوا من القول لا يترتب عليه أثر مطلوب ولا تكذيبا من بعضهم لبعضهم فيما قال فقولهم حق له أثره المطلوب وصدق مطابق للواقع. قوله تعالى: " جزاء من ربك عطاء حسابا " أي فعل بالمتقين ما فعل حالكونه جزاء من ربك عطية محسوبة فقوله: " جزاء " حال وكذا " عطاء " و " حسابا " بمعنى اسم المفعول صفة لعطاء، ويحتمل أن يكون عطاء تمييزا أو مفعولا مطلقا. قيل: إضافة الجزاء إلى الرب مضافا إلى ضميره صلى الله عليه وآله وسلم تشريف له، ولم يضف جزاء الطاغين إليه تعالى تنزها منه تعالى فليس يغشاهم شر إلا من عند أنفسهم قال تعالى: " ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد " الانفال: 51. ووقوع لفظ الحساب في ذيل جزاء الطاغين والمتقين معا لتثبيت ما يلوح إليه يوم الفصل الواقع في أول الكلام. قوله تعالى: " رب السماوات والارض وما بينهما الرحمان " بيان لقوله: " ربك " أريد به أن ربوبيته تعالى عامة لكل شئ وأن الرب الذي يتخذه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربا ويدعو إليه رب كل شئ لا كما كان يقول المشركون: إن لكل طائفة من الموجودات ربا والله سبحانه رب الارباب أو كما كان يقول بعضهم: إنه رب السماء. وفي توصيف الرب بالرحمن - صيغة مبالغة من الرحمة - إشارة إلى سعة رحمته وأنها سمة ربوبية لا يحرم منها شئ إلا أن يمتنع منها شئ بنفسه لقصوره وسوء اختياره فمن شقوة هؤلاء الطاغين أنهم حرموها على أنفسهم بالخروج عن طور العبودية. قوله تعالى: " لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا " وقوع صدر الآية في سياق قوله: " رب السماوات والارض وما بينهما الرحمن " - وشأن الربوبية هو التدبير وشأن الرحمانية بسط الرحمة - دليل على أن المراد بخطابه تعالى تكليمه في بعض ما فعل من الفعل بنحو السؤال عن السبب الداعي إلى الفعل كأن يقال: لم فعلت هذا ؟ ولم لم تفعل كذا ؟ كما يسأل الفاعل منا عن فعله فتكون الجملة " لا يملكون منه خطابا " في معنى قوله تعالى: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " الانبياء: 23 وقد تقدم الكلام في معنى الآية.

[ 171 ]

لكن وقوع قوله: " يوم يقوم الروح والملائكة صفا " بعد قوله: " لا يملكون منه خطابا " الظاهر في اختصاص عدم الملك بيوم الفصل مضافا إلى وقوعه في سياق تفصيل جزاء الطاغين والمتقين منه تعالى يوم الفصل يعطي أن يكون المراد به أنهم لا يملكون أن يخاطبوه فيما يقضي ويفعل بهم باعتراض عليه أو شفاعة فيهم لكن الملائكة - وهم عن لا يملكون منه خطابا - منزهون عن وصمة الاعتراض عليه تعالى وقد قال فيهم: " عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " الانبياء: 27 وكذلك الروح الذي هو (1) كلمته وقوله، وقوله (1) حق، وهو تعالى (3) الحق المبين والحق لا يعارض الحق ولا يناقضه. ومن هنا يظهر أن المراد بالخطاب الذي لا يملكونه هو الشفاعة وما يجري مجراها من وسائل التخلص من الشر كالعدل والبيع والخلة والدعاء والسؤال قال تعالى: " من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " البقرة: 254، وقال: " ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة " البقرة: 123، وقال: " يوم يأت لاتكلم نفس إلا بإذنه " هود: 105. وبالجملة قوله: " لا يملكون منه خطابا " ضمير الفاعل في " لا يملكون " لجميع المجموعين ليوم الفصل من الملائكة والروح والانس والجن كما هو المناسب للسياق الحاكي عن ظهور العظمة والكبرياء دون خصوص الملائكة والروح لعدم سبق الذكر ودون خصوص الطاغين كما قيل لكثرة الفصل، والمراد بالخطاب الشفاعة وما يجري مجراها كما تقدم. وقوله: " يوم يقوم الروح والملائكة صفا " ظرف لقوله: " لا يملكون "، وقيل: لقوله: " لا يتكلمون " وهو بعيد مع صلاحية ظرفيته لما سبقه. والمراد بالروح المخلوق الامري الذي يشير إليه قوله تعالى: " قل الروح من أمر ربي " أسرى: 85. وقيل: المراد به اشراف الملائكة، وقيل حفظة الملائكة وقيل: ملك موكل على الارواح. ولا دليل على شئ من هذه الاقوال.


(1) النحل: 40. (2) الانعام: 73. (3) النور: 25.

[ 172 ]

وقيل: المراد به جبريل، وقيل: أرواح الناس وقيامها مع الملائكة صفا انما هو بين النفختين قبل أن تلج الاجساد، وقيل: القرآن والمراد من قيامه ظهور آثاره يومئذ من سعادة المؤمنين به وشقاوة الكافرين. ويدفعها أن هذه الثلاثة وإن أطلق على كل منها الروح في كلامه تعالى لكنه مع التقييد كقوله: " ونفخت فيه من روحي " الحجر: 29، وقوله: " نزل به الروح الامين " الشعراء: 193، وقوله: " قل نزله روح القدس " النحل: 102، وقوله: " فأرسلنا إليها روحنا " مريم: 17، وقوله: " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا " الشورى: 52 والروح في الآية التي نحن فيها مطلق، على أن في القولين الاخيرين تحكما ظاهرا. و " صفا " حال من الروح والملائكة وهو مصدر أريد به اسم الفاعل أي حالكونهم صافين، وربما استفيد من مقابة الروح للملائكة أن الروح وحده صف والملائكة جميعا صف. وقوله: " لا يتكلمون " بيان لقوله: " لا يملكون منه خطابا " وضمير الفاعل لاهل الجمع من الروح والملائكة والانس والجن على ما يفيده السياق. وقيل: الضمير للروح والملائكة، وقيل: للناس ووقوع " لا يملكون " بما مر من معناه و " لا يتكلمون " في سياق واحد لا يلائم شيئا من القولين. وقوله: " إلا من أذن له الرحمان " بدل من ضمير الفاعل في " لا يتكلمون " أريد به بيان من له أن يتكلم منهم يومئذ باذن الله فالجملة في معنى قوله: " يوم يأت لا تكلم نفس إلا باذنه " هود: 105 على ظاهر إطلاقه. وقوله: " وقال صوابا " أي قال قولا صوابا لا يشوبه خطأ وهو الحق الذي لا يداخله باطل، والجملة في الحقيقة قيد للاذن كأنه قيل: إلا من أذن له الرحمان ولا يأذن إلا لمن قال صوابا فالآية في معنى قوله تعالى: " ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون " الزخرف: 86. وقيل: " إلا من أذن " الخ استثناء ممن يتكلم فيه والمراد بالصواب التوحيد وقول لا إله إلا الله والمعنى لا يتكلمون في حق أحد إلا في حق شخص أذن له الرحمان وقال

[ 173 ]

ذلك الشخص في الدنيا صوابا أي أقر بالوحدانية وشهد أن لا إله إلا الله فالآية في معنى قوله تعالى: " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " الانبياء: 28. ويدفعه أن العناية الكلامية في المقام متعلقة بنفي أصل الخطاب والتكلم يومئذ من كل متكلم لا بنفي التكلم في كل أحد مع تسليم جواز أصل التكلم فالمستثنون هم المتكلمون المأذون لهم في أصل التكلم من دون تعرض لمن يتكلم فيه. (كلام فيما هو الروح في القرآن) تكررت كلمة الروح - والمتبادر منه ما هو مبدء الحياة - في كلامه تعالى ولم يقصرها في الانسان أو في الانسان والحيوان فحسب بل أثبتها في غيرهما كما في قوله: " فأرسلنا إليها روحنا " مريم: 17، وقوله: " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا " الشورى: 52 إلى غير ذلك فللروح مصداق في الانسان ومصداق في غيره. والذي يصلح أن يكون معرفا لها في كلامه تعالى ما في قوله: " يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى " أسرى: 85 حيث أطلقها اطلاقا وذكر معرفا لها أنها من أمره وقد عرف أمره بقوله: " إنما امره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ " يس: 83 فبين أنه كلمة الايجاد التي هي الوجود من حيث انتسابه إليه تعالى وقيامه به لا من حيث انتسابه إلى العلل والاسباب الظاهرية. وبهذه العناية عد المسيح عليه السلام كلمة له وروحا منه إذ قال: " وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه " النساء: 171 لما وهبه لمريم عليه السلام من غير الطرق العادية ويقرب منه في العناية قوله تعالى: " إن مثل عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " آل عمران: 59. وهو تعالى وإن ذكرها في أغلب كلامه بالاضافة والتقيد كقوله: " ونفخت فيه من روحي " الحجر 29، وقوله: " ونفخ فيه من روحه " السجدة: 9، وقوله: " فأرسلنا إليها روحنا " مريم: 17، وقوله: " وروح منه " النساء: 171 وقوله: " وأيدناه بروح القدس " البقرة 87: إلى غير ذلك إلا أنه أوردها في بعض كلامه مطلقة من غير تقييد كقوله: " تنزل الملائكة والروح فيها باذن ربهم من كل أمر " القدر:

[ 174 ]

4 وظاهر الآية أنها موجود مستقل وخلق سماوي غير الملائكة، ونظير الآية بوجه قوله تعالى: " تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " المعارج: 4. وأما الروح المتعلقة بالانسان فقد عبر عنها بمثل قوله: " ونفخت فيه من روحي " " ونفخ فيه من روحه " وأتى بكلمة " من " الدالة على المبدئية وسماه نفخا وعبر عن الروح التي خصها بالمؤمنين بمثل قوله: " وأيدهم بروح منه " المجادلة: 22 فأتى بالباء الدالة على السببية وسماه تأييدا وتقوية، وعبر عن الروح التي خصها بالانبياء بمثل قوله: " وأيدناه بروح القدس " البقرة: 87 فأضاف الروح إلى القدس وهو النزاهة والطهارة وسماه أيضا تأييدا. وبانضمام هذه الآيات إلى مثل آية سورة القدر يظهر أن نسبة الروح المضافة التي في هذه الآيات إلى الروح المطلقة المذكورة في سورة القدر نسبة الافاضة إلى المفيض والظل إلى ذي الظل بإذن الله. وكذلك الروح المتعلقة بالملائكة من إفاضات الروح بإذن الله، وإنما لم يعبر في روح الملك بالنفخ والتأييد كالانسان بل سماه روحا كما في قوله تعالى: " فأرسلنا إليها روحنا " وقوله: " قل نزله روح القدس " النحل: 102، وقوله: " نزل به الروح الامين " الشعراء: 193 لان الملائكة أرواح محضة على اختلاف مراتبهم في القرب والبعد من ربهم، وما يترآى من الاجسام لهم تمثلات كما يشير إليه قوله تعالى: " فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا " مريم: 17 وقد تقدم الكلام في معنى التمثل في ذيل الآية بخلاف الانسان المخلوق مؤلفا من جسم ميت وروح حية فيناسبه التعبير بالنفخ كما في قوله " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي " الحجر: 29. وكما أوجب اختلاف الروح في خلق الملك والانسان اختلاف التعبير بالنفخ وعدمه كذلك اختلاف الروح من حيث أثرها وهو الحياة شرفا وخسة أوجب اختلاف التعبير بالنفخ والتأييد وعد الروح ذات مراتب مختلفة باختلاف أثر الحياة. فمن الروح الروح المنفوخة في الانسان قال: " ونفخت فيه من روحي ". ومن الروح الروح المؤيد بها المؤمن قال: " أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه " المجادلة: 22 وهي أشرف وجودا وأعلى مرتبة وأقوى أثرا من الروح

[ 175 ]

الانسانية العامة كما يفيده قوله تعالى وهو في معنى هذه الآية: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " الانعام: 122 فقد عد المؤمن حيا ذا نور يمشي به وهو أثر الروح والكافر ميتا وهو ذو روح منفوخة فللمؤمن روح ليست للكافر دات أثر ليس فيه. ومن ذلك يظهر أن من مراتب الروح ما هو في الئبات لما فيه من أثر الحياة يدل على ذلك الآيات المتضمنة لاحياء الارض بعد موتها. ومن الروح الروح المؤيد بها الانبياء قال: " وأيدناه بروح القدس " البقرة 87 وسياق الآيات يدل على كون هذه الروح أشرف وأعلى مرتبة من غيرها مما في الانسان. وأما قوله: " يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق " المؤمن: 15، وقوله: " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا " الشورى 52 فيقبل الانطباق على روح الايمان وعلى روح القدس والله أعلم. وقد تقدم بعض ما ينفع من الكلام في المقام في ذيل هذه الآيات الكريمة. قوله تعالى: " ذلك اليوم الحق " إشارة إلى يوم الفصل المذكور في السورة الموصوف بما مر من الاوصاف وهو في الحقيقة خاتمة الكلام المنعطفة إلى فاتحة السورة وما بعده أعني قوله: " فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا " الخ فضل تفريع على البيان السابق. والاشارة إليه بالاشارة البعيدة للدلالة على فخامة أمره والمراد بكونه حقا ثبوته حتما مقضيا لا يتخلف عن الوقوع. قوله تعالى: " فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا " أي مرجعا إلى ربه ينال به ثواب المتقين وينجو به من عذاب الطاغين، والجملة كما أشرنا إليه تفريع على ما تقدم من الاخبار بيوم الفصل والاحتجاج عليه ووصفه، والمعنى إذا كان كذلك فمن شاء الرجوع إلى ربه فليرجع. قوله تعالى: " إنا أنذرناكم عذابا قريبا " الخ المراد به عذاب الآخرة، وكونه قريبا لكونه حقا لا ريب في إتيانه وكل ما هو آت قريب. على أن الاعمال التي سيجزى بها الانسان هي معه أقرب ما يكون منه. وقوله: " يوم ينظر المرء ما قدمت يداه " أي ينتظر المرء جزاء أعماله التي قدمتها يداه بالاكتساب، وقيل: المعنى ينظر المرء إلى ما قدمت يداه من الاعمال لحضورها عنده قال

[ 176 ]

تعالى: " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء " آل عمران: 30. وقوله: " ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا " أي يتمنى من شدة اليوم أن لو كان ترابا فاقدا للشعور والارادة فلم يعمل ولم يجز. (بحث روائي) في تفسير القمي: وقوله: " وفتحت السماء فكانت أبوابا " قال: تفتح أبواب الجنان، وقوله: " وسيرت الجبال فكانت سرابا " قال: تصير الجبال مثل السراب الذي يلمع في المفازة. وفيه: وقوله: " لابثين فيها أحقابا " قال: الاحقاب السنين والحقب سنة والسنة عددها ثلاثمائة وستون يوما واليوم كالف سنة مما تعدون. وفي المجمع روى نافع عن ابن عمر قال: قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم: لا يخرج من النار من دخلها حتى يمكث فيها أحقابا والحقب بضع وستون سنة والسنة ثلاثمائة وستون يوما كل يوم كألف سنة مما تعدون فلا يتكلن أحد على أن يخرج من النار. أقول: وأورد الرواية في الدر المنثور وفيها ثمانون مكان ستون ولفظ آخرها، قال ابن عمر: فلا يتكلن أحد الخ، وأورد أيضا رواية أخرى عنه صلى الله عليه وآله وسلم أن الحقب أربعون سنة. وفيه وروى العياشي بإسناده عن حمران قال: سالت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الآية فقال: هذه في الذين يخرجون من النار، وروى عن الاحول مثله. وفي تفسير القمي وقوله: " إن للمتقين مفازا " قال: يفوزون، قوله " وكواعب أترابا " قال: جوار وأتراب لاهل الجنة، وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال في قوله: " إن للمتقين مفازا " قال: هي الكرامات " وكواعب أترابا " أي الفتيات النواهد. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الروح جند من جنود الله ليسوا بملائكة لهم رؤس وأيد وأرجل ثم قرأ: " يوم يقوم الروح والملائكة صفا " قال: هؤلاء جند وهؤلاء جند. أقول: وقد تقدمت الرواية في ذيل الآيات المشتملة على الروح عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أن الروح خلق أعظم من جبرائيل وميكائيل، وتقدمت الرواية أيضا عن علي عليه السلام أن الروح غير الملائكة واستدل عليه السلام عليه بقوله تعالى: " ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده " الآية.

[ 177 ]

نعم في رواية القمي عن حمران أنه ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل وكان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مع الائمة عليهم السلام، ولعل المراد بالملك مطلق الموجود السماوي أو هو من وهم بعض الرواة في النقل بالمعنى ولا دليل على انحصار الموجودات الامرية السماوية في الملائكة بل الدليل على خلافه كما يستفاد من قوله تعالى لابليس حين أبى عن السجود لآدم وقد سجد له الملائكة كلهم أجمعون: " يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين " ص: 75 وقد تقدمت الاشارة إلى ذلك في تفسير الآية. وفي اصول الكافي بإسناده عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال قلت: " يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون " الآية قال نحن والله المأذون لهم يوم القيامة والقائلون صوابا. قلت: ما تقولون إذا تكلمتم ؟ قال: نمجد ربنا ونصلي على نبينا ونشفع لشيعتنا ولا يردنا ربنا الحديث. أقول: ورواه في المجمع عن العياشي مرفوعا عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام. والرواية من قبيل ذكر بعض المصاديق فهناك شفعاء أخر من الملائكة والانبياء والمؤمنين مأذون لهم في التكلم، وهناك شهداء من الامم مأذون لهم في التكلم على ما ينص عليه القرآن والحديث. (سورة النازعات مكية وهي ست وأربعون آية) بسم الله الرحمن الرحيم والنازعات غرقا - 1. والناشطات نشطا - 2. والسابحات سبحا - 3. فالسابقات سبقا - 4. فالمدبرات أمرا - 5. يوم ترجف الراجفة - 6. تتبعها الرادفة - 7. قلوب يومئذ واجفة - 8. أبصارها خاشعة - 9. يقولون أإنا لمردودون في الحافرة - 10. أإذا كنا عظاما نخرة - 11. قالوا تلك إذا كرة خاسرة - 12. فإنما

[ 178 ]

هي زجرة واحدة - 13. فإذا هم بالساهرة - 14. هل أتاك حديث موسى - 15. إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى - 16. إذهب إلى فرعون إنه طغى - 17. فقل هل لك إلى أن تزكى - 18. وأهديك إلى ربك فتخشى - 19. فأراه الآية الكبرى - 20. فكذب وعصى - 21. ثم أدبر يسعى - 22. فحشر فنادى - 23. فقال أنا ربكم الاعلى - 24. فأخذه الله نكال الآخرة والاولى - 25. إن في ذلك لعبرة لمن يخشى - 26. أإنتم أشد خلقا أم السماء بناها - 27. رفع سمكها فسواها - 28. وأغطش ليلها وأخرج ضحها - 29. والارض بعد ذلك دحها - 30. أخرج منها ماءها ومرعها - 31. والجبال أرساها - 32. متاعا لكم ولانعامكم - 33. فإذا جاءت الطامة الكبرى - 34. يوم يتذكر الانسان ما سعى - 35. وبرزت الجحيم لمن يرى - 36. فأما من طغى - 37. وآثر الحياة الدنيا - 38. فإن الجحيم هي المأوى - 39. وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى - 40. فإن الجنة هي المأوى - 41. (بيان) في السورة إخبار مؤكد بوقوع البعث والقيامة، واحتجاج عليه من طريق التدبير

[ 179 ]

الربوبي المنتج أن الناس سينقسمون يومئذ طائفتين أصحاب الجنة وأصحاب الجحيم وتختتم السورة بالاشارة إلى سؤالهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن وقت قيام الساعة والجواب عنه. والسورة مكية بشهادة سياق آياتها. قوله تعالى: " والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا " اختلف المفسرون في تفسير هذه الآيات الخمس اختلافا عجيبا مع اتفاقهم على أنها إقسام، وقول أكثرهم بأن جواب القسم محذوف، والتقدير أقسم بكذا وكذا لتبعثن. فقوله: " والنازعات غرقا " قيل: المراد بها ملائكة الموت تنزع الارواح من الاجساد، و " غرقا " مصدر مؤكد بحذف الزوائد أي إغراقا وتشديدا في النزع. وقيل: المراد بها الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفار من أجسادهم بشدة، وقيل: هو الموت ينزع الارواح من الابدان نزعا بالغا. وقيل: المراد بها النجوم تنزع من أفق لتغيب في افق أي تطلع من مطالعها لتغرب في مغاربها، وقيل: المراد بها القسي تنزع بالسهم أي تمد بجذب وترها إغراقا في المد فالاقسام بقسي المجاهدين في سبيل الله أو بالمجاهدين أنفسهم، وقيل: المراد بها الوحش تنزع إلى الكلا. وقوله: " والناشطات نشطا " النشط الجذب والخروج والاخراج برفق وسهولة وحل العقدة، قيل المراد بها الملائكة الذين يخرجون الارواح من الاجساد، وقيل المراد بها خصوص الملائكة يخرجون أرواح المؤمنين من أجسادهم برفق وسهولة، كما أن المراد بالنازعات غرقا الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفار من أجسادهم. وقيل: هم الملائكة الذين ينشطون أرواح الكفار من أجسادهم، وقيل: المراد بها أرواح المؤمنين أنفسهم، وقيل: هي النجوم تنشط وتذهب من افق إلى افق، وقيل: هي السهام تنشط من قسيها في الغزوات، وقيل: هو الموت ينشط ويخرج الارواح من الاجساد، وقيل: هي الوحش تنشط من قطر إلى قطر. وقوله: " والسابحات سبحا " قيل: المراد بها الملائكة تقبض الارواح فتسرع بروح المؤمن إلى الجنة وبروح الكافر إلى النار، والسبح الاسراع في الحركة كما يقال للفرس سابح

[ 180 ]

إذا أسرع في جريه، وقيل: المراد بها الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين يسلونها من الابدان سلا رفيقا ثم يدعونها حتى يستريح كالسابح بالشئ في الماء يرمي، وقيل: هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين، وقيل: هي النجوم تسبح في فلكها كما قال تعالى: " وكل في فلك يسبحون ". وقيل: هي خيل الغزاة تسبح في عدوها وتسرع، وقيل: هي المنايا تسبح في نفوس الحيوان، وقيل: هي السفن تسبح في المياه، وقيل: السحاب، وقيل: دواب البحر. وقوله: " فالسابقات سبقا " قيل المراد بها مطلق الملائكة لانها سبقت ابن آدم بالخير والايمان والعمل الصالح، وقيل ملائكة الموت تسبق بروح المؤمن إلى الجنة وبروح الكافر إلى النار، وقيل الملائكة القابضون لروح المؤمن تسبق بها إلى الجنة، وقيل، ملائكة الوحي تسبق الشياطين بالوحي إلى الانبياء، وقيل أرواح المؤمنين تسبق إلى الملائكة التي يقبضونها شوقا إلى لقاء الله سبحانه، وقيل هي النجوم تسبق بعضها بعضا في السير، وقيل هي خيل الغزاة تسبق بعضها بعضا في الحرب، وقيل هي المنايا تسبق الآمال. وقوله: " فالمدبرات أمرا قيل: المراد بها مطلق الملائكة المدبرين للامور، كذا فسر الاكثرون حتى ادعى بعضهم اتفاق المفسرين عليه، وقيل المراد بها الملائكة الاربعة المدبرون لامور الدنيا: جبرائيل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل، فجبرائيل يدبر أمر الرياح والجنود والوحي، وميكائيل يدبر أمر القطر والنبات، وعزرائيل موكل بقبض الارواح، وإسرافيل يتنزل بالامر عليهم وهو صاحب الصور، قيل: إنها الافلاك يقع فيها أمر الله فيجري بها القضاء في الدنيا. وهناك قول بأن الاقسام في الآيات بمضاف محذوف والتقدير ورب النازعات نزعا الخ. وأنت خبير بأن سياق الآيات الخمس سياق واحد متصل متشابه الاجزاء لا يلائم كثيرا من هذه الاقوال القاضية باختلاف المعاني المقسم بها ككون المراد بالنازعات الملائكة القابضين لارواح الكفار، وبالناشطات الوحش، وبالسابحات السفن، وبالسابقات المنايا تسبق الآمال وبالمدبرات الافلاك. مضافا إلى أن كثيرا منها لا دليل عليها من جهة السياق إلا مجرد صلاحية اللفظ

[ 181 ]

بحسب اللغة للاستعمال فيه أعم من الحقيقة والمجاز. على أن كثيرا منها لا تناسب سياق آيات السورة التي تذكر يوم البعث وتحتج على وقوعه على ما تقدم في سورة المرسلات من حديث المناسبة بين ما في كلامه تعالى من الاقسام وجوابه. والذي يمكن أن يقال - والله أعلم - أن ما في هذه الآيات من الاوصاف المقسم بها يقبل الانطباق على صفات الملائكة في امتثالها للاوامر الصادرة عليهم من ساحة العزة المتعلقة بتدبير امور هذا العالم المشهود ثم قيامهم بالتدبير بإذن الله. والآيات شديدة الشبه سياقا بآيات مفتتح سورة الصافات: " والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا " وآيات مفتتح سورة المرسلات: " والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا " وهي تصف الملائكة في امتثالهم لامر الله غير أنها تصف ملائكة الوحي، والآيات في مفتتح هذه السورة تصف مطلق الملائكة في تدبيرهم أمر العالم بإذن الله. ثم إن أظهر الصفات المذكورة في هذه الآيات الخمس في الانطباق على الملائكة قوله: " فالمدبرات أمرا " وقد أطلق التدبير ولم يقيد بشئ دون شئ فالمراد به التدبير العالمي بإطلاقه، وقوله " أمرا " تمييز أو مفعول به للمدبرات ومطلق التدبير شأن مطلق الملائكة فالمراد بالمدبرات مطلق الملائكة. وإذ كان قوله: " فالمدبرات أمرا " مفتتحا بفاء التفريع الدالة على تفرع صفة التدبير على صفة السبق، وكذا قوله: " فالسابقات سبقا " مقرونا بفاء التفريع الدالة على تفرع السبق على السبح دل ذلك على مجانسة المعاني المرادة بالآيات الثلاث: " والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا " فمدولها أنهم يدبرون الامر بعد ما سبقوا إليه ويسبقون إليه بعد ما سبحوا أي أسرعوا إليه عند النزول فالمراد بالسابحات والسابقات هم المدبرات من الملائكة باعتبار نزولهم إلى ما أمروا بتدبيره. فالآيات الثلاث في معنى قوله تعالى: " له معقبات من بين يديه ومن حلفه يحفظونه من أمر الله " الرعد: 11 على ما تقدم من توضيح معناه فالملائكة ينزلون على الاشياء وقد تجمعت عليها الاسباب وتنازعت فيها وجودا وعدما وبقاء وزوالا وفي مختلف أحوالها

[ 182 ]

فما قضاه الله فيها من الامر وأبرم قضاءه أسرع إليه الملك المأمور به - بما عين له من المقام - وسبق غيره وتمم السبب الذي يقتضيه فكان ما أراده الله، فافهم ذلك. وإذا كان المراد بالآيات الثلاث الاشارة إلى إسراع الملائكة في النزول على ما أمروا به من أمر وسبقهم إليه وتدبيره تعين حمل قوله: " والنازعات غرقا والناشطات نشطا " على انتزاعهم وخروجهم من موقف الخطاب إلى ما أمروا به فنزعهم غرقا شروعهم في النزول نحو المطلوب بشدة، وجد ونشطهم خروجهم من موقفهم نحوه كما أن سبحهم إسراعهم إليه بعد الخروج ويتعقب ذلك سبقهم إليه وتدبير الامر بإذن الله. فالآيات الخمس إقسام بما يتلبس به الملائكة من الصفات عند ما يؤمرون بتدبير أمر من امور هذا العالم المشهود من حين يأخذون في النزول إليه إلى تمام التدبير. وفيها إشارة إلى نظام التدبير الملكوتي عند حدوث الحوادث كما أن الآيات التالية أعي قوله: " هل أتاك " الخ إشارة إلى التدبير الربوبي الظاهر في هذا العالم. وفي التدبير الملكوتي حجي على البعث والجزاء كما أن في التدبير الدنيوي المشهود حجة عليه على ما سيوافيك إن شاء الله بيانه. هذا ما يعطيه التدبر في سياق الآيات الكريمة ويؤيده بعض التأييد ما سيأتي من الاخبار في البحث الروائي الآتي إن شاء الله. (كلام في أن الملائكة وسائط في التدبير) الملائكة وسائط بينه تعالى وبين الاشياء بدء وعودا على ما يعطيه القرآن الكريم بمعنى أنهم أسباب للحوادث فوق الاسباب المادية في العالم المشهود قبل حلول الموت والانتقال إلى نشأة الآخرة وبعده. أما في العود أعني حال ظهور آيات الموت وقبض الروح وإجراء السؤال وثواب القبر وعذابه وإماتة الكل بنفخ الصور وإحيائهم بذلك والحشر وإعطاء الكتاب ووضع الموازين والحساب والسوق إلى الجنة والنار فوساطتهم فيها غني عن البيان، والآيات الدالة على ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها، والاخبار المأثورة فيها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم

[ 183 ]

وأئمة أهل البيت عليهم السلام فوق حد الاحصاء. وكذا وساطتهم في مرحلة التشريع من النزول بالوحي ودفع الشياطين عن المداخلة فيه وتسديد النبي وتأييد المؤمنين وتطهيرهم بالاستغفار. وأما وساطتهم في تدبير الامور في هذه النشأة فيدل عليها ما في مفتتح هذه السورة من إطلاق قوله: " والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا " بما تقدم من البيان. وكذا قوله تعالى: " جاعل الملائكة رسلا اولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع " فاطر: 1 الظاهر بإطلاقه - على ما تقدم من تفسيره - في أنهم خلقوا وشأنهم أن يتوسطوا بينه تعالى وبين خلقه ويرسلوا لانفاذ أمره الذي يستفاد من قوله تعالى في صفتهم: " بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " الانبياء: 27، وقوله: " يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون " النحل: 50 وفي جعل الجناح لهم إشارة ذلك. فلا شغل للملائكة إلا التوسط بينه تعالى وبين خلقه بإنفاذ أمره فيهم وليس ذلك على سبيل الاتفاق بأن يجري الله سبحانه أمرا بأيديهم ثم يجري مثله لا بتوسيطهم فلا اختلاف ولا تخلف في سنته تعالى: " إن ربي على صراط مستقيم " هود: 56، وقال " فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحيلا " فاطر: 43. ومن الواساطة كون بعضهم فوق بعض مقاما وأمر العالي منهم السافل بشئ من التدبير فإنه في الحقيقة توسط من المتبوع بينه تعالى وبين تابعه في إيصال أمر الله تعالى كتوسط ملك الموت في أمر بعض أعوانه بقبض روح من الارواح، قال تعالى حاكيا عن الملائكة: " وما منا إلا له مقام معلوم " الصافات: 164، وقال: " مطاع ثم أمين " التكوير: 21، وقال " حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق " سبأ: 23. ولا ينافي هذا الذي ذكر من توسطهم بينه تعالى وبين الحوادث أعني كونهم أسبابا تستند إليها الحوادث إستناد الحوادث إلى أسبابها القريبة المادية فإن السببية طويلة لا عرضية أي إن السبب القريب سبب للحادث والسبب البعيد سبب للسبب.

[ 184 ]

كما لا ينافي توسطهم واستناد الحوادث إليهم استناد الحوادث إليه تعالى وكونه هو السبب الوحيد لها جميعا على ما يقتضيه توحيد الربوبية فإن السببية طولية كما سمعت لا عرضية ولا يزيد استناد الحوادث إلى الملائكة استنادها إلى أسبابها الطبيعية القريبة وقد صدق القرآن الكريم استناد الحوادث إلى الحوادث الطبيعية كما صدق استنادها إلى الملائكة. وليس لشئ من الاسباب استقلال قباله تعالى حتى ينقطع عنه فيمنع ذلك استناد ما استند إليه إلى الله سبحانه على ما يقول به الوثنية من تفويضه تعالى تدبير الامر إلى الملائكة المقربين فالتوحيد القرآني ينفي الاستقلال عن كل شئ من كل جهة: لا يملكون لانفسهم نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. فمثل الاشياء في استنادها إلى أسبابها المترتبة القريبة والبعيدة وانتهائها إلى الله سبحانه بوجه بعيد كمثل الكتابة يكتبها الانسان بيده وبالقلم فللكتابة استناد إلى القلم ثم إلى اليد التي توسلت إلى الكتابة بالقلم، وإلى الانسان الذي توسل إليها باليد وبالقلم، والسبب بحقيقة معناه هو الانسان المستقل بالسببية من غير أن ينافي سببيته استناد الكتابة بوجه إلى اليد وإلى القلم. ولا منافاة أيضا بين ما تقدم أن شأن الملائكة هو التوسط في التدبير وبين ما يظهر من كلامه تعالى أن بعضهم أو جميعهم مداومون على عبادته تعالى وتسبيحه والسجود له كقوله: " ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون " الانبياء: 20، وقوله: " إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون " الاعراف: 206. وذلك لجواز أن تكون عبادتهم وسجودهم وتسبيحهم عين عملهم في التدبير وامتثالهم الامر الصادر عن ساحة العزة بالتوسط كما ربما يؤمي إليه قوله تعالى: " ولله يسجد ما في السماوات وما في الارض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون " النحل: 49. قوله تعالى: " يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة " فسرت الراجفة بالصيحة العظيمة التي فيها تردد واضطراب والرادفة بالمتأخرة التابعة، وعليه تنطبق الآيتان على نفختي للصور التي يدل عليهما قوله تعالى: " ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الارض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون " الزمر: 68.

[ 185 ]

وقيل: الراجفة بمعنى المحركة تحريكا شديدا - فإذا الرجف يستعمل لازما بمعنى التحرك الشديد، ومتعديا بمعنى التحريك الشديد - والمراد بها أيضا النفخة الاولى المحركة للارض والجبال، وبالرادفة النفخة الثانية النتأخرة عن الاولى. وقيل: المراد بالراجفة الارض وبالرادفة السماوات والكواكب التي ترجف وتضطرب وتنشق، وتتلاشى والوجهان لا يخلوان من بعد ولا سيما الاخير. والانسب بالسياق على أي حال كون قوله: " يوم ترجف " إلخ ظرفا لجواب القسم المحذوف للدلالة على فخامته وبلوغه الغاية في الشدة وهو لتبعثن، وقيل: إن " يوم " منصوب على معنى قلوب يومئذ واجفة يوم ترجف الراجفة، ولا يخلوا من بعد. قوله تعالى: " قلوب يومئذ واجفة أبصارها خاشعة " تنكير " قلوب " للتنوع وهو مبتدء خبره " واجفة " والوجيف الاضطراب، و " يومئذ " ظرف متعلق بواجفة والجملة استئناف مبين لصفة اليوم. وقوله: " أبصارها خاشعة " ضمير " أبصارها " للقلوب ونسبة الابصار وإضافتها إلى القلوب لمكان أن المراد بالقلوب في أمثال هذه المواضع التي تضاف إليها الصفات الادراكية كالعلم والخوف والرجاء وما يشبهها هي النفوس، وقد تقدمت الاشارة إليها. ونسبة الخشوع إلى الابصار وهو من أحوال القلب إنما هي لظهور أثره الدال عليه في الابصار أقوى من سائر الاعضاء. قوله تعالى: " يقولون أإنا لمردودون في الحافرة " إخبار وحكاية لقولهم في الدنيا استبعادا منهم لوقوع البعث والجزاء وإشارة إلى أن هؤلاء الذين لقلوبهم وجيف ولابصارهم خشوع يوم القيامة هم الذين ينكرون البعث وهم في الدنيا ويقولون كذا وكذا. والحافرة - على ما قيل - أول الشئ ومبتداه، والاستفهام للانكار استبعادا، والمعنى يقول هؤلاء: ءإنا لمردودون بعد الموت إلى حالتنا الاولى وهي الحياة. وقيل: الحافرة بمعنى المحفورة وهي أرض القبر، والمعنى أنرد من قبورنا بعد موتنا أحياء، وهو كما ترى. وقيل: الآية تخبر عن اعترافهم بالبعث يوم القيامة، والكلام كلامهم بعد الاحياء والاستفهام للاستغراب كأنهم لما بعثوا وشاهدوا ما شاهدوا يستغربون ما شاهدوا

[ 186 ]

فيستفهمون عن الرد إلى الحياة بعد الموت. وهو معنى حسن لو لم يخالف ظاهر السياق. قوله تعالى: " ءإذا كنا عظاما نخرة " تكرار للاستفهام لتأكيد الاستبعاد فلو كانت الحياة بعد الموت مستبعدة فهي مع فرض نخر العظام وتفتت الاجزاء أشد استبعادا، والنخر بفتحتين البلى والتفتت يقال: نخر العظم ينخر نخرا فهو ناخر ونخر. قوله تعالى: " قالوا تلك إذا كرة خاسرة " الاشارة بتلك إلى معنى الرجعة المفهوم من قوله: " ءإنا لمردودون في الحافرة " والكرة الرجعة والعطفة، وعد الكرة خاسرة إما مجاز والخاسر بالحقيقة صاحبها، أو الخاسرة بمعنى ذات خسران، والمعنى قالوا: تلك الرجعة - وهي الرجعة إلى الحياة بعد الموت - رجعة متلبسة بالخسران. وهذا قول منهم أوردوه استهزاء - على أن يكون قولهم: " ءإنا لمردودون " الخ مما قالوه في الدنيا - ولذا غير السياق وقال " قالوا تلك إذا " الخ بعد قوله " يقولون ءإنا لمردودون " الخ وأما على تقدير أن يكون مما سيقولونه عند البعث فهو قول منهم على سبيل التشؤم والتحسر. قوله تعالى: " فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة " ضمير " هي " للكرة وقيل: للرادفة والمراد بها النفخه الثانية، والزجر طرد بصوت وصياح عبر عن النفخة الثانية بالزجرة لما فيها من نقلهم من نشأة الموت إلى نشأة الحياة ومن بطن الارض إلى ظهرها، و " إذا " فجائية، والساهرة الارض المستوية أو الارض الخالية من النبات. والآيتان في محل الجواب عما يدل عليه قولهم " ءإنا لمردودون " " الخ " من استبعاد البعث واستصعابه والمعنى لا يصعب علينا إحياؤهم بعد الموت وكرتهم فإنما كرتهم - أو الرادفة التي هي النفخة الثانية - زجرة واحدة فإذا هم أحياء على وجه الارض بعدما كانوا أمواتا في بطنها. فالآيتان في معنى قوله تعالى: " وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب " النحل: 77. قوله تعالى: " هل أتاك حديث موسى " الآية إلى تمام اثنتي عشرة آية إشارة إلى إجمال قصة موسى ورسالته إلى فرعون ورده دعوته إلى أن أخذه الله نكال الآخرة والاولى. وفيها عظة وإنذار للمشركين المنكرين للبعث وقد توسلوا به إلى رد الدعوة الدينية إذ لا معنى لتشريع الدين لولا المعاد، وفيها مع ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من تكذيب

[ 187 ]

قومه، وتهديد لهم كما يؤيده توجيه الخطاب في قوله: " هل أتاك ". وفي القصة مع ذلك كله حجة على وقوع البعث والجزاء فإن هلاك فرعون وجنوده تلك الهلكة الهائلة دليل على حقية رسالة موسى من جانب الله إلى الناس ولا تتم رسالته من جانبه تعالى إلا بربوبية منه تعالى للناس على خلاف ما يزعمه المشركون أن لا ربوبية له تعالى بالنسبة إلى الناس وأن هناك أربابا دونه وأنه سبحانه رب الارباب لا غير. ففي قوله: " هل أتاك حديث موسى " استفهام بداعي ترغيب السامع في استماع الحديث ليتسلى به هو ويكون للمنكرين إنذارا بما فيه من ذكر العذاب وإتماما للحجة كما تقدم. ولا ينافي هذا النوع من الاستفهام تقدم علم السامع بالحديث لان الغرض توجيه نظر السامع إلى الحديث دون السؤال والاستعلام حقيقة فمن الممكن أن تكون الآيات أول ما يقصه الله من قصة موسى أو تكون مسبوقة بذكر قصته كما في سورة المزمل إجمالا - وهي أقدم نزولا من سورة النازعات - وفي سورة الاعراف وطه وغيرهما تفصيلا. قوله تعالى: " إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى " ظرف للحديث وهو أول ما أوحى الله إليه فقلده الرسالة، وطوى اسم للوادي المقدس. قوله تعالى: " اذهب إلى فرعون إنه طغى " تفسير للنداء، وقيل: الكلام على تقدير القول أي قائلا اذهب " الخ " أو بتقدير أن المفسرة أي أن اذهب " الخ " وفي الوجهين أن التقدير مستغنى عنه، وقوله: " إنه طغى " تعليل للامر. قوله تعالى: " فقل هل لك إلى أن تزكى " متعلق " إلى " محذوف والتقدير هل لك ميل إلى أن تتزكى أو ما في معناه، والمراد بالتزكي التطهر من قذارة الطغيان. قوله تعالى: " وأهديك إلى ربك فتخشى " عطف على قوله: " تزكى "، والمراد بهدايته إياه إلى ربه - كما قيل - تعريفه له وإرشاده إلى معرفته تعالى وتترتب عليه الخشية منه الرادعة عن الطغيان وتعدي طور العبودية قال تعالى: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " فاطر: 28. والمراد بالتزكي إن كان هو التطهر عن الطغيان بالتوبة والرجوع إلى الله تعالى كانت الخشية مترتبة عليه والمراد بها الخشية الملازمة للايمان الداعية إلى الطاعة والرادعة عن المعصية، وإن كان هو التطهر بالطاعة وتجنب المعصية كان قوله: " وأهديك إلى ربك فتخشى " مفسرا لما قبله والعطف عطف تفسير.

[ 188 ]

قوله تعالى: " فأراه الآية الكبرى " الفاء فصيحة وفي الكلام حذف وتقدير والاصل فأتاه ودعاه فأراه " الخ ". والمراد بالآية الكبرى على ما يظهر من تفصيل القصة آية العصا، وقيل: المراد بها مجموع معجزاته التي أراها فرعون وملاه وهو بعيد. قوله تعالى: " فكذب وعصى " أي كذب موسى فجحد رسالته وسماه ساحرا وعصاه فيما أمره به أو عصى الله. قوله تعالى: " ثم أدبر يسعى " الادبار التولي والسعي هو الجد والاجتهاد أي ثم تولى فرعون يجد ويجتهد في إبطال أمر موسى ومعارضته. قوله تعالى: " فحشر فنادى " الحشر جمع الناس بإزعاج والمراد به جمعه الناس من أهل مملكته كما يدل عليه تفريع قوله: " فنادى فقال أنا ربكم الاعلى " عليه فإنه كان يدعي الربوبية لاهل مملكته جميعا لا لطائفة خاصة منهم. وقيل: المراد بالحشر جمع السحرة لقوله تعالى: " فأرسل فرعون في المدائن حاشرين " الشعراء: 53، وقوله: " فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى " طه: 60 وفيه أنه لا دليل على كون المراد بالحشر في هذه الآية هو عين المراد بالحشر والجمع في تينك الآيتين. قوله تعالى: " فقال أنا ربكم الاعلى دعوى الربوبية وظاهره أنه يدعي أنه أعلى في الربوبية من سائر الارباب التي كان يقول بها قومه الوثنيون فيفضل نفسه على سائر آلهتهم. ولعل مراده بهذا التفضيل مع كونه وثنيا يعبد الآلهة كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن ملائه يخاطبونه: " أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الارض ويذرك وآلهتك، الاعراف: 127 أنه أقرب الآلهة منهم تجري بيده أرزاقهم وتصلح بأمره شؤون حياتهم ويحفظ بمشيته شرفهم وسؤددهم، وسائر الالهة ليسوا على هذه الصفة. وقيل: مراده بما قال تفضيل نفسه على كل من يلي امورهم ومحصله دعوى الملك وأنه فوق سائر أولياء امور المملكة من حكام وعمال فيكون في معنى قوله فيما حكاه الله عنه إذ قال: " ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر " الآية الزخرف: 51.

[ 189 ]

وهو خلاف ظاهر الكلام وفيما قال قوله لملائه: " يا أيها الملا ما علمت لكم من إله غيري " القصص: 38، وقوله لموسى: " لئن اتخذت إلها غيري لاجعلنك من المسجونين " الشعراء: 29. قوله تعالى: " فأخذه الله نكال الآخرة والاولى " الاخذ كناية عن التعذيب، والنكال التعذيب الذي يردع من رآه أو سمعه عن تعاطي مثله، وعذاب الآخرة نكال حيث إن من شأنه أن يردع من سمعه عن تعاطي ما يؤدي إليه من المعصية كما أن عذاب الاستئصال في الدنيا نكال. والمعنى: فأخذ الله فرعون أي عذبه ونكله نكال الآخرة والاولى وأما عذاب الدنيا فإغراقه وإغراق جنوده، وأما عذاب الاخرة فعذابه بعد الموت، فالمراد بالاولى والآخرة الدنيا والآخرة. وقيل: المراد بالآخرة كلمته الآخرة، " أنا ربكم الاعلى " وبالاولى كلمته الاولى قالها قبل ذلك " ما علمت لكم من إله غيري " فأخذه الله بهاتين الكلمتين ونكله نكالهما، ولا يخلو هذا المعنى من خفاء. وقيل: المراد بالاولى تكذيبه ومعصيته المذكوران في أول القصة وبالاخرى كلمة - أنا ربكم الاعلى - المذكورة في آخرها، وهو كسابقه. وقيل: الاولى أول معاصيه والاخرى آخرها والمعنى أخذه الله نكال مجموع معاصيه ولا يخلو أيضا من خفاء. قوله تعالى: " إن في ذلك لعبرة لمن يخشى " الاشارة إلى حديث موسى، والظاهر أن مفعول " يخشى " منسي معرض عنه، والمعنى إن في هذا الحديث - حديث موسى - لعبرة لمن كان له خشية وكان من غريزته أن يخشى الشقاء والعذاب والانسان من غريزته ذلك ففيه عبرة لمن كان انسانا مستقيم الفطرة. وقيل: المفعول محذوف والتقدير لمن يخشى الله والوجه السابق أبلغ. قوله تعالى: " أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها - إلى قوله - ولانعامكم " خطاب توبيخي للمشركين المنكرين للبعث المستهزئين به على سبيل العتاب ويتضمن الجواب عن استبعادهم البعث بقولهم: " أإنا لمردودون في الحافرة أإذا كنا عظاما نخرة " بأن

[ 190 ]

الله خلق ما هو أشد منكم خلقا فهو على خلقكم وإنشائكم النشأة الاخرى لقدير. ويتضمن أيضا الاشارة إلى الحجة على وقوع البعث حيث يذكر التدبير العام العالمي وارتباطه بالعالم الانساني ولازمه ربوبيته تعالى، ولازم الربوبية صحة النبوة وجعل التكاليف، ولازم ذلك الجزاء الذي موطنه البعث والحشر، ولذا فرع عليه حديث البعث بقوله: " فإذا جاءت الطامة الكبرى " الخ. فقوله: " أأنتم أشد خلقا أم السماء " استفهام توبيخي بداعي رفع استبعادهم البعث بعد الموت، والاشارة إلى تفصيل خلق السماء بقوله: " بناها " الخ دليل أن المراد به تقرير كون السماء أشد خلقا. وقوله: " بناها " استئناف وبيان تفصيلي لخلق السماء. وقوله: " رفع سمكها فسواها " أي رفع سقفها وما ارتفع منها، وتسويتها ترتيب أجزائها وتركيبها بوضع كل جزء في موضعه الذي تقتضيه الحكمة كما في قوله: " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي " الحجر: 29. وقوله: " وأغطش ليلها وأخرج ضحاها " أي أظلم ليلها وأبرز نهارها والاصل في معنى الضحى انبساط الشمس وامتداد النهار أريد به مطلق النهار بقرينة المقابلة ونسبة الليل والضحى إلى السماء لان السبب الاصلي لها سماوي وهو ظهور الاجرام المظلمة بشروق الانوار السماوية كنور الشمس وغيره وخفاؤها بالاستتار ولا يختص الليل والنهار بالارض التي نحن عليها بل يعمان سائر الاجرام المظلمة المستنيرة. وقوله: " والارض بعد ذلك دحاها " أي بسطها ومدها بعد ما بنى السماء ورفع سمكها وسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها. وقيل: المعنى والارض مع ذلك دحاها كما في قوله: " عتل بعد ذلك زنيم " وقد تقدم كلام فيما يظهر من كلامه تعالى في خلق السماء والارض في تفسير سورة الم السجدة وذكر بعضهم أن الدحو بمعنى الدحرجة. وقوله: " أخرج منها ماءها ومرعاها " قيل: المرعى يطلق على الرعي بالكسر فالسكون وهو الكلا كما يجئ مصدرا ميميا، واسم زمان ومكان، والمراد باخراج مائها منها تفجير العيون وإجراء الانهار عليها، وإخراج المرعى إنبات النبات عليها

[ 191 ]

مما يتغذى به الحيوان والانسان فالظاهر أن المراد بالمرعى مطلق النبات الذي يتغذى به الحيوان والانسان كما يشعر به قوله: " متاعا لكم ولانعامكم " لا ما يختص بالحيوان كما هو الغالب في استعماله. وقوله: " والجبال أرساها " أي أثبتها على الارض لئلا تميد بكم وادخر فيها المياه والمعادن كما ينبئ عنه سائر كلامه تعالى. وقوله: " متاعا لكم ولانعامكم " أي خلق ما ذكر من السماء والارض ودبر ما دبر من أمرهما ليكون متاعا لكم ولانعامكم التي سخرها لكم تتمتعون به في حياتكم فهذا الخلق والتدبير الذي فيه تمتيعكم يوجب عليكم معرفة ربكم وخوف مقامه وشكر نعمته فهناك يوم تجزون فيه بما عملتم في ذلك إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا كما أن هذا الخلق والتدبير أشد من خلقكم فليس لكم أن تستبعدوا خلقكم ثانيا وتستصعبوه عليه تعالى. قوله تعالى: " فإذا جاءت الطامة الكبرى " في المجمع: والطامة العالية الغالبة يقال: هذا أطم من هذا أي أعلى منه، وطم الطائر الشجرة أي علاها وتسمى الداهية التي لا يستطاع دفعها طامة. انتهى، فالمراد بالطامة الكبرى القيامة لانها داهية تعلو وتغلب كل داهية هائلة، وهذا معنى اتصافها بالكبرى وقد اطلقت إطلاقا. وتصدير الجملة بفاء التفريع للاشارة إلى أن مضمونها أعني مجئ القيامة من لوازم خلق السماء والارض وجعل التدبير الجاري فيهما المترتبة على ذلك كما تقدمت الاشارة إليه. قوله تعالى: " يوم يتذكر الانسان ما سعى " ظرف لمجئ الطامة الكبرى، والسعي هو العمل بجد. قوله تعالى: " وبرزت الجحيم لمن يرى " التبريز الاظهار ومفعول " يرى " منسي معرض عنه والمراد بمن يرى من له بصر يرى به، والمعنى واظهرت الجحيم بكشف الغطاء عنها لكل ذي بصر فيشاهدونها مشاهدة عيان. فالآية في معنى قوله تعالى: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " ق: 22 غير أن آية ق أوسع معنى.

[ 192 ]

والآية ظاهرة في أن الجحيم مخلوقة قبل يوم القيامة وإنما تظهر يومئذ ظهورا بكشف الغطاء عنها. قوله تعالى: " فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هي المأوى " تفصيل حال الناس يومئذ في انقسامهم قسمين اقيم مقام الاجمال الذي هو جواب إذا المحذوف استغناء بالتفصيل عن الاجمال، والتقدير فإذا جاءت الطامة الكبرى انقسم الناس قسمين فأما من طغى الخ. وقد قسم تعالى الناس في الآيات الثلاث إلى أهل الجحيم وأهل الجنة - وقدم صفة أهل الجحيم لان وجه الكلام إلى المشركين - وعزف أهل الجحيم بما وصفهم به في قوله: " من طغى وآثر الحياة الدنيا " وقابل تعريفهم بتعريف أهل الجنة بقوله: " من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى " وسبيل ما وصف به الطائفتين على أي حال سبيل بيان الضابط. وإذ كانت الطائفتان متقابلتين بحسب حالهما كان ما بين لكل منهما من الوصف مقابلا لوصف الآخر فوصف أهل الجنة بالخوف من مقام ربهم - والخوف تأثر الضعيف المقهور من القوي القاهر وخشوعه وخضوعه له - يقتضي كون طغيان أهل الجحيم - والطغيان التعدي عن الحد - هو عدم تأثرهم من مقام ربهم بالاستكبار وخروجهم عن زي العبودية فلا يخشعون ولا يخضعون ولا يجرون على ما أراده منهم ولا يختارون ما اختاره لهم من السعادة الخالدة بل ما تهواه أنفسهم من زينة الحياة الدنيا. فمن لوازم طغيانهم اختيارهم الحياة الدنيا وهو الذي وصفهم به بعد وصفهم بالطغيان إذ قال: وآثر الحياة الدنيا ". وإذ كان من لوازم الطغيان رفض الآخرة وإيثار الحياة الدنيا وهو اتباع النفس فيما تريده وطاعتها فيما تهواه ومخالفته تعالى فيما يريده كان لما يقابل الطغيان من الوصف وهو الخوف ما يقابل الايثار واتباع هوى النفس وهو قريحة الردع عن الاخلاد إلى الارض ونهي النفس عن اتباع الهوى وهو قوله في وصف أهل الجنة بعد وصفهم بالخوف: " ونهى النفس عن الهوى ". وإنما أخذ في وصفه النهي عن الهوى دون ترك اتباعه عملا لان الانسان ضعيف ربما

[ 193 ]

ساقته الجهالة إلى المعصية من غير استكبار والله واسع المغفرة قال تعالى " ولله ما في السماوات وما في الارض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة " النجم: 32، وقال: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما " النساء: 31. ويتحصل معنى الآيات الثلاث في إعطاء الضابط في صفة أهل الجحيم وأهل الجنة في أن أهل الجحيم أهل الكفر والفسوق وأهل الجنة أهل الايمان والتقوى، وهناك غير الطائفتين طوائف اخر من المستضعفين والذين اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا وغيرهم أمرهم إلى الله سبحانه عسى أن يشملهم المغفرة بشفاعة وغيرها. فقوله: " فأما من طغى - إلى قوله - هي المأوى " أي هي مأواه على أن تكون اللام عوضا عن الضمير أو الضمير محذوف والتقدير هي المأوى له. وقوله: " وأما من خاف مقام ربه " إلخ المقام اسم مكان يراد به المكان الذي يقوم فيه جسم من الاجسام وهو الاصل في معناه ككونه اسم زمان ومصدرا ميميا لكن ربما يعتبر ما عليه الشئ من الصفات والاحوال محلا ومستقرا للشئ بنوع من العناية فيطلق عليه المقام كالمنزلة كما في قوله تعالى في الشهادة: " فآخران يقومان مقامهما " المائدة: 107 وقول نوح عليه السلام لقومه على ما حكاه الله: " إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله " يونس: 71، وقول الملائكة على ما حكاه الله: " وما منا إلا له مقام معلوم " الصافات: 164. فمقامه تعالى المنسوب إليه بما أنه رب هو صفة ربوبيته بما تستلزمه أو تتوقف عليه من صفاته الكريمة كالعلم والقدرة المطلقة والقهر والغلبة والرحمة والغضب وما يناسبها قال إيذانا به: " ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى " طه: 82، وقال: " نبئ عبادي أنى أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الاليم " الحجر: 50. فمقامه تعالى الذي يخوف منه عباده مرحلة ربوبيته التي هي المبدء لرحمته ومغفرته لمن آمن واتقى ولاليم عذابه وشديد عقابه لمن كذب وعصى. وقيل: المراد بمقام ربه مقامه من ربه يوم القيامة حين يسأله عن أعماله وهو كما ترى. وقيل: معنى خاف مقام ربه خاف ربه بطريق الاقحام كما قيل في قوله: " أكرمي مثواه ".

[ 194 ]

(بحث روائي) في الفقيه وروى علي بن مهزيار قال: قلت لابي جعفر عليه السلام: قوله عزوجل: " والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى " وقوله عزوجل: " والنجم إذا هوى " وما أشبه هذا ؟ فقال إن لله عزوجل أن يقسم من خلقه بما شاء وليس لخلقه أن يقسموا إلا به. أقول: وتقدم في هذا المعنى رواية الكافي عن محمد بن مسلم عن الباقر عليه السلام في تفسير أول سورة النجم. وفي الدر المنثور أخرج سعيد بن المنصور وابن المنذر عن علي في قوله: " والنازعات غرقا " قال: هي الملائكة تنزع أرواح الكفار " والناشطات نشطا " هي الملائكة تنشط أرواح الكفار ما بين الاظفار والجلد حتى تخرجها والسابحات سبحا " هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين بين السماء والارض فالسابقات سبقا " هي الملائكة يسبق بعضها بعضا بأرواح المؤمنين إلى الله " فالمدبرات أمرا " قال هي الملائكة تدبر أمر العباد من السنة إلى السنة. أقول: ينبغي أن تحمل الرواية - لو صحت - على ذكر بعض المصاديق، وقوله: " تنشط أرواح الكفار ما بين الاظفار والجلد حتى تخرجها " ضرب من التمثيل لشدة العذاب. وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب أن ابن الكوا سأله عن " المدبرات أمرا " قال: الملائكة يدبرون ذكر الرحمان وأمره. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة " قال: تنشق الارض بأهلها والرادفة الصيحة. وفيه في قوله: " أإنا لمردودون في الحافرة " قال: قالت قريش: أنرجع بعد الموت ؟ وفيه في قوله: " تلك إذا كرة خاسرة " قال: قالوا هذه على حد الاستهزاء. وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قوله: " أإنا لمردودون في الحافرة " يقول: في الخلق الجديد، وأما قوله: " فإذا هم بالساهرة " والساهرة الارض كانوا في القبور فلما سمعوا الزجرة خرجوا من قبورهم فاستووا على الارض.

[ 195 ]

وفي اصول الكافي بإسناده إلى داود الرقي عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله الله عزوجل: " ولمن خاف مقام ربه جنتان، قال: من علم أن الله يراه ويسمع ما يقول ويعلم ما يعمله من خير أو شر فيحجزه ذلك عن القبيح من الاعمال فذلك الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. أقول: يؤيد الحديث ما تقدم من معنى الخوف من مقامه تعالى. وفيه بإسناده عن يحيى بن عقيل قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: إنما أخاف عليكم الاثنين: اتباع الهوى وطول الامل أما اتباع الهوى فإنه يصد عن الحق وأما طول الامل فينسي الآخرة. يسألونك عن الساعة أيان مرساها - 42. فيم أنت من ذكراها - 43. إلى ربك منتهاها - 44. إنما أنت منذر من يخشاها - 45. كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها - 46. (بيان) تعرض لسؤالهم عن وقت قيام الساعة ورد له بأن علمه ليس لاحد إلا الله فقد خصه بنفسه. قوله تعالى: " يسألونك عن الساعة أيان مرساها " الظاهر أن التعبير بيسألونك لافادة الاستمرار فقد كان المشركون بعد ما سمعوا حديث القيامة يراجعون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويسألونه أن يعين لهم وقتها مصرين على ذلك وقد تكرر في القرآن الكريم الاشارة إلى ذلك. والمرسى مصدر ميمي بمعنى الاثبات والاقرار وقوله: " أيان مرساها " بيان للسؤال والمعنى يسألك هؤلاء المنكرون للساعة المستهزؤن به عن الساعة متى إثباتها وإقرارها ؟ أي متى تقوم القيامة ؟ قوله تعالى: " فيم أنت من ذكراها " استفهام إنكاري و " فيم أنت " مبتدء وخبر، و " من لابتداء الغاية، والذكرى كثرة الذكر وهو أبلغ من الذكر على ما ذكره الراغب.

[ 196 ]

والمعنى في أي شئ أنت من كثرة ذكر الساعة أي ماذا يحصل لك من العلم بوقتها من ناحية كثرة ذكرها وبسبب ذلك أي لست تعلمها بكثرة ذكرها. أو الذكرى بمعنى حضور حقيقة معنى الشئ في القلب، والمعنى - على الاستفهام الانكاري - لست في شئ من العلم بحقيقتها وما هي عليه حتى تحيط بوقتها وهو أنسب من المعنى السابق. وقيل: المعنى ليس ذكراها مما يرتبط ببعثتك إنما بعثت لتنذر من يخشاها. وقيل: " فيم " إنكار لسؤالهم، وقوله: " أنت من ذكراها " استئناف وتعليل لانكار سؤالهم، والمعنى فيم هذا السؤال إنما أنت من ذكرى الساعة لاتصال بعثتك بها وأنت خاتم الانبياء، وهذا المقدار من العلم يكفيهم، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما روي: " بعثت أنا والساعة كهاتين إن كادت لتسبقني ". وقيل: الآية من تمام سؤال المشركين خاطبوا به النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعنى ما الذى عندك من العلم بها وبوقتها ؟ أو ما الذي حصل لك وأنت تكثر ذكرها. وأنت خبير بأن السياق لا يلائم شيئا من هذه المعاني تلك الملاءمة، على أنها أو أكثرها لا تخلو من تكلف. قوله تعالى: " إلى ربك منتهاها " في مقام التعليل لقوله: " فيم أنت من ذكراها " والمعنى لست تعلم وقتها لان انتهاءها إلى ربك فلا يعلم حقيقتها وصفاتها ومنها تعين الوقت إلا ربك فليس لهم أن يسألوا عن وقتها وليس في وسعك أن تجيب عنها. وليس من البعيد - والله أعلم - أن تكون الآية في مقام التعليل بمعنى آخر وهو أن الساعة تقوم بفناء الاشياء وسقوط الاسباب وظهور أن لا ملك إلا لله الواحد القهار فلا ينتسب اليوم إلا إليه تعالى من غير أن يتوسط بالحقيقة بينه تعالى وبين اليوم أي سبب مفروض ومنه الزمان فليس يقبل اليوم توقيتا بحسب الحقيقة. ولذا لم يرد في كلامه تعالى من التحديد إلا تحديد اليوم بانقراض نشأة الدنيا كقوله: " ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الارض " الزمر: 68 وما في معناه من الآيات الدالة على خراب الدنيا بتبدل الارض والسماء وانتثار الكواكب وغير ذلك. وإلا تحديده بنوع من التمثيل والتشبيه كقوله تعالى: " كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها " وقوله: " كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار "

[ 197 ]

الاحقاف: 35، وقوله: " ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة " ثم ذكر حق القول في ذلك فقال: " وقال الذين أوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث " الروم: 56. ويلوح إلى ما مر ما في مواضع من كلامه أن الساعة لا تأتي إلا بغتة، قال تعالى: " ثقلت في السماوات والارض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن اكثر الناس لا يعلمون " الاعراف: 187 إلى غير ذلك من الآيات. وهذا وجه عميق يحتاج في تمامه إلى تدبر واف ليرتفع به ما يترآى من مخالفته لظواهر عدة من آيات القيامة وعليك بالتدبر في قوله تعالى: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " ق: 22 وما في معناه من الآيات والله المستعان. قوله تعالى: " إنما أنت منذر من يخشاها " أي إنما كلفناك بإنذار من يخشى الساعة دون الاخبار بوقت قيام الساعة حتى تجيبهم عن وقتها إذا سألوك عنه فالقصر في الآية قصر إفراد بقصر شأنه صلى الله عليه وآله وسلم في الانذار وتنفي عنه العلم بالوقت وتعيينه لمن يسأل عنه. والمراد بالخشية على ما يناسب المقام الخوف منها إذا ذكر بها أي شأنية الخشية لا فعليتها قبل الانذار. قوله تعالى: " كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها " بيان لقرب الساعة بحسب التمثيل والتشبيه بأن قرب الساعة من حياتهم الدنيا بحيث مثلهم حين يرونها مثلهم لو لبثوا بعد حياتهم في الارض عشية أو ضحى تلك العشية أي وقتا نسبته إلى نهار واحد نسبة العشية إلى ما قبلها منه أو نسبة الضحى إلى ما قبله منه. وقد ظهر بما تقدم أن المراد باللبث لبث ما بين الحياه الدنيا والبعث أي لبثهم في القبور لان الحساب يقع على مجموع الحياة الدنيا. وقيل: المراد به اللبث بين حين سؤالهم عن وقتها وبين البعث وفيه أنهم إنما يشاهدون لبثهم على هذه الصفة عند البعث والبعث الذي هو الاحياء بعد الموت إنما نسبته إلى الموت الذي قبله دون مجموع الموت وبعض الحياة التي بين زمان السؤال عن الوقت وزمان الموت. على أنه لا يلائم ظواهر سائر الآيات المتعرضة للبثهم قبل البعث كقوله تعالى " قال كم لبثتم في الارض عدد سنين " المؤمنون: 112. وقيل: المراد باللبث اللبث في الدنيا وهو سخيف.

[ 198 ]

(بحث روائي) في تفسير القمي: " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى " قال: هو العبد إذ وقف على معصية الله وقدر عليها ثم تركها مخافة الله ونهى الله ونهى النفس عنها فمكافاته الجنة، قوله " يسألونك عن الساعة أيان مرساها " قال: متى تقوم ؟ فقال الله: " إلى ربك منتهاها " أي علمها عند الله، قوله " كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها " قال: بعض يوم. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس قال: إن مشركي مكة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: متى تقوم الساعة استهزاء منهم فنزلت " يسألونك عن الساعة أيان مرساها " الآيات. وفيه أخرج البزار وابن جرير وابن منذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن عائشة قالت: ما زال رسول الله يسأل عن الساعة حتى أنزل عليه " فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها " فلم يسأل عنها. أقول: ورواه أيضا عن عدة من أصحاب الكتب عن عروة مرسلا، ورواه أيضا عن عدة منهم عن شهاب بن طارق عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، والسياق لا يلائم كونه جوابا عن سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي بعض الروايات: كانت الاعراب إذا قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم سألوه عن الساعة فينظر إلى أحدث إنسان فيهم فيقول: إن يعش هذا قرنا قامت عليكم ساعتكم رواها في الدر المنثور عن ابن مردويه عن عائشة. وهي من التوقيت الذي يجل عنه ساحة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد اوحي إليه في كثير من السور القرآنية سيما المكية أن علم الساعة يختص به تعالى لا يعلمه إلا هو وامر أن يجيب من سأله عن وقتها بنفي العلم به عن نفسه.

[ 199 ]

(سورة عبس مكية وهي اثنان واربعون آية) بسم الله الرحمن الرحيم عبس وتولى - 1. أن جاءه الاعمى - 2. وما يدريك لعله يزكى - 3. أو يذكر فتنفعه الذكرى - 4. أما من استغنى - 5. فأنت له تصدى - 6. وما عليك ألا يزكى - 7. وأما من جاءك يسعى - 8. وهو يخشى - 9. فأنت عنه تلهى - 10. كلا إنها تذكرة - 11. فمن شآء ذكره - 12. في صحف مكرمة - 13. مرفوعة مطهرة - 14. بأيدي سفرة - 15. كرام بررة - 16. (بيان) وردت الروايات من طرق أهل السنة أن الآيات نزلت في قصة ابن ام مكتوم الاعمى دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعنده قوم من صناديد قريش يناجيهم في أمر الاسلام فعبس النبي عنه فعاتبه الله تعالى بهذه الآيات وفي بعض الاخبار من طرق الشيعة إشارة إلى ذلك. وفي بعض روايات الشيعة أن العابس المتولي رجل من بني أمية كان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدخل عليه ابن ام مكتوم فعبس الرجل وقبض وجهه فنزلت الآيات: وسيوافك تفصيل البحث عن ذلك في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى. وكيف كان الامر فغرض السورة عتاب من يقدم الاغنياء والمترفين على الضعفاء والمساكين من المؤمنين فيرفع أهل الدنيا ويضع أهل الآخرة ثم ينجر الكلام إلى الاشارة إلى هوان أمر الانسان في خلقه وتناهيه في الحاجة إلى تدبير أمره وكفره مع ذلك بنعم ربه وتدبيره العظيم لامره وتتخلص إلى ذكر بعثه وجزائه إنذارا، والسورة مكية بلا كلام. قوله تعالى: " عبس وتولى " أي بسر وقبض وجهه وأعرض. قوله تعالى: " أن جاءه الاعمى " تعليل لما ذكر من العبوس بتقدير لام التعليل.

[ 200 ]

قوله تعالى: " وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى " حال من فاعل " عبس وتولى " والمراد بالتزكي التطهر بعمل صالح بعد التذكر الذي هو الاتعاظ والانتباه للاعتقاد الحق، ونفع الذكرى هو دعوتها إلى التزكي بالايمان والعمل الصالح. ومحصل المعنى: بسرو أعرض عن الاعمى لما جاءه والحال أنه ليس يدري لعل الاعمى الذي جاءه يتطهر بصالح العمل بعد الايمان بسبب مجيئه وتعلمه وقد تذكر قبل أو يتذكر بسبب مجيئه واتعاظه بما يتعلم فتنفعه الذكرى فيتطهر. وفي الآيات الاربع عتاب شديد ويزيد شدة بإتيان الآيتين الاوليين في سياق الغيبة لما فيه من الاعراض عن المشافهة والدلالة على تشديد الانكار وإتيان الآيتين الاخيرتين في سياق الخطاب لما فيه من تشديد التوبيخ وإلزام الحجة بسبب المواجهة بعد الاعراض والتقريع من غير واسطة. وفي التعبير عن الجائي بالاعمى مزيد توبيخ لما أن المحتاج الساعي في حاجته إذا كان أعمى فاقدا للبصر وكانت حاجته في دينه دعته إلى السعي فيها خشية الله كان من الحري أن يرحم ويخص بمزيد الاقبال والتعطف لا أن ينقبض ويعرض عنه. وقيل - بناء على كون المراد بالمعاتب هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم -: أن في التعبير عنه أولا بضمير الغيبة إجلالا له لايهام أن من صدر عنه العبوس والتولي غيره صلى الله عليه وآله وسلم لانه لا يصدر مثله عن مثله، وثانيا بضمير الخطاب إجلالا له أيضا لما فيه من الايناس بعد الايحاش والاقبال بعد الاعراض. وفيه أنه لا يلائمه الخطاب في قوله بعد: " أما من استغنى فأنت له تصدى " إلخ والعتاب والتوبيخ فيه أشد مما في قوله: " عبس وتولى " إلخ ولا إيناس فيه قطعا. قوله تعالى: " أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك أن لا يزكى " الغنى والاستغناء والتغني والتغاني بمعنى على ما ذكره الراغب فالمراد بمن استغنى من تلبس بالغنى ولازمه التقدم والرئاسة والعظمة في أعين الناس والاستكبار عن اتباع الحق قال تعالى: " إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى " العلق: 7 والتصدي التعرض للشئ بالاقبال عليه والاهتمام بأمره. وفي الآية إلى تمام ست آيات إشارة إلى تفصيل القول في ملاك ما ذكر من العبوس والتولي فعوتب عليه ومحصله أنك تعتني وتقبل على من استغنى واستكبر عن اتباع الحق

[ 201 ]

وما عليك أن لا يزكى وتتلهى وتعرض عمن يجتهد في التزكي وهو يخشى. وقوله: " وما عليك أن لا يزكى " قيل: " ما " نافية والمعنى وليس عليك بأس أن لا يتزكى حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الاعراض والتلهي عمن أسلم والاقبال عليه. وقيل: " ما " للاستفهام الانكاري والمعنى وأي شئ يلزمك إن لم يتطهر من الكفر والفجور فإنما أنت رسول ليس عليك إلا البلاغ. وقيل: المعنى ولا تبالي بعدم تطهره من دنس الكفر والفجور وهذا المعنى أنسب لسياق العتاب ثم الذي قبله ثم الذي قبله. قوله تعالى: " وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى " السعي الاسراع في المشي فمعنى قوله: " وأما من جاءك يسعى " بحسب ما يفيده المقام: وأما من جاءك مسرعا ليتذكر ويتزكى بما يتعلم من معارف الدين. وقوله: " وهو يخشى " أي يخشى الله والخشية آية التذكر بالقرآن قال تعالى: " ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى " طه: 3، وقال: " سيذكر من يخشى " الاعلى: 10. وقوله: " فأنت عنه تلهى " أي تتلهى وتتشاغل بغيره وتقديم ضمير " أنت " في قوله: " فأنت له تصدى " وقوله: " فأنت عنه تلهى " وكذا الضميرين " له " و " عنه " في الآيتين لتسجيل العتاب وتثبيته. قوله تعالى: " كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره " " كلا " ردع عما عوتب عليه من العبوس والتولي والتصدي لمن استغنى والتلهي عمن يخشى. والضمير في " إنها تذكرة " للآيات القرآنية أو للقرآن وتأنيث الضمير لتأنيث الخبر والمعنى إن الآيات القرآنية أو القرآن تذكرة أي موعظة يتعظ بها من اتعظ أو مذكر يذكر حق الاعتقاد والعمل. وقوله: " فمن شاء ذكره " جملة معترضة والضمير للقرآن أو ما يذكر به القرآن من المعارف، والمعنى فمن شاء ذكر القرآن أو ذكر ما يذكر به القرآن وهو الانتقال إلى ما تهدي إليه الفطرة مما تحفظه في لوحها من حق الاعتقاد والعمل. وفي التعبير بهذا التعبير " فمن شاء ذكره " تلويح إلى أن لا إكراه في الدعوة إلى التذكر فلا نفع فيها يعود إلى الداعي وإنما المنتفع بها المتذكر فليختر ما يختاره.

[ 202 ]

قوله تعالى: " في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة " قال في المجمع: الصحف جمع صحيفة، والعرب تسمى كل مكتوب فيه صحيفة كما تسميه كتابا رقا كان أو غيره انتهى. و " في صحف " خبر بعد خبر لان وظاهره أنه مكتوب في صحف متعددة بأيدي ملائكة الوحي، وهذا يضعف القول بأن المراد بالصحف اللوح المحفوظ ولم يرد في كلامه تعالى إطلاق الصحف ولا الكتب ولا الالواح بصيغة الجمع على اللوح المحفوظ، ونظيره في الضعف القول بأن المراد بالصحف كتب الانبياء الماضين لعدم ملاءمته لظهور قوله: " بأيدي سفري " الخ في أنه صفة لصحف. وقوله: " مكرمة " أي معظمة، وقوله: " مرفوعة " أي قدرا عند الله، وقوله: " مطهرة " أي من قذارة الباطل ولغو القول والشك والتناقض قال تعالى: " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " حم السجدة: 42، وقال: " إنه لقول فصل وما هو بالهزل " الطارق: 14 وقال: " ذلك الكتاب لا ريب فيه " البقرة: 2، وقال: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " النساء: 82. قوله تعالى: " بأيدي سفرة كرام بررة " صفة بعد صفة لصحف، والسفرة هم السفراء جمع سفير بمعنى الرسول و " كرام " صفة لهم باعتبار ذواتهم و " بررة " صفة لهم باعتبار عملهم وهو الاحسان في الفعل. ومعنى الآيات أن القرآن تذكرة مكتوبة في صحف متعددة معظمة مرفوعة قدرا مطهرا من كل دنس وقذارة بأيدي سفراء من الملائكة كرام على ربهم بطهارة ذواتهم بررة عنده تعالى بحسن أعمالهم. ويظهر من الآيات أن للوحي ملائكة يتصدون لحمل الصحف وإيحاء ما فيها من القرآن فهم أعوان جبريل وتحت أمره ونسبة إلقاء الوحي إليهم لا تنافي نسبته إلى جبريل في مثل قوله: " نزل به الروح الامين على قلبك " الشعراء: 194 وقد قال تعالى في صفته: " إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين " التكوير: 21 فهو مطاع من الملائكة من يصدر عن أمره ويأتي بما يريده والايحاء الذي هو فعل أعوانه فعله كما أن فعله وفعلهم جميعا فعل الله وذلك نظير كون التوفي الذي هو فعل أعوان ملك الموت فعله، وفعله وفعلهم جميعا فعل الله تعالى، وقد تقدمت الاشارة إلى هذا البحث مرارا. وقيل: المراد بالسفرة الكتاب من الملائكة والذي تقدم من المعنى أجلى. وقيل: المراد بهم القراء يكتبونها ويقرؤنها وهو كما ترى.

[ 203 ]

(بحث روائي) في المجمع: قيل: نزلت الآيات في عبد الله بن أم مكتوم وهو عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي. وذلك أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وآاله وسلم وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأبيا وامية بن خلف يدعوهم إلى الله ويرجو إسلامهم فقال: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله فجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنه مشتغل مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقطعه كلامه وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد إنما أتباعه العميان والعبيد فأعرض عنه وأقبل على القوم الذين كان يكلمهم فنزلت الآيات. وكان رسول الله بعد ذلك يكرمه، وإذا رآه قال: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي، ويقول له: هل لك من حاجة ؟ واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين. أقول: روى السيوطي في الدر المنثور القصة عن عائشة وانس وابن عباس على اختلاف يسير وما أورده الطبرسي محصل الروايات. وليست الآيات ظاهرة الدلالة على أن المراد بها هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل خبر محض لم يصرح بالمخبر عنه بل فيها ما يدل على أن المعني بها غيره لان العبوس ليس من صفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الاعداء المباينين فضلا عن المؤمنين المسترشدين. ثم الوصف بأنه يتصدى للاغنياء ويتلهى عن الفقراء لا يشبه أخلاقه الكريمة كما عن المرتضى رحمه الله. وقد عظم الله خلقه صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال - وهو قبل نزول هذه السورة -: " وإنك لعلى خلق عظيم " والآية واقعة في سورة " ن " التي اتفقت الروايات المبينة لترتيب نزول السور على أنها نزلت بعد سورة أقرء باسم ربك، فكيف يعقل أن يعظم الله خلقه في أول بعثته ويطلق القول في ذلك ثم يعود فيعاتبه على بعض ما ظهر من أعماله الخلقية ويذمه بمثل التصدي للاغنياء وإن كفروا والتلهي عن الفقراء وإن آمنوا واسترشدوا. وقال تعالى أيضا: " وأنذر عشيرتك الاقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " الشعراء: 215 فأمره بخفض الجناح للمؤمنين والسورة من السور المكية والآية في سياق قوله: " وأنذر عشيرتك الاقربين " النازل في أوائل الدعوة.

[ 204 ]

وكذا قوله: " لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين " الحجر: 88 وفي سياق الآية قوله: " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين " الحجر: 94 النازل في أول الدعوة العلنية فكيف يتصور منه صلى الله عليه وآله وسلم العبوس والاعراض عن المؤمنين وقد أمر باحترام إيمانهم وخفض الجناح وأن لا يمد عينيه إلى دنيا أهل الدنيا. على أن قبح ترجيح غنى الغني - وليس ملاكا لشئ من الفضل على كمال الفقير وصلاحه بالعبوس والاعراض عن الفقير والاقبال على الغني لغناه قبح عقلي مناف لكريم الخلق الانساني لا يحتاج في لزوم التجنب عنه إلى نهي لفظي. وبهذا وما تقدمه يظهر الجواب عما قيل: إن الله سبحانه لم ينهه صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا الفعل إلا في هذا الوقت فلا يكون معصية منه إلا بعده وأما قبل النهي فلا. وذلك أن دعوى أنه تعالى لم ينهه إلا في هذا الوقت تحكم ممنوع، ولو سلم فالعقل حاكم بقبحه ومعه ينافى صدوره كريم الخلق وقد عظم الله خلقه صلى الله عليه وآله وسلم قبل ذلك إذ قال: " وإنك لعلى خلق عظيم " وأطلق القول، والخلق ملكة لا تتخلف عن الفعل المناسب لها. وعن الصادق عليه السلام - على ما في المجمع - أنها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجاء ابن أم مكتوم فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه. وفي المجمع وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رآى عبد الله بن أم مكتوم قال: مرحبا مرحبا والله لا يعاتبني الله فيك أبدا، وكان يصنع به من اللطف حتى كان يكف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يفعل به. اقول: الكلام فيه كالكلام فيما تقدمه، ومعنى قوله: حتى أنه كان يكف " الخ " أنه كان يكف عن الحضور عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكثرة صنيعه صلى الله عليه وآله وسلم به انفعالا منه وخجلا. قتل الانسان ما أكفره - 17. من أي شئ خلقه - 18. من نطفة خلقه فقدره - 19. ثم السبيل يسره - 20. ثم أماته فأقبره - 21. ثم إذا

[ 205 ]

شآء أنشره - 22. كلا لما يقض ما أمره - 23. فلينظر الانسان إلى طعامه - 24. أنا صببنا الماء صبا - 25. ثم شققنا الارض شقا - 26. فأنبتنا فيها حبا - 27. وعنبا وقضبا - 28. وزيتونا ونخلا - 29. وحدائق غلبا - 30. وفاكهة وأبا - 31. متاعا لكم ولانعامكم - 32. فإذا جاءت الصاخة - 33. يوم يفر المرء من أخيه 34. وأمه وأبيه - 35. وصاحبته وبنيه - 36. لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه - 37. وجوه يومئذ مسفرة - 38. ضاحكة مستبشرة - 39. ووجوه يومئذ عليها غبرة - 40. ترهقها قترة - 41. أولئك هم الكفر، الفجر، - 42. (بيان) دعاء على الانسان وتعجيب من مبالغته في الكفر بربوبية ربه وإشارة إلى أمره حدوثا وبقاء فإنه لا يملك لنفسه شيئا من خلق وتدبير بل الله سبحانه هو الذي خلقه من نطفة مهينة فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره فهو سبحانه ربه الخالق له المدبر لامره مطلقا وهو في مدى وجوده لا يقضي ما أمره به ربه ولا يهتدي بهداه. ولو نظر الانسان إلى طعامه فقط وهو مظهر واحد من مظاهر تدبيره وغرفة من بحار رحمته رأى من وسيع التدبير ولطيف الصنع ما يبهر عقله ويدهش لبه ووراء ذلك نعم لا تعد - وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها -. فستره تدبير ربه وتركه شكر نعمته عجيب وإن الانسان لظلوم كفار وسيرون تبعة شكرهم وكفرهم من السرور والاستبشار أو الكآبة وسواد الوجه والآيات - كما ترى لا تأبى الاتصال بما قبلها سياقا واحدا وإن قال بعضهم أنها نزلت لسبب آخر كما سيجئ.

[ 206 ]

قوله تعالى: " قتل الانسان ما أكفره " دعاء على الانسان لما أن في طبعه التوغل في اتباع الهوى ونيسان ربوبية ربه والاستكبار عن اتباع أوامره. وقوله " ما أكفره " تعجيب من مبالغة في الكفر وستر الحق الصريح وهو يرى أنه مدبر بتدبير الله لا يملك شيئا من تدبير أمره غيره تعالى. فالمراد بالكفر مطلق ستر الحق وينطبق على إنكار الربوبية وترك العبادة ويؤيده ما في ذيل الآية من الاشارة إلى جهات من التدبير الربوبي المتناسبة مع الكفر بمعنى ستر الحق وترك العبادة، وقد فسر بعضهم الكفر بترك الشكر وكفران النعمة وهو وإن كان معنى صحيحا في نفسه لكن الانسب بالنظر إلى السياق هو المعنى المتقدم. قال في الكشاف: " قتل الانسان " دعاء عليه وهي من أشنع دعواتهم لان القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها و " ما أكفره " تعجب من إفراطه في كفران نعمة الله ولا ترى اسلوبا أغلظ منه، ولا أخشن مسا، ولا أدل على سخط، ولا أبعد شوطا في المذمة مع تقارب طرفيه، ولا أجمع للائمة على قصر متنه، انتهى. وقيل جملة " ما أكفره " استفهامية والمعنى ما هو الذي جعله كافرا، والوجه المتقدم أبلغ. قوله تعالى: " من أي شئ خلقه " معناه على ما يعطيه المقام من أي شئ خلق الله الانسان حتى يحق له أن يطغى ويستكبر عن الايمان والطاعة، وحذف فاعل قوله: " خلقه " وما بعده من الافعال للاشعار بظهوره فمن المعلوم بالفطرة - وقد اعترف به المشركون - أن لا خالق إلا الله تعالى. والاستفهام بداعي تأكيد ما في قوله: " ما أكفره " من العجب - والعجب إنما هو في الحوادث التي لا يظهر لها سبب - فافيد أولا: أن من العجب إفراط الانسان في كفره ثم سئل ثانيا: هل في خلقته إذ خلقه الله ما يوجب له الافراط في الكفر فاجيب بنفيه وأن لا حجة له يحتج بها ولا عذر يعتذر به فإنه مخلوق من ماء مهين لا يملك شيئا من خلقته ولا من تدبير أمره في حياته ومماته ونشره، وبالجملة الاستفهام توطئة للجواب الذي في قوله: " من نطفة خلقه " الخ. قوله تعالى: " من نطفة خلقه فقدره " تنكير " نطفة " للتحقير أي من نطفة مهينة حقيرة خلقه فلا يحق له وأصله هذا الاصل أن يطغى بكفره ويستكبر عن الطاعة. وقوله " فقدره " أي أعطاه القدر في ذاته وصفاته وأفعاله فليس له أن يتعدى الطور

[ 207 ]

الذي قدر له ويتجاوز الحد الذى عين له فقد أحاط به التدبير الربوبي من كل جانب ليس له أن يستقل بنيل ما لم يقدر له. قوله تعالى: " ثم السبيل يسره " ظاهر السياق المقصود به نفي العذر من الانسان في كفره واستكباره أن المراد بالسبيل - وقد أطلق - السبيل إلى طاعة الله وامتثال أو امره وإن شئت فقل: السبيل إلى الخير والسعادة. فتكون الآية في معنى دفع الدخل فإنه إذا قيل: " من نطفة خلقه فقدره " أمكن أن يتوهم السامع أن الخلق والتقدير إذا كانا محيطين بالانسان من كل جهة كانت أفعال الانسان لذاته وصفاته مقدرة مكتوبة ومتعلقة لمشية الربوبية التي لا تتخلف فتكون أفعال الانسان ضرورية الثبوت واجبة التحقق والانسان مجبرا عليها فاقدا للاختيار فلا صنع للانسان في كفره إذا كفر ولا في فسقه إذا فسق ولم يقض ما أمره الله به وإنما ذلك بتقديره تعالى وإرادته فلا ذم ولا لائمة على الانسان ولا دعوة دينية تتعلق به لان ذلك كله فرع للاختيار ولا اختيار. فدفع الشبهة بقوله: " ثم السبيل يسره " ومحصله أن الخلق والتقدير لا ينافيان كون الانسان مختارا فيما أمر به من الايمان والطاعة له طريق إلى السعادة التي خلق لها فكل مسير لما خلق له وذلك أن التقدير واقع على الافعال الانسانية من طريق اختياره، والارادة الربوبية متعلقة بأن يفعل الانسان بإرادته واختياره كذا وكذا فالفعل صادر عن الانسان باختياره وهو بما أنه اختياري متعلق للتقدير. فالانسان مختار في فعله مسؤول عنه وإن كان متعلقا للقدر، وقد تقدم البحث عن هذا المعنى كرارا في ذيل الآيات المناسبة له في هذا الكتاب. وقيل: المراد بتيسير السبيل تسهيل خروج الانسان من بطن امه والمعنى ثم سهل للانسان سبيل الخروج وهو جنين مخلوق من نطفة. وقيل: المراد الهداية إلى الدين وتبين طريق الخير والشر كما قال: " وهديناه النجدين " البلد: 10 والوجه المتقدم أوجه. قوله تعالى: " ثم أماته فأقبره " الاماتة إيقاع الموت على الانسان، والمراد بالاقبار دفنه في القبر وإخفاؤه في بطن الارض وهذا بالبناء على الغالب الذي جرى عليه ديدن الناس وبهذه المناسبة نسب إليه تعالى لانه تعالى هو الذي هداهم إلى ذلك وألهمهم إياه

[ 208 ]

فللفعل نسبة إليه كما له نسبة إلى الناس. وقيل: المراد بالاقبار جعله ذا قبر ومعنى جعله ذا قبر أمره تعالى بدفنه تكرمة له لتتوارى جيفته فلا يتأذى بها الناس ولا يتنفروا. والوجه المتقدم أنسب لسياق الآيات المسرود لتذكير تدبيره تعالى التكويني للانسان دون التدبير التشريعي الذي عليه بناء هذا الوجه. قوله تعالى: " ثم إذا شاء أنشره " في المجمع: الانشار الاحياء للتصرف بعد الموت كنشر الثوب بعد الطي. انتهى، فالمراد به البعث إذا شاء الله، وفيه إشارة إلى كونه بغتة لا يعلمه غيره تعالى. قوله تعالى: " كلا لما يقض ما أمره " الذي يعطيه السياق أن " كلا " ردع عن معنى سؤال يستدعيه السياق ويلوح إليه قوله: " لما يقض ما أمره " كأنه لما أشير إلى أن الانسان مخلوق مدبر له تعالى من أول وجوده إلى آخره من خلق وتقدير وتيسير للسبيل وإماتة وإقبار وإنشار وكل ذلك نعمة منه تعالى سئل فقيل: فماذا صنع الانسان والحال هذه الحال وهل خضع للربوبية أو هل شكر النعمة فاجيب وقيل: كلا، ثم أوضح فقيل: لما يقض ما أمره الله به بل كفر وعصى. فقد ظهر مما تقدم أن ضمير " يقض " للانسان والمراد بقضائه إتيانه بما أمر الله به، وقيل: الضمير لله تعالى والمعنى لما يقض الله لهذا الكافر أن يأتي بما أمره به من الايمان والطاعة بل إنما أمره بما أمر إتماما للحجة، وهو بعيد. وظهر أيضا أن ما في الآيات من الذم واللائمة إنما هو للانسان بما في طبعه من الافراط في الكفر كما في قوله: " إن الانسان لظلوم كفار " إبراهيم: 34 فينطبق على من تلبس بالكفر وأفرط فيه بالعناد ومنه يظهر عدم استقامة ما نقل عن بعضهم أن الآية على العموم في الكافر والمسلم لم يعبده أحد حق عبادته. وذلك أن الضمير للانسان المذكور في صدر الآيات بما في طبعه من داعية الافراط في الكفر وينطبق على من تلبس به بالفعل. قوله تعالى: " فلينظر الانسان إلى طعامه " متفرع على ما تقدم تفرع التفصيل على الاجمال ففيه توجيه نظر الانسان إلى طعامه الذي يقتات به ويستمد منه لبقائه وهو واحد مما لا يحصى مما هيأه التدبير الربوبي لرفع حوائجه في الحياة حتى يتأمله فيشاهد سعة

[ 209 ]

التدبير الربوبي التي تدهش لبه وتحير عقله، وتعلق العناية الالهية - على دقتها وإحاطتها - بصلاح حاله واستقامة أمره. والمراد بالانسان - كما قيل - غير الانسان المتقدم المذكور في قوله: " قتل الانسان ما أكفره " فإن المراد به خصوص الانسان المبالغ في الكفر بخلاف الانسان المذكور في هذه الآية المأمور بالنظر فإنه عام شامل لكل إنسان، ولذلك أظهر ولم يضمر. قوله تعالى: " أنا صببنا الماء صبا - إلى قوله - ولانعامكم " القراءة الدائرة " أنا " بفتح الهمزة وهو بيان تفصيلي لتدبيره تعالى طعام الانسان نعم هو مرحلة ابتدائية من التفصيل وأما القول المستوفي لبيان خصوصيات النظام الذي هيأ له هذه الامور والنظام الوسيع الجاري في كل من هذه الامور والروابط الكونية التي بين كل واحد منها وبين الانسان فمما لا يسعه نطاق البيان عادة. وبالجملة قوله: " أنا صببنا الماء صبا " الصب اراقة الماء من العلو، والمراد بصب الماء إنزال الامطار على الارض لانبات النبات، ولا يبعد أن يشمل إجراء العيون والانهار فإن ما في بطن الارض من ذخائر الماء إنما يتكون من الامطار. وقوله: " ثم شققنا الارض شقا " ظاهره شق الارض بالنبات الخارج منها ولذا عطف على صب الماء بثم وعطف عليه إنبات الحب بالفاء. وقوله: " فأنبتنا فيها حبا " ضمير " فيها " للارض، والمراد بالحب جنس الحب الذي يقتات به الانسان كالحنطة والشعير ونحوهما وكذا في العنب والقضب وغيرهما. وقوله: " وعنبا وقضبا " العنب معروف، ويطلق على شجر الكرم ولعله المراد في الآية ونظيره الزيتون. والقضب هو الغض الرطب من البقول الذي يأكله الانسان يقضب أي يقطع مرة بعد أخرى، وقيل: هو ما يقطع من النبات فتعلف به الدواب. وقوله: " وزيتونا ونخلا " معروفان. وقوله: " وحدائق غلبا " الحدائق جمع حديقة وهي على ما فسر البستان المحوط والغلب جمع غلباء يقال: شجرة غلباء أي عظيمة غليظة فالحدائق الغلب البساتين المشتملة على أشجار عظام غلاظ.

[ 210 ]

وقوله: " وفاكهة وأبا " قيل: الفاكهة مطلق الثمار، وقيل: ما عدا العنب والرمان. قيل: ان ذكر ما يدخل في الفاكهة أولا كالزيتون والنخل للاعتناء بشأنه والاب الكلاء والمرعى. وقوله: " متاعا لكم ولانعامكم " مفعول له أي أنبتنا ما أنبتنا مما تطعمونه ليكون تمتيعا لكم وللانعام التي خصصتموها بأنفسكم. والالتفات عن الغيبة إلى الخطاب في الآية لتأكيد الامتنان بالتدبير أو بإنعام النعمة. قوله تعالى: " فإذا جاءت الصاخة " إشارة إلى ما ينتهي إليه ما ذكر من التدبير العام الربوبي للانسان بما أن فيه أمرا ربوبيا إلهيا بالعبودية يقضيه الانسان أولا يقضيه وهو يوم القيامة الذي يوفي فيه الانسان جزاء أعماله. والصاخة: الصيحة الشديدة التي تصم الاسماع من شدتها، والمراد بها نفخة الصور. قوله تعالى: " يوم يفر المرء من أخيه وامه وأبيه وصاحبته وبنيه " إشارة إلى شدة اليوم فالذين عدوا من أقرباء الانسان وأخصائه هم الذين كان يأوى إليهم ويأنس بهم ويتخذهم أعضادا وأنصارا يلوذ بهم في الدنيا لكنه يفر منهم يوم القيامة لما أن الشدة أحاطت به بحيث لا تدعه يشتغل بغيره ويعتني بما سواه كائنا من كان فالبلبلة إذا عظمت واشتدت وأطلت على الانسان جذبته إلى نفسها وصرفته عن كل شئ. والدليل على هذا المعنى قوله بعد: " لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " أي يكفيه من أن يشتغل بغيره. وقيل: في سبب فرار الانسان من أقربائه وأخصائه يومئذ وجوه أخر لا دليل عليها أغمضنا عن إيرادها. قوله تعالى: " وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة " بيان لانقسام الناس يومئذ إلى قسمين: أهل السعادة وأهل الشقاء، وإشارة إلى أنهم يعرفون بسيماهم في وجوههم وإسفار الوجه إشراقه وإضاءته فرحا وسرورا واستبشاره تهلله بمشاهدة ما فيه البشرى. قوله تعالى: " ووجوه يومئذ عليها غبرة " هي الغبار والكدورة وهي سيماءالهم والغم. قوله تعالى: " ترهقها قترة " أي يعلوها ويغشاها سواد وظلمة، وقد بين حال الطائفتين في الآيات الاربع ببيان حال وجوههما لان الوجه مرآة القلب في سروره ومساءته. قوله تعالى: " اولئك هم الكفرة الفجرة " أي الجامعون بين الكفر اعتقادا ولفجور

[ 211 ]

وهو المعصية الشنيعة عملا أو الكافرون بنعمة الله الفاجرون، وهذا تعريف للطائفة الثانية وهم أهل الشقاء ولم يأت بمثله في الطائفة الاولى وهم أهل السعادة لان الكلام مسوق للانذار والاعتناء بشأن أهل الشقاء. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله: " قتل الانسان ما أكفره " قال: نزلت في عتبة بن أبي لهب حين قال: كفرت برب النجم إذا هوى فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأخذه الاسد بطريق الشام. وفي الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث طويل: " قتل الانسان ما أكفره " أي لعن الانسان. وفي تفسير القمي " ثم السبيل يسره " قال: يسر له طريق الخير. أقول: المراد به جعله مختارا في فعله يسهل به سلوكه سبيل السعادة ووصوله اتلى الكمال الذي خلق له. فالخبر منطبق على ما قدمناه من الوجه في تفسير الآية. وفيه في قوله: " وقضبا " قال: القضب القت. وفيه في قوله: " وفاكهة وأبا " قال: الاب الحشيش للبهائم. وفي الدر المنثور أخرج أبو عبيد في فضائله عن ابراهيم التيمي قال: سئل أبو بكر الصديق عن قوله " وأبا " فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم. وفيه أخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان والخطيب والحاكم وصححه عن أنس أن عمر قرء على المنبر " فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا - إلى قوله - وأبا " قال: كل هذا قد عرفناه فما الاب ؟ ثم رفض عصا كانت في يده فقال: هذا لعمر الله هو التكلف فما عليك أن لا تدري ما الاب ؟ اتبعوا ما بين لكم هداه من الكتاب فاعملوا به وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه. وفيه أخرج عبد بن حميد عن عبد الرحمان بن يزيد أن رجلا سأل عمر عن قوله " وأبا " فلما رآهم يقولون أقبل عليهم بالدرة.

[ 212 ]

اقول: هو مبني على منعهم عن البحث عن معارف الكتاب حتى تفسير ألفاظه. وفي إرشاد المفيد وروي أن أبا بكر سئل عن قول الله تعالى: " وفاكهة وأبا " فلم يعرف معنى الاب من القرآن فقال: أي سماء تظلني أم أي أرض تقلني أم كيف أصنع إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم ؟ أما الفاكهة فنعرفها وأما الاب فالله أعلم. فبلغ أمير المؤمنين عليه السلام مقاله في ذلك فقال: سبحان الله أما علم أن الاب هو الكلاء والمرعى ؟ وان قوله تعالى: " وفاكهة وأبا " اعتداد من الله بانعامه على خلقه فيما غذاهم به وخلقه لهم ولانعامهم مما تحيى به انفسهم وتقوم به اجسادهم. وفي المجمع وروي عن عطاء بن يسار عن سودة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يبعث الناس حفاة عراة غرلا (1) يلجمهم العرق ويبلغ شحمة الاذن قالت: قلت: يا رسول الله واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض إذا جاء ؟ قال: شفل الناس عن ذلك وتلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ". وفي تفسير القمي قوله: " لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " قال: شغل يشغله عن غيره. (سورة التكوير مكية وهي تسعة وعشرون آية) بسم الله الرحمن الرحيم إذا الشمس كورت - 1. وإذا النجوم انكدرات - 2. وإذا الجبال سيرت - 3. وإذا العشار عطلت - 4. وإذا الوحوش حشرت - 5. وإذا البحار سجرت - 6. وإذا النفوس زوجت - 7. وإذا الموؤدة سئلت - 8. بأي ذنب قتلت - 9. وإذا الصحف نشرت - 10. وإذا السماء كشطت - 11. وإذا الجحيم سعرت - 12. وإذا الجنة أزلفت - 13. علمت نفس ما أحضرت - 14.


(1) الغرل بالغين المعجمة جمع أغرل وهو الاقلف غير المختوم.

[ 213 ]

(بيان) تذكر السورة يوم القيامة بذكر بعض أشراطها وما يقع فيها وتصفه بأنه يوم ينكشف فيه للانسان ما عمله من عمل ثم تصف القرآن بأنه مما ألقاه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسول سماوي وهو ملك الوحي وليس يإلقاء شيطاني ولا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجنون يمسه الشيطان. ويشبه أن تكون السورة من السور العتائق النازلة في أوائل البعثة كما يشهد به ما فيها من تنزيهه صلى الله عليه وآله وسلم مما رموه به من الجنون وقد أتهموه به في أوائل الدعوة وقد اشتملت على تنزيهه منه سورة " ن " وهي من العتائق. والسورة مكية بلا كلام. قوله تعالى: " إذا الشمس كورت " التكوير اللف على طوق الادارة كلف العمامة على الرأس، ولعل المراد بتكوير الشمس انظلام جرمها على نحو الاحاطة استعارة. قوله تعالى: " وإذا النجوم انكدرت " انكدار الطائر من الهواء انقضاضه نحو الارض، وعليه فالمراد سقوط النجوم كما يفيده قوله: " وإذا الكواكب انتثرت " الانفطار: 2 ويمكن أن يكون من الانكدار بمعنى التغير وقبول الكدورة فيكون المراد به ذهاب ضوئها. قوله تعالى: " وإذا الجبال سيرت " بما يصيبها من زلزلت الساعة التسيير فتندك وتكون هباء منبثا وتصير سرابا على ما ذكره سبحانه في مواضع من كلامه. قوله تعالى: " وإذا العشار عطلت " قيل: " العشار جمع عشراء كالنفاس جمع نفساء وهي الناقة الحامل التي أتت عليها عشرة أشهر فتسمى عشراء حتى تضع حملها وربما سميت عشراء بعد الوضع أيضا وهي من أنفس المال عند العرب. وتعطيل العشار تركها مهملة لا راعي لها ولا حافظ يحفظها وكأن في الجملة إشارة على نحو الكناية إلى أن نفائس الاموال التي يتنافس فيها الانسان تبقى اليوم ولا صاحب لها يتملكها ويتصرف فيها لانهم مشغولون بأنفسهم عن كل شئ كما قال: " لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " عبس: 37. قوله تعالى: " وإذا الوحوش حشرت " الوحوش جمع وحش وهو من الحيوان مالا يتأنس بالانسان كالسباع وغيرها.

[ 214 ]

وظاهر الآية من حيث وقوعها في سياق الآيات الواصفة ليوم القيامة أن الوحوش محشورة كالانسان، ويؤيده قوله تعالى: " وما من دابة في الارض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم كا فرطنا في الكتاب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون " الانعام: 38. وأما تفصيل حالها بعد الحشر وما يؤول إليه أمرها فلم يرد في كلامه تعالى ولا فيما يعتمد عليه من الاخبار ما يكشف عن ذلك نعم ربما استفيد من قوله في آية الانعام: " أمم أمثالكم "، وقوله: " ما فرطنا في الكتاب من شئ " بعض ما يتضح به الحال في الجملة لا يخفى على الناقد المتدبر، وربما قيل: إن حشر الوحوش من أشراط الساعة لا مما يقع يوم القيامة والمراد به خروجها من غاباتها وأكنانها. قوله تعالى: " وإذا البحار سجرت " فسر التسجير بإضرام النار وفسر بالملا والمعنى على الاول وإذا البحار أضرمت نارا، وعلى الثاني وإذا البحار ملئت. قوله تعالى: " وإذا النفوس زوجت " أما نفوس السعداء فبنساء الجنة قال تعالى: " لهم فيها أزواج مطهرة " النساء: 57، وقال: " وزوجناهم بحور عين " الدخان: 54 وأما نفوس الاشقياء فبقرناء الشياطين قال تعالى: " احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون " الصافات: 22، وقال: " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين " الزخرف: 36. قوله تعالى: " وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت " الموؤدة البنت التي تدفن حية وكانت العرب تئد البنات خوفا من لحوق العار بهم من أجلهن كما يشير إليه قوله تعالى: " وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب " النحل: 59. والمسؤول بالحقيقة عن قتل الموؤدة أبوها الوائد لها لينتصف منه وينتقم لكن عد المسؤول في الآية هي الموؤدة نفسها فسئلت عن سبب قتلها لنوع من التعريض والتوبيخ لقاتلها وتوطئة لان تسأل الله الانتصاف لها من قاتلها حتى يسأل عن قتلها فيؤخذ لها منه، فالكلام نظير قوله تعالى في عيسى عليه السلام: " وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وامي إلهين من دون الله " المائدة: 116. وقيل: إسناد المسؤولية إلى الموؤدة من المجاز العقلي والمراد كونها مسؤلا عنها نظير قوله تعالى: " إن العهد كان مسؤلا " أسرى: 34.

[ 215 ]

قوله تعالى: " وإذا الصحف نشرت " أي للحساب، والصحف كتب الاعمال. قوله تعالى: " وإذا السماء كشطت " في المجمع الكشط القلع عن شدة التزاق فينطبق على طيها كما في قوله: " والسماوات مطويات بيمينه " الزمر: 67، وقوله: " ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا " الفرقان: 25 وغير ذلك من الآيات المفصحة عن هذا المعنى. قوله تعالى: " وإذا الجحيم سعرت " التسعير تهييج النار حتى تتأجج. قوله تعالى: " وإذا الجنة أزلفت " الازلاف التقريب والمراد تقريبها من أهلها للدخول. قوله تعالى: " علمت نفس ما أحضرت " جواب إذا، والمراد بالنفس الجنس والمراد بما أحضرت عملها الذي عملته يقال: أحضرت الشئ أي وجدته حاضرا كما يقال: أحمدته أي وجدته محمودا. فالآية في معنى قوله تعالى: " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء " آل عمران: 30. (بحث روائي) في تفسير القمي: " إذا الشمس كورت " قال: تصير سوداء مظلمة " وإذا النجوم انكدرت " قال: يذهب ضوؤها " وإذا الجبال سيرت " قال: تسير كما قال " تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ". قوله: " وإذا العشار عطلت " قال الابل تتعطل إذا مات الخلق فلا يكون من يحلبها، قوله: " وإذا البحار سجرت " قال: تتحول البحار التي حول الدنيا كلها نيرانا " وإذا النفوس زوجت " قال: من الحور العين. وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " وإذا النفوس زوجت " قال: أما أهل الجنة فزوجوا الخيرات الحسان، وأما أهل النار فمع كل إنسان منهم شيطان يعني قرنت نفوس الكافرين والمنافقين بالشياطين فهم قرناؤهم. أقول: الظاهر أن قوله: يعنى " الخ " من كلام الراوي. وفي الدر المنثور أخرج ابن ابي حاتم والديلمي عن أبي مريم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله: " إذا الشمس كورت " قال: كورت في جهنم " وإذا النجوم انكدرت " قال: انكدرت في جهنم، وكل من عبد من دون الله فهو في جهنم إلا ما كان من عيسى بن مريم وامه ولو

[ 216 ]

رضيا أن يعبدا لدخلاها. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وإذا الصحف نشرت " قال: صحف الاعمال قوله: " وإذا السماء كشطت " قال: أبطلت. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " وإذا النفوس زوجت " قال: هما الرجلان يعملان العمل يدخلان الجنة والنار. فلا أقسم بالخنس - 15. الجوار الكنس - 16. والليل إذا عسعس - 17. والصبح إذا تنفس - 18. إنه لقول رسول كريم - 19. ذي قوة عند ذي العرش مكين - 20. مطاع ثم أمين - 21. وما صاحبكم بمجنون - 22. ولقد رآه بالافق المبين - 23. وما هو على الغيب بضنين - 24. وما هو بقول شيطان رجيم - 25. فأين تذهبون - 26. إن هو إلا ذكر للعالمين - 27. لمن شآء منكم أن يستقيم - 28. وما تشاؤن إلا أن يشاء الله رب العالمين - 29. (بيان) تنزيه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من الجنون - وقد اتهموه به - ولما يأتي به - من القرآن - من مداخلة الشيطان، وأنه كلامه تعالى يلقيه إليه ملك الوحي الذي لا يخون في رسالته، وأنه ذكر للعالمين هاد بإذن الله لمن اهتدى منهم. قوله تعالى: " فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس " الخنس جمع خانس كطلب جمع طالب، والخنوس الانقباض والتأخر والاستتار، والجواري جمع جارية، والجري السير السريع مستعار من جري الماء، والكنس جمع كانس والكنوس دخول الوحش كالظبي

[ 217 ]

والطير كناسه أي بيته الذي اتخذه لنفسه واستقراره فيه. وتعقب قوله: " فلا أقسم بالخنس " الخ بقوله: " والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس " يؤيد كون المراد بالخنس الجوار الكنس الكواكب كلها أو بعضها لكن صفات حركة بعضها أشد مناسبة وأوضح انطباقا على ما ذكر من الصفات المقسم بها: الخنوس والجري والكنوس وهي السيارات الخمس المتحيرة: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد فإن لها في حركاتها على ما تشاهد استقامة ورجعة وإقامة فهي تسير وتجري حركة متشابهة زمانا وهي الاستقامة وتنقبض وتتأخر وتخنس زمانا وهي الرجعة وتقف عن الحركة استقامة ورجعة زمانا كأنها الوحش تكنس في كناسها وهي الاقامة. وقيل: المراد بها مطلق الكواكب وخنوسها استتارها في النهار تحت ضوء الشمس وجريها سيرها المشهود في الليل وكنوسها غروبها في مغربها وتواريها. وقيل: المراد بها بقر الوحش أو الظبي ولا يبعد أن يكون ذكر بقر الوحش أو الظبي من باب المثال والمراد مطلق الوحوش. وكيف كان فأقرب الاقوال أولها والثاني بعيد والثالث أبعد. قوله تعالى: " والليل إذا عسعس " عطف على الخنس، و " إذا عسعس " قيد لليل، والعسعسة تطلق على إقبال الليل وعلى إدباره قال الراغب: " والليل إذا عسعس " أي أقبل وأدبر وذلك في مبدء الليل ومنتهاه فالعسعسة والعساس رقة الظلام وذلك في طرفي الليل. انتهى والانسب لاتصال الجملة بقوله: " والصبح إذا تنفس " أن يراد بها إدبار الليل. وقيل: المراد بها إقبال الليل: وهو بعيد لما عرفت. قوله تعالى: " والصبح إذا تنفس " عطف على الخنس، و " إذا تنفس " قيد للصبح، وعد الصبح متنفسا بسبب انبساط ضوئه على الافق ودفعه الظلمة التي غشيته نوع من الاستعارة بتشبيه الصبح وقد طلع بعد غشيان الظلام للآفاق بمن أحاطت به متاعب أعمال شاقة ثم وجد خلاء من الزمان فاستراح فيه وتنفس فعد إضاءته للافق تنفسا منه كذا يستفاد من بعضهم. وذكر الزمخشري فيه وجها آخر فقال في الكشاف: فإن قلت: ما معنى تنفس الصبح ؟ قلت: إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم فجعل ذلك نفسا له على المجاز. انتهى والوجه المتقدم أقرب إلى الذهن.

[ 218 ]

قوله تعالى: " إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين " جواب القسم، وضمير " إنه " للقرآن أو لما تقدم من آيات السورة بما أنها قرآن بدليل قوله: " لقول رسول " الخ والمراد بالرسول جبريل كما قال تعالى: " من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله " البقرة: 97. وفي إضافة القول إليه بما أنه رسول دلالة على أن القول لله سبحانه، ونسبته إلى جبريل نسبة الرسالة إلى الرسول وقد وصفه الله بصفات ست مدحه بها. فقوله: " رسول " يدل على رسالته وإلقائه وحي القرآن إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقوله: " كريم " أي ذي كرامة وعزة عند الله بإعزازه، وقوله: " ذي قوة " أي ذي قدرة وشدة بالغة، وقوله: " عند ذي العرش مكين " أي صاحب مكانة عند الله والمكانة القرب والمنزلة، وقوله: " مطاع ثم " أي مطاع عند الله فهناك ملائكة يأمرهم فيطيعونه، ومن هنا يظهر أن له أعوانا من الملائكة يأمرهم فيأتمرون بأمره، وقوله: " أمين " أي لا يخون فيما امر به يبلغ ما حمله من الوحي والرسالة من غير أي تصرف فيه وقيل: المراد بالرسول الجاري عليه الصفات هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو كما ترى ولا تلائمه الآيات التالية. قوله تعالى: " وما صاحبكم بمجنون " عطف على قوله: " إنه لقول " الخ ورد لرميهم له صلى الله عليه وآله وسلم بالجنون. وفي التعبير عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: " صاحبكم " تكذيب لهم في رميهم له بالجنون وتنزيه لساحته - كما قيل - ففيه إيماء إلى أنه صاحبكم لبث بينكم معاشرا لكم طول عمره وأنتم أعرف به قد وجدتموه على كمال من العقل ورزانة من الرأي وصدق من القول ومن هذه صفته لا يرمى بالجنون. وتوصيف جبريل بما مر من صفات المدح دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا دلالة فيه على أفضليته من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لان الكلام مسوق لبيان أن القرآن كلام الله سبحانه منزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عنده سبحانه من طريق الوحي لا من أوهام الجنون بالقاء من شيطان والذي يفيد في هذا الغرض بيان سلامة طريق الانزال وتجليل المنزل - اسم فاعل - بذكر أوصافه الكريمة والمبالغة في تنزيهه عن الخطأ والخيانة، وأما المنزل عليه فلا يتعلق به غرض إلا بمقدار الاشارة إلى دفع ما يرتاب فيه من صفته وقد افيد بنفي الجنون الذي رموه به

[ 219 ]

والتعبير عنه بقوله: " صاحبكم " كما تقدم توضيحه، كذا قيل. وفي مطاوي كلامه تعالى من نعوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكريمة مالا يرتاب معه في أفضليته صلى الله عليه وآله وسلم على جميع الملائكة، وقد أسجد الله الملائكة كلهم أجمعين للانسان الذي هو خليفته في الارض. قوله تعالى: " ولقد رآه بالافق المبين " ضمير الفاعل في " رآه " للصاحب وضمير المفعول للرسول الكريم وهو جبريل. والافق المبين الناحية الظاهرة، والظاهر أنه الذي أشار إليه بقوله: " وهو بالافق الاعلى " النجم: 7. والمعنى واقسم لقد رآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم جبريل حالكون جبريل كائنا في الافق المبين وهو الافق الاعلى من سائر الآفاق بما يناسب عالم الملائكة. وقيل: المعنى لقد رآى صلى الله عليه وآله وسلم جبريل على صورته الاصلية حيث تطلع الشمس وهو الافق الاعلى من ناحية المشرق. وفيه أن لا دليل من اللفظ يدل عليه وخاصة في تعلق الرؤية بصورته الاصلية ورؤيته في أي مثال تمثل به رؤيته، وكأنه مأخوذ مما ورد في بعض الروايات أنه رآه في أول البعثة وهو بين السماء والارض جالس على كرسي، وهو محمول على التمثل. قوله تعالى: " وما هو على الغيب بضنين " الضمير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد بالغيب الوحي النازل عليه، والضنين صفة مشبهة من الضن بمعنى البخل يعني أنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يبخل بشئ مما يوحي إليه فلا يكتمه ولا يحسبه ولا يغيره بتبديل بعضه أو كله شيئا آخر بل يعلم الناس كما علمه الله ويبلغهم ما امر بتبليغه. قوله تعالى: " وما هو بقول شيطان رجيم " نفي لاستناد القرآن إلى إلقاء شيطان بما هو أعم من طريق الجنون فإن الشيطان بمعنى الشرير والشيطان الرجيم كما اطلق في كلامه تعالى على إبليس وذريته كذلك اطلق على أشرار سائر الجن قال تعالى: " قال فاخرج منها فإنك رجيم " ص: 77، وقال: " وحفظناها من كل شيطان رجيم " الحجر: 17. فالمعنى أن القرآن ليس بتسويل من إبليس وجنوده ولا بإلقاء من أشرار الجن كما يلقونه على المجانين. قوله تعالى: " فأين تذهبون " أوضح سبحانه في الآيات السبع المتقدمة ما هو الحق في

[ 220 ]

أمر القرآن دافعا عنه ارتيابهم فيه بما يرمون به الجائي به من الجنون وغيره على إيجاز متون الآيات فبين أولا أنه كلام الله واتكاء هذه الحقيقة على آيات التحدي، وثانيا أن نزوله برسالة ملك سماوي جليل القدر عظيم المنزلة وهو أمين الوحي جبريل لا حاجز بينه وبين الله ولا بينه وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا صارف من نفسه أو غيره يصرفه عن أخذه ولا حفظه ولا تبليغه، وثالثا أن الذي انزل عليه وهو يتلوه لكم وهو صاحبكم الذي لا يخفى عليكم حاله ليس بمجنون كما يبهتونه به وقد رآى الملك الحامل للوحي وأخذ عنه وليس بكاتم لما يوحى إليه ولا بمغير، ورابعا أنه ليس بتسويل من إبليس وجنوده ولا بإلقاء من بعض أشرار الجن. ونتيجة هذا البيان أن القرآن كتاب هدى يهتدي به من أراد الاستقامة على الحق وهو قوله: " إن هو إلا ذكر للعالمين " الخ. فقوله: " فأين تذهبون " توطئة وتمهيد لذكر نتيجة البيان السابق، وهو استضلال لهم فيما يرونه في أمر القرآن الكريم أنه من طواري الجنون أو من تسويلات الشيطان الباطلة. فالاستفهام في الآية توبيخي والمعنى إذا كان الامر على هذا فأين تذهبون وتتركون الحق وراءكم ؟ قوله تعالى: " إن هو الا ذكر للعالمين " أي تذكرة لجماعات الناس كائنين من كانوا يمكنهم بها أن يتبصروا للحق، وقد تقدم بعض الكلام في نظيرة الآية. قوله تعالى: " لمن شاء منكم أن يستقيم " بدل من قوله: " للعالمين " مسوق لبيان أن فعلية الانتفاع بهذا الذكر مشروط بأن يشاؤا الاستقامة على الحق وهو التلبس بالثبات على العبودية والطاعة. قوله تعالى: " وما تشاؤن الا أن يشاء الله رب العالمين " تقدم الكلام في معناه في نظائر الآية. والآية بحسب ما يفيده السياق في معنى دفع الدخل فإن من الممكن أن يتوهموا من قوله: " لمن شاء منكم أن يستقيم " أن لهم الاستقلال في مشية الاستقامة أن شاؤا استقاموا وأن لم يشاؤا لم يستقيموا، فلله إليهم حاجة في الاستقامة التي يريدها منهم. فدفع ذلك بأن مشيتهم متوقفة على مشية الله سبحانه فلا يشاؤن الاستقامة الا أن يشاء الله أن يشاؤها، فأفعال الانسان الارادية مرادة لله تعالى من طريق ارادته وهو أن

[ 221 ]

يريد الله أن يفعل الانسان فعلا كذا وكذا عن ارادته. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج سعيد بن منصور والفاريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن علي في قوله: " فلا أقسم بالخنس " قال: هي الكواكب تكنس بالليل وتخنس بالنهار فلا ترى. وفي تفسير القمي في قوله: " فلا أقسم بالخنس " قال: أي واقسم بالخنس وهو اسم النجوم. " الجوار الكنس " قال: النجوم تكنس بالنهار فلا تبين. وفي المجمع " بالخنس " وهي النجوم تخنس بالنهار وتبدو بالليل " والجوار " صفة لها لانها تجري في أفلاكها " الكنس " من صفتها أيضا لانها تكنس أي تتوارى في بروجها كما تتوارى الظباء في كناسها. وهي خمسة أنجم: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد عن علي " والليل إذا عسعس " أي إذا أدبر بظلامه عن علي. وفي تفسير القمي " والليل إذا عسعس " قال: إذا أظلم و " الصبح إذا تنفس " قال: إذا ارتفع. وفي الدر المنثور أخرج ابن عساكر عن معاوية بن قرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: ما أحسن ما أثنى عليك ربك: ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين فما كانت قوتك ؟ وما كانت أمانتك ؟ قال: أما قوتي فاني بعثت إلى مدائن لوط وهي أربع مدائن، وفي كل مدينة أربع مائة الف مقاتل سوى الذراري فحملتهم من الارض السفلى حتى سمع أهل السماء أصوات الدجاج ونباح الكلاب ثم هويت بهم فقتلتهم، وأما أمانتي فلم اؤمر بشئ فعدوته إلى غيره. أقول: والرواية لا تخلو من شئ وقد ضعفوا ابن عساكر وخاصة فيما تفرد به. وفي الخصال عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قال في كل يوم من شعبان سبعين مرة: أستغفر الله الذي لا اله الا هو الرحمن الرحيم الحي القيوم وأتوب إليه، كتب في الافق المبين. قال: قلت: وما الافق المبين ؟ قال: قاع بين يدي العرش فيه أنهار تطرد وفيه من القدحان عدد النجوم. وفي تفسير القمي في حديث أسنده إلى أبي عبد الله عليه السلام قوله: وما هو بقول شيطان

[ 222 ]

رجيم " قال: يعني الكهنة الذين كانوا في قريش فنسب كلامهم إلى كلام الشياطين الذين كانوا معهم يتكلمون على ألسنتهم فقال: " وما هو بقول شيطان رجيم " مثل اولئك. (سورة الانفطار مكية وهي تسع عشرة آية) بسم الله الرحمن الرحيم إذا السماء انفطرت - 1. وإذا الكواكب انتثرت - 2. وإذا البحار فجرت - 3. وإذا القبور بعثرت - 4. علمت نفس ما قدمت وأخرت - 5. يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم - 6. الذي خلقك فسواك فعدلك - 7. في أي صورة ما شاء ركبك - 8. كلا بل تكذبون بالدين - 9. وأن عليكم لحافظين - 10. كراما كاتبين - 11. يعلمون ما تفعلون - 12. إن الابرار لفي نعيم - 13. وإن الفجار لفي جحيم - 14. يصلونها يوم الدين - 15. وما هم عنها بغائبين - 16. وما أدراك ما يوم الدين - 17. ثم ما أدراك ما يوم الدين - 18. يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والامر يومئذ لله - 19. (بيان) تحد السورة يوم القيامة ببعض أشراطه الملازمة له المتصلة به وتصفه بما يقع فيه وهو ذكر الانسان ما قدم وما أخر من أعماله الحسنة والسيئة - على أنها محفوظة عليه بواسطة حفظة الملائكة الموكلين عليه - وجزاؤه بعمله إن كان برا فبنعيم وإن كان فاجرا مكذبا بيوم الدين فبجحيم يصلاها مخلدا فيها.

[ 223 ]

ثم يستأنف وصف اليوم بأنه يوم لا يملك نفس لنفس شيئا والامر يومئذ لله، وهي من غرر الآيات، والسورة مكية بلا كلام. قوله تعالى: " إذا السماء انفطرت " الفطر الشق والانفطار الانشقاق والآية كقوله: " وانشقت السماء فهي يومئذ واهية " الحاقة: 16. قوله تعالى: " وإذا الكواكب انتثرت " أي تفرقت بتركها مواضعها التي ركزت فيها شبهت الكواكب بلآلي منظومة قطع سلكها فانتثرت وتفرقت. قوله تعالى: " وإذا البحار فجرت " قال في المجمع: التفجير خرق بعض مواضع الماء إلى بعض التكثير، ومنه الفجور لانخراق صاحبه بالخروج إلى كثير من الذنوب، ومنه الفجر لانفجاره بالضياء، انتهى. وإليه يرجع تفسيرهم لتفجير البحار بفتح بعضها في بعض حتى يزول الحائل ويختلط العذب منها والمالح ويعود بحرا واحدا، وهذا المعنى يناسب تفسير قوله: " وإذا البحار سجرت " التكوير: 6 بامتلاء البحار. قوله تعالى: " وإذا القبور بعثرت " قال في المجمع بعثرت الحوض وبحثرته إذا جعلت أسفله أعلاه، والبعثرة والبحثرة إثاره الشئ بقلب باطنه إلى ظاهره، انتهى. فالمعنى وإذا قلب تراب القبور وأثير باطنها إلى ظاهرها لاخراج الموتى وبعثهم للجزاء. قوله تعالى: " علمت نفس ما قدمت وأخرت " المراد بالعلم علمها التفصيلي بأعمالها التي عملتها في الدنيا، وهذا غير ما يحصل لها من العلم بنشر كتاب أعمالها لظاهر قوله تعالى: " بل الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره " القيامة: 15 وقوله: " يوم يتذكر الانسان ما سعى " النازعات: 35، وقوله: " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء " آل عمران: 30. والمراد بالنفس جنسها فتفيد الشمول، والمراد بما قدمت وما أخرت هو ما قدمته مما عملته في حياتها، وبما أخرت ما سنته من سنة حسنة أو سيئة فعملت بها بعد موتها فتكتب صحيفة عملها قال تعالى: " ونكتب ما قدموا وآثارهم " يس: 12 وقيل: المراد بما قدمت وأخرت ما عملته في أول العمر وما عملته في آخره فيكون كناية عن الاستقصاء. وقيل في معنى التقديم والتأخير وجوه أخر لا يعبأ بها مذكورة في مطولات التفاسير من أراد الوقوف عليها فليراجعها.

[ 224 ]

وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: " ليميز الله الخبيث من الطيب " الانفال: 37، كلام لا يخلو من نفع ههنا. قوله تعالى: " يا ايها الانسان ما غرك بربك الكريم - إلى قوله - ركبك " عتاب وتوبيخ للانسان، والمراد بهذا الانسان المكذب ليوم الدين - على ما يفيده السياق المشتمل على قوله: " بل تكذبون بيوم الدين " وفي تكذيب يوم الدين كفر وإنكار لتشريع الدين وفي إنكاره إنكار لربوبية الرب تعالى، وإنما وجه الخطاب إليه بما أنه إنسان ليكون حجة أو كالحجة لثبوت الخصال التي يذكرها من نعمه عليه المختصة من حيث المجموع بالانسان. وقد علق الغرور بصفتي ربوبيته وكرمه تعالى ليكون ذلك حجة في توجه العتاب والتوبيخ فإن تمرد المربوب وتوغله في معصية ربه الذي يدبر أمره ويغشيه نعمه ظاهرة وباطنة كفران لا ترتاب الفطرة السليمة في قبحه ولا في استحقاق العقاب عليه وخاصة إذا كان الرب المنعم كريما لا يريد في نعمه وعطاياه نفعا ينتفع به ولا عضوا يقابله به المنعم عليه، ويسامح في إحسانه ويصفح عما يأتي به المربوب من الخطيئة والاثم بجهالة فإن الكفران حينئذ أقبح وأقبح وتوجه الذم واللائمة أشد وأوضح. فقوله تعالى: " يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم " استفهام توبيخي يوبخ الانسان بكفران خاص لا عذر له يعتذر به عنه وهو كفران نعمة رب كريم. وليس للانسان أن يجيب فيقول: أي رب غرني كرمك فقد قضى الله سبحانه فيما قضى وبلغه بلسان أنبيائه: " لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد " إبراهيم: 7، وقال: " فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى " النازعات: 39، إلى غير ذلك من الآيات الناصة في أن لا مخلص للمعاندين من العذاب وأن الكرم لا يشملهم يوم القيامة قال: " ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون " الاعراف: 156 ولو كفى الانسان العاصي قوله: " غرني كرمك " لصرف العذاب عن الكافر المعاند كما يصرفه عن المؤمن العاصي، ولا عذر بعد البيان. ومن هنا يظهر أن لا محل لقول بعضهم: إن توصيف الرب بالكريم من قبيل تلقين الحجة وهو من الكرم أيضا. كيف ؟ والسياق سياق الوعيد والكلام ينتهي إلى مثل قوله: " وإن الفجار لفي

[ 225 ]

جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين ". وقوله: " الذي خلقك فسواك فعدلك " بيان لربوبيته المتلبسة بالكرم فإن من تدبيره خلق الانسان بجمع أجزاء وجوده ثم تسويته بوضع كل عضو فيما يناسبه من الموضع على ما يقتضيه الحكمة ثم عدله بعدل بعض أعضائه وقواه ببعض بجعل التوازن والتعادل بينها فما يضعف عنه عضو يقوى عليه عضو فيتم به فعله كما أن الاكل مثلا بالالتقام وهو للفم، ويضعف الفم عن قطع اللقمة ونهشها وطحنها فيتم ذلك بمختلف الاسنان، ويحتاج ذلك إلى نقل اللقمة من جانب من الفم إلى آخر وقلبها من حال إلى حال فجعل ذلك للسان ثم الفم يحتاج في فعل الاكل إلى وضع الغذاء فيه فتوصل إلى ذلك باليد وتمم عملها بالكف وعملها بالاصابع على اختلاف منافعها وعملها بالانامل، وتحتاج اليد في الاخذ والوضع إلى الانتقال المكاني نحو الغذاء وعدل ذلك بالرجل. وعلى هذا القياس في أعمال سائر الجوارح والقوى وهي الوف والوف لا يحصيها العد، والكل من تدبيره تعالى وهو المفيض لها من غير أن يريد بذلك انتفاعا لنفسه ومن غير أن يمنعه من إفاضتها ما يقابله به الانسان من نسيان الشكرو كفران النعمة فهو تعالى ربه الكريم. وقوله: " في أي صورة ما شاء ركبك " بيان لقوله: " عدلك " ولذا لم يعطف على ما تقدمه والصورة ما ينتقش به الاعيان ويتميز به الشئ من غيره و " ما " زائدة للتأكيد. والمعنى: في أي صورة شاء أن يركبك - ولا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة - ركبك من ذكر وأنثى وأبيض وأسود وطويل وقصير ووسيم ودميم وقوي وضعيف إلى غيرذلك وكذا الاعضاء المشتركة بين أفراد الانسان المميزة لها من غيرها كاليدين والرجلين والعينين والرأس والبدن واستواء القامة ونحوها فكل ذلك من عدل بعض الاجزاء ببعض في التركيب قال تعالى: " لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم " التين: 4 والجميع ينتهي إلى تدبير الرب الكريم لا صنع للانسان في شئ من ذلك. قوله تعالى: " كلا بل تكذبون بالدين " " كلا " ردع عن اغترار الانسان بكرم الله وجعل ذلك ذريعة إلى الكفر والمعصية أي لا تغتروا فلا ينفعكم الاغترار. وقوله: " بل تكذبون بالدين " أي بالجزاء. إضراب عما يفهم من قوله: " ما غرك بربك الكريم " من غرور الانسان بربه الكريم على اعتراف منه ولو بالقوة بالجزاء لقضاء

[ 226 ]

الفطرة السليمة به. فإذ عاتب الانسان ووبخه على غروره بربه الكريم واجترائه على الكفرأن والمعصية من غير أن يخاف الجزاء أضرب عنه مخاطبا للانسان وكل من يشاركه في كفره ومعصيته فقال: بل أنت ومن حاله حالك تكذبون بيوم الدين والجزاء فتجحدونه ملحين عليه. قوله تعالى: " وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون " إشارة إلى أن أعمال الانسان حاضرة محفوظة يوم القيامة من طريق آخر غير حضورها للانسان العامل لها من طريق الذكر وذلك حفظها بكتابة كتاب الاعمال من الملائكة الموكلين بالانسان فيحاسب عليها كما قال تعالى: " ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرء كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " أسرى: 14. فقوله: " وإن عليكم لحافظين " أي إن عليكم من قبلنا حافظين يحفظون أعمالكم بالكتابة كما يفيده السياق. وقوله: " كراما كاتبين " أي اولي كرامة وعزة عند الله تعالى وقد تكرر في القرآن الكريم وصف الملائكه بالكرامه ولا يبعد أن يكون المراد به بإعانة من السياق كونهم بحسب الخلقة مصونين عن الاثم والمعصية مفطورين على العصمة، ويؤيده قوله: " بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " الانبياء: 26 حيث دل على أنهم لا يريدون إلا ما أراده الله ولا يفعلون إلا ما أمرهم به، وكذا قوله: " كرام بررة " عبس 16. والمراد بالكتابة في قوله: " كاتبين " كتابة الاعمال بقرينة قوله: " يعلمون ما تفعلون " وقد تقدم في تفسير قوله: " إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون " الجاثية: 29 كلام في معنى كتابة الاعمال فليراجعه من شاء. وقوله: " يعلمون ما تفعلون " نفي لخطئهم في تشخيص الخير والشر وتمييز الحسنة والسيئة كما أن الآية السابقة متضمنة لتنزيههم عن الاثم والمعصية فهم محيطون بالافعال على ما هي عليه من الصفة وحافظون لها على ما هي عليه. ولا تعيين في هذه الآيات لعدة هؤلاء الملائكة الموكلين على كتابة أعمال الانسان نعم المستفاد من قوله تعالى: " إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد " ق: 17 أن على كل إنسان منهم إثنين عن يمينه وشماله، وقد ورد في الروايات المأثورة أن الذي على اليمين كاتب الحسنات والذي على الشمال كاتب السيئات.

[ 227 ]

وورد أيضا في تفسير قوله: " إن قرآن الفجر كان مشهودا " أسرى: 78 أخبار مستفيضة من طرق الفريقين دالة على أن كتبة الاعمال بالنهار يصعدون بعد غروب الشمس وينزل آخرون فيكتبون أعمال الليل حتى إذا طلع الفجر صعدوا ونزل ملائكة النهار وهكذا. وفي الآية أعني قوله: " يعلمون ما تفعلون دلالة على أن الكتبة عالمون بالنيات إذ لا طريق لا طريق إلى العلم بخصوصيات الافعال وعناوينها وكونها خيرا أو شرا أو حسنة أو سيئة إلا العلم بالنيات فعلمهم بالافعال لا يتم إلا عن العلم بالنيات. قوله تعالى: " إن الابرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم " استئناف مبين لنتيجة حفظ الاعمال بكتابة الكتبة وظهورها يوم القيامة. والابرار هم المحسنون عملا، والفجار هم المنخرقون بالذنوب والظاهر أن المراد بهم المتهتكون من الكفار إذ لا خلود لمؤمن في النار، وفي تنكير " تعيم " و " جحيم " إشعار بالتفحيم والتهويل - كما قيل -. قوله تعالى: " يصلونها يوم الدين " الضمير للجحيم أي يلزمون يعني الفجار الجحيم يوم الجزاء ولا يفارقونها. قوله تعالى: " وما هم عنها بغائبين " عطف تفسيري على قوله: " يصلونها " الخ يؤكد معنى ملازمتهم للجحيم وخلودهم في النار، والمراد بغيبتهم عنها خروجهم منها فالآية في معنى قوله: " وما هم بخارجين من النار " البقرة: 167. قوله تعالى: " وما أدراك ما يوم الدين " تهويل وتفخيم لامر يوم الدين، والمعنى لا تحيط علما بحقيقة يوم الدين وهذا التعبير كناية عن فخامة أمر الشئ وعلوه من أن يناله وصف الواصف، وفي إظهار اليوم - والمحل محل الضمير - تأكيد لامر التفخيم. قوله تعالى: " ثم ما أدراك ما يوم الدين " في تكرار الجملة تأكيد للتفخيم. قوله تعالى: " يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والامر يومئذ لله " الظرف منصوب بتقدير اذكر ونحوه، وفي الآية بيان إجمالي لحقيقة يوم الدين بعد ما في قوله: " وما أدراك ما يوم الدين " من الحث على معرفته. وذلك أن رابطة التأثير والتأثر بين الاسباب الظاهرية ومسبباتها منقطعة زائلة يومئذ كما يستفاد من أمثال قوله تعالى: " وتقطعت بهم الاسباب " البقرة: 166، وقوله: " ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا " البقرة: 165 فلا تملك نفس

[ 228 ]

لنفس شيئا فلا تقدر على دفع شر عنها ولا جلب خير لها، ولا ينافي ذلك آيات الشفاعة لانها بإذن الله المالك لها لا غير. وقوله: " والامر يومئذ لله " أي هو المالك للامر ليس لغيره من الامر شئ. والمراد بالامر كما قيل واحد الاوامر لقوله تعالى: " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " المؤمن: 16 وشأن الملك المطاع، الامر بالمعنى المقابل للنهي، والامر بمعنى الشأن لا يلائم المقام تلك الملاءمة. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " وإذا القبور بعثرت " قال: تنشق فتخرج الناس منها. وفي الدر المنثور أخرج الحاكم وصححه عن حذيفة قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم من استن خيرا فاستن به فله أجره ومثل أجور من اتبعه غير منتقص من اجورهم ومن استن شرا فاستن به فله وزره ومثل أوزار من اتبعه غير منتقص من أوزارهم، وتلا حذيفة " علمت نفس ما قدمت وأخرت ". وفيه أخرج عبد بن حميد عن صالح بن مسمار قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلا هذه الآية " يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم " ثم قال: جهله. وفي تفسير القمي " في أي صورة ما شاء ركبك " قال: لو شاء ركبك على غير هذه الصورة. أقول: ورواه في المجمع عن الصادق عليه السلام مرسلا. وفيه " وإن عليكم لحافظين " قال: الملكان الموكلان بالانسان. وعن سعد السعود وفي رواية انهما - يعني الملكين الموكلين - يأتيان المؤمن عند حضور صلاة الفجر فإذا هبطا صعد الملكان الموكلان بالليل فإذا غربت الشمس نزل إليه الموكلان بكتابة الليل، ويصعد الملكان الكاتبان بالنهار بديوانه إلى الله عزوجل. فلا يزال ذلك دأبهم إلى وقت حضور أجله فإذا حضر أجله قالا للرجل الصالح: جزاك الله من صاحب عنا خيرا فكم من عمل صالح أريتناه، وكم من قول حسن أسمعتناه، وكم من مجلس خير أحضرتناه فنحن اليوم على ما تحبه وشفعاء إلى ربك، وإن كان عاصيا قالا له: جزاك الله من صاحب عنا شرا فلقد كنت تؤذينا فكم من عمل سيئ أريتناه، وكم من قول سيئ أسمعتناه، و [ كم ظ ] من مجلس سوء أحضرتناه ونحن اليوم لك

[ 229 ]

على ما تكره، وشهيدان عند ربك. وفي المجمع في قوله تعالى: " والامر يومئذ لله " روى عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: الامر يومئذ واليوم كله لله. يا جابر إذا كان يوم القيامة بادت الحكام فلم يبق حاكم إلا الله. أقول: مراده عليه السلام أن كون الامر لله لا يختص بيوم القيامة بل الامر لله دائما، وتخصيصه بيوم القيامة باعتبار ظهوره لا باعتبار أصله فالذي يختص به ظهور هذه الحقيقة ظهور عيان فيسقط اليوم أمر غيره تعالى وحكمه، ونظير الامر سائر ما عد في كلامه تعالى من مختصات يوم القيامة، فالرواية من غرر الروايات. (سورة المطففين مكية أو مدنية وهي ست وثلاثون آية) بسم الله الرحمن الرحيم ويل للمطففين - 1. الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون - 2. وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون - 3. ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون - 4. ليوم عظيم - 5. يوم يقوم الناس لرب العالمين - 6. كلا إن كتاب الفجار لفي سجين - 7. وما أدراك ما سجين - 8. كتاب مرقوم - 9. ويل يومئذ للمكذبين - 10. الذين يكذبون بيوم الدين - 11. وما يكذب به إلا كل معتد أثيم - 12. إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الاولين - 13. كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون - 14. كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون - 15. ثم إنهم لصالوا الجحيم - 16. ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون - 17. كلا إن كتاب الابرار لفي عليين - 18. وما

[ 230 ]

أدراك ما عليون - 19. كتاب مرقوم - 20. يشهده المقربون - 21. (بيان) تفتتح السورة بوعيد أهل التطفيف في الكيل والوزن وتنذرهم بأنهم مبعوثون للجزاء في يوم عظيم وهو يوم القيامة ثم تتخلص لتفصيل ما يجري يومئذ على الفجار والابرار. والانسب بالنظر إلى السياق أن يكون أول السورة المشتمل على وعيد المطففين نازلا بالمدينة وأما ما يتلوه من الآيات إلى آخر السورة فيقبل الانطباق على السياقات المكية والمدنية. قوله تعالى: " ويل للمطففين " دعاء على المطففين والتطفيف نقص المكيال والميزان، وقد نهى الله تعالى عنه وسماه إفسادا في الارض كما فيما حكاه من قول شعيب: " ويا قوم اوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الارض مفسدين " هود: 84، وقد تقدم الكلام في تفسير الآية في معنى كونه إفسادا في الارض. قوله تعالى: " الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون " الاكتيال من الناس الاخذ منهم بالكيل، وتعديته بعلى لافادة معنى الضرر، والكيل إعطاؤهم بالمكيال يقال: كاله طعامه ووزنه وكال له طعامه ووزن له والاول لغة أهل الحجاز وعليه التنزيل والثاني لغة غيرهم كما في المجمع، والاستيفاء أخذ الحق تاما كاملا، والاخسار الايقاع في الخسارة. والمعنى: الذين إذا أخذوا من الناس بالكيل يأخذون حقهم تاما كاملا، وإذا أعطوا الناس بالكيل أو الوزن ينقصون فيوقعونهم في الخسران. فمضمون الآيتين جميعا ذم واحد وهو أنهم يراعون الحق لانفسهم ولا يراعونه لغيرهم وبعبارة اخرى لا يراعون لغيرهم من الحق مثل ما يراعونه لانفسهم وفيه إفساد الاجتماع الانساني المبني على تعادل الحقوق المتقابلة وفي إفساده كل الفساد. ولم يذكر الاتزان مع الاكتيال كما ذكر الوزن مع الكيل إذ قال: " وإذا كالوهم أو وزنوهم " قيل لان المطففين كانوا باعة وهم كانوا في الاغلب يشترون الكثير من الحبوب والبقول ونحوهما من الامتعة ثم يكسبون بها فيبيعونها يسيرا يسيرا تدريجا، وكان دأبهم في الكثير من هذه الامتعة أن يؤخذ ويعطى بالكيل لا بالوزن فذكر الاكتيال وحده في الآية مبني على الغالب.

[ 231 ]

وقيل: لم يذكر الاتزان لان الكيل والوزن بهما البيع والشراء فذكر أحدهما يدل على الآخر. وفيه أن ما ذكر في الاكتيال جار في الكيل أيضا وقد ذكر معه الوزن فالوجه لا يخلو من تحكم. وقيل: الآيتان تحاكيان ما كان عليه دأب الذين نزلت فيهم السورة فقد كانوا يشترون بالاكتيال فقط ويبيعون بالكيل والوزن جميعا، وهذا الوجه دعوى من غير دليل. إلى غير ذلك مما ذكروه في توجيه الاقتصار على ذكر الاكتيال في الآية، ولا يخلو شئ منها من ضعف. قوله تعالى: " ألا يظن اولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم " الاستفهام للانكار والتعجيب، والظن بمعناه المعروف والاشارة إلى المطففين باولئك الموضوعة للاشارة البعيدة للدلالة على بعدهم من رحمة الله، واليوم العظيم يوم القيامة الذي يجازون فيه بعملهم. والاكتفاء بظن البعث وحسبانه - مع أن من الواجب الاعتقاد العلمي بالمعاد - لان مجرد حسبان الخطر والضرر في عمل يوجب التجنب عنه والتحرز عن اقترافه وإن لم يكن هناك علم فالظن بالبعث ليوم عظيم يؤاخذ الله فيه الناس بما كسبوا من شأنه أن يردعهم عن اقتراف هذا الذنب العظيم الذي يستتبع العذاب الاليم. وقيل: الظن في الآية بمعنى العلم. قوله تعالى: " يوم يقوم الناس لرب العالمين " المراد به قيامهم من قبورهم - كناية عن تلبسهم بالحياة بعد الممات - لحكمه تعالى وقضائه بينهم. قوله تعالى: " كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وما أدراك ماسجين كتاب مرقوم ويل يومئذ للمكذبين " ردع - كما قيل - عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب. وقوله: " إن كتاب الفجار لفي سجين ": الخ الذي يعطيه التدبر في سياق الآيات الاربع بقياس بعضها إلى بعض وقياس المجموع إلى مجموع قوله: " كلا ان كتاب الابرار لفي علين " إلى تمام أربع آيات أن المراد بسجين ما يقابل عليين ومعناه علو على علو مضاعف ففيه شئ من معنى السفل والانحباس فيه كما يشير إليه قوله: " ثم رددناه أسفل سافلين " التين: 5 فالاقرب أن يكون مبالغة من السجن بمعنى الحبس كسكير وشريب من السكر. الشرب فمعناه الذي يحبس من دخله على التخليد كما قيل.

[ 232 ]

والكتاب بمعنى المكتوب من الكتابة بمعنى القضاء المحتوم والمراد بكتاب الفجار ما قدره الله لهم من الجزاء وأثبته بقضائه المحتوم. فمحصل الآية أن الذي أثبته الله من جزائهم أو عده لهم لفي سجين الذي هو سجن يحبس من دخله حبسا طويلا أو خالدا. وقوله: " وما أدراك ما سجين " مسوق للتهويل. وقوله: " كتاب مرقوم " خبر لمبتدء محذوف هو ضمير راجع إلى سجين والجملة بيان لسجين و " كتاب " أيضا بمعنى المكتوب من الكتابة بمعنى القضاء والاثبات، و " مرقوم " من الرقم، قال الراغب: الرقم الخط الغليظ، وقيل: هو تعجيم الكتاب، وقوله تعالى: " كتاب مرقوم " حمل على الوجهين. انتهى، والمعنى الثاني أنسب للمقام فيكون إشارة إلى كون ما كتب لهم متبينا لا إبهام فيه أي إن القضاء حتم لا يتخلف. والمحصل أن سجين مقضى عليهم مثبت لهم متبين متميز لا إبهام فيه. ولا ضير في لزوم كون الكتاب ظرفا للكتاب على هذا المعنى لان ذلك من ظرفية الكل للجزء وهي ممالا ضير فيه فيكون سجين كتابا جامعا فيه ما قضي على الفجار وغيرهم من مستحقي العذاب. وقوله: " ويل يومئذ للمكذبين " نعى ودعاء على الفجار وفيه تفسيرهم بالمكذبين، و " يومئذ " ظرف لقوله: " إن كتاب الفجار لفي سجين " بحسب المعنى أي ليهلك الفجار - وهم المكذبون - يومئذ تحقق ما كتب الله لهم وقضى عليهم من الجزاء وحل بهم ما أعد لهم من العذاب. هذا ما يفيده التدبر في هذه الآيات الاربع، وهي ذات سياق واحد متصل متلائم الاجزاء. وللقوم في تفسير مفردات الآيات الاربع وجملها أقوال متفرقة كقولهم: إن الكتاب في قوله: " إن كتاب الفجار " بمعنى المكتوب والمراد به صحيفة أعمالهم، وقيل: مصدر بمعنى الكتابة وفي الكلام مضاف محذوف والتقدير كتابة عمل الفجار لفي سجين. وقولهم: إن الفجار أعم من المكذبين فيشمل الكفار والفسقة جميعا. وقولهم: إن المراد بسجين الارض السابعة السفلى يوضع فيها كتاب الفجار وقيل: واد في جهنم، وقيل: جب فيها، وقيل: سجين اسم لكتابهم، وقيل: سجين الاول اسم الموضع الذي يوضع فيه كتابهم والثاني اسم كتابهم، وقيل: هو اسم كتاب جامع

[ 233 ]

هو ديوان الشر دون فيه أعمال الفجرة من الثقلين، وقيل: المراد به الخسار والهوان فهو كقولهم: بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الخمول، وقيل: هو السجيل بدل لامه نونا كما يقال جبرين في جبريل إلى غير ذلك مما قيل. وقولهم: إن قوله: " كتاب مرقوم " ليس بيانا وتفسيرا لسجين بل تفسير للكتاب المذكور في قوله: " إن كتاب الفجار ". وقولهم: إن قوله: " ويل يومئذ للمكذبين " متصل بقوله: " يوم يقوم الناس لرب العالمين " والآيات الثلاث الواقعة بين الآيتين اعتراض. وأنت إن تأملت هذه الاقاويل وجدت كثيرا منها تحكما محضا لا دليل عليه. على أنها تقطع ما في الآيات من السياق الواحد المتصل الذي يحاذي به ما في الآيات الاربع الآتية في صفة كتاب الابرار من السياق الواحد المتصل فلا نطيل الكلام بالتعرض لواحد واحد منها والمناقشة فيها. قوله تعالى: " الذين يكذبون بيوم الدين " تفسير للمكذبين وظاهر الآية - ويؤيده الآيات التالية - أن المراد بالتكذيب هو التكذيب القولي الصريح فيختص الذم بالكفار ولا يشمل الفسقة من أهل الايمان فلا يشمل مطلق المطففين بل الكفار منهم. اللهم إلا أن يراد بالتكذيب ما يعم التكذيب العملي كما ربما أيده قوله السابق: " الا يظن اولئك أنهم مبعوثون " فيشمل الفجار من المؤمنين كالكفار. قوله تعالى: " وما يكذب به إلا كل معتد أثيم " المعتدى اسم فاعل من الاعتداء بمعنى التجاوز والمراد به المتجاوز عن حدود العبودية، والاثيم كثير الآثام بحيث تراكم بعضها على بعض بانهماكه في الاهواء. ومن المعلوم أن المانع الوحيد الذي يردع عن المعصية هو الايمان بالبعث والجزاء، والمنهمك في الاهواء المتعلق قلبه بالاعتداء والاثم تأبى نفسه التسليم لما يردع عنها والتزهد عن المعاصي وينتهي إلى تكذيب البعث والجزاء قال تعالى: " ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوآى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن " الروم: 10. قوله تعالى: " إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الاولين " المراد بالآيات آيات القرآن بقرينة قوله " تتلى " والاساطير ما سطروه وكتبوه والمراد بها أباطيل الامم الماضين والمعنى إذا تتلى عليه آيات القرآن مما يحذرهم المعصية وينذرهم بالبعث والجزاء قال: هي أباطيل.

[ 234 ]

قوله تعالى: " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " ردع عما قاله المكذبون: " أساطير الاولين " قال الراغب: الرين صدأ يعلو الشئ الجليل (1) قال تعالى: " بل ران على قلوبهم " أي صار ذلك كصدء على جلاء قلوبهم فعمي عليهم معرفة الخير من الشر، انتهى. فكون ما كانوا يكسبون وهو الذنوب رينا على قلوبهم هو حيلولة الذنوب بينهم وبين أن يدركوا الحق على ما هو عليه. ويظهر من الآية: أولا: أن للاعمال السيئة نقوشا وصورا في النفس تنتقش وتتصور بها. وثانيا: أن هذه النقوش والصور تمنع النفس أن تدرك الحق كما هو وتحول بينها وبينه. وثالثا: أن للنفس بحسب طبعها الاولي صفاء وجلاء تدرك به الحق كما هو وتميز بينه وبين الباطل وتفرق بين التقوى والفجور قال تعالى: " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها " الشمس: 8. قوله تعالى: " كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " ردع عن كسب الذنوب الحائلة بين القلب وإدراك الحق، والمراد بكونهم محجوبين عن ربهم يوم القيامة حرمانهم من كرامة القرب والمنزلة ولعله مراد من قال: إن المراد كونهم محجوبين عن رحمة ربهم. وأما ارتفاع الحجاب بمعنى سقوط الاسباب المتوسطة بينه تعالى وبين خلقه والمعرفة التامة به تعالى فهو حاصل لكل أحد قال تعالى: " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " المؤمن: 16 وقال: " ويعلمون أن الله هو الحق المبين " النور: 25. قوله تعالى: " ثم إنهم لصالوا الجحيم " أي داخلون فيها ملازمون لها أو مقاسون حرها على ما فسره بعضهم و " ثم " في الآية وما بعدها للتراخي بحسب رتبة الكلام. قوله تعالى: " ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون " هو توبيخ وتقريع والقائل خزنة النار أو أهل الجنة. قوله تعالى: " كلا إن كتاب الابرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم " ردع في معنى الردع الذي في قوله: " كلا إن كتاب الفجار " وعليون - كما تقدم - علو على علو مضاعف، وينطبق على الدرجات العالية ومنازل القرب من الله تعالى كما أن السجين بخلافه.


(1) الجلى ظ.

[ 235 ]

والكلام في معنى الآيات الثلاث نظير الكلام في الآيات الثلاث المتقدمة التي تحازيها من قوله: " إن كتاب الفجار لفي سجين وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم ". فالمعنى أن الذي كتب للابرار وقضي جزاء لبرهم لفي عليين وما أدراك ما عليون هو أمر مكتوب ومقضي قضاء حتما لازما متبين لا إبهام فيه. وللقوم أقاويل في هذه الآيات نظير ما لهم في الآيات السابقة من الآقوال غير أن من أقوالهم في عليين أنه السماء السابعة تحت العرش فيه أرواح المؤمنين، وقيل سدرة المنتهى التي إليها تنتهي الاعمال، وقيل: لوح من زبر جدة تحت العرش معلق مكتوب فيه أعمالهم، وقيل: هي مراتب عالية محفوفة بالجلالة، والكلام فيها كالكلام فيما تقدم من أقوالهم. قوله تعالى ": يشهده المقربون " الانسب لما تقدم من معنى الآيات السابقة أن يكون " يشهده " من الشهود بمعنى المعاينة والمقربون قوم من أهل الجنة هم أعلى درجة من عامة الابرار على ما سيأتي استفادته من قوله: " عينا يشرب بها المقربون " فالمراد معاينتهم له بإراءة الله إياه لهم وقد قال الله تعالى في مثله من أمر الجحيم: " كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم " التكاثر: 6 ومنه يظهر أن المقربين هم أهل اليقين. وقيل: الشهادة هي الحضور والمقربون الملائكة، والمراد حضور الملائكة على صحيفة عملهم إذا صعدوا بها إلى الله سبحانه. وقيل: المقربون هم الابرار والملائكة جميعا. والقولان مبنيان على أن المراد بالكتاب صحيفة الاعمال وقد تقدم ضعفه. (بحث روائي) في تفسير القمي وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال: نزلت يعني سورة المطففين على نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قدم المدينة وهم يومئذ أسوء الناس كيلا فاحسنوا الكيل. وفي اصول الكافي بإسناده عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: أن الله عزوجل خلقنا من أعلى عليين وخلق قلوب شيعتنا مما خلقنا منه وخلق أبدانهم من دون ذلك فقلوبهم تهوى إلينا لانها خلقت مما خلقنا ثم تلا هذه الآية " كلا إن كتاب الابرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون ". وخلق قلوب عدونا من سجين وخلق قلوب شيعتهم مما خلقهم منه وأبدانهم من دون

[ 236 ]

ذلك، قلوبهم تهوى إليهم لانها خلقت مما خلقوا منه ثم تلا هذه الآية " كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم ويل يومئذ للمكذبين ". أقول: وروى مثله في اصول الكافي بطريق آخر عن الثمالي عنه عليه السلام، ورواه في علل الشرائع بإسناد فيه رفع عن زيد الشحام عن أبي عبد الله عليه السلام مثله، والاحاديث - كما ترى - تؤيد ما قدمناه في معنى الآيات. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " كلا إن كتاب الفجار لفي سجين " قال: ما كتب الله لهم من العذاب لفي سجين. وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال: السجين الارض السابعة وعليون السماء السابعة. أقول: الرواية لو صحت مبنية على انتساب الجنة والنار إلى جهتي العلو والسفل بنوع من العناية ولذلك نظائر في الروايات كعد القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار وعد وادي برهوت مكانا لجهنم. وفي الدر المنثور أخرج ابن المبارك عن سعيد بن المسيب قال: التقى سلمان وعبد الله ابن سلام فقال أحدهما لصاحبه: إن مت قبلي فالقني فاخبرني بما صنع ربك بك وإن أنا مت قبلك لقيتك فأخبرتك فقال عبد الله: كيف يكون هذا ؟ قال: نعم إن أرواح المؤمنين تكون في برزخ من الارض تذهب حيث شاءت ونفس الكافر في سجين والله أعلم. وفي اصول الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء فإذا أذنب ذنبا خرج في تلك النكتة نكتة سوداء فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا وهو قول الله عزوجل: " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ". أقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن عدة من أصحاب الجوامع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه باسناده عن عبد الله بن محمد الحجال عن بعض أصحابنا رفعه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تذاكروا وتلاقوا وتحدثوا فإن الحديث جلاء للقلوب إن القلوب لترين كما يرين السيف وجلاؤه الحديث. وعن روضة الواعظين قال الباقر عليه السلام ما شئ أفسد للقلب من الخطيئة إن القلب

[ 237 ]

ليواقع الخطيئة فما تزال به حتى تغلب عليه فيصير أسفله أعلاه وأعلاه أسفله. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فان تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منه وإن ازداد زادت فذلك الران الذي ذكره الله تعالى في كتابه " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ". إن الابرار لفي نعيم - 22. على الارائك ينظرون - 23. تعرف في وجوههم نضرة النعيم - 24. يسقون من رحيق مختوم - 25. ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون - 26. ومزاجه من تسنيم - 27. عينا يشرب بها المقربون - 28. إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون - 29. وإذا مروا بهم يتغامزون - 30. وإذا انقلبوا إلى أهلهم أنقلبوا فكهين - 31. وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون - 32. وما أرسلوا عليهم حافظين - 33. فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون - 34. على الارائك ينظرون - 35. هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون - 36. (بيان) بيان فيه بعض التفصيل لجلالة قدر الابرار وعظم منزلتهم عند الله تعالى وغزارة عيشهم في الجنة، وأنهم على كونهم يستهزئ بهم الكفار ويتغامزون بهم ويضحكون منهم سيضحكون منهم وينظرون إلى ما ينالهم من العذاب. قوله تعالى: " إن الابرار لفي نعيم " النعيم النعمة الكثيرة وفي تنكيره دلالة على فخامة قدره، والمعنى إن الابرار لفي نعمة كثيرة لا يحيط بها الوصف.

[ 238 ]

قوله تعالى: " على الارائك ينظرون " الارائك جمع أريكة والاريكة السرير في الجملة وهي البيت المزين للعروس وإطلاق قوله: " ينظرون " من غير تقييد يؤيد أن يكون المراد نظرهم إلى مناظر الجنة البهجة وما فيها من النعيم المقيم، وقيل: المراد به النظر إلى ما يجزى به الكفار وليس بذاك. قوله تعالى: " تعرف في وجوههم نضرة النعيم " النضرة البهجة والرونق، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم باعتبار أن له أن ينظر فيعرف فالحكم عام والمعنى كل من نظر إلى وجوههم يعرف فيها بهجة النعيم الذي هم فيه. قوله تعالى: " يسقون من رحيق مختوم " الرحيق الشراب الصافي الخالص من الغش، ويناسبه وصفه بأنه مختوم فانه إنما يختم على الشئ النفيس الخالص ليسلم من الغش والخلط وإدخال ما يفسده فيه. قوله تعالى: " ختامه مسك وفى ذلك فليتنافس المتنافسون " قيل الختام بمعنى ما يختم به أي إن الذي يختم به مسك بدلا من الطين ونحوه الذي يختم به في الدنيا، وقيل: أي آخر طعمه الذي يجده شاربه رائحة المسك. وقوله: " وفي ذلك فليتنافس المتنافسون " التنافس التغالب على الشئ ويفيد بحسب المقام معنى التسابق قال تعالى: " سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة " الحديد: 21، وقال: " فاستبقوا الخيرات " المائدة: 48، ففيه ترغيب إلى ما وصف من الرحيق المختوم. واستشكل في الآية بأن فيها دخول العاطف على العاطف إذ التقدير فليتنافس في ذلك الخ وأجيب بأن الكلام على تقدير حرف الشرط والفاء واقعة في جوابه وقدم الظرف ليكون عوضا عن الشرط والتقدير وإن اريد تنافس فليتنافس في ذلك المتنافسون. ويمكن أن يقال: إن قوله: " وفي ذلك " معطوف على ظرف آخر محذوف متعلق بقوله: " فليتنافس " يدل عليه المقام فان الكلام في وصف نعيم الجنة فيفيد قوله: " وفي ذلك " ترغيبا مؤكدا بتخصيص الحكم بعد التعميم، والمعنى فليتنافس المتنافسون في نعيم الجنة عامة وفي الرحيق المختوم الذي يسقونه خاصة فهو كقولنا: أكرم المؤمنين والصالحين منهم خاصة، ولا تكن عيابا وللعلماء خاصة. قوله تعالى: " ومزاجه من تسنيم " المزاج ما يمزج به، والتسنيم على ما تفسره الآية التالية عين في الجنة سماه الله تسنيما وفي لفظه معنى الرفع والمل ء يقال: سنمه أي رفعه

[ 239 ]

ومنه سنام الابل ويقال: سنم الاناء أي ملاه. قوله تعالى: " عينا يشرب بها المقربون " يقال: شربه وشرب به بمعنى و " عينا " منصوب على المدح أو الاختصاص و " يشرب بها المقربون " وصف لها والمجموع تفسير للتسنيم. ومفاد الآية أن المقربين يشربون التسنيم صرفا كما أن مفاد قوله: " ومزاجه من تسنيم " أنه يمزج بها ما في كأس الابرار من الرحيق المختوم، ويدل ذلك أولا على أن التسنيم أفضل من الرحيق المختوم الذي يزيد لذة بمزجها، وثانيا أن المقربين أعلى درجة من الابرار الذين يصفهم الآيات. قوله تعالى: " إن الذين اجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون " ويعطي السياق أن المراد بالذين آمنوا هم الابرار الموصوفون في الآيات وإنما عبر عنهم بالذين آمنوا لان سبب ضحك الكفار منهم واستهزائهم بهم إنما هو إيمانهم كما أن التعبير عن الكفار بالذين اجرموا للدلالة على أنهم بذلك من المجرمين. قوله تعالى: " وإذا مروا بهم يتغامزون " عطف على قوله: " يضحكون " أي كانوا إذا مروا بالذين آمنوا يغمز بعضهم بعضا ويشيرون بأعينهم استهزاء بهم. قوله تعالى: " وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين " الفكه بالفتح فالكسر المرح البطر، والمعنى وكانوا إذا انقلبوا وصاروا إلى أهلهم عن ضحكهم وتغامزهم انقلبوا ملتذين فرحين بما فعلوا أو هو من الفكاهة بمعنى حديث ذوي الانس والمعنى انقلبوا وهم يحدثون بما فعلوا تفكها. قوله تعالى: " وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون " على سبيل الشهادة عليهم بالضلال أو القضاء عليهم والثاني أقرب. قوله تعالى: " وما ارسلوا عليهم حافظين " أي وما ارسل هؤلاء الذين أجرموا حافظين على المؤمنين يقضون في حقهم بما شاؤا أو يشهدون عليهم بما هووا، وهذا تهكم بالمستهزئين. قوله تعالى: " فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون " المراد باليوم يوم الجزاء، والتعبير عن الذين أجرموا بالكفار رجوع إلى حقيقة صفتهم. قيل: تقديم الجار والمجرور على الفعل أعني " من الكفار " على " يضحكون " لافادة قصر القلب، والمعنى فاليوم الذين آمنوا يضحكون من الكفار لا الكفار منهم كما كانوا يفعلون في الدنيا. قوله تعالى: " على الارائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون " الثواب في

[ 240 ]

الاصل مطلق الجزاء وإن غلب استعماله في الخير، وقوله " على الارائك " خبر بعد خبر للذين آمنوا و " ينظرون " خبر آخر، وقوله: " هل ثوب " الخ متعلق بقوله: " ينظرون " قائم مقام المفعول. والمعنى: الذين آمنوا على سرر في الحجال ينظرون إلى جزاء الكفار بأفعالهم التي كانوا يفعلونها في الدنيا من أنواع الاجرام ومنها ضحكهم من المؤمنين وتغامزهم إذا مروا بهم وانقلابهم إلى أهلهم فكهين وقولهم: إن هؤلاء لضالون. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " وفي ذلك فليتنافس المتنافسون " قال: فيما ذكرناه من الثواب الذي يطلبه المؤمن. وفي المجمع في قوله تعالى: " وإذا مروا بهم يتغامزون ": قيل نزلت في على بن أبي طالب عليه السلام وذلك أنه كان في نفر من المسلمين جاؤا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الاصلع فضحكنا منه فنزلت الآية قبل أن يصل على وأصحابه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. عن مقاتل والكلبي. أقول: وقد أورده في الكشاف. وفيه ذكر الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفصيل باسناده عن أبي صالح عن ابن عباس قال: " إن الذين أجرموا " منافقوا قريش و " الذين آمنوا " علي بن أبي طالب وأصحابه. وفي تفسير القمي " إن الذين أجرموا - إلى قوله - فكهين " قال: يسخرون. (سورة الانشقاق مكية وهي خمس وعشرون آية) بسم الله الرحمن الرحيم إذا السماء انشقت - 1. وأذنت لربها وحقت - 2. وإذا الارض مدت - 3. وألقت ما فيها وتخلت - 4.

[ 241 ]

وأذنت لربها وحقت - 5. يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه - 6. فأما من أوتي كتابه بيمينه - 7. فسوف يحاسب حسابا يسيرا - 8. وينقلب إلى أهله مسرورا - 9. وأما من أوتي كتابه وراء ظهره - 10. فسوف يدعوا ثبورا - 11. ويصلى سعيرا - 12. إنه كان في أهله مسرورا - 13. إنه ظن أن لن يحور - 14. بلى إن ربه كان به بصيرا - 15. فلا أقسم بالشفق - 16. والليل وما وسق - 17. والقمر إذا اتسق - 18. لتركبن طبقا عن طبق - 19. فمالهم لا يؤمنون - 20. وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون - 21. بل الذين كفروا يكذبون - 22. والله أعلم بما يوعون - 23. فبشرهم بعذاب أليم - 24. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون - 25. (بيان) تشير السورة إلى قيام الساعة، وتذكر أن للانسان سيرا إلى ربه حتى يلاقيه فيحاسب على ما يقتضيه كتابه وتؤكد القول في ذلك والغلبة فيها للانذار على التبشير. وسياق آياتها سياق مكي. قوله تعالى: " إذا السماء انشقت " شرط جزاؤه محذوف يدل عليه قوله: " يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " والتقدير: لاقى الانسان ربه فحاسبه وجازاه على ما عمل.

[ 242 ]

وانشقاق السماء وهو تصدعه وانفراجه من أشراط الساعة كمد الارض وسائر ما ذكر في مواضع من كلامه تعالى من تكوير الشمس واجتماع الشمس والقمر وانتثار الكواكب ونحوها. قوله تعالى: " وأذنت لربها وحقت " الاذن الاستماع ومنه الاذن لجارحة السمع وهو مجاز عن الانقياد والطاعة، و " حقت " أي جعلت حقيقة وجديرة بأن تسمع، والمعنى وأطاعت وانقادت لربها وكانت حقيقة وجديرة بأن تستمع وتطيع. قوله تعالى: " وإذا الارض مدت " الظاهر أن المراد به اتساع الارض، وقد قال تعالى: " يوم تبدل الارض غير الارض " إبراهيم: 48. قوله تعالى: " وألقت ما فيها وتخلت " أي ألقت الارض ما في جوفها من الموتى وبالغت في الخلو مما فيها منهم. وقيل: المراد إلقائها الموتى والكنوز كما قال تعالى: " وأخرجت الارض أثقالها " الزلزال: 2 وقيل: المعنى ألقت ما في بطنها وتخلت مما على ظهرها من الجبال والبحار، ولعل أول الوجوه أقربها. قوله تعالى: " وأذنت لربها وحقت " ضمائر التأنيث للارض كما أنها في نظيرتها المتقدمة للسماء، وقد تقدم معنى الآية. قوله تعالى: " يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " قال الراغب: الكدح السعي والعناء. انتهى. ففيه معنى السير، وقيل: الكدح جهد النفس في العمل حتى يؤثر فيها انتهى. وعلى هذا فهو مضمن معنى السير بدليل تعديه بإلى ففي الكدح معنى السير على أي حال. وقوله: " فملاقيه " عطف على " كادح " وقد بين به أن غاية هذا السير والسعي والعناء هو الله سبحانه بما أن له الربوبية أي إن الانسان بما أنه عبد مربوب ومملوك مدبر ساع إلى الله سبحانه بما أنه ربه ومالكه المدبر لامره فإن العبد لا يملك لنفسه إرادة ولا عملا فعليه أن يريد ولا يعمل إلا ما أراده ربه ومولاه وأمره به فهو مسؤل عن إرادته وعمله. ومن هنا يظهر أولا أن قوله: " إنك كادح إلى ربك " يتضمن حجة على المعاد لما عرفت أن الربوبية لا تتم إلا مع عبودية ولا تتم العبودية إلا مع مسؤلية ولا تتم مسؤلية إلا برجوع وحساب على الاعمال ولا يتم حساب إلا بجزاء.

[ 243 ]

وثانيا: أن المراد بملاقاته انتهاؤه إلى حيث لا حكم إلا حكمه من غير أن يحجبه عن ربه حاجب. وثالثا: أن المخاطب في الاية هو الانسان بما انه إنسان فالمراد به الجنس وذلك أن الربوبية عامة لكل إنسان. قوله تعالى: " فأما من أوتي كتابه بيمينه " تفصيل مترتب على ما يلوح إليه قوله: " إنك كادح إلى ربك " أن هناك رجوعا وسؤالا عن الاعمال وحسابا، والمراد بالكتاب صحيفة الاعمال بقرينة ذكر الحساب، وقد تقدم الكلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين في سورتي الاسراء والحاقة. قوله تعالى: " فسوف يحاسب حسابا يسيرا " الحساب اليسير ما سوهل فيه وخلا عن المناقشة قوله تعالى: " وينقلب إلى أهله مسرورا " المراد بالاهل من أعده الله له في الجنة من الحور والغلمان وغيرهم وهذا هو الذي يفيده السياق، وقيل: المراد به عشيرته المؤمنون ممن يدخل الجنة، وقيل المراد فريق المؤمنين وإن لم يكونوا من عشيرته فالمؤمنون إخوة والوجهان لا يخلوان من بعد. قوله تعالى: " وأما من أوتي كتابه وراء ظهره " الظرف منصوب بنزع الخافض والتقدير من وراء ظهره، ولعلهم إنما يؤتون كتبهم من وراء ظهورهم لرد وجوههم على أدبارهم كما قال تعالى: " من قيل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها " النساء: 47. ولا منافاة بين إيتاء كتابهم من وراء ظهورهم وبين إيتائهم بشمالهم كما وقع في قوله تعالى: " وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه " الحاقة: 27، وسيأتي في البحث الروائي التالي ما ورد في الروايات من معنى إيتاء الكتاب من وراء ظهورهم. قوله تعالى: " فسوف يدعو ثبورا " الثبور كالويل الهلاك ودعاؤهم الثبور قولهم: واثبوراه. قوله تعالى: " ويصلى سعيرا " أي يدخل نارا مؤججة لا يوصف عذابها، أو يقاسى حرها. قوله تعالى: " إنه كان في أهله مسرورا " يسره ما يناله من متاع الدنيا وتنجذب نفسه إلى زينتها وينسيه ذلك أمر الآخرة وقد ذم تعالى فرح الانسان بما يناله من خير الدنيا وسماه فرحا بغير حق قال تعالى بعد ذكر النار وعذابها: " ذلكم بما كنتم تفرحون في الارض بغير الحق وبما كنتم تمرحون " المؤمن: 75. قوله تعالى: " إنه ظن أن لن يحور " أي لن يرجع والمراد الرجوع إلى ربه للحساب

[ 244 ]

والجزاء، ولا سبب يوجبه عليهم إلا التوغل في الذنوب والآثام الصارفة عن الآخرة الداعية إلى استبعاد البعث. قوله تعالى: " بلى أن ربه كان به بصيرا " رد لظنه أي ليس الامر كما ظنه بل يحور ويرجع، وقوله: " إن ربه كان به بصيرا " تعليل للرد المذكور فإن الله سبحانه كان ربه المالك له المدبر لامره وكان يحيط به علما ويرى ما كان من أعماله وقد كلفه بما كلف ولاعماله جزاء خيرا أو شرا فلا بد أن يرجع إليه ويجزي بما يستحقه بعمله. وبذلك يظهر أن قوله: " إن ربه كان به بصيرا " من إعطاء الحجة على وجوب المعاد نظير ما تقدم في قوله: " إنك كادح إلى ربك " الآية. ويظهر أيضا من مجموع هذه الآيات التسع إن إيتاء الكتب ونشر الصحف قبل الحساب كما يدل عليه أيضا قوله تعالى: " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرء كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " أسرى: 14. ثم الآيات كما ترى تخص إيتاء الكتاب من وراء الظهر بالكفار فيقع الكلام في عصاة المؤمنين من أصحاب الكبائر ممن يدخل النار فيمكث فيها برهة ثم يخرج منها بالشفاعة على ما في الاخبار من طرق الفريقين فهؤلاء لا يؤتون كتابهم من وراء ظهورهم لاختصاص ذلك بالكفار ولا بيمينهم لظهور الآيات في أن أصحاب اليمين يحاسبون حسابا يسيرا ويدخلون الجنة، ولا سبيل إلى القول بأنهم لا يؤتون كتابا لمكان قوله تعالى: " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه " الآية المفيد للعموم. وقد تخلص بعضهم عن الاشكال بأنهم يؤتون كتابهم باليمين بعد الخروج من النار. وفيه أن ظاهر الآيات إن لم يكن صريحها أن دخول النار أو الجنة فرع مترتب على القضاء المترتب على الحساب المترتب على إيتاء الكتب ونشر الصحف فلا معنى لايتاء الكتاب بعد الخروج من النار. واحتمل بعضهم أن يؤتوا كتابهم بشمالهم ويكون الايتاء من وراء الظهر مخصوصا بالكفار كما تفيده الآيات. وفيه أن الآيات التي تذكر إيتاء الكتاب بالشمال - وهي التي في سورة الواقعة والحاقة وفي معناها ما في سورة الاسراء أيضا - تخص إيتاء الكتاب بالشمال بالكفار ويظهر من مجموع الآيات أن الذين يؤتون كتابهم بشمالههم هم الذين يؤتونه من وراء ظهورهم.

[ 245 ]

وقال بعضهم من الممكن أن يؤتوا كتابهم من وراء ظهورهم ويكون قوله: " فسوف يحاسب حسابا يسيرا " من قبيل وصف الكل بصفة بعض أجزائه. وفيه أن المقام لا يساعد على هذا التجوز فإن المقام مقام تمييز السعداء من الاشقياء وتشخيص كل بجزائه الخاص به فلا مجوز لادغام جمع من أهل العذاب في أهل الجنة. على أن قوله: " فسوف يحاسب " الخ وعد جميل إلهي ولا معنى لشموله لغير مستحقيه ولو بظاهر من القول. نعم يمكن أن يقال: إن اليسر والعسر معنيان إضافيان وحساب العصاة من أهل الايمان يسير بالاضافة إلى حساب الكفار المخلدين في النار ولو كان عسيرا بالاضافة إلى حساب المتقين. ويمكن أيضا أن يقال إن قسمة أهل الجمع إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال غير حاصرة كما يدل عليه قوله تعالى: " وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون اولئك المقربون " الواقعة: 11 فمدلول الآيات خروج المقربين من الفريقين، ومثلهم المستضعفون كما ربما يستفاد من قوله تعالى: " وآخرون مرجون لامر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم " التوبة: 106. فمن الجائز أن لا يكون تقسيم أهل الجمع إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال تقسيما حاصرا لجميعهم بل تخصيصا لاهل الجنة من المتقين وأهل الخلود في النار بالذكر بتوصيفهم بإيتاء الكتاب باليمين وبالشمال لمكان الدعوة إلى الايمان والتقوى ونظير ذلك ما في سورة المرسلات من ذكر يوم الفصل ثم بيان حال المتقين والمكذبين فحسب وليس ينحصر الناس في القبيلين، ونظيره ما في سورة النبأ والنازعات وعبس والانفطار، والمطففين وغيرها فالغرض فيها ذكر انموذج من أهل الايمان والطاعة وأهل الكفر والتكذيب والسكوت عمن سواهم ليتذكر أن السعادة في جانب التقوى والشقاء في جانب التمرد والطغوى. قوله تعالى: " فلا اقسم بالشفق " الشفق الحمرة ثم الصفرة ثم البياض التي تحدث بالمغرب أول الليل. قوله تعالى: " والليل وما وسق " أي ضم وجمع ما تفرق وانتشر في النهار من الانسان والحيوان فإنها تتفرق وتنتشر بالطبع في النهار وترجع إلى مأواها في الليل فتسكن. وفسر بعضهم " وسق " بمعنى طرد أي طرد الكواكب من الخفاء إلى الظهور. قوله تعالى: " والقمر إذا اتسق " أي اجتمع وانضم بعض نوره إلى بعض فاكتمل

[ 246 ]

نوره وتبدر. قوله تعالى: " لتركبن طبقا عن طبق " جواب القسم والخطاب للناس والطبق هو الشئ أو الحال الذي يطابق آخر سواء كان أحدهما فوق الآخر أم لا والمراد به كيف كان المرحلة بعد المرحلة يقطعها الانسان في كدحه إلى ربه من الحياة الدنيا ثم الموت ثم الحياة البرزخية ثم الانتقال إلى الآخرة ثم الحياة الآخرة ثم الحساب والجزاء. وفي هذا الاقسام - كما ترى - تأكيد لما في قوله: " يا أيها الانسان إنك كادح " الآية وما بعده من نبأ البعث وتوطئة وتمهيد لما في قوله: " فما لهم لا يؤمنون " من التعجيب والتوبيخ وما في قوله: " فبشرهم بعذاب " الخ من الانذار والتبشير. وفي الآية إشارة إلى أن المراحل التي يقطعها الانسان في مسيره إلى ربه مترتبة متطابقة. قوله تعالى: " فمالهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون " الاستفهام للتعجيب والتوبيخ ولذا ناسب الالتفات الذي فيه من الخطاب إلى الغيبة كأنه لما رآى أنهم لا يتذكرون بتذكيره ولا يتعظون بعظته أعرض عنهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخاطبه بقوله: " فما لهم لا يؤمنون " الخ. قوله تعالى: " بل الذين كفروا يكذبون والله أعلم بما يوعون " " يكذبون " يفيد الاستمرار، والتعبير عنهم بالذين كفروا للدلالة على علة التكذيب، والايعاء كما قيل جعل الشئ في وعاء. والمعنى: أنهم لم يتركوا الايمان لقصور في البيان أو لانقطاع من البرهان لكنهم اتبعوا أسلافهم ورؤساءهم فرسخوا في الكفر واستمروا على التكذيب والله يعلم بما جمعوا في صدورهم وأضمروا في قلوبهم من الكفر والشرك. وقيل: المراد بقوله: " والله أعلم بما يوعون " أن لهم وراء التكذيب مضمرات في قلوبهم لا يحيط بها العبارة ولا يعلمها إلا الله، وهو بعيد من السياق. قوله تعالى: " فبشرهم بعذاب أليم " التعبير عن الاخبار بالعذاب بالتبشير مبني على التهكم، والجملة متفرعة على التكذيب. قوله تعالى: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون " استثناء منقطع من ضمير " فبشرهم " والمراد بكون أجرهم غير ممنون خلوه من قول يثقل على المأجور. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " إذا السماء انشقت " قال: يوم القيامة. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن علي قال تنشق السماء من المجرة.

[ 247 ]

وفي تفسير القمي في قوله: " وإذا الارض مدت وألقت ما فيها وتخلت " قال: تمد الارض فتنشق فيخرج الناس منها. وفي الدر المنثور أخرج الحاكم بسند جيد عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تمد الارض يوم القيامة مد الاديم ثم لا يكون لابن آدم منها الا موضع قدميه. وفي الاحتجاج عن علي عليه السلام في حديث قال والناس يومئذ على صفات ومنازل فمنهم من يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا، ومنهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب لانهم لم يلبسوا من أمر الدنيا بشئ وانما الحساب هناك على من يلبس بها ههنا، ومنهم من يحاسب على النقير والقطمير ويصير إلى عذاب السعير. وفي المعاني بإسناده عن ابن سنان عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل محاسب معذب فقال له قائل: يا رسول الله فأين قول الله عزوجل: " فسوف يحاسب حسابا يسيرا " قال: ذلك العرض يعني التصفح. أقول: وروى في الدر المنثور عن البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن عائشة مثله. وفي تفسير القمي وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " فأما من اوتي كتابه بيمينه " فهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الاسود بن هلال المخزومي وهو من بني مخزوم، " وأما من اوتي كتابه وراء ظهره " فهو أخوه الاسود بن عبد الاسود المخزومي فقتله حمزة بن عبد المطلب يوم بدر. وفي المجمع في قوله تعالى: " لتركبن طبقا عن طبق " وقيل: معناه شدة بعد شدة حياة ثم موت ثم بعث ثم جزاء، وروي ذلك مرفوعا. وعن جوامع الجامع في الآية عن أبي عبيدة: لتركبن سنن من كان قبلكم من الاولين وأحوالهم وروي ذلك عن الصادق عليه السلام. (سورة البروج مكية وهي اثنتان وعشرون آية) بسم الله الرحمن الرحيم والسماء ذات البروج - 1. واليوم الموعود - 2. وشاهد ومشهود - 3. قتل أصحاب الاخدود - 4.

[ 248 ]

النار ذات الوقود - 5. إذ هم عليها قعود - 6. وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود - 7. وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد - 8. الذي له ملك السموات والارض والله على كل شئ شهيد - 9. إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق - 10. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الانهار ذلك الفوز الكبير - 11. إن بطش ربك لشديد - 12. إنه هو يبدئ ويعيد - 13. وهو الغفور الودود - 14. ذو العرش المجيد - 15. فعال لما يريد - 16. هل أتاك حديث الجنود - 17. فرعون وثمود - 18. بل الذين كفروا في تكذيب - 19. والله من ورائهم محيط - 20. بل هو قرآن مجيد - 21. في لوح محفوظ - 22. (بيان) سورة إنذار وتبشير فيها وعيد شديد للذين يفتنون المؤمنين والمؤمنات لايمانهم بالله كما كان المشركون من أهل مكة يفعلون ذلك بالذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيعذبونهم ليرجعوا إلى شركهم السابق فمنهم من كان يصبر ولا يرجع بلغ الامر ما بلغ، ومنهم من رجع وارتد وهم ضعفاء الايمان كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: " ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا اوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله " العنكبوت: 10، وقوله: " ومن الناس من يعبد الله على حرف فان أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه " الحج: 11.

[ 249 ]

وقد قدم سبحانه على ذلك الاشارة إلى قصة أصحاب الاخدود، وفيه تحريض المؤمنين على الصبر في جنب الله تعالى، وأتبعها بالاشارة إلى حديث الجنود فرعون وثمود وفيه تطييب لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوعد النصر وتهديد للمشركين. والسورة مكية بشهادة سياق آياتها. قوله تعالى: " والسماء ذات البروج " البروج جمع برج وهو الامر الظاهر ويغلب استعماله في القصر العالي لظهوره على الناظرين ويسمى البناء المعمول على سور البلد للدفاع برجاوهو المراد في الآية لقوله تعالى: " ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم " الحجر: 17، فالمراد بالبروج مواضع الكواكب من السماء. وبذلك يظهر أن تفسير البروج بالبروج الاثنى عشر المصطلح عليها في علم النجوم غير سديد وفي الآية إقسام بالسماء المحفوظة بالبروج، ولا يخفى مناسبته لما سيشار إليه من القصة ثم الوعيد والوعد وسنشير إليه. قوله تعالى: " واليوم الموعود " عطف على السماء وإقسام باليوم الموعود وهو يوم القيامة الذي وعد الله القضاء فيه بين عباده. قوله تعالى: " وشاهد ومشهود " معطوفان على السماء والجميع قسم بعد قسم على ما اريد بيانه في السورة وهو - كما تقدمت الاشارة إليه - الوعيد الشديد لمن يفتن المؤمنين والمؤمنات لايمانهم والوعد الجميل لمن آمن وعمل صالحا. فكأنه قيل: اقسم بالسماء ذات البروج التي يدفع الله بها عنها الشياطين إن الله يدفع عن إيمان المؤمنين كيد الشياطين وأوليائهم من الكافرين، واقسم باليوم الموعود الذي يجزى فيه الناس بأعمالهم، واقسم بشاهد يشهد ويعاين أعمال اولئك الكفار وما يفعلونه بالمؤمنين لايمانهم بالله واقسم بمشهود سيشهده الكل ويعاينونه إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، إلى آخر الآيتين. ومن هنا يظهر أن الشهادة في " شاهد " و " مشهود " بمعنى واحد وهو المعاينة بالحضور، على أنها لو كانت بمعنى تأدية الشهادة لكان حق التعبير " ومشهود عليه " لانها بهذا المعنى إنما تتعدى بعلى. وعلى هذا يقبل " شاهد " الانطباق على النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشهادته أعمال امته ثم يشهد عليها يوم القيامة، ويقبل " مشهود " الانطباق على تعذيب الكفار لهؤلاء المؤمنين وما فعلوا

[ 250 ]

بهم من الفتنة وإن شئت فقل: على جزائه وإن شئت فقل: على ما يقع يوم القيامة من العقاب والثواب لهؤلاء الظالمين والمظلومين، وتنكير " مشهود " و " وشاهد " على أي حال للتفخيم. ولهم في تفسير شاهد ومشهود أقاويل كثيرة أنهاها بعضهم إلى ثلاثين كقول بعضهم إن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة، والقول بأن الشاهد يوم النحر والمشهود يوم عرفة، والقول بأن الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم القيامة، والقول بأن الشاهد الملك يشهد على بني آدم والمشهود يوم القيامة، والقول بأن الشاهد الذين يشهدون على الناس والمشهود الذين يشهد عليهم. والقول بأن الشاهد هذه الامة والمشهود سائر الامم، والقول بأن الشاهد أعضاء بني آدم والمشهود أنفسهم والقول بأن الشاهد الحجر الاسود والمشهود الحاج والقول بأن الشاهد الايام والليالي والمشهود بنو آدم، والقول بأن الشاهد الانبياء والمشهود محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والقول بأن الشاهد هو الله والمشهود لا إله الا الله. والقول بأن الشاهد الخلق والمشهود الحق، والقول بأن الشاهد هو الله والمشهود يوم القيامة، والقول بأن الشاهد آدم وذريته والمشهود يوم القيامة، والقول بأن الشاهد يوم التروية والمشهود يوم عرفة، والقول بأنها يوم الاثنين ويوم الجمعة، والقول بأن الشاهد: المقربون والمشهود عليون، والقول بأن الشاهد هو الطفل الذي قال لامه في قصة الاخدود: اصبري فإنك على الحق والمشهود الواقعة، والقول بأن الشاهد الملائكة المتعاقبون لكتابة الاعمال والمشهود قرآن الفجر إلى غير ذلك من أقوالهم. وأكثر هذه الاقوال - كما ترى - مبني على أخذ الشهادة بمعنى أداء ما حمل من الشهادة وبعضها على تفريق بين الشاهد والمشهود في معنى الشهادة وقد عرفت ضعفه، وأن الانسب للسياق أخذها بمعنى المعاينة وإن استلزم الشهادة بمعنى الاداء يوم القيامة، وأن الشاهد يقبل الانطباق على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. كيف لا ؟ وقد سماه الله تعالى شاهدا إذ قال: " يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا " الاحزاب: 45، وسماه شهيدا إذ قال: " ليكون الرسول شهيدا عليكم " الحج 78، وقد عرفت معنى شهادة الاعمال من شهدائها فيما مر. ثم إن جواب القسم محذوف يدل عليه قوله: " إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات " إلى تمام آيتين، ويشعر به أيضا قوله: " قتل أصحاب الاخدود " الخ وهو وعيد الفاتنين ووعد المؤمنين الصالحين وأن الله يوفقهم على الصبر ويؤيدهم على حفظ إيمانهم من كيد الكائدين إن أخلصوا كما فعل بالمؤمنين في قصة الاخدود.

[ 251 ]

قوله تعالى: " قتل أصحاب الاخدود " إشارة إلى قصة الاخدود لتكون توطئة وتمهيدا لما سيجئ من قوله: " إن الذين فتنوا " الخ وليس جوابا للقسم البتة. والاخدود الشق العظيم في الارض، وأصحاب الاخدود هم الجبابرة الذين خدوا اخدودا وأضرموا فيها النار وأمروا المؤمنين بدخولها فأحرقوهم عن آخرهم نقما منهم لايمانهم فقوله: " قتل " الخ دعاء عليهم والمراد بالقتل اللعن والطرد. وقيل: المراد بأصحاب الاخدود المؤمنون والمؤمنات الذين احرقوا فيه، وقوله: " قتل " إخبار عن قتلهم بالاحراق وليس من الدعاء في شئ. ويضعفه ظهور رجوع الضمائر في قوله: " إذ هم عليها " و " هم على ما يفعلون " و " ما نقموا " إلى أصحاب الاخدود، والمراد بها وخاصة بالثاني والثالث الجبابرة الناقمون دون المؤمنين المعذبين. قوله تعالى: " النار ذات الوقود " بدل من الاخدود، والوقود ما يشعل به النار من حطب وغيره، وفي توصيف النار بذات الوقود إشارة إلى عظمة أمر هذه النار وشدة اشتعالها وأجيجها. قوله تعالى: " إذ هم عليها قعود " أي في حال اولئك الجبابرة قاعدون في أطراف النار المشرفة عليها. قوله تعالى: " وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود " أي حضور ينظرون ويشاهدون إحراقهم واحتراقهم. قوله تعالى: " وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله " النقم بفتحتين الكراهة الشديدة أي ما كرهوا من اولئك المؤمنين إلا إيمانهم بالله فأحرقوهم لاجل إيمانهم. قوله تعالى: " العزيز الحميد الذي له ملك السموات والارض والله على كل شئ شهيد " أوصاف جارية على اسم الجلالة تشير إلى الحجة على أن اولئك المؤمنين كانوا على الحق في ايمانهم مظلومين فيما فعل بهم لا يخفى حالهم على الله وسيجزيهم خير الجزاء، وعلى أن اولئك الجبابرة كانوا على الباطل مجترين على الله ظالمين فيما فعلوا وسيذوقون وبال أمرهم وذلك أنه تعالى هو الله العزيز الحميد أي الغالب غير المغلوب على الاطلاق والجميل في فعله على الاطلاق فله وحده كل الجلال والجمال فمن الواجب أن يخضع له وأن لا يتعرض لجانبه، وإذ كان له ملك السماوات والارض فهو المليك على الاطلاق له الامر وله الحكم فهو رب العالمين فمن الواجب أن يتخذ إلها معبودا ولا يشرك به أحد فالمؤمنون به على الحق والكافرون في ضلال.

[ 252 ]

ثم إن الله - وهو الموجد لكل شئ - على كل شئ شهيد لا يخفى عليه شئ من خلقه ولا عمل من أعمال خلقه ولا يحتجب عنه إحسان محسن ولا إساءة مسئ فسيجزي كلا بما عمل. وبالجملة إذ كان تعالى هو الله المتصف بهذه الصفات الكريمة كان على هؤلاء المؤمنين أن يؤمنوا به ولم يكن لاولئك الجبابرة أن يتعرضوا لحالهم ولا أن يمسوهم بسوء. وقال بعض المفسرين في توجيه إجراء الصفات في الآية: ان القوم أن كانوا مشركين فالذي كانوا ينقمونه من المؤمنين وينكرونه عليهم لم يكن هو الايمان بالله تعالى بل نفي ما سواه من معبوداتهم الباطلة، وإن كانوا معطلة فالمنكر عندهم ليس الا اثبات معبود غير معهود لهم لكن لما كان مآل الامرين انكار المعبود الحق الموصوف بصفات الجلال والاكرام عبر بما عبر باجراء الصفات عليه تعالى. وفيه غفلة عن أن المشركين وهم الوثنية ما كانوا ينسبون إلى الله تعالى الا الصنع والايجاد. وأما الربوبية التي تستتبع التدبير والالوهية التي تستوجب العبادة فكانوا يقصرونها في أربابهم وآلهتهم فيعبدونها دون الله سبحانه، فليس له تعالى عندهم الا أنه رب الارباب واله الآ لهة لا غير. قوله تعالى: " ان الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق " الفتنة المحنة والتعذيب، والذين فتنوا " الخ " عام يشمل أصحاب الاخدود ومشركي قريش الذين كانوا يفتنون من آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من المؤمنين والمؤمنات بأنواع من العذاب ليرجعوا عن دينهم. قال في المجمع: يسأل فيقال: كيف فصل بين عذاب جهنم وعذاب الحريق وهما واحد ؟ اجيب عن ذلك بأن المراد لهم أنواع العذاب في جهنم سوى الاحراق مثل الزقوم والغسلين والمقامع ولهم مع ذلك الاحراق بالنار انتهى. قوله تعالى: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الانهار ذلك الفوز الكبير " وعد جميل للمؤمنين يطيب به نفوسهم كما أن ما قبله وعيد شديد للكفار الفاتنين المعذبين. قوله تعالى: " إن بطش ربك لشديد " الآية إلى تمام سبع آيات تحقيق وتأكيد لما تقدم من الوعيد والوعد، والبطش - كما ذكره الراغب - تناول الشئ بصولة.

[ 253 ]

وفي إضافة البطش إلى الرب وإضافة الرب إلى الكاف تطييب لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتأييد والنصر، وإشارة إلى أن لجبابرة امته نصيبا من الوعيد المتقدم. قوله تعالى: " انه هو يبدئ ويعيد " المقابلة بين المبدئ والمعيد يعطي أن المراد بالابداء البدء، والافتتاح بالشئ، قالوا: ولم يسمع من العرب الابداء لكن القراءة ذلك وفي بعض القراءات الشاذة يبدء بفتح الياء والدال. وعلى أي حال فالآية تعليل لشدة بطشه تعالى وذلك أنه تعالى مبدئ يوجد ما يريده من شئ ايجادا ابتدائيا من غير أن يستمد على ذلك من شئ غير نفسه، وهو تعالى يعيد كل ما كان إلى ما كان وكل حال فاتته إلى ما كانت عليه قبل الفوت فهو تعالى لا يمتنع عليه ما أراد ولا يفوته فائت زائل واذ كان كذلك فهو القادر على أن يحمل على العبد المتعدي حده، من العذاب ما هو فوق حده ووراء طاقته ويحفظه على ما هو عليه ليذوق العذاب قال تعالى: " والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضي عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها " فاطر: 36. وهو القادر على أن يعيد ما أفسده العذاب إلى حالته الاولى ليذوق المجرم بذلك العذاب من غير انقطاع قال تعالى: " ان الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب " النساء: 56. وبهذا البيان يتضح: أولا: أن سياق قوله: " انه هو " الخ يفيد القصر أي ان ابداع الوجود واعادته لله سبحانه وحده إذ الصنع والايجاد ينتهي إليه تعالى وحده. وثانيا: أن حدود الاشياء إليه تعالى ولو شاء أن لا يحد لم يحدأ وبدل حدا من آخر فهو الذي حد العذاب والفتنة في الدنيا بالموت والزوال ولو لم يشأ لم يحد كما في عذاب الاخرة. وثالثا: أن المراد من شدة البطش - وهو الاخذ بعنف - أن لا دافع لاخذه ولا راد لحكمه كيفما حكم الا أن يحول بين حكمه ومتعلقه حكم آخر منه يقيد الاول. قوله تعالى: " وهو الغفور الودود " أي كثير المغفرة والمودة ناظر إلى وعد المؤمنين كما أن قوله: " إن بطش ربك " الخ ناظر إلى وعيد الكافرين. قوله تعالى: " ذو العرش المجيد فعال لما يريد " العرش عرش الملك، وذو العرش كناية عن الملك أي هو ملك له أن يتصرف في مملكته كيفما تصرف ويحكم بما شاء والمجيد

[ 254 ]

صفة من المجد وهو العظمة المعنوية وهي كمال الذات والصفات، وقوله: " فعال لما يريد " أي لا يصرفه عما أراده صارف لا من داخل لضجر وكسل وملل وتغير إرادة وغيرها ولا من خارج لمانع يحول بينه وبين ما أراد. فله تعالى أن يوعد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات بالنار ويعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالجنة لانه ذو العرش المجيد ولن يخلف وعده لانه فعال لما يريد. قوله تعالى: " هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود " تقرير لما تقدم من شدة بطشه تعالى وكونه ملكا مجيدا فعالا لما يريد، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتطييب لنفسه الشريفة بالاشارة إلى حديثهم، ومعنى الآيتين ظاهر. قوله تعالى: " بل الذين كفروا في تكذيب " لا يبعد أن يستفاد من السياق كون المراد بالذين كفروا هم قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الآية اضراب عما تقدم من الموعظة والحجة من حيث الاثر، والمعنى لا ينبغي أن يرجى منهم الايمان بهذه الآيات البينات فإن الذين كفروا مصرون على تكذيبهم لا ينتفعون بموعظة أو حجة. ومن هنا ظهر أن المراد بكون الذين كفروا في تكذيب أي بظرفية التكذيب لهم اصرارهم عليه. قوله تعالى: " والله من ورائهم محيط " وراء الشئ الجهات الخارجة منه المحيطة به. إشارة إلى أنهم غير معجزين لله سبحانه فهو محيط بهم قادر عليهم من كل جهه، وفيه أيضا تطييب لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وعن بعضهم أن في قوله: " من ورائهم " تلويحا إلى أنهم اتخذوا الله وراءهم ظهريا، وهو مبني على أخذ وراء بمعنى خلف. قوله تعالى: " بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ " إضراب عن اصرارهم على تكذيب القرآن، والمعنى ليس الامر كما يدعون بل القرآن كتاب مقرو عظيم في معناه غزير في معارفه في لوح محفوظ عن الكذب والباطل مصون من مس الشياطين. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن

[ 255 ]

" السماء ذات البروج " فقال: الكواكب، وسئل عن " الذي جعل في السماء بروجا " فقال: الكواكب. قيل: " فبروج مشيدة " فقال: قصور. وفيه أخرج عبد بن حميد والترمذي وابن أبي الدنيا في الاصول وابن جرير وابن المنذر وابن حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة. الحديث. أقول: وروى مثله بطرق اخرى عن أبي مالك وسعيد بن المسيب وجبير بن مطعم عنه صلى الله عليه وآله وسلم، ولفظ الاخير: الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة. وروى هذا اللفظ عن عبد الرزاق والفاريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن علي بن أبي طالب. وفيه أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن علي قال: اليوم الموعود يوم القيامة، والشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم النحر. وفي المجمع روى أن رجلا دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا رجل يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: فسألته عن الشاهد والمشهود فقال: نعم الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة، فجزته إلى آخر يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألته عن ذلك فقال: أما الشاهد فيوم الجمعة وأما المشهود فيوم النحر. فجزتهما إلى غلام كأن وجهه الدينار وهو يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: أخبرني عن شاهد ومشهود فقال: نعم اما الشاهد فمحمد واما المشهود فيوم القيامة ما سمعت الله سبحانه يقول: " يا ايها النبي إنا ارسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا " وقال: " ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ". فسألت عن الاول فقالوا: ابن عباس، وسألت عن الثاني فقالوا: ابن عمرو، وسألت عن الثالث فقالوا: الحسن بن علي. أقول: والحديث مروي بطرق مختلفة وألفاظ متقاربة وقد تقدم في تفسير الآية أن ما ذكره عليه السلام أظهر بالنظر إلى سياق الآيات، وإن كان لفظ الشاهد والمشهود لا يأبى الانطباق على غيره أيضا بوجه. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " قتل أصحاب الاخدود " قال: كان سببه أن الذي

[ 256 ]

هيج الحبشة على غزوة اليمن ذو نواس وهو آخر من ملك من حمير تهود واجتمعت معه حمير على اليهودية وسمى نفسه بوسف وأقام على ذلك حينا من الدهر. ثم أخبر أن بنجران بقايا قوم على دين النصرانية وكانوا على دين عيسى وحكم الانجيل، ورأس ذلك الدين عبد الله بن بريامن فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم ويحملهم على اليهودية ويدخلهم فيها فسار حتى قدم نجران فجمع من كان بها على دين النصرانية ثم عرض عليهم دين اليهودية والدخول فيها فأبوا عليه فجادلهم وعرض عليهم وحرص الحرص كله فأبوا عليه وامتنعوا من اليهودية والدخول فيها واختاروا القتل. قاتخذ لهم أخدودا وجمع فيه الحطب وأشعل فيه النار فمنهم من أحرق بالنار ومنهم من قتل بالسيف ومثل بهم كل مثلة فبلغ عدد من قتل واحرق بالنار عشرين ألفا وأفلت منهم رجل يدعى دوش ذو ثعلبان على فرس له ركضة، واتبعوه حتى أعجزهم في الرمل، ورجع ذو نواس إلى صنيعه في جنوده فقال الله: " قتل أصحاب الاخدود - إلى قوله العزيز الحميد ". وفي المجمع وروى سعيد بن جبير قال: لما انهزم أهل إسفندهان قال عمر بن الخطاب: ما هم يهود ولانصارى ولا هم كتاب وكانوا مجوسا فقال علي بن أبي طالب: بلى قد كان لهم كتاب رفع. وذلك أن ملكا اهم سكر فوقع على ابنته - أو قال: على اخته - فلما أفاق قال لها: كيف المخرج مما وقعت فيه ؟ قالت: تجمع أهل مملكتك وتخبرهم أنك ترى نكاح البنات وتأمرهم أن يحلوه فجمعهم فأخبرهم فأبوا أن يتابعوه فخد لهم اخدودا في الارض، وأوقد فيه النيران وعرضهم عليها فمن أبى قبول ذلك قذفه في النار، ومن أجاب خلي سبيله. أقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن عبد بن حميد عنه عليه السلام. وعن تفسير العياشي بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: أرسل علي عليه السلام إلى اسقف نجران يسأله عن أصحاب الاخدود فأخبراه بشئ فقال عليه السلام: ليس كما ذكرت ولكن سأخبرك عنهم: إن الله بعث رجلا حبشيا نبيا وهم حبشية فكذبوه فقاتلهم فقتلوا أصحابه فاسروه وأسروا أصحابه ثم بنوا له حيرا ثم ملؤه نارا ثم جمعوا: الناس فقالوا: من كان على ديننا وأمرنا فليعتزل، ومن كان على دين هؤلاء فليرم نفسه في النار فجعل أصحابه يتهافتون في النار فجاءت امرأة معها صبي لها ابن شهر فلما هجمت هابت ورقت على ابنها فنادى الصبي: لا تهابي وارميني ونفسك في النار فإن هذا والله في الله قليل، فرمت بنفسها في

[ 257 ]

النار وصبيها، وكان ممن تكلم في المهد. أقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن مردويه عن عبد الله بن نجى عنه عليه السلام، وروى أيضا عن ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن نجي عنه عليه السلام قال: كان نبي أصحاب الاخدود حبشيا. وروى أيضا عن ابن أبي حاتم وابن المنذر من طريق الحسن عنه عليه السلام في قوله تعالى: " أصحاب الاخدود " قال: هم الحبشة. ولا يبعد أن يستفاد أن حديث أصحاب الاخدود وقائع متعددة وقعت بالحبشة واليمن والعجم والاشارة في الآية إلى جميعها وهناك روايات تقص القصة مع السكوت عن محل وقوعها. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ " قال: اللوح المحفوظ له طرفان طرف على يمين العرش على جبين إسرافيل فإذا تكلم الرب جل ذكره بالوحي ضرب اللوح جبين إسرافيل فنظر في اللوح فيوحي بما في اللوح إلى جبرئيل. وفي الدر المنثور أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق الله لوحا من درة بيضاء دفتاه من زبرجدة خضراء كتابه من نور يلحظ إليه في كل يوم ثلاث مائة وستين لحظة يحيي ويميت ويخلق ويرزق ويعز ويذل ويفعل ما يشاء. أقول: والروايات في صفة اللوح كثيرة مختلفة وهي على نوع من التمثيل. (سورة الطارق مكية وهي سبع عشرة آية) بسم الله الرحمن الرحيم والسماء والطارق _ 1. وما أدراك ما الطارق _ 2. النجم الثاقب _ 3. إن كل نفس لما عليها حافظ _ 4. فلينظر الانسان مم خلق _ 5. خلق من ماء دافق _ 6. يخرج من بين

[ 258 ]

الصلب والترائب _ 7. إنه على رجعه لقادر _ 8. يوم تبلى السرائر _ 9. فما له من قوة ولا ناصر _ 10. والسماء ذات الرجع _ 11. والارض ذات الصدع _ 12. إنه لقول فصل _ 13. وما هو بالهزل _ 14. إنهم يكيدون كيدا _ 15. وأكيد كيدا _ 16. فمهل الكافرين أمهلهم رويدا _ 17. (بيان) في السورة إنذار بالمعاد وتستدل عليه بإطلاق القدرة وتؤكد القول في ذلك، وفيها إشارة إلى حقيقة اليوم، وتختتم بوعيد الكفار. والسورة ذات سياق مكي. قوله تعالى: " والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب " الطرق في الاصل - على ما قيل - هو الضرب بشدة يسمع له صوت ومنه المطرقة والطريق لان السابلة تطرقها بأقدامها ثم شاع استعماله في سلوك الطريق ثم اختص بالاتيان ليلا لان الآتي بالليل في الغالب يجد الابواب مغلقة فيطرقها ويدقها ثم شاع الطارق في كل ما يظهر ليلا، والمراد بالطارق في الآية النجم الذي يطلع بالليل. والثقب في الاصل بمعنى الخرق ثم صار بمعنى النير المضئ لانه يثقب الظلام بنوره ويأتي بمعنى العلو والارتفاع ومنه ثقب الطائر أي ارتفع وعلا كأنه يثقب الجو بطيرانه. فقوله: " والسماء والطارق " إقسام بالسماء وبالنجم الطالع ليلا، وقوله: " وما أدراك ما الطارق " تفخيم لشأن المقسم به وهو الطارق، وقوله: " النجم الثاقب " بيان للطارق والجملة في معنى جواب استفهام مقدر كأنه لما قيل: وما أدراك ما الطارق ؟ سئل فقيل: فما هو الطارق ؟ فاجيب، وقيل: النجم الثاقب. قوله تعالى: " إن كل نفس لما عليها حافظ " جواب للقسم ولما بمعنى إلا والمعنى ما من نفس إلا عليها حافظ، والمراد من قيام الحافظ على حفظها كتابة أعمالها الحسنة والسيئة

[ 259 ]

على ما صدرت منها ليحاسب عليها يوم القيامة ويجزى بها فالحافظ هو الملك والمحفوظ العمل كما قال تعالى: " وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون " الانفطار: 12 ولا يبعد أن يكون المراد من حفظ النفس حفظ ذاتها وأعمالها، والمراد بالحافظ جنسه فتفيد أن النفوس محفوظة لا تبطل بالموت ولا تفسد حتى إذا أحيا الله الابدان أرجع النفوس إليها فكان الانسان هو الانسان الدنيوي بعينه وشخصه ثم يجزيه بما يقتضيه أعماله المحفوظة عليه من خير أو شر. ويؤيد ذلك كثير من الآيات الدالة على حفظ الاشياء كقوله تعالى: " قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم " الم السجدة: 11، وقوله: " الله يتوفى الانفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت " الزمر: 42. ولا ينافي هذا الوجه ظاهر آية الانفطار السابقة من أن حفظ الملائكة هو الكتابة فإن حفظ نفس الانسان أيضا من الكتابة على ما يستفاد من قوله: " إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون " الجاثية: 29 وقد تقدمت الاشارة إليه. ويندفع بهذا الوجه الاعتراض على ما استدل به على المعاد من اطلاق القدرة كما سيجئ، ومحصله أن اطلاق القدرة انما ينفع فيما كان ممكنا لكن إعادة الانسان بعينه محال فإن الانسان المخلوق ثانيا مثل الانسان الدنيوي المخلوق أولا لا شخصه الذي خلق أولا ومثل الشئ غير الشئ لا عينه. وجه الاندفاع أن شخصية الشخص من الانسان بنفسه لا ببدنه والنفس محفوظة فإذا خلق البدن وتعلقت به النفس كان هو الانسان الدنيوي بشخصه وإن كان البدن بالقياس إلى البدن مع الغض عن النفس، مثلا لا عينا. قوله تعالى: " فلينظر الانسان مم خلق " أي ما هو مبدء خلقه ؟ وما هو الذي صيره الله إنسانا ؟ والجملة متفرعة على الآية السابقة وما تدل عليه بفحواها بحسب السياق ومحصل المعنى وإذ كانت كل نفس محفوظة بذاتها وعملها من غير أن تفنى أو ينسى عملها فليذعن الانسان أن سيرجع إلى ربه ويجزي بما عمل ولا يستبعد ذلك ولينظر لتحصيل هذا الاذعان إلى مبدء خلقه ويتذكر أنه خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب. فالذي بدء خلقه من ماء هذه صفته يقدر على رجعه وإحيائه بعد الموت.

[ 260 ]

وفي الاتيان بقوله: " خلق " مبنيا للمفعول وترك ذكر الفاعل وهو الله سبحانه إيماء إلى ظهور أمره، ونظيره قوله: " خلق من ماء " الخ. قوله تعالى: " خلق من ماء دافق " الدفق تصبب الماء وسيلانه بدفع وسرعة والماء الدافق هو المني والجملة جواب عن استفهام مقدر يهدي إليه قوله: " مم خلق ". قوله تعالى: " يخرج من بين الصلب والترائب " الصلب الظهر، والترائب جمع تريبة وهي عظم الصدر. وقد اختلفت كلماتهم في الآية وما قبلها اختلافا عجيبا، والظاهر أن المراد بقوله: " بين الصلب والترائب " البعض المحصور من البدن بين جداري عظام الظهر وعظام الصدر (1). قوله تعالى: " إنه على رجعه لقادر " الرجع الاعادة، وضمير " إنه " له تعالى واكتفى بالاضمار مع أن المقام مقام الاظهار لظهوره نظير قوله: " خلق " مبنيا للمفعول. والمعنى أن الذي خلق الانسان من ماء صفته تلك الصفة، على إعادته واحيائه بعد الموت - واعادته مثل بدئه - لقادر لان القدرة على الشئ قدرة على مثله إذ حكم الامثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد. قوله تعالى: " يوم تبلى السرائر " ظرف للرجع، والسريرة ما أسره الانسان وأخفاه في نفسه، والبلاء الاختبار والتعرف والتصفح. فالمعنى يوم يختبر ما أخفاه الانسان وأسره من العقائد وآثار الاعمال خيرها وشرها فيميز خيرها من شرها ويجزى الانسان به فالآية في معنى قوله تعالى: " إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " البقرة: 284. قوله تعالى: " فما له من قوة ولا ناصر " أي لا قدرة له في نفسه يمتنع بها من عذاب الله ولا ناصر له يدفع عنه ذلك أي لا قدرة هناك يدفع عنه الشر لا من نفسه ولا من غيره. قوله تعالى: " والسماء ذات الرجع والارض ذات الصدع " إقسام بعد إقسام لتأكيد أمر القيامة والرجوع إلى الله. والمراد بكون السماء ذات رجع ما يظهر للحس من سيرها بطلوع الكواكب بعد


(1) وقد أورد المراغي في تفسيره في ذيل الآية عن بعض الاطباء توجيها دقيقا علميا لهذه الآية من اراده فليراجعه.

[ 261 ]

غروبها وغروبها بعد طلوعها، وقيل: رجعها إمطارها، والمراد بكون الارض ذات صدع تصدعها وانشقاقها بالنبات، ومناسبة القسمين لما أقسم عليه من الرجوع بعد الموت والخروج من القبور ظاهرة. قوله تعالى: " إنه لقول فصل وما هو بالهزل " الفصل إبانة أحد الشيئين من الآخر حتى يكون بينهما فرجة، والتعبير بالفصل - والمراد الفاصل - للمبالغة كزيد عدل والهزل خلاف الجد. والآيتان جواب القسم، وضمير " إنه " للقرآن والمعنى أقسم بكذا وكذا إن القرآن لقول فاصل بين الحق والباطل وليس هو كلاما لا جد فيه فما يحقه حق لا ريب فيه وما يبطله باطل لا ريب فيه فما اخبركم به من البعث والرجوع حق لا ريب فيه. وقيل: الضمير لما تقدم من خبر الرجوع والمعاد، والوجه السابق أوجه. قوله تعالى: " إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا " أي الكفار يحتالون بكفرهم وإنكارهم المعاد احتيالا يريدون به إطفاء نور الله وإبطال دعوتك، وأحتال عليهم بعين أعمالهم بالاستدراج والاملاء والاضلال بالطبع على قلوبهم وجعل الغشاوة على سمعهم وأبصارهم احتيالا أسوقهم به إلى عذاب يوم القيامة. قوله تعالى: " فمهل الكافرين امهلهم رويدا " التمهيل والامهال بمعنى واحد غير ان باب التفعيل يفيد التدريج والافعال يفيد الدفعة، والرويد القليل. والمعنى: إذا كان منهم كيد ومني كيد عليهم بعين ما يكيدون به والله غالب على أمره، فانتظر بهم ولا تعاجلهم انتظر بهم قليلا فسيأتيهم ما اوعدهم به فكل ما هو آت قريب. وفي التعبير أولا بمهل الظاهر في التدريج وثانيا مع التقييد برويدا بأمهل الظاهر في الدفعة لطف ظاهر. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " إن كل نفس لما عليها حافظ " قال: الملائكة. وفيه في قوله تعالى: " خلق من ماء دافق " قال: النطفة التي تخرج بقوة. وفيه في قوله تعالى: " يخرج من بين الصلب والترائب " قال: الصلب الرجل والترائب المرأة، وهو صدرها.

[ 262 ]

أقول: الرواية على إضمارها وإرسالها لا تخلو من شئ. وفيه في قوله تعالى: " يوم تبلى السرائر " قال: يكشف عنها. وفي المجمع روي مرفوعا عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ضمن الله خلقه أربع خصال: الصلاة، والزكاة، وصوم شهر رمضان، والغسل من الجنابة، وهي السرائر التي قال الله تعالى: يوم تبلى السرائر. أقول: ولعله من قبيل ذكر بعض المصاديق كما تؤيده الرواية التالية. وفيه عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما هذه السرائر التي ابتلى الله بها العباد في الآخرة ؟ فقال: سرائركم هي أعمالكم من الصلاة والصيام والزكاة والوضوء والغسل من الجنابة وكل مفروض لان الاعمال كلها سرائر خفية فإن شاء الرجل قال: صليت ولم يصل وإن شاء قال: توضيت ولم يتوض فذلك قوله: " يوم تبلى السرائر ". وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " فما له من قوة ولا ناصر " قال: ماله من قوة يهوي بها على خالقه، ولا ناصر من الله ينصره إن أراد به سوء. وفيه في قوله تعالى " والسماء ذات الرجع " قال: ذات المطر " والارض ذات الصدع " أي ذات النبات. وفي المجمع " إنه لقول فصل " يعني أن القرآن يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما، وروي ذلك عن الصادق عليه السلام. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة والدارمي والترمذي ومحمد بن نصر وابن الانباري في المصاحف عن الحارث الاعور قال: دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الاحاديث فأتيت عليا فأخبرته فقال: أوقد فعلوها ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنها ستكون فتنة. قلت: فما المخرج منها يا رسول الله قال: كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، من ابتغى الهوى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الاهواء، ولا يشبع منه العلماء، ولا تلتبس منه الالسن، ولا يخلق من الرد، ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم ينته الجن إذ سمعته حتى قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد. من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعي إليه هدي إلى صراط مستقيم.

[ 263 ]

أقول: وروي ما يقرب منه عن معاذ بن جبل عنه صلى الله عليه وآله وسلم، ورواه مختصرا عن ابن مردويه عن علي عليه السلام. (سورة الاعلى مكية وهي تسع عشرة آية) بسم الله الرحمن الرحيم سبح اسم ربك الاعلى _ 1. الذي خلق فسوى _ 2. والذي قدر فهدى _ 3. والذي أخرج المرعى _ 4. فجعله غثاء أحوى _ 5. سنقرئك فلا تنسى _ 6. إلا ما شآء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى _ 7. ونيسرك لليسرى _ 8. فذكر إن نفعت الذكرى _ 9. سيذكر من يخشى _ 10. ويتجنبها الاشقى _ 11. الذي يصلى النار الكبرى _ 12. ثم لا يموت فيها ولا يحيى _ 13. قد أفلح من تزكى _ 14. وذكر اسم ربه فصلى _ 15. بل تؤثرون الحيوة الدنيا _ 16. والآخرة خير وأبقى _ 17. إن هذا لفي الصحف الاولى _ 18. صحف إبراهيم وموسى _ 19. (بيان) أمر بتوحيده تعالى على ما يليق بساحته المقدسة وتنزيه ذاته المتعالية من أن يذكر مع اسمه اسم غيره أو يسند إلى غيره ما يجب أن يسند إليه كالخلق والتدبير والرزق ووعد له صلى الله عليه وآله وسلم بتأييده بالعلم والحفظ وتمكينه من الطريقة التي هي أسهل وأيسر للتبليغ وأنسب للدعوة.

[ 264 ]

وسياق الآيات في صدر السورة سياق مكي وأما ذيلها أعنى قوله: " قد أفلح من تزكى " الخ فقد ورد من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام وكذا من طريق أهل السنة أن المراد به زكاة الفطرة وصلاة العيد ومن المعلوم أن الصوم وما يتبعه من زكاة الفطرة وصلاة العيد إنما شرعت بالمدينة بعد الهجرة فتكون آيات الذيل نازلة بالمدينة. فالسورة صدرها مكي وذيلها مدني، ولا ينافي ذلك ما جاء في الآثار أن السورة مكية فإنه لا يأبى الحمل على صدر السورة. قوله تعالى: " سبح اسم ربك الاعلى " أمر بتنزيه اسمه تعالى وتقديسه، وإذ علق التنزيه على الاسم - وظاهر اللفظ الدال على المسمى - والاسم إنما يقع في القول فتنزيهه أن لا يذكر معه ما هو تعالى منزه عنه كذكر الآلهة والشركاء والشفعاء ونسبة الربوبية إليهم وكذكر بعض ما يختص به تعالى كالخلق والايجاد والرزق والاحياء والاماتة ونحوها ونسبته إلى غيره تعالى أو كذكر بعض ما لا يليق بساحة قدسه تعالى من الافعال كالعجز والجهل والظلم والغفلة وما يشبهها من صفات النقص والشين ونسبته إليه تعالى. وبالجملة تنزيه اسمه تعالى أن يجرد القول عن ذكر ما لا يناسب ذكره ذكر اسمه تعالى وهو تنزيهه تعالى في مرحلة القول الموافق لتنزيهه في مرحلة الفعل. وهو يلازم التوحيد الكامل بنفي الشرك الجلي كما في قوله: " وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون " الزمر 45 " وقوله: " وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا " أسرى: 46. وفي إضافة الاسم إلى الرب والرب إلى ضمير الخطاب تأييد لما قدمناه فإن المعنى سبح اسم ربك الذي اتخذته ربا وأنت تدعو إلى أنه الرب الاله فلا يقعن في كلامك مع ذكر اسمه بالربوبية ذكر من غيره بحيث ينافي تسميه بالربوبية على ما عرف نفسه لك. وقوله: " الاعلى " وهو الذي يعلو كل عال ويقهر كل شئ صفة " ربك " دون الاسم ويعلل بمعناه الحكم أي سبح اسمه لانه أعلى. وقيل: معنى " سبح اسم ربك الاعلى " قل: سبحان ربي الاعلى كما عن ابن عباس ونسب إليه أيضا أن المعنى صل. وقيل: المراد بالاسم المسمى والمعنى نزهه تعالى عن كل ما لا يليق بساحة قدسه من الصفات والافعال.

[ 265 ]

وقيل: إنه ذكر الاسم والمراد به تعظيم المسمى واستشهد عليه بقول لبيد، " إلى الحول ثم اسم السلام عليكما " فالمعنى سبح ربك الاعلى. وقيل: المراد تنزيه أسمائه تعالى عما لا يليق بأن لا يؤول مما ورد منها اسم من غير مقتض، ولا يبقى على ظاهره إذا كان ما وضع له لا يصح له تعالى، ولا يطلقه على غيره تعالى إذا كان مختصا كاسم الجلالة ولا يتلفظ به في محل لا يناسبه كبيت الخلاء، وعلى هذا القياس وما قدمناه من المعنى أوسع وأشمل وأنسب لسياق قوله الآتي " سنقرئك فلا تنسى " " ونيسرك لليسرى فذكر " فإن السياق سياق البعث إلى التذكرة والتبليغ فبدئ أولا بإصلاح كلامه صلى الله عليه وآله وسلم وتجريده عن كل ما يشعر بجلي الشرك وخفية بأمره بتنزيه اسم ربه، ووعد ثانيا بإقرائه بحيث لا ينسى شيئا مما اوحي إليه وتسهيل طريقة التبليغ عليه ثم امر بالتذكير والتبليغ فافهم. قوله تعالى: " الذي خلق فسوى " خلق الشئ جمع أجزائه، وتسويته جعلها متساوية بحيث يوضع كل في موضعه الذي يليق به ويعطى حقه كوضع كل عضو من أعضاء الانسان فيما يناسبه من الموضع. والخلق والتسوية وإن كانا مطلقين لكنهما إنما يشملان ما فيه تركيب أو شائبة تركيب من المخلوقات. والآية إلى تمام أربع آيات تصف التدبير الالهي وهي برهان على ربوبيته تعالى المطلقة. قوله تعالى: " والذي قدر فهدى " أي جعل الاشياء التي خلقها على مقادير مخصوصة وحدود معينة في ذواتها وصفاتها وأفعالها لا تتعداها وجهزها بما يناسب ما قدر لها فهداها إلى ما قدر فكل يسلك نحو ما قدر له بهداية ربانية تكوينية كالطفل يهتدي إلى ثدي امه والفرخ إلى زق امه وأبيه، والذكر إلى الانثى وذي النفع إلى نفعه وعلى هذا القياس. قال تعالى: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " الحجر: 21، وقال: " ثم السبيل يسره " عبس: 20، وقال: " لكل وجهة هو موليها " البقرة: 148. قوله تعالى: " والذي أخرج المرعى " المرعى ما ترعاه الدواب فالله تعالى هو الذي أخرجها أي أنبتها.

[ 266 ]

قوله تعالى: " فجعله غثاء أحوى " الغثاء ما يقذفه السيل على جانب الوادي من الحشيش والنبات، والمراد هنا - كما قيل - اليابس من النبات، والاحوى الاسود. وإخراج المرعى لتغذي الحيوان ثم جعله غثاء أحوى من مصاديق التدبير الربوبي ودلائله كما أن الخلق والتسوية والتقدير والهداية كذلك. قوله تعالى: " سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى " قال في المفردات: والقراءة ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل، وليس يقال ذلك لكل جمع لا يقال: قرأت القوم إذا جمعتهم، ويدل على ذلك أنه لا يقال للحرف الواحد إذا تفوه به قراءة، انتهى، وقال في المجمع: والاقراء أخذ القراءة على القارئ بالاستماع لتقويم الزلل، والقاري التالي. انتهى. وليس إقراؤه تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم القرآن مثل إقراء بعضنا بعضا باستماع المقري لما يقرؤه القاري واصلاح ما لا يحسنه أو يغلط فيه فلم يعهد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقرء شيئا من القرآن فلا يحسنه أو يغلط فيه عن نسيان للوحي ثم يقرء فيصلح بل المراد تمكينه من قراءة القرآن كما أنزل من غير أن يغيره بزيادة أو نقص أو تحريف بسبب النسيان. فقوله: " سنقرئك فلا تنسى " وعد منه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يمكنه من العلم بالقرآن وحفظه على ما أنزل بحيث يرتفع عنه النسيان فيقرؤه كما أنزل وهو الملاك في تبليغ الوحي كما اوحي إليه. وقوله: " إلا ما شاء الله " استثناء مفيد لبقاء القدرة الالهية على اطلاقها وأن هذه العطية وهي الاقراء بحيث لا تنسى لا ينقطع عنه سبحانه بالاعطاء بحيث لا يقدر بعد على انسائك بل هو باق على اطلاق قدرته له أن يشاء انساءك متى شاء وان كان لا يشاء ذلك فهو نظير الاستثناء الذي في قوله: " واما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والارض الا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ " هود: 108 وقد تقدم توضيحه. وليس المراد بالاستثناء اخراج بعض افراد النسيان من عموم النفي والمعنى سنقرئك فلا تنسى شيئا الا ما شاء الله أن تنساه وذلك ان كل انسان على هذه الحال يحفظ اشياء وينسى اشياء فلا معنى لاختصاصه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بلحن الامتنان مع كونه مشتركا بينه وبين غيره فالوجه ما قدمناه. والآية بسياقها لا تخلو من تأييد لما قيل: انه كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه جبريل

[ 267 ]

بالوحي يقرؤه مخافة ان ينساه فكان لا يفرغ جبريل من آخر الوحي حتى يتكلم هو بأوله فلما نزلت هذه الآية لم ينس بعده شيئا. ويقرب من الاعتبار أن تكون هذه الآية اعني قوله: " سنقرئك فلا تنسى " نازلة اولا ثم قوله: " لا تحرك به لسانك لتعجل به ان علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم ان علينا بيانه " القيامة: 19 ثم قوله: " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي اليك وحيه وقل رب زدني علما " طه: 114. وقوله: " انه يعلم الجهر وما يخفى " الجهر كمال ظهور الشئ لحاسة البصر كقوله. " فقالوا أرنا الله جهرة " النساء: 153، أو لحاسة السمع كقوله: " انه يعلم الجهر من القول " الانبياء: 110، والمراد بالجهر الظاهر للادراك بقرينة مقابلته لقوله: " وما يخفى " من غير تقييده بسمع أوبصر. والجملة في مقام التعليل لقوله. " سنقرئك فلا تنسى " والمعنى سنصلح لك بالك في تلقي الوحي وحفظه لانا نعلم ظاهر الاشياء وباطنها فنعلم ظاهر حالك وباطنها وما أنت عليه من الاهتمام بأمر الوحي والحرص على طاعته فيما أمر به. وفي قوله: " إلا ما شاء الله إنه يعلم " الخ التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة والنكتة فيه الاشارة إلى حجة الاستثناء فإفاضة العلم والحفظ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما لا يسلب القدرة على خلافه ولا يحدها منه تعالى لانه الله المستجمع لجميع صفات الكمال ومنها القدرة المطلقة ثم جرى الالتفات في قوله: " إنه يعلم " الخ لمثل النكتة. قوله تعالى: " ونيسرك لليسرى " اليسرى - مؤنث أيسر - وهو وصف قائم مقام موصوفه المحذوف أي الطريقة اليسرى والتيسير التسهيل أي ونجعلك بحيث تتخذ دائما أسهل الطرق للدعوة والتبليغ قولا وفعلا فتهدي قوما وتتم الحجة على آخرين وتصبر على أذاهم. وكان مقتضى الظاهر أن يقال: ونيسر لك اليسرى كما قال: " ويسر لي أمري " طه: 26 وانما عدل عن ذلك إلى قوله: " ونيسرك لليسرى " لان الكلام في تجهيزه تعالى نفس النبي الشريفة وجعله إياها صالحة لتأدية الرسالة ونشر الدعوة. على ما في نيسر اليسرى من إيهام تحصيل الحاصل. فالمراد جعله صلى الله عليه وآله وسلم صافي الفطرة حقيقا على اختيار الطريقة اليسرى التي هي طريقة

[ 268 ]

الفطرة فالآية في معنى قوله حكاية عن موسى: " حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق " الاعراف: 105. قوله تعالى: " فذكر إن نفعت الذكرى " تفريع على ما تقدم من أمره صلى الله عليه وآله وسلم بتنزيه اسم ربه ووعده إقراء الوحي بحيث لا ينسى وتيسيره لليسرى وهي الشرائط الضرورية التي يتوقف عليها نجاح الدعوة الدينية. والمعنى إذ تم لك الامر بامتثال ما أمرناك به وإقرائك فلا تنسى وتيسيرك لليسرى فذكر إن نفعت الذكرى. وقد اشترط في الامر بالتذكرة أن تكون نافعة وهو شرط على حقيقته فإنها إذا لم تنفع كانت لغوا وهو تعالى يجل عن أن يأمر باللغو فالتذكرة لمن يخشى لاول مرة تفيد ميلا من نفسه إلى الحق وهو نفعها وكذا التذكرة بعد التذكرة كما قال: " سيذكر من يخشى " والتذكرة للاشقى الذي لا خشية في قلبه لاول مرة تفيد تمام الحجة عليه وهو نفعها ويلازمها تجنبه وتوليه عن الحق كما قال: " ويتجنبها الاشقى " والتذكرة بعد التذكرة له لا تنفع شيئا ولذا امر بالاعراض عن ذلك قال تعالى: " فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا " النجم: 29. وقيل: الشرط شرط صوري غير حقيقي وانما هو اخبار عن أن الذكرى نافعة لا محالة في زيادة الطاعة والانتهاء عن المعصية كما يقال: سله إن نفع السؤال ولذا قال بعضهم " إن " " إن " في الآية بمعنى قد " وقال آخرون: إنها بمعنى إذ. وفيه أن كون الذكرى نافعة مفيدة دائما حتى فيمن يعاند الحق - وقد تمت عليه الحجة ممنوع كيف ؟ وقد قيل فيهم: " سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة " البقرة: 7. وقيل: إن في الكلام إيجازا بالحذف، والتقدير فذكر إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع وذلك لانه صلى الله عليه وآله وسلم بعث للتذكرة والاعذار فعليه أن يذكر نفع أو لم ينفع فالآية من قبيل قوله: " وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر " النحل: 81 أي والبرد. وفيه أن وجوب التذكرة عليه صلى الله عليه وآله وسلم حتى فيما لا يترتب عليها أثرا أصلا ممنوع. وقيل: إن الشرط مسوق للاشارة إلى استبعاد النفع في تذكرة هؤلاء المذكورين

[ 269 ]

نعيا عليهم كأنه قيل: افعل ما أمرت به لتوجر وإن لم ينتفعوا به. وفيه أنه يرده قوله تعالى بعده بلا فصل: " سيذكر من يخشى ". قوله تعالى: " سيذكر من يخشى " أي سيتذكر ويتعظ بالقرآن من في قلبه شئ من خشية الله وخوف عقابه. قوله تعالى: " ويتجنبها الاشقى " الضمير للذكرى والمراد بالاشقى بقرينة المقابلة من ليس في قلبه شئ من خشية الله تعالى، وتجنب الشئ التباعد عنه، والمعنى وسيتباعد عن الذكرى من لا يخشى الله. قوله تعالى: " الذي يصلى النار الكبرى " الظاهر أن المراد بالنار الكبرى نار جهنم وهي نار كبرى بالقياس إلى نار الدنيا، وقيل: المراد بها أسفل دركات جهنم وهي أشدها عذابا. قوله تعالى: " ثم لا يموت فيها ولا يحيى " ثم للتراخي بحسب رتبة الكلام، والمراد من نفي الموت والحياة عنه معا نفي النجاة نفيا مؤبدا فإن النجاة بمعنى انقطاع العذاب بأحد أمرين إما بالموت حتى ينقطع عنه العذاب بانقطاع وجوده واما يتبدل صفة الحياة من الشقاء إلى السعادة ومن العذاب إلى الراحة فالمراد بالحياة في الآية الحياة الطيبة على حد قولهم في الحرض: لا حي فيرجى ولا ميت فينسى. قوله تعالى: " قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى " التزكي هو التطهر والمراد به التطهر من ألواث التعلقات الدنيوية الصارفة عن الآخرة بدليل قوله بعد " بل تؤثرون الحياة الدنيا " الخ، والرجوع إلى الله بالتوجه إليه تطهر من الاخلاد إلى الارض، والانفاق في سبيل الله تطهر من لوث التعلق المالي حتى أن وضوء الصلاة تمثيل للتطهر عما كسبته الوجوه والايدي والاقدام. وقوله: " وذكر اسم ربه فصلى " الظاهر أن المراد بالذكر الذكر اللفظي، وبالصلاة التوجه الخاص المشروع في الاسلام. والآيتان بحسب ظاهر مدلولهما على العموم لكن ورد في المأثور عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أنهما نزلتا في زكاة الفطر وصلاة العيد وكذا من طرق أهل السنة. قوله تعالى: " بل تؤثرون الحياة الدنيا " اضراب بالخطاب لعامة الناس على ما يدعو إليه طبعهم البشري من التعلق التام بالدنيا والاشتغال بتعميرها، والايثار

[ 270 ]

الاختيار، وقيل: الخطاب للكفار، والكلام على أي حال مسوق للعتاب والالتفات لتأكيده. قوله تعالى: " والآخرة خير وأبقى " عد الآخرة أبقى بالنسبة إلى الدنيا مع أنها باقية أبدية في نفسها لان المقام مقام الترجيح بين الدنيا والآخرة ويكفي في الترجيح مجرد كون الآخرة خيرا وأبقى بالنسبة إلى الدنيا وان قطع النظر عن كونها باقية أبدية. قوله تعالى: " ان هذا لفي الصحف الاولى صحف ابراهيم وموسى " الاشارة بهذا إلى ما بين في قوله: " قد أفلح من تزكى " إلى تمام أربع آيات، وقيل: هذا اشارة إلى مضمون قوله: " والآخرة خير وأبقى ". قيل: وفي ابهام الصحف ووصفها بالتقدم أولا ثم بيانها وتفسيرها بصحف ابراهيم وموسى ثانيا ما لا يخفى من تفخيم شأنها وتعظيم أمرها. (بحث روائي) في تفسير العياشي عن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت: " فسبح باسم ربك العظيم " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اجعلوها في ركوعكم، ولما نزل " سبح اسم ربك الاعلى " قال: اجعلوها في سجودكم. أقول: ورواه أيضا في الدر المنثور عن احمد وأبي داود وابن ماجة وابن المنذر وابن مردويه عن عقبة عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وفي تفسير القمى " سبح اسم ربك الاعلى " قال: قل: سبحان ربي الاعلى " الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى " قال: قدر الاشياء بالتقدير الاول ثم هدى إليها من يشاء. وفيه في قوله تعالى: " والذي أخرج المرعى " قال: أي النبات. وفي قوله: " غثاء أحوى " قال: يصير هشيما بعد بلوغه ويسود. وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستذكر القرآن مخافة ان ينساه فقيل له: كفيناك ذلك ونزلت: " سنقرئك فلا تنسى ". وفي الفقيه وسئل الصادق عليه السلام عن قول الله عز وحل: " قد أفلح من تزكى " قال قال: من أخرج الفطرة قيل له: و " ذكر اسم ربه فصلى " قال: خرج إلى الجبانة (1) فصلى.


(1) الجبانة: الصحراء.

[ 271 ]

أقول: وروى هذا المعنى أيضا عن حماد عن جرير عن أبي بصير وزرارة عنه عليه السلام ورواه القمي في تفسيره مرسلا مضمرا. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى " ثم يقسم الفطرة قبل أن يغدو إلى المصلى يوم الفطر. أقول: وروى أيضا نزول الآيتين في زكاة الفطرة وصلاة العيد بطريقين عن أبى سعيد موقوفا، وكذا بطريقين عن ابن عمر وبطريق عن نائلة بن الاصقع وبطريقين عن أبي العالية وبطريق عن عطاء وبطريق عن محمد بن سيرين وبطريق عن إبراهيم النخعي وكذا عن عمرو بن عوف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الخصال عن عتبة بن عمرو الليثي عن أبي ذر في حديث قلت: يا رسول الله فما في الدنيا مما أنزل الله عليك شئ مما كان في صحف إبراهيم وموسى ؟ قال: يا ابا ذر اقرء " قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصحف الاولى صحف إبراهيم وموسى ". اقول: يؤيد الحديث كون الاشارة بهذا إلى مجموع الآيات الاربع كما تقدم. وفي البصائر بإسناده عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: عندنا الصحف التي قال الله: " صحف إبراهيم وموسى " قلت: الصحف هي الالواح ؟ قال: نعم. اقول: ورواه أيضا بطريق آخر عن أبي بصير عنه عليه السلام والظاهر أن المراد بكون الصحف هي الالواح كونها هي التوراة المعبر عنها في مواضع من القرآن بالالواح كقوله تعالى: " وكتبنا له في الالواح من كل شئ " الاعراف: 145 وقوله: " وألقى الالواح " الاعراف: 150 وقوله: " أخذ الالواح " الاعراف: 154. وفي المجمع روي عن أبي ذر أنه قال: قلت: يا رسول الله كم الانبياء ؟ قال: مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفا قلت: يا رسول الله كم المرسلون منهم ؟ قال: ثلاث مائة وثلاثة عشر وبقيتهم أنبياء. قلت: كان آدم نبيا ؟ قال: نعم كلمه الله وخلقه بيده. يا ابا ذر أربعة من الانبياء عرب: هود وصالح وشعيب ونبيك. قلت: يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب ؟ قال: مائة وأربعة كتب انزل منها على آدم عشرة صحف، وعلى شيث خمسين صحيفة، وعلى اخنوخ وهو إدريس ثلاثين صحيفة وهو

[ 272 ]

أول من خط بالقلم وعلى إبراهيم عشر صحائف والتوراة والانجيل والزبور والفرقان. اقول: وروى ذلك في الدر المنثور عن عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن أبي ذر غير أنه لم يذكر صحف آدم وذكر لموسى عشر صحف قبل التوراة. (سورة الغاشية مكية وهي ست وعشرون آية) بسم الله الرحمن الرحيم هل أتاك حديث الغاشية - 1. وجوه يومئذ خاشعة - 2. عاملة ناصبة - 3. تصلى نارا حامية - 4. تسقى من عين آنية - 5. ليس لهم طعام إلا من ضريع - 6. لا يسمن ولا يغني من جوع - 7. وجوه يومئذ ناعمة - 8. لسعيها راضية - 9. في جنة عالية - 10. لا تسمع فيها لاغية - 11. فيها عين جارية - 12. فيها سرر مرفوعة - 13. وأكواب موضوعة - 14. ونمارق مصفوفة - 15. وزرابي مبثوثة - 16. أفلا ينظرون إلى الابل كيف خلقت - 17. وإلى السماء كيف رفعت - 18. وإلى الجبال كيف نصبت - 19. وإلى الارض كيف سطحت - 20. فذكر إنما أنت مذكر - 21. لست عليهم بمصيطر - 22. إلا من تولى وكفر - 23. فيعذبه الله العذاب الاكبر - 24. إن الينا إيابهم - 25. ثم إن علينا حسابهم - 26. (بيان) سورة انذار وتبشير تصف الغاشية وهي يوم القيامة الذي يحيط بالناس تصفه بحال

[ 273 ]

الناس فيه من حيث انقسامهم فريقين: السعداء والاشقياء واستقرارهم فيما اعد لهم من الجنة والنار وتنتهي إلى امره صلى الله عليه وآله وسلم ان يذكر الناس بفنون من التدبير الربوبي في العالم الدالة على ربوبيته تعالى لهم ورجوعهم إليه لحساب اعمالهم. والسورة مكية بشهادة سياق آياتها. قوله تعالى: " هل أتاك حديث الغاشية استفهام بداعي التفخيم والاعظام، والمراد بالغاشية يوم القيامة سميت بذلك لانها تغشى الناس وتحيط بهم كما قال: " وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا " الكهف: 47، أو لانها تغشى الناس بأهوالها بغتة كما قيل، أو لانها تغشى وجوه الكفار بالعذاب. قوله تعالى: " وجوه يومئذ خاشعة " أي مذللة بالغم والعذاب يغشاها، والخشوع إنما هو لارباب الوجوه وإنما نسب إلى الوجوه لان الخشوع والمذلة يظهر فيها. قوله تعالى: " عاملة ناصبة " النصب التعب و " عاملة " خبر بعد خبر لوجوه، وكذا قوله: " ناصبة " و " تصلى " و " تسقى " و " ليس لهم "، والمراد من عملها ونصبها بقرينة مقابلتهما في صفة أهل الجنة الآتية بقوله: " لسعيها راضية " عملها في الدنيا ونصبها في الآخرة فإن الانسان إنما يعمل ما يعمل في الدنيا ليسعد به ويظفر بالمطلوب لكن عملهم خبط باطل لا ينفعهم شيئا كما قال تعالى: " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلنا هباء منثورا " الفرقان: 23 فلا يعود إليهم من عملهم إلا النصب والتعب بخلاف أهل الجنة فإنهم لسعيهم الذي سعوه في الدنيا راضون لما ساقهم إلى الجنة والراحة. وقيل: المراد أنها عاملة في النار ناصبة فيها فهي تعالج أنواع العذاب الذي تعذب به وتتعب لذلك. وقيل: المراد أنها عاملة في الدنيا بالمعاصي ناصبة في النار يوم القيامة. قوله تعالى: " تصلى نارا حامية " أي تلزم نارا في نهاية الحرارة. قوله تعالى: " تسقى من عين آنية أي حارة بالغة في حرارتها. قوله تعالى: " ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع " قيل: الضريع نوع من الشوك يقال له: الشبرق وأهل الحجاز يسمونه الضريع إذا يبس وهو أخبث طعام وأبشعه لا ترعاه دابة، ولعل تسمية ما في النار به لمجرد المشابهة شكلا وخاصة.

[ 274 ]

قوله تعالى: " وجوه يومئذ ناعمة " من النعومة فيكون كناية عن البهجة والسرور الظاهر على البشرة كما قال: " تعرف في وجوههم نضرة النعيم " المطففين: 24، أو من النعمة أي متنعمة. قيل: ولم يعطف على قوله: " وجوه يومئذ خاشعة " إشارة إلى كمال البينونة بين حالي الفريقين. قوله تعالى: " لسعيها راضية " اللام للتقوية، والمراد بالسعي سعيها في الدنيا بالعمل الصالح، والمعنى رضيت سعيها وهو عملها الصالح حيث جوزيت به جزاء حسنا. قوله تعالى: " في جنة عالية - إلى قوله - وزرابي مبثوثة " المراد بعلوها ارتفاع درجاتها وشرفها وجلالتها وغزارة عيشها فإن فيها حياة لا موت معها، ولذة لا ألم يشوبها وسرورا لا غم ولا حزن يداخله لهم فيها فوق ما يشاؤن. وقوله: " لا تسمع فيها لاغية " أي لا تسمع تلك الوجوه في الجنة كلمة ساقطة لا فائدة فيها. وقوله: " فيها عين جارية " المراد بالعين جنسها فقد عد تعالى فيها عيونا في كلامه كالسلسبيل والشراب الطهور وغيرهما. وقوله: " فيها سرر مرفوعة " السرر جمع سرير وفي ارتفاعها جلالة القاعد عليها، " وأكواب موضوعة " الاكواب جمع كوب وهو الابريق لا خرطوم له ولا عروة يتخذ فيه الشراب " ونمارق مصفوفة " النمارق جمع نمرقة وهي الوسادة وكونها مصفوفة وضعها في المجلس بحيث يتصل بعضها ببعض على هيئة المجالس الفاخرة في الدنيا " وزرابي مبثوثة " الزرابي جمع زريبة مثلثة الزاي وهي البساط الفاخر وبثها بسطها للقعود عليها. قوله تعالى: " أفلا ينظرون إلى الابل كيف خلقت " بعد ما فرغ من وصف الغاشية وبيان حال الفريقين، المؤمنين والكفار عقبه بإشارة إجمالية إلى التدبير الربوبي الذي يفصح عن ربوبيته تعالى المقتضية لوجوب عبادته ولازم ذلك حساب الاعمال وجزاء المؤمن بإيمانه والكافر بكفره والظرف الذي فيه ذلك هو الغاشية. وقد دعاهم أولا أن ينظروا إلى الابل كيف خلقت ؟ وكيف صور الله سبحانه أرضا عادمة للحياة فاقدة للشعور بهذه الصورة العجيبة في أعضائها وقواها وأفاعيلها فسخرها لهم ينتفعون من ركوبها وحملها ولحمها وضرعها وجلدها ووبرها حتى بولها وبعرتها فهل هذا كله توافق اتفاقي غير مطلوب بحياله ؟ وتخصيص الابل بالذكر من جهة أن السورة مكية وأول من تتلى عليهم الاعراب

[ 275 ]

واتخاذ الآبال من أركان عيشتهم. قوله تعالى: " وإلى السماء كيف رفعت " وزينت بالشمس والقمر وسائر النجوم الزواهر بما فيها من المنافع لاهل الارض وقد جعل دونها الهواء الذي يضطر إليه الحيوان في تنفسه. قوله تعالى: " وإلى الجبال كيف نصبت " وهي أوتاد الارض المانعة من مورها ومخازن الماء التي تتفجر منها العيون والانهار ومحافظ للمعادن. قوله تعالى: " وإلى الارض كيف سطحت " أي بسطت وسويت فصلحت لسكني الانسان وسهل فيها النقل والانتقال وأغلب التصرفات الصناعية التي للانسان. فهذه تدبيرات كلية مستندة إليه تعالى بلا ريب فيه فهو رب السماء والارض ما بينهما فهو رب العالم الانساني يجب عليهم أن يتخذوه ربا ويوحدوه ويعبدوه وأمامهم الغاشية وهو يوم الحساب والجزاء. قوله تعالى: " فذكر إنما أنت مذكر " تفريع على ما تقدم والمعنى إذا كان الله سبحانه هو ربهم لا رب سواه وأمامهم يوم الحساب والجزاء لمن آمن منهم أو كفر فذكرهم بذلك. وقوله: " إنما أنت مذكر " بيان أن وظيفته - وهو رسول - التذكرة رجاء أن يستجيبوا ويؤمنوا من غير إكراه وإلجاء. قوله تعالى: " لست عليهم بمصيطر " المصيطر - وأصله المسيطر - المتسلط، والجملة بيان وتفسير لقوله: " إنما أنت مذكر ". قوله تعالى: " إلا من تولى وكفر " استثناء من المفعول المحذوف لقوله السابق: " فذكر " والتقدير فذكر الناس إلا من تولى منهم عن التذكرة وكفر إذ تذكرته لغو لا فائدة فيها، ومعلوم أن التولي والكفر إنما يكون بعد التذكرة فالمنفي بالاستثناء هو التذكرة بعد التذكرة كأنه قيل: ذكرهم وأدم التذكرة إلا لمن ذكرته فتولى عنها وكفر، فليس عليك إدامة تذكرته بل أعرض عنه فيعذبه الله العذاب الاكبر. فقوله: " فذكر - إلى أن قال - إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الاكبر " في معنى قوله: " فذكر إن نفعت الذكرى - إلى أن قال - ويتجنبها الاشقى الذي يصلى النار الكبرى " الاعلى: 12 وقد تقدم بيانه.

[ 276 ]

وقيل: الاستثناء من ضمير " عليهم " في قوله: " لست عليهم بمصيطر " والمعنى لست عليهم بمتسلط إلا على من تولى منهم عن التذكرة وأقام على الكفر فسيسلطك الله عليه ويأمرك بالجهاد فتقاتله فتقتله. وقيل: الاستثناء منقطع والمعنى لست عليهم بمتسلط لكن من تولى وكفر منهم يعذبه الله العذاب الاكبر، وما قدمناه من الوجه أرجح وأقرب. قوله تعالى: " فيعذبه الله العذاب الاكبر " هو عذاب جهنم فالآية كما تقدم محاذية لقوله في سورة الاعلى الذي يصلى النار الكبرى ". قوله تعالى: " إن الينا إيابهم " الاياب الرجوع و " الينا " خبر إن وإنما قدم للتأكيد ولرعاية الفواصل دون الحصر إذ لا قائل برجوع الناس إلى غير الله سبحانه والآية في مقام التعليل للتعذيب المذكور في الآية السابقة. قوله تعالى: " ثم إن علينا حسابهم " الكلام فيه كالكلام في الآية السابقة. (بحث روائي) في المجمع وقال أبو عبد الله عليه السلام: كل ناصب وإن تعبد واجتهد يصير إلى هذه الآية " عاملة ناصبة تصلى نارا حامية ". أقول: ورواه في ثواب الاعمال مسندا ولفظه كل ناصب وإن تعبد واجتهد يصير إلى هذه الغاية " عاملة ناصبة تصلى نارا حامية ". وفيه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الضريع شئ في النار يشبه الشوك أمر من الصبر وأنتن من الجيفة وأشد حرا من النار سماه الله الضريع. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " لا تسمع فيها لاغية " قال: الهزل والكذب. وفيه في قوله تعالى: " لست عليهم بمصيطر " قال: بحافظ ولا كاتب عليهم. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الاسماء والصفات عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ثم قرء " فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر ".

[ 277 ]

أقول: لا دلالة في الرواية على كون الاستثناء من ضمير " عليهم " وهو ظاهر. وفيه وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " إلا من تولى وكفر " يريد من لم يتعظ ولم يصدقك وجحد ربوبيتي وكفر نعمتي " فيعذبه الله العذاب الاكبر " يريد الغليظ الشديد الدائم " إن الينا إيابهم " يريد مصيرهم " ثم إن علينا حسابهم " يريد جزاءهم. وفي النهج وسئل عليه السلام: كيف يحاسب الله الخلق على كثرتهم ؟ قال: كما يرزقهم على كثرتهم. قيل: فكيف يحاسبهم ولا يرونه ؟ قال: كما يرزقهم ولا يرونه. وفيه قال الصادق عليه السلام: كل امة يحاسبها إمام زمانها، ويعرف الائمة أولياءهم وأعداءهم بسيماهم وهو قوله: " وعلى الاعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم " الحديث. أقول: قد تقدم توضيح معنى الحديث في تفسير الآية من سورة الاعراف، وروى هذا المعنى في البصائر عن الصادق عليه السلام مسندا وفي الكافي عن الباقر والكاظم عليهما السلام وفى الفقيه عن الهادي عليه السلام في الزيارة الجامعة. (سورة الفجر مكية وهي ثلاثون آية) بسم الله الرحمن الرحيم والفجر - 1. وليال عشر - 2. والشفع والوتر - 3. والليل إذا يسر - 4. هل في ذلك قسم لذي حجر - 5. ألم تر كيف فعل ربك بعاد - 6. ارم ذات العماد - 7. التي لم يخلق مثلها في البلاد - 8. وثمود الذين جابوا الصخر بالواد - 9. وفرعون ذي الاوتاد - 10. الذين طغوا في البلاد - 11. فأكثروا فيها الفساد - 12. فصب عليهم ربك سوط عذاب - 13. ان ربك لبالمرصاد - 14. فأما الانسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن - 15. وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه

[ 278 ]

فيقول ربى أهانن - 16. كلا بل لا تكرمون اليتيم - 17. ولا تحآضون على طعام المسكين - 18. وتأكلون التراث أكلا لما - 19. وتحبون المال حبا جما - 20. كلا إذا دكت الارض دكا دكا - 21. وجاء ربك والملك صفا صفا - 22. وجئ يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الانسان وأنى له الذكرى - 23. يقول يا ليتني قدمت لحياتي - 24. فيومئذ لا يعذب عذابه أحد - 25. ولا يوثق وثاقه أحد - 26. يا أيتها النفس المطمئنة - 27. ارجعي إلى ربك راضية مرضية - 28. فادخلي في عبادي - 29. وادخلي جنتي - 30. (بيان) في السورة ذم التعلق بالدنيا المتعقب للطغيان والكفران وإيعاد أهله بأشد عذاب الله في الدنيا والآخرة فتبين أن الانسان لقصور نظره وسوء فكره يرى أن ما آتاه الله من نعمه من كرامته على الله وأن ما يتلبس به من الفقر والعدم من هوانه فيطغى ويفسد في الارض إذا وجد ويكفر إذا فقد وقد اشتبه عليه الامر فما يصيبه من القدرة والثروة ومن الفقر وضيق المعاش امتحان وابتلاء إلهي ليظهر به ماذا يقدم من دنياه لاخراه. فليس الامر على ما يتوهمه الانسان ويقوله بل الامر كما سيتذكره إذا وقع الحساب وحضر العذاب أن ما أصابه من فقر أو غنى أو قوة أو ضعف كان امتحانا إلهيا وكان يمكنه أن يقدم من يومه لغده فلم يفعل وآثر العقاب على الثواب فليس ينال الحياة السعيدة في الآخرة إلا النفس المطمئنة إلى ربها المسلمة لامره التي لا تتزلزل بعواصف الابتلاءات ولا يطغيه الوجدان ولا يكفره الفقدان. والسورة مكية بشهادة سياق آياتها. قوله تعالى: " والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر هل في ذلك قسم

[ 279 ]

لذي حجر " الفجر الصبح والشفع الزوج، قال الراغب: الشفع ضم الشئ إلى مثله ويقال للمشفوع شفع. انتهى. وسرى الليل مضية وإدباره، والحجر العقل فقوله: " والفجر " إقسام بالصبح وكذا الحال فيما عطف عليه من ليال والشفع والوتر والليل. ولعل ظاهر قوله: " والفجر " أن المراد به مطلق الفجر ولا يبعد أيضا أن يراد به فجر يوم النحر وهو عاشر ذي الحجة. وقيل: المراد فجر ذي الحجة، وقيل: فجر المحرم أول السنة وقيل: فجر يوم الجمعة، وقيل فجر ليلة جمع، وقيل: المراد به صلاة الفجر، وقيل: النهار كله وقيل: فجر العيون من الصخور وغيرها وهى وجوه ردية. وقوله: " وليال عشر " لعل المراد بها الليالي العشر من أول ذي الحجة إلى عاشرها والتنكير للتفخيم. وقيل: المراد بها الليالي العشر من آخر شهر رمضان، وقيل: الليالي العشر من أوله، وقيل الليالي العشر من أول المحرم، وقيل: المراد عبادة ليال عشر على تقدير أن يراد بالفجر صلاة الفجر. وقوله " والشفع والوتر " يقبل الانطباق على يوم التروية ويوم عرفة وهو الانسب على تقدير أن يراد بالفجر وليال عشر فجر ذي الحجة والعشر الاول من لياليها. وقيل: المراد صلاتا الشفع والوتر في آخر الليل، وقيل: مطلق الصلاة فمنها شفع ومنها وتر، وقيل: الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة، وقيل: الشفع جميع الخلق لانه قال: وخلقناكم أزواجا " النبأ: 8 والوتر هو الله تعالى، وعلى هذه الاقوال روايات ستوافيك في البحث الروائي الآتي إن شاء الله. وقيل: المراد الزوج والفرد من العدد، وفي الاقسام بهما تذكير بالعدد لما في ضبط المقادير به من عظيم النعمة من الله سبحانه، وقيل: الشفع والوتر جميع المخلوقات لان الاشياء إما زوج وإما فرد، وقيل: الوتر آدم شفع بزوجته، وقيل: الشفع الايام والليالي والوتر اليوم الذي لا ليل بعده وهو يوم القيامة، وقيل: الشفع الصفا والمروة والوتر البيت الحرام، وقيل: الشفع أيام عاد والوتر لياليها، وقيل: الشفع أبواب الجنة وهي ثمانية والوتر أبواب جهنم وهي سبعة إلى غير ذلك وهي كثيرة أنهاها بعضهم إلى ستة وثلاثين قولا ولا يخلو أكثرها من تحكم.

[ 280 ]

وقوله: " والليل إذا يسر " أي يمضي فهو كقوله: " والليل إذ أدبر " المدثر: 33 وظاهره أن اللام للجنس فالمراد به مطلق آخر الليل، وقيل: المراد به ليلة المزدلفة وهي ليلة النحر التي يسرى فيها الحاج من عرفات إلى المزدلفة فيجتمع فيها على طاعة الله ثم يغدوا منها إلى منى وهو كما ترى وخاصة على القول بكون المراد بليال عشر هو الليالي العشر الاوائل منها. وقوله: " هل في ذلك قسم لذي حجر " الاشارة بذلك إلى ما تقدم من القسم، والاستفهام للتقرير، والمعنى أن في ذلك الذي قدمناه قسما كافيا لمن له عقل يفقه به القول ويميز الحق من الباطل، وإذا أقسم الله سبحانه بأمر - ولا يقسم إلا بما له شرف ومنزلة - كان من القول الحق المؤكد الذي لا ريب في صدقه. وجواب الاقسام المذكورة محذوف يدل عليه ما سيذكر من عذاب أهل الطغيان والكفران في الدنيا والآخر وثواب النفوس المطمئنة، وأن إنعامه تعالى على من أنعم عليه وإمساكه عنه فيمن أمسك إنما هو ابتلاء وامتحان. وحذف الجواب والاشارة إليه على طريق التكنية أوقع وآكد في باب الانذار والتبشير. قوله تعالى: " ألم تر كيف فعل ربك بعاد " هم عاد الاولى قوم هود تكررت قصتهم في القرآن الكريم وأشير إلى أنهم كانوا بالاحقاف، وقد قدمنا ما يتحصل من قصصهم في القرآن الكريم في تفسير سورة هود. قوله تعالى: " إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد " العماد وجمعه عمد ما يعتمد عليه الابنية، وظاهر الآيتين أن إرم كانت مدينة لهم معمورة عديمة النظير ذات قصور عالية وعمد ممددة، وقد انقطعت أخبار القوم عهدهم وانمحت آثارهم، فلا سبيل إلى الحصول على تفصيل حالهم تطمئن إليها النفس إلا ما قصه القرآن الكريم من إجمال قصتهم أنهم كانوا بعد قوم نوح قاطنين بالاحقاف وكانوا ذوي بسطة في الخلق أولي قوة وبطش شديد، وكان لهم تقدم ورقي في المدنية والحضارة لهم بلاد عامرة وأراض خصبة ذات جنات ونخيل وزروع ومقام كريم وقد تقدمت القصة. وقيل: المراد بإرم قوم عاد - وهو في الاصل اسم أبيهم سموا باسم أبيهم كما يقال: قريش ويراد به القرشيون ويطلق اسرائيل ويراد به بنو إسرائيل - والمراد بكونهم

[ 281 ]

ذات عماد كونهم أولي قوة وسطوة. والمعنى: ألم تر كيف فعل ربك بقوم عاد الذين هم قوم ارم ذوو القوة والشدة الذين لم يخلق مثلهم في بسطة الجسم والقوة والبطش في البلاد أو في أقطار الارض ولا يخلو من بعد من ظاهر اللفظ. وأبعد منه ما قيل: إن المراد بكونهم ذات العماد أنهم كانوا أهل عمد سيارة في الربيع فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم. ومن الاساطير قصة جنة إرم المشهورة المروية عن وهب بن منبه وكعب الاحبار. قوله تعالى: " وثمود الذين جابوا الصخر بالواد " الجوب القطع أي قطعوا صخر الجبال بنحتها بيوتا فهو في معنى قوله: " وتنحتون من الجبال بيوتا " الشعراء: 149. قوله تعالى: " وفرعون ذي الاوتاد " هو فرعون موسى، وسمي ذا الاوتاد - على ما في بعض الروايات - لانه كان إذا أراد أن يعذب رجلا بسطه على الارض ووتد يديه ورجليه بأربعة أوتاد في الارض وربما بسطه على خشب وفعل به ذلك، ويؤيده ما حكاه الله من قوله يهدد السحرة إذ آمنوا بموسى: " ولاصلبنكم في جذوع النخل " طه: 71 فإنهم كانوا يوتدون يدي المصلوب ورجليه على خشبة الصليب. قوله تعالى: " الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد " صفة للمذكورين من عاد وثمود وفرعون، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " فصب عليهم ربك سوط عذاب " صب الماء معروف وصب سوط العذاب كناية عن التعذيب المتتابع المتواتر الشديد، وتنكير عذاب للتفخيم. والمعنى فأنزل ربك على كل من هؤلاء الطاغين المكثرين للفساد إثر طغيانهم واكثارهم الفساد عذابا شديدا متتابعا متواليا لا يوصف. قوله تعالى: " إن ربك لبالمرصاد " المرصاد المكان الذي يرصد منه ويرقب وكونه تعالى على المرصاد استعارة تمثيلية شبه فيها حفظه تعالى لاعمال عباده بمن يقعد على المرصاد يرقب من يراد رقوبه فيأخذه حين يمر به وهو لا يشعر فالله سبحانه رقيب يرقب أعمال عباده حتى إذا طغوا وأكثروا الفساد أخذهم بأشد العذاب. وفي الآية تعليل ما تقدم من حديث تعذيب الطغاة المكثرين للفساد من الماضين وفي قوله: " ربك " باضافة الرب إلى ضمير الخطاب تلويح إلى أن سنة العذاب جارية في أمته

[ 282 ]

صلى الله عليه وآله وسلم على ما جرت عليه في الامم الماضين. قوله تعالى: " فأما الانسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن " متفرع على ما قبله، فيه تفصيل حال الانسان إذا أوتي من نعم الدنيا أو حرم كأنه قيل: إن الانسان تحت رقوب إلهي يرصده ربه هل يصلح أو يفسد ؟ ويبتليه ويمتحنه فيما آتاه من نعمه أو حرمه هذا هو الامر في نفسه وأما الانسان فإنه إذا أنعم الله عليه بنعمه حسب أن ذلك اكرام الهي له أن يفعل بها ما يشاء فيطغى ويكثر الفساد، وإذا أمسك وقدر عليه رزقه حسب أنه اهانة الهية فيكفر ويجزع. فقوله: " فأما الانسان " المراد به النوع بحسب الطبع الاولي فاللام للجنس دون الاستغراق. وقوله: " إذا ما ابتلاه ربه " أي امتحنه واختبره، والعامل في الظرف محذوف تقديره كائنا إذا " الخ " وقيل: العامل فيه " فيقول ". وقوله: " فأكرمه ونعمه " تفسير للابتلاء، والمراد بالاكرام والتنعيم الصوريان وان شئت فقل: الاكرام والتنعيم حدوثا لابقاء أي أنه تعالى أكرمه وآتاه النعمة ليشكره ويعبده لكنه جعلها نقمة على نفسه تستتبع العذاب. وقوله: " فيقول ربي أكرمن " أي جعلني على كرامة منه بالنعم التي آتانيها وان شئت فقل: القدرة والجدة الموهوبتان اكرام وتنعيم حدوثا وبقاء فلي أن افعل ما أشاء. والجملة أعني قوله: " فيقول ربي أكرمن " حكاية ما يراه الانسان بحسب الطبع، وقول الانسان: " ربي أكرمن " الظاهر في نسبة التدبير إلى الله سبحانه - ولا يقول به الوثنية والمنكرون للصانع - مبني على اعترافه بحسب الفطرة به تعالى وإن استنكف عنه لسانا، وأيضا لرعاية المقابلة مع قوله: " إذا ما ابتلاه ربه ". قوله تعالى: " وأما إذا ما ابتلاه ربه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن " أي وأما إذا ما امتحنه واختبره فضيق عليه رزقه فيقول ربي اذلني واستخف بي. ويظهر من مجموع الآيتين أولا حيث كرر الابتلاء وأثبته في صورتي التنعيم والامساك عنه أن إيتاء النعم والامساك عنه جميعا من الابتلاء والامتحان الالهي كما قال: " ونبلوكم بالشر والخير فتنة " الانبياء: 35 لا كما يراه الانسان. وثانيا أن إيتاء النعم بما أنه فضل ورحمة إكرام إن لم يبدلها الانسان نقما على نفسه.

[ 283 ]

وثالثا أن الآيتين معا تفيدان أن الانسان يرى سعادته في الحياة هي التنعم في الدنيا بنعم الله تعالى وهو الكرامة عنده والحرمان منه شقاء عنده والحال أن الكرامة هي في التقرب إليه تعالى بالايمان والعمل الصالح سواء في ذلك الغنى والفقر وأي وجدان وفقدان فإنما ذلك بلاء وامتحان. ولهم في معنى الآيتين وجوه أخر تركنا التعرض لها لقلة الجدوى. قوله تعالى: " كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين " ردع لقولهم: إن الكرامة هي في الغنى والتنعم، وفي الفقر والفقدان هوان ومذلة، والمعنى ليس كما تقولون وإنما إيتاؤه تعالى النعمة وامساكه عنه كل ذلك ابتلاء وامتحان يختبر به حال الانسان من حيث عبوديته. وفي قوله: " بل لا تكرمون اليتيم " الخ إضراب يؤكد الردع بذكر بعض التنعم الذي لا يجامع الكرامة البتة كعدم إكرامهم اليتيم بأكل تراثه ومنعه منه وعدم التحريض على إطعام المسكين حبا للمال فالفطرة الانسانية لا يرتاب في أن لا كرامة في غنى هذا شأنه. وفي الاضراب مضافا إلى أصل الردع تقريع ولتشديد هذا التقريع وقع الالتفات من الغيبة إلى الخطاب. فقوله: " بل لا تكرمون اليتيم " عدم إكرامه حرمانه من تراث أبيه - كما كانوا يحرمون صغار الاولاد من الارث - وتركه صفر الكف بلغ به الجهد ما بلغ كما تؤيده الآية التالية " وتأكلون التراث " الخ. وقوله: " ولا تحاضون على طعام المسكين " أصله ولا تتحاضون، وهو تحريض بعضهم بعضا على التصدق على المساكين المعدمين، ومنشأه حب المال كما في الآية الآتية " وتحبون المال " الخ. قوله تعالى: " وتأكلون التراث اكلا لما " اللم أكل الانسان نصيب نفسه وغيره وأكله ما يجده من دون أن يميز الطيب من الخبيث، والآية تفسير لعدم إكرامهم اليتيم كما تقدم. قوله تعالى: " وتحبون المال حبا جما " الجم الكثير العظيم، والآية تفسر عدم تحاضهم على طعام المسكين كما تقدم. قوله تعالى: " كلا إذا دكت الارض دكا دكا " الدك هو الدق الشديد، والمراد بالظرف حضور يوم القيامة.

[ 284 ]

ردع ثان عما يقوله الانسان في حالي الغنى والفقر، وقوله: " إذا دكت الارض " الخ في مقام التعليل للردع، ومحصل المعنى ليس كما يقوله الانسان فإنه سيتذكر إذا قامت القيامة أن الحياة الدنيا وما فيها من الغنى والفقر وأضرابهما لم تكن مقصودة بالذات بل كانت ابتلاء وامتحانا من الله تعالى يميز به السعيد من الشقي ويهيئ الانسان فيها ما يعيش به في الآخرة وقد التبس عليه الامر فحسبها كرامة مقصودة بالذات فاشتغل بها ولم يقدم لحياته الآخرة شيئا فيتمنى عند ذلك ويقول: يا ليتني قدمت لحياتي ولن يصرف التمني عنه شيئا من العذاب. قوله تعالى: " وجاء ربك والملك صفا صفا " نسبة المجئ إليه تعالى من المتشابه الذي يحكمه قوله تعالى: " ليس كمثله شئ " الشورى: 11 وما ورد في آيات القيامة من خواص اليوم كتقطع الاسباب وارتفاع الحجب عنهم وظهور أن الله هو الحق المبين. وإلى ذلك يرجع ما ورد في الروايات أن المراد بمجيئه تعالى مجئ أمره قال تعالى: " والامر يومئذ لله " الانفطار: 19، ويؤيد هذا الوجه بعض التأيد قوله تعالى " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضى الامر " البقرة: 210 إذا انضم إلى قوله: " هل ينضرون إلا أن يأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك " النحل: 33 وعليه فهناك مضاف محذوف والتقدير جاء أمر ربك أو نسبة المجئ إليه تعالى من المجاز العقلي. والكلام في نسبة المجئ إلى الملائكة وكونهم صفا صفا كما مر. قوله تعالى: " وجئ يومئذ بجهنم " إلى آخر الآية لا يبعد أن يكون المراد بالمجئ بجهنم إبرازها لهم كما في قوله تعالى: " وبرزت الجحيم لمن يرى " النازعات: 36 وقوله: " وبرزت الجحيم للغاوين " الشعراء: 91، وقوله: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " ق: 22. وقوله: " يومئذ يتذكر الانسان " أي يتذكر أجلى التذكر أن ما كان يؤتاه في الحياة الدنيا من خير أو شر كان من ابتلاء الله وامتحانه وأنه قصر في أمره، هذا ما يفيده السياق. وقوله: " وأنى له الذكرى " أي ومن أين له الذكرى كناية عن عدم انتفاعه بها فإن الذكرى إنما تنفع فيما أمكنه أن بتدارك ما فرط فيه بتوبة وعمل صالح واليوم يوم الجزاء لا يوم الرجوع والعمل. قوله تعالى: " يقول ياليتني قدمت لحياتي " أي لحياتي هذه وهي الحياة الآخرة أو المراد الحياة الحقيقية وهي الحياة الآخرة على ما نبه تعالى عليه بقوله: " وما هذه الحياة الدنيا

[ 285 ]

إلا لهو ولعب وإن الدار الآحرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " العنكبوت: 64. والمراد بالتقديم للحياة تقديم العمل الصالح للحياة الآخرة وما في الآية تمن يتمناه الانسان عندما يتذكر يوم القيامة ويشاهد أنه لا ينفعه. قوله تعالى: " فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد " ضميرا " عذابه ووثاقه " لله تعالى والمعنى فيومئذ لا يعذب عذاب الله أحد من الخلق ولا يوثق وثاق الله أحد من الخلق أي عذابه ووثاقه تعالى يومئذ فوق عذاب الخلق ووثاقهم، تشديد في الوعيد. وقرء " لا يعذب " بفتح الذال و " ولا يوثق " بفتح الثاء بالبناء للمفعول وضميرا " عذابه ووثاقه " على هذا للانسان والمعنى لا يعذب أحد يومئذ مثل عذاب الانسان ولا يوثق أحد يومئذ مثل وثاقه. قوله تعالى: " يا أيتها النفس المطمئنة " الذي يعطيه سياق المقابلة بين هذه النفس بما ذكر لها من الاوصاف وعين لها من حسن المنقلب وبين الانسان المذكور قبل بما ذكر له من وصف التعلق بدنيا والطغيان والفساد والكفران، وما أوعد من سوء المصير هو أن النفس المطمئنة هي التي تسكن إلى ربها وترضى بما رضي به فترى نفسها عبدا لا يملك لنفسه شيئا من خير أو وشر أو نفع أو ضر ويرى الدنيا دار مجاز وما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أي نفع وضر ابتلاء وامتحانا إلهيا فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان وإكثار الفساد والعلو والاستكبار، ولا يوقعه الفقر والفقدان في الكفر وترك الشكر بل هو في مستقر من العبودية لا ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط. قوله تعالى: " إرجعي إلى ربك راضية مرضية " خطاب ظرفه جميع يوم القيامة من لدن إحيائها إلى استقرارها في الجنة بل من حين نزول الموت إلى دخول جنة الخلد وليس خطابا واقعا بعد الحساب كما ذكره بعضهم. وتوصيفها بالراضية لان اطمئنانها إلى ربها يستلزم رضاها بما قدر وقضى تكوينا أو حكم به تشريعا فلا تسخطها سانحة ولا تزيغها معصية، وإذا رضي العبد من ربه رضي الرب منه إذ لا يسخطه تعالى إلا خروج العبد من زي العبودية فإذا لزم طريق العبودية استوجب ذلك رضى ربه ولذا عقب قوله " راضية " بقوله " مرضية ". قوله تعالى: " فادخلي في عبادي وادخلي جنتي " تفريع على قوله " ارجعي إلى ربك " وفيه دلالة على أن صاحب النفس المطمئنة في زمرة عباد الله حائز مقام العبودية.

[ 286 ]

وذلك أنه لما اطمأن إلى ربه انقطع عن دعوى الاستقلال ورضي بما هو الحق من ربه فرآى ذاته وصفاته وأفعاله ملكا طلقا لربه فلم يرد فيما قدر وقضى ولا فيما أمر ونهى إلا ما أراده ربه، وهذا ظهور العبودية التامة في العبد ففي قوله: " فادخلي في عبادي " تقرير لمقام عبوديتها. وفي قوله: " وادخلي جنتي " تعيين لمستقرها، وفي إضافة الجنة إلى ضمير التكلم تشريف خاص، ولا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنة إلى نفسه تعالى وتقدس إلا في هذه الآية. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: " والشفع والوتر "، وقيل: الشفع الخلق لانه قال: وخلقناكم أزواجا " والوتر الله تعالى، عن عطية العوفي وأبي صالح وابن عباس ومجاهد وهي رواية أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل: الشفع والوتر الصلاة منها شفع ومنها وتر وهي رواية عن ابن حصين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة عن ابن عباس وعكرمة والضحاك، وهى رواية جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والوجه فيه أن يوم النحر يشفع بيوم نفر بعده ويتفرد يوم عرفة بالموقف، وقيل: الشفع يوم التروية والوتر يوم عرفة وروي ذلك عن أبي جعفر وابي عبد الله عليهما السلام. أقول: الروايات الثلاث المشار إليها مروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طرق أهل السنة ويمكن الجمع بينها بأن المراد مطلق الشفع والوتر والروايات من قبيل الاشارة إلى بعض المصاديق. وفي تفسير القمي " وليال عشر " قال: عشر ذي الحجة " والشفع والوتر " قال: الشفع ركعتان والوتر ركعة، وفي حديث: الشفع الحسن والحسين والوتر أمير المؤمنين عليهم السلام " والليل إذا يسر " قال: هي ليلة جمع. وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " لذي حجر " يقول " لذي عقل. وفي العلل بإسناده إلى أبان الاحمر قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: " وفرعون ذي الاوتاد " لاي شئ سمي ذا الاوتاد ؟ فقال: لانه كان إذا عذب رجلا بسطه على الارض على وجهه ومد يديه ورجليه فأوتدها بأربعة أوتاد في الارض. وربما بسطه على خشب منبسط فوتد رجليه ويديه بأربعة اوتاد ثم تركه على حاله حتى يموت فسماه الله عزوجل فرعون ذا الاوتاد.

[ 287 ]

وفي المجمع في قوله تعالى: " إن ربك لبالمرصاد " وروي عن علي عليه السلام أنه قال: إن معناه أن ربك قادر أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم. أقول: بناء الرواية على أخذ الجملة استعارة تمثيلية. وفيه عن الصادق عليه السلام أنه قال: المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد. وعن الغوالي عن الصادق عليه السلام في حديث في تفسير قوله تعالى: " وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه " إنما ظن بمعنى استيقن أن الله تعالى لن يضيق عليه رزقه ألا تسمع قول الله تعالى: " وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه " أي ضيق عليه. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " كلا إذا دكت الارض دكا دكا " قال: هي الزلزلة. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تدرون ما تفسير هذه الآية " كلا إذا دكت الارض - إلى قوله - وجئ يومئذ بجهنم " قال: إذا كان يوم القيامة تقاد جهنم بسبعين ألف زمام بيد سبعين ألف ملك فتشرد شردة لولا أن الله حبسها لاحرقت السماوات والارض. اقول: وهو مروي أيضا عن أبي سعيد وابن مسعود ومن طرق الشيعة في أمالي الشيخ باسناده عن داود بن سليمان عن الرضا عن آبائه عن علي عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وآله. وفي العيون في باب ما جاء عن الرضا من أخبار التوحيد باسناده عن علي بن فضال عن أبيه قال: سألت الرضا عليه السلام عن قول الله عزوجل: " وجاء ربك والملك صفا صفا " فقال: إن الله سبحانه لا يوصف بالمجئ والذهاب تعالى عن الانتقال انما يعني بذلك وجاء أمر ربك. وفي الكافي باسناده عن سدير الصيرفي قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك يا بن رسول الله هل يكره المؤمن على قبض روحه ؟ قال: لا والله إنه إذا أتاه ملك الموت ليقبض روحه جزع عند ذلك فيقول ملك الموت: يا ولي الله لا تجزع فوالذي بعث محمدا لاني أبر بك وأشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينيك فانظر. قال: ويمثل له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والائمة من

[ 288 ]

ذريتهم عليهم السلام فيقال له: هذا رسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والائمة عليهم السلام رفقاؤك. قال: فيفتح عينيه فينظر فينادي روحه مناد من قبل رب العزة فيقول: يا أيتها النفس المطمئنة إلى محمد وأهل بيته ارجعي إلى ربك راضية بالولاية مرضية بالثواب فادخلي في عبادي يعني محمدا وأهل بيته وادخلي جنتي فما من شئ أحب إليه من استلال روحه واللحوق بالمنادي. أقول: وروى هذا المعنى القمي في تفسيره والبرقي في المحاسن. (سورة البلد مكية وهي عشرون آية) بسم الله الرحمن الرحيم لا أقسم بهذا البلد - 1. وأنت حل بهذا البلد - 2. ووالد وما ولد - 3. لقد خلقنا الانسان في كبد - 4. أيحسب أن لن يقدر عليه أحد - 5. يقول أهلكت مالا لبدا - 6. أيحسب أن لم يره أحد - 7. ألم نجعل له عينين - 8. ولسانا وشفتين - 9. وهديناه النجدين - 10. فلا اقتحم العقبة - 11. وما أدراك ما العقبة - 12. فك رقبة - 13. أو إطعام في يوم ذي مسغبة - 14. يتيما ذا مقربة - 15. أو مسكينا ذا متربة - 16. ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة - 17. أولئك أصحاب الميمنة - 18. والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة - 19. عليهم نار مؤصدة - 20.

[ 289 ]

(بيان) تذكر السورة أن خلقة الانسان مبنية على التعب والمشقة فلا تجد شأنا من شؤن الحياة إلا مقرونا بمرارة الكد والتعب من حين يلج في جثمانه الروح إلى أن يموت فلا راحة له عارية من التعب والمشقة ولا سعادة له خالصة من الشقاء والمشأمة إلا في الدار الآخرة عند الله. فليتحمل ثقل التكاليف الالهية بالصبر على الطاعة وعن المعصية وليجد في نشر الرحمة على المبتلين بنوائب الدهر كاليتم والفقر والمرض واضرابها حتى يكون من أصحاب الميمنة وإلا فآخرته كاولاه وهو من أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة. وسياق آيات السورة، يشبه السياق المكي فيؤيد به كون السورة مكية وقد ادعى بعضهم عليه الاجماع، وقيل: السورة مدنية والسياق لا يساعد عليه، وقيل: مدنية إلا أربع آيات من أولها وسيأتي في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " لا أقسم بهذا البلد " ذكروا أن المراد بهذا البلد مكة وتؤيده مكية سياق السورة وقوله: " ووالد وما ولد " خاصة بناء على كون المراد بوالد هو ابراهيم عليه السلام على ما سيجئ. قوله تعالى: " وأنت حل بهذا البلد " حال من هذا البلد، ووضع الظاهر موضع الضمير في قوله: " بهذا البلد " للدلالة على عظم شأنه والاعتناء بأمره وهو البلد الحرام، والحل مصدر كالحلول بمعنى الاقامة والاستقرار في مكان والمصدر بمعنى الفاعل. والمعنى أقسم بهذا البلد والحال أنك حال به مقيم فيه وفي ذلك تنبيه على تشرف مكة بحلوله صلى الله عليه وآله وسلم فيها وكونها مولده ومقامه. وقيل: الجملة معترضة بين القسم والمقسم به والمراد بالحل المستحل الذي لا حرمة له قال في الكشاف: واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله: " وأنت حل بهذا البلد " يعني ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد الحرام كما يستحل الصيد في غير الحرم - عن شرحبيل - يحرمون أن يقتلوا بها صيدا ويعضدوا (1) بها شجرة ويستحلون إخراجك وقتلك، وفيه تثبيت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعث على * (هامش) (1) عضد الشجرة: قطعها ونثر ورقها للابل. وشرحبيل راوي الحديث.

[ 290 ]

احتمال ما كان يكابد من أهل مكة وتعجيب من حالهم في عداوته انتهى. ثم قال: أو سلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقسم ببلده أن الانسان لا يخلو من مقاساة الشدائد واعترض بأن وعده فتح مكة تتميما للتسلية والتنفيس عنه فقال: " وأنت حل بهذا البلد " يعنى وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والاسر إلى آخر ما قال، ومحصله تفسير الحل بمعنى المحل ضد المحرم، والمعنى وسنحل لك يوم فتح مكة حينا فنقاتل وتقتل فيه من شئت. قوله تعالى: " ووالد وما ولد " لزوم نوع من التناسب والارتباط بين القسم والمقسم عليه يستدعي أن يكون المراد بوالد وما ولد من بينه وبين البلد المقسم به نسبة ظاهرة وينطبق على إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام وهما السببان الاصليان لبناء بلدة مكة والبانيان للبيت الحرام قال تعالى: " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل " البقرة: 127 وإبراهيم عليه السلام هو الذي سأل الله أن يجعل مكة بلدا آمنا قال تعالى: " وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا " إبراهيم 35. وتنكير " والد " للتعظيم والتفخيم، والتعبير بقوله " وما ولد " دون أن يقال: ومن ولد، للدلالة على التعجيب من أمره مدحا كما في قوله: " والله أعلم بما وضعت " آل عمران: 36. والمعنى واقسم بوالد عظيم الشأن هو إبراهيم وما ولد من ولد عجيب أمره مبارك أثره وهو إسماعيل ابنه وهما البانيان لهذا البلد فمفاد الآيات الثلاث الاقسام بمكة المشرفة وبالنبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو حل فيها وبإبراهيم وإسماعيل اللذين بنياها. وقيل: المراد بالوالد ابراهيم وبما ولد جميع أولاده من العرب. وفيه أن من البعيد أن يقارن الله سبحانه بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإبراهيم عليه السلام وبين أمثال أبي لهب وأبي جهل وغيرهم من أئمة الكفر فيقسم بهم جميعا في سياق، وقد تبرأ ابراهيم عليه السلام ممن لم يتبعه من بنيه على التوحيد إذ قال فيما حكاه الله: " واجنبني وبني أن نعبد الاصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فانه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم " ابراهيم 36. فعلى من يفسر ما ولد بأولاد ابراهيم أن يخصهم بالمسلمين من ذريته كما في دعاء ابراهيم واسماعيل عند بنائهما الكعبة على ما حكاه الله: " ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا امة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا " البقرة: 128.

[ 291 ]

وقيل: المراد بوالد وما ولد، آدم عليه السلام وذريته جميعا بتقريب أن المقسم عليه بهذه الاقسام خلق الانسان في كبد وقد سن الله في خلق هذا النوع وإبقاء وجوده سنة الولادة فقد أقسم في هذه الآيات بمحصول هذه السنة وهو الوالد وما ولد على ان الانسان في كد وتعب بحسب نوع خلقته من حين يحيى إلى حين يموت. وهذا الوجه في نفسه لا بأس به لكن يبقى عليه بيان المناسبة بين بلدة مكة وبين والد وكل مولود في الجمع بينهما في الاقسام. وقيل: المراد بهما آدم والصالحون من ذريته، وكأن الوجه فيه تنزيهه تعالى من أن يقسم بأعدائه الطغاة والمفسدين من الكفار والفساق. وقيل: المراد بهما كل والد وكل مولود وقيل: من يلد ومن لا يلد منهم بأخذ " ما " في " ما ولد " نافية لا موصولة. وقيل: المراد بوالد هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبما ولد امته لانه بمنزلة الاب لامته وهي وجوه بعيدة قوله تعالى: " لقد خلقنا الانسان في كبد " الكبد الكد والتعب، والجملة جواب القسم فاشتمال الكبد على خلق الانسان وإحاطة الكد والتعب به في جميع شؤون حياته مما لا يخفى على ذي لب فليس يقصد نعمة من نعم الدنيا إلا خالصة في طيبها محضة في هنائها ولا ينال شيئا منها إلا مشوبة بما ينغص العيش مقرونة بمقاساة ومكابدة مضافا إلى ما يصيبه من نوائب الدهر ويفاجئه من طوارق الحدثان. قوله تعالى: " أيحسب أن لن يقدر عليه أحد " بمنزلة النتيجة لحجة الآية السابقة تقريرها أن الانسان لما كانت خلقته مبنية على كبد مظروفة له لا ينال قط شيئا مما يريد إلا دون ما يريد أو غير ما يريد فهو محاط في خلقه مغلوب في إرادته مقهور فيما قدر له من الامر والذي يغلبه في إرادته ويقهره على التلبس بما قدر له وهو الله سبحانه يقدر عليه من كل جهة فله أن يتصرف فيه بما شاء ويأخذه إذا أراد. فليس للانسان أن يحسب أن لن يقدر عليه أحد فيدعوه ذلك إلى أن يعلو على الله ويستكبر عن عبادته أو يعطيه في بعض ما أمر به كالانفاق في سبيله فيستكثره ويمتن به على الله أو يمكر به تعالى بعد ما عمله رياء وسمعة عملا لوجه الكريم فيقول: أهلكت مالا لبدا. قوله تعالى: " يقول أهلكت مالا لبدا " اللبد الكثير، سياق الآية وما يتلوها من الآيات إلى آخر السورة مشعر بأنه كان هناك بعض من أظهر الاسلام أو مال إليه فقد أنفق

[ 292 ]

بعض ماله وامتن به مستكثرا له بقوله: " أهلكت مالا لبدا " فنزلت الآيات ورد الله عليه بأن الفوز بميمنة الحياة لا يتم إلا باقتحام عقبة الانفاق في سبيل الله والدخول في زمرة الذين آمنوا وتواصوا بالصبر والمرحمة، ويتأيد به ما سيأتي في البحث الروائي إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " أيحسب أن لم يره أحد " إنكار لما هو لازم قول الانسان " أهلكت مالا لبدا " على طريق التكنية ومحصل المعنى أن لازم إخبار الانسان بإهلاكه مالا لبدا أنه يحسب أنا في غفلة وجهل بما أنفق وقد أخطأ في ذلك فالله سبحانه بصير بما أنفق لكن هذا المقدار لا يكفي في الفوز بميمنة الحياة بل لا بد له من أن يتحمل ما هو أزيد من ذلك من مشاق العبودية فيقتحم العقبة ويكون مع المؤمنين في جميع ما هم فيه. قوله تعالى: " ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين " النجد الطريق المرتفع، والمراد بالنجدين طريق الخير وطريق الشر وسميا النجدين لما في سلوك كل منهما من الجهد والكدح، وفسرا بثديي الام وهو بعيد. وقوله: " ألم نجعل له عينين " أي جهزناه في بدنه بما يبصر به فيحصل له العلم بالمرئيات على سعة نطاقها، وقوله: " ولسانا وشفتين " أي أولم نجعل له لسانا وشفتين يستعين بها على التكلم والدلالة على ما في ضميره من العلم ويهتدي بذلك غيره على العلم بالامور الغائبة عن البصر. وقوله: " وهديناه النجدين " أي علمناه طريق الخير وطريق الشر بالهام منا فهو يعرف الخير ويميزه من الشر فالآية في معنى قوله تعالى: ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها " الشمس: 8. وفي الآيات الثلاث حجة على قوله: " أيحسب أن لم يره أحد " أي على أنه تعالى يرى أعمال عباده ويعلم ما في ضمائرهم من وجوه الاعمال ويميز الخير من الشر والحسنة من السيئة. محصلها أن الله سبحانه هو الذي يعرف المرئيات للانسان بوسيلة عينيه وكيف يتصور أن يعرفه أمرا وهو لا يعرفه ؟ وهو الذي يدل الانسان على ما في الضمير بواسطة الكلام وهل يعقل أن يكشف له عما هو في حجاب عنه ؟ وهو الذي يعلم الانسان ويميزله الخير والشر بالالهام وهل يمكن معه أن يكون هو نفسه لا يعلم به ولا يميزه ؟ فهو تعالى يرى ما عمله الانسان ويعلم ما ينويه بعمله ويميز كونه خيرا أو شرا وحسنه أو سيئة. قوله تعالى: " فلا اقتحم العقبة " الاقتحام الدخول بسرعة وضغط وشدة، والعقبة الطريق الصعب الوعر الذي فيه صعود من الجبل، واقتحام العقبة إشارة إلى الانفاق الذي

[ 293 ]

يشق على منفقه كما سيصرح به. وقيل: الجملة دعاء على الانسان القائل: أهلكت مالا لبدا، وليس بشئ. قوله تعالى: " وما أدراك ما العقبة " تفخيم لشأنها كما مر في نظائره. قوله تعالى: " فك رقبة " أي عتقها وتحريرها أو التقدير هي أي العقبة فك رقبة فالمراد بالعقبة نفس الفك الذي هو العمل واقتحامه الاتيان به، والاتيان بالعمل نفس العمل. وبه يظهر فساد قول بعضهم إن فك رقبة اقتحام للعقبة لا نفس العقبة فهناك مضاف محذوف يعود إليه الضمير والتقدير وما أدراك ما اقتحام العقبة هو - أي الاقتحام - فك رقبة. وما ذكر في بيان العقبة من فك الرقبة والاطعام في يوم ذي مسغبة من مصاديق نشر الرحمة خص بالذكر لمكان الاهمية، وقدم فك الرقبة وابتدئ به لكمال عناية الدين بفك الرقاب. قوله تعالى: " أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة " المسغبة المجاعة، والمقربة القرابة بالنسب، والمتربة من التراب ومعناها الالتصاق بالتراب من شدة الفقر، والمعنى أو إطعام في يوم المجاعة يتيما من ذي القربى أو مسكينا شديد الفقر. قوله تعالى: " ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة " المرحمة مصدر ميمي من الرحمة، والتواصي بالصبر وصية بعضهم بعضا بالصبر على طاعة الله والتواصي بالمرحمة وصية بعضهم بعضا بالرحمة على ذوي الفقر والفاقة والمسكنة. والجملة أعني قوله: " ثم كان " الخ معطوفة على قول: " اقتحم " والتقدير فلا اقتحم العقبة ولا كان من الذين آمنوا " الخ " وقيل فيها غير ذلك مما لا جدوى فيه. قوله تعالى: " أولئك أصحاب الميمنة " بمعنى اليمن مقابل الشؤم، والاشارة باولئك إلى ما يدل عليه السياق السابق أي الذين اقتحموا العقبة وكانوا من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر والمرحمة أصحاب اليمن لا يرون مما قدموه من الايمان وعملهم الصالح إلا أمرا مباركا جميلا مرضيا. وقيل: المراد بالميمنة جهة اليمين وأصحاب الميمنة هم الذين يؤتون كتابهم بيمينهم، ومقابلة الميمنة بالمشأمة لا تلائمه. قوله تعالى: " والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة " الآيات الآفاقية والانفسية آيات وأدلة عليه تعالى تدل على توحده في الربوبية والالوهية وسائر ما يتفرع عليه وردها كفر بها والكفر بها كفر بالله وكذا القرآن الكريم وآياته، وكذا ما نزل وبلغ من

[ 294 ]

طريق الرسالة. والظاهر أن المراد بالآيات مطلقها، والمشأمة خلاف الميمنة. قوله تعالى: " عليهم نار موصدة " أي مطبقة. (بحث روائي) في المجمع في قوله: " وأنت حل بهذا البلد ": قيل: معناه وأنت محل بهذا البلد وهو ضد المحرم، والمراد أنت حلال لك قتل من رأيت من الكفار، وذلك حين أمر بالقتال يوم فتح مكة فأحلها الله له حتى قاتل وقتل، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: لم يحل لاحد قبلي ولا يحل لاحد بعدي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار. عن ابن عباس ومجاهد وعطاء. وفيه في الآية وقيل: لا أقسم بهذا البلد وأنت حلال منتهك الحرمة مستباح العرض لا تحترم فلا تبقى للبلد حرمة حيث هتكت عن أبي مسلم وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. قال: كانت قريش تعظم البلد وتستحل محمدا فيه فقال: " لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد " يريد أنهم استحلوك فيه وكذبوه وشتموك، وكانوا لا يأخذ الرجل منهم فيه قاتل أبيه ويتقلدون لحاء شجر الحرم فيأمنون بتقلدهم إياه فاستحلوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يستحلوه من غيره فعاب الله ذلك عليهم. وفيه في قوله تعالى: " ووالد وما ولد ": قيل: آدم وما ولد من الانبياء والاوصياء واتباعهم. عن ابي عبد الله عليه السلام. أقول: والمعاني السابقة مروية من طرق أهل السنة في أحاديث موقوفة، وروى القمي في تفسيره الاخيرتين بالارسال والاضمار. وفي تفسير القمي " يقول أهلكت مالا لبدا " قال: اللبد المجتمع وفي المجمع في الآية قيل: هو الحارث بن نوفل بن عبد مناف وذلك أنه أذنب ذنبا فاستفتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمره أن يكفر فقال: لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات منذ دخلت في دين محمد، عن مقاتل. وفي المجمع أنه قيل لامير المؤمنين عليه السلام: إن أناسا يقولون في قوله: " وهديناه النجدين ": أنهما الثديان فقال: لا هما الخير والشر.

[ 295 ]

وفي اصول الكافي بإسناده عن حمزة بن محمد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله تعالى: " وهديناه النجدين " قال: نجد الخير والشر. أقول: وروى في الدر المنثور هذا المعنى بطرق عن علي عليه السلام وأنس وأبي أمامة وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورواه القمي في تفسيره مرسلا مضمرا. وفي الكافي بإسناده عن جعفر بن خلاد قال: كان أبو الحسن الرضا عليه السلام إذا أكل أتي بصحفة فتوضع قرب مائدته فيعمد إلى أطيب الطعام مما يؤتى به فيأخذ من كل شئ شيئا فيضع في تلك الصفحة ثم يأمر بها للمساكين ثم يتلو هذه الآية " فلا اقتحم العقبة ". ثم يقول: علم الله عزوجل أنه ليس كل إنسان يقدر على عتق رقبة فجعل لهم السبيل إلى الجنة وفي المجمع وروي مرفوعا عن البراء بن عازب قال: جاء أعرابي إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة قال: إن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة، أعتق النسمة وفك الرقبة، فقال أو ليسا واحدا ؟ قال: لا، عتق الرقبة أن يتفرد بعتقها وفك الرقبة أن يعين في ثمنها، والفئ على ذي الرحم الظالم. فإن لم يكن ذلك فأطعم الجائع وأسق الظمآن وامر بالمعروف وأنه عن المنكر فان لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " أو مسكينا ذا متربة " قال: لا يقيه من التراب شئ. (سورة الشمس مكية وهي ست عشرة آية) بسم الله الرحمن الرحيم والشمس وضحاها - 1. والقمر إذا تلاها - 2. والنهار إذا جلاها - 3. والليل إذا يغشاها - 4. والسماء وما بناها - 5. والارض وما طحاها - 6. ونفس وما سواها - 7. فألهمها فجورها وتقواها - 8. قد أفلح من زكاها - 9. وقد خاب من دساها - 10.

[ 296 ]

كذبت ثمود بطغواها - 11. إذ انبعث أشقاها - 12. فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها - 13. فكذبوه فعقروها - 14. فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها - 15. ولا يخاف عقباها - 16. (بيان) تذكر السورة أن فلاح الانسان - وهو يعرف التقوى والفجور بتعريف إلهي وإلهام باطني - أن يزكي نفسه وينميها إنماء صالحا بتحليتها بالتقوى وتطهيرها من الفجور، والخيبة والحرمان من السعادة لمن يدسيها، ويستشهد لذلك بما جرى على ثمود من عذاب الاستئصال لما كذبوا رسولهم صالحا وعقروا الناقة، وفي ذلك تعريض لاهل مكة، والسورة مكية بشهادة من سياقها. قوله تعالى: " والشمس وضحاها " في المفردات: الضحى انبساط الشمس وامتداد النهار وسمي الوقت به انتهى، والضمير للشمس، وفي الآية إقسام بالشمس وانبساط ضوئها على الارض. قوله تعالى: " والقمر إذا تلاها " عطف على الشمس والضمير لها وإقسام بالقمر حالكونه تاليا للشمس، والمراد بتلوه لها إن كان كسبه النور منها فالحال حال دائمة وإن كان طلوعه بعد غروبها فالاقسام به من حال كونه هلالا إلى حال تبدره. قوله تعالى: " والنهار إذا جلاها " التجلية الاظهار والابراز، وضمير التأنيث للارض، والمعنى وأقسم بالنهار إذا أظهر الارض للابصار. وقيل: ضمير الفاعل في " جلاها " للنهار وضمير المفعول للشمس، والمراد الاقسام بحال إظهار لنهار للشمس فإنها تنجلي وتظهر إذا انبسط النهار، وفيه أنه لا يلائم ما تقدمه فان الشمس هي المظهرة للنهار دون العكس. وقيل: الضمير المؤنث للدنيا، وقيل: للظلمة، وقيل: ضمير الفاعل لله تعالى وضمير المفعول للشمس، والمعنى وأقسم بالنهار إذا أظهر الله الشمس، وهى وجوه بعيدة. قوله تعالى: " والليل إذا يغشاها " أي يغطي الارض، فالضمير للارض كما في " جلاها "

[ 297 ]

وقيل: للشمس وهو بعيد فالليل لا يغطي الشمس وإنما يغطي الارض وما عليها. والتعبير عن غشيان الليل الارض بالمضارع بخلاف تجلية النارلها حيث قيل: " والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها " للدلالة على الحال ليكون فيه إيماء إلى غشيان الفجور الارض في الزمن الحاضر الذي هو أوأئل ظهور الدعوة الاسلامية لما تقدم أن بين هذه الاقسام وبين المقسم بها نوع اتصال وارتباط، هذا مضافا إلى رعاية الفواصل. قوله تعالى: " والسماء وما بناها والارض وما طحاها " طحو الارض ودحوها بسطها، و " ما " في " وما بناها " و " ماطحاها " موصولة، والذي بناها وطحاها هو الله تعالى والتعبير عنه تعالى بما دون من لايثار الابهام المفيد للتفخيم والتعجيب فالمعنى وأقسم بالسماء والشئ القوي العجيب الذي بناها وأقسم بالارض والشئ القوي العجيب الذي بسطها. وقيل: ما مصدرية والمعنى وأقسم بالسماء وبنائها والارض وطحوها، والسياق - وفيه قوله: " ونفس وما سواها فألهمها " الخ - لا يساعده. قوله تعالى: " ونفس وما سواها " أي واقسم بنفس والشئ ذي القدرة والعلم والحكمة الذي سواها ورتب خلقتها ونظم أعضاءها وعدل بين قواها. وتنكير " نفس " قيل: للتنكير، وقيل: للتفخيم ولا يبعد أن يكون التنكير للاشارة إلى أن لها وصفا وأن لها نبأ. والمراد بالنفس النفس الانسانية مطلقا وقيل: المراد بها نفس آدم عليه السلام ولا يلائمه السياق وخاصة قوله: " قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " إلا بالاستخدام على أنه لا موجب للتخصيص. قوله تعالى: " فألهمها فجورها وتقواها " الفجور - على ما ذكره الراغب - شق ستر الديانة فالنهي الالهي عن فعل أو عن ترك حجاب مضروب دونه حائل بين الانسان وبينه واقتراف المنهي عنه شق للستر وخرق للحجاب. والتقوى - على ما ذكره الراغب - جعل النفس في وقاية مما يخاف، والمراد بها بقرينة المقابلة في الآية بينها وبين الفجور التجنب عن الفجور والتحرز عن المنافي وقد فسرت في الرواية بأنها الورع عن محارم الله. والالهام الالقاء في الروع وهو إفاضته تعالى الصور العملية من تصور أو تصديق على النفس.

[ 298 ]

وتعليق الالهام على عنواني فجور النفس وتقواها للدلالة على أن المراد تعريفه تعالى للانسان صفة فعله من تقوى أو فجور وراء تعريفه متن الفعل بعنوانه الاولي المشترك بين التقوى والفجور كأكل المال مثلا المشترك بين أكل مال اليتيم الذي هو فجور وبين أكل مال نفسه الذي هو من التقوى، والمباشرة المشتركه بين الزنا وهو فجور والنكاح وهو من التقوى وبالجملة المراد أنه تعالى عرف الانسان كون ما يأتي به من فعل فجورا أو تقوى وميز له ما هو تقوى مما هو فجور. وتفريع الالهام على التسوية في قوله: " وما سواها فألهمها " الخ للاشارة إلى أن إلهام الفجور والتقوى وهو العقل العملي من تكميل تسوية النفس فهو من نعوت خلقتها كما قال تعالى: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " الروم: 30. وإضافة الفجور والتقوى إلى ضمير النفس للاشارة إلى أن المراد بالفجور والتقوى الملهمين الفجور والتقوى المختصين بهذه النفس المذكورة وهي النفس الانسانية ونفوس الجن على ما يظهر من الكتاب العزيز من كونهم مكلفين بالايمان والعمل الصالح. قوله تعالى: " قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " الفلاح هو الظفر بالمطلوب وإدراك البغية، والخيبة خلافه، والزكاة نمو النبات نموا صالحا ذا بركة والتزكية إنماؤه كذلك، والتدسى - وهو من الدس بقلب إحدى السينين ياء - إدخال الشئ في الشئ بضرب من الاخفاء، والمراد بها بقرينة مقابلة التزكية: الانماء على غير ما يقتضيه طبعها وركبت عليه نفسها. والآية أعني قوله: " قد أفلح " الخ جواب القسم، وقوله: " وقد خاب " الخ معطوف عليه. والتعبير بالتزكية والتدسى عن إصلاح النفس وافسادها مبتن على ما يدل عليه قوله: " فألهمها فجورها وتقواها " على أن من كمال النفس الانسانية أنها ملهمة مميزة - بحسب فطرتها - للفجور من التقوى أي أن الدين وهو الاسلام لله فيما يريده فطري للنفس فتحلية النفس بالتقوى تزكية وانماء صالح وتزويد لها بما يمدها في بقائها قال تعالى: " وتزودوا فان خير الزاد التقوى واتقون يا اولي الالباب " البقرة: 197 وأمرها في الفجور على خلاف التقوى.

[ 299 ]

قوله تعالى: " كذبت ثمود بطغواها " الطغوى مصدر كالطغيان، والباء للسببية. والآية وما يتلوها إلى آخر السورة استشهاد وتقرير لما تقدم من قوله " قد أفلح من زكاها " الخ. قوله تعالى: " إذ انبعث أشقاها " ظرف لقوله: " كذبت " أو لقوله: " بطغواها " والمراد بأشقى ثمود هو الذي عقر الناقة واسمه على ما في الروايات قدار بن سالف وقد كان انبعاثه ببعث القوم كما تدل عليه الآيات التالية بما فيها من ضمائر الجمع. قوله تعالى: " فقال لهم رسول الله ناقه الله وسقياها " المراد برسول الله صالح عليه السلام نبي ثمود، وقوله: " ناقه الله " منصوب على التحذير، وقوله: " وسقياها " معطوف عليه. والمعنى فقال لهم صالح برسالة من الله: احذروا ناقة الله وسقياها ولا تتعرضوا لها بقتلها أو منعها عن نوبتها في شرب الماء، وقد فصل الله القصة في سورة هود وغيرها. قوله تعالى: " فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها " العقر إصابة أصل الشئ ويطلق على نحر البعير والقتل، والدمدمة على الشئ الاطباق عليه يقال: دمدم عليه القبر أي أطبقه عليه والمراد شمولهم بعذاب يقطع دابرهم ويمحو أثرهم بسبب ذنبهم. وقوله: " فسواها " الظاهر أن الضمير لثمود باعتبار أنهم قبيلة أي فسواها بالارض أو هو تسوية الارض بمعنى تسطيحها واعفاء ما فيها من ارتفاع وانخفاض. وقيل: الضمير للدمدمة المفهومة من قوله: " فدمدم " والمعنى فسوى الدمدمة بينهم فلم يفلت منهم قوي ولا ضعيف ولا كبير ولا صغير. قوله تعالى: " ولا يخاف عقباها " الضمير للدمدمة أو التسوية، والواو للاستئناف أو الحال. والمعنى: ولا يخاف ربهم عاقبة الدمدمة عليهم وتسويتهم كما يخاف الملوك والاقوياء عاقبة عقاب أعدائهم وتبعته، لان عواقب الامور هي ما يريده وعلى وفق ما يأذن فيه فالآية قريبة المعنى من قوله تعالى: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " الانبياء: 23. وقيل: ضمير " لا يخاف " للاشقى، والمعنى ولا يخاف عاقر الناقة عقبى ما صنع بها. وقيل: ضمير " لا يخاف " لصالح وضمير " عقباها " للدمدمة والمعنى ولا يخاف صالح عقبى الدمدمة عليهم لثقته بالنجاة وضعف الوجهين ظاهر.

[ 300 ]

(بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " ونفس وما سواها " قال: خلقها وصورها. وفي المجمع وروى زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام في قوله تعالى: " فألهمها فجورها وتقواها " قال: بين لها ما يأتي وما يترك، وفي قوله تعالى: " قد أفلح من زكاها " قال: قد أفلح من أطاع " وقد خاب من دساها " قال: قد خاب من عصى. وفي الدر المنثور أخرج أحمد ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عمران بن حصين أن رجلا قال: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه شئ قد قضي عليهم ومضى عليهم في قدر قد سبق ؟ أو فيما يستقبلون به نبيهم واتخذت عليهم به الحجة ؟ قال: بل شئ قضي عليهم. قال: فلم يعملون إذا ؟ قال: من كان الله خلقه لواحدة من المنزلتين هيأه لعملها وتصديق ذلك في كتاب الله " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها " أقول: قوله: أو فيما يستقبلون الخ الظاهر أن الهمزة فيه للاستفهام والواو للعطف والمعنى وهل في طاعتهم لنبيهم قضاء من الله وقدر قد سبق ؟ وقوله: فلم يعملون إذا، أي فما معنى عملهم واستناد الفعل إليهم ؟ وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: من كان الله الخ معناه أن وجوب صدور الفعل حسنة أو سيئة منهم بالنظر إلى القضاء والقدر السابقين لا ينافي إمكان صدوره بالنظر إلى الانسان واختياره، وقد اتضح ذلك في الابحاث السابقة من الكتاب مرارا. وفيه أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " قد أفلح من زكاها " الآية أفلحت نفس زكاها الله وخابت نفس خيبها الله من كل خير. أقول: انتساب التزكية والتخييب إليه تعالى بوجه لا ينافي انتسابهما بالطاعة والمعصية إلى الانسان. وإنما ينتسب إلى الله سبحانه من الاضلال ما كان على طريق المجازاة كما قال: " وما يضل به إلا الفاسقين " البقرة: 26.

[ 301 ]

وفي المجمع وقد صحت الرواية بالاسناد عن عثمان بن صهيب عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب: من أشقى الاولين ؟ قال: عاقر الناقة. قال: صدقت فمن أشقى الآخرين ؟ قال: قلت: لا أعلم يا رسول الله. قال: الذي يضربك على هذه فأشار إلى يافوخه. أقول: وروى فيه هذا المعنى أيضا عن عمار بن ياسر. وفي تفسير البرهان: وروى الثعلبي والواحدي بإسنادهما عن عمار وعن عثمان بن صهيب وعن الضحاك وروى ابن مردويه بإسناده عن جابر بن سمرة وعن عمار وعن ابن عدي أو عن الضحاك وروى الخطيب في التاريخ عن جابر بن سمرة وروى الطبري والموصلي وروى أحمد عن الضحاك عن عمار أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي أشقى الاولين عاقر الناقة وأشقى الآخرين قاتلك، وفي رواية من يخضب هذه من هذا. (سورة الليل مكية وهي احدى وعشرون آية) بسم الله الرحمن الرحيم والليل إذا يغشى - 1. والنهار إذا تجلى - 2. وما خلق الذكر والانثى - 3. إن سعيكم لشتى - 4. فأما من أعطى واتقى - 5. وصدق بالحسنى - 6. فسنيسره لليسرى - 7. وأما من بخل واستغنى - 8. وكذب بالحسنى - 9. فسنيسره للعسرى - 10. وما يغني عنه ماله إذا تردى - 11. إن علينا للهدى - 12. وإن لنا للآخرة والاولى - 13. فأنذرتكم نارا تلظى - 14. لا يصلاها إلا الاشقى - 15. الذي كذب وتولى - 16. وسيجنبها الاتقى - 17. الذي يؤتي ماله يتزكى - 18. وما لاحد عنده من نعمة تجزى - 19. إلا ابتغاء وجه ربه الاعلى - 20. ولسوف يرضى - 21.

[ 302 ]

(بيان) غرض السورة الانذار وتسلك إليه بالاشارة إلى اختلاف مساعي الناس وأن منهم من أنفق واتقى وصدق بالحسنى فسيمكنه الله من حياة خالدة سعيدة ومنهم من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسيسلك الله به إلى شقاء العاقبة، وفي السورة اهتمام وعناية خاصة بأمر الانفاق المالي. والسورة تحتمل المكية والمدنيه بحسب سياقها. قوله تعالى: " والليل إذا يغشى " إقسام بالليل إذا يغشى النهار على حد قوله تعالى: " يغشي الليل النهار " الاعراف: 54، ويحتمل أن يكون المراد غشيانه الارض أو الشمس. قوله تعالى: " والنهار إذا تجلى " عطف على الليل، والتجلي ظهور الشئ بعد خفائه، والتعبير عن صفة الليل بالمضارع وعن صفة النهار بالماضي حيث قيل: " يغشى " و " تجلى " تقدم فيه وجه في تفسير أول السورة السابقة. قوله تعالى: " وما خلق الذكر والانثى " عطف على الليل كسابقة، و " ما " موصولة والمراد به الله سبحانه وإنما عبر بما، دون من، إيثارا للابهام المشعر بالتعظيم والتفخيم والمعنى وأقسم بالشئ العجيب الذي أوجد الذكر والانثى المختلفين على كونهما من نوع واحد. وقيل: ما مصدرية والمعنى وأقسم بخلق الذكر والانثى وهو ضعيف. والمراد بالذكر والانثى مطلق الذكر والانثى أينما تحققا، وقيل: الذكر والانثى من الانسان، وقيل: المراد بهما آدم وزوجته حواء، وأوجه الوجوه أولها. قوله تعالى: " إن سعيكم لشتى " السعي هو المشي السريع، والمراد به العمل من حيث يهتم به، وهو في معنى الجمع، وشتى جمع شتيت بمعنى المتفرق كمرضى جمع مريض. والجملة جواب القسم والمعنى أقسم بهذه المتفرقات خلقا وأثرا إن مساعيكم لمتفرقات في نفسها وآثارها فمنها إعطاء وتقوى وتصديق ولها أثر خاص بها، ومنها بخل واستغناء وتكذيب ولها أثر خاص بها. قوله تعالى: " فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى " تفصيل تفرق مساعيهم واختلاف آثارها. والمراد بالاعطاء إنفاق المال لوجه الله بقرينة مقابلته للبخل الظاهر في الامساك عن

[ 303 ]

إنفاق المال وقوله بعد: " وما يغني عنه ماله إذا تردى ". وقوله: " واتقى " كالمفسر للاعطاء يفيد أن المراد هو الاعطاء على سبيل التقوى الدينية. وقوله: " وصدق بالحسنى " الحسنى صفة قائمة مقام الموصوف والظاهر أن التقدير بالعدة الحسنى وهي ما وعد الله من الثواب على الانفاق لوجهه الكريم وهو تصديق البعث والايمان به ولازمه الايمان بوحدانيته تعالى في الربوبية والالوهية، وكذا الايمان بالرسالة فإنها طريف بلوغ وعده تعالى لثواب. ومحصل الآيتين أن يكون مؤمنا بالله ورسوله واليوم الآخر وينفق المال لوجه الله وابتغاء ثوابه الذي وعده بلسان رسوله. وقوله: " فسنيسره لليسرى " التيسير التهيئة والاعداد واليسرى الخصلة التى فيها يسر من غير عسر، وتوصيفها باليسر بنوع من التجوز فالمراد من تيسيره اليسرى توفيقه في للاعمال الصالحة وتسهيلها عليه من غير تعسير أو جعله مستعدا للحياة السعيدة عند ربه ودخول الجنة بسبب الاعمال الصالحة التي يأتي بها، والوجه الثاني أقرب وأوضح أنطباقا على ما هو المعهود من مواعد القرآن. قوله تعالى: " وأما من بخل وأستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وما يغني عنه ماله إذا تردى " البخل مقابل الاعطاء، والاستغناء طالب الغنى والثروة بالامساك والجمع، والمراد بالتكذيب بالحسنى الكفر بالعدة الحسنى وثواب الله الذي بلغه الانبياء والرسل ورجع إلى أنكار البعث. والمراد بتيسيره للعسرى خذلانه بعدم توفيقه للاعمال الصالحة، بتثقيلها عليه وعدم شرح صدره للايمان أو أعداده للعذاب. وقوله: " وما يغني عنه ماله إذا تردى " التردي هو السقوط من مكان عال ويطلق على الهلاك فالمراد سقوطه في حفرة القبر أو في جهنم أو هلاكه. و " ما " استفهامية أو نافية أي أي شيئ يغنيه ماله إذا مات وهلك أو ليس يغني عنه ماله إذا مات وهلك. قوله تعالى: " إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والاولى " تعليل لما تقدم من حديث تيسيره لليسرى وللعسرى أو الاخبار به بأوجز بيان، محصله أنا إنما نفعل هذا التيسير أو نبين هذا البيان لانه من الهدى والهدى علينا لا يزاحمنا في ذلك شئ ولا يمنعنا عنه مانع.

[ 304 ]

فقوله: " إن علينا للهدى " يفيد أن هدى الناس مما قضى سبحانه به وأوجبه على نفسه بمقتضى الحكمة وذلك أنه خلقهم ليعبدوه كما قال: " وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون " الذاريات: 56 فجعل عبادته غاية لخلقهم وجعلها صراطا مستقيما إليه كما قال: " إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم " آل عمران: " 51، وقال: " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله " الشورى: 53 وقضى على نفسه أن يبين لهم سبيله ويهديهم إليه بمعنى إراءة الطريق سواء سلكوها أم تركوها كما قال: " وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر " النحل: 9، وقال: " والله يقول الحق وهو يهدي السبيل " الاحزاب: 4 وقال: إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا " الانسان: 3 ولا ينافي ذلك قيام غيره تعالى بأمر هذا المعنى من الهدى بإذنه كالانبياء كما قال تعالى: " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " الشورى: 52، وقال: " قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني " يوسف: 108. وقد تقدم لهذه المسأله بيان عقلي في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب. هذا في الهداية بمعنى إراءة الطريق وأما الهداية بمعنى الايصال إلى المطلوب - والمطلوب في المقام الآثار الحسنة التي تترتب على الاهتداء بهدى الله والتلبس بالعبودية كالحياة الطيبة المعجلة في الدنيا والحياة السعيدة الابدية في الآخرة - فمن البين أنه من قبيل الصنع والايجاد الذي يختص به تعالى فهو مما قضى به الله وأوجبه على نفسه وسجله بوعده الحق قال تعالى: " فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى " طه: 123، وقال: " ومن عمل صالحا من " ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " النحل: 97، وقال: " والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا من أصدق من الله قيلا " النساء: 122. ولا ينافي انتساب هذا المعنى من الهداية إليه تعالى بنحو الاصالة انتسابه إلى غيره تعالى بنحو التبع بتخلل الاسباب بينه تعالى وبين ما ينسب إليه من الاثر بإذنه. ومعنى الآية - إن كان المراد بالهدى إراءة الطريق - أنا إنما نبين لكم ما نبين لانه من إراءة طريق العبودية وإراءة الطريق علينا، وإن كان المراد به الايصال إلى المطلوب أنا إنما نيسر هؤلاء لليسرى من الاعمال الصالحة أو من الحياة السهلة الابدية ودخول الجنة لانه من إيصال الاشياء إلى غاياتها وعلينا ذلك. وأما التيسير للعسرى فهو مما يتوقف عليه التيسير لليسرى " ليميز الله الخبيث من

[ 305 ]

الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعضه فيركمه جميعا فيجعله في جهنم " الانفال: 37 وقد قال سبحانه في القرآن الذي هو هدى للعالمين: " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " أسرى: 82. ويمكن أن يكون المراد به مطلق الهداية أعم من الهداية التكوينية الحقيقية والتشريعية الاعتبارية - على ما هو ظاهر إطلاق اللفظ - فله تعالى الهداية الحقيقية كما قال: " الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه: 50، والهداية الاعتبارية كما قال: " إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا " الانسان: 3. وقوله: " وإن لنا للآخرة والاولى " أي عالم البدء وعالم العود فكل ما يصدق عليه أنه شئ فهو مملوك له تعالى بحقيقة الملك الذي هو قيام وجوده بربه القيوم ويتفرع عليه الملك الاعتباري الذي من آثاره جواز التصرفات. فهو تعالى يملك كل شئ من كل جهة فلا يملك شئ منه شيئا فلا معارض يعارضه ولا مانع يمنعه ولا شئ يغلبه كما قال: " والله يحكم لا معقب لحكمه " الرعد: 41 وقال: " والله غالب على أمره " يوسف: 21، وقال " ويفعل الله ما يشاء " إبراهيم: 27. قوله تعالى: " فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الاشقى الذي كذب وتولى " تفريع على ما تقدم أي إذا كان الهدى علينا فأنذرتكم نار جهنم وبذلك يوجه ما في قوله: " فأنذرتكم " من الالتفات عن التكلم مع الغير إلى التكلم وحده أي إذا كان الهدى مقضية محتومة فالمنذر بالاصالة هو الله وإن كان بلسان رسوله. وتلظى النار تلهبها وتوهجها، والمراد بالنار التي تتلظى جهنم كما قال تعالى: " كلا إنها لظى " المعارج: 15. والمراد بالاشقى مطلق الكافر الذي يكفر بالتكذيب والتولي فإنه أشقى من سائر من شقي في دنياه فمن ابتلي في بدنه شقي ومن أصيب في ماله أو ولده مثلا شقي ومن خسر في أمر آخرته شقي والشقي في أمر آخرته أشقى من غيره لكون شقوته أبدية لا مطمع في التخلص منها بخلاف الشقوة في شأن من شؤون الدنيا فإنها مقطوعة لا محالة مرجوة الزوال عاجلا. فالمراد بالاشقى هو الكافر المكذب بالدعوه الحقة المعرض عنها على ما يدل عليه توصيفه بقوله: " الذي كذب وتولى " ويؤيده إطلاق الانذار، وأما الاشقى بمعنى أشقى

[ 306 ]

الناس كلهم فمما لا يساعد عليه السياق البتة. والمراد بصلي النار اتباعها ولزومها فيفيد معنى الخلود وهو مما قضى الله به في حق الكافر، قال تعالى: " والذين كفروا وكذبوا بآياتنا اولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " البقرة: 39. وبذلك يندفع ما قيل: إن قوله: " لا يصلاها إلا الاشقى " ينفي عذاب النار عن فساق المؤمنين على ما هو لازم القصر في الآية، وجه الاندفاع أن الآية إنما تنفي عن غير الكافر الخلود فيها دون أصل الدخول. قوله تعالى: " وسيجنبها الاتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لاحد عنده من نعمة تجزى " التجنيب التبعيد، وضمير " سيجنبها " للنار، والمعنى سيبعد عن النار الاتقى. والمراد بالاتقى من هو أتقى من غيره ممن يتقي المخاطر فهناك من يتقي ضيعة النفوس كالموت والقتل ومن يتقي فساد الاموال ومن يتقي العدم والفقر فيمسك عن بذل المال وهكذا ومنهم من يتقي الله فيبذل المال، وأتقى هؤلاء الطوائف من يتقي الله فيبذل المال لوجهه وإن شئت فقل يتقي خسران الآخرة فيتزكى بالاعطاء. فالمفضل عليه للاتقى هو من لا يتقي بإعطاء المال وإن اتقى سائر المخاطر الدنيوية أو اتقى الله بسائر الاعمال الصالحة. فالآية عامة بحسب مدلولها غير خاصة ويدل عليه توصيف الاتقى بقوله: " الذي يؤتي ماله " الخ وهو وصف عام وكذا ما يتلوه، ولا ينافي ذلك كون الآيات أو جميع السورة نازلة لسبب خاص كما ورد في أسباب النزول. وأما إطلاق المفضل عليه بحيث يشمل جميع الناس من طالح أو صالح ولازمه انحصار المفضل في واحد مطلقا أو واحد في كل عصر، ويكون المعنى وسيجنبها من هو أتقى الناس كلهم وكذا المعنى في نظيره: لا يصلاها إلا أشقى الناس كلهم فلا يساعد عليه سياق آيات صدر السورة، وكذا الانذار العام الذي في قوله: " فأنذرتكم نارا تلظى " فلا معنى لان يقال: أنذرتكم جميعا نارا لا يخلد فيها إلا واحد منكم جميعا ولا ينجو منها إلا واحد منكم جميعا. وقوله: " الذي يؤتي ماله يتزكى " صفة للاتقى أي الذي يعطي وينفق ماله يطلب بذلك أن ينمو نماء صالحا.

[ 307 ]

وقوله: " وما لاحد عنده من نعمة تجزى " تقرير لمضمون الآية السابقة أي ليس لاحد عنده من نعمة تجزى تلك النعمة بما يؤتيه من المال وتكافأ وإنما يؤتيه لوجه الله ويؤيد هذا المعنى تعقيبه بقوله: " إلا ابتغاء وجه ربه الاعلى ". فالتقدير من نعمة تجزى به، وإنما حذف الظرف رعاية للفواصل، ويندفع بذلك ما قيل: إن بناء " تجزى " للمفعول لان القصد ليس لفاعل معين. قوله تعالى: " إلا ابتغاء وجه ربه الاعلى " استثناء منقطع والمعنى ولكنه يؤتي ماله طلبا لوجه ربه الاعلى وقد تقدم كلام في معنى وجه الله تعالى وفي معنى الاسم الاعلى. قوله تعالى: " ولسوف يرضى " أي ولسوف يرضى هذا الاتقى بما يؤتيه ربه الاعلى من الاجر الجزيل والجزاء الحسن الجميل. وفي ذكر صفتي الرب والاعلى إشعار بأن ما يؤتاه من الجزاء أنعم الجزاء وأعلاه وهو المناسب لربوبيته تعالى وعلوه، ومن هنا يظهر وجه الالتفات في الآية السابقة في قوله: " وجه ربه الاعلى " من سياق التكلم وحده إلى الغيبة بالاشارة إلى الوصفين: ربه الاعلى. (بحث روائي) في الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم قال: قلت لابي جعفر عليه السلام: قول الله عزوجل " والليل إذا يغشى " " والنجم إذا هوى " وما أشبه ذلك ؟ فقال: إن لله عزوجل أن يقسم من خلقه بما شاء، وليس لخلقه أن يقسموا إلا به. أقول: ورواه في الفقيه بإسناده عن علي بن مهزيار عن أبي جعفر الثاني عليه السلام. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " والليل إذا يغشى " قال: حين يغشى النهار وهو قسم. وعن الحميري في قرب الاسناد عن أحمد بن محمد عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: سمعته يقول في تفسير " والليل إذا يغشى " إن رجلا كان لرجل في حائطه نخلة فكان يضر به فشكى ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعاه فقال: أعطني نخلتك بنخلة في الجنة فأبى فسمع ذلك رجل من الانصار يكنى أبا الدحداح فجاء إلى صاحب النخلة فقال: بعني نخلتك بحائطي فباعه فجاءه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله قد اشتريت نخلة فلان بحائطي فقال رسول الله: لك بدلها نخلة في الجنة. فأنزل الله تعالى على نبيه " وما خلق الزوجين الذكر والانثى إن سعيكم لشتى فأما

[ 308 ]

من أعطى " يعني النخلة " واتقى وصدق بالحسنى " هو ما عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسنيسره لليسرى - إلى قوله - تردى ". أقول: ورواه القمي في تفسيره مرسلا مضمرا، وقوله: " الزوجين تفسير منه عليه السلام للذكر والانثى. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وسيجنبها الاتقى " قال: أبو الدحداح. أقول: هذا ما من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام. وروى الطبرسي في مجمع البيان القصة عن الواحدي باسناده عن عكرمة عن ابن عباس وفيه أن الانصاري ساوم صاحب النخلة في نخلته ثم اشتراها منه بأربعين نخلة ثم وهبها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فوهبها النبي لصاحب الدار، ثم روى الطبرسي عن عطاء أن اسم الرجل أبو الدحداح، وروى السيوطي في الدر المنثور القصة عن ابن أبي حاتم عن ابن عباس وضعفه. وقد ورد من طرق أهل السنة أن السورة نزلت في أبي بكر قال الرازي في التفسير الكبير: أجمع المفسرون منا على أن المراد منه - يعني من الاتقى - ابو بكر، واعلم أن الشيعة بأسرهم ينكرون هذه الرواية، ويقولون إنما نزلت في حق علي بن أبي طالب والدليل عليه قوله تعالى: " ويؤتون الزكاة وهم راكعون " فقوله: " الاتقى الذي يؤتي ماله يتزكى " إشارة إلى ما في تلك الآية من قوله: " ويؤتون الزكاة وهم راكعون " ثم أخذ الاتقى بمعنى أفضل الخلق أي أتقى الناس جميعا وقد تقدم الكلام فيه. أما ما نسب إلى الشيعة بأسرهم من القول فالمعتمد عليه من طرقهم صحيح الحميرى المتقدم وما في معناه من الروايات الدالة على نزولها في أبي الدحداح الانصاري. نعم ورد في رواية ضعيفة عن البرقي عن اسماعيل بن مهران عن أيمن بن محرز عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام وفيها، وأما قوله: " وسيجنبها الاتقى " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن تبعه، و " الذي يؤتي ماله يتزكى " قال: ذاك أمير المؤمنين عليه السلام وهو قوله: " ويؤتون الزكاة وهم راكعون " وقوله: " وما لاحد عنده من نعمة تجزى " فهو رسول الله الذي ليس لاحد عنده من نعمة تجزى ونعمته جارية على جميع الخلق صلوات الله عليه. والرواية على ضعف (1) سندها من قبيل الجري والتطبيق دون التفسير ومن واضح الدليل عليه تطبيقه الموصوف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والوصف على علي عليه السلام ثم الآية


(1) أيمن بن محرز مجهول.

[ 309 ]

التالية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولو كانت من التفسير لفسد بذك النظم قطعا. هذا لو كانت الواو في قوله: " والذي يؤتي ماله يتزكى " من الرواية ولو فرضت من الآية كانت الرواية من روايات التحريف المردودة. وعن الحميري عن أحمد بن محمد عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال، قلت: قول الله تبارك وتعالى " إن علينا للهدى " قال: إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء. فقلت له: أصلحك الله إن قوما من أصحابنا يزعمون أن المعرفة مكتسبة وأنهم إن ينظروا من وجه النظر أدركوه. فأنكر ذلك وقال: ما لهؤلاء القوم لا يكتسبون الخير لانفسهم ؟ ليس أحد من الناس إلا ويجب أن يكون خيرا ممن هو خير منه هؤلاء بنو هاشم موضعهم موضعهم وقرابتهم قرابتهم وهم أحق بهذا الامر منكم أفترى أنهم لا ينظرون لانفسهم ؟ وقد عرفتم ولم يعرفوا. قال أبو جعفر: لو استطاع الناس لاحبونا. اقول: أما الهداية والمراد بها الايصال إلى المطلوب - فهي لله تعالى لانها من شؤون الربوبية، وأما إلاضلال والمراد به الاضلال على سبيل المجازاة دون الاضلال الابتدائي الذي لا يضاف إليه تعالى فهو الله أيضا لكونه إمساكا عن إنزال الرحمة وعدما للهداية وإذا كانت الهداية له فالامساك عنه أيضا منسوب إليه تعالى. (سورة الضحى مكية أو مدنية وهي احدى عشرة آية) بسم الله الرحمن الرحيم والضحى - 1. والليل إذا سجى - 2. ما ودعك ربك وما قلى - 3. وللآخرة خير لك من الاولى - 4. ولسوف يعطيك ربك فترضى - 5. ألم يجدك يتيما فآوى - 6. ووجدك ضالا

[ 310 ]

فهدى - 7. ووجدك عائلا فأغنى - 8. فأما اليتيم فلا تقهر - 9. وأما السائل فلا تنهر - 10. وأما بنعمة ربك فحدث - 11. (بيان) قيل: انقطع الوحي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أياما حتى قالوا: إن ربه ودعه فنزلت السورة فطيب الله بها نفسه، والسورة تحتمل المكية والمدنية. قوله تعالى: " والضحى والليل إذا سجى " إقسام، والضحى - على ما في المفردات - انبساط الشمس وامتداد النهار وسمي الوقت به، وسجو الليل سكونه وهو غشيان ظلمته. قوله تعالى: " ما ودعك ربك وما قلى " التوديع الترك، والقلى بكسر القاف البغض أو شدته، والآية جواب القسم، ومناسبة نور النهار وظلمة الليل لنزول الوحي وانقطاعه ظاهرة. قوله تعالى: " وللآخرة خير لك من الاولى " في معنى الترقي بالنسبة إلى ما تفيده الآية السابقة من كونه صلى الله عليه وآله وسلم على ما هو عليه من موقف الكرامة والعناية الالهية كأنه قيل: أنت على ما كنت عليه من الفضل والرحمة مادمت حيا في الدنيا وحياتك الآخرة خير لك من حياتك الدنيا. قوله تعالى: " ولسوف يعطيك ربك فترضى " تقرير وتثبيت لقوله: " وللآخرة خير لك من الاولى " وقد اشتمل الوعد على عطاء مطلق يتبعه رضى مطلق. وقيل: الآية ناظركة إلى الحياتين جميعا دون الحياة الآخرة فقط. قوله تعالى: " ألم يجدك يتيما فآوى " الآية وما يتلوها من الآيتين إشارة إلى بعض نعمه تعالى العظام عليه صلى الله عليه وآله فقد مات أبوه وهو في بطن امه ثم ماتت امه وهو ابن سنتين ثم مات جده الكفيل له وهو ابن ثمان سنين فكفله عمه ورباه. وقيل: المراد باليتيم الوحيد الذي لا نظير له في الناس كما يقال: در يتيم، والمعنى ألم يجدك وحيدا بين الناس فآوى الناس اليك وجمعهم حولك. قوله تعالى: " ووجدك ضالا فهدى " المراد بالضلال عدم الهداية والمراد بكونه صلى الله عليه وآله وسلم ضالا حاله في نفسه مع قطع النظر عن هدايته تعالى فلا هدى له صلى الله عليه وآله وسلم ولا لاحد من الخلق إلا بالله سبحانه فقد كانت نفسه في نفسها ضالة وإن كانت الهداية الالهية ملازمة لها منذ وجدت فالآية في معنى قوله تعالى: " ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان " الشورى:

[ 311 ]

52، ومن هذا الباب قول موسى على ما حكى الله عنه: " فعلتها إذا وأنا من الضالين " الشعراء: 20 أي لم أهتد بهدى الرسالة بعد. ويقرب منه ما قيل: إن المراد بالضلال الذهاب من العلم كما في قوله: " أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى " البقرة: 282، ويؤيده قوله: " وإن كنت من قبله لمن الغافلين " يوسف: 3. وقيل المعنى وجدك ضالا بين الناس لا يعرفون حقك فهداهم اليك ودلهم عليك. وقيل: إنه إشارة إلى ضلاله في طريق مكة حينما كانت تجئ به حليمة بنت أبي ذؤيب من البدو إلى جده عبد المطلب على ما روي. وقيل: إشارة إلى ما روي من ضلاله في شعاب مكة صغيرا. وقيل: إشارة إلى ما روي من ضلاله في مسيره إلى الشام مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة. وقيل: غير ذلك وهي وجوه ضعيفة ظاهرة الضعف. قوله تعالى: " ووجدك عائلا فأغنى " العائل الفقير الذي لا مال له وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم فقيرا لا مال له فأغناه الله بعد ما تزوج بخديجة بنت خويلد عليهما السلام فوهبت له مالها وكان لها مال كثير، وقيل المراد بالاغناء استجابة دعوته. قوله تعالى: " فأما اليتيم فلا تقهر " قال الراغب: القهر الغلبة والتذليل معا ويستعمل في كل واحد منهما، انتهى. قوله تعالى: " وأما السائل فلا تنهر " النهر هو الزجر والرد بغلظة. قوله تعالى: " وأما بنعمة ربك فحدث " التحديث بالنعمة ذكرها قولا وإظهارها فعلا وذلك شكرها، وهذه الاوامر عامة للناس وان كانت موجهة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والآيات الثلاث متفرعة على الآيات الثلاث التي تسبقها وتذكر نعمه تعالى عليه كأنه قيل: فقد وجدت ما يجده اليتيم من ذلة اليتيم وانكساره فلا تقهر اليتيم باستذلاله في نفسه أو ماله، ووجدت مرارة حاجة الضال إلى الهدى والعائل إلى الغنى فلا تزجر سائلا يسألك رفع حاجته إلى هدى أو معاش، ووجدت ان ما عندك نعمة أنعمها عليك ربك بجوده وكرمه ورحمته فاشكر نعمته بالتحديث بها ولا تسترها.

[ 312 ]

(بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " والضحى " قال: إذا ارتفعت الشمس ولليل إذا سجى " قال: إذا أظلم. وفيه في قوله تعالى: " وما قلى " قال: لم يبغضك. وفي الدر المنثور في قوله تعالى: " ولسوف يعطيك ربك فترضى " أخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا " ولسوف يعطيك ربك فترضى ". وفيه أخرج العسكري في المواعظ وابن لال وابن النجار عن جابر بن عبد الله قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاطمة وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من حلة الابل فلما نظر إليها قال: يا فاطمة تعجلي فتجرعي مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غدا فأنزل الله " ولسوف يعطيك ربك فترضى ". أقول: تحتمل الرواية نزول الآية وحدها بعد نزول بقية آيات السورة قبلها ثم الالحاق وتحتمل نزولها وحدها ثانيا. وفيه أخرج ابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية من طريق حرب بن شريح قال: قلت لابي جعفر محمد بن علي بن الحسين: أرأيت هذه الشفاعة التي يتحدث بها أهل العراق أحق هي ؟ قال: إي والله حدثني عمي محمد بن الحنفية عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أشفع لامتي حتى يناديني ربي: أرضيت يا محمد ؟ فأقول: نعم يا رب رضيت. ثم أقبل علي فقال: إنكم تقولون يا معشر أهل العراق، إن أرجى آية في كتاب الله: " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا " قلت: إنا لنقول ذلك، قال: فكلنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب الله " ولسوف يعطيك ربك فترضى " وفيه أخرج العسكري في المواعظ وابن لال وابن النجار عن جابر بن عبد الله قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاطمة وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من حلة الابل فلما نظر إليها قال: يا فاطمة تعجلي فتجرعي مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غدا فأنزل الله " ولسوف يعطيك ربك فترضى ". أقول: تحتمل الرواية نزول الآية وحدها بعد نزول بقية آيات السورة قبلها ثم الالحاق وتحتمل نزولها وحدها ثانيا. وفيه أخرج ابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية من طرق حرب بن شريح قال: قلت لابي جعفر محمد بن علي بن الحسين: أرأيت هذه الشفاعة التي يتحدث بها أهل العراق أحق هي ؟ قال: إي والله حدثني عمي محمد بن الحنفية عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أشفع لامتي حتى يناديني ربي: أرضيت يا محمد ؟ فأقول: تعم يا رب رضيت. ثم أقبل علي فقال: إنكم تقولون يا معشر أهل العراق، إن أرجى آية في كتاب الله: " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا " قلت: إنا لنقول ذلك، قال: فكلنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب الله " ولسوف يعطيك ربك فترضى " الشفاعة. وفي تفسير البرهان عن ابن بابويه باسناده عن ابن الجهم عن الرضا عليه السلام في مجلس المأمون قال: قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: " ألم يجدك يتيما فآوى " يقول: ألم يجدك وحيدا فآوى اليك الناس ؟ " ووجدك ضالا " يعني عند قومك " فهدى " أي هداهم إلى معرفتك ؟ " ووجدك عائلا فأغنى " يقول: أغناك بأن جعل دعاءك مستجابا ؟ فقال

[ 313 ]

المأمون: بارك الله فيك يابن رسول الله. وفيه عن البرقي باسناده عن عمرو بن أبي نصر قال: حدثني رجل من أهل البصرة قال: رأيت الحسين بن علي عليه السلام وعبد الله بن عمر يطوفان في البيت فسألت ابن عمر فقلت: قول الله تعالى: " وأما بنعمة ربك فحدث " قال: أمره أن يحدث بما أنعم الله عليه. ثم إني قلت للحسين بن علي عليه السلام: قول الله تعالى: " وأما بنعمة ربك فحدث " قال: أمره أن يحدث بما أنعم الله عليه من دينه. وفي الدر المثور عن البيهقي عن الحسن بن علي في قوله: " وأما بنعمة ربك فحدق " قال: إذا أصبت خيرا فحدث إخوانك. وفيه أخرج أبو داود عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أبلى بلاء فذكره فقد شكره ومن كتمه فقد كفره، ومن تحلى بما لم يغط فإنه كلابس ثوب زور. (سورة ألم نشرح مكية أو مدنية وهي ثمان آيات) بسم الله الرحمن الرحيم ألم نشرح لك صدرك - 1. ووضعنا عنك وزرك - 2. الذي أنقض ظهرك - 3. ورفعنا لك ذكرك - 4. فإن مع العسر يسرا - 5. إن مع العسر يسرا - 6. فإذا فرغت فانصب - 7. وإلى ربك فارغب - 8. (بيان) أمر بالنصب في الله والرغبة إليه توصل إليه بتقدمة الامتنان والسورة تحتمل المكية والمدنية وسياق آياتها أوفق للمدنية. وفي بعض الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أن الضحى وألم نشرح سورة

[ 314 ]

واحدة، ويروى ذلك أيضا عن طاوس وعمر بن عبد العزيز قال الرازي في التفسير الكبير بعد نقله عنهما: والذي دعاهما إلى ذلك هو أن قوله تعالى: " ألم نشرح لك " كالعطف على قوله: " ألم يجدك يتيما " وليس كذلك لان الاول كان نزوله حال اغتمام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من إيذاء الكفار فكانت حال محنة وضيق صدر، والثاني يقتضي أن يكون حال النزول منشرح الصدر طيب القلب فأنى يجتمعان انتهى. وفيه أن المراد بشرح صدره صلى الله عليه وآله وسلم في الآية جعله بحيث يسع ما يلقى إليه من الحقائق ولا يضيق بما ينزل عليه من المعارف وما يصيبه من أذى الناس في تبليغها كما سيجئ لا طيب القلب والسرور كما فسره. ويدل على ذلك ما رواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لقد سألت ربي مسألة وددت أني لم أسأله قلت: أي رب إنه قد كان أنبياء قبلي منهم من سخرت له الريح ومنهم من كان يحيي الموتى. قال: فقال: ألم أجدك يتيما فآويتك ؟ قال: قلت: بلى قال: ألم أجدك ضالا فهديتك ؟ قال: قلت: بلى أي رب. قال: ألم أشرح لك صدرك ووضعت عنك وزرك ؟ قال: قلت: بلى أي رب، وللكلام تتمة ستوافيك في تفسير سورة الايلاف إن شاء الله تعالى. قوله تعلى: " ألم نشرح لك صدرك " قال الراغب: أصل الشرح بسط اللحم ونحوه يقال: شرحت اللحم وشرحته ومنه شرح الصدر أي بسطته بنور إلهي وسكينة من جهة الله وروح منه قال تعالى: " رب اشرح لي صدري " " ألم نشرح لك صدرك " " فمن شرح الله صدره " انتهى. وترتب الآيات الثلاث الاول في مضامينها ثم تعليلها بقوله: " فإن مع العسر يسرا " الظاهر في الانطباق على حاله صلى الله عليه وآله وسلم في أوائل دعوته وأواسطها وأواخرها ثم تكرار التعليل ثم تفريع آيتي آخر السورة كل ذلك يشهد على كون المراد بشرح صدره صلى الله عليه وآله وسلم بسطه بحيث يسع ما يلقى إليه من الوحي ويؤمر بتبليغه وما يصيبه من المكاره والاذى في الله، وبعبارة اخرى جعل نفسه المقدسة مستعدة تامة الاستعداد لقبول ما يفاض عليها من جانب الله تعالى. قوله تعالى: " ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك " الوزر الحمل الثقيل، وإنقاض الظهر كسره بحيث يسمع له صوت كما يسمع من السرير ونحوه عند استقرار شئ ثقيل

[ 315 ]

عليه، والمراد به ظهور ثقل الوزر عليه ظهورا بالغا. ووضع الوزر إذهاب ما يحس من ثقله وجمله: " ووضعنا عنك وزرك " معطوفة على قوله: " ألم نشرح " الخ لما أن معناه قد شرحنا لك صدرك. والمراد بوضع وزره صلى الله عليه وآله وسلم على ما يفيده السياق - وقد أشرنا إليه - إنفاذ دعوته وإمضاء مجاهدته في الله بتوفيق الاسباب فإن الرسالة والدعوة وما يتفرع على ذلك هي الثقل الذي حمله إثر شرح صدره. وقيل: وضع الوزر إشارة إلى ما وردت به الرواية أن ملكين نزلا عليه وفلقا صدره وأخرجا قلبه وطهراه ثم رداه إلى محله وستوافيك روايته. وقيل: المراد بالوزر ما صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة، وقيل: غفلته عن الشرائع ونحوها مما يتوقف على الوحي مع تطلبه، وقيل: حيرته في بعض الامور كأداء حق الرسالة، وقيل: الوحي وثقله عليه في بادئ أمره، وقيل: ما كان يرى من ضلال قومه وعنادهم مع عجزه عن إرشادهم، وقيل: ما كان يرى من تعديهم ومبالغتهم في إيذائه، وقيل: همه لوفاة عمه أبي طالب وزوجه خديجة، وقيل: الوزر المعصية ورفع الوزر عصمته، وقيل: الوزر ذنب أمته ووضعه غفرانه. وهذه الوجوه بعضها سخيف وبعضها ضعيف لا يلائم السياق، وهي بين ما قيل به وبين ما احتمل احتمالا. قوله تعالى: " ورفعنا لك ذكرك " رفع الذكر إعلاؤه عن مستوى ذكر غيره من الناس وقد فعل سبحانه به ذلك، ومن رفع ذكره أن قرن الله اسمه صلى الله عليه وآله وسلم باسمه فاسمه قرين اسم ربه في الشهادتين اللتين هما أساس دين الله، وعلى كل مسلم أن يذكره مع ربه كل يوم في الصلوات الخمس المفروضة، ومن اللطف وقوع الرفع بعد الوضع في الآيتين. قوله تعالى: " فإن مع العسر يسرا " لا يبعد أن يكون تعليلا لما تقدم من وضع الوزر ورفع الذكر فما حمله الله من الرسالة وأمر به من الدعوة - وذلك أثقل ما يمكن لبشر أن يحمله - كان قد اشتد عليه الامر بذلك، وكذا تكذيب قومه دعوته واستخفافهم به وإصرارهم على إمحاء ذكره كان قد اشتد عليه فوضع الله وزره الذي حمله بتوفيق الناس لاجابة دعوته ورفع ذكره الذي كانوا يريدون إمحاءه وكان ذلك جريا على سنته تعالى في الكون من الاتيان باليسر بعد العسر فعلل رفع الشدة عنه صلى الله عليه وآله وسلم بما أشار إليه من

[ 316 ]

سنته، وعلى هذا فاللام في " العسر " للجنس دون الاستغراق ولعل السنة سنة تحول الحوادث وتقلب الاحوال وعدم دوامها. وعن الزمخشري في الكشاف أن الفاء في " فإن مع العسر " الخ فصيحة والكلام مسوق لتسليته صلى الله عليه وآله وسلم بالوعد الجميل. قال: كان المشركون يعيرون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالفقر والضيقة حتى سبق إلى ذهنه الشريف أنهم رغبوا عن الاسلام لافتقار أهله واحتقارهم فذكره سبحانه ما أنعم به عليه من جلائل النعم ثم قال: إن مع العسر يسرا كأنه قال: خولناك ما خولناك فلا تيأس من فضل الله فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسرا. وظاهره أن اللام في العسر للعهد دون الجنس وأن المراد باليسر ما رزقه الله المؤمنين بعد من الغنائم الكثيرة. وهو ممنوع فذهنه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم أجل من أن يخفى عليه حالهم وأنهم إنما يرغبون عن دعوته استكبارا على الحق واستعلاء على الله على أن القوم لم يرغبوا في الاسلام حتى بعد ظهور شوكته وإثراء المؤمنين وقد أياس الله نبيه من إيمان أكثرهم حيث قال: " لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون - إلى أن قال - وسواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " يس: 10 والآيات مكية وقال: إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " البقرة: 6 والآية مدنية. ولو حمل اليسر بعد العسر على شوكة الاسلام ورفعته بعد ضعته مع أخذ السورة مكية لم يكن به كثير بأس. قوله تعالى: " إن مع العسر يسرا " تكرار للتأكيد والتثبيت وقيل: استئناف وذكروا أن في الآيتين دلالة على أن مع العسر الواحد يسران بناء على أن المعرفة إذا أعيدت ثانية في الكلام كان المراد بها عين الاولى بخلاف النكرة كما أنه لو قيل: إذا اكتسبت الدرهم أو درهما فأنفق الدرهم كان المراد بالثاني هو الاول بخلاف ما لو قيل: إذا اكتسبت درهما فأنفق درهما وليست القاعدة بمطردة. والتنوين في " يسرا " للتنويع لا للتفخيم كما ذكره بعضهم، والمعية معيه التوالي دون المعية بمعنى التحقق في زمان واحد. قوله تعالى: " فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب " خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم متفرع

[ 317 ]

على ما بين قبل من تحميله الرسالة والدعوة ومنه تعالى عليه بما من من شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر وكل ذلك من اليسر بعد العسر. وعليه فالمعنى إذا كان العسر يأتي بعده اليسر والامر فيه إلى الله لا غير فإذا فرغت مما فرض عليك فاتعب نفسك في الله - بعبادته ودعائه - وارغب فيه ليمن عليك بما لهذا التعب من الراحة ولهذا العسر من اليسر. وقيل: المراد إذا فرغت من الفرائض فانصب في النوافل، وقيل: إذا فرغت من الصلاه فانصب في الدعاء، وما يتضمنه القولان بعض المصاديق. وقيل: المعنى إذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة وقيل: المراد إذا فرغت من دنياك فانصب في آخرتك وقيل غير ذلك وهي وجوه ضعيفة. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابى بن كعب أن أبا هريرة قال: يا رسول الله ما أول ما رأيت من أمر النبوة ؟ فاستوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسا وقال: لقد سألت أبا هريرة إني لفي صحراء ابن عشرين سنه وأشهرا إذا بكلام فوق رأسي وإذا رجل يقول لرجل: أهو هو ؟ فاستقبلاني بوجوه لم أرها لخلق قط، وأرواح لم أجدها في خلق قط وثياب لم أجدها على أحد قط فأقبلا إلي يمشيان حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي لا أجد لاحدهما مسا. فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه فأضجعني بلا قصر ولا هصر فقال أحدهما: أفلق صدره فحوى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع فقال له: أخرج الغل والحسد فأخرج شيئا كهيئة العلقة ثم نبذها فطرحها فقال له: أدخل الرأفة والرحمة فإذا مثل الذي أخرج شبه الفضة ثم هز ابهام رجلي اليمنى وقال: اغد وأسلم فرجعت بها أغدو بها رقة على الصغير ورحمة للكبير. أقول: وفي نقل بعضهم - كما في روح المعاني - ابن عشر حجج مكان قوله: ابن عشرين سنه وأشهرا، وفي بعض الروايات نقل القصة عند نزول سورة اقرء باسم ربك وفي بعضها كما في صحيح البخاري ومسلم والترمذي والنسائي نقل القصة عند أسراء النبي. والقصة على أي حال من قبيل التمثل بلا اشكال، وقد أطالوا البحث في توجيه ما

[ 318 ]

تتضمنه على أنها واقعة مادية فتمحلوا بوجوه لا جدوى في التعرض لها بعد فساد أصلها. وفيه أخرج أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أتاني جبرئيل فقال: ان ربك يقول: تدري كيف رفعت ذكرك ؟ قلت: الله أعلم قال: إذا ذكرت ذكرت معي. وفيه أخرج عبد الرزاق وابن جرير والحاكم والبيهقي عن الحسن قال: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما مسرورا وهو يضحك ويقول: لن يغلب عسر يسرين " ان مع العسر يسرا ان مع العسر يسرا ". وفي المجمع في قوله تعالى: " فإذا فرغت فانصب والى ربك فارغب " معناه فإذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك في الدعاء وارغب إليه في المسألة. قال: وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام. (سورة التين مكية وهي ثمان آيات) بسم الله الرحمن الرحيم والتين والزيتون - 1. وطور سينين - 2. وهذا البلد الامين - 3. لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم - 4. ثم رددناه أسفل سافلين - 5. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون - 6. فما يكذبك بعد بالدين - 7. أليس الله بأحكم الحاكمين - 8. (بيان) تذكر السورة البعث والجزاء وتسلك إليه من طريق خلق الانسان في أحسن تقويم ثم اختلافهم بالبقاء على الفطرة الاولى وخروجهم منها بالانحطاط إلى أسفل سافلين ووجوب التمييز بين الطائفتين جزاء باقتضاء الحكمة.

[ 319 ]

والسورة مكية وتحتمل المدنية ويؤيد نزولها بمكة قوله: " وهذا البلد الامين " وليس بصريح فيه لاحتمال نزولها بعد الهجرة وهو صلى الله عليه وآله وسلم بمكة. قوله تعالى: " والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الامين " قيل: المراد بالتين والزيتون الفاكهتان المعروفتان أقسم الله بهما لما فيهما من الفوائد الجمة والخواص النافعة، وقيل المراد بهما شجرتا التين والزيتون، وقيل: المراد بالتين الجبل الذي عليه دمشق وبالزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس، ولعل اطلاق اسم الفاكهتين على الجبلين لكونهما منبتيهما ولعل الاقسام بهما لكونهما مبعثي جم غفير من الانبياء وقيل غير ذلك. والمراد بطور سينين الجبل الذي كلم الله تعالى فيه موسى بن عمران عليه السلام، ويسمى أيضا طور سيناء. والمراد بهذا البلد الامين مكة المشرفة لان الامن خاصة مشرعة للحرم وهي فيه قال تعالى: " أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا " العنكبوت: 67 وفي دعاء ابراهيم عليه السلام على ما حكى الله عنه: " رب اجعل هذا بلدا آمنا " البقرة: 126، وفي دعائه ثانيا: رب اجعل هذا البلد آمنا " إبراهيم: 35. وفي الاشارة بهذا إلى البلد تثبيت التشريف عليه بالتشخيص وتوصيفه بالامين إما لكونه فعيلا بمعنى الفاعل ويفيد معنى النسبة والمعنى ذي الامن كاللابن والتامر وإما لكونه فعيلا بمعنى المفعول والمراد البلد الذي يؤمن الناس فيه أي لا يخاف فيه من غوائلهم ففي نسبة الامن إلى البلد نوع تجوز. قوله تعالى: " لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم " جواب للقسم والمراد بكون خلقه في أحسن تقويم اشتمال التقويم عليه في جميع شؤونه وجهات وجوده، والتقويم جعل الشئ ذا قوام وقوام الشئ ما يقوم به ويثبت فالانسان والمراد به الجنس ذو أحسن قوام بحسب الخلقة. ومعنى كونه ذا أحسن قوام بحسب الخلقة على ما يستفاد من قوله بعد: " ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين " الخ صلوحه بحسب الخلقة للعروج إلى الرفيع الاعلى والفوز بحياة خالدة عند ربه سعيدة لا شقوة معها، وذلك بما جهزه الله به من العلم النافع ومكنه منه من العمل الصالح قال تعالى: " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها " الشمس: 8 فإذا آمن بما علم وزاول صالح العمل رفعه الله إليه كما قال: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " فاطر: 10، وقال: " ولكن يناله التقوى منكم " الحج: 37.

[ 320 ]

وقال: " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات " المجادلة: 11 وقال: " فاولئك لهم الدرجات العلى " طه: 75 إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ارتفاع مقام الانسان وارتقائه بالايمان والعمل الصالح عطاء من الله غير مجذوذ، وقد سماه تعالى أجرا كما يشير إليه قوله الآتي: " فلهم أجر غير ممنون ". قوله تعالى: " ثم رددناه أسفل سافلين " ظاهر الرد أن يكون بمعناه المعروف فأسفل منصوب بنزع الخافض، والمراد بأسفل سافلين مقام منحط هو أسفل من سفل من أهل الشقوة والخسران والمعنى ثم رددنا الانسان إلى أسفل من سفل من أهل العذاب. واحتمل أن يكون الرد بمعنى الجعل أي جعلناه أسفل سافلين، وأن يكون بمعنى التغيير والمعنى ثم غيرناه حال كونه أسفل جمع سافلين، والمراد بالسفالة على أي حال الشقاء والعذاب. وقيل: المراد بخلق الانسان في أحسن تقويم ما عليه وجوده أوان الشباب من استقامة القوى وكمال الصورة وجمال الهيئة، وبرده إلى أسفل سافلين رده إلى الهرم بتضعيف قواه الظاهره والباطنة ونكس خلقته فتكون الآية في معنى قوله تعالى: " ومن نعمره ننكسه في الخلق " يس: 68. وفيه أنه لا يلائمه ما في قوله: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " من الاستثناء الظاهر في المتصل فان حكم الخلق عام في المؤمن والكافر والصالح والطالح ودعوى أن المؤمن أو المؤمن الصالح مصون من ذلك مجازفة. وكذا القول بأن المراد بالانسان هو الكافر والمراد بالرد رده إلى جهنم أو إلى نكس الخلق والاستثناء منقطع. قوله تعالى: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون " أي غير مقطوع استثناء متصل من جنس الانسان، وتفريع قوله: " فلهم أجر غير ممنون " عليه يؤيد كون المراد من رده إلى أسفل سافلين رده إلى الشقاء والعذاب. قوله تعالى: " فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين " الخطاب للانسان باعتبار الجنس، وقيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد غيره، و " ما " استفهامية توبيخية، و " بالدين " متعلق بيكذبك، والدين الجزاء والمعنى - على ما قيل - ما الذي يجعلك مكذبا بالجزاء يوم القيامة بعد ما جعلنا الانسان طائفتين طائفة مردودة إلى أسفل سافلين وطائفة مأجورة اجرا غير ممنون.

[ 321 ]

وقوله: " أليس الله بأحكم الحاكمين " الاستفهام للتقرير وكونه تعالى أحكم الحاكمين هو كونه فوق كل حاكم في إتقان الحكم وحقيته ونفوذه من غير اضطراب ووهن وبطلان فهو تعالى يحكم في خلقه وتدبيره بما من الواجب في الحكمة أن يحكم به الناس من حيث الاتقان والحسن والنفوذ وإذا كان الله تعالى أحكم الحاكمين والناس طائفتان مختلفتان اعتقادا وعملا فمن الواجب في الحكمة أن يميز بينهم بالجزاء في حياتهم الباقية وهو البعث. فالتفريع في قوله: " فما يكذبك بعد بالدين " من قبيل تفريع النتيجة على الحجة وقوله: " أليس الله بأحكم الحاكمين " تتميم للحجة المشار إليها بما يتوقف عليه تمامها. والمحصل أنه إذا كان الناس خلقوا في أحسن تقويم ثم اختلفوا فطائفة خرجت عن تقويمها الاحسن وردت إلى أسفل سافلين وطائفة بقيت في تقويمها الاحسن وعلى فطرتها الاولى والله المدبر لامرهم أحكم الحاكمين، ومن الواجب في الحكمة أن تختلف الطائفتان جزاء، فهناك يوم تجزى فيه كل طائفة بما عملت ولا مسوغ للتكذيب به. فالآيات - كما ترى - في معنى قوله تعالى: " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار " ص: 28، وقوله: " أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون " الجاثية: 21. وبعض من جعل الخطاب في قوله: " فما يكذبك " للنبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل " ما " بمعنى من والحكم بمعنى القضاء، وعليه فالمعنى إذا كان الناس مختلفين ولازم ذلك اختلاف جزائهم في يوم معد للجزاء فمن الذي ينسبك إلى الكذب بالجزاء أليس الله بأقضى القاضين فهو يقضي بينك وبين المكذبين لك بالدين. وأنت خبير بأن فيه تكلفا من غير موجب. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الامين " التين المدينة والزيتون بيت المقدس وطور سينين الكوفة وهذا البلد الامين مكة. أقول: وقد ورد هذا المعنى في بعض الروايات عن موسى بن جعفر عن آبائه عليه

[ 322 ]

السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يخلو من شئ، وفي بعضها ان التين والزيتون الحسن والحسين والطور علي والبلد الامين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس من التفسير في شئ. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن خزيمه بن ثابت وليس بالانصاري سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن البلد الامين فقال: مكة. (سورة العلق مكية وهي تسع عشرة آية) بسم الله الرحمن الرحيم إقرء باسم ربك الذي خلق - 1. خلق الانسان من علق - 2. إقرء وربك الاكرم - 3. الذي علم بالقلم - 4. علم الانسان ما لم يعلم - 5. كلا إن الانسان ليطغى - 6. أن رآه استغنى - 7. إن إلى ربك الرجعى - 8. أرأيت الذي ينهى - 9. عبدا إذا صلى - 10. أرأيت إن كان على الهدى - 11. أو أمر بالتقوى - 12. أرأيت إن كذب وتولى - 13. ألم يعلم بأن الله يرى - 14. كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية - 15. ناصية كاذبة خاطئة - 16. فليدع ناديه - 17. سندع الزبانية - 18. كلا لا تطعه واسجد واقترب - 19. (بيان) أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلقي القرآن بالوحي منه تعالى وهى أول سورة نزلت من القرآن، وسياق آياتها لا يأبى نزولها دفعة واحدة كما سنشير إليه، وهي مكية قطعا. قوله تعالى: " اقرء باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق " قال الراغب: والقراءة ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل، وليس يقال ذلك لكل

[ 323 ]

جمع لا يقال: قرأت القوم إذا جمعتهم، ويدل على ذلك أنه لا يقال: للحرف الواحد إذا تفوه به: قراءة انتهى. وعلى أي حال، يقال: قرأت الكتاب إذا جمعت ما فيه من الحروف والكلمات بضم بعضها إلى بعض في الذهن وإن لم تتلفظ بها، ويقال: قرأته إذا جمعت الحروف والكلمات بضم بعضها إلى بعض في التلفظ، ويقال قرأته عليه إذا جمعت بين حروفه وكلماته في سمعه ويطلق عليها بهذا المعنى التلاوة أيضا قال تعالى: " رسول من الله يتلو صحفا مطهرة " البينة: 2. وظاهر إطلاق قوله: " اقرء " المعنى الاول والمراد به الامر بتلقي ما يوحيه إليه ملك الوحي من القرآن فالجملة أمر بقراءة الكتاب وهي من الكتاب كقول القائل في مفتتح كتابه لمن أرسله إليه: اقرء كتابي هذا واعمل به فقوله هذا أمر بقراءة الكتاب وهو من الكتاب. وهذا السياق يؤيد أولا ما ورد أن الآيات اول ما نزل من القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وثانيا أن التقدير اقرء القرآن أو ما في معناه، وليس المراد مطلق القراءة باستعمال " اقرء " استعمال الفعل اللازم بالاعراض عن المفعول، ولا المراد القراءة على الناس بحذف المتعلق وإن كان ذلك من أغراض النزول كما قال: " وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا " أسرى: 106، ولا أن قوله: " باسم ربك " مفعول " اقرء " والباء زائدة والتقدير اقرء اسم ربك أي بسمل. وقوله: " باسم ربك " متعلق بمقدر نحو مفتتحا ومبتدء أو باقرء والباء للملابسة ولا ينافي ذلك كون البسملة المبتداة بها السورة جزء من السورة فهي من كلام الله افتتح سبحانه بها وأمر أن يقرء مبتدء بها كما أمر أن يقرء قوله: " اقرء باسم " الخ ففيه تعليم بالعمل نظير الامر بالاستثناء في قوله: " ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله " الكهف: 24 فافهم ذلك. وفي قوله: " ربك الذي خلق " إشارة إلى قصر الربوبية في الله عز اسمه وهو توحيد الربوبية المقتضية لقصر العبادة فيه فإن المشركين كانوا يقولون: إن الله سبحانه ليس له إلا الخلق والايجاد وأما الربوبية وهي الملك والتدبير فلمقربي خلقه من الملائكة والجن والانس فدفعه الله بقوله: " ربك الذي خلق " الناص على أن الربوبية والخلق له وحده. وقوله: " خلق الانسان من علق " المراد جنس الانسان المتناسل والعلق الدم المنجمد

[ 324 ]

والمراد به ما يستحيل إليه النطفة في الرحم. ففي الآية إشارة إلى التدبير الالهي الوارد على الانسان من حين كان علقة إلى حين يصير إنسانا تاما كاملا له من أعاجيب الصفات والافعال ما تتحير فيه العقول فلم يتم الانسان إنسانا ولم يكمل إلا بتدبير متعاقب منه تعالى وهو بعينه خلق بعد خلق فهو تعالى رب مدبر لامر الانسان بعين أنه خالق له فليس للانسان إلا أن يتخذه وحده ربا ففي الكلام احتجاج على توحيد الربوبية. قوله تعالى: " اقرء وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم " أمر بالقراءة ثانيا تأكيدا للامر الاول على ما هو ظاهر سياق الاطلاق. وقيل: المراد به الامر بالقراءة على الناس وهو التبليغ بخلاف الامر الاول فالمراد به الامر بالقراءة لنفسه، كما قيل: إن المراد بالامرين جميعا الامر بالقراءة على الناس، والوجهان غير ظاهرين. وقوله: " وربك الاكرم " أي الذي يفوق عطاؤه عطاء ما سواه فهو تعالى يعطي لا عن استحقاق وما من نعمة إلا وينتهي إيتاؤها إليه تعالى. وقوله: " الذي علم بالقلم " الباء للسببية أي علم القراءة أو الكتابة والقراءة بواسطة القلم والجملة حالية أو استئنافية، والكلام مسوق لتقوية نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإزالة القلق والاضطراب عنها حيث أمر بالقراءة وهو امي لا يكتب ولا يقرء كأنه قيل: اقرء كتاب ربك الذي يوحيه اليك ولا تخف والحال أن ربك الاكرم الذي علم الانسان القراءة بواسطة القلم الذي يخط به فهو قادر على أن يعلمك قراءة كتابه وأنت امي وقد أمرك بالقراءة ولو لم يقدرك عليها لم يأمرك بها. ثم عمم سبحانه النعمة فذكر تعليمه للانسان ما لم يعلم فقال: " علم الانسان ما لم يعلم " وفيه مزيد تقوية لقلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتطييب لنفسه. والمراد بالانسان الجنس كما هو ظاهر السياق وقيل: المراد به آدم عليه السلام، وقيل: إدريس عليه السلام لانه أول من خط بالقلم، وقيل: كل نبي كان يكتب وهي وجوه ضعيفة بعيدة عن الفهم. قوله تعالى: " كلا إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى " ردع عما يستفاد من الآيات السابقة أنه تعالى أنعم على الانسان بعظائم نعم مثل التعليم بالقلم وسائر ما علم والتعليم

[ 325 ]

من طريق الوحي فعلى الانسان أن يشكره على ذلك لكنه يكفر بنعمته تعالى ويطغى. وقوله: " إن الانسان ليطغى " أن يتعدى طوره، وهو إخبار بما في طبع الانسان ذلك كقوله: " إن الانسان لظلوم كفار " إبراهيم: 34. وقوله: " أن رآه استغنى " من الرأي دون الرؤية البصرية، وفاعل " رآه " ومفعوله الانسان. وجملة " أن رآه استغنى " في مقام التعليل أي ليطغى لانه يعتقد نفسه مستغنيا عن ربه المنعم عليه فيكفر به، وذلك أنه يشتغل بنفسه والاسباب الظاهرية التي يتوصل بها إلى مقاصده فيغفل عن ربه من غير أن يرى حاجة منه إليه تبعثه إلى ذكره وشكره على نعمه فينساه ويطغى. قوله تعالى: " إن إلى ربك الرجعى " الرجعى هو الرجوع والظاهر من سياق الوعيد الآتي أنه وعيد وتهديد بالموت والبعث، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل: الخطاب للانسان بطريق الالتفات للتشديد، والاول أظهر. قوله تعالى: " أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أرأيت إن كذب وتولى ألم يعلم بأن الله يرى " بمنزلة ذكر بعض المصاديق للانسان الطاغي وهو كالتوطئة لوعيده بتصريح العقاب والنهي عن طاعته والامر بعبادته تعالى، والمراد بالعبد الذي كان يصلي هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما يستفاد من آخر الآيات حيث ينهاه صلى الله عليه وآله وسلم عن طاعة ذلك الناهي ويأمره بالسجود والاقتراب. وسياق الآيات - على تقدير كون السورة أول ما نزل من القرآن ونزولها دفعة واحدة - يدل على صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل نزول القرآن وفيه دلالة على نبوته قبل رسالته بالقرآن. وأما ما ذكره بعضهم أنه لم يكن الصلاة مفروضة في أول البعثة وإنما شرعت ليلة المعراج على ما في الاخبار وهو قوله تعالى: " أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر " أسرى: 78. ففيه أن المسلم من دلالتها أن الصلوات الخمس اليومية إنما فرضت بهيئتها الخاصة ركعتين ركعتين ليلة المعراج ولا دلالة فيها على عدم تشريعها قبل وقد ورد في كثير من السور المكية ومنها النازلة قبل سورة الاسراء كالمدثر والمزمل وغيرهما ذكر الصلاة بتعبيرات مختلفة وإن لم يظهر فيها من كيفيتها إلا أنها كانت مشتملة على تلاوة شئ من القرآن والسجود.

[ 326 ]

وقد ورد في بعض الروايات صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع خديجة وعلي في أوائل البعثة وإن لم يذكر كيفية صلاتهم. وبالجملة قوله: " أرأيت " بمعنى أخبرني، والاستفهام للتعجيب، والمفعول الاول لقوله: " أرأيت " الاول قوله: " الذي ينهى " ولا رأيت الثالث ضمير عائد إلى الموصول، ولا رأيت الثاني ضمير عائد إلى قوله: " عبدا " والمفعول الثاني لارأيت في المواضع الثلاث قوله: " ألم يعلم بأن الله يرى ". ومحصل معنى الآيات أخبرني عن الذي ينهى عبدا إذا صلى وعبد الله الناهي يعلم ان الله يرى ما يفعله كيف يكون حاله. اخبرني عن هذا الناهي ان كان ذاك العبد المصلي على الهدى أو أمر بالتقوى كيف يكون حال هذا الناهي وهو يعلم أن الله يرى. أخبرني عن هذا الناهي ان تلبس بالتكذيب للحق والتولي عن الايمان به ونهى العبد المصلي عن الصلاة وهو يعلم أن الله يرى ؟ هل يستحق الا العذاب ؟ وقيل: المفعول الاول لارأيت في جميع المواضع الثلاث هو الموصول أو الضمير العائد إليه تحرزا عن التفكيك بين الضمائر. والاولى على هذا أن يجعل معنى قوله: " أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى " أخبرني عن هذا الناهي إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى وهو يعلم أن الله يرى ماذا كان يجب عليه أن يفعله ويأمر به ؟ وكيف يكون حاله وقد نهى عن عبادة الله سبحانه ؟ وهو مع ذلك معنى بعيد ولا بأس بالتفكيك بين الضمائر مع مساعدة السياق وإعنانة القرائن. وقوله: " ألم يعلم بأن الله يرى " المراد به العلم على طريق أستلزام فأن لازم الاعتقاد بأن الله خالق كل شئ هو الاعتقاد بأن له علما بكل شئ وإن غفل عنه وقد كان الناهي وثنيا مشركا والوثنية معترفون بأن الله هو خالق كل شئ وينزهونه عن صفات النقص فيرون أنه تعالى لا يجهل شيئا ولا يعجز عن شئ وهكذا. قوله تعالى: " كلا لان لم ينته لنسفعن بالناصية ناصية كاذبة خاطئة " قال في المجمع: والسفع الجذب الشديد يقال: سفعت بالشئ إذا قبضت عليه وجذبته جذبا شديدا. انتهى، وفي توصيف الناصية بالكذب والخطأ وهما وصفا صاحب الناصية مجاز. وفي الكلام ردع وتهديد شديد، والمعنى ليس الامر كما يقول ويريد أو ليس له ذلك.

[ 327 ]

أقسم لان لم يكف عنه نهيه ولم ينصرف لنأخذن بناصيته أخذ الذليل المهان ونجذبنه إلى العذاب تلك الناصية التي صاحبها كاذب فيما يقول خاطئ فيما يفعل، وقيل: المعنى لنسمن ناصيته بالنار ونسودنها. قوله تعالى: " فاليدع ناديه سندعوا الزبانية " النادي المجلس وكأن المراد ما به أهل المجلس أي الجمع الذي يجتمع بهم، وقيل: الجليس، والزبانية الملائكة الموكلون بالنار، وقيل: الزبانية في كلامهم الشرط، ولامر تعجيزي أشير به إلى شدة الاخذ والمعنى فليدع هذا الناهي جمعه لينجوه منها سندع الزبانية الغلاظ الشداد الذين لا ينفع معهم نصر ناصر. قوله تعالى: " كلا لا تطع واسجد وأقترب " تكرار الردع للتأكيد، وقوله: " لا تطعه " أي لا تطعه في النهي عن الصلاة وهي القرينة على أن المراد بالسجود الصلاة، ولعل الصلاة التي كان صلى الله عليه وآله وسلم يأتي بها يومئذ كانت تسبيحه تعالى والسجود له وقيل: المراد به السجود لقراءة هذه السورة التي هي إحدى العزائم الاربع في القرآن. ولاقتراب التقرب إلى الله، وقيل: الاقتراب من ثواب الله تعالى. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج عن عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وابن جرير وابن الانباري في المصاحف وابن مردويه والبيهقي من طريق ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة ام المؤمنين أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرء قال: قلت: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرء فقلت: ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرء فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرء باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرء وربك الاكرم الذي علم بالقلم الآية.

[ 328 ]

فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة: كلا ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب (1) المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق (2). فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان امرء قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الانجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت له خديجة: يا بن عم اسمع من ابن اخيك. فقال له ورقة. يا بن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رآى فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى ! يا ليتني أكون فيها جذعا يا ليتني أكون فيها حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم ؟ قال: نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي. قال ابن شهاب: وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمان أن جابر بن عبد الله الانصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسى بين السماء والارض فرعبت منه فرجعت فقلت: زملوني زملوني فأنزل الله: يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر فحمي الوحي وتتابع. وفيه أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وأبو نعيم في الدلائل عن عبد الله بن شداد قال: أتى جبريل محمدا صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد اقرء. قال: وما اقرء فضمه ثم قال: يا محمد اقرء. قال: وما اقرء. قال: اقرء باسم ربك الذي خلق. حتى بلغ " ما لم يعلم ". فجاء إلى خديجة فقال: يا خديجة ما أراه إلا قد عرض لي قالت: كلا والله ما كان ربك يفعل ذلك بك وما أتيت فاحشة قط فأتت خديجة ورقة فأخبرته الخبر قال: لئن كنت صادقة إن زوجك لنبي وليلقين من أمته شدة ولئن أدركته لاؤمنن به. قال: ثم أبطأ عليه جبريل فقالت خديجة: ما أرى ربك إلا قد قلاك فأنزل الله


(1) تكسى ط. (2) الخلق ط.

[ 329 ]

" والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى ". أقول: وفي رواية أن الذي ألقاه جبريل سورة الحمد. والقصة لا تخلو من شئ وأهون ما فيها من الاشكال شك النبي صلى الله عليه وسلم في كون ما شاهده وحيا إلهيا من ملك سماوي ألقى إليه كلام الله وتردده بل ظنه أنه من مس الشياطين بالجنون، وأشكل منه سكون نفسه في كونه نبوة إلى قول رجل نصراني مترهب وقد قال تعالى: " قل إني على بينة من ربي " الانعام: 57 وأي حجة بينة في قول ورقة ؟ وقال تعالى: " قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني " فهل بصيرته صلى الله عليه وسلم هي سكون نفسه إلى قول ورقة ؟ وبصيرة من اتبعه سكون أنفسهم إلى سكون نفسه إلى ما لا حجة فيه قاطعة ؟ وقال تعالى: " إنا أوحينا اليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " النساء: 163 فهل كان اعتمادهم في نبوتهم على مثل ما تقصه هذه القصة ؟ والحق أن وحي النبوة والرسالة يلازم اليقين من النبي والرسول بكونه من الله تعالى على ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام. وفي المجمع في قوله: " أرأيت الذي ينهى " الآية إن ابا جهل قال: هل يعفر محمد وجهه بين اظهركم ؟ قالوا: نعم. قال: فبالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لاطأن رقبته فقيل له: ها هو ذلك يصلي فانطلق ليطأ على رقبته فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه فقالوا: مالك يا ابا الحكم ؟ قال: إن بيني وبينه خندقا من نار وهؤلاء اجنحة، وقال نبي الله: والذي نفسي بيده لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا فأنزل الله " أرأيت الذي ينهى " إلى آخر السورة. رواه مسلم في الصحيح. وفي تفسير القمي في الآية: كان الوليد بن المغيرة ينهى الناس عن الصلاة وأن يطاع الله ورسوله فقال الله: أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ". أقول: مفاده لا يلائم ظهور سياق الآيات في كون المصلي هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي المجمع في الحديث عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أقرب ما يكون العبد من الله إذا كان ساجدا. وفي الكافي بإسناده إلى الوشاء قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: أقرب ما يكون العبد من الله وهو ساجد وذلك قوله: " واسجد واقترب ". وفي المجمع روى عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: العزائم الم التنزيل وحم السجدة والنجم إذا هوى واقرء باسم ربك، وما عداها في جميع القرآن مسنون وليس بمفروض.

[ 330 ]

(سورة القدر مكية وهي خمس آيات) بسم الله الرحمن الرحيم إنا أنزلناه في ليلة القدر - 1. وما أدراك ما ليلة القدر - 2. ليلة القدر خير من ألف شهر - 3. تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر - 4. سلام هي حتى مطلع الفجر - 5. (بيان) تذكر السورة إنزال القرآن في ليلة القدر وتعظم الليلة بتفضيلها على ألف شهر وتنزل الملائكة والروح فيها، والسورة تحتمل المكية والمدنية ولا يخلو بعض (1) ما روي في سبب نزولها عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وغيرهم من تأييد لكونها مدنية. قوله تعالى: " إنا أنزلناه في ليلة القدر " ضمير " أنزلناه " للقرآن وظاهره جملة الكتاب العزيز لا بعض آياته ويؤيده التعبير بالانزال الظاهر في اعتبار الدفعة دون التنزيل الظاهر في التدريج. وفي معنى الآية قوله تعالى: " والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة " الدخان: 3 وظاهره الاقسام بجملة الكتاب المبين ثم الاخبار عن إنزال ما اقسم به جملة. فمدلول الآيات أن للقرآن نزولا جمليا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير نزوله التدريجي الذي تم في مدة ثلاث وعشرين سنة كما يشير إليه قوله: " وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا " أسرى: 106، وقوله: " وقال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا " الفرقان: 32. فلا يعبأ بما قيل: إن معنى قوله: " أنزلناه " ابتدأنا بإنزاله والمراد إنزال بعض القرآن. * (هامش) (1) وهو ما دل على أن السورة نزلت بعد رؤيا النبي صلى الله عليه وآله أن بني امية يصعدون منبره فاغتم فسلاه الله بها.

[ 331 ]

وليس في كلامه تعالى ما يبين ان الليلة أية ليلة هي غير ما في قوله تعالى: " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن " البقرة: 185 فإن الآية بانضمامها إلى آية القدر تدل على أن الليلة من ليالي شهر رمضان. وأما تعيينها أزيد من ذلك فمستفاد من الاخبار وسيجئ بعض ما يتعلق به في البحث الروائي التالي إن شاء الله. وقد سماها الله تعالى ليلة القدر، والظاهر أن المراد بالقدر التقدير فهي ليلة التقدير يقدر الله فيها حوادث السنة من الليلة إلى مثلها من قابل من حياة وموت ورزق وسعادة وشقاء وغير ذلك كما يدل عليه قوله في سورة الدخان في صفة الليلة: " فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين رحمة من ربك " الدخان: 6 فليس فرق الامر الحكيم إلا إحكام الحادثة الواقعة بخصوصياتها بالتقدير. ويستفاد من ذلك أن الليلة متكررة بتكرر السنين ففي شهر رمضان من كل سنة قمرية ليلة تقدر فيها امور السنة من الليلة إلى مثلها من قابل إذ لا معنى لفرض ليلة واحدة بعينها أو ليال معدودة في طول الزمان تقدر فيها الحوادث الواقعة التي قبلها والتي بعدها وإن صح فرض واحدة من ليالي القدر المتكررة ينزل فيها القرآن جملة واحدة. على أن قوله: " يفرق " - وهو فعل مضارع - ظاهر في الاستمرار، وقوله: " خير من الف شهر " و " تنزل الملائكة " الخ يؤيد ذلك. فلا وجه لما قيل: إنها كانت ليلة واحدة بعينها نزل فيها القرآن من غير أن يتكرر، وكذا ما قيل: إنها كانت تتكرر بتكرر السنين في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم رفعها الله، وكذا ما قيل: إنها واحدة بعينها في جميع السنة وكذا ما قيل: إنها في جميع السنة غير أنها تتبدل بتكرر السنين فسنة في شهر رمضان وسنة في شعبان وسنة في غيرهما. وقيل: القدر بمعنى المنزلة وإنما سميت ليلة القدر للاهتمام بمنزلتها أو منزلة المتعبدين فيها، وقيل: القدر بمعنى الضيق وسميت ليلة القدر لضيق الارض فيها بنزول الملائكة. والوجهان كما ترى. فمحصل الآيات - كما ترى - أنها ليلة بعينها من شهر رمضان من كل سنة فيها إحكام الامور بحسب التقدير، ولا ينافي ذلك وقوع التغير فيها بحسب التحقق في ظرف السنة فإن التغير في كيفية تحقق المقدر أمر والتغير في التقدير أمر آخر كما أن إمكان التغير في

[ 332 ]

الحوادث الكونية بحسب المشية الالهية لا ينافي تعينها في اللوح المحفوظ قال تعالى: " وعنده ام الكتاب " الرعد: 39. على ان لاستحكام الامور بحسب تحققها مراتب من حيث حضور أسبابها وشرائطها تامة وناقصة ومن المحتمل أن تقع في ليلة القدر بعض مراتب الاحكام ويتأخر تمام الاحكام إلى وقت آخر لكن الروايات كما ستأتي لا تلائم هذا الوجه. قوله تعالى: " وما أدراك ما ليلة القدر " كناية عن جلالة قدر الليلة وعظم منزلتها ويؤكد ذلك إظهار الاسم مرة بعد مرة حيث قيل: " ما ليلة القدر ليلة القدر خير " ولم يقل: وما أدراك ما هي هي خير. قوله تعالى: " ليلة القدر خير من الف شهر " بيان إجمالي لما اشير إليه بقوله: " وما أدراك ما ليلة القدر " من فخامة أمر الليلة. والمراد بكونها خيرا من الف شهر خيريتها منها من حيث فضيلة العبادة على ما فسره المفسرون وهو المناسب لغرض القرآن وعنايته بتقريب الناس إلى الله فإحياؤها بالعبادة خير من عبادة الف شهر، ويمكن أن يستفاد ذلك من المباركة المذكورة في سورة الدخان في قوله: " إنا أنزلناه في ليلة مباركة " وهناك معنى آخر سيأتي في البحث الروائي التالي إن شاء الله. قوله تعالى: " تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر " تنزل أصله تتنزل، والظاهر من الروح هو الروح الذي من الامر قال تعالى: " قل الروح من أمر ربي " أسرى: 85 والاذن في الشئ الرخصة فيه وهو إعلام عدم المانع منه. و " من " في قوله: " من كل أمر " قيل: بمعنى الباء وقيل: لابتداء الغاية وتفيد السببية أي بسبب كل أمر إلهي، وقيل: للتعليل بالغاية أي لاجل تدبير كل امر من الامور والحق ان المراد بالامر إن كان هو الامر الالهي المفسر بقوله " إنما امره إذا أراد شيئا أن يقول له كن " يس: 82 فمن للابتلاء وتفيد السببية والمعنى تتنزل الملائكة والروح في ليلة القدر بإذن ربهم مبتدء تنزلهم وصادرا من كل أمر إلهي. وإن كان هو الامر من الامور الكونية والحوادث الواقعة فمن بمعنى اللام التعليلية والمعنى تتنزل الملائكة والروح في الليلة بإذن ربهم لاجل تدبير كل امر من الامور الكونية. قوله تعالى: " سلام هي حتى مطلع الفجر " قال في المفردات: السلام والسلامة التعري

[ 333 ]

من الآفات الظاهرة والباطنة انتهى فيكون قوله: " سلام هي " إشارة إلى العناية الالهية بشمول الرحمة لعباده المقبلين إليه وسد باب نقمة جديدة تختص بالليلة ويلزمه بالطبع وهن كيد الشياطين كما اشير إليه في بعض الروايات. وقيل: المراد به ان الملائكة يسلمون على من مروا به من المؤمنين المتعبدين ومرجعه إلى ما تقدم. والآيتان أعني قوله: " تنزل الملائكة " إلى آخر السورة في معنى التفسير لقوله: " ليلة القدر خير من الف شهر ". (بحث روائي) في تفسير البرهان عن الشيخ الطوسى عن ابي ذر قال: قلت يا رسول الله القدر القدر شئ يكون على عهد الانبياء ينزل عليهم فيها الامر فإذا مضوا رفعت ؟ قال: لا بل هي إلى يوم القيامة. أقول: وفي معناه غير واحد من الروايات من طرق أهل السنة. وفي المجمع وعن حماد بن عثمان عن حسان بن أبي علي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن ليلة القدر قال: اطلبها في تسع عشرة وإحدى وعشرين وثلاث وعشرين. أقول: وفي معناه غيرها، وفي بعض الاخبار الترديد بين ليلتين الاحدى والعشرين والثلاث والعشرين كرواية العياشي عن عبد الواحد عن الباقر عليه السلام ويستفاد من روايات أنها ليلة ثلاث وعشرين وإنما لم يعين تعظيما لامرها ان لا يستهان بها بارتكاب المعاصي. وفيه أيضا في رواية عبد الله بن بكير عن زرارة عن أحدهما عليهما السلام قال: ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة الجهني، وحديثه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن منزلي نائ عن المدينة فمرني بليلة أدخل فيها فأمره بليلة ثلاث وعشرين. اقول: وحيث الجهني واسمه عبد الله بن أنيس الانصاري مروي من طرق أهل السنة أيضا اورده في الدر المنثور عن مالك والبيهقي. وفي الكافي بإسناده عن زرارة قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: التقدير في تسع عشرة، والابرام في ليلة إحدى وعشرين، والامضاء في ليلة ثلاث وعشرين. أقول: وفي معناها روايات اخر.

[ 334 ]

فقد اتفقت أخبار اهل البيت عليهم السلام انها باقية متكررة كل سنة، وانها ليلة من ليالي شهر رمضان وانها إحدى الليالي الثلاث. وأما من طرق اهل السنة فقد اختلفت الروايات اختلافا عجيبا يكاد لا يضبط والمعروف عندهم انها ليلة سبع وعشرون فيها نزلت القرآن، ومن اراد الحصول عليها فليراجع الدر المنثور وسائر الجوامع. وفي الدر المنثور اخرج الخطيب عن ابن المسيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اريت بني امية يصعدون منبري فشق ذلك علي فأنزل الله إنا انزلناه في ليلة القدر. أقول: وروى أيضا مثله عن الخطيب في تاريخه عن ابن عباس، وأيضا ما في معناه عن الترمذي وابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن الحسن بن علي وهناك روايات كثيرة في هذا المعنى من طرق الشيعة عن أئمه أهل البيت عليهم السلام وفيها أن الله تعالى سلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بإعطاء ليلة القدر وجعلها خيرا من الف شهر وهي مدة ملك بني امية. وفي الكافي بإسناده عن ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبد الله عليه السلام قال له بعض أصحابنا ولا أعلمه إلا سعيد السمان: كيف تكون ليلة القدر خيرا من الف شهر ؟ قال: العمل فيها خير من العمل في الف شهر ليس فيها ليلة القدر. وفيه بإسناده عن الفضيل وزرارة ومحمد بن مسلم عن حمران أنه سأل أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عزوجل: " إنا أنزلناه في ليلة مباركة " قال: نعم ليلة القدر وهي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الاواخر فلم ينزل القرآن إلا في ليلة القدر قال الله عزوجل: " فيها يفرق كل أمر حكيم ". قال: يقدر في ليلة القدر كل شئ يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل: خير وشر طاعة ومعصية ومولود وأجل أو رزق فما قدر في تلك الليلة وقضي فهو المحتوم ولله عزوجل فيه المشية. قال: قلت: " ليلة القدر خير من الف شهر " أي شئ عنى بذلك ؟ فقال: والعمل الصالح فيها من الصلاة والزكاة وأنواع الخير خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، ولولا ما يضاعف الله تبارك وتعالى للمؤمنين ما بلغوا ولكن الله يضاعف لهم الحسنات. أقول: وقوله: ولله فيه المشية يريد به إطلاق قدرته تعالى فله أن يشاء ما يشاء

[ 335 ]

وإن حتم فإن إيجابه الامر لا يفيد القدرة المطلقة فله أن ينقض القضاء المحتوم وإن كان لا يشاء ذلك أبدا. وفي المجمع روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إذا كان ليلة القدر تنزل الملائكة الذين هم سكان سدرة المنتهى ومنهم جبرائيل فينزل جبرائيل ومعه ألوية ينصب لواء منها على قبري ولواء على بيت المقدس ولواء في المسجد الحرام ولواء على طور سيناء ولا يدع فيها مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلم عليه إلا مدمن خمر وآكل لحم الخنزير (1) والمتضمخ بالزعفران. وفي تفسير البرهان عن سعد بن عبد الله بإسناده عن أبي بصير قال: كنت مع أبي عبد الله عليه السلام فذكر شيئا من أمر الامام إذا ولد فقال: استوجب زيادة الروح في ليلة القدر فقلت: جعلت فداك أليس الروح هو جبرئيل ؟ فقال: جبرئيل من الملائكة والروح أعظم من الملائكة أليس إن الله عزوجل يقول: " تنزل الملائكة والروح ". اقول: والروايات في ليلة القدر وفضلها كثيرة جدا، وقد ذكرت في بعضها لها علامات ليست بدائمة ولا أكثرية كطلوع الشمس صبيحتها ولا شعاع لها واعتدال الهواء فيها أغمضنا عنها. (سورة البينة مدنية وهي ثمان آيات) بسم الله الرحمن الرحيم لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة - 1. رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة - 2. فيها كتب قيمة - 3. وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة - 4. وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلوة ويؤتوا الزكاة وذلك دين


(1) تضمخ بالطيب تلطخ به.

[ 336 ]

القيمة - 5. إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية - 6. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية - 7. جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه - 8. (بيان) تسجل السورة رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعامة أهل الكتاب والمشركين وبعبارة اخرى للمليين وغيرهم وهم عامة البشر فتفيد عموم الرسالة وأنها مما كانت تقتضيه السنة الالهية - سنة الهداية - التي تشير إليها أمثال قوله تعالى: " إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا " الانسان: 3، وقوله: " وإن من امة إلا خلا فيها نذير " فاطر: 24، وتحتج على عموم دعوته صلى الله عليه وآله وسلم بأنها لا تتضمن إلا ما يصلح المجتمع الانساني من الاعتقاد والعمل على ما سيتضح إن شاء الله. والسورة تحتمل المكية والمدنية وإن كان سياقها بالمدنية أشبه. قوله تعالى: " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة " ظاهر الآيات - وهي في سياق يشير إلى قيام الحجة على الذين كفروا بالدعوة الاسلامية من أهل الكتاب والمشركين وعلى الذين اوتوا الكتاب حينما بدا فيهم الاختلاف - أن المراد هو الاشارة إلى ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق الحجة البينة القائمة على الناس التي تقتضي قيامها السنة الالهية الجارية في عباده فقد كانت توجب مجئ البينة إليهم كما أوجبته من قبل ما تفرقوا في دينهم. وعلى هذا فالمراد بالذين كفروا في الآية هم الكافرون بالدعوة النبوية الاسلامية من أهل الكتاب والمشركين، و " من " في قوله: " من اهل الكتاب " للتبعيض لا للتبيين، وقوله: " والمشركين " عطف على " أهل الكتاب " والمراد بهم غير اهل الكتاب من عبدة الاصنام وغيرهم.

[ 337 ]

وقوله: " منفكين " من الانفكاك وهو الانفصال عن شدة اتصال، والمراد به - على ما يستفاد من قوله: " حتى تأتيهم البينة " - انفكاكهم عما تقتضي سنة الهداية والبيان كأن السنة الالهية كانت قد أخذتهم ولم تكن تتركهم حتى تأتيهم البينة ولما أتتهم البينة تركتهم وشأنهم كما قال تعالى: " وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون " التوبة: 115. وقوله: " حتى تأتيهم البينة " على ظاهره من الاستقبال والبينة هي الحجة الظاهرة والمعنى لم يكن الذين كفروا برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بدعوته أو بالقرآن لينفكوا حتى تأتيهم البينة والبينة هي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وللقوم اختلاف عجيب في تفسير الآية ومعاني مفرداتها حتى قال بعضهم - على ما نقل -: إن الآية من أصعب الآيات القرآنية نظما وتفسيرا. انتهى، والذي أوردناه من المعنى هو الذي يلائمه سياقها من غير تناقض بين الآيات وتدافع بين الجمل والمفردات، ومن أراد الاطلاع على تفصيل ما قيل ويقال فعليه أن يراجع المطولات. قوله تعالى: " رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة فيها كتب قيمة " بيان للبينة والمراد به محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قطعا على ما يعطيه السياق. والصحف جمع صحيفة وهي ما يكتب فيها، والمراد بها أجزاء القرآن النازلة وقد تكرر في كلامه تعالى إطلاق الصحف على أجزاء الكتب السماوية ومنها القرآن الكريم قال تعالى: " في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة " عبس: 16. والمراد بكون الصحف مطهرة تقدسها من قذارة الباطل بمس الشياطين، وقد تكرر منه تعالى أنه حق مصون من مداخلة الشياطين وقال: " لا يمسه إلا المطهرون " الواقعة: 79. وقوله: " فيها كتب قيمة " الكتب جمع كتاب ومعناه المكتوب ويطلق على اللوح والقرطاس ونحوهما المنقوشة فيها الالفاظ وعلى نفس الالفاظ التي تحكي عنها النقوش، وربما يطلق على المعاني بما أنها محكية بالالفاظ، ويطلق أيضا على الحكم والقضاء يقال كتب عليه كذا أي قضى أن يفعل كذا قال تعالى: " كتب عليكم الصيام " البقرة: 183 وقال: " كتب عليكم القتال " البقرة: 216. والظاهر أن المراد بالكتب التي في الصحف الاحكام والقضايا الالهية المتعلقة بالاعتقاد

[ 338 ]

والعمل، ومن الدليل عليه توصيفها بالقيامة فإنها من القيام بالشئ بمعنى حفظه ومراعاة مصلحته وضمان سعادته قال تعالى: " أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم " يوسف: 40، ومعلوم أن الصحف السماوية إنما تقوم بأمر المجتمع الانساني وتحفظ مصلحته بما فيها من الاحكام والقضايا المتعلقة بالاعتقاد والعمل. فمعنى الآيتين: الحجة البينة التي أتتهم رسول من الله يقرء صحائف سماوية مطهرة من دنس الباطل في تلك الصحائف أحكام وقضايا قائمة بأمر المجتمع الانساني حافظة لمصالحه. قوله تعالى: " وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة " كانت الآية الاولى " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب " الخ تشير إلى كفرهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكتابه المتضمن للدعوة الحقة وهذه الآية تشير إلى اختلافهم السابق على الدعوة الاسلامية وقد أشير إلى ذلك في مواضع من القرآن الكريم كما قال تعالى: " وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم " آل عمران: 19 إلى غير ذلك من الآيات. ومجئ البينة لهم هو البيان النبوي الذي تبين لهم في كتابهم أو أوضحه لهم أنبياؤهم قال تعالى: " ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله واطيعون إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الاحزاب من بينهم " الزخرف: 65. فإن قلت: ما باله تعرض لاختلاف أهل الكتاب وتفرقهم في مذاهبهم ولم يتعرض لتفرق المشركين وإعراضهم عن دين التوحيد وإنكارهم الرسالة. قلت: لا يبعد أن يكون قوله: " وما تفرق الذين اوتوا الكتاب " الخ شاملا للمشركين كما هو شامل لاهل الكتاب فقد بدل أهل الكتاب - وهم في عرف القرآن اليهود والنصارى والصابئون والمجوس أو اليهود والنصارى - من الذين اوتوا الكتاب، والتعبيران متغايران، وقد صرح تعالى بأنه أنزل الكتاب - وهو الشريعة المفروضة عليهم الحاكمة في اختلافاتهم في امور الحياة - أول ما بدا الاختلافات الحيوية بينهم ثم اختلفوا في الدين بعد تبين الحق لهم وقيام الحجة عليهم فعامة البشر آتاهم الله كتابا ثم اختلفوا فيه فمنهم من نسي ما اوتيه، ومنهم من أخذ به محرفا ومنهم من حفظه وآمن به، قال تعالى: " كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين اوتوه

[ 339 ]

من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم " البقرة: 213 وقد مر تفسير الآية. وفي هذا المعنى قوله تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض - إلى أن قال - ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر " البقرة: 254. وبالجملة فالذين اوتوا الكتاب أعم من أهل الكتاب فقوله: " وما تفرق الذين اوتوا الكتاب " الخ يشمل المشركين كما يشمل أهل الكتاب. قوله تعالى: " وما امروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء " الخ ضمير " امروا " للذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين أي لم يتضمن رسالة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والكتب القيمة التي في صحف الوحي إلا امرهم بعبادة الله تعالى بقيد الاخلاص في الدين فلا يشركوا به شيئا. وقوله: " حنفاء " حال من ضمير الجمع وهو جمع حنيف من الحنف وهو الميل عن جانبي الافراط والتفريط إلى حاق وسط الاعتدال وقد سمى الله تعالى الاسلام دينا حنيفا لانه يأمر في جميع الامور بلزوم الاعتدال والتحرز عن الافراط وتفريط. وقوله: " ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة " من قبيل ذكر الخاص بعد العام أو الجزء بعد الكل اهتماما بأمره فالصلاة والزكاة على أركان الاسلام وهما التوجه العبودي الخاص إلى الله وإنفاق المال في الله. وقوله: " وذلك دين القيمة " أي دين الكتب القيمة على ما فسروا، والمراد بالكتب القيمة إن كان جميع الكتب السماوية أعني كتاب نوح ومن دونه من الانبياء عليهم السلام فالمعنى إن هذا الذي امروا به ودعوا إليه في الدعوة المحمدية هو الدين الذي كلفوا به في كتبهم القيمة وليس بأمر بدع فدين الله واحد وعليهم أن يدينوا به لانه القيم. وإن كان المراد به ما كان يتلوه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الكتب القيمة التي في الصحف المطهرة فالمعنى أنهم لم يؤمروا في الدعوة الاسلامية إلا بأحكام وقضايا هي القيمة الحافظة لمصالح المجتمع الانساني فلا يسعهم إلا أن يؤمنوا بها ويتدينوا. فالآية على أي حال تشير إلى كون دين التوحيد الذي يتضمنه القرآن الكريم المصدق لما بين يديه من الكتاب والمهيمن (1) عليه فيما يأمر المجتمع البشري قائما بأمرهم حافظا


(1) سورة المائدة، آية 48.

[ 340 ]

لمصالح حياتهم كما يبينه بأوفى البيان قوله تعالى: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " الروم: 30. وبهذه الآية يكمل بيان عموم رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشمول الدعوة الاسلامية لعامة البشر فقوله: " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين " الخ يشير إلى أنه كان من الواجب في سنة الهداية الالهية أن تتم الحجة على من كفر بالدعوة من أهل الكتاب والمشركين، وهؤلاء وإن كانوا بعض أهل الكتاب والمشركين لكن من الضروري أن لا فرق بين البعض والبعض في تعلق الدعوة فتعلقها بالبعض لا ينفك عن تعلقها بالكل. وقوله: " رسول من الله " الخ يشير إلى أن تلك البينة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقوله " وما تفرق " الخ يشير إلى أن تفرقهم وكفرهم السابق بالحق أيضا كان بعد مجئ البينة. وقوله: " وما امروا إلا ليعبدوا الله " الخ يفيد أن الذي دعوا إليه وامروا به دين قيم حافظ لمصالح المجتمع البشري فعليهم جميعا أن يؤمنوا به ولا يكفروا. قوله تعالى: " أن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية " لما فرغ من الاشارة إلى كفرهم بالبينة التي كانت توجبها سنة الهداية الالهية وما كانت تدعوا إليه من الدين القيم أخذت في الانذار والتبشير بوعيد الكفار ووعد المؤمينن، والبرية الخلق، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " إن الذين أمنوا وعملوا الصالحات اولئك هم خير البرية " فيه قصر الخيرية في المؤمنين الصالحين كما أن في الآية السابقة قصر الشرية في الكفار. قوله تعالى: " جزاؤهم عند ربهم - إلى قوله - ذلك لم خشي ربه " العدن الاستقرار والثبات فجنات عدن جنات خلود ودوام وتصيفها بقوله: " خالدين فيها أبدا " تأكيد بما يدل عليه الاسم. وقوله: " رضي الله عنهم " الرضى منه تعالى صفة فعل ومصداقه الثواب الذي أعطاهموه جزاء لايمانهم وعلمهم الصالح. وقوله: " ذلك لمن خشي ربه " علامة مضروبة لسعادة الدار الآخرة وقد قال تعالى: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " فاطر: 28 فالعلم بالله يستتبع الخشية منه، والخشية منه تستتبع الايمان به بمعنى الالتزام القلبي بربوبيته والوهيته ثم العمل الصالح. واعلم أن لهم في تفسير مفردات هذه الآيات أختلافا شديدا وأقوالا كثيرة لا جدوى في التعرض لها من أراد الوقوف عليها فاليراجع المطولات.

[ 341 ]

(بحث روائي) في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال: البينة محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله من أكرم الخلق على الله ؟ قال: يا عائشة أما تقرئين " أن الذين أمنوا وعملوا الصالحات اولئك هم خير البرية " ؟ وفيه أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل علي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة ونزلت " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات اولئك هم خير البرية " فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقبل علي قالوا: جاء خير البرية. أقول: وروى هذا المعنى أيضا عن ابن عدي عن ابن عباس، وأيضا عن ابن مردويه عن علي عليه السلام، ورواه أيضا في البرهان عن الموفق بن أحمد في كتاب المناقب عن يزيد ابن شراحيل الانصاري كاتب علي عنه، وكذا في المجمع عن كتاب شواهد التنزيل للحاكم عن يزيد بن شراحيل عنه، ولفظه: سمعت عليا يقول: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مسنده إلى صدري فقال: يا علي ألم تسمع قول الله: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات اولئك هم خير البرية " هم شيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا اجتمع الامم للحساب يدعون غرا محجلين. وفي المجمع عن مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس في قوله: " هم خير البرية " قال: نزلت في علي وأهل بيته. (سورة الزلزال مدنية وهي ثمان آيات) بسم الله الرحمن الرحيم إذا زلزلت الارض زلزالها - 1. وأخرجت الارض أثقالها - 2. وقال الانسان مالها - 3. يومئذ تحدث أخبارها - 4.

[ 342 ]

بأن ربك أوحى لها - 5. يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم - 6. فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره - 7. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره - 8. (بيان) ذكر للقيامة وصدور الناس للجزاء وإشارة إلى بعض أشراطها وهي زلزلة الارض وتحديثها أخبارها. والسوره تحتمل المكية والمدنية. قوله تعالى: " إذا زلزلت الارض زلزالها " الزلزال مصدر كالزلزلة، وإضافته إلى ضمير الارض تفيد الاختصاص، والمعنى إذا زلزلت الارض زلزلتها الخاصة بها فتفيد التعظيم والتفخيم أي إنها منتهية في الشدة والهول. قوله تعالى: " وأخرجت الارض أثقالها " الاثقال جمع ثقل بفتحتين بمعنى المتاع أو خصوص متاع المسافر أو جمع ثقل بالكسر فالسكون بمعنى الحمل، وعلى أي حال المراد بأثقالها التي تخرجها، الموتى على ما قيل أو الكنوز والمعادن التي في بطنها أو الجميع ولكل قائل وأول الوجوه أقربها ثم الثالث لتكون الآية إشارة إلى خروجهم للحساب، وقوله: " يومئذ يصدر الناس " إشارة إلى انصرافهم إلى الجزاء. قوله تعالى: " وقال الانسان مالها " أي يقول مدهوشا متعجبا من تلك الزلزلة الشديدة الهائلة: ما للارض تتزلزل هذا الزلزال، وقيل: المراد بالانسان الكافر غير المؤمن بالبعث، وقيل غير ذلك كما سيجئ. قوله تعالى: " يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها فتشهد على أعمال بني آدم كما تشهد بها أعضاؤهم وكتاب الاعمال من الملائكة وشهداء الاعمال من البشر وغيرهم. وقوله: " بأن ربك أوحى لها " اللام بمعنى إلى لان الايحاء يتعدى بإلى والمعنى تحدث أخبارها بسبب أن ربك أوحى إليها أن تحدث فهي شاعرة بما يقع فيها من الاعمال خيرها وشرها متحملة لها يؤذن لها يوم القيامة بالوحي أن تحدث أخبارها وتشهد بما تحملت، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " أسرى: 44، وقوله: " قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ " حم السجدة: 21 أن المستفاد من كلامه سبحانه أن الحياة والشعور ساريان في الاشياء

[ 343 ]

وإن كنا في غفلة من ذلك. وقد اشتد الخلاف بينهم في معنى تحديث الارض بالوحي أهو بإعطاء الحياة والشعور للارض الميتة حتى تخبر بما وقع فيها أو بخلق صوت عندها وعد ذلك تكلما منها أودلالتها بلسان الحال بما وقع فيها من الاعمال، ولا محل لهذا الاختلاف بعد ما سمعت ولا أن الحجة تتم على أحد بهذا النوع من الشهادة. قوله تعالى: " يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم " الصدور انصراف الابل عن الماء بعد وروده، وأشتات كشتى جمع شتيت بمعنى المتفرق، والآية جواب بعد جواب لاذا. والمراد بصدور الناس متفرقين يومئذ انصرافهم عن الموقف إلى منازلهم في الجنة والنار وأهل السعادة والفلاح منهم متميزون من أهل الشقاء والهلاك، وإراءتهم أعمالهم إراءتهم جزاء أعمالهم بالحلول فيه أو مشاهدتهم نفس أعمالهم بناء على تجسم الاعمال. وقيل: المراد به خروجهم من قبورهم إلى الموقف متفرقين متميزين بسواد الوجوه وبياضها وبالفزع والامن وغير ذلك لاعلامهم جزاء أعمالهم بالحساب والتعبير عن العلم بالجزاء بالرؤية وعن الاعلام بالاراءة نظير ما في قوله تعالى: " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء " آل عمران: 30، والوجه الاول أقرب وأوضح. قوله تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " المثقال ما يوزن به الاثقال، والذرة ما يرى في شعاع الشمس من الهباء، وتقال لصغار النمل. تفريع على ما تقدم من إراءتهم أعمالهم، فيه تأكيد البيان في أنه لا يستثنى من الاراءة عمل خيرا أو شرا كبيرا أو صغيرا حتى مثقال الذرة من خير أو شر، وبيان حال كل من عمل الخير والشر في جملة مستقلة لغرض إعطاء الضابط وضرب القاعدة. ولا منافاة بين ما تدل عليه الآيتان من العموم وبين الآيات الدالة على حبط الاعمال، والدالة على انتقال أعمال الخير والشر من نفس إلى نفس كحسنات القاتل إلى المقتول وسيئات المقتول إلى القاتل، والدالة على تبديل السيئات حسنات في بعض التائبين إلى غير ذلك مما تقدمت الاشارة إليه في بحث الاعمال في الجزء الثاني من الكتاب وكذا في تفسير قوله: " ليميز الله الخبيث من الطيب " الآية الانفال: 37. وذلك لان الآيات المذكورة حاكمة على هاتين الآيتين فإن من حبط عمله الخير محكوم بأنه لم يعمل خيرا فلا عمل له خيرا حتى يراه وعلى هذا القياس في غيره فافهم.

[ 344 ]

(بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الارض لتخبر يوم القيامة بكل ما عمل على ظهرها وقرء رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا زلزلت الارض زلزالها " حتى بلغ " يومئذ تحدث أخبارها " قال أتدرون ما إخبارها ؟ جاءني جبريل قال: خبرها إذا كان يوم القيامة أخبرت بكل عمل عمل على ظهرها. أقول: وروى مثله عن أبى هريرة. وفيه أخرج الحسين بن سفيان في مسنده وأبو نعيم في الحلية عن شداد بن أوس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أيها الناس إن الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر، وإن الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قادر يحق فيها الحق ويبطل الباطل. أيها الناس كونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن كل ام يتبعها ولدها اعملوا وأنتم من الله على حذر، واعلموا أنكم معروضون على أعمالكم وأنكم ملاقو الله لا بد منه فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وأخرجت الارض أثقالها " قال: من الناس " وقال الانسان ما لها " قال: ذلك أمير المؤمنين عليه السلام " يومئذ تحدث أخبارها - إلى قوله - أشتاتا " قال: يجيئون أشتاتا مؤمنين وكافرين ومنافقين " ليروا أعمالهم " قال: يقفون على ما فعلوه. وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره " يقول " إن كان من أهل النار قد عمل مثقال ذرة في الدنيا خيرا (كان عليه ظ) يوم القيامة حسرة إن كان عمله لغير الله " ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " يقول: إن كان من أهل الجنة رآى ذلك الشر يوم القيامة ثم غفر له. (سورة العاديات مدنية وهي إحدى عشرة آية) بسم الله الرحمن الرحيم والعاديات ضبحا - 1. فالموريات

[ 345 ]

قدحا - 2. فالمغيرات صبحا - 3. فأثرن به نقعا - 4. فوسطن به جمعا - 5. إن الانسان لربه لكنود - 6. وإنه على ذلك لشهيد - 7. وإنه لحب الخير لشديد - 8. أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور - 9. وحصل ما في الصدور - 10. إن ربهم بهم يومئذ لخبير - 11. (بيان) تذكر السورة كفران الانسان لنعم ربه وحبه الشديد للخير عن علم منه به وهو حجة عليه وسيحاسب على ذلك. والسورة مدنية بشهادة ما في صدرها من الاقسام بمثل قوله: " والعاديات ضبحا " الخ الظاهر في خيل الغزاة المجاهدين على ما سيجئ، وإنما شرع الجهاد بعد الهجرة ويؤيد ذلك ما ورد من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أن السورة نزلت في علي عليه السلام وسريته في غزوة ذات السلاسل، ويؤيده أيضا بعض الروايات من طرق أهل السنة على ما نشير إليه في البحث الروائي التالي إن شاء الله. قوله تعالى: " والعاديات ضبحا " العاديات من العدو وهو الجري بسرعة والضبح صوت أنفاس الخيل عند عدوها وهو المعهود المعروف من الخيل وإن ادعي أنه يعرض لكثير من الحيوان غيرها، والمعنى أقسم بالخيل اللاتي يعدون يضبحن ضبحا. وقيل: المراد بها إبل الحاج في ارتفاعها بركبانها من الجمع إلى منى يوم النحر، وقيل: إبل الغزاة، وما في الآيات التالية من الصفات لا يلائم كون الابل هو المراد بالعاديات. قوله تعالى: " فالموريات قدحا " الايراء إخراج النار والقدح الضرب والصك المعروف يقال: قدح فأورى إذا أخرج النار بالقدح، والمراد بها الخيل تخرج النار بحوافرها إذا عدت على الحجارة والارض المحصبة. وقيل: المراد بالايراء مكر الرجال في الحرب، وقيل: إيقادهم النار، وقيل: الموريات ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلم به، وهي وجوه ظاهرة الضعف. قوله تعالى: " فالمغيرات صبحا الاغارة والغارة الهجوم على العدو بغتة بالخيل وهي

[ 346 ]

صفة أصحاب الخيل ونسبتها إلى الخيل مجاز، والمعنى فاقسم بالخيل الهاجمات على العدو بغتة في وقت الصبح. وقيل: المراد بها الآبال ترتفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى والسنة أن لا ترتفع حتى تصبح، والاغارة سرعة السير وهو خلاف ظاهر الاغارة. قوله تعالى: " فأثرن به نقعا " أثرن من الاثارة بمعنى تهييج الغبار ونحوه، والنقع الغبار، والمعنى فهيجن بالعدو والاغارة غبارا. قيل: لا بأس بعطف " أثرن " وهو فعل على ما قبله وهو صفة لانه اسم فاعل وهو في معنى الفعل كأنه قيل: اقسم باللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن. قوله تعالى: " فوسطن به جمعا " وسط وتوسط بمعنى، وضمير " به " للصبح والباء بمعنى في أو الضمير للنقع والباء للملابسة. والمعنى فصرن في وقت الصبح في وسط جمع والمراد به كتيبة العدو أو المعنى فتوسطن جمعا ملابسين للنقع. وقيل: المراد توسط الآبال جمع منى وأنت خبير بأن حمل الآيات الخمس بما لمفرداتها من ظواهر المعاني على إبل الحاج الذين يفيضون من جمع إلى منى خلاف ظاهرها جدا. فالمتعين حملها على خيل الغزاة وسياق الآيات وخاصة قوله: " فالمغيرات صبحا " " فوسطن به جمعا " يعطي أنها غزاة بعينها أقسم الله فيها بخيل المجاهدين العاديات والفاء في الآيات الاربع تدل على ترتب كل منها على ما قبلها. قوله تعالى: " إن الانسان لربه لكنود " الكنود الكفور، والآية كقوله: " إن الانسان لكفور " الحج: 66، وهو إخبار عما في طبع الانسان من اتباع الهوى والانكباب على عرض الدنيا والانقطاع به عن شكر ربه على ما أنعم عليه. وفيه تعريض للقوم المغار عليهم، وكأن المراد بكفرانهم كفرانهم بنعمة الاسلام التي أنعم الله بها عليهم وهي أعظم نعمة أوتوها فيها طيب حياتهم الدنيا وسعادة حياتهم الابدية الاخرى. قوله تعالى: " وإنه على ذلك لشهيد " ظاهر اتساق الضمائر أن يكون ضمير " وإنه " للانسان فيكون المراد بكونه شهيدا على كفران نفسه بكفران نفسه علمه المذموم وتحمله له. فالمعنى وإن الانسان على كفرانه بربه شاهد متحمل فالآية في معنى قوله: " بل

[ 347 ]

الانسان على نفسه بصيرة " القيامة: 14. وقيل: الضمير لله واتساق الضمائر لا يلائمه. قوله تعالى: " وإنه لحب الخير لشديد " قيل: اللام في " لحب الخير " للتعليل والخير المال، والمعنى وإن الانسان لاجل حب المال لشديد أي بخيل شحيح، وقيل: المراد أن الانسان لشديد الحب للمال ويدعوه ذلك إلى الامتناع من إعطاء حق الله، والانفاق في الله. كذا فسروا. ولا يبعد أن يكون المراد بالخير مطلقه ويكون المراد أن حب الخير فطري للانسان ثم إنه يرى عرض الدنيا وزينتها خيرا فتنجذب إليه نفسه وينسيه ذلك ربه أن يشكره. قوله تعالى: " أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور - إلى قوله - لخبير " البعثرة كالبحثرة البعث والنشر، وتحصيل ما في الصدور تمييز ما في باطن النفوس من صفة الايمان والكفر ورسم الحسنة والسيئة قال تعالى: " يوم تبلى السرائر " الطارق: 9، وقيل: هو إظهار ما أخفته الصدور لتجازى على السر كما تجازى على العلانية. وقوله: " أفلا يعلم " الاستفهام فيه للانكار، ومفعول يعلم جملة قائمة مقام المفعولين يدل عليه المقام. ثم استؤنف فقيل: إذا بعثر ما في القبور الخ تأكيدا للانكار، والمراد بما في القبور الابدان. والمعنى - والله أعلم - أفلا يعلم الانسان أن لكنوده وكفرانه بربه تبعة ستحلقه ويجازى بها، إذا اخرج ما في القبور من الابدان وحصل وميز ما في سرائر النفوس من الايمان والكفر والطاعة والمعصية إن ربهم بهم يومئذ لخبير فيجازيهم بما فيها. (بحث روائي) في المجمع، قيل: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية إلى حي من كنانة فاستعمل عليهم المنذر بن عمرو الانصاري أحد النقباء فتأخر رجوعهم فقال المنافقون: قتلوا جميعا فأخبر الله تعالى عنها بقوله: " والعاديات ضبحا " عن مقاتل. وقيل: نزلت السورة لما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام إلى ذات السلاسل فأوقع بهم وذلك بعد أن بعث عليهم مرارا غيره من الصحابة فرجع كل منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل.

[ 348 ]

قال: وسميت هذه الغزوة ذات السلاسل لانه اسر منهم وقتل وسبى وشد اسراؤهم في الحبال مكتفين كأنهم في السلاسل. ولما نزلت السورة خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس فصلى بهم الغداة وقرء فيها " والعاديات " فلما فرغ من صلاته قال أصحابه: هذه سورة لم نعرفها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نعم إن عليا ظفر بأعداء الله وبشرني بذلك جبريل في هذه الليلة فقدم علي عليه السلام بعد أيام بالغنائم والاسارى. (سورة القارعة مكية وهي إحدى عشرة آية) بسم الله الرحمن الرحيم القارعة - 1. ما القارعة - 2. وما أدراك ما القارعة - 3. يوم يكون الناس كالفراش المبثوث - 4. وتكون الجبال كالعهن المنفوش - 5. فأما من ثقلت موازينه - 6. فهو في عيشة راضية - 7. وأما من خفت موازينه - 8. فأمه هاوية - 9. وما أدراك ماهيه - 10. نار حامية - 11. (بيان) إنذار وتبشير بالقيامة يغلب فيه جانب الانذار، والسورة مكية. قوله تعالى: " القارعة ما القارعة " مبتدء وخبر، والقارعة من القرع وهو الضرب باعتماد شديد، وهي من أسماء القيامة في القرآن. قيل: سميت بها لانها تقرع القلوب بالفزع وتقرع أعداء الله بالعذاب. والسؤال عن حقيقة القارعة في قوله: " ما القارعة " مع كونها معلومة إشارة إلى تعظيم أمرها وتفخيمه وأنها لا تكتنه علما، وقد اكد هذا التعظيم والتفخيم بقوله بعد: " وما أدراك ما القارعة ".

[ 349 ]

قوله تعالى: " يوم يكون الناس كالفراش المبثوت " ظرف متعلق بفعل مقدر نحو اذكر وتقرع وتأتي، والفراش على ما نقل عن الفراء الجراد الذي ينفرش ويركب بعضه بعضا وهو غوغاء الجراد. قيل: شبه الناس عند البعث بالفراش لان الفراش إذا ثار لم يتجه إلى جهة واحدة كسائر الطير وكذلك الناس إذا خرجوا من قبورهم أحاط بهم الفزع فتوجهوا جهات شتى أو توجهوا إلى منازلهم المختلفة سعادة وشقاء. والمبعوث من البث وهو التفريق. قوله تعالى: " وتكون الجبال كالعهن المنفوش " العهن الصوف ذو ألوان مختلفة، والمنفوش من النفش وهو نشر الصوف بندف ونحوه فالعهن المنفوش الصوف المنتشر ذو ألوان مختلفة إشارة إلى تلاشي الجبال على اختلاف ألوانها بزلزلة الساعة. قوله تعالى: " فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية " إشارة إلى وزن الاعمال وأن الاعمال منها ما هو ثقيل في الميزان وهو ما له قدر ومنزلة عند الله وهو الايمان وأنواع الطاعات، ومنها ما ليس كذلك وهو الكفر وأنواع المعاصي ويختلف القسمان أثرا فيستتبع الثقيل السعادة ويستتبع الخفيف الشقاء، وقد تقدم البحث عن معنى الميزان في تفسير السور السابقة. وقوله: " في عيشة راضية " العيشة بكسر العين كالجلسة بناء نوع، وتوصيفها براضية - والراضي صاحبها - من المجاز العقلي أو المعنى في عيشة ذات رضى. قوله تعالى: " وأما من خفت موازينه فامه هاوية " الظاهر أن المراد بهاوية جهنم وتسميتها بهاوية لهوي من القي فيها أي سقوطه إلى أسفل سافلين قال تعالى: " ثم رددنا أسفل سافلين إلا الذين آمنوا " التين: 6. فتوصيف النار بالهاوية مجاز عقلي كتوصيف العيشة بالراضية وعد هاوية اما للداخل فيها لكونها مأواه ومرجعه الذي يرجع إليه كما يرجع الولد إلى امه. وقيل: المراد بامه ام رأسه والمعنى فام رأسه هاوية أي ساقطة فيها لانهم يلقون في النار على ام رأسهم، ويبعده بقاء الضمير في قوله: " ما هيه " بلا مرجع ظاهر. قوله تعالى: " وما ادراك ماهية " ضمير هي لهاوية، والهاءفي " هيه " للوقف والجملة تفسير تفيد تعظيم أمر النار وتفخيمه. قوله تعالى: " نار حامية " أي حارة شديدة الحرارة وهو جواب الاستفهام في " ماهيه " وتفسير لهاوية.

[ 350 ]

(بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " كالعهن المنفوش " قال: العهن الصوف، وفي قوله: " وأما من خفت موازينه " قال: من الحسنات، وفي قوله: " فامه هاوية " قال: ام رأسه، يقذف في النار على رأسه. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي أيوب الانصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن نفس المؤمن إذا قبضت يلقاها أهل الرحمة من عباد الله كما يلقون البشير من أهل الدنيا فيقولون: أنظروا صاحبكم يستريح فإنه كان في كرب شديد ثم يسألونه ما فعل فلان وفلانة ؟ هل تزوجت ؟ فإذا سألوه عن الرجل قد مات قبله فيقول: هيهات قد مات ذاك قبلي فيقولون: إنا لله وإنا إليه راجعون ذهب به إلى امه الهاوية فبئست الام وبئست المربية. أقول: وروي هذا المعنى عن أنس بن مالك وعن الحسن والاشعث بن عبد الله الاعمى عنه صلى الله عليه وآله وسلم. (سورة التكاثر مكية وهي ثمان آيات) بسم الله الرحمن الرحيم ألهاكم التكاثر - 1. حتى زرتم المقابر - 2. كلا سوف تعلمون - 3. ثم كلا سوف تعلمون - 4. كلا لو تعلمون علم اليقين - 5. لترون الجحيم - 6. ثم لترونها عين اليقين - 7. ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم - 8. (بيان) توبيخ شديد للناس على تلهيهم بالتكاثر في الاموال والاولاد والاعضاء وغفلتهم عما وراءه من تبعة الخسران والعذاب، وتهديد بأنهم سوف يعلمون ويرون ذلك ويسألون عن

[ 351 ]

هذه النعم التي اوتوها ليشكروا فتلهوا بها وبدلوا نعمة الله كفرا. والسورة بما لها من السياق تحتمل المكية والمدنية، وسيأتي ما ورد في سبب نزولها في البحث الروائي إن شاء الله. قوله تعالى: " ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر " قال في المفردات: اللهو ما يشغل الانسان عما يعنيه ويهمه. قال، ويقال: ألهاه كذا أي شغله عما هو أهم إليه، قال تعالى: " ألهاكم التكاثر "، انتهى. وقال: والمكاثرة والتكاثر التباري في كثرة المال والعز، انتهى. وقال: المقبرة بكسر الميم - والمقبرة - بفتحها - موضع القبور وجمعها مقابر، قال تعالى: " حتى زرتم المقابر " كناية عن الموت، انتهى. فالمعنى على ما يعطيه السياق شغلكم التكاثر في متاع الدنيا وزينتها والتسابق في تكثير العدة والعدة عما يهمكم وهو ذكر الله حتى لقيتم الموت فعمتكم الغفلة مدى حياتكم. وقيل: المعنى شغلكم التباهي والتباري بكثرة الرجال بأن يقول هؤلاء: نحن أكثر رجالا، وهؤلاء: نحن أكثر حتى إذا استوعبتم عدد الاحياء صرتم إلى القبور فعددتم الاموات من رجالكم فتكاثرتم بأمواتكم. وهذا المعنى مبني على ما ورد في أسباب النزول أن قبيلتين من الانصار تفاخرتا بالاحياء ثم بالاموات، وفي بعضها أن ذلك كان بمكة بين بني عبد مناف وبني سهم فنزلت السورة، وسيأتي القصة في البحث الروائي. قوله تعالى: " كلا سوف تعلمون " ردع عن اشتغالهم بما لا يهمهم عما يعنيهم وتخطئة لهم، وقوله: " سوف تعلمون " تهديد معناه على ما يفيده المقام سوف تعلمون تبعة تلهيكم هذا وتعرفونها إذا انقطعتم عن الحياة الدنيا. قوله تعالى: " ثم كلا سوف تعلمون " تأكيد للردع والتهديد السابقين، وقيل: المراد بالاول علمهم بها عند الموت وبالثاني علمهم بها عند البعث. قوله تعالى: " كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم " ردع بعد ردع تأكيدا واليقين العلم الذي لا يداخله شك وريب. وقوله: " لو تعلمون علم اليقين " جواب لو محذوف والتقدير لو تعلمون الامر علم اليقين لشغلكم ما تعلمون عن التباهي والتفاخر بالكثرة، وقوله: " لترون الجحيم " استئناف في

[ 352 ]

الكلام، واللام للقسم، والمعنى اقسم لترون الجحيم التي جزاء هذا التلهى كذا فسروا. قالوا: ولا يجوز أن يكون قوله: " لترون الجحيم " جواب لو الامتناعية لان الرؤية محقق الوقوع وجوابها لا يكون كذلك. وهذا مبني على أن يكون المراد رؤية الجحيم يوم القيامة كما قال: " وبرزت الجحيم لمن يرى " النازعات: 36 وهو غير مسلم بل الظاهر أن المراد رؤيتها قبل يوم القيامة رؤية البصيرة وهي رؤية القلب التي هي من آثار اليقين على ما يشير إليه، قوله تعالى: " وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين " الانعام: 75، وقد تقدم الكلام فيها، وهذه الرؤية القلبية قبل يوم القيامة غير محققة لهؤلاء المتلهين بل ممتنعة في حقهم لامتناع اليقين عليهم. قوله تعالى: " ثم لترونها عين اليقين " المراد بعين اليقين نفسه، والمعنى لترونها محض اليقين، وهذه بمشاهدتها يوم القيامة، ومن الدليل عليه قوله بعد ذلك " ثم لتسألن يومئذ عن النعيم " فالمراد بالرؤية الاولى رؤيتها قبل يوم القيامة وبالثانية رؤيتهايوم القيامة. وقيل: الاولى قبل الدخول فيها يوم القيامة والثانية إذ دخلوها. وقيل: الاولى بالمعرفة والثانية بالمشاهدة، وقيل: المراد الرؤية بعد الرؤية إشارة إلى الاستمرار والخلود، وقيل غير ذلك وهي وجوه ضعيفة. قوله تعالى: " ثم لتسألن يومئذ عن النعيم " ظاهر السياق أن هذا الخطاب وكذلك الخطابات المتقدمة في السورة للناس بما أن فيهم من اشتغل بنعمة ربه عن ربه فأنساه التكاثر فيها عن ذكر الله، وما في السورة من التوبيخ والتهديد متوجه إلى عامة الناس ظاهرا واقع على طائفة خاصة منهم حقيقة وهم الذين ألهاهم التكاثر. وكذا ظاهر السياق أن المراد بالنعيم مطلقه وهو كل ما يصدق عليه أنه نعمة فالانسان مسؤول عن كل نعمة أنعم الله بها عليه. وذلك أن النعمة - وهي الامر الذي يلائم المنعم عليه ويتضمن له نوعا من الخير والنفع - إنما تكون نعمة بالنسبة إلى المنعم عليه إذا استعملها بحيث يسعد بها فينتفع وأما لو استعملها على خلاف ذلك كانت نقمة بالنسبة إليه وإن كانت نعمة بالنظر إلى نفسها. وقد خلق الله تعالى الانسان وجعل غاية خلقته التي هي سعادته ومنتهى كماله التقرب العبودي إليه كما قال: " وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون " الذاريات 56 وهي

[ 353 ]

الولاية الالهية لعبده، وقد هيأ الله سبحانه له كل ما يسعد وينتفع به في سلوكه نحو الغاية التي خلق لها وهي النعم فأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة. فاستعمال هذه النعم على نحو يرتضيه الله وينتهي بالانسان إلى غايته المطلوبة هو الطريق إلى بلوغ الغاية وهو الطاعة، واستعمالها بالجمود عليها ونسيان ما وراءها غي وضلال وانقطاع عن الغاية وهو المعصية، وقد قضى سبحانه قضاء لا يرد ولا يبدل أن يرجع الانسان إليه فيسأله عن عمله فيحاسبه ويجزيه، وعمله هو استعماله للنعم الالهية قال تعالى: " وأن ليس للانسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الاوفى وأن إلى ربك المنتهى " النجم: 42، فالسؤال عن عمل العبد سؤال عن النعيم كيف استعمله أشكر النعمة أم كفر بها. (بحث روائي) في المجمع، قيل: نزلت في اليهود قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلالا عن قتادة. وقيل: نزلت في فخذ من الانصار تفاخروا عن أبي بريدة، وقيل: نزلت في حيين من قريش: بني عبد مناف بن قصي وبني سهم بن عمر وتكاثروا وعدوا أشرافهم فكثرهم بنو عبد مناف. ثم قالوا: نعد موتانا حتى زاروا القبور فعدوهم وقالوا: هذا قبر فلان وهذا قبر فلان فكثرهم بنو سهم لانهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية. عن مقاتل والكلبي. وفي تفسير البرهان عن البرقي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: " لو تعلمون علم اليقين " قال: المعاينة. أقول: الرواية تؤيد ما قدمناه من المعنى. وفي تفسير القمي باسناده عن جميل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: " لتسألن يومئذ عن النعيم " قال: تسأل هذه الامة عما أنعم الله عليها برسوله ثم بأهل بيته. وفي الكافي بإسناده عن أبي خالد الكابلي قال: دخلت على أبي جعفر عليه السلام فدعا بالغذاء فأكلت معه طعاما ما أكلت طعاما أطيب منه قط ولا ألطف فلما فرغنا من الطعام قال: يا أبا خالد كيف رأيت طعامك ؟ أو قال: طعامنا ؟ قلت: جعلت فداك

[ 354 ]

ما أكلت طعاما أطيب منه قط ولا أنظف ولكن ذكرت الآية التي في كتاب الله عزوجل " ثم لتسألن يومئذ عن النعيم " فقال أبو جعفر عليه السلام: إنما يسألكم عما أنتم عليه من الحق. وفيه بإسناده عن أبي حمزة قال: كنا عند أبي عبد الله عليه السلام جماعة فدعا بطعام ما لنا عهد بمثله لذاذة وطيبا وأتينا بتمر تنظر فيه أوجهنا من صفائه وحسنه فقال رجل: لتسألن عن هذا النعيم الذي تنعمتم به عند ابن رسول الله فقال أبو عبد الله عليه السلام إن الله عزوجل أكرم وأجل أن يطعم طعاما فيسوغكموه ثم نسألكم عنه إنما يسألكم عما أنعم عليكم بمحمد وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم. أقول: وهذا المعنى مروي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام بطرق اخرى وعبارات مختلفة وفي بعضها أن النعيم ولايتنا أهل البيت، ويؤل المعنى إلى ما قدمناه من عموم النعيم لكل نعمة أنعم الله بها بما أنها نعمة. بيان ذلك أن هذه النعم لو سئل عن شئ منها فليست يسأل عنها بما أنها لحم أو خبز أو تمر أو ماء بارد أو أنها سمع أو بصر أو يد أو رجل مثلا وإنما يسأل عنها بما أنها نعمة خلقها الله للانسان وأوقعها في طريق كماله والحصول على التقرب العبودي كما تقدمت الاشارة إليه وندبه إلى أن يستعملها شكرا لا كفرا. فالمسؤل عنها هي النعمة بما أنها نعمة، ومن المعلوم ان الدال على نعيمية النعيم وكيفية استعماله شكرا والمبين لذلك كله هو الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونصب لبيانه الائمة من أهل بيته فالسؤال عن النعيم مرجعه السؤال عن العمل بالدين في كل حركة وسكون ومن المعلوم ايضا أن السؤال عن النعيم الذي هو الدين سؤال عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمة من بعده الذين افترض الله طاعتهم وأوجب اتباعهم في السلوك إلى الله الذي طريقه استعمال النعم كما بينه الرسول والائمة. وإلى كون السؤال عن النعيم سؤالا عن الدين يشير ما في رواية أبي خالد من قوله: " إنما يسألكم عما أنتم عليه من الحق ". وإلى كونه سؤالا عن النعيم الذي هو النبي وأهل بيته يشير ما في روايتي جميل وأبي حمزة السابقتين من قوله: " يسأل هذه الامة عما أنعم الله عليها برسوله ثم بأهل بيته " أو ما في معناه، وفي بعض الروايات: " النعيم هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنعم الله به على أهل العالم

[ 355 ]

فاستنقذهم من الضلالة "، وفي بعضها أن النعيم ولايتنا أهل البيت، والمال واحد ومن ولاية أهل البيت افتراض طاعتهم واتباعهم فيما يسلكونه من طريق العبودية. وفي المجمع، وقيل: النعيم الصحة والفراغ عن عكرمة، ويعضده ما رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ. وفيه، وقيل: هو يعني النعيم الامن والصحة عن عبد الله بن مسعود ومجاهد، وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام. أقول: وفي روايات اخرى من طرق أهل السنة أن النعيم هو التمر والماء البارد وفي بعضها غيرهما، وينبغي أن يحمل الجميع على إيراد المثال. وفي الحديث النبوي من طرقهم ايضا، ثلاث لا يسأل عنها العبد: خرقة يواري بها عورته أو كسرة يسد بها جوعته أو بيت يكنه من الحر والبرد. الحديث، وينبغي أن يحمل على خفة الحساب في الضروريات ونفي المناقشة فيه والله أعلم. (سورة العصر مكية وهي ثلاث آيات) بسم الله الرحمن الرحيم والعصر - 1. إن الانسان لفي خسر - 2. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر - 3. (بيان) تخلص السورة جميع المعارف القرآنية وتجمع شتات مقاصد القرآن في أوجز بيان، وهي تحتمل المكية والمدنية لكنها أشبه بالمكية. قوله تعالى: " والعصر " إقسام بالعصر والانسب لما تتضمنه الآيتان التاليتان من شمول الخسران للعالم الانساني إلا لمن اتبع الحق وصبر عليه وهم المؤمنون الصالحون عملا، أن يكون المراد بالعصر عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو عصر طلوع الاسلام على المجتمع البشري وظهور الحق على الباطل. وقيل: المراد به وقت العصر وهو الطرف الاخير من النهار لما فيه من الدلالة على

[ 356 ]

التدبير الربوبي بإدبار النهار وإقبال الليل وذهاب سلطان الشمس، وقيل: المراد به صلاة العصر وهي الصلاة الوسطى التي هي أفضل الفرائض اليومية، وقيل الليل والنهار ويطلق عليهما العصران، وقيل الدهر لما فيه من عجائب الحوادث الدالة على القدرة الربوبية وغير ذلك. وقد ورد في بعض الروايات أنه عصر ظهور المهدي عليه السلام لما فيه من تمام ظهور الحق على الباطل. قوله تعالى: " إن الانسان لفي خسر " المراد بالانسان جنسه، والخسر والخسران والخسار والخسارة نقص رأس المال قال الراغب: وينسب ذلك إلى الانسان فيقال: خسر فلان وإلى الفعل فيقال: خسرت تجارته، انتهى. والتنكير في " خسر " للتعظيم ويحتمل التنويع أي في نوع من الخسر غير الخسارات المالية والجاهية قال تعالى: " الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين " الزمر 15. قوله تعالى: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " استثناء من جنس الانسان الواقع في الخسر، والمستثنون هم الافراد المتلبسون بالايمان والاعمال الصالحة فهم آمنون من الخسر. وذلك أن كتاب الله يبين أن للانسان حياة خالدة مؤبدة لا تنقطع بالموت وإنما الموت انتقال من دار إلى دار كما تقدم في تفسير قوله تعالى: " على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون " الواقعة، 61، ويبين أن شطرا من هذه الحياة وهي الحياة الدنيا حياة امتحانية تتعين بها صفة الشطر الاخير الذي هو الحياة الاخرة المؤبدة من سعادة وشقاء قال تعالى: " وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ": الرعد 26، وقال: " كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة " الانبياء 35. ويبين أن مقدمية هذه الحياة لتلك الحياة إنما هي بمظاهرها من الاعتقاد والعمل فالاعتقاد الحق والعمل الصالح ملاك السعادة الاخروية والكفر والفسوق ملاك الشقاء فيها قال تعالى: " وأن ليس للانسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الاوفى " النجم 41، وقال: " من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلانفسهم يمهدون " الروم 44، وقال: " من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها " حم السجدة 46، وقد سمى الله تعالى ما سيلقاه الانسان في الآخرة جزاء وأجرا في آيات كثيرة. ويتبين بذلك كله أن الحياة رأس مال للانسان يكسب به ما يعيش به في حياته الآخرة فإن اتبع الحق في العقد والعمل فقد ربحت تجارته وبورك في مكسبه وأمن الشر

[ 357 ]

في مستقبله، وإن اتبع الباطل وأعرض عن الايمان والعمل الصالح فقد خسرت تجارته وحرم الخير في عقباه وهو قوله تعالى: " إن الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ". والمراد بالايمان الايمان بالله ومن الايمان بالله الايمان بجميع رسله والايمان باليوم الآخر فقد نص تعالى فيمن لم يؤمن ببعض رسله (1) أو باليوم الآخر أنه غير مؤمن بالله. وظاهر قوله: " وعملوا الصالحات " التلبس بجميع الاعمال الصالحة فلا يشمل الاستثناء الفساق بترك بعض الصالحات من المؤمنين ولازمه أن يكون الخسر أعم من الخسر في جميع جهات حياته كما في الكافر المعاند للحق المخلد في العذاب، والخسر في بعض جهات حياته كالمؤمن الفاسق الذي لا يخلد في النار وينقطع عنه العذاب بشفاعة ونحوها. قوله تعالى: " وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " التواصي بالحق هو أن يوصى بعضهم بعضا بالحق أي باتباعه والدوام عليه فليس دين الحق إلا اتباع الحق اعتقادا وعملا والتواصي بالحق أوسع من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لشموله الاعتقاديات ومطلق الترغيب والحث على العمل الصالح. ثم التواصي بالحق من العمل الصالح فذكره بعد العمل الصالح من قبيل ذكر الخاص بعد العام اهتماما بأمره كما أن التواصي بالصبر من التواصي بالحق وذكره بعده من ذكر الخاص بعد العام اهتماما بأمره، ويؤكد تكرار ذكر التواصي حيث قال: " وتواصوا بالصبر " ولم يقل: وتواصوا بالحق والصبر. وعلى الجملة ذكر تواصيهم بالحق وبالصبر بعد ذكر تلبسهم بالايمان والعمل الصالح للاشارة إلى حياة قلوبهم وانشراح صدورهم للاسلام لله فلهم اهتمام خاص واعتناء تام بظهور سلطان الحق وانبساطه على الناس حتى يتبع ويدوم اتباعه قال تعالى: " أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله اولئك في ضلال مبين " الزمر 22. وقد أطلق الصبر فالمراد به أعم من الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، والصبر عند النوائب التي تصيبه بقضاء من الله وقدر.


(1) النساء: 150 - 151

[ 358 ]

(بحث روائي) في تفسير القمي بإسناده عن عبد الرحمان بن كثير عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: " إلا الذين آمنوا " الخ، فقال: استثنى أهل صفوته من خلقه. أقول: وطبق في ذيل الرواية الايمان على الايمان بولاية علي عليه السلام، والتواصي بالحق على توصيتهم ذرياتهم وأخلافهم بها. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " والعصر إن الانسان لفي خسر " يعني أبا جهل بن هشام " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " ذكر عليا وسلمان. (سورة الهمزة مكية وهي تسع آيات) بسم الله الرحمن الرحيم ويل لكل همزة لمزة - 1. الذي جمع مالا وعدده - 2. يحسب أن ماله أخلده - 3. كلا لينبذن في الحطمة - 4. وما أدراك ما الحطمة - 5. نار الله الموقدة - 6. التي تطلع على الافئدة - 7. إنها عليهم مؤصدة - 8. في عمد ممددة - 9. (بيان) وعيد شديد للمغرمين بجمع المال المستعلين به على الناس المستكبرين عليهم فيزرون بهم ويعيبونهم بما ليس بعيب، والسورة مكية. قوله تعالى: " ويل لكل همزة لمزة " قال في المجمع: الهمزة الكثير الطعن على غيره بغير حق العائب له بما ليس بعيب، وأصل الهمز الكسر. قال: واللمز العيب أيضا والهمزة واللمزة بمعنى، وقد قيل: بينهما فرق فإن الهمزة الذي يعيبك بظهر الغيب، واللمزة الذى يعيبك في وجهك. عن الليث. وقيل: الهمزة الذي يؤذي جليسه بسوء لفظه، واللمزة الذي يكسر عينه على جليسه

[ 359 ]

ويشير برأسه ويؤمي بعينه. قال: وفعلة بناء المبالغة في صفة من يكثر منه الفعل ويصير عادة له تقول: رجل نكحة كثير النكاح وضحكة كثير الضحك وكذا همزة ولمزة انتهى. فالمعنى ويل لكل عياب مغتاب، وفسر بمعان أخر على حسب اختلافهم في تفسير الهمزة واللمزة. قوله تعالى: " الذي جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده " بيان لهمزة لمزة وتنكير " مالا " للتحقير فإن المال وإن كثر ما كثر لا يغني عن صاحبه شيئا غير أن له منه ما يصرفه في حوائج نفسه الطبيعية من أكلة تشبعه وشربة ماء ترويه ونحو ذلك و " عدده " من العد بمعنى الاحصاء أي إنه لحبه المال وشغفه بجمعه يجمع المال ويعده عدا بعد عد التذاذا بتكثره. وقيل: المعنى جعله عدة وذخرا لنوائب الدهر. وقوله: " يحسب أن ماله أخلده " أي يخلده في الدنيا ويدفع عنه الموت والفناء فالماضي أريد به المستقبل بقرينة قوله: " يحسب ". فهذا الانسان لاخلاده إلى الارض وانغماره في طول الامل لا يقنع من المال بما يرتفع به حوائج حياته القصيرة وضروريات أيامه المعدودة بل كلما زاد مالا زاد حرصا إلى ما لا نهاية له فظاهر حاله أنه يرى أن المال يخلده، ولحبه الغريزي للبقاء يهتم بجمعه وتعديده، ودعاه ما جمعه وعدده من المال وما شاهده من الاستغناء إلى الطغيان والاستعلاء على غيره من الناس كما قال تعالى: " إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى " العلق 7، ويورثه هذا الاستكبار والتعدي الهمز واللمز. ومن هنا يظهر أن قوله: " يحسب أن ماله أخلده " بمنزلة التعليل لقوله: " الذي جمع مالا وعدده "، وقوله: " الذي جمع " الخ بمنزلة التعليل لقوله: " ويل لكل همزة لمزة ". قوله تعالى: " كلا لينبذن في الحطمة " ردع عن حسبانه الخلود بالمال، واللام في " لينبذن " للقسم، والنبذ القذف والطرح، والحطمة مبالغة من الحطم وهو الكسر وجاء بمعنى الاكل، وهي من أسماء جهنم على ما يفسرها قوله الآتي: " نار الله الموقدة ". والمعنى ليس مخلدا بالمال كما يحسب أقسم ليموتن ويقذفن في الحطمة. قوله تعالى: " وما أدراك ما الحطمة " تفخيم وتهويل. قوله تعالى: " نار الله الموقدة التي تطلع على الافئدة " إيقاد النار إشعالها والاطلاع والطلوع على الشئ الاشراف والظهور، والافئدة جمع فؤاد وهو القلب، والمراد به في

[ 360 ]

القرآن مبدإ الشعور والفكر من الانسان وهو النفس الانسانية. وكأن المراد من اطلاعها على الافئدة أنها تحرق باطن الانسان كما تحرق ظاهره بخلاف النار الدنيوية التي إنما تحرق الظاهر فقط قال تعالى: " وقودها الناس والحجارة " البقرة 24. قوله تعالى: " إنها عليهم مؤصدة " أي مطبقة لا مخرج لهم منها ولا منجا. قوله تعالى: " في عمد ممددة " العمد بفتحتين جمع عمود والتمديد مبالغة في المد قيل: هي أوتاد الاطباق التي تطبق على أهل النار، وقيل: عمد ممددة يوثقون فيها مثل المقاطر وهي خشب أو جذوع كبار فيها خروق توضع فيها أرجل المحبوسين من اللصوص وغيرهم، وقيل غير ذلك. (بحث روائي) في روح المعاني في قوله تعالى: " ويل لكل همزة لمزة " نزل ذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن إسحاق عن عثمان بن عمر في أبي بن خلف، وعلى ما أخرج عن السدي في أبي بن عمر والثقفي الشهير بالاخنس بن شريق فإنه كان مغتابا كثير الوقيعة. وعلى ما قال ابن إسحاق في امية بن خلف الجمحي وكان يهمز النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وعلى ما أخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد في جميل بن عامر وعلى ما قيل في الوليد بن المغيرة واغتيابه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغضه منه، وعلى قول في العاص بن وائل. أقول: ثم قال: ويجوز أن يكون نازلا في جمع من ذكر. انتهى ولا يبعد أن يكون من تطبيق الرواة وهو كثير في أسباب النزول. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " ويل لكل همزة " قال: الذي يغمز الناس ويستحقر الفقراء، وقوله: " لمزة " يلوي عنقه ورأسه ويغضب إذا رأى فقيرا أو سائلا " الذي جمع مالا وعدده " قال: أعده ووضعه. وفيه قوله تعالى: " التي تطلع على الافئدة " قال: تلتهب على الفؤاد قال أبو ذر رضي الله عنه: بشر المتكبرين بكي في الصدور وسحب على الظهور. قوله " إنها عليهم موصدة " قال: مطبقة " في عمد ممددة " قال: إذا مدت العمد عليهم أكلت والله الجلود. وفي المجمع روى العياشي بإسناده عن محمد بن النعمان الاحول عن حمران بن أعين عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن الكفار والمشركين يعيرون أهل التوحيد في النار ويقولون:

[ 361 ]

ما نرى توحيدكم أغنى عنكم شيئا وما نحن وأنتم إلا سواء قال: فيأنف لهم الرب تعالى فيقول للملائكة: اشفعوا فيشفعون لمن شاء الله ثم يقول للنبيين: اشفعوا فيشفعون لمن شاء الله ثم يقول للمؤمنين: اشفعوا فيشفعون لمن شاء الله ويقول الله: أنا أرحم الراحمين اخرجوا برحمتي فيخرجون كما يخرج الفراش. قال: ثم قال أبو جعفر عليه السلام: ثم مدت العمد وأوصدت عليهم وكان والله الخلود. (سورة الفيل مكية وهي خمس آيات) بسم الله الرحمن الرحيم ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل - 1. ألم يجعل كيدهم في تضليل - 2. وأرسل عليهم طيرا أبابيل - 3. ترميهم بحجارة من سجيل - 4. فجعلهم كعصف مأكول - 5. (بيان) فيها إشارة إلى قصة أصحاب الفيل إذ قصدوا مكة لتخريب الكعبة المعظمة فأهلكهم الله بإرسال طير أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول، وهي من آيات الله الجلية التي لا سترة عليها، وقد أرخو بها وذكرها الجاهليون في أشعارهم، والسورة مكية. قوله تعالى: " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " المراد بالرؤية العلم الظاهر ظهور الحس، والاستفهام إنكاري، والمعنى ألم تعلم كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، وقد كانت الواقعة عام ولد فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: " ألم يجعل كيدهم في تضليل " المراد بكيدهم سوء قصدهم بمكة وإرادتهم تخريب البيت الحرام، والتضليل والاضلال واحد، وجعل كيدهم في تضليل جعل سعيهم ضالا لا يهتدى إلى الغاية المقصودة منه فقد ساروا لتخريب الكعبة وانتهى بهم إلى هلاك أنفسهم.

[ 362 ]

قوله تعالى: " وأرسل عليهم طيرا أبابيل " الابابيل - كما قيل - جماعات في تفرقة زمرة زمرة، والمعنى وأرسل الله على أصحاب الفيل جماعات متفرقة من الطير والآية والتى تتلوها عطف تفسير على قوله: " ألم يجعل كيدهم في تضليل ". قوله تعالى: " ترميهم بحجارة من سجيل " أي ترمي أبابيل الطير أصحاب الفيل بحجارة من سجيل، وقد تقدم معنى السجيل في تفسير قصص قوم لوط. قوله تعالى: " فجعلهم كعصف مأكول " العصف ورق الزرع والعصف المأكول ورق الزرع الذي أكل حبه أو قشر الحب الذي أكل لبه والمراد أنهم عادوا بعد وقوع السجيل عليهم أجسادا بلا أرواح أو أن الحجر بحرارته أحرق أجوافهم، وقيل: المراد ورق الزرع الذي وقع فيها الاكال وهو أن يأكله الدود فيفسده وفسرت الآية ببعض وجوه اخر لا يناسب الادب القرآني. (بحث روائي) في المجمع: أجمعت الرواة على أن ملك اليمن الذي قصد هدم الكعبة هو أبرهة بن الصباح الاشرم وقيل: إن كنيته أبو يكسوم ونقل عن الواقدي أنه جد النجاشي الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم ساق الكلام في قصة استيلائه على ملك اليمن إلى أن قال: ثم إنه بنى كعبة باليمن وجعل فيها قبابا من ذهب فأمر أهل مملكته بالحج إليها يضاهي بذلك البيت الحرام، وإن رجلا من بني كنانة خرج حتى قدم اليمن فنظر إليها ثم قعد فيها يعني لحاجة الانسان فدخلها أبرهة فوجد تلك العذرة فيها فقال: من اجترء علي بهذا ؟ ونصرانيتي لاهدمن ذلك البيت حتى لا يحجه حاج أبدا ودعا بالفيل وأذن قومه بالخروج ومن اتبعه من أهل اليمن، وكان أكثر من اتبعه منهم عك والاشعرون وخثعم. قال: ثم خرج يسير حتى إذا كان ببعض طريقه بعث رجلا من بني سليم ليدعو الناس إلى حج بيته الذي بناه فتلقاه أيضا رجل من الحمس من بني كنانة فقتله فازداد بذلك حنقا وحث السير والانطلاق. وطلب من أهل الطائف دليلا فبعثوا معه رجلا من هذيل يقال له نفيل فخرج بهم يهديهم حتى إذا كانوا بالمغمس نزلوه وهو من مكة على ستة أميال فبعثوا مقدماتهم إلى

[ 363 ]

مكة فخرجت قريش عباديد في رؤوس الجبال وقالوا: لا طاقة لنا بقتال هؤلاء ولم يبق بمكه غير عبد المطلب بن هاشم أقام على سقايته وغير شيبة بن عثمان بن عبد الدار أقام على حجابة البيت فجعل عبد المطلب يأخذ بعضادتي الباب ثم يقول: لا هم إن المرء يمنع رحله فامنع جلالك لا يغلبوا بصليبهم ومحالهم عدوا محالك لا يدخلوا البلد الحرام إذا فأمرما بدالك ثم إن مقدمات أبرهه أصابت نعما لقريش فأصابت فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم فلما بلغه ذلك خرج حتى أتى القوم، وكان حاجب أبرهة رجلا من الاشعرين وكان له بعبد المطلب معرفة فاستأذن له على الملك وقال له: أيها الملك جاءك سيد قريش الذى يطعم إنسها في الحي ووحشها في الجبل فقال له: ائذن له. وكان عبد المطلب رجلا جسيما جميلا فلما رآه أبو يكسوم أعظمه أن يجلسه تحته وكره أن يجلسه معه على سريره فنزل من سريره فجلس على الارض وأجلس عبد المطلب معه ثم قال: ما حاجتك ؟ قال: حاجتي مائتا بعير لي أصابتها مقدمتك فقال أبو يكسوم: والله لقد رأيتك فأعجبتني ثم تكلمت فزهدت فيك فقال: ولم أيها الملك ؟ قال: لاني جئت إلى بيت عزكم ومنعتكم من العرب وفضلكم في الناس وشرفكم عليهم ودينكم الذي تعبدون فجئت لاكسره وأصيبت لك مائتا بعير فسألتك عن حاجتك فكلمتني في إبلك ولم تطلب إلي في بيتكم. فقال له عبد المطلب: أيها الملك أنا أكلمك في مالي ولهذا البيت رب هو يمنعه لست أنا منه في شئ فراع ذلك أبو يكسوم وأمر برد إبل عبد المطلب عليه ثم رجع وأمست ليلتهم تلك الليلة كالحة نجومها كأنها تكلمهم كلاما لاقتربها منهم فأحست نفوسهم بالعذاب. إلى أن قال: حتى إذا كان مع طلوع الشمس طلعت عليهم الطير معها الحجارة فجعلت ترميهم، وكل طائر في منقاره حجر وفي رجليه حجران وإذا رمت بذلك مضت وطلعت اخرى فلا يقع حجر من حجارتهم تلك على بطن إلا خرقه ولا عظم إلا أوهاه وثقبه، وثاب أبو يكسوم راجعا قد أصابته بعض الحجارة فجعل كلما قدم أرضا انقطع له فيها إرب حتى إذا انتهى إلى اليمن لم يبق شئ إلا باده فلما قدمها تصدع صدره وانشق بطنه فهلك ولم يصب من الاشعرين وخثعم أحد، الحديث.

[ 364 ]

أقول: وفي الروايات اختلاف شديد في خصوصيات القصة من أراد الوقوف عليها فعليه بمطولات السير والتواريخ. (سورة قريش مكية وهي أربع آيات) بسم الله الرحمن الرحيم لايلاف قريش - 1. إيلافهم رحلة الشتاء والصيف - 2. فليعبدوا رب هذا البيت - 3. الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف - 4. (بيان) تتضمن السورة امتنانا على قريش بإيلافهم الرحلتين وتعقبه بدعوتهم إلى التوحيد وعبادة رب البيت، والسورة مكية. ولمضمون السورة نوع تعلق بمضمون سورة الفيل ولذا ذهب قوم من أهل السنة إلى كون الفيل ولايلاف سورة واحدة كما قيل بمثله في الضحى وألم نشرح لما بينهما من الارتباط كما نسب ذلك إلى المشهور بين الشيعة والحق أن شيئا مما استندوا إليه لا يفيد ذلك. أما القائلون بذلك من أهل السنة فإنهم استندوا فيه إلى ما روي أن أبي بن كعب لم يفصل بينهما في مصحفه بالبسملة، وبما روي عن عمرو بن ميمون الازدي قال: صليت المغرب خلف عمر بن الخطاب فقرء في الركعة الاولى والتين وفي الثانية ألم تر ولايلاف قريش من غير أن يفصل بالبسملة. وأجيب عن الرواية الاولى بمعارضتها بما روي أنه أثبت البسملة بينهما في مصحفه، وعن الثانية بأن من المحتمل على تقدير صحتها أن يكون الراوي لم يسمع قراءتها أو يكون قرأها سرا. على أنها معارض بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن الله فضل قريشا بسبع خصال وفيها " ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم: لايلاف قريش ". الحديث على أن الفصل متواتر. وأما القائلون بذلك من الشيعة فاستندوا فيه إلى ما في المجمع عن أبي العباس عن أحدهما عليهما السلام قال: ألم تر كيف فعل ربك ولايلاف قريش سورة واحدة، وما

[ 365 ]

في التهذيب باسناده عن العلاء عن زيد الشحام قال: صلى بنا أبو عبد الله عليه السلام الفجر فقرء الضحى وألم نشرح في ركعة، وما في المجمع عن العياشي عن المفضل بن صالح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: لا تجمع بين سورتين في ركعة واحدة إلا الضحى وألم نشرح وألم تر كيف ولايلاف قريش، ورواه المحقق في المعتبر نقلا من كتاب الجامع لاحمد بن محمد بن أبي نصر عن المفضل مثله. أما رواية أبي العباس فضعيف لما فيها من الرفع. وأما رواية الشحام فقد رويت عنه بطريقين آخرين: أحدهما ما في التهذيب باسناده عن ابن مسكان عن زيد الشحام قال: صلى بنا أبو عبد الله عليه السلام فقرء بنا بالضحى وألم نشرح، وثانيهما عنه عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن زيد الشحام قال: صلى بنا أبو عبد الله عليه السلام فقرء في الاولى الضحى وفي الثانية ألم نشرح لك صدرك. وهذه أعني صحيحة ابن أبي عمير صريحة في قراءة السورتين في ركعتين ولا يبقى معها لرواية العلاء ظهور في الجمع بينهما، وأما رواية ابن مسكان فلا ظهور لها في الجمع ولا صراحة، وأما حمل ابن أبي عمير على النافلة فيدفعه قوله فيها: " صلى بنا " فإنه صريح في الجماعة ولا جماعة في نفل. وأما رواية المفضل فهي أدل على كونهما سورتين منها على كونهما سورة واحدة حيث قيل: لا تجمع بين سورتين ثم استثني من السورتين الضحى وألم نشرح وكذا الفيل ولايلاف. فالحق أن الروايات إن دلت فإنما تدل على جواز القران بين سورتي الضحى وألم نشرح وسورتي الفيل ولايلاف في ركعة واحدة من الفرائض وهو ممنوع في غيرها، ويؤيده روايه الراوندي في الخرائج عن داود الرقي عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال فلما طلع الفجر قام فأذن وأقام وأقامني عن يمينه وقرء في أول ركعة الحمد والضحى وفي الثانية بالحمد وقل هو الله أحد ثم قنت ثم سلم ثم جلس. قوله تعالى: " لايلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف " الالف بكسر الهمزة اجتماع مع التئام كما قاله الراغب ومنه الالفة، وقال في الصحاح: وفلان قد ألف هذا الموضع بالكسر يألفه إلفا وآلفه إياه غيره، ويقال أيضا: آلفت الموضع أولفه إيلافا، انتهى. وقريش عشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم ولد النضر بن كنانة المسمى قريشا، والرحلة حال السير على الراحلة وهي الناقة القوية على السير كما في المجمع، والمراد بالرحلة خروج قريش

[ 366 ]

من مكة للتجارة وذلك أن الحرم واد جديب لا زرع فيه ولا ضرع فكانت قريش تعيش فيه بالتجارة، وكانت لهم في كل سنة رحلتان للتجارة رحلة في الشتاء إلى اليمن ورحلة بالصيف إلى الشام، وكانوا يعيشون بذلك وكان الناس يحترمونهم لمكان البيت الحرام فلا يتعرضون لهم بقطع طريقهم أو الاغارة على بلدهم الآمن. وقوله: " لايلاف قريش " اللام فيه للتعليل، وفاعل الايلاف هو الله سبحانه وقريش مفعوله الاول ومفعوله الثاني محذوف يدل عليه ما بعده، وقوله: " إيلافهم رحلة الشتاء والصيف " بدل من إيلاف قريش، وفاعل إيلافهم هو الله ومفعوله الاول ضمير الجمع ومفعوله الثاني رحلة الخ، والتقدير لايلاف الله قريشا رحلة الشتاء والصيف. قوله تعالى: " فليعبدوا رب هذا البيت " الفاء في " فليعبدوا " لتوهم معنى الشرط أي أي شئ كان فليعبدوا رب هذا البيت لايلافه أيام الرحلتين أو لتوهم التفصيل أي مهما يكن من شئ فليعبدوا رب هذا البيت الخ، فهو كقوله تعالى: " ولربك فاصبر " المدثر: 7. ومحصل معنى الآيات الثلاث ليعبد قريش رب هذا البيت لاجل إيلافه إياهم رحلة الشتاء والصيف وهم عائشون بذلك في أمن. هذا بالنظر إلى كون السورة منفصلة عما قبلها ذات سياق مستقل في نفسها، وأما على تقدير كونها جزء من سورة الفيل متممة لها فذكروا أن اللام في " لايلاف " تعليلية متعلقة بمقدر يدل عليه المقام والمعنى فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش مضافة إلى نعمتنا عليهم في رحلة الشتاء والصيف فكأنه قال: نعمة إلى نعمة ولذا قيل: إن اللام مؤدية معنى إلى وهو قول الفراء. وقيل: المعنى فعلنا ذلك بأصحاب الفيل لتألف قريش بمكة ويمكنهم المقام بها أو لنؤلف قريشا فإنهم هابوا من أبرهة لما قصدها وهربوا منه فأهلكناهم لترجع قريش إلى مكة ويألفوا بها ويولد محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيبعث إلى الناس بشيرا ونذيرا هذا، والكلام في استفادة هذه المعاني من السياق. قوله تعالى: " الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف " إشارة إلى ما في إيلافهم الرحلتين من منه الواضح ونعمته الظاهرة عليهم وهو الاطعام والامن فيعيشون في أرض لا خصب فيها ولا أمن لغيرهم فليعبدوا ربا يدبر أمرهم أحسن التدبير وهو رب البيت.

[ 367 ]

(بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " لايلاف قريش إيلافهم " قال: نزلت في قريش لانه كان معاشهم من الرحلتين رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام، وكانوا يحملون من مكة الادم واللب وما يقع من ناحية البحر من الفلفل وغيره فيشترون بالشام الثياب والدرمك والحبوب، وكانوا يتألفون في طريقهم ويثبتون في الخروج في كل خرجة رئيسا من رؤساء قريش وكان معاشهم من ذلك. فلما بعث الله نبيه استغنوا عن ذلك لان الناس وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحجوا إلى البيت فقال الله: " فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع " لا يحتاجون أن يذهبوا إلى الشام " وآمنهم من خوف " يعني خوف الطريق. اقول: قوله: فلما بعث الله الخ خفي الانطباق على سياق آيات السورة، ولعله من كلام القمي أخذه من بعض ما روي عن ابن عباس. (سورة الماعون مدنية أو مكية وهي سبع آيات) بسم الله الرحمن الرحيم أرأيت الذي يكذب بالدين - 1. فذلك الذي يدع اليتيم - 2. ولا يحض على طعام المسكين - 3. فويل للمصلين - 4. الذين هم عن صلاتهم ساهون - 5. الذين هم يراؤن - 6. ويمنعون الماعون - 7. (بيان) وعيد لمن كان من المنتحلين بالدين متخلقا بأخلاق المنافقين كالسهو عن الصلاة والرياء في الاعمال ومنع الماعون مما لا يلائم التصديق بالجزاء. والسورة تحتمل المكية والمدنية، وقيل: نصفها مكي ونصفها مدني.

[ 368 ]

قوله تعالى: " أرأيت الذي يكذب بالدين " الرؤية تحتمل الرؤية البصرية وتحتمل أن تكون بمعنى المعرفة، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بما أنه سامع فيتوجه إلى كل سامع، والمراد بالدين الجزاء يوم الجزاء فالمكذب بالدين منكر المعاد وقيل المراد به الدين بمعنى الملة. قوله تعالى: " فذلك الذي يدع اليتيم " الدع هو الرد بعنف وجفاء، والفاء في " فذلك " لتوهم معنى الشرط والتقدير أرأيت الذي يكذب بالجزاء فعرفته بصفاته اللازمة لتكذيبه فإن لم تعرفه فذلك الذي يرد اليتيم بعنف ويجفوه ولا يخاف عاقبة عمله السيئ ولو لم يكذب به لخافها ولو خافها لرحمه. قوله تعالى: " ولا يحض على طعام المسكين " الحض الترغيب، والكلام على تقدير مضاف أي لا يرغب الناس على إطعام طعام المسكين قيل: إن التعبير بالطعام دون الاطعام للاشعار بأن المسكين كأنه مالك لما يعطى له كما في قوله تعالى: " وفي أموالهم حق للسائل والمحروم " الذاريات: 19 وقيل: الطعام في الآية بمعنى الاطعام. والتعبير بالحض دون الاطعام لان الحض أعم من الحض العملي الذي يتحقق بالاطعام. قوله تعالى: " فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون " أي غافلون لا يهتمون بها ولا يبالون أن تفوتهم بالكلية أو بعض الاوقات أو تتأخر عن وقت فضيلتها وهكذا. وفي الآية تطبيق من يكذب بالدين على هؤلاء المصلين لمكان فاء التفريع ودلالة على أنهم لا يخلون من نفاق لانهن يكذبون بالدين عملا وهم يتظاهرون بالايمان. قوله تعالى: " الذين هم يراؤن " أي يأتون بالعبادات لمراآة الناس فهم يعملون للناس لا لله تعالى. قوله تعالى: " ويمنعون الماعون " الماعون كل ما يعين الغير في رفع حاجة من حوائج الحياة كالقرض تقرضه والمعروف تصنعه ومتاع البيت تعيره، والى هذا يرجع متفرقات ما فسر به في كلماتهم. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " أرأيت الذي يكذب بالدين " قال: نزلت في أبي جهل وكفار قريش، وفي قوله: " الذين هم عن صلاتهم ساهون " قال: عنى به تاركون لان كل إنسان يسهو في الصلاة قال أبو عبد الله عليه السلام: تأخير الصلاة عن أول وقتها لغير عذر.

[ 369 ]

وفي الخصال عن علي عليه السلام في حديث الاربعمائة قال: ليس عمل أحب إلى الله عز وجل من الصلاة فلا يشغلنكم عن أوقاتها شئ من امور الدنيا فإن الله عزوجل ذم أقواما فقال: " الذين هم عن صلاتهم ساهون " يعني أنهم غافلون استهانوا بأوقاتها. وفي الكافي باسناده عن محمد بن الفضيل قال: سألت عبدا صالحا عليه السلام عن قول الله عزوجل: " الذين هم عن صلاتهم ساهون " قال هو التضييع. أقول: وفي هذه المضامين روايات أخر. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن علي بن أبي طالب " الذين هم يراؤن " قال: يراؤن بصلاتهم. وفيه أخرج أبو نعيم والديلمي وابن عساكر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " ويمنعون الماعون " قال: ما تعاون الناس بينهم الفاس والقدر والدلو وأشباهه. وفي الكافي باسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال. وقوله عزوجل: " ويمنعون الماعون " هو القرض تقرضه والمعروف تصنعه ومتاع البيت تعيره ومنه الزكاة. أقول: وتفسير الماعون بالزكاة مروي من طرق أهل السنة أيضا عن علي عليه السلام كما في الدر المنثور ولفظه: الماعون الزكاة المفروضة يراؤن بصلاتهم ويمنعون زكاتهم. وفي الدر المنثور أخرج ابن قانع عن علي بن أبي طالب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: المسلم أخو المسلم إذا لقيه حياه بالسلام ويرد عليه ما هو خير منه لا يمنع الماعون قلت: يا رسول الله ما الماعون ؟ قال صلى الله عليه وسلم: الحجر والحديد والماء وأشباه ذلك. أقول: وقد فسر صلى الله عليه وآله وسلم في رواية اخرى الحديد بقدور النحاس وحديد الفاس والحجر بقدور الحجارة. (سورة الكوثر مكية وهي ثلاث آيات) بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر - 1. فصل لربك وانحر - 2. إن شانئك هو الابتر - 3.

[ 370 ]

(بيان) امتنان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعطائه الكوثر وتطييب لنفسه الشريفة بأن شانئه هو الابتر، وهي أقصر سورة في القرآن وقد اختلفت الروايات في كون السورة مكية أو مدنية، والظاهر أنها مكية، وذكر بعضهم أنها نزلت مرتين جمعا بين الروايات. قوله تعالى: " إنا أعطيناك الكوثر " قال في المجمع الكوثر فوعل وهو الشئ الذي من شأنه الكثرة، والكوثر الخير الكثير، انتهى. وقد اختلفت أقوالهم في تفسير الكوثر اختلافا عجيبا فقيل: هو الخير الكثير، وقيل نهر في الجنة، وقيل: حوض النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجنة أو في المحشر، وقيل: أولاده وقيل: أصحابه وأشياعه صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم القيامة، وقيل: علماء امته صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل القرآن وفضائله كثيرة، وقيل النبوة وقيل: تيسير القرآن وتخفيف الشرائع وقيل: الاسلام وقيل التوحيد، وقيل: العلم والحكمة، وقيل: فضائله صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل المقام المحمود، وقيل: هو نور قلبه صلى الله عليه وآله وسلم إلى غير ذلك مما قيل، وقد نقل عن بعضهم أنه أنهى الاقوال إلى ستة وعشرين. وقد استند في القولين الاولين إلى بعض الروايات، وباقي الاقوال لا تخلو من تحكم وكيفما كان فقوله في آخر السورة: " إن شانئك هو الابتر " - وظاهر الابتر هو المنقطع نسله وظاهر الجملة انها من قبيل قصر القلب - ان كثرة ذريته صلى الله عليه وآله وسلم هي المرادة وحدها بالكوثر الذي اعطيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو المراد بها الخير الكثير وكثرة الذرية مرادة في ضمن الخير الكثير ولولا ذلك لكان تحقيق الكلام بقوله: " إن شانئك هو الابتر " خاليا عن الفائدة. وقد استفاضت الروايات أن السورة إنما نزلت فيمن عابه صلى الله عليه وآله وسلم بالبتر بعد ما مات ابناه القاسم وعبد الله، وبذلك يندفع ما قيل: ان مراد الشانئ بقوله: " أبتر " المنقطع عن قومه أو المنقطع عن الخير فرد الله عليه بأنه هو المنقطع من كل خير. ولما في قوله: " انا أعطيناك " من الامتنان عليه صلى الله عليه وآله وسلم جئ بلفظ المتكلم مع الغير الدال على العظمة، ولما فيه من تطييب نفسه الشريفة أكدت الجملة بإن وعبر بلفظ الاعطاء الظاهر في التمليك.

[ 371 ]

والجمله لا تخلو من دلالة على أن ولد فاطمة عليها السلام ذريته صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا في نفسه من ملاحم القرآن الكريم فقد كثر الله تعالى نسله بعده كثرة لا يعادلهم فيها أي نسل آخر مع ما نزل عليهم من النوائب وأفنى جموعهم من المقاتل الذريعة. قوله تعالى: " فصل لربك وانحر " ظاهر السياق في تفريع الامر بالصلاة والنحر على الامتنان في قوله: " إنا أعطيناك الكوثر " انه من شكر النعمة والمعنى إذا مننا عليك بإعطاء الكوثر فاشكر لهذه النعمة بالصلاة والنحر. والمراد بالنحر على ما رواه الفريقان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن علي عليه السلام وروته الشيعة عن الصادق عليه السلام وغيره من الائمة هو رفع اليدين في تكبير الصلاة إلى النحر. وقيل: معنى الآية صل لربك صلاة العيد وانحر البدن، وقيل: يعني صل لربك واستو قائما عند رفع رأسك من الركوع وقيل غير ذلك. قوله تعالى: " إن شانئك هو الابتر " الشانئ هو المبغض والابتر من لا عقب له وهذا الشانئ هو العاصي بن وائل. وقيل: المراد بالابتر المنقطع عن الخير أو المنقطع عن قومه، وقد عرفت أن روايات سبب نزول السورة لا تلائمه وستجيئ. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج البخاري وابن جرير والحاكم من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: الكوثر الخير الذي أعطاه إياه قال أبو بشر قلت لسعيد ابن جبير فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة قال: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه. وفيه أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن علي بن أبي طالب قال: لما نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم " إنا أعطيناك الكوثر " قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي ؟ قال: إنها ليست بنحيرة ولكن يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين في السماوات السبع، وإن لكل شئ زينة وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: رفع اليدين من الاستكانة التي قال الله: " فما استكانوا لربهم

[ 372 ]

وما يتضرعون ". أقول: ورواه في المجمع عن المقاتل عن الاصبغ بن نباتة عنه عليه السلام ثم قال: أورده الثعلبي والواحدي في تفسيرهما، وقال أيضا: إن جميع عترته الطاهرة رووا عنه عليه السلام أن معنى النحر رفع اليدين إلى النحر في الصلاة. وفيه أخرج ابن جرير عن أبي جعفر في قوله: " فصل لربك " قال: الصلاة " وانحر " قال يرفع يديه أول ما يكبر في الافتتاح. وفيه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " فصل لربك وانحر " قال: إن الله أوحى إلى رسوله أن ارفع يديك حذاء نحرك إذا كبرت للصلاة فذاك النحر. وفي المجمع في الآية عن عمر بن يزيد قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول في قوله " فصل لربك وانحر " هو رفع يديك حذاء وجهك. اقول: ثم قال: وروى عنه عبد الله بن سنان مثله، وروى أيضا قريبا منه عن جميل عنه عليه السلام. وفي الدر المنثور أخرج ابن سعد وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان أكبر ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم القاسم ثم زينب ثم عبد الله ثم أم كلثوم ثم فاطمة ثم رقية فمات القاسم وهو أول ميت من ولده بمكة ثم مات عبد الله فقال العاصي بن وائل السهمي قد انقطع نسله فهو أبتر فأنزل الله " إن شانئك هو الابتر ". وفيه أخرج الزبير بن بكار وابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: توفي القاسم ابن رسول الله بمكة فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آت من جنازته على العاصى بن وائل وابنه عمرو فقال حين رآى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لاشنؤه فقال العاصي بن وائل: لا جرم لقد أصبح أبتر فأنزل الله " إن شانئك هو الابتر ". وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: كانت قريش تقول - إذا مات ذكور الرجل - بتر فلان فلما مات ولد النبي صلى الله عليه وسلم قال العاصي بن وائل: بتر والابتر الفرد. اقول: وفي بعض الآثار أن الشانئ هو الوليد بن المغيرة، وفي بعضها أبو جهل وفي بعضها عقبة بن أبي معيط، وفي بعضها كعب بن الاشرف، والمعتمد ما تقدم. ويؤيده ما في احتجاج الطبرسي عن الحسن بن علي عليهما السلام في حديث يخاطب فيه عمرو بن العاصي: وإنك ولدت على فراش مشترك فتحاكمت فيك رجال قريش

[ 373 ]

منهم أبو سفيان بن حرب والوليد بن المغيرة وعثمان بن الحارث والنضر بن الحارث بن كلدة والعاصي بن وائل كلهم يزعم أنك ابنه فغلبهم عليك من بين قريش الامهم حسبا وأخبثهم منصبا وأعظمهم بغية. ثم قمت خطيبا وقلت: أنا شانئ محمد وقال العاصي بن وائل: إن محمدا رجل أبتر لا ولد له فلو قد مات انقطع ذكره فأنزل الله تبارك وتعالى: " إن شانئك هو الابتر " الحديث. وفي تفسير القمي " إنا أعطيناك الكوثر " قال: الكوثر نهر في الجنة أعطى الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عوضا عن ابنه إبراهيم. اقول: الخبر على ارساله واضماره معارض لسائر الروايات وتفسير الكوثر بنهر في الجنة لا ينافي التفسير بالخير الكثير كما تقدم في خبر ابن جبير. (سورة الكافرون مكية وهي ست آيات) بسم الله الرحمن الرحيم قل يا أيها الكافرون - 1. لا أعبد ما تعبدون - 2. ولا أنتم عابدون ما أعبد - 3. ولا أنا عابد ما عبدتم - 4. ولا أنتم عابدون ما أعبد - 5. لكم دينكم ولي دين - 6. (بيان) فيها أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يظهر للكفار براءته من دينهم ويخبرهم بامتناعهم من دينه فلا دينه يتعداه إليهم ولا دينهم يتعداهم إليه فلا يعبد ما يعبدون أبدا ولا يعبدون ما يعبد أبدا فلييأسوا من أي نوع من المداهنة والمساهلة. واختلفوا في كون السورة مكية أو مدنية، والظاهر من سياقها أنها مكية. قوله تعالى: " قل يا أيها الكافرون " الظاهر أن هؤلاء قوم معهودون لا كل كافر ويدل على ذلك أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يخاطبهم ببراءته من دينهم وامتناعهم من دينه. قوله تعالى: " لا أعبد ما تعبدون " الآية إلى آخر السورة مقول القول، والمراد بما

[ 374 ]

تعبدون الاصنام التي كانوا يعبدونها، ومفعول " يعبدون " ضمير راجع إلى الموصول محذوف لدلالة الكلام عليه ولرعاية الفواصل، وكذا مفاعيل الافعال التالية: " أعبد " و " عبدتم " و " أعبد ". وقوله: " لا أعبد " نفي استقبالي فإن " لا " لنفي الاستقبال كما أن " ما " لنفي الحال، والمعنى لا أعبد أبدا ما تعبدونه اليوم من الاصنام. قوله تعالى: " ولا أنتم عابدون ما أعبد " نفي استقبالي أيضا لعبادتهم ما يعبده صلى الله عليه وآله وسلم وهو اخبار عن امتناعهم عن الدخول في دين التوحيد في مستقبل الامر. وبانضمام الامر الذي في مفتتح الكلام تفيد الآيتان أن الله سبحانه أمرني بالدوام على عبادته وأن أخبركم أنكم لا تعبدونه أبدا فلا يقع بيني وبينكم اشتراك في الدين أبدا. فالآية في معنى قوله تعالى: " لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون " يس: 7، وقوله: " إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " البقرة: 6. وكان من حق الكلام أن يقال: ولا أنتم عابدون من أعبد. لكن قيل: ما أعبد ليطابق ما في قوله: " لا أعبد ما تعبدون ". قوله تعالى: " ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد " تكرار لمضمون الجملتين السابقتين لزيادة التأكيد، كقوله: " كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون " التكاثر: 4 وقوله: " فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر " المدثر: 20. وقيل: إن " ما " في " ما عبدتم " و " ما أعبد " مصدرية لا موصولة والمعنى ولا أنا عابد عبادتكم ولا أنتم عابدون عبادتي أي لا اشارككم ولا تشاركونني لا في المعبود ولا في العبادة فمعبودي هو الله ومعبودكم الوثن وعبادتي ما شرعه الله لي وعبادتكم ما ابتدعتموه جهلا وافتراء، وعلى هذا فالآيتان غير مسوقتين للتأكيد، ولا يخلو من بعد وسيأتي في البحث الروائي التالي وجه آخر للتكرار لطيف. قوله تعالى: " لكم دينكم ولي دين " تأكيد بحسب المعنى لما تقدم من نفي الاشتراك، واللام للاختصاص أي دينكم وهو عبادة الاصنام يختص بكم ولا يتعداكم إلى وديني يختص بي ولا يتعداني إليكم ولا محل لتوهم دلالة الآية على إباحة أخذ كل بما يرتضيه من الدين ولا أنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يتعرض لدينهم بعد ذلك فالدعوة الحقة التي يتضمنها القرآن تدفع ذلك أساسا.

[ 375 ]

وقيل: الدين في الآية بمعنى الجزاء والمعنى لكم جزاؤكم ولي جزائي، وقيل: إن هناك مضافا محذوفا والتقدير لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني، والوجهان بعيدان عن الفهم. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن الانباري في المصاحف عن سعيد بن ميناء مولى أبي البختري قال: لقي الوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل والاسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد ولنشترك نحن وانت في أمرنا كله فإن كان الذي نحن عليه أصح من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظا وإن كان الذي انت عليه أصح من الذي نحن عليه كنا قد أخذنا منه حظا فأنزل الله " قل يا أيها الكافرون لا اعبدما تعبدون " حتى انقضت السورة. اقول: وروى الشيخ في الامالي بإسناده عن ميناء عن غير واحد من اصحابه قريبا منه. وفي تفسير القمي عن أبيه عن ابن أبي عمير قال: سأل أبو شاكر أبا جعفر الاحول عن قول الله: " قل أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد " فهل يتكلم الحكيم بمثل هذا القول، ويكرر مرة بعد مرة ؟ فلم يكن عند أبي جعفر الاحول في ذلك جواب. فدخل المدينة فسأل أبا عبد الله عليه السلام عن ذلك فقال: كان سبب نزولها وتكرارها أن قريشا قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة فأجابهم الله بمثل ما قالوا فقال فيما قالوا: تعبد آلهتنا سنة: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، وفيما قالوا: نعبد إلهك سنة: ولا أنتم عابدون ما أعبد، وفيما قالوا: تعبد آلهتنا سنة: " ولا أنا عابد ما عبدتم " وفيما قالوا: نعبد إلهك سنة: " ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين ". قال: فرجع ابو جعفر الاحول إلى ابي شاكر فأخبره بذلك فقال ابو شاكر: هذا حملته الابل من الحجاز. اقول: مفاد التكرار في كلام قريش الاستمرار على عبادة آلهتهم سنة وعبادة الله تعالى سنة.

[ 376 ]

(سورة النصر مدنية وهي ثلاث آيات) بسم الله الرحمن الرحيم إذا جاء نصر الله والفتح - 1. ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا - 2. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا - 3. (بيان) وعدله صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر والفتح وأنه سيرى الناس يدخلون في الاسلام فوجا بعد فوج وأمره بالتسبيح حينئذ والتحميد والاستغفار، والسورة مدنية نزلت بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة على ما سنستظهر. قوله تعالى: " إذا جاء نصر الله والفتح " ظهور " إذا " المصدرة بها الآية في الاستقبال يستدعي أن يكون مضمون الآية إخبارا بتحقق أمر لم يتحقق بعد، وإذا كان المخبر به هو النصر والفتح وذلك مما تقر به عين النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو وعد جميل وبشرى له صلى الله عليه وآله وسلم ويكون من ملاحم القرآن الكريم. وليس المراد بالنصر والفتح جنسهما حتى يصدقا على جميع المواقف التي أيد الله فيها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على أعدائه وأظهر دينه على دينهم كما في حروبه ومغازيه وإيمان الانصار وأهل اليمن كما قبل إذ لا يلائمه قوله بعد: " ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ". وليس المراد بذلك أيضا صلح الحديبية الذي سماه الله تعالى فتحا إذ قال " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " الفتح: 1 - لعدم انطباق الآية الثانية بمضمونها عليه. وأوضح ما يقبل الانطباق عليه النصر والفتح المذكوران في الآية هو فتح مكة الذي هو أم فتوحاته " ص " في زمن حياته والنصر الباهر الذي انهدم به بنيان الشرك في جزيرة العرب. ويؤيده وعد النصر الذي في الآيات النازلة في الحديبية " إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا " الفتح: 3 فإن من القريب جدا أن يكون ما في الآيات وعدا بنصر عزيز يرتبط بفتح الحديبية وهو نصره تعالى نبيه " ص " على قريش حتى فتح مكة بعد

[ 377 ]

مضى سنتين من فتح الحديبية. وهذا الذي ذكر أقرب من حمل الآية على إجابة أهل اليمن الدعوة الحقة ودخولهم في الاسلام من غير قتال، فالاقرب إلى الاعتبار كون المراد بالنصر والفتح نصره تعالى نبيه " ص " على قريش وفتح مكة، وأن تكون السورة نازلة بعد صلح الحديبية ونزول سورة الفتح وقبل فتح مكة. قوله تعالى: " ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا " قال الراغب: الفوج الجماعة المارة المسرعة، وجمعه أفواج. انتهى. فمعنى دخول الناس في دين الله أفواجا دخولهم فيه جماعة بعد جماعة، والمراد بدين الله الاسلام قال تعالى: " إن الدين عند الله الاسلام " آل عمران: 19. قوله تعالى: " فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا " لما كان هذا النصر والفتح إذلالا منه تعالى للشرك وإعزازا للتوحيد وبعبارة أخرى إبطالا للباطل وإحقاقا للحق ناسب من الجهة الاولى تنزيهه تعالى وتسبيحه، وناسب من الجهة الثانية - التي هي نعمة - الثناء عليه تعالى وحمده فلذلك أمره " ص " بقوله: " فسبح بحمد ربك ". وههنا وجه آخر يوجه به الامر بالتسبيح والتحميد والاستغفار جميعا وهو أن للرب تعالى: " على عبده أن يذكره بصفات كماله ويذكر نفسه بما له من النقص والحاجة ولما كان في هذا الفتح فراغه " ص " من جل ما كان عليه من السعي في إماطة الباطل وقطع دابر الفساد أمر أن يذكره عند ذلك بجلاله وهو التسبيح وجماله وهو التحميد وأن يذكره بنقص نفسه وحاجته إلى ربه وهو طلب المغفرة ومعناه فيه " ص " - وهو مغفور - سؤال إدامة المغفرة فإن الحاجة إلى المغفرة بقاء كالحاجة إليها حدوثا فافهم ذلك، وبذلك يتم شكره لربه تعالى وقد تقدم (1) كلام في معنى مغفرة الذنب في الابحاث السابقة. وقوله: " إنه كان توابا " تعليل للامر بالاستغفار لا يخلو من تشويق وتأكيد. (بحث روائي) في المجمع عن مقاتل: لما نزلت هذه السورة قرأها " ص " على أصحابه ففرحوا واستبشروا وسمعها العباس فبكى فقال " ص ": ما يبكيك يا عم ؟ قال: أظن أنه قد


(1) في آخر الجزء السادس من الكتاب.

[ 378 ]

نعيت اليك نفسك يا رسول الله فقال: إنه لكما تقول فعاش بعدها سنتين ما رؤي بعدها ضاحكا مستبشرا. اقول: وروي هذا المعنى في عدة روايات بألفاظ مختلفة وقيل في وجه دلالتها أن سياقها يلوح إلى فراغه " ص " مما عليه من السعي والمجاهدة وتمام امره، وعند الكمال يرقب الزوال. وفيه عن ام سلمة قالت: كان رسول الله " ص " بالآخرة لا يقوم ولا يقعد ولا يجئ ولا يذهب إلا قال: سبحان الله وبحمده استغفر الله واتوب إليه فسألناه عن ذلك فقال: إني أمرت بها ثم قرء " إذا جاء نصر الله والفتح ". أقول: وفي هذا المعنى غير واحد من الروايات مع اختلاف ما فيما كان يقوله " ص ". وفي العيون باسناده إلى الحسين بن خالد قال: قال الرضا عليه السلام سمعت ابى يحدث عن ابيه عليهما السلام ان اول سورة نزلت " بسم الله الرحمن الرحيم اقرء باسم ربك " وآخر سورة نزلت " إذا جاء نصر الله ". اقول: لعل المراد به أنها آخر سورة نزلت تامة كما قيل. وفي المجمع في قصة فتح مكة: لما صالح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريشا عام الحديبية كان في أشراطهم أنه من أحب أن يدخل في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل فيه فدخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودخلت بنو بكر في عقد قريش، وكان بين القبيلتين شر قديم. ثم وقعت فيما بعد بين بني بكر وخزاعة مقاتلة ورفدت قريش بني بكر بالسلاح وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفيا، وكان ممن أعان بني بكر على خزاعة بنفسه عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو. فركب عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وكان ذلك مما هاج فتح مكة فوقف عليه وهو في المسجد بين ظهراني القوم وقال: لا هم إني نأشد (1) محمدا * حلف أبينا وأبيه الا تلدا (2) إن قريشا أخلفوك الموعدا * ونقضوا ميثاقك المؤكدا وقتلونا ركعا وسجدا


(1) الناشد: الطالب والذكور. (2) الا تلد: القديم.

[ 379 ]

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حسبك يا عمرو ثم قام فدخل دار ميمونة وقال: اسكبي لي ماء فجعل يغتسل وهو يقول: لا نصرت إن لم أنصر بني كعب وهم رهط عمرو بن سالم ثم خرج بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبروه بما أصيب منهم ومظاهرة قريش بني بكر عليهم ثم انصرفوا راجعين إلى مكة وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم قال للناس: كأنكم بأبي سفيان قد جاء ليشدد العقد ويزيد في المدة وسيلقي بديل بن ورقاء فلقوا أبا سفيان بعسفان وقد بعثته قريش إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليشدد العقد. فلما لقي أبو سفيان بديلا قال: من أين أقبلت يا بديل قال: سرت في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي قال: ما أتيت محمدا ؟ قال: لا فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء من المدينة لقد علف بها النوى فعمد إلى مبرك ناقته وأخذ من بعرها ففته فرآى فيها النوى فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا. ثم خرج أبو سفيان حتى قدم إلى رسول الله " ص " فقال: يا محمد احقن دماء قومك وأجر بين قريش وزدنا في المدة فقال: أغدرتم يا أبا سفيان ؟ قال: لا فقال: فنحن على ما كنا عليه فخرج فلقي أبا بكر فقال: أجر بين قريش قال: ويحك وأحد يجير على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ثم لقي عمر بن الخطاب فقال له مثل ذلك ثم خرج فدخل على أم حبيبة فذهب ليجلس على الفراش فأهوت إلى الفراش فطوته فقال: يا بنية أرغبت بهذا الفراش عني ؟ فقالت: نعم هذا فراش رسول الله " ص " ما كنت لتجلس عليه وأنت رجس مشرك. ثم خرج فدخل على فاطمة عليها السلام فقال: يا بنت سيد العرب تجيرين بين قريش وتزيدين في المدة فتكونين أكرم سيدة في الناس ؟ فقالت: جواري جوار رسول الله صلى الله عليه وآله. قال: أتأمرين ابنيك أن يجيرا بين الناس ؟ قالت: والله ما بلغ ابناي أن يجيرا بين الناس وما يجير على رسول الله " ص " أحد فقال: يا أبا الحسن إني أرى الامور قد اشتدت علي فانصحني فقال علي عليه السلام: إنك شيخ قريش فقم على باب المسجد واجربين قريش ثم الحق بأرضك قال: وترى ذلك مغنيا عني شيئا ؟ قال: لا والله ما اظن ذلك ولكن لا اجد لك غير ذلك فقام ابو سفيان في المسجد فقال: يا ايها الناس إني قد اجرت بين قريش ثم ركب بعيره فانطلق.

[ 380 ]

فلما قدم على قريش قالوا: ما وراءك ؟ فأخبرهم بالقصة فقالوا: والله إن زاد علي بن أبي طالب على ان لعب بك فما يغني عنا ما قلت ؟ قال: لا والله ما وجدت غير ذلك. قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجهاز لحرب مكة وامر الناس بالتهيئة وقال: اللهم خذ العيون والاخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها، وكتب حاطب بن ابي بلتعة إلى قريش فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخبر من السماء فبعث عليا عليه السلام والزبير حتى اخذا كتابه من المرأه وقد مضت هذه القصة في سورة الممتحنة. ثم استخلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا ذر الغفاري وخرج عامدا إلى مكة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان في عشرة آلاف من المسلمين ونحو من أربعمائة فارس ولم يتخلف من المهاجرين والانصار عنه أحد. وقد كان ابو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن أمية بن المغيرة قد لقيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنيق العقاب فيما بين مكة والمدينة فالتمسا الدخول عليه فلم يأذن لهما فكلمته أم سلمة فيهما فقالت: يا رسول الله ابن عمك وابن عمتك وصهرك قال لا حاجة لي فيهما اما ابن عمي فهتك عرضي، واما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال فلما خرج الخبر إليهما بذلك ومع ابي سفيان بني له قال: والله ليأذنن لي أو لآخذن بيد بني هذا ثم لنذهبن في الارض حتى نموت عطشا وجوعا فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رق لهما فأذن لهما فدخلا عليه فأسلما. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر الظهران وقد غمت الاخبار عن قريش فلا يأتيهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبر خرج في تلك الليلة ابو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل ابن ورقاء يتجسسون الاخبار وقد قال العباس ليلة ئذ: يا سوء صباح قريش والله لئن بغتها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بلادها فدخل مكة عنوة إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر فخرج على بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: أخرج إلى الاراك لعلي أرى خطابا أو صاحب لبن أو داخلا يدخل مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيأتونه فيستأمنونه. قال العباس فو الله إني لاطوف في الاراك ألتمس ما خرجت له إذ سمعت صوت أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء وسمعت أبا سفيان يقول: والله ما رأيت كالليلة قط نيرانا فقال بديل: هذه نيران خزاعة فقال أبو سفيان: خزاعة ألام من ذلك

[ 381 ]

قال: فعرفت صوته فقلت: يا أبا حنظلة يعني أبا سفيان فقال: ابو الفضل ؟ فقلت: نعم قال: لبيك فداك أبي وامى ما وراءك ؟ فقلت: هذا رسول الله وراءك قد جاء بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين. قال: فما تأمرني ؟ قلت تركب عجز هذه البغلة فاستأمن لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فو الله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فردفني فخرجت أركض به بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: هذا عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بغلة رسول الله حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال يعني عمر: يا أبا سفيان الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد ولا عقد ثم اشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وركضت البغلة حتى اقتحمت باب القبة وسبقت عمر بما يسبق به الدابة البطيئة الرجل البطئ. فدخل عمر فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد فدعني أضرب عنقه فقلت: يا رسول الله إني قد أجرته ثم إني جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذت برأسه وقلت: والله لا يناجيه اليوم أحد دوني فلما أكثر فيه عمر قلت: مهلا يا عمر فو الله ما يصنع هذا الرجل إلا أنه رجل من آل بني عبد مناف ولو كان من عدي بن كعب ما قلت هذا قال: مهلا يا عباس لاسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم فقال صلى الله عليه وآله وسلم: اذهب فقد آمناه حتى تغدو به علي في الغداة. قال: فلما أصبح غدوت به على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟ فقال: بأبي أنت وأمي ما أوصلك وأكرمك وأرحمك وأحلمك والله لقد ظننت أن لو كان معه إله لاغنى يوم بدر ويوم احد فقال: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟ فقال: بأبي أنت وامي أما هذه فإن في النفس منها شيئا قال العباس: فقلت له: ويحك اشهد بشهادة الحق قبل أن يضرب عنقك فتشهد. فقال صلى الله عليه وآله وسلم للعباس: انصرف يا عباس فاحبسه عند مضيق الوادي حتى يمر عليه جنود الله قال: فحبسته عند خطم (1) الجبل بمضيق الوادي ومر عليه القبائل قبيلة قبيلة وهو يقول: من هؤلاء ؟ وأقول: أسلم وجهينة وفلان حتى مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الكتيبة الخضراء من المهاجرين والانصار في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق فقال:


(1) خطم الجبل: أنفه.

[ 382 ]

من هؤلاء يا أبا الفضل ؟ قلت: هذا رسول الله في المهاجرين والانصار فقال: يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما، فقلت: ويحك إنها النبوة فقال: نعم إذا. وجاء حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأسلما وبايعاه فلما بايعاه بعثهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين يديه إلى قريش يدعوانهم إلى الاسلام وقال: من دخل دار أبي سفيان وهي بأعلى مكة فهو آمن، ومن دخل دار حكيم وهي بأسفل مكة فهو آمن، ومن أغلق بابه وكف يده فهو آمن. ولما خرج أبو سفيان وحكيم من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عامدين إلى مكة بعث في اثرهما الزبير بن العوام وأمره على خيل المهاجرين وأمره أن يغرز رايته بأعلى مكة بالحجون وقال له: لا تبرح حتى آتيك ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة وضربت هناك خيمته، وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الانصار في مقدمته، وبعث الخالد بن الوليد فيمن كان أسلم من قضاعة وبني سليم وأمره أن يدخل أسفل مكة ويغرز رايته دون البيوت. وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جميعا أن يكفوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم، وأمرهم بقتل أربعة نفر عبد الله بن سعد بن أبي سرح والحويرث بن نفيل وابن خطل ومقبس بن ضبابة وأمرهم بقتل قينتين كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة فقتل علي عليه السلام الحويرث بن نفيل وإحدى القينتين وأفلتت الاخرى، وقتل مقبس بن ضبابة في السوق، وأدرك ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا فقتله. قال: وسعى أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ غرزه أي ركابه فقبله ثم قال: بأبي أنت وامى أما تسمع ما يقول سعد إنه يقول: اليوم يوم الملحمة * اليوم تسبى الحرمة فقال صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: أدركه وخذ الراية منه وكن أنت الذي يدخل بها وأدخلها إدخالا رفيقا فأخذها علي عليه السلام وأدخلها كما أمر. ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة دخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنون أن السيف لا يرفع عنهم وأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووقف قائما على باب الكعبة فقال: لا إله إلا الله وحده وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده ألا إن كل مال أو مأثرة ودم يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة الكعبة وسقاية الحاج فإنهما مردودتان إلى أهليهما، ألا إن

[ 383 ]

مكة محرمة بتحريم الله لم تحل لاحد كان قبلي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار وهي محرمة إلى أن تقوم الساعة لا يختلى خلاها، ولا يقطع شجرها ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد. ثم قال: ألا لبئس جيران النبي كنتم لقد كذبتم وطردتم وأخرجتم وآذيتم ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلونني فاذهبوا فأنتم الطلقاء فخرج القوم فكأنما أنشروا من القبور ودخلوا في الاسلام، وكان الله سبحانه أمكنه من رقابهم عنوة فكانوا له فيئا فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء. وجاء ابن الزبعرى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأسلم وقال: يا رسول الاله إن لساني * راتق ما فتقت إذ أنا بور (1) إذ أباري (2) الشيطان في سنن (3) * الغي ومن مال ميله مثبور آمن اللحم والعظام لربي * ثم نفسي الشهيد أنت النذير قال: وعن ابن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: " جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ". وعن ابن عباس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة فامر بها فاخرجت وصورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وفي أيديهما الازلام فقال صلى الله عليه وآله وسلم قاتلهم الله أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط. أقول: والروايات حول قصة الفتح كثيرة من أراد استقصاءها فعليه بكتب السير وجوامع الاخبار وما تقدم كالملخص منها. (سورة تبت مكية وهي خمس آيات) بسم الله الرحمن الرحيم تبت يدا أبي لهب وتب - 1. ما أغنى


(1) النور: الهالك. (2) المباراة: المباهاة. (3) السنن: وسط الطريق.

[ 384 ]

عنه ماله وما كسب - 2. سيصلى نارا ذات لهب - 3. وامرأته حمالة الحطب - 4. في جيدها حبل من مسد - 5. (بيان) وعيد شديد لابي لهب بهلاك نفسه وعمله وبنار جهنم ولامرأته، والسورة مكية. قوله تعالى: " تبت يدا أبي لهب وتب " التب والتباب هو الخسران والهلاك على ما ذكره الجوهري، ودوام الخسران على ما ذكره الراغب، وقيل: الخيبة، وقيل الخلو من كل خير والمعاني - كما قيل - متقاربة فيد الانسان هي عضوه الذي يتوصل به إلى تحصيل مقاصده وينسب إليه جل أعماله، وتباب يديه خسرانهما فيما تكتسبانه من عمل وإن شئت فقل: بطلان أعماله التي يعملها بهما من حيث عدم انتهائها إلى غرض مطلوب وعدم انتفاعه بشئ منها وتباب نفسه خسرانها في نفسها بحرمانها من سعادة دائمة وهو هلاكها المؤبد. فقوله: " تبت يدا أبي لهب وتب " أي أبو لهب، دعاء عليه بهلاك نفسه وبطلان ما كان يأتيه من الاعمال لاطفاء نور النبوة أو قضاء منه تعالى بذلك. وأبو لهب هذا هو أبو لهب بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان شديد المعاداة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مصرا في تكذيبه مبالغا في إيذائه بما يستطيعه من قول وفعل وهو الذي قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: تبا لك لما دعاهم إلى الاسلام لاول مرة فنزلت السورة ورد الله التباب عليه. وذكر بعضهم أن أبا لهب اسمه وإن كان في صورة الكنية، وقيل: اسمه عبد العزى وقيل: عبد مناف وأحسن ما قيل في ذكره في الآية بكنيته لا باسمه أن في ذلك تهكما به لان أبا لهب يشعر بالنسبة إلى لهب النار كما يقال أبو الخير وأبو الفضل وأبو الشر في النسبة إلى الخير والفضل والشر فلما قيل: " سيصلى نارا ذات لهب " فهم منه أن قوله: " تبت يدا أبي لهب " في معنى قولنا: تبت يدا جهنمي يلازم لهبها. وقيل: لم يذكر باسمه وهو عبد العزى لان عزى اسم صنم فكره أن يعد بحسب اللفظ عبدا لغير الله وهو عبد الله وإن كان الاسم إنما يقصد به المسمى. قوله تعالى: " ما أغنى عنه ماله وما كسب " ما الاولى نافية وما الثانية موصولة

[ 385 ]

ومعنى " ما كسب " الذي كسبه بأعماله وهو أثر أعماله أو مصدرية والمعنى كسبه بيديه وهو عمله، والمعنى ما أغنى عنه عمله. ومعنى الآية على أي حال لم يدفع عنه ماله ولا عمله - أو أثر عمله - تباب نفسه ويديه الذي كتب عليه أودعي عليه. قوله تعالى: " سيصلى نارا ذات لهب " أي سيدخل نارا ذات لهب وهي نار جهنم الخالدة، وفي تنكير لهب تفخيم له وتهويل. قوله تعالى: " وامرأته حمالة الحطب " عطف على ضمير الفاعل المستكن في " سيصلى " والتقدير: وستصلى امرأته الخ و " حمالة الحطب " بالنصب وصف مقطوع عن الوصفية للذم أي أذم حمالة الحطب، وقيل: حال من " امرأته " وهو معنى لطيف على ما سيأتي. قوله تعالى: " في جيدها حبل من مسد " المسد حبل مفتول من الليف، والجملة حال ثانية من امرأته. والظاهر أن المراد بالآيتين أنها ستتمثل في النار التي تصلاها يوم القيامة في هيئتها التي كانت تتلبس بها في الدنيا وهي أنها كانت تحمل أغصان الشوك وغيرها تطرحها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تؤذيه بذلك فتعذب بالنار وهي تحمل الحطب وفي جيدها حبل من مسد. قال في مجمع البيان: وإذا قيل: هل كان يلزم أبا لهب الايمان بعد هذه السورة وهل كان يقدر على الايمان ولو آمن لكان فيه تكذيب خبر الله سبحانه بأنه سيصلى نارا ذات لهب. فالجواب أن الايمان يلزمه لان تكليف الايمان ثابت عليه وإنما توعده الله بشرط أن لا يؤمن انتهى موضع الحاجة. أقول: مبنى الاشكال على الغفلة من أن تعلق القضاء الحتمي منه تعالى بفعل الانسان الاختياري لا يستوجب بطلان الاختيار واضطرار الانسان على الفعل فان الارادة الالهية - وكذا فعله تعالى - إنما يتعلق بفعله الاختياري على ما هو عليه أي أن يفعل الانسان باختياره كذا وكذا فلو لم يقع الفعل اختياريا تخلف مراده تعالى عن إرادته وهو محال وإذا كان الفعل المتعلق للقضاء الموجب اختياريا كان تركه أيضا اختياريا وإن كان لا يقع فافهم وقد تقدم هذا البحث في غير موضع من المباحث السابقة. (25 - الميزان - 20)

[ 386 ]

فقد ظهر بذلك أن أبا لهب كان في اختياره أن يؤمن وينجو بذلك عن النار التي كان من المقضي المحتوم أن يدخلها بكفره. ومن هذا الباب الآيات النازلة في كفار قريش أنهم لا يؤمنون كقوله: " إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " البقرة: 6، وقوله: " لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون " يس: 7، ومن هذا الباب أيضا آيات الطبع على القلوب. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: " وأنذر عشيرتك الاقربين " عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية صعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصفا فقال: يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش فقالوا: ما لك ؟ فقال: أرأيتكم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم وممسيكم ما كنتم تصدقونني ؟ قالوا: بلى. قال: فاني نذير لكم بين يدي عذاب شديد قال أبو لهب: تبا لك ألهذا دعوتنا جميعا ؟ فأنزل الله عزوجل " تبت يدا أبي لهب ". أقول: ورواه أيضا في تفسير السورة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ولم يذكر فيه كون الدعوة عند نزول آية " وأنذر عشيرتك " الآية. وفيه أيضا عن طارق المحاربي قال: بينما أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا بشاب يقول أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وإذا برجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول: يا أيها الناس إنه كذاب فلا تصدقوه: فقلت: من هذا ؟ فقالوا: هو محمد يزعم أنه نبي وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب. وفي قرب الاسناد بإسناده إلى موسى بن جعفر عليه السلام في حديث طويل يذكر فيه آيات النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من ذلك أن ام جميل امرأه أبي لهب أتته حين نزلت سورة تبت ومع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر بن أبي قحافة فقال: يا رسول الله هذه ام جميل محفظة اي مغضبة تريدك ومعها حجر تريد ان ترميك به فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إنها لا تراني فقالت لابي بكر: أين صاحبك ؟ قال: حيث شاء الله قالت: جئته ولو أراه لرميته فإنه هجاني واللات والعزى إني لشاعرة فقال أبو بكر: يا رسول الله لم ترك ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: لا. ضرب الله بيني وبينها حجابا. أقول: وروي ما يقرب منه بغير واحد من طرق أهل السنة.

[ 387 ]

وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وامرأته حمالة الحطب " قال: كانت ام جميل بنت صخر وكانت تنم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتنقل أحاديثه إلى الكفار. (سورة الاخلاص مكية وهي أربع آيات) بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد - 1. الله الصمد - 2. لم يلد ولم يولد - 3. ولم يكن له كفوا أحد - 4. (بيان) السورة تصفه تعالى بأحدية الذات ورجوع ما سواه إليه في جميع حوائجه الوجودية من دون أن يشاركه شئ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وهو التوحيد القرآني الذي يختص به القرآن الكريم ويبني عليه جميع المعارف الاسلامية. وقد تكاثرت الاخبار في فضل السورة حتى ورد من طرق الفريقين انها تعدل ثلث القرآن كما سيجئ إن شاء الله. والسورة تحتمل المكية والمدنية، والظاهر من بعض ما ورد في سبب نزولها أنها مكية. قوله تعالى: " قل هو الله أحد " هو ضمير الشأن والقصة يفيد الاهتمام بمضمون الجملة التالية له، والحق أن لفظ الجلالة علم بالغلبة له تعالى بالعربية كما أن له في غيرها من اللغات اسما خاصا به، وقد تقدم بعض الكلام فيه في تفسير سورة الفاتحة. وأحد وصف مأخوذ من الوحدة كالواحد غير أن الاحد إنما يطلق على ما لا يقبل الكثرة لا خارجا ولا ذهنا ولذلك لا يقبل العد ولا يدخل في العدد بخلاف الواحد فإن كل واحد له ثانيا وثالثا إما خارجا وإما ذهنا بتوهم أو بفرض العقل فيصير بانضمامه كثيرا، وأما الاحد فكل ما فرض له ثانيا كان هو هو لم يزد عليه شئ. واعتبر ذلك في قولك: ما جاءني من القوم أحد فإنك تنفي به مجئ اثنين منهم وأكثر كما تنفي مجئ واحد منهم بخلاف ما لو قلت: ما جاءني واحد منهم فإنك إنما تنفي به مجئ واحد منهم بالعدد ولا ينافيه مجئ اثنين منهم أو أكثر، ولافادته هذا المعنى لا يستعمل في الايجاب مطلقا إلا فيه تعالى ومن لطيف البيان في هذا الباب قول

[ 388 ]

علي عليه أفضل السلام في بعض خطبه في توحيده تعالى: كل مسمى بالوحدة غيره قليل، وقد أوردنا طرفا من كلامه عليه السلام في التوحيد في ذيل البحث عن توحيد القرآن في الجزء السادس من الكتاب. قوله تعالى: " الله الصمد " الاصل في معنى الصمد القصد أو القصد مع الاعتماد يقال: صمده يصمده صمدا من باب نصر أي قصده أو قصده معتمدا عليه، وقد فسروا الصمد - وهو صفة - بمعاني متعددة مرجع اكثرها إلى انه السيد المصمود إليه اي المقصود في الحوائج، وإذا اطلق في الآية ولم يقيد بقيد فهو المقصود في الحوائج على الاطلاق. وإذا كان الله تعالى هو الموجد لكل ذي وجود مما سواه يحتاج إليه فيقصده كل ما صدق عليه انه شئ غيره، في ذاته وصفاته وآثاره قال تعالى: " ألا له الخلق والامر " الاعراف: 54 وقال واطلق: " وان إلى ربك المنتهى " النجم: 42 فهو الصمد في كل حاجة في الوجود لا يقصد شيئا إلا وهو الذي ينتهي إليه قصده وينجح به طلبته ويقضي به حاجته. ومن هنا يظهر وجه دخول اللام في الصمد وانه لافادة الحصر فهو تعالى وحده الصمد على الاطلاق، وهذا بخلاف احد في قوله: " الله احد " فإن احدا بما يفيده من معنى الوحدة الخاصة لا يطلق في الاثبات على غيره تعالى فلا حاجة فيه إلى عهد أو حصر. واما إظهار اسم الجلالة ثانيا حيث قيل: " الله الصمد " ولم يقل: هو الصمد، ولم يقل: الله احد صمد فالظاهر ان ذلك للاشارة إلى كون كل من الجملتين وحدها كافية في تعريفه تعالى حيث إن المقام مقام تعريفه تعالى بصفة تختص به فقيل: الله احد الله الصمد إشارة إلى ان المعرفة به حاصلة سواء قيل كذا أو قيل كذا. والآيتان مع ذلك تصفانه تعالى بصفة الذات وصفة الفعل جميعا فقوله: " الله احد " يصفه بالاحدية التي هي عين الذات، وقوله: " الله الصمد " يصفه بانتهاء كل شئ إليه وهو من صفات الفعل. وقيل: الصمد بمعنى المصمت الذي ليس بأجوف فلا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يلد ولا يولد وعلى هذا يكون قوله: " لم يلد ولم يولد " تفسيرا للصمد. قوله تعالى: " لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " الآيتان الكريمتان تنفيان عنه تعالى أن يلد شيئا بتجزيه في نفسه فينفصل عنه شئ سنخه بأي معنى أريد من الانفصال

[ 389 ]

والاشتقاق كما يقول به النصارى في المسيح عليه السلام انه ابن الله وكما يقول الوثنية في بعض آلهتهم أنهم أبناء الله سبحانه. وتنفيان عنه أن يكون متولدا من شئ آخر ومشتقا منه بأي معنى اريد من الاشتقاق كما يقول الوثنية ففي آلهتهم من هو إله أبواله ومن هو إلهة ام إله ومن هو إله ابن إله. وتنفيان أن يكون له كفؤ يعدله في ذاته أو في فعله (1) وهو الايجاد والتدبير ولم يقل أحد من المليين وغيرهم بالكفؤ الذاتي بأن يقول بتعدد واجب الوجود عز اسمه، وأما الكفؤ في فعله وهو التدبير فقد قيل به كآلهة الوثنية من البشر كفرعون ونمرود من المدعين للالوهية وملاك الكفاءة عندهم استقلال من يرون الوهيته في تدبير ما فوض إليه تدبيره كما أنه تعالى مستقل في تدبير من يدبره وهم الارباب والآلهة وهو رب الارباب وإله الآلهة. وفي معنى كفاءة هذا النوع من الاله ما يفرض من استقلال الفعل في شئ من الممكنات فإنه كفاءة مرجعها استغناؤه عنه تعالى وهو محتاج من كل جهة والآية تنفيها. وهذه الصفات الثلاث المنفية وإن امكن تفريع نفيها على صفة احديته تعالى بوجه لكن الاسبق إلى الذهن تفرعها على صفة صمديته. اما كونه لم يلد فإن الولادة التي هي نوع من التجزي والتبعض بأي معنى فسرت لا تخلو من تركيب فيمن يلد، وحاجة المركب إلى اجزائه ضرورية والله سبحانه صمد ينتهي إليه كل محتاج في حاجته ولا حاجة له، واما كونه لم يولد فان تولد شئ من شئ لا يتم إلا مع حاجة من المتولد إلى ما ولد منه في وجوده وهو سبحانه صمد لا حاجة له، واما انه لا كفؤ له فلان الكفؤ سواء فرض كفوا له في ذاته أو في فعله لا تتحقق كفاءته إلا مع استقلاله واستغنائه عنه تعالى فيما فيه الكفاءة والله سبحانه صمد على الاطلاق يحتاج إليه كل من سواه من كل جهة مفروضة. فقد تبين ان ما في الآيتين من النفي متفرع على صمديته تعالى ومآل ما ذكر من صمديته تعالى وما يتفرع عليه إلى إثبات توحده تعالى في ذاته وصفاته وافعاله بمعنى انه واحد لا يناظره شئ ولا يشبهه فذاته تعالى بذاته ولذاته من غير استناد إلى غيره واحتياج إلى من سواه وكذا صفاته وافعاله، وذوات من سواه وصفاتهم وافعالهم بإفاضة منه على ما يليق بساحة كبريائه وعظمته فمحصل السورة وصفه تعالى بأنه احد واحد.


(1) لم تذكر الصفة لانها اما صفة الذات فهي عين الذات واما صفة الفعل منتزعة عن الفعل، منه.

[ 390 ]

ومما قيل في الآية ان المراد بالكفؤ الزوجة فان زوجة الرجل كفؤه فيكون في معنى قوله تعالى: " جد ربنا ما اتخذ صاحبة " وهو كما ترى. (بحث روائي) في الكافي باسناده عن محمد بن مسلم عن ابي عبد الله عليه السلام قال: إن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: انسب لنا ربك فلبث ثلاثا لا يجيبهم ثم نزلت " قل هو الله احد " إلى آخرها. أقول: وفي الاحتجاج عن العسكري عليه السلام ان السائل عبد الله بن صوريا اليهودي، وفي بعض روايات اهل السنة ان السائل عبد الله بن سلام سأله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بمكة ثم آمن وكتم إيمانه، وفي بعضها ان اناسا من اليهود سألوه ذلك، وفي غير واحد من رواياتهم ان مشركي مكة سألوه ذلك، وكيف كان فالمراد بالنسبة النعت والوصف. وفي المعاني باسناده عن الاصبغ بن نباتة عن علي عليه السلام في حديث: نسبة الله عز وجل قل هو الله. وفي العلل باسناده عن الصادق عليه السلام في حديث المعراج ان الله قال له اي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: اقرء قل هو الله احد كما انزلت فانها نسبتي ونعتي. أقول: وروى ايضا باسناده إلى موسى بن جعفر عليه السلام ما في معناه. وفي الدر المنثور اخرج ابو عبيد في فضائله عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال قل هو الله احد ثلث القرآن. اقول: وقد تكاثرت الروايات من طرقهم في هذا المعنى رووه عن عدة من الصحابة كابن عباس وقد مر وابي الدرداء وابن عمر وجابر وابن مسعود وابي سعيد الخدري ومعاذ ابن أنس وأبي أيوب وأبي أمامة وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وورد أيضا في عدة من الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، وقد وجهوا كون السورة تعدل ثلث القرآن بوجوه مختلفة أعدلها أن ما في القرآن من المعارف تنحل إلى الاصول الثلاثة: التوحيد والنبوة والمعاد والسورة تتضمن واحدا من الثلاثة وهو التوحيد. وفي التوحيد عن أمير المؤمنين عليه السلام رأيت الخضر عليه السلام في المنام قبل بدر بليلة فقلت له: علمني شيئا أنصر به على الاعداء فقال: قل: ياهو يا من لا هو إلا هو فلما أصبحت قصصتها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لي: يا علي علمت الاسم الاعظم فكان على

[ 391 ]

لساني يوم بدر. وإن أمير المؤمنين عليه السلام قرء قل هو الله أحد فلما فرغ قال: يا هو يا من لا هو إلا هو اغفر لي وانصرني على القوم الكافرين. وفي نهج البلاغة: الاحد لا بتأويل عدد. اقول: ورواه في التوحيد عن الرضا عليه السلام ولفظه: أحد لا بتأويل عدد. وفي اصول الكافي باسناده عن داود بن القاسم الجعفري قال: قلت لابي جعفر الثاني عليه السلام: ما الصمد ؟ قال عليه السلام: السيد المصمود إليه في القليل والكثير. اقول: وفي تفسير الصمد معان أخر مروية عنهم عليه السلام فعن الباقر عليه السلام الصمد السيد المطاع الذي ليس فوقه آمر وناه، وعن الحسين عليه السلام: الصمد الذي لا جوف له والصمد الذي لا ينام، والصمد الذي لم يزل ولا يزال، وعن السجاد عليه السلام: الصمد الذي إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون، والصمد الذي أبدع الاشياء فخلقها أضدادا وأشكالا وأزواجا وتفرد بالوحدة بلا ضد ولا شكل ولا مثل ولا ند. والاصل في معنى الصمد هو الذي رويناه عن أبي جعفر الثاني عليه السلام لما في مادته لغة في معنى القصد فالمعاني المختلفة المنقولة عنهم عليهم السلام من التفسير يلازم المعنى فإن المعاني المذكورة لوازم كونه تعالى مقصودا يرجع إليه كل شئ في كل حاجة فإليه ينتهي الكل من دون أن تتحقق فيه حاجة. وفي التوحيد عن وهب بن وهب القرشي عن الصادق عن آبائه عليهم السلام أن أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علي عليه السلام يسألونه عن الصمد فكتب إليهم: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فلا تخوضوا في القرآن ولا تجادلوا فيه ولا تتكلموا فيه بغير علم فقد سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من قال في القرآن بغير علم فليتبوء مقعده من النار، وإن الله سبحانه فسر الصمد فقال: الله أحد الله الصمد ثم فسره فقال: لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. وفيه باسناده إلى ابن أبي عمير عن موسى بن جعفر عليه السلام أنه قال: واعلم أن الله تعالى واحد أحد صمد لم يلد فيورث ولم يولد فيشارك. وفيه في خطبة اخرى لعلي عليه السلام الذي لم يولد فيكون في العز مشاركا ولم يلد فيكون موروثا هالكا.

[ 392 ]

وفيه في خطبة له عليه السلام: تعالى أن يكون له كفؤ فيشبه به. اقول: وفي المعاني المتقدمة روايات اخرى. (سورة الفلق مكية وهي خمس آيات) بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق - 1. من شر ما خلق - 2. ومن شر غاسق إذا وقب - 3. ومن شر النفاثات في العقد - 4. ومن شر حاسد إذا حسد - 5. (بيان) أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يعوذ بالله من كل شر ومن بعضه خاصة والسورة مدنية على ما يظهر مما ورد في سبب نزولها. قوله تعالى: " قل أعوذ برب الفلق " العوذ هو الاعتصام والتحرز من الشر بالالتجاء إلى من يدفعه، والفلق بالفتح فالسكون الشق والفرق، والفلق بفتحتين صفة مشبهة بمعنى المفعول كالقصص بمعنى المقصوص، والغالب إطلاقه على الصبح لانه المشقوق من الظلام، وعليه فالمعنى أعوذ برب الصبح الذي يفلقه ويشقه ومناسبة هذا التعبير للعوذ من الشر الذي يستر الخير ويحجب دونه ظاهر. وقيل: المراد بالفلق كل ما يفطر ويفلق عنه بالخلق والايجاد فإن في الخلق والايجاد شقا للعدم وإخراجا للموجود إلى الوجود فيكون مساويا للمخلوق، وقيل هوجب في جهنم ويؤيده بعض الروايات. قوله تعالى: " من شر ما خلق " أي من شر من يحمل شرا من الانس والجن والحيوانات وسائر ماله شر من الخلق فان اشتمال مطلق ما خلق على الشر لا يستلزم الاستغراق. قوله تعالى: " ومن شر غاسق إذا وقب " في الصحاح: الغسق أول ظلمة الليل وقد غسق الليل يغسق إذا أظلم والغاسق الليل إذا غاب الشفق. انتهى، والوقوب الدخول فالمعنى ومن شر الليل إذا دخل بظلمته. ونسبة الشر إلى الليل إنما هي لكونه بظلمته يعين

[ 393 ]

الشرير في شره لستره عليه فيقع فيه الشر اكثر مما يقع منه بالنهار، والانسان فيه أضعف منه في النهار تجاه هاجم الشر، وقيل: المراد بالغاسق كل هاجم يهجم بشره كائنا ما كان. وذكر شر الليل إذا دخل بعد ذكر شر ما خلق من ذكر الخاص بعد العام لزيادة الاهتمام وقد اهتم في السورة بثلاثة من أنواع الشر خاصة هي شر الليل إذا دخل وشر سحر السحرة وشر الحاسد إذا حسد لغلبة الغفلة فيهن. قوله تعالى: " ومن شر النفاثات في العقد " أي النساء الساحرات اللاتي يسحرن بالعقد على المسحور وينفثن في العقد. وخصت النساء بالذكر لان السحر كان فيهن ومنهم أكثر من الرجال، وفي الآية تصديق لتأثير السحر في الجملة، ونظيرها قوله تعالى: في قصة هارون وماروت " فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله " البقرة: 102 ونظيره ما في قصة سحرة فرعون. وقيل: المراد بالنفاثات في العقد النساء اللاتي يملن آراء أزواجهن إلى ما يرينه ويردنه فالعقد هو الرأي والنفث في العقد كناية عن حله، وهو بعيد. قوله تعالى: " ومن شر حاسد إذا حسد " أي إذا تلبس بالحسد وعمل بما في نفسه من الحسد بترتيب الاثر عليه. وقيل: الآية تشمل العائن فعين العائن نوع حسد نفساني يتحقق منه إذا عاين ما يستكثره ويتعجب منه. (بحث روائي) في الدر المنثور اخرج عبد بن حميد عن زيد بن اسلم قال: سحر النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل من اليهود فاشتكى فأتاه جبريل فنزل عليه بالمعوذتين وقال: إن رجلا من اليهود سحرك والسحر في بئر فلان فأرسل عليا فجاء به فأمره ان يحل العقد ويقرء آية فجعل يقرء ويحل حتى قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم كأنما نشط من عقال. اقول: وعن كتاب طب الائمة باسناده إلى محمد بن سنان عن المفضل عن الصادق عليه السلام مثله وفي هذا المعنى روايات كثيرة من طرق اهل السنة باختلافات يسيرة، وفي غير واحد منها انه ارسل مع علي عليه السلام زبيرا وعمارا وفيه روايات اخرى ايضا من طرق ائمة اهل البيت عليهم السلام. وما استشكل به بعضهم في مضمون الروايات ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مصونا من تأثير السحر كيف ؟ وقد قال الله تعالى: " وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر

[ 394 ]

كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " الفرقان: 9. يدفعه ان مرادهم بالمسحور والمجنون بفساد العقل بالسحر واما تأثره عن السحر بمرض يصيبه في بدنه ونحوه فلا دليل على مصونيته منه. وفي المجمع وروي ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان كثيرا ما يعوذ الحسن والحسين عليهما السلام بهاتين السورتين. وفيه عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انزلت علي آيات لم ينزل مثلهن المعوذتان، اورده في الصحيح. اقول: واسندها في الدر المنثور إلى الترمذي والنسائي وغيرهما ايضا، وروى ما في معناه ايضا عن الطبراني في الاوسط عن ابن مسعود، ولعل المراد من عدم نزول مثلهن انهما في العوذة فقط ولا يشاركهما في ذلك غيرهما من السور. وفي الدر المنثور اخرج احمد والبزار والطبراني وابن مردويه من طرق صحيحة عن ابن عباس وابن مسعود انه كان يحك المعوذتين من المصحف ويقول: لا تخلطوا القرآن بما ليس منه إنهما ليستا من كتاب الله إنما أمر النبي ان يتعوذ بهما، وكان ابن مسعود لا يقرء بهما. اقول: ثم قال السيوطي قال البزار: ولم يتابع ابن مسعود احد من الصحابة وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قرء بهما في الصلاة وقد اثبتتا في المصحف انتهى. وفي تفسير القمي باسناده عن ابي بكر الحضرمي قال: قلت لابي جعفر عليه السلام إن ابن مسعود كان يمحو المعوذتين من المصحف. فقال: كان ابي يقول: انما فعل ذلك ابن مسعود برأيه وهو [ هماظ ] من القرآن. أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة من طرق الفريقين على ان هناك تواترا قطعيا من عامة المنتحلين بالاسلام على كونهما من القرآن، وقد استشكل بعض المنكرين لاعجاز القرآن أنه لو كان معجزا في بلاغته لم يختلف في كون السورتين من القرآن مثل ابن مسعود، واجيب بأن التواتر القطعي كاف في ذلك على أنه لم ينقل عنه احد انه قال بعدم نزولهما على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوقال بعدم كونهما معجزتين في بلاغتهما بل قال بعدم كونهما جزء من اللقرآن وهو محجوج بالتواتر. وفى الدر المنثور أخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الفلق جب في جهنم مغطى. أقول: وفي معناه غير واحد من الروايات في بعضها: قال صلى الله عليه وآله وسلم: باب في النار إذ

[ 395 ]

فتح سعرت جهنم رواه عقبة بن عامر، وفي بعضها: بئر في جهنم إذا سعرت جهنم فمنه تسعر، رواه عمرو بن عنبسة إلى غير ذلك. وفي المجمع وقيل: الفلق جب في جهنم يتعوذ أهل جهنم من شدة حره عن السدي ورواه أبو حمزة الثمالي وعلي بن إبراهيم في تفسير يهما. وفى تفسير القمي عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كاد الفقر أن يكون كفرا وكاد الحسد أن يغلب القدر. اقول: الرواية مروية بلفظها عن أنس عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وفي العيون بإسناده عن السلطي عن الرضا عن أبيه عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كاد الحسد أن يسبق القدر. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الحسد ليأكل الحسنات كما يأكل النار الحطب. (سورة الناس مدنية وهي ست آيات) بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس - 1. ملك الناس - 2. إله الناس - 3. من شر الوسواس الخناس - 4. الذي يوسوس في صدور الناس - 5. من الجنة والناس - 6. (بيان) أمر للنبي أن يعوذ من شر الوسواس الخناس والسورة مدنية كسابقتها على ما يستفاد مما ورد في سبب نزولها بل المستفاد من الروايات أن السورتين نزلتا معا. قوله تعالى: " قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس " من طبع الانسان إذا أقبل عليه شر يحذره ويخافه على نفسه وأحسن من نفسه الضعف أن يلتجئ بمن يقوى على دفعه ويكفيه وقوعه والذي يراه صالحا للعوذ والاعتصام به أحد ثلاثة إما رب يلي أمره ويدبره ويربيه يرجع إليه في حوائجه عامة، ومما يحتاج إليه في بقائه دفع ما يهدده من

[ 396 ]

الشر، هذا سبب تام في نفسه، وإما ذو قوة وسلطان بالغة قدرته نافذ حكمه يجيره إذا استجاره فيدفع عنه الشر بسلطته كملك من الملوك، وهذا أيضا سبب تام مستقل في نفسه. وهناك سبب ثالث وهو الاله المعبود فإن لازم معبودية الاله وخاصة إذا كان واحدا لا شريك له إخلاص العبد نفسه له فلا يدعو إلا إياه ولا يرجع في شئ من حوائجه إلا إليه فلا يريد إلا ما أراده ولا يعمل إلا ما يشاؤه. والله سبحانه رب الناس وملك الناس وإله الناس كما جمع الصفاة الثلاث لنفسه في قوله: " ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون " الزمر: 6 وأشار تعالى إلى سببية ربوبيته وألوهيته بقوله: " رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا " المزمل: 9، وإلى سببية ملكه بقوله: " له ملك السماوات والارض وإلى الله ترجع الامور " الحديد: 5 فإن عاذ الانسان من شر يهدده إلى رب فالله سبحانه هو الرب لا رب سواه وإن أراد بعوذه ملكا فالله سبحانه هو الملك الحق له الملك وله الحكم (1) وإن أراد لذلك إلها فهو الاله لا إله غيره. فقوله تعالى: " قل أعوذ برب الناس " الخ أمر لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يعوذ به لانه من الناس وهو تعالى رب الناس ملك الناس إله الناس. ومما تقدم ظهر أولا وجه تخصيص الصفات الثلاث: الرب والملك والاله من بين سائر صفاته الكريمة بالذكر وكذا وجه ما بينها من الترتيب فذكر الرب أولا لانه أقرب من الانسان وأخص ولاية ثم الملك لانه أبعد منالا وأعم ولاية يقصده من لا ولي له يخصه ويكفيه ثم الاله لانه ولي يقصده الانسان عن إخلاصه لا عن طبعه المادي. وثانيا وجه عدم وصل قوله: " ملك الناس إله الناس " بالعطف وذلك للاشارة إلى كون كل من الصفات سببا مستقلا في دفع الشر فهو تعالى سبب مستقل لكونه ربا لكونه ملكا لكونه إلها فله السببية بأي معنى أريد السبب وقد مر نظير الوجه في قوله " الله أحد الله الصمد ". وبذلك يظهر أيضا وجه تكرار لفظ الناس من غير أن يقال: ربهم وإلههم فقد أشير به إلى أن كلا من الصفات الثلاث يمكن أن يتعلق بها العوذ وحدها من غير ذكر الاخريين لاستقلالها ولله الاسماء الحسنى جميعا، وللقوم في توجيه اختصاص هذه الصفات


(1) التغابن: 1.

[ 397 ]

وسائر ما مر من الخصوصيات وجوه لا تغني شيئا. قوله تعالى: " من شر الوسواس الخناس " قال في المجمع: الوسواس حديث النفس بما هو كالصوت الخفي انتهى فهو مصدر كالوسوسة كما ذكره وذكروا أنه سماعي والقياس فيه كسر الواو كسائر المصادر من الرباعي المجرد وكيف كان فالظاهر كما استظهر أن المراد به المعنى الوصفي مبالغة، وعن بعضهم أنه صفة لا مصدر. والخناس صيغة مبالغة من الخنوس بمعنى الاختفاء بعد الظهور قيل: سمي الشيطان خناسا لانه يوسوس للانسان فإذا ذكر الله تعالى رجع وتأخر ثم إذا غفل عاد إلى وسوسته. قوله تعالى: " الذي يوسوس في صدور الناس " صفة للوسواس الخناس، والمراد بالصدور هي النفوس لان متعلق الوسوسة هو مبدء الادراك من الانسان وهو نفسه وإنما أخذت الصدور مكانا للوسواس لما أن الادراك ينسب بحسب شيوع الاستعمال إلى القلب والقلب في الصدر كما قال تعالى: " ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " الحج: 46 قوله تعالى: " من الجنة والناس " بيان للوسواس الخناس وفيه اشارة إلى أن من الناس من هو ملحق بالشياطين وفي زمرتهم كما قال تعالى: " شياطين الانس والجن " الانعام: 112 (بحث روائي) في المجمع: أبو خديجة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: جاء جبرئيل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو شاك فرقاه بالمعوذتين وقل هو الله أحد وقال: بسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داء يؤذيك خذها فلتهنيك فقال: بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس إلى آخر السورة. في المجمع: أبو خديجة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: جاء جبرئيل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو شاك فرقاه بالمعوذتين وقل هو الله أحد وقال: بسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داء يؤذيك خذها فلتهنيك فقال: بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس إلى آخر السورة. أقول: وتقدم بعض الروايات الواردة في سبب نزول السورة. وفيه روى عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله خنس وإذا نسى التقم فذلك الوسواس الخناس. وفيه روى العياشي باسناده عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ما من مؤمن إلا ولقلبه في صدره أذنان أذن ينفث فيها الملك وأذن ينفث فيها الوسواس الخناس فيؤيد الله المؤمن بالملك، وهو قوله سبحانه: " وأيدهم بروح منه ".

[ 398 ]

وفي أمالي الصدوق باسناده إلى الصادق عليه السلام قال: لما نزلت هذه الآية " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " صعد إبليس جبلا بمكه يقال له ثوير فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه فقالوا: يا سيدنا لم دعوتنا ؟ قال: نزلت هذه الآية فمن لها ؟ فقام عفريت من الشياطين فقال: أنا لها بكذا وكذا. قال: لست لها فقام آخر فقال مثل ذلك فقال لست لها. فقال الوسواس الخناس: أنا لها. قال: بماذا ؟ قال: أعدهم وأمنيهم حتى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار فقال: أنت لها فوكله بها إلى يوم القيامة. اقول: تقدم بعض الكلام في الشيطان في أوائل الجزء الثامن من الكتاب. تم الكتاب والحمد لله واتفق الفراغ من تأليفه في ليلة القدر المباركة الثالثه والعشرين من ليالى شهر رمضان من شهور سنه اثنتين وتسعين وثلاث مائة بعد الالف من الهجرة والحمد لله على الدوام، والصلاة على سيدنا محمد وآله والسلام.

مكتبة مكتبة شبكة أمل