تفسير الميزان - السيد الطباطبائي ج 19
تفسير الميزان
السيد الطباطبائي ج 19
[ 1 ]
الميزان في تفسير القرآن 19
[ 3 ]
تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره
[ 4 ]
الميزان في تفسير القرآن كتاب علمي، فني، فلسفي، أدبي، تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره المجلد التاسع عشر منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة
[ 5 ]
بسم الله الرحمن الرحيم (سورة الطور مكية، وهي تسع وأربعون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. والطور _ 1. وكتاب مسطور _ 2.
في رق منشور _ 3. والبيت المعمور _ 4. والسقف المرفوع _ 5. والبحر المسجور _ 6. إن عذاب ربك لواقع _ 7. ما له من دافع _ 8. يوم تمور السماء مورا _ 9. وتسير الجبال سيرا _ 10. (بيان) غرض السورة إنذار أهل التكذيب والعناد من الكفار بالعذاب الذي أعد لهم يوم القيامة فتبدأ بالانباء عن وقوع العذاب الذي أنذروا به وتحققه يوم القيامة بأقسام مؤكدة وأيمان مغلظة، وأنه غير تاركهم يومئذ حتى يقع بهم ولا مناص. ثم تذكر نبذة من صفة هذا العذاب والويل الذي يعمهم ولا يفارقهم ثم تقابل ذلك بشمة من نعيم أهل النعيم يومئذ وهم المتقون الذين كانوا في الدنيا مشفقين في أهلهم يدعون الله مؤمنين به موحدين له. ثم تأخذ في توبيخ المكذبين على ما كانوا يرمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما أنزل عليه من القرآن وما أتى به من الدين الحق.
[ 6 ]
وتختم الكلام بتكرار التهديد والوعيد وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتسبيح ربه. والسورة مكية كما يشهد بذلك سياق آياتها. قوله تعالى: " والطور " قيل: الطور مطلق الجبل وقد غلب استعماله في الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام، والانسب أن يكون المراد به في الآية جبل موسى عليه السلام أقسم الله تعالى به لما قدسه وبارك فيه كما أقسم به في قوله: " وطور سنين " التين: 2، وقال: " وناديناه من جانب الطور الايمن " مريم: 52، وقال في خطابه لموسى عليه السلام: " فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى " طه: 12، وقال: " نودي من شاطئ الوادي الايمن في البقعة المباركة من الشجرة " القصص: 30. وقيل: المراد مطلق الجبل أقسم الله تعالى به لما أودع فيه من أنواع نعمه قال
تعالى: " وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها " حم السجدة: 10. قوله تعالى: " وكتاب مسطور في رق منشور " قيل: الرق مطلق ما يكتب فيه وقيل: هو الورق، وقيل: الورق المأخوذ من الجلد، والنشر هو البسط، والتفريق. والمراد بهذا الكتاب قيل: هو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه ما كان وما يكون وما هو كائن تقرؤه ملائكة السماء، وقيل: المراد به صحائف الاعمال تقرؤه حفظة الاعمال من الملائكة، وقيل: هو القرآن كتبه الله في اللوح المحفوظ، وقيل: هو التوراة وكانت تكتب في الرق وتنشر للقراءة. والانسب بالنظر إلى الآية السابقة هو القول الاخير. قوله تعالى: " والبيت المعمور " قيل: المراد به الكعبة المشرفة فإنها أول بيت وضع للناس ولم يزل معمورا منذ وضع إلى يومنا هذا قال تعالى: " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين " آل عمر أن: 96. وفي الروايات المأثورة أن البيت المعمور بيت في السماء بحذاء الكعبة تزوره الملائكة. وتنكير " كتاب " للايماء إلى استغنائه عن التعريف فهو تنكير يفيد التعريف ويستلزمه. قوله تعالى: " والسقف المرفوع " هو السماء.
[ 7 ]
قوله تعالى: " والبحر المسجور " قال الراغب: السجر تهييج النار، وفي المجمع: المسجور المملوء يقال: سجرت التنور أي ملاتها نارا، وقد فسرت الآية بكل من المعنيين ويؤيد المعنى الاول قوله: " وإذا البحار سجرت " التكوير: 6، أي سعرت وقد ورد في الحديث أن البحار تسعر نارا يوم القيامة، وقيل: المراد أنها تغيض مياهها بتسجير النار فيها. قوله تعالى: " إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع " جواب القسم السابق والمراد
بالعذاب المخبر بوقوعه عذاب يوم القيامة الذي أوعد الله به الكفار المكذبين كما تشير إليه الآية التالية، وفي قوله: " ما له من دافع " دلالة على أنه من القضاء المحتوم الذي لا محيص عن وقوعه قال تعالى: وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور " الحج: 7. وفي قوله: " عذاب ربك " بنسبة العذاب إلى الرب المضاف إلى ضمير الخطاب دون أن يقال: عذاب الله تأييد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على مكذبي دعوته وتطييب لنفسه أن ربه لا يخزيه يومئذ كما قال: " يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه " التحريم: 8. قوله تعالى: " يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا " ظرف لقوله: " إن عذاب ربك لواقع ". والمور - على ما في المجمع - تردد الشئ بالذهاب والمجئ كما يتردد الدخان ثم يضمحل، ويقرب منه قول الراغب: إنه الجريان السريع. وعلى أي حال فيه إشارة إلى انطواء العالم السماوي كما يذكره تعالى في مواضع من كلامه كقوله: " إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت " الانفطار: 2، وقوله: " يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب " الانبياء: 104، وقوله: " والسماوات مطويات بيمينه " الزمر: 67. كما أن قوله: " وتسير الجبال سيرا " إشارة إلى زلزلة الساعة في الارض التي يذكرها تعالى في مواضع من كلامه كقوله: إذا رجت الارض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا " الواقعة: 6، وقوله: وسيرت الجبال فكانت سرابا " النبأ: 20.
[ 8 ]
(بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " والطور وكتاب مسطور " قال: الطور جبل بطور سيناء. وفي المجمع " والبيت المعمور " وهو بيت في السماء الرابعة بحيال الكعبة يعمره
الملائكة بما يكون منها فيه من العبادة. عن ابن عباس ومجاهد، وروي أيضا عن أمير المؤمنين عليه لسلام قال: ويدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه أبدا. أقول: كون البيت المعمور بيتا في السماء يطوف عليه الملائكة واقع في عدة أحاديث من طرق الفريقين غير أنها مختلفة في محله ففي أكثرها أنه في السماء الرابعة وفي بعضها أنه في السماء الاولى، وفي بعضها السابعة. وفيه: " والسقف المرفوع " وهو السماء عن على عليه السلام. وفي تفسير القمي " والسقف المرفوع " قال: السماء، " والبحر المسجور " قال: تسجر يوم القيامة. وفي المجمع " والبحر المسجور " أي المملوء. عن قتادة، وقيل: هو الموقد المحمى بمنزلة التنور. عن مجاهد والضحاك والاخفش وابن زيد. ثم قيل: إنه تحمى البحار يوم القيامة فتجعل نيرانا ثم تفجر بعضها في بعض ثم تفجر إلى النار. ورد به الحديث. فويل يومئذ للمكذبين _ 11. الذين هم في خوض يلعبون _ 12. يوم يدعون إلى نار جهنم دعا _ 13. هذه النار التي كنتم بها تكذبون _ 14. أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون _ 15. إصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون _ 16. إن المتقين في جنات ونعيم _ 17. فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم
[ 9 ]
ربهم عذاب الجحيم _ 18. كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون _ 19. متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين _ 20. والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ كل امرئ بما كسب رهين _ 21. وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون _ 22. يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم _ 23.
ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون _ 24. وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون _ 25: قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين _ 26. فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم _ 27. إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم _ 28. (بيان) تذكر الآيات من يقع عليهم هذا العذاب الذي لا ريب في تحققه ووقوعه، وتصف حالهم إذ ذاك، وهذا هو الغرض الاصيل في السورة كما تقدمت الاشارة إليه وأما ما وقع في الآيات من وصف حال المتقين يومئذ فهو من باب التطفل لتأكيد الانذار المقصود. قوله تعالى: " فويل يومئذ للمكذبين " تفريع على ما دلت عليه الآيات السابقة من تحقق وقوع العذاب يوم القيامة أي إذا كان الامر كما ذكر ولم يكن محيص عن وقوع العذاب فويل لمن يقع عليه وهم المكذبون لا محالة فالجملة تدل على كون المعذبين هم المكذبين بالاستلزام وعلى تعلق الويل بهم بالمطابقة أو التقدير إذا كان العذاب واقعا لا محالة ولا محالة لا يقع إلا على المكذبين لانهم الكافرون بالله المكذبون ليوم القيامة فويل يومئذ لهم، فالدال على تعلق العذاب بالمكذبين
[ 10 ]
هو قوله: " عذاب ربك " لان عذاب الله إنما يقع على من دعاه فلم يجبه وكذب دعوته قوله تعالى: " الذين هم في خوض يلعبون " الخوض هو الدخول في باطل القول قال الراغب: الخوض هو الشروع في الماء والمرور فيه، ويستعار في الامور وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه انتهى، وتنوين التنكير في " خوض " يدل على صفة محذوفة أي في خوض عجيب ولما كان الاشتغال بباطل القول لا يفيد نتيجة حقة إلا نتيجة خيالية يزينها الوهم للخائض سماه لعبا - واللعب من الافعال ما ليس له إلا الاثر الخيالي -.
والمعنى: الذين هم مستمرون في خوض عجيب يلعبون بالمجادلة في آيات الله وإنكارها والاستهزاء بها. قوله تعالى: " يوم يدعون إلى نار جهنم دعا " الدع هو الدفع الشديد، والظاهر أن " يوم " بيان لقوله: " يومئذ ". قوله تعالى: " هذه النار التي كنتم بها تكذبون " أي يقال لهم: هذه النار التي كنتم بها تكذبون، والمراد بالتكذيب بالنار التكذيب بما أخبر به الانبياء عليهم السلام بوحي من الله من وجود هذه النار وأنه سيعذب بها المجرمون ومحصل المعنى: هذه مصداق ما أخبر به الانبياء فكذبتم به. قوله تعالى: " أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون " تفريع على قوله: " هذه النار التي كنتم بها تكذبون " والاستفهام للانكار تفريعا لهم أي إذا كانت هذه هي تلك النار التي كنتم تكذبون بها فليس هذا سحرا كما كنتم ترمون إخبار الانبياء بها أنه سحر وليس هذا أمرا موهوما خرافيا كما كنتم تتفوهون به بل أمر مبصر معاين لكم فالآية في معنى قوله تعالى: " ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق " الاحقاف: 34. وبما مر من المعنى يظهر أن " أم " في قوله: " أم أنتم لا تبصرون " متصلة وقيل: منقطعة ولا يخلو من بعد. قوله تعالى: " اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون "، الصلي بالفتح فالسكون مقاساة حرارة النار فمعنى اصلوها قاسوا حرارة نار جهنم.
[ 11 ]
وقوله: " فاصبروا أو لا تصبروا " تفريع على الامر بالمقاساة، والترديد بين الامر والنهي كناية عن مساواة الفعل والترك، ولذا أتبعه بقوله: " سواء عليكم " أي هذه المقاساة لازمة لكم لا تفارقكم سواء صبرتم أو لم تصبروا فلا الصبر يرفع عنكم العذاب أو
يخففه ولا الجزع وترك الصبر ينفع لكم شيئا. وقوله: " سواء عليكم " خبر مبتدأ محذوف أي هما سواء وإفراد " سواء " لكونه مصدرا في الاصل. وقوله: " إنما تجزون ما كنتم تعملون " في مقام التعليل لما ذكر من ملازمة العذاب ومساواة الصبر والجزع. والمعنى: إنما يلازمكم هذا الجزاء السئ ولا يفارقكم لانكم تجزون بأعمالكم التي كنتم تعملونها ولا تسلب نسبة العمل عن عامله فالعذاب يلازمكم أو إنما تجزون بتبعات ما كنتم تعملون وجزائه. قوله تعالى: " إن المتقين في جنات ونعيم " الجنة البستان تجنيه الاشجار وتستره، والنعيم النعمة الكثيرة أي إن المتصفين بتقوى الله يومئذ في جنات يسكنون فيها ونعمة كثيرة تحيط بهم. قوله تعالى: " فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم " الفاكهة مطلق الثمرة، وقيل: هي الثمرة غير العنب والرمان، ويقال: تفكه وفكه إذا تعاطى الفكاهة، وتفكه وفكه إذا تناول الفاكهة، وقد فسرت الآية بكل من المعنيين فقيل: المعنى: يتحدثون بما آتاهم ربهم من النعيم، وقيل: المعنى: يتناولون الفواكه والثمار التي آتاهم ربهم، وقيل: المعنى: يتلذذون بإحسان ربهم ومرجعه إلى المعنى الاول، وقيل: معناه فاكهين معجبين بما آتاهم ربهم، ولعل مرجعه إلى المعنى الثاني. وتكرار " ربهم " في قوله: " ووقاهم ربهم عذاب الجحيم " لافادة مزيد العناية بهم. قوله تعالى: " كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون " أي يقال لهم: كلوا واشربوا أكلا وشربا هنيئا أو طعاما وشرابا هنيئا، فهنيئا وصف قائم مقام مفعول مطلق أو مفعول به. وقوله: " بما كنتم تعملون " متعلق بقوله: " كلوا واشربوا " أو بقوله: " هنيئا ".
[ 12 ]
قوله تعالى: " متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين " الاتكاء الاعتماد على الوسادة ونحوها، والسرر جمع سرير، ومصفوفة من الصف أي مصطفة موصولة بعضها ببعض، والمعنى: متكئين على الوسائد والنمارق قاعدين على سرر مصطفة. وقوله: " وزوجناهم بحور عين " المراد بالتزويج القرن أي قرناهم بهن دون النكاح بالعقد، والدليل عليه تعديه بالباء فإن التزويج بمعنى النكاح بالعقد متعد بنفسها، قال تعالى: " زوجناكها " الاحزاب: 37، كذا قيل. قوله تعالى: " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ " الخ، قيل: الفرق بين الاتباع واللحوق مع اعتبار التقدم والتأخر فيهما جميعا أنه يعتبر في الاتباع اشتراك بين التابع والمتبوع في مورد الاتباع بخلاف اللحوق فاللاحق لا يشارك الملحوق في ما لحق به فيه. ولات وألات بمعنى نقص فمعنى ما ألتناهم ما نقصناهم شيئا من عملهم بالالحاق. وظاهر الآية أنها في مقام الامتنان فهو سبحانه يمتن على الذين آمنوا أنه سيلحق بهم ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان فتقر بذلك أعينهم، وهذا هو القرينة على أن التنوين في " إيمان " للتنكير دون التعظيم. والمعنى: اتبعوهم بنوع من الايمان وإن قصر عن درجة إيمان آبائهم إذ لا امتنان لو كان إيمانهم أكمل من إيمان آبائهم أو مساويا له. وإطلاق الاتباع في الايمان منصرف إلى اتباع من يصح منه في نفسه الايمان ببلوغه حدا يكلف به فالمراد بالذرية الاولاد الكبار المكلفون بالايمان فالآية لا تشمل الاولاد الصغار الذين ماتوا قبل البلوغ، ولا ينافي ذلك كون صغار أولاد المؤمنين محكومين بالايمان شرعا. اللهم إلا أن يستفاد العموم من تنكير الايمان ويكون المعنى: واتبعتهم ذريتهم
بإيمان ما سواء كان إيمانا في نفسه أو إيمانا بحسب حكم الشرع. وكذا الامتنان قرينة على أن الضمير في قوله: " وما ألتناهم من عملهم من شئ " للذين آمنوا كالضميرين في قوله: " واتبعتهم ذريتهم " إذ قوله: " وما ألتناهم من عملهم من شئ " مسوق حينئذ لدفع توهم ورود النقص في الثواب على تقرير الالحاق وهو ينافي
[ 13 ]
الامتنان ومن المعلوم أن الذي ينافي الامتنان هو النقص في ثواب الآباء الملحق بهم دون الذرية. فتحصل أن قوله: " والذين آمنوا " الخ، استئناف يمتن تعالى فيه على الذين آمنوا بأنه سيلحق بهم أولادهم الذين اتبعوهم بنوع من الايمان وإن كان قاصرا عن درجة إيمانهم لتقر به أعينهم، ولا ينقص مع ذلك من ثواب عمل الآباء بالالحاق شئ بل يؤتيهم مثل ما آتاهم أو بنحو لا تزاحم فيه على ما هو أعلم به. وفي معنى الآية أقوال أخر لا تخلو من سخافة كقول بعضهم إن قوله: " والذين آمنوا " معطوف على " حور عين " والمعنى: وزوجناهم بحور عين وبالذين آمنوا يتمتعون من الحور العين بالنكاح وبالذين آمنوا بالرفاقة والصحبة، وقول بعضهم: إن المراد بالذرية صغار الاولاد فقط، وقول بعضهم: إن الضميرين في " وما ألتناهم من عملهم من شئ " للذرية والمعنى: وما نقصنا الذرية من عملهم شيئا بسبب إلحاقهم بآبائهم بل نوفيهم أعمالهم من خير أو شر ثم نلحقهم بآبائهم. وقوله: " كل امرئ بما كسب رهين " تعليل لقوله: " وما ألتناهم من عملهم من شئ " على ما يفيده السياق، والرهن والرهين والمرهون ما يوضع وثيقة للدين على ما ذكره الراغب قال: ولما كان الرهن يتصور منه حبسه استعير ذلك لحبس أي شئ كان. انتهى. ولعل هذا المعنى الاستعاري هو المراد في الآية والمرء رهن مقبوض ومحفوظ عند
الله سبحانه بما كسبه من خير أو شر حتى يوفيه جزاء ما عمله من ثواب أو عقاب فلو نقص شيئا من عمله ولم يوفه ذلك لم يكن رهين ما كسب بل رهين بعض ما عمل وامتلك بعضه الآخر غيره كذريته الملحقين به. وأما قوله تعالى: " كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين " المدثر: 39، فالمراد كونها رهينة العذاب يوم القيامة كما يشهد به سياق ما بعده من قوله: " في جنات يتساءلون عن المجرمين " المدثر: 41. وقيل: المراد كون المرء رهين عمله السئ كما تدل عليه آية سورة المدثر المذكورة آنفا بشهادة استثناء أصحاب اليمين، والآية أعني قوله: " كل امرئ بما كسب رهين " جملة معترضة من صفات أهل النار اعترضت في صفات أهل الجنة.
[ 14 ]
وحمل صاحب الكشاف الآية على نوع من الاستعارة فرفع به التنافي بين الآيتين قال: كأن نفس العبد رهن عند الله بالعمل الصالح الذي هو مطالب به كما يرهن الرجل عبده بدين عليه فإن عمل صالحا فكها وخلصها وإلا أوبقها. انتهى. وأنت خبير بأن مجرد ما ذكره لا يوجه اتصال الجملة أعنى قوله: " كل امرئ بما كسب رهين " بما قبلها. قوله تعالى: وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون " بيان لبعض تتماتهم وتمتعاتهم في الجنة المذكورة إجمالا في قوله السابق: " كلوا واشربوا هنيئا " الخ. والامداد الاتيان بالشئ وقتا بعد وقت ويستعمل في الخير كما أن المد يستعمل في الشر قال تعالى: " ونمد له من العذاب مدا " مريم: 79. والمعنى: انا نرزقهم بالفاكهة وما يشتهونه من اللحم رزقا بعد رزق ووقتا بعد وقت من غير انقطاع. قوله تعالى: " يتنازعون فيها كاسا لا لغو فيها ولا تأثيم " التنازع في الكأس
تعاطيها والاجتماع على تناولها، والكأس القدح ولا يطلق الكأس إلا فيما كان فيها الشراب. والمراد باللغو لغو القول الذي يصدر من شاربي الخمر في الدنيا، والتأثيم جعل الشخص ذا إثم وهو أيضا من آثار الخمر في الدنيا، ونفي اللغو والتأثيم هو القرينة على أن المراد بالكأس التي يتنازعون فيها كأس الخمر. قوله تعالى: " ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون " المراد به طوافهم عليهم للخدمة قال بعضهم: قيل: " غلمان لهم " بالتنكير ولم يقل: غلمانهم لئلا يتوهم أن المراد بهم غلمانهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا فهم كالحور من مخلوقات الجنة كأنهم لؤلؤ مكنون مخزون في الحسن والصباحة والصفا. قوله تعالى: " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " أي يسأل كل منهم غيره عن حاله في الدنيا وما الذي ساقه إلى الجنة والنعيم ؟ قوله تعالى: " قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين " قال الراغب: والاشفاق عناية مختلطة بخوف لان المشفق يحب المشفق عليه ويخاف ما يلحقه قال تعالى: " وهم من الساعة
[ 15 ]
مشفقون " فإذا عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، وإذا عدي بفي فمعنى العناية فيه أظهر قال تعالى: " إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين "، انتهى. فالمعنى: إنا كنا في الدنيا ذوي إشفاق في أهلنا نعتني بسعادتهم و نجاتهم من مهلكة الضلال فنعاشرهم بجميل المعاشرة ونسير فيهم ببث النصيحة و الدعوة إلى الحق. قوله تعالى: " فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم " المن على ما ذكره الراغب الانعام بالنعمة الثقيلة ويكون بالفعل وهو حسن، وبالقول وهو قبيح من غيره تعالى، قال تعالى: " يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان إن كنتم صادقين: الحجرات: 17. ومنه تعالى على أهل الجنة إسعاده إياهم لدخولها بالرحمة وتمامه بوقايتهم عذاب السموم.
والسموم - على ما ذكره الطبرسي الحر الذي يدخل في مسام البدن يتألم به ومنه ريح السموم. قوله تعالى: " إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم " تعليل لقوله: " فمن الله علينا " الخ، كما أن قوله: " إنه هو البر الرحيم " تعليل له. وتفيد هذه الآية مع الآيتين قبلها أن هؤلاء كانوا في الدنيا يدعون الله بتوحيده للعبادة والتسليم لامره وكانوا مشفقين في أهلهم يقربونهم من الحق ويجنبونهم الباطل فكان ذلك سببا لمن الله عليهم بالجنة ووقايتهم من عذاب السموم، وإنما كان ذلك سببا لذلك لانه تعالى بر رحيم فيحسن لمن دعاه ويرحمه. فالآيات الثلاث في معنى قوله: " إن الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر: " العصر: 3. والبر من أسماء الله تعالى الحسنى، وهو من البر بمعنى الاحسان، وفسره بعضهم باللطيف. (بحث روائي) في الكافي بإسناده عن أبي بكر عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم " قال: فقال: قصرت الابناء
[ 16 ]
عن عمل الآباء فألحقوا الابناء بالآباء لتقر بذلك اعينهم. أقول: ورواه أيضا في التوحيد بإسناده إلى أبي بكر الحضرمي عنه عليه السلام. وفي تفسير القمي حدثني أبى عن سليمان الديلمي عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليه السلام قال: إن أطفال شيعتنا من المؤمنين تربيهم فاطمة عليها السلام، وقوله: " ألحقنا بهم ذريتهم " قال: يهدون إلى آبائهم يوم القيامة. أقول: وروى في المجمع ذيل الحديث عنه عليه السلام مرسلا. وفي التوحيد بإسناده عن أبى بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إذا مات
الطفل من أطفال المؤمنين نادى مناد في ملكوت السماوات والارض ألا إن فلان بن فلان قد مات فإن كان قد مات والداه أو أحدهما أو بعض أهل بيته من المؤمنين دفع إليه يغذوه، وإلا دفع إلى فاطمة تغذوه حتى يقدم أبواه أو أحدهما أو بعض أهل بيته من المؤمنين فيدفعه إليه. وفي الفقيه: وفي رواية الحسن بن محبوب عن علي عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى كفل إبراهيم وسارة أطفال المؤمنين يغذوانهم بشجرة في الجنة لها أخلاف كأخلاف البقر في قصر من درة - فإذا كان يوم القيامة ألبسوا وطيبوا وأهدوا إلى آبائهم فهم ملوك في الجنة مع آبائهم، وهذا قول الله تعالى: " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ". وفي المجمع روى زاذان عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، ثم قرأ هذه الآية. وفي الدر المنثور أخرج البزار وابن مردويه عن ابن عباس رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله يرفع ذرية المؤمن إليه في درجته وإن كانوا دونه في العمل ثم قرأ " والذين آمنوا واتبعتهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ " قال: وما نقصنا الآباء بما أعطينا الابناء. وفيه أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وذريته وولده فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به - وقرأ ابن عباس: " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان " الآية.
[ 17 ]
أقول: والآية لا تشمل الآباء المذكورين في الحديث، والانسب للدلالة عليه ما ذكره تعالى في دعاء الملائكة " ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من
آبائهم وازواجهم وذرياتهم " الآية المؤمن: 8. وفي تفسير القمي قوله: " لا لغو فيها ولا تأثيم " قال: ليس في الجنة غناء ولا فحش، ويشرب المؤمن ولا يأثم " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " قال: في الجنة. فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون - 29. أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون - 30. قل تربصوا فإني معكم من المتربصين - 31. أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون - 32. أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون - 33. فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين - 34. أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون - 35. أم خلقوا السموات والارض بل لا يوقنون - 36. أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون - 37. أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين - 38. أم له البنات ولكم البنون - 39. أم تسئلهم أجرا فهم من مغرم مثقلون - 40. أم عندهم الغيب فهم يكتبون - 41. أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون - 42. أم لهم إله غير الله سبحان الله عما
[ 18 ]
يشركون - 43. وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم - 44. (بيان) لما أخبر عن العذاب الواقع يوم القيامة وأنه سيصيب المكذبين والمتقون في جنات ونعيم قريرة العيون أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يمضي في دعوته وتذكرته مشيرا إلى أنه صالح لاقامة الدعوة الحقة، ولا عذر لهؤلاء المكذبين في تكذيبه ورد دعوته. فنفى جميع الاعذار المتصورة لهم وهي ستة عشر أمرا شطر منها راجع إلى النبي
صلى الله عليه وآله وسلم لو تحقق شئ منه فيه سلب صلاحيته للاتباع وكان مانعا عن قبول قوله ككونه كاهنا أو مجنونا أو شاعرا أو متقولا مفتريا على الله وكسؤاله الاجر على دعوته وشطر منها راجع إلى المكذبين انفسهم مثل كونهم خلقوا من غير شئ أو كونهم الخالقين أو أمر عقولهم بالتكذيب إلى غير ذلك ولا تخلو الآيات مع ذلك عن توبيخهم الشديد على التكذيب. قوله تعالى: " فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون " تقريع على ما مر من الاخبار المؤكد بوقوع العذاب الالهى يوم القيامة، وأنه سيغشى المكذبين والمتقون في وقاية منه متلذذون بنعيم الجنة. فالآية في معنى أن يقال: إذا كان هذا حقا فذكر فإنما تذكر وتنذر بالحق وليست كما يرمونك كاهنا أو مجنونا. وتقييد النفي بقوله: " بنعمة ربك " يفيد معنى الامتنان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وليس هذا الامتنان الخاص من جهة مجرد انتفاء الكهانة والجنون فأكثر الناس على هذه الصفة بل من وجهة تلبسه صلى الله عليه وآله وسلم بالنعمة الخاصة به المانع من عروض هذه الصفات عليه من كهانة أو جنون وغير ذلك. قوله تعالى: " أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون " أم منقطعة، والتربص
[ 19 ]
الانتظار، وفي مجمع البيان: التربص الانتظار بالشئ من انقلاب حال له إلى خلافها والمنون المنية والموت، والريب القلق والاضطراب. فريب المنون قلق الموت. ومحصل المعنى: بل يقولون هو أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاعر ننتظر به الموت حتى يموت ويخمد ذكره وينسى رسمه فنستريح منه. قوله تعالى: " قل تربصوا فإني معكم من المتربصين أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمرهم. بالتربص كما رضوا لانفسهم ذلك، وهو أمر تهديدي أي تربصوا كما ترون لانفسكم ذلك
فإن هناك أمر من حقه أن ينتظر وقوعه، وأنا أنتظره مثلكم لكنه عليكم لا لكم وهو هلاككم ووقوع العذاب عليكم. قوله تعالى: " أم تأمرهم أحلامهم بهذا " الاحلام جمع حلم وهو العقل، وأم منقطعة والكلام بتقدير الاستفهام والاشارة بهذا إلى ما يقولونه للنبي صلى الله عليه وآله ويتربصون به. والمعنى: بل أتأمرهم عقولهم أن يقولوا هذا الذي يقولونه ويتربصوا به الموت ؟ فأي عقل يدفع الحق بمثل هذه الاباطيل ؟ قوله تعالى: " بل هم قوم طاغون " أي أن عقولهم لم تأمرهم بهذا بل هم طاغون حملهم على هذا طغيانهم. قوله تعالى: " أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون " قال في المجمع: التقول تكلف القول ولا يقال ذلك إلا في الكذب، والمعنى بل يقولون: افتعل القرآن ونسبه إلى الله كذبا وافتراء. لا بل لا يؤمنون فيرمونه بهذه الفرية. قوله تعالى: " فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين " جواب عن قولهم: " تقوله " بأنه لو كان كلاما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان كلاما بشريا مماثلا لسائر الكلام ويماثله سائر الكلام فكان يمكنهم أن يأتوا بحديث مثله فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين في دعواهم التقول بل هو كلام إلهي لائحة عليه دلائل الاعجاز يعجز البشر عن إتيان مثله، وقد تقدم الكلام في وجوه إعجاز القرآن في تفسير سورة البقرة الآية 23 تفصيلا. ويمكن أن تؤخذ الآية ردا لجميع ما تقدم من قولهم المحكي أنه كاهن أو مجنون أو
[ 20 ]
شاعر أو متقول لان عجز البشر عن الاتيان بمثله يأبى إلا أن يكون كلام الله سبحانه لكن الاظهر ما تقدم. قوله تعالى: " أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون " إتيان " شئ " منكرا
بتقدير صفة تناسب المقام والتقدير من غير شئ خلق منه غيرهم من البشر. والمعنى: بل أخلق هؤلاء المكذبون من غير شئ خلق منه غيرهم من البشر فصلح لارسال الرسول والدعوة إلى الحق والتلبس بعبوديته تعالى فهؤلاء لا يتعلق بهم تكليف ولا يتوجه إليهم أمر ولا نهي ولا تستتبع أعمالهم ثوابا ولا عقابا لكونهم مخلوقين من غير ما خلق منه غيرهم. وفي معنى الجملة أقوال أخر. فقيل: المراد أم أحدثوا وقدروا هذا التقدير البديع من غير مقدر وخالق فلا حاجة لهم إلى خالق يدبر أمرهم. وقيل: المراد أم خلقوا من غير شئ حي فهم لا يؤمرون ولا ينهون كالجمادات. وقيل: المعنى أم خلقوا من غير علة ولا لغاية ثواب وعقاب فهم لذلك لا يسمعون. وقيل: المعنى أم خلقوا باطلا لا يحاسبون ولا يؤمرون ولا ينهون. وما قدمناه من المعنى أقرب إلى لفظ الآية وأشمل. وقوله: أم هم الخالقون " أي لانفسهم فليسوا مخلوقين لله سبحانه حتى يربهم ويدبر أمرهم بالامر والنهي. قوله تعالى: " أم خلقوا السماوات والارض بل لا يوقنون " أي أم أخلقوا العالم حتى يكونوا أربابا آلهة ويجلوا من أن يستعبدوا ويكلفوا بتكليف العبودية بل هم قوم لا يوقنون. قوله تعالى: " أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون " أي بل أعندهم خزائن ربك حتى يرزقوا النبوة من شاؤا ويمسكوها عمن شاؤا فيمنعوك النبوة والرسالة. وقوله: " أم هم المصيطرون " السيطرة - وربما يقلب سينها صادا - الغلبة والقهر والمعنى: بل أهم الغالبون القاهرون على الله سبحانه حتى يسلبوا عنك ما رزقك الله من النبوة والرسالة.
[ 21 ]
قوله تعالى: " أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين " السلم المرقاة ذات الدرج التي يتوسل بالصعود فيه إلى الامكنة العالية، والاستماع مضمن معنى الصعود، والسلطان الحجة والبرهان. والمعنى: بل أعندهم سلم يصعدون فيه إلى السماء فيستمعون بالصعود فيه الوحي فيأخذون ما يوحى إليهم ويردون غيره ؟ فليأت مستمعهم أي المدعي للاستماع منهم بحجة ظاهرة. قوله تعالى: " أم له البنات ولكم البنون " قيل: فيه تسفيه لعقولهم حيث نسبوا إليه تعالى ما أنفوا منه. قوله تعالى: " أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون " قال الراغب: الغرم - بالضم فالسكون - ما ينوب الانسان في ماله من ضرر لغير جناية منه أو خيانة انتهى والاثقال تحميل الثقل وهو كناية عن المشقة. والمعنى: بل أتسألهم أجرا على تبليغ رسالتك فهم يتحرجون عن تحمل الغرم الذي ينوبهم بتأدية الاجر ؟ قوله تعالى: " أم عندهم الغيب فهم يكتبون " ذكر بعضهم أن المراد بالغيب اللوح المحفوظ المكتوب فيه الغيوب والمعنى: بل أعندهم اللوح المحفوظ يكتبون منه ويخبرون به الناس فما أخبروا به عنك من الغيب الذي لا ريب فيه. وقيل: المراد بالغيب علم الغيب، وبالكتابة الاثبات والمعنى: بل أعندهم علم الغيب فهم يثبتون ما علموه شرعا للناس عليهم أن يطيعوهم فيما أثبتوا، وقيل: يكتبون بمعنى يحكمون. قوله تعالى: " أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون " الكيد ضرب من الاحتيال على ما ذكره الراغب، وفي المجمع: الكيد هو المكر، وقيل هو فعل ما
يوجب الغيظ في خفية. انتهى. ظاهر السياق أن المراد بكيدهم هو مكرهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بما رموه به من الكهانة والجنون والشعر والتقول ليعرض عنه الناس ويبتعدوا عنه فتبطل بذلك دعوته وينطفئ نوره، وهذا كيد منهم ومكر بأنفسهم حيث يحرمون لها السعادة الخالدة والركوب على
[ 22 ]
صراط الحق بذلك بل كيد من الله بقطع التوفيق عنهم والطبع على قلوبهم. وقيل: المراد بالكيد الذي يريدونه هو ما كان منهم في حقه صلى الله عليه وآله وسلم في دار الندوة والمراد بالذين كفروا المذكورون من المكذبين وهم أصحاب دار الندوة، وقد قلب الله كيدهم إلى أنفسهم فقتلهم يوم بدر، والكلام على هذا من الاخبار بالغيب لنزول السورة قبل ذلك بكثير، وهو بعيد من السياق. قوله تعالى: " أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون " فإنهم إذا كان لهم إله غير الله كان هو الخالق لهم والمدبر لامرهم فاستغنوا بذلك عن الله سبحانه واستجابة دعوة رسوله ونصرهم إلههم ودفع عنهم عذاب الله الذي أوعد به المكذبين وأنذرهم به رسوله. وقوله: " سبحان الله عما يشركون " تنزيه له تعالى أن يكون له شريك كما يدعون، وما في قوله: " عما يشركون " مصدرية أي سبحانه عن شركهم. قوله تعالى: " وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم " الكسف بالكسر فالسكون القطعة، والمركوم المتراكم الواقع بعضه على بعض. والمعنى: أن كفرهم وإصرارهم على تكذيب الدعوة الحقة بلغ إلى حيث لو رأوا قطعة من السماء ساقطا عليهم لقالوا سحاب متراكم ليست من آية العذاب في شئ فهو كقوله: " ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا " الحجر: 15. فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون - 45. يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون - 46. وإن للذين ظلموا
عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون - 47. واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم - 48. ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم - 49.
[ 23 ]
(بيان) الآيات تختم السورة وتأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يترك أولئك المكذبين وشأنهم ولا يتعرض لحالهم، وأن يصبر لحكم ربه ويسبح بحمده، وفي خلالها مع ذلك تكرار إيعادهم بما أوعدهم به في أول السورة من عذاب واقع ليس له من دافع، وتضيف إليه الايعاد بعذاب آخر دون ذلك للذين ظلموا. قوله تعالى: " فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون " " ذرهم " أمر بمعنى اتركهم وهو فعل لم يستعمل من تصريفاته إلا المستقبل والامر، و " يصعقون " من الاصعاق بمعنى الاماتة وقيل: من الصعق بمعنى الاماتة. لما أنذر سبحانه المكذبين لدعوته بعذاب واقع لا ريب فيه ثم رد جميع ما تعلل به أو يفرض أن يتعلل به أولئك المكذبون، وذكر أنهم في الاصرار على الباطل بحيث لو عاينوا أوضح آية للحق أولوه وردوه، أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يتركهم وشأنهم، وهو تهديد كنائي بشمول العذاب لهم وحالهم هذه الحال. والمراد باليوم الذي فيه يصعقون يوم نفخ الصور الذي يصعق فيه من في السماوات والارض وهو من أشراط الساعة قال تعالى: " ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الارض " الزمر: 68. ويؤيد هذا المعنى قوله في الآية التالية: " يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون " فإن انتفاء إغناء الكيد والنصر من خواص يوم القيامة الذي يسقط فيه عامة الاسباب والامر يومئذ لله.
واستشكل بأنه لا يصعق يوم النفخ إلا من كان حيا وهؤلاء ليسوا بأحياء يومئذ والجواب أنه يصعق فيه جميع من في الدنيا من الاحياء ومن في البرزخ من الاموات وهؤلاء إن لم يكونوا في الدنيا ففي البرزخ. على أنه يمكن أن يكون ضمير " يصعقون " راجعا إلى الاحياء يومئذ، والتهديد إنما هو بالعذاب الواقع في هذا اليوم لا بالصعقة التي فيه. وقيل: المراد به يوم بدر وهو بعيد، وقيل: المراد به يوم الموت، وفيه انه لا
[ 24 ]
يلائم السياق الظاهر في التهديد بما وقع في أول السورة وهو عذاب يوم القيامة لا عذاب يوم الموت. قوله تعالى: " وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون " لا يبعد أن يكون المراد به عذاب القبر، وقوله: " ولكن أكثرهم لا يعلمون " مشعر بأن فيهم من يعلم ذلك لكنه يصر على كفره وتكذيبه عنادا وقيل: المراد به يوم بدر لكن ذيل الآية لا يلائمه تلك الملاءمة. قوله تعالى: " فاصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا " عطف على قوله: " فذرهم " وظاهر السياق أن المراد بالحكم حكمه تعالى في المكذبين بالامهال والاملاء والطبع على قلوبهم، وفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعو إلى الحق بما فيه من الاذى في جنب الله فالمراد بقوله: فإنك بأعيننا " أنك بمرئى منا نراك بحيث لا يخفى علينا شئ من حالك ولا نغفل عنك ففي تعليل الصبر بهذه الجملة تأكيد للامر بالصبر وتشديد للخطاب. وقيل: المراد بقوله: " فإنك بأعيننا " أنك في حفظنا وحراستنا فالعين مجاز عن الحفظ، ولعل المعنى المتقدم أنسب للسياق. قوله تعالى: " وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم " الباء في " بحمد " للمصاحبة أي سبح ربك ونزهه حال كونه مقارنا لحمده.
والمراد بقوله: " حين تقوم " قيل هو القيام من النوم، وقيل: هو القيام من القائلة، فهو صلاة الظهر، وقيل: هو القيام من المجلس، وقيل: هو كل قيام، وقيل: هو القيام إلى الفريضة وقيل: هو القيام إلى كل صلاة، وقيل: هو الركعتان قبل فريضة الصبح سبعة أقوال كما ذكره الطبرسي. وقوله: " ومن الليل فسبحه " أي من الليل فسبح ربك فيه، والمراد به صلاة الليل، وقيل: المراد صلاتا المغرب والعشاء الآخرة. وقوله: " وإدبار النجوم " قيل: المراد به وقت إدبار النجوم وهو اختفاؤها بضوء الصبح، وهو الركعتان قبل فريضة الصبح، وقيل: المراد فريضة الصبح، وقيل: المراد تسبيحة تعالى صباحا ومساء من غير غفلة عن ذكره.
[ 25 ]
(بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " وسبح بحمد ربك حين تقوم " قال: لصلاة الليل " فسبحه " قال: صلاة الليل. أقول: وروى هذا المعنى في مجمع البيان عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام. وفيه بإسناده عن الرضا عليه السلام قال: ادبار السجود أربع ركعات بعد المغرب وإدبار النجوم ركعتان قبل صلاة الصبح. أقول: وروى ذيله في المجمع عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام، والقمي باسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام. وقد ورد من طرق أهل السنة في عدة من الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قام من مجلسه - سبح الله وحمده ويقول: إنه كفارة المجلس لكنها غير ظاهرة في كونها تفسيرا للآية.
(سورة النجم مكية، وهي اثنان وستون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. والنجم إذا هوى - 1. ما ضل صاحبكم وما غوى (2) - وما ينطق عن الهوى - 3. إن هو إلا وحي يوحى - 4. علمه شديد القوى - 5. ذو مرة فاستوى - 6. وهو بالافق الاعلى - 7. ثم دنى فتدلى - 8. فكان قاب قوسين أو أدنى - 9. فأوحى إلى عبده ما أوحى - 10. ما كذب الفؤاد
[ 26 ]
ما رأى - 11. أفتمارونه على ما يرى - 12. ولقد رآه نزلة أخرى - 13. عند سدرة المنتهى - 14. عندها جنة المأوى - 15. إذ يغشى السدرة ما يغشى - 16. ما زاغ البصر وما طغى - 17. لقد رأى من آيات ربه الكبرى - 18. (بيان) غرض السورة تذكير الاصول الثلاثة: وحدانيته تعالى في ربوبيته والمعاد والنبوة فتبدأ بالنبوة فتصدق الوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتصفه ثم تتعرض للوحدانية فتنفي الاوثان والشركاء أبلغ النفي ثم تصف انتهاء الخلق والتدبير إليه تعالى من إحياء وإماتة وإضحاك وإبكاء وإغناء وإقناء وإهلاك وتعذيب ودعوة وإنذار، و تختم الكلام بالاشارة إلى المعاد والامر بالسجدة والعبادة. والسورة مكية بشهادة سياق آياتها ولا يصغى إلى قول بعضهم بكون بعض آياتها أو كلها مدنية، وقد قيل:: إنها أول سورة أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقراءتها فقرأها على المؤمنين والمشركين جميعا، ومن غرر الآيات فيها قوله تعالى: " وأن إلى ربك المنتهى " وقوله: وأن ليس للانسان إلا ما سعى ". وما أوردناه من الآيات هي الفصل الاول من فصول السورة الثلاثة وهي الآيات اللاتى تصدق الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتصفه، لكن هناك روايات مستفيضة عن أئمة أهل
البيت عليهم السلام ناصة على أن المراد بالآيات ليس بيان صفة كل وحي بل بيان وحي المشافهة الذي أوحاه الله سبحانه إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المعراج فالآيات متضمنة لقصة المعراج وظاهر الآيات لا يخلو من تأييد لهذه الروايات وهو المستفاد أيضا من أقوال بعض الصحابة كابن عباس وأنس وأبى سعيد الخدري وغيرهم على ما روي عنهم وعلى ذلك جرى كلام المفسرين وإن اشتد الخلاف بينهم في تفسير مفرداتها وجملها. قوله تعالى: " والنجم إذا هوى " ظاهر الآية أن المراد بالنجم هو مطلق الجرم
[ 27 ]
السماوي المضئ وقد أقسم الله في كتابه بكثير من خلقه ومنها عدة من الاجرام السماوية كالشمس والقمر وسائر السيارات، وعلى هذا فالمراد بهوي النجم سقوطه للغروب. وقيل: المراد بالنجم القرآن لنزوله نجوما، وقيل: الثريا، وقيل: الشعرى، وقيل: الشهاب الذي يرمى به شياطين الجن لان العرب تسميه نجما، وللهوي ما يناسب لكل من هذه الاقوال من المعنى، لكن لفظ الآية لا يساعد على شئ من هذه المعاني. قوله تعالى: " ما ضل صاحبكم وما غوى " الضلال الخروج والانحراف عن الصراط المستقيم، والغي خلاف الرشد الذي هو إصابة الواقع، قال: الراغب: الغي جهل من اعتقاد فاسد، وذلك أن الجهل قد يكون من كون الانسان غير معتقد اعتقادا لا صالحا ولا فاسدا، وقد يكون من اعتقاد شئ فاسد، وهذا النحو الثاني يقال: له غي، قال: تعالى: " ما ضل صاحبكم وما غوى ". انتهى. والمراد بالصاحب هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والمعنى: ما خرج صاحبكم عن الطريق الموصل إلى الغاية المطلوبة ولا أخطأ في اعتقاده ورأيه فيها، ويرجع المعنى إلى أنه لم يخطئ لافي الغاية المطلوبة التي هي السعادة الانسانية وهو عبوديته تعالى، ولا في طريقها التي تنتهي إليها. قوله تعالى: " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " المراد بالهوى هوى النفس ورأيها، والنطق وإن كان مطلقا ورد عليه النفي وكان مقتضاه نفي الهوى عن
مطلق نطقه صلى الله عليه وآله وسلم لكنه لما كان خطابا للمشركين وهم يرمونه في دعوته وما يتلو عليهم من القرآن بأنه كاذب متقول مفتر على الله سبحانه كان المراد بقرينة المقام أنه صلى الله عليه وآله وسلم ما ينطق فيما يدعوكم إلى الله أو فيما يتلوه عليكم من القرآن عن هوى نفسه ورأيه بل ليس ذلك الا وحيا يوحى إليه من الله سبحانه. قوله تعالى: " علمه شديد القوى " ضمير " علمه " للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو للقرآن بما هو وحي أو لمطلق الوحي والمفعول الآخر لعلمه محذوف على أي حال والتقدير علم النبي الوحي أو علم القرآن أو الوحى إياه. والمراد بشديد القوى - على ما قالوا - جبريل وقد وصفه الله بالقوة في قوله: " ذي قوة عند ذي العرش مكين " التكوير: 20، وقيل: المراد به هو الله سبحانه. قوله تعالى: " ذو مرة فاستوى " المرة بكسر الميم الشدة، وحصافة العقل
[ 28 ]
والرأي وبناء نوع عن المرور وقد فسرت المرة في الآية بكل من المعاني الثلاثة مع القول بأن المراد بذي مرة جبريل، والمعنى: هو أي جبريل ذو شدة في جنب الله أو هو ذو حصافة في عقله ورأيه، أو هو ذو نوع من المرور بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الهواء. وقيل: المراد بذو مرة النبي صلى الله عليه وسلم فهو ذو شدة في جنب الله أو ذو حصافة في عقله ورأيه أو ذو نوع من المرور عرج فيه إلى السماوات. وقوله: " فاستوى " بمعنى استقام أو استولى وضمير الفاعل راجع إلى جبريل والمعنى: فاستقام جبريل على صورته الاصلية التي خلق عليها على ما روى أن جبريل كان ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صور مختلفة، وإنما ظهر له في صورته الاصلية مرتين أو المعنى: فاستولى جبريل بقوته على ما جعل له من الامر. وإن كان الضمير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فالمعنى فاستقام واستقر. قوله تعالى: " وهو بالافق الاعلى " الافق الناحية قيل: المراد بالافق الاعلى ناحية
الشرق من السماء لان أفق المشرق فوق المغرب في صعيد الارض لا في الهواء وهو كما ترى والظاهر أن المراد به أفق أعلى من السماء من غير اعتبار كونه أفقا شرقيا. وضمير هو في الآية راجع إلى جبريل أو إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والجملة حال من ضمير " استوى ". قوله تعالى: " ثم دنا فتدلى " الدنو القرب، والتدلي التعلق بالشئ ويكنى به عن شدة القرب، وقيل: الامتداد إلى جهة السفل مأخوذ من الدلو. والمعنى: على تقدير رجوع الضميرين لجبريل: ثم قرب جبريل فتعلق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليعرج به إلى السماوات، وقيل: ثم تدلى جبريل من الافق الاعلى فدنا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليعرج به. والمعنى: على تقدير رجوع الضميرين إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ثم قرب النبي من الله سبحانه وزاد في القرب. قوله تعالى: " فكان قاب قوسين أو أدنى " قال في المجمع: القاب والقيب والقاد والقيد عبارة عن مقدار الشئ انتهى. والقوس معروفة وهي آلة الرمي، ويقال قوس على الذراع في لغة أهل الحجاز على ما قيل.
[ 29 ]
والمعنى: فكان البعد قدر قوسين أو قدر ذراعين أو أقرب من ذلك. وقيل: القاب ما بين مقبض القوس وسيتها ففي الكلام قلب والمعنى: فكان قابى قوس، واعترض عليه بأن قابي قوس وقاب قوسين واحد فلا موجب للقلب. قوله تعالى: " فأوحى إلى عبده ما أوحى " ضمير أوحى في الموضعين لجبريل على تقدير رجوع الضمائر السابقة إلى جبريل، والمعنى: فأوحى جبريل إلى عبد الله وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أوحى، قيل: ولا ضير في رجوع الضمير إليه تعالى من عدم سبق الذكر لكونه في غاية الوضوح. أو الضمائر الثلاث لله والمعنى: فأوحى الله بتوسط جبريل إلى
عبده ما أوحى أو الضمير الاول لجبريل والثانى والثالث لله والمعنى فأوحى جبريل ما أوحى الله إليه إلى عبد الله. والضمائر الثلاث كلها لله على تقدير رجوع الضمائر السابقة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعنى: فأوحى الله إلى عبده ما أوحى، وهذا المعنى أقرب إلى الذهن من المعنى السابق الذي لا يرتضيه الذوق السليم وإن كان صحيحا. قوله تعالى: " ما كذب الفؤاد ما رأى " الكذب خلاف الصدق يقال: كذب فلان في حديثه، ويقال: كذبه الحديث بالتعدي إلى مفعولين أي حدثه كذبا، والكذب كما يطلق على القول والحديث الذي يلفظه اللسان كذلك يطلق على خطاء القوة المدركة يقال: كذبته عينه أي أخطأت في رؤيتها. ونفي الكذب عن الفؤاد إنما هو بهذا المعنى سواء أخذ الكذب لازما والتقدير ما كذب الفؤاد فيما رأى أو متعديا إلى مفعولين، والتقدير ما كذب الفؤاد - فؤاد النبي - النبي ما رآه أي إن رؤية فؤاده فيما رآه رؤية صادقة. وعلى هذا فالمراد بالفؤاد فؤاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وضمير الفاعل في " ما رأى " راجع إلى الفؤاد والرؤية رؤيته. ولا بدع في نسبة الرؤية وهي مشاهدة العيان إلى الفؤاد فإن للانسان نوعا من الادراك الشهودي وراء الادراك بإحدى الحواس الظاهرة والتخيل والتفكر بالقوى الباطنة كما أننا نشاهد من أنفسنا أننا نرى وليست هذه المشاهدة العيانية إبصارا بالبصر ولا معلوما بفكر، وكذا نرى من أنفسنا أننا نسمع ونشم ونذوق ونلمس ونشاهد أننا
[ 30 ]
نتخيل ونتفكر وليست هذه الرؤية ببصر أو بشئ من الحواس الظاهرة أو الباطنة فإنا كما نشاهد مدركات كل واحدة من هذه القوى بنفس تلك القوة كذلك نشاهد إدراك كل منها لمدركها وليس هذه المشاهدة بنفس تلك القوة بل بأنفسنا المعبر عنها بالفؤاد.
وليس في الآية ما يدل على أن متعلق الرؤية هو الله سبحانه وأنه لمرئي له صلى الله عليه وآله وسلم بل المرئي هو الافق الاعلى والدنو والتدلي وأنه أوحي إليه فهذه هي المذكورة في الآيات السابقة وهي آيات له تعالى، ويؤيد ذلك ما ذكره تعالى في النزلة الاخرى من قوله: " ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى ". على أنها لو دلت على تعلق الرؤية به تعالى لم يكن به بأس فإنها رؤية القلب ورؤية القلب غير رؤية البصر الحسية التي تتعلق بالاجسام ويستحيل تعلقها به تعالى وقد قدمنا كلاما في رؤية القلب في تفسير سورة الاعراف الآية 143. وما قيل: إن ضمير " ما رأى " للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعنى: ما قال فؤاده صلى الله عليه وآله وسلم لما رآه ببصره لم أعرفك ولو قال ذلك لكان كاذبا لانه عرفه بقلبه كما رآه ببصره، ومحصله أن فؤاده صدق بصره فيما رآه. وكذا ما قيل: إن المعنى أن فؤاده لم يكذب بصره فيما رآه بل صدقه واعتقد به، ويؤيده قراءة من قرأ " ما كذب " بتشديد الذال. ففيه أن الذي يعطيه سياق الآيات تأييده تعالى صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يدعيه من الوحي ورؤية آيات الله الكبرى، ولو كان ضمير " ما رأى " للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان محصل معنى الآية الاحتجاج على صدق رؤيته باعتقاده ذلك بفؤاده وهو بعيد من دأب القرآن وهذا بخلاف ما لو رجع ضمير " ما رأى " إلى الفؤاد فإن محصل معناه تصديقه تعالى لفؤاده فيما رآه ويجري الكلام على السياق السابق الآخذ من قوله: " ما ضل صاحبكم وما غوى إن هو إلا وحي يوحى " الخ. فان قلت: أنه تعالى يحتج في الآية التالية " أفتمارونه على ما يرى " برؤيته صلى الله عليه وسلم على صدقه فيما يدعيه فليكن مثله الاحتجاج باعتقاد فؤاده بما يراه بعينه. قلت: ليس قوله: " أفتمارونه على ما يرى " مسوقا للاحتجاج برؤيته على صدقه بل توبيخ على مماراتهم إياه صلى الله عليه وآله وسلم على أمر يراه ويبصره ومجادلتهم إياه فيه، والمماراة والمجادلة
[ 31 ]
إنما تصح - لو صحت - في الآراء النظرية والاعتقادات الفكرية وأما فيما يرى ويشاهد عيانا فلا معنى للمماراة والمجادلة فيه، وهو صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان يخبرهم بما يشاهده عيانا لا عن فكر وتعقل. قوله تعالى: " أفتمارونه على ما يرى " الاستفهام للتوبيخ والخطاب للمشركين والضمير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمماراة الاصرار على المجادلة، والمعنى: أفتصرون في جدالكم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يذعن بخلاف ما يدعيه ويخبركم به وهو يشاهد ذلك عيانا. قوله تعالى: " ولقد رآه نزلة أخرى " النزلة بناء مرة من النزول فمعناه نزول واحد، وتدل الآية على أن هذه قصة رؤية في نزول آخر والآيات السابقة تقص نزولا آخر غيره. وقد قالوا: إن ضمير الفاعل المستكن في قوله " رآه " للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وضمير المفعول لجبريل، وعلى هذا فالنزلة نزول جبريل عليه صلى الله عليه وآله وسلم ليعرج به إلى السماوات، وقوله: " عند سدرة المنتهى " ظرف للرؤية لا للنزلة، والمراد برؤيته رؤيته وهو في صورته الاصليه. والمعنى: أنه نزل عليه صلى الله عليه وآله وسلم نزلة اخرى وعرج به إلى السماوات وتراءى له صلى الله عليه وآله وسلم عند سدرة المنتهى وهو في صورته الاصلية. وقد ظهر مما تقدم صحة إرجاع ضمير المفعول إليه تعالى والمراد بالرؤية رؤية القلب والمراد بنزلة اخرى نزلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند سدرة المنتهى في عروجه إلى السماوات فالمفاد أنه صلى الله عليه وآله وسلم نزل نزلة اخرى أثناء معراجه عند سدرة المنتهى فرآه بقلبه كما رآه في النزلة الاولى. قوله تعالى: " عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى " السدر شجر معروف والتاء للوحدة والمنتهى كأنه - اسم مكان ولعل المراد به منتهى السماوات بدليل كون الجنة عندها والجنة في السماء، قال تعالى: " وفي السماء رزقكم وما توعدون " الذاريات: 22. ولا يوجد في كلامه تعالى ما يفسر هذه الشجرة، وكأن البناء على الابهام كما يؤيده قوله بعد: " إذ يغشى السدرة ما يغشى " وقد فسر في الروايات أيضا بأنها شجرة فوق
السماء السابعة إليها تنتهي أعمال بني آدم وستمر ببعض هذه الروايات. وقوله: " عندها جنة المأوى " أي الجنة التي يأوي إليها المؤمنون وهي جنة الآخرة فإن جنة البرزخ جنة معجلة محدودة بالبعث، قال تعالى: " فلهم جنات المأوى
[ 32 ]
نزلا بما كانوا يعملون " السجدة: 19، وقوله: " فإذا جاءت الطامة الكبرى - إلى أن قال - فإن الجنة هي المأوى " النازعات: 41 وهي في السماء على ما يدل عليه قوله تعالى: " وفي السماء رزقكم وما توعدون " الذاريات: 22، وقيل: المراد بها جنة البرزخ. وقوله: " إذ يغشى السدرة ما يغشى " غشيان الشئ الاحاطة به، و " ما " موصوله، والمعنى: إذ يحيط بالسدرة ما يحيط بها، وقد أبهم تعالى هذا الذي يغشى السدرة ولم يبين ما هو كما تقدمت الاشارة إليه. قوله تعالى. " ما زاغ البصر وما طغى " الزيغ الميل عن الاستقامة، والطغيان تجاوز الحد في العمل، وزيغ البصر إدراكه المبصر على غير ما هو عليه، وطغيانه إدراكه ما لا حقيقة له، والمراد بالبصر بصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والمعنى: أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يبصر ما أبصره على غير صفته الحقيقية ولا أبصر ما لا حقيقة له بل أبصر غير خاطئ في إبصاره. والمراد بالابصار رؤيته صلى الله عليه وآله وسلم بقلبه لا بجارحة العين فإن المراد بهذا الابصار ما يعنيه بقوله: " ولقد رآه نزلة اخرى " المشير إلى مماثلة هذه الرؤية لرؤية النزلة الاولى التي يشير إليها بقوله: " ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى " فافهم ولا تغفل. قوله تعالى: " لقد رأى من آيات ربه الكبرى " " من " للتبعيض، والمعنى: أقسم لقد شاهد بعض الآيات الكبرى لربه، وبذلك تم مشاهدة ربه بقلبه فإن مشاهدته تعالى بالقلب إنما هي بمشاهدة آياته بما هي آياته فإن الآية بما هي آية لا تحكي إلا ذا الآية ولا تحكي عن نفسه شيئا وإلا لم تكن من تلك الجهة آية.
وأما مشاهدة ذاته المتعالية من غير توسط آية وتخلل حجاب فمن المستحيل ذلك قال تعالى: " ولا يحيطون به علما " طه: 110. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " والنجم إذا هوى " قال: النجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إذا هوى " لما أسري به إلى السماء وهو في لهوي.
[ 33 ]
أقول: وروى تسميته صلى الله عليه وآله وسلم بالنجم باسناده عن أبيه عن الحسين بن خالد عن الرضا عليه السلام، وهو من البطن. وفي الكافي عن القمي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمد بن مسلم قال: قلت لابي جعفر عليه السلام: قول الله عز وجل: " والليل إذا يغشى " " والنجم إذا هوى " وما أشبه ذلك ؟ قال: إن لله عز وجل أن يقسم من خلقه بما شاء، وليس لخلقه أن يقسموا إلا به. أقول: وفي الفقيه عن علي بن مهزيار عن أبي جعفر الثاني مثله. وفي المجمع وروت العامة عن جعفر الصادق أنه قال: إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم نزل من السماء السابعة ليلة المعراج ولما نزلت السورة أخبر بذلك عتبة بن أبي لهب فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطلق ابنته وتفل في وجهه وقال: كفرت بالنجم ورب النجم: فدعا صلى الله عليه وآله وسلم عليه وقال: اللهم سلط عليه كلبا من كلابك. فخرج عتبة إلى الشام فنزل في بعض الطريق وألقى الله عليه الرعب فقال لاصحابه أنيموني بينكم ليلا ففعلوا فجاء أسد فافترسه من بين الناس. أقول: ثم أورد الطبرسي شعر حسان في ذلك، وروى في الدر المنثور القصة بطرق مختلفة. وفي الكافي بإسناده إلى هشام وحماد وغيره قالوا: سمعنا أبا عبد الله عليه السلام يقول: حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي وحديث جدي حديث الحسين وحديث
الحسين حديث الحسن وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قول الله عز وجل. وفي تفسير القمي بإسناده إلى ابن سنان في حديث: قال أبو عبد الله عليه السلام: وذلك أنه يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقرب الخلق إلى الله تعالى وكان بالمكان الذي قال له جبرئيل لما أسري به إلى السماء: تقدم يا محمد فقد وطأت موطئا لم يطأه ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولولا أن روحه ونفسه كان من ذلك المكان لما قدر أن يبلغه، وكان من الله عز وجل كما قال الله عز وجل: " قاب قوسين أو أدنى " أي بل أدنى. وفي الاحتجاج عن على بن الحسين عليه السلام في حديث طويل: أنا ابن من علا فاستعلى فجاز سدرة المنتهى فكان من ربه قاب قوسين أو أدنى.
[ 34 ]
أقول: وقد ورد هذا المعنى في كثير من روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام. وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم اقترب من ربه فكان قاب قوسين أو أدنى. قال: ألم تر إلى القوس ما أقربها من الوتر ؟ وفيه أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " ثم دنا فتدلى " قال: هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم دنا فتدلى إلى ربه عز وجل. وفي المجمع وروي مرفوعا عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: " فكان قاب قوسين أو أدنى " قال: قدر ذراعين أو أدنى من ذراعين. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " فأوحى إلى عبده ما أوحى " قال: وحي مشافهة. وفي التوحيد بإسناده إلى محمد بن الفضيل قال: سألت أبا الحسن عليه السلام هل رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه عز وجل ؟ فقال: نعم بقلبه رآه، أما سمعت الله عز وجل يقول: " ما كذب الفؤاد ما رأى " ؟ لم يره بالبصر ولكن رآه بالفؤاد.
وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قالوا: يا رسول الله هل رأيت ربك ؟ قال: لم أره بعيني ورأيته بفؤادي مرتين ثم تلا " ثم دنا فتدلى ". أقول: وروى هذا المعنى النسائي عن أبي ذر - على ما في الدر المنثور - ولفظه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه بقلبه ولم يره ببصره. وعن صحيح مسلم والترمذي وابن مردويه عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك ؟ فقال: نوراني أراه. أقول: " نوراني " منسوب إلى النور على خلاف القياس كجسماني في النسبة إلى جسم، وقرئ " نور إني أراه " بتنوين الراء وكسر الهمزة وتشديد النون ثم ياء المتكلم، والظاهر أنه تصحيف وإن أيد برواية اخرى عن مسلم في صحيحه وابن مردويه عن أبي ذر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل رأيت ربك ؟ فقال: رأيت نورا. وكيف كان فالمراد بالرؤية رؤية القلب فلا الرؤية رؤية حسية ولا النور نور حسي. وفي الكافي بإسناده عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدث أن ادخله إلى
[ 35 ]
أبي الحسن الرضا عليه السلام فاستأذنته في ذلك فأذن لي فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والاحكام. إلى قوله: قال أبو قرة: فإنه يقول: " ولقد رآه نزلة اخرى " فقال أبو الحسن عليه السلام: إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال: " ما كذب الفؤاد ما رأى " يقول: ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه ثم أخبر بما رأى فقال: " لقد رأى من آيات ربه الكبرى " وآيات الله غير الله. أقول: الظاهر أن كلامه عليه السلام مسوق لالزام أبي قرة حيث كان يريد إثبات رؤيته تعالى بالعين الحسية فألزمه بأن الرؤية إنما تعلقت بالآيات وآيات الله غير الله ولا ينافي ذلك كون رؤية الآيات بما هي آياته رؤيته وإن كانت آياته غيره، وهذه الرؤية إنما كانت
بالقلب كما مرت عدة من الروايات في هذا المعنى. وفي تفسير القمي حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن هشام عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: انتهيت إلى سدرة المنتهى وإذا الورقة منها تظل امة من الامم فكنت من ربي كقاب قوسين أو أدنى. وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن جرير عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انتهيت إلى السدرة فإذا نبقها مثل الجراد، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تحولت ياقوتا وزمردا ونحو ذلك. وفي تفسير القمي بإسناده إلى اسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام في حديث طويل: فلما انتهى به إلى سدرة المنتهى تخلف عنه جبرئيل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: في هذا الموضع تخذلني ؟ فقال: تقدم أمامك فوالله لقد بلغت مبلغا لم يبلغه أحد من خلق الله قبلك فرأيت من نور ربي وحال بيني وبينه السبحة قلت: وما السبحة جعلت فداك ؟ فأومى بوجهه إلى الارض وأومأ بيده إلى السماء وهو يقول: جلال ربي جلال ربي ثلاث مرات. أقول: السبحة الجلال كما فسر في الرواية، والسبحة ما يدل على تنزهه تعالى من خلقه ومرجعه إلى المعنى الاول، ومحصل ذيل الرواية أنه صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه برؤية آياته. وفيه في قوله تعالى: " ولقد رآه نزلة اخرى عند سدرة المنتهى " قال: في السماء السابعة.
[ 36 ]
وفيه في قوله تعالى: " إذ يغشى السدرة ما يغشى " قال: لما رفع الحجاب بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غشي نور السدرة. أقول: وفي المعاني السابقة روايات اخرى وقد تقدم في أول تفسير سورة الاسراء روايات جامعة لقصة معراجه صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد نقلنا هناك في ذيل الروايات الاختلاف في كيفية معراجه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان في المنام أو في اليقظة وعلى الثاني بجسمه وروحه معا أو بروحه فحسب، ونقلنا عن صاحب المناقب أن الامامية ترى أن إسراءه من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى كان بالروح والجسم معا على ما تدل عليه آية الاسراء، وأما من المسجد الاقصى إلى السماوات فقد قال قوم بكونه بالروح والجسم معا أيضا ووافقهم كثير من الشيعة ومال بعضهم إلى كونه بالروح ومال إليه بعض المتأخرين. ولا ضير في القول به لوأيدته القرائن الحافة بالآيات والروايات غير أن من الواجب حينئذ أن يحمل قوله تعالى: " عندها جنة المأوى " على جنة البرزخ ليحمل كونها عندها على نحو من التعلق كما ورد أن القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، أو توجه الآية بما لا ينافي كون العروج في السماوات روحيا. وأما كون الاسراء في المنام فقد تقدم في تفسير آية الاسراء أنه مما لا ينبغي أن يلتفت إليه. وأما تطبيق الاسراء إلى السماوات على تسييره صلى الله عليه وآله وسلم ليلا في الكواكب الاخرى غير الارض من منظومتنا الشمسية أو في منظومات اخرى غير منظومتنا أو في مجرات اخرى غير مجرتنا فمما لا يلائمه الاخبار الواردة في تفصيل القصة البتة بل ولا محصل مضامين الآيات المتقدمة. أفرأيتم اللات والعزى - 19. ومناة الثالثة الاخرى - 20. ألكم الذكر وله الانثى - 21. تلك إذا قسمة ضيزى - 22. إن
[ 37 ]
هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الانفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى - 23. أم للانسان ما تمنى - 24. فلله الآخرة والاولى - 25. وكم
من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى - 26. إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الانثى - 27. وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا - 28. فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحيوة الدنيا - 29. ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى - 30. ولله ما في السموات وما في الارض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى - 31. الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الارض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى - 32. (بيان) شطر من آيات الفصل الثاني من الفصول الثلاثة في السوره ة تتعرض لامر والاوثان وعبادتها بدعوى أنها ستشفع لهم والرد عليهم أبلغ الرد، وفيها إشارة إلى أمر المعاد وهو مقصد الفصل الثالث.
[ 38 ]
قوله تعالى: " أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى " لما سجل في الآيات السابقة صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه وحي يوحى إليه وترتب عليه حقية النبوة المبنية على التوحيد ونفي الشركاء، فرع عليه الكلام في الاوثان: اللات والعزى ومناة وهي عند المشركين تماثيل للملائكة بدعوى أنهم إناث أو بعضها للملائكة وبعضها للانسان كما قاله بعضهم ونفي ربوبيتها وألوهيتها واستقلال الملائكة الذين هم أرباب الاصنام في الشفاعة وأنوثيتهم وأشار إلى حقائق اخرى تنتج المعاد وجزاء الاعمال.
واللات والعزى ومناة أصنام ثلاث كانت معبودة لعرب الجاهلية، وقد اختلفوا في وصف صورها، وفي موضعها الذي كانت منصوبة عليه، وفي من يعبدها من العرب، وفي الاسباب التي أوجبت عبادتهم لها، وهي أقوال متدافعة لا سبيل إلى الاعتماد على شئ منها، والمتيقن منها ما أوردناه. والمعنى: إذا كان الامر على ما ذكرناه من حقية الدعوة وصدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوى الوحي والرسالة من عند الله سبحانه فأخبروني عن اللات والعزى ومناة التي هي ثالثة الصنمين وغيرهما - وهي التي تدعون أنها أصنام الملائكة الذين هم بنات الله زعمكم -. قوله تعالى: " ألكم الذكر وله الانثى تلك إذا فسمة ضيزى " استفهام إنكاري مشوب بالاستهزاء، وقسمة ضيزى أي جائرة غير عادلة. والمعنى: إذا كان كذلك وكانت أرباب هذه الاصنام من الملائكة بنات الله، وأنتم لا ترضون لانفسكم إلا الذكر من الاولاد فهل لكم الذكر ولله سبحانه الانثى من الاولاد ؟ تلك القسمة إذا قسمة جائرة غير عادلة - استهزاء -. قوله تعالى: " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان " الخ، ضمير " هي " للات والعزى ومناة أولها بما هي أصنام، وضمير " سميتموها " للاسماء وتسمية الاسماء جعلها أسماء، والمراد بالسلطان البرهان. والمعنى: ليست هذه الاصنام الآلهة إلا أسماء جعلتموها أسماء لها أنتم وآباؤكم ليست لهذه الاسماء وراءها مصاديق ومسميات ما أنزل الله معها برهانا يستدل به على ربوبيتها وألوهيتها. ومحصل الآية الرد على المشركين بعدم الدليل على ألوهية آلهتهم. وقوله: " إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الانفس " " ما " موصولة والضمير العائد
[ 39 ]
إليها محذوف أي الذي تهواه النفس، وقيل: مصدرية والتقدير هوى النفس والهوى الميل
الشهواني للنفس والجملة مسوقة لذمهم في اتباع الباطل وتأكيد لما تقدم من أنه لا برهان لهم على ذلك. ويؤكده قوله: " ولقد جاءهم من ربهم الهدى " والجملة حالية. والمعنى: إن يتبع هؤلاء المشركون في أمر آلهتهم إلا الظن وما يميل إليه أنفسهم شهوة يتبعون ذلك والحال أنه قد جاءهم من الله وهو ربهم الهدى وهي الدعوة الحقة أو القرآن الذي يهديهم إلى الحق. والالتفات في الآية من الخطاب إلى الغيبة للاشعار بأنهم أحط فهما من أن يخاطبوا بهذا الكلام على أنهم غير مستعدين لان يخاطبوا بكلام برهاني وهم أتباع الظن والهوى. قوله تعالى: " أم للانسان ما تمنى " " أم " منقطعة والاستفهام إنكاري، والكلام مسوق لنفي أن يملك الانسان ما يتمناه بمجرد أنه يتمناه أي ليس يملك الانسان ما يتمناه بمجرد أنه يتمناه حتى يملك المشركون ما يتمنونه بهوى أنفسهم من شفاعة الملائكة الذين هم أرباب أصنامهم وبنات لله بزعمهم أو يملكوا الوهية آلهتهم بمجرد التمني. وفي الكلام تلويح إلى أنهم ليس لهم للدلالة على صحة الوهية آلهتهم أو شفاعتهم إلا التمني، ولا يملك شئ بالتمني. قوله تعالى: " فلله الآخرة والاولى " تفريعة على سابقة من تفريع العلة للمعلول للدلالة على التعلق والارتباط ففية تعليل للجملة السابقة، والمعنى: ليس يملك الانسان ما تمناه بمجرد التمني لان الآخرة والاولى لله سبحانه ولا شريك له في ملكه. قوله تعالى: " وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى " الفرق بين الاذن والرضا أن الاذن إعلام ارتفاع المانع من قبل الآذن، والرضا ملاءمة نفس الراضي للشئ وعدم امتناعها فربما تحقق الاذن بشئ مع عدم الرضا ولا يتحقق رضا إلا مع الاذن بالفعل أو بالقوة. والآية مسوقة لنفي أن يملك الملائكة من أنفسهم الشفاعة مستغنين في ذلك عن الله
سبحانه كما يروم إليه عبدة الاصنام فإن الامر مطلقا إلى الله تعالى فإنما يشفع من يشفع منهم بعد إذنه تعالى له في الشفاعة ورضاه بها. وعلى هذا فالمراد بقوله: " لمن يشاء " الملائكة، ومعنى الآية: وكثير من الملائكة
[ 40 ]
في السماوات لا تؤثر شفاعتهم أثرا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء منهم أي من الملائكة ويرضى بشفاعته. وقيل: المراد بمن يشاء ويرضى الانسان، والمعنى: إلا من بعد أن يأذن الله في شفاعة من يشاء أن يشفع له من الانسان ويرضى، وكيف يأذن ويرضى بشفاعة من كفر به وعبد غيره ؟ والآية تثبت الشفاعة للملائكة في الجملة، وتقيد شفاعتهم بالاذن والرضا من الله سبحانه. قوله تعالى: " إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الانثى " رد لقولهم بانوثية الملائكة بعد رد قولهم بشفاعتهم. والمراد بتسميتهم الملائكة تسمية الانثى قولهم: إن الملائكة بنات الله فالمراد بالانثى الجنس أعم من الواحد والكثير. وقيل: إن الملائكة في معنى استغراق المفرد فيكون التقدير ليسمون كل واحد من الملائكة تسمية الانثى أي يسمونه بنتا فالكلام على وزان " كسانا الامير حلة " أي كسا كل واحد منا حلة. قال بعضهم: في تعليق التسمية بعدم الايمان بالآخرة إشعار بأنها في الشناعة والفظاعة واستتباع العقوبة في الآخرة بحيث لا يجترئ عليها إلا من لا يؤمن بها رأسا. انتهى. قوله تعالى: " وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا " العلم هو التصديق المانع من النقيض، والظن هو التصديق الراجح ويسمى المرجوح وهما، وقولهم بانوثية الملائكة كما لم يكن معلوما لهم كذلك لم يكن مظنونا إذ لا سبيل
إلى ترجيح القول به على خلافة لكنه لما كان عن هوى أنفسهم أثبته الهوى في أنفسهم وزينة لهم فلم يلتفتوا إلى خلافه، وكلما لاح لهم لائح خلافة أعرضوا عنه وتعلقوا بما يهوونه، وبهذه العناية سمي ظنا وهو في الحقيقة تصور فقط. وبهذا يظهر استقامة قول من قال: إن الظن في هذه الآية وفي قوله السابق: " إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الانفس " بمعنى التوهم دون الاعتقاد الراجح وأيد بما يظهر من كلام الراغب: إن الظن ربما يطلق على التوهم. وقوله: " إن الظن لا يغني من الحق شيئا " الحق ما هو عليه الشئ وظاهر أنه لا يدرك إلا بالعلم الذي هو الاعتقاد المانع من النقيض لا غير وأما غير العلم مما فيه احتمال
[ 41 ]
الخلاف فلا يتعين فيه المدرك على ما هو عليه في الواقع فلا مجوز لان يعتمد عليه في الحقائق قال تعالى: " ولا تقف ما ليس لك به علم " أسرى: 36. وأما العمل بالظن في الاحكام العملية فإنما هو لقيام دليل عليه يقيد به إطلاق الآية، وتبقى الامور الاعتقادية تحت إطلاق الآية. قال بعضهم: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: " إن الظن لا يغني " ليجري الكلام مجرى المثل. قوله تعالى: " فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا " تفريع على اتباعهم الظن وهوى الانفس، فقوله: " فأعرض عمن " الخ، أمر بالاعراض عنهم وإنما لم يقل: فأعرض عنهم، ووضع قوله: " من تولى عن ذكرنا " الخ، موضع الضمير للدلالة على علة الامر بالاعراض كأنه قيل: إن هؤلاء يتركون العلم ويتبعون الظن وما تهوى الانفس وإنما فعلوا ذلك لانهم تولوا عن الذكر وأرادوا الحياة الدنيا فلا هم لهم إلا الدنيا فهي مبلغهم من العلم، وإذا كان كذلك فأعرض عنهم لانهم في ضلال. والمراد بالذكر إما القرآن الذي يهدي متبعيه إلى الحق الصريح ويرشدهم إلى سعادة
الدار الآخرة التي وراء الدنيا بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة التي لا تبقى معها وصمة شك. وإما ذكر الله بالمعنى المقابل للغفلة فإن ذكره تعالى بما يليق بذاتة المتعالية من الاسماء والصفات يهدي إلى سائر الحقائق العلمية في المبدء والمعاد هداية علمية لا ريب معها. قوله تعالى: " ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى " الاشارة بذلك إلى أمر الدنيا وهو معلوم من الآية السابقة وكونه مبلغ علمهم من قبيل الاستعارة كأن العلم يسير إلى المعلوم وينتهي إليه وعلمهم انتهى في مسيره إلى الدنيا وبلغها ووقف عندها ولم يتجاوزها، ولازم ذلك أن تكون الدنيا متعلق إرادتهم وطلبهم، وموطن همهم، وغاية آمالهم لا يطمئنون إلى غيرها ولا يقبلون إلا عليها. وقوله: " إن ربك هو أعلم " الخ، تأكيد لمضمون الجملة السابقة وشهادة منه تعالى عليه. قوله تعالى: " ولله ما في السماوات وما في الارض ليجزي الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى " يمكن أن يكون صدر الآية حالا من فاعل " أعلم " في الآية السابقة والواو للحال، والمعنى: إن ربك هو أعلم بالفريقين الضالين والمهتدين والحال أنه يملك ما في السماوات وما في الارض فكيف يمكن أن لا يعلم بهم وهو مالكهم ؟
[ 42 ]
وعلى هذا فالظاهر تعلق قوله: " ليجزي " الخ، بقوله السابق: " فأعرض عمن تولى " الخ، والمعنى: أعرض عنهم وكل أمرهم إلى الله ليجزيهم كذا وكذا ويجزيك ويجزي المحسنين كذا وكذا. ويمكن أن يكون قوله: " ولله ما في السماوات " الخ، كلاما مستأنفا للدلالة على أن الامر بالاعراض عنهم لا لاهمالهم وتركهم سدى بل الله سبحانه يجزي كلا بعمله إن سيئا وإن حسنا، ووضع اسم الجلالة وهو ظاهر موضع الضمير للدلالة على كمال العظمة. وقوله: " لله ما في السماوات وما في الارض " إشارة إلى ملكه تعالى للكل ومعناه قيام الاشياء به تعالى لكونه خالقهم الموجد لهم فالملك ناشئ من الخلق وهو مع ذلك
منشأ للتدبير فالجملة دالة على الخلق والتدبير كأنه قيل: ولله الخلق والتدبير. وبهذا المعنى يتعلق قوله: " ليجزي " الخ، واللام للغاية، والمعنى: له الخلق والتدبير وغاية ذلك والغرض منه أن يجزي الذين أساؤا الخ، والمراد بالجزاء ما يخبر عنه الكتاب من شؤن يوم القيامة، والمراد بالاساءة والاحسان المعصية والطاعة، والمراد بما عملوا جزاء ما عملوا أو نفس ما عملوا، وبالحسنى المثوبة الحسنى. والمعنى: ليجزي الله الذين عصوا بمعصيتهم أو بجزاء معصيتهم ويجزي الذين أطاعوا بالمثوبة الحسنى، وقد أوردوا في الآية احتمالات اخرى وما قدمناه هو أظهرها. قوله تعالى: " الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة " الخ، الاثم هو الذنب وأصله - كما ذكره الراغب - الفعل المبطئ عن الثواب والخير، وكبائر الاثم المعاصي الكبيرة وهو على ما في الرواية (1) ما أوعد الله عليه النار، وقد تقدم البحث عنها في تفسير قوله تعالى: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم " الآية، النساء: 31. والفواحش الذنوب الشنيعة الفظيعة، وقد عد تعالى في كلامه الزنا واللواط من الفواحش ولا يبعد أن يستظهر من الآية اتحادها مع الكبائر. وأما اللمم فقد اختلفوا في معناه فقيل: هو الصغيرة من المعاصي، وعليه فالاستثناء منقطع، وقيل: هو أن يلم بالمعصية ويقصدها ولا يفعل والاستثناء أيضا منقطع، وقيل:
(1) رواها في ثواب الاعمال عن عباد بن كثير النوا عن أبي جعفر عليه السلام.
[ 43 ]
هو المعصية حينا بعد حين من غير عادة أي المعصية على سبيل الاتفاق فيكون أعم من الصغيرة والكبيرة وينطبق مضمون الآية على معنى قوله تعالى في وصف المتقين المحسنين: " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " آل عمران: 135.
وقد فسر في روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام بثالث المعاني (1). والآية تفسر ما في الآية السابقة من قوله: " الذين أحسنوا " فهم الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش ومن الجائز أن يقع منهم لمم. وفي قوله: " إن ربك واسع المغفرة " تطميعهم في التوبة رجاء المغفرة. وقوله: " هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الارض " قال الراغب: النش ء والنشأة إحداث الشئ وتربيته. انتهى. فإنشاؤهم من الارض ما جرى عليهم في بدء خلقهم طورا بعد طور من أخذهم من المواد العنصرية إلى أن يتكونوا في صورة المني ويردوا الارحام. وقوله: " وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم " الاجنة جمع جنين، والكلام معطوف على " إذ " السابق أي وهو أعلم بكم إذ كنتم أجنة في أرحام أمهاتكم يعلم ما حقيقتكم وما أنتم عليه من الحال وما في سركم وإلى ما يؤل أمركم. وقوله: فلا تزكوا أنفسكم " تفريع على العلم أي إذا كان الله أعلم من أول أمر فلا تزكوا أنفسكم بنسبتها إلى الطهارة هو أعلم بمن اتقى. أفرأيت الذي تولى _ 33. وأعطى قليلا وأكدى _ 34. أعنده علم الغيب فهو يرى _ 35. أم لم ينبأ بما في صحف موسى _ 36. وإبراهيم الذي وفى _ 37. ألا تزر وازرة وزر
(1) ففي اصول الكافي عن ابن عمار عن الصادق عليه السلام: اللمم الرجل يلم بالذنب فيستغفر الله منه، وفيه بإسناده عن محمد بن مسلم عن الصادق عليه السلام قال: هو الذنب يلم به الرجل فيمكث ما شاء الله ثم يلم به بعد، وفيه بإسناده عن ابن عمار عن الصادق عليه السلام قال: اللمام العبد الذي يلم بالذنب بعد الذنب ليس من سليقته أي من طيعه.
[ 44 ]
أخرى _ 38. وأن ليس للانسان إلا ما سعى _ 39. وأن سعيه سوف يرى _ 40. ثم يجزاه الجزاء الاوفى _ 41. وأن إلى ربك
المنتهى _ 42. وأنه هو أضحك وأبكى _ 43. وأنه هو أمات وأحيا _ 44. وأنه خلق الزوجين الذكر والانثى _ 45. من نطفة إذا تمنى _ 46. وأن عليه النشأة الاخرى _ 47. وأنه هو أغنى وأقنى _ 48. وأنه هو رب الشعرى _ 49. وأنه أهلك عادا الاولى _ 50. وثمود فما أبقى _ 51. وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى _ 52. والمؤتفكة أهوى _ 53. فغشاها ما غشى _ 54. فبأى آلاء ربك تتمارى _ 55 هذا نذير من النذر الاولى _ 56. أزفت الآزفة _ 57. ليس لها من دون الله كاشفة _ 58. أفمن هذا الحديث تعجبون _ 59. وتضحكون ولا تبكون _ 60. وأنتم سامدون _ 61. فاسجدوا لله واعبدوا _ 62. (بيان) سياق التسع آيات الواقعة في صدر هذا الفصل يصدق ما ورد في أسباب النزول أن رجلا من المسلمين كان ينفق من ماله في سبيل الله فلامه بعض الناس على كثرة الانفاق وحذره وخوفه بنفاد المال والفقر وضمن حمل خطاياه وذنوبه فأمسك عن الانفاق فنزلت الآيات. أشار سبحانه بالتعرض لهذه القصة ونقل ما نقل من صحف ابراهيم وموسى عليهما
[ 45 ]
السلام إلى بيان وجه الحق فيها، والى ما هو الحق الصريح فيما تعرض له الفصل السابق من أباطيل المشركين من أنهم إنما يعبدون الاصنام لانها تماثيل الملائكة الذين هم بنات الله يعبدونهم ليشفعوا لهم عند الله سبحانه وقد أبطلتها الآيات السابقة أوضح الابطال. وقد أوضحت هذه الآيات ما هو وجه الحق في الربوبية والالوهية وهو أن الخلق والتدبير لله سبحانه، إليه ينتهي كل ذلك، وأنه خلق ما خلق ودبر ما دبر خلقا وتدبيرا
يستعقب نشأة أخرى فيها جزاء الكافر والمؤمن والمجرم والمتقي ومن لوازمه تشريع الدين وتوجيه التكاليف وقد فعل، ومن شواهده إهلاك من أهلك من الامم الدارجة الطاغية كقوم نوح وعاد وثمود والمؤتفكة. ثم عقب سبحانه هذا الذي نقله عن صحف النبيين الكريمين بالتنبيه على أن هذا النذير من النذر الاولى الخالية وأن الساعة قريبة، وخاطبهم بالامر بالسجود لله والعبادة، وبذلك تختتم السورة. قوله تعالى: " أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا وأكدى " التولي هو الاعراض والمراد به بقرينة الآية التالية الاعراض عن الانفاق في سبيل الله، والاعطاء الانفاق والاكداء قطع العطاء، والتفريع الذي في قوله: " أفرأيت " مبني على ما قدمنا من تفرع مضمون هذه الآيات على ما قبلها. والمعنى: فأخبرني عمن أعرض عن الانفاق وأعطى قليلا من المال وأمسك بعد ذلك أشد الامساك. قوله تعالى: " أعنده علم الغيب فهو يرى " الضمائر لمن تولى والاستفهام للانكار والمعنى: أيعلم الغيب فيترتب عليه أن يعلم أن صاحبه يتحمل عنه ذنوبه ويعذب مكانه يوم القيامة لو استحق العذاب. كذا فسروا. والظاهر أن المراد نفى علمه بما غاب عنه من مستقبل حاله في الدنيا والمعنى: أيعلم الغيب فهو يعلم أنه لو أنفق ودام على الانفاق نفد ماله وابتلي بالفقر وأما تحمل الذنوب والعذاب فالمتعرض له قوله الآتي: " أن لا تزر وازرة وزر أخرى ". قوله تعالى: " أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى " صحف موسى التوراة، وصحف إبراهيم ما نزل عليه من الكتاب والجمع للاشارة إلى كثرته بكثرة أجزائه. والتوفية تأدية الحق بتمامه وكماله، وتوفيته عليه السلام تأديته ما عليه من الحق في العبودية
[ 46 ]
أتم التأدية وأبلغها قال تعالى: وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن " البقرة: 124. وما نقله الله سبحانه في الآيات التالية من صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام وإن لم يذكر في القرآن بعنوان أنه من صحفهما قبل هذه الآيات لكنه مذكور بعنوان الحكم والمواعظ والقصص والعبر فمعنى الآيتين: أم لم ينبأ بهذه الامور وهى في صحف إبراهيم وموسى. قوله تعالى: " ألا تزر وازرة وزر أخرى " الوزر الثقل وكثر استعماله في الاثم، والوازرة النفس التي من شأنها أن تحمل الاثم، والآية بيان ما في صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام، وكذا سائر الآيات المصدرة بأن وأن إلى تمام سبع عشرة آية. والمعنى: ما في صحفهما هو أنه لا تحمل نفس إثم نفس أخرى أي لا تتأثم نفس بما لنفس أخرى من الاثم فلا تؤاخذ نفس بإثم نفس أخرى. قوله تعالى: " وأن ليس لانسان إلا ما سعى " قال الراغب: السعي المشي السريع وهو دون العدو، ويستعمل للجد في الامر خيرا كان أو شرا قال تعالى: " وسعى في خرابها ". انتهى واستعماله في الجد في الفعل استعمال استعاري. ومعنى اللام في قوله: " للانسان " الملك الحقيقي الذي يقوم بصاحبه قياما باقيا ببقائه يلازمه ولا يفارقه بالطبع وهو الذي يكتسبه الانسان بصالح العمل أو طالحه من خير أو شر، وأما ما يراه الانسان مملوكا لنفسه وهو في ظرف الاجتماع من مال وبنين وجاه وغير ذلك من زخارف الحياة الدنيا وزينتها فكل ذلك من الملك الاعتباري الوهمي الذي يصاحب الانسان ما دام في دار الغرور ويودعه عند ما أراد الانتقال إلى دار الخلود وعالم الآخرة. فالمعنى: وأنه لا يملك الانسان ملكا يعود إليه أثره من خير أو شر أو نفع أو ضر حقيقة إلا ما جد فيه من عمل فله ما قام بفعله بنفسه وأما ما قام به غيره من عمل فلا يلحق بالانسان أثره خيرا أو شرا.
وأما الانتفاع من شفاعة الشفعاء يوم القيامة لاهل الكبائر فلهم في ذلك سعى جميل حيث دخلوا في حضيرة الايمان بالله وآياته، وكذا استفادة المؤمن بعد موته من استغفار المؤمنين له، والاعمال الصالحة التي تهدي إليه مثوباتها هي مرتبطة بسعيه في الدخول في زمرة المؤمنين وتكثير سوادهم وتأييد إيمانهم الذي من آثاره ما يأتون به من الاعمال الصالحة.
[ 47 ]
وكذا من سن سنة حسنة فله ثوابها وثواب من عمل بها، ومن سن سنة سيئة كان له وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة فإن له سعيا في عملهم حيث سن السنة وتوسل بها إلى أعمالهم كما تقدم في تفسير قوله تعالى: " ونكتب ما قدموا وآثارهم " يس: 12، وقد تقدم في تفسير قوله: " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم " النساء: 9، وتفسير قوله: " ليميز الله الخبيث من الطيب " الانفال: 37، كلام نافع في هذا المقام. قوله تعالى: " وأن سعيه سوف يرى " المراد بالسعي ما سعى فيه من العمل وبالرؤية المشاهدة وظرف المشاهدة يوم القيامة بدليل تعقيبه بالجزاء فالآية قريبة المعنى من قوله تعالى: " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء " آل عمران: 30، وقوله: " يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " الزلزال: 8. وإتيان قوله: " سوف يرى " مبنيا للمفعول لا يخلو من إشعار بأن هناك من يشاهد العمل غير عامله. قوله تعالى: " ثم يجزاه الجزاء الاوفى " الوفاء بمعنى التمام لان الشئ التام يفي بجميع ما يطلب من صفاته، والجزاء الاوفى الجزاء الاتم. وضمير " يجزاه " للسعي الذي هو العمل والمعنى: ثم يجزي الانسان عمله أي بعمله أتم الجزاء.
قوله تعالى: " وأن إلى ربك المنتهى " المنتهى مصدر ميمي بمعنى الانتهاء وقد أطلق إطلاقا فيفيد مطلق الانتهاء، فما في الوجود من شئ موجود إلا وينتهي في وجوده وآثار وجوده إلى الله سبحانه بلا واسطة أو مع الواسطة، ولا فيه أمر من التدبير والنظام الجاري جزئيا أو كليا إلا وينتهي إليه سبحانه إذ ليس التدبير الجاري بين الاشياء إلا الروابط الجارية بينها القائمة بها وموجد الاشياء هو الموجد لروابطها المجري لها بينها فالمنتهى المطلق لكل شئ هو الله سبحانه. قال تعالى: " الله خالق كل شئ وهو على كل شئ وكيل له مقاليد السماوات والارض " الزمر: 63، وقال: " ألا له الخلق والامر " الاعراف: 54. والآية تثبت الربوبية المطلقة لله سبحانه بإنهاء كل تدبير وكل التدبير إليه وتشمل
[ 48 ]
انتهاء الاشياء إليه من حيث البدء وهو الفطر، وانتهاءها إليه من حيث العود والرجوع وهو الحشر. ومما تقدم يظهر ضعف ما قيل في تفسير الآية إن المراد بذلك رجوع الخلق إليه سبحانه يوم القيامة، وكذا ما قيل: إن المعنى أن إلى ثواب ربك وعقابه آخر الامر، وكذا ما قيل: المعنى أن إلى حساب ربك منتهاهم، وكذا ما قيل: إليه سبحانه ينتهي الافكار وتقف دونه، ففي جميع هذه التفاسير تقييد الآية من غير مقيد. قوله تعالى: " وأنه هو أضحك وأبكى " الآية وما يتلوها إلى تمام اثنتي عشرة آية بيان لموارد من انتهاء الخلق والتدبير إلى الله سبحانه. والسياق في جميع هذه الآيات سياق الحصر، وتفيد انحصار الربوبية فيه تعالى وانتفاء الشريك، ولا ينافي ما في هذه الموارد من الحصر توسط أسباب أخر طبيعية أو غير طبيعية فيها كتوسط السرور والحزن وأعضاء الضحك والبكاء من الانسان في تحقق الضحك والبكاء، وكذا توسط الاسباب المناسبة الطبيعية وغير الطبيعية في الاحياء والاماتة وخلق
الزوجين والغنى والقنى وإهلاك الامم الهالكة وذلك أنها لما كانت مسخرة لامر الله غير مستقلة في نفسها ولا منقطعة عما فوقها كانت وجوداتها وآثار وجوداتها وما يترتب عليها لله وحده لا يشاركه في ذلك أحد. فمعنى قوله: " وأنه هو أضحك وأبكى " أنه تعالى هو أوجد الضحك في الضاحك وأوجد البكاء في الباكي لا غيره تعالى: ولا منافاة بين انتهاء الضحك والبكاء في وجودهما إلى الله سبحانه وبين انتسابهما إلى الانسان وتلبسه بهما لان نسبة الفعل إلى الانسان بقيامه به ونسبة الفعل إليه تعالى بالايجاد وكم بينهما من فرق. ولا أن تعلق الارادة الالهية بضحك الانسان مثلا يوجب بطلان إرادة الانسان للضحك وسقوطها عن التأثير لان الارادة الالهية لم تتعلق بمطلق الضحك كيفما كان وإنما تعلقت بالضحك الارادي الاختياري من حيث انه صادر عن ارادة الانسان واختياره فإرادة الانسان سبب لضحكه في طول ارادة الله سبحانه لا في عرضها حتى تتزاحما ولا تجتمعا معا فنضطر إلى القول بأن أفعال الانسان الاختيارية مخلوقة لله ولا صنع للانسان فيها كما يقوله الجبري أو أنها مخلوقة للانسان ولا صنع لله سبحانه فيها كما يقوله المعتزلي.
[ 49 ]
ومما تقدم يظهر فساد قول بعضهم: إن معنى الآية أنه خلق قوتي الضحك والبكاء، وقول آخرين: إن المعنى أنه خلق السرور والحزن، وقول آخرين: إن المعنى أنه أضحك الارض بالنبات وأبكى السماء بالمطر، وقول آخرين: إن المعنى أنه أضحك أهل الجنة وأبكى أهل النار. قوله تعالى: " وأنه هو أمات وأحيا " الكلام في انتساب الموت والحياة إلى أسباب أخر طبيعية وغير طبيعية كالملائكة كالكلام في انتساب الضحك والبكاء إلى غيره تعالى مع انحصار الايجاد فيه تعالى، وكذا الكلام في الامور المذكورة في الآيات التالية.
قوله تعالى: " وأنه خلق الزوجين الذكر والانثى من نطفة إذا تمنى " النطفة ماء الرجل والمرأة الذي يخلق منه الولد، وأمنى الرجل أي صب المني، وقيل: معناه التقدير، وقوله: " الذكر والانثى " بيان للزوجين. قيل: لم يذكر الضمير في الآية على طرز ما تقدم - أنه هو - لانه لا يتصور نسبة خلق الزوجين إلى غيره تعالى. قوله تعالى: " وأن عليه النشأة الاخرى " النشأة الاخرى الخلقة الاخرى الثانية وهي الدار الآخرة التي فيها جزاء، وكون ذلك عليه تعالى قضاؤه قضاء حتم وقد وعد به ووصف نفسة بأنه لا يخلف الميعاد. قوله تعالى: " وأنه هو أغنى وأقنى " أي أعطى الغنى وأعطى القنية، والقنية ما يدوم من الاموال ويبقى ببقاء نفسه كالدار والبستان والحيوان، وعلى هذا فذكر " أقنى " بعد " أغنى " من التعرض للخاص بعد العام لنفاسته وشرفه. وقيل: الاغناء التمويل والاقناء الارضاء بذلك، وقال بعضهم: معنى الآية أنه هو أغنى وأفقر. قوله تعالى: " وأنه هو رب الشعرى " كأن المراد بالشعرى الشعرى اليمانية وهي كوكبة مضيئة من الثوابت شرقي صورة الجبار في السماء. قيل: كانت الخزاعة وحمير تعبد هذه الكوكبة، وممن كان يعبده أبو كبشة أحد أجداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهة امه، وكان المشركون يسمونه صلى الله عليه وآله وسلم ابن أبى كبشة لمخالفته إياهم في الدين كما خالف أبو كبشة قومه في عبادة الشعرى.
[ 50 ]
قوله تعالى: " وأنه أهلك عادا الاولى " وهم قوم هود النبي عليه السلام ووصفوا بالاولى لان هناك عادا ثانية هم بعد عاد الاولى. قوله تعالى: " وثمود فما أبقى " وهم قوم صالح النبي عليه السلام أهلك الله الكفار منهم
عن آخرهم، وهو المراد من قوله: " فما أبقى " وإلا فهو سبحانه نجى المؤمنين منهم من الهلاك كما قال: " ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون " فصلت: 18. قوله تعالى: " وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى " عطف كسابقه على قوله: " عادا " والاصرار بالتأكيد على كونهم أظلم وأطغى، أي من القومين عاد وثمود على ما يعطيه السياق لانهم لم يجيبوا دعوة نوح عليه السلام ولم يتعظوا بموعظته فيما يقرب من ألف سنة ولم يؤمن منهم معه إلا أقل قليل. قوله تعالى: " والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى " قيل: إن المؤتفكة قرى قوم لوط ائتفكت بأهلها أي انقلبت والائتفاك الانقلاب، والاهواء الاسقاط. والمعنى: وأسقط القرى المؤتفكة إلى الارض بقلبها وخسفها فشملها وأحاط بها من العذاب ما شملها وأحاط بها. واحتمل أن يكون المراد بالمؤتفكة ما هو أعم من قرى قوم لوط وهي كل قرية نزل عليها العذاب فباد أهلها فبقيت خربة داثرة معالمها خاوية على عروشها. قوله تعالى: " فبأي آلاء ربك تتمارى " الآلاء جمع إلى بمعنى النعمة، والتماري التشكك، والجملة متفرعة على ما تقدم ذكره مما ينسب إليه تعالى من الافعال. والمعنى: إذا كان الله سبحانه هو الذي نظم هذا النظام البديع من صنع وتدبير بالاضحاك والابكاء والاماتة والاحياء والخلق والاهلاك إلى آخر ما قيل، فبأي نعم ربك تتشكك وفي أيها تريب ؟ وعد مثل الا بكاء والاماتة وإهلاك الامم الطاغية نعما لله سبحانه لما فيها من الدخل في تكون النظام الاتم الذي يجرى في العالم وتنساق به الامور في مرحلة استكمال الخلق ورجوع الكل إلى الله سبحانه. والخطاب في الآية للذي تولى وأعطى قليلا وأكدى أو للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من باب إياك أعني واسمعي يا جارة، والاستفهام للانكار.
[ 51 ]
قوله تعالى: " هذا نذير من النذر الاولى " قيل: النذير يأتي مصدرا بمعنى الانذار ووصفا بمعنى المنذر ويجمع على النذر بضمتين على كلا المعنيين والاشارة بهذا إلى القرآن أو النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: " أزفت الآزفة " أي قربت القيامة والآزفة من أسماء القيامة قال تعالى: " وأنذرهم يوم الآزفة " المؤمن: 18. قوله تعالى: " ليس لها من دون الله كاشفة " أي نفس كاشفة والمراد بالكشف إزالة ما فيها من الشدائد والاهوال، والمعنى: ليس نفس تقدر على إزالة ما فيها من الشدائد والاهوال إلا أن يكشفها الله سبحانه. قوله تعالى: " أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون " الاشارة بهذا الحديث إلى ما تقدم من البيان، والسمود اللهو، والآية متفرعة على ما تقدم من البيان، والاستفهام للتوبيخ. والمعنى: إذا كان الله هو ربكم الذي ينتهي إليه كل أمر وعليه النشأة الاخرى وكانت القيامة قريبة وليس لها من دون الله كاشفة كان عليكم أن تبكوا لما فرطتم في جنب الله، وتعرضتم للشقاء الدائم أفمن هذا البيان الذي يدعوكم إلى النجاة تعجبون إنكارا وتضحكون استهزاء ولا تبكون ؟ قوله تعالى: " فاسجدوا لله واعبدوا " تفريع آخر على ما تقدم من البيان والمعنى: إذا كان كذلك فعليكم أن تسجدوا لله وتعبدوه ليكشف عنكم ما ليس له من دونه كاشفة. (بحث روائي) في الكشاف في قوله تعالى: " أفرأيت الذي تولى " الخ، روي أن عثمان كان يعطي ماله في الخير فقال له عبد الله بن سعد بن أبي سرح وهو أخوه من الرضاعة: يوشك أن لا يبقى لك شئ فقال عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه فقال عبد الله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء فنزلت، ومعنى: " تولى " ترك المركز يوم أحد فعاد
عثمان إلى أحسن من ذلك وأجمل.
[ 52 ]
أقول: وأورد القصة في مجمع البيان ونسبها إلى ابن عباس والسدي والكلبي وجماعة من المفسرين، وفي انطباق " تولى " على تركه المركز يوم أحد نظر والآيات مكية. وفي الدر المنثور أخرج الفاريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: " أفرأيت الذى تولى " قال: الوليد بن المغيرة كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فسمع ما يقولان وذلك ما أعطى من نفسه، أعطى الاستماع " وأكدى " قال: انقطع عطاؤه نزل في ذلك " أعنده علم الغيب " قال: الغيب القرآن أرأى فيه باطلا أنفذه ببصره إذ كان يختلف إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بكر. أقول: وأنت خبير بأن الآيات بظاهرها لا تنطبق على ما ذكره. وروي أنها نزلت في العاص بن وائل، وروي أنها نزلت في رجل لم يذكر اسمه. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وإبراهيم الذي وفى " قال: وفى بما أمره الله به من الامر والنهي وذبح ابنه. وفي الكافي بإسناده عن إسحاق بن عمار عن أبى إبراهيم عليه السلام قال:: سألته عن الرجل يحج فيجعل حجته وعمرته أو بعض طوافه لبعض أهله وهو عنه غائب في بلد آخر ؟ قال: قلت: فينتقص ذلك من أجره ؟ قال: هي له ولصاحبه وله أجر سوى ذلك بما وصل. قلت: وهو ميت أيدخل ذلك عليه ؟ قال: نعم حتى يكون مسخوطا عليه فيغفر له أو يكون مضيقا عليه فيوسع له. قلت: فيعلم هو في مكانه أنه عمل ذلك لحقه ؟ قال: نعم. قلت: وإن كان ناصبا ينفعه ذلك ؟ قال: نعم يخفف عنه. أقول: مورد الرواية إهداء ثواب العمل دون العمل نيابة عن الميت. وفيه بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يقول الله عز وجل للملك الموكل بالمؤمن إذا مرض: اكتب له ما كنت تكتب له في صحته
فإني أنا الذي صيرته في حبالي (1). وفي الخصال عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ليس يتبع الرجل بعد موته من الاجر إلا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته إلى يوم القيامة صدقة
(1) الحبالة: الوثاق.
[ 53 ]
موقوفة لا تورث، وسنة هدى سنها وكان يعمل بها وعمل بها من بعده غيره، وولد صالح يستغفر له. أقول: وهذه الروايات الثلاث - وفي معناها روايات كثيرة جدا عن أئمة أهل البيت عليهم السلام - توسع معنى السعي في قوله تعالى: " وأن ليس للانسان إلا ما سعى " وقد تقدمت إشارة إليها. وفي اصول الكافي بإسناده إلى سليمان بن خالد قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إن الله يقول: " وإن إلى ربك المنتهى " فإذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا. أقول: وهو من التوسعة في معنى الانتهاء. وفيه بإسناده إلى أبى عبيدة الحذاء قال: قال أبو جعفر عليه السلام: يا زياد إياك والخصومات فإنها تورث الشك، وتحبط العمل، وتردي صاحبها، وعسى أن يتكلم بالشئ فلا يغفر له. إنه كان فيما مضى قوم تركوا علم ما وكلوا به، وطلبوا علم ما كفوه حتى انتهى كلامهم إلى الله فتحيروا حتى كان الرجل يدعى من بين يديه فيجيب من خلفه، ويدعى من خلفه فيجيب من بين يديه. قال: وفي رواية اخرى: حتى تاهوا في الارض. وفي الدر المنثور أخرج أبو الشيخ عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا. أقول: وفي النهي عن التفكر في الله سبحانه روايات كثيرة أخر مودعة في جوامع الفريقين، والنهي إرشادي متعلق بمن لا يحسن الورود في المسائل العقلية العميقة فيكون
خوضه فيها تعرضا للهلاك الدائم. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وأنه أضحك وأبكى " قال: أبكى السماء بالمطر، وأضحك الارض بالنبات. أقول: هو من التوسعة في معنى الا بكاء والاضحاك. وفي المعاني بإسناده إلى السكوني عن جعفر بن محمد عن آبائهم عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام في قول الله عز وجل: " وأنه هو أغنى وأقنى " قال: أغنى كل إنسان بمعيشته، وأرضاه بكسب يده. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وأنه هو رب الشعرى " قال: النجم في السماء يسمى الشعرى كانت قريش وقوم من العرب يعبدونه، وهو نجم يطلع في آخر الليل.
[ 54 ]
أقول: الظاهر أن قوله: وهو نجم يطلع في آخر الليل تعريف له بحسب زمان صدور الحديث وكان في الصيف وإلا فهو يستوفي في مجموع السنة جميع ساعات الليل والنهار. وفيه في قوله تعالى: " أزفت الآزفة " قال: قربت القيامة. وفي المجمع في قوله تعالى: " أفمن هذا الحديث تعجبون " يعني بالحديث ما تقدم من الاخبار. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم " أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون " فما رؤي النبي بعدها ضاحكا حتى ذهب من الدنيا. (سورة القمر مكية، وهي خمس وخمسون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. إقتربت الساعة وانشق القمر - 1. وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر _ 2. وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر _ 3. ولقد جاءهم من الانباء ما فيه
مزدجر _ 4. حكمة بالغة فما تغن النذر _ 5. فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شئ نكر _ 6. خشعا أبصارهم يخرجون من الاجداث كأنهم جراد منتشر _ 7. مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر _ 8.
[ 55 ]
(بيان) سورة ممحضة في الانذار والتخويف إلا آيتين من آخرها تبشران المتقين بالجنة والحضور عند ربهم. تبدأ السورة بالاشارة إلى آية شق القمر التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن اقتراح من قومه، وتذكر رميهم له بالسحر وتكذيبهم به واتباعهم الاهواء مع ما جاءهم أنباء زاجرة من أنباء يوم القيامة وأنباء الامم الماضين الهالكين ثم يعيد تعالى عليهم نبذة من تلك الانباء إعادة ساخط معاتب فيذكر سيئ حالهم يوم القيامة عند خروجهم من الاجداث وحضورهم للحساب. ثم تشير إلى قصص قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون وما نزل بهم من أليم العذاب إثر تكذيبهم بالنذر وليس قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأعز عند الله منهم وما هم بمعجزين، وتختتم السورة ببشرى للمتقين. والسورة مكية بشهادة سياق آياتها، ولا يعبأ بما قيل: إنها نزلت ببدر وكذا بما قيل: إن بعض آياتها مدنية، ومن غرر آياتها ما في آخرها من آيات القدر. قوله تعالى: " اقتربت الساعة وانشق القمر " الاقتراب زيادة في القرب فقوله: " اقتربت الساعة " أي قربت جدا، والساعة هي الظرف الذي تقوم فيه القيامة. وقوله: " وانشق القمر " أي انفصل بعضه عن بعض فصار فرقتين شقتين تشير الآية إلى آية شق القمر التي أجراها الله تعالى على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة قبل الهجرة إثر سؤال
المشركين من أهل مكة، وقد استفاضت الروايات على ذلك، واتفق أهل الحديث والمفسرون على قبولها كما قيل. ولم يخالف فيه منهم إلا الحسن وعطاء والبلخي حيث قالوا: معنى قوله: " انشق القمر " سينشق القمر عند قيام الساعة وإنما عبر بلفظ الماضي لتحقق الوقوع. وهو مزيف مدفوع بدلالة الآية التالية " وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر " فإن سياقها أوضح شاهد على أن قوله " آية " مطلق شامل لانشقاق القمر فعند وقوعه إعراضهم وقولهم: سحر مستمر ومن المعلوم أن يوم القيامة يوم يظهر فيه الحقائق ويلجؤن فيه إلى المعرفة، ولا معنى حينئذ لقولهم في آية ظاهرة: إنها سحر مستمر فليس إلا أنها
[ 56 ]
آية قد وقعت للدلالة على الحق والصدق وتأتي لهم أن يرموها عنادا بأنها سحر. ومثله في السقوط ما قيل: إن الآية إشارة إلى ما ذهب إليه الرياضيون أخيرا أن القمر قطعة من الارض كما أن الارض جزء منفصل من الشمس فقوله: " وانشق القمر " اشارة إلى حقيقة علمية لم ينكشف يوم النزول بعد. وذلك أن هذه النظرية على تقدير صحتها لا يلائمها قوله: " وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر " إذ لم ينقل عن أحد أنه قال: للقمر هو سحر مستمر. على أن انفصال القمر عن الارض اشتقاق والذي في الآية الكريمة انشقاق، ولا يطلق الانشقاق إلا على تقطع الشئ في نفسه قطعتين دون انفصاله من شئ بعدما كان جزء منه. ومثله في السقوط ما قيل: إن معنى انشقاق القمر انكشاف الظلمة عند طلوعه وكذا ما قيل: إن انشقاق القمر كناية عن ظهور الامر ووضوح الحق. والآية لا تخلو من إشعار بأن انشقاق القمر من لوازم اقتراب الساعة. قوله تعالى: " وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر " الاستمرار من الشئ مرور منه بعد مرور مرة بعد مرة، ولذا يطلق على الدوام والاطراد فقولهم: سحر مستمر
أي سحر بعد سحر مداوما. وقوله: " آية " نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم، والمعنى وكل آية يشاهدونها يقولون فيها إنها سحر بعد سحر، وفسر بعضهم المستمر بالمحكم الموثق، وبعضهم بالذاهب الزائل، وبعضهم بالمستبشع المنفور، وهي معان بعيدة. قوله تعالى: " وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر " متعلق التكذيب بقرينة ذيل الآية هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما أتى به من الآيات أي وكذبوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وما أتى به من الآيات والحال أن كل أمر مستقر سيستقر في مستقره فيعلم أنه حق أو باطل وصدق أو كذب فسيعلمون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صادق أو كاذب، على الحق أو لا فقوله: " وكل أمر مستقر " في معنى قوله: " ولتعلمن نبأه بعد حين " ص: 88. وقيل متعلق التكذيب انشقاق القمر والمعنى: وكذبوا بانشقاق القمر واتبعوا أهواءهم، وجملة " وكل أمر مستقر " لا تلائمه تلك الملاءمة. قوله تعالى: " ولقذ جاءهم من الانباء ما فيه مزدجر " المزدجر مصدر ميمي وهو الاتعاظ، وقوله: " من الانباء " بيان لما فيه مزدجر، والمراد بالانباء أخبار الامم
[ 57 ]
الدارجة الهالكة أو أخبار يوم القيامة وقد احتمل كل منهما، والظاهر من تعقيب الآية بأنباء يوم القيامة ثم بأنباء عدة من الامم الهالكة أن المراد بالانباء التي فيها مزدجر جميع ذلك. قوله تعالى: " حكمة بالغة فما تغن النذر " الحكمة كلمة الحق التي ينتفع بها، والبلوغ وصول الشئ إلى ما تنتهي إليه المسافة ويكنى به عن تمام الشئ وكماله فالحكمة البالغة هي الحكمة التامة الكاملة التي لا نقص فيها من حيث نفسها ومن حيث أثرها. وقوله: " فما تغن النذر " الفاء فيه فصيحة تفصح عن جملة مقدرة تترتب عليها الكلام، والنذر جمع نذير بمعنى المنذر أو بمعنى الانذار والكل صحيح وإن كلن الاول أقرب إلى الفهم.
والمعنى: هذا القرآن أو الذي يدعون إليه حكمة بالغة كذبوا بها واتبعوا أهواءهم فما تغني المنذرون أو الانذارات ؟ قوله تعالى: " فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شئ نكر " التولي الاعراض والفاء في " فتول " لتفريع الامر بالتولي على ما تقدمه من وصف حالهم أي إذا كانوا مكذبين بك متبعين أهواءهم لا يغني فيهم النذر ولا تؤثر فيهم الزواجر فتول عنهم ولا تلح عليهم بالدعوة. وقوله: " يوم يدع الداع إلى شئ نكر " قال الراغب: الانكار ضد العرفان يقال: أنكرت كذا ونكرت، وأصله أن يرد على القلب ما لا يتصوره، وذلك ضرب من الجهل قال تعالى: " فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم ". قال: والنكر الدهاء والامر الصعب الذي لا يعرف. انتهى. وقد تم الكلام في قوله: " فتول عنهم " ببيان حالهم تجاه الحكمة البالغة التي ألقيت إليهم والزواجر التي ذكروا بها على سبيل الانذار، ثم أعاد سبحانه نبذة من تلك الزواجر التي هي أنباء من حالهم يوم القيامة ومن عاقبة حال الامم المكذبين من الماضين في لحن العتاب والتوبيخ الشديد الذي تهز قلوبهم للانتباه وتقطع منابت أعذارهم في الاعراض. فقوله: " يوم يدع الداع " الخ، كلام مفصول عما قبله لذكر الزواجر التي أشير إليها سابقا في مقام الجواب عن سؤال مقدر كأنه لما قال: " فتول عنهم " سئل فقيل: فإلى م يؤل أمرهم ؟ فقيل: " يوم يدع " الخ، أي هذه حال آخرتهم وتلك عاقبة دنيا أشياعهم وأمثالهم من قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، وليسوا خيرا منهم. وعلى هذا فالظرف في " يوم يدع " متعلق بما سيأتي من قوله: " يخرجون " والمعنى:
[ 58 ]
يخرجون من الاجداث يوم يدعو الداعي إلى شئ نكر الخ، وإما متعلق بمحذوف، والتقدير اذكر يوم يدعو الداعي، والمحصل اذكر ذاك اليوم وحالهم فيه، والآية في معنى قوله: " هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم " الزخرف: 66، وقوله: " فهل ينتظرون
إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم " يونس: 102. ولم يسم سبحانه هذا الداعي من هو ؟ وقد نسب الدعوة في موضع من كلامه إلى نفسه فقال: " يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده " أسرى: 52. وإنما أورد من أنباء القيامة نبأ دعوتهم للخروج من الاجداث والحضور لفصل القضاء وخروجهم منها خشعا أبصارهم مهطعين إلى الداعي ليحاذي به دعوتهم في الدنيا إلى الايمان بالآيات وإعراضهم وقولهم: سحر مستمر. ومعنى الآية: اذكر يوم يدعو الداعي إلى أمر صعب عليهم وهو القضاء والجزاء. قوله تعالى: " خشعا أبصارهم يخرجون من الاجداث كأنهم جراد منتشر " الخشع جمع خاشع والخشوع نوع من الذلة ونسب إلى الابصار لان ظهوره فيها أتم. والاجداث جمع جدث وهو القبر، والجراد حيوان معروف، وتشبيههم في الخروج من القبور بالجراد المنتشر من حيث أن الجراد في انتشاره يدخل البعض منه في البعض ويختلط البعض بالبعض في جهات مختلفة فكذلك هؤلاء في خروجهم من القبور، قال تعالى: " يخرجون من الاجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم " المعارج: 44. قوله تعالى: " مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر " أي حال كونهم مسرعين إلى الداعي مطيعين مستجيبين دعوته يقول الكافرون: هذا يوم عسر أي صعب شديد. (بحث روائي) في تفسير القمي " اقتربت الساعة " قال: اقتربت القيامة فلا يكون بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا القيامة وقد انقضت النبوة والرسالة. وقوله: " وانشق القمر " فإن قريشا سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يريهم آية فدعا الله فانشق القمر نصفين حتى نظروا إليه ثم التأم فقالوا: هذا سحر مستمر أي صحيح.
[ 59 ]
وفي أمالي الشيخ بإسناده عن عبيد الله بن علي عن الرضا عن آبائه عن علي عليه السلام
قال: انشق القمر بمكة فلقتين فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اشهدوا اشهدوا. أقول: ورد انشقاق القمر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في روايات الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام كثيرا وقد تسلمه محدثوهم والعلماء من غير توقف. وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد ومسلم وابن جرير وابن المنذر والترمذي وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أنس قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر بمكة فرقتين فنزلت " اقتربت الساعة وانشق القمر " إلى قوله: " سحر مستمر " أي ذاهب. وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم وآلبيهقي وكلاهما في الدلائل من طريق مسروق عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة فقالوا: انتظروا ما يأتيكم به السفار فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم فجاء السفار فسألوهم فقالوا: نعم قد رأيناه فأنزل الله " اقتربت الساعة وانشق القمر ". وفيه أخرج مسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والحاكم والبيهقي وأبو نعيم في الدلائل من طريق مجاهد عن ابن عمر في قوله: " اقتربت الساعة وانشق القمر " قال: كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق فرقتين: فرقة من دون الجبل وفرقة خلفه فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد. وفيه أخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير والحاكم وأبو نعيم والبيهقي عن جبير بن مطعم في قوله: " وانشق القمر " قال: انشق القمر ونحن بمكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صار فرقتين: فرقة على هذا الجبل وفرقة على هذا الجبل فقال الناس: سحرنا محمد فقال رجل: إن كان سحركم فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم. وفيه أخرج ابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس في قوله: " اقتربت الساعة وانشق القمر " قال: قد مضى ذلك قبل الهجرة انشق القمر حتى رأوا شقيه.
وفيه أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم عن أبي عبد الرحمان السلمي قال: خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن
[ 60 ]
فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: اقتربت الساعة وانشق القمر ألا وإن الساعة قد اقتربت. ألا وإن القمر قد انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق. ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق. أقول: وقد روي انشقاق القمر بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطرق مختلفة كثيرة عن هؤلاء النفر من الصحابة وهم أنس، وعبد الله بن مسعود، وابن عمر، وجبير بن مطعم، وابن عباس، وحذيفة بن اليمان، وعد في روح المعاني ممن روي عنه الحديث من الصحابة عليا صلى الله عليه وآله وسلم ثم نقل عن السيد الشريف في شرح المواقف وعن ابن السبكي في شرح المختصر أن الحديث متواتر لا يمتري في تواتره. هذه حال الحديث عند أهل السنة وقد عرفت حاله عند الشيعة. (كلام فيه إجمال القول في شق القمر) آية شق القمر بيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة قبل الهجرة باقتراح من المشركين مما تسلمها المسلمون بلا ارتياب منهم. ويدل عليها من القرآن الكريم دلالة ظاهرة قوله تعالى: " اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر " القمر: 2، فالآية الثانية تأبى إلا أن يكون مدلول قوله: " وانشق القمر " آية واقعة قريبة من زمان النزول أعرض عنها المشركون كسائر الآيات التي أعرضوا عنها وقالوا: سحر مستمر. ويدل عليها من الحديث روايات مستفيضة متكاثرة رواها الفريقان وتسلمها المحدثون، وقد تقدمت نماذج منها في البحث الروائي. فالكتاب والسنة يدلان عليها وانشقاق كرة من الكرات الجوية ممكن في نفسه لا دليل
على استحالته العقلية، ووقوع الحوادث الخارقة للعادة - ومنها الآيات المعجزات - جائز وقد قدمنا في الجزء الاول من الكتاب تفصيل الكلام فيها إمكانا ووقوعا ومن أوضح الشواهد عليه القرآن الكريم فمن الواجب قبول هذه الآية وإن لم يكن من ضروريات الدين. واعترض عليها بأن صدور الآية المعجزة منه صلى الله عليه وآله وسلم باقتراح من الناس ينافي قوله تعالى: " وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الاولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما
[ 61 ]
نرسل بالآيات إلا تخويفا " أسرى: 59 فإن مفاد الآية إما أنا لا نرسل بالآيات إلى هذه الامة لان الامم السابقة كذبوا بها وهؤلاء يماثلونهم في طباعهم فيكذبون بها، ولا فائدة في الارسال مع عدم ترتب أثر عليه أو المفاد أنا لا نرسل بها لانا أرسلنا إلى أوليهم فكذبوا بها فعذبوا وأهلكوا ولو أرسلنا إلى هؤلاء لكذبوا بها وعذبوا عذاب الاستئصال لكنا لا نريد أن نعاجلهم بالعذاب، وعلى أي حال لا يرسل بالآيات إلى هذه الامة كما كانت ترسل إلى الامم الدارجة. نعم هذا في الآيات المرسلة باقتراح من الناس دون الآيات التي تؤيد بها الرسالة كالقرآن المؤيد لرسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكآيتي العصا واليد لموسى عليه السلام وآية إحياء الموتى وغيرها لعيسى عليه السلام، وكذا الآيات النازلة لطفا منه سبحانه كالخوارق الصادرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا عن اقتراح منهم. ومثل الآية السابقة قوله تعالى: " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا - إلى أن قال - قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا " أسرى: 93 وغير ذلك من الآيات. والجواب عن هذا الاعتراض يحتاج إلى تقديم مقدمة هي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث رسولا إلى أهل الدنيا كافة بنبوة خاتمة كما يدل عليه قوله تعالى: " قل يا أيها الناس إني رسول الله اليكم جميعا " الاعراف: 158، وقوله و: " وأوحي إلي هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ " الانعام: 19، وقوله: " ولكن رسول الله وخاتم النبيين " الاحزاب: 40 إلى غير ذلك
من الآيات. وقد بدأ صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمكة بدعوة قومه من أهل مكة وحواليها فقابلوه بما استطاعوا من الشقاق والايذاء والاستهزاء وهموا بإخراجه أو إثباته أو قتله حتى أمره ربه بالهجرة غير أنه آمن به وهو بمكة جمع كثير منهم وإن كانت عامتهم على الكفر والمؤمنون وإن كانوا قليلين بالنسبة إلى المشركين مضطهدين مفتنين لكنهم كانوا في أنفسهم جمعا ذا عدد كما يدل عليه قوله تعالى: " ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة " النساء: 177. فقد استجازوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقاتلوا المشركين فلم يأذن الله لهم في ذلك على ما روي في سبب نزول الآية، وهذا يدل على أنهم كانوا ذوي عدة وعدة في الجملة ولم يزالوا يزيدون جمعا.
[ 62 ]
ثم هاجر صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وبسط هنالك الدعوة ونشر الاسلام فيها وفي حواليها وفي القبائل وفي اليمن وسائر أقطار الجزيرة ما عدا مكة وحواليها ثم بسط الدعوة على غير الجزيرة فكاتب الملوك والعظماء من فارس والروم ومصر سنة ست من الهجرة ثم فتح مكة سنة ثمان من الهجرة وقد أسلم ما بين الهجرة والفتح جمع من أهلها وحواليها. ثم ارتحل صلى الله عليه وآله وسلم وكان من انتشار الاسلام ما كان، ولم يزل الاسلام يزيد جمعا وينتشر صيتا إلى يومنا هذا وقد بلغوا خمس أهل الارض عددا. إذا تمهد هذا فنقول: كانت آية انشقاق القمر آية اقتراحية تستعقب العذاب لو كذبوا بها وقد كذبوا وقالوا: سحر مستمر وما كان الله ليهلك بها جميع من أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم أهل الارض جميعا لعدم تمام الحجة عليهم يومئذ وقد كان الانشقاق سنة خمس قبل الهجرة، وقد قال تعالى: " ليهلك من هلك عن بينة " الانفال: 42. وما كان الله ليهلك جميع أهل مكة وحواليها خاصة وبينهم جمع من المسلمين كما قال تعالى: " ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير
علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما " الفتح: 25. وما كان الله سبحانه لينجي المؤمنين ويهلك كفارهم وقد آمن جمع كثير منهم فيما بين سنة خمس قبل الهجرة وسنة ثمان بعد الهجرة عام فتح مكة ثم آمنت عامتهم يوم الفتح والاسلام كان يكتفي منهم بظاهر الشهادتين. ولم تكن عامة أهل مكة وحواليها أهل عناد وجحود وإنما كان أهل الجحود والعناد عظماؤهم وصناديدهم المستهزئين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم المعذبين للمؤمنين، المقترحين عليه بالآيات وهم الذين يقول تعالى فيهم: " إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " البقرة: 6، وقد أوعد الله هؤلاء الجاحدين المقترحين بتحريم الايمان والهلاك في مواضع من كلامه فلم يؤمنوا وأهلكهم الله يوم بدر وتمت كلمة الرب صدقا وعدلا. وأما التمسك لنفي إرسال الآيات مطلقا بقوله تعالى: " وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الاولون " فالآية لا تشمل قطعا الآيات المؤيدة للرسالة كالقرآن المؤيد لرسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذا الآيات النازلة لطفا كالخوارق الصادرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الاخبار بالمغيبات وشفاء المرضى بدعائه وغير ذلك. فلو كانت مطلقة فإنما تشمل الآيات الاقتراحية وتفيد أن الله سبحانه لم يرسل الآيات
[ 63 ]
التي اقترحتها قريش - أولم (1) يرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات التي اقترحوها - لان الامم السابقة كذبوا بها وطباع هؤلاء المقترحين طباعهم يكذبون بها ولازمها نزول العذاب والله لا يريد أن يعذبهم عاجلا. وقد أوضح سبحانه سبب عدم معاجلتهم بالعذاب بقوله: " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " الانفال: 33، واستبان بذلك أن المانع من عذابهم وجود الرسول فيهم كما يفيده أيضا قوله تعالى: " وإن كادوا ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا " أسرى 76.
ثم قال تعالى: " وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " الانفال: 35 والآيات نزلت عقيب غزوة بدر. والآيات تبين أنه لم يكن من قبلهم مانع من نزول العذاب غير وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهم فإذا زال المانع بخروجه من بينهم فليذوقوا العذاب وهو ما أصابهم في وقعة بدر من القتل الذريع. وبالجملة كان المانع من إرسال الآيات تكذيب الاولين ومماثلتهم لهم في خصيصة التكذيب ووجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهم المانع من معاجلة العذاب فإذا وجد مقتض للعذاب كالصد والمكاء والتصدية وزال أحد ركني المانع وهو كونه صلى الله عليه وآله وسلم فيهم فلا مانع من العذاب ولا مانع من نزول الآية وإرسالها ليحق عليهم القول فيعذبوا بسبب تكذيبهم لها وبسبب مقتضيات أخر كالصد ونحوه. فتحصل أن قوله تعالى: " وما منعنا أن نرسل بالآيات " الخ، إنما يفيد الامساك عن إرسال الآيات ما دام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم وأما إرسالها وتأخير العذاب إلى خروجه من بينهم فلا دلالة فيه عليه وقد صرح سبحانه بأن وقعة بدر كانت آية وما أصابهم فيها كان عذابا، وكذا لو كان مفاد الآية هو الامتناع عن الارسال لكونه لغوا بسبب كونهم مجبولين على التكذيب فإن إرسالها مع تأخير العذاب والنكال إلى خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من
(1) اول شقى الترديد مبني على كون الباء في قوله: " نرسل بالآيات " زائدة والآيات مفعول نرسل، والثاني مبني على كونها بمعنى المصاحبة والمفعول مخذوفا.
[ 64 ]
بينهم من الفائدة ليحق الله الحق ويبطل الباطل فلتكن آية انشقاق القمر من الآيات النازلة التي من فائدتها نزول العذاب عليهم بعد خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بينهم. وأما قوله تعالى: " قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا " فليس مدلوله نفي
تأييد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات المعجزة وإنكار نزولها من أصلها كيف ؟ وهو ينفيها عن نفسه بما أنه بشر رسول، ولو كان المراد ذلك لافاد إنكار معجزات الانبياء جميعا لكون كل منهم بشرا رسولا، وصريح القرآن فيما حدث من قصص الانبياء وأخبر عن آياتهم يناقض ذلك، وأوضح من الجميع في مناقضة ذلك نفس الآية التي هي من القرآن المتحدي بالاعجاز. بل مدلوله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشر رسول غير قادر من حيث نفسه على شئ من الآيات التي يقترحون عليه، وإنما الامر إلى الله سبحانه إن شاء أنزلها وان لم يشأ لم يفعل قال تعالى: " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون " الانعام: 109، وقال حاكيا عن قوم نوح: " قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين قال إنما يأتيكم به الله إن شاء " هود: 33، وقال: " وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله " المؤمن: 87، والآيات في هذا المعنى كثيرة. ومن الاعتراض على آية الانشقاق ما قيل: إن القمر لو انشق كما يقال لرآه جميع الناس ولضبطه أهل الارصاد في الشرق والغرب لكونه من أعجب الآيات السماوية ولم يعهد فيما بلغ الينا من التاريخ والكتب الباحثة عن الاوضاح السماوية له نظير والدواعي متوفرة على استماعه ونقله. وأجيب بما حاصله أن من الممكن أولا: أن يغفل عنه فلا دليل على كون كل حادث أرضي أو سماوي معلوما للناس محفوظا عندهم يرثه خلف عن سلف. وثانيا: أن الحجاز وما حولها من البلاد العربية وغيرها لم يكن بها مرصد للاوضاع السماوية، وإنما كان ما كان من المراصد بالهند والمغرب من الروم واليونان وغيرهما ولم يثبت وجود مرصد في هذا الوقت - وهو على ما في بعض الروايات أول الليلة الرابعة عشرة من ذي الحجة سنة خمس قبل الهجرة -.
على أن بلاد الغرب التي كانوا معتنين بهذا الشأن بينها وبين مكة من اختلاف الافق ما
[ 65 ]
يوجب فصلا زمانيا معتدا به وقد كان القمر - على ما في بعض الروايات - بدرا وانشق في حوالي غروب الشمس حين طلوعه ولم يبق على الانشقاق إلا زمانا يسيرا ثم التأم فيقع طلوعه على بلاد الغرب وهو ملتئم ثانيا. على أنا نتهم غير المسلمين من أتباع الكنيسة والوثنية في الامور الدينية التي لها مساس نفع بالاسلام. ومن الاعتراض عليها ما قيل: إن الانشقاق لا يقع إلا ببطلان التجاذب بين الشقتين وحينئذ يستحيل الالتيام فلو كان منشقا لم يلتئم أبدا. والجواب عنه أن الاستحالة العقلية ممنوعة، والاستحالة العادية بمعنى اختراق العادة لو منعت عن الالتيام بعد الانشقاق لمنعت أولا عن الانشقاق بعد الالتيام ولم تمنع وأصل الكلام مبني على جواز خرق العادة. كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر - 9. فدعا ربه أني مغلوب فانتصر _ 10. ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر _ 11. وفجرنا الارض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر _ 12. وحملناه على ذات ألواح ودسر _ 13. تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر _ 14. ولقد تركناها آية فهل من مدكر _ 15. فكيف كان عذابي ونذر _ 16. ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر _ 17. كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر _ 18. إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر _ 19. تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر _ 20.
[ 66 ]
فكيف كان عذابي ونذر _ 21. ولقد يسرنا القرآن للذكر
فهل من مدكر _ 22. كذبت ثمود بالنذر _ 23. فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر _ 24. ءألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر _ 25. سيعلمون غدا من الكذاب الاشر _ 26. إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر _ 27. ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر _ 28. فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر _ 29. فكيف كان عذابي ونذر _ 30. إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر _ 31. ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر _ 32. كذبت قوم لوط بالنذر _ 33. إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر _ 34. نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر _ 35. ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر _ 36. ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر _ 37. ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر _ 38. فذوقوا عذابي ونذر _ 39. ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر _ 40. ولقد جاء آل فرعون النذر _ 41. كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر _ 42.
[ 67 ]
(بيان) إشارة إلى بعض ما فيه مزدجر من أنباء الامم الدارجة خص بالذكر من بينهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون فذكرهم بأنبائهم وأعاد عليهم إجمال ما قص عليهم سابقا من قصصهم وما آل إليه تكذيبهم بآيات الله ورسله من أليم العذاب وهائل العقاب تقريرا لقوله: " ولقد جاءهم من الانباء ما فيه مزدجر ".
ولتوكيد التقرير وتمثيل ما في هذه القصص الزاجرة من الزجر القارع للقلوب عقب كل واحدة من القصص بقوله خطابا لهم: " فكيف كان عذابي ونذر " ثم ثناه بذكر الغرض من الانذار والتخويف فقال: " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ". قوله تعالى: " كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر " التكذيب الاول منزل منزلة اللازم أي فعلت التكذيب، وقوله: " فكذبوا عبدنا " الخ، تفسيره كما في قوله: " ونادى نوح ربه فقال " الخ، هود: 45. وقيل: المراد بالتكذيب الاول التكذيب المطلق وهو تكذيبهم بالرسل، وبالثاني التكذيب بنوح خاصة كقوله في سورة الشعراء: " كذبت قوم نوح المرسلين " الشعراء: 105، والمعنى: كذبت قوم نوح المرسلين فترتب عليه تكذيبهم لنوح، وهو وجه حسن. وقيل: المراد بتفريع التكذب على التكذيب الاشارة إلى كونه تكذيبا إثر تكذيب بطول زمان دعوته فكلما انقرض قرن منهم مكذب جاء بعدهم قرن آخر مكذب، وهو معنى بعيد. ومثله قول بعضهم: إن المراد بالتكذيب الاول قصده وبالثاني فعله. وقوله: " فكذبوا عبدنا " في التعبير عن نوح عليه السلام بقوله: " عبدنا " في مثل المقام تجليل لمقامه وتعظيم لامره وإشارة إلى أن تكذيبهم له يرجع إليه تعالى لانه عبد لا يملك شيئا وما له فهو لله. وقوله: " وقالوا مجنون وازدجر " المراد بالازدجار زجر الجن له إثر الجنون، والمعنى: ولم يقتصروا على مجرد التكذيب بل نسبوه إلى الجنون فقالوا هو مجنون وازدجره الجن فلا يتكلم إلا عن زجر وليس كلامه من الوحي السماوي في شئ.
[ 68 ]
وقيل: الفاعل المحذوف للازدجار هو القوم، والمعنى: وازدجره القوم عن الدعوة والتبليغ بأنواع الايذاء والتخويف، ولعل المعنى الاول أظهر.
قوله تعالى: " فدعا ربه أني مغلوب فانتصر " الانتصار الانتقام، وقوله: " إني مغلوب " أي بالقهر والتحكم دون الحجة، وهذا الدعاء تلخيص لتفصيل دعائه، وتفصيل دعائه مذكور في سورة نوح وتفصيل حججه في سورة هود وغيرها. قوله تعالى: " ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر " قال في المجمع: الهمر صب الدمع والماء بشدة، والانهمار الانصباب، انتهى. وفتح أبواب السماء وهي الجو بماء منصب استعارة تمثيلية عن شدة انصباب الماء وجريان المطر متواليا كأنه مدخر وراء باب مسدود يمنع عن انصبابه ففتح الباب فانصب أشد ما يكون. قوله تعالى: " وفجرنا الارض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر " قال في المجمع: التفجير تشقيق الارض عن الماء، والعيون جمع عين الماء وهو ما يفور من الارض مستديرا كاستدارة عين الحيوان. انتهى. والمعنى: جعلنا الارض عيونا منفجرة عن الماء تجري جريانا متوافقا متتابعا. وقوله: " فالتقى الماء على أمر قد قدر " أي فالتقى الماء ان ماء السماء وماء الارض مستقرا على أمر قدره الله تعالى أي حسب ما قدر من غير نقيصة ولا زيادة ولا عجل ولا مهل. فالماء اسم جنس أريد به ماء السماء وماء الارض ولذلك لم يثن، والمراد بأمر قد قدر الصفة التي قدرها الله لهذا الطوفان. قوله تعالى: " وحملناه على ذات ألواح ودسر " المراد بذات الالواح والدسر السفينة، والالواح جمع لوح وهو الخشبة التي يركب بعضها على بعض في السفينة، والدسر جمع دسار ودسر وهو المسمار الذي تشد بها الالواح في السفينة، وقيل فيه معان أخر لا تلائم الآية تلك الملاءمة. قوله تعالى: " تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر " أي تجري السفينة على الماء المحيط بالارض بأنواع من مراقبتنا وحفظنا وحراستنا، وقيل: المراد تجري بأعين أوليائنا ومن وكلناه بها من الملائكة.
وقوله: " جزاء لمن كان كفر " أي جريان السفينة كذلك وفيه نجاة من فيها من الهلاك ليكون جزاء لمن كان كفر به وهو نوح عليه السلام كفر به وبدعوته قومه، فالآية في معنى
[ 69 ]
قوله: " و نجيناه وأهله من الكرب العظيم - إلى أن قال - إنا كذلك نجزي المحسنين " الصافات: 80. قوله تعالى: " ولقد تركناها آية فهل من مدكر " ضمير " تركناها " للسفينة على ما يفيده السياق واللام للقسم، والمعنى: أقسم لقد أبقينا تلك السفينة التي نجينا بها نوحا والذين معه، وجعلناها آية يعتبر بها من اعتبر فهل من متذكر يتذكر بها وحدانيته تعالى وأن دعوة أنبيائه حق، وأن أخذه أليم شديد ؟ ولازم هذا المعنى بقاء السفينة إلى حين نزول هذه الآيات علامة دالة على واقعة الطوفان مذكرة لها، وقد قال بعضهم في تفسير الآية على ما نقل: أبقى الله سفينة نوح على الجودي حتى أدركها أوائل هذه الامة (1)، انتهى. وقد أوردنا في تفسير سورة هود في آخر الابحاث حول قصة نوح خبر أنهم عثروا في بعض قلل جبل آراراط وهو الجودي قطعات أخشاب من سفينة متلاشية وقعت هناك، فراجع. وقيل: ضمير " تركناها " لما مر من القصة بما أنها فعله. قوله تعالى: " فكيف كان عذابي ونذر " النذر جمع نذير بمعنى الانذار، وقيل: مصدر بمعنى الانذار. والظاهر أن " كان " ناقصة واسمها " عذابي " وخبرها " فكيف "، ويمكن أن تكون تامة فاعلها قوله: " عذابي " وقوله: " فكيف " حالا منه. وكيف كان فالاستفهام للتهويل يسجل به شدة العذاب وصدق الانذار. قوله تعالى: " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر " التيسير التسهيل وتيسير القرآن للذكر هو إلقاؤه على نحو يسهل فهم مقاصده للعامي والخاصي والافهام البسيطة والمتعمقة كل على مقدار فهمه.
ويمكن أن يراد به تنزيل حقائقه العالية ومقاصده المرتفعة عن افق الافهام العادية إلى مرحلة التكليم العربي تناله عامة الافهام كما يستفاد من قوله تعالى: " إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم " الزخرف: 4. والمراد بالذكر ذكره تعالى بأسمائه أو صفاته أو أفعاله " قال في المفردات: الذكر تارة يقال ويراد به هيئة للنفس بها يمكن للانسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة وهو كالحفظ
(1) رواه في الدر المنثور عن عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة.
[ 70 ]
إلا أن الحفظ يقال اعتبارا بإحرازه، والذكر يقال اعتبارا باستحضاره وتارة يقال لحضور الشئ القلب أو القول، ولذلك قيل: الذكر ذكران: ذكر بالقلب وذكر باللسان وكل واحد منهما ضربان: ذكر عن نسيان وذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ، وكل قول يقال له ذكر. انتهى. ومعنى الآية: وأقسم لقد سهلنا القرآن لان يتذكر به، فيذكر الله تعالى وشؤونه، فهل من متذكر يتذكر به فيؤمن بالله ويدين بما يدعو إليه من الدين الحق ؟ فالآية دعوة عامة إلى التذكر بالقرآن بعد تسجيل صدق الانذار وشدة العذاب الذي أنذر به. قوله تعالى: " كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر " شروع في قصة اخرى من القصص التي فيها الازدجار ولم يعطف على ما قبلها - ومثلها القصص الآتية - لان كل واحدة من هذه القصص مستقلة كافية في الزجر والردع والعظة لو اتعظوا بها. وقوله: " فكيف كان عذابي ونذر " مسوق لتوجيه قلوب السامعين إلى ما يلقى إليهم من كيفية العذاب الهائل بقوله: " إنا أرسلنا " الخ، وليس مسوقا للتهويل وتسجيل شدة العذاب وصدق الانذار كسابقه وإلا لتكرر قوله بعد: " فكيف كان " الخ، كذا قيل وهو وجه حسن.
قوله تعالى: " إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر " بيان لما استفهم عنه في قوله: " فكيف كان عذابي ونذر " والصرصر - على ما في المجمع - الريح الشديدة الهبوب، والنحس بالفتح فالسكون مصدر كالنحوسة بمعنى الشؤم، و " مستمر " صفة لنحس، ومعنى إرسال الريح في يوم نحس مستمر إرسالها في يوم متلبس بالنحوسة والشأمة بالنسبة إليهم المستمرة عليهم لا يرجى فيه خير لهم ولا نجاة. والمراد باليوم قطعة من الزمان لا اليوم الذي يساوي سبع الاسبوع لقوله تعالى في موضع آخر من كلامه: " فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات " حم السجدة 16، وفي موضع آخر: " سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما " الحاقة: 7. وفسر بعضهم النحس بالبرد. قوله تعالى: " تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر " فاعل " تنزع " ضمير راجع إلى
[ 71 ]
الريح أي تنزع الريح الناس من الارض، وأعجاز النخل أسافله، والمنقعر المقلوع من أصله، والمعنى ظاهر، وفي الآية إشعار ببسطة القوم أجساما. قوله تعالى: " فكيف كان عذابي - إلى قوله - مدكر " تقدم تفسير الآيتين. (كلام في سعادة الايام ونحوستها والطيرة والفأل، في فصول) 1 - في سعادة الايام ونحوستها: نحوسة اليوم أو أي مقدار من الزمان أن لا يعقب الحوادث الواقعة فيه إلا الشر ولا يكون الاعمال أو نوع خاص من الاعمال فيه مباركة لعاملها، وسعادته خلافه. ولا سبيل لنا إلى إقامة البرهان على سعادة يوم من الايام أو زمان من الازمنة ولا نحوسته وطبيعة الزمان المقدارية متشابهة الاجزاء والابعاض، ولا إحاطة لنا بالعلل والاسباب الفاعلة المؤثرة في حدوث الحوادث وكينونة الاعمال حتى يظهر لنا دوران اليوم أو القطعة من الزمان من علل وأسباب تقتضي سعادته أو نحوسته، ولذلك كانت التجربة الكافية غير متأتية لتوقفها على تجرد الموضوع لاثره حتى يعلم أن الاثر أثره وهو غير معلوم في المقام.
ولما مر بعينه لم يكن لنا سبيل إلى إقامة البرهان على نفي السعادة والنحوسة كما لم يكن سبيل إلى الاثبات وإن كان الثبوت بعيدا فالبعد غير الاستحالة. هذا بحسب النظر العقلي. وأما بحسب النظر الشرعي ففى الكتاب ذكر من النحوسة وما يقابلها، قال تعالى: " إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر " القمر: 19، وقال: " فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات " حم السجدة: 16، لكن لا يظهر من سياق القصة ودلالة الآيتين أزيد من كون النحوسة والشؤم خاصة بنفس الزمان الذي كانت تهب عليهم فيه الريح عذابا وهو سبع ليال وثمانية أيام متوالية يستمر عليهم فيها العذاب من غير أن تدور بدوران الاسابيع وهو ظاهر وإلا كان جميع الزمان نحسا، ولا بدوران الشهور والسنين. وقال تعالى: " والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة " الدخان: 3، والمراد بها ليلة القدر التي يصفها الله تعالى بقوله: " ليلة القدر خير من ألف شهر " القدر: 3، وظاهر
[ 72 ]
أن مباركة هذه الليلة وسعادتها إنما هي بمقارنتها نوعا من المقارنة لامور عظام من الافاضات الباطنية الالهية وأفاعيل معنوية كإبرام القضاء ونزول الملائكة والروح وكونها سلاما، قال تعالى: " فيها يفرق كل أمر حكيم " الدخان: 4، وقال: " تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر " القدر: 5. ويؤل معنى مباركتها وسعادتها إلى فضل العبادة والنسك فيها وغزارة ثوابها وقرب العناية الالهية فيها من المتوجهين إلى ساحة العزة والكبرياء. وأما السنة فهناك روايات كثيرة جدا في السعد والنحس من أيام الاسبوع ومن أيام الشهور العربية ومن أيام شهور الفرس ومن أيام الشهور الرومية، وهي روايات بالغة في الكثرة مودعة في جوامع الحديث (1) أكثرها ضعاف من مراسيل ومرفوعات وإن كان
فيها ما لا يخلو من اعتبار من حيث أسنادها. أما الروايات العادة للايام النحسة كيوم الاربعاء والاربعاء لا تدور (2) وسبعة أيام من كل شهر عربي ويومين من كل شهر رومي ونحو ذلك، ففي كثير منها وخاصة فيما يتعرض لنحوسة أيام الاسبوع وأيام الشهور العربية تعليل نحوسة اليوم بوقوع حوادث مرة غير مطلوبة بحسب المذاق الديني كرحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشهادة الحسين عليه السلام وإلقاء إبراهيم عليه السلام في النار ونزول العذاب بامة كذا وخلق النار وغير ذلك. ومعلوم أن في عدها نحسة مشومة وتجنب اقتراب الامور المطلوبة وطلب الحوائج التي يلتذ الانسان بالحصول عليها فيها تحكيما للتقوى وتقوية للروح الدينية وفي عدم الاعتناء والاهتمام بها والاسترسال في الاشتغال بالسعي في كل ما تهواه النفس في أي وقت كان إضرابا عن الحق وهتكا لحرمة الدين وإزراء لاوليائه، فتؤل نحوسة هذه الايام إلى جهات من الشقاء المعنوي منبعثة عن علل وأسباب اعتبارية مرتبطة نوعا من الارتباط بهذه الايام تفيد نوعا من الشقاء الديني على من لا يعتنى بأمرها. وأيضا قد ورد في عدة من هذه الروايات الاعتصام بالله بصدقة أو صوم أو دعاء أو قراءة شئ من القرآن أو غير ذلك لدفع نحوسة هذه الايام كما عن مجالس ابن الشيخ بإسناده
(1) أوردت منها في الجزء الرابع عشر من كتاب البحار أحاديث جمة. (2) اربعاء لا تدور هي آخر اربعاء في الشهر.
[ 73 ]
عن سهل بن يعقوب الملقب بأبي نواس عن العسكري عليه السلام في حديث قلت: يا سيدي في أكثر هذه الايام قواطع عن المقاصد لما ذكر فيها من النحس والمخاوف فتدلني على الاحتراز من المخاوف فيها فإنما تدعوني الضرورة إلى التوجه في الحوائج فيها ؟ فقال لي: يا سهل إن لشيعتنا بولايتنا لعصمة لو سلكوا بها في لجة البحار الغامرة وسباسب (1) البيداء الغائرة بين سباع وذئاب وأعادي الجن والانس لامنوا من مخاوفهم بولايتهم لنا، فثق بالله
عز وجل وأخلص في الولاء لائمتك الطاهرين وتوجه حيث شئت واقصد ما شئت - الحديث. ثم أمره عليه السلام بشئ من القرآن والدعاء أن يقرأه ويدفع به النحوسة والشأمة ويقصد ما شاء. وفي الخصال بإسناده عن محمد بن رياح الفلاح قال: رأيت أبا إبراهيم عليه السلام يحتجم يوم الجمعة فقلت: جعلت فداك تحتجم يوم الجمعة ؟ قال: أقرأ آية الكرسي فإذا هاج بك الدم ليلا كان أو نهارا فاقرأ آية الكرسي واحتجم. وفي الخصال أيضا بإسناده عن محمد بن أحمد الدقاق قال: كتبت إلى أبي الحسن الثاني عليه السلام أسأله عن الخروج يوم الاربعاء لا تدور، فكتب عليه السلام: من خرج يوم الاربعاء لا تدور خلافا على أهل الطيرة وقي من كل آفة وعوفي من كل عاهة وقضى الله له حاجته. وكتب إليه مرة اخرى يسأله عن الحجامة يوم الاربعاء لا تدور، فكتب عليه السلام: من احتجم في يوم الاربعاء لا تدور خلافا على أهل الطيرة عوفي من كل آفة، ووقى من كل عاهة، ولم (2) تخضر محاجمه. وفي معناها ما في تحف العقول: قال الحسين بن مسعود: دخلت على أبي الحسن علي ابن محمد عليه السلام وقد نكبت إصبعي وتلقاني راكب وصدم كتفي، ودخلت في زحمة فخرقوا علي بعض ثيابي فقلت: كفاني الله شرك من يوم فما أيشمك. فقال عليه السلام لي: يا حسن هذا وأنت تغشانا ترمي بذنبك من لا ذنب له ؟ قال الحسن: فأثاب إلي عقلي وتبيثت خطاي فقلت: يا مولاي أستغفر الله. فقال:
(1) السباسب جمع سبسب: المفازة. (2) هذه الجملة إشارة إلى نفي ما في عدة من الروايات أن من احتجم في يوم الاربعاء أو يوم الاربعاء لا تدور خضرت محاجمه، وفي بعضها خيف عليه أن تحضر محاجمه.
[ 74 ]
يا حسن ما ذنب الايام حتى صرتم تتشاءمون بها إذا جوزيتم بأعمالكم فيها ؟ قال الحسن:
أنا أستغفر الله أبدا، وهي توبتي يا ابن رسول الله. قال: ما ينفعكم ولكن الله يعاقبكم بذمها على ما لا ذم عليها فيه. أما علمت يا حسن أن الله هو المثيب والمعاقب والمجازي بالاعمال عاجلا وآجلا ؟ قلت: بلى يا مولاي. قال: لا تعد ولا تجعل للايام صنعا في حكم الله. قال الحسن: بلى يا مولاي. والروايات السابقة - ولها نظائر في معناها - يستفاد منها أن الملاك في نحوسة هذه الايام النحسات هو تطير عامة الناس بها وللتطير تأثير نفساني كما سيأتي، وهذه الروايات تعالج نحوستها التي تأتيها من قبل الطيرة بصرف النفس عن الطيرة إن قوي الانسان على ذلك، وبالالتجاء إلى الله سبحانه والاعتصام به بقرآن يتلوه أو دعاء يدعو به إن لم يقو عليه بنفسه. وحمل بعضهم هذه الروايات المسلمة لنحوسة بعض الايام على التقية، وليس بذاك البعيد فإن التشاؤم والتفاؤل بالازمنة والامكنة والاوضاع والاحوال من خصائص العامة يوجد منه عندهم شئ كثير عند الامم والطوائف المختلفة على تشتتهم وتفرقهم منذ القديم إلى يومنا وكان بين الناس حتى خواصهم في الصدر الاول في ذلك روايات دائرة يسندونها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يسع لاحد أن يردها كما في كتاب المسلسلات بإسناده عن الفضل بن الربيع قال: كنت يوما مع مولاي المأمون فأردنا الخروج يوم الاربعاء فقال المأمون: يوم مكروه سمعت أبي الرشيد يقول: سمعت المهدي يقول: سمعت المنصور يقول: سمعت أبي محمد بن علي يقول: سمعت أبي عليا يقول: سمعت أبي عبد الله بن عباس يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن آخر الاربعاء في الشهر يوم نحس مستمر. وأما الروايات الدالة على الايام السعيدة من الاسبوع وغيرها فالوجه فيها نظير ما تقدمت إليه الاشارة في الاخبار الدالة على نحوستها من الوجه الاول فإن في هذه الاخبار تعليل بركة ما عده من الايام السعيدة بوقوع حوادث متبركة عظيمة في نظر الدين كولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعثته وكما ورد أنه صلى الله عليه وآله وسلم دعا فقال: اللهم بارك لامتي في بكورها يوم
سبتها وخميسها، وما ورد أن الله ألان الحديد لداود عليه السلام يوم الثلاثاء، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج للسفر يوم الجمعة، وأن الاحد من أسماء الله تعالى. فتبين مما تقدم على طوله أن الاخبار الواردة في سعادة الايام ونحوستها لاتدل على أزيد
[ 75 ]
من ابتنائهما على حوادث مرتبطة بالدين توجب حسنا وقبحا بحسب الذوق الديني أو بحسب تأثير النفوس، وأما اتصاف اليوم أو أي قطعة من الزمان بصفة الميمنة أو المشأمة واختصاصه بخواص تكوينية عن علل وأسباب طبيعية تكوينية فلا، وما كان من الاخبار ظاهرا في خلاف ذلك فإما محمول على التقية أو لا اعتماد عليه. 2 - في سعادة الكواكب ونحوستها وتأثير الاوضاع السماوية في الحوادث الارضية سعادة ونحوسة. الكلام في ذلك من حيث النظر العقلي كالكلام في سعادة الايام ونحوستها فلا سبيل إلى إقامة البرهان على شئ من ذلك كسعادة الشمس والمشتري وقران السعدين ونحوسة المريخ وقران النحسين والقمر في العقرب. نعم كان القدماء من منجمي الهند يرون للحوادث الارضية ارتباطا بالاوضاع السماوية مطلقا أعم من أوضاع الثوابت والسيارات، وغيرهم يرى ذلك بين الحوادث وبين أوضاع السيارات السبع دون الثوابت وأوردوا لاوضاعها المختلفة خواص وآثارا تسمى بأحكام النجوم يرون عند تحقق كل وضع أنه يعقب وقوع آثاره. والقوم بين قائل بأن الاجرام الكوكبية موجودات ذوات نفوس حية مريدة تفعل أفاعيلها بالعلية الفاعلية، وقائل بأنها أجرام غير ذات نفس تؤثر أثرها بالعلية الفاعلية، أو هي معدات لفعله تعالى وهو الفاعل للحوادث أو أن الكواكب وأوضاعها علامات للحوادث من غير فاعلية ولا إعداد، أو أنه لا شئ من هذه الارتباطات بينها وبين الحوادث حتى على نحو العلامية وإنما جرت عادة الله على أن يحدث حادثة كذا عند وضع سماوي، كذا.
وشئ من هذه الاحكام ليس بدائمي مطرد بحيث يلزم حكم كذا وضعا كذا فربما تصدق وربما تكذب لكن الذي بلغنا من عجائب القصص والحكايات في استخراجاتهم يعطي أن بين الاوضاع السماوية والحوادث الارضية ارتباطا ما إلا أنه في الجملة لا بالجملة كما أن بعض الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام يصدق ذلك كذلك. وعلى هذا لا يمكن الحكم البتي بكون كوكب كذا أو وضع كذا سعدا أو نحسا وأما أصل ارتباط الحوادث والاوضاع السماوية والارضية بعضها ببعض فليس في وسع الباحث الناقد إنكار ذلك. وأما القول بكون الكواكب أو الاوضاع السماوية ذوات تأثير فيما دونها سواء قيل
[ 76 ]
بكونها ذوات نفوس ناطقة أو لم يقل فليس مما يخالف شيئا من ضروريات الدين إلا أن يقال بكونها خالقة موجدة لما دونها من غير أن ينتهي ذلك إليه تعالى فيكون شركا لكنه لا قائل به حتى من وثنية الصابئة التي تعبد الكواكب، أو أن يقال بكونها مدبرة للنظام الكوني مستقلة في التدبير فيكون ربوبية تستعقب المعبودية فيكون شركا كما عليه الصابئة عبدة الكواكب. وأما الروايات الواردة في تأثير النجوم سعدا ونحسا وتصديقا وتكذيبا فهي كثيرة جدا على أقسام: منها: ما يدل بظاهره على تسليم السعادة والنحوسة فيها كما في الرسالة الذهبية عن الرضا عليه السلام: اعلم أن جماعهن والقمر في برج الحمل أو الدلو من البروج أفضل وخير من ذلك أن يكون في برج الثور لكونه شرف القمر. وفي البحار عن النوادر بإسناده عن حمران عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من سافر أو تزوج والقمر في العقرب لم ير الحسنى الخبر، وفي كتاب النجوم لابن طاووس عن على عليه السلام: يكره أن يسافر الرجل في محاق الشهر وإذا كان القمر في العقرب.
ويمكن حمل أمثال هذه الروايات على التقية على ما قيل، أو على مقارنة الطيرة العامة كما ربما يشعر به ما في عدة من الروايات من الامر بالصدقة لدفع النحوسة كما في نوادر الراوندي بإسناده عن موسى بن جعفر عن أبيه عن جده في حديث: إذا أصبحت فتصدق بصدقة تذهب عنك نحس ذلك اليوم، وإذا أمسيت فتصدق بصدقة تذهب عنك نحس تلك الليلة الخبر، ويمكن أن يكون ذلك لارتباط خاص بين الوضع السماوي والحادثة الارضية بنحو الاقتضاء. ومنها: ما يدل على تكذيب تأثيرات النجوم في الحوادث والنهي الشديد عن الاعتقاد بها والاشتغال بعلمها كما في نهج البلاغة: المنجم كالكاهن والكاهن كالساحر والساحر كالكافر والكافر في النار. ويظهر من أخبار أخر تصدقها وتجوز النظر فيها أن النهي عن الاشتغال بها والبناء عليها إنما هو فيما اعتقد لها استقلال في التأثير لتأديته إلى الشرك كما تقدم. ومنها: ما يدل على كونه حقا في نفسه غير أن قليله لا ينفع وكثيره لا يدرك كما في الكافي بإسناده عن عبد الرحمان بن سيابة قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك
[ 77 ]
إن الناس يقولون: إن النجوم لا يحل النظر فيها وهو يعجبني فإن كانت تضر بديني فلا حاجة لي في شئ يضر بديني، وإن كانت لا تضر بديني فو الله إني لاشتهيها وأشتهي النظر فيها. فقال: ليس كما يقولون لا يضر بدينك ثم قال: إنكم تنظرون في شئ منها كثيره لا يدرك وقليله لا ينتفع به. الخبر. وفي البحار عن كتاب النجوم لابن طاوس عن معاوية بن حكيم عن محمد بن زياد عن محمد بن يحيى الخثعمي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن النجوم حق هي ؟ قال لي: نعم فقلت له: وفي الارض من يعلمها ؟ قال: نعم وفي الارض من يعلمها، وفي عدة من الروايات: ما يعلمها إلا أهل بيت من الهند وأهل بيت من العرب وفي بعضها: من قريش.
وهذه الروايات تؤيد ما قدمناه من أن بين الاوضاع والاحكام ارتباطا ما في الجملة. نعم ورد في بعض هذه الروايات أن الله أنزل المشتري على الارض في صورة رجل فلقي رجلا من العجم فعلمه النجوم حتى ظن أنه بلغ ثم قال له: انظر أين المشتري ؟ فقال: ما أراه في الفلك وما أدري أين هو ؟ فنحاه وأخذ بيد رجل من الهند فعلمه حتى ظن أنه قد بلغ وقال: انظر إلى المشتري أين هو ؟ فقال: إن حسابي ليدل على أنك أنت المشتري قال: فشهق شهقة فمات وورث علمه أهله فالعلم هناك. الخبر، وهو أشبه بالموضوع. 3 - في التفاؤل والتطير وهما الاستدلال بحادث من الحوادث على الخير وترقبه وهو التفاؤل أو على الشر وهو التطير وكثيرا ما يؤثران ويقع ما يترقب منهما من خير أو شر وخاصة في الشر وذلك تأثير نفساني. وقد فرق الاسلام بين التفاؤل والتطير فأمر بالتفاؤل ونهى عن التطير، وفي ذلك تصديق لكون ما فيهما من التأثير تأثيرا نفسانيا. أما التفاؤل ففيما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: تفاءلوا بالخير تجدوه، وكان صلى الله عليه وآله وسلم كثير التفاؤل نقل عنه ذلك في كثير من مواقفه (1). وأما التطير فقد ورد في مواضع من الكتاب نقله عن أمم الانبياء في دعواتهم لهم حيث كانوا يظهرون لانبيائهم أنهم اطيروا بهم فلا يؤمنون، وأجاب عن ذلك انبياؤهم
(1) كما ورد في قصة الحديبية: جاء سهيل بن عمرو فقال صلى الله عليه وآله: قد سهل عليكم أمركم. وكما في قصة كتابه إلى خسرو برويز يدعوه إلى الاسلام فمزق كتابه وأرسل إليه قبضة من تراب فتفاءل صلى الله عليه وآله منه أن المؤمنين سيملكون أرضهم.
[ 78 ]
بما حاصله أن التطير لا يقلب الحق باطلا ولا الباطل حقا، وأن الامر إلى الله سبحانه لا إلى الطائر الذي لا يملك لنفسه شيئا فضلا عن أن يملك لغيره الخير والشر والسعادة والشقاء قال تعالى: " قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا
طائركم معكم " يس: 19، أي ما يجر اليكم الشر هو معكم لا معنا، وقال: " قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله " النمل: 47، أي الذي يأتيكم به الخير أو الشر عند الله فهو الذي يقدر فيكم ما يقدر لا أنا ومن معي فليس لنا من الامر شئ. وقد وردت أخبار كثيرة في النهي عن الطيرة وفي دفع شؤمها بعدم الاعتناء أو بالتوكل والدعاء، وهي تؤيد ما قدمناه من أن تأثيرها من التأثيرات النفسانية ففي الكافي بإسناده عن عمرو بن حريث قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: الطيرة على ما تجعلها إن هونتها تهونت، وإن شددتها تشددت، وإن لم تجعلها شيئا لم تكن شيئا. ودلالة الحديث على كون تأثيرها من التأثيرات النفسانية ظاهرة، ومثله الحديث المروي من طرق أهل السنة: ثلاث لا يسلم منها أحد: الطيرة والحسد والظن. قيل: فما نصنع ؟ قال: إذا تطيرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق. وفي معناه ما في الكافي عن القمي عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كفارة الطيرة التوكل. الخبر وذلك أن في التوكل إرجاع أمر التأثير إلى الله تعالى، فلا يبقى للشئ أثر حتى يتضرر به، وفي معناه ما ورد من طرق أهل السنة على ما في نهاية ابن الاثير: الطيرة شرك وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل. وفي المعنى السابق ما روي عن موسى بن جعفر عليه السلام أنه قال: الشؤم للمسافر في طريقه سبعة أشياء: الغراب الناعق عن يمينه، والكلب الناشر لذنبه، والذئب العاوي الذي يعوي في وجه الرجل وهو مقع على ذنبه ثم يرتفع ثم ينخفض ثلاثا، والظبي السانح عن يمين إلى شمال، والبومة الصارخة، والمرأة الشمطاء تلقى فرجها، والاتان العضبان يعني الجدعاء، فمن أوجس في نفسه منهن شيئا فليقل: اعتصمت بك يا رب من شر ما أجد في نفسي فيعصم من ذلك (1).
(1) الخبر على ما في البحار مذكور في الكافي والخصال والمحاسن والفقيه وما في المتن مطابق لبعض
نسخ الفقبه.
[ 79 ]
ويلحق بهذا البحث الكلامي في نحوسة سائر الامور المعدودة عند العامة مشؤمة نحسة كالعطاس مرة واحدة عند العزم على أمر وغير ذلك وقد وردت في النهي عن التطير بها والتوكل عند ذلك روايات في أبواب متفرقة، وفي النبوي المروي من طرق الفريقين: لا عدوى (1)، ولا طيرة، ولا هامة، ولا شؤم، ولا صفر، ولا رضاع بعد فصال، ولا تعرب بعد هجرة، ولا صمت يوما إلى الليل، ولا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك، ولا يتم بعد إدراك. قوله تعالى: " كذبت ثمود بالنذر " النذر إما مصدر كما قيل والمعنى: كذبت ثمود بإنذار نبيهم صالح عليه السلام، وإما جمع نذير بمعنى المنذر، والمعنى: كذبت ثمود بالانبياء لان تكذيبهم بالواحد منهم تكذيب منهم بالجميع لان رسالتهم واحدة لا اختلاف فيها فيكون في معنى قوله: " كذبت ثمود المرسلين " الشعراء: 141، وإما جمع نذير بمعنى الانذار ومرجعه إلى أحد المعنيين السابقين. قوله تعالى: " فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر " تفريع على التكذيب والسعر جمع سعير بمعنى النار المشتعلة، واحتمل أن يكون بمعنى الجنون وهو أنسب للسياق، والظاهر أن المراد بالواحد الواحد العددي، والمعنى: كذبوا به فقالوا: أبشرا من نوعنا وهو شخص واحد لا عدة له ولا جموع معه نتبعه إنا إذا مستقرون في ضلال عجيب وجنون. فيكون هذا القول توجيها منهم لعدم اتباعهم لصالح لفقده العدة والقوة وهم قد اعتادوا على اتباع من عنده ذلك كالملوك والعظماء وقد كان صالح عليه السلام يدعوهم إلى طاعة نفسه ورفض طاعة عظمائهم كما يحكيه الله سبحانه عنه بقوله: " فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين " الشعراء: 151.
(1) العدوى مصدر كالاعداء بمعنى تجاوز مرض المريض منه إلى غيره كما يقال في الجرب والوباء والجدري وغيرها، والمراد بنفي العدوى كما يفيده مورد الرواية أن يكون العدوى مقتضى المرض من غير انتساب إلى مشية الله تعالى، والهامة ما كان أهل الجاهلية يزعمون أن روح القتيل تصير طائرا يأوى إلى قبره وسصبح ويشتكي العطش حتى يؤخذ بثأره، والصفر هو التصفير عند سقاية الحيوان وغيره.
[ 80 ]
ولو أخذ الواحد واحدا نوعيا كان المعنى: أبشرا هو واحد منا أي هو مثلنا ومن نوعنا نتبعه ؟ وكانت الآية التالية مفسرة لها. قوله تعالى: " ءألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر " الاستفهام كسابقه للانكار والمعنى: ءأنزل الوحي عليه واختص به من بيننا ولا فضل له علينا ؟ لا يكون ذلك أبدا، والتعبير بالالقاء دون الانزال ونحوه للاشعار بالعجلة كما قيل. ومن المحتمل أن يكون المراد نفي أن يختص بإلقاء الذكر من بينهم وهو بشر مثلهم فلو كان الوحي حقا وجاز أن ينزل على البشر لنزل على البشر كلهم فما باله اختص بما من شأنه أن يرزقه الجميع ؟ فتكون الآية في معنى قولهم له كما في سورة الشعراء: " ما أنت إلا بشر مثلنا " الشعراء: 154. وقوله: " بل هو كذاب أشر " أي شديد البطر متكبر يريد أن يتعظم علينا بهذا الطريق. قوله تعالى: " سيعلمون غدا من الكذاب الاشر " حكاية قوله سبحانه لصالح عليه السلام كالآيتين بعدها. والمراد بالغد العاقبة من قولهم: إن مع اليوم غدا، يشير سبحانه به إلى ما سينزل عليهم من العذاب فيعلمون عند ذلك علم عيان من هو الكذاب الاشر صالح أو هم ؟ قوله تعالى: " إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر " في مقام التعليل لما أخبر من أنهم سينزل عليهم العذاب والمفاد أنهم سينزل عليهم العذاب لانا فاعلون كذا وكذا،
والفتنة الامتحان والابتلاء، والمعنى: إنا مرسلون - على طريق الاعجاز - الناقة التي يسألونها امتحانا لهم فانتظرهم واصبر على أذاهم. قوله تعالى: " ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر " ضمير الجمع الاول للقوم والثاني للقوم والناقة على سبيل التغليب، والقسمة بمعنى المقسوم، والشرب النصيب من شرب الماء، والمعنى: وخبرهم بعد إرسال الناقة أن الماء مقسوم بين القوم وبين الناقة كل نصيب من الشرب يحضر عنده صاحبه فيحضر القوم عند شربهم والناقة عند شربها قال تعالى: " قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم " الشعراء: 155. قوله تعالى: " فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر " المراد بصاحبهم عاقر الناقة، والتعاطي التناول والمعنى: فنادى القوم عاقر الناقة لعقرها فتناول عقرها فعقرها وقتلها.
[ 81 ]
قوله تعالى: " فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر " المحتظر صاحب الحظيرة وهي كالحائط يعمل ليجعل فيه الماشية، وهشيم المحتظر الشجر اليابس ونحوه يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " ولقد يسرنا " الخ تقدم تفسيره. قوله تعالى: " كذبت قوم لوط بالنذر " تقدم تفسيره في نظيره. قوله تعالى: " إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر " الحاصب الريح التي تأتي بالحجارة والحصباء، والمراد بها الريح التي أرسلت فرمتهم بسجيل منضود. وقال في مجمع البيان سحر إذا كان نكرة يراد به سحر من الاسحار يقال: رأيت زيدا سحرا من الاسحار فإذا أردت سحر يومك قلت: أتيته بسحر - بالفتح - وأتيته سحر - من غير تنوين - انتهى، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر " " نعمة " مفعول له من " نجيناهم " أي نجيناهم ليكون نعمة من عندنا نخصهم بها لانهم كانوا شاكرين لنا وجزاء
الشكر لنا النجاة. قوله تعالى: " ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر " ضمير الفاعل في " أنذرهم " للوط عليه السلام، والبطشة الاخذة الشديدة بالعذاب، والتماري الاصرار على الجدال وإلقاء الشك، والنذر الانذار، والمعنى: أقسم لقد خوفهم لوط أخذنا الشديد فجادلوا في إنذاره وتخويفه. قوله تعالى: " ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر " مراودته عن ضيفه طلبهم منه أن يسلم إليهم أضيافه وهم الملائكة، وطمس أعينهم محوها، وقوله: " فذوقوا عذابي ونذر " التفات إلى خطابهم تشديدا وتقريعا، والنذر مصدر أريد به ما يتعلق به الانذار وهو العذاب، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر " قال في مجمع البيان: وقوله: " بكرة " ظرف زمان فإذا كان معرفة بأن تريد بكرة يومك تقول: أتيته بكرة وغدوة لم تصرفهما فبكرة هنا - وقد نون - نكرة، والمراد باستقرار العذاب حلوله بهم وعدم تخلفه عنهم.
[ 82 ]
قوله تعالى: " فكيف كان عذابي - إلى قوله - من مدكر " تقدم تفسيره. قوله تعالى: " ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر " المراد بالنذر الانذار، وقوله: " كذبوا بآياتنا " مفصول من غير عطف لكونه جوابا لسؤال مقدر كأنه لما قيل: " ولقد جاء آل فرعون النذر " قيل: فما فعلوا ؟ فاجيب بقوله: " كذبوا بآياتنا "، وفرع عليه قوله: " فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر ". (بحث روائي) في روح المعاني في قوله تعالى: " ولقد يسرنا القرآن للذكر " أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: " لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم
بكلام الله تعالى. قال: وأخرج الديلمي مرفوعا عن أنس مثله. ثم قال: ولعل خبر أنس إن صح ليس تفسيرا للآية. أقول: وليس من البعيد أن يكون المراد المعنى الثاني الذي قدمناه في تفسير الآية. وفي تفسير القمي في قوله: " ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر " قال: صب بلا قطر " وفجرنا الارض عيونا فالتقى الماء " قال: ماء السماء وماء الارض " على أمر قد قدر وحملناه " يعني نوحا " على ذات ألواح ودسر " قال: الالواح السفينة والدسر المسامير. وفيه في قوله تعالى: " فنادوا صاحبهم " قال: قدار الذي عقر الناقة، وقوله: " كهشيم " قال: الحشيش والنبات. وفي الكافي بإسناده عن أبي يزيد عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث يذكر فيه قصة قوم لوط قال: فكابروه يعني لوطا حتى دخلوا البيت فصاح به جبرئيل فقال: يا لوط دعهم فلما دخلوا أهوى جبرئيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم وهو قول الله عز وجل: " فطمسنا على أعينهم ". أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر _ 43. أم
[ 83 ]
يقولون نحن جميع منتصر _ 44. سيهزم الجمع ويولون الدبر _ 45. بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر _ 46. إن المجرمين في ضلال وسعر _ 47. يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر _ 48. إنا كل شئ خلقناه بقدر _ 49. وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر _ 50. ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر _ 51. وكل شئ فعلوه في الزبر _ 52. وكل صغير وكبير مستطر _ 53. إن المتقين في جنات ونهر _ 54. في مقعد
صدق عند مليك مقتدر _ 55. (بيان) الآيات في معنى أخذ النتيجة مما أعيد ذكره من الانباء التي فيها مزدجر وهي نبأ الساعة المذكور أولا ثم أنباء الامم الهالكة المذكورة ثانيا فهي تنعطف أولا على أنباء الامم الهالكة فتخاطب قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن كفاركم ليسوا خيرا من اولئك الامم الطاغية الجبارة وقد أهلكهم الله على أذل وجه وأهونه ولا لكم براءة مكتوبة من عذاب الله، ولا أن جمعكم ينفعكم في الذب عن العقاب. ثم تنعطف إلى ما مر من نبإ الساعة بأنها موعدهم الصعب إن أجرموا وكذبوا والساعة أدهى وأمر، ثم تشير إلى موطن المتقين يومئذ وعند ذلك تختتم السورة. قوله تعالى: " أكفاركم خير من اولئكم أم لكم براءة في الزبر " الظاهر أنه خطاب لقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مسلم وكافر على ما تشعر به الاضافة في " كفاركم " والخيرية هي الخيرية في زينة الدنيا وزخارف حياتها كالمال والبنين أو من جهة الاخلاق العامة في مجتمعهم كالسخاء
[ 84 ]
والشجاعة والشفقة على الضعفاء، والاشارة باولئكم إلى الاقوام المذكورة أنباؤهم: قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون، والاستفهام للانكار. والمعنى: ليس الذين كفروا منكم خيرا من اولئكم الامم المهلكين المعذبين حتى يشملهم العذاب دونكم. ويمكن أن يكون خطاب " أكفاركم " لخصوص الكفار بعناية أنهم قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيهم كفار وهم هم. وقوله: " أم لكم براءة في الزبر " ظاهره أيضا عموم الخطاب، والزبر جمع زبور وهو الكتاب، وقد ذكروا أن المراد بالزبر الكتب السماوية المنزلة على الانبياء والمعنى: بل ألكم براءة في الكتب السماوية التي نزلت من عند الله أنكم في أمن من العذاب والمؤاخذة وإن
كفرتم وأجرمتم واقترفتم ما شئتم من الذنوب. قوله تعالى: " أم يقولون نحن جميع منتصر " الجميع المجموع والمراد به وحدة مجتمعهم من حيث الارادة والعمل، والانتصار الانتقام أو التناصر كما في خطابات يوم القيامة: " ما لكم لا تناصرون " الصافات: 25، والمعنى: بل أيقولون أي الكفار نحن قوم مجتمعون متحدون ننتقم ممن أرادنا بسوء أو ينصر بعضنا بعضا فلا ننهزم. قوله تعالى: " سيهزم الجمع ويولون الدبر " اللام في " الجمع " للعهد الذكري وفي " الدبر " للجنس، وتولى الدبر الادبار، والمعنى: سيهزم الجمع الذي يتبجحون به ويولون الادبار ويفرون. وفي الآية إخبار عن مغلوبية وانهزام لجمعهم، ودلالة على أن هذه المغلوبية انهزام منهم في حرب سيقدمون عليها، وقد وقع ذلك في غزاة بدر، وهذا من ملاحم القرآن الكريم. قوله تعالى: " بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر " " أدهى " اسم تفضيل من الدهاء وهو عظم البلية المنكرة التي ليس إلى التخلص منها سبيل، و " أمر " اسم تفضيل من المرارة ضد الحلاوة، وفي الآية إضراب عن إيعادهم بالانهزام والعذاب الدنيوي إلى إيعادهم بما سيجري عليهم في الساعة وقد أشير إلى نبإها في أول الانباء الزاجرة، والكلام يفيد الترقي. والمعنى: وليس الانهزام والعذاب الدنيوي تمام عقوبتهم بل الساعة التي أشرنا إلى نبإها هي موعدهم والساعة أدهى من كل داهية وأمر من كل مر.
[ 85 ]
قوله تعالى: " إن المجرمين في ضلال وسعر " جمع سعير وهي النار المسعرة وفي الآية تعليل لما قبلها من قوله: " والساعة أدهى وأمر " والمعنى: إنما كانت الساعة أدهى وأمر لهم لانهم مجرمون والمجرمون في. ضلال عن موطن السعادة وهو الجنة ونيران مسعرة. قوله تعالى: " يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر " السحب جر
الانسان على وجهه، و " يوم " ظرف لقوله: " في ضلال وسعر "، و " سقر " من أسماء جهنم ومسها هو إصابتها لهم بحرها وعذابها. والمعنى: كونهم في ضلال وسعر في يوم يجرون في النار على وجوههم يقال لهم: ذوقوا ما تصيبكم جهنم بحرها وعذابها. قوله تعالى: " إنا كل شئ خلقناه بقدر " " كل شئ " منصوب بفعل مقدر يدل عليه " خلقناه " والتقدير خلقنا كل شئ خلقناه، و " بقدر " متعلق بقوله: " خلقناه " والباء للمصاحبة، والمعنى: إنا خلقنا كل شئ مصاحبا لقدر. وقدر الشئ هو المقدار الذي لا يتعداه والحد والهندسة التي لا يتجاوزه في شئ من جانبي الزيادة والنقيصة، قال تعالى: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " الحجر: 21، فلكل شئ حد محدود في خلقه لا يتعداه وصراط ممدود في وجوده يسلكه ولا يتخطاه. والآية في مقام التعليل لما في الآيتين السابقتين من عذاب المجرمين يوم القيامة كأنه قيل: لماذا جوزي المجرمون بالضلال والسعر يوم القيامة وأذيقوا مس سقر ؟ فاجيب بقوله: " إنا كل شئ خلقناه بقدر " ومحصله أن لكل شئ قدرا ومن القدر في الانسان أن الله سبحانه خلقه نوعا متكاثر الافراد بالتناسل اجتماعيا في حياته الدنيا يتزود من حياته الدنيا الداثرة لحياته الآخرة الباقية، وقدر أن يرسل إليهم رسولا يدعوهم إلى سعادة الدنيا والآخرة فمن استجاب الدعوة فاز بالسعادة ودخل الجنة وجاور ربه، ومن ردها وأجرم فهو في ضلال وسعر. ومن الخطأ أن يقال: إن الجواب عن السؤال بهذا النحو من المصادرة الممنوعة في الاحتجاج فإن السؤال عن مجازاته تعالى إياهم بالنار لاجرامهم في معنى السؤال عن تقديره ذلك، فمعنى السؤال: لم قدر الله للمجرمين المجازاة بالنار ؟ ومعنى الجواب: أن الله قدر للمجرمين المجازاة بالنار، أو معنى السؤال: لم يدخلهم الله النار ؟ ومعنى الجواب: أن
[ 86 ]
الله يدخلهم النار وذلك مصادرة بينة. وذلك لان بين فعلنا وبين فعله تعالى فرقا فإنا نتبع في أفعالنا القوانين والاصول الكلية المأخوذة من الكون الخارجي والوجود العيني، وهي الحاكمة علينا في إرادتنا وأفعالنا، فإذا أكلنا لجوع أو شربنا لعطش فإنما نريد بذلك الشبع والري لما حصلنا من الكون الخارجي أن الاكل يفيد الشبع والشرب يفيد الري وهو الجواب لو سئلنا عن الفعل. وبالجملة أفعالنا تابعة للقواعد الكلية والضوابط العامة المنتزعة عن الوجود العيني المتفرعة عليه، وأما فعله تعالى فهو نفس الوجود العيني، والاصول العقلية الكلية مأخوذة منه متأخرة عنه محكومة له فلا تكون حاكمة فيه متقدمة عليه، قال تعالى: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " الانبياء: 23، وقال: " إن الله يفعل ما يشاء " الحج: 18، وقال: " الحق من ربك " آل عمران: 60. فلا سؤال عن فعله تعالى بلم بمعنى السؤال عن السبب الخارجي إذ لا سبب دونه يعينه في فعله، ولا بمعنى السؤال عن الاصل الكلي العقلي الذي يصحح فعله إذ الاصول العقلية منتزعة عن فعله متأخرة عنه. نعم وقع في كلامه سبحانه تعليل الفعل بأحد ثلاثة أوجه: أحدها: تعليل الفعل بما يترتب عليه من الغايات والفوائد العائدة إلى الخلق لا إليه، لكنه تعليل للفعل لا لكونه فعلا له سبحانه بل لكونه أمرا واقعا في صف الاسباب والمسببات كما في قوله تعالى: " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وانهم لا يستكبرون " المائدة: 82، وقال: " وضربت عليهم الذلة والمسكنة - إلى أن قال - ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " البقرة: 61. الثاني: تعليل فعله تعالى بشئ من أسمائه وصفاته المناسبة له كتعليله تعالى مضامين كثير من الآيات في كلامه بمثل قوله: " إن الله غفور رحيم " " وهو العزيز الحكيم " " وهو اللطيف الخبير " إلى غير ذلك وهو شائع في القرآن الكريم، وإذا أجدت التأمل في موارده
وجدتها من تعليل الفعل بما له من صفة خاصة بصفة عامة لفعله تعالى فإن أسماءه تعالى الفعلية منتزعة عن فعله العام فتعليل فعل خاص بصفة من صفاته واسم من أسمائه تعليل الوجه الخاص في الفعل بالوجه العام فيه كقوله تعالى: " وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم " العنكبوت: 60، يعلل قضاء حاجة الدواب
[ 87 ]
والانسان إلى الرزق المسؤل بلسان حاجتها بأنه سميع عليم أي إنه خلق كل شئ والحال أن مسائلهم مسموعة له وأحوالهم معلومة عنده وهما صفتا فعله العام، وقوله: " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم " البقرة: 37، يعلل توبته على آدم بأنه تواب رحيم أي صفة فعله هي التوبة والرحمة. الثالث: تعليل فعله الخاص بفعله العام ومرجعه في الحقيقة إلى الوجه الثاني كقوله: " إن المجرمين في ضلال وسعر - إلى أن قال - إنا كل شئ خلقناه بقدر " فإن القدر وهو كون الشئ محدودا لا يتخطى حده في مسير وجوده فعل عام له تعالى لا يخلو عنه شئ من الخلق فتعليل العذاب بالقدر من تعليل فعله الخاص بفعله العام وبيان أنه مصداق من مصاديق القدر إذ كان من المقدر في الانسان أن لو أجرم برد دعوة النبوة عذب ودخل النار يوم القيامة، وكقوله: " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا " مريم: 71، يعلل الورود بالقضاء وهو فعل له عام والورود خاص بالنسبة إليه. فتبين أن ما في كلامه من تعليل فعل من أفعاله إنما هو من تعليل الفعل الخاص بصفته العامة والعلة علة للاثبات لا للثبوت، وليس من المصادرة في شئ. قوله تعالى: " وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر " قال في المجمع: اللمح النظر بالعجلة وهو خطف البصر. انتهى. والمراد بالامر ما يقابل النهي لكنه الامر التكويني بإرادة وجود الشئ، قال تعالى: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون: يس: 82 فهو كلمة كن ولعله لكونه
كلمة اعتبر الخبر مؤنثا فقيل: " إلا واحدة ". والذي يفيده السياق أن المراد بكون الامر واحدة أنه لا يحتاج في مضيه وتحقق متعلقه إلى تعدد وتكرار بل أمر واحد بإلقاء كلمة كن يتحقق به المتعلق المراد كلمح بالبصر من غير تأن ومهل حتى يحتاج إلى الامر ثانيا وثالثا. وتشبيه الامر من حيث تحقق متعلقه بلمح بالبصر لا لافادة أن زمان تأثيره قصير كزمان تحقق اللمح بالبصر بل لافادة أنه لا يحتاج في تأثيره إلى مضي زمان ولو كان قصيرا فإن التشبيه باللمح بالبصر في الكلام يكنى به عن ذلك، فأمره تعالى وهو إيجاده وإرادة وجوده لا يحتاج في تحققه إلى زمان ولا مكان ولا حركة كيف لا ؟ ونفس الزمان والمكان والحركة إنما تحققت بأمره تعالى.
[ 88 ]
والآية وإن كانت بحسب مؤداها في نفسها تعطي حقيقة عامة في خلق الاشياء وأن وجودها من حيث إنه فعل الله سبحانه كلمح بالبصر وإن كان من حيث إنه وجود لشئ كذا تدريجيا حاصلا شيئا فشيئا. إلا أنها بحسب وقوعها في سياق إيعاد الكفار بعذاب يوم القيامة ناظرة إلى إتيان الساعة وأن أمرا واحدا منه تعالى يكفي في قيام الساعة وتجديد الخلق بالبعث والنشور فتكون متممة لما أقيم من الحجة بقوله: " إنا كل شئ خلقناه بقدر ". فيكون مفاد الآية الاولى أن عذابهم بالنار على وفق الحكمة ولا محيص عنه بحسب الارادة الالهية لانه من القدر، ومفاد هذه الآية أن تحقق الساعة التي يعذبون فيها بمضي هذه الارادة وتحقق متعلقها لا مؤنة فيه عليه سبحانه لانه يكفي فيه أمر واحد منه تعالى كلمح بالبصر. قوله تعالى: " ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر " الاشياع جمع شيعة والمراد - كما قيل - الاشباه والامثال في الكفر وتكذيب الانبياء من الامم الماضية.
والمراد بالآية والآيتين بعدها تأكيد الحجة السابقة التي أقيمت على شمول العذاب لهم لا محالة. ومحصل المعنى: أن ليس ما أنذرناكم به من عذاب الدنيا وعذاب الساعة مجرد خبر اخبرناكم به ولا قول ألقيناه اليكم فهذه أشياعكم من الامم الماضية شرع فيهم بذلك فقد أهلكناهم وهو عذابهم في الدنيا وسيلقون عذاب الآخرة فإن أعمالهم مكتوبة مضبوطة في كتب محفوظة عندنا سنحاسبهم بها ونجازيهم بما عملوا. قوله تعالى: " وكل شئ فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر " الزبر كتب الاعمال وتفسيره باللوح المحفوظ سخيف، والمراد بالصغير والكبير صغير الاعمال وكبيرها على ما يفيده السياق. قوله تعالى: " إلمتقين في جنات ونهر " أي في جنات عظيمة الشأن بالغة الوصف ونهر كذلك، قيل: المراد بالنهر الجنس، وقيل: النهر بمعنى السعة. قوله تعالى: " في مقعد صدق عند مليك مقتدر " المقعد المجلس، المليك صيغة مبالغة للملك على ما قيل، وليس من إشباع كسر لام الملك، والمقتدر القادر العظيم القدرة وهو الله سبحانه.
[ 89 ]
والمراد بالصدق صدق المتقين في إيمانهم وعملهم أضيف إليه المقعد لملابسة ما ويمكن أن يراد به كون مقامهم ومالهم فيه صدقا لا يشوبه كذب فلهم حضور لا غيبة معه، وقرب لا بعد معه، ونعمة لا نقمة معها، وسرور لا غم معه، وبقاء لا فناء معه. ويمكن أن يراد به صدق هذا الخبر من حيث إنه تبشير ووعد جميل للمتقين، وعلى هذا ففيه نوع مقابلة بين وصف عاقبة المتقين والمجرمين حيث أوعد المجرمون بالعذاب والضلال وقرر ذلك بأنه من القدر ولن يتخلف، ووعد المتقون بالثواب والحضور عند ربهم المليك المقتدر وقرر ذلك بأنه صدق لا كذب فيه.
(بحث روائي) في كمال الدين بإسناده إلى علي بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الرقى أتدفع من القدر شيئا ؟ فقال: هي من القدر. وقال: إن القدرية مجوس هذه الامة وهم الذين أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من سلطانه وفيهم نزلت هذه الآية: " يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شئ خلقناه بقدر ". أقول: المراد بالقدرية النافون للقدر وهم المعتزلة القائلون بالتفويض، وقوله: إنهم مجوس هذه الامة ذلك لقولهم: إن خالق الافعال الاختيارية هو الانسان والله خالق لما وراء ذلك فأثبتوا إلهين اثنين كما أثبتت المجوس إلهين اثنين: خالق الخير وخالق الشر. وقوله: أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من سلطانه، وذلك أنهم قالوا بخلق الانسان لافعاله فرارا عن القول بالجبر المنافي للعدل فأخرجوا الله من سلطانه على أعمال عباده بقطع نسبتها عنه تعالى. وقوله: وفيهم نزلت هذه الآية، الخ، المراد به جري الآيات فيهم دون كونهم سببا للنزول وموردا له لما عرفت في تفسير الآيات من كونها عامة بحسب السياق، وفي نزول الآيات فيهم روايات اخرى مروية عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام، ومن طرق أهل السنة أيضا روايات في هذا المعنى عن ابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب وغيرهم. وفي الدر المنثور أخرج أحمد عن حذيفة بن اليمان قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لكل أمة مجوسا وإن مجوس هذه الامة الذين يقولون: لا قدر. الخبر.
[ 90 ]
أقول: ورواه في ثواب الاعمال بإسناده عن الصادق عن آبائه عن علي عليه السلام ولفظه: لكل أمة مجوس ومجوس هذه الامة الذين يقولون: لا قدر. وفيه أخرج ابن مردويه بسند رواه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: النهر
الفضاء والسعة ليس بنهر جار. وفيه أخرج أبو نعيم عن جابر قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما في مسجد المدينة فذكر بعض أصحابه الجنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا دجانة أما علمت أن من أحبنا وابتلي بمحبتنا أسكنه الله تعالى معنا ؟ ثم تلا " في مقعد صدق عند مليك مقتدر ". وفي روح المعاني في قوله: " في مقعد صدق " الآية، وقال جعفر الصادق رضي الله عنه: مدح المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الدق (كلام في القدر) القدر وهو هندسة الشئ وحد وجوده مما تكرر ذكره في كلامه تعالى فيما تكلم فيه في أمر الخلقة، قال تعالى: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " الحجر: 21، وظاهره أن القدر ملازم للانزال من الخزائن الموجودة عنده تعالى، وأما نفس الخزائن وهي من إبداعه تعالى لا محالة فهي غير مقدرة بهذا القدر الذي يلازم الانزال، والانزال إصداره إلى هذا العالم المشهود كما يفيده قوله: " وأنزلنا الحديد " الحديد: 25، وقوله: " وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج " الزمر: 6. ويؤيد ذلك ما ورد من تفسير القدر بمثل العرض والطول وسائر الحدود والخصوصيات الطبيعية الجسمانية كما في المحاسن عن أبيه عن يونس عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقد ر وقضى. قلت: فما معنى شاء ؟ قال: ابتدأ الفعل. قلت: فما معنى أراد ؟ قال: الثبوت عليه. قلت: فما معنى قدر ؟ قال: تقدير الشئ من طوله وعرضه. قلت: فما معنى قضى ؟ قال: إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مرد له. وروى هذا المعنى عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمد بن إسحاق عن الرضا عليه السلام في خبر مفصل وفيه: فقال: أو تدري ما قدر ؟ قال: لا، قال: هو الهندسة من الطول والعرض والبقاء. الخبر.
[ 91 ]
ومن هنا يظهر أن المراد بكل شئ في قوله: " وخلق كل شئ فقدره تقديرا " الفرقان: 3، وقوله: " إنا كل شئ خلقناه بقدر " القمر: 49، وقوله: " وكل شئ عنده بمقدار " الرعد: 8، وقوله: " الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه: 50، الاشياء الواقعة في عالمنا المشهود، من الطبيعيات الواقعة تحت الخلق والتركيب، أو أن للتقدير مرتبتين: مرتبة تعم جميع ما سوى الله وهي تحديد أصل الوجود بالامكان والحاجة وهذا يعم جميع الموجودات ما خلا الله سبحانه، قال تعالى: " وكان الله بكل شئ محيطا " النساء: 126. ومرتبة تخص عالمنا المشهود وهي تحديد وجود الاشياء الموجودة فيه من حيث وجودها وآثار وجودها وخصوصيات كونها بما أنها متعلقة الوجود والآثار بامور خارجة من العلل والشرائط فيختلف وجودها وأحوالها باختلاف عللها وشرائطها فهي مقلوبة بقوالب من داخل وخارج تعين لها من العرض والطول والشكل والهيئة وسائر الاحوال والافعال ما يناسبها. فالتقدير يهدي هذا النوع من الموجودات إلى ما قدر لها في مسير وجودها، قال تعالى: " الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى " الاعلى: 3، أي هدى ما خلقه إلى ما قدر له، ثم أتم ذلك بإمضاء القضاء، وفي معناه قوله في الانسان: " من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره " عبس: 20، ويشير بقوله: " ثم السبيل يسره " إلى أن التقدير لا ينافي اختيارية افعاله الاختيارية. وهذا النوع من القدر في نفسه غير القضاء الذي هو الحكم البتي منه تعالى بوجوده " والله يحكم لا معقب لحكمه " الرعد: 41، فربما قدر ولم يعقبه القضاء كالقدر الذي يقتضيه بعض العلل والشرائط الخارجة ثم يبطل لمانع أو باستخلاف سبب آخر، قال تعالى: " يمحو الله ما يشاء ويثبت " الرعد: 39، وقال: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " البقرة: 106، وربما قدر وتبعه القضاء كما إذا قدر من جميع الجهات باجتماع جميع
علله وشرائطه وارتفاع موانعه. وإلى ذلك يشير قوله عليه السلام في خبر المحاسن السابق: إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مرد له، وقريب منه ما في عدة من أخبار القضاء والقدر ما معناه أن القدر يمكن أن يتخلف وأما القضاء فلا يرد.
[ 92 ]
وعن علي عليه السلام بطرق مختلفة كما في التوحيد بإسناده عن ابن نباتة أن أمير المؤمنين عليه السلام عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له: يا أمير المؤمنين تفر من قضاء الله ؟ قال: أفر من قضاء الله إلى قدر الله عز وجل. وأما النوع الاول من الموجودات الذي قدره حد وجوده من إمكانه وحاجته فحسب فالقدر والقضاء فيه واحد ولا يتخلف القدر فيه عن التحقق البتة. والبحث العقلي يؤيد ما تقدم فإن الامور التي لها علل مركبة من فاعل ومادة وشرائط ومعدات وموانع فإن لكل منها تأثيرا في الشئ بما يسانخه فهو كالقالب الذي يقلب به الشئ فيأخذ لنفسه هيئة قالبه وخصوصيته وهذا هو قدره ثم العلة التامة إذا اجتمعت اجزاؤه أعطته ضرورة الوجود، وهذه هي القضاء الذي لا مرد له، وقد تقدم في تفسير أول سورة الاسراء كلام في القضاء لا يخلو من نفع في هذا البحث، فليرجع إليه. (سورة الرحمن مكية أو مدنية، وهي ثمان و سبعون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. الرحمن _ 1. علم القرآن _ 2. خلق الانسان _ 3. علمه البيان _ 4. الشمس والقمر بحسبان _ 5. والنجم والشجر يسجدان _ 6. والسماء رفعها ووضع الميزان _ 7. ألا تطغوا في الميزان _ 8. وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان _ 9. والارض وضعها للانام _ 10. فيها فاكهة والنخل ذات الاكمام _ 11. والحب ذو العصف والريحان _ 12. فبأي
آلاء ربكما تكذبان _ 13. خلق الانسان من صلصال كالفخار _ 14. وخلق الجان من مارج من نار _ 15. فبأي آلاء ربكما
[ 93 ]
تكذبان _ 16. رب المشرقين ورب المغربين _ 17. فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 18. مرج البحرين يلتقيان _ 19. بينهما برزخ لا يبغيان _ 20. فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 21. يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان _ 22. فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 23. وله الجوار المنشآت في البحر كالاعلام _ 24. فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 25. كل من عليها فان _ 26. ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام _ 27. فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 28. يسئله من في السموات والارض كل يوم هو في شأن _ 29. فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 30.: (بيان) تتضمن السورة الاشارة إلى خلقه تعالى العالم بأجزائه من سماء وأرض وبر وبحر وإنس وجن ونظم أجزائه نظما ينتفع به الثقلان الانس والجن في حياتهما وينقسم بذلك العالم إلى نشأتين: نشأة دنيا ستفنى بفناء أهلها، ونشأة أخرى باقية تتميز فيها السعادة من الشقاء والنعمة من النقمة. وبذلك يظهر أن دار الوجود من دنياها وآخرتها ذات نظام واحد مؤتلف الاجزاء مرتبط الابعاض قويم الاركان يصلح بعضه ببعض ويتم شطر منه بشطر. فما فيه من عين وأثر، من نعمه تعالى وآلائه، ولذا يستفهمهم مرة بعد مرة استفهاما مشوبا بعتاب بقوله: " فبأي آلاء ربكما تكذبان " فقد كررت الآية في السورة إحدى وثلاثين مرة.
[ 94 ]
ولذلك افتتحت السورة بذكره تعالى بصفة رحمته العامة الشاملة للمؤمن والكافر والدنيا والآخرة واختتمت بالثناء عليه بقوله: " تبارك اسم ربك ذي الجلال والاكرام ". والسورة يحتمل كونها مكية أو مدنية وإن كان سياقها بالسياق المكي أشبه وهي السورة الوحيدة في القرآن افتتحت بعد البسملة باسم من أسماء الله عز اسمه، وفي المجمع عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لكل شئ عروس وعروس القرآن سورة الرحمن جل ذكره، ورواه في الدر المنثور عن البيهقي عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: " الرحمن علم القرآن " الرحمان كما تقدم في تفسير سورة الفاتحة صيغة مبالغة تدل على كثرة الرحمة ببذل النعم ولذلك ناسب أن يعم ما يناله المؤمن والكافر من نعم الدنيا وما يناله المؤمن من نعم الآخرة، ولعمومه ناسب أن يصدر به الكلام لاشتمال الكلام في السورة على أنواع النعم الدنيوية والاخروية التي ينتظم بها عالم الثقلين الانس والجن. ذكروا أن الرحمان من الاسماء الخاصة به تعالى لا يسمى به غيره بخلاف مثل الرحيم والراحم. وقوله: " علم القرآن " شروع في عد النعم الالهية، ولما كان القرآن أعظم النعم قدرا وشأنا وأرفعها مكانا - لانه كلام الله الذي يخط صراطه المستقيم ويتضمن بيان نهج السعادة التي هي غاية ما يأمله آمل ونهاية ما يسأله سائل - قدم ذكر تعليمه على سائر النعم حتى على خلق الانس والجن اللذين نزل القرآن لاجل تعليمهما. وحذف مفعول " علم " الاول وهو الانسان أو الانس والجن والتقدير علم الانسان القرآن إو علم الانس والجن القرآن، وهذا الاحتمال الثاني وإن لم يتعرضوا له لكنه أقرب الاحتمالين لان السورة تخاطب في تضاعيف آياتها الجن كالانس ولولا شمول التعليم في قوله:
" علم القرآن " لهم لم يتم ذلك. وقيل: المفعول المحذوف محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو جبرئيل والانسب للسياق ما تقدم. قوله تعالى: " خلق الانسان علمه البيان " ذكر خلق الانسان وسيذكر خصوصية خلقه بقوله: " خلق الانسان من صلصال كالفخار "، والانسان من أعجب مخلوقات الله تعالى أو هو أعجبها يظهر ذلك بقياس وجوده إلى وجود غيره من المخلوقات والتأمل فيما
[ 95 ]
خط له من طريق الكمال في ظاهره وباطنه ودنياه وآخرته، قال تعالى: " لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " التين: 6. وقوله: " علمه البيان " البيان الكشف عن الشئ والمراد به الكلام الكاشف عما في الضمير، وهو من أعجب النعم وتعليمه للانسان من عظيم العناية الالهية المتعلقة به فليس الكلام مجرد إيجاد صوت ما باستخدام الرئة وقصبتها والحلقوم ولا ما يحصل من التنوع في الصوت الخارج من الحلقوم باعتماده على مخارج الحروف المختلفة في الفم. بل يجعل الانسان بإلهام باطني من الله سبحانه الواحد من هذه الاصوات المعتمدة على مخرج من مخارج الفم المسمى حرفا أو المركب من عدة من الحروف علامة مشيرة إلى مفهوم من المفاهيم يمثل به ما يغيب عن حس السامع وإدراكه فيقدر به على إحضار أي وضع من أوضاع العالم المشهود وإن جل ما جل أو دق ما دق من موجود أو معدوم ماض أو مستقبل، ثم على إحضار أي وضع من أوضاع المعاني غير المحسوسة التي ينالها الانسان بفكره ولا سبيل للحس إليها يحضرها جميعا لسامعه ويمثلها لحسه كأنه يشخصها له بأعيانها. ولا يتم للانسان اجتماعه المدني ولا تقدم في حياته هذا التقدم الباهر إلا بتنبهه لوضع الكلام وفتحه بذلك باب التفهيم والتفهم، ولولا ذلك لكان هو والحيوان العجم سواء في جمود الحياة وركودها. ومن أقوى الدليل على أن أهتداء الانسان إلى البيان بإلهام إلهي له أصل في التكوين
اختلاف اللغات باختلاف الامم والطوائف في الخصائص الروحية والاخلاق النفسانية وبحسب اختلاف المناطق الطبيعية التي يعيشون فيها، قال تعالى: " ومن آياته خلق السماوات والارض واختلاف ألسنتكم وألوانكم " الروم: 22. وليس المراد بقوله: " علمه البيان " أن الله سبحانه وضع اللغات ثم علمها الانسان بالوحي إلى نبي من الانبياء أو بالالهام فإن الانسان بوقوعه في ظرف الاجتماع مندفع بالطبع إلى اعتبار التفهيم والتفهم بالاشارات والاصوات وهو التكلم والنطق لا يتم له الاجتماع المدني دون ذلك. على أن فعله تعالى هو التكوين والايجاد والرابطة بين اللفظ ومعناه اللغوي وضعية اعتبارية لا حقيقية خارجية بل الله سبحانه خلق الانسان وفطره فطرة تؤديه إلى الاجتماع المدني ثم إلى وضع اللغة بجعل اللفظ علامة للمعنى بحيث إذا ألقى اللفظ إلى سامعه فكأنما
[ 96 ]
يلقي إليه المعنى ثم إلى وضع الخط بجعل الاشكال المخصوصة علائم للالفاظ فالخط مكمل لغرض الكلام، وهو يمثل الكلام كما أن الكلام يمثل المعنى. وبالجملة البيان من أعظم النعم والآلاء الربانية التي تحفظ لنوع الانسان موقفه الانساني وتهديه إلى كل خير. هذا ما هو الظاهر المتبادر من الآيتين، ولهم في معناهما أقوال: فقيل: الانسان هو آدم عليه السلام والبيان الاسماء التي علمه الله إياها، وقيل: الانسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبيان القرآن أو تعليمه المؤمنين القرآن، وقيل: البيان الخير والشر علمهما الانسان، وقيل: سبيل الهدى وسبيل الضلال إلى غير ذلك وهي أقوال بعيدة عن الفهم. قوله تعالى: " الشمس والقمر بحسبان " الحسبان مصدر بمعنى الحساب، والشمس مبتدأ والقمر معطوف عليه، وبحسبان خبره، والجملة خبر بعد خبر لقوله: " الرحمن " والتقدير الشمس والقمر يجريان بحساب منه على ما قدر لهما من نوع الجري.
قوله تعالى: " والنجم والشجر يسجدان " قالوا: المراد بالنجم ما ينجم من النبات ويطلع من الارض ولا ساق له، والشجر ما له ساق من النبات، وهو معنى حسن يؤيده الجمع والقرن بين النجم والشجر وإن كان ربما أوهم سبق ذكر الشمس والقمر كون المراد بالنجم هو الكواكب. وسجود النجم والشجر انقيادهما للامر الالهي بالنشوء والنمو على حسب ما قدر لهما كما قيل، وأدق منه أنهما يضربان في التراب باصولهما وأعراقهما لجذب ما يحتاجان إليه من المواد العنصرية التي يغتذيان بها وهذا السقوط على الارض إظهارا للحاجة إلى المبدأ الذي يقضي حاجتهما - وهو في الحقيقة الله الذي يربيهما كذلك - سجود منهما له تعالى. والكلام في إعراب قوله: " والنجم والشجر يسجدآن " وهو معطوف على الآية السابقة كالكلام في قوله: " الشمس والقمر بحسبان " والتقدير والنجم والشجر يسجدآن له. قال في الكشاف: فإن قلت: كيف اتصلت هاتان الجملتان بالرحمان يعني قوله: " الشمس والقمر - إلى قوله - يسجدان " ؟ قلت: استغني فيهما عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي لما علم أن الحسبان حسبانه والسجود له لا لغيره. وقال في وجه إخلاء الآيات السابقة - خلق الانسان علمه البيان الشمس والقمر بحسبان - عن العاطف ما محصله أن هذه الجمل الاول واردة على سنن التعديد ليكون كل
[ 97 ]
واحدة من الجمل مستقلة في تفريع الذين أنكروا الرحمان وآلاءه كما يبكت منكر أيادي المنعم عليه من الناس بتعديدها عليه فيقال: زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد فما تنكر من إحسانه ؟ ثم رد الكلام إلى منهاجه بعد التبكيت في وصل ما يجب وصله للتناسب والتقارب بالعاطف فقيل: " والنجم والشجر يسجدان والسماء رفعها " الخ، انتهى. قوله تعالى: " والسماء رفعها ووضع الميزان " المراد بالسماء إن كان جهة العلو فرفعها
خلقها مرفوعة لا رفعها بعد خلقها وإن كان ما في جهة العلو من الاجرام فرفعها تقدير محالها بحيث تكون مرفوعة بالنسبة إلى الارض بالفتق بعد الرتق كما قال تعالى: " أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والارض كانتا رتقا ففتقناهما " الانبياء: 30، والرفع على أي حال رفع حسي. وإن كان المراد ما يشمل منازل الملائكة الكرام ومصادر الامر الالهي والوحي فالرفع معنوي أو ما يشمل الحسي والمعنوي. وقوله: " ووضع الميزان المراد بالميزان كل ما يوزن أي يقدر به الشئ أعم من أن يكون عقيدة أو قولا أو فعلا ومن مصاديقه الميزان الذي يوزن به الاثقال، قال تعالى: " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط " الحديد: 25. فظاهره مطلق ما يميز به الحق من الباطل والصدق من الكذب والعدل من الظلم والفضيلة من الرذيلة على ما هو شأن الرسول أن يأتي به من عند ربه. وقيل: المراد بالميزان العدل أي وضع الله العدل بينكم لتسووا به بين الاشياء بإعطاء كل ذي حق حقه. وقيل: المراد الميزان الذي يوزن به الاثقال والمعنى الاول أوسع وأشمل. قوله تعالى: " ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان " الظاهر أن المراد بالميزان الميزان المعروف وهو ميزان الاثقال، فقوله: " ألا تطغوا " الخ على تقدير أن يراد بالميزان في الآية السابقة أيضا ميزان الاثقال، وهو بيان وضع الميزان، والمعنى أن معنى وضعنا الميزان بينكم هو أن اعدلوا في وزن الاثقال ولا تطغوا فيه.
[ 98 ]
وعلى تقدير أن يراد به مطلق التقدير الحق أو العدل هو استخراج حكم جزئي من حكم كلي، والمعنى أن لازم ما وضعناه من التقدير الحق أو العدل بينكم هو أن تزنوا
الاثقال بالقسط ولا تطغوا فيه. وعلى أي حال الظاهر أن " أن " في قوله: " أن لا تطغوا " تفسيرية، و " لا تطغوا " نهي عن الطغيان في الميزان و " أقيموا الوزن بالقسط " أمر معطوف عليه، والقسط العدل و " لا تخسروا الميزان " نهي آخر مبين لقوله: " لا تطغوا " الخ، ومؤكد له. والاخسار في الميزان التطفيف به بزيادة أو نقيصة بحيث يخسر البائع أو المشتري. وأما جعل " أن " ناصبة و " لا تطغوا " نفيا، والتقدير: " لئلا تطغوا، فيحتاج إلى تكلف توجيه في عطف الانشاء على الاخبار في قوله: " وأقيموا الوزن " الخ. قوله تعالى: " والارض وضعها للانام " الانام الناس، وقيل: الانس والجن، وقيل: كل ما يدب على الارض، وفي التعبير في الارض بالوضع قبال التعبير في السماء بالرفع لطف ظاهر. قوله تعالى: " فيها فاكهة والنخل ذات الاكمام " المراد بالفاكهة الثمرة غير التمر، والاكمام جمع كم بضم الكاف وكسرها وعاء التمر وهو الطلع، وأما كم القميص فهو مضموم الكاف لا غير كما قيل. قوله تعالى: " والحب ذو العصف والريحان " معطوف على قوله: " فاكهة " أي وفيها الحب والريحان، والحب ما يقتات به كالحنطة والشعير والارز، والعصف ما هو كالغلاف للحب وهو قشره، وفسر بورق الزرع مطلقا وبورق الزرع اليابس، والريحان النبات الطيب الرائحة. قوله تعالى: " فبأي آلاء ربكما تكذبان " الآلاء جمع إلى بمعنى النعمة. والخطاب في الآية لعامة الثقلين: الجن والانس ويدل على ذلك توجيه الخطاب اليهما صريحا فيما سيأتي من قوله: " سنفرغ لكم أيها الثقلان " وقوله: " يا معشر الجن والانس " الخ، وقوله: " يرسل عليكما شواظ " الخ، فلا يصغى إلى قول من قال: إن الخطاب في الآية للذكر والانثى من بني آدم، ولا إلى قول من قال: إنه من خطاب الواحد بخطاب
الاثنين ويفيد تكرر الخطاب نحو يا شرطي اضربا عنقه أي اضرب عنقه اضرب عنقه. وتوجيه الخطاب إلى عالمي الجن والانس هو المصحح لعد ما سنذكره من شدائد يوم
[ 99 ]
القيامة وعقوبات المجرمين من أهل النار من آلائه ونعمه تعالى، فإن سوق المسيئين وأهل الشقوة في نظام الكون إلى ما تقتضيه شقوتهم ومجازاتهم بتبعات أعمالهم من لوازم صلاح النظام العام الجاري في الكل الحاكم على الجميع فذلك نعمة بالقياس إلى الكل وإن كان نقمة بالنسبة إلى طائفة خاصة منهم وهم المجرمون وهذا نظير ما نجده في السنن والقوانين الجارية في المجتمعات فإن التشديد على أهل البغي والفساد مما يتوقف عليه حياة المجتمع وبقاؤه وليس يتنعم به أهل الصلاح خاصة كما أن إثابة أهل الصلاح بالثناء الجميل والاجر الحسن كذلك. فما في النار من عذاب وعقاب لاهلها وما في الجنة من كرامة وثواب آلاء ونعم على معشر الجن والانس كما أن الشمس والقمر والسماء المرفوعة والارض الموضوعة والنجم والشجر وغيرها آلاء ونعم على أهل الدنيا. ويظهر من الآية أن للجن تنعما في الجملة بهذه النعم المعدودة في خلال الآيات كما للانس وإلا لم يصح إشراكهم مع الانس في التوبيخ. قوله تعالى: " خلق الانسان من صلصال كالفخار " الصلصال الطين اليابس الذي يتردد منه الصوت إذا وطئ، والفخار الخزف. والمراد بالانسان نوعه والمراد بخلقه من صلصال كالفخار انتهاء خلقه إليه، وقيل: المراد بالانسان آدم عليه السلام. قوله تعالى: " وخلق الجان من مارج من نار " المارج هو اللهب الخالص من النار، وقيل: اللهب المختلط بسواد، والكلام في الجان كالكلام في الانسان فالمراد به نوع الجن، وعدهم مخلوقين من النار باعتبار انتهاء خلقتهم إليها، وقيل: المراد بالجان أبو الجن.
قوله تعالى: " رب المشرقين ورب المغربين " المراد بالمشرقين مشرق الصيف ومشرق الشتاء، وبذلك تحصل الفصول الاربعة و تنتظم الارزاق، وقيل: المراد بالمشرقين مشرق الشمس والقمر وبالمغربين مغرباهما. قوله تعالى: " مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان " المرج الخلط والمرج الارسال، يقال: مرجه أي خلطه ومرجه أي أرسله والمعنى الاول أظهر، والظاهر أن المراد بالبحرين العذب الفرات والملح الاجاج، قال تعالى: " وما يستوى البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية
[ 100 ]
تلبسونها " فاطر: 12. وأمثل ما قيل في الآيتين أن المراد بالبحرين جنس البحر المالح الذي يغمر قريبا من ثلاثة أرباع الكرة الارضية من البحار المحيطة وغير المحيطة، والبحر العذب المدخر في مخازن الارض التي تنفجر الارض عنها فتجري العيون والانهار الكبيرة فتصب في البحر المالح، ولا يزالان يلتقيان، وبينهما حاجز وهو نفس المخازن الارضية والمجاري يحجز البحر المالح أن يبغي على البحر العذب فيغشيه ويبدله بحرا مالحا وتبطل بذلك الحياة، ويحجز البحر العذب أن يزيد في الانصباب على البحر المالح فيبدله ماء عذبا فتبطل بذلك مصلحة ملوحته من تطهير الهواء وغيره. ولا يزال البحر المالح يمد البحر العذب بالامطار التي تأخذها منه السحب فتمطر على الارض وتدخرها المخازن الارضية والبحر العذب يمد البحر المالح بالانصباب عليه. فمعنى الآيتين - والله أعلم - خلط البحرين العذب الفرات والملح الاجاج حال كونهما مستمرين في تلاقيهما بينهما حاجز لا يطغيان بأن يغمر أحدهما الآخر فيذهب بصفته من العذوبة والملوحة فيختل نظام الحياة والبقاء. قوله تعالى: " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " أي من البحرين العذب والمالح جميعا
وذلك من فوائدهما التي ينتفع بها الانسان، وقد تقدم فيه الكلام في تفسير قوله تعالى: " وما يستوي البحران " الآية، فاطر: 12. قوله تعالى: " وله الجوار المنشآت في البحر كالاعلام " الجواري جمع جارية وهي السفينة، والمنشآت اسم مفعول من الانشاء وهو إحداث الشئ وتربيته، والاعلام جمع علم بفتحتين وهو الجبل. وعد الجواري مملوكة له تعالى مع كونها من صنع الانسان لان الاسباب العاملة في إنشائها من خشب وحديد وسائر أجزائها التي تتركب منها والانسان الذي يركبها وشعوره وفكره وإرادته كل ذلك مخلوق له ومملوك فما ينتجه عملها من ملكه. فهو تعالى المنعم بها للانسان ألهمه طريق صنعها والمنافع المترتبة عليها وسبيل الانتفاع بمنافعها الجمة. قوله تعالى: " كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام " ضمير " عليها " للارض أي كل ذي شعور وعقل على الارض سيفنى وفيه تسجيل الزوال والدثور على الثقلين.
[ 101 ]
وإنما أتى باللفظ الدال على أولي العقل - كل من عليها - ولم يقل: كل ما عليها كذلك لان الكلام مسرود في السورة لتعداد نعمه وآلائه تعالى للثقلين في نشأتيهم الدنيا والآخرة. وظهور قوله: " فان " في الاستقبال كما يستفاد أيضا من السياق يعطي أن قوله: " كل من عليها فان " يشير إلى انقطاع أمد النشأة الدنيا وارتفاع حكمها بفناء من عليها وهم الثقلان وطلوع النشأة الاخرى عليهم، وكلاهما أعني فناء من عليها وطلوع نشأة الجزاء عليهم من النعم والآلاء لان الحياة الدنيا حياة مقدمية لغرض الآخرة والانتقال من المقدمة إلى الغرض والغاية نعمة. وبذلك يندفع قول من قال: أي نعمة في الفناء حتى يجعل من النعم ويعد من الآلاء.
ومحصل الجواب أن حقيقة هذا الفناء الرجوع إلى الله بالانتقال من الدنيا كما تفسره آيات كثيرة في كلامه تعالى وليس هو الفناء المطلق. وقوله: " ويبقى وجه ربك " وجه الشئ ما يستقبل به غيره ويقصده به غيره، وهو فيه سبحانه صفاته الكريمة التي تتوسط بينه وبين خلقه فتنزل بها عليهم البركات من خلق وتدبير كالعلم والقدرة والسمع والبصر والرحمة والمغفرة والرزق وقد تقدم في تفسير سورة الاعراف كلام مبسوط في كون أسمائه وصفاته تعالى وسائط بينه وبين خلقه. وقوله: " ذو الجلال والاكرام " في الجلال شئ من معنى الاعتلاء والترفع المعنوي على الغير فيناسب من الصفات ما فيه شائبة الدفع والمنع كالعلو والتعالي والعظمة والكبرياء والتكبر والاحاطة والعزة والغلبة. ويبقى للاكرام من المعنى ما فيه نعت البهاء والحسن الذي يجذب الغير ويولهه كالعلم والقدرة والحياة والرحمة والجود والجمال والحسن ونحوها وتسمى صفات الجمال كما تسمى القسم الاول صفات الجلال وتسمى الاسماء أيضا على حسب ما فيها من صفات الجمال أو الجلال بأسماء الجمال أو الجلال. فذو الجلال والاكرام اسم من الاسماء الحسنى جامع بمفهومه بين أسماء الجمال وأسماء الجلال جميعا. والمسمى به بالحقيقة هو الذات المقدسة كما في قوله في آخر السورة: " تبارك اسم ربك ذي الجلال والاكرام " لكن أجري في هذه الآية - ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام -
[ 102 ]
على الوجه، وهو إما لكونه وصفا مقطوعا عن الوصفية للمدح، والتقدير هو ذو الجلال والاكرام، وإما لان المراد بالوجه كما تقدم هو صفته الكريمة واسمه المقدس وإجراء الاسم على الاسم مآله إلى إجراء الاسم على الذات. ومعنى الآية على تقدير أن يراد بالوجه ما يستقبل به الشئ غيره وهو الاسم - ومن
المعلوم أن بقاء الاسم (1) فرع بقاء المسمى -: ويبقى ربك عز اسمه بما له من الجلال والاكرام من غير أن يؤثر فناؤهم فيه أثرا أو يغير منه شيئا. وعلى تقدير أن يراد بالوجه ما يقصده به غيره ومصداقه كل ما ينتسب إليه تعالى فيكون مقصودا بنحو للمتوجه إليه كأنبيائه وأوليائه ودينه وثوابه وقربه وسائر ما هو من هذا القبيل فالمعنى: ويبقى بعد فناء أهل الدنيا ما هو عنده تعالى وهو من صقعه وناحيته كأنواع الجزاء والثواب والقرب منه، قال تعالى: " ما عندكم ينفد وما عند الله باق " النحل: 96. وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: " كل شئ هالك إلا وجهه " القصص: 88 من الكلام بعض ما لا يخلو من نفع في المقام. قوله تعالى: " يسأله من في السماوات والارض كل يوم هو في شأن " سؤالهم سؤال حاجة فهم في حاجة من جميع جهاتهم إليه تعالى متعلقوا الوجودات به متمسكون بذيل غناه وجوده، قال تعالى: " أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني " فاطر: 15، وقال في هذا المعنى من السؤال: " وآتاكم من كل ما سألتموه " إبراهيم: 34. وقوله: " كل يوم هو في شأن " تنكير " شأن " للدلالة على التفرق والاختلاف فالمعنى: كل يوم هو تعالى في شأن غير ما في سابقه ولاحقه من الشأن فلا يتكرر فعل من أفعاله مرتين ولا يماثل شأن من شؤنه شأنا آخر من جميع الجهات وإنما يفعل على غير مثال سابق وهو الابداع، قال تعالى: " بديع السماوات والارض " البقرة: 117. ومعنى ظرفية اليوم إحاطته تعالى في مقام الفعل على الاشياء فهو سبحانه في كل زمان وليس في زمان وفي كل مكان وليس في مكان ومع كل شئ ولا يداني شيئا.
[ 103 ]
(بحث روائي) في الكافي روى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
الرحمان على الناس سكتوا فلم يقولوا شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الجن كانوا أحسن جوابا منكم لما قرأت عليهم " فبأي آلاء ربكما تكذبان " قالوا: لا ولا بشئ من آلاء ربنا نكذب. أقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن عدة من أصحاب الجوامع - وصححه - عن ابن عمر عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وفي العيون بإسناده عن الرضا عليه السلام فيما سأل الشامي عليا عليه السلام، وفيه: سأله عن اسم أبي الجن فقال: شومان وهو الذي خلق من مارج من نار. وفي الاحتجاج عن علي عليه السلام في حديث وأما قوله: " رب المشرقين ورب المغربين " فإن مشرق الشتاء على حدة ومشرق الصيف على حدة. أما تعرف ذلك من قرب الشمس وبعدها ؟ أقول: وروى هذا المعنى القمي في تفسيره مرسلا مضمرا. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " مرج البحرين يلتقيان " قال: علي وفاطمة " بينهما برزخ لا يبغيان " قال: النبي صلى الله عليه وسلم " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " قال: الحسن والحسين. أقول: ورواه أيضا عن ابن مردويه عن أنس بن مالك مثله، ورواه في مجمع البيان عن سلمان الفارسي وسعيد بن جبير وسفيان الثوري. وهو من البطن. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " كل من عليها فان " قال: من على وجه الارض " ويبقى وجه ربك " قال: دين ربك، وقال علي بن الحسين عليه السلام: نحن الوجه الذي يؤتى الله منه. وفي مناقب ابن شهر آشوب قوله: " ويبقى وجه ربك " قال الصادق عليه السلام: نحن وجه الله. أقول: وفي معنى هاتين الروايتين غيرهما، وقد تقدم ما يوجه به تفسير الوجه
بالدين وبالامام.
[ 104 ]
وفي الكافي في خطبة لعلي عليه السلام: الحمد لله الذي لا يموت ولا ينقضي عجائبه لانه كل يوم هو في شأن من إحداث بديع لم يكن. وفي تفسير القمي في الآية قال: يحيي ويميت ويزيد وينقص. وفي المجمع عن أبى الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: " كل يوم هو في شأن " قال: من شأنه أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين. أقول: ورواه عنه في الدر المنثور، وروى ما في معناه عن ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم ولفظه يغفر ذنبا ويفرج كربا. سنفرغ لكم أيه الثقلان _ 31. فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 32. يا معشر الجن والانس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والارض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان _ 33. فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 34. يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران _ 35. فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 36. فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان _ 37. فبإي آلاء ربكما تكذبان _ 38. فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان _ 39. فبإي آلاء ربكما تكذبان _ 40. يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والاقدام _ 41. فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 42. هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون _ 43. يطوفون بينها وبين حميم آن _ 44. فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 45. ولمن خاف
[ 105 ]
مقام ربه جنتان _ 46. فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 47.
ذواتا أفنان _ 48. فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 49. فيهما عينان تجريان _ 50. فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 51. فيهما من كل فاكهة زوجان _ 52. فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 53. متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان _ 54. فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 55. فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان _ 56. فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 57. كأنهن الياقوت والمرجان _ 58. فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 59. هل جزاء الاحسان إلا الاحسان _ 60. فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 61. ومن دونهما جنتان _ 62. فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 63. مدهامتان _ 64. فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 65. فيهما عينان نضاختان _ 66. فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 67. فيهما فاكهة ونخل ورمان _ 68. فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 69. فيهن خيرات حسان _ 70. فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 71. حور مقصورات في الخيام _ 72. فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 73. لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان _ 74. فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 75. متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان _ 76.
[ 106 ]
فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 77. تبارك اسم ربك ذي الجلال والاكرام _ 78. (بيان) هذا هو الفصل الثاني من آيات السورة يصف نشأة الثقلين الثانية وهي نشأة الرجوع إلى الله وجزاء الاعمال ويعد آلاء الله تعالى عليهم كما كانت الآيات السابقة فصلا أولا يصف
النشأة الاولى ويعد آلاء الله فيها عليهم. قوله تعالى: " سنفرغ لكم أيها الثقلان " يقال: فرغ فلان لامر كذا إذا كان مشتغلا قبلا بامور ثم تركها وقصر الاشتغال بذاك الامر اهتماما به. فمعني " سنفرغ لكم " سنطوي بساط النشأة الاولى وشتغل بكم، وتبين الآيات التالية أن المراد بالاشتغال بهم بعثهم وحسابهم ومجازاتهم بأعمالهم خيرا أو شرا فالفراغ لهم استعارة بالكناية عن تبدل النشأة. ولا ينافي الفراغ لهم كونه تعالى لا يشغله شأن عن شأن فإن الفراغ المذكور ناظر إلى تبدل النشأة وكونه لا يشغله شأن عن شأن ناظر إلى إطلاق القدرة وسعتها كما لا ينافي كونه تعالى كل يوم هو في شأن الناظر إلى اختلاف الشؤن كونه تعالى لا يشغله شأن عن شأن. والثقلان الجن والانس، وإرجاع ضمير الجمع في " لكم " و " إن استطعتم " وغيرهما اليهما لكونهما جمعا ذا أفراد. قوله تعالى: " يا معشر الجن والانس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والارض فانفذوا " الخ، الخطاب - على ما يفيده السياق - من خطابات يوم القيامة وهو خطاب تعجيزي. والمراد بالاستطاعة القدرة، وبالنفوذ من الاقطار الفرار، والاقطار جمع قطر وهو الناحية. والمعنى: يا معشر الجن والانس - وقدم الجن لانهم على الحركات السريعة أقدر - إن قدرتم أن تفروا بالنفوذ من نواحي السماوات والارض والخروج من ملك الله والتخلص من مؤاخذته ففروا وانفذوا.
[ 107 ]
وقوله: " لا تنفذون إلا بسلطان " أي لا تقدرون على النفوذ إلا بنوع من السلطة على ذلك وليس لكم والسلطان القدرة الوجودية، والسلطان البرهان أو مطلق الحجة،
والسلطان الملك. وقيل: المراد بالنفوذ المنفي في الآية النفوذ العلمي في السماوات والارض من أقطارهما، وقد عرفت أن السياق لا يلائمه. قوله تعالى: " يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران " الشواظ - على ما ذكره الراغب - اللهب الذي لا دخان فيه، ويقرب منه ما في المجمع أنه اللهب الاخضر المنقطع من النار، والنحاس الدخان وقال الراغب: هو اللهب بلا دخان والمعنى ظاهر. وقوله: " فلا تنتصران " أي لاتتناصران بأن ينصر بعضكم بعضا لرفع البلاء والتخلص عن العناء لسقوط تأثير الاسباب ولا عاصم اليوم من الله. قوله تعالى: " فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان " أي كانت حمراء كالدهان وهو الاديم الاحمر. قوله تعالى: " فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان " الآية وما يتلوها من الآيات إلى آخر السورة تصف الحساب والجزاء تصف حال المجرمين والخائفين مقام ربهم وما ينتهي إليه. ثم الآية تصف سرعة الحساب وقد قال تعالى: " والله سريع الحساب " النور: 39. والمراد بيومئذ يوم القيامة، والسؤال المنفي هو النحو المألوف من السؤال، ولا ينافي نفي السؤال في هذه الآية إثباته في قوله: " وقفوهم إنهم مسؤلون " الصافات: 24، وقوله: " فوربك لنسألنهم أجمعين " الحجر: 92، لان اليوم ذو مواقف مختلفة يسأل في بعضها، ويختم على الافواه في بعضها وتكلم الاعضاء، ويعرف بالسيماء في بعضها. قوله تعالى: " يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والاقدام " في مقام الجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فإذا لم يسألوا عن ذنبهم فما يصنع بهم ؟ فاجيب بأنه يعرف المجرمون بسيماهم الخ، ولذا فصلت الجملة ولم يعطف، والمراد بسيماهم علامتهم البارزة في وجوههم.
وقوله: " فيؤخذ بالنواصي والاقدام " الكلام متفرع على المعرفة المذكورة، والنواصي
[ 108 ]
جمع ناصية وهي شعر مقدم الرأس، والاقدام جمع قدم، وقوله: " بالنواصي " نائب فاعل يؤخذ. والمعنى: - لا يسأل أحد عن ذنبه - يعرف المجرمون بعلامتهم الظاهرة في وجوههم فيؤخذ بالنواصي والاقدام من المجرمين فيلقون في النار. قوله تعالى: " هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون - إلى قوله - آن " مقول قول مقدر أي يقال يومئذ هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون، وقال الطبرسي: ويمكن أنه لما أخبر الله سبحانه أنهم يؤخذون بالنواصي والاقدام قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون من قومك فسيردونها فليهن عليك أمرهم. انتهى. والحميم الماء الحار، والآني الذي انتهت حرارته والباقي ظاهر. قوله تعالى: " ولمن خاف مقام ربه جنتان " شروع في وصف حال السعداء من الخائفين مقام ربهم، والمقام مصدر ميمي بمعنى القيام مضاف إلى فاعله، والمراد قيامه تعالى عليه بعمله وهو إحاطته تعالى وعلمه بما عمله وحفظه له وجزاؤه عليه قال تعالى: " أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت " الرعد: 33. ويمكن أن يكون المقام اسم مكان والاضافة لامية والمراد به مقامه وموقفه تعالى من عبده وهو أنه تعالى ربه الذي يدبر أمره ومن تدبير أمره أنه دعاه بلسان رسله إلى الايمان والعمل الصالح وقضى أن يجازيه على ما عمل خيرا أو شرا هذا وهو محيط به وهو معه سميع بما يقول بصير بما يعمل لطيف خبير. والخوف من الله تعالى ربما كان خوفا من عقابه تعالى على الكفر به ومعصيته، ولازمه أن يكون عبادة من يعبده خوفا بهذا المعنى يراد بها التخلص من العقاب لا لوجه الله محضا وهو عبادة العبيد يعبدون مواليهم خوفا من السياسة كما أن عبادة من يعبده طمعا في
الثواب غايتها الفوز بما تشتهيه النفس دون وجهه الكريم وهي عبادة التجار كما في الروايات وقد تقدم شطر منها. والخوف المذكور في الآية - ولمن خاف مقام ربه - ظاهره غير هذا الخوف فإن هذا خوف من العقاب وهو غير الخوف من قيامه تعالى على عبده بما عمل أو الخوف من مقامه تعالى من عبده فهو تأثر خاص ممن ليس له إلا الصغار والحقارة تجاه ساحة العظمة والكبرياء، وظهور أثر المذلة والهوان والاندكاك قبال العزة والجبروت المطلقين.
[ 109 ]
وعبادته تعالى خوفا منه بهذا المعنى من الخوف خضوع له تعالى لانه الله ذو الجلال والاكرام لا لخوف من عقابه ولا طمعا في ثوابه بل فيه إخلاص العمل لوجهه الكريم، وهذا المعنى من الخوف هو الذي وصف الله به المكرمين من ملائكته وهم معصومون آمنون من عقاب المخالفة وتبعة المعصية قال تعالى: " يخافون ربهم من فوقهم " النحل: 50. فتبين مما تقدم أن الذين أشار إليهم بقوله: " ولمن خاف " أهل الاخلاص الخاضعون لجلاله تعالى العابدون له لانه الله عز اسمه لا خوفا من عقابه ولا طمعا في ثوابه، ولا يبعد أن يكونوا هم الذين سموا سابقين في قوله: " وكنتم أزواجا ثلاثة - إلى أن قال - والسابقون السابقون أولئك المقربون " الواقعة: 11. وقوله: " جنتان " قيل: إحداهما منزله ومحل زيارة أحبابه له والاخرى منزل أزواجه وخدمه، وقيل: بستانان بستان داخل قصره وبستان خارجه، وقيل: منزلان ينتقل من أحدهما إلى الآخر ليكمل به التذاذه، وقيل: جنة لعقيدته وجنة لعمله، وقيل: جنة لفعل الطاعات وجنة لترك المعاصي، وقيل: جنة جسمانية وجنة روحانية وهذه الاقوال - كما ترى - لا دليل على شئ منها. وقيل: جنة يثاب بها وجنة يتفضل بها عليه، ويمكن أن يستشعر ذلك من قوله تعالى: " لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد " ق: 35، على ما مر في تفسيره.
قوله تعالى: " ذواتا أفنان " ذواتا تثنية ذات، و " أفنان " إما جمع فن بمعنى النوع والمعنى: ذواتا أنواع من الثمار ونحوها، وإما جمع فنن بمعنى الغصن الرطب اللين والمعنى: ذواتا أغصان لينة أشجارهما. قوله تعالى: " فيهما عينان تجريان " وقد أبهمت العينان وفيه دلالة على فخامة أمرهما. قوله تعالى: " فيهما من كل فاكهة زوجان " أي صنفان قيل: صنف معروف لهم شاهدوه في الدنيا وصنف غير معروف لم يروه في الدنيا، وقيل: غير ذلك. ولا دلالة في الكلام على شئ من ذلك. قوله تعالى: " متكئين على فرش بطائنها من استبرق " الخ، الفرش جمع فراش، والبطائن جمع بطانة وهي داخل الشئ وجوفه مقابل الظهائر جمع ظهارة، والاستبرق الحرير الغليظ قال في المجمع: ذكر البطانة ولم يذكر الظهارة لان البطانة تدل على أن لها ظهارة والبطانة دون الظهارة فدل على أن الظهارة فوق الاستبرق، انتهى.
[ 110 ]
وقوله: " وجنا الجنتين دان " الجنا الثمر المجتنى و " دان " اسم فاعل من الدنو بمعنى القرب أي ما يجتنى من ثمار الجنتين قريب. قوله تعالى: " فيهن قاصرات الطرف " إلى آخر الآية ضمير " فيهن " للفرش وجوز أن يرجع إلى الجنان فإنها جنان لكل واحد من أولياء الله منها جنتان، والطرف جفن العين، والمراد بقصور الطرف اكتفاؤهن بأزواجهن فلا يردن غيرهم. وقوله: " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " الطمث الافتضاض والنكاح بالتدمية، والمعنى: لم يمسسهن بالنكاح إنس ولا جان قبل أزواجهن. قوله تعالى: " كأنهن الياقوت والمرجان " أي في صفاء اللون والبهاء والتلالؤ. قوله تعالى: " هل جزاء الاحسان إلا الاحسان " استفهام إنكاري في مقام التعليل لما ذكر من إحسانه تعالى عليهم بالجنتين وما فيهما من أنواع النعم والآلاء فيفيد أنه تعالى
يحسن إليهم هذا الاحسان جزاء لاحسانهم بالخوف من مقام ربهم. وتفيد الآية أن ما أوتوه من الجنة ونعيمها جزاء لاعمالهم وأما ما يستفاد من بعض الآيات أنهم يعطون فضلا وراء جزاء أعمالهم فلا تعرض في هذه الآيات لذلك إلا أن يقال: الاحسان إنما يتم إذا كان يربو على ما أحسن به المحسن إليه فإطلاق الاحسان في قوله: " إلا الاحسان " يفيد الزيادة. قوله تعالى: " ومن دونهما جنتان " ضمير التثنية للجنتين الموصوفتين في الآيات السابقة ومعنى: " من دونهما " أي أنزل درجة وأحط فضلا وشرفا منهما وإن كانتا شبيهتين بالجنتين السابقتين في نعمهما وآلائهما، وقد تقدم أن الجنتين السابقتين لاهل الاخلاص الخائفين مقام ربهم فهاتان الجنتان لمن دونهم من المؤمنين العابدين لله سبحانه خوفا من النار أو طمعا في الجنة وهم أصحاب اليمين. وقيل: معنى " من دونهما " بالقرب منهما، ويستفاد من السياق حينئذ أن هاتين الجنتين أيضا لاهل الجنتين المذكورتين قبلا بل ادعى بعضهم أن هاتين الجنتين أفضل من السابقتين والصفات المذكورة فيهما أمدح. وأنت بالتدبر فيما قدمناه في معنى لمن خاف مقام ربه وما يستفاد من كلامه تعالى أن أهل الجنة صنفان: المقربون أهل الاخلاص وأصحاب اليمين تعرف قوة الوجه السابق.
[ 111 ]
قوله تعالى: " مدهامتان " الادهيمام من الدهمة اشتداد الخضرة بحيث تضرب إلى السواد وهو ابتهاج الشجرة. قوله تعالى: " فيهما عينان نضاختان " أي فوارتان تخرجان من منبعهما بالدفع. قوله تعالى: " فيهما فاكهة ونخل ورمان " المراد بالفاكهة والرمان شجرتهما بقرينة النخل. قوله تعالى: " فيهن خيرات حسان " ضمير " فيهن " للجنان باعتبار أنها جنتان
من هاتين الجنتين، وقيل: مرجع الضمير الجنات الاربع المذكورة في الآيات، وقيل: الضمير للفاكهة والنخل والرمان. وأكثر ما يستعمل الخير في المعاني كما أن أكثر استعمال الحسن في الصور، وعلى هذا فمعنى خيرات حسان أنهن حسان في أخلاقهن حسان في وجوههن. قوله تعالى: " حور مقصورات في الخيام " الخيام جمع خيمة وهي الفسطاط، كونهن مقصورات في الخيام أنهن مصونات غير مبتذلات لا نصيب لغير أزواجهن فيهن. قوله تعالى: " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " تقدم معناه. قوله تعالى: " متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان " في الصحاح: الرفرف ثياب خضر تتخذ منها المجالس. انتهى. وقيل: هي الوسائد، وقيل: غير ذلك، والخضر جمع أخضر صفة لرفرف، والعبقري قيل: الزرابي، وقيل: الطنافس، وقيل: الثياب الموشاة، وقيل: الديباج. قوله تعالى: " تبارك اسم ربك ذي الجلال والاكرام " ثناء جميل له تعالى بما امتلات النشأتان الدنيا والآخرة بنعمه وآلائه وبركاته النازلة من عنده برحمته الواسعة، وبذلك يظهر أن المراد باسمه المتبارك هو الرحمان المفتتحة به السورة، والتبارك كثرة الخيرات والبركات الصادرة. فقوله: " تبارك اسم ربك " تبارك الله المسمى بالرحمان بما أفاض هذه الآلاء. وقوله: " ذي الجلال والاكرام " إشارة إلى تسميه بأسمائه الحسنى واتصافه بما يدل عليه من المعاني الوصفية ونعوت الجلال والجمال، ولصفات الفاعل ظهور في أفعاله وأثر فيها يرتبط به الفعل بفاعله فهو تعالى خلق الخلق ونظم النظام لانه بديع خالق مبدئ فأتقن الفعل لانه عليم حكيم وجازى أهل الطاعة بالخير لانه ودود شكور غفور رحيم
[ 112 ]
وأهل الفسق بالشر لانه منتقم شديد العقاب.
فتوصيف الرب - الذي أثني على سعة رحمته - بذي الجلال والاكرام للاشارة إلى أن لاسمائه الحسنى وصفاته العليا دخلا في نزول البركات والخيرات من عنده، وأن نعمه وآلاءه عليها طابع أسمائه الحسنى وصفاته العليا تبارك وتعالى. (بحث روائي) في المجمع: وقد جاء في الخبر: يحاط على الخلق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون: " يا معشر الجن والانس إن استطعتم - إلى قوله - يرسل عليكما شواظ من نار ". أقول: وروى هذا المعنى عن مسعدة بن صدقة عن كليب عن أبي عبد الله عليه السلام. وفي الكافي بإسناده عن داود الرقي عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله الله عز وجل: " ولمن خاف مقام ربه جنتان " قال: من علم أن الله يراه ويسمع ما يقول ويعلم ما يعمله من خير أو شر فيحجزه ذلك عن القبيح من الاعمال فذلك الذي خاف مقام ربه ونهي النفس عن الهوى. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن منيع والحكيم في نوادر الاصول والنسائي والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية " ولمن خاف مقام ربه جنتان " فقلت: " أو إن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم الثانية " ولمن خاف مقام ربه جنتان " فقلت: وإن زنى وإن سرق ؟ فقال: نعم وإن رغم أنف أبي الدرداء. أقول: الرواية لا تخلو من شئ فإن الخوف من مقامه تعالى لا يجامع هذه الكبائر الموبقة، وقد روي عن أبي الدرداء نفسه ما يدفع هذه الرواية ففي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر عن يسار مولى لآل معاوية عن أبي الدرداء في قوله: " ولمن خاف مقام ربه جنتان " قال: قيل: يا أبا الدرداء وإن زنى وإن سرق ؟ قال: من خاف مقام ربه لم يزن ولم يسرق. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " قاصرات الطرف " قال: الحور العين يقصر الطرف
عنها من ضوء نورها
[ 113 ]
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " قاصرات الطرف " قال: لا ينظرن إلا إلى أزواجهن. وفي المجمع في قوله تعالى: " كأنهن الياقوت والمرجان " في الحديث أن المرأة من أهل الجنة يرى مخ ساقها من وراء سبعين حلة من حرير. أقول: وهذا المعنى وارد في عدة روايات. وفي تفسير العياشي بإسناده عن علي بن سالم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: آية في كتاب الله مسجلة. قلت: وما هي ؟ قال: قول الله عز وجل: " هل جزاء الاحسان إلا الاحسان " جرى في الكافر والمؤمن والبر والفاجر، ومن صنع إليه معروف فعليه أن يكافئ به، وليس المكافأة أن يصنع كما صنع حتى يربي فإن صنعت كما صنع كان له الفضل بالابتداء. وفي المجمع في قوله: " هل جزاء الاحسان إلا الاحسان " جاءت الرواية من أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية فقال: هل تدرون ما يقول ربكم ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن ربكم يقول: هل جزاء من أنعمنا عليه بالتوحيد إلا الجنة ؟ وفي تفسير القمي في الآية قال: ما جزاء من أنعمت عليه بالمعرفة إلا الجنة. أقول: الرواية مروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليه السلام وقد أسندها في التوحيد إلى جعفر بن محمد عن آبائه عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم - ولفظها - إن الله عزو جل قال: ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة وأسندها في العلل إلى الحسن ابن علي عليهما السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم - واللفظ - هل جزاء من قال: لا إله إلا الله إلا الجنة ؟ وروى الرواية بألفاظها المختلفة في الدر المنثور بطرق مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقوله:
أنعمت عليه، إشارة إلى أن إحسان العبد بالحقيقة إحسان من الله إليه. وفي المجمع في قوله تعالى: " ومن دونهما جنتان " عن العلاء بن سيابة عن أبي عبد الله عليه السلام قلت له: إن الناس يتعجبون منا إذا قلنا: يخرج قوم من النار فيدخلون الجنة فيقولون لنا فيكونون مع أولياء الله في الجنة ؟ فقال يا علي إن الله يقول: " ومن دونهما جنتان " ما يكونون مع أولياء الله.
[ 114 ]
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " ولمن خاف مقام ربه جنتان " وقوله: " ومن دونهما جنتان " قال: جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من ورق لاصحاب اليمين. أقول: والروايتان تؤيدان ما قدمناه في تفسير الآيتين. وفيه أخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أيوب قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: " مدهامتان " قال: خضراوان. وفي تفسير القمي بإسناده إلى يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: " نضاختان " قال: تفوران. وفيه في قوله: " فيهن خيرات حسان " قال: جوار نابتات على شط الكوثر كلما أخذت منها نبتت مكانها أخرى. وفي المجمع في قوله: " خيرات حسان " أي نساء خيرات الاخلاق حسان الوجوه. روته أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الفقيه قال الصادق عليه السلام: الخيرات الحسان من نساء أهل الدنيا وهن أجمل من الحور العين. وفي روضة الكافي بإسناده عن الحلبي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: " فيهن خيرات حسان " قال: هن صوالح المؤمنات العارفات.
أقول: وفي انطباق الآية بالنظر إلى سياقها على مورد الروايتين إبهام. (سورة الواقعة مكية، وهي ست وتسعون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. إذا وقعت الواقعة - 1. ليس لوقعتها كاذبة - 2. خافضة رافعة - 3. إذا رجت الارض رجا - 4. وبست الجبال بسا - 5. فكانت هباء منبثا - 6.
[ 115 ]
وكنتم أزواجا ثلاثة - 7. فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة - 8. وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة - 9. والسابقون السابقون - 10. (بيان) تصف السورة القيامة الكبرى التي فيها بعث الناس وحسابهم وجزاؤهم فتذكر أولا شيئا من أهوالها مما يقرب من الانسان والارض التي يسكنها فتذكر تقليبها للاوضاع والاحوال بالخفض والرفع وارتجاج الارض وانبثاث الجبال وتقسم الناس إلى ثلاثة أزواج إجمالا ثم تذكر ما ينتهي إليه حال كل من الازواج السابقين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال. ثم تحتج على أصحاب الشمال المنكرين لربوبيته وللبعث المكذبين بالقرآن الداعي إلى التوحيد والايمان بالبعث. ثم تختم الكلام بذكر الاحتضار بنزول الموت وانقسام الناس إلى ثلاثة أزواج. والسورة مكية بشهادة سياق آياتها. قوله تعالى: " إذا وقعت الواقعة " وقوع الحادثة هو حدوثها، والواقعة صفة توصف بها كل حادثة، والمراد بها ههنا واقعة القيامة وقد أطلقت إطلاق الاعلام كأنها لا تحتاج إلى موصوف مقدر ولذا قيل: إنها من أسماء القيامة في القرآن كالحاقة والقارعة والغاشية. والجملة " إذا وقعت الواقعة " مضمنة معنى الشرط ولم يذكر جزاء الشرط إعظاما له
وتفخيما لامره وهو على أي حال أمر مفهوم مما ستصفه السورة من حال الناس يوم القيامة، والتقدير نحو من قولنا: فاز المؤمنون وخسر الكافرون. قوله تعالى: " ليس لوقعتها كاذبة " قال في المجمع: الكاذبة مصدر كالعافية والعاقبة. انتهى. وعليه فالمعنى: ليس في وقعتها وتحققها كذب، وقيل: كاذبة صفة محذوفة الموصوف والتقدير: ليس لوقعتها قضية كاذبة. قولة تعالى: " خافضة رافعة " خبران مبتدأهما الضمير الراجع إلى الواقعة، والخفض خلاف الرفع وكونها خافضة رافعة كناية عن تقليبها نظام الدنيا المشهود فتظهر السرائر
[ 116 ]
وهي محجوبة اليوم وتحجب وتستر آثار الاسباب وروابطها وهي ظاهرة اليوم وتذل الاعزة من أهل الكفر والفسق وتعز المتقين. قوله تعالى: " إذا رجت الارض رجا " الرج تحريك الشئ تحريكا شديدا إشارة إلى زلزلة الساعة التي يعظمها الله سبحانه في قوله: " إن زلزلة الساعة شئ عظيم " الحج: 1، وقد عظمها في هذه الآية حيث عبر عنها برج الارض ثم أكد شدتها بتنكير قوله: " رجا " أي رجا لا يوصف شدته. والجملة بدل أو بيان لقوله: " إذا وقعت الواقعة ". قوله تعالى: " وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا " عطف على " رجت " والبس الفت وهو عود الجسم بدق ونحوه أجزاء صغارا متلاشية كالدقيق، وقيل: البس هو التسيير فهو في معنى قوله: " وسيرت الجبال " النبأ: 20. وقوله: " فكانت هباء منبثا " الهباء قيل: هو الغبار وقيل: هو الذرة من الغبار الظاهر في شعاع الشمس الداخل من كوة، والانبثات التفرق، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " وكنتم أزواجا ثلاثة " الزوج بمعنى الصنف والخطاب لعامة البشر. قوله تعالى: " فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة " متفرع على ما قبلها تفرع البيان على المبين، فهذه الآية والآيتان بعدها بيان للازواج الثلاثة.
والميمنة من اليمن مقابل الشؤم، فأصحاب الميمنة أصحاب السعادة واليمن مقابل أصحاب المشأمة أصحاب الشقاء والشؤم، وما قيل: إن المراد بالميمنة اليمين، أي ناحية اليمين لانهم يؤتون كتابهم بيمينهم وغيرهم يؤتونه بشمالهم يرده مقابلة أصحاب الميمنة بأصحاب المشأمة، ولو كان كما قيل لقيل أصحاب الشمال وهو ظاهر. وما في قوله: " ما أصحاب الميمنة " استفهامية ومبتدأ خبره " أصحاب الميمنة "، والمجموع خبر لقوله: " وأصحاب الميمنة " وفي الاستفهام إعظام لامرهم وتفخيم لشأنهم. قوله تعالى: " وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة " المشأمة مصدر كالشؤم مقابل اليمين، والميمنة والمشأمة السعادة والشقاء. قوله تعالى: " والسابقون السابقون " الذي يصلح أن يفسر به السابقون الاول قوله تعالى: " فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله " فاطر: 32، وقوله: " ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات " البقرة: 148، وقوله: " اولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون " المؤمنون: 61.
[ 117 ]
فالمراد بالسابقين - الاول - في الآية السابقون بالخيرات من الاعمال، وإذا سبقوا بالخيرات سبقوا إلى المغفرة والرحمة التي بإزائها كما قال تعالى: " سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة " الحديد: 21، فالسابقون بالخيرات هم السابقون بالرحمة وهو قوله: " والسابقون السابقون ". وقيل: المراد بالسابقون الثاني هو الاول على حد قوله: أنا أبو النجم وشعري شعري. وقوله: " والسابقون السابقون " مبتدأ وخبر، وقيل: الاول مبتدأ والثاني تأكيد، والخبر قوله: " اولئك المقربون ". ولهم في تفسير السابقين أقوال أخر فقيل: هم المسارعون إلى كل ما دعا الله إليه، وقيل:
هم الذين سبقوا إلى الايمان والطاعة من غير توان، وقيل: هم الانبياء عليهم السلام لانهم مقدموا أهل الاديان، وقيل: هم مؤمن آل فرعون وحبيب النجار المذكور في سورة يس وعلي عليه السلام السابق إلى الايمان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو أفضلهم، وقيل: هم السابقون إلى الهجرة، وقيل: هم السابقون إلى الصلوات الخمس، وقيل: هم الذين صلوا إلى القبلتين، وقيل: هم السابقون إلى الجهاد، وقيل غير ذلك. والقولان الاولان راجعان إلى ما تقدم من المعنى، والثالث والرابع ينبغي أن يحملا على التمثيل، والباقي كما ترى إلا أن يحمل على نحو من التمثيل. (بحث روائي) في الخصال عن الزهري قال: سمعت على بن الحسين عليه السلام يقول: من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، والله ما الدنيا والآخرة إلا ككفتي ميزان فأيهما رجح ذهب بالآخر ثم تلا قوله عز وجل: " إذا وقعت الواقعة " يعني القيامة " ليس لوقعتها كاذبة خافضة " خفضت والله بأعداء الله في النار " رافعة " رفعت والله أولياء الله إلى الجنة. وفي تفسير القمي " إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة " قال: القيامة هي حق، وقوله: " خافضة " قال: بأعداء الله " رافعة " لاولياء الله " إذا رجت الارض رجا "
[ 118 ]
قال: يدق بعضها على بعض " وبست الجبال بسا " قال: قلعت الجبال قلعا " فكانت هباء منبثا " قال: الهباء الذي في الكوة من شعاع الشمس. وقوله: " وكنتم أزواجا ثلاثة " قال: يوم القيامة " فأصحاب الميمنة ما أصحاب " الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون " الذين سبقوا إلى الجنة. أقول: قوله: الذين سبقوا إلى الجنة تفسير للسابقون الثاني. وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن علي بن أبي طالب قال:
الهباء المنبث رهج (1) الذرات والهباء المنثور غبار الشمس الذي تراه في شعاع الكوة. وفيه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " والسابقون السابقون " قال: نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون، وحبيب النجار الذي ذكر في يس وعلي بن أبي طالب، كل رجل منهم سابق أمته وعلي أفضلهم سبقا. وفي المجمع عن أبي جعفر عليه السلام قال: السابقون أربعة: ابن آدم المقتول، وسابق أمة موسى وهو مؤمن آل فرعون، وسابق أمة عيسى وهو حبيب والسابق في أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو علي بن أبي طالب عليه السلام. أقول: وروى هذا المعنى في روضة الواعظين عن الصادق عليه السلام. وفي أمالي الشيخ بإسناده إلى ابن عباس قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله عز وجل: " والسابقون السابقون اولئك المقربون في جنات النعيم " فقال: قال لي جبرئيل: ذلك علي وشيعته، هم السابقون إلى الجنة المقربون من الله بكرامته لهم. وفي كمال الدين بإسناده إلى خيثمة الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام في حديث: ونحن السابقون السابقون ونحن الآخرون. وفي العيون في باب ما جاء عن الرضا عليه السلام من الاخبار المجموعة بإسناده عن علي عليه السلام قال: " والسابقون السابقون اولئك المقربون " في نزلت. وفي المجمع في الآية: وقيل: إلى الصلوات الخمس. عن علي عليه السلام. أقول: الوجه حمل جميع هذه الاخبار على التمثيل كما تقدم.
(1) الرهج بفتحتين وبفتح فسكون ما أثير من الغبار.
[ 119 ]
أولئك المقربون - 11. في جنات النعيم - 12. ثلة من الاولين - 13. وقليل من الآخرين - 14. على سرر موضونة - 15. متكئين عليها متقابلين - 16. يطوف عليهم ولدان مخلدون - 17.
بأكواب وأباريق وكأس من معين - 18. لا يصدعون عنها ولا ينزفون - 19. وفاكهة مما يتخيرون - 20. ولحم طير مما يشتهون - 21. وحور عين - 22. كأمثال اللؤلؤ المكنون - 23. جزاء بما كانوا يعملون - 24. لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما - 25. إلا قيلا سلاما سلاما - 26. وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين - 27. في سدر مخضود - 28. وطلح منضود - 29. وظل ممدود - 30. وماء مسكوب - 31. وفاكهة كثيرة - 32. لا مقطوعة ولا ممنوعة - 33. وفرش مرفوعة - 34. إنا أنشاناهن إنشاء - 35. فجعلناهن أبكارا - 36. عربا أترابا - 37. لاصحاب اليمين - 38. ثلة من الاولين - 39. وثلة من الاخرين - 40. وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال - 41. في سموم وحميم - 42. وظل من يحموم - 43. لا بارد ولا كريم - 44. إنهم كانوا قبل ذلك مترفين - 45. وكانوا يصرون على الحنث العظيم - 46. وكانوا
[ 120 ]
يقولون ءإذا متنا وكنا ترابا وعظاما ءإنا لمبعوثون - 47. أوآباونا الاولون - 48. قل إن الاولين والآخرين - 49. لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم - 50. ثم إنكم أيها الضالون المكذبون - 51. لآكلون من شجر من زقوم - 52. فمالؤن منها البطون - 53. فشاربون عليه من الحميم - 54. فشاربون شرب الهيم - 55. هذا نزلهم يوم الدين - 56. (بيان) الآيات تفصل ما ينتهي إليه حال كل واحد من الازواج الثلاثة يوم القيامة.
قوله تعالى: " اولئك المقربون في جنات النعيم " الاشارة باولئك إلى السابقين، و " اولئك المقربون " مبتدأ وخبر، والجملة استئنافية، وقيل: خبر لقوله: " والسابقون "، وقيل: مبتدأ خبره في جنات النعيم، وأول الوجوه الثلاثة أوجه بالنظر إلى سياق تقسيم الناس إلى ثلاثة أزواج أولا ثم تفصيل ما ينتهي إليه أمر كل منهم. والقرب والبعد معنيان متضائفان تتصف بهما الاجسام بحسب النسبة المكانية ثم توسع فيهما فاعتبرا في غير المكان من الزمان ونحوه يقال: الغد قريب من اليوم والاربعة أقرب إلى الثلاثة من الخمسة، والحضرة أقرب إلى السواد من البياض ثم توسع فيهما فاعتبرا في غير الاجسام والجسمانيات من الحقائق. وقد اعتبر القرب وصفا له تعالى بما له من الاحاطة بكل شئ قال تعالى: " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب " البقرة: 186، وقال: " ونحن أقرب إليه منكم " الواقعة: 85، وقال: " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " ق: 16. وهذا المعنى أعني كونه تعالى أقرب إلى الشئ من نفسه أعجب ما يتصور من معنى القرب، وقد اشرنا إلى تصويره في تفسير الآية.
[ 121 ]
واعتبر القرب أيضا وصفا للعباد في مرحلة العبودية ولما كان أمرا اكتسابيا يستعمل فيه لفظ التقرب فالعبد يتقرب بصالح العمل إلى الله سبحانه وهو وقوعه في معرض شمول الرحمة الالهية بزوال أسباب الشقاء والحرمان، والله سبحانه يقرب العبد بمعنى إنزاله منزلة يختص بنيل ما لا يناله من دونه من إكرامه تعالى ومغفرتة ورحمته، قال تعالى: " كتاب مرقوم يشهده المقربون " المطففين: 21، وقال: " ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون " المطففين: 28. فالمقربون هم النمط الاعلى من أهل السعادة كما يشير إليه قوله: " والسابقون السابقون اولئك المقربون " ولا يتم ذلك إلا بكمال العبودية كما قال: " لن يستنكف المسيح أن
يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون " النساء: 172، ولا تكمل العبودية إلا بأن يكون العبد تبعا محضا في إرادته وعمله لمولاه لا يريد ولا يعمل إلا ما يريده وهذا هو الدخول تحت ولاية الله فهؤلاء هم أولياء الله. وقوله: " في جنات النعيم " أي كل واحد منهم في جنة النعيم فالكل في جنات النعيم، ويمكن أن يراد به أن كلا منهم في جنات النعيم لكن يبعده قوله في آخر السورة: " فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم ". وقد تقدم غير مرة أن النعيم هي الولاية وأن جنة النعيم هي جنة الولاية وهو المناسب لما تقدم آنفا أن المقربين هم أهل ولاية الله. قوله تعالى: " ثلة من الاولين وقليل من الآخرين " الثلة - على ما قيل - الجماعة الكثيرة، والمراد بالاولين الامم الماضون للانبياء السابقين، وبالآخرين هذه الامة على ما هو المعهود من كلامه تعالى في كل موضع ذكر فيه الاولين والآخرين معا ومنها ما سيأتي من قوله: " ءإنا لمبعوثون أو آباؤنا الاولون قل إن الاولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم " فمعنى الآيتين: هم أي المقربون جماعة كثيرة من الامم الماضين وقليل من هذه الامة. وبما تقدم يظهر أن قول بعضهم: أن المراد بالاولين والآخرين أولوا هذه الامة وآخروها غير سديد. قوله تعالى: " على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين " الوضن النسج وقيل: نسج الدرع إطلاقه على نسج السرر استعارة يراد بها إحكام نسجها. وقوله: " متكئين عليها " حال من الضمير العائد إلى المقربين والضمير للسرر، وقوله:
[ 122 ]
" متقابلين " حال آخر منه أو من ضمير " متكئين " وتقابلهم كناية عن بلوغ انسهم وحسن عشرتهم وصفاء باطنهم فلا ينظرون في قفاء صاحبهم ولايعيبونه ولايغتابونه. والمعنى هم أي المقربون مستقرون على سرر منسوجة حال كونهم متكئين عليها حال كونهم متقابلين.
قوله تعالى: " يطوف عليهم ولدان مخلدون " الولدان جمع ولد وهو الغلام، وطوافهم عليهم كناية عن خدمتهم لهم، والمخلدون من الخلود بمعنى الدوام أي باقون أبدا على هيئتهم من حداثة السن، وقيل من الخلد بفتحتين وهو القرط، والمراد أنهم مقرطون بالخلد. قوله تعالى: " بأكواب وأباريق وكأس من معين " الاكواب جمع كوب وهو الاناء الذي لاعروة له ولاخرطوم، والاباريق جمع إبريق وهو الاناء الذي له خرطوم، وقيل: عروة وخرطوم معا، والكأس معروف، قيل: أفرد الكأس لانها لا تسمى كأسا إلا إذا كانت ممتلئة، والمراد بالمعين الخمر المعين وهو الظاهر للبصر الجاري. قوله تعالى: " لا يصدعون عنها ولا ينزفون " أي لا يأخذهم صداع لاجل خمار يحصل من الخمر كما في خمر الدنيا ولا يزول عقلهم بالسكر الحاصل منها. قوله تعالى: " وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون " الفاكهة والطير معطوفان على قوله: " بأكواب "، والمعنى: يطوف عليهم الولدان بفاكهة مما يختارون وبلحم طير مما يشتهون. ولا يستشكل بما ورد في الروايات أن أهل الجنة إذا اشتهوا فاكهة تدلى إليهم غصن شجرتها بما لها من ثمرة فيتناولونها، وإذا اشتهوا لحم طير وقع مقليا مشويا في أيديهم فيأكلون منها ما أرادوا ثم حيي وطار. وذلك لان لهم ما شاؤا ومن فنون التنعم تناول ما يريدونه من أيدي خدمهم وخاصة حال اجتماعهم واحتفالهم كما أن من فنونه تناولهم أنفسهم من غير توسيط خدمهم فيه. قوله تعالى: " وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون " مبتدأ محذوف الخبر على ما يفيده السياق والتقدير ولهم حور عين أو وفيها حور عين والحور العين نساء الجنة وقد تقدم معنى الحور العين في تفسير سورة الدخان. وقوله: " كامثال اللؤلؤ المكنون " أي اللؤلؤ المصون المخزون في الصدف لم تمسه الايدي فهو منته في صفائه.
[ 123 ]
قوله تعالى: " جزاء بما كانوا يعملون " قيد لجميع ما تقدم وهو مفعول له، والمعنى: فعلنا بهم ما فعلنا ليكون جزاء لهم قبال ما كانوا يستمرون عليه من العمل الصالح. قوله تعالى: " لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما " اللغو من القول ما لا فائدة فيه ولا أثر يترتب عليه، والتأثيم النسبة إلى الاثم أي لا يخاطب أحدهم صاحبه بما لا فائدة فيه ولا ينسبه إلى الاثم إذ لا إثم هناك، وفسر بعضهم التأثيم بالكذب. قوله تعالى: " إلا قيلا سلاما سلاما " استثناء منقطع من اللغو والتأثيم، والقيل مصدر كالقول، و " سلاما " بيان لقوله: " قيلا " وتكراره يفيد تكرر الوقوع، والمعنى: إلا قولا هو السلام بعد السلام. قيل: ويمكن أن يكون " سلاما " مصدرا بمعنى الوصف وصفه لقيلا، والمعنى: إلا قولا هو سالم. قوله تعالى: " وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين " شروع في تفصيل ما انتهى إليه حال أصحاب الميمنة وفي تبديله من أصحاب اليمين يعلم أن أصحاب اليمين وأصحاب الميمنة واحد وهم الذين يؤتون كتابهم بيمينهم. والجملة استفهامية مسوقة لتفخيم أمرهم والتعجيب من حالهم وهي خبر لقوله: " وأصحاب اليمين ". قوله تعالى: " في سدر مخضود " السدر شجرة النبق، والمخضود ما قطع شوكه فلا شوك له. قوله تعالى: " وطلح منضود " الطلح شجر الموز، وقيل: ليس بالموز بل شجر له ظل بارد رطب، وقيل: شجرة ام غيلان لها أنوار طيبة الرائحة، ونضد الاشياء جعل بعضها على بعض، والمعنى: وفي شجر موز منضود الثمر بعضه على بعض من أسفله إلى أعلاه. قوله تعالى: " وظل ممدود وماء مسكوب " قيل: الممدود من الظل هو الدائم الذي لا تنسخه شمس فهو باق لا يزول، والماء المسكوب هو المصبوب الجاري من غير انقطاع.
قوله تعالى: " وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة " أي لا مقطوعة في بعض الازمان كانقطاع الفواكه في شتاء ونحوه في الدنيا، ولا ممنوعة التناول لمانع من قبل أنفسهم كسأمة أو شبع أو من خارج كبعد المكان أو شوكة تمنع القطف أو غير ذلك. قوله تعالى: " وفرش مرفوعة " الفرش جمع فراش وهو البساط، والمرفوعة العالية، وقيل: المراد بالفرش المرفوعة النساء المرتفعات قدرا في عقولهن وجمالهن وكمالهن والمرأة
[ 124 ]
تسمى فراشا، ويناسب هذا المعنى قوله بعد: " إنا أنشأناهن إنشاء " الخ. قوله تعالى: " إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا " أي إنا أوجدناهن وأحدثناهن وربيناهن إحداثا وتربية خاصة، وفيه تلويح إلى أنهن لا يختلف حالهن بالشباب والشيب وصباحة المنظر وخلافها، وقوله: " فجعلناهن أبكارا " أي خلقناهن عذارى كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا. وقوله: " عربا أترابا " العرب جمع عروب وهي المتحننة إلى زوجها أو الغنجة أو العاشقة لزوجها، والاتراب جمع ترب بالكسر فالسكون بمعنى المثل أي إنهن أمثال أو أمثال في السن لازواجهن. قوله تعالى: " لاصحاب اليمين ثلة من الاولين وثلة من الآخرين " يتضح معناه بما تقدم، ويستفاد من الآيات أن أصحاب اليمين في الآخرين جمع كثير كالاولين لكن السابقين المقربين في الآخرين أقل جمعا منهم في الاولين. قوله تعالى: " وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال " مبتدأ وخبر، والاستفهام للتعجيب والتهويل، وقد بدل أصحاب المشأمة من أصحاب الشمال إشارة إلى أنهم الذين يؤتون كتابهم بشمالهم كما مر نظيره في أصحاب اليمين. قوله تعالى: " في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم " السموم - على ما في الكشاف - حر نار ينفذ في المسام، والحميم الماء الشديد الحرارة، والتنوين فيهما لتعظيم
الامر، واليحموم الدخان الاسود، وقوله: " لا بارد ولا كريم " الظاهر أنهما صفتان للظل لا ليحموم، وذلك أن الظل هو الذي يتوقع منه أن يتبرد بالاستظلال به ويستراح فيه دون الدخان. قوله تعالى: " إنهم كانوا قبل ذلك مترفين " تعليل لاستقرار أصحاب الشمال في العذاب، والاشارة بذلك إلى ما ذكر من عذابهم يوم القيامة، وإتراف النعمة الانسان إبطارها وإطغاؤها له، وذلك إشغالها نفسه بحيث يغفل عما وراءها فكون الانسان مترفا تعلقه بما عنده من نعم الدنيا وما يطلبه منها سواء كانت كثيرة أو قليلة. فلا يرد ما استشكل من أن كثيرا من أصحاب الشمال ليسوا من المترفين بمعنى المتوسعين في التنعم وذلك أن الانسان محفوف بنعم ربه وليست النعمة هي المال فحسب فاشتغاله بنعم ربه عن ربه ترفة منه، والمعنى: أنا إنما نعذبهم بما ذكر لانهم كانوا قبل ذلك في
[ 125 ]
الدنيا بطرين طاغين بالنعم. قوله تعالى: " وكانوا يصرون على الحنث العظيم " في المجمع: الحنث نقض العهد المؤكد بالحلف، والاصرار أن يقيم عليه فلا يقلع عنه. انتهى. ولعل المستفاد من السياق أن إصرارهم على الحنث العظيم هو استكبارهم عن عبودية ربهم التي عاهدوا الله عليها بحسب فطرتهم وأخذ منهم الميثاق عليها في عالم الذر فيطيعون غير ربهم وهو الشرك المطلق. وقيل: الحنث الذنب العظيم فتوصيفه بالعظيم مبالغة والحنث العظيم الشرك بالله، وقيل: الحنث العظيم جنس المعاصي الكبيرة، وقيل: هو القسم على إنكار البعث المشار إليه بقوله تعالى: " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت " النحل: 38، ولفظ الآية مطلق. قوله تعالى: " وكانوا يقولون ءإذا متنا وكنا ترابا وعظاما ءإنا لمبعوثون أو آباؤنا الاولون " قول منهم مبني على الاستبعاد ولذا أكدوا استبعاد بعث أنفسهم ببعث آبائهم
لان الاستبعاد في موردهم آكد، والتقدير أو آباؤنا الاولون مبعوثون. قوله تعالى: " قل إن الاولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم " أمر منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيب عن استبعادهم البعث بتقريره ثم إخبارهم عما يعيشون به يوم البعث من طعام وشراب وهما الزقوم والحميم. ومحصل القول أن الاولين والآخرين - من غير فرق بينهم لا كما فرقوا فجعلوا بعث أنفسهم مستبعدا وبعث آبائهم الاولين أشد استبعادا وآكد - لمجموعون محشورين إلى ميقات يوم معلوم. والميقات ما وقت به الشئ وهو وقته المعين، والمراد بيوم معلوم يوم القيامة المعلوم عند الله فإضافة الميقات إلى يوم معلوم بيانية. قوله تعالى: " ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون " من تمام كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخبرهم عما ينتهي إليه حالهم يوم القيامة ويعيشون به من طعام وشراب. وفي خطابهم بالضالين المكذبين إشارة إلى ملاك شقائهم وخسرانهم يوم البعث وهو ضلالهم عن طريق الحق واستقرار ذلك في نفوسهم باستمرارهم على تكذيبهم وإصرارهم على الحنث، ولو كانوا ضالين فحسب من غير تكذيب لكان من المرجو أن ينجوا ولا يهلكوا.
[ 126 ]
و " من " في قوله: " من شجر " للابتداء، وفي قوله: " من زقوم " بيانية ويحتمل أن يكون " من زقوم " بدلا من " من شجر "، وضمير " منها " للشجر أو الثمر وكل منهما يؤنث ويذكر ولذا جئ ههنا بضمير التأنيث وفي الآية التالية في قوله: " فشاربون عليه " بضمير التذكير، والباقي ظاهر. قوله تعالى: " فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم " كلمة " على " للاستعلاء وتفيد في المورد كون الشرب عقيب الاكل من غير ريث، والهيم جمع هيماء الابل التي
أصابها الهيام بضم الهاء وهو داء شبه الاستسقاء يصيب الابل فتشرب الماء حتى تموت أو تسقم سقما شديدا، وقيل: الهيم الرمال التي لا تروى بالماء. والمعنى: فشاربون عقيب ما أكلتم من الزقوم من الماء الشديد الحرارة فشاربون كشرب الابل الهيم أو كشرب الرمال الهيم وهذا آخر ما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوله لهم. قوله تعالى: " هذا نزلهم يوم الدين " أي يوم الجزاء والنزل ما يقدم للضيف النازل من طعام وشراب إكراما له، والمعنى: هذا الذي ذكر من طعامهم وشرابهم هو نزل الضالين المكذبين ففي تسمية ما أعد لهم بالنزل نوع تهكم، والآية من كلامه تعالى خطابا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولو كان من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطابا لهم لقيل: هذا نزلكم. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن مردويه وابن عساكر من طريق عروة بن رويم عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت إذا وقعت الواقعة ذكر فيها " ثلة من الاولين وقليل من الآخرين " قال عمر: يا رسول الله ثلة من الاولين وثلة من الآخرين، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: تعال واستمع ما قد أنزل الله: " ثلة من الاولين وثلة من الآخرين ". ألا وإن من آدم إلي ثلة وأمتي ثلة ولن نستكمل ثلتنا حتى نستعين بالسودان رعاة الابل ممن يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. قال السيوطي: وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن عروة بن رويم مرسلا. وفيه أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: لما نزلت " ثلة من الاولين وقليل من الآخرين " حزن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إذن لا يكون من أمة محمد إلا قليل
[ 127 ]
فنزلت نصف النهار " ثلة من الاولين وثلة من الآخرين " تقابلون الناس فنسخت الآية " وقليل من الآخرين ". أقول: قال في الكشاف في تفسير الآية: فإن قلت: فقد روي أنها لما نزلت شق
ذلك على المسلمين فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجع ربه حتى نزلت " ثلة من الاولين وثلة من الآخرين ". قلت: هذا لا يصح لامرين: أحدهما: أن هذه الآية واردة في السابقين ورودا ظاهرا وكذلك الثانية في أصحاب اليمين، ألا ترى كيف عطف أصحاب اليمين ووعدهم على السابقين ووعدهم ؟ الثاني: أن النسخ في الاخبار غير جائز. انتهى. وأجيب عنه بأنه يمكن أن يحمل الحديث على أن الصحابة لما سمعوا الآية الاولى حسبوا أن الامر في هذه الامة يذهب على هذا النهج فيكون أصحاب اليمين ثلة من الاولين وقليلا منهم فيكون الفائزون بالجنة في هذه الامة أقل منهم في الامم السالفة فنزلت " ثلة من الاولين وثلة من الآخرين " فزال حزنهم، ومعنى نسخ الآية السابقة إزالة حسبانهم المذكور. وأنت خبير بأنه حمل على ما لا دليل عليه من جهة اللفظ واللفظ يأباه وخاصة حمل نسخ الآية على إزالة الحسبان، وحال الرواية الاولى وخاصة من جهة ذيلها كحال هذه الرواية. وفي المجمع في قوله تعالى: " يطوف عليهم ولدان مخلدون " اختلف في هذه الولدان فقيل: إنهم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها فانزلوا هذه المنزلة. قال: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سئل عن أطفال المشركين ؟ فقال: هم خدم أهل الجنة. أقول: ورواه في الدر المنثور عن الحسن، والرواية ضعيفة لا تعويل عليها. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة والبزار وابن مردويه والبيهقي في البعث عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشويا. أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة وفي بعضها أن المؤمن يأكل ما يشتهيه ثم يعود
الباقي إلى ما كان عليه ويحيا فيطير إلى مكانه ويباهي بذلك.
[ 128 ]
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما " قال: الفحش والكذب والغنا. أقول: لعل المراد بالغنا ما يكون منه لهوا أو الغنا مصحف الخنا. وفيه في قوله تعالى: " وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين " قال: علي بن أبي طالب عليه السلام وأصحابه شيعته. أقول: الرواية مبنيه على ما ورد في ذيل قولة تعالى: " يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه " أسرى: 71، أن اليمين هو الامام الحق ومعناها أن اليمين هو علي عليه السلام وأصحاب اليمين شيعته، والرواية من الجري. وفيه في قوله تعالى: " في سدر مخضود " شجر لا يكون له ورق ولا شوك فيه، وقرأ أبو عبد الله عليه السلام: " وطلع منضود " قال: بعضه على بعض. وفي الدر المنثور أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن أبي أمامة قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إن الله ينفعنا بالاعراب ومسائلهم. أقبل أعرابي يوما فقال: يا رسول الله لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية، وما كنت أرى أن في الجنة شجرة تؤذي صاحبها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما هي ؟ قال: السدر فإن لها شوكا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس يقول الله: " في سدر مخضود " يخضده الله من شوكه فيجعل مكان كل شوكة ثمرة إنها تنبت ثمرا تفتق الثمر منها عن اثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر. وفي المجمع وروت العامة عن علي عليه السلام أنه قرأ رجل عنده " وطلح منضود " فقال: ما شأن الطلح إنما هو " وطلع " كقوله: " ونخل طلعها هضيم " فقيل له: ألا تغيره ؟ قال: إن القرآن لا يهاج اليوم ولا يحرك، رواه عنه ابنه الحسن عليه السلام وقيس
ابن سعد. وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق والفاريابي وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن علي بن أبي طالب في قوله: " وطلح منضود " قال: هو الموز. وفي المجمع ورد في الخبر أن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها اقرؤا أن شئتم " وظل ممدود " وروي أيضا أن أوقات الجنة كغدوات الصيف لا يكون فيها حر ولا برد.
[ 129 ]
أقول: وروى الاول في الدر المنثور عن أبي سعيد وأنس وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي روضة الكافي بإسناده عن علي بن إبراهيم عن ابن محبوب عن محمد بن إسحاق المدني عن أبي جعفر عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث يصف فيه الجنة وأهلها: ويزور بعضهم بعضا ويتنعمون في جناتهم في ظل ممدود في مثل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس وأطيب من ذلك. وفي تفسير القمي: وقوله: " إنا أنشأناهن إنشاء " قال: الحور العين في الجنة " فجعلناهن أبكارا عربا " قال: لا يتكلمون إلا بالعربية. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: " عربا " قال: كلامهن عربي. أقول: وفيه روايات أخر أن عربا جمع عروب وهي الغنجة. وفيه أخرج مسدد في مسنده وابن المنذر والطبراني وابن مردويه بسند حسن عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: " ثلة من الاولين وثلة من الآخرين " قال: هما جميعا من هذه الامة. أقول: وهذا المعنى مروي في غير واحد من الروايات لكن ظاهر آيات السورة أن القسمة لكافة البشر لا لهذه الامة خاصة، ولعل المراد من هذه الروايات بيان بعض
المصاديق وإن كان بعيدا، وكذا المراد مما ورد أن أصحاب اليمين أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، وما ورد أن أصحاب الشمال أعداء آل محمد عليهم السلام. وفي المحاسن بإسناده عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الشرب بنفس واحد فكرهه وقال: ذلك شرب الهيم. قلت: وما الهيم ؟ قال: الابل. وفيه بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه كان يكره أن يتشبه بالهيم. قلت: وما الهيم ؟ قال: الرمل. أقول: والمعنيان جميعا واردان في روايات أخر. نحن خلقناكم فلولا تصدقون _ 57. أفرأيتم ما تمنون _ 58.
[ 130 ]
ءأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون _ 59. نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين _ 60. على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون _ 61. ولقد علمتم النشأة الاولى فلولا تذكرون _ 62. أفرأيتم ما تحرثون _ 63. ءأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون _ 64. لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون _ 65. إنا لمغرمون _ 66. بل نحن محرومون _ 67. أفرأيتم الماء الذي تشربون _ 68. ءأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون _ 69. لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون _ 70. أفرأيتم النار التي تورون _ 71. ءأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشؤن _ 72. نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين _ 73. فسبح باسم ربك العظيم _ 74. فلا أقسم بمواقع النجوم _ 75. وإنه لقسم لو تعلمون عظيم _ 76. إنه لقرآن كريم _ 77. في كتاب مكنون _ 78. لا يمسه إلا المطهرون _ 79. تنزيل من رب العالمين _ 80.
أفبهذا الحديث أنتم مدهنون _ 81. وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون _ 82. فلولا إذا بلغت الحلقوم _ 83. وأنتم حينئذ تنظرون _ 84. ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون _ 85. فلولا إن كنتم غير مدينين _ 86. ترجعونها إن كنتم صادقين _ 87. فأما إن
[ 131 ]
كان من المقربين _ 88. فروح وريحان وجنة نعيم _ 89. وأما إن كان من أصحاب اليمين _ 90. فسلام لك من أصحاب اليمين _ 91. وأما إن كان من المكذبين الضالين _ 92. فنزل من حميم _ 93. وتصلية جحيم _ 94. إن هذا لهو حق اليقين _ 95. فسبح باسم ربك العظيم _ 96. (بيان) لما فصل سبحانه القول فيما ينتهي إليه حال كل من الازواج الثلاثة ففصل حال أصحاب الشمال وأن الذي ساقهم إلى ذلك نقضهم عهد العبودية وتكذيبهم للبعث والجزاء وأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يرد عليهم بتقرير البعث والجزاء وبيان ما يجزون به يوم البعث. وبخهم على تكذيبهم بالمعاد مع أن الذي يخبرهم به هو خالقهم الذي يدبر أمرهم ويقدر لهم الموت ثم الانشاء فهو يعلم ما يجري عليهم مدى وجودهم وما ينتهي إليه حالهم ومع أن الكتاب الذي ينبئهم بالمعاد هو قرآن كريم مصون من أن يلعب به أيدي الشياطين وأولياؤهم المضلين. ثم يعيد الكلام إلى ما بدئ به من حال الازواج الثلاثة ويذكر أن اختلاف أحوال الاقسام يأخذ من حين الموت وبذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: " نحن خلقناكم فلولا تصدقون " السياق سياق الكلام في البعث ولجزاء وقد أنكروه وكذبوا به، فقوله: " فلولا تصدقون " تحضيض على تصديق حديث المعاد وترك التكذيب به، وقد علله بقوله: " نحن خلقناكم " كما يستفاد من التفريع الذي في قوله: " فلولا تصدقون ". وإيجاب خلقه تعالى لهم وجوب تصديقه فيما يخبر به من المعاد من وجهين: أحدهما: أنه تعالى خلقهم أول مرة فهو قادر على إعادة خلقهم ثانيا كما قال: " قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم " يس: 79.
[ 132 ]
وثانيهما: أنه تعالى لما كان هو خالقهم وهو المدبر لامرهم المقدر لهم خصوصيات خلقهم و أمرهم فهو أعلم بما يفعل بهم وسيجري عليهم فإذا أنبأهم بأنه سيبعثهم بعد موتهم ويجزيهم بما عملوا إن خيرا وإن شرا لم يكن بد من تصديقه فلا عذر لمن كذب بما أخبر به كتابه من البعث والجزاء، قال تعالى: " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " الملك: 14، وقال: " كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين " الانبياء: 104، وقال: " وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا " النساء: 122. فمحصل الآية: نحن خلقناكم ونعلم ما فعلنا وما سنفعل بكم فنخبركم أنا سنبعثكم ونجزيكم بما عملتم فهلا تصدقون بما نخبركم به فيما أنزلناه من الكتاب. وفي الآية وما يتلوها من الآيات التفات من الغيبة إلى الخطاب لان السياق سياق التوبيخ والمعاتبة وذلك بالخطاب أوقع وآكد. قوله تعالى: " أفرأيتم ما تمنون " الامناء قذف المني وصبه والمراد قذفه وصبه في الارحام، والمعنى: أفرأيتم المني الذي تصبونه في أرحام النساء. قوله تعالى: " ءأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون " أئ أنتم تخلقونه بشرا مثلكم أم نحن خالقوه بشرا.
قوله تعالى: " نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين " تدبير أمر الخلق بجميع شؤنه وخصوصياته من لوازم الخلق بمعنى إفاضة الوجود فوجود الانسان المحدود بأول كينونتة إلى آخر لحظة من حياته الدنيا بجميع خصوصياته التي تتحول عليه بتقدير من خالقه عز وجل. فموته أيضا كحياته بتقدير منه، وليس يعتريه الموت لنقص من قدرة خالقه أن يخلقه بحيث لا يعتريه الموت أو من جهة أسباب وعوامل تؤثر فيه بالموت فتبطل الحياة التي أفاضها عليه خالقه تعالى فإن لازم ذلك أن تكون قدرته تعالى محدودة ناقصة وأن يعجزه بعض الاسباب وتغلب إرادته إرادته وهو محال كيف ؟ والقدرة مطلقة والارادة غير مغلوبة. ويتبين بذلك أن المراد بقوله: " نحن قدرنا بينكم الموت " أن الموت حق مقدر وليس أمرا يقتضيه ويستلزمه نحو وجود الحي بل هو تعالى قدر له وجودا كذا ثم موتا يعقبه. وأن المراد بقوله: " وما نحن بمسبوقين " - والسبق هو الغلبة والمسبوق المغلوب - ولسنا مغلوبين في عروض الموت عن الاسباب المقارنة له بأن نفيض عليكم حياة نريد أن
[ 133 ]
يدوم ذلك عليكم فيسبقنا الاسباب وتغلبنا فتبطل بالموت الحياة التي كنا نريد دوامها. قوله تعالى: " على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون " " على " متعلقة بقوله: " قدرنا " وجملة الجار والمجرور في موضع الحال أي نحن قدرنا بينكم الموت حال كونه على أساس تبديل الامثال والانشاء فيما لا تعلمون. والامثال جمع مثل بالكسر فالسكون ومثل الشئ ما يتحد معه في نوعه كالفرد من الانسان بالنسبة إلى فرد آخر، والمراد بقوله: " أن نبدل أمثالكم " أن نبدل أمثالكم من البشر منكم أو نبدل أمثالكم مكانكم، والمعنى على أي حال تبديل جماعة من أخرى وجعل الاخلاف مكان الاسلاف. وقوله: " وننشئكم فيما لا تعلمون " " ما " موصولة والمراد به الخلق والجملة معطوفة
على " نبدل " والتقدير وعلى أن ننشئكم ونوجدكم في خلق آخر لا تعلمونه وهو الوجود الاخروي غير الوجود الدنيوي الفاني. ومحصل معنى الآيتين أن الموت بينكم إنما هو بتقدير منا لا لنقص في قدرتنا بأن لا يتيسر لنا إدامة حياتكم ولا لغلبة الاسباب المهلكة المبيدة وقهرها وتعجيزها لنا في حفظ حياتكم وإنما قدرناه بينكم على أساس تبديل الامثال وإذهاب قوم والاتيان بآخرين وإنشاء خلق لكم يناسب الحياة الآخرة وراء الخلق الدنيوي الداثر فالموت انتقال من دار إلى دار وتبدل خلق إلى خلق آخر وليس بانعدام وفناء. واحتمل بعضهم أن يكون الامثال في الآية جمع مثل بفتحتين وهو الوصف فتكون الجملتان " على أن نبدل " الخ، و " ننشئكم " الخ، تفيدان معنى واحدا، والمعنى: على أن نغير أوصافكم وننشئكم في وصف لا تعرفونه أو لا تعلمونه كحشركم في صفة الكلب أو الخنزير أو غيرهما من الحيوان بعد ما كنتم في الدنيا على صفة الانسان، والمعنى السابق أجمع وأكثر فائدة. قوله تعالى: " ولقد علمتم النشأة الاولى فلولا تذكرون " المراد بالنشأة الاولى نشأه الدنيا، والعلم بها بخصوصياتها يستلزم الاذعان بنشأة اخرى خالدة فيها الجزاء، فإن من المعلوم من النظام الكوني أن لا لغو ولا باطل في الوجود فلهذه النشأة الفانية غاية باقية، وأيضا من ضروريات هذا النظام هداية كل شئ إلى سعادة نوعه وهداية الانسان تحتاج إلى بعث الرسل وتشريع الشرائع وتوجيه الامر والنهي، والجزاء على خير الاعمال وشرها
[ 134 ]
وليس في الدنيا فهو في دار اخرى وهي النشأة الآخرة (1). على أنهم شاهدوا النشأة الاولى وعرفوها وعلموا أن الذي أوجدها عن كتم العدم هو الله سبحانه وإذ قدر عليها أولا فهو على إيجاد مثلها ثانيا قادر، قال تعالى: " قل يحييها الذي أنشأها أول مرة " يس: 79، وهذا برهان على الامكان يرتفع به استبعادهم للبعث.
وبالجملة يحصل لهم بالعلم بالنشأة الاولى علم بمبادئ البرهان على إمكان البعث فيرتفع به استبعاد البعث فلا استبعاد مع الامكان. وهذا - كما ترى - برهان على إمكان حشر الاجساد، محصله أن البدن المحشور مثل البدن الدنيوي وإذ جاز صنع البدن الدنيوي وإحياؤه فليجز صنع البدن الاخروي وإحياؤه لانه مثله وحكم الامثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد. فمن العجيب قول الزمخشري في الكشاف في الآية: وفي هذا دليل على صحة القياس حيث جهلهم في ترك قياس النشأة الاخرى بالاولى. انتهى. وذلك لان الذي في الآية قياس برهاني منطقي والذي يستدل بها عليه قياس فقهي مفيد للظن فأين أحدهما من الآخر ؟ وقال في روح المعاني في الآية: فهلا تتذكرون أن من قدر عليها يعني على النشأة الاولى فهو على النشأة الاخرى أقدر وأقدر فإنها أقل صنعا لحصول المواد وتخصيص الاجزاء وسبق المثال، وهذا على ما قالوا دليل على صحة القياس لكن قيل: لا يدل إلا على قياس الاولى لانه الذي في الآية. انتهى. وفيه ما في سابقه. على أن الذي في الآية ليس من قياس الاولى في شئ لان الجامع بين النشأة الاولى والاخرى أنهما مثلان ومبدأ القياس أن حكم الامثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد. وأما قوله: إن النشأة الاخرى أقل صنعا لحصول المواد وتخصيص الاجزاء، فهو ممنوع فإن المواد تحتاج إلى إفاضة الوجود بقاء كما تحتاج إليها في حدوثها وأول حصولها، وكذا تخصص الاجزاء يحتاج إليها بقاء كما تحتاج إليها فالصنع ثانيا كالصنع أولا. وأما قوله: وسبق المثال، فقد خلط بين المثل والمثال فالبدن الاخروي بالنظر إلى نفسه مثل البدن الدنيوي لا على مثاله ولو كان على مثاله كانت الآخرة دنيا لا آخرة.
(1) الآية 27 و 28 من سورة ص.
[ 135 ]
فان قلت: لو كان البدن الاخروي مثلا للبدن الدنيوي ومثل الشئ غيره كان الانسان المعاد في الآخرة غير الانسان المبتدء في الدنيا لانه مثله لا عينه. قلت: قد تقدم في المباحث السابقة غير مرة أن شخصية الانسان بروحه لا ببدنه " والروح لا تنعدم بالموت وإنما يفسد البدن وتتلاشى أجزاؤه ثم إذا سوي ثانيا مثل ما كان في الدنيا ثم تعلقت به الروح كان الانسان عين الانسان الذي في الدنيا كما كان زيد الشائب مثلا عين زيد الشاب لبقاء الروح على شخصيتها مع تغير البدن لحظة بعد لحظه. قوله تعالى: " أفرأيتم ما تحرثون - إلى قوله - محرومون " بعد ما ذكرهم بكيفية خلق أنفسهم وتقدير الموت بينهم تمهيدا للبعث والجزاء وكل ذلك من لوازم ربوبيته عد لهم امورا ثلاثة من أهم ما يعيشون به في الدنيا وهي الزرع الذي يقتاتون به والماء الذي يشربونه والنار التي يصطلون بها ويتوسلون بها إلى جمل من مأربهم، وتثبت بذلك ربوبيته لهم فليست الربوبية إلا التدبير عن ملك. فقال: " أفرأيتم ما تحرثون " الحرث العمل في الارض وإلقاء البذر عليها " ءأنتم تزرعونه " أي تنبتونه وتنمونه حتى يبلغ الغاية، وضمير " تزرعونه " للبذر أو الحرث المعلوم من المقام " أم نحن الزارعون " المنبتون المنمون حتى يكمل زرعا " لو نشاء لجعلناه حطاما " أي هشيما متكسرا متفتتا " فظلتم " أي فظللتم وصرتم " تفكهون " أي تتعجبون مما أصيب به زرعكم وتتحدثون بما جرى قائلين " إنا لمغرمون " موقعون في الغرامة والخسارة ذهب مالنا وضاع وقتنا وخاب سعينا " بل نحن محرومون " ممنوعون من الرزق والخير. ولا منافاة بين نفي الزرع عنهم ونسبته إليه تعالى وبين توسط عوامل وأسباب طبيعية في نبات الزرع ونموه فإن الكلام عائد في تأثير هذه الاسباب وصنعها، وليس نحو تأثيرها باقتضاء من ذاتها منقطعة عنه تعالى بل بجعله ووضعه وموهبته، وكذا الكلام في أسباب هذه الاسباب، وينتهي الامر إلى الله سبحانه وأن إلى ربك المنتهى.
قوله تعالى: " أفرأيتم الماء الذي تشربون - إلى قوله - فلولا تشكرون " المزن السحاب، وقوله: " فلولا تشكرون " تحضيض على الشكر، وشكره تعالى جميل ذكره تعالى على نعمه وهو إظهار عبوديته قولا وعملا. والباقي ظاهر. قوله تعالى: " أفرأيتم النار التي تورون - إلى قوله - ومتاعا للمقوين " قال في المجمع:
[ 136 ]
الايراء إظهار النار بالقدح، يقال: أورى يوري، قال: ويقال: قدح فأورى إذا أظهر فإذا لم يور يقال: قدح فأكبي، وقال: والمقوي النازل بالقواء من الارض ليس بها أحد، وأقوت الدار خلت من أهلها. أنتهى. والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " فسبح باسم ربك العظيم " خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. لما ذكر سبحانه شواهد ربوبيته لهم وأنه الذي يخلقهم ويدبر أمرهم ومن تدبيره أنه سيبعثهم ويجزيهم بأعمالهم وهم مكذبون بذلك أعرض عن خطابهم والتفت إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إشعارا بأنهم لا يفقهون القول فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزهه تعالى عن إشراكهم به وإنكارهم البعث والجزاء. فقوله: " فسبح باسم " الخ، الفاء لتفريع التسبيح على ما تقدم من البيان، والباء للاستعانة أو الملابسة، والمعنى: فإذا كان كذلك فسبح مستعينا بذكر اسم ربك، أو المراد بالاسم الذكر لان إطلاق اسم الشئ ذكر له كما قيل أو الباء للتعدية لان تنزيه اسم الشئ تنزيه له، والمعنى: نزه اسم ربك من أن تذكر له شريكا أو تنفي عنه البعث والجزاء، والعظيم صفة الرب أو الاسم. قوله تعالى: " فلا اقسم بمواقع النجوم " " لا اقسم " قسم وقيل: لا زائدة واقسم هو القسم، وقيل: لا نافية واقسم هو القسم. و " مواقع " جمع موقع وهو المحل، والمعنى: اقسم بمحال النجوم من السماء، وقيل: مواقع جمع موقع مصدر ميمي بمعنى السقوط يشير به إلى سقوط الكواكب يوم القيامة أو وقوع الشهب على الشياطين، أو مساقط الكواكب في مغاربها، وأول الوجوه هو
السابق إلى الذهن. قوله تعالى: " وإنه لقسم لو تعلمون عظيم " تعظيم لهذا القسم وتأكيد على تأكيد. قوله تعالى: " إنه لقرآن كريم - إلى قوله - من رب العالمين " لما كان إنكارهم حديث وحدانيته تعالى في ربوبيته وألوهيته وكذا إنكارهم للبعث والجزاء إنما أبدوه بإنكار القرآن النازل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي فيه نبأ التوحيد والبعث كان إنكارهم منشعبا إلى إنكار أصل التوحيد والبعث أصلا، وإلى إنكار ذلك بما أن القرآن ينبئهم به، فأورد تعالى أولا بيانا لاثبات أصل الوحدانية والبعث بذكر شواهد من آياته تثبت ذلك وهو قوله: " نحن خلقناكم - إلى قوله - ومتاعا للمقوين "، وثانيا بيانا يؤكد فيه كون القرآن الكريم كلامه المحفوظ عنده النازل منه ووصفه بأحسن أوصافه.
[ 137 ]
فقوله: " إنه لقرآن كريم " جواب للقسم السابق، الضمير للقرآن المعلوم من السياق السابق ويستفاد من توصيفه بالكريم من غير تقييد في مقام المدح أنه كريم على الله عزيز عنده وكريم محمود الصفات وكريم بذال نفاع للناس لما فيه من اصول. المعارف التي فيها سعادة الدنيا والآخرة. وقوله: " في كتاب مكنون " وصف ثان للقرآن أي محفوظ مصون عن التغيير والتبديل، وهو اللوح المحفوظ كما قال تعالى: " بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ " البروج: 22. وقوله: " لا يمسه إلا المطهرون " صفة الكتاب المكنون ويمكن أن يكون وصفا ثالثا للقرآن ومآل الوجهين. على تقدير كون لا نافية واحد. والمعنى: لا يمس الكتاب المكنون الذي فيه القرآن إلا المطهرون أو لا يمس القرآن الذي في الكتاب إلا المطهرون. والكلام على أي حال مسوق لتعظيم أمر القرآن وتجليله فمسه هو العلم به وهو في
الكتاب المكنون كما يشير إليه قوله: " إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وأنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم " الزخرف: 4. والمطهرون - اسم مفعول من التطهير - هم الذين طهر الله تعالى نفوسهم من أرجاس المعاصي وقذارات الذنوب أو مما هو أعظم من ذلك وأدق وهو تطهير قلوبهم من التعلق بغيره تعالى، وهذا المعنى من التطهير هو المناسب للمس الذي هو العلم دون الطهارة من الخبث أو الحدث كما هو ظاهر. فالمطهرون هم الذين أكرمهم الله تعالى بتطهير نفوسهم كالملائكة الكرام والذين طهرهم الله من البسر، قال تعالى: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " الاحزاب: 33، ولا وجه لتخصيص المطهرين بالملائكة كما عن جلى المفسرين لكونه تقييدا من غير مقيد. وربما جعل " لا " في " لا يمسه " ناهية، والمراد بالمس على هذا مس كتابة القرآن، وبالطهارة الطاهرة من الحدث أو الحدث والخبث جميعا - وقرئ " المطهرون " بتشديد الطاء والهاء وكسر الهاء أي المتطهرون - ومدلول الآية تحريم مس كتابة القرآن على غير طهارة.
[ 138 ]
ويمكن حمل الآية على هذا المعنى على تقدير كون " لا " نافية بأن تكون الجملة إخبارا أريد به الانشاء وهو أبلغ من الانشاء. قال في الكشاف: وإن جعلتها يعني جملة " لا يمسه إلا المطهرون " صفة للقرآن فالمعنى: لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة من الناس يعني مس المكتوب منه، انتهى وقد عرفت صحة أن يراد بالمس العلم والاطلاع على تقدير كونها صفة للقرآن كما يصح على تقدير كونها صفة لكتاب مكنون. وقوله: " تنزيل من رب العالمين " وصف آخر للقرآن، والمصدر بمعنى اسم المفعول أي
منزل من عند الله اليكم تفتهمونه وتعقلونه بعد ما كان في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون. والتعبير عنه تعالى برب العالمين للاشارة إلى أن ربوبيته تعالى منبسطة على جميع العالمين وهم من جملتهم فهو تعالى ربهم وإذا كان ربهم كان عليهم أن يؤمنوا بكتابه ويصغوا لكلامه ويصدقوه من غير تكذيب. قوله تعالى: " أفبهذا الحديث أنتم مدهنون " الاشارة بهذا الحديث إلى القرآن، والادهان به التهاون به وأصله التليين بالدهن استعير للتهاون، والاستفهام للتوبيخ يوبخهم تعالى على عدهم أمر القرآن هينا لا يعتنى به. قوله تعالى: " وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون " قيل: المراد بالرزق حظهم من الخير، والمعنى: وتجعلون حظكم من الخير الذي لكم أن تنالوه بالقرآن أنكم تكذبون به أي تضعونه موضعه، وقيل: المراد بالرزق القرآن رزقهم الله إياه، والمعنى: تأخذون التكذيب مكان هذا الرزق الذي رزقتموه، وقيل الكلام بحذف مضاف والتقدير: وتجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون أي وضعتم التكذيب موضع الشكر. قوله تعالى: " فلولا إذا بلغت الحلقوم - إلى قوله صادقين " رجوع إلى أول الكلام بالتفريع على تكذيبهم بأنكم إن كنتم صادقين في نفيكم للبعث مصيبين في تكذيبهم لهذا القرآن الذي ينبؤكم بالبعث رددتم نفس المحتضر التي بلغت الحلقوم إذ لو لم يكن الموت بتقدير من الله كان من الامور الاتفاقية التي ربما أمكن الاحتيال لدفعها، فإذا لم تقدروا على رجوعها وإعادة الحياة معها فاعلموا أن الموت حق مقدر من الله لسوق النفوس إلى البعث والجزاء. فقوله: " فلولا إذا بلغت الحلقوم " تفريع على تكذيبهم بالقرآن وبما أخبر به من
[ 139 ]
البعث والجزاء، ولولا للتحضيض تعجيزا وتبكيتا لهم، وضمير " بلغت " للنفس، وبلوغ النفس الحلقوم كناية عن الاشراف التام للموت.
وقوله: " وأنتم حينئذ تنظرون " أي تنظرون إلى المحتضر أي هو بمنظر منكم. وقوله: " ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون " أي والحال أنا أقرب إليه منكم لاحاطتنا به وجودا ورسلنا القابضون لروحه أقرب إليه منكم ولكن لا تبصروننا ولا رسلنا. قال تعالى: " الله يتوفى الانفس حين موتها " الزمر: 26، وقال: " قل يتوفاكم " ملك الموت الذي وكل بكم " السجدة: 11، وقال: " حتى إذا جاء أحدهم الموت توفته رسلنا " الانعام: 61. وقوله: " فلولا إن كنتم غير مدينين " تكرار " لولا " لتأكيد " لولا " السابقة، و " مدينين " أي مجزيين من دان يدين بمعنى جزى يجزي، والمعنى: إن كنتم غير مجزيين ثوابا وعقابا بالبعث. وقوله: " ترجعونها إن كنتم صادقين " أي إن كنتم صادقين في دعواكم أن لا بعث ولا جزاء، وقوله: " ترجعونها " مدخول لولا التحضيضية بحسب التقدير وترتيب الآيات بحسب التقدير فلو لا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم مدينين. قوله تعالى: " فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم " رجوع إلى بيان حال الازواج الثلاثة المذكورة في أول السورة عند الموت وبعده وضمير " كان " للمتوفى المعلوم من السياق، والمراد بالمقربين السابقون المقربون المذكورون سابقا، والروح الراحة، والريحان الرزق، وقيل: هو الريحان المشموم من ريحان الجنة يؤتى به إليه فيشمه ويتوفى. والمعنى: فأما إن كان المتوفى من المقربين فله - أو فجزاؤه - راحة من كل هم وغم وألم ورزق من رزق الجنة وجنة نعيم. قوله تعالى: " وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين " يمكن أن يكون اللام للاختصاص الملكي ومعنى " سلام لك " أنك تختص بالسلام من أصحاب اليمين الذين هم قرناؤك ورفقاؤك فلا ترى منهم إلا خيرا وسلاما.
وقيل: لك بمعنى عليك أي يسلم عليك أصحاب اليمين، وقيل غير ذلك. والالتفات من الغيبة إلى الخطاب للدلالة على أنه يخاطب بهذا الخطاب: سلام لك من
[ 140 ]
أصحاب اليمين. قوله تعالى: " وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم " تصلية النار الادخال فيها، وقيل: مقاساة حرها وعذابها. والمعنى: وأما إن كان من أهل التكذيب والضلال فلهم نزل من ماء شديد الحرارة، ومقاساة حر نار جحيم. وقد وصفهم الله بالمكذبين الضالين فقدم التكذيب على الضلال لان ما يلقونه من العذاب تبعة تكذيبهم وعنادهم للحق ولو كان ضلالا بلا تكذيب وعناد كانوا مستضعفين غير نازلين هذه المنزلة، وأما قوله سابقا: " ثم إنكم أيها الضالون المكذبون " فإذ كان المقام هناك مقام الرد لقولهم: " ءإذا متنا وكنا ترابا وعظاما ءإنا لمبعوثون " الخ، كان الانسب توصيفهم أولا بالضلال ثم بالتكذيب. قوله تعالى: " إن هذا لهو حق اليقين " الحق هو العلم من حيث إن الخارج الواقع يطابقه، واليقين هو العلم الذي لا لبس فيه ولا ريب فإضافة الحق إلى اليقين نحو من الاضافة البيانية جئ بها للتأكيد. والمعنى: أن هذا الذي ذكرناه من حال أزواج الناس الثلاثة هو الحق الذي لا تردد فيه والعلم الذي لا شك يعتريه. قوله تعالى: " فسبح باسم ربك العظيم " تقدم تفسيره، وهو تفريع على ما تقدمه من صفة القرآن وبيان حال الازواج الثلاثة بعد الموت وفي الحشر. والمعنى: فإذا كان القرآن على هذه الصفات وصادقا فيما ينبئ به من حال الناس بعد الموت فنزه ربك العظيم مستعينا أو ملابسا باسمه وانف ما يراه ويدعيه هؤلاء
المكذبون الضالون. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: " ءأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون " وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يقولن أحدكم: زرعت، وليقل: حرثت. أقول: ورواه في الدر المنثور عن عدة من أصحاب الجوامع عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم.
[ 141 ]
وفي تفسير القمي: " ءأنتم أنزلتموه من المزن " قال: من السحاب " نحن جعلناها تذكرة " لنار يوم القيامة " ومتاعا للمقوين " قال: االمحتاجين. وفي المجمع في قوله تعالى: " فسبح باسم ربك العظيم ": فقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لما نزلت هذه الآية قال: اجعلوها في ركوعكم. أقول: ورواه في الفقيه مرسلا، ورواه في الدر المنثور عن الجهني عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الدر المنثور أخرج النسائي وابن جرير ومحمد بن نصر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن ابن عباس قال: أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة ثم فرق في السنين وفي لفظ ثم نزل من السماء الدنيا إلى الارض نجوما ثم قرأ فلا " أقسم بمواقع النجوم ". أقول: وظاهره تفسير مواقع النجوم بأوقات نزول نجوم القرآن. وفي تفسير القمي وقوله: " فلا اقسم بمواقع النجوم " قال: معناه اقسم بمواقع النجوم. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه بسند رواه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم " إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون " قال: عند الله في صحف مطهرة " لا يمسه إلا المطهرون " قال: المقربون. أقول: وتفسير المطهرين بالمقربين يؤيد ما أوردناه في البيان المتقدم، وقد أوردنا في ذيل قوله: " هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق " الآية الجاثية: 29، حديثا عن الصادق
عليه السلام في الكتاب المكنون. وفي المجمع في قوله تعالى: " لا يمسه إلا المطهرون " وقالوا: لا يجوز للجنب والحائض والمحدث مس المصحف عن محمد بن علي عليه السلام. أقول: المراد بمس المصحف مس كتابته بدليل الروايات الاخر. وفي الكافي بإسناده عن داود بن فرقد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن التعويذ يعلق على الحائض قال: نعم لا بأس. وقال: تقرؤه وتكتبه ولا تصيبه يدها. وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وابن أبي داود وابن المنذر عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه قال: في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: ولا تمس القرآن إلا عن طهور. أقول: والروايات فيه كثيرة من طرق الشيعة وأهل السنة. وفيه أخرج مسلم وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: مطر الناس على عهد
[ 142 ]
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا: هذه رحمة وضعها الله وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا فنزلت هذه الآية " فلا أقسم بمواقع النجوم " حتى بلغ " وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ". أقول: وقد استفاضت الرواية من طرق أهل السنة أن الآيات نزلت في الانواء وظاهرها أنها مدنية لكنها لا تلائم سياق آيات السورة كما عرفت. وفي المجمع وقراءة علي عليه السلام وابن عباس ورويت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وتجعلون شكركم. أقول: ورواه في الدر المنثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام. وفي تفسير القمي في قوله: " غير مدينين " قال: معناه فلو كنتم غير مجازين على أعمالكم " ترجعونها " يعني به الروح إذا بلغت الحلقوم تردونها في البدن " إن كنتم صادقين ". وفيه بإسناده عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: " فأما إن كان من المقربين فروح وريحان " في قبره " وجنة نعيم " في الآخرة.
وفي الدر المنثور أخرج القاسم بن مندة في كتاب الاحوال والايمان بالسؤال عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أول ما يبشر به المؤمن عند الوفاة بروح وريحان وجنة نعيم وإن أول ما يبشر به المؤمن في قبره أن يقال: أبشر برضا الله تعالى والجنة قدمت خير مقدم قد غفر الله لمن شيعك إلى قبرك، وصدق من شهد لك، واستجاب لمن استغفر لك. وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: فسلام لك من أصحاب اليمين " قال: تأتيه الملائكة بالسلام من قبل الله تسلم عليه وتخبره أنه من أصحاب اليمين. أقول: وما أورده من المعنى مبني على كون الآية حكاية خطاب الملائكة، والتقدير قالت الملائكة سلام لك حال كونك من أصحاب اليمين فهي سلام وبشارة. (سورة الحديد مدنية، وهي تسع وعشرون آية " بسم الله الرحمن الرحيم. سبح لله ما في السموات والارض
[ 143 ]
وهو العزيز الحكيم _ 1. له ملك السموات والارض يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير _ 2. هو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم _ 3. هو الذي خلق السموات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الارض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير _ 4. له ملك السموات والارض وإلى الله ترجع الامور _ 5. يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور _ 6. (بيان) غرض السورة حث المؤمنين وترغيبهم في الانفاق في سبيل الله كما يشعر به تأكيد
الامر به مرة بعد مرة في خلال آياتها " آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه " الآية، " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " الآية، " إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا " وقد سمت إنفاقهم ذلك إقراضا منه لله عز اسمه فالله سبحانه خير مطلوب وهو لا يخلف الميعاد وقد وعدهم إن أقرضوه أن يضاعفه لهم وأن يؤتيهم أجرا كريما كثيرا. وقد أشار إلى أن هذا الانفاق من التقوى والايمان بالرسول وأنه يستتبع مغفرة الذنوب وإتيان كفلين من الرحمة ولزوم النور بل واللحوق بالصديقين والشهداء عند الله سبحانه. وفي خلال آياتها معارف راجعة إلى المبدأ والمعاد، ودعوة إلى التقوى وإخلاص الايمان والزهد وموعظة. والسورة مدنية بشهادة سياق آياتها وقد ادعى بعضهم إجماع المفسرين على ذلك.
[ 144 ]
ولقد افتتحت السورة بتسبيحه وتنزيهه تعالى بعدة من أسمائه الحسنى لما في غرض السورة وهو الحث على الانفاق من شائبة توهم الحاجة والنقص في ناحيته ونظيرتها في ذلك جميع السور المفتتحة بالتسبيح وهي سور الحشر والصف والجمعة والتغابن المصدرة بسبح أو يسبح. قوله تعالى: " سبح لله ما في السماوات والارض وهو العزيز الحكيم " التسبيح التنزيه وهو نفي ما يستدعي نقصا أو حاجة مما لا يليق بساحة كماله تعالى، و " ما " موصولة والمراد بها ما يعم العقلاء مما في السماوات والارض كالملائكة والثقلين وغير العقلاء كالجمادات والدليل عليه ما ذكر بعد من صفاته المتعلقة بالعقلاء كالاحياء والعلم بذات الصدور. فالمعنى: نزه الله سبحانه ما في السماوات والارض من شئ وهو جميع العالم. والمراد بتسبيحها حقيقة معنى التسبيح دون المعنى المجازي الذي هو دلالة وجود كل موجود في السماوات والارض على أن له موجدا منزها من كل نقص متصفا بكل كمال،
ودون عموم المجاز وهو دلالة كل موجود على تنزهه تعالى إما بلسان القال كالعقلاء وإما بلسان الحال كغير العقلاء من الموجودات وذلك لقوله تعالى: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " أسرى: 44، حيث استدرك أنهم لا يفقهون تسبيحهم ولو كان المراد بتسبيحهم دلالة وجودهم على وجوده وهي قيام الحجة على الناس بوجودهم أو كان المراد تسبيحهم وتحميدهم بلسان الحال وذلك مما يفقه الناس لم يكن للاستدراك معنى. فتسبيح ما في السماوات والارض تسبيح ونطق بالتنزيه بحقيقة معنى الكلمة وإن كنا لا نفقهه، قال تعالى: " قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ " حم السجدة: 21. وقوله: " وهو العزيز الحكيم " أي المنيع جانبه يغلب ولا يغلب، المتقن فعله لا يعرض على فعله ما يفسده عليه ولا يتعلق به اعتراض معترض. قوله تعالى: " له ملك السماوات والارض يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير " الكلام موضوع على الحصر فهو المليك في السماوات والارض يحكم ما يشاء لانه الموجد لكل شئ فما في السماوات والارض يقوم به وجوده وآثار وجوده فلا حكم إلا له فلا ملك ولا سلطنة إلا له. وقوله: " يحيي ويميت " إشارة إلى اسميه المحيي والمميت، وإطلاق " يحيي ويميت " يفيد شمولهما لكل إحياء وإماتة كإيجاده الملائكة أحياء من غير سبق موت، وإحيائه
[ 145 ]
الجنين في بطن أمه وإحيائه الموتى في البعث وإيجاده الجماد ميتا من غير سبق حياة وإماتته الانسان في الدنيا وإماتته ثانيا في البرزخ على ما يشير إليه قوله: " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " المؤمن: 11، وفي " يحيي ويميت " دلالة على الاستمرار. وقوله: " وهو على كل شئ قدير " فيه إشارة إلى صفة قدرته وأنها مطلقة غير مقيدة بشئ دون شئ، وفي تذييل الآية بالقدرة على كل شئ مناسبة مع ما تقدمها من الاحياء والاماتة لما ربما يتوهمه المتوهم أن لا قدرة على إحياء الموتى ولا عين منهم ولا أثر.
قوله تعالى: " هو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم " لما كان تعالى قديرا على كل شئ مفروض كان محيطا بقدرته على كل شئ من كل جهة فكل ما فرض أولا فهو قبله فهو الاول دون الشئ المفروض أولا، وكل ما فرض آخرا فهو بعده لاحاطة قدرته به من كل جهة فهو الآخر دون الشئ المفروض آخرا، وكل شئ فرض ظاهرا فهو أظهر منه لاحاطة قدرته به من فوقه فهو الظاهر دون المفروض ظاهرا، وكل شئ فرض أنه باطن فهو تعالى أبطن منه لاحاطته به من ورائه فهو الباطن دون المفروض باطنا فهو تعالى الاول والآخر والظاهر والباطن على الاطلاق وما في غيره تعالى من هذه الصفات فهي إضافية نسبية. وليست أوليته تعالى ولا آخريته ولا ظهوره ولا بطونه زمانية ولا مكانية بمعنى مظروفيته لهما وإلا لم يتقدمهما ولا تنزه عنهما سبحانه بل هو محيط بالاشياء على أي نحو فرضت وكيفما تصورت. فبان مما تقدم أن هذه الاسماء الاربعة الاول والآخر والظاهر والباطن من فروع اسمه المحيط وهو فرع إطلاق القدرة فقدرته محيطة بكل شئ ويمكن تفريع الاسماء الاربعة على إحاطة وجوده بكل شئ فإنه تعالى ثابت قبل ثبوت كل شئ وثابت بعد فناء كل شئ وأقرب من كل شئ ظاهر وأبطن من الاوهام والعقول من كل شئ خفي باطن. وكذا للاسماء الاربعة نوع تفرع على علمه تعالى ويناسبه تذييل الآية بقوله: " وهو بكل شئ عليم ". وفسر بعضهم الاسماء الاربعة بأنه الاول قبل كل شئ والآخر بعد هلاك كل شئ الظاهر بالادلة الدالة عليه والباطن غير مدرك بالحواس.
[ 146 ]
قيل: الاول قبل كل شئ بلا ابتداء، والآخر بعد كل شئ بلا انتهاء، والظاهر الغالب العالي على كل شئ فكل شئ دونه، والباطن العالم بكل شئ فلا أحد أعلم منه.
وقيل: الاول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء والظاهر بلا اقتراب والباطن بلا احتجاب. وهناك أقوال أخر في معناها غير جيدة أغمضنا عن إيرادها. قوله تعالى: " هو الذي خلق السماوات والارض في ستة أيام " تقدم تفسيره. قوله تعالى: " ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الارض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها " تقدم تفصيل القول في معنى العرش في سورة الاعراف آية: 54. وتقدم أن الاستواء على العرش كناية عن الاخذ في تدبير الملك ولذا عقبه بالعلم بجزئيات الاحوال لان العلم من لوازم التدبير. وقوله: " يعلم ما يلج في الارض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها " الولوج - كما قال الراغب - الدخول في مضيق، والعروج ذهاب في صعود، والمعنى: يعلم ما يدخل وينفذ في الارض كماء المطر والبذور وغيرهما وما يخرج من الارض كأنواع النبات والحيوان والماء وما ينزل من السماء كالامطار والاشعة والملائكة وما يعرج فيها ويصعد كالابخرة والملائكة وأعمال العباد. قوله تعالى: " وهو معكم أينما كنتم " لاحاطته بكم فلا تغيبون عنه أينما كنتم وفي أي زمان عشتم وفي أي حال فرضتم فذكر عموم الامكنة " أينما كنتم " لان الاعرف في مفارقة شئ شيئا وغيبته عنه أن يتوسل إلى ذلك بتغيير المكان وإلا فنسبته تعالى إلى الامكنة والازمنة والاحوال سواء. وقيل: المعية مجاز مرسل عن الاحاطة العلمية. قوله تعالى: " والله بما تعملون بصير " كالفرع المترتب على ما قبله من كونه معهم أينما كانوا وكونه بكل شئ عليما فإن لازم حضوره عندهم من دون مفارقة ما واحتجاب وهو عليم أن يكون بصيرا بأعمالهم يبصر ظاهر عملهم، وما في باطنهم من نية وقصد. قوله تعالى: " له ملك السماوات والارض وإلى الله ترجع الامور " كرر قوله: " له ملك " الخ، لابتناء رجوع الاشياء إليه على عموم الملك فصرح به ليفيد الابتناء، قال
تعالى: " يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " المؤمن: 16.
[ 147 ]
وقوله: " وإلى الله ترجع الامور " الامور جمع محلى باللام يفيد العموم كقوله: " ألا إلى الله تصير الامور " الشورى: 53، فما من شئ إلا ويرجع إلى الله، ولا راد إليه تعالى إلا هو لاختصاص الملك به فله الامر وله الحكم. وفي الآية وضع الظاهر موضع الضمير في " إلى الله " وكذا في الآية السابقة " والله بما تعملون بصير " ولعل الوجه في ذلك أن تقرع الجملتان قلوبهم كما يقرع المثل السائر لما سيجئ من ذكر يوم القيامة وجزيل أجر المنفقين في سبيل الله فيه. قوله تعالى: " يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور " إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل اختلاف الليل والنهار في الطول والقصر باختلاف فصول السنة في كل من البقاع الشمالية والجنوبية بعكس الاخرى، وقد تقدم في كلامه تعالى غير مرة. والمراد بذات الصدور الافكار المضمرة والنيات المكنونة التي تصاحب الصدور وتلازمها لما أنها تنسب إلى القلوب والقلوب في الصدور، والجملة أعني قوله: " وهو عليم بذات الصدور " بيان لاحاطة علمه بما في الصدور بعد بيان إحاطة بصره بظواهر أعمالهم بقوله: " والله بما تعملون بصير ". (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن عرباض بن سارية أن رسول لله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد، وقال: إن فيهن آية أفضل من ألف آية. أقول: ورواه أيضا عن ابن الضريس عن يحيى بن أبي كثير عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الكافي بإسناده عن عاصم بن حميد قال: سئل علي بن الحسين عليه السلام عن التوحيد فقال: إن الله عز وجل علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون فأنزل الله تعالى: " قل هو الله أحد " والآيات من سورة الحديد إلى قوله: " عليم بذات الصدور " فمن رام وراء ذلك فقد هلك. وفي تفسير القمي: " سبح لله ما في السماوات والارض وهو العزيز الحكيم " قال: هو
[ 148 ]
قوله: أوتيت جوامع الكلم، وقوله: " هو الاول " قال: أي قبل كل شئ، والآخر " قال: يبقى بعد كل شئ، " وهو عليم بذات الصدور " قال: بالضمائر. وفي الكافي وروي أنه يعني عليا عليه السلام سئل أين كان ربنا قبل أن يخلق سماء وأرضا ؟ قال: أين سؤال عن مكان وكان الله ولا مكان. وفي لتوحيد خطبة للحسن بن علي عليه السلام وفيها: الحمد لله الذي لم يكن فيه أول معلوم، ولا آخر متناه، ولا قبل مدرك، ولا بعد محدود، فلا تدرك العقول وأوهامها ولا الفكر وخطراتها ولا الالباب وأذهانها صفته فتقول: متى ولا بدئ مما، ولا ظاهر على ما، ولا باطن فيما. أقول: وقوله أول معلوم الخ، أوصاف توضيحيه أي ليس له أول ولو كان له أول كان من الجائز أن يتعلق به علم ولا آخر ولو كان له آخر كان متناهيا، ولا قبل ولو كان لكان جائز الادراك ولا بعد وإلا لكان محدودا. وقوله: ولا بدئ مما أي لم يبتدأ من شئ حتى يكون له أول ولا ظاهر على ما أي يتفوق على شئ بالوقوع والاستقرار عليه كالجسم على الجسم " ولا باطن فيما " أي لم يتبطن في شئ بالدخول فيه والاستتار به. وفي نهج البلاغة: وكل ظاهر غيره غير باطن، وكل باطن غيره غير ظاهر. أقول: معناه أن حيثية الظهور في غيره تعالى غير حيثية البطون وبالعكس، وأما
هو تعالى فلما كان أحدي الذات لا تنقسم ولا تتجزى إلى جهة وجهة كان ظاهرا من حيث هو باطن وباطنا من حيث هو ظاهر فهو باطن خفي من كمال ظهوره وظاهر جلي من كمال بطونه. وفيه: الحمد لله الاول فلا شئ قبله، والآخر فلا شئ بعده، والظاهر فلا شئ فوقه، والباطن فلا شئ دونه. أقول: المراد بالقبلية والبعدية ليس هو القبليه والبعدية الزمانية بأن يفرض هناك امتداد زماني غير متناهي الطرفين وقد حل العالم قطعة منه خاليا عنه طرفاه ويكون وجوده تعالى وتقدس منطبقا على الزمان كله غير خال عنه شئ من جانبيه وإن ذهبا إلى غير النهاية فيتقدم وجوده تعالى على العالم زمانا ويتأخر عنه زمانا ولو كان كذلك لكان تعالى متغيرا في ذاته وأحواله بتغير الازمنة المتجددة عليه، وكان قبليته
[ 149 ]
وبعديته بتبع الزمان وكان الزمان هو الاول والآخر بالاصالة. وكذلك ليست ظاهريته وباطنيته بحسب المكان بنظير البيان بل هو تعالى سابق بنفس ذاته المتعالية على كل شئ مفروض وآخر بنفس ذاته عن كل أمر مفروض أنه آخر، وظاهر، وباطن كذلك، والزمان مخلوق له متأخر عنه. وفي الدر المنثور أخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عمر وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال الناس يسألون عن كل شئ حتى يقولوا: هذا الله كان قبل كل شئ فماذا كان قبل الله فإن قالوا لكم ذلك فقولوا: هو الاول قبل كل شئ وهو الآخر فليس بعده شئ وهو الظاهر فوق كل شئ وهو الباطن دون كل شئ وهو بكل شئ عليم. وفي التوحيد بإسناده إلى أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لم يزل الله عز وجل ربنا والعلم ذاته ولا معلوم فلما أحدث الاشياء وقع العلم منه على المعلوم. أقول: ليس المراد بهذا العلم الصور الذهنية فيكون تعالى كباني دار يتصور للدار
صورة وهيئة قبل بنائها ثم يبنيها على ما تصور فتنطبق الصورة الذهنية على البناء الخارجي ثم تنهدم الدار والصورة الذهنية على حالها، وهذا هو المسمى بالعلم الكلي وهو مستحيل عليه تعالى بل ذاته تعالى عين العلم بمعلومه ثم المعلوم إذا تحقق في الخارج كان ذات المعلوم عين علمه تعالى به، ويسمى الاول العلم الذاتي والثاني العلم الفعلي. وفيه خطبة لعلي عليه السلام وفيها: وعلمها لا بأداة لا يكون العلم إلا بها، وليس بينه وبين معلومه علم غيره. أقول: المراد به أن ذاته تعالى عين علمه، وليست هناك صورة زائدة. آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير _ 7. وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين _ 8. هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من
[ 150 ]
الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤف رحيم _ 9. وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والارض لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير _ 10. من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم _ 11. يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم _ 12. يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره
من قبله العذاب _ 13. ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الاماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور _ 14. فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير _ 15.
[ 151 ]
(بيان) أمر مؤكد بالانفاق في سبيل الله وخاصة الجهاد على ما يؤيده قوله: " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل " الآية، ويتأيد بذلك ما قيل: إن قوله: " آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا " الخ، نزل في غزوة تبوك. قوله تعالى: " آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه " الخ، المستفاد من سياق الآيات أن الخطاب في الآية للمؤمنين بالله ورسوله لا للكفار ولا للمؤمنين والكفار جميعا كما قيل، وأمر الذين تلبسوا بالايمان بالله ورسوله بالايمان معناه الامر بتحقيق الايمان بترتيب آثاره عليه إذ لو كانت صفة من الصفات كالسخاء والعفة والشجاعة ثابتة في نفس الانسان حق ثبوتها لم يتخلف عنها أثرها الخاص ومن آثار الايمان بالله ورسوله الطاعة فيما أمر الله ورسوله به. ومن هنا يظهر أولا: أن أمر المؤمن بالايمان في الحقيقة أمر للمتحقق بمرتبة من الايمان أن يتلبس بمرتبة هي أعلى منها، وهذا النوع من الامر فيه إيماء إلى أن الذي عند المأمور من المأمور به لا يرضي الآمر كل الارضاء. وثانيا: أن قوله: " آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا " أمر بالانفاق مع التلويح إلى أنه أثر صفة هم متلبسون بها فعليهم أن ينفقوا لما اتصفوا بها فيؤل إلى تعليل الانفاق بإيمانهم. وقوله: " وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه " استخلاف الانسان جعله خليفة، والمراد
به إما خلافتهم عن الله سبحانه يخلفونه في الارض كما يشير إليه قوله: " إني جاعل في الارض خليفة " البقرة: 30، والتعبير عما بأيديهم من المال بهذا التعبير لبيان الواقع ولترغيبهم في الانفاق فإنهم إذا أيقنوا أن المال لله وهم مستخلفون عليه وكلاء من ناحيته يتصرفون فيه كما أذن لهم سهل عليهم إنفاقه ولم تتحرج نفوسهم من ذلك. وإما خلافتهم عمن سبقهم من الاجيال كما يخلف كل جيل سابقه، وفي التعبير به أيضا ترغيب في الانفاق فإنهم إذا تذكروا أن هذا المال كان لغيرهم فلم يدم عليهم علموا أنه كذلك لا يدوم لهم وسيتركونه لغيرهم وهان عليهم إنفاقه وسخت بذلك نفوسهم. وقوله: " فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير " وعد للاجر على الانفاق تأكيدا للترغيب، والمراد بالايمان الايمان بالله ورسوله.
[ 152 ]
قوله تعالى: " وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم " الخ، المراد بالايمان الايمان بحيث يترتب عليه آثاره ومنها الانفاق في سبيل الله - وإن شئت فقل: المراد ترتيب آثار ما عندهم من الايمان عليه -. وقوله: " والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم " عبر الرب بالرب وأضافه إليهم تلويحا إلى علة توجه الدعوة والامر كأنه قيل: يدعوكم لتؤمنوا بالله لانه ربكم يجب عليكم أن تؤمنوا به. وقوله: " وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين " تأكيد للتوبيخ المفهوم من أول الآية، وضمير " أخذ " لله سبحانه أو للرسول وعلى أي حال المراد بالميثاق المأخوذ هو الذي تدل عليه شهادتهم على وحدانية الله ورسالة رسوله يوم آمنوا به صلى الله عليه وآله وسلم من أنهم على السمع والطاعة. وقيل: المراد بالميثاق هو الميثاق المأخوذ منهم في الذر، وعلى هذا فضمير " أخذ " لله سبحانه، وفيه أنه بعيد عن سياق الاحتجاج عليهم فإنهم غافلون عنه، على أن أخذ
الميثاق في الذر لا يختص بالمؤمنين بل يعم المنافقين والكفار. قوله تعالى: " هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور " الخ، المراد بالآيات البينات آيات القرآن الكريم المبينة لهم ما عليهم من فرائض الدين، وفاعل " ليخرجكم " الضمير العائد إلى الله أو إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ومرجع الثاني أيضا هو الاول فالميثاق ميثاقه وقد أخذه بواسطة رسوله أو بغير واسطته كما أن الايمان به وبرسوله إيمان به ولذلك قال في صدر الآية: " وما لكم لا تؤمنون بالله " فذكر نفسه ولم يذكر رسوله إشارة إلى أن الايمان برسوله إيمان به. وقوله: " وإن الله بكم لرؤف رحيم " في تذييل الآية برأفته تعالى ورحمته إشارة إلى أن الايمان الذي يدعوهم إليه رسوله خير لهم وأصلح وهم الذين ينتفعون به دون الله ورسوله، ففيه تأكيد ترغيبهم على الايمان والانفاق. قوله تعالى: " وما لكم أن لا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والارض " الميراث والتراث المال الذي ينتقل من الميت إلى من بقي بعده من وراثه، وإضافة الميراث إلى السماوات والارض بيانية فالسماوات والارض هي الميراث بما فيهما من الاشياء التي خلق منهما مما يمتلكه ذووا الشعور من سكنتهما فالسماوات والارض شاملة لما فيهما مما خلق منهما
[ 153 ]
ويتصرف فيها ذووا الشعور كالانسان مثلا بتخصيص ما يتصرفون فيه لانفسهم وهو الملك الاعتباري الذي هداهم الله سبحانه إلى اعتباره فيما بينهم لينتظم بذلك جهات حياتهم الدنيا. غير أنهم لا يبقون ولا يبقى لهم بل يذهبهم الموت المقدر بينهم فينتقل ما في أيديهم إلى من بعدهم وهكذا حتى يفنى الجميع ولا يبقى إلا هو سبحانه. فالارض مثلا وما فيها وعليها من مال ميراث من جهة أن كل جيل من سكانها يرثها ممن قبله فكانت ميراثا دائما دائرا بينهم خلفا عن سلف، وميراث من جهة أنهم سيفنون جميعا ولا يبقى لها إلا الله الذي استخلفهم عليها.
ولله سبحانه ميراث السماوات والارض بكلا المعنيين، أما الاول: فلانه الذي يملكهم المال وهو المالك لما ملكهم، قال تعالى: " لله ما في السماوات والارض " لقمان: 26، وقال: " ولله ملك السماوات والارض " النور: 42، وقال: " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " النور: 33. وأما الثاني: فظاهر آيات القيامة كقوله تعالى: " كل من عليها فان " الرحمن: 26 وغيره، والذي يسبق إلى الذهن أن المراد بكونهما ميراثا هو المعنى الثاني. وكيف كان ففي الآية توبيخ شديد لهم على عدم إنفاقهم في سبيل الله من المال الذي لا يرثه بالحقيقة إلا هو تعالى ولا يبقى لهم ولا لغيرهم، والاظهار في موضع الاضمار في قوله: " ولله " لتشديد التوبيخ. قوله تعالى: " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا " الخ، الاستواء بمعنى التساوي، وقسيم قوله: " من أنفق من قبل الفتح وقاتل " محذوف إيجازا لدلالة قوله: " أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا " عليه. والمراد بالفتح - كما قيل - فتح مكة أو فتح الحديبية وعطف القتال على الانفاق لا يخلو من إشعار بل دلالة على أن المراد بالانفاق في سبيل الله المندوب إليه في الآيات هو الانفاق في الجهاد. وكان الآية مسوقة لبيان أن الانفاق في سبيل الله كلما عجل إليها كان أحب عند الله وأعظم درجة ومنزلة وإلا فظاهر أن هذه الآيات نزلت بعد الفتح والقتال الذي بادروا إليه قبل الفتح وبعض المقاتل التي بعده.
[ 154 ]
وقوله: " وكلا وعد الله الحسنى " أي وعد الله المثوبة الحسنى كل من أنفق وقاتل قبل الفتح أو أنفق وقاتل بعده وإن كانت الطائفة الاولى أعظم درجة من الثانية، وفيه
تطييب لقلوب المتأخرين إنفاقا وقتالا أن لهم نيلا من رحمته وليسوا بمحرومين مطلقا فلا موجب لان ييأسوا منها وإن تأخروا. وقوله: " والله بما تعملون خبير " تذييل متعلق بجميع ما تقدم ففيه تشديد للتوبيخ وتقرير وتثبيت لقوله: " لا يستوي منكم " الخ، ولقوله: " وكلا وعد الله الحسنى " ويمكن أن يتعلق بالجملة الاخيرة لكن تعلقه بالجميع أعم وأشمل. قوله تعالى: " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم " قال الراغب: وسمي ما يدفع إلى الانسان من المال بشرط رد بدله قرضا. انتهى، وقال في المجمع: وأصله القطع فهو قطعه عن مالكه بإذنه على ضمان رد مثله. قال: والمضاعفة الزيادة على المقدار مثله أو أمثاله. انتهى، وقال الراغب: الاجر والاجرة ما يعود من ثواب العمل دنيويا كان أو أخرويا قال: " ولا يقال إلا في النفع دون الضر بخلاف الجزاء فإنه يقال في النفع والضر. انتهى ملخصا. وما يعطيه تعالى من الثواب على عمل العبد تفضل منه من غير استحقاق من العبد فإن العبد وما يأتيه من عمل ملك طلق له سبحانه ملكا لا يقبل النقل والانتقال غير أنه اعتبر اعتبارا تشريعيا العبد مالكا وملكه عمله، وهو المالك لما ملكه وهو تفضل آخر ثم اختار ما أحبه من عمله فوعده ثوابا على عمله وسماه أجرا وجزاء وهو تفضل آخر، ولا ينتفع به في الدنيا والآخرة إلا العبد قال تعالى: " للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم " آل عمران: 172، وقال: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون " حم السجدة: 8، وقال بعد وصف الجنة ونعيمها: " إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا " الانسان: 22، وما وعده من الشكر وعدم المن عند إيتاء الثواب تمام التفضل. وفي الآية حث بليغ على ما ندب إليه من الانفاق في سبيل الله حيث استفهم عن الذي ينفق منهم في سبيل الله ومثل إنفاقه بأنه قرض يقرضه الله سبحانه وعليه أن يرده ثم
قطع أنه لا يرد مثله إليه بل يضاعفه ولم يكتف بذلك بل أضاف إليه أجرا كريما في الآخرة والاجر الكريم هو المرضي في نوعه والاجر الاخروي كذلك لانه غاية ما يتصور
[ 155 ]
من النعمة عند غاية ما يتصور من الحاجة. قوله تعالى: " يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم " الخ، اليوم ظرف لقوله: " له أجر كريم " والمراد به يوم القيامة والخطاب في " ترى " للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل سامع يصح خطابه، والظاهر أن الباء في " بأيمانهم " بمعنى في. والمعنى: لمن أقرض الله قرضا حسنا أجر كريم يوم ترى أنت يا رسول الله - أو كل من يصح منه الرؤية - المؤمنين بالله ورسوله والمؤمنات يسعى نورهم أمامهم وفي أيمانهم واليمين هو الجهة التي منها سعادتهم. والآية مطلقة تشمل مؤمني جميع الامم ولا تختص بهذه الامة، والتعبير عن إشراق النور بالسعي يشعر بأنهم ساعون إلى درجات الجنة التي أعدها الله سبحانه لهم وتستنير لهم جهات السعادة ومقامات القرب واحدة بعد واحدة حتى يتم لهم نورهم كما قال تعالى: " وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا " الزمر: 73، وقال: " يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا " مريم: 85، وقال: " يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا " التحريم: 8. وللمفسرين في تفسير مفردات الآية أقوال مختلفة أغمضنا عنها لعدم دليل من لفظ الآية عليها، وسيوافيك ما في الروايات المأثورة في البحث الروائي الآتي إن شاء الله. وقوله: " بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها " حكاية ما يقال للمؤمنين والمؤمنات يوم القيامة، والقائل الملائكة بأمر من الله والتقدير يقال لهم: " بشراكم " الخ، والمراد بالبشرى ما يبشر به وهو الجنة والباقي ظاهر. وقوله: " ذلك هو الفوز العظيم " كلام الله سبحانه والاشارة إلى ما ذكر من سعي
النور والبشرى أو من تمام قول الملائكة والاشارة إلى الجنات والخلود فيها. قوله تعالى: " يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم " إلى آخر الآية، النظر إذا تعدى بنفسه أفاد معنى الانتظار والامهال، وإذا عدي بإلى نحو نظر إليه كان بمعنى إلقاء البصر نحو الشئ وإذا عدي بفي كان بمعنى التأمل، والاقتباس أخذ قبس من النار. والسياق يفيد أنهم اليوم في ظلمة أحاطت بهم سرادقها وقد ألجئوا إلى المسير نحو دارهم التي يخلدون فيها غير أن المؤمنين والمؤمنات يسيرون بنورهم الذي يسعى بين
[ 156 ]
أيديهم وبأيمانهم فيبصرون الطريق ويهتدون إلى مقاماتهم، وأما المنافقون والمنافقات فهم مغشيون بالظلمة لا يهتدون سبيلا وهم مع المؤمنين كما كانوا في الدنيا معهم ومعدودين منهم فيسبق المؤمنون والمؤمنات إلى الجنة ويتأخر عنهم المنافقون والمنافقات في ظلمة تغشاهم فيسألون المؤمنين والمؤمنات أن ينتظروهم حتى يلحقوا بهم ويأخذوا قبسا من نورهم ليستضيئوا به في طريقهم. وقوله: " قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا " القائل به إما الملائكة أو قوم من كمل المؤمنين كأصحاب الاعراف. وكيف كان فهو من الله وبإذنه، والخطاب بقوله: " ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا " قيل: إنه خطاب مبني على التهكم والاستهزاء كما كانوا يستهزؤون في الدنيا بالمؤمنين، والاظهر على هذا أن يكون المراد بالوراء الدنيا، ومحصل المعنى: ارجعوا إلى الدنيا التي تركتموها وراء ظهوركم وعملتم فيها ما عملتم على النفاق، والتمسوا من تلك الاعمال نورا فإنما النور نور الاعمال أو الايمان ولا إيمان لكم ولا عمل. ويمكن أن يجعل هذا وجها على حياله من غير معنى الاستهزاء بأن يكون قوله: " ارجعوا " أمرا بالرجوع إلى الدنيا واكتساب النور بالايمان والعمل الصالح وليسوا
براجعين ولا يستطيعون فيكون الامر بالرجوع كالامر بالسجود المذكور في قوله تعالى: " يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون " القلم: 43. وقيل: المراد ارجعوا إلى المكان الذي قسم فيه النور والتمسوا من هناك فيرجعون فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم بسور، وهذا خدعة منه تعالى يخدعهم بها كما كانوا في الدنيا يخادعونه كما قال: " إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم " النساء: 142. قوله تعالى: " فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " سور المدينة حائطها الحاجز بينها وبين الخارج منها، والضمير في " فضرب بينهم بسور " راجع إلى المؤمنين والمنافقين جميعا أي ضرب بين المؤمنين وبين المنافقين بسور حاجز يحجز إحدى الطائفتين عن الاخرى. قيل: السور هو الاعراف وهو غير بعيد وقد تقدمت إشارة إليه في تفسير قوله
[ 157 ]
تعالى: " وبينهما حجاب وعلى الاعراف رجال " الآية الاعراف: 46، وقيل: السور غير الاعراف. وقوله: " له باب " أي للسور باب وهذا يشبه حال المنافقين في الدنيا فقد كانوا فيها بين المؤمنين لهم اتصال بهم وارتباط وهم مع ذلك محجوبون عنهم بحجاب. على أنهم يرون أهل الجنة ويزيد بذلك حسرتهم وندامتهم. وقوله: " باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " " باطنه " مبتدأ وجملة " فيه الرحمة " مبتدأ وخبر وهي خبر " باطنه " وكذا " ظاهره " مبتدأ وجملة " من قبله العذاب " مبتدأ وخبر هي خبره، وضميرا " فيه ومن قبله " للباطن والظاهر. ويظهر من كون باطن السورة فيه رحمة وظاهره من قبله العذاب أن السور محيط
بالمؤمنين وهم في داخله والمنافقون في الخارج منه. وفي اشتمال داخله الذي يلي المؤمنين على الرحمة وظاهره الذي يلي المنافقين على العذاب مناسبة لحال الايمان في الدنيا فإنه نعمة لاهل الاخلاص من المؤمنين يبتهجون بها ويلتذون وعذاب لاهل النفاق يتحرجون من التلبس به ويتألمون منه. قوله تعالى: " ينادونهم ألم نكن معكم " إلى آخر الآية استئناف في معنى جواب السؤال كأنه قيل: فماذا يفعل المنافقون والمنافقات بعد ضرب السور ومشاهدة العذاب من ظاهره ؟ فقيل: ينادونهم الخ. والمعنى: ينادي المنافقون والمنافقات المؤمنين والمؤمنات بقولهم: " ألم نكن معكم " يريدون به كونهم في الدنيا مع المؤمنين والمؤمنات في ظاهر الدين. وقوله: " قالوا بلى " إلى آخر الآية جواب المؤمنين والمؤمنات لهم والمعنى: " قالوا " أي قال المؤمنون والمؤمنات جوابا لهم " بلى " كنتم في الدنيا معنا " وكنكم فتنتم " أي محنتم وأهلكتم " أنفسكم وتربصتم " الدوائر بالدين وأهله " وارتبتم " وشككتم في دينكم " وغرتكم الاماني " ومنها أمنيتكم أن الدين سيطفأ نوره ويتركه أهله " حتى جاء أمر الله " وهو الموت " وغركم بالله الغرور " بفتح الغين وهو الشيطان. والآية - كما ترى - تفيد أن المنافقين والمنافقات يستنصرون المؤمنين والمؤمنات على ما هم فيه من الظلمة متوسلين بأنهم كانوا معهم في الدنيا ثم تفيد أن المؤمنين والمؤمنات يجيبون بأنهم كانوا معهم لكن قلوبهم كانت لا توافق ظاهر حالهم حيث يفتنون أنفسهم
[ 158 ]
ويتربصون ويرتابون وتغرهم الاماني ويغرهم بالله الغرور، وهذه الصفات الخبيثة آفات القلوب فكانت القلوب غير سليمة ولا ينفع يوم القيامة إلا القلب السليم قال تعالى: " يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم " الشعراء: 89. قوله تعالى: " فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا " تتمة كلام المؤمنين
والمؤمنات يخاطبون به المنافقين والمنافقات ويضيفون إليهم الكفار وهم المعلنون لكفرهم أنهم رهناء أعمالهم كما قال تعالى: " كل نفس بما كسبت رهينة " المدثر: 38، لا يؤخذ منهم فدية يخلصون بها أنفسهم والفدية أحد الامرين الذين بهما التخلص من الرهانة والآخر ناصر ينصر فينجي وقد نفوه بقولهم: " مأواكم النار " الخ. فقوله: " مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير " ينفي أي ناصر ينصرهم وينجيهم من النار غير النار على ما يفيده قوله: " هي مولاكم " من الحصر، والمولى هوالناصر والجملة مسوقة للتهكم. ويمكن أن يكون المولى بمعنى من يلي الامر فإنهم كانوا يدعون لحوائجهم من المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمسكن غير الله سبحانه وحقيقته النار فاليوم مولاهم النار وهي التي تعد لهم ذلك فمأكلهم من الزقوم ومشربهم من الحميم وملبسهم من ثياب قطعت من النار وقرناؤهم الشياطين ومأواهم النار على ما أخبر الله سبحانه به في آيات كثيرة من كلامه. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبيه حتى إذا كان بعسفان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم قلنا: من هم يا رسول الله أقريش ؟ قال: لا ولكنهم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا. قلنا: أهم خير منا يا رسول الله ؟ قال: لو كان لاحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه إلا إن هذا فصل ما بيننا وبين الناس " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل " الآية.
[ 159 ]
أقول: روي هذا المعنى بغير واحد من الطرق بألفاظ متقاربة وهي مشتملة على الآية
ويشكل بأن ظاهر سياق الآيات أنها نزلت بعد الفتح والمراد به إما الحديبية أو فتح مكة فلا تنطبق على ما قبل الفتح. وفيه أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال: لما نزلت هذه الآية " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل " قال أبو الدحداح: والله لانفقن اليوم نفقة أدرك بها من قبلي ولا يسبقني بها أحد بعدي فقال: اللهم كل شئ يملكه أبو الدحداح فإن نصفه لله حتى بلغ فرد نعله ثم قال: وهذا. وفي تفسير القمي في قوله: " يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم " قال: يقسم النور بين الناس يوم القيامة على قدر أيمانهم يقسم للمنافق فيكون نوره بين إبهام رجله اليسرى فينظر نوره ثم يقول للمؤمنين: مكانكم حتى أقتبس من نوركم فيقول المؤمنون لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ويضرب بينهم بسور له باب فينادون من وراء السور للمؤمنين: " ألم نكن معكم قالوا: بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم " قال: بالمعاصي " وتربصتم وارتبتم " قال: أي شككتم وتربصتم. وقوله: " فاليوم لا يؤخذ منكم فدية " قال: والله ما عنى بذلك اليهود والنصارى وما عنى به إلا أهل القبلة ثم قال: " مأواكم النار هي مولاكم " قال: هي أولى بكم. أقول: يعني بأهل القبلة المنافقين منهم. وفي الكافي بإسناده عن أبان بن تغلب قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: تجنبوا المنى فإنها تذهب بهجة ما خولتم وتستصغرون بها مواهب الله عز وجل عندكم وتعقبكم الحسرات فيما وهمتم به أنفسكم. ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الامد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون _ 16. إعلموا أن الله يحيي الارض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون _ 17.
[ 160 ]
إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم _ 18. والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم _ 19. إعلموا أنما الحيوة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الاموال والاولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضولن وما الحيوة الدنيا إلا متاع الغرور _ 20. سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والارض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم _ 21. ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير _ 22. لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور _ 23. الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد _ 24. (بيان) جري على وفق مقصد الكلام السابق وهو الحث والترغيب في الايمان بالله ورسوله
[ 161 ]
والانفاق في سبيل الله وتتضمن عتاب المؤمنين على ما يظهر من علائم قسوة القلوب منهم، وتأكيد الحث على الانفاق ببيان درجة المنفقين عند الله والامر بالمسابقة إلى المغفرة والجنة وذم الدنيا وأهلها الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل.
وقد تغير السياق خلال الآيات إلى سياق عام يشمل المسلمين وأهل الكتاب بعد اختصاص السياق السابق بالمسلمين وسيجئ توضيحه. قوله تعالى: " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق " إلى آخر الآية، يقال: أنى يأني أني وإناء أي جاء وقته، وخشوع القلب تأثره قبال العظمة والكبرياء، والمراد بذكر الله ما يذكر به الله، وما نزل من الحق هو القرآن النازل من عنده تعالى و " من الحق " بيان لما نزل، ومن شأن ذكر الله تعالى عند المؤمن أن يعقب خشوعا كما أن من شأن الحق النازل من عنده تعالى أن يعقب خشوعا ممن آمن بالله ورسله. وقيل: المراد بذكر الله وما نزل من الحق جميعا القرآن، وعلى هذا فذكر القرآن بوصفيه لكون كل من الوصفين مستدعيا لخشوع المؤمن فالقرآن لكونه ذكر الله يستدعي الخشوع كما أنه لكونه حقا نازلا من عنده تعالى يستدعي الخشوع. وفي الآية عتاب للمؤمنين على ما عرض لقلوبهم من القسوة وعدم خشوعها لذكر الله والحق النازل من عنده تعالى وتشبيه لحالهم بحال أهل الكتاب الذين نزل عليهم الكتاب وطال عليهم الامد فقست قلوبهم. وقوله: " ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الامد فقست قلوبهم " عطف على قوله: " تخشع " الخ، والمعنى: ألم يأن لهم أن تخشع قلوبهم وأن لا يكونوا الخ، والامد الزمان، قال الراغب: الفرق بين الزمان والامد أن الامد يقال باعتبار الغاية والزمان عام في المبدأ والغاية ولذلك قال بعضهم: إن المدى والامد يتقاربان. انتهى. وقد أشار سبحانه بهذا الكلام إلى صيرورة قلوبهم كقلوب أهل الكتاب القاسية والقلب القاسي حيث يفقد الخشوع والتأثر عن الحق ربما خرج عن زي العبودية فلم يتأثر عن المناهي واقترف الاثم والفسوق، ولذا أردف قوله: " فقست قلوبهم " بقوله: " وكثير منهم فاسقون ". قوله تعالى: " اعلموا أن الله يحيي الارض بعد موتها " إلى آخر الآية في تعقيب عتاب
[ 162 ]
المؤمنين على قسوة قلوبهم بهذا التمثيل تقوية لرجائهم وترغيب لهم في الخشوع. ويمكن أن يكون من تمام العتاب السابق ويكون تنبيها على أن الله لا يخلي هذا الدين على ما هو عليه من الحال بل كلما قست قلوب وحرموا الخشوع لامر الله جاء بقلوب حية خاشعة له يعبد بها كما يريد. فتكون الآية في معنى قوله: " ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم " سورة محمد: 38. ولذلك ذيل الآية بقوله: " قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ". قوله تعالى: " إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم " تكرار الحديث المضاعفة والاجر الكريم للترغيب في الانفاق في سبيل الله وقد أضيف إلى الذين أقرضوا الله قرضا حسنا المصدقون والمصدقات. والمصدقون والمصدقات - بتشديد الصاد والدال المتصدقون والمتصدقات، وقوله: " وأقرضوا الله " عطف على مدخول اللام في " المصدقين "، والمعنى: أن الذين تصدقوا والذين أقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ما أعطوه ولهم أجر كريم. قوله تعالى: " والذين آمنوا بالله ورسله اولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم " الخ، لم يقل: آمنوا بالله ورسوله " كما قال في أول السورة: " آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا " وقال في آخرها: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله " لانه تعالى لما ذكر أهل الكتاب في الآية السابقة بقوله: " ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل " عدل عن السياق السابق إلى سياق عام يشمل المسلمين وأهل الكتاب جميعا كما قال بعد: " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات " وأما الآيتان المذكورتان في أول السورة وآخرها فالخطاب فيهما لمؤمني هذه الامة خاصة ولذا جئ فيهما بالرسول مفردا.
والمراد بالايمان بالله ورسله محض الايمان الذي لا يفارق بطبعه الطاعة والاتباع كما مرت الاشارة إليه في قوله: " آمنوا بالله ورسوله " الآية، والمراد بقوله: " أولئك هم الصديقون والشهداء " إلحاقهم بالصديقين والشهداء بقرينة قوله: " عند ربهم " وقوله: " لهم أجرهم ونورهم " فهم ملحقون بالطائفتين يعامل معهم معاملة الصديقين والشهداء فيعطون مثل أجرهم ونورهم.
[ 163 ]
والظاهر أن المراد بالصديقين والشهداء هم المذكورون في قوله: " ومن يطع الله والرسول فاولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا " النساء: 69، وقد تقدم في تفسير الآية أن المراد بالصديقين هم الذين سرى الصدق في قولهم وفعلهم فيفعلون ما يقولون ويقولون ما يفعلون، والشهداء هم شهداء الاعمال يوم القيامة دون الشهداء بمعنى المقتولين في سبيل الله. فهؤلاء الذين آمنوا بالله ورسله ملحقون بالصديقين والشهداء منزلون منزلتهم عند الله أي بحكم منه لهم أجرهم ونورهم. وقوله: " لهم أجرهم ونورهم " ضمير " لهم " للذين آمنوا، وضمير " أجرهم ونورهم " للصديقين والشهداء أي للذين آمنوا أجر من نوع أجر الصديقين والشهداء ونور من نوع نورهم، وهذا معنى قول من قال: إن المعنى: لهم أجر كأجرهم ونور كنورهم. وربما قيل: إن الآية مسوقة لبيان أنهم صديقون وشهداء على الحقيقة من غير إلحاق وتنزيل فهم هم لهم أجرهم ونورهم، ولعل السياق لا يساعد عليه. وربما قيل: إن قوله: " والشهداء " ليس عطفا على قوله: " الصديقون " بل استئناف و " الشهداء " مبتدأ خبره " عند الله " وخبره الآخر " لهم أجرهم " فقد قيل: والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون، وقد تم الكلام ثم استؤنف وقيل: " والشهداء عند ربهم " كما قيل: " بل أحياء عند ربهم " آل عمران: 169، والمراد بالشهداء المقتولون
في سبيل الله، ثم تمم الكلام بقوله: " لهم أجرهم ونورهم ". وقوله: " والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم " أي لا يفارقونها وهم فيها دائمين. وقد تعرض سبحانه في الآية لشأن الملحقين بالصديقين والشهداء وهم خيار الناس والناجون قطعا، والكفار المكذبين لآياته وهم شرار الناس والهالكون قطعا وبقي فريق بين الفريقين وهم المؤمنون المقترفون للمعاصي والذنوب على طبقاتهم في التمرد على الله ورسوله، وهذا دأب القرآن في كثير من موارد التعرض لشأن الناس يوم القيامة. وذلك ليكون بعثا لقريحتي الخوف والرجاء في ذلك الفريق المتخلل بين الخيار والشرار فيميلوا إلى السعادة ويختاروا النجاة على الهلاك. ولذلك أعقب الآية بذم الحياة الدنيا التي تعلق بها هؤلاء الممتنعون من الانفاق في سبيل
[ 164 ]
الله ثم بدعوتهم إلى المسابقة إلى المغفرة والجنة ثم بالاشارة إلى أن ما يصيبهم من المصيبة في أموالهم وأنفسهم مكتوبة في كتاب سابق وقضاء متقدم فليس ينبغي لهم أن يخافوا الفقر في الانفاق في سبيل الله، فيبخلوا ويمسكوا أو يخافوا الموت في الجهاد في سبيل الله فيتخلفوا ويقعدوا. قوله تعالى: " اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الاموال والاولاد " الخ، اللعب عمل منظوم لغرض خيالي كلعب الاطفال، واللهو ما يشغل الانسان عما يهمه، والزينة بناء نوع وربما يراد به ما يتزين به وهي ضم شئ مرغوب فيه إلى شئ آخر ليرغب فيه بما اكتسب به من الجمال، والتفاخر المباهاة بالانساب والاحساب، والتكاثر في الاموال والاولاد. والحياة الدنيا عرض زائل وسراب باطل لا يخلو من هذه الخصال الخمس المذكورة: اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر وهي التي يتعلق بها هوى النفس الانسانية ببعضها
أو بجميعها وهي أمور وهمية وأعراض زائلة لا تبقى للانسان وليست ولا واحدة منها تجلب للانسان كمالا نفسيا ولا خيرا حقيقيا. وعن شيخنا البهائي رحمه الله أن الخصال الخمس المذكورة في الآية مترتبة بحسب سني عمر الانسان ومراحل حياته فيتولع أولا باللعب وهو طفل أو مراهق ثم إذا بلغ واشتد عظمه تعلق باللهو والملاهي ثم إذا بلغ أشده اشتغل بالزينة من الملابس الفاخرة والمراكب البهية والمنازل العالية وتوله للحسن والجمال ثم إذا اكتهل أخذ بالمفاخرة بالاحساب والانساب ثم إذا شاب سعى في تكثير المال والولد. وقوله: " كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما " مثل لزينة الحياة الدنيا التي يتعلق بها الانسان غرورا ثم لا يلبث دون أن يسلبها. والغيث المطر والكفار جمع كافر بمعنى الحارث، ويهيج من الهيجان وهو الحركة، والحطام الهشيم المتكسر من يابس النبات. والمعنى: أن مثل الحياة الدنيا في بهجتها المعجبة ثم الزوال كمثل مطر أعجب الحراث نباته الحاصل بسببه ثم يتحرك إلى غاية ما يمكنه من النمو فتراه مصفر اللون ثم يكون هشيما متكسرا - متلاشيا تذروه الرياح -. وقوله: " وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان " سبق المغفرة على
[ 165 ]
الرضوان لتطهير المحل ليحل به الرضوان، وتوصيف المغفرة بكونه من الله دون العذاب لا يخلو من إيماء إلى أن المطلوب بالقصد الاول هو المغفرة وأما العذاب فليس بمطلوب في نفسه وإنما يتسبب إليه الانسان بخروجه عن زي العبودية كما قيل. وقوله: " وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " أي متاع التمتع منه هو الغرور به، وهذا للمتعلق المغرور بها. والكلام أعني قوله: " وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان " إشارة
إلى وجهي الحياة الآخرة ليأخذ السامع حذره فيختار المغفرة والرضوان على العذاب، ثم في قوله: " وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " تنبيه وإيقاظ لئلا تغره الحياة الدنيا بخاصة غروره. قوله تعالى: " سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والارض " الخ المسابقة هي المغالبة في السبق للوصول إلى غرض بأن يريد كل من المسابقين جعل حركته أسرع من حركة صاحبه ففي معنى المسابقة ما يزيد على معنى المسارعة فإن المسارعة الجد في تسريع الحركة والمسابقة الجد في تسريعها بحيث تزيد في السرعة على حركة صاحبه. وعلى هذا فقوله: " سابقوا إلى مغفرة " الخ، يتضمن من التكليف ما هو أزيد مما يتضمنه قوله: " سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والارض أعدت للمتقين " آل عمران: 133. ويظهر به عدم استقامة ما قيل: إن آية آل عمران في السابقين المقربين والآية التي نحن فيها في عامة المؤمنين حيث لم يذكر فيها إلا الايمان بالله ورسله بخلاف آية آل عمران فإنها مذيلة بجملة الاعمال الصالحة، ولذا أيضا وصف الجنة الموعودة هناك بقوله: " عرضها السماوات والارض " بخلاف ما ههنا حيث قيل: " عرضها كعرض السماء والارض " فدل على أن جنة اولئك أوسع من جنة هؤلاء. وجه عدم الاستقامة ما عرفت أن المكلف به في الآية المبحوث عنها معنى فوق ما كلف به في آية آل عمران. على أن اللام في " السماء " للجنس فتنطبق على " السماوات " في تلك الآية. وتقديم المغفرة على الجنة في الآية لان الحياة في الجنة حياة طاهرة في عالم الطهارة فيتوقف التلبس بها على زوال قذارات الذنوب وأوساخها.
[ 166 ]
والمراد بالعرض السعة دون العرض المقابل للطول وهو معنى شائع، والكلام كأنه
مسوق للدلالة على انتهائها في السعة. وقيل: المراد بالعرض ما يقابل الطول والاقتصار على ذكر العرض أبلغ من ذكر الطول معه فإن العرض أقصر الامتدادين وإذا كان كعرض السماء والارض كان طولها أكثر من طولهما. ولا يخلو الوجه من تحكم إذ لا دليل على مساواة طول السماء والارض لعرضهما ثم على زيادة طول الجنة على عرضها حتى يلزم زيادة طول الجنة على طولهما والطول قد يساوي العرض كما في المربع والدائرة وسطح الكرة وغيرها وقد يزيد عليه. وقوله: " أعدت للذين آمنوا بالله ورسله " قد عرفت في ذيل قوله: " آمنوا بالله ورسله " وقوله: " والذين آمنوا بالله ورسله " أن المراد بالايمان بالله ورسله هو مرتبة عالية من الايمان تلازم ترتب آثاره عليه من الاعمال الصالحة واجتناب الفسوق والاثم. وبذلك يظهر أن قول بعضهم: إن في الآية بشارة لعامة المؤمنين حيث قال: " أعدت للذين آمنوا بالله ورسله " ولم يقيد الايمان بشئ من العمل الصالح ونحوه غير سديد فإن خطاب الآية وإن كان بظاهر لفظه يعم الكافر والمؤمن الصالح والطالح لكن وجه الكلام إلى المؤمنين يدعوهم إلى الايمان الذي يصاحب العمل الصالح، ولو كان المراد بالايمان بالله ورسله مجرد الايمان ولو لم يصاحبه عمل صالح وكانت الجنة معدة لهم والآية تدعو إلى السباق إلى المغفرة والجنة كان خطاب " سابقوا " متوجها إلى الكفار فإن المؤمنين قد سبقوا وسياق الآيات يأباه. وقوله: " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " وقد شاء أن يؤتيه الذين آمنوا بالله ورسله، وقد تقدم بيان أن ما يؤتيه الله من الاجر لعباده المؤمنين فضل منه تعالى من غير أن يستحقوه عليه. وقوله: " والله ذو الفضل العظيم " إشارة إلى عظمة فضله، وأن ما يثيبهم به من المغفرة والجنة من عظيم فضله.
قوله تعالى: " ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها " الخ، المصيبة الواقعة التي تصيب الشئ مأخوذة من إصابة السهم الغرض وهي بحسب المفهوم أعم من الخير والشر لكن غلب استعمالها في الشر فالمصيبة هي النائبة،
[ 167 ]
والمصيبة التي تصيب في الارض كالجدب وعاهة الثمار والزلزلة المخربة ونحوها، والتي تصيب في الانفس كالمرض والجرح والكسر والقتل والموت، والبرء والبروء الخلق من العدم، وضمير " نبرأها " للمصيبة، وقيل: للانفس، وقيل: للارض، وقيل: للجميع من الارض والانفس والمصيبة، ويؤيد الاول أن المقام مقام بيان ما في الدنيا من المصائب الموجبة لنقص الاموال والانفس التي تدعوهم إلى الامساك عن الانفاق والتخلف عن الجهاد. والمراد بالكتاب اللوح المكتوب فيه ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة كما تدل عليه الآيات والروايات وإنما اقتصر على ذكر ما يصيب في الارض وفي أنفسهم من المصائب لكون الكلام فيها. قيل: إنما قيد المصيبة بما في الارض وفي الانفس لان مطلق المصائب غير مكتوبة في اللوح لان اللوح متناه والحوادث غير متناهية ولا يكون المتناهي ظرفا لغير المتناهي. والكلام مبني على أن المراد باللوح لوح فلزي أو نحوه منصوب في ناحية من نواحي الجو مكتوب فيه الحوادث بلغة من لغاتنا بخط يشبه خطوطنا، وقد مر كلام في معنى اللوح والقلم وسيجئ له تتمة. وقيل: المراد بالكتاب علمه تعالى وهو خلاف الظاهرإالا أن يراد به أن الكتاب المكتوب فيه الحوادث من مراتب علمه الفعلي. وختم الآية بقوله: " إن ذلك على الله يسير " للدلالة على أن تقدير الحوادث قبل وقوعها والقضاء عليها بقضاء لا يتغير لا صعوبة فيه عليه تعالى.
قوله تعالى: " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " الخ، تعليل راجع إلى الآية السابقة وهو تعليل للاخبار عن كتابة الحوادث قبل وقوعها لا لنفس الكتابة، والاسى الحزن، والمراد بما فات وما آتى النعمة الفائتة والنعمة المؤتاة. والمعنى: أخبرناكم بكتابة الحوادث قبل حدوثها وتحققها لئلا تحزنوا بما فاتكم من النعم ولا تفرحوا بما أعطاكم الله منها لان الانسان إذا أيقن أن الذي أصابه مقدر كائن لا محالة لم يكن ليخطئه وأن ما أوتيه من النعم وديعة عنده إلى أجل مسمى لم يعظم حزنه إذا فاته ولا فرحه إذا أوتيه. قيل: إن اختلاف الاسناد في قوليه: " ما فاتكم " و " ما آتاكم " حيث أسند الفوت
[ 168 ]
إلى نفس الاشياء والايتاء إلى الله سبحانه لان الفوات والعدم ذاتي للاشياء فلو خليت ونفسها لم تبق بخلاف حصولها وبقائها فإنه لا بد من استنادهما إلى الله تعالى. وقوله: " والله لا يحب كل مختال فخور " المختال من أخذته الخيلاء وهي التكبر عن تخيل فضيلة تراءت له من نفسه - على ما ذكره الراغب - والفخور الكثير الفخر والمباهاة والاختيال والفخر ناشئان عن توهم الانسان أنه يملك ما أوتيه من النعم باستحقاق من نفسه، وهو مخالف لما هو الحق من استناد ذلك إلى تقدير من الله لا لاستقلال من نفس الانسان فهما من الرذائل والله لا يحبها. قوله تعالى: " الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل " وصف لكل مختال فخور يفيد تعليل عدم حبه تعالى. والوجه في بخلهم الاحتفاظ للمال الذي يعتمد عليه اختيالهم وفخرهم والوجه في أمرهم الناس بالبخل أنهم يحبونه لانفسهم فيحبونه لغيرهم، ولان شيوع السخاء والجود بين الناس وإقبالهم على الانفاق في سبيل الله يوجب أن يعرفوا بالبخل المذموم. وقوله: " ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد " أي ومن يعرض عن الانفاق ولم يتعظ
بعظة الله ولا اطمأن قلبه بما بينه من صفات الدنيا ونعت الجنة وتقدير الامور فإن الله هو الغني فلا حاجة له إلى إنفاقهم، والمحمود في أفعاله. والآيات الثلاث أعني قوله: " وما أصاب من مصيبة - إلى قوله - الغني الحميد " كما ترى حث على الانفاق وردع عن البخل والامساك بتزهيدهم عن الاسى بما فاتهم والفرح بما آتاهم لان الامور مقدرة مقضية مكتوبة في كتاب معينه قبل أن يبرأها الله سبحانه. (بحث روائي) في الدر المنثور في قوله تعالى: " ألم يأن " الآية، أخرج ابن المبارك وعبد الرزاق وابن المنذر عن الاعمش قال: لما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأصابوا من لين العيش ما أصابوا بعدما كان بهم من الجهد فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا فنزلت: " ألم يأن للذين آمنوا ". أقول: هذه أعدل الروايات في نزول السورة وهناك رواية عن ابن مسعود قال: ما
[ 169 ]
كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله " إلا أربع سنين، وظاهره كون السورة مكية، وفي معناه ما ورد أن عمر آمن بعد نزول هذه السورة وقد عرفت أن سياق آيات السورة تأبى إلا أن تكون مدنية، ويمكن حمل رواية ابن مسعود على كون آية " ألم يأن " الخ، أو هي والتي تتلوها مما نزل بمكة دون باقي آيات السورة. وفي رواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استبطأ الله قلوب المهاجرين بعد سبع عشرة من نزول القرآن فأنزل الله " ألم يأن " الآية، ولازمه نزول السورة سنة أربع أو خمس من الهجرة، وفي رواية اخرى عن ابن عباس قال: إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال: " ألم يأن " الخ، ولازمه نزول السورة أيام الهجرة، والروايتان أيضا لا تلائمان سياق آياتها.
وفيه أخرج ابن جرير عن البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مؤمنوا أمتي شهداء، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم: " والذين آمنوا بالله ورسله اولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم ". وفي تفسير العياشي بإسناده عن منهال القصاب قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: ادع الله أن يرزقني الشهادة فقال: إن المؤمن شهيد وقرأ هذه الآية. أقول: وفي معناه روايات اخرى وظاهر بعضها كهذه الرواية تفسير الشهادة بالقتل في سبيل الله. وفي تفسير القمي بإسناده عن حفص بن غياث قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك فما حد الزهد في الدنيا ؟ فقال: قد حده الله في كتابه فقال عز وجل: " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ". وفي نهج البلاغة قال عليه السلام: الزهد كله بين كلمتين من القرآن قال الله تعالى: " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه. أقول: والاساس الذي يبتنيان عليه عدم تعلق القلب بالدنيا، وفي الحديث المعروف: حب الدنيا رأس كل خطيئة.
[ 170 ]
لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز _ 25. ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون _ 26. ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم وآتيناه الانجيل وجعلنا في قلوب
الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون _ 27. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم _ 28. لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شئ من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم _ 29. (بيان) ثم إنه تعالى إثر ما أشار إلى قسوة قلوب المؤمنين وتثاقلهم وفتورهم في امتثال التكاليف الدينية وخاصة في الانفاق في سبيل الله، الذي به قوام أمر الجهاد وشبههم بأهل الكتاب
[ 171 ]
حيث قست قلوبهم لما طال عليهم الامد. ذكر أن الغرض الالهي من إرسال الرسل وإنزال الكتاب والميزان معهم أن يقوم الناس بالقسط، وأن يعيشوا في مجتمع عادل، وقد أنزل الحديد ليمتحن عباده في الدفاع عن مجتمعهم الصالح وبسط كلمة الحق في الارض مضافا إلى ما في الحديد من منافع ينتفعون بها. ثم ذكر أنه أرسل نوحا وإبراهيم عليهما السلام وجعل في ذريتهما النبوة والكتاب وأتبعهم بالرسول بعد الرسول فاستمر الامر في كل من الامم على إيمان بعضهم واهتدائه وكثير منهم فاسقون، ثم ختم الكلام في السورة بدعوتهم إلى تكميل إيمانهم ليؤتوا كفلين من الرحمة. قوله تعالى: " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط " الخ، استئناف يتبين به معنى تشريع الدين بإرسال الرسل وإنزال الكتاب والميزان وأن الغرض من ذلك قيام الناس بالقسط وامتحانهم بذلك وبإنزال الحديد
ليتمير من ينصر الله بالغيب ويتبين أن أمر الرسالة لم يزل مستمرا بين الناس ولم يزالوا يهتدي من كل أمة بعضهم وكثير منهم فاسقون. فقوله: " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات " أي بالآيات البينات التي يتبين بها أنهم مرسلون من جانب الله سبحانه من المعجزات الباهرة والبشارات الواضحة والحجج القاطعة. وقوله: " وأنزلنا معهم الكتاب " وهو الوحي الذي يصلح أن يكتب فيصير كتابا، المشتمل على معارف الدين من اعتقاد وعمل وهو خمسة: كتاب نوح وكتاب إبراهيم والتوراة والانجيل والقرآن. وقوله: " والميزان ليقوم الناس بالقسط " فسروا الميزان بذي الكفتين الذي يوزن به الاثقال، و أخذوا قوله: " ليقوم الناس بالقسط " غاية متعلقة بإنزال الميزان والمعنى: وأنزلنا الميزان ليقوم الناس بالعدل في معاملاتهم فلا يخسروا باختلال الاوزان والنسب بين الاشياء فقوام حياة الانسان بالاجتماع، وقوام الاجتماع بالمعاملات الدائرة بينهم والمبادلات في الامتعة والسلع، وقوام المعاملات في ذوات الاوزان بحفظ النسب بينها وهو شأن الميزان. ولا يبعد - والله أعلم - أن يراد بالميزان الدين فإن الدين هو الذي يوزن به عقائد أشخاص الانسان وأعمالهم، وهو الذي به قوام حياة الناس السعيدة مجتمعين ومنفردين، وهذا المعنى أكثر ملائمة للسياق المتعرض لحال الناس من حيث خشوعهم وقسوة قلوبهم
[ 172 ]
وجدهم ومساهلتهم في أمر الدين. وقيل: المراد بالميزان هنا العدل وقيل: العقل. وقوله: " وأنزلنا الحديد " الظاهر أنه كقوله تعالى: " وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج " الزمر: 6، وقد تقدم في تفسير الآية أن تسمية الخلق في الارض إنزالا إنما هو باعتبار أنه تعالى يسمي ظهور الاشياء في الكون بعد ما لم يكن إنزالا لها من خزائنه التي عنده ومن الغيب إلى الشهادة قال تعالى: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " الحجر: 21.
وقوله: " فيه بأس شديد ومنافع للناس " البأس هو الشدة في التأثير ويغلب استعماله في الشدة في الدفاع والقتال، ولا تزال الحروب والمقاتلات وأنواع الدفاع ذات حاجة شديدة إلى الحديد وأقسام الاسلحة المعمولة منه منذ تنبه البشر له واستخرجه. وأما ما فيه من المنافع للناس فلا يحتاج إلى البيان فله دخل في جميع شعب الحياة وما يرتبط بها من الصنائع. وقوله: " وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب " غاية معطوفة على محذوف والتقدير وأنزلنا الحديد لكذا وليعلم الله من ينصره الخ، والمراد بنصره ورسله الجهاد في سبيله دفاعا عن مجتمع الدين وبسطا لكلمة الحق، وكون النصر بالغيب كونه في حال غيبته منهم أو غيبتهم منه، والمراد بعلمه بمن ينصره ورسله تميزهم ممن لا ينصر. وختم الآية بقوله: " إن الله قوي عزيز " وكأن وجهه الاشارة إلى أن أمره تعالى لهم بالجهاد إنما هو ليتميز الممتثل منهم من غيره لا لحاجة منه تعالى إلى ناصر ينصره إنه تعالى قوي لا سبيل للضعف إليه عزيز لا سبيل للذله إليه. قوله تعالى: " ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون " شروع في الاشارة إلى أن الاهتداء والفسق جاريان في الامم الماضية حتى اليوم فلم تصلح أمة من الامم بعامة أفرادها بل لم يزل كثير منهم فاسقين. وضمير " فمنهم " و " منهم " للذرية والباقي ظاهر. قوله تعالى: " ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم وآتيناه الانجيل " في المجمع: التقفية جعل الشئ في إثر شئ على الاستمرار فيه، ولهذا قيل لمقاطع الشعر قواف إذ كانت تتبع البيت على أثره مستمرة في غيره على منهاجه. انتهى. وضمير " على آثارهم " لنوح وإبراهيم والسابقين من ذريتهما، والدليل عليه أنه لا نبي
[ 173 ]
بعد نوح إلا من ذريته لان النسل بعده له. على أن عيسى من ذرية إبراهيم قال تعالى في
نوح: " وجعلنا ذريته هم الباقين " الصافات: 77، وقال: " ومن ذريته داود وسليمان - إلى أن قال - وعيسى " الانعام: 85، فالمراد بقوله: " ثم قفينا على آثارهم برسلنا " الخ، التقفية باللاحقين من ذريتهما على آثارهما والسابقين من ذريتهما. وفي قوله: " على آثارهم " إشارة إلى أن الطريق المسلوك واحد يتبع فيه بعضهم أثر بعض. وقوله: " وقفينا بعيسى بن مريم وآتيناه الانجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة " الرأفة والرحمة - على ما قالوا - مترادفان، ونقل عن بعضهم أن الرأفة يقال في درء الشر والرحمة في جلب الخير. والظاهر أن المراد بجعل الرأفة والرحمة في قلوب الذين اتبعوه توفيقهم للرأفة والرحمة فيما بينهم فكانوا يعيشون على المعاضدة والمسالمة كما وصف الله سبحانه الذين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرحمة إذ قال: " رحماء بينهم " الفتح: 29، وقيل: المراد بجعل الرأفة والرحمة في قلوبهم الامر بهما والترغيب فيهما ووعد الثواب عليهما. وقوله: " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم " الرهبانية من الرهبة وهي الخشية، ويطلق عرفا على انقطاع الانسان من الناس لعبادة الله خشيه منه، والابتداع إتيان ما لم يسبق إليه في دين أو سنة أو صنعة، وقوله: " ما كتبناها عليهم " في معنى الجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: ما معنى ابتداعهم لها ؟ فقيل: ما كتبناها عليهم. والمعنى: أنهم ابتدعوا من عند أنفسهم رهبانية من غير أن نشرعه نحن لهم. وقوله: " إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها " استثناء منقطع معناه ما فرضناها عليهم لكنهم وضعوها من عند أنفسهم ابتغاء لرضوان الله وطلبا لمرضاته فما حافظوا عليها حق محافظتها بتعديهم حدودها. وفيه إشارة إلى أنها كانت مرضية عنده تعالى وإن لم يشرعها بل كانوا هم المبتدعين لها. وقوله: " فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون " إشارة إلى أنهم
كالسابقين من أمم الرسل منهم مؤمنون مأجورون على إيمانهم وكثير منهم فاسقون، والغلبة للفسق. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته "
[ 174 ]
الخ، أمر الذين آمنوا بالتقوى والايمان بالرسول مع أن الذين استجابوا الدعوة فآمنوا بالله آمنوا برسوله أيضا دليل على أن المراد بالايمان بالرسول الاتباع التام والطاعة الكاملة لرسوله فيما يأمر به وينهى عنه سواء كان ما يأمر به أو ينهى عنه حكما من الاحكام الشرعية أو صادرا عنه بماله من ولاية أمور الامة كما قال تعالى: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " النساء: 65. فهذا إيمان بعد إيمان ومرتبة فوق مرتبة الايمان الذي ربما يتخلف عنه أثره فلا يترتب عليه لضعفه، وبهذا يناسب قوله: " يؤتكم كفلين من رحمته " والكفل الحظ والنصيب فله ثواب على ثواب كما أنه إيمان على إيمان. وقيل: المراد بإيتاء كفلين من الرحمة إيتاؤهم أجرين كمؤمني أهل الكتاب كأنه قيل: يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الاجرين لانكم مثلهم في الايمان بالرسل المتقدمين وبخاتمهم عليهم السلام لا تفرقون بين أحد من رسله. وقوله: " ويجعل لكم نورا تمشون به " قيل: يعني يوم القيامة وهو النور الذي أشير إليه بقوله: " يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ". وفيه أنه تقييد من غير دليل بل لهم نورهم في الدنيا وهو المدلول عليه بقوله تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " الانعام: 122، ونورهم في الاخرة وهو المدلول عليه بقوله: " يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم " الآية 12 من السورة وغيره. ثم كمل تعالى وعده بإيتائهم كفلين من رحمته وجعل نور يمشون به بالمغفرة فقال:
" ويغفر لكم والله غفور رحيم ". قوله تعالى: " لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شئ من فضل الله " ظاهر السياق أن في الآية التفاتا من خطاب المؤمنين إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد بالعلم مطلق الاعتقاد كالزعم، و " أن " مخففة من الثقيلة، وضمير " يقدرون " للمؤمنين، وفي الكلام تعليل لمضمون الآية السابقة. والمعنى: إنما أمرناهم بالايمان بعد الايمان ووعدناهم كفلين من الرحمة وجعل النور والمغفرة لئلا يعتقد أهل الكتاب أن المؤمنين لا يقدرون على شئ من فضل الله بخلاف المؤمنين من أهل الكتاب حيث يؤتون أجرهم مرتين أن آمنوا.
[ 175 ]
وقيل: إن " لا " في " لئلا يعلم " زائدة وضمير " يقدرون " لاهل الكتاب، والمعنى: إنما وعدنا المؤمنين بما وعدنا لان يعلم أهل الكتاب القائلون: إن من آمن منا بكتابكم فله أجران ومن لم يؤمن فله أجر واحد لايمانه بكتابنا، أنهم لا يقدرون على شئ من فضل الله إن لم يؤمنوا، هذا ولا يخفى عليك ما فيه من التكلف. وقوله: " وأن الفضل بيد الله والله ذو الفضل العظيم " معطوف على " أن لا يعلم "، والمعنى: إنما وعدنا بما وعدنا لان كذا كذا ولان الفضل بيد الله والله ذو الفضل العظيم. وفي الآية أقوال واحتمالات أخر لا جدوى في إيرادها والبحث عنها. (بحث روائي) عن جوامع الجامع روي أن جبرئيل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليه السلام وقال: مر قومك يزنوا به. وفي الاحتجاج عن علي عليه السلام في حديث وقال: " وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد " فإنزاله ذلك خلقه إياه. وفي المجمع عن ابن مسعود قال: كنت رديف رسول الله على الحمار فقال: يا ابن أم عبد
هل تدري من أين أحدثت بنو إسرائيل الرهبانية ؟ فقلت: الله ورسوله أعلم. فقال: ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى عليه السلام يعملون بمعاصي الله فغضب أهل الايمان فقاتلوهم فهزم أهل الايمان ثلاث مرات فلم يبق منهم إلا القليل. فقالوا: إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبق للدين أحد يدعو إليه فتعالوا نتفرق في الارض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى يعنون محمدا صلى الله عليه وآله وسلم فتفرقوا في غيران (1) الجبال وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه، ومنهم من كفر. ثم تلا هذه الآية " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم " إلى آخرها. ثم قال: يا ابن أم عبد أتدري ما رهبانية أمتي ؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة. وفي الكافي بإسناده عن أبي الجارود قال: قلت لابي جعفر عليه السلام: لقد آتى الله
(1) جمع غار.
[ 176 ]
أهل الكتاب خيرا كثيرا. قال: وما ذاك ؟ قلت: قول الله عز وجل: " الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون - إلى قوله - اولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا " قال: فقال: آتاكم الله كما آتاهم ثم تلا: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به " يعني إماما تأتمون به. وفي المجمع عن سعيد بن جبير بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعفرا في سبعين راكبا إلى النجاشي يدعوه فقدم عليه ودعاه فاستجاب له وآمن به فلما كان عند انصرافه قال ناس ممن آمن به من أهل مملكته وهم أربعون رجلا: ائذن لنا فنأتي هذا النبي فنسلم به. فقدموا مع جعفر فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: يا نبي الله إن لنا أموالا ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين فأنزل الله
فيهم: " الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون - إلى قوله - ومما رزقناهم ينفقون " فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين. فلما سمع أهل الكتاب ممن لم يؤمن به قوله: " اولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا " فخروا على المسلمين فقالوا: يا معشر المسلمين أما من آمن منا بكتابنا وكتابكم فله أجران، ومن آمن منا بكتابنا فله أجر كأجوركم فما فضلكم علينا ؟ فنزل قوله: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله " الآية، فجعل لهم أجرين وزادهم النور والمغفرة ثم قال: " لئلا يعلم أهل الكتاب ". (سورة المجادلة مدنية، وهي اثنتان وعشرون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير _ 1. الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا
[ 177 ]
اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور _ 2. والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير _ 3. فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم _ 4. إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين _ 5. يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شئ شهيد _ 6. (بيان)
تتعرض السورة لمعان متنوعة من حكم وأدب وصفة فشطر منها في حكم الظهار والنجوى وأدب الجلوس في المجالس وشطر منها يصف حال الذين يحادون الله ورسوله، والذين يوادون أعداء الدين ويصف الذين يتحرزون من موادتهم من المؤمنين ويعدهم وعدا جميلا في الدنيا والآخرة. والسورة مدنية بشهادة سياق آياتها. قوله تعالى: " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما " الخ، قال في المجمع: الاشتكاء إظهار ما بالانسان من مكروه، والشكاية إظهار ما يصنعه به غيره من المكروه. قال: والتحاور التراجع وهي المحاورة يقال: حاوره محاورة أي راجعه الكلام وتحاورا. انتهى.
[ 178 ]
الآيات الاربع أو الست نزلت في الظهار وكان من أقسام الطلاق عند العرب الجاهلي كان الرجل يقول لامرأته: أنت مني كظهر أمي فتنفصل عنه وتحرم عليه مؤبدة وقد ظاهر بعض الانصار من امرأته ثم ندم عليه فجاءت امرأته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسائله فيه لعلها تجد طريقا إلى رجوعه إليها وتجادله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك وتشتكي إلى الله فنزلت الآيات. والمراد بالسمع في قوله: " قد سمع الله " استجابة الدعوة وقضاء الحاجة من باب الكناية وهو شائع، والدليل عليه قوله: " تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله " الظاهر في أنها كانت تتوخى طريقا إلى أن لا تنفصل عن زوجها، وأما قوله: " والله يسمع تحاوركما " فالسمع فيه بمعناه المعروف. والمعنى: قد استجاب الله للمرأة التي تجادلك في زوجها - وقد ظاهر منها - وتشتكي غمها وما حل بها من سوء الحال إلى الله والله يسمع تراجعكما في الكلام إن الله سميع للاصوات بصير بالمبصرات. قوله تعالى: " الذين يظاهرون من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم "
الخ، نفي لحكم الظهار المعروف عندهم وإلغاء لتأثيره بالطلاق والتحريم الابدي بنفي أمومة الزوجة للزوج بالظهار فإن سنة الجاهلية كانت تلحق الزوجة بالام بسبب الظهار فتحرم على زوجها حرمة الام على ولدها حرمة مؤبدة. فقوله: " ما هن أمهاتهم " أي بحسب اعتبار الشرع بأن يلحقن شرعا بهن بسبب الظهار فيحرمن عليهم أبدا ثم أكده بقوله: " إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم " أي ليس أمهات أزواجهن إلا النساء اللاتي ولدنهم. ثم أكد ذلك ثانيا بقوله: " وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا " بما فيه من سياق التأكيد أي وإن هؤلاء الازواج المظاهرين ليقولون بالظهار منكرا من القول ينكره الشرع حيث لم يعتبره ولم يسنه، وكذبا باعتبار أنه لا يوافق الشرع كما لا يطابق الخارج الواقع في الكون فأفادت الآية أن الظهار لا يفيد طلاقا وهذا لا ينافي وجوب الكفارة عليه لو أراد المواقعة بعد الظهار فالزوجية على حالها وإن حرمت المواقعة قبل الكفارة. وقوله: " وإن الله لعفو غفور " لا يخلو من دلالة على كونه ذنبا مغفورا لكن ذكر الكفارة في الآية التالية مع تذييلها بقوله: " وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم " ربما دل على أن المغفرة مشروطة بالكفارة.
[ 179 ]
قوله تعالى: " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا " الخ، الكلام في معنى الشرط ولذلك دخلت الفاء في الخبر لانه في معنى الجزاء والمحصل: أن الذين ظاهروا منهن ثم أرادوا العود لما قالوا فعليهم تحرير رقبة. وفي قوله: " من قبل أن يتماسا " دلالة على أن الحكم في الآية لمن ظاهر ثم أراد الرجوع إلى ما كان عليه قبل الظهار وهو قرينة على أن المراد بقوله: " يعودون لما قالوا " إرادة العود إلى نقض ما أبرموه بالظهار. والمعنى: والذين يظاهرون من نسائهم ثم يريدون أن يعودوا إلى ما تكلموا به من
كلمة الظهار فينقضوها بالمواقعة فعليهم تحرير رقبة من قبل أن يتماسا. وقيل: المراد بعودهم لما قالوا ندمهم على الظهار، وفيه أن الندم عليه يصلح أن يكون محصل المعنى لا أن يكون معنى الكلمة " يعودون لما قالوا ". وقيل: المراد بعودهم لما قالوا رجوعهم إلى ما تلفظوا به من كلمة الظهار بأن يتلفظوا بها ثانيا وفيه أن لازمه ترتب الكفارة دائما على الظهار الثاني دون الاول والآية لا تفيد ذلك والسنة إنما اعتبرت تحقق الظهار دون تعدده. ثم ذيل الآية بقوله: " ذلكم توعظون به والله تعملون خبير " إيذانا بأن ما أمر به من الكفارة توصية منه بها عن خبرة بعملهم ذاك، فالكفارة هي التي ترتفع بها ما لحقهم من تبعة العمل. قوله تعالى: " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا " إلى آخر الآية خصلة ثانية من الكفارة مترتبة على الخصلة الاولى لمن لا يتمكن منها وهي صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، وقيد ثانيا بقوله: " من قبل أن يتماسا " لدفع توهم اختصاص القيد بالخصلة الاولى. وقوله: " فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا " بيان للخصلة الثالثة فمن لم يطق صيام شهرين متتابعين فعليه إطعام ستين مسكينا وتفصيل الكلام في ذلك كله في الفقه. وقوله: " ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله " أي ما جعلناه من الحكم وافترضناه من الكفارة فأبقينا علقة الزوجية ووضعنا الكفارة لمن أراد أن يرجع إلى المواقعة جزاء بما أتى بسنة من سنن الجاهلية كل ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وترفضوا أباطيل السنن. وقوله: " وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم " حد الشئ ما ينتهي إليه ولا
[ 180 ]
يتعداه وأصله المنع، والمراد أن ما افترضناه من الخصال أو ما نضعها من الاحكام حدود الله فلا تتعدوها بالمخالفة وللكافرين بما حكمنا به في الظهار أو بما شرعناه من الاحكام
بالمخالفة والمحادة عذاب أليم. والظاهر أن المراد بالكفر رد الحكم والاخذ بالظهار بما أنه سنة مؤثرة مقبولة، ويؤيده قوله: " ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله " أي تذعنوا بأن حكم الله حق وأن رسوله صادق أمين في تبليغه، وقد أكده بقوله: " وتلك حدود الله " الخ، ويمكن أن يكون المراد بالكفر الكفر في مقام العمل وهو العصيان. قوله تعالى: " إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم " الخ، المحادة الممانعة والمخالفة، والكبت الاذلال والاخزاء. والآية والتي تتلوها وإن أمكن أن تكونا استئنافا ويبين أمر محادة الله ورسوله من حيث تبعتها وأثرها لكن ظاهر السياق أن تكونا مسوقتين لتعليل ذيل الآية السابقة الذي معناه النهي عن محادة الله ورسوله، والمعنى: إنما أمرناكم بالايمان بالله ورسوله ونهيناكم عن تعدي حدود الله والكفر بها لان الذين يحادون الله ورسوله بالمخالفة أذلوا وأخزوا كما أذل وأخزي الذين من قبلهم. ثم أكده بقوله: " وقد بينا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين " أي لا ريب في كونها منا وفي أن رسولنا صادق أمين في تبليغها، وللكافرين بها الرادين لها عذاب مهين مخز. قوله تعالى: " يوم يبعثهم الله فينبئهم بما عملوا " ظرف لقوله: " وللكافرين عذاب أليم " أي لهم أليم العذاب في يوم يبعثهم الله وهو يوم الحساب والجزاء فيخبرهم بحقيقة جميع ما عملوا في الدنيا. وقوله: " أحصاه الله ونسوه " الاحصاء الاحاطة بعدد الشئ من غير أن يفوت منه شئ، قال الراغب: الاحصاء التحصيل بالعدد يقال: أحصيت كذا، وذلك من لفظ الحصا، واستعمال ذلك فيه من حيث إنهم كانوا يعتمدونه في العد كاعتمادنا فيه على الاصابع. انتهى.
وقوله: " إن الله على كل شئ شهيد " تعليل لقوله: " أحصاه الله " وقد مر تفسير شهادة الله على كل شئ في آخر سورة حم السجدة.
[ 181 ]
(بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن ماجة وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن عائشة قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شئ إني لاسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني اللهم إني أشكو اليك فما برحت حتى نزل جبرئيل بهذه الآيات " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها " وهو أوس ابن الصامت. أقول: والروايات من طرق أهل السنة في هذا المعنى كثيرة جدا، واختلفت في اسم المرأة واسم أبيها واسم زوجها واسم أبيه والاعرف أن اسمها خولة بنت ثعلبة واسم زوجها أوس بن الصامت الانصاري وأورد القمي إجمال القصة في رواية، وله رواية أخرى ستوافيك. وفي المجمع في قوله تعالى: " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا " فأما ما ذهب إليه أئمة الهدى من آل محمد عليهم السلام فهو أن المراد بالعود إرادة الوطئ ونقض القول الذي قاله فإن الوطئ لا يجوز له إلا بعد الكفارة، ولا يبطل حكم قوله الاول إلا بعد الكفارة. وفي تفسير القمي حدثنا علي بن الحسين قال: حدثنا محمد بن أبي عبد الله عن الحسن بن محبوب عن أبي ولاد عن حمران عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن امرأة من المسلمات أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله إن فلانا زوجي وقد نثرت له بطني وأعنته على دنياه وآخرته لم تر مني مكروها أشكوه اليك. قال: فيم تشكونيه ؟ قالت: إنه قال: أنت
علي حرام كظهر أمي وقد أخرجني من منزلي فانظر في أمري. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنزل الله تبارك وتعالى كتابا أقضى فيه بينك وبين زوجك وأنا أكره أن أكون من المتكلفين، فجعلت تبكي وتشتكي ما بها إلى الله عز وجل وإلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانصرفت. قال: فسمع الله تبارك وتعالى مجادلتها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في زوجها وما شكت إليه، وأنزل الله في ذلك قرآنا " بسم الله الرحمن الرحيم، قد سمع الله قول التي تجادلك في
[ 182 ]
زوجها - إلى قوله - وإن الله لعفو غفور ". قال: فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المرأة فأتته فقال لها: جيئي بزوجك، فأتته فقال له: أقلت لامرأتك هذه: أنت حرام علي كظهر امي ؟ فقال: قد قلت لها ذلك. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد أنزل الله تبارك وتعالى فيك وفي امرأتك قرآنا وقرأ: " بسم الله الرحمن الرحيم قد سمع الله قول التي تجادلك - إلى قوله - إن الله لعفو غفور "، فضم اليك امرأتك فإنك قد قلت منكرا من القول وزورا، وقد عفى الله عنك وغفر لك ولا تعد. قال: فانصرف الرجل وهو نادم على ما قال لامرأته، وكره الله عز وجل ذلك للمؤمنين بعد وأنزل الله: " الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا " يعني لما قال الرجل لامرأته: أنت علي كظهر امي. قال: فمن قالها بعد ما عفى الله وغفر للرجل الاول فإن عليه " تحرير رقبة من قبل أن يتماسا " يعني مجامعتها " ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا " قال: فجعل الله عقوبة من ظاهر بعد النهي هذا. ثم قال: " ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله " قال: هذا حد الظهار. الحديث.
أقول: الآية بما لها من السياق وخاصة ما في آخرها من ذكر العفو والمغفرة أقرب انطباقا على ما سيق من القصة في هذه الرواية، ولا بأس بها من حيث السند أيضا غير أنها لا تلائم ظاهر ما في الآية من قوله: " الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا ". ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الارض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيمة إن الله بكل شئ عليم _ 7. ألم تر إلى الذين نهوا
[ 183 ]
عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالاثم والعدوان ومعصيت الرسول وإذا جاؤك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير _ 8. يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالاثم والعدوان ومعصيت الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون _ 9. إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون _ 10. يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير _ 11. يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم _ 12. ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة وأطيعوا
الله ورسوله والله خبير بما تعملون _ 13.
[ 184 ]
(بيان) آيات في النجوى وبعض آداب المجالسة. قوله تعالى: " ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الارض " الاستفهام إنكاري، والمراد بالرؤية العلم اليقيني على سبيل الاستعارة، والجملة تقدمة يعلل بها ما يتلوها من كونه تعالى مع أهل النجوى مشاركا لهم في نجواهم. قوله تعالى: " ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم " إلى آخر الآية النجوى مصدر بمعنى التناجي وهو المسارة، وضمائر الافراد لله سبحانه، والمراد بقوله: " رابعهم " و " سادسهم " جاعل الثلاثة أربعة وجاعل الخمسة ستة بمشاركته لهم في العلم بما يتناجون فيه ومعيته لهم في الاطلاع على ما يسارون فيه كما يشهد به ما احتف بالكلام من قوله في أول الآية: " ألم تر أن الله يعلم " الخ، وفي آخرها من قوله: " إن الله بكل شئ عليم ". وقوله: " ولا أدنى من ذلك ولا أكثر " أي ولا أقل مما ذكر من العدد ولا أكثر مما ذكر، وبهاتين الكلمتين يشمل الكلام عدد أهل النجوى أيا ما كان أما الادنى من ذلك فالادنى من الثلاثة الاثنان والادنى من الخمسة الاربعة، وأما الاكثر فالاكثر من خمسة الستة فما فوقها. ومن لطف سياق الآية ترتب ما أشير إليه من مراتب العدد: الثلاثة والاربعة والخمسة والستة من غير تكرار فلم يقل: من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا أربعة إلا هو خامسهم وهكذا. وقوله: " إلا هو معهم أينما كانوا " المراد به المعية من حيث العلم بما يتناجون به والمشاركة لهم فيه.
وبذلك يظهر أن المراد بكونه تعالى رابع الثلاثة المتناجين وسادس الخمسة المتناجين معيته لهم في العلم ومشاركته لهم في الاطلاع على ما يسارون لا مماثلته لهم في تتميم العدد فإن كلا منهم شخص واحد جسماني يكون بانضمامه إلى مثله عدد الاثنين وإلى مثليه الثلاثة والله سبحانه منزه عن الجسمية برئ من المادية. وذلك أن مقتضى السياق أن المستثنى من قوله: " ما يكون من نجوى " الخ، معنى
[ 185 ]
واحد وهو أن الله لا يخفى عليه نجوى فقوله: " إلا هو رابعهم " إلا هو سادسهم " في معنى قوله: " إلا هو معهم " وهو المعية العلمية أي أنه يشاركهم في العلم ويقارنهم فيه أو المعية الوجودية بمعنى أنه كلما فرض قوم يتناجون فالله سبحانه هناك سميع عليم. وفي قوله: " أينما كانوا " تعميم من حيث المكان إذ لما كانت معيته تعالى لهم من حيث العلم لا بالاقتران الجسماني لم يتفاوت الحال ولم يختلف باختلاف الامكنة بالقرب والبعد فالله سبحانه لا يخلو منه مكان وليس في مكان. وبما تقدم يظهر أيضا أن - ما تفيده الآية من معيته تعالى لاصحاب النجوى وكونه رابع الثلاثة منهم وسادس الخمسة منهم لا ينافي ما تقدم تفصيلا في ذيل قوله تعالى: " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " المائدة: 73، من أن وحدته تعالى ليست وحدة عددية بل وحدة أحدية يستحيل معها فرض غير معه يكون ثانيا له فالمراد بكونه معهم ورابعا للثلاثة منهم وسادسا للخمسة منهم أنه عالم بما يتناجون به وظاهر مكشوف له ما يخفونه من غيرهم لا أن له وجودا محدودا يقبل العد يمكن أن يفرض له ثان وثالث وهكذا. وقوله: " ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة " أي يخبرهم بحقيقة ما عملوا من عمل ومنه نجواهم ومسارتهم. وقوله: " أن الله بكل شئ عليم " تعليل لقوله: " ثم ينبئهم " الخ، وتأكيد لما
تقدم من علمه بما في السماوات وما في الارض، وكونه مع أصحاب النجوى. والآية تصلح أن تكون توطئة وتمهيدا لمضمون الآيات التالية ولا يخلو ذيلها من لحن شديد يرتبط بما في الآيات التالية من الذم والتهديد. قوله تعالى: " ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه " إلى آخر الآية سياق الآيات يدل على أن قوما من المنافقين والذين في قلوبهم مرض من المؤمنين كانوا قد أشاعوا بينهم النجوى محادة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين يتناجون بينهم بالاثم والعدوان ومعصية الرسول وليؤذوا بذلك المؤمنين ويحزنون وكانوا يصرون على ذلك من غير أن ينتهوا بنهي فنزلت الآيات. فقوله: " ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه " ذم وتوبيخ غيابي لهم، وقد خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يخاطبهم أنفسهم مبالغة في تحقير أمرهم وإبعادا لهم
[ 186 ]
عن شرف المخاطبة. والمعنى: ألم تنظر إلى الذين نهوا عن التناجي بينهم بما يغم المؤمنين ويحزنهم ثم يعودون إلى التناجي الذي نهوا عنه عودة بعد عودة، وفي التعبير بقوله " يعودون " دلالة على الاستمرار، وفي العدول عن ضمير النجوى إلى الموصول والصلة حيث قيل: " يعودون لما نهوا عنه " ولم يقل " يعودون إليها دلالة على سبب الذم والتوبيخ ومساءة العود لانها أمر منهي عنه. وقوله: " يتناجون بالاثم والعدوان ومعصية الرسول المقابلة بين الامور الثلاثة: الاثم والعدوان ومعصية الرسول تفيد أن المراد بالاثم هو العمل الذى له أثر سيئ لا يتعدى نفس عامله كشرب الخمر والميسر وترك الصلاة مما يتعلق من المعاصي بحقوق الله، والعدوان هو العمل الذي فيه تجاوز إلى الغير مما يتضرر به الناس ويتأذون مما يتعلق من المعاصي بحقوق الناس، والقسمان أعني الاثم والعدوان جميعا من معصية الله، ومعصية
الرسول مخالفته في الامور التي هي جائزة في نفسها لا أمر ولا نهي من الله فيها لكن الرسول أمر بها أو نهى عنها لمصلحة الامة بما له ولاية أمورهم والنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم كما نهاهم عن النجوى وإن لم يشتمل على معصية. كان ما تقدم من قوله: " الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه " ذما وتوبيخا لهم على نفس نجواهم بما أنها منهي عنها مع الغض عن كونها بمعصية أو غيرها: وهذا الفصل أعنى قوله: " ويتناجون بالاثم والعدوان ومعصية الرسول " ذم وتوبيخ لهم بما يشتمل عليه تناجيهم من المعصية بأنواعها وهؤلاء القوم هم المنافقون ومرضى القلوب كانوا يكثرون من النجوى بينهم ليغتم بها المؤمنون ويحزنوا ويتأذوا. وقيل: المنافقون واليهود كان يناجي بعضهم بعضا ليحزنوا المؤمنين ويلقوا بينهم الوحشة والفزع ويوهنوا عزمهم لكن في شمول قوله: " الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه " لليهود خفاء. وقوله: " وإذا جاؤك حيوك بما لم يحيك به الله " فإن الله حياه بالتسليم وشرع له ذلك تحية من عند الله مباركة طيبة وهم كانوا يحيونه بغيره. قالوا: هؤلاء هم اليهود كانوا إذا أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: السام عليك - والسام هو الموت - وهم يوهمون أنهم يقولون: السلام عليك، ولا يخلو من شئ فإن الضمير في " جاؤك " و " حيوك " للموصول
[ 187 ]
في قوله: " الذين نهوا عن النجوى " وقد عرفت أن في شموله لليهود خفاء. وقوله: " ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول " معطوف على " حيوك " أو حال وظاهره أن ذلك منهم من حديث النفس مضمرين ذلك في قلوبهم، وهو تحضيض بداعي الطعن والتهكم فيكون من المنافقين إنكارا لرسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على طريق الكناية والمعنى: أنهم يحيونك بما لم يحيك به الله وهم يحدثون أنفسهم بدلالة قولهم ذلك - ولولا يعذبهم الله به - على أنك لست برسول من الله ولو كنت رسوله لعذبهم بقولهم.
وقيل: المراد بقوله: " ويقولون في أنفسهم " يقولون فيما بينهم بتحديث بعض منهم لبعض ولا يخلو من بعد. وقد رد الله عليهم احتجاجهم بقولهم: " لولا يعذبنا الله بما نقول " بقوله: " حسبهم جهنم يصلونها وبئس المصير " أي إنهم مخطئون في نفيهم العذاب فهم معذبون بما أعد لهم من العذاب وهو جهنم التي يدخلونها ويقاسون حرها وكفى بها عذابا لهم. وكأن المنافقين ومن يلحق بهم لما لم ينتهوا بهذه المناهي والتشديدات نزل قوله تعالى: " لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا، ملعونين أين ما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا " الآيات الاحزاب: 61. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالاثم والعدوان ومعصية الرسول " الخ، لا يخلو سياق الآيات من دلالة على أن الآية نزلت في رفع الخطر وقد خوطب فيها المؤمنون فاجيز لهم النجوى واشترط عليهم أن لا يكون تناجيا بالاثم والعدوان ومعصية الرسول وأن يكون تناجيا بالبر والتقوى والبر وهو التوسع في فعل الخير يقابل العدوان، والتقوى مقابل الاثم ثم أكد الكلام بالامر بمطلق التقوى بإنذارهم بالحشر بقوله: " واتقوا الله الذي إليه تحشرون ". قوله تعالى: " إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله " الخ، المراد بالنجوى - على ما يفيده السياق - هو النجوى الدائرة في تلك الايام بين المنافقين ومرضى القلوب وهي من الشيطان فإنه الذي يزينها في قلوبهم ليتوسل بها إلى حزنهم ويشوش قلوبهم ليوهمهم أنها في نائبة حلت بهم وبلية أصابتهم. ثم طيب الله سبحانه قلوب المؤمنين بتذكيرهم أن الامر إلى الله سبحانه وأن الشيطان
[ 188 ]
أو التناجي لا يضرهم شيئا إلا بإذن الله فليتوكلوا عليه ولا يخافوا ضره وقد نص سبحانه
في قوله: " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " الطلاق: 3 أنه يكفي من توكل عليه، واستنهضهم على التوكل بأنه من لوازم إيمان المؤمن فإن يكونوا مؤمنين فليتوكلوا عليه فهو يكفيهم. وهذا معنى قوله: " وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ". قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم " الخ، التفسح الاتساع وكذا الفسح، والمجالس جمع مجلس اسم مكان، والاتساع في المجلس أن يتسع الجالس ليسع المكان غيره وفسح الله له أن يوسع له في الجنة. والاية تتضمن أدبا من آداب المعاشرة، ويستفاد من سياقها أنهم كانوا يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيجلسون ركاما لا يدع لغيرهم من الواردين مكانا يجلس فيه فادبوا بقوله: " إذا قيل لكم تفسحوا " الخ، والحكم عام وإن كان مورد النزول مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم توسعوا في المجالس ليسع المكان معكم غيركم فتوسعوا وسع الله لكم في الجنة. وقوله: " وإذا قيل انشزوا فانشزوا " يتضمن أدبا آخر، والنشوز - كما قيل - الارتفاع عن الشئ بالذهاب عنه، والنشوز عن المجلس أن يقوم الانسان عن مجلسه ليجلس فيه غيره إعظاما له وتواضعا لفضله. والمعنى: وإذا قيل لكم قوموا ليجلس مكانكم من هو أفضل منكم في علم أو تقوى فقوموا. وقوله: " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " لا ريب في أن لازم رفعه تعالى درجة عبد من عباده مزيد قربه منه تعالى، وهذا قرينة عقلية على أن المراد بهؤلاء الذين أوتوا العلم العلماء من المؤمنين فتدل الآية على انقسام المؤمنين إلى طائفتين: مؤمن ومؤمن عالم، والمؤمن العالم أفضل وقد قال تعالى: " هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " الزمر: 9. ويتبين بذلك أن ما ذكر من رفع الدرجات في الآية مخصوص بالذين أوتوا العلم ويبقى
لسائر المؤمنين من الرفع الرفع درجة واحدة ويكون التقدير يرفع الله الذين آمنوا منكم درجة ويرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات. وفي الآية من تعظيم أمر العلماء ورفع قدرهم ما لا يخفى. وأكد الحكم بتذييل الآية
[ 189 ]
بقوله: " والله بما تعملون خبير ". قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة " الخ، أي إذا أردتم أن تناجوا الرسول فتصدقوا قبلها. وقوله: " ذلك خير لكم وأطهر " تعليل للتشريع نظير قوله: " وأن تصوموا خير لكم " البقرة: 184، ولا شك أن المراد بكونها خيرا لهم وأطهر أنها خير لنفوسهم وأطهر لقلوبهم ولعل الوجه في ذلك أن الاغنياء منهم كانوا يكثرون من مناجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يظهرون بذلك نوعا من التقرب إليه والاختصاص به وكان الفقراء منهم يحزنون بذلك وينكسر قلوبهم فامروا أن يتصدقوا بين يدي نجواهم على فقرائهم بما فيها من ارتباط النفوس وإثارة الرحمة والشفقة والمودة وصلة القلوب بزوال الغيظ والحنق. وفي قوله: " ذلك " التفات إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين خطابين للمؤمنين وفيه تجليل لطيف له صلى الله عليه وآله وسلم حيث إن حكم الصدقة مرتبط بنجواه صلى الله عليه وآله وسلم والالتفات إليه فيما يرجع إليه من الكلام مزيد عناية به. وقوله: " فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم " أي فإن لم تجدوا شيئا تتصدقون به فلا يجب عليكم تقديمها وقد رخص الله لكم في نجواه وعفى عنكم إنه غفور رحيم فقوله: فإن الله غفور رحيم " من وضع السبب موضع المسبب. وفيه دلالة على رفع الوجوب عن المعدمين كما أنه قرينة على إرادة الوجوب في قوله: " فقدموا " الخ، ووجوبه على الموسرين. قوله تعالى: " ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات " الخ، الآية ناسخة لحكم
الصدقة المذكور في الآية السابقة، وفيه عتاب شديد لصحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين حيث إنهم تركوا مناجاته صلى الله عليه وآله وسلم خوفا من بذل المال بالصدقة فلم يناجه أحد منهم إلا علي عليه السلام فإنه ناجاه عشر نجوات كلما ناجاه قدم بين يدي نجواه صدقة ثم نزلت الآية ونسخت الحكم. والاشفاق الخشية، وقوله: " أن تقدموا " الخ، مفعوله والمعنى: أخشيتم التصدق وبذل المال للنجوى، واحتمل أن يكون المفعول محذوفا والتقدير أخشيتم الفقر لاجل بذل المال. قال بعضهم: جمع الصدقات لما أن الخوف لم يكن في الحقيقة من تقديم صدقة واحدة
[ 190 ]
لانه ليس مظنة الفقر بل من استمرار الامر وتقديم صدقات. وقوله: " فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " الخ، أي فإذ لم تفعلوا ما كلفتم به ورجع الله اليكم العفو والمغفرة فأثبتوا على امتثال سائر التكاليف من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. ففي قوله: " وتاب الله عليكم " دلالة على كون ذلك منهم ذنبا ومعصية غير أنه تعالى غفر لهم ذلك. وفي كون قوله: " فأقيموا الصلاة " الخ، متفرعا على قوله: " فإذ لم تفعلوا " الخ، دلالة على نسخ حكم الصدقة قبل النجوى. وفي قوله: " وأطيعوا الله ورسوله " تعميم لحكم الطاعة لسائر التكاليف بإيجاب الطاعة المطلقة، وفي قوله: " والله خبير بما تعملون " نوع تشديد يتأكد به حكم وجوب طاعة الله ورسوله. (بحث روائي) في المجمع وقرأ حمزة ورويس عن يعقوب " ينتجون " والباقون " يتناجون " ويشهد
لقراءة حمزة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في علي عليه السلام - لما قال له بعض أصحابه: أتناجيه دوننا - ؟ ما أنا انتجيته بل الله انتجاه. وفي الدر المنثور أخرج أحمد وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان بسند جيد عن ابن عمر أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: سام عليك يريدون بذلك شتمه ثم يقولون في أنفسهم: " لولا يعذبنا الله بما نقول " فنزلت هذه الآية " وإذا جاؤك حيوك بما لم يحيك به الله ". وفيه أخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في هذه الآية قال كان المنافقون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: سام عليك فنزلت. أقول: وهذه الرواية أقرب إلى التصديق من سابقتها لما تقدم في تفسير الآية، وفي رواية القمي في تفسيره أنهم كانوا يحيونه بقولهم: أنعم صباحا وأنعم مساء، وهو تحية أهل الجاهلية.
[ 191 ]
وفي المجمع في قوله تعالى: " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " وقد ورد أيضا في الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: فضل العالم على الشهيد درجة، وفضل الشهيد على العابد درجة، وفضل النبي على العالم درجة، وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه، وفضل العالم على سائر الناس كفضلي على أدناهم. رواه جابر بن عبد الله. أقول: وذيل الرواية لا يخلو من شئ فإن ظاهر رجوع الضمير في " أدناهم " إلى الناس اعتبار مراتب في الناس فمنهم الاعلى ومنهم المتوسط، وإذا كان فضل العالم على سائر الناس وفيهم الاعلى رتبة كفضل النبي على أدنى الناس كان العالم أفضل من النبي وهو كما ترى. اللهم إلا أن يكون الادنى بمعنى الاقرب والمراد بأدناهم أقربهم من النبي وهو العالم كما يلوح من قوله: وفضل النبي على العالم درجة، فيكون المفاد أن فضل العالم على سائر
الناس كفضلي على أقربهم مني وهو العالم. وفي الدر المنثور أخرج سعيد بن منصور وابن راهويه وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن علي قال: إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها بعدي آية النجوى " يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة " كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم فكنت كلما ناجيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدمت بين يدي نجواي درهما ثم نسخت فلم يعمل بها أحد فنزلت " ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات " الآية. وفي تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل: " إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة " قال: قدم علي بن أبي طالب عليه السلام بين يدي نجواه صدقة ثم نسخها بقوله: " ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات ". أقول: وفي هذا المعنى روايات أخر من طرق الفريقين. ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا
[ 192 ]
منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون - 14. أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون - 15. اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين - 16. لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون - 17. يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شئ ألا إنهم هم الكاذبون - 18. إستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون - 19. إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك
في الاذلين - 20. كتب الله لاغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز - 21. لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون - 22. (بيان) تذكر الآيات قوما من المنافقين يتولون اليهود ويوادونهم وهم يحادون الله ورسوله وتذمهم على ذلك وتهددهم بالعذاب والشقوة تهديدا شديدا، وتقطع بالآخرة أن الايمان
[ 193 ]
بالله واليوم الآخر يمنع عن موادة من يحاد الله ورسوله كائنا من كان، وتمدح المؤمنين المتبرئين من أعداء الله وتعدهم إيمانا مستقرا وروحا من الله وجنة ورضوانا. قوله تعالى: " ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم " الخ، القوم المغضوب عليهم هم اليهود، قال تعالى: " من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت " المائدة: 60. وقوله: " ما هم منكم ولا منهم " ضمير " هم " للمنافقين وضمير " منهم " لليهود، والمعنى: أن هؤلاء المنافقين لتذبذبهم بين الكفر والايمان ليسوا منكم ولا من اليهود، قال تعالى: " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " النساء: 143. وهذه صفتهم بحسب ظاهر حالهم وأما بحسب الحقيقة فهم ملحقون بمن تولوهم، قال تعالى: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " المائدة: 51، فلا منافاة بين قوله: " ما هم منكم ولا منهم " وقوله: " فإنه منهم ". واحتمل بعضهم أن ضمير " هم " للقوم وهم اليهود وضمير " منهم " للموصول وهم
المنافقون، والمعنى: تولوا اليهود الذين ليسوا منكم وأنتم مؤمنون ولا من هؤلاء المنافقين أنفسهم بل أجنبيون برآء من الطائفتين، وفيه نوع من الذم، وهو بعيد. وقوله: " ويحلفون على الكذب وهم يعلمون " أي يحلفون لكم على الكذب أنهم منكم مؤمنون أمثالكم وهم يعلمون أنهم كاذبون في حلفهم. قوله تعالى: " أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون " الاعداد التهيئة، وقوله: إنهم ساء " الخ، تعليل للاعداد، وفي قوله: " كانوا يعملون " دلالة على أنهم كانوا مستمرين في عملهم مداومين عليه. والمعنى: هيأ الله لهم عذابا شديدا لاستمرارهم على عملهم السيئ. قوله تعالى: " اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين " الايمان جمع يمين وهو الحلف، والجنة السترة التي يتقى بها الشر كالترس، والمهين اسم فاعل من الاهانة بمعنى الاذلال والاخزاء. والمعنى: اتخذوا أيمانهم سترة يدفعون بها عن نفوسهم التهمة والظنة كلما ظهر منهم أمر يريب المؤمنين فصرفوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله وهو الاسلام فلهم - لاجل ذلك -
[ 194 ]
عذاب مذل مخز. قوله تعالى: " لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " أي إن الذي دعاهم إلى ما هم عليه متاع الحياة الدنيا الذي هو الاموال والاولاد لكنهم في حاجة إلى التخلص من عذاب خالد لا يقضيها لهم إلا الله سبحانه فهم في فقر إليه لا يغنيهم عنه أموالهم ولا أولادهم شيئا فليؤمنوا به وليعبدوه. قوله تعالى: " يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شئ " الخ، ظرف لما تقدم من قوله: " أعد الله لهم عذابا شديدا " أو لقوله: " أولئك أصحاب النار "، وقوله: " فيحلفون له كما يحلفون لكم " أي يحلفون لله يوم البعث كما
يحلفون لكم في الدنيا. وقد قدمنا في تفسير قوله تعالى: " ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين " الانعام: 23 أن حلفهم على الكذب يوم القيامة مع ظهور حقائق الامور يومئذ من ظهور ملكاتهم هناك لرسوخها في نفوسهم في الدنيا فقد اعتادوا فيها على إظهار الباطل على الحق بالايمان الكاذبة وكما يعيشون يموتون وكما يموتون يبعثون. ومن هذا القبيل سؤالهم الرد إلى الدنيا يومئذ، والخروج من النار وخصامهم في النار وغير ذلك مما يقصه القرآن الكريم، وهم يشاهدون مشاهدة عيان أن لا سبيل إلى شئ من ذلك واليوم يوم جزاء لايوم عمل. وأما قوله: " ويحسبون أنهم على شئ " أي مستقرون على شئ يصلح أن يستقر عليه ويتمكن فيه فيمكنهم الستر على الحق والمنع عن ظهور كذبهم بمثل الانكار والحلف الكاذب. فيمكن أن يكون قيدا لقوله: " كما يحلفون لكم " فيكون إشارة إلى وصفهم في الدنيا وأنهم يحسبون أن حلفهم لكم ينفعهم ويرضيكم، ويكون قوله: " ألا إنهم هم الكاذبون " قضاء منه تعالى في حقهم بأنهم كاذبون فلا يصغى إلى ما يهذون به ولا يعتنى بما يحلفون به. ويمكن أن يكون قيدا لقوله: " فيحلفون له " فيكون من قبيل ظهور الملكات يومئذ كما تقدم في معنى حلفهم آنفا، ويكون قوله: " ألا إنهم هم الكاذبون " حكما منه تعالى بكذبهم يوم القيامة أو مطلقا.
[ 195 ]
قوله تعالى: " استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون " الاستحواذ الاستيلاء والغلبة، والباقي ظاهر. قوله تعالى: " إن الذين يحادون الله ورسوله اولئك في الاذلين " تعليل لكونهم هم
الخاسرين أي إنما كانوا خاسرين لانهم يحادون الله ورسوله بالمخالفة والمعاندة والمحادون لله ورسوله في جملة الاذلين من خلق الله تعالى. قيل: إنما كانوا في الاذلين لان ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر وإذ كانت العزة لله جميعا فلا يبقى لمن حاده إلا الذلة محضا. قوله تعالى: " كتب الله لاغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز " الكتابة هي القضاء منه تعالى. وظاهر إطلاق الغلبة شمولها للغلبة من حيث الحجة ومن حيث التأييد الغيبي ومن حيث طبيعة الايمان بالله ورسوله: أما من حيث الحجة فإن الانسان مفطور على صلاحية إدراك الحق والخضوع له فلو بين له الحق من السبيل التي يألفها لم يلبث دون أن يعقله وإذا عقله اعترفت له فطرته وخضعت له طويته وإن لم يخضع له عملا اتباعا لهوى أو أي مانع يمنعه عن ذلك. وأما الغلبة من حيث التأييد الغيبي والقضاء للحق على الباطل فيكفي فيها أنواع العذاب التي أنزلها الله تعالى على مكذبي الامم الماضين كقوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وعلى آل فرعون وغيرهم ممن يشير تعالى إليهم بقوله: " ثم أرسلنا رسلنا تترى كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون " المؤمنون: 44، وعلى ذلك جرت السنة الالهية وقد أجمل ذكرها في قوله: " ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون " يونس: 47. وأما الغلبة من حيث طبيعة الايمان بالله ورسوله فإن إيمان المؤمن يدعوه إلى الدفاع والذب عن الحق والمقاومة تجاه الباطل مطلقا وهو يرى أنه إن قتل فاز وإن قتل فاز فثباته على الدفاع غير مقيد بقيد ولا محدود بحد وهذا بخلاف من يدافع لا عن الحق بما هو حق بل عن شئ من المقاصد الدنيوية فإنه إنما يدافع لاجل نفسه فلو شاهد نفسه مشرفة على هلكة أو راكبة مخاطرة تولى منهزما فهو إنما يدافع على شرط وإلى حد وهو سلامة
النفس وعدم الاشراف على الهلكة ومن الضروري أن العزيمة المطلقة تغلب العزيمة المقيدة
[ 196 ]
بقيد المحدودة بحد ومن الشاهد عليه غزوات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما أدت إليه من الفتح والظفر في عين أنها كانت سجالا لكن لم تنته إلا إلى تقدم المسلمين وغلبتهم. ولم تقف الفتوحات الاسلامية ولا تفرقت جموع المسلمين أيادي سبأ إلا بفساد نياتهم وتبديل سيرة التقوى والاخلاص لله وبسط الدين الحق من بسط السلطة وتوسعة المملكة " ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " (1) وقد اشترط الله عليهم حين أكمل دينهم وأمنهم من عدوهم أن يخشوه إذ قال: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشوني ". ويكفي في تسجيل هذه الغلبة قوله تعالى فيما يخاطب المؤمنين: " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين " آل عمران: 139. قوله تعالى: " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم " الخ، نفي وجدان قوم على هذه الصفة كناية عن أن الايمان الصادق بالله واليوم الآخر لا يجامع موادة أهل المحادة والمعاندة من الكفار ولو قارن أي سبب من أسباب المودة كالابوة والبنوة والاخوة وسائر أقسام القرابة فبين الايمان وموادة أهل المحادة تضاد لا يجتمعان لذلك. وقد بان أن قوله: " ولو كانوا آباءهم " الخ، إشارة إلى أسباب المودة مطلقا وقد خصت مودة النسب بالذكر لكونه أقوى أسباب المودة من حيث ثباته وعدم تغيره. وقوله: " اولئك كتب في قلوبهم الايمان " الاشارة إلى القوم بما ذكر لهم من الصفة، والكتابة الاثبات بحيث لا يتغير ولا يزول والضمير لله وفيه نص على أنهم مؤمنون حقا. وقوله: " وأيدهم بروح منه " التأييد التقوية، وضمير الفاعل في " أيدهم " لله تعالى وكذا ضمير " منه " و " من " ابتدائية، والمعنى: وقواهم الله بروح من عنده تعالى،
وقيل: الضمير للايمان، والمعنى: وقواهم الله بروح من جنس الايمان يحيي بها قلوبهم، ولا بأس به. وقيل: المراد بالروح جبرائيل، وقيل: القرآن، وقيل: المراد بها الحجة والبرهان، وهذه وجوه ضعيفة لا شاهد لها من جهة اللفظ.
(1) الانفال: 53.
[ 197 ]
ثم الروح - على ما يتبادر من معناها - هي مبدأ الحياة التي تترشح منها القدرة والشعور فإبقاء قوله: " وأيدهم بروح منه " على ظاهره يفيد أن للمؤمنين وراء الروح البشرية التي يشترك فيها المؤمن والكافر روحا اخرى تفيض عليهم حياة اخرى وتصاحبها قدرة وشعور جديدان، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " الانعام: 122، وقوله: " من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة " النحل: 97. وما في الآية من طيب الحياة يلازم طيب أثرها وهو القدرة والشعور المتفرع عليهما الاعمال الصالحة، وهما المعبر عنهما في آية الانعام المذكورة آنفا بالنور ونظيرها قوله: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به " الحديد: 28. وهذه حياة خاصة كريمة لها آثار خاصة ملازمة لسعادة الانسان الابدية وراء الحياة المشتركة بين المؤمن والكافر التي لها آثار مشتركة فلها مبدأ خاص وهو روح الايمان التي تذكرها الآية وراء الروح المشتركة بين المؤمن والكافر. وعلى هذا فلا موجب لما ذكروا أن المراد بالروح نور القلب وهو نور العلم الذي يحصل به الطمأنينة وأن تسميته روحا مجاز مرسل لانه سبب للحياة الطيبة الابدية أو من الاستعارة لانه في ملازمته وجوه العلم الفائض على القلب - والعلم حياة القلب كما أن الجهل موته -
يشبه الروح المفيض للحياة. انتهى. وقوله: " ويدخلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها " وعد جميل ووصف لحياتهم الآخرة الطيبة. وقوله: " رضي الله عنهم ورضوا عنه " استئناف يعلل قوله: " ويدخلهم جنات " الخ، ورضا الله سبحانه عنهم رحمته لهم لاخلاصهم الايمان له ورضاهم عنه وابتهاجهم بما رزقهم من الحياة الطيبة والجنة. وقوله: " أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون " تشريف لهؤلاء المخلصين في إيمانهم بأنهم حزبه تعالى كما أن أولئك المنافقين الموالين لاعداء الله حزب الشيطان وهؤلاء مفلحون كما أن أولئك خاسرون.
[ 198 ]
وفي قوله: " ألا إن حزب الله " وضع الظاهر موضع الضمير ليجري الكلام مجرى المثل السائر. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: " كتب الله لاغلبن أنا ورسلي " روي أن المسلمين قالوا لما رأوا ما يفتح الله عليهم من القرى: ليفتحن الله علينا الروم وفارس فقال المنافقون: أتظنون أن فارس والروم كبعض القرى التي غلبتم عليها ؟ فأنزل الله هذه الآية. أقول الظاهر أنه من قبيل تطبيق الآية على القصة ونظائره كثيرة، ولذا ورد في قوله تعالى: " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر " أنه نزل في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه يوم بدر، وفي بعضها أنه نزل في أبي بكر سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصكه أبو بكر صكة سقط على الارض فنزلت الآية. وفي عبد الرحمان بن ثابت بن قيس بن الشماس استأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يزور خاله من المشركين فأذن له فلما قدم قرأ عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن حوله من المسلمين الآية.
وهذه روايات لا يلائمها ما في الآيات من الاتصال الظاهر. وفي الدر المنثور أخرج الطيالسي وابن أبي شيبة عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوثق عرى الايمان الحب في الله والبغض في الله. وفي الكافي بإسناده إلى أبان بن تغلب عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما من مؤمن إلا ولقلبه أذنان في جوفه: أذن ينفث فيها الوسواس الخناس وأذن ينفث فيها الملك فيؤيد الله المؤمن بالملك فذلك قوله: " وأيدهم بروح منه ". أقول: ليس معناه تفسير الروح بالملك بل الملك يصاحب الروح ويعمل به، قال تعالى: " ينزل الملائكة بالروح من أمره " النحل: 2. وفيه بإسناده إلى ابن بكير قال: قلت لابي جعفر عليه السلام: في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا زنا الرجل فارقه روح الايمان. قال: هو قوله: " وأيدهم بروح منه " ذلك الذي يفارقه. وفيه بإسناده إلى محمد بن سنان عن أبي خديجة قال: دخلت على أبي الحسن عليه السلام فقال لي: إن الله تبارك وتعالى أيد المؤمن بروح تحضره في كل وقت يحسن فيه ويتقي
[ 199 ]
وتغيب عنه في كل وقت يذنب فيه ويعتدي فهي معه تهتز سرورا عند إحسانه وتسيخ في الثرى عند إساءته، فتعاهدوا عباد الله نعمه بإصلاحكم أنفسكم تزدادوا يقينا وتربحوا نفيسا ثمينا، رحم الله امرء هم بخير فعمله أو هم بشر فارتدع عنه. ثم قال: نحن نؤيد الروح بالطاعة لله والعمل له. أقول: قد تبين مما تقدم في ذيل الآية أن هذه الروح من مراتب الروح الانساني ينالها المؤمن عندما يستكمل الايمان فليست مفارقة له كما أن الروح النباتية والحيوانية والانسانية المشتركة بين المؤمن والكافر من مراتب روحه غير مفارقة له غير أنها تبتدئ هيئة حسنة في النفس ربما زالت لعروض هيئة سيئة تضادها ثم ترجع إذا زالت الموانع المضادة حتى إذا استقرت ورسخت وتصورت النفس بها ثبتت ولم تتغير.
وبذلك يظهر أن المراد بقوله عليه السلام: بروح تحضره، وقوله: فهي معه، حضور صورتها حضور الهيئة العارضة القابلة للزوال، وبقوله: تسيخ في الثرى زوال الهيئة على طريق الاستعارة، وكذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الرواية السابقة: فارقه روح الايمان. (سورة الحشر مدنية، وهي أربع وعشرون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. سبح لله ما في السموات وما في الارض وهو العزيز الحكيم _ 1. هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الابصار _ 2. ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم
[ 200 ]
في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار _ 3. ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب _ 4. ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين _ 5. وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شئ قدير _ 6. ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كيلا يكون دولة بين الاغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب _ 7. للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون _ 8. والذين تبوؤا
الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون _ 9. والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم _ 10.
[ 201 ]
(بيان) تشير السورة إلى قصة إجلاء بني النضير من اليهود لما نقضوا العهد بينهم وبين المسلمين، وإلى وعد المنافقين لهم بالنصر والملازمة ثم غدرهم وما يلحق بذلك من حكم فيئهم. ومن غرر الآيات فيها الآيات السبع في آخرها يأمر الله سبحانه عباده فيها بالاستعداد للقائه من طريق المراقبة والمحاسبة، ويذكر عظمة قوله وجلالة قدره بوصف عظمة قائله عز من قائل بما له من الاسماء الحسنى والصفات العليا. والسورة مدنية بشهادة سياق آياتها. قوله تعالى: " سبح لله ما في السماوات وما في الارض وهو العزيز الحكيم " افتتاح مطابق لما في مختتم السورة من قوله: " يسبح له ما في السماوات والارض وهو العزيز الحكيم ". وإنما افتتح بالتنزيه لما وقع في السورة من الاشارة إلى خيانة اليهود ونقضهم العهد ثم وعد المنافقين لهم بالنصر غدرا كمثل الذين كانوا من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم، وبالنظر إلى ما أذاقهم الله من وبال كيدهم، وكون ذلك على ما يقتضيه الحكمة والمصلحة ذيل الآية بقوله: " وهو العزيز الحكيم ". قوله تعالى: " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر " تأييد لما ذكر في الآية السابقة من تنزهه تعالى وعزته وحكمته، والمراد بإخراج الذين كفروا من أهل الكتاب إجلاء بني النضير حي من أحياء اليهود كانوا يسكنون خارج
المدينة وكان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم عهد أن لا يكونوا له ولا عليه ثم نقضوا العهد فأجلاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وستأتي قصتهم في البحث الروائي التالي إن شاء الله. والحشر إخراج الجماعة بإزعاج، و " لاول الحشر " من إضافة الصفة إلى الموصوف، واللام بمعنى في كقوله: " أقم الصلاة لدلوك الشمس " أسرى: 78. والمعنى: الله الذي أخرج بني النضير من اليهود من ديارهم في أول إخراجهم من جزيرة العرب. ثم أشار تعالى إلى أهمية إخراجهم بقوله: " ما ظننتم أن يخرجوا " لما كنتم تشاهدون فيهم من القوة والشدة والمنعة " وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله " فلن يغلبهم الله وهم متحصنون فيها وعد حصونهم بحسب ظنهم مانعة من الله لا من المسلمين لما أن إخراجهم
[ 202 ]
منها منسوب في الآية السابقة إليه تعالى وكذا إلقاء الرعب في قلوبهم في ذيل الآية، وفي الكلام دلالة على أنه كانت لهم حصون متعددة. ثم ذكر فساد ظنهم وخبطهم في مزعمتهم بقوله: " فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا " والمراد به نفوذ إرادته تعالى فيهم لا من طريق احتسبوه وهو طريق الحصون والابواب بل من طريق باطنهم وهو طريق القلوب " وقذف في قلوبهم الرعب " والرعب الخوف الذي يملا القلب " يخربون بيوتهم بأيديهم " لئلا تقع في أيدي المؤمنين بعد خروجهم وهذه من قوة سلطانه تعالى عليهم حيث أجرى ما أراده بأيدي أنفسهم " وأيدي المؤمنين " حيث أمرهم بذلك ووفقهم لامتثال أمره وإنفاذ إرادته " فاعتبروا " وخذوا بالعظة " يا أولي الابصار " بما تشاهدون من صنع الله العزيز الحكيم بهم قبال مشاقتهم له ولرسوله. وقيل: كانوا يخربون البيوت ليهربوا ويخربها المؤمنون ليصلوا. وقيل: المراد بتخريب البيوت اختلال نظام حياتهم فقد خربوا بيوتهم بأيديهم حيث نقضوا الموادعة، وبأيدي المؤمنين حيث بعثوهم على قتالهم.
وفيه أن ظاهر قوله: " يخربون بيوتهم " الخ أنه بيان لقوله: " فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا " الخ، من حيث أثره فهو متأخر عن نقض الموادعة. قوله تعالى: " ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار " الجلاء ترك الوطن وكتابة الجلاء عليهم قضاؤه في حقهم، والمراد بعذابهم في الدنيا عذاب الاستئصال أو القتل والسبي. والمعنى: ولولا أن قضى الله عليهم الخروج من ديارهم وترك وطنهم لعذبهم في الدنيا بعذاب الاستئصال أو القتل والسبي كما فعل ببني قريظة ولهم في الآخرة عذاب النار. قوله تعالى: " ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب " المشاقة المخالفة بالعناد، والاشارة بذلك إلى ما ذكر من إخراجهم واستحقاقهم العذاب لو لم يكتب عليهم الجلاء، وفي تخصيص مشاقتهم بالله في قوله: " ومن يشاق الله " بعد تعميمه لله ورسوله في قوله: " شاقوا الله ورسوله " تلويح إلى أن مشاقة الرسول مشاقة الله والباقي ظاهر. قوله تعالى: " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين " ذكر الراغب أن اللينة النخلة الناعمة من دون اختصاص منه بنوع منها دون
[ 203 ]
نوع، رووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقطع نخيلهم فلما قطع بعضها نادوه: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الارض فما بال النخيل تقطع فنزلت الآية فاجيب عن قولهم بأن ما قطعوا من نخلة أو تركوها قائمة على أصولها فبإذن الله ولله في حكمه هذا غايات حقة وحكم بالغة منها إخزاء الفاسقين وهم بنو النضير. فقوله: " وليخزي الفاسقين " اللام فيه للتعليل وهو معطوف على محذوف والتقدير: القطع والترك بإذن الله ليفعل كذا وكذا وليخزي الفاسقين فهو كقوله: " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين " الانعام: 75.
قوله تعالى: " وما أفاء الله على رسوله منهم فما أو جفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء " الخ، الافادة الارجاع من الفئ بمعنى الرجوع، وضمير " منهم " لبني النضير والمراد من أموالهم. وإيجاف الدابة تسييرها بإزعاج وإسراع والخيل الفرس، والركاب الابل و " من خيل ولا ركاب " مفعول " فما أو جفتم " و " من " زائدة للاستغراق. والمعنى: والذي أرجعه الله إلى رسوله من أموال بني النضير - خصه به وملكه وحده إياه - فلم تسيروا عليه فرسا ولا إبلا بالركوب حتى يكون لكم فيه حق بل مشيتم إلى حصونهم مشاة لقربها من المدينة، ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شئ قدير وقد سلط النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بني النضير فله فيئهم يفعل فيه ما يشاء. قوله تعالى: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل " الخ، ظاهره أنه بيان لموارد مصرف الفيئ المذكور في الآية السابقة مع تعميم الفيئ لفيئ أهل القرى أعم من بني النضير وغيرهم. وقوله: " فلله وللرسول " أي منه ما يختص بالله والمراد به صرفه وإنفاقه في سبيل الله على ما يراه الرسول ومنه ما يأخذه الرسول لنفسه ولا يصغى إلى قول من قال: إن ذكره تعالى مع أصحاب السهام لمجرد التبرك. وقوله: " ولذي القربى " الخ، المراد بذي القربى قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا معنى لحمله على قرابة عامة المؤمنين وهو ظاهر، والمراد باليتامى الفقراء منهم كما يشعر به السياق وإنما أفرد وقدم على " المساكين " مع شموله له اعتناء بأمر اليتامى. وقد ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أن المراد بذي القربى أهل البيت واليتامى
[ 204 ]
والمساكين وابن السبيل منهم. وقوله: " كيلا يكون دولة بين الاغنياء منكم " أي إنما حكمنا في الفئ بما حكمنا كيلا
يكون دولة بين الاغنياء منكم والدولة ما يتداول بين الناس ويدور يدا بيد. وقوله: " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " أي ما أعطاكم الرسول من الفئ فخذوه كما أعطى منه المهاجرين ونفرا من الانصار، وما نهاكم عنه ومنعكم فانتهوا ولا تطلبوا، وفيه إشعار بأنهم سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقسم الفئ بينهم جميعا فأرجعه إلى نبيه وجعل موارد مصرفه ما ذكره في الآية وجعل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينفقه فيها على ما يرى. والآية مع الغض عن السياق عامة تشمل كل ما آتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حكم فأمر به أو نهى عنه. وقوله: " واتقوا الله إن الله شديد العقاب " تحذير لهم عن مخالفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تأكيدا لقوله: " وما آتاكم الرسول " الخ. قوله تعالى: " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا " الخ، قيل: إن قوله: " للفقراء " بدل من قوله: " ذي القربى " وما بعده وذكر " الله " لمجرد التبرك فيكون الفئ مختصا بالرسول والفقراء من المهاجرين، وقد وردت الرواية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسم فئ بني النضير بين المهاجرين ولم يعط منه الانصار شيئا إلا رجلين من فقرائهم أو ثلاثة. وقيل: إنه بدل من اليتامى والمساكين وابن السبيل فيكون ذوو السهام هم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذا القربى غنيهم وفقيرهم والفقراء من المهاجرين يتاماهم ومساكينهم وأبناء السبيل منهم، ولعل هذا مراد من قال: إن قوله: " للفقراء المهاجرين " بيان المساكين في الآية السابقة. والانسب لما تقدم نقله عن أئمة أهل البيت عليه السلام أن يكون قوله: " للفقراء المهاجرين " الخ، بيان مصداق لصرف سبيل الله الذي أشير إليه بقوله: " فلله " لا بأن يكون الفقراء المهاجرون أحد السهماء في الفئ بل بأن يكون صرفه فيهم وإعطاؤهم إياه صرفا له في سبيل الله.
ومحصل المعنى على هذا: أن الله سبحانه أفاء الفئ وأرجعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فله أن يتصرف فيه كيف يشاء ثم دله على موارد صرفه وهي سبيل الله والرسول وذو القربى
[ 205 ]
ويتاماهم ومساكينهم وابن السبيل منهم ثم أشار إلى مصداق الصرف في السبيل أو بعض مصاديقه وهم الفقراء المهاجرون الخ، ينفق منه الرسول لهم على ما يرى. وعلى هذا ينبغي أن يحمل ما ورد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسم فئ بني النضير بين المهاجرين ولم يعط الانصار شيئا إلا ثلاثة من فقرائهم: أبا دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة فقد صرف فيهم بما أنه صرف في سبيل الله لا بما أنهم سهماء في الفئ. وكيف كان فقوله: " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم " المراد بهم من هاجر من المسلمين من مكة إلى المدينة قبل الفتح وهم الذين أخرجهم كفار مكة بالاضطرار إلى الخروج فتركوا ديارهم وأموالهم وهاجروا إلى مدينة الرسول. وقوله: " يبتغون فضلا من الله ورضوانا " الفضل الرزق أي يطلبون من الله رزقا في الدنيا ورضوانا في الآخره. وقوله: " وينصرون الله ورسوله " أي ينصرونه ورسوله بأموالهم وأنفسهم، وقوله: " اولئك هم الصادقون " تصديق لصدقهم في أمرهم وهم على هذه الصفات. قوله تعالى: " والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم " الخ، قيل: إنه استئناف مسوق لمدح الانصار لتطيب بذلك قلوبهم إذ لم يشركوا في الفئ، " والذين تبوؤا " - والمراد بهم الانصار - مبتدأ خبره " يحبون " الخ، والمراد بتبوي الدار وهو تعميرها بناء مجتمع ديني يأوي إليه المؤمنون على طريق الكناية، والايمان معطوف على " الدار " وتبوي الايمان وتعميره رفع نواقصه من حيث العمل بحيث يستطاع العمل بما يدعو إليه من الطاعات والقربات من غير حجر ومنع كما كان بمكة. واحتمل أن يعطف " الايمان " على تبوؤا وقد حذف الفعل العامل فيه، والتقدير:
وآثروا الايمان. وقيل: إن قوله: " والذين تبوؤا " الخ، معطوف على قوله: " المهاجرين " وعلى هذا يشارك الانصار المهاجرين في الفيئ، والاشكال عليه بأن المروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسمه بين المهاجرين ولم يعط الانصار منه شيئا إلا ثلاثة من فقرائهم مدفوع بأن الرواية من شواهد العطف دون الاستئناف إذ لو لم يجز إعطاؤه للانصار لم يجز لا - للثلاثة ولا للواحد فإعطاء بعضهم منه دليل على مشاركتهم لهم غير أن الامر لما كان راجعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان له أن يصرفه كيف يشاء فرجع أن يقسمه بينهم على تلك الوتيرة.
[ 206 ]
والانسب لما من كون " للفقراء " الخ، بيانا لمصاديق سهم السبيل هو عطف " والذين تبوؤا " الخ، وكذا قوله الآتي: " والذين جاؤا من بعدهم " على قوله: " المهاجرين " الخ، دون الاستئناف. بل ما ورد من إعطائه صلى الله عليه وآله وسلم للثلاثة يؤيد هذا الوجه بعينه إذ لو كان السهيم فيه الفقراء المهاجرين فحسب لم يعط الانصار ولا لثلاثة منهم، ولو كان للفقراء من الانصار كالمهاجرين فيه سهم - وظاهر الآية أن جمعا منهم كانوا فقراء بهم خصاصة والتاريخ يؤيده - لاعطى غير الثلاثة من فقراء الانصار كما أعطى فقراء المهاجرين واستوعبهم. فقوله: " والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم " ضمير " من قبلهم " للمهاجرين والمراد من قبل مجيئهم وهجرتهم إلى المدينة. وقوله: " يحبون من هاجر إليهم " أي يحبون من هاجر إليهم لاجل هجرتهم من دار الكفر إلى دار الايمان ومجتمع المسلمين. وقوله: " ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا " ضميرا " يجدون " و " صدورهم " للانصار، وضمير " أوتوا " للمهاجرين، والمراد بالحاجة ما يحتاج إليه و " من " تبعيضية وقيل: بيانية والمعنى: لا يخطر ببالهم شئ مما أعطيه المهاجرون فلا يضيق نفوسهم من
تقسيم الفئ بين المهاجرين دونهم ولا يحسدون. وقيل: المراد بالحاجة ما يؤدي إليه الحاجة وهو الغيظ. وقوله: " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " إيثار الشئ اختياره وتقديمه على غيره، والخصاصة الفقر والحاجة، قال الراغب: خصاص البيت فرجه وعبر عن الفقر الذي لم يسد بالخصاصة كما عبر عنه بالخلة انتهى. والمعنى: ويقدمون المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم فقر وحاجة، وهذه الخصيصة أغزر وأبلغ في مدحهم من الخصيصة السابقة فالكلام في معنى الاضراب كأنه قيل: إنهم لا يطمحون النظر فيما بأيدي المهاجرين بل يقدمونهم على أنفسهم فيما بأيديهم أنفسهم في عين الفقر والحاجة. وقوله: " ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون " قال الراغب: الشح بخل مع حرص فيما كان عادة انتهى. و " يوق " فعل مضارع مجهول من الوقاية بمعنى الحفظ، والمعنى: ومن يحفظ - أي يحفظه الله - من ضيق نفسه من بذل ما بيده من المال أو من
[ 207 ]
وقوع مال في يد غيره فاولئك هم المفلحون. قوله تعالى: " والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان " استئناف أو عطف نظير ما تقدم في قوله: " والذين تبوؤا الدار والايمان يحبون " وعلى الاستئناف فالموصول مبتدأ خبره قوله: " يقولون ربنا " الخ. والمراد بمجيئهم بعد المهاجرين والانصار إيمانهم بعد انقطاع الهجرة بالفتح وقيل: المراد أنهم خلفوهم. وقولهم: " ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان " دعاء لانفسهم والسابقين من المؤمنين بالمغفرة، وفي تعبيرهم عنهم بإخواننا إشارة إلى أنهم يعدونهم من أنفسهم كما قال الله تعالى: " بعضكم من بعض " النساء: 25، فهم يحبونهم كما يحبون أنفسهم
ويحبون لهم ما يحبون لانفسهم. ولذلك عقبوه بقولهم: " ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم " فسألوا أن لا يجعل الله في قلوبهم غلا للذين آمنوا والغل العداوة. وفي قوله: " للذين آمنوا " تعميم لعامة المؤمنين منهم وممن سبقهم وتلويح إلى أنه لا بغية لهم إلا الايمان. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم " الآية، قال: سبب ذلك أنه كان بالمدينة ثلاثة أبطن من اليهود: بني النضير وقريظة وقينقاع، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد ومدة فنقضوا عهدهم. وكان سبب ذلك بني النضير في نقض عهدهم أنه أتاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستسلفهم دية رجلين قتلهما رجل من أصحابه غيلة، يعني يستقرض، وكان بينهم كعب بن الاشرف فلما دخل على كعب قال: مرحبا يا أبا القاسم وأهلا وقام كأنه يصنع له الطعام وحدث نفسه أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتبع أصحابه، فنزل جبرئيل فأخبره بذلك. فرجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وقال لمحمد بن مسلمة الانصاري: إذهب إلى بني النضير فأخبرهم أن الله عز وجل قد أخبرني بما هممتم به من الغدر فإما أن تخرجوا من
[ 208 ]
بلدنا وإما أن تأذنوا بحرب، فقالوا: نخرج من بلادك. فبعث إليهم عبد الله بن أبي: لا تخرجوا وتقيموا وتنابذوا محمدا الحرب فإني أنصركم أنا وقومي وحلفائي فإن خرجتم خرجت معكم وإن قاتلتم قاتلت معكم، فأقاموا وأصلحوا بينهم حصونهم وتهيؤا للقتال وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا لا نخرج فاصنع ما أنت صانع. فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكبر وكبر أصحابه وقال لامير المؤمنين: تقدم على بني النضير فأخذ أمير المؤمنين الراية وتقدم، وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأحاط بحصنهم وغدر بهم عبد الله بن أبي.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ظهر بمقدم بيوتهم حصنوا ما يليهم وخربوا ما يليه، وكان الرجل منهم ممن كان له بيت حسن خربه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقطع نخلهم فجزعوا من ذلك وقالوا: يا محمد إن الله يأمرك بالفساد ؟ إن كان لك هذا فخذه وإن كان لنا فلا تقطعه. فلما كان بعد ذلك قالوا: يا محمد نخرج من بلادك فأعطنا مالنا، فقال: لا ولكن تخرجون ولكم ما حملت الابل، فلم يقبلوا ذلك فبقوا أياما ثم قالوا: نخرج ولنا ما حملت الابل، فقال: لا ولكن تخرجون ولا يحمل أحد منكم شيئا، فمن وجدنا معه شيئا من ذلك قتلناه. فخرجوا على ذلك ووقع منهم قوم إلى فدك ووادي القرى وخرج قوم منهم إلى الشام. فأنزل الله فيهم " هو الذي أخرج الذين كفروا - إلى قوله - فإن الله شديد العقاب " وأنزل الله عليه فيما عابوه من قطع النخل " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على اصولها " فبإذن الله - إلى قوله - ربنا إنك رؤف رحيم ". وأنزل الله عليه في عبد الله بن أبي وأصحابه " ألم تر إلى الذين نافقوا - إلى قوله - ثم لا ينصرون " وفي المجمع عن ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ فأعطوه ما أراد منهم فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم وأن يسيرهم إلى أذرعات بالشام وجعل لكل ثلاثة منهم بعيرا وسقاء. فخرجوا إلى أذرعات بالشام وأريحا إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة منهم بالحيرة.
[ 209 ]
وفيه عن محمد بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثه إلى بني النضير وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاث ليال. وفيه عن محمد بن إسحاق: كان إجلاء بني النضير مرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أحد، وكان فتح قريظة مرجعه من الاحزاب، وكان الزهري يذهب إلى أن إجلاء بني النضير كان قبل
أحد على رأس ستة أشهر من وقعة بدر. وفيه عن ابن عباس: نزل قوله تعالى: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى " الآية في أموال كفار أهل القرى وهم قريظة وبنو النضير وهما بالمدينة، وفدك وهي من المدينة على ثلاثة أميال، وخيبر وقرى عرينة وينبع جعلها الله لرسوله يحكم فيها ما أراد وأخبر أنها كلها له فقال أناس: فهلا قسمها فنزلت الآية. وفيه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بني النضير للانصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شئ من الغنيمة فقال الانصار: بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها فنزلت: " ويؤثرون على أنفسهم " الآية. أقول: وروي في إيثارهم ونزول الآية فيه قصص أخرى، والظاهر أن ذلك من قبيل تطبيق الآية على القصة، وقد روى المعاني السابقة في الدر المنثور بطرق كثيرة مختلفة. وفي التوحيد عن علي عليه السلام وقد سئل عما اشتبه على السائل من الآيات قال في قوله تعالى: " فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا " يعني أرسل عليهم عذابا. وفي التهذيب بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " ما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه " الآية قال الفئ ما كان من أموال لم يكن فيها هراقة دم أو قتل والانفال مثل ذلك وهو بمنزلته. وفي المجمع روى المنهال بن عمر عن علي بن الحسين عليه السلام قلت: قوله: " ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل " قال: هم قربانا ومساكيننا وأبناء سبيلنا. أقول: وروى هذا المعنى في التهذيب عن سليم بن قيس عن أمير المؤمنين عليه السلام، وقال في المجمع بعد نقل الرواية السابقة: وقال جميع الفقهاء: هم يتامى الناس عامة وكذلك المساكين وأبناء السبيل وقد روي ذلك أيضا عنهم عليه السلام.
[ 210 ]
وفي الكافي بإسناده عن زرارة أنه سمع أبا جعفر وأبا عبد الله عليهما السلام يقولان: إن الله عز وجل فوض إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم ثم تلى (1) هذه الآية " ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ". أقول: والروايات عنهم عليهم السلام في هذا المعنى كثيرة والمراد بتفويضه أمر خلقه كما يظهر من الروايات إمضاؤه تعالى ما شرعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم وافتراض طاعته في ذلك، وولايته أمر الناس وأما التفويض بمعنى سلبه تعالى ذلك عن نفسه وتقليده صلى الله عليه وآله وسلم لذلك فمستحيل. وفيه بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث: الايمان بعضه من بعض وهو دار وكذلك الاسلام دار والكفر دار. وفي المحاسن بإسناده عن أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: يا زياد ويحك وهل الدين إلا الحب. ألا ترى إلى قول الله: " إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم " أو لا ترون إلى قول الله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: " حبب اليكم الايمان وزينة في قلوبكم " وقال: يحبون من هاجر إليهم " وقال: الدين هو الحب والحب هو الدين. وفي المجمع وفي الحديث: لا يجتمع الشح والايمان في قلب رجل مسلم، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف رجل مسلم. وفي الفقيه روى الفضل بن أبي قرة السمندي قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: أتدري من الشحيح ؟ قلت: هو البخيل. قال: الشح أشد من البخل إن البخيل يبخل بما في يده والشحيح يشح بما في أيدي الناس وعلى ما في يده حتى لا يرى في أيدي الناس شيئا إلا تمنى أن يكون له بالحل والحرام، ولا يقنع بما رزقه الله عز وجل. ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لاخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا
(1) تليا، ظ.
[ 211 ]
وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون _ 11. لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الادبار ثم لا ينصرون _ 12. لانتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون _ 13. لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون _ 14. كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم _ 15. كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين _ 16. فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين _ 17. (بيان) إشارة إلى حال المنافقين ووعدهم لبني النضير بالنصر إن قوتلوا والخروج معهم إن أخرجوا وتكذيبهم فيما وعدوا. قوله تعالى: " ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لاخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب " الخ، الاخوان كالاخوة جمع أخ والاخوة الاشتراك في الانتساب إلى أب ويتوسع فيه فيستعمل في المشتركين في اعتقاد أو صداقة ونحو ذلك، ويكثر استعمال الاخوة في المشتركين في النسبة إلى أب واستعمال الاخوان في المشتركين في اعتقاد ونحوه على ما قيل. والاستفهام في الآية للتعجيب، والمراد بالذين نافقوا عبد الله بن أبي وأصحابه، والمراد بإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب بنو النضير على ما يؤيده السياق فإن مفاد الآيات
[ 212 ]
أنهم كانوا قوما من أهل الكتاب دار أمرهم بين الخروج والقتال بعد قوم آخر كذلك وليس إلا بني النضير بعد بني قينقاع. وقوله: " لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم " مقول قول المنافقين، واللام في " لئن أخرجتم " للقسم أي نقسم لئن أخرجكم المسلمون من دياركم لنخرجن من ديارنا معكم ملازمين لكم ولا نطيع فيكم أي في شأنكم أحدا يشير علينا بمفارقتكم أبدا، وإن قاتلكم المسلمون لننصرنكم عليهم. وقوله: " والله يشهد إنهم لكاذبون " تكذيب لوعد المنافقين، وتصريح بأنهم لا يفون بوعدهم. قوله تعالى: " لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم " تكذيب تفصيلي لوعدهم بعد تكذيبه الاجمالي بقوله: " والله يشهد إنهم لكاذبون " وقد كرر فيه لام القسم، والمعنى: أقسم لئن أخرج بنو النضير لا يخرج معهم المنافقون، وأقسم لئن قوتلوا لا ينصرونهم. قوله تعالى: " ولئن نصروهم ليولن الادبار ثم لا ينصرون " إشارة إلى أن نصرهم على تقدير وقوعه منهم - ولن يقع أبدا - لا يدوم ولا ينفعهم بل يولون الادبار فرارا ثم لا ينصرون بل يهلكون من غير أن ينصرهم أحد. قوله تعالى: " لانتم أشد رهبة في صدورهم من الله " الخ، ضمائر الجمع للمنافقين، والرهبة الخشية، والآية في مقام التعليل لقوله: " ولئن نصروهم ليولن الادبار " أي ذلك لانهم يرهبونكم أشد من رهبتهم لله فلا يقاومونكم لو قاتلتم ولا يثبتون لكم. وعلل ذلك بقوله: " ذلك بأنهم قوم لا يفقهون " والاشارة بذلك إلى كون رهبتهم للمؤمنين أشد من رهبتهم لله أي رهبتهم لكم كذلك لانهم قوم لا يفهمون حق الفهم ولو فقهوا حقيقة الامر بان لهم أن الامر إلى الله تعالى وليس لغيره من الامر شئ سواء في ذلك
المسلمون وغيرهم، ولا يقوى غيره تعالى على عمل خير أو شر أو نافع أو ضار إلا بحول منه تعالى وقوة فلا ينبغي أن يرهب إلا هو عز وجل. قوله تعالى: " لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر " بيان لاثر رهبتهم وجبنهم جميعا والمعنى: لا يقاتلكم بنو النضير والمنافقون جميعا بأن يبرزوا بل في قرى حصينة محكمة أو من وراء جدر من غير بروز.
[ 213 ]
وقوله: " بأسهم بينهم شديد " أي هم فيما بينهم شديدوا البطش غير أنهم إذا برزوا لحربكم وشاهدوكم يجبنون بما ألقى الله في قلوبهم من الرعب. وقوله: " تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى " أي تظن أنهم مجتمعون في ألفة واتحاد والحال أن قلوبهم متفرقة غير متحدة وذلك أقوى عامل في الخزي والخذلان. ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ولو عقلوا لاتحدوا ووحدوا الكلمة. قوله تعالى: " كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم " الوبال العاقبة السيئة وقوله: " قريبا " قائم مقام الظروف منصوب على الظرفية أي في زمان قريب. وقوله: كمثل " الخ، خبر مبتدأ محذوف والتقدير " مثلهم كمثل " الخ، والمعنى: مثلهم أي مثل بني النضير من اليهود في نقضهم العهد ووعد المنافقين لهم بالنصر كذبا ثم الجلاء مثل الذين من قبلهم في زمان قريب وهم بنو قينقاع رهط آخر من يهود المدينة نقضوا العهد بعد غزوة بدر فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أذرعات وقد كان وعدهم المنافقون أن يكلموا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم ويمنعوه من إجلائهم فغدروا بهم فذاق بنو قينقاع وبال أمرهم ولهم في الآخرة عذاب أليم وقيل: المراد بالذين من قبلهم كفار مكة يوم بدر وما تقدم أنسب للسياق. والمثل على أي حال مثل لبني النضير لا للمنافقين على ما يعطيه السياق.
قوله تعالى: " كمثل الشيطان إذ قال للانسان أكفر فلما كفر قال إني برئ منك " الخ، ظاهر السياق أنه مثل للمنافقين في غرورهم بني النضير بوعد النصر ثم خذلانهم عند الحاجة. وظاهر سياق يفيد أن المراد بالشيطان والانسان الجنس والاشارة إلى غرور الشيطان للانسان بدعوته إلى الكفر بتزيين أمتعة الحياة له وتسويل الاعراض عن الحق بمواعيده الكاذبة والاماني السرابية حتى إذا طلعت له طلائع الآخرة وعاين أن ما اغتر به من أماني الحياة الدنيا لم يكن إلا سرابا يغره وخيالا يلعب به تبرأ منه الشيطان ولم يف بما وعده وقال: إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين. وبالجملة مثل المنافقين في دعوتهم بني النضير إلى مخالفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووعدهم النصر ثم الغدر بهم وخلف الوعد كمثل هذا الشيطان في دعوه الانسان إلى الكفر بمواعيده الكاذبة
[ 214 ]
ثم تبريه منه بعد الكفر عند الحاجة. وقيل: المراد بالتمثيل الاشارة إلى قصة برصيصا العابد الذي زين له الشيطان الفجور ففجر بامرأة ثم كفر وسيأتي القصة في البحث الروائي التالي إن شاء الله. وقيل: المثل السابق المذكور في قوله: " كمثل الذين من قبلهم قريبا " مثل كفار مكة يوم بدر - كما تقدم - والمراد بالانسان في هذا المثل أبو جهل وبقول الشيطان له أكفر ما قصه الله تعالى بقوله في القصة: " وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبية وقال إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب " الانفال: 48. وعلى هذا الوجه فقول الشيطان: " إني أخاف الله رب العالمين " قول جدي لانه كان يخاف تعذيب الملائكة النازلين لنصرة المؤمنين ببدر وأما على الوجهين الاولين فهو نوع من الاستهزاء والاخزاء.
قوله تعالى: " فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين " الظاهر أن ضمائر التثنية للشيطان والانسان المذكورين في المثل ففي الآية بيان عاقبة الشيطان في غروره الانسان وإضلاله والانسان في اغتراره به وضلاله، وإشارة إلى أن ذلك عاقبة المنافقين في وعدهم لبني النضير وغدرهم بهم وعاقبة بني النضير في اغترارهم بوعدهم الكاذب وإصرارهم على المشاقة والمخالفة، ومعنى الآية ظاهر. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن إسحاق وابن المنذر وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس أن رهطا من بني عوف بن الحارث منهم عبد الله بن أبي بن سلول ووديعة بن مالك وسويد وداعس بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لا نسلمكم وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن خرجتم خرجنا معكم فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا وقذف الله الرعب في قلوبهم. فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الابل من أموالهم إلا الحلقة ففعل فكان الرجل منهم يهدم بيته فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به
[ 215 ]
فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام. أقول: والرواية تخالف ما في عدة من الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي عرض لهم أن يخرجوا بما تحمله الابل من الاموال فلم يقبلوا ثم رضوا بذلك بعد أيام فلم يقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يخرجوا بأنفسهم وأهليهم من غير أن يحملوا شيئا فخرجوا كذلك وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكل ثلاثة منهم بعيرا وسقاء. وفيه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس " ألم تر إلى الذين نافقوا " قال: عبد الله بن أبي ابن سلول ورفاعة بن تابوت وعبد الله بن نبتل وأوس بن قيظى. " وإخوانهم " بنو النضير. أقول: المراد به عد بعضهم فلا ينافي ما في الرواية السابقة.
وفيه أخرج ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن عبيد بن رفاعة الدارمي يبلغ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان راهب في بني إسرائيل فأخذ الشيطان جارية فحنقها فألقى في قلوب أهلها أن دواءها عند الراهب فاتي بها الراهب فأبي أن يقبلها فلم يزالوا به حتى قبلها فكانت عنده. فأتاه الشيطان فوسوس له وزين له فلم يزل به حتى وقع عليها فلما حملت وسوس له الشيطان فقال: الآن تفتضح يأتيك أهلها فاقتلها فإن أتوك فقل: ماتت فقتلها ودفنها فأتى الشيطان أهلها فوسوس إليهم وألقى في قلوبهم أنه أحبلها ثم قتلها فأتاه أهلها فسألوه فقال: ماتت فأخذوه. فأتاه الشيطان فقال: أنا الذي ألقيت في قلوب أهلها، وأنا الذي أوقعتك في هذا فأطعني تنج واسجد لى سجدتين فسجد له سجدتين فهو الذي قال الله: " كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر " الآية. أقول: والقصة مشهورة رويت مختصرة ومفصلة في روايات كثيرة. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون _ 18. ولا تكونوا كالذين
[ 216 ]
نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون _ 19. لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون _ 20. لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون _ 21. هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم _ 22. هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون _ 23. هو الله
الخالق البارئ المصور له الاسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والارض وهو العزيز الحكيم _ 24. (بيان) الذي تتضمنه الآيات الكريمة كالنتيجة المأخوذة مما تقدم من آيات السورة فقد أشير فيها إلى مشاقة بني النضير من اليهود ونقضهم العهد وذاك الذي أوقعهم في خسران دنياهم وأخراهم، وتحريض المنافقين لهم على مشاقة الله ورسوله وهو الذي أهلكهم، وحقيقة السبب في ذلك أنهم لم يراقبوا الله في أعمالهم ونسوه فأنساهم أنفسهم فلم يختاروا ما فيه خير أنفسهم وصلاح عاجلهم وآجلهم فتاهوا وهلكوا. فعلى من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر أن يذكر ربه ولا ينساه وينظر فيما يقدمه من العمل ليوم الرجوع إلى ربه فإن ما عمله محفوظ عليه يحاسبه به الله يومئذ فيجازيه عليه جزاء لازما لا يفارقه. وهذا هو الذي يرومه قوله: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد " الآيات فتندب المؤمنين إلى أن يذكروا الله سبحانه ولا ينسوه وينظروا في أعمالهم
[ 217 ]
التي على صلاحها وطلاحها يدور رحى حياتهم الآخرة فيراقبوا أعمالهم أن تكون صالحة خالصة لوجهه الكريم مراقبة مستمرة ثم يحاسبوا أنفسهم فيشكروا الله على ما عملوا من حسنة ويوبخوها ويزجروها على ما اقترفت من سيئة ويستغفروا. وذكر الله تعالى بما يليق بساحة عظمته وكبريائه من أسمائه الحسنى وصفاته العليا التي بينها القرآن الكريم في تعليمه هو السبيل الوحيد الذي ينتهي بسالكه إلى كمال العبودية ولا كمال للانسان فوقه. وذلك أن الانسان عبد محض ومملوك طلق لله سبحانه فهو مملوك من كل جهة مفروضة لا استقلال له من جهة كما أنه تعالى مالكه من كل جهة مفروضة له الاستقلال من كل جهة،
وكمال الشئ محوضته في نفسه وآثاره فكمال الانسان في أن يرى نفسه مملوكا لله من غير استقلال وأن يتصف من الصفات بصفات العبودية كالخضوع والخشوع والذلة والاستكانة والفقر بالنسبة إلى ساحة العظمة والعزة والغنى وأن تجري أعماله وأفعاله على ما يريده الله لا ما يهواه نفسه من غير غفلة في شئ من هذه المراحل: الذات والصفات والافعال. ولا يتم له النظر إلى ذاته وصفاته وأفعاله بنظرة التبعية المحضة والمملوكية الطلقة إلا مع التوجه الباطني إلى ربه الذي هو على كل شئ شهيد وبكل شئ محيط وهو القائم على كل نفس بما كسبت من غير أن يغفل عنه أو ينساه. وعندئذ يطمئن قلبه كما قال تعالى: " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " الرعد: 28، ويعرف الله سبحانه بصفات كماله التي تتضمنها أسماؤه الحسنى، ويظهر منه قبال ذلك صفات عبوديته وجهات نقصه من خضوع وخشوع وذلة وفقر وحاجة. ويتعقب ذلك أعماله الصالحة بدوام الحضور واستمرار الذكر، قال تعالى: " واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون " الاعراف: 206 وقال: " فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون " حم السجدة: 38. وإلى ما ذكرنا من معرفته تعالى بصفات كماله ومعرفة النفس بما يقابلها من صفات النقص والحاجة يشير بمقتضى السياق قوله: " لو أنزلنا هذا القرآن " إلى آخر الآيات. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد " إلى آخر
[ 218 ]
الآية، أمر للمؤمنين بتقوى الله وبأمر آخر وهو النظر في الاعمال التي قدموها ليوم الحساب أهي صالحة فليرج بها ثواب الله أو طالحة فليخش عقاب الله عليها ويتدارك بالتوبة والانابة وهو محاسبة النفس.
أما التقوى وقد فسر في الحديث بالورع عن محارم الله فحيث تتعلق بالواجبات والمحرمات جميعا كانت هي الاجتناب عن ترك الواجبات وفعل المحرمات. وأما النظر فيما قدمت النفس لغد فهو أمر آخر وراء التقوى نسبته إلى التقوى كنسبة النظر الاصلاحي ثانيا من عامل في عمله أو صانع فيما صنعه لتكميله ورفع نواقصه التي غفل عنها أو أخطأ فيها حين العمل والصنع. فعلى المؤمنين جميعا أن يتقوا الله فيما وجه إليهم من التكاليف فيطيعوه ولا يعصوه ثم ينظروا فيما قدموه من الاعمال التي يعيشون بها في غد بعد ما حوسبوا بها أصالح فيرجى ثوابه أم طالح فيخاف عقابه فيتوبوا إلى الله ويستغفروه. وهذا تكليف عام يشمل كل مؤمن لحاجة الجميع إلى إصلاح العمل وعدم كفاية نظر بعضهم عن نظر الآخرين غير أن القائم به من أهل الايمان في نهاية القلة بحيث يكاد يلحق بالعدم وإلى ذلك يلوح لفظ الآية " ولتنظر نفس ". فقوله: " ولتنظر نفس ما قدمت لغد " خطاب عام لجميع المؤمنين لكن لما كان المشتغل بهذا النظر من بين أهل الايمان بل من بين أهل التقوى منهم في غاية القلة بل يكاد يلحق بالعدم لاشتغالهم بأعراض الدنيا واستغراق أوقاتهم في تدبير المعيشة وإصلاح امور الحياة ألقى الخطاب في صورة الغيبة وعلقه بنفس ما منكرة فقال: " ولتنظر نفس " وفي هذا النوع من الخطاب مع كون التكليف عاما بحسب الطبع عتاب وتقريع للمؤمنين مع التلويح إلى قلة من يصلح لامتثاله منهم. وقوله: " ما قدمت لغد " استفهام من ماهية العمل الذي قدمت لغد وبيان للنظر، ويمكن أن تكون " ما " موصولة وهي وصلتها متعلقا بالنظر. والمراد بغد يوم القيامة وهو يوم حساب الاعمال وإنما عبر عنه بغد للاشارة إلى قربه منهم كقرب الغد من أمسه، قال تعالى: " إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا " المعارج: 7. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله بطاعته في جميع ما يأمركم به وينهاكم عنه،
ولتنظر نفس منكم فيما عملته من عمل ولتر ما الذي قدمته من عملها ليوم الحساب أهو
[ 219 ]
عمل صالح أو طالح وهل عملها الصالح صالح مقبول أو مردود. وقوله: " واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون " أمر بالتقوى ثانيا و " إن الله خبير " الخ، تعليل له وتعليل هذه التقوى بكونه تعالى خبيرا بالاعمال يعطي أن المراد بهذه التقوى المأمور بها ثانيا هي التقوى في مقام المحاسبة والنظر فيها من حيث إصلاحها وإخلاصها لله سبحانه وحفظها عما يفسدها، وأما قوله في صدر الآية: " اتقوا الله " فالمراد به التقوى في أصل إتيان الاعمال بقصرها في الطاعات وتجنب المعاصي. ومن هنا تبين أن المراد بالتقوى في الموضعين مختلف فالاولى هي التقوى في أصل إتيان الاعمال، والثانية هي التقوى في الاعمال المأتية من حيث إصلاحها وإخلاصها. وظهر أيضا أن قول بعضهم: إن الاولى للتوبة عما مضى من الذنوب والثانية لاتقاء المعاصي في المستقبل غير سديد ومثله ما قيل: إن الاولى في أداء الواجبات والثانية في ترك المحرمات، ومثله ما قيل: إن الامر الثاني لتأكيد الامر الاول فحسب. قوله تعالى: " ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم " الخ، النسيان زوال صورة المعلوم عن النفس بعد حصولها فيها مع زوال مبدئه ويتوسع فيه مطلق على مطلق الاعراض عن الشئ بعدم ترتيب الاثر عليه قال تعالى: " وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين " الجاثية: 34. والآية بحسب لب معناها كالتأكيد لمضمون الآية السابقة كأنه قيل: قدموا ليوم الحساب والجزاء عملا صالحا تحيى به أنفسكم ولا تنسوه. ثم لما كان سبب نسيان النفس نسيان الله تعالى إذ بنسيانه تعالى تنسى أسماؤه الحسنى وصفاته العليا التي ترتبط بها صفات الانسان الذاتية من الذلة والفقر والحاجة فيتوهم الانسان نفسه مستقلة في الوجود ويخيل إليه أن له لنفسه حياة وقدرة وعلما وسائر ما يتراءى له من الكمال، ونظراؤه في الاستقلال
سائر الاسباب الكونية الظاهرية تؤثر فيه وتتأثر عنه. وعند ذلك يعتمد على نفسه وكان عليه أن يعتمد على ربه ويرجو ويخاف الاسباب الظاهرية وكان عليه أن يرجو ويخاف ربه، يطمئن إلى غير ربه وكان عليه أن يطمئن إلى ربه. وبالجملة ينسى ربه والرجوع إليه ويعرض عنه بالاقبال إلى غيره، ويتفرع عليه أن ينسى نفسه فإن الذي يخيل إليه من نفسه أنه موجود مستقل الوجود يملك ما ظهر فيه
[ 220 ]
من كمالات الوجود واليه تدبير أمره مستمدا مما حوله من الاسباب الكونية وليس هذا هو الانسان بل الانسان موجود متعلق الوجود جهل كله عجز كله ذلة كله فقر كله وهكذا، وما له من الكمال كالوجود والعلم والقدرة والعزة والغنى وهكذا فلربه وإلى ربه انتهاؤه ونظراؤه في ذلك سائر الاسباب الكونية. والحاصل لما كان سبب نسيان النفس نسيان الله تعالى حول النهي عن نسيان النفس في الآية إلى النهي عن نسيانه تعالى لان انقطاع المسبب بانقطاع سببه أبلغ وآكد، ولم يقنع بمجرد النهي الكلي عن نسيانه بأن يقال: ولا تنسوا الله فينسيكم أنفسكم بل جرى بمثل إعطاء الحكم بالمثال ليكون أبلغ في التأثير وأقرب إلى القبول فنهاهم أن يكونوا كالذين نسوا الله مشيرا به إلى من تقدم ذكرهم من يهود بني النضير وبني قينقاع ومن حاله حالهم في مشاقة الله ورسوله. فقال: " ولا تكونوا كالذين نسوا الله " ثم فرع عليه قوله: " فأنساهم أنفسهم " تفريع المسبب على سببه ثم عقبه بقوله: " أولئك هم الفاسقون " فدل على أنهم فاسقون حقا خارجون عن زي العبودية. والآية وإن كانت تنهى عن نسيانه تعالى المتفرع عليه نسيان النفس لكنها بورودها في سياق الآية السابقة تأمر بذكر الله ومراقبته.
فقد بان من جميع ما تقدم في الآيتين أن الآية الاولى تأمر بمحاسبة النفس والثانية تأمر بالذكر والمراقبة. قوله تعالى: " لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون " قال الراغب: الفوز الظفر بالخير مع حصول السلامة " انتهى. والسياق يشهد بأن المراد بأصحاب النار هم الناسون لله وبأصحاب الجنة هم الذاكرون لله المراقبون. والآية حجة تامة على وجوب اللحوق بالذاكرين لله المراقبين له دون الناسين، تقريرها أن هناك قبيلين لا ثالث لهما وهما الذاكرون لله والناسون له لا بد للانسان أن يلحق بأحدهما وليسا بمساويين حتى يتساوى اللحوقان ولا يبالي الانسان بأيهما لحق ؟ بل هناك راجح ومرجوح يجب اختيار الراجح على المرجوح والرجحان لقبيل الذاكرين لانهم الفائزون لا غير فالترجيح لجانبهم فمن الواجب لكل نفس أن يختار اللحوق بقبيل الذاكرين.
[ 221 ]
قوله تعالى: " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله " الخ، في المجمع: التصدع التفرق بعد التلاؤم ومثله التفطر انتهى. والكلام مسوق سوق المثل مبني على التخييل والدليل عليه قوله في ذيل الآية: " وتلك الامثال نضربها للناس " الخ. والمراد تعظيم أمر القرآن بما يشتمل عليه من حقائق المعارف وأصول الشرائع والعبر والمواعظ والوعد والوعيد وهو كلام الله العظيم، والمعنى: لو كان الجبل مما يجوز أن ينزل عليه القرآن فأنزلناه عليه لرأيته - مع ما فيه من الغلظة والقسوة وكبر الجسم وقوة المقاومة قبال النوازل - متأثرا متفرقا من خشية الله فإذا كان هذا حال الجبل بما هو عليه فالانسان أحق بأن يخشع لله إذا تلاه أو تلي عليه، وما أعجب حال أهل المشاقة والعناد لا تلين قلوبهم له ولا يخشعون ولا يخشون.
والالتفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة في قوله: " من خشية الله " للدلالة على علة الحكم فإنما يخشع ويتصدع الجبل بنزول القرآن لانه كلام الله عز اسمه. وقوله، " وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون " من وضع الحكم الكلي موضع الجزئي للدلالة على أن الحكم ليس ببدع في مورده بل جار سار في موارد اخرى كثيرة فقوله: " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل " الخ، مثل ضربه الله للناس في أمر القرآن لتقريب عظمته وجلالة قدره بما أنه كلام لله تعالى وبما يشتمل عليه من المعارف رجاء أن يتفكر فيه الناس فيتلقوا القرآن بما يليق به من التلقي ويتحققوا بما فيه من الحق الصريح ويهتدوا إلى ما يهدي إليه من طريق العبودية التي لا طريق إلى كمالهم وسعادتهم وراءها، ومن ذلك ما ذكر في الآيات السابقة من المراقبة والمحاسبة. قوله تعالى: " هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم " هذه الآية والآيتان بعدها وإن كانت مسوقة لتعداد قبيل من أسمائه تعالى الحسنى والاشارة إلى تسميته تعالى بكل اسم أحسن وتنزهه بشهادة ما في السماوات والارض لكنها بانضمامها إلى ما مر من الامر بالذكر تفيد أن على الذاكرين أن يذكروه بأسمائه الحسنى فيعرفوا أنفسهم بما يقابلها من أسماء النقص، فافهم ذلك. وبانضمامها إلى الآية السابقة وما فيها من قوله: " من خشية الله " تفيد تعليل خشوع الجبل وتصدعه من خشية الله كأنه قيل: وكيف لا وهو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب
[ 222 ]
والشهادة، إلى آخر الآيات. وقوله: " هو الله الذي لا إله إلا هو " يفيد الموصول والصلة معنى اسم من أسمائه وهو وحدانيته تعالى في ألوهيته ومعبوديته، وقد تقدم بعض ما يتعلق بالتهليل في تفسير قوله تعالى: " وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو " البقرة: 163. وقوله: " عالم الغيب والشهادة " الشهادة هي المشهود الحاضر عند المدرك والغيب
خلافها وهما معنيان إضافيان فمن الجائز أن يكون شئ شهادة بالنسبة إلى شئ وغيبا بالنسبة إلى آخر ويدور الامر مدار نوع من الاحاطة بالشئ حسا أو خيالا أو عقلا أو وجودا وهو الشهادة وعدمها وهو الغيب، وكل ما فرض من غيب أو شهادة فهو من حيث هو محاط له تعالى معلوم فهو تعالى عالم الغيب والشهادة وغيره لا علم له بالغيب لمحدودية وجوده وعدم إحاطته إلا ما علمه تعالى كما قال: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول " الجن: 27، وأما هو تعالى فغيب على الاطلاق لا سبيل إلى الاحاطة به لشئ أصلا كما قال: " ولا يحيطون به علما ". وقوله: " هو الرحمن الرحيم " قد تقدم الكلام في معنى الاسمين في تفسير سورة الفاتحة. قوله تعالى: " هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر " الخ، الملك هو المالك لتدبير أمر الناس والحكم فيهم، والقدوس مبالغة في القدس وهو النزاهة والطهارة، والسلام من يلاقيك بالسلامة والعافية من غير شر وضر، والمؤمن الذي يعطي الامن، والمهيمن الفائق المسيطر على الشئ. والعزيز الغالب الذي لا يغلبه شئ أو من عنده ما عند غيره من غير عكس، والجبار مبالغة من جبر الكسر أو الذي تنفذ إرادته ويجبر على ما يشاء، والمتكبر الذي تلبس بالكبرياء وظهر بها. وقوله: " سبحان الله عما يشركون " ثناء عليه تعالى كما في قوله: " وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه " البقرة: 116. قوله تعالى: " هو الله الخالق البارئ المصور " إلى آخر الآية، الخالق هو الموجد للاشياء عن تقدير، والبارئ المنشئ للاشياء ممتازا بعضها من بعض، والمصور المعطي لها صورا يمتاز بها بعضها من بعض، والاسماء الثلاثة تتضمن معنى الايجاد باعتبارات مختلفة وبينها ترتب فالتصوير فرع البرء والبرء فرع الخلق وهو ظاهر.
[ 223 ]
وإنما صدر الآيتين السابقتين بقوله: " الذي لا له هو " فوصف به " الله " وعقبه بالاسماء بخلاف هذه الآية إذ قال: " هو الله الخالق " الخ. لان الاسماء الكريمة المذكورة في الآيتين السابقتين وهي أحد عشر اسما من لوازم الربوبية ومالكية التدبير التي تتفرع عليها الالوهية والمعبودية بالحق وهي على نحو الاصالة والاستقلال لله سبحانه وحده لا شريك له في ذلك فاتصافه تعالى وحده بها يستوجب اختصاص الالوهية واستحقاق المعبودية به تعالى. فالاسماء الكريمة بمنزلة التعليل لاختصاص الالوهية به تعالى كأنه قيل لا إله إلا هو لانه عالم الغيب والشهادة هو الرحمان الرحيم، ولذا أيضا ذيل هذه الاسماء بقوله ثناء عليه: " سبحان الله عما يشركون " ردا على القول بالشركاء كما يقوله المشركون. وأما قوله: " هو الله الخالق البارئ المصور " فالمذكور فيه من الاسماء يفيد معنى الخلق والايجاد واختصاص ذلك به تعالى لا يستوجب اختصاص الالوهية به كما يدل عليه أن الوثنيين قائلون باختصاص الخلق والايجاد به تعالى وهم مع ذلك يدعون من دونه أربابا وآلهة ويثبتون له شركاء. وأما وقوع اسم الجلالة في صدر الآيات الثلاث جميعا فهو علم للذات المستجمع لجميع صفات الكمال يرتبط به ويجري عليه جميع الاسماء وفي التكرار مزيد تأكيد وتثبيت للمطلوب. وقوله: " له الاسماء الحسنى " إشارة إلى بقية الاسماء الحسنى عن آخرها لكون الاسماء جمعا محلي باللام وهو يفيد العموم. وقوله: " يسبح له ما في السماوات والارض " أي جميع ما في العالم من المخلوقات حتى نفس السماوات والارض وقد تقدم توضيح معنى الجملة مرارا. ثم ختم الآيات بقوله: " وهو العزيز الحكيم " أي الغالب غير المغلوب الذي فعله متقن لا مجازفة فيه فلا يعجزه فيما شرعه ودعا إليه معصية العاصين ولا مشاقة المعاندين ولا
يضيع عنده طاعة المطيعين وأجر المحسنين. والعناية إلى ختم الكلام بالاسمين والاشارة بذلك إلى كون القرآن النازل من عنده كلام عزيز حكيم هو الذي دعا إلى تكرار اسمه العزيز وذكره مع الحكيم مع تقدم ذكره بين الاسماء.
[ 224 ]
وقد وصف القرآن أيضا بالعزة والحكمة كما قال: " وإنه لكتاب عزيز " حم السجدة: 41، وقال: " والقرآن الحكيم " يس: 2. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: " عالم الغيب والشهادة " عن أبي جعفر عليه السلام قال: الغيب ما لم يكن والشهادة ما قد كان. أقول: وهو تفسير ببعض المصاديق، وقد أوردنا أحاديث عنهم عليه السلام في معنى اسم الجلالة والاسمين الرحمان الرحيم في ذيل تفسير البسملة من سورة الفاتحة. وفي التوحيد بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام في حديث: لم يزل حيا بلا حياة وملكا قادرا قبل أن ينشئ شيئا وملكا جبارا بعد إنشائه للكون. أقول: قوله: لم يزل حيا بلا حياة أي بلا حياة زائدة على الذات، وقوله: لم يزل ملكا قادرا قبل أن ينشئ شيئا إرجاع للملك وهو من صفات الفعل إلى القدرة وهي من صفات الذات ليستقيم تحققه قبل الايجاد. وفي الكافي بإسناده عن هشام الجواليقي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله: " سبحان الله " ما يعني به ؟ قال: تنزيه. وفي نهج البلاغة: والخالق لا بمعنى حركة ونصب. أقول: وقد أوردنا عدة من الروايات في الاسماء الحسنى وإحصائها في البحث عن الاسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب.
وفي النبوي المشهور: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا قبل أن توزنوا وتجهزوا للغرض الاكبر. وفي الكافي بإسناده إلى أبي الحسن الماضي عليه السلام قال: ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فإن عمل حسنا ازداد لله شكرا وإن عمل سيئا استغفر الله وتاب إليه. أقول: وفيما يقرب من هذا المعنى روايات أخر، وقد أوردنا روايات عنهم عليه السلام في معنى ذكر الله في ذيل تفسير قوله تعالى: " فاذكروني أذكركم " الآية البقرة: 152، وقوله: " يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا " الاحزاب 21، فليراجعها من شاء.
[ 225 ]
(سورة الممتحنة مدنية، وهي ثلاث عشرة آية) بسم الله الرحمن الرحيم. يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل _ 1. إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون _ 2. لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير _ 3. قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدأ بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لابيه لاستغفرن لك وما أملك لك من
الله من شئ ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير _ 4. ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم _ 5. لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجوا
[ 226 ]
الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد _ 6. عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم _ 7. لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين _ 8. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون _ 9. (بيان) تذكر السورة موالاة المؤمنين لاعداء الله من الكفار وموادتهم وتشدد النهي عن ذلك تفتتح به وتختتم وفيها شئ من أحكام النساء المهاجرات وبيعة المؤمنات، وكونها مدنية ظاهر. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة " الخ، سياق الآيات يدل على أن بعض المؤمنين من المهاجرين كانوا يسرون الموادة إلى المشركين بمكة ليحموا بذلك من بقي من أرحامهم وأولادهم بمكة بعد خروجهم أنفسهم منها بالمهاجرة إلى المدينة فنزلت الآيات ونهاهم الله عن ذلك، ويتأيد بهذا ما ورد أن الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة أسر كتابا إلى المشركين بمكة يخبرهم فيه بعزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الخروج إليها لفتحها، فعل ذلك ليكون يدا له عليهم يقي بها من كان بمكة من أرحامه وأولاده فأخبر الله بذلك نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ونزلت، وستوافيك قصته في البحث الروائي
التالي إن شاء الله تعالى. فقوله: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء " العدو معروف ويطلق على الواحد والكثير والمراد في الآية هو الكثير بقرينة قوله: " أولياء " و " إليهم " وغير
[ 227 ]
ذلك، وهم المشركون بمكة، وكونهم عدوه من جهة اتخاذهم له شركاء يعبدونهم ولا يعبدون الله ويردون دعوته ويكذبون رسوله، وكونهم أعداء للمؤمنين لايمانهم بالله وتفديتهم أموالهم وأنفسهم في سبيله فمن يعادي الله يعاديهم. وذكر عداوتهم للمؤمنين مع كفاية ذكر عداوتهم لله في سوق النهي لتأكيد التحذير والمنع كأنه قيل: من كان عدوا لله فهو عدو لكم فلا تتخذوه وليا. وقوله: " تلقون إليهم بالمودة " بالمودة مفعول " تلقون " والباء زائدة كما في قوله: " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " البقرة: 195، والمراد بإلقاء المودة إظهارها أو إيصالها، والجملة صفة أو حال من فاعل " لا تتخذوا ". وقوله: " وقد كفروا بما جاءكم من الحق " هو الدين الحق الذي يصفه كتاب الله ويدعو إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والجملة حالية. وقوله: " يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم " الجملة حالية والمراد بإخراج الرسول وإخراجهم اضطرارهم الرسول والمؤمنين إلى الخروج من مكة والمهاجرة إلى المدينة، و " أن تؤمنوا بالله ربكم " بتقدير اللام متعلق بيخرجون، والمعنى: يجبرون الرسول وإياكم على المهاجرة من مكة لايمانكم بالله ربكم. وتوصيف الله بقوله: " ربكم " للاشارة إلى أنهم يؤاخذونهم على أمر حق مفروض ليس بجرم فإن إيمان الانسان بربه مفروض عليه وليس من الجرم في شئ. وقوله: " إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي " متعلق بقوله: " لا تتخذوا " وجزاء الشرط محذوف يدل عليه المتعلق، و " جهادا " مصدر مفعول له،
و " ابتغاء " بمعنى الطلب و " المرضاة " مصدر كالرضى، والمعنى: لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء إن كنتم هاجرتم للمجاهدة في سبيلي ولطلب رضاي. وتقييد النهي عن ولائهم واشتراطه بخروجهم للجهاد وابتغائهم مرضاته من باب اشتراط الحكم بأمر محقق الوقوع تأكيدا له وإيذانا بالملازمة بين الشرط والحكم كقول الوالد لولده: إن كنت ولدي فلا تفعل كذا. وقوله: " تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم " أسررت إليه حديثا أي أفضيت إليه في خفية فمعنى " تسرون إليه بالمودة " تطلعونهم على ما تسرون من مودتهم - على ما قاله الراغب - والاعلان خلاف الاخفاء، و " أنا أعلم " الخ، حال من
[ 228 ]
فاعل " تسرون " و " أعلم " اسم تفضيل، واحتمل بعضهم أن يكون فعل المتكلم وحده من المضارع متعديا بالباء لان العلم ربما يتعدى بها. وجملة: " تسرون إليهم " الخ، استئناف بيانية كأنه قيل بعد استماع النهي السابق: ماذا فعلنا فاجيب: تطلعونهم سرا على مودتكم لهم وأنا أعلم بما أخفيتم وما أظهرتم أي أنا أعلم بقولكم وفعلكم علما يستوي بالنسبة إليه إخفاؤكم وإظهاركم. ومنه يعلم أن قوله: " بما أخفيتم وما أعلنتم " معا يفيدان معنى واحدا وهو استواء الاخفاء والاعلان عنده تعالى لاحاطته بما ظهر وما بطن فلا يرد أن ذكر " ما أخفيتم " يغني عن ذكر " ما أعلنتم " لان العالم بما خفي عالم بما ظهر بطريق أولى. وقوله: " ومن يفعل ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل " الاشارة بذلك إلى أسرار المودة إليهم وهو الموالاة، و " سواء السبيل " من إضافة الصفة إلى الموصوف أي السبيل السوي والطريق المستقيم وهو مفعول " ضل " أو منصوب بنزع الخافض والتقدير فقد ضل عن سواء السبيل، والسبيل سبيل الله تعالى. قوله تعالى: " إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء " الخ، قال الراغب: الثقف - بالفتح
فالسكون - الحذق في إدراك الشئ وفعله. قال: ويقال: ثقفت كذا إذا أدركته ببصرك لحذق في النظر ثم يتجوز به فيستعمل في الادراك وإن لم يكن معه ثقافة. انتهى. وفسره غيره بالظفر ولعله بمعونة مناسبة المقام، والمعنيان متقاربان. والآية مسوقة لبيان أنه لا ينفعهم الاسرار بالمودة للمشركين في جلب محبتهم ورفع عداوتهم شيئا وأن المشركين على الرغم من إلقاء المودة إليهم إن يدركوهم ويظفروا بهم يكونوا لهم أعداء من دون أن يتغير ما في قلوبهم من العداوة. وقوله: " ويبسطوا اليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون " بمنزلة عطف التفسير لقوله: " يكونوا لكم أعداء " وبسط الايدي بالسوء كناية عن القتل والسبي وسائر أنحاء التعذيب وبسط الالسن بالسوء كناية عن السب والشتم. والظاهر أن قوله: " وودوا لو تكفرون " عطف على الجزاء والماضي بمعنى المستقبل كما يقتضيه الشرط والجزاء، والمعنى: أنهم يبسطون اليكم الايدي والالسن بالسوء ويودون بذلك لو تكفرون كما كانوا يفتنون المؤمنين بمكة ويعذبونهم يودون بذلك أن يرتدوا عن دينهم. والله أعلم.
[ 229 ]
قوله تعالى: " لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة " دفع لما ربما يمكن أن يتوهم عذرا لالقاء المودة إليهم أن في ذلك صيانة لارحامهم وأولادهم الذين تركوهم بمكة بين المشركين من أذاهم. والجواب أن أمامكم يوما تجازون فيه على معصيتكم وطالح عملكم ومنه موالاة الكفار ولا ينفعكم اليوم أرحامكم ولا أولادكم الذين قدمتم صيانتهم من أذى الكفار على صيانة أنفسكم من عذاب الله بترك موالاة الكفار. وقوله: " يفصل بينكم " أي يفصل الله يوم القيامة بينكم بتقطع الاسباب الدنيوية كما قال تعالى: " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ " المؤمنون: 101، وذلك
أن القرابة وهي انتهاء إنسانين أو أكثر إلى رحم واحدة إنما تؤثر آثارها من الرحمة والمودة والالفة والمعاونة والمعاضدة والعصبية والخدمة وغير ذلك من الآثار في ظرف الحياة الاجتماعية التي تسوق الانسان إليه حاجته إليها بالطبع بحسب الآراء والعقائد الاعتبارية التي أوجدها فيه فهمه الاجتماعي، ولا خبر عن هذه الآراء في الخارج عن ظرف الحياة الاجتماعية. وإذا برزت الحقائق وارتفع الحجاب وانكشف الغطاء يوم القيامة ضلت عن الانسان هذه الآراء والمزاعم وانقطعت روابط الاستقلال بين الاسباب ومسبباتها كما قال تعالى: " لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون " الانعام: 94، وقال: " ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب " البقرة: 166. فيومئذ تتقطع رابطة الانساب ولا ينتفع ذو قرابة من قرابته شيئا فلا ينبغي للانسان أن يخون الله ورسوله بموالاة أعداء الدين لاجل أرحامه وأولاده فليسوا يغنونه عن الله يومئذ. وقيل: المراد أنه يفرق الله بينكم يوم القيامة بما فيه من الهول الموجب لفرار كل منكم من الآخر حسبما نطق به قوله تعالى: " يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرء منهم يومئذ شأن يغنيه " عبس: 37، والوجه السابق أنسب للمقام. وقيل: المراد أنه يميز بعضكم يومئذ من بعض فيدخل أهل الايمان والطاعة الجنة، وأهل الكفر والمعصية النار ولا يرى القريب المؤمن في الجنة قريبه الكافر في النار. وفيه أنه وإن كان لا بأس به في نفسه لكنه غير مناسب للمقام إذ لا دلالة في المقام على
[ 230 ]
كفر أرحامهم وأولادهم. وقيل: المراد بالفصل فصل القضاء والمعنى: أن الله يقضي بينكم يوم القيامة. وفيه ما في سابقه من عدم المناسبة للمورد فإن فصل القضاء إنما يناسب الاختلاف كما
في قوله تعالى: " إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " السجدة: 20، ولا ارتباط في الآية بذلك. وقوله: " والله بما تعملون بصير " متمم لقوله: " لن تنفعكم " كالمؤكد له والمعنى: لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة في رفع تبعة هذه الخيانة وأمثالها والله بما تعملون بصير لا يخفى عليه ما هي هذه الخيانة فيؤاخذكم عليها لا محالة. قوله تعالى: " قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه " إلى آخر الآيتين، والخطاب للمؤمنين، والاسوة الاتباع والاقتداء، وفي قوله: " والذين معه بظاهره دلالة على أنه كان معه من آمن به غير زوجته ولوط. وقوله: " إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله " أي إنا بريؤن منكم ومن أصنامكم بيان لما فيه الاسطورة والاقتداء. وقوله: " كفرنا بكم وبدأ بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده " بيان لمعنى البراءة بأثرها وهو الكفر بهم وعداوتهم ما داموا مشركين حتى يوحدوا الله سبحانه. والمراد بالكفر بهم الكفر بشركهم بدليل قوله: " حتى تؤمنوا بالله وحده "، والكفر بشركهم مخالفتهم فيه عملا كما أن العداوة بينونة ومخالفة قلبا. فقد فسروا برأتهم منهم بامور ثلاثة: مخالفتهم لشركهم عملا، والعداوة والبغضاء بينهم قلبا، واستمرار ذلك ما داموا على شركهم إلا أن يؤمنوا بالله وحده. وقوله: " إلا قول إبراهيم لابيه لاستغفرن لك وما أملك لك من الله من شئ "، استثناء مما تدل عليه الجمل المتقدمة أن إبراهيم والذين معه تبرؤوا من قومهم المشركين قولا مطلقا. وقطعوا أي رابطة تربطهم بالقوم وتصل بينهم إلا ما قال إبراهيم لابيه: لاستغفرن لك " الخ.
ولم يكن قوله: " لاستغفرن لك " توليا منه بل وعدا وعده إياه رجاء أن يتوب عن الشرك ويؤمن بالله وحده كما يدل عليه قوله تعالى: " وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا
[ 231 ]
عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه " التوبة: 114، حيث يفيد أنه عليه السلام إنما وعده لانه لم يتبين له بعد أنه عدو لله راسخ في عداوته ثابت في شركه فكان يرجو أن يرجع عن شركه ويطمع في أن يتوب ويؤمن فلما تبين له رسوخ عداوته ويئس من إيمانه تبرأ منه. على أن قوله تعالى في قصة محاجته أباه في سورة مريم: " قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا وأعتزلكم وما تدعون من دون الله " مريم: 48، يتضمن وعده أباه بالاستغفار وإخباره بالاعتزال ولو كان وعده الاستغفار توليا منه لابيه لكان من الحري أن يقول: وأعتزل القوم، لا أن يقول: وأعتزلكم فيدخل أباه فيمن يعتزلهم وليس الاعتزال إلا التبري. فالاستثناء استثناء متصل من أنهم لم يكلموا قومهم إلا بالتبري والمحصل من المعنى: أنهم إنما القوا إليهم القول بالتبري إلا قول إبراهيم لابيه: لاستغفرن لك فلم يكن تبريا ولا توليا بل وعدا وعده أباه رجاء أن يؤمن بالله. وههنا شئ وهو أن مؤدى آية التوبة " فلما تبين له أنه عدو لله تبرء منه " أن تبريه الجازم إنما كان بعد الوعد وبعد تبين عداوته لله، وقوله تعالى في الآية التي نحن فيها: " إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم " إخبار عن تبريهم الجازم القاطع فيكون ما وقع في الاستثناء من قول إبراهيم لابيه وعدا واقعا قبل تبريه الجازم ومن غير جنس المستثنى منه فيكون الاستثناء منقطعا لا متصلا. وعلى تقدير كون الاستثناء منقطعا يجوز أن يكون الاستثناء من قوله: " قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه " بما أنه مقيد بقوله: " إذ قالوا لقومهم إنا برآء
منكم "، والمعنى: قد كان لكم اقتداء حسن بتبري إبراهيم والذين معه من قومهم إلا أن إبراهيم قال لابيه كذا وكذا وعدا. وأما على تقدير كون الاستثناء متصلا فالوجه ما تقدم، وأما كون المستثنى منه هو قوله: " قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم "، والمعنى: لكم في إبراهيم أسوة في جميع خصاله إلا في قوله لابيه: " لاستغفرن لك " فلا أسوة فيه. ففيه أن قوله: " لكم أسوة حسنة في إبراهيم " الخ، غير مسوق لايجاب التأسي بإبراهيم عليه السلام في جميع خصاله حتى يكون الوعد بالاستغفار أو نفس الاستغفار - وذلك
[ 232 ]
من خصاله - مستثنى منها بل إنما سيق لايجاب التأسي به في تبريه من قومه المشركين، والوعد بالاستغفار رجاء للتوبة والايمان ليس من التبري وإن كان ليس توليا أيضا. وقوله: " ولا أملك لك من الله شيئا " تتمة قول إبراهيم عليه السلام، وهو بيان لحقيقة الامر من أن سؤاله المغفرة وطلبها من الله ليس من نوع الطلب الذي يملك فيه الطالب من المطلوب منه ما يطلبه، وإنما هو سؤال يدعو إليه فقر العبودية وذلتها قبال غنى الربوبية وعزتها فله تعالى أن يقبل بوجهه الكريم فيستجيب ويرحم، وله أن يعرض ويمسك الرحمة فإنه لا يملك أحد منه تعالى شيئا وهو المالك لكل شئ، قال تعالى: " قل فمن يملك من الله شيئا " المائدة: 17. وبالجملة قوله: " لا أملك " الخ، نوع اعتراف بالعجز استدراكا لما يستشعر من قوله: " لاستغفرن لك " من شائبة إثبات القدرة لنفسه نظير قول شعيب عليه السلام: " وما توفيقي إلا بالله " استدراكا لما يشعر به قوله لقومه: " إن اريد إلا الاصلاح ما استطعت " هود: 88، من إثبات القوة والاستطاعة لنفسه بالاصالة والاستقلال. وقوله: " ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير " الخ، من تمام القول المنقول عن إبراهيم والذين معه المندوب إلى التأسي بهم فيه، وهو دعاء منهم لربهم وابتهال إليه
إثر ما تبرؤا من قومهم ذاك التبري العنيف ليحفظهم من تبعاته ويغفر لهم فلا يخيبهم في إيمانهم. وقد افتتحوا دعاءهم بتقدمة يذكرون فيها حالهم فيما هم فيه من التبري من أعداء الله فقالوا: " ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا " يعنون به أنا كنا في موقف من الحياة تتمكن فيه أنفسنا وندبر فيه امورنا أما أنفسنا فأنبنا ورجعنا بها اليك وهو الانابة، وأما امورنا التي كان علينا تدبيرها فتركناها لك وجعلنا مشيتك مكان مشيتنا فأنت وكيلنا فيها تدبرها بما تشاء وكيف تشاء وهو التوكل. ثم قالوا: " وإليك المصير " يعنون به أن مصير كل شئ من فعل أو فاعل فعل اليك فقد جرينا في توكلنا عليك وإنابتنا اليك مجرى ما عليه حقيقة الامر من مصير كل شئ اليك حيث هاجرنا بأنفسنا اليك وتركنا تدبير امورنا لك. وقوله: " ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا " متن دعائهم يسألونه تعالى أن يعيذهم من تبعة تبريهم من الكفار ويغفر لهم.
[ 233 ]
والفتنة ما يمتحن به، والمراد بجعلهم فتنة للذين كفروا تسليط الكفار عليهم ليمتحنهم فيخرجوا ما في وسعهم من الفساد فيؤذوهم بأنواع الاذى أن آمنوا بالله ورفضوا آلهتم وتبرؤا منهم ومما يعبدون. وقد كرروا نداءه تعالى - ربنا - في دعائهم مرة بعد مرة لاثارة الرحمة الالهية. وقوله: " إنك أنت العزيز الحكيم " أي غالب غير مغلوب متقن لافعاله لا يعجزه أن يستجيب دعاءهم فيحفظهم من كيد أعدائه ويعلم بأي طريق يحفظ. وللمفسرين في تفسير الآيتين أنظار مختلفة اخرى أغمضنا عن إيرادها رعاية للاختصار من أرادها فليراجع المطولات. قوله تعالى: " لقد كان لكم فيهم اسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر " الخ،
تكرار حديث الاسوة لتأكيد الايجاب ولبيان أن هذه الاسوة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وأيضا أنهم كما يتأسى بهم في تبريهم من الكفار كذلك يتأسى بهم في دعائهم وابتهالهم. والظاهر أن المراد برجائه تعالى رجاء ثوابه بالايمان به وبرجاء اليوم الآخر رجاء ما وعد الله وأعد للمؤمنين من الثواب، وهو كناية عن الايمان. وقوله: " ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد " استغناء منه تعالى عن امتثالهم لامره بتبريهم من الكفار وأنهم هم المنتفعون بذلك والله سبحانه غني في ذاته عنهم وعن طاعتهم حميد فيما يأمرهم وينهاهم إذ ليس في ذلك إلا صلاح حالهم وسعادة حياتهم. قوله تعالى: " عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم " ضمير " منهم " للكفار الذين أمروا بمعاداتهم وهم كفار مكة، والمراد بجعل المودة بين المؤمنين وبينهم جعلها بتوفيقهم للاسلام كما وقع ذلك لما فتح الله لهم مكة، وليس المراد به نسخ حكم المعاداة والتبري. والمعنى: مرجو من الله أن يجعل بينكم معشر المؤمنين وبين الذين عاديتم من الكفار وهم كفار مكة مودة بتوفيقهم للاسلام فتنقلب المعاداة مودة والله قدير والله غفور لذنوب عباده رحيم بهم إذا تابوا وأسلموا فعلى المؤمنين أن يرجوا من الله أن يبدل معاداتهم مودة بقدرته ومغفرته ورحمته. قوله تعالى: " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن
[ 234 ]
تبروهم وتقسطوا إليهم " الخ، في هذه الآية والتي تتلوها توضيح للنهي الوارد في أول السورة، والمراد بالذين لم يقاتلوا المؤمنين في الدين ولم يخرجوهم غير أهل مكة ممن لم يقاتلوهم ولم يخرجوهم من ديارهم من المشركين من أهل المعاهدة، والبر والاحسان، والاقساط المعاملة بالعدل، و " إن تبروهم " بدل من " الذين " الخ، وقوله: " إن الله
يحب المقسطين " تعليل لقوله: " لا ينهاكم الله " الخ. والمعنى: " لا ينهاكم الله بقوله: " لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء " عن أن تحسنوا وتعاملوا بالعدل الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم لان ذلك منكم إقساط والله يحب المقسطين. قيل: إن الآية منسوخة بقوله: " اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " التوبة: 5، وفيه أن الآية التي نحن فيها لا تشمل بإطلاقها إلا أهل الذمة وأهل المعاهدة وأما أهل الحرب فلا، وآية التوبة إنما تشمل أهل الحرب من المشركين دون أهل المعاهدة فكيف تنسخ ما لا يزاحمها في الدلالة. قوله تعالى: " إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم " الخ، المراد بالذين قاتلوكم الخ، مشركوا مكة، والمظاهرة على الاخراج المعاونة والمعاضدة عليه، وقوله: " أن تولوهم " بدل من " الذين قاتلوكم " الخ. وقوله: " ومن يتولهم فاولئك هم الظالمون " قصر إفراد أي المتولون لمشركي مكة ومن ظاهرهم على المسلمين هم الظالمون المتمردون عن النهي دون مطلق المتولين للكفار أو تأكيد للنهي عن توليهم. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء " الآية: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ولفظ الآية عام ومعناها خاص وكان سبب ذلك أن حاطب بن أبي بلتعة قد أسلم وهاجر إلى المدينة وكان عياله بمكة، وكانت قريش تخاف أن يغزوهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصاروا إلى عيال حاطب وسألوهم أن يكتبوا إلى حاطب ويسألوه عن خبر محمد هل يريد أن يغزو مكة ؟
[ 235 ]
فكتبوا إلى حاطب يسألونه عن ذلك فكتب إليهم حاطب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد
ذلك، ودفع الكتاب إلى امرأة تسمى صفية فوضعته في قرونها ومرت فنزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره بذلك. فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين والزبير بن العوام في طلبها فلحقوها فقال لها أمير المؤمنين عليه السلام: أين الكتاب ؟ فقالت: ما معي شئ ففتشاها فلم يجدا معها شيئا فقال الزبير: ما نرى معها شيئا فقال أمير المؤمنين عليه السلام: والله ما كذبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على جبرئيل، ولا كذب جبرئيل على الله جل ثناؤه والله لتظهرن الكتاب أو لاردن رأسك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: تنحيا عني حتى أخرجه فأخرجت الكتاب من قرونها فأخذه أمير المؤمنين وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا حاطب ما هذا ؟ فقال حاطب: والله يا رسول الله ما نافقت ولا غيرت ولا بدلت، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله حقا ولكن أهلي وعيالي كتبوا إلى بحسن صنيع قريش إليهم فأحببت أن أجازي قريشا بحسن معاشرتهم، فأنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء - إلى قوله - والله بما تعملون بصير " وفي الدر المنثور أخرج أحمد والحميدي وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وابو داود والترمذي والنسائي وأبو عوانة وابن حبان وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وأبو نعيم معا في الدلائل عن علي قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة (1) خاخ فإن بها ظعينة (2) معها كتاب فخذوه منها وأتوني به. فخرجنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا: أخرجي الكتاب. قالت: ما معي كتاب قلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها. فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا حاطب ؟ قال: لا تعجل علي يا رسول الله إني كنت امرء ملصقا من قريش ولم أكن من أنفسها وكان من معك من
(1) موضع في طريق مكة. (2) الظعينة: المسافرة.
[ 236 ]
المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق. فقال عمر: دعني يا رسول الله فأضرب عنقه فقال: إنه شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، ونزلت فيه " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ". أقول: وهذا المعنى مروي في عدة من الروايات عن نفر من الصحابة كأنس وجابر وعمر وابن عباس وجمع من التابعين كحسن وغيره. والرواية من حيث متنها لا تخلو من بحث: أما أولا: فلان ظاهرها بل صريحها أن حاطب بن أبي بلتعة كان يستحق بصنعه ما صنع القتل أو جزاء دون ذلك، وإنما صرف عنه ذلك كونه بدريا فالبدري لا يؤاخذ بما أتى به من معصية كما يصرح به قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعمر في هذه الرواية: " إنه شهد بدرا " وفي رواية الحسن: إنهم أهل بدر فاجتنب أهل بدر إنهم أهل بدر فاجتنب أهل بدر إنهم أهل بدر فاجتنب أهل بدر. ويعارضه ما في قصة الافك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما نزلت براءة عائشة حد مسطح بن أثاثة وكان من الآفكين، وكان مسطح بن أثاثة هذا من السابقين الاولين من المهاجرين وممن شهد بدرا كما في صحيحي البخاري ومسلم وحده النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما نطقت به الروايات الكثيرة الواردة في تفسير آيات الافك. وأما ثانيا: فلان ما يشتمل عليه من خطابه تعالى لاهل بدر " اعملوا ما شئتم فقد
غفرت لكم " الدال على كون كل ما أتوا به من ذنب مغفورا لهم لا يتم بالبداهة إلا بارتفاع عامة التكاليف الدينية عنهم من واجب أو حرام أو مستحب أو مكروه، ولا معنى لتعلق التكليف المولوي بأمر مع إلغاء تبعة مخالفته وتسوية الفعل والترك بالنسبة إلى المكلف كما يدل عليه قوله: " اعملوا ما شئتم " على بداهة ظهوره في الاباحة العامة. ولازم ذلك: أولا: شمول المغفرة من المعاصي لما يحكم بداهة العقل على عدم شمول العفو له لولا التوبة كعبادة الاصنام والرد على الله ورسوله وتكذيب النبي والافتراء على الله ورسوله والاستهزاء
[ 237 ]
بالدين وأحكامه الثابتة بالضرورة، فإن الآيات المتعرضة لها الناهية عنها تأبى شمول المغفرة لها من غير توبة، ومثلها قتل النفس المحترمة ظلما والفساد في الارض وإهلاك الحرث والنسل، واستباحة الدماء والاعراض والاموال. ومن المعلوم أن المحذور إمكان تعلق المغفرة بأمثال هذه المعاصي والذنوب لا فعلية تعلقها بها فلا يدفع بأن الله سبحانه يحفظ هذا المكلف المغفور له من اقتراف أمثال هذه المعاصي والذنوب وإن كان غفر له لو اقترف. وثانيا: أن يخصص قوله: " اعملوا ما شئتم " عمومات جميع الاحكام الشرعية من عبادات ومعاملات من حيث المتعلق فلا يعم شئ منها البدريين ولا يتعلق بهم، ولو كان كذلك لكان معروفا عند الصحابة مسلما لهم أن هؤلاء العصابة محررون من كل تكليف ديني مطلقون من قيد وظائف العبودية وكان البدريون أنفسهم أحق برعاية معنى التحرير فيما بينهم أنفسهم على ما له من الاهمية، ولا شاهد يشهد بذلك في المروي من أخبارهم والمحفوظ من آثارهم بل المستفاد من سيرهم وخاصة في خلال الفتن الواقعة بعد رحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلاف ذلك بما لا يسع لاحد إنكاره. على أن تحرير قوم ذوي عدد من الناس وإطلاقهم من قيد التكليف لهم أن يفعلوا ما
يشاؤن وأن لا يبالوا بمخالفة الله ورسوله وإن عظمت ما عظمت يناقض مصلحة الدعوة الدينية وفريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وبث المعارف الالهية التي جاء بها الرسول بالرواية عنه إذ لا يبقى للناس بهم وثوق فيما يقولون ويروون من حكم الله ورسوله أن لا ضير عليهم ولو أتوا بكل كذب وافتراء أو اقترفوا كل منكر وفحشاء والناس يعلمون منهم ذلك. ويجري ذلك في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو سيد أهل بدر وقد أرسله (1) الله شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا فكيف تطمئن القلوب إلى دعوة من يجوز تلبسه بكل كذب وافتراء ومنكر وفحشاء ؟ وأنى تسلم النفوس له الاتصاف بتلك الصفات الكريمة التي مدحه الله بها ؟ بل كيف يجوز في حكمته تعالى أن يقلد الشهادة والدعوة من لا يؤمن في حال أو مقال، ويعده سراجا منيرا وهو تعالى قد أباح له أن يحيي الباطل كما (1) الآية 45 - 46 من سورة الاحزاب.
[ 238 ]
ينير الحق وأذن له في أن يضل الناس وقد بعثه ليهديهم والآيات المتعرضة لعصمة الانبياء وحفظ الوحي تأبى ذلك كله. على أن ذلك يفسد استقامة الخطاب في كثير من الآيات التي فيها عتاب الصحابة والمؤمنين على بعض تخلفاتهم كالآيات النازلة في وقعة أحد والاحزاب وحنين وغيرها المعاتبة لهم على انهزامهم وفرارهم من الزحف وقد أوعد الله عليه النار. ومن أوضح الآيات في ذلك آيات الافك وفي أهل الافك مسطح بن أثاثة البدري وفيها قوله تعالى: " لكل امرء منهم ما اكتسب من الاثم " ولم يستثن أحدا منهم، وقوله: " وهو عند الله عظيم "، وقوله: " يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ". ومن أوضح الآيات في عدم ملاءمة معناها للرواية نفس هذه الآيات التي تذكر الرواية سبب نزولها: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة "
الآيات وفيها مثل قوله تعالى: " ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل " وقوله: " ومن يتولهم فاولئك هم الظالمون ". فمن المعلوم أن الآيات إنما وجهت الخطاب والعتاب إلى عامة الذين آمنوا وتنسب إلقاء المودة وإسرار مودة الكفار إلى المؤمنين بما أن بعضهم وهو حاطب بن أبي بلتعة اتخذ الكفار أولياء وخان الاسلام والمسلمين فنسبت الآيات فعل البعض إلى الكل ووجهت العتاب والتهديد إلى الجميع. فلو كان حاطب وهو بدري محرر مرفوع عنه القلم مخاطبا بمثل قوله: اعمل ما شئت فقد غفرت لك لا إثم عليه فيما يفعل ولا ضلال في حقه ولا يتصف بظلم ولا يتعلق به عتاب ولا تهديد فأي وجه لنسبة فعل البعض بما له من الصفات غير المرضية إلى الكل ولا صفة غير مرضية لفعل هذا البعض على الفرض. فيؤل الامر إلى فرض أن يأتي البعض بفعل مأذون له فيه لا عتاب عليه ولا لوم يعتريه ويعاتب الكل ويهددوا عليه وبعبارة اخرى أن يؤذن لفاعل في معصية ثم يعاتب عليها غيره ولا صنع له فيها ويجل كلامه تعالى عن مثل ذلك. وفيه أخرج البخاري وابن المنذر والنحاس والبيهقي في شعب الايمان عن أسماء بنت ابي بكر قالت: أتتني أمي راغبة وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أأصلها ؟ فأنزل الله " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين "
[ 239 ]
فقال نعم صلي. وفيه أخرج أبو داود في تاريخه وابن المنذر عن قتادة " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين " نسختها " اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ". أقول: قد عرفت الكلام فيه. وفي الكافي بإسناده عن سعيد الاعرج عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أوثق عرى
الايمان أن تحب في الله وتبغض في الله وتعطي في الله وتمنع في الله عز وجل. وفي تفسير القمي بإسناده إلى إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كل من لم يحب على الدين ولم يبغض على الدين فلا دين له. يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ألله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسئلوا ما أنفقتم وليسئلوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم - 10. وإن فاتكم شئ من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون - 11. يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن
[ 240 ]
وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم - 12. يا أيها الذين أمنوا لا تتولوا قوما غصب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور - 13. (بيان) قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا جائكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن " الآية، سياق الآية يعطي أنها نزلت بعد صلح الحديبية، وكان ففي العهد المكتوب بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وبين أهل مكة أنه إن لحق من أهل مكة رجل بالمسلمين ردوه إليهم وإن لحق من المسلمين رجل بأهل مكة لم يردوه إليهم ثم إن يعض نساء المشركين أسلمت وهاجرت إلى المدينة قجاء زوجها بستردها فسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يردها إليه فأجابه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الذي شرطوه في العهد رد الرجال دون النساء ولم يردها إليهم وأعطاه ما أنفق عليها من المهر وهو الذي تدل عليه الآية مع ما يناسب ذلك من أحكامهن. فقوله: " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات " سماهن مؤمنات قبل امتحانهن والعلم بإيمانهن لتظاهرهن بذلك. وقوله: " فامتحنوهن " أي اختبروا إيمانهن بها يظهر به ذلك من شهادة وحلف يفيد العلم والوثوق، وفي قوله: " الله أعلم بإيمانهن " إشارة إلى أنه يجزي في ذلك العلم العادي والوثوق دون اليقين بحقيقة الايمان الذي هو تعالى أعلم به علما لا يتخلف عنه معلومه. وقوله: فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار " ذكرهم بوصف الايمان للاشارة إلى أنه السبب للحكم وانقطاع علقة الزوجية بين المؤمنة والكافر. وقوله: لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن " مجموع الجملتين كناية عن انقطاع علقة الزوجية وليس من توجيه الحرمة اليهن وإليهم في شئ. وقوله: " وآتوهم ما أنفقوا " أي أعطوا الزوج الكافر ما أنفق عليها من المهر.
[ 241 ]
وقوله: " ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن " رفع المانع من نكاح المؤمنات المهاجرت إذا أوتين أجورهن والاجر المهر. وقوله: " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " العصم جمع عصمة وهي النكاح الدائم يعصم المرأة ويحصنها، وإمساك العصمة إبقاء الرجل - بعد ما أسلم - زوجته الكافرة على زوجيتها فعليه بعدما أسلم أن يخلي عن سبيل زوجته الكافرة سواء كانت مشركة أو كتابية. وقد تقدم في تفسير قوله: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " البقرة: 221،
وقوله: " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " المائدة: 5، أن لا نسخ بين الآيتين وبين الآية التي نحن فيها. وقوله: " واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا " ضمير الجمع في " واسألوا " للمؤمنين وفي " ليسألوا للكفارأي إن لحقت امرأة منكم بالكفار فاسألوهم ما أنفقتم لها من مهر ولهم أن يسألوا مهر من لحقت بكم من نسائهم. ثم تمم الآية بالاشارة إلى أن ما تضمنته الآية حكم الله الذي شرع لهم فقال: " ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم ". قوله تعالى: " وإن فاتكم شئ من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا " الخ، قال الراغب: الفوت بعد الشئ عن الانسان بحيث يتعذر إدراكه، قال تعالى: " وإن فاتكم شئ من أزواجكم إلى الكفار ". انتهى. وفسر المعاقبة والعقاب بمعنى الوصول والانتهاء إلى عقبى الشئ، والمراد عاقبتم من الكفار أي أصبتم منهم غنيمة وهي عقبى الغزو، وقيل: عاقب بمعنى عقب، وقيل. عاقب مأخوذ من العقبة بمعنى النوبة. والاقرب أن يكون المراد بالشئ المهر و " من " في " من أزواجكم " لابتداء الغاية و " إلى الكفار " متعلق بقوله: " فاتكم " والمراد بالذين ذهبت أزواجهم بعض المؤمنين وإليهم يعود ضمير " أنفقوا ". والمعنى: وإن ذهب وانفلت منكم إلى الكفار مهر من أزواجكم بلحوقهن بهم وعدم ردهم ما أنفقتم من المهر اليكم فأصبتم منهم بالغزو غنيمة فأعطوا المؤمنين الذين ذهبت أزواجهم إليهم مما أصبتم من الغنيمة مثل ما أنفقوا من المهر.
[ 242 ]
وفسرت الآية بوجوه اخرى بعيده عن الفهم أغمضنا عنها. وقوله: " واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون " أمر بالتقوى، وتوصيفه تعالى بالموصول
والصلة لتعليل الحكم فإن من مقتضى الايمان بالله تقواه. قوله تعالى: " يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك " الخ، تتضمن الآية حكم بيعة النساء المؤمنات للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد شرطت عليهن في " على أن لا تشركن " الخ، أمورا منها ما هو مشترك بين الصنفين: الرجال والنساء كالتحرز من الشرك ومن معصية الرسول في معروف ومنها ما هو أمس بهن من حيث أن تدبير المنزل بحسب الطبع اليهن وهن السبيل إلى حفظ عفة البيت والحصول على الانسال وطهارة مواليدهم، وهي التجنب من السرقة والزنا وقتل الاولاد وإلحاق غير أولاد أزواجهن بهم، وإن كانت هذه الامور بوجه من المشتركات. فقوله: " يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك " شرط جوابه قوله: " فبايعهن واستغفر لهن الله ". وقوله: " على أن لا يشركن بالله شيئا " أي من الاصنام والاوثان والارباب، وهذا شرط لا غنى عنه لانسان في حال. وقوله: " ولا يسرقن " أي لا من أزواجهن ولا من غيرهم وخاصة من أزواجهن كما يفيده السياق، وقوله: " ولا يزنين " أي باتخاذ الاخدان وغير ذلك وقوله: " ولا يقتلن أولادهن " بالوءد وغيره وإسقاط الاجنة. وقوله: " ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن " وذلك بأن يحملن من الزنا ثم يضعنه وينسبنه إلى أزواجهن فإلحاقهن الولد كذلك بأزواجهن ونسبته إليهم كذبا بهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن لان الولد إذا وضعته أمة سقط بين يديها ورجليها، ولا يغني عن هذا الشرط شرط الاجتناب عن الزنا لانهما متغايران وكل مستقل بالنهي والتحريم. وقوله: " ولا يعصينك في معروف " نسب المعصية إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون الله مع أنها تنتهي إليه تعالى لان المراد أن لا يتخلفن بالمعصية عن السنة التي يستنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وينفذها في المجتمع الاسلامي فيكون ما سنه هو المعروف عند المسلمين وفي المجتمع الاسلامي.
[ 243 ]
ومن هنا يظهر أن المعصية في المعروف أعم من ترك المعروف كترك الصلاة والزكاة وفعل المنكر كتبرجهن تبرج الجاهلية الاولى. وفي قوله: " إن الله غفور رحيم " بيان لمقتضى المغفرة وتقوية للرجاء. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم " الخ، المراد بهم اليهود المغضوب عليهم وقد تكرر في كلامه تعالى فيهم " وباءوا بغضب من الله " البقرة: 61، ويشهد بذلك ذيل الآية فإن الظاهر أن المراد بالقوم غير الكفار. وقوله: " يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور " المراد بالآخرة ثوابها، والمراد بالكفار الكافرون بالله المنكرون للبعث، وقيل: المراد مشركوا مكة واللام للعهد، و " من " في " من أصحاب القبور " لابتداء الغاية. والجملة بيان لشقائهم الخالد وهلاكهم المؤبد ليحذر المؤمنون من موالاتهم وموادتهم والاختلاط بهم والمعنى: قد يئس اليهود من ثواب الآخرة كما يئس منكرو البعث من الموتى المدفونين في القبور. وقيل: المراد بالكفار الذين يدفنون الموتى ويوارونهم في الارض - من الكفر بمعنى الستر -. وقيل: المراد بهم كفار الموتى و " من " بيانية والمعنى: يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس الكفار المدفونون في القبور منه لقوله: " إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله " البقرة: 161. (بحث روائي) في المجمع عن ابن عباس صالح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحديبية مشركي مكة على أن من أتاه من أهل مكة رده عليهم، ومن أتى أهل مكة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو
لهم ولم يردوه عليه وكتبوا بذلك كتابا وختموا عليه. فجاءت سبيعة بنت الحارث الاسلمية مسلمة بعد الفراغ من الكتاب والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحديبية فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم - وقال مقاتل: هو صيفي بن الراهب - في طلبها وكان كافرا فقال: يا محمد اردد علي امرأتي فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا
[ 244 ]
من أتاك منا وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد فنزلت الآية " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات من دار الكفر إلى دار الاسلام فامتحنوهن ". قال ابن عباس: امتحانهن أن يستحلفن ما خرجت من بغض زوج، ولا رغبة عن أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، وما خرجت إلا حبا لله ولرسوله فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما خرجت بغضا لزوجها، ولا عشقا لرجل منا، وما خرجت إلا رغبة في الاسلام فحلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك فأعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها عليه فتزوجها عمر بن الخطاب. فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرد من جاءه من الرجال ويحبس من جاءه من النساء إذا امتحن ويعطي أزواجهن مهورهن. قال: قال الزهري: ولما نزلت هذه الآية وفيها قوله: " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " طلق عمر بن الخطاب امرأتين كانتا له بمكة مشركتين: قرنية (1) بنت أبي أمية بن المغيرة فتزوجها بعده معاوية بن أبي سفيان وهما على شركهما بمكة، والاخرى أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية أم عبد الله بن عمر فتزوجها أبو جهم بن حذاقة بن غانم رجل من قومها وهما على شركهما. وكانت عند طلحة بن عبيد الله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ففرق بينهما الاسلام حين نهى القرآن عن التمسك بعصم الكوافر، وكان طلحة قد هاجر وهي بمكة عند قومها كافرة ثم تزوجها في الاسلام بعد طلحة خالد بن سعيد بن العاص بن أمية
وكانت ممن فرت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من نساء الكفار فحبسها وزوجها خالدا. وأمية بنت بشر كانت عند الثابت بن الدحداحة ففرت منه - وهو يومئذ كافر - إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سهل بن حنيف فولدت عبد الله بن سهل. قال: قال الشعبي: وكانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع فأسلمت ولحقت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة وأقام أبو العاص مشركا بمكة ثم أتى المدينة فآمنته زينب ثم أسلم فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: وقال الجبائي: لم يدخل في شرط صلح الحديبية إلا رد الرجال دون النساء ولم
(1) قريبة خ.
[ 245 ]
يجر للنساء ذكر، وإن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط جاءت مسلمة مهاجرة من مكة فجاء أخواها إلى المدينة فسألا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ردها عليهما فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الشرط بيننا في الرجال لا في النساء فلم يردها عليهما. أقول: وهذه المعاني مروية في روايات اخرى من طرق أهل السنة أورد كثيرا منها السيوطي في الدر المنثور، وروى امتحان المهاجرات كما تقدم ثم عدم ردهن على الكفار وإعطائهم المهر القمي في تفسيره. وفيه وقال الزهري: فكان جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين راجعات عن الاسلام ست نسوة: أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد الفهري، وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة كانت تحت عمر بن الخطاب فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان، وعبدة بنت عبد العزى بن فضلة وزوجها عمرو بن عبدود، وهند بنت أبي جهل بن هشام كانت تحت هشام بن العاص بن وائل، وكلثوم بنت جرول كانت تحت عمر فأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مهور نسائهم من الغنيمة.
وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: لا ينبغي نكاح أهل الكتاب قلت: جعلت فداك وأين تحريمه ؟ قال: قوله: " ولا تمسكوا بعصم الكوافر ". أقول: والرواية مبنية على عموم الامساك بالعصم للنكاح الدائم إحداثا وإبقاء. وفيه بإسناده أيضا إلى زرارة عن أبي جعفر عليه السلام عن قول الله تعالى: " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " فقال: هذه منسوخة بقوله: " ولا تمسكوا بعصم الكوافر ". أقول: ولعل المراد بنسخ آية الامساك بالعصم لآية حلية محصنات أهل الكتاب إختصاص آية الممتحنة بالنكاح الدائم وتخصص آية المائدة بالنسبة إلى النكاح الدائم بها، واختصاص ما تدل عليه من الحلية بالنكاح المنقطع، وليس المراد به النسخ المصطلح كيف ؟ وآية الممتحنة سابقة نزولا على آية المائدة ولا وجه لنسخ السابق للاحق. على أن آية المائدة مسوقة سوق الامتنان، وما هذا شأنه يأبى النسخ. وفي المجمع في قوله تعالى: " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب " وروى أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السلام أنه منسوخ بقوله: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " وبقوله:
[ 246 ]
" ولا تمسكوا بعصم الكوافر ". أقول: ويضعف الرواية - مضافا إلى ضعف راويها - أن قوله: " ولا تنكحوا المشركات " الخ، إنما يشمل المشركات من الوثنيين، وقوله: " والمحصنات " الخ، يفيد حلية نكاح أهل الكتاب فلا تدافع بين الآيتين حتى تنسخ إحداهما الاخرى، وقد تقدم آنفا الكلام في نسخ آية الممتحنة لقوله: " والمحصنات " الخ، وقد تقدم في تفسير قوله: " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " المائدة: 5، ما ينفع في هذا المقام. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام " وإن فاتكم شئ من أزواجكم " فلحقن بالكفار من أهل عهدكم فاسألوهم صداقها، وإن لحقن بكم من
نسائهم شئ فأعطوهم صداقها ذلكم حكم الله يحكم بينكم. أقول: ظاهره تفسير " شئ " بالمرأة. وفي الكافي بإسناده عن أبان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة بايع الرجال ثم جاءت النساء يبايعنه فأنزل الله عز وجل: " يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك " إلى آخر الآية. قالت هند: أما الولد فقد ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا، وقالت أم حكيم بنت الحارث بن هشام وكانت عند عكرمة بن أبي جهل: يا رسول الله ما ذاك المعروف الذي أمرنا الله أن لا نعصيك فيه ؟ قال: لا تلطمن خدا، ولا تخمشن وجها، ولا تنتفن شعرا، ولا تشققن جيبا، ولا تسودن ثوبا، ولا تدعين بويل، فبايعهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هذا. فقالت: يا رسول الله كيف نبايعك ؟ قال: إنني لا اصافح النساء فدعا بقدح من ماء فأدخل يده ثم أخرجها فقال: أدخلن أيديكن في هذا الماء. أقول: والروايات مستفيضة في هذه المعاني من طرق الشيعة وأهل السنة. وفي تفسير القمي بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله: " ولا يعصينك في معروف " قال: هو ما فرض الله عليهن من الصلاة والزكاة وما أمرهن به من خير. أقول: والرواية تشهد بأن ما ورد في الروايات من تفسير المعروف بمثل قوله: لا تلطمن خدا الخ، وفي بعضها أن لا تتبرجن تبرج الجاهلية الاولى من قبيل الاشارة إلى بعض المصاديق.
[ 247 ]
(سورة الصف مدنية، وهي أربع عشرة آية) بسم الله الرحمن الرحيم. سبح لله ما في السموات وما في الارض وهو العزيز الحكيم _ 1. يا أيها الذين آمنوا لم تقولون
ما لا تفعلون _ 2. كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون _ 3. إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص _ 4. وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين _ 5. وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين _ 6. ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى إلاسلام والله لا يهدي القوم الظالمين _ 7. يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون _ 8. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون _ 9.
[ 248 ]
(بيان) السورة ترغب المؤمنين وتحرضهم على أن يجاهدوا في سبيل الله ويقاتلوا أعداء دينه، وتنبئهم أن هذا الدين نور ساطع لله سبحانه يريد الكفار من أهل الكتاب أن يطفئوه بأفواههم والله متمه ولو كره الكافرون، ومظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وأن هذا النبي الذي آمنوا به رسول من الله أرسله بالهدى ودين الحق، وبشر به عيسى بن مريم عليهما السلام بني إسرائيل. فعلى المؤمنين أن يشدوا العزم على طاعته وامتثال ما يأمرهم به من الجهاد ونصرة الله في دينه حتى يسعدهم الله في آخرتهم وينصرهم ويفتح لهم في دنياهم ويؤيدهم على أعدائهم. وعليهم أن لا يقولوا ما لا يفعلون ولا ينكصوا فيما يعدون فإن ذلك يستوجب مقتا من الله تعالى وإيذاء الرسول وفيه خطر أن يزيغ الله قلوبهم كما فعل بقوم موسى عليه السلام لما
آذوه وهم يعلمون أنه رسول الله إليهم والله لا يهدي القوم الظالمين. والسورة مدنية بشهادة سياق آياتها. قوله تعالى: " سبح لله ما في السماوات وما في الارض وهو العزيز الحكيم " تقدم تفسيره، وافتتاح الكلام بالتسبيح لما فيها من توبيخ المؤمنين بقولهم ما لا يفعلون وإنذارهم بمقت الله وإزاغته قلوب الفاسقين. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون " " لم " مخفف لما، و " ما " استفهامية، واللام للتعليل، والكلام مسوق للتوبيخ ففيه توبيخ المؤمنين على قولهم ما لا يفعلون ولا يصغى إلى قول بعض المفسرين: أن المراد بالذين آمنوا هم المنافقون والتوبيخ لهم دون المؤمنين لجلالة قدرهم. وذلك لوفور الآيات المتضمنة لتوبيخهم ومعاتبتهم وخاصة في الآيات النازلة في الغزوات وما يلحق بها كاحد والاحزاب وحنين وصلح الحديبية وتبوك والانفاق في سبيل الله وغير ذلك، والصالحون من هؤلاء المؤمنين إنما صلحوا نفسا وجلوا قدرا بالتربية الالهية التي تتضمنها أمثال هذه التوبيخات والعتابات المتوجهة إليهم تدريجا ولم يتصفوا بذلك من عند أنفسهم. ومورد التوبيخ وإن كان بحسب ظاهر لفظ الآية مطلق تخلف الفعل عن القول وخلف
[ 249 ]
الوعد ونقض العهد وهو كذلك لكونه من آثار مخالفة الظاهر للباطن وهو النفاق لكن سياق الآيات وفيها قوله: " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا " وما سيأتي من قوله: " يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة " الخ، وغير ذلك يفيد أن متعلق التوبيخ كان هو تخلف بعضهم عما وعده من الثبات في القتال وعدم الانهزام والفرار أو تثاقلهم أو تخلفهم عن الخروج أو عدم الانفاق في تجهز أنفسهم أو تجهيز غيرهم. قوله تعالى: " كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " المقت البغض الشديد،
والآية في مقام التعليل لمضمون الآية السابقة فهو تعالى يبغض من الانسان أن يقول ما لا يفعله لانه من النفاق، وأن يقول الانسان ما لا يفعله غير أن لا يفعل ما يقوله فالاول من النفاق والثاني من ضعف الارادة ووهن العزم وهو رذيلة منافية لسعادة النفس الانسانية فإن الله بنى سعادة النفس الانسانية على فعل الخير واكتساب الحسنة من طريق الاختيار ومفتاحه العزم والارادة، ولا تأثير إلا للراسخ من العزم والارادة، وتخلف الفعل عن القول معلول وهن العزم وضعف الارادة ولا يرجى للانسان مع ذلك خير ولا سعادة. قوله تعالى: " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص " الصف جعل الاشياء على خط مستو كالناس والاشجار. كذا قاله الراغب، وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل ولذا لم يجمع، وهو حال من ضمير الفاعل في " يقاتلون "، والمعنى: يقاتلون في سبيله حال كونهم صافين. والبنيان هو البناء، والمرصوص من الرصاص، والمراد به ما أحكم من البناء بالرصاص فيقاوم ما يصادمه من أسباب الانهدام. والآية تعلل خصوص المورد - وهو أن يعدوا الثبات في القتال ثم ينهزموا - بالالتزام كما أن الآية السابقة تعلل التوبيخ على مطلق أن يقولوا ما لا يفعلون، وذلك أن الله سبحانه إذا أحب الذين يقاتلون فيلزمون مكانهم ولا يزولون كان لازمه أن يبغض الذين يعدون أن يثبتوا ثم ينهزمون إذا حضروا معركة القتال. قوله تعالى: " وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله اليكم " الخ في الآية إشارة إلى إيذاء بني إسرائيل رسولهم موسى عليه السلام ولجاجهم حتى آل إلى إزاغة الله قلوبهم. وفي ذلك نهي التزامي للمؤمنين عن أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيؤل أمرهم إلى ما آل إليه أمر قوم موسى من إزاغة القلوب وقد قال تعالى: " إن الذين
[ 250 ]
يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا " الاحزاب: 57.
والآية بما فيها من النهي الالتزامي في معنى قوله: " يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا " الاحزاب: 70. وسياق الآيتين وذكر تبرئة موسى عليه السلام يدل على أن المراد بإيذائه بما برأه الله منه ليس معصيتهم لاوامره وخروجهم عن طاعته إذ لا معنى حينئذ لتبرئته بل هو أنهم وقعوا فيه عليه السلام وقالوا فيه ما فيه عار وشين فتأذى فبرأه الله مما قالوا ونسبوا إليه، وقوله في الآية التالية: " اتقوا الله وقولوا قولا سديدا " يؤيد هذا الذي ذكرناه. ويؤيد ذلك إشارته تعالى إلى بعض مصاديق إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقول أو فعل في قوله: " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي - إلى أن قال - وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب - إلى أن قال - وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما " الاحزاب: 53. فتحصل أن في قوله: " وإذ قال موسى لقومه " الخ، تلويحا إلى النهي عن إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقول أو فعل على علم بذلك كما أن في ذيل الآية تخويفا وإنذارا أنه فسق ربما أدى إلى إزاغته تعالى قلب من تلبس به. وقوله: " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين " الزيغ الميل عن الاستقامة ولازمه الانحراف عن الحق إلى الباطل. وإزاغته تعالى إمساك رحمته وقطع هدايته عنهم كما يفيده التعليل بقوله: " إن الله لا يهدي القوم الفاسقين " حيث علل الازاغة بعدم الهداية، وهي إزاغة على سبيل المجازاة وتثبيت للزيغ الذي تلبسوا به أولا بسبب فسقهم المستدعي للمجازاة كما قال تعالى: " يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين " البقرة: 26، وليس بإزاغة بدئية
وإضلال ابتدائي لا يليق بساحة قدسه تعالى. ومن هنا يظهر فساد ما قيل: إنه لا يجوز أن يكون المراد بقوله: " أزاغ الله قلوبهم " الازاغة عن الايمان لان الله تعالى لا يجوز أن يزيغ أحدا عن الايمان، وأيضا كون المراد
[ 251 ]
به الازاغة عن الايمان يخرج الكلام عن الفائدة لانهم إذا زاغوا عن الايمان فقد صاروا كفارا فلا معنى لقوله: أزاغهم الله عن الايمان. وجه الفساد أن قوله: " لا يجوز له تعالى أن يزيغ أحدا عن الايمان " ممنوع بإطلاقه فإن الملاك فيه لزوم الظلم وإنما يلزم فيما كان من الازاغة والاضلال ابتدائيا وأما ما كان على سبيل المجازاة وحقيقته إمساك الرحمة وقطع الهداية لتسبيب العبد لذلك بفسقه وإعراضه عن الرحمة والهداية فلا دليل على منعه لا عقلا ولا نقلا. وأما قوله: " إن الكلام يخرج بذلك عن الفائدة " فيدفعه أن الذي ينسب من الزيغ إلى العبد ويحصل معه الكفر تحقق ما له بالفسق والذي ينسب إليه تعالى تثبيت الزيغ في قلب العبد والطبع عليه به فزيغ العبد عن الايمان بسبب فسقه وحصول الكفر بذلك لا يغني عن تثبيت الله الزيغ والكفر في قلبه على سبيل المجازاة. قوله تعالى: " وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله اليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " تقدم في صدر الكلام أن هذه الآية والتي قبلها والآيات الثلاث بعدها مسوقة لتسجيل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسول معلوم الرسالة عند المؤمنين أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون من أهل الكتاب، وما جاء به من الدين نور ساطع من عند الله يريد المشركون ليطفؤه بأفواههم والله متم نوره ولو كره المشركون. فعلى المؤمنين أن لا يؤذوه صلى الله عليه وآله وسلم وهم يعلمون أنه رسول الله إليهم، وأن ينصروه ويجاهدوا في سبيل ربهم لاحياء دينه ونشر كلمته.
ومن ذلك يعلم أن قوله: " وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل " الخ، كالتوطئة لما سيذكر من كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسولا مبشرا به من قبل أرسله الله بالهدى ودين الحق ودينه نوره تعالى يهتدي به الناس. والذي حكاه تعالى عن عيسى بن مريم عليهما السلام أعني قوله: " يا بني إسرائيل إني رسول الله اليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " ملخص دعوته وقد آذن بأصل دعوته بقوله: " إني رسول الله اليكم " فأشار إلى أنه لا شأن له إلا أنه حامل رسالة من الله إليهم، ثم بين متن ما أرسل إليهم لاجل تبليغه في رسالته بقوله: " مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول " الخ.
[ 252 ]
فقوله: " مصدقا لما بين يدي من التوراة " بيان أن دعوته لا تغاير دين التوراة ولا تناقض شريعتها بل تصدقها ولم تنسخ من أحكامها إلا يسيرا والنسخ بيان انتهاء أمد الحكم وليس بإبطال، ولذا جمع عليه السلام بين تصديق التوراة ونسخ بعض أحكامها فيما حكاه الله تعالى من قوله: " ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم " آل عمران: 50، ولم يبين لهم إلا بعض ما يختلفون فيه كما في قوله المحكي: " قد جئتكم بالحكمة ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون " الزخرف: 63. وقوله: " ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " إشارة إلى الشطر الثاني من رسالته عليه السلام وقد أشار إلى الشطر الاول بقوله: " مصدقا لما بين يدي من التوراة ". ومن المعلوم أن البشرى هي الخبر الذي يسر المبشر ويفرحه ولا يكون إلا بشئ من الخير يوافيه ويعود إليه، والخير المترقب من بعثة النبي ودعوته هو انفتاح باب من الرحمة الالهية على الناس فيه سعادة دنياهم وعقباهم من عقيدة حقة أو عمل صالح أو كليهما، والبشرى بالنبي بعد النبي وبالدعوة الجديدة بعد حلول دعوة سابقة واستقرارها والدعوة الالهية واحدة لا تبطل بمرور الدهور وتقضي الازمنة واختلاف الايام والليالي - إنما
تتصور إذا كانت الدعوة الجديدة أرقي فيما تشتمل عليه من العقائد الحقة والشرائع المعدلة لاعمال المجتمع وأشمل لسعادة الانسان في دنياه وعقباه. وبهذا البيان يظهر أن معنى قوله عليه السلام: " ومبشرا برسول يأتي من بعدي " الخ، يفيد كون ما أتى به النبي أحمد صلى الله عليه وآله وسلم أرقي وأكمل مما تضمنته التوراة وبعث به عيسى عليه السلام وهو عليه السلام متوسط رابط بين الدعوتين. ويعود معنى كلامه: " إني رسول الله اليكم مصدقا " الخ، إلى أني رسول من الله اليكم أدعو إلى شريعة التوراة ومنهاجها - ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم - وهي شريعة سيكملها الله ببعث نبي يأتي من بعدي اسمه أحمد. وهو كذلك فإمعان التأمل في المعارف الالهية التي يدعو إليها الاسلام يعطي أنها أدق مما في غيره من الشرائع السماوية السابقة وخاصة ما يندب إليه من التوحيد الذي هو أصل الاصول الذي يبتني عليه كل حكم ويعود إليه كل من المعارف الحقيقية وقد تقدم شطر من الكلام فيه في المباحث السابقة من الكتاب. وكذا الشرائع والقوانين العملية التي لم تدع شيئا مما دق وجل من أعمال الانسان
[ 253 ]
الفردية والاجتماعية إلا عدلته وحدت حدوده وقررته على أساس التوحيد ووجهته إلى غرض السعادة. وإلى ذلك الاشارة بقوله تعالى: " الذين يتبعون النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم " الاعراف: 157، وآيات أخرى يصف القرآن. والآية أعني قوله: " ومبشرا برسول يأتي من بعدي " وإن كانت مصرحة بالبشارة لكنها لا تدل على كونها مذكورة في كتابه عليه السلام غير أن آية الاعراف المنقولة آنفا:
" يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل " وكذا قوله في صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل " الآية الفتح: 29، يدلان على ذلك. وقوله: " اسمه أحمد " دلالة السياق على تعبير عيسى عليه السلام عنه صلى الله عليه وآله وسلم بأحمد وعلى كونه اسما له يعرف به عند الناس كما كان يسمى بمحمد ظاهرة لا سترة عليها. ويدل عليه قول حسان: صلى الاله ومن يحف بعرشه * والطيبون على المبارك أحمد ومن أشعار أبي طالب قوله: وقالوا لاحمد أنت امرء * خلوف اللسان ضعيف السبب ألا إن أحمد قد جاءهم * بحق ولم يأتهم بالكذب وقوله مخاطبا للعباس وحمزة وجعفر وعلي يوصيهم بنصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كونوا فدى لكم أمي وما ولدت * في نصر أحمد دون الناس أتراسا ومن شعره فيه صلى الله عليه وآله وسلم وقد سماه باسمه الآخر محمد: ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا * نبيا كموسى خط في أول الكتب ويستفاد من البيت أنهم عثروا على وجود البشارة به صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب السماوية التي كانت عند أهل الكتاب يومئذ ذاك. ويؤيده أيضا إيمان جماعة من أهل الكتاب من اليهود والنصارى وفيهم قوم من علمائهم كعبد الله بن سلام وغيره وقد كانوا يسمعون هذه الآيات القرآنية التي تذكر البشارة
[ 254 ]
به صلى الله عليه وآله وسلم وذكره في التوراة والانجيل فتلقوه بالقبول ولم يكذبوه ولا أظهروا فيه شيئا من الشك والترديد. وأما خلو الاناجيل الدائرة اليوم عن بشارة عيسى بما فيها من الصراحة فالقرآن - وهو آية معجزة باقية - في غنى عن تصديقها، وقد تقدم البحث عن سندها واعتبارها في
الجزء الثالث من الكتاب. وقوله: " فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين " ضمير " جاء " لاحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وضمير " هم " لبني إسرائيل أو لهم ولغيرهم، والمراد بالبينات البشارة ومعجزة القرآن وسائر آيات النبوة. والمعنى: " فلما جاء أحمد المبشر به بني إسرائيل أو أتاهم وغيرهم بالآيات البينة التي منها بشارة عيسى عليه السلام قالوا هذا سحر مبين، وقرئ هذا ساحر مبين. وقيل: ضمير " جاء " لعيسى عليه السلام، والسياق لا يلائمه. قوله تعالى: " ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الاسلام " الخ، الاستفهام للانكار وهو رد لقولهم: " هذا سحر مبين " فإن معناه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس برسول وأن ما بلغه من دين الله ليس منه تعالى. والمراد بالاسلام الدين الذي يدعو إليه رسول الله بما أنه تسليم لله فيما يريده ويأمر به من اعتقاد وعمل، ولا ريب أن مقتضى ربوبيته وألوهيته تعالى تسليم عباده له تسليما مطلقا فلا ريب أن الدين الذي هو الاسلام لله دينه الحق الذي يجب أن يدان به فدعوى أنه باطل ليس من الله افتراء على الله. ومن هنا يظهر أن قوله: " وهو يدعى إلى الاسلام " يتضمن الحجة على كون قولهم: " هذا سحر مبين " افتراء على الله. والافتراء ظلم لا يرتاب العقل في كونه ظلما وينهى عنه الشرع ويعظم الظلم بعظمة من وقع عليه فإذا كان هو الله سبحانه كان أعظم الظلم فلا أظلم ممن افترى على الله الكذب. والمعنى: ولا أظلم ممن افترى على الله الكذب - بنفي نسبة دين الله إليه - والحال أنه يدعى إلى دين الاسلام الذي لا يتضمن إلا التسليم لله فيما أراد ولا ريب أنه من الله، والله لا يهدي القوم الظالمين.