تفسير الميزان - السيد الطباطبائي ج 18
تفسير الميزان
السيد الطباطبائي ج 18
[ 1 ]
الميزان في تفسير القرآن 18
[ 3 ]
تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره
[ 4 ]
الميزان في تفسير القران كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره الجزء الثامن العشر منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة
[ 5 ]
بسم الله الرحمن الرحيم (سورة الشورى مكية وهي ثلاث وخمسون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. حم - 1. عسق - 2. كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم - 3. له ما في السموات وما في الارض وهو العلى العظيم - 4. تكاد السموات يتفطرن من فوقهن والملئكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الارض الا إن الله هو الغفور الرحيم - 5. والذين اتخذوا من دونه اولياء الله حفيظ
عليهم وما انت عليهم بوكيل - 6. (بيان) تتكلم السورة حول الوحي الذي هو نوع تكليم من الله سبحانه لانبيائه ورسله كما يدل عليه ما في مفتتحها من قوله: " كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله " الاية، وما في مختتمها من قوله: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا الخ " الايات، ورجوع الكلام إليه مرة بعد اخرى في قوله: " وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا " الاية، وقوله:
[ 6 ]
" شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا " الاية، وقوله: " الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان " الاية وما يتكرر في السورة من حديث الرزق على ما سيجئ. فالوحي هو الموضوع الذي يجرى عليه الكلام في السورة وما فيها من التعرض لايات التوحيد وصفات المؤمنين والكفار وما يستقبل كلا من الفريقين في معادهم ورجوعهم إلى الله سبحانه مقصود بالقصد الثاني وكلام جره كلام. والسورة مكية وقد استثنى قوله: " والذين استجابوا لربهم " إلى تمام ثلاث آيات، وقوله: " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " إلى تمام أربع آيات وسيجئ الكلام فيها إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " حم عسق " من الحروف المقطعة الواقعة في أوائل عدة من السور القرآنية، وذلك من مختصات القرآن الكريم لا يوجد في غيره من الكتب السماوية. وقد اختلف المفسرون من القدماء والمتأخرين في تفسيرها وقد نقل عنهم الطبرسي في مجمع البيان أحد عشر قولا في معناها: أحدها: أنها من المتشابهات التي استأثر الله سبحانه بعلمها لا يعلم تأويلها إلا هو. الثاني: أن كلا منها اسم للسورة التي وقعت في مفتتحها. الثالث: أنها أسماء القرآن أي لمجموعه.
الرابع: أن المراد بها الدلالة على أسماء الله تعالى فقوله: " ألم " معناه أنا الله أعلم، وقوله: " المر " معناه أنا الله أعلم وأرى، وقوله: " المص " معناه أنا الله أعلم وأفصل، وقوله: " كهيعص " الكاف من الكافي، والهاء من الهادي، والياء من الحكيم، والعين من العليم، والصاد من الصادق، وهو مروي عن ابن عباس، والحروف المأخوذة من الاسماء مختلفة في أخذها فمنها ما هو مأخوذ من أول الاسم كالكاف من الكافي، ومنها ما هو مأخوذ من وسطه كالياء من الحكيم، ومنها ما هو مأخوذ من آخر الكلمة كالميم من أعلم. الخامس: أنها أسماء لله تعالى مقطعة لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الاعظم تقول: الر وحم ون يكون الرحمن وكذلك سائرها إلا أنا لا نقدر على تأليفها وهو مروى عن سعيد بن جبير. السادس: أنها أقسام أقسم الله بها فكأنه هو أقسم بهذه الحروف على أن القرآن كلامه
[ 7 ]
وهي شريفة لكونها مباني كتبه المنزلة، وأسمائه الحسنى وصفاته العليا، واصول لغات الامم على اختلافها. السابع: أنها إشارات إلى آلائه تعالى وبلائه ومدة الاقوام وأعمارهم وآجالهم. الثامن: أن المراد بها الاشارة إلى بقاء هذه الامة على ما يدل عليه حساب الجمل. التاسع: أن المراد بها حروف المعجم وقد استغنى بذكر ما ذكر منها عن ذكر الباقي كما يقال: اب ويراد به جميع الحروف. العاشر: أنها تسكيت للكفار لان المشركين كانوا تواصوا فيما بينهم أن لا يستمعوا للقرآن وأن يلغوا فيه كما حكاه القرآن عنهم بقوله: " لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه " الاية، فربما صفروا وربما صفقوا وربما غلطوا فيه ليغلطوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلاوته، فأنزل الله تعالى هذه الحروف فكانوا إذا سمعوها استغربوها واستمعوا إليها وتفكروا فيها واشتغلوا بها عن شأنهم فوقع القرآن في مسامعهم.
الحادي عشر: أنها من قبيل تعداد حروف التهجي والمراد بها أن هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته هو من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم وكلامكم فإذا لم تقدروا عليه فاعلموا أنه من عند الله تعالى، وإنما كررت الحروف في مواضع استظهارا في الحجة، وهو مروي عن قطرب واختاره أبو مسلم الاصبهاني وإليه يميل جمع من المتأخرين. فهذه أحد عشر قولا وفيما نقل عنهم ما يمكن أن يجعل قولا آخر كما نقل عن ابن عباس في " الم " أن الالف اشارة إلى الله واللام إلى جبريل والميم إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وما عن بعضهم أن الحروف المقطعة في أوائل السور المفتتحة بها إشارة إلى الغرض المبين فيها كأن يقال: إن " ن " إشارة إلى ما تشتمل عليه السورة من النصر الموعود للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، و " ق " إشارة إلى القرآن أو القهر الالهي المذكور في السورة، وما عن بعضهم أن هذه الحروف للايقاظ. والحق أن شيئا من هذه الاقوال لا تطمئن إليه النفس: أما القول الاول فقد تقدم في بحث المحكم والمتشابه في أوائل الجزء الثالث من الكتاب
[ 8 ]
أنه أحد الاقوال في معنى المتشابه، وعرفت أن الاحكام والتشابه من صفات الايات التي لها دلالة لفظية على مداليلها، وأن التأويل ليس من قبيل المداليل اللفظية بل التأويلات حقائق واقعية تنبعث من مضامين البيانات القرآنية أعم من محكماتها ومتشابهاتها، وعلى هذا فلا هذه الحروف المقطعة متشابهات ولا معانيها المراد بها تأويلات لها. وأما الاقوال العشرة الاخر فإنما هي تصويرات لا تتعدى حد الاحتمال ولا دليل يدل على شئ منها. نعم في بعض الروايات المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام بعض التأييد للقول الرابع والسابع والثامن والعاشر وسيأتي نقلها والكلام في مفادها في البحث
الروائي الاتي إن شاء الله تعالى. والذى لا ينبغي أن يغفل عنه أن هذه الحروف تكررت في سور شتى وهي تسع وعشرون سورة افتتح بعضها بحرف واحد وهي ص وق ون، وبعضها بحرفين وهي سور طه وطس ويس وحم. وبعضها بثلاثة أحرف كما في سورتي " الم " و " الر " وطسم وبعضها بأربعة أحرف كما في سورتي " المص " و " المر " وبعضها بخمسة أحرف كما في سورتي " كهيعص " و " حمعسق ". وتختلف هذه الحروف أيضا من حيث إن بعضها لم يقع إلا في موضع واحد مثل " ن " وبعضها واقعة في مفتتح عدة من السور مثل " الم " و " الر " و " طس " و " حم ". ثم إنك إن تدبرت بعض التدبر في هذه السور التي تشترك في الحروف المفتتح بها مثل الميمات والراآت والطواسين والحواميم، وجدت في السور المشتركة في الحروف من تشابه المضامين وتناسب السياقات ما ليس بينها وبين غيرها من السور. ويؤكد ذلك ما في مفتتح أغلبها من تقارب الالفاظ كما في مفتتح الحواميم من قوله: " تنزيل الكتاب من الله " أو ما هو في معناه، وما في مفتتح الراآت من قوله: " تلك آيات الكتاب " أو ما هو في معناه، ونظير ذلك واقع في مفتتح الطواسين، وما في مفتتح الميمات من نفي الريب عن الكتاب أو ما هو في معناه. ويمكن أن يحدس من ذلك أن بين هذ الحروف المقطعة وبين مضامين السور المفتتحة
[ 9 ]
بها ارتباطا خاصا، ويؤيد ذلك ما نجد أن سورة الاعراف المصدرة بالمص في مضمونها كأنها جامعة بين مضامين الميمات وص، وكذا سورة الرعد المصدرة بالمر في مضمونها كأنها جامعة بين مضامين الميمات والراآت. ويستفاد من ذلك أن هذه الحروف رموز بين الله سبحانه وبين رسوله صلى الله عليه وآله وسلم خفية عنا لا سبيل لافهامنا العادية إليها إلا بمقدار أن نستشعر أن بينها وبين المضامين المودعة في
السور ارتباطا خاصا. ولعل المتدبر لو تدبر في مشتركات هذه الحروف وقايس مضامين السور التي وقعت فيها بعضها إلى بعض تبين له الامر أزيد من ذلك. ولعل هذا معنى ما روته أهل السنة عن علي عليه السلام - على ما في المجمع - أن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي. قوله تعالى: " كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم - إلى قوله - العلي العظيم " مقتضى كون غرض السورة بيان الوحي بتعريف حقيقته والاشارة إلى غايته وآثاره أن تكون الاشاره بقوله: " كذلك " إلى شخص الوحي بإلقاء هذه السورة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيكون تعريفا لمطلق الوحي بتشبيهه بفرد مشار إليه مشهود للمخاطب فيكون كقولنا في تعريف الانسان مثلا هو كزيد. وعليه يكون قوله: " إليك وإلى الذين من قبلك " في معنى إليكم جميعا، وإنما عبر بما عبر للدلالة على أن الوحي سنة إلهية جارية غير مبتدعة، والمعنى أن الوحي الذي نوحيه إليكم معشر الانبياء - نبيا بعد نبي سنة جارية - هو كهذا الذي تجده وتشاهده في تلقي هذه السورة. وقد أخذ جمهور المفسرين قوله: " كذلك " إشارة إلى الوحي لا من حيث نفسه بل من حيث ما يشتمل عليه من المفاد فيكون في الحقيقة إشارة إلى المعارف التي تشتمل عليها السورة وتتضمنها واستنتجوا من ذلك أن مضمون السورة مما أوحاه الله تعالى إلى جميع الانبياء فهو من الوحي المشترك فيه، وقد عرفت أنه لا يوافق غرض السورة ويأباه سياق آياتها.
[ 10 ]
وقوله: " العزيز الحكيم له ما في السماوات وما في الارض وهو العلي العظيم " خمسة من أسمائه الحسنى، وقوله: " له ما في السماوات وما في الارض " في معنى المالك، وهو
واقع موقع التعليل لاصل الوحي ولكونه سنة إلهية جارية فالذي يعطيه الوحي شرع إلهى فيه هداية الناس إلى سعادة حياتهم في الدنيا والاخرة وليس المانع أن يمنعه تعالى عن ذلك لانه عزيز غير مغلوب فيما يريد، ولا هو تعالى يهمل أمر هداية عباده لانه حكيم متقن في أفعاله ومن إتقان الفعل أن يساق إلى غايته. ومن حقه تعالى أن يتصرف فيهم وفي امورهم كيف يشاء، لانه مالكهم وله أن يعبدهم ويستعبدهم بالامر والنهي لانه علي عظيم فلكل من الاسماء الخمسة حظه من التعليل، وينتج مجموعها أنه وليهم من كل جهة لا ولى غيره. قوله تعالى: " تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن " الخ التفطر التشقق من الفطر بمعنى الشق. الذي يهدي إليه السياق والكلام مسرود لبيان حقيقة الوحي وغايته وآثاره أن يكون المراد من تفطر السماوات من فوقهن تفطرها بسبب الوحي النازل من عند الله العلي العظيم المار بهن سماء سماء حتى ينزل على الارض فإن مبدأ الوحي هو الله سبحانه والسماوات طرائق إلى الارض قال تعالى: " ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين " المؤمنون: 17. والوجه في تقييد " يتفطرن " بقوله: " من فوقهن " ظاهر فإن الوحي ينزل عليهن من فوقهن من عند من له العلو المطلق والعظمة المطلقة فلو تفطرن كان ذلك من فوقهن. على ما فيه من إعظام أمر الوحي وإعلائه فإنه كلام العلي العظيم فلكونه كلام ذي العظمة المطلقة تكاد السماوات يتفطرن بنزوله ولكونه كلاما نازلا من عند ذي العلو المطلق يتفطرن من فوقهن لو تفطرن. فالاية في إعظام أمر كلام الله من حيث نزوله ومروره على السماوات نظيرة قوله: " حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير " سبأ: 23
في إعظامه من حيث تلقي ملائكة السماوات إياه، ونظيرة قوله: " لو أنزلنا هذا القرآن
[ 11 ]
على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله " الحشر: 21 في إعظامه على فرض نزوله على جبل ونظيرة قوله: " إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا " المزمل: 5 في استثقاله واستصعاب حمله. هذا ما يعطيه السياق. وقد حمل القوم الاية على أحد معنيين آخرين: أحدهما: أن المراد تفطرهن من عظمة الله وجلاله جل جلاله كما يؤيده توصيفه تعالى قبله بالعلي العظيم. وثانيهما: أن المراد تفطرهما من شرك المشركين من أهل الارض وقولهم: " اتخذ الرحمن ولدا " فقد قال تعالى فيه: " تكاد السماوات يتفطرن منه " مريم: 90 فأدى ذلك إلى التكلف في توجيه تقييد التفطر بقوله: " من فوقهن " وخاصة على المعنى الثاني، وكذا في توجيه اتصال قوله: " والملائكة يستغفرون لمن في الارض " الخ بما قبله كما لا يخفى على من راجع كتبهم. وقوله: " والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الارض " أي ينزهونه تعالى عما لا يليق بساحة قدسه ويثنون عليه بجميل فعله، ومما لا يليق بساحة قدسه أن يهمل أمر عباده فلا يهديهم بدين يشرعه لهم بالوحي وهو منه فعل جميل، ويسألونه تعالى أن يغفر لاهل الارض، وحصول المغفرة إنما هو بحصول سببها وهو سلوك سبيل العبودية بالاهتداء بهداية الله سبحانه فسؤالهم المغفرة لهم مرجعه إلى سؤال أن يشرع لهم دينا يغفر لمن تدين به منهم فالمعنى والملائكة يسألون الله سبحانه أن يشرع لمن في الارض من طريق الوحي دينا يدينون به فيغفر لهم بذلك. ويشهد على هذا المعنى وقوع الجملة في سياق بيان صفة الوحي وكذا تعلق الاستغفار بمن في الارض إذ لا معنى لطلب المغفرة منهم لمطلق أهل الارض حتى لمن قال: " اتخذ
الله ولدا " وقد حكى الله تعالى عنهم: " ويستغفرون للذين آمنوا " الاية المؤمن: 7 فالمتعين حمل سؤال المغفرة على سؤال سببها وهو تشريع الدين لاهل الارض ليغفر لمن تدين به. وقوله: " ألا ان الله هو الغفور الرحيم " أي أن الله سبحانه لا تصافه بصفتي المغفرة والرحمة وتسميه باسمي الغفور الرحيم يليق بساحة قدسه أن يفعل بأهل الارض ما ينالون
[ 12 ]
به المغفرة والرحمة من عنده وهو أن يشرع لهم دينا يهتدون به إلى سعادتهم من طريق الوحي والتكليم. قيل: وفي قوله: " ألا ان الله " الخ إشارة الى قبول استغفار الملائكة وأنه سبحانه يزيدهم على ما طلبوه من المغفرة رحمة. قوله تعالى: " والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل " لما استفيد من الايات السابقة أن الله تعالى هو الولي لعباده لا ولي غيره وهو يتولى أمر من في الارض منهم بتشريع دين لهم يرتضيه من طريق الوحي إلى أنبيائه على ما يقتضيه أسماؤه الحسنى وصفاته العليا، ولازم ذلك أن لا يتخذ عباده أولياء من دونه، أشار في هذه الاية إلى حال من اتخذ من دونه أولياء باتخاذهم شركاء له في الربوبية والالوهية فذكر أنه ليس بغافل عما يعملون وأن أعمالهم محفوظة عليهم سيؤاخذون بها، وليس على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا البلاغ من غير أن يكون وكيلا عليهم مسؤلا عن أعمالهم. فقوله: " الله حفيظ عليهم " أي يحفظ عليهم شركهم وما يتفرع عليه من الاعمال السيئة. وقوله: " وما أنت عليهم بوكيل " أي مفوضا إليك أعمالهم حتى تصلحها لهم بهدايتهم إلى الحق، والكلام لا يخلو من نوع من التسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن إسحاق والبخاري في تاريخه وابن جرير بسند ضعيف عن
ابن عباس عن جابر بن عبد الله بن رباب قال: مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة " ألم ذلك الكتاب " فأتاه أخوه حيي ابن أخطب في رجال من اليهود فقال: تعلمون ؟ والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل عليه " ألم ذلك الكتاب " فقالوا: أنت سمعته ؟ قال: نعم. فمشى اولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد ألم تذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك " ألم ذلك الكتاب " ؟ قال: بلى. قالوا: قد جاءك بهذا جبريل من عند الله ؟ قال: نعم. قالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي لهم ما مدة ملكه ؟ وما أجل امته غيرك.
[ 13 ]
فقال حيي بن أخطب وأقبل على من كان معه: الالف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل امته إحدى وسبعون سنة. ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد هل مع هذا غيره ؟ قال: نعم. قال: ماذا ؟ قال: المص قال: هذا أثقل وأطول الالف واحدة، واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون فهذه مائة وإحدى وستون سنة هل مع هذا يا محمد غيره ؟ قال: نعم. قال: ماذا ؟ قال: الر. قال: هذه أثقل وأطول الالف واحدة واللام ثلاثون والراء مائتان فهذه إحدي وثلاثون ومائتا سنة فهل مع هذا غيره ؟ قال: نعم قال: ماذا ؟، قال المر قال: فهذه أثقل وأطول الالف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان فهذه إحدى وسبعون سنة ومائتان. ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا ؟ ثم قاموا فقال أبو ياسر لاخيه حيي ومن معه من الاحبار: ما يدريكم ؟ لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وستون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان فذلك سبعمائة
وأربع وثلاثون فقالوا: لقد تشابه علينا أمره فيزعمون أن هذه الايات نزلت فيهم: " هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن ام الكتاب وأخر متشابهات ". أقول: وروى قريبا منه عن ابن المنذر عن ابن جريح، وروى مثله أيضا القمي في تفسيره عن أبيه عن ابن رئاب عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام، وليس في الرواية ما يدل على إمضاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لدعواهم ولا كانت لهم على ما ادعوه حجة، وقد تقدم أن الايات المتشابهة غير الحروف المقطعة في فواتح السور. وفي المعاني بإسناده عن جويرية عن سفيان الثوري قال: قلت لجعفر بن محمد بن علي ابن الحسين بن علي بن أبى طالب عليه السلام: يا ابن رسول الله ما معنى قول الله عز وجل: الم والمص والر والمر وكهيعص وطه وطس وطسم ويس وص وحم وحمعسق وق ون ؟ قال عليه السلام أما الم في أول البقرة فمعناه أنا الله الملك، وأما الم في أول آل عمران فمعناه أنا الله المجيد، والمص فمعناه أنا الله المقتدر الصادق، والر فمعناه أنا الله الرؤف، والمر فمعناه أنا الله المحيي المميت الرازق، وكهيعص معناه أنا الكافي الهادي الولي العالم
[ 14 ]
الصادق الوعد، فأما طه فاسم من أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعناه يا طالب الحق الهادي إليه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى بل لتسعد به. وأما طس فمعناه أنا الطالب السميع، وأما طسم فمعناه أنا الطالب السميع المبدى المعيد، وأما يس فاسم من أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعناه يا أيها السامع للوحي والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم. وأما ص فعين تنبع من تحت العرش وهي التي توضأ منها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما عرج به و ويدخلها جبرئيل كل يوم دخلة فيغتمس فيها ثم يخرج منها فينفض أجنحته فليس من قطرة تقطر من أجنحته إلا خلق الله تبارك وتعالى منها ملكا يسبح الله ويقدسه و يكبره ويحمده إلى يوم القيامة.
وأما حم فمعناه الحميد المجيد، وأما حمعسق فمعناه الحليم المثيب العالم السميع القادر القوى، وأماق فهو الجبل المحيط بالارض وخضرة السماء منه وبه يمسك الله الارض أن تميد بأهلها، وأمان فهو نهر في الجنة قال الله عز وجل اجمد فجمد فصار مدادا ثم قال عز وجل للقلم: اكتب فسطر القلم في اللوح المحفوظ ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة فالمداد مداد من نور والقلم قلم من نور واللوح لوح من نور. قال سفيان: فقلت له: يا بن رسول الله بين لى أمر اللوح والقلم والمداد فضل بيان وعلمني مما علمك الله فقال: يا بن سعيد لولا أنك أهل للجواب ما أجبتك فنون ملك يؤدى إلى القلم وهو ملك والقلم يؤدى الى اللوح وهو ملك، واللوح يؤدى إلى إسرافيل، وإسرافيل يؤدى إلى ميكائيل، وميكائيل يؤدى إلى جبرئيل، وجبرئيل يؤدى إلى الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم. قال: ثم قال لى: قم يا سفيان فلا آمن عليك. أقول: ظاهر ما في الرواية من تفسير غالب الحروف المقطعة بأسماء الله الحسنى أنها حروف مأخوذة من الأسماء إما من أولها كالميم من الملك والمجيد والمقتر، وأما من بين حروفها كاللام من الله والياء من الولى فتكون الحروف المقطعة إشارات على سبيل الرمز إلى أسماء الله تعالى، وقد روى هذا المعنى من طرق أهل السنة عن ابن عباس والربيع بن أنس وغيرهما لكن لا يخفى عليك أن الرمز في الكلام إنما يصار إليه في الإفصاح عن الامور التى لا يريد المتكلم أن يطلع عليه غير المخاطب بالخطاب فيرمز إليه
[ 15 ]
بما لا يتعداه ومخاطبه ولا يقف عليه غيرهما وهذه الأسماء الحسنى قد أوردت وبينت في مواضع كثيرة من كلامه تعالى تصريحا وتلوحيا وإجمالا وتفصيلا ولا يبقى مع ذلك فائدة في الإشارة إلى كل منها بحرف مأخوذ منه رمزا إليه. فالوجه - على تقدير صحة الرواية - أن يحمل على كون هذه الأحرف دالة على هذه المعاني دلالة غير وضعية فتكون رموزا إليها مستورة عنا مجهولة لنا دالة على مراتب من
هذه المعاني هي أدق وأرقى وأرفع من أفها منا، ويؤيد ذلك بعض التأييد تفسيره الحرف الواحد كالميم في المواضع المختلفة بمعان مختلفة، وكذا ما ورد أنها من حروف اسم الله الأعظم. وقوله: (وأماق فهو الجبل المحيط بالأرض وخضرة السماء منه) الخ وروى قريبا منه القمى في تفسيره، وهو مروى بعدة من طرق أهل السنة عن ابن عباس وغيره، ولفظ بعضها جبل من زمرد محيط بالدنيا على كنفا السماء، وفي بعضها أنه جبل محيط بالبحر المحيط بالأرض والسماء الدنيا مترفرفة عليها وأن هناك سبع أرضين وسبعة أبحر وسبعة أجبل وسبع سماوات. وفي بعض ما عن ابن عباس: خلق الله جبلا يقال له: ق محيط بالعالم وعروقه إلى الصخرة التى عليها الأرض فإذا أراد الله أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرك العرق الذى يلى تلك القرية فيزلزلها ويحركها فمن ثم تحرك القرية دون القرية. والروايات بظاهرها أشبه بالإسرائيليات، ولولا قوله: (وبه يمسك الله الأرض أن تميد بأهلها) لأمكن حمل قوله: (وأماق فهو الجبل المحيط بالدنيا وخضرة السماء منه) على إرادة الهواء المحيط بالأرض بضرب من التأويل. وأما قوله: إن طه ويس من أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمعنى الذى فسره به فينبغي أن يحمل أيضا على ما قدمناه به ويفسر الروايات الكثيرة الواردة من طرق العامة والخاصة في أن طه ويس من أسماء النبي صلى الله عليه واله وسلم. وأما قوله في ن أنه نهر صيره الله مدادا كتب به القلم بأمره على اللوح ما كان وما يكون
(1) الكنف بفتحتين الجانب وكنفا السماء جانباه. (*)
[ 16 ]
الى يوم القيامة، وأن المداد والقلم واللوح من النور ثم قوله: إن المداد ملك والقلم ملك واللوح ملك فهو نعم الشاهد على أن ما ورد في كلامه تعالى من العرش والكرسي واللوح
والقلم ونظائر ذلك وفسر بما فسر به في كلا كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة اهل البيت (ع) من باب التمثيل أريد به تقريب معارف حقيقية هي أعلى وأرفع من سطح الأفهام العامة بتنزيلها منزلة المحسوس. وفي المعاني أيضا بإسناده عن أبى بصير عن ابى عبد الله عليه السلام قال (الم) هو حرف من حروف اسم الله الاعظم المقطع في القرآن الذى يؤلفه النبي صلى الله عليه واله وسلم والإمام فإذا دعا به اجيب. الحديث. أقول: كون هذه الحر الحروف المقطعة من حروف اسم الله الأعظم المقطع في القرآن مروى بعدة من طرق أهل السنة عن ابن عباس وغيره، وقد تبين في البحث عن الأسماء الحسنى في سور الاعراف أن الاسم الأعظم الذى له أثره الخاص به ليس من قبيل الألفاظ، وأن ما ورد مما ظاهره أنه اسم مؤلف من حروف ملفوظة مصروف عن ظاهره بنوع من الصرف المناسب له. وفيه بإسناده عن محمد بن زياد ومحمد بن سيار عن العسكري (ع) أنه قال: كذبت قريش واليهود بالقرآن وقالوا: سحر مبين تقوله فقال الله: (الم ذلك الكتاب) أي يا محمد هذا الكتاب الذى أنزلناه عليك هو الحروف المقطعة التى منها الف لام ميم وهو بلغتكم وحروف هجاءكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم. الحديث. أقول: والحديث من تفسير العسكري وهو ضعيف. وفي تفسير القمى وفي رواية أبى الجارود عن أبى جعفر (ع) في قوله تعالى: (يتفطرن من فوقهن) أي يتصدعن. وعن جوامع الجامع في قوله تعالى: (ويستغفرون لمن في الأرض) قال الصادق (ع): لمن في الأرض من المؤمنين. أقول: وروى ما في معناه في المجمع عنه (ع) ورواه القمى مضمرا.
[ 17 ]
(وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنه وفريق في السعير (7). ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولى ولا نصير (8). أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولى وهو يحيى الموتى وهو على كل شئ قدير (9). ومااختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله ذلكم الله ربى عليه توكلت وإليه انيب (10). فاطر السموات والارض جعل لكم من انفسكم أزواجا ومن الانعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شئ وهو السميع البصير (11). له مقاليد السموات والارض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر انه بكل شئ عليم (12)). بيان فصل ثان من الايات يعرف فيه الوحى من حيث الغاية المترتبة عليه كما عرفه في الفصل السابق بالاشاره إليه نفسه. فبين في هذا الفصل أن الغرض من الوحى إنذار الناس وخاصه الانذار المتعلق بيوم الجمع الذى يتفرق فيه الناس فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير إذ لولا الانذار بيوم الجمع الذى فيه الحساب والجزاء لم تنجح دعوة دينيه ولم ينفع تبليغ. ثم بين أن تفرقهم فريقين هو الذى شاءه الله سبحانه فعقبه بتشريع الدين وإنذار
[ 18 ]
الناس يوم الجمع من طريق الوحى لانه وليهم الذى يحييهم بعد موتهم الحاكم بينهم فيما اختلفوا فيه. ثم ساق الكلام فانتقل إلى توحيد الربوبية وأنه تعالى هو الرب لا رب غيره لاختصاصه بصفات الربوبية من غير شريك يشاركه في شئ منها. قوله تعالى: و (كذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذرام القرى ومن حولها)
الاشاره الى الوحى المفهوم من سابق السياق، وام القرى هي مكة المشرفة والمراد بإنذار ام القرى إنذار أهلها، والمراد بمن حولها سائر أهل الجزيرة ممن هو خارج مكة كما يؤيده توصيف القرآن بالعربية. وذلك أن الدعوة النبوية كانت ذات مراتب في توسعها فابتدأت الدعوة العلنية بدعوة العشيرة الاقربين كما قال: (وأنذر عشيرتك الاقربين) الشعراء، 214 ثم توسعت فتعلقت بالعرب عامة كما قال: (قرآنا عربيا لقوم يعلمون) حم السجدة: 3 ثم بجميع الناس كما قال: وأنزل إلى هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ). ومن الدليل على ما ذكرناه من الامر بالتوسع تدريجا قوله تعالى: (قل ما أسألكم عليه من أجر - - إلى أن قال - إن هو إلا ذكر للعالمين) ص - 87 فإن الخطاب على ما يعطيه سياق السورة لكفار قريش يقول سبحانه إنه ذكر للعالمين لا يختص ببعض دون بعض، فإذا كان للجميع فلا معنى لان يسأل بعضهم - كالنبى صلى الله عليه وآله وسلم - بعضا عليه أجرا. على أن تعلق الدعوة بأهل الكتاب وخاصة باليهود والنصارى من ضروريات القرآن، و كذا إسلام رجال من غير العرب كسلمان الفارسى وبلال الحبشى وصهيب الرومي من ضروريات التاريخ. وقيل المراد بقوله: (من حولها) سائر الناس من أهل قرى الارض كلها ويؤيده التعبير عن مكة بام القرى. والاية - كما ترى - تعرف الوحي بغايته التي هي إنذار الناس من طريق الالقاء الالهي وهو النبوة فالوحي إلقاء إلهي لغرض النبوة والانذار. قوله تعالى: (وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير) عطف
[ 19 ]
على (تنذر) السابق وهو من عطف الخاص على العام لاهميته كأنه قيل: لتنذر الناس وتخوفهم من الله وخاصة من سخطه يوم الجمع. وقوله: (يوم الجمع) مفعول ثان لقوله: (تنذر) وليس بظرف له وهو ظاهر،
ويوم الجمع هو يوم القيامة قال تعالى: (ذلك يوم مجموع له الناس - إلى أن قال - (فمنهم شقى وسعيد) هود: 105. وقوله: (فريق في الجنة وفريق في السعير) في مقام التعليل ودفع الدخل كأنه قيل: لما ذا ينذرهم يوم الجمع ؟ فقيل: (فريق في الجنة وفريق في السعير) أي إنهم يتفرقون فريقين: سعيد مثاب وشقي معذب فلينذروا حتى يتحرزوا سبيل الشقاء والهبوط في مهبط الهلكة. قوله تعالى: (ولو شاء الله لجعلهم امة واحدة) إلى آخر الاية لما كانت الاية مسوقة لبيان لزوم الانذار والنبوة من جهة تفرق الناس فريقين يوم القيامة كان الاسبق إلى الذهن من جعلهم امة واحدة مطلق رفع التفرق والتميز من بينهم بتسويتهم جميعا على صفة واحدة من غير فرق وميز، ولم تقع عند ذلك حاجة إلى النبوة والانذار. وقوله: (ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولى ولا نصير) استدراك يبين فيه أن سنته تعالى جرت على التفريق ولم يشأ جعلهم امة واحدة يدل على ذلك قوله: (يدخل من يشاء) الدال على الاستمرار، ولم يقل: ولكن أدخل ونحوه. وقد قوبل في الايه قوله: (من يشاء) بقوله: (والظالمون) فالمراد بمن يشاء غير الظالمين وقد فسر الظالمين يوم القيامة بقوله: (فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالاخرة كافرون) الاعراف: 45 فهم المعاندون المنكرون للمعاد. وقوبل أيضا بين الادخال في الرحمة وبين نفى الولي والنصير فالمدخلون في رحمته هم الذين وليهم الله، والذين ما لهم من ولي ولا نصير هم الذين لا يدخلهم الله في رحمته، وأيضا الرحمة هي الجنة وانتفاء الولاية والنصرة يلازم السعير. فمحمل معنى الاية: أن الله سبحانه إنما قدر النبوة والانذار المتفرع على الوحي لمكان
[ 20 ]
ما سيعتريهم يوم القيامة من التفرق فريقين، ليتحرزوا من الدخول في فريق السعير. ولو أراد الله لجعلهم امة واحدة فاستوت حالهم ولم يتفرقوا يوم القيامة فريقين فلم يكن عند ذلك ما تقتضي النبوة والانذار فلم يكن وحي لكنه تعالى لم يرد ذلك بل جرت سنته على أن يتولى أمر قوم منهم وهم غير الظالمين فيدخلهم الجنة وفي رحمته، ولا يتولى أمر آخرين وهم الظالمون فيكونوا لا ولى لهم ولا نصير ويصيروا إلى السعير لا مخلص لهم من النار. فقد تحصل مما تقدم أن المراد بجعلهم امة واحدة هو التسوية بينهم بإدخال الجميع في الجنة وإدخال الجميع في السعير أي إنه تعالى ليس بملزم بإدخال السعداء في الجنة والاشقياء في النار فلو لم يشأ لم يفعل لكنه شاء أن يفرق بين الفريقين وجرت سنته على ذلك ووعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد ومع ذلك فقدرته المطلقة باقية على حالها لم تنسلب ولم تتغير فقوله: (وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه) إلى تمام الايتين في معنى قوله في سورة هود: (إن في ذلك لاية لمن خاف عذاب الاخرة ذلك يوم مجموع له الناس) إلى تمام سبع آيات فراجع وتدبر. وقيل: المراد بجعلهم امة واحدة جعلهم مؤمنين جميعا داخلين في الجنة، قال في الكشاف: والمعنى ولو شاء ربك مشيئة قدرة لقسرهم جميعا على الايمان ولكنه شاء مشيئة حكمة فكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون ليدخل المؤمنين في رحمته وهم المرادون بمن يشاء ألا ترى الى وضعهم في مقابلة الظالمين، ويترك الظالمين بغير ولي ولا نصير في عذابه. واستدل على ما اختاره من المعنى بقوله تعالى: (ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها) الم السجدة: 13 وقوله: ولو شاء ربك لا من من في الارض كلهم جميعا) يونس: 99 والدليل على أن المعنى هو الالجاء إلى الايمان قوله: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين).
وفيه أن الايات - كما عرفت مسوقة لتعريف الوحي من حيث غايته وأن تفرق في الناس يوم الجمع: فريقين سبب يستدعي وجود النبوة والانذار من طريق الوحي، وقوله: (ولو شاء الله لجعلهم امة واحدة) مسوق لبيان أنه تعالى ليس بمجبر على ذلك
[ 21 ]
ولا ملزم به بل له أن لا يفعل، وهذا المعنى يتم بمجرد أن لا يجعلهم متفرقين فريقين بل امة واحدة كيفما كانوا، وأما كونهم فرقة واحدة مؤمنة بالخصوص فلا مقتضى له هناك. وأما ما استدل به من الايتين فسياقهما غير سياق الاية المبحوث عنها، والمراد بهما غير الايمان القسري الذي ذكره وقد تقدم البحث عنهما في الكتاب. وقيل: أن الانسب للسياق هو اتحادهم في الكفر بأن يراد جعلهم امة واحدة كافرة كما في قوله: (كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين) البقره: 213 فالمعنى: ولو شاء الله لجعلهم امة واحدة متفقة على الكفر بأن لا يرسل إليهم رسولا ينذرهم فيبقوا على ما هم عليه من الكفر ولكن يدخل من يشاء في رحمته أي شأنه ذلك فيرسل ألى الكل من ينذرهم فيتأثر به من تأثر فيوفقهم الله للايمان والطاعات في الدنيا ويدخلهم في رحمته في الاخرة، ولا يتأثر به الاخرون وهم الظالمون فيعيشون في الدنيا كافرين ويصيرون في الاخرة إلى السعير من غير ولى ولا نصير. وفيه أولا: أن المراد من كون الناس امة واحدة في الاية المقيس عليها ليس هو اتفاقهم على الكفر بل عدم اختلافهم في الامور الراجعة إلى المعاش كما تقدم في تفسير الاية، ولو سلم ذلك أدى إلى التنافي البين بين المقيسة والمقيس عليها لدلالة المقيسة على التفرق وعدم الاتحاد دلالة المقيس عليها على ثبوت الاتحاد وعدم التفرق. ولو اجيب عنه بأن المقيس عليها تدل على كون الناس امة واحدة بحسب الطبع دون الفعلية فلا تنافي بين الايتين، رد بمنافاته لما دل من الايات على كون الانسان
مؤمنا بحسب الفطرة الاصلية كقوله تعالى: (ونفس وما سواها فالهمها فجورها وتقواها) الشمس: 8. وثانيا: ان فيه إخراجا لقوله: (ولكن يدخل من يشاء في رحمته) عن المقابلة مع قوله: (والظالمون) الخ من غير دليل، ثم تكلف تقدير ما يفيد معناه ليحفظ به ما يقيده الكلام من المقابلة. قوله تعالى: (ام اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولى - إلى قوله - فحكمه إلى
[ 22 ]
الله) (أم) تفيد الانكار كما ذكره الزمخشري لما أفاد في الاية السابقة أن الله سبحانه يتولى أمر المؤمنين خاصة فيدخلهم في رحمته وأن الظالمين هم الكافرون المعاندون لاولي لهم تعرض في هذه الاية لاتخاذهم أولياء يدينون لهم ويعبدونهم من دونه وكان يجب أن يتخذوا الله وليا يدينون له ويعبدونه فأنكر عليهم ذلك واحتج على وجوب اتخاذه وليا بالحجة بعد الحجة وذلك قوله: (فالله هو الولي) الخ. فقوله: (فالله هو الولي) تعليل للانكار السابق لاتخاذهم من دونه أولياء فيكون حجة لوجوب إتخاذه وليا، والجملة - فالله هو الولي - تفيد حصر الولاية في الله وقد تبينت الحجة على أصل ولايته وانحصارها فيه من قوله في الايات السابقة: (العزيز الحكيم له ما في السماوات وما في الارض وهو العلي العظيم) كما أشرنا إليه في تفسير الايات. والمعنى: أنه تعالى ولي ينحصر فيه الولاية فمن الواجب على من يتخذ وليا أن يتخذه) وليا ولا يتعداه إلى غيره إذ لا ولي غيره. وقوله: (وهو يحيي الموتى) حجة ثانية على وجوب اتخاذه تعالى وحده وليا، ومحصله أن عمدة الغرض في اتخاذ الولي والتدين له بعبوديته التخلص من عذاب السعير والفوز بالجنة يوم القيامة والمثيب والمعاقب يوم القيامة هو الله الذي يحيى الموتى فيجمعهم فيجازيهم بأعمالهم فهو الذى يجب أن يتخذ وليا دون أوليائهم الذين هم أموات غير أحياء ولا يشعرون أيان يبعثون. وقوله: (وهو على كل شئ قدير) حجة ثالثة على وجوب اتخاذه تعالى وليا دون
غيره، ومحصله أن من الواجب في باب الولاية أن يكون للولي قدرة على ما يتولاه من شؤن من يتولاه واموره، والله سبحانه على كل شئ قدير ولا قدرة لغيره إلا مقدار ما أقدره الله عليه وهو المالك لما ملكه والقادر على ما عليه أقدره فهو الولي لا ولي غيره تعالى وتقدس. وقوله: (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله) حجة رابعة على كونه تعالى وليا لا ولي غيره، وحكم الحاكم بين المختلفين هو إحكامه وتثبيته الحق المضطرب بينهما بسبب تخالفهما بالاثبات والنفي، والاختلاف ربما كان في عقيدة كالاختلاف في أن
[ 23 ]
الاله واحد أو كثير، وربما كان في عمل أو ما يرجع إليه كالاختلاف في امور المعيشة وشؤون الحياة فهو أعني الحكم يساوق القضاء مصداقا وإن اختلفا مفهوما. ثم الحكم والقضاء إنما يتم إذا ملكه الحاكم بنوع من الملك والولاية وإن كان بتمليك المختلفين له ذلك كالمتنازعين إذا رجعا إلى ثالث فاتخذاه حكما ليحكم بينهما ويتسلما ما يحكم به فقد ملكاه الحكم بما يرى وأعطياه من نفسهما القبول والتسليم فهو وليهما في ذلك. والله سبحانه هو المالك لكل شئ لا مالك سواه لكون كل شئ بوجوده وآثار وجوده قائما به تعالى فله الحكم والقضاء بالحق قال تعالى: (كل شئ هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون) القصص: 88، وقال (إن الله يحكم ما يريد) المائدة: 2 وقال: الحق من ربك) آل عمران: 60. وحكمه تعالى إما تكويني وهو تحقيقه وتثبيته المسببات قبال الاسباب المجتمعة عليها المتنازعة فيها بتقديم ما نسميه سببا تاما على غيره قال تعالى حاكيا عن يعقوب (ع): (إن الحكم إلا لله عليه توكلت) يوسف: 67 وإما تشريعي كالتكاليف الموضوعة في الدين الالهي الراجعة إلى الاعتقاد والعمل قال تعالى: (إن الحكم إلا لله
أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم) يوسف: 40. وهناك قسم ثالث من الحكم يمكن أن يعد من كل من القسمين السابقين بوجه وهو حكمه تعالى يوم القيامة بين عباده فيما اختلفوا فيه وهو إعلانه وإظهاره الحق يوم القيامة لاهل الجمع يشاهدونه مشاهدة عيان وإيقان فيسعد به وبآثاره من كان مع الحق ويشقى بالاستكبار عليه وتبعات ذلك من استكبر عليه قال تعالى: (فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) البقره: 113. ثم إن اختلاف الناس في عقائدهم وأعمالهم اختلاف تشريعي لا يرفعه إلا الاحكام والقوانين التشريعية ولو لا الاختلاف لم يوجد قانون كما يشير إليه قوله تعالى: (كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين اوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه) البقره: 213،
[ 24 ]
وقد تبين أن الحكم التشريعي لله سبحانه فهو الولي في ذلك فيجب أن يتخذ وحده وليا فيعبد ويدان بما أنزله من الدين. وهذا معنى قوله: (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله) ومحصل الحجة أن الولي الذي يعبد ويدان له يجب أن يكون رافعا لاختلافات من يتولونه مصلحا لما فسد من شؤن مجتمعهم سائقا لهم إلى سعادة الحياة الدائمة بما يضعه عليهم من الحكم وهو الدين، والحكم في ذلك إلى الله سبحانه، فهو الولي الذي يجب أن يتخذ وليا لا غير. وللقوم في تفسير الاية أعني قوله: (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله) تفاسير أخر فقيل: هو حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين أي ما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين فاختلفتم أنتم وهم فيه من أمر من امور الدين، فحكم ذلك المختلف فيه مفوض إلى الله وهو إثابة المحقين فيه من المؤمنين ومعاقبة
المبطلين ذكره صاحب الكشاف. وقيل معناه ما اختلفتم فيه وتنازعتم في شئ من الخصومات فتحاكموا فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا تؤثروا على حكومته حكومة غيره كقوله تعالى: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول). وقيل: المعنى ما اختلفتم فيه من تأويل آية واشتبه عليكم فارجعوا في بيانه إلى محكم كتاب الله وظاهر سنة رسول الله صلى الله عليه واله. وقيل: المعنى وما اختلفتم فيه من العلوم مما لا يتصل بتكليفكم ولا طريق لكم إلى علمه فقولوا: الله أعلم كمعرفة الروح قال تعالى: (ويسالونك عن الروح قل الروح من أمر ربي). والاية على جميع هذه الاقوال من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم إما بنحو الحكاية وإما بتقدير (قل) في أولها. وأنت بالتدبر في سياق الايات ثم الرجوع إلى ما تقدم لا ترتاب في سقوط هذه الاقوال. قوله تعالى: (ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه انيب) كلام محكي للنبى صلى الله عليه وآله وسلم،
[ 25 ]
والاشارة بذلكم إلى من أقيمت الحجج في الايتين على وجوب اتخاذه وليا وهو الله سبحانه، ولازم ولايته ربوبيته. لما أقيمت الحجج على أنه تعالى هو الولي لا ولي غيره أمر صلى الله عليه وآله وسلم بإعلام أنه الله وأنه اتخذه وليا بالاعتراف له بالربوبية التي هي ملك التدبير ثم عقب ذلك بالتصريح بما للاتخاذ المذكور من الاثار وهو قوله: (عليه توكلت وإليه أنيب). وذلك أن ولاية الربوبية تتعلق بنظام التكوين بتدبير الامور وتنظيم الاسباب والمسببات بحيث يتعين بها للمخلوق المدبر كالانسان مثلا ما قدر له من الوجود والبقاء، وتتعلق بنظام التشريع وهو تدبير أعمال الانسان بجعل قوانين وأحكام يراعيها الانسان
بتطبيق أعماله عليها في مسير حياته لتنتهي به إلى كمال سعادته. ولازم اتخاذه تعالى ربا وليا من جهة التكوين إرجاع أمر التدبير إليه بالانقطاع عن الاسباب الظاهرية والركون إليه من حيث إنه سبب غير مغلوب ينتهي إليه كل سبب وهذا هو التوكل، ومن جهة التشريع الرجوع إلى حكمه في كل واقعة يستقبله الانسان في مسير حياته وهذا هو الانابة فقوله: (عليه توكلت وإليه أنيب) أي أرجع في جميع اموري، تصريح بإرجاع الامر إليه تكوينا وتشريعا. قوله تعالى: (فاطر السماوات والارض) إلى آخر الاية لما صرح بأنه تعالى هو ربه لقيام الحجج على أنه هو الولي وحده عقب ذلك بإقامة الحجة في هذه الاية والتي بعدها على ربوبيته تعالى وحده. ومحصل الحجة: أنه تعالى موجد الاشياء وفاطرها بالاخراج من كتم العدم إلى الوجود وقد جعلكم أزواجا فكثركم بذلك وجعل من الانعام أزواجا فكثرها بذلك لتنتفعوا بها، وهذا خلق وتدبير، وهو سميع لما يساله خلقه من الحوائج فيقضي لكل ما يستحقه من الحاجة، بصير لما يعمله خلقه من الاعمال فيجازيهم بما عملوا وهو الذي يملك مفاتيح خزائن السماوات والارض التي ادخر فيها ما لها من خواص وجودها وآثاره مما يتألف منها بظهورها النظام المشهود وهو الذي يرزق المرزوقين فيوسع في رزقهم ويضيق عن علم منه بذلك. وهذا كله من التدبير فهو الرب المدبر للامور.
[ 26 ]
فقوله: (فاطر السماوات والارض) أي موجدها من كتم العدم على سبيل الابداع. وقوله: (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) وذلك بخلق الذكر والانثى للذين يتم بتزاوجهما أمر التوالد والتناسل وتكثر الافراد (ومن الانعام أزواجا) أي وجعل من الانعام أزواجا (يذرؤكم فيه) أي يكثركم في هذا الجعل، والخطاب في (يذرؤكم)
للانسان والانعام بتغليب جانب العقلاء على غيرهم كما ذكره الزمخشري. وقوله: (ليس كمثله شئ) أي ليس مثله شئ، فالكاف زائدة للتأكيد وله نظائر كثيرة في كلام العرب. وقوله: (وهو السميع البصير) أي السميع لما يرفع إليه من مسائل خلقه البصير لاعمال خلقه قال تعالى: (يسأله من في السماوات والارض) الرحمن: 29، وقال: (وآتاكم من كل ما سألتموه) ابراهيم: 34، وقال: (والله بما تعملون بصير) الحديد: 4. قوله تعالى: (له مقاليد السماوات والارض) إلى آخر الاية المقاليد المفاتيح وفي إثبات المقاليد للسماوات والارض دلالة على أنها خزائن لما يظهر في الكون من الحوادث والاثار الوجودية. وقوله: (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) بسط الرزق توسعته وقدره تضييقه والرزق كل ما يمد به البقاء ويرتفع به حاجة من حوائج الوجود في استمراره. وتذييل الكلام بقوله: (إنه بكل شئ عليم) للاشارة إلى أن الرزق واختلافه في موارده بالبسط والقدر ليس على سبيل المجازفة جهلا بل عن علم منه تعالى بكل شئ فرزق كل مرزوق على علم منه بما يستدعيه المرزوق بحسب حاله والرزق بحسب حاله وما يحف بهما من الاوضاع والاحوال الخارجية، وهذا هو الحكمة فهو يبسط ويقدر بالحكمة
[ 27 ]
(شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبى إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب - 13 -. وما تفرقوا إلا من بعد
ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفى شك منه مريب - 14 -. فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهوائهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لاعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير - 15 -. والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضه عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد - 16 -. (بيان) فصل ثالث من الايات يعرف الوحي الالهي بأثره الذي هو مفاده وما احتوى عليه من المضمون وهو الدين الالهي الواحد الذي يجب على الناس أن يتخذوه سنة في الحياة وطريقة مسلوكة إلى سعادتهم.
[ 28 ]
وقد بين فيها بحسب مناسبة المقام أن الشريعة المحمدية أجمع الشرائع المنزلة وأن الاختلافات الواقعة في دين الله على وحدته ليست من ناحية الوحي السماوي وإنما هي من بغي الناس بعد علمهم، وفي الايات فوائد أخر أشير إليها في خلالها. قوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى) يقال: شرع الطريق شرعا أي سواه طريقا واضحا بينا. قال الراغب: الوصية التقدم إلى الغير بما يعمل مقترنا بوعظ من قولهم: أرض واصية متصلة النبات ويقال: أوصاه ووصاه انتهى. وفي معناه إشعار بالاهمية فما كل أمر يوصى به وإنما يختار لذلك ما يهتم به الموصي ويعتني بشأنه. فقوله: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا) أي بين وأوضح لكم من الدين وهو
سنة الحياة ما قدم وعهد إلى نوح مهتما به، واللائح من السياق أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وامته، وأن المراد مما وصى به نوحا شريعة نوح (ع). وقوله: (والذي أوحينا إليك) ظاهر المقابلة بينه وبين نوح (ع) أن المراد بما أوحى إليه ما اختصت به شريعته من المعارف والاحكام، وإنما عبر عن ذلك بالايحاء دون التوصية لان التوصية كما تقدم إنما تتعلق من الامور بما يهتم به ويعتنى بشأنه خاصة وهو أهم العقائد والاعمال، وشريعته صلى الله عليه وآله وسلم جامعة لكل ما جل ودق محتوية على الاهم وغيره بخلاف شرائع غيره فقد كانت محدودة بما هو الاهم المناسب لحال اممهم والموافق لمبلغ استعدادهم. والالتفات في قوله: (والذي أوحينا) من الغيبة إلى التكلم مع الغير للدلالة على العظمة فإن العظماء يتكلمون عنهم وعن خدمهم وأتباعهم. وقوله: (وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى) عطف على قوله: (ما وصى به) والمراد به ما شرع لكل واحد منهم (ع). والترتيب الذي بينهم (ع) في الذكر على وفق ترتيب زمنهم فنوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى (ع)، وإنما قدم ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتشريف والتفضيل كما في قوله تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وابراهيم وموسى وعيسى
[ 29 ]
ابن مريم) الاحزاب: 7 وإنما قدم نوحا وبدء به للدلالة على قدم هذه الشريعة وطول عهدها. ويستفاد من الاية امور: أحدها: أن السياق بما أنه يفيد الامتنان وخاصة بالنظر إلى ذيل الاية والاية التالية يعطي أن الشريعة المحمدية جامعة للشرائع الماضية ولا ينافيه قوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) المائدة: 48 لان كون الشريعة شريعة خاصة لا ينافي
جامعيتها. الثاني: أن الشرائع الالهية المنتسبة إلى الوحي إنما هي شريعة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليه السلام إذ لو كان هناك غيرها لذكر قضاء لحق الجامعية المذكورة. ولازم ذلك أولا: أن لا شريعة قبل نوح (ع) بمعنى القوانين الحاكمة في المجتمع الانساني الرافعة للاختلافات الاجتماعية وقد تقدم نبذة من الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى: (كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين) الاية البقرة: 213. وثانيا: أن الانبياء المبعوثين بعد نوح كانوا على شريعته إلى بعثة إبراهيم وبعدها على شريعة إبراهيم إلى بعثة موسى وهكذا. الثالث: أن الانبياء أصحاب الشرائع واولى العزم هم هؤلاء الخمسة المذكورون في الاية إذ لو كان معهم غيرهم لذكر فهؤلاء سادة الانبياء ويدل على تقدمهم أيضا قوله: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم) الاحزاب: 7. وقوله: (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا) أن تفسيرية، وإقامة الدين حفظه بالاتباع والعمل واللام في الدين للعهد أي أقيموا هذا الدين المشروع لكم، وعدم التفرق فيه حفظ وحدته بالاتفاق عليه وعدم الاختلاف فيه. لما كان شرع الدين لهم في معنى أمرهم جميعا باتباعه والعمل به من غير اختلاف فسره بالامر بإقامة الدين وعدم التفرق فيه فكان محصله أن عليهم جميعا إقامة الدين
[ 30 ]
جميعا وعدم التفرق والتشتت فيه بإقامة بعض وترك بعض، وإقامته الايمان بجميع ما أنزل الله والعمل بما يجب عليه العمل به. فجميع الشرائع التى أنزلها الله على أنبيائه دين واحد يجب إقامته وعدم التفرق فيه فأما الاحكام السماوية المشترك فيها الباقية ببقاء التكليف فمعنى الاقامة فيها ظاهر وأما الاحكام المشرعة في بعض هذه الشرائع المنسوخة في الشريعة اللاحقة فحقيقة
الحكم المنسوخ أنه حكم ذو أمد خاص بطائفة من الناس في زمن خاص ومعنى نسخه تبين انتهاء أمده لا ظهور بطلانه قال تعالى: (والله يقول الحق وهو يهدي السبيل) الاحزاب: 4 فالحكم المنسوخ حق دائما غير أنه خاص بطائفة خاصة في زمن خاص يجب عليهم أن يؤمنوا به ويعملوا به ويجب على غيرهم أن يؤمنوا به فحسب من غير عمل وهذا معنى إقامته وعدم التفرق فيه. فتبين أن الامر بإقامة الدين وعدم التفرق فيه في قوله: (إن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) مطلق شامل لجميع الناس في جميع الازمان. وبذلك يظهر فساد قول جمع إن الامر بالاقامة وعدم التفرق إنما يشمل الاحكام المشتركة بين الشرائع دون المختصة فهي احكام متفاوتة مختلفة باختلاف الامم من حيث أحوالها ومصالحها. وذلك أنه لا موجب لتقييد إطلاق قوله: (أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) ولو كان كما يقولون كان الامر بالاقامة مختصا باصول الدين الثلاثة: التوحيد والنبوة والمعاد، وأما غيرها من الاحكام الفرعية فلا يكاد يوجد هناك حكم واحد مشترك فيه في جميع خصوصياته بين جميع الشرائع وهذا مما يأباه قطعا سياق قوله: (شرع لكم من الدين ما وصى به) الخ، ومثل قوله: (وإن هذه امتكم امة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا) المؤمنون: 53، قوله: (إن الدين عند الله الاسلام وما اختلف الذين اوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) آل عمران: 19. وقوله: (كبر على المشركين ما تدعوهم إليه) المراد بقوله: (ما تدعوهم إليه)
[ 31 ]
دين التوحيد الذي كان يدعو إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا أصل التوحيد فحسب على ما تشهد به الاية التالية، والمراد بكبره على المشركين تحرجهم من قبوله.
وقوله: (الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) الاجتباء هو الجمع والاجتلاب، ومقتضى اتساق الضمائر أن يكون ضمير (إليه) الثاني والثالث راجعا إلى ما يرجع إليه الاول والمعنى الله يجمع ويجتلب إلى دين التوحيد - وهو ما تدعوهم إليه - من يشاء من عباده ويهدي إليه من يرجع إليه فيكون مجموع قوله: (كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء) في معنى قوله: هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم ابراهيم) الحج: 8. وقيل: الضميران لله تعالى، ولا بأس به لكن ما تقدم هو الانسب، وعلى أي حال قوله: (الله يجتبي إليه) إلى آخر الاية موضوع موضع الاستغناء عن إيمان المشركين المستكبرين للايمان نظير قوله تعالى: (فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون) حم السجدة: 38. وقيل: المراد بما تدعوهم إليه ما تدعوهم إلى الايمان به وهو الرسالة أي إن رسالتك كبرت عليهم، وقوله: (الله يجتبي) الخ في معنى قوله: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) الانعام: 124 وهو خلاف الظاهر. قوله تعالى: (وما تفرقوا الا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) إلى آخر الاية ضمير (تفرقوا) للناس المفهوم من السياق، والبغي الظلم أو الحسد، وتقييده بقوله: (بينهم) للدلاله على تداوله، والمعنى وما تفرق الناس الذين شرعت لهم الشريعة باختلافهم وتركهم الاتفاق إلا حال كون تفرقهم آخذا - أو ناشئا - من بعد ما جاءهم العلم بما هو الحق ظلما أو حسدا تداولوه بينهم. وهذا هو الاختلاف في الدين المؤدي إلى الانشعابات والتحزبات الذي ينسبه الله سبحانه في مواضع من كلامه إلى البغي، وأما الاختلاف المؤدي إلى نزول الشريعة وهو الاختلاف في شؤن الحياة والتفرق في امور المعاش فهو أمر عائد إلى اختلاف طبائع الناس في مقاصدهم وهو الذريعة إلى نزول الوحي وتشريع الشرع لرفعه كما يشير
[ 32 ]
إليه قوله: (كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين) البقره: 213 كما تقدم في تفسير الاية. وقوله: (ولو كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم) المراد بالكلمة مثل قوله: حين اهباط آدم (ع) إلى الارض: (ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين) البقره: 36. المعنى: ولولا أن الله قضى فيهم الاستقرار والتمتع في الارض إلى أجل سماه وعينه لقضى بينهم إثر تفرقهم في دينه وإنحرافهم عن سبيله فأهلكهم باستدعاء من هذا الذنب العظيم. وقول القائل: إن الله قد قضى واهلك كما يقصه في قصص نوح وهود وصالح عليه السلام وقد قال تعالى: (ولكل امة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط) يونس: 47. مدفوع بأن ما قصه تعالى من القضاء والاهلاك إنما هو في امم الانبياء في زمانهم من المكذبين بين الرادين عليهم وما نحن فيه من قوله: (ولولا كلمة سبقت من ربك) الاية في اممهم بعدهم وهو واضح من السياق. وقوله: (وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب) ضمير (من بعدهم) لاولئك الذين تفرقوا من بعد علم بغيا بينهم وهم الاسلاف، والذين اورثوا الكتاب من بعدهم أخلافهم فمفاد الاية أن البادئين بالاختلاف المؤسسين للتفرقة كانوا على علم من الحق وإنما أبدعوا ما أبدعوا، بغيا بينهم، وأخلافهم الذين أورثوا الكتاب مبعدهم في شك مريب - موقع في الريب - منه. وما أوردناه في معنى الاية هو الذي يعطيه السياق، ولهم في تفسيرها أقاويل كثيرة لا جدوى في إسقاطها فلير جع في الوقوف عليها إلى كتبهم.
قوله تعالى: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم إلى آخر الاية. تفريع على ما ذكر من شرع دين واحد لجميع الانبياء واممهم ثم انقسام اممهم إلى أسلاف اختلفوا في الدين عن علم بغيا، وإلى أخلاف شاكين مرتابين فيما اورثوه من
[ 33 ]
الكتاب أي فلاجل أنه شرع لكم جميع ما شرع لمن قبلكم فادع ولاجل ما ذكر من تفرق بعضهم بغيا وارتياب آخرين فاستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم. واللام في قوله: (فلذلك) للتعليل، وقيل: اللام بمعنى إلى أي إلى ما شرع لكم من الدين فادع واستقم كما أمرت، والاستقامة - كما ذكره الراغب - لزوم المنهاج المستقيم، وقوله: (ولا تتبع أهواءهم) كالمفسر له. وقوله: (وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب) تسوية بين الكتب السماوية من حيث تصديقها والايمان بها وهي الكتب المنزلة من عند الله المشتملة على الشرائع. وقوله: (وأمرت لاعدل بينكم) قيل: اللام زائدة للتأكيد نظير قوله: (وأمرنا لنسلم لرب العالمين) الانعام: 71، والمعنى: وأمرت أن أعدل بينكم أي اسوي بينكم فلا اقدم قويا على ضعيف ولا غنيا على فقير ولا كبيرا على صغير، ولا افضل أبيض على أسود ولا عربيا على عجمي ولا هاشميا أو قرشيا على غيره فالدعوة متوجهة إلى الجميع، والناس قبال الشرع الالهي سواء. فقوله: (آمنت بما أنزل الله من كتاب) تسوية بين الكتب المنزلة من حيث الايمان بها، وقوله: (وأمرت لاعدل بينكم) تسوية بين الناس من حيث الدعوة وتوجه ما جاء به من الشرع. وقيل: اللام في (لاعدل بينكم) للتعليل، والمعنى: وأمرت بما أمرت لاجل أن أعدل بينكم، وكذا قيل: المراد بالعدل العدل في الحكم، وقيل: العدل في القضاء بينكم، وقيل غير ذلك، وهذه معان بعيدة لا يساعد عليها السياق.
وقوله: (الله ربنا وربكم) الخ، في مقام التعليل لما ذكر من التسوية بين الكتب والشرائع في الايمان بها وبين الناس في دعوتهم وشمول الاحكام لهم، ولذا جئ في الكلام بالفصل من غير عطف. فقوله: (الله ربنا وربكم) يشير إلى أن رب الكل هو الله الواحد تعالى فليس لها أرباب كثيرون حتى يلحق كل بربه ويتفاضلوا بالارباب ويقتصر كل منهم بالايمان بشريعة ربه بل الله هو رب الجميع وهم جميعا عباده المملوكون له المدبرو بأمره والشرائع المنزلة على الانبياء من عنده فلا موجب للايمان ببعضها دون بعض كما يؤمن
[ 34 ]
اليهود بشريعة موسى دون من بعده وكذا النصارى بشريعة عيسى دون محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل الواجب الايمان بكل كتاب نازل من عنده لانها جميعا من عنده. وقوله: (لنا أعمالنا ولكم أعمالكم) يشير إلى أن الاعمال وإن اختلفت من حيث كونها حسنة أو سيئة ومن حيث الجزاء ثوابا أو عقابا إلا أنها لا تتعدى عاملها فلكل امرء ما عمل فلا ينتفع أحد بعمل آخر ولا يتضرر بعمل غيره فليس له أن يقدم امرء للانتفاع بعمله أو يؤخر امرء للتضرر بعمله نعم في الاعمال تفاضل تختلف به درجات العاملين لكن ذلك إلى الله فيما يحاسب به عباده لا إلى الناس - النبي فمن دونه - الذين هم جميعا عباد مملوكون لا يملك منهم نفس من نفس شيئا، وهذا هو الذي ذكره تعالى في محاورة نوح عليه السلام قومه: (قالوا أنؤمن لك واتبعك الارذلون قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون) الشعراء: 113، وكذا قوله يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ) الانعام: 52. وقوله: (لا حجة بيننا وبينكم) لعل المراد أنه لا حجة تدل على تقدم بعض على بعض تكون فيما بيننا يقيمها بعض على بعض يثبت بها تقدمه عليه.
ويمكن أن يكون نفي الحجة كناية عن نفي لازمها وهو الخصومة أي لا خصومة بيننا بتفاوت الدرجات لان ربنا واحد ونحن في أننا جميعا عباده واحد ولكل نفس ما عملت فلا حجة في البين أي لا خصومة حتى تتخذ لها حجة. ومن هنا يظهر أن لا وجه لقول بعضهم في تفسير الجملة: أي لا احتجاج ولا خصومة لان الحق قد ظهر فلم يبق للاحتجاج حاجة ولا للمخالفة محمل سوى المكابرة والعناد انتهى. إذ الكلام مسوق لبيان ما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه وفي أمته من سنة التسوية لا لاثبات شئ من أصول المعارف حتى تحمل الحجة على ما حملها عليه. وقوله: (الله يجمع بيننا) المراد بضمير التكلم فيه مجموع المتكلم والمخاطب في الجمل السابقة، والمراد بالجمع جمعه تعالى إياهم يوم القيامة للحساب والجزاء على ما قيل. وغير بعيد أن يراد بالجمع جمعه تعالى بينهم في الربوبية فهو رب الجميع والجميع عباده فيكون قوله: (الله يجمع بيننا) تأكيدا لقوله السابق: (الله ربنا وربكم)
[ 35 ]
وتوطئة وتمهيدا لقوله: (واليه المصير) ويكون مفاد الجملتين أن الله هو مبدؤنا لانه ربنا جميعا واليه منتهانا لانه إليه المصير فلا موجد لما بيننا إلا هو عز اسمه. وكان مقتضى الظاهر في التعليل أن يقال: (الله ربي وربكم لي عملي ولكم أعمالكم لا حجة بيني وبينكم على محاذاة قوله: (آمنت) (وأمرت لاعدل) لكن عدل عن المتكلم وحده إلى المتكلم مع الغير لدلالة قوله لسابق: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا) الخ، وقوله: (الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) أن هناك قوما يؤمنون بما آمن به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويلبون دعوته ويتبعون شريعته. فالمراد بالمتكلم مع الغير في (ربنا) و (لنا أعمالنا) و (بيننا) هو صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون به، وبالمخاطبين في قوله: (وربكم) و (أعمالكم) و (بينكم) سائر الناس من أهل الكتاب والمشركين، والاية على وزان قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا
إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن الا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) آل عمران: 64. قوله تعالى: (والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد) الحجة هي القول الذي يقصد به إثبات شئ أو إبطاله من الحج بمعنى القصد، والدحض البطلان والزوال. والمعنى: - على ما قيل - والذين يحاجون في الله أي يحتجون على نفي ربوبيته أو على إبطال دينه من بعد ما استجاب الناس له ودخلو في دينه لظهور الحجة ووضوح المحجة حجتهم باطلة زائلة عند ربهم وعليهم غضب منه تعالى ولهم عذاب شديد. والظاهر أن المراد بالاستجابة له ما هو حق الاستجابة وهو التلقي بالقبول عن علم لا يداخله شك تضطر إليه الفطرة الانسانية السليمة فإن الدين بما فيه من المعارف فطري تصدقه وتستجيب له الفطرة الحية قال تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله) الانعام: 36، وقال: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) الشمس: 8، وقال: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها) الروم: 30. ومحصل الاية: على هذا أن الذين يحاجون فيه تعالى أو في دينه بعد استجابة
[ 36 ]
الفطرة السليمة له أو بعد استجابة الناس بفطرتهم السليمة له حجتهم باطلة زائلة عند ربهم وعليهم غضب منه ولهم عذاب شديد لا يقادر قدره. ويؤيد هذا الوجه بعض التأييد سياق الايات السابقة حيث تذكر أن الله شرع دينا ووصى به أنبياءه واجتبى إليه من شاء من عباده فالمحاجة في أن لله دينا يستعبد به عباده داحضة ومن الممكن حينئذ أن يكون قوله: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان) في مقام التعليل وحجة مدحضة لحجتهم فتدبر فيه.
وقيل: ضمير (له) للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمستجيب أهل الكتاب، استجابتهم له اعترافهم بورود أوصافه ونعوته في كتبهم والمراد أن محاجتهم في الله بعد اعترافهم له بما اعترفوا حجتهم باطلة عند ربهم. وقيل: الضمير له صلى الله عليه وآله وسلم والمستجيب هو الله تعالى حيث استجاب دعاءه على صناديد قريش فقتلهم يوم بدر، ودعاءه على أهل مكة فابتلاهم بالقحط والسنة، ودعاءه على المستضعفين حتى خلصهم الله من يد قريش إلى غير ذلك من معجزاتة، والمعنيان بعيدان من السياق. (بحث روائي) في روح المعاني في قوله تعالى: (والذين يحاجون في الله) الاية عن ابن عباس ومجاهد: نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الاسلام وإضلالهم فقالوا: كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فديننا أفضل من دينكم وفي رواية بدل (فديننا) الخ فنحن أولى بالله منكم وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: لما نزلت إذا جاء نصرالله والفتح قال المشركون بمكة لمن بين أظهرهم من المؤمنين: قد دخل الناس في دين الله أفواجا فاخرجوا من بين أظهرنا فعلام تقيمون بين أظهرنا فنزلت: (والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له) الاية. أقول: مضمون الاية لا ينطبق على الرواية إذ لا محاجة في القصة، وكذا الخبر السابق لا يفي بتوجيه قوله: (من بعد مااستجيب له).
[ 37 ]
ألله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب - 17. يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد - 18. ألله لطيف بعباده يرزق من
يشاء وهو القوي العزيز - 19. من كان يريد حرث الاخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الاخرة من نصيب - 20. أم لهم شركؤا شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وأن الظالمين لهم عذاب أليم - 21. ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤن عند ربهذلك هو الفضل الكبير - 22. ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملو الصالحات قل لا أسالكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور - 23. أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشإ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور - 24. وهو الذى يقبل التوبه عن
[ 38 ]
عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون - 25. ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله الكافرون لهم عذاب شديد - 26. (بيان) فصل رابع من الايات يعرف الوحي الالهي بأن الدين النازل به كتاب مكتوب على الناس وميزان يوزن به أعمالهم فيجزون بذلك يوم القيامة، والجزاء الحسن من الرزق ثم يستطرد الكلام في ما يستقبلهم يوم القيامة من الثواب والعقاب، وفيها آية المودة في القربى وما يلحق بذلك. قوله تعالى: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان) الخ، كان مفتتح الفصول السابقة في سياق الفعل إخبارا عن الوحي وغرضه وآثاره (كذلك يوحي إليك)
(وكذلك أوحينا إليك) (شرع لكم من الدين) وقد غير السياق في مفتتح هذا الفصل فجئ بالجملة الاسمية المتضمنة لتوصيفه تعالى بإنزال الكتاب والميزان (الله الذي أنزل الكتاب) الخ، ولازمه تعريف الوحي بنزول الكتاب والميزان به. ولعل الوجه فيه ما تقدم في الاية السابقة من ذكر المحاجة في الله (والذين يحاجون في الله) فاستدعى ذلك تعريفه تعالى للمحاجين فيه بأنه الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان، ولازمه تعريف الوحي بأثره كما عرفت. وكيف كان فالمراد بالكتاب هو الوحي المشتمل على الشريعة والدين الحاكم في المجتمع البشري، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة) الاية البقرة: 213 أن هذا المعنى هو المراد بالكتاب في الكتاب، وكون إنزاله بالحق نزوله مصاحبا للحق لا يخالطه اختلاف شيطاني ولا نفساني. والميزان ما يوزن ويقدر به الاشياء، والمراد به بقرينة ذيل الاية والايات التالية هو الدين المشتمل عليه الكتاب حيث يوزن به العقائد والاعمال فتحاسب عليه ويجزى بحسبه الجزاء يوم القيامة فالميزان هو الدين باصوله وفروعه، ويؤيده قوله تعالى:
[ 39 ]
(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان) الحديد: 25، على ما هو ظاهر قوله: (معهم). وقيل: المراد به العدل وسمي العدل ميزانا لان الميزان آلة الانصاف والتسوية بين الناس والعدل كذلك وأيد بسبق ذكر العدل في قوله: (وأمرت لاعدل بينكم). وفيه أنه لا شاهد يشهد عليه من اللفظ، وقد تقدم أن المراد بالعدل في (لاعدل) هو التسوية بين الناس في التبليغ وفي جريان الحكم دون عدل الحاكم والقاضي. وقيل: المراد به الميزان المعروف المقدر للاثقال. وهو كما ترى. وقيل: المراد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويمكن إرجاعه إلى ما قدمناه من الوجه لان النبي
مصداق كامل ومثل أعلى للدين باصوله وفروعه ولكل فرد من امته من الزنة الدينية قدر ما يشابهه ويماثله لكن لا يلائم هذا الوجه ما تقدم نقله آنفا من آية سورة الحديد كثير ملاءمة. وقوله: (وما يدريك لعل الساعة قريب) لما كان الميزان المشعر بالحساب والجزاء يومي إلى البعث والقيامة انتقل إلى الكلام فيه وإنذارهم بما سيستقبلهم فيه من الاهوال والتبشير بما أعد فيه للصالحين. والادراء الاعلام، والمراد بالساعة - على ما قيل - إتيانها ولذا جئ بالخبر مذكرا، والمعنى: ما الذي يعلمك لعل إتيان الساعة قريب والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعنوان أنه سامع فيشمل كل من له أن يسمع ويعم الانذار والتخويف. قوله تعالى: (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها) الخ المراد استعجالهم استعجال سخرية واستهزاء وقد تكرر في القرآن نقل قولهم: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين). والاشفاق نوع من الخوف، قال الراغب: الاشفاق عناية مختلطة بخوف لان المشفق يحب المشفق عليه ويخاف ما يلحقه، قال تعالى: (وهم من الساعة مشفقون) فإذا عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، وإذا عدي بفي فمعنى العناية فيه أظهر، قال تعالى: (إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين) (مشفقون منها) انتهى. وقوله: (ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد) المماراة الاصرار على الجدال، والمراد إلحاحهم على إنكارها بالجدال، وإنما كانوا في ضلال بعيد لانهم أخطؤا
[ 40 ]
طريق الحياة التي إصابتها أهم ما يتصور للانسان فتو هموها حياة مقطوعة فانية انكبوا فيها على شهوات الدنيا وإنما هي حياة خالدة باقية يجب عليهم أن يتزودوا من دنياهم لاخراهم لكنهم ضلوا عن سبيل الرشد فوقعوا في سبيل الغي.
قوله تعالى: (الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز) في معنى اللطف شئ من الرفق وسهولة الفعل وشئ من الدقة في ما يقع عليه الفعل فإذا تم الرفق والدقة وكان الفاعل يفعل برفق وسهولة ويقع فعله على الامور الدقيقة كان لطيفا كالهواء النافذ في منافذ الاجسام برفق وسهولة المماس لدقائق أجزائها الباطنة. وإذا القيت الخصوصيات المادية عن هذا المعنى صح أن يتصف به الله سبحانه فإنه تعالى ينال دقائق الامور بإحاطته وعلمه ويفعل فيها ما يشاء برفق فهو لطيف. وقد رتب الرزق في الاية على كونه تعالى لطيفا بعباده قويا عزيزا دلالة على أنه تعالى بلطفه يغيب عنه أحد ممن يشاء أن يرزق ولا يعصيه وبقوته عليه لا يعجز عنه وبعزته لا يمنعه مانع عنه. والمراد بالرزق ما يعم موهبة الدين الذي يتلبس بها من يشاء من عباده على ما يشهد به الاية التالية، ولذا ألحق القول فيه بقوله: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق و الميزان. قوله تعالى: (من كان يريد حرث الاخرة نزد له في حرثه) الخ، الحرث الزرع والمراد به نتيجة الاعمال التي يؤتاها الانسان في الاخرة على سبيل الاستعارة كأن الاعمال الصالحة بذور وما تنتجه في الاخرة حرث. والمراد بالزيادة له في حرثه تكثير ثوابه ومضاعفته، قال تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) الانعام: 160، وقال: (والله يضاعف لمن يشاء) البقرة: 261. وقوله: (ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الاخرة من نصيب) أي ومن كان يريد النتائج الدنيوية بأن يعمل للدنيا ويريد نتيجة ما عمله فيها دون الاخرة نؤته من الدنيا وما له في الاخرة نصيب وفي التعبير بإرادة الحرث إشارة إلى اشتراط العمل لما يريده من الدنيا والاخرة كما قال تعالى: (وأن ليس للانسان إلا ما سعى) النجم: 39
[ 41 ]
وقد ابهم ما يعطيه من الدنيا إذ قال (نؤته منها) إشارة إلى أن الامر إلى المشية الالهية فربما بسطت الرزق وربما قدرت كما قال تعالى: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) إسرى: 18. والالتفات من الغيبة إلى التكلم بالغير في قوله (نزد له) ونؤته منها للدلالة على العظمة التي يشعر بها قوله: (وهو القوي العزيز). والمحصل من معنى الايتين: أن الله سبحانه لطيف بعباده جميعا ذو قوه مطلقة وعزة مطلقة يرزق عباده على حسب مشيته وقد شاء في من أراد الاخرة وعمل لها أن يرزقه منها ويزيد فيه، وفيمن أراد الدنيا وعمل لها فحسب أن يؤتيه منها وما له في الاخرة من نصيب. ويظهر من ذلك أن الاية الاولى عامة تشمل الفريقين، والمراد بالعباد ما يعم أهل الدنيا والاخرة وكذاالرزق وأن الاية الثانية في مقام تفصيل ما في قوله: (يرزق من يشاء) من الاجمال. قوله تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) إلى آخر الاية لما بين أن اله سبحانه هو الذي أنزل الكتاب بالحق وشرع لهم الدين الذي هو ميزان أعمالهم وأنه بلطفه وقوته وعزته يرزق من أراد الاخرة وعمل لها ما أراده منها ويزيد، وأن من أراد الدنيا ونسي الاخرة لا نصيب له فيها سجل على من كفر بالاخرة عدم النصيب فيها بإنكار أن لا دين غير ما شرعه الله يدين به هؤلاء حتى يرزقوا بالعمل به مثل ما يرزق أهل الايمان بالاخرة فيها إذ لا شريك لله حتى يشرع دينا غير ما شرعه الله من غير إذن منه تعالى فلا دين إلا لله ولا يرزق في الاخرة رزقا حسنا إلا من آمن بها وعمل لها. فقوله: (أم لهم شركاء) الخ، في مقام الانكار، وقوله: (ولو لاكلمة الفصل لقضي بينهم) إشارة إلى الكلمة التي سبقت منه تعالى أنهم يعيشون في الارض إلى أجل مسمى، وفيه إكبار لجرمهم ومعصيتهم.
وقوله: (وإن الظالمين لهم عذاب أليم) وعيد لهم على ظلمهم، واشارة إلى أنهم لا يفوتونه تعالى فإن لم يقض بينهم ولم يعذبهم في الدنيا فلهم في الاخرة عذاب أليم.
[ 42 ]
قوله تعالى: (ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم) الخ، الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعنوان أنه سامع فيشمل كل من من شأنه أن يرى، والمراد بالظالمين التار كون لدين الله الذي شرعه لعباده المعرضون عن الساعة، والمعنى: يرى الراؤون هؤلاء الظالمين يوم القيامة خائفين مما كسبوا من السيئات وهو واقع بهم لا مناص لهم عنه. والاية من الايات الظاهرة في تجسم الاعمال، وقيل: في الكلام مضاف محذوف والتقدير مشفقين من وبال ما كسبوا، ولا حاجة إليه. وقوله: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات) في المجمع: إن الروضة الارض الخضرة بحسن النبات، والجنة الارض التي تحفها الشجر فروضات الجنات الحدائق المشجرة المخضرة متونها. وقوله: (لهم فيها ما يشاؤن عند ربهم) أي إن نظام الاسباب مطوي فيها بل السبب الوحيد هو إرادتهم وحدها يخلق الله لهم من عنده ما يشاؤون ذلك هو الفضل الكبير. و قوله: (ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات) تبشير للمؤمنين الصالحين، واضافة العباد تشريفية. قوله تعالى: قل لا أسالكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) الذي نفي سؤال الاجر عليه هو تبليغ الرسالة والدعوة الدينة، وقد حكى الله ذلك عن عدة ممن قبله صلى الله عليه وآله وسلم من الرسل كنوح وهود صالح ولوط وشعيب فيما حكي مما يخاطب كل منهم امته: (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين) الشعراء وغيرها. وقد حكى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك إذ قال: (وما تسألهم عليه من أجر) يوسف: 104، وقد أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يخاطب الناس بذلك بتعبيرات مختلفة حيث قال: (قل
ما أسألكم عليه من أجر) ص 86، وقال: (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله) سبأ: 47، وقال: (قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين) الانعام: 90 فأشار إلى وجه النفي وهو أنه ذكرى للعالمين لا يختص ببعض دون بعض حتى يتخذ عليه الاجر. وقال: (قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا)
[ 43 ]
الفرقان: 57، ومعناه على ما مر في تفسير الاية: إلا أن يشاء أحد منكم أن يتخذ إلى ربه سبيلا أي يستجيب دعوتي باختياره فهو أجري أي لا شئ هناك وراء الدعوة أي لا أجر. وقال تعالى في هذه السورة: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) فجعل أجر رسالته المودة في القربى، ومن المتيقن من مضامين سائر الايات التي في هذا المعنى أن هذه المودة أمر يرجع إلى استجابة الدعوة إما استجابة كلها وإما استجابة بعضها الذي يهتم به وظاهر الاستثناء على أي حال أنه متصل بدعوى كون المودة من الاجر ولا حاجة إلى ما تمحله بعضهم بتقريب الانقطاع فيه. وأما معنى المودة في القربى فقد اختلف فيه تفاسيرهم فقيل - ونسب إلى الجمهور - أن الخطاب لقريش والاجر المسؤل هو مودتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لقرابته منهم وذلك لانهم كانوا يكذبونه ويبغضونه لتعرضه لالهتهم على ما في بعض الاخبار فامرصلى الله عليه وآله وسلم أن يسألهم: أن لم يؤمنوا به فليودوه لمكان قرابته منهم ولا يبغضوه ولا يؤذوه فالقربى مصدر بمعنى القرابة، وفي للسببية. وفيه أن معنى الاجر إنما يتم إذا قوبل به عمل يمتلكه معطي الاجر فيعطي العامل ما يعادل ما امتلكه من مال ونحوه فسؤال الاجر من قريش وهم كانوا مكذبين له كافرين بدعوته إنما كان يصح على تقدير إيمانهم به صلى الله عليه وآله وسلم لانهم على تقدير تكذيبه والكفر بدعوته لم يأخذوا منه شيئا حتى يقابلوه بالاجر، وعلى تقدير الايمان به
و - النبوة أحد الاصول الثلاثة في الدين - لا يتصور بغض حتى تجعل المودة أجرا للرسالة ويسأل. وبالجملة لا تحقق لمعنى الاجر على تقدير كفر المسؤولين ولا تحقق لمعنى البغض على تقدير إيمانهم حتى يسألوا المودة. وهذا الاشكال وارد حتى على تقدير أخذ الاستثناء منقطعا فإن سؤال الاجر منهم على أي حال إنما يتصور على تقدير إيمانهم والاستدراك على الانقطاع إنما هو عن الجملة بجميع قيودها فأجد التأمل فيه. وقيل: المراد بالمودة في القربى ما تقدم والخطاب للانصار فقد قيل: إنهم
[ 44 ]
أتوه بمال ليستعين به على ما ينوبه فنزلت الاية فرده، وقد كان له منهم قرابة من جهة سلمى بنت زيد النجارية ومن جهة أخوال أمه آمنة على ما قيل. وفيه أن أمر الانصار في حبهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أوضح من أن يرتاب فيه ذو ريب وهم الذين سألوه أن يهاجر إليهم، وبوؤا له الدار، وفدوه بالانفس والاموال والبنين وبذلوا كل جهدهم في نصرته وحتى في الاحسان على من هاجر إليهم من المؤمنين به، وقد مدحهم الله تعالى بمثل قوله: (والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدور هم حاجة مما اوتوا ويؤثرون على أنفهسم ولو كان بهم خصاصة) الحشر: 9، وهذا مبلغ حبهم للمهاجرين إليهم لاجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فما هو الظن في حبهم له ؟ وإذا كان هذا مبلغ حبهم فما معنى أن يؤمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتوسل إلى مودتهم بقرابته منهم هذه القرابة البعيدة ؟ على أن العرب ما كانت تعتني بالقرابة من جهة النساء ذاك الاعتناء وفيهم القائل: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الاباعد والقائل:
وإنما امهات الناس أوعية مستودعات وللانساب آباء وإنما هو الاسلام أدخل النساء في القرابة وساوى بين أولاد البنين وأولاد البنات وقد تقدم الكلام في ذلك. وقيل: الخطاب لقريش والمودة في القربى هي المودة بسبب القرابة غير أن المراد بها مودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا مودة قريش كما في الوجه الاول، والاستثناء منقطع، ومحصل المعنى: أني لا أسألكم أجرا على ما أدعوكم إليه من الهدى الذي ينتهي بكم إلى روضات الجنات والخلود فيها ولا أطلب منكم جزاء لكن حبي لكم بسبب قرابتكم مني دفعني إلى أن أهديكم إليه وأدلكم عليه. وفيه أنه لا يلائم ما يخده الله سبحانه له صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الدعوة والهداية فإنه تعالى يسجل عليه في مواضع كثيرة من كلامه أن الامر في هداية الناس إلى الله وليس له من الامر شئ وأن ليس له أن يحزن لكفرهم وردهم دعوته وإنما عليه البلاغ فلم يكن
[ 45 ]
له أن يندفع إلى هداية أحد لحب قرابة أو يعرض عن هداية آخرين لبغض أو كراهة ومع ذلك كله كيف يتصور أن يأمره الله بقوله: (قل لا أسألكم) الاية أن يخبر كفار قريش أنه إنما اندفع إلى دعوتهم وهدايتهم بسبب حبه لهم لقرابتهم منه لا لاجر يسألهم إياه عليه. وقيل: المراد بالمودة في القربى مودة الاقرباء والخطاب لقريش أو لعامة الناس والمعنى: لا أسألكم على دعائي أجرا إلا أن تودوا أقرباءكم. وفيه أن مودة الاقرباء على إطلاقهم ليست مما يندب إليه في الاسلام قال تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم اولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه) المجادلة: 22، وسياق هذه الاية لا يلائم كونها مخصصة أو مقيدة لعموم قوله: (إلا المودة في القربى) أو إطلاقه حتى تكون المودة للاقرباء المؤمنين هي أجر الرسالة على
أن هذه المودة الخاصة لا تلائم خطاب قريش أو عامة الناس. بل الذي يفيده سياق الاية أن الذي يندب إليه الاسلام هو الحب في الله من غير أن يكون للقرابة خصوصية في ذلك، نعم هناك اهتمام شديد بأمر القرابة والرحم لكنه بعنوان صلة الرحم وإيتاء المال، على حبه ذوي القربى لا بعنوان مودة القربى فلا حب إلا لله عز اسمه. ولا مساغ للقول بأن المودة في القربى في الاية كناية عن صلتهم والاحسان إليهم بإيتاء المال إذ ليس في الكلام ما يدفع كون المراد هو المعنى الحقيقي غير الملائم لما ندب إليه الاسلام من الحب في الله. وقيل: معنى القربى هو التقرب إلى الله، والمودة في القربى هي التودد إليه تعالى بالطاعة والتقرب فالمعنى: لا أسألكم عليه أجرا إلا أن توددوا إليه تعالى بالتقرب إليه. وفيه أن في قوله: (إلا المودة في القربى) على هذا المعنى إبهاما لا يصلح به أن يخاطب به المشركون فإن حاق مدلوله التودد إليه - أو وده تعالى - بالتقرب إليه والمشركون لا ينكرون ذلك بل يرون ما هم عليه من عبادة الالهة توددا إليه بالتقرب
[ 46 ]
منه فهم القائلون على ما يحكيه القرآن عنهم: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) الزمر: 3، (هؤلاء شفعاؤنا عند الله) يونس: 18. فسؤال التودد إلى الله بالتقرب إليه من غير تقييده بكونه بعبادته وحده، وجعل ذلك أجرا مطلوبا ممن يرى شركه نوع تودد إلى الله بالتقرب إليه، وخطابهم بذلك على ما فيه من الابهام - و المقام مقام تمحيضه صلى الله عليه وآله وسلم نفسه في دعوتهم إلى دين التوحيد لا يسألهم لنفسه شيئا قط - مما لا يرتضيه الذوق السليم. على أن المستعمل في الاية هو المودة دون التودد فالمراد بالمودة حبهم لله في
التقرب إليه ولم يرد في كلامه تعالى إطلاق المودة على حب العباد لله سبحانه وإن ورد العكس كما في قوله: (إن ربي رحيم ودود) هود: 90، وقوله: و (هو الغفور الودود) البروج: 14، ولعل ذلك لما في لفظ المودة من الاشعار بمراعاة حال المودود وتعاهده وتفقده، حتى قال بعضهم - على ما حكاه الراغب - إن مودة الله لعباده مراعاته لهم. والاشكال السابق على حاله ولو فسرت المودة في القربى بموادة الناس بعضهم بعضا ومحابتهم في التقرب إلى الله بأن تكون القربات أسبابا للمودة والحب فيما بينهم فإن للمشركين ما يماثل ذلك فيما بينهم على ما يعتقدون. وقيل: المراد بالمودة في القربى، مودة قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم عترته من أهل بيته عليه السلام وقد وردت به روايات من طرق أهل السنة وتكاثرت الاخبار من طرق الشيعة على تفسير الاية بمودتهم وموالاتهم، ويؤيده الاخبار المتواترة من طرق الفريقين على وجوب موالاة أهل البيت عليه السلام ومحبتهم. ثم التأمل الكافي في الروايات المتواترة الواردة من طرق الفريقين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المتضمنة لارجاع الناس في فهم كتاب الله بما فيه من اصول معارف الدين وفروعها وبيان حقائقه إلى أهل البيت عليه السلام كحديث الثقلين وحديث السفينة وغير هما لا يدع ريبا في أن إيجاب مودتهم وجعلها أجرا للرسالة إنما كان ذريعة إلى إرجاع الناس إليهم فيما كان لهم من المرجعية العلمية. فالمودة المفروضة على كونها أجرا للرسالة لم تكن أمرا وراء الدعوة الدينية
[ 47 ]
من حيث بقائها ودوامها، فالاية في مؤداها لا تغاير مؤدى سائر الايات النافية لسؤال الاجر ويؤول معناها إلى أني لا أسألكم عليه أجرا إلا أن الله لما أوجب عليكم مودة عامة
المؤمنين ومن جملتهم قرابتي فإني أحتسب مودتكم لقرابتي وأعدها أجرا لرسالتي، قال تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان ودا) مريم: 96 وقال: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) التوبة: 71. وبذلك يظهر فساد ما اورد على هذا الوجه أنه لا يناسب شأن النبوة لما فيه من التهمة فإن أكثر طلبة الدنيا يفعلون شيئا ويسألون عليه ما يكون فيه نفع لاولادهم وقراباتهم. وأيضا فيه منافاة لقوله تعالى: (وما تسألهم عليه من أجر) يوسف: 104. وجه الفساد أن إطلاق الاجر عليها وتسميتها به إنما هبحسب الدعوى وأما بحسب الحقيقة فلا يزيد مدلول الاية على ما يدل عليه الايات الاخر النافية لسؤال الاجر كما عرفت وما في ذلك من النفع عائد إليهم فلا مورد للتهمة. على أن الاية على هذا مدنية خوطب بها المسلمون وليس لهم أن يتهموا نبيهم المصون بعصمة إلهية بعد الايمان به وتصديق عصمته - فيما يأتيهم به من ربهم ولو جاز اتهامهم له في ذلك وكان ذلك غير مناسب لشأن النبوة لا يصلح لان يخاطب به لاطرد مثل ذلك في خطابات كثيرة قرآنية كالايات الدالة على فرض طاعته المطلقة والدالة على كون الانفال والغنائم لله ولرسوله، والدالة على خمس ذوي القربى، وما ابيح له في أمر النساء وغير ذلك. على أنه تعالى تعرض لهذه التهمة ودفعها في قوله الاتي: (أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشإ الله يختم على قلبك) الاية على ما سيأتي. وهب أنا صرفنا الاية عن هذا المعنى بحملها على غيره دفعا لما ذكر من التهمة فما هو الدافع لها عن الاخبار التي لا تحصى كثرة الواردة من طرق الفريقين في إيجاب مودة أهل البيت عنه صلى الله عليه وآله وسلم ؟ وأما منافاة هذا الوجه لقوله تعالى: (وما تسألهم عليه من أجر) فقد اتضح
[ 48 ]
بطلانه مما ذكرناه، والاية بقياس مدلولها إلى الايات النافية لسؤال الاجر نظيرة قوله تعالى: (قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا) الفرقان: 57. قال في الكشاف بعد اختياره هذا الوجه: فإن قلت: هلا قيل: إلا مودة القربى أو إلا المودة للقربى، وما معنى قوله: إلا المودة في القربى ؟ قلت: جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها كقولك: لي في آل فلان مودة، ولي فيهم هوى وحب شديد، تريد احبهم وهم مكان حبي ومحله. قال: وليست في بصلة للمودة كاللام إذا قلت: إلا المودة للقربى. إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك: المال في الكيس، وتقديره: إلا المودة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها. انتهى. قوله تعالى: (ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور) الاقتراف الاكتساب، والحسنة الفعلة التي يرتضيها الله سبحانه ويثيب عليها وحسن العمل ملاءمته لسعادة الانسان والغاية التي يقصدها كما أن مساءته وقبحه خلاف ذلك، وزيادة حسنها إتمام ما نقص من جهاتها وإكماله ومن ذلك الزيادة في ثوابها كما قال تعالى: (ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون) العنكبوت: 7، وقال: (ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله) النور: 38. والمعنى: ومن يكتسب حسنة نزد له في تلك الحسنة حسنا - برفع نقائصها وزيادة أجرها - إن الله غفور يمحو السيئات شكور يظهر محاسن العمل من عامله. وقيل: المراد بالحسنة مودة قربى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويؤيده ما في روايات ائمة أهل البيت عليه السلام أن قوله: (قل لا أسألكم عليه أجرا) إلى تمام أربع آيات نزلت في مودة قربى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولازم ذلك كون الايات مدنية وأنها ذات سياق واحد
وأن المراد بالحسنة من حيث انطباقها على المورد هي المودة، وعلى هذا فالاشارة بقوله: (أم يقولون افترى) الخ، إلى بعض ما تفوه به المنافقون تثاقلا عن قبوله وفي المؤمنين سماعون لهم، وبقوله: (وهو الذي يقبل التوبة إلى آخر الايتين إلى توبة الراجعين منهم وقبولها.
[ 49 ]
وفي قوله: (إن الله غفور شكور) التفات من التكلم إلى الغيبة والوجه فيه الاشارة إلى علة الاتصاف بالمغفرة والشكر فإن المعنى: إن الله غفور شكور لانه الله عز اسمه. قوله تعالى: (أم يقولون افترى على الله كذبا) إلى آخر الاية أم منقطعة، والكلام مسوق للتوبيخ ولازمه إنكار كونه صلى الله عليه وآله وسلم مفتريا على الله كذبا. وقوله: (فإن يشا الله يختم على قلبك) معناه على ما يعطيه السياق أنك لست مفتريا على الله كذبا فإنه ليس لك من الامر شئ حتى تشاء الفرية فتأتي بها وإنما هو وحي من الله سبحانه من غير أن يكون لك فيه صنع والامر إلى مشيته تعالى فإن يشأ يختم على قلبك وسد باب الوحي إليك، لكنه شاء أن يوحي إليك ويبين الحق، وقد جرت سنته أن يمحو الباطل ويحق الحق بكلماته. فقوله: فإن يشإ الله يختم على قلبك) كناية عن إرجاع الامر إلى مشية الله وتنزيه لساحة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتي بشئ من عنده. وهذا المعنى - كما سترى - أنسب للسياق بناء على كون المراد بالقربى قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتوبيخ متوجها إلى المنافقين ومرضى القلوب. وقد ذكروا في معنى الجملة وجوها أخر: منها: ما ذكرة الزمخشري في الكشاف حيث فسر قوله: (فإن يشإ الله يختم على قلبك) بقوله: فإن يشإ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى تفتري عليه الكذب
فإنه لا يفتري على الله الكذب إلا من كان في مثل حالهم. وهذا الاسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله وأنه في البعد مثل الشرك بالله والدخول في جملة المختوم على قلوبهم، ومثال هذا أن يخون بعض الامناء فيقول: لعل الله خذلني لعل الله أعمى قلبي وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب وإنما يريد استبعاد أن يخون مثله والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم. انتهى. ومنها ما قيل: إن المعنى لو حدثت نفسك بأن تفتري على الله الكذب لطبع
[ 50 ]
الله على قلبك ولانساك القرآن فكيف تقدر أن تفتري على الله، وهذا كقوله: (لئن أشركت ليحبطن عملك). ومنها ما قيل: إن معناه فإن يشإ الله يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يشق عليك قولهم إنه مفترو ساحر، وهي وجوه لا تخلو من ضعف. ومنها ما قيل: إن المعنى فإن يشإ الله يختم على قلبك كما ختم على قلوبهم وهو تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليشكر ربه على ما آتاه من النعمة. ومنها ما قيل: إن المعنى فإن يشإ الله يختم على قلوب الكفار وعلى ألسنتهم ويعاجلهم بالعذاب، وعدل عن الغيبة إلى الخطاب وعن الجمع إلى الافراد، والمراد: يختم على قلبك أيها القائل: إنه افترى على الله كذبا. وقوله: (ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته): الاتيان بالمضارع - يمحو ويحق - للدلالة على الاستمرار، فمحو الباطل وإحقاق الحق بالكلمات سنة جارية له تعالى والمراد بالكلمات ما ينزل على الانبياء من الوحي الالهي والتكليم الربوبي ويمكن أن يكون المراد نفوس الانبياء من حيث إنها مفصحة عن الضمير الغيبي. وقوله: (إنه عليم بذات الصدور تعليل لقوله: (ويمح الله الباطل الخ) أي
إنه يمحو الباطل ويحق الحق بكلماته لانه عليم بالقلوب وما انطوت عليه فيعلم ما تستدعيه من هدى أو ضلال أو شرح أو ختم بإنزال الوحي وتوجيه الدعوة. قيل: وفي الاية إشعار بوعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر ولا يخلو من وجه. قوله تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون) يقال: قبل منه وقبل عنه قال في الكشاف: يقال: قبلت منه الشئ وقبلته عنه فمعنى قبلته منه أخذته منه وجعلته مبدأ قبولي ومنشأه، ومعنى قبلته عنه عزلته وأبنته عنه. انتهى. وفي قوله: (ويعلم ما تفعلون) تحضيض على التوبة وتحذير عن اقتراف السيئات والمعنى ظاهر. قوله تعالى: (ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) فاعل (يستجيب) ضمير راجع إليه تعالى و (الذين آمنوا)
[ 51 ]
الخ، في موضع المفعول بنزع الخافض والتقدير ويستجيب للذين آمنوا - على ما قيل - وقيل: فاعل (يستجيب) هو (الذين) وهو بعيد من السياق. والاستجابة إجابة الدعاء ولما كانت العبادة دعوة له تعالى عبر عن قبولها بالاستجابة لهم، والدليل على هذا المعنى قوله: (ويزيدهم من فضله) فإن ظاهره زيادة الثواب وكذا مقابلة استجابة المؤمنين بقوله: (والكافرون لهم عذاب شديد). وقيل: المراد أنه يستجيب لهم إذا دعوه وأعطاهم ما سألوه وزادهم على ما طلبوه وهو بعيد من السياق. على أن استجابة الدعاء لا يختص بالمؤمن. (بحث روائي) في المجمع روى زادان عن علي عليه السلام قال: فينا في آل حم آية لا يحفظ مودتنا إلا كل مؤمن. ثم قرأ (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى).
قال الطبرسي: وإلى هذا أشار الكميت في قوله: وجدنا لكم في آل حم آية تأولها منا تقى ومعرب. وفيه وصح عن الحسن بن على عليه السلام أنه خطب الناس فقال في خطبته: إنا من أهل البيت الذين افترض الله مودتهم على كل مسلم فقال: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى). وفي الكافي بإسناده عن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) قال: هم الائمة. أقول: والاخبار في هذا المعنى من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليه السلام كثيرة جدا مروية عنهم. وفي الدر المنثور أخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابن جرير وابن مردويه من طريق طاوس عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: (إلا المودة في القربى) فقال سعيد بن جبير: هم قربى آل محمد فقال ابن عباس: عجلت إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة.
[ 52 ]
أقول: ورواه أيضا عن ابن عباس بطرق أخرى غير هذا الطريق، وقد تقدم في بيان الاية أن هذا المعنى غير مستقيم ولا منطبق على سياق الاية، ومن العجيب ما في بعض هذه الطرق أن الاية منسوخة بقوله تعالى: (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجرى إلا على الله). وفيه أخرج أبو نعيم والديلمي من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى أن تحفظوني في أهل بيتي وتودوهم لي. وفيه أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه بسند ضعيف من
طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الاية (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودتهم قال: علي وفاطمة وولداها. أقول: ورواه الطبرسي في المجمع وفيها (وولدها) مكان (وولداها). وفيه أخرج ابن جرير عن أبي الديلم قال: لما جئ بعلى بن الحسين أسيرا فاقيم على درج دمشق - قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم وأستاصلكم: فقال له علي بن الحسين: أقرأت القرآن ؟ قال: نعم. قال: أقرأت آل حم ؟ قال: نعم قال: أما قرأت (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) ؟ قال: فإنكم لانتم هم ؟ قال: نعم. وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (ومن يقترف حسنة) قال: المودة لال محمد. أقول: وروى ما في معناه في الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام. وفي تفسير القمي حدثني أبي عن ابن أبي نجران عن عاصم بن حميد عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول في قول الله عز وجل: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) يعني في أهل بيته. قال جاءت الانصار إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فقالوا: إنا قد آوينا ونصرنا فخذ طائفة من أموالنا فاستعن بها على ما نابك فأنزل الله عز وجل (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) أي في أهل بيته.
[ 53 ]
ثم قال: ألا ترى أن الرجل يكون له صديق وفي نفس ذلك الرجل شئ على أهل بيته فلا يسلم صدره فأراد الله عز وجل أن لا يكون في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شئ على أمته ففرض الله عليهم المودة في القربى فإن أخذوا أخذوا مفروضا، وإن تركوا تركوا مفروضا.
قال: فانصرفوا من عنده وبعضهم يقول: عرضنا عليه أموالنا فقال: لا. قاتلوا عن أهل بيتي من بعدي، وقال طائفة: ما قال هذا رسول الله وجحدوه وقالوا كما حكى الله عز وجل: (أم يقولون افترى على الله كذبا) فقال عز وجل: (فإن يشإ الله يختم على قلبك) قال: لو افتريت (ويمح الله الباطل) يعني يبطله (ويحق الحق بكلماته) يعني بالائمة والقائم من آل محمد عليه السلام (إنه عليم بذات الصدور). أقول: وروى قصة الانصار السيوطي في الدر المنثور عن الطبراني وابن مردويه من طريق ابن جبير وضعفه ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الارض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير - 27. وهو الذى ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد - 28. ومن آياته خلق السموات والارض وما بث فيهما من دابه ة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير - 29. وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير - 30. وما أنتم بمعجزين في الارض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير - 31. ومن آياته الجوار في البحر كالاعلام - 32. إن يشأ يسكن الريح
[ 54 ]
فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لايات لكل صبار شكور - 33. أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير - 34. ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص - 35. فما أوتيتم من شئ فمتاع الحيوة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون - 36. والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون - 37. والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلوة
وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون - 38. والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون - 39. وجزاؤا سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين - 40. ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل - 41. إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الارض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم - 42. ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الامور - 43. ومن يظلل الله فما له من ولي من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل - 44. وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفى وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيمة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم - 45. وما كان لهم من
[ 55 ]
أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يظلل الله فما له من سبيل - 46. إستجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجا يومئذ وما لكم من نكير - 47. فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنا إذا أذقنا الانسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الانسان كفور - 48. لله ملك السموات والارض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور - 49. أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير - 50. (بيان) صدر الايات متصل بحديث الرزق المذكور في قوله: (الله لطيف بعباده يرزق من يشاء) وقد سبقه قوله: (له مقاليد السموات والارض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) وقد تقدمت الاشارة إلى أن من الرزق نعمة الدين التي آتاها الله سبحانه عباده المؤمنين
وبهذه العناية دخل الكلام فيه في الكلام على الوحي الذي سيقت لبيانه آيات السورة وانعطف عليه انعطافا بعد انعطاف. ثم يذكر بعض آيات التوحيد المتعلقة بالرزق كخلق السماوات والارض وبث الدواب فيهما والسفائن الجواري في البحر وإيتاء الاولاد الذكور والاناث أو إحداهما لمن يشاء وجعل من يشاء عقيما. ثم يذكر أن من الرزق ما آتاهموه في الدنيا وهو متاعها الفاني بفنائها ومنه ما يخص المؤمنين في الاخرة وهو خير وأبقى، وينتقل الكلام من هنا إلى صفات المؤمنين
[ 56 ]
وحسن عاقبتهم وإلى وصف ما يلقاء الظالمون وهم غيرهم في عقباهم من أهوال القيامة وعذاب الاخرة. ووراء ذلك في خلال الايات من إجمال بعض الاحكام والانذار والتخويف والدعوة إلى الحق وحقائق المعارف شئ كثير. قوله تعالى: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الارض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير) القدر مقابل البسط معناه التضييق ومنه قوله السابق (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) والقدر بفتح الدال وسكونها كمية الشئ وهندسته ومنه قوله: (ولكن ينزل بقدر ما يشاء) أو جعل الشئ على كمية معينة ومنه قوله: (فقدرنا فنعم القادرون) المرسلات: 23. والبغي الظلم، وقوله: (بعباده) من وضع الظاهر موضع الضمير، والنكتة فيه الاشارة إلى بيان كونه خبيرا بصيرا بهم وذلك أنهم عباده المخلوقون له القائمون به فلا يكونون محجوبين عنه مجهولين له، وكذا قوله السابق: (لعباده) لا يخلو من إشارة إلى بيان إيتاء الرزق وذلك أنهم عباده ورزق العبد على مولاه. ومعنى الاية: ولو وسع الله الرزق على عباده فأشبع الجميع بإيتائه لظلموا في
الارض - لما أن من طبع سعة المال الاشر والبطر والاستكبار والطغيان كما قال تعالى: (إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى) العلق: 7 ولكن ينزل ما يشاء من الرزق بقدر وكمية معينة إنه بعباده خبير بصير فيعلم ما يستحقه كل عبد وما يصلحه من غنى أو فقر فيؤتيه ذلك. ففي قوله: (ولكن ينزل بقدر ما يشاء) بيان للسنة الالهية في إيتاء الرزق بالنظر إلى صلاح حال الناس أي إن لصلاح حالهم أثرا في تقدير أرزاقهم، ولا ينافي ذلك ما نشاهد من طغيان بعض المثرين ونماء رزقهم على ذلك فإن هناك سنة اخرى حاكمة على هذه السنة وهي سنة الابتلاء والامتحان، قال تعالى: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) التغابن: 15، وسنة اخرى هي سنة المكر والاستدراج، قال تعالى: (سنستدرجهم من حيث لا يشعرون وأملى لهم إن كيدى متين) الاعراف: 183. فسنة الاصلاح بتقدير الرزق سنة ابتدائيه يصلح بها حال الانسان إلا أن يمتحنه
[ 57 ]
الله كما قال: (وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم) آل عمران: 154 أو يغير النعمة ويكفر بها فيغير الله في حقه سنته فيعطيه ما يطغيه، قال تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الرعد: 11. وكما أن إيتاء المال والبنين وسائر النعم الصورية من الرزق المقسوم كذلك المعارف الحقة والشرائع السماوية المنتهية إلى الوحي من حيث إنزالها ومن حيث الابتلاء بها والتلبس بالعمل بها من الرزق المقسوم. فلو نزلت المعارف والاحكام عن آخرها دفعة واحدة - على ما لها من الاحاطة والشمول لجميع شؤون الحياة الانسانية - لشقت على الناس ولم يؤمن بها إلا الاوحدي منهم لكن الله سبحانه أنزلها على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم تدريجا وعلى مكث وهيا بذلك الناس بقبول بعضها لقبول بعض، قال تعالى: (وقرآنا فرقناه لتقراه على الناس على مكث)
أسرى: 106. وكذا المعارف العالية التي هي في بطون المعارف الساذجة الدينية لو لم يضرب عليها بالحجاب وبينت لعامة الناس على حد الظواهر المبينة لهم لم يتحملوها ودفعته أفهامهم إلا الاوحدي منهم لكن الله سبحانه كلمهم في ذلك نوع تكليم يستفيد منه كل على قدر فهمه وسعة صدره كما قال في مثل ضربه في ذلك: (أنزل من السماء ماء) فسالت أوديه بقدرها) الرعد: 17. وكذلك الاحكام والتكاليف الشرعية لو كلف بجميعها جميع الناس لتحرجوا منها ولم يتحملوها لكنه سبحانه قسمها بينهم حسب تقسيم الابتلاءات المقتضية لتوجه التكاليف المتنوعة بينهم. فالرزق بالمعارف والشرائع من أي جهة فرض كالرزق الصوري مفروز بين الناس مقدر على حسب صلاح حالهم. قوله تعالى: (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد) القنوط اليأس، والغيث المطر، قال في مجمع البيان: الغيث ما كان نافعا في وقته، والمطر قد يكون نافعا وقد يكون ضارا في وقته وغير وقته. انتهى. ونشر الرحمة تفريق النعمة بين الناس بإنبات النبات وإخراج الثمار التي يكون سببها المطر.
[ 58 ]
وفي الاية انتقال من حديث الرزق إلى آيات التوحيد التي لها تعلق ما بالارزاق، ويتلوها في هذا المعنى آيات، وتذييل الاية بالاسمين: الولي الحميد وهما من أسمائه تعالى الحسنى للثناء عليه في فعله الجميل. قوله تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والارض وما بث فيهما من دابة) الخ، البث التفريق، ويقال: بث الريح التراب إذا أثاره، والدابة كل ما يدب على الارض فيعم الحيوانات جميعا، والمعنى ظاهر.
وظاهر الاية أن في السموات خلقا من الدواب كالارض، وقول بعضهم: إن ما في السموات من دابة هي الملائكة يدفعه أن إطلاق الدواب على الملائكة غير معهود. وقوله: (وهو على جمعهم إذا يشاء قدير) إشارة إلى حشر ما بث فيهما من دابة وقد عبر بالجمع لمقابلته البث الذي هو التفريق، ولا دلالة في قوله: (على جمعهم) حيث أتى بضمير أولى العقل على كون ما في السموات من الدواب أو لي عقل كالانسان لقوله تعالى: (وما من دابة في الارض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون) الانعام: 38. والقدير من أسمائه تعالى الحسنى وهو الذي أركزت فيه القدرة وثبتت، قال الراغب: القدرة إذا وصف بها الانسان فاسم لهيئة له بها يتمكن من فعل شئ ما، وإذا وصف الله بها فهي نفي العجز عنه، ومحال أن يوصف غير الله بالقدرة المطلقة معنى وإن أطلق عليه لفظا بل حقه أن يقال: قادر على كذا، ومتى قيل: هو قادر فعلى سبيل معنى التقييد، ولهذا لا أحد غير الله يوصف بالقدرة من وجه إلا ويصح أن يوصف بالعجز من وجه والله تعالى هو الذي ينتفي عنه العجز من كل وجه. والقدير هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي الحكمة لا زائدا عليه ولا ناقصا عنه ولذلك لا يصح أن يوصف به إلا الله تعالى قال: (إنه على ما يشاء قدير)، والمقتدر يقاربه نحو (عند مليك مقتدر) لكن قد يوصف به البشر، وإذا استعمل في الله فمعناه معنى القدير وإذا استعمل في البشر فمعناه المتكلف والمكتسب للقدرة، انتهى. وهو حسن غير أن في قوله: إن القدرة إذا وصف بها الله فهي نفي العجز عنه مساهلة ظاهرة فإن صفاته تعالى الذاتية كالحياة والعلم والقدرة لها معان إيجابية هي عين
[ 59 ]
الذات لا معان سلبية حتى تكون الحياة بمعنى انتفاء الموت والعلم بمعنى انتفاء الجهل والقدرة بمعنى انتفاء العجز على ما يقوله الصابئون ولازمه خلو الذات عن صفات الكمال.
فالحق أن معنى قدرته تعالى كونه بحيث يفعل ما يشاء، ولازم هذا المعنى الايجابي انتفاء مطلق العجز عنه تعالى. قوله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) المصيبة النائبة تصيب الانسان كأنها تقصده، والمراد بما كسبت أيديكم المعاصي والسيئات، وقوله: (ويعفو عن كثير) أي عن كثير مما كسبت أيديكم وهي السيئات. والخطاب في الاية اجتماعي موجه الى المجتمع غير منحل الى خطابات جزئية ولازمه كون المراد بالمصيبة التي تصيبهم المصائب العامة الشاملة كالقحط والغلاء والوباء والزلازل وغير ذلك. فيكون المراد أن المصائب والنوائب التي تصيب مجتمعكم ويصابون بها إنما تصيبكم بسبب معاصيكم والله يصفح عن كثير منها فلا يأخذ بها. فالاية في معنى قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) الروم: 41، وقوله: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذبوا) الاعراف: 96، وقوله: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفهسم) الرعد: 11، وغير ذلك من الايات الدالة على أن بين أعمال الانسان وبين النظام الكوني ارتباطا خاصا فلو جرى المجتمع الانساني على ما يقتضيه الفطرة من الاعتقاد والعمل لنزلت عليه الخيرات وفتحت عليه البركات ولو أفسدوا أفسد عليهم. هذا ما تقتضيه هذه السنة الالهية إلا أن ترد عليه سنة الابتلاء أو سنة الاستدراج والاملاء فينقلب الامر، قال تعالى: (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا السراء والضراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون) الاعراف: 95. ويمكن أن يكون الخطاب في الاية عاما منحلا الى خطابات الافراد فيكون ما يصاب كل إنسان بمصيبة في نفسه أو ماله أو ولده أو عرضه وما يتعلق به مستندا الى
معصية أتى بها وسيئة عملها ويعفو الله عن كثير منها.
[ 60 ]
وكيف كان فالخطاب في الاية لعامة الناس من المؤمن والكافر وهو الذي يفيده السياق وتؤيده الاية التالية هذا أولا، والمراد بما كسبته الايدي المعاصي والسيئات دون مطلق الاعمال، وهذا ثانيا، والمصائب التي تصيب إنما هي آثار الاعمال في الدنيا لما بين الاعمال وبينها من الارتباط والتداعي دون جزاء الاعمال وهذا ثالثا. وبما ذكر يندفع أولا ما استشكل على عموم الاية بالمصائب النازلة على الانبياء عليه السلام وهم معصومون لا معصية لهم، المصائب النازلة على الاطفال والمجانين وهم غير مكلفين بتكليف فلا معصية لهم فيجب تخصيص الاية بمصائب الانبياء ومصائب الاطفال والمجانين. وجه الاندفاع أن إثبات المعصية لهم في قوله: (فبما كسبت أيديكم) دليل على أن الخطاب في الاية لمن يجوز عليه صدور المعصية فلا يشمل المعصومين وغير المكلفين من رأس فعدم شمول الاية لهم من باب التخصص دون التخصيص. وثانيا ما قيل: إن مقتضى الاية مغفرة ذنوب المؤمنين جميعا فإنها بين ما يجزون عليها بإصابة المصائب وما يعفى عنها. وجه الاندفاع أن الاية مسوقة لبيان ارتباط المصائب بالمعاصي وكون المعاصي ذوات آثار دنيوية سيئة منها ما يصيب الانسان ولا يخطئ ومنها ما يعفى عنه فلا يصيب لاسباب صارفة وحكم مانعة كصلة الرحم والصدقة ودعاء المؤمن والتوبة وغير ذلك مما وردت به الاخبار، وأما جزاء الاعمال فالاية غير ناظرة إليه كما تقدم. على أن الخطاب في الاية يعم المؤمن والكافر كما تقدمت الاشارة إليه، ولا معنى لتبعضها في الدلالة فتدل على المغفرة في المؤمن وعدمها في الكافر. وبعد هذا كله فالوجه الاول هو الاوجه.
قوله تعالى: (وما أنتم بمعجزين في الارض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير)، معنى الاية ظاهر وهي باتصالها بما قبلها تفيد أنكم لا تعجزون الله حتى لا تصيبكم المصائب لذنوبكم وليس لكم من دونه من ولي يتولى أمركم فيدفع عنكم المصائب ولا نصير ينصركم ويعينكم على دفعها. قوله تعالى: (ومن آياته الجوار في البحر كالاعلام) الجواري جمع جارية وهي
[ 61 ]
السفينة، والاعلام جمع علم وهو العلامة ويسمى به الجبل وشبهت السفائن بالجبال لعظمها وارتفاعها والباقي ظاهر. قوله تعالى: (إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره) الخ، ضمير (يشا) لله تعالى، وظل بمعنى صار، و (رواكد) جمع راكدة وهي الثابتة في محلها والمعنى: إن يشأ الله يسكن الريح التي تجري بها الجواري فيصرن أي الجواري ثوابت على ظهر البحر. وقوله: (إن في ذلك لايات لكل صبار شكور) أصل الصبر الحبس وأصل الشكر إظهار نعمة المنعم بقول أو فعل، والمعنى: إن فيما ذكر من أمر الجواري من كونها جارية على ظهر البحر بسبب جريان الرياح ناقلة للناس وأمتعتهم من ساحل إلى ساحل لايات لكل من حبس نفسه عن الاشتغال بما لا يعنيه واشتغل بالتفكر في نعمه والتفكر في النعمة من الشكر. وقيل: المراد بكل صبار شكور المؤمن لان المؤمن لا يخلو من أن يكون في الضراء أو في السراء فإن كان في الضراء كان من الصابرين وإن كان في السراء كان من الشاكرين. قوله تعالى: (أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير) الايباق الاهلاك، وضمير التأنيث للجواري وضمير التذكير للناس، ويوبقهن ويعف معطوفان على (يسكن)،
والمعنى: إن يشأ يهلك الجواري بإغراقها بسبب ما كسبوا من السيئات ويعف عن كثير منها أي إن بعضها كاف في اقتضاء الاهلاك وإن عفى عن كثير منها. وقيل: المراد بإهلاكها إهلاك أهلها إما مجازا أو بتقدير مضاف، و (يوبقهن) بالعطف على (يسكن) في معنى يرسل الرياح العاصفة فيوبقهم، والمعنى: إن يشأ يسكن الريح الخ، وإن يشأ يرسلها فيهلكهم بالاغراق وينج كثير منهم بالعفو والمحصل: إن يشأ يسكن الريح أو يرسلها فيهلك ناسا بذنوبهم وينج ناسا بالعفو عنهم. ولا يخفي وجه التكلف فيه. وقيل: إن (يعف) عطف على قوله: (يسكن الريح) إلى قوله: (بما كسبوا) ولذا عطف بالواو لا بأو، والمعنى: إن يشأ يعاقبهم بالاسكان أو الاعصاف وإن يشأ يعف عن كثير. وهو في التكلف كسابقه.
[ 62 ]
قوله تعالى: (ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص) قيل: هو غاية معطوفة على اخرى محذوفة، والتقدير نحو من قولنا: ليظهر به قدرته ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من مفر ولا مخلص، وهذا كثير الورود في القرآن الكريم غير أن المعطوف فيما ورد فيه مقارن للام الغاية كقوله: (وليعلم الله الذين آمنوا) آل عمران: 140. وقوله: (وليكون من الموقنين) الانعام: 75. وجوز بعضهم أن يكون معطوفا على جزاء الشرط بتقدير أن نحو إن جئتني أكرمك وأعطيك كذا وكذا بنصب أعطيك، والمسألة نحوية خلافية فليرجع إلى ما ذكروه فيه. قوله تعالى: (فما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا) الخ، تفصيل لما تقدم ذكره من الرزق وتقسيم له إلى ما عند الناس من رزق الدنيا الشامل للمؤمن والكافر وما عند الله من رزق الاخرة المختص بالمؤمنين، فيه تخلص إلى ذكر صفات المؤمنين
وذكر بعض ما يلقاه الظالمون يوم القيامة. فقوله: (فما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا) الخطاب للناس على ما يفيده السياق دون المشركين خاصة، والمراد بما أوتيتم من شئ جميع ما أعطيه للناس ورزقوه من النعيم، وإضافه المتاع إلى الحياة للاشارة إلى انقطاعه وعدم ثباته ودوامه، والمعنى: فكل شئ أعطيتموه مما عندكم متاع تتمتعون به في أيام قلائل. وقوله: (وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) المراد بما عند الله ما ادخره الله ثوابا ليثيب به المؤمنين، واللام في (للذين آمنوا) للملك والظرف لغو، وقيل اللام متعلق بقوله (أبقى) والاول أظهر، وكون ما عند الله خيرا لكونه خالصا من الالم والكدر وكونه أبقى لكونه أدوم غير منقطع الاخر. قوله تعالى: (والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون) عطف على قوله: (الذين آمنوا) والاية وآيتان بعدها تعد صفات المؤمنين الحسنة وقول بعضهم أنه كلام مستأنف لا يساعد عليه السياق. وكبائر الاثم المعاصي الكبيرة التي لها آثار سوء عظيمة وقد عد تعالى منها شرب
[ 63 ]
الخمر والميسر، قال تعالى: (قل فيهما إثم كبير) البقرة: 219، والفواحش جمع فاحشة وهي المعصية الشنيعة النكراء وقد عد تعالى منها الزنا واللواط قال: (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة) أسرى: 32، وقال حاكيا عن لوط: أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون) النمل: 54. وقوله: (يجتنبون كبائر الاثم والفواحش) وهو في سورة مكية إشارة إلى إجمال ما سيفصل من تشريع تحريم كبائر المعاصي والفواحش. وفي قوله: (وإذا ما غضبوا هم يغفرون) إشارة إلى العفو عند الغضب وهو من أخص صفات المؤمنين ولذا عبر عنه بما عبر ولم يقل: ويغفرون إذا غضبوا ففي
الكلام جهات من التأكيد وليس قصرا للمغفرة عند الغضب فيهم. قوله تعالى: (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة) الخ، الاستجابة هي الاجابة واستجابتهم لربهم إجابتهم لما يكلفهم به من الاعمال الصالحة - على ما يفيده السياق - وذكر إقامة الصلاة بعدها من قبيل ذكر الخاص بعد العام لشرفه. على أن الظاهر أن الايات مكية ولم يشرع يومئذ أمثال الزكاة والخمس والصوم والجهاد، وفي قوله: (والذين استجابوا لربهم) من الاشارة إلى إجمال الاعمال الصالحة المشرعة نظير ما تقدم في قوله: (والذين يجتنبون) الخ، ونظير الكلام جار في الايات التالية. وقوله: (وأمرهم شورى بينهم) قال الراغب: والتشاور والمشاورة والمشورة استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم: شرت العسل إذا أخذته من موضعه واستخرجته منه، قال تعالى: (وشاورهم في الامر) والشورى الامر الذي يتشاور فيه، قال تعالى: (وأمرهم شورى بينهم) انتهى. فالمعنى: الامر الذي يعزمون عليه شورى بينهم يتشاورون فيه، ويظهر من بعضهم أنه مصدر، والمعنى: وشأنهم المشاورة بينهم. وكيف كان ففيه إشارة إلى أنهم أهل الرشد وإصابة الواقع يمعنون في استخراج صواب الرأي بمراجعة العقول فالاية قريبة المعنى من قول الله تعالى: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) الزمر: 18.
[ 64 ]
وقوله: (ومما رزقناهم ينفقون) إشارة إلى بذل المال لمرضات الله. قوله تعالى: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) قال الراغب: الانتصار والاستنصار طلب النصرة. انتهى. فالمعنى: الذين إذا أصاب الظلم بعهم طلب النصرة من الاخرين وإذا كانو متفقين على الحق كنفس واحدة فكأن الظلم أصاب جميعم
فطلبوا المقاومة قباله وأعدوا عليه النصرة. وعن بعضهم أن الانتصار بمعنى التناصر نظير اختصم وتخاصم واستبق وتسابق والمعنى عليه ظاهر. وكيف كان فالمراد مقاومتهم لرفع الظلم فلا ينافي المغفرة عند الغضب المذكورة في جملة صفاتهم فإن المقاومة دون الظلم وسدبابه عن المجتمع لمن استطاعه والانتصار والتناصر لاجله من الواجبات الفطرية، قال تعالى: (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) الانفال: 72، وقال (فقاتلو التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله) الحجرات: 9. قوله تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) إلى آخر الاية بيان لما جعل للمنتصر في انتصاره وهو أن يقاتل الباغي بما يماثل فعله وليس بظلم وبغي. قيل: وسمي الثانية وهى ما يأتي بها المنتصر سيئة لانها في مقابلة الاولى كما قال تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) البقرة: 194، وقال الزمخشري: كلتا الفعلتين: الاولى وجزاوها سيئة لانها تسوء من تنزيل به ففيه رعاية الحقيقة معنى اللفظ وإشارة إلى أن مجازاة السيئة بمثلها إنما تمحد بشرط المماثلة من غير زيادة. وقوله: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) وعد جميل على العفو والاصلاح، الظاهر أن المراد بالاصلاح إصلاحه أمره فيما بينه وبين ربه، وقيل: المراد إصلاحه ما بينه وبين ظالمه بالعفو والاغضاء. وقوله: (إنه لا يحب الظالمين) قيل: فيه بيان أنه تعالى لم يرغب المظلوم في العفو عن الظالم لميله إلى الظالم أو لحبه إياه ولكن ليعرض المظلوم بذلك لجزيل الثواب، ولحبه تعالى الاحسان والفضل. وقيل: المراد أنه لا يحب الظالم في قصاص وغيره بتعديه عما هو له إلى ما ليس هو له.
[ 65 ]
والوجهان وإن كانا حسنين في نفسهما لكن سياق الايه لا يساعد عليهما وخاصة مع حيلولة قوله: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) بين التعليل والمعلل. ويمكن أيضا أن يكون قوله: (إنه لا يحب الظالمين) تعليلا لاصل كون جزاء السيئة سيئة من غير نظر إلى المماثلة والمساواة. قوله تعالى: (ولمن انتصر بعد ظلمه فاولئك ما عليهم من سبيل - إلى قوله - من عزم) الامور ضمير (ظلمه) راجع إلى المظلوم. والاضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله. الايات الثلاث تبيين ورفع لبس من قوله في الاية السابقة: (فمن عفى وأصلح فأجره على الله) فمن الجائز أن يتوهم المظلوم أن في ذلك إلغاء لحق انتصاره فبين سبحانه بقوله أولا: (ولمن انتصر بعد ظلمه فاولئك ما عليهم من سبيل) أن لا سبيل على المظلومين ولا مجوز لابطال حقهم في الشرع الالهي، وإرجاع ضمير الافراد الى الموصول أولا باعتبار لفظه، وضمير الجمع ثانيا باعتبار معناه. وبين بقوله ثانيا: (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الارض بغير الحق) أن السبيل كله على الظالمين في الانتقام منهم للمظلومين، وأكد ذلك ذيلا بقوله: (أولئك لهم عذاب أليم). وبين بقوله ثالثا: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الامور) أن الدعوة إلى الصبر والعفو ليست إبطالا لحق الانتصار وإنما هي إرشاد إلى فضيلة هي من أعظم الفضائل فإن في المغفرة الصبر الذي هو من عزم الامور، وقد أكد الكلام بلام القسم أولا وباللام في خبر إن ثانيا لافادة العناية بمضمونه. قوله تعالى: (ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده) الخ، لما ذكر المؤمنين بأوصافهم وأن لهم عند الله رزقهم المدخر لهم وفيه سعادة عقباهم التي هداهم الله إليها التفت إلى غيرهم وهم الظالمون الائسون من تلك الهداية الموصلة إلى السعادة المحرومون من هذا الرزق الكريم فبين أن الله سبحانه أضلهم لكفرهم وتكذيبهم فلا ينتهون إلى
ما عنده من الرزق ولا يسعدهم به وليس لهم من دونه من ولي حتى يتولى أمرهم
[ 66 ]
ويرزقهم ما حرمهم الله من الرزق، فهم صفر الاكف يتمنون عند مشاهدة العذاب الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا فيكونوا أمثال المؤمنين. فقوله: (ومن يضلل الله) الخ، من قبيل وضع السبب وهو إضلال الله لهم وعدم ولي آخر يتولى أمرهم فيهديهم ويرزقهم موضع المسبب وهو الهداية والرزق. وقوله: (وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل) إشارة إلى تمنيهم الرجوع إلى الدنيا بعد اليأس عن السعادة ومشاهدة العذاب. و (ترى) خطاب عام وجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما أنه راء ومعناه وترى ويرى كل من هوراء، وفيه إشارة إلى أنهم يتمنون ذلك على رؤس الاشهاد، والمرد هو الرد. قوله تعالى: (وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي) ضمير (عليها) للنار للدلالة المقام عليها وخفي الطرف ضعيفه وإنما ينظر من طرف خفي. إلى المكاره المهولة من ابتلي بها فهو لا يريد أن ينصرف فيغفل عنها ولا يجترئ أن يمتلئ بها بصره كالمبصور ينظر إلى السيف، والباقي ظاهر. وقوله: (وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة) أي إن الخاسرين كل الخسران وبحقيقته هم الذين خسروا أنفهسم بحرمانها عن النجاة وأهليهم بعدم الانتفاع بهم يوم القيامة. وقيل أهلوهم أزواجهم من الحور وخدمهم في الجنة لو آمنوا ولا يخلو من وجه نظرا إلى آيات وراثة الجنة. وهذا القول المنسوب الى المؤمنين إنما يقولونه يوم القيامة - والتعبير بلفظ الماضي لتحقق الوقوع - لا في الدنيا كما يظهر من بعضهم فليس لاستناده تعالى الى مقالة المؤمنين في الدنيا وجه في مثل المقام، وليس القائلون به جميع المؤمنين كائنين من كانوا وإنما هم الكاملون منهم المأذون لهم في الكلام الناطقون بالصواب محضا كأصحاب الاعراف
وشهداء الاعمال قال تعالى: (يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه) هود: 105. وقال: (لا يتكلمو إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا) النبأ: 38. فلا يصغى إلى ما قيل: إن القول المذكور إنما نسب إلى المؤمنين للدلالة على ابتهاجهم بما رزقوا يومئذ من الكرامة ونجوا من الخسران وإلا فالقول قول كل من يتأتى منه القول من أهل الجمع كما أن الرؤية المذكورة قبله رؤية كل من تتأتى منه الرؤية.
[ 67 ]
وقوله: (ألا إن الظالمين في عذاب مقيم) تسجيل عليهم بالعذاب وأنه دائم غير منقطع، وجوز أن يكون من تمام كلام المؤمنين. قوله تعالى: (وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله) الخ، هذا التعبير أعني قوله: (وما كان لهم) الخ، دون أن يقال: وما لهم من ولي كما قيل أولا للدلالة على ظهور بطلان دعواهم ولاية أوليائهم في الدنيا وأن ذلك كان باطلا من أول الامر. وقوله: (ومن يضلل الله فما له من سبيل) صالح لتعليل صدر الآية وهو كالنتيجة لجميع ما تقدم من الكلام في حال الظالمين في عقباهم، ونوع انعطاف إلى ما سبق من حديث تشريع الشريعة والسبيل بالوحي. فهو كناية عن أنه لاسبيل إلى السعادة إلا سبيل الله الذي شرعه لعباده من طريق الوحي والرسالة فمن أضله عن سبيله لكفره وتكذيبه بسبيله فلا سبيل له يهتدي به إلى سعادة العقبى والتخلص من العذاب والهلاك. قوله تعالى: (استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجا يومئذ وما لكم من نكير) دعوة وإنذار بيوم القيامة المذكور في الايات السابقة على ما يعطيه السياق، وقول بعضهم: إن المراد باليوم يوم الموت غير وجيه. وفي قوله: (لا مرد له من الله) (لا) لنفي الجنس و (مرد) اسمه و (له) خبره و (من الله) حال من (مرد) والمعنى: يوم لا رد له من قبل الله أي إنه
مقضي محتوم لا يرده الله البتة فهو في معنى ما تكرر في كلامه تعالى من وصف يوم القيامة بأنه لا ريب فيه. وقد ذكروا للجملة أعني قوله: (يوم لا مرد له من الله) وجوها أخر من الاعراب لا جدوى في نقلها. وقوله: (ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير) الملجأ الملاذ الذي يلتجأ إليه والنكير - كما قيل - مصدر بمعنى الانكار، والمعنى: ما لكم من ملاذ تلتجئون إليه من الله وما لكم من إنكار لما صدر منكم لظهور الامر من كل جهة. قوله تعالى: (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ) عدول من خطابهم إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاعلام أن ما حمله من الامر إنما هو التبليغ
[ 68 ]
لا أزيد من ذلك فقد أرسل مبلغا لدين الله إن عليه إلا البلاغ ولم يرسل حفيظا عليهم مسؤولا عن إيمانهم وطاعتهم حتى يمنعهم عن الاعراض ويتعب نفسه لاقبالهم عليه. قوله تعالى: (وإنا إذا أذقنا الانسان منا رحمة فرح بهاو إن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الانسان كفور) الفرح بالرحمة كناية عن الاشتغال بالنعمة ونسيان المنعم، والمراد بالسيئة المصيبة التي تسوء الانسان إذا أصابته، وقوله: (فإن الانسان كفور) من وضع الظاهر موضع الضمير، والنكتة فيه تسجيل الذم واللوم عليه بذكره باسمه. وفي الاية استشعار بإعراضهم وتوبيخهم بعنوان الانسان المشتغل بالدنيا فإنه بطبعه حليف الغفلة إن ذكر بنعمة يؤتاها صرفه الفرح بها عن ذكر الله، وإن ذكر بسيئة تصيبه بما قدمت يداه شغله الكفران عن ذكر ربه فهو في غفلة عن ذكر ربه في نعمة كانت أو في نقمة فكاد أن لا تنجح فيه دعوة ولا تنفع فيه موعظة. قوله تعالى: (لله ملك السماوات والارض يخلق ما يشاء) إلى آخر الايتين،
للايتين نوع اتصال بما تقدم من حديث الرزق لما أن الاولاد المذكورين فيهما من قبيل الرزق. وقيل: إنهما متصلتان بالاية السابقة حيث ذكر فيها إذاقه الرحمة وإصابة السيئة وأن الانسان يفرح بالرحمة ويكفر في السيئة فذكر تعالى في هاتين الايتين أن ملك السماوات والارض لله سبحانه يخلق ما يشاء فليس لمن يذوق رحمته أن يفرح بها ويشتغل به ولا لمن إصابته السيئة أن يكفر ويعترض بل له الخلق والامر فعلى المرحوم أن يشكر وعلى المصاب أن يرجع إليه. ويبعده أنه تعالى لم ينسب السيئة في الاية السابقة إلى نفسه بل إلى تقديم أيديهم فلا يناسبه نسبة القسمين جميعا في هذه الاية إلى مشيته ودعوتهم إلى التسليم لها. وكيف كان فقوله: (لله ملك السماوات والارض يخلق ما يشاء) فيه قصر الملك والسلطنة فيه تعالى على جميع العالم وأن الخلق منوط بمشيته من غير أن يكون هناك أمر يوجب عليه المشية أو يضطره على الخلق. وقوله: (يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور) الاناث جمع أنثى والذكور والذكران جمعا ذكر، وظاهر التقابل أن المراد هبة الاناث فقط لمن يشاء وهبة الذكور
[ 69 ]
فقط لمن يشاء ولذلك كررت المشية، قيل وجه تعريف الذكور أنهم المطلوبون لهم المعهودون في أذهانهم وخاصة العرب. وقوله: (أو يزوجهم ذكرانا وإناثا) أي يجمع بينهم حال كونهم ذكرانا وإناثا معا فالتزويج في اللغة الجمع، وقوله: (ويجعل من يشاء عقيما) أي لا يلد ولا يولد له، ولما كان هذا أيضا قسما برأسه قيده بالمشية كالقسمين الاولين، وأما قسم الجمع بين الذكران والاناث فإنه بالحقيقة جمع بين القسمين الاولين فاكتفى بما ذكر من المشية فيهما. وقوله: (إنه عليم قدير) تعليل لما تقدم أي إنه عليم لا يزيد ما يزيد لجهل قدير لا ينقص ما ينقص عن عجز.
(بحث روائي) في الدر المنثور أخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن على قال: إنما أنزلت هذه الاية في أصحاب الصفة: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الارض) وذلك أنهم قالوا: لو أن لنا، فتمنوا الدنيا. أقول: والاية على هذامدنية لكن الرواية أشبه بالتطبيق منها بسبب النزول. وفي تفسير القمي قوله: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الارض) قال الصادق عليه السلام: لو فعل لفعلوا ولكن جعلهم محتاجين بعضهم إلى بعض واستعبدهم بذلك ولو جعلهم أغنياء لبغوا (ولكن ينزل بقدر ما يشاء) مما يعلم أنه يصلحهم في دينهم ودنياهم (إنه بعباده خبير بصير). وفي المجمع روى أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن جبرئيل عن الله جل ذكره: إن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم ولو صححته لافسده، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الصحة ولو أسقمته لافسده، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لافسده، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لافسده، وذلك أنى أدبر عبادي لعلمي بقلوبهم. وفي تفسير القمي حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن منصور بن يونس عن أبي حمزة
[ 70 ]
عن الاصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: إني سمعته يقول: إني أحدثكم بحديث ينبغي لكل مسلم أن يعيه. ثم أقبل علينا فقال: ما عاقب الله عبدا مؤمنا في هذه الدنيا إلا كان الله أحكم وأجود وأمجد من أن يعود في عقابه يوم القيامة. ثم قال: وقد يبتلي الله عز وجل المؤمن بالبلية في بدنه أو ماله أو ولده أو أهله ثم تلا هذه الاية: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) وحثا بيده ثلاث مرات.
وفي الكافي بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أما إنه ليس من عرق يضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض إلا بذنب وذلك قول الله عز وجل في كتابه: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) قال: ثم قال: وما يعفو الله أكثر مما يؤاخذ به. أقول: وروى هذا المعنى بطريق آخر عن مسمع عنه عليه السلام، وروى مثله في الدر المنثور عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولفظه: لما نزلت هذه الاية (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولااختلاج عرق ولا نكبة حجر ولا عثرة قدم إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر. وفي الكافي أيضا بإسناده عن علي بن رئاب قال: سالت ابا عبد الله عن قول الله عزو جل: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) أرأيت ما أصاب عليا وأهل بيته عليه السلام من بعده أهو بما كسبت أيديهم وهم أهل بيت طهارة معصومون ؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوب إلى الله ويستغفر في كل يوم وليلة مائة مرة من غير ذنب إن الله يخص أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها. وفي المجمع روي عن علي عليه السلام أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: خير آية في كتاب الله هذه الاية. يا علي ما من خدش عود ولا نكبة قدم إلا بذنب، وما عفى الله عنه في الدنيا فهو أكرم من أن يعود فيه، وما عاقب عليه في الدنيا فهو أعدل من أن يثني على عبده. أقول: ورواه في الدر المنثور عن عدة من أرباب الجوامع عن علي عليه السلام عنه صلى الله عليه وآله وسلم، وفحوى الرواية أن قوله تعالى: (وما أصابكم) الاية خاص بالمؤمنين والخطاب
[ 71 ]
لهم وان مفاده غفران ذنوبهم كافة فلا يعاقبون عليها في برزخ ولا قيامة لان الاية تقصر الذنوب في مأخوذ به بإصابة المصيبة ومعفو عنه ومفاد الرواية نفي المؤاخذة بعد المؤاخذة ونفي المؤاخذة بعد العفو.
فيشكل الامر أولا: من جهة ما عرفت أن الاية في سياق يفيد عموم الخطاب للمؤمن والكافر. وثانيا: من جهة معارضة الرواية لما ورد في أخبار متكاثرة لعلها تبلغ حد التواتر المعنوي من أن من المؤمنين من يعذب في قبره أو في الاخرة. وثالثا: من جهة مخالفة الرواية لظواهر ما دلت من الايات على أن موطن جزاء الاعمال هي الدار الاخرة كقوله تعالى: (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) النحل: 61، وغيره من الايات الدالة على أن كل مظلمة ومعصية مأخوذ بها وأن موطن الاخذ هو ما بعد الموت وفي القيامة إلا ما غفرت بالتوبة أو تذهب بحسنة أو بشفاعة في الاخرة أو نحو ذلك. على أن الاية أعني قوله: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) - كما تقدمت الاشارة إليه - غير ظاهرة في كون إصابة المصيبة جزاء للعمل ولا في كون العفو بمعنى إبطال الجزاء وإنما هو الاثر الدنيوي للسيئة يصيب مرة ويمحى أخرى. فالحري أن تحمل الرواية - لو قبلت - على الاخذ بحسن الظن بالله سبحانه. وفي المجمع في قوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم) وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ما من رجل يشاور أحدا إلا هدي إلى الرشد. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله عز وجل: (يهب لمن يشاء إناثا) يعنى ليس معهن ذكور (ويهب لمن يشاء الذكور) يعني ليس معهم أنثى (أو يزوجهم ذكرانا واناثا) أي يهب لمن يشاء ذكرانا وإناثا جميعا يجمع له البنين والبنات أي يهبهم جميعا لواحد. وفي التهذيب بإسناده عن الحسين بن علوان عن زيد بن علي عن آبائه عن علي
[ 72 ]
عليه السلام قال: أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل فقال: يا رسول الله إن أبي عمد إلى مملوك لي فأعتقه كهيئة المضرة لي فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت ومالك من هبة الله لابيك أنت سهم من كنانته (يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما) جازت عتاقة أبيك يتناول والدك من مالك وبدنك وليس لك أن تتناول من ماله ولا من بدنه شيئا إلا بإذنه. أقول: وهذا المعنى مروي عن الرضا عليه السلام في جواب مسائل محمد بن سنان في العلل ومروي من طرق أهل السنة عن عائشة عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم - 51. وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم - 52. صراط الله الذي له ما في السموات وما في الارض ألا إلى الله تصير الامور - 53. (بيان) تتضمن الايات آخر ما يفيده سبحانه في تعريف الوحي في هذه السورة وهو تقسيمه إلى ثلاثة أقسام: وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ثم يذكر أنه يوحي إليه صلى الله عليه وآله وسلم ما يوحي، على هذه الوتيرة وأن ما أوحي إليه منه تعالى لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم ذلك من نفسه بل هو نور يهدي به الله من يشاء من عباده ويهدي به النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإذنه.
[ 73 ]
قوله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو
يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء) الخ، قد تقدم البحث عن معنى كلامه تعالى في الجزء الثاني من الكتاب، وإطلاق الكلام على كلامه تعالى والتكليم على فعله الخاص سواء كان إطلاقا حقيقيا أو مجازيا واقع في كلامه تعالى قال: (يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) الاعراف: 144، وقال: (وكلم الله موسى تكليما) النساء: 164، ومن مصاديق كلامه ما يتلقاه الانبياء عليه السلام منه تعالى بالوحي. وعلى هذا لا موجب لعد الاستثناء في قوله: (إلا وحيا) منقطعا بل الوحي والقسمان المذكوران بعده من تكليمه تعالى للبشر سواء كان إطلاق التكليم عليها إطلاقا حقيقيا أو مجازيا فكل واحد من الوحي وما كان من وراء حجاب وما كان بإرسال رسول نوع من تكليمه للبشر. فقوله: (وحيا) - والوحي الاشارة السريعة على ما ذكره الراغب - مفعول مطلق نوعي وكذا المعطوفان عليه في معنى المصدر النوعي، والمعنى: ما كان لبشر أن يكلمه الله نوعا من أنواع التكليم إلا هذه الانواع الثلاثة أن يوحى وحيا أو يكون من وراء حجاب أو أن يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء. ثم إن ظاهر الترديد في الاية بأو هو التقسيم على مغايرة بين الاقسام وقد قيد القسمان الاخير ان بقيد كالحجاب، والرسول الذي يوحي إلى النبي ولم يقيد القسم الاول بشئ فظاهر المقابلة يفيد أن المراد به التكليم الخفي من دون أن يتوسط واسطة بينه تعالى وبين النبي أصلا، وأما القسمان الاخران ففيهما قيد زائد وهو الحجاب أو الرسول الموحي وكل منهما واسطة غير أن الفارق أن الواسطة الذي هو الرسول يوحي إلى النبي بنفسه والحجاب واسطة ليس بموح وإنما الوحي من ورائه. فتحصل أن القسم الثالث (أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء) وحي بتوسط الرسول الذي هو ملك الوحي فيوحي ذلك الملك بإذن الله ما يشاء الله سبحانه قال تعالى: (نزل به الروح الامين على قلبك) الشعراء: 194، وقال: (قل من كان
عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) البقرة: 97، والموحي مع ذلك هو الله سبحانه كما قال: (بما أوحينا اليك هذا القرآن) يوسف: 3.
[ 74 ]
وأما قول بعضهم: إن المراد بالرسول في قوله: (أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء) هو النبي يبلغ الناس الوحي فلا يلائمه قوله: (يوحي) إذ لا يطلق الوحي على تبليغ النبي. وأن القسم الثاني (أو من وراء حجاب) وحي مع واسطة هو الحجاب غير أن الواسطة لا يوحي كما في القسم الثالث وإنما يبتدئ الوحي مما وراءه لمكان من، وليس وراء بمعنى خلف وإنما هو الخارج عن الشئ المحيط به، قال تعالى: (والله من ورائهم محيط) البروج: 20، وهذا كتكليم موسى عليه السلام في الطور، قال تعالى: (فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الايمن في البقعة المباركة من الشجرة) القصص: 30، ومن هذا الباب ما أوحي إلى الانبياء في مناماتهم. وأن القسم الاول تكليم إلهى للنبي من غير واسطة بينه وبين ربه من رسول أو أي حجاب مفروض. ولما كان للوحي في جميع هذه الاقسام نسبة إليه تعالى على اختلافها صح إسناد مطلق الوحي إليه بأي قسم من الاقسام تحقق وبهذه العناية أسند جميع الوحي إليه في كلامه كما قال: (إنا أوحينا اليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) النساء: 163. وقال: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) النحل: 43. هذا ما يعطيه التدبر في الاية الكريمة، وللمفسرين فيها أبحاث طويلة الذيل ومشاجرات أضربنا عن الاشتغال بها من أرادها فليراجع المفصلات. وقوله: (إنه على حكيم) تعليل لمضمون الاية فهو تعالى لعلوه عن الخلق والنظام الحاكم فيهم يجل أن يكلمهم كما يكلم بعضهم بعضا، ولعلوه وحكمته يكلمهم
بما اختار من الوحي وذلك أن هداية كل نوع إلى سعادته من شأنه تعالى كما قال: (الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) طه: 50، وقال: (وعلى الله قصد السبيل) النحل: 9، وسعادة الانسان الذي يسلك سبيل سعادته بالشعور والعلم في إعلام سعادته والدلالة إلى سنة الحياة التي تنتهى إليها ولا يكفي في ذلك العقل الذي من شأنه الاخطاء والاصابة فاختار سبحانه لذلك طريق الوحي الذي لا يخطئ البتة، وقد فصلنا القول في هذه الحجة في موارد من هذا الكتاب.
[ 75 ]
قوله تعالى: (وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان) الخ، ظاهر السياق كون (كذلك) إشارة إلى ما ذكر في الاية السابقة من الوحي بأقسامه الثلاث، ويؤيده الروايات الكثيرة الدالة على أنه صلى الله عليه وآله وسلم كما كان يوحى إليه بتوسط جبريل وهو القسم الثالث كان يوحى إليه في المنام وهو من القسم الثاني ويوحي إليه من دون توسط واسطة وهو القسم الاول. وقيل: الاشارة الى مطلق الوحي النازل على الانبياء وهذا متعين على تقدير كون المراد بالروح هو جبريل أو الروح الامري كما سيأتي. والمراد بإيحاء الروح - على ما قيل - إيحاء القرآن وأيد بقوله: (ولكن جعلناه نورا) الخ، ومن هنا قيل: إن المراد بالروح القرآن. لكن يبقى عليه أولا: أنه لا ريب أن الكلام مسوق لبيان أن ما عندك من المعارف والشرائع التي تتلبس بها وتدعو الناس إليها ليس مما أدركته بنفسك وأبديته بعلمك بل أمر من عندنا منزل اليك بوحينا، وعلى هذا فلو كان المراد بالروح الموحى القرآن كان من الواجب الاقتصار على الكتاب في قوله: (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان) لان المراد بالكتاب القرآن فيكون الايمان زائدا مستغنى عنه. وثانيا: أن القرآن وإن أمكن أن يسمى روحا باعتبار إحيائه القلوب بهداه
كما قال تعالى: (إذا دعاكم لما يحييكم) الانفال: 24، وقال: (أو من كان ميتا فأحييناه وجلعنا له نورا يمشي به في الناس) الانعام: 122، لكن لا وجه لتقيده حينئذ بقوله: (من أمرنا) والظاهر من كلامه تعالى أن الروح من أمرة خلق من العالم العلوي يصاحب الملائكة في نزولهم، قال تعالى: (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر) القدر: 4، وقال: (يوم يقوم الروح والملائكة صفا) النبا: 38، وقال: (قل الروح من أمر ربي) أسرى: 85، وقال: (وأيدناه بروح القدس) البقرة: 87، وقد سمى جبريل الروح الامين وروح القدس حيث قال: (نزل به الروح الامين) الشعراء: 193، وقال: (قل نزله روح القدس من ربك) النحل: 102. ويمكن أن يجاب عن الاول بأن مقتضى المقام وإن كان هو الاقتصار على ذكر
[ 76 ]
الكتاب فقط لكن لما كان إيمانه صلى الله عليه وآله وسلم بتفاصيل ما في الكتاب من المعارف والشرائع من لوازم نزول الكتاب غير المنفكة عنه وآثاره الحسنة صح أن يذكر مع الكتاب فالمعنى: وكذلك أوحينا اليك كتابا ما كنت تدري ما الكتاب ولا ما تجده في نفسك من أثره الحسن الجميل وهو إيمانك به. وعن الثاني أن المعهود من كلامه في معنى الروح وإن كان ذلك لكن حمل الروح في الاية على ذلك المعنى وإرادة الروح الامري أو جبريل منه يوجب أخذ (أوحينا) بمعنى أرسلنا إذ لا يقال: أوحينا الروح الامري أو الملك فلا مفر من كون الايحاء بمعنى الارسال وهو كما ترى فأخذ الروح بمعنى القرآن أهون من أخذ الايحاء بمعنى الارسال والجوابان لا يخلوان عن شئ. وقيل: المراد بالروح جبريل فإن الله سماه في كتابه روحا قال: (نزل به الروح الامين على قلبك) الشعراء: 194 وقال: (قل نزله روح القدس من ربك.
وقيل: المراد بالروح الروح الامري الذي ينزل مع ملائكة الوحي على الانبياء كما قال تعالى: (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ان أنذروا) النحل: 2، فالمراد بإيحائه إليه إنزاله عليه. ويمكن أن يوجه التعبير عن الانزال بالايحاء بأن أمره تعالى على ما يعرفه في قوله: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن) يس: 82، هو كلمته، والروح من أمره كما قال: (قل الروح من أمر ربي) أسرى: 85، فهو كلمته، وهو يصدق ذلك قوله في عيسى بن مريم عليه السلام: (إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) النساء: 171، وإنزال الكلمة تكليم فلا ضير في التعبير عن إنزال الروح بإيحائه، والانبياء مؤيدون بالروح في أعمالهم كما أنهم يوحى إليهم الشرائع به قال تعالى: (وأيدناه بروح القدس) وقد تقدمت الاشارة إليه في تفسير قوله تعالى: (وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) الانبياء: 73. ويمكن رفع إشكال كون الايحاء بمعنى الانزال والارسال بالقول بكون قوله: (روحا) منصوبا بنزع الخافض ورجوع ضمير (جلعناه) إلى القرآن المعلوم من السياق أو الكتاب والمعنى وكذلك أوحينا اليك القرآن بروح منا ما كنت تدري ما الكتاب
[ 77 ]
وما الايمان ولكن جعلنا القرآن أو الكتاب نورا الخ، هذا وما أذكر أحدا من المفسرين قال به. وقوله: (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان) قد تقدم أن الاية مسوقة لبيان ان ما عنده صلى الله عليه وآله وسلم الذي يدعو إليه إنما هو من عند الله سبحانه لا من قبله نفسه وإنما أوتي ما أوتي من ذلك بالوحى بعد النبوة فالمراد بعدم درايته بالكتاب عدم علمه بما فيه من تفاصيل المعارف الاعتقادية والشرائع العملية فإن ذلك هو الذي اوتي العلم به بعد النبوة والوحي، وبعدم درايته بالايمان عدم تلبسه بالالتزام التفصيلي بالعقائد
الحقة والاعمال الصالحة وقد سمي العمل إيمانا في قوله: (وما كان الله ليضيع إيمانكم البقرة: 143. فالمعنى: ما كان عندك قبل وحي الروح الكتاب بما فيه من المعارف والشرائع ولا كنت متلبسا بما أنت متلبس به بعد الوحي من الالتزام الاعتقادي والعملي بمضامينه وهذا لا ينافي كونه صلى الله عليه وآله وسلم مؤمنا بالله موحدا قبل البعثة صالحا في عمله فإن الذي تنفيه الاية هو العلم بتفاصيل ما في الكتاب والالتزام بها اعتقادا وعملا ونفي العلم والالتزام التفصيليين لا يلازم نفي العلم والالتزام الاجماليين بالايمان بالله والخضوع للحق. وبذلك يندفع ما استدل بعضهم بالاية على أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان غير متلبس بالايمان قبل بعثته. ويندفع أيضا ما عن بعضهم أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يزل كاملا في نفسه علما وعملا وهو ينافي ظاهر الاية أنه ما كان يدري ما الكتاب ولا الايمان. ووجه الاندفاع ان من الضروري وجود فرق في حاله صلى الله عليه وآله وسلم قبل النبوة وبعدها والاية تشير الى هذا الفرق، وان ما حصل له بعد النبوة لا صنع له فيه وإنما هو من الله من طريق الوحي. وقوله: (ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) ضمير (جعلناه) للروح والمراد بقوله: (من نشاء) على تقدير ان يراد بالروح القرآن هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن آمن به فإنهم جميعا مهتدون بالقرآن. وعلى تقدير أن يراد به الروح الامري فالمراد بمن نشأ جميع الانبياء ومن آمن بهم
[ 78 ]
من أممهم فإنه يهدي بالوحي الذي نزل به، الانبياء والمؤمنين من أممهم ويسدد الانبياء خاصة ويهديهم إلى الاعمال الصالحة ويشير عليهم بها. وعلى هذا تكون الاية في مقام تصديق النبي صلى الله عليه وآله وسلم تصدقه في دعواه أن كتابه
من عند الله بوحي منه، وتصدقه في دعواه أنه مؤمن بما يدعو إليه فيكون في معنى قوله تعالى: (إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم) يس: 5. وقوله: (وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم) إشارة إلى أن الذي يهدي إليه صراط مستقيم وأن الذي يهديه من الناس هو الذي يهديه الله سبحانه، فهدايته صلى الله عليه وآله وسلم هداية الله. قوله تعالى: (صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الارض) الخ، بيان للصراط المستقيم الذي يهدي إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتوصيفه تعالى بقوله: (الذي له ما في السماوات وما في الارض) للدلالة على الحجة على استقامة صراطه فإنه تعالى لما ملك كل شئ ملك الغاية التي تسير إليها الاشياء والسعادة التي تتوجه إليها، فكانت الغاية والسعادة هي التي عينها، وكان الطريق إليها والسبيل الذي عليهم أن يسلكوه لنيل سعادتهم هو الذي شرعه وبينه، وليس يملك أحد شيئا حتى ينصب له غاية ونهاية أو يشرع له إليها سبيلا، فالسعادة التي يدعو سبحانه إليها حق السعادة والطريق الذي يدعو إليه حق الطريق ومستقيم الصراط. وقوله: (ألا إلى الله تصير الامور) تنبيه على لازم ملكه لما في السماوات وما في الارض فإن لازمه رجوع امورهم إليه ولازمه كون السبيل الذي يسلكونه - وهو من جملة امورهم - راجعا إليه فالصراط المستقيم هو صراطه فالمضارع أعني قوله: (تصير) للاستمرار. وفيه إشعار بلم الوحي والتكليم الالهي، إذ لما كان مصير الاشياء إليه تعالى كان لكل نوع إليه تعالى سبيل يسلكه وكان عليه تعالى أن يهديه إليه ويسوقه إلى غايته كما قال: (وعلى الله قصد السبيل) النحل: 9، وهو تكليم كل نوع بما يناسب ذاته وهو في الانسان التكليم المسمى بالوحي والارسال.
[ 79 ]
وقيل: المضارع للاستقبال والمراد مصيرها جميعا إليه يوم القيامة، وقد سيقت الجملة لوعد المهتدين إلى الصراط المستقيم ووعيد الضالين عنه، وأول الوجهين أظهر. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج البخاري ومسلم والبيهقي عن عائشة أن الحارث بن هشام سال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف يأتيك الوحي ؟ قال: أحيانا يأتيني الملك في مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال وهو أشده علي، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول: قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم وإن جبينه ليتفصد عرقا. وفي التوحيد بإسناده عن زرارة قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك الغشية التي كانت تصيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه الوحي ؟ قال: فقال: ذلك إذا لم يكن بينه وبين الله أحد ذاك إذا تجلى الله له. قال: ثم قال: تلك النبوة يا زرارة وأقبل يتخشع. وفي العلل بإسناده عن ابن أبي عمير عن عمرو بن جميع عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان جبرئيل إذا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قعد بين يديه قعدة العبد، وكان لا يدخل حتى يستأذنه. وفي أمالي الشيخ بإسناده عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال بعض أصحابنا: أصلحك الله كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: قال جبرئيل، وهذا جبرئيل يأمرني ثم يكون في حال اخرى يغمى عليه، فقال أبو عبد الله عليه السلام إنه إذا كان الوحي من الله إليه ليس بينهما جبرئيل أصابه ذلك لثقل الوحي من الله، وإذا كان بينهما جبرئيل لم يصبه ذلك فقال: قال لي جبرئيل وهذا جبرئيل. وفي البصائرعن علي بن حسان عن ابن بكير عن زرارة قال: سالت أبا جعفر عليه السلام
من الرسول ؟ من النبي ؟ من المحدث ؟ فقال: الرسول الذي يأتيه جبرئيل فيكلمه
[ 80 ]
قبلا فيراه كما يرى أحدكم صاحبه الذي يكلمه فهذا الرسول والنبي الذي يؤتى في النوم نحو رؤيا إبراهيم عليه السلام، ونحو ما كان يأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من السبات إذا أتاه جبرئيل في النوم فهكذا النبي، ومنهم من يجمع له الرسالة والنبوة فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسولا نبيا يأتيه جبرئيل قبلا فيكمله ويراه، ويأتيه في النوم، وأما المحدث فهو الذي يسمع كلام الملك فيحدثه من غير أن يراه ومن غير أن يأتيه في النوم. أقول: وفي معناه روايات أخر. وفي التوحيد بإسناده عن محمد بن مسلم ومحمد بن مروان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن جبرئيل من قبل الله إلا بالتوفيق. وفي تفسير العياشي عن زرارة قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: كيف لم يخف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يأتيه من قبل الله أن يكون ذلك مما ينزغ به الشيطان ؟ قال: فقال: إن الله إذا اتخذ عبدا رسولا أنزل عليه السكينة والوقار فكان يأتيه من قبل الله مثل الذي يراه بعينه. وفي الكافي بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله تبارك وتعالى: (وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان) قال: خلق من خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخبره ويسدده، وهو مع الائمة من بعده. أقول وفي معناها عدة روايات وفي بعضها أنه من الملكوت، قال في روح المعاني: ونقل الطبرسي عن أبي جعفر وأبي عبد الله أن المراد من هذا الروح ملك أعظم من جبرئيل ومكائيل كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يصعد إلى السماء وإنه لفينا. انتهى. واستغرابه فيما لا دليل له على نفيه غريب. على أنه يسلم تسديد هذا الروح لبعض
الامة غير النبي كما هو ظاهر لمن راجع قسم الاشارات من تفسيره. وفي النهج: ولقد قرن الله به صلى الله عليه واله وسلم من لدن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره.
[ 81 ]
وفي الدر المنثور أخرج أبو نعيم في الدلائل وابن عساكر عن علي قال: قيل النبي صلى الله عليه واله وسلم: هل عبدت وثنا قط ؟ قال: لا. قالوا: فهل شربت خمرا قط ؟ قال: لا. وما زلت أعرف أن الذي هم عليه كفر وما كنت أدري ما الكتاب وماالايمان، وبذالك نزل القران (ما كنت تدري ما الكتاب وما الايمان). وفي الكافي بإسناد عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث، وقال في نبيه صلى الله عليه واله وسلم: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) يقول: تدعو. في الكافي بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: سمعته يقول: وقع مصحف في البحر فوجدوه وقد ذهب ما فيه إلا هذه الاية: (ألا إلى الله تصير الامور).
[ 82 ]
(سورة الزخرف مكية، وهي تسع وثمانون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. حم - 1). والكتاب المبين 2. إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون 3. وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم 4. أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين - 5. وكم أرسلنا من نبي في الاولين - 6. وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزؤون - 7. فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الاولين 8. ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن خلقهن العزيز العليم - 9. الذي جعل لكم الارض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون 10.
والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون - 11. والذي خلق الازواج كلها وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون - 12. لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين - 13. وإنا إلى ربنا لمنقلبون - 14.
[ 83 ]
(بيان) السورة موضوعة للانذار كما تشهد به فاتحتها وخاتمتها والمقاصد المتخللة بينهما إلا ما في قوله: (إلا المتقين يا عباد لا خوف عليكم اليوم) إلى تمام ست آيات استطرادية. تذكر أن السنة الالهية إنزال الذكر وإرسال الانبياء والرسل ولا يصده عن ذلك إسراف الناس في قولهم وفعلهم بل يرسل الانبياء والرسل ويهلك المستهزئين بهم والمكذبين لهم ثم يسوقهم الى نار خالدة. وقد ذكرت إرسال الانبياء بالاجمال أولا ثم سمي منهم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى عليه السلام، وذكرت من إسراف الكفار أشياء ومن عمدتها قولهم بأن لله سبحانه ولدا وأن الملائكة بنات الله ففيها عناية خاصة بنفي الولد عنه تعالى فكررت ذلك وردته وأوعدتهم بالعذاب، وفيها حقائق متفرقة اخرى. والسورة مكية بشهادة مضامين آياتها إلا قوله: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا) الاية، ولم يثبت كما سيأتي إن شاء الله. قوله تعالى: (والكتاب المبين) ظاهره أنه قسم وجوابه قوله: (إنا جعلناه قرآنا عربيا) إلى آخر الايتين، وكون القرآن مبينا هو إبانته وإظهاره طريق الهدى كما قال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) النحل: 89، أو كونه ظاهرا في نفسه لا يرتاب فيه كما قال: (ذلك الكتاب لا ريب فيه) البقرة: 2.
قوله تعالى: (إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) الضمير للكتاب، و (قرآنا عربيا) أي مقروا باللغة العربية و (لعلكم تعقلون) غاية الجعل وغرضه. وجعل رجاء تعقله غاية للجعل المذكور يشهد بأن له مرحلة من الكينونة والوجود لا ينالها عقول الناس، ومن شأن العقل أن ينال كل أمر فكري وإن بلغ من اللطافة والدقة ما بلغ فمفاد الاية أن الكتاب بحسب موطنه الذي له في نفسه أمر وراء الفكر أجنبي عن العقول البشرية وإنما جعله الله قرآنا عربيا وألبسه هذا اللباس رجاء أن يستأنس به عقول الناس فيعقلوه، والرجاء في كلامه تعالى قائم بالمقام أو المخاطب دون المتكلم كما تقدم غير مرة.
[ 84 ]
قوله تعالى: (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) تأكيد وتبيين لما تدل عليه الاية السابقة أن الكتاب في موطنه الاصلى وراء تعقل العقول. والضمير للكتاب، والمراد بام الكتاب اللوح المحفوظ كما قال تعالى: (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) البروج: 22، وتسميته بام الكتاب لكونه أصل الكتب السماوية يستنسخ منه غيره، والتقييد بام الكتاب و (لدينا) للتوضيح لا للاحتراز، والمعنى: أنه حال كونه في أم الكتاب لدينا - حالا لازمة - لعلي حكيم، وسيجئ في أواخر سورة الجاثية كلام في أم الكتاب إن شاء الله. والمراد بكونه عليا على ما يعطه مفاد الاية السابقة أنه رفيع القدر والمنزلة من أن تناله العقول، وبكونه حكيما أنه هناك محكم غير مفصل ولا مجزى إلى سور وآيات وجمل وكلمات كما هو كذلك بعد جعله قرآنا عربيا كما استفدناه من قوله تعالى: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) هود: 1. وهذان النعتان أعني كونه عليا حكيما هما الموجبان لكونه وراء العقول البشرية فإن العقل في فكرته لا ينال إلا ما كان من قبيل المفاهيم والالفاظ أولا وكان مؤلفا من مقدمات تصديقية يترتب بعضها على بعض كما في الايات والجمل القرآنية، وأما إذا كان
الامر وراء المفاهيم والالفاظ وكان غير متجز إلى أجزاء وفصول فلا طريق للعقل إلى نيله. فمحصل معنى الايتين: أن الكتاب عندنا في اللوح المحفوظ ذو مقام رفيع وإحكام لا تناله العقول لذينك الوصفين وإنما أنزلناه بجعله مقروا عربيا رجاء أن يعقله الناس. فإن قلت: ظاهر قوله: (لعلكم تعقلون) إمكان تعقل الناس هذا القرآن العربي النازل تعقلا تاما فهذا الذي نقراه ونعقله إما أن يكون مطابقا لما في ام الكتاب كل المطابقة أو لا يكون، والثاني باطل قطعا كيف ؟ وهو تعالى يقول: (وإنه في ام الكتاب) و (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) البروج: 22، و (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون) الواقعة: 78، فتعين الاول ومع مطابقته لام الكتاب كل المطابقة ما معنى كون القرآن العربي الذي عندنا معقولا لنا وما في ام الكتاب عند الله غير معقول لنا ؟ قلت: يمكن أن تكون النسبة بين ما عندنا وما في ام الكتاب نسبة المثل والممثل فالمثل هوالممثل بعينه لكن الممثل له لا يفقه إلا المثل فافهم ذلك.
[ 85 ]
وبما مر يظهر ضعف الوجوه التي أوردوها في تفسير الوصفين كقول بعضهم: إن المراد بكونه عليا أنه عال في بلاغته مبين لما يحتاج إليه الناس، وقول بعضهم: معناه أنه يعلو كل كتاب بما اختص به من الاعجاز وهو ينسخ الكتب غيره ولا ينسخه كتاب، وقول بعضهم يعني أنه يعظمه الملائكة والمؤمنون. وكقول بعضهم في معنى (حكيم) أنه مظهر للحكمة البالغة وقول بعضهم معناه أنه لا ينطق إلا بالحكمة ولا يقول إلا الحق والصواب، ففي توصيفه بالحكيم تجوز لغرض المبالغة. وضعف هذه الوجوه ظاهر بالتدبر في مفاد الاية السابقة وظهور أن جعله قرآنا عربيا بالنزول عن ام الكتاب. قوله تعالى: (أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين) الاستفهام
للانكار، والفاء للتفريع على ما تقدم، وضرب الذكر عنهم صرفه عنهم. قال في المجمع: وأصل ضربت عنه الذكر أن الراكب إذا ركب دابة فأراد أن يصرفه عن جهة ضربه بعصا أو سوط ليعدل به إلى جهة اخرى ثم وضع الضرب موضع الصرف والعدل. انتهى. والصفح بمعنى الاعراض فصفحا مفعول له، واحتمل أن يكون بمعنى الجانب (وأن كنتم) محذوف الجار والتقدير لان كنتم وهو متعلق بقوله: (أفنضرب). والمعني: أفنصرف عنكم الذكر - وهو الكتاب الذي جعلناه قرآنا لتعقلوه - للاعراض عنكم لكونكم مسرفين أو أفنصرفه عنكم إلى جانب لكونكم مسرفين أي إنا لا نصرفه عنكم لذلك. قوله تعالى: (وكم أرسلنا من نبي في الاولين وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزؤن) (كم) للتكثير، والاولون هم الامم الدارجة و (ما يأتيهم) الخ، حال والعامل فيها (أرسلنا). والايتان وما يتلو هما في مقام التعليل لعدم صرف الذكر عنهم ببيان أن كونكم قوما مسرفين لا يمنعنا من إجراء سنة الهداية من طريق الوحي فإنا كثيرا ما أرسلنا من نبي في الامم الماضين والحال أنه ما يأتيهم من نبي إلا استهزؤوا به وانجر الامر الى ان أهلكنا من اولئك من هو أشد بطشا منكم. فكما كانت عاقبة إسرافهم واستهزائهم الهلاك دون الصرف فكذلك عاقبة اسرافكم ففي الايات الثلاث كما ترى وعد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ووعيد لقومه.
[ 86 ]
قوله تعالى: (فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الاولين) قال الراغب: البطش تناول الشئ بصولة. انتهى وفي الاية التفات في قوله: (منهم) من الخطاب الى الغيبة، وكان الوجه فيه العدول عن خطابهم الى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعدم اعتبارهم بهذه القصص والعبر وليكون تمهيدا لقوله بعد: (ومضى مثل الاولين) ويؤيده قوله
بعد: (ولئن سألتهم) خطابا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومعنى قوله: (ومضى مثل الاولين) ومضى في السور النازلة قبل هذه السورة من القرآن وصف الامم الاولين وأنه كيف حاق بهم ما كانوا به يستهزؤن. قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن خلقهن العزيز العليم) في الاية وما يتلوها الى تمام ست آيات احتجاج على ربوبيته تعالى وتوحده فيها مع إشارة ما الى المعاد وتبكيت لهم على اسرافهم مأخوذ من اعترافهم بأنه تعالى هو خالق الكل ثم الاخذ بجهات من الخلق هي بعينها تدبير لامور العباد كجعل الارض لهم مهدا وجعله فيها سبلا وانزال الامطار فينتج أنه تعالى وحده مالك مدبر لامورهم فهو الرب لا رب غيره. وبذلك تبين أن الاية تقدمة وتوطئة لما تتضمنه الايات التالية من الحجة وقد تقدم في هذا الكتاب مرارا أن الوثنية لا تنكر رجوع الصنع والايجاد إليه تعالى وحده وانما تدعي رجوع أمر التدبير الى غيره. قوله تعالى: (الذي جعل لكم الارض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون) اي جعل لكم الارض بحيث تربون فيها كما يربى الاطفال في المهد، وجعل لكم في الارض سبلا وطرقا تسلكونها وتهتدون بها الى مقاصدكم. وقيل: معنى (لعلكم تهتدون) رجاء أن تهتدوا الى معرفة الله وتوحيده في العبادة والاول أظهر. وفي الكلام التفاوت الى خطاب القوم بعد صرف الخطاب عنهم الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولعل الوجه فيه إظهار العناية بهذا المعنى في الخلقة وهو أن التدبير بعينه من الخلق فاعترافهم بكون الخلق مختصا بالله سبحانه وقولهم برجوع التدبير الى غيره من خلقه من التهافت في القول جهلا فقرعهم بهذا الخطاب من غير واسطة.
[ 87 ]
قوله تعالى: (والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون) قيد تنزيل الماء بقدر للاشارة الى أنه عن ارادة وتدبير لا كيف اتفق والانشار الاحياء، والميت مخفف الميت بالتشديد، وتوصيف البلدة به باعتبار أنها مكان لان البلدة أيضا انما تتصف بالموت والحياة باعتبار أنها مكان، والالتفات عن الغيبة الى التكلم مع الغير في (أنشرنا) لاظهار العناية. ولما استدل بتنزيل الماء بقدر واحياء البلدة الميتة على خلقه وتدبيره استنتج منه أمر آخر لا يتم التوحيد الا به وهو المعاد الذي هو رجوع الكل إليه تعالى فقال: (كذلك تخرجون) أي كما أحيا البلدة الميتة كذلك تبعثون من قبوركم أحياء. قيل: في التعبير عن اخراج النبات بالانشار الذي هو احياء الموتى وعن احيائهم بالاخراج تفخيم لشأن الانبات وتهوين لامر البعث لتقويم سنن الاستدلال و توضيح منهاج القياس. قوله تعالى: (والذي خلق الازواج كلها وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون) قيل: المراد بالازواج أصناف الموجودات من ذكر و انثى وأبيض وأسود وغيرها، وقيل: المراد الزوج من كل شئ فكل ما سوى الله كالفوق وتحت واليمين واليسار والذكر والانثى زوج. وقوله: (وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون) أي تركبونه، والركوب إذا نسب الى الحيوان كالفرس والابل تعدى بنفسه فيقال: ركبت الفرس وإذا نسب الى مثل الفلك والسفينة تعدى بفي فيقال ركب فيه قال تعالى: (وإذا ركبوا في الفلك) ففي قوله: (ما تركبون) أي تركبونه تغليب لجانب الانعام. قوله تعالى: (لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا - إلى قوله - لمنقلبون) الاستواء على الظهور الاستقرار عليها، والضمير في (ظهوره) راجع الى لفظ الموصول في (ما تركبون)، والضمير في قوله: (إذا
استويتم عليه) للموصول أيضا فكما يقال: استويت على ظهر الدابة يقال: استويت على الدابة. والمراد بذكر نعمة الرب سبحانه بعد الاستواء على ظهر الفلك والانعام ذكر النعم التي ينتفع بها الانسان بتسخيره تعالى له هذه المراكب كالانتقال من مكان الى
[ 88 ]
مكان وحمل الاثقال قال تعالى: (وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره) إبراهيم: 32، وقال: (والانعام خلقها - الى أن قال - وتحمل أثقالكم الى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الانفس) النحل: 7، أو المراد ذكر مطلق نعمه تعالى بالانتقال من ذكر هذه النعم إليه. وقوله: (وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) أي مطيقين والاقران الاطاقة. وظاهر ذكر النعمة عند استعمالها والانتفاع بها شكر منعمها ولازم ذلك أن يكون ذكر النعمة غير قول: (سبحان الذي) الخ، فإن هذا القول تسبيح وتنزيه له عما لا يليق بساحة كبريائة وهو الشريك في الربوبية والالوهية، وذكر النعمة شكر - كما تقدم - والشكر غير التنزية. ويؤيد هذا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليه السلام في ما يقال عند الاستواء على المركوب فإن الروايات على اختلافها تتضمن التحميد وراء التسبيح يقول (سبحان الذي) الخ. وروى في لكشاف عن الحسن بن علي عليه السلام أنه رأى رجلا يركب دابة فقال: سبحان الذي سخر لنا هذا فقال: أبهذا أمرتم ؟ فقال: وبم أمرنا قال: أن تذكروا نعمة ربكم. وقوله: (وإنا الى ربنا لمنقلبون) أي صائرون شهادة بالمعاد وجعلوا له من عباده جزءا إن الانسان لكفور مبين - 15.
أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين - 16. وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهوكظيم - 17. أو من ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين - 18. وجعلوا الملائكة
[ 89 ]
الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسئلون - 19. وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون - 20. أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون - 21. بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون - 22. وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثار هم مقتدون - 23. قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتهم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون - 24. فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين - 25. (بيان) حكاية بعض أقوالهم التي دعاهم الى القول بها الاسراف والكفر بالنعم وهو قولهم بالولد وأن الملائكة بنات الله سبحانه، واحتجاجهم على عبادتهم الملائكة ورده عليهم. قوله تعالى: (وجعلوا له من عباده جزءا إن الانسان لكفور مبين) المراد بالجزء الولد فإن الولادة إنما هي الاشتقاق فالولد جزء من والده منفصل منه متصور بصورته. وإنما عبر عن الولد بالجزء للاشارة الى استحالة دعواهم، فإن جزئية شئ من شئ كيفما تصورت لا تتم الا بتركب في ذلك الشئ والله سبحانه واحد من جميع الجهات. وقد بان بما تقدم أن (من عباده) بيان لقوله: (جزء) ولا ضير في تقدم هذا النوع من البيان على المبين ولا في جمعية البيان وإفراد المبين.
قوله تعالى: (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين) أي أخلصكم للبنين
[ 90 ]
فلكم بنون وليس له إلا البنات وأنتم ترون أن البنت أخس من الابن فتثبتون له أخس الصنفين تخصون أنفسكم بأشرفهما، وهذا مع كونه قولا محالا في نفسه إزراء وإهانة ظاهرة وكفران. وتقييد اتخاذ البنات بكونه مما يخلق لكونهم قائلين بكون الملائكة - على ربوبيتهم والوهيتهم - مخلوقين لله، والالتفات في الاية الى خطابهم لتأكيد الالزام وتثبيت التوبيخ، والتنكير والتعريف في (بنات) و (البنين) للتحقير والتفخيم. قوله تعالى: (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم) المثل هو المثل والشبه المجانس للشئ وضرب الشئ مثلا أخذه مجانسا للشئ و (ما ضرب للرحمان مثلا) الانثى، والكظيم المملوء كربا وغيظا. والمعنى: وحالهم أنه إذا بشر أحدهم بالانثى الذي جعلها شبها مجانسا للرحمان صار وجهه مسودا من الغم وهو مملوء كربا وغيظا لعدم رضاهم بذلك وعده عارا لهم لكنهم يرضونه له. والالتفات في الاية الى الغيبة لحكاية شنيع سيرتهم وقبيح طريقتهم للغير حتى يتعجب منه. قوله تعالى: (أو من ينشؤ في الحلية وهو في الخصام غير مبين) أي أو جعلوا لله سبحانه من ينشؤ في الحلية أي يتربى في الزينة وهو في المخاصمة والمحاجة غير مبين لحجته لا يقدر على تقرير دعواه. وإنما ذكر هذين النعتين لان المرأة بالطبع أقوى عاطفة وشفقة وأضعف تعقلا بالقياس إلى الرجل وهو بالعكس ومن أوضح مظاهر قوة عواطفها تعلقها الشديد بالحلية والزينة وضعفها في تقرير الحجة المبني على قوة التعقل.
قوله تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا الخ)، هذا معنى قولهم: إن الملائكة بنات الله وقد كان يقول به طوائف من عرب الجاهلية وأما غيرهم من الوثنية فربما عدوا في آلهتهم الهة هي ام إله أو بنت إله لكن لم يقولوا بكون جميع الملائكة إناثا كما هو ظاهر المحكي في الاية الكريمة. وإنما وصف الملائكة بقوله: (الذين هم عباد الرحمان) ردا لقولهم بانوثتهم لان الاناث لا يطلق عليهن العباد، ولا يلزم منه اتصافهم بالذكورة بالمعنى الذي يتصف به
[ 91 ]
الحيوان فإن الذكورة والانوثة اللتين في الحيوان من لوازم وجوده المادي المجهز للتناسل وتوليد المثل، و الملائكة في معزل من ذلك. وقوله: (أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون) رد لدعواهم الانوثة في الملائكة بأن الطريق الى العلم بذلك الحس وهم لم يروهم حتى يعلموا بها فلم يكونوا حاضرين عند خلقهم حتى يشاهدوا منهم ذلك. فقوله: (أشهدوا خلقهم الخ) استفهام إنكاري ووعيد على قولهم بغير علم أي لم يشهدوا خلقهم وستكتب في صحائف أعمالهم هذه الشهادة عليهم ويسألون عنه يوم القيامة. قوله تعالى: (وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون) حجة عقلية داحضة محكية عنهم يمكن أن تقرر تاره لاثبات صحة عبادة الشركاء بأن يقال: لو شاء الله أن لا نعبد الشركاء ما عبدناهم ضرورة لاستحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته لكنا نعبدهم فهو لم يشأ ذلك وعدم مشيته عدم عبادتهم إذن في عبادتهم فلا منع من قبله تعالى عن عبادة الشركاء والملائكة منهم، وهذا المعنى هو المنساق الى الذهن من قوله في سورة الانعام: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله) ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ) الانعام: 148، على ما يعطيه السياق ما
قبله وما بعده. وتقرر تارة لابطال النبوة القائلة أن الله يوجب عليكم كذا وكذا ويحرم عليكم كذا كذا بأن يقال لو شاء الله أن لا نعبد الشركاء ولا نحل ولا نحرم شيئا لم نعبد الشركاء ولم نضع من عندنا حكما لاستحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته لكنا نعبدهم ونحل ونحرم أشياء فلم يشإ الله سبحانه منا شيئا، فقول إن الله يأمركم بكذا وينها كم عن كذا وبالجملة إنه شاء كذا باطل. وهذا المعنى هو الظاهر المستفاد من قوله تعالى في سورة النحل: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ) النحل: 35، بالنظر إلى السياق. وقولهم في محكي الاية المبحوث عنها: (لو شاء الرحمان ما عبدناهم) على ما يفيده سياق الايات السابقة واللاحقة مسوق للاحتجاج على المعنى الاول وهو تصحيح
[ 92 ]
عبادتهم للملائكة فيكون في معنى آية سورة الانعام وأخص منها. وقوله: (ما لهم بذلك من علم) أي هو منهم قول مبني على الجهل فإنه مغالطة خلطوا فيها بين الارادة التكوينية والارادة التشريعية وأخذ الاولى مكان الثانية، فمقتضى الحجة أن لا إرادة تكوينية منه تعالى متعلقة بعدم عبادتهم الملائكة وانتفاء تعلق هذا النوع من الارادة بعدم عبادتهم لهم لا يستلزم انتفاء تعلق الارادة التشريعية به. فهو سبحانه لما لم يشأ أن لا يعبدوا الشركاء بالارادة التكوينية كانوا مختارين غير مضطرين على فعل أو ترك فأراد منهم بالارادة التشريعية أن يوحدوه ولا يعبدوا الشركاء، والارادة التشريعية لا يستحيل تخلف المراد عنها لكونها اعتبارية غير حقيقية، وإنما تستعمل في الشرائع والقوانين والتكاليف المولوية، والحقيقة التي تبتني عليها هي اشتمال الفعل على مصلحة أو مفسدة.
وبما تقدم يظهر فساد ما قيل: إن حجتهم مبنية على مقدمتين: الاولى أن عبادتهم للملائكة بمشيته تعالى، والثانية أن ذلك مستلزم لكونها مرضية عنده تعالى وقد أصابوا في الاولى وأخطاوا في الثانية حيث جهلوا أن المشية عبارة عن ترجيح بعض الممكنات على بعض كائنا ما كان من غير اعتبار الرضا والسخط في شئ من الطرفين. وجه الفساد: أن مضمون الحجة عدم تعلق المشية على ترك العبادة وعدم تعلق المشية بالترك لا يستلزم تعلق المشية بالفعل بل لازمه الاذن الذي هو عدم المنع من الفعل. ثم إن ظاهر كلامه قصر الارداة في التكوينية وإهمال التشريعية التي عليها المدار في التكاليف المولوية وهو خطأ منه. ويظهر أيضا فساد ما نسب إلى بعضهم أن المراد بقولهم: (لو شاء الرحمان ما عبدناهم) الاعتذار عن عبادة الملائكة بتعلق مشية الله بها مع الاعتراف بكونها قبيحة. وذلك أنهم لم يكونوا مسلمين لقبح عبادة آلهتهم حتى يعتذروا عنها وقد حكي عنهم ذيلا قولهم: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون). وقوله: (إن هم إلا يخرصون) الخرص - على ما يظهر من الراغب - القول على الظن والتخمين، وفسر أيضا بالكذب. قوله تعالى: (أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون) ضمير (من قبله)
[ 93 ]
للقرآن، وفي الاية نفي أن يكون لهم حجة من طريق النقل كما أن في الاية السابقة نفي حجتهم من طريق العقل، ومحصل الايتين أن لا حجة لهم على عبادة الملائكة لا من طريق العقل ولا من طريق النقل فلم يأذن الله فيها. قوله تعالى: (بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) الامة الطريقة التي تؤم وتقصد، والمراد بها الدين، والاضراب عما تحصل من الايتين، والمعني لا دليل لهم على حقية عبادتهم بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على دين وإنا على
آثارهم مهتدون أي إنهم متشبثون بتقليد آبائهم فحسب. قوله تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا) الخ، أي إن التشبث بذيل التقليد ليس مما يختص بهؤلاء فقد كان ذلك دأب أسلافهم من الامم المشركين وما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير وهو النبي إلا تشبث متنعموها بذيل التقليد وقالوا: إنا وجدنا أسلافنا على دين وإنا على آثارهم مقتدون لن نتركها ولن نخالفهم. ونسبة القول الى مترفيهم للاشارة الى أن الاتراف والتنعم هو الذي يدعوهم الى التقليد ويصرفهم عن النظر في الحق. قوله تعالى: (قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم) الخ، القائل هو النذير، والخطاب للمترفين ويشمل غيرهم بالتبعية، والعطف في (أو لو جئتكم) على محذوف يدل عليه كلامهم، والتقدير إنكم على آثارهم مقتدون ولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم ؟ والمحصل: هل أنتم لازمون لدينهم حتى لو كان ما جئتكم به من الدين أهدى منه ؟ وعد النذير ما جاءهم به أهدى من دينهم مع كون دينهم باطلا لا هدى فيه من باب مجاراة الخصم. وقوله: (قالوا إنا بما ارسلتم به كافرون) جواب منهم لقول النذير: (أو لو جئتكم) الخ وهو تحكم من غير دليل. قوله تعالى: (فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين) أي تفرع على ذلك الارسال والرد بالتقليد والتحكم أنا أهلكناهم بتكذيبهم فانظر كيف كان عاقبة اولئك السابقين من أهل القرى، وفيه تهديد لقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
[ 94 ]
* * * وإذ قال إبراهيم لابيه وقومه إنني براء مما تعبدون - 26.
إلا الذي فطرني فإنه سيهدين - 27. وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون - 28. بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين - 29. ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون 30. وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم - 31. أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحيوة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون - 32. ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون - 33. ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكؤن - 34. وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحيوة الدنيا والاخرة عند ربك للمتقين - 35. ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين - 36. وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون - 37. حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين - 38. ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون - 39. أفانت
[ 95 ]
تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين - 40. فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون - 41. أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون - 42. فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم - 43. وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون - 44. وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجلعنا من دون الرحمن آلهة يعبدون - 45.
بيان لما انجر الكلام إلى ردهم رسالة الرسول وكفرهم بها تحكما وتشبثهم في الشرك بذيل تقليد الاباء والاسلاف من غير دليل عقب ذلك بالاشارة إلى قصة إبراهيم عليه السلام ورفضه تقليد أبيه وقومه وتبريه عما يعبدونه من دون الله سبحانه واستهدائه هدى ربه الذي فطره. ثم يذكر تمتيعه لهم بنعمه وكفرانهم بها بالكفر بكتاب الله وطعنهم فيه وفي رسوله بما هو مردود عليهم. ثم يذكر تبعة الاعراض عن ذكر الله وما تنتهي إليه من الشقاء والخسران، ويعطف عليه إياس النبي صلى الله عليه وآله وسلم من إيمانهم وتهديدهم بالعذاب ويؤكد الامر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يستمسك بالقرآن وأنه لذكر له ولقومه وسوف يسألون عنه، وأن الذي فيه من دين التوحيد هو الذي كان عليه الانبياء السابقون عليه. قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لابيه وقومه إننى براء مما تعبدون) البراء مصدر من برئ يبرأ فهو برئ فمعنى (إننى براء) إنني ذو براء أو برئ على سبيل المبالغة مثل زيد عدل. وفي الاية اشارة إلى تبري إبراهيم عليه السلام مما كان يعبده أبوه وقومه من الاصنام
[ 96 ]
والكواكب بعد ما حاجهم فيها فاستندوا فيها إلى سيرة آبائهم على ما ذكر في سور الانعام والانبياء والشعراء وغيرها. والمعنى: واذكر لهم إذ تبرا إبراهيم عن آلهه أبيه وقومه إذ كانوا يعبدونها تقليدا لابائهم من غير حجة وقام بالنظر وحده. قوله تعالى: (إلا الذي فطرني فإنه سيهدين) أي إلا الذي أوجدني وهو الله سبحانه، وفي توصيفه تعالى بالفطر إشارة إلى الحجة على ربوبيته وألوهيته فإن الفطر والايجاد لا ينفك عن تدبير أمر الموجود المفطور فالذي فطر الكل هو الذي يدبر
أمرهم فهو الحقيق أن يعبد. وقوله: (فإنه سيهدين) أي إلى الحق الذي أطلبه، وقيل: أي إلى طريق الجنة، وفي هذه الجملة إشارة إلى خاصة اخرى ربوبية وهي الهداية إلى السبيل الحق يجب أن يسلكه الانسان فإن السوق إلى الكمال من تمام التدبير فعلى الرب المدبر لامر مربوبه أن يهديه إلى كماله وسعادته، قال تعالى: (ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) طه: 50، وقال: (وعلى الله قصد السبيل) النحل: 9، فالرجوع إلى الله بتوحيد العبادة يستتبع الهداية كما قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) العنكبوت: 69. والاستثناء في قوله: (إلا الذي فطرني) منقطع لان الوثنيين لا يعبدون الله كما مر مرارا، فقول بعضهم: إنه متصل، وأنهم كانوا يقولون: الله ربنا مع عبادتهم الاوثان، كما ترى. قوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) الظاهر أن ضمير الفاعل المستتر في (جعلها) لله سبحانه، والضمير البارز - على ما قيل - لكلمة البراءة التي تكلم بها إبراهيم عليه السلام ومعناها معنى كلمة التوحيد فإن مفاد (لا إله إلا الله) نفي الالهة غير الله لا نفي الالهة وإثبات الاله تعالى وهو ظاهر فلا حاجة إلى ما تكلف به بعضهم أن الضمير لكلمة التوحيد المعلوم مما تكلم به إبراهيم عليه السلام. والمراد بعقبه ذريته وولده، وقوله: (لعلهم يرجعون) أي يرجعون من عبادة
(1) وذالك أن (الله) فيها مرفوع على البدلية لا منصوب على الاستثناء. (*)
[ 97 ]
آلهة غير الله إلى عبادته تعالى أي يرجع بعضهم - وهم العابدون لغير الله بدعوة بعضهم وهم العابدون لله - إلى عبادته تعالى، وبهذا يظهر أن المراد ببقاء الكلمة في عقبه عدم خلوهم عن الموحد ما داموا، ولعل هذا عن استجابة دعائه عليه السلام إذ يقول: (واجنبني
وبني أن نعبد الاصنام) إبراهيم: 35. وقيل: الضمير في (جعل) لابراهيم عليه السلام فهو الجاعل هذه الكلمة باقية في عقبه رجاء أن يرجعوا إليها، والمراد بجعلها باقية فيهم وصيته لهم بذلك كما قال تعالى: (وصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنى إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) البقرة: 132. وأنت خبير بأن الوصية بكلمة التوحيد لا تسمى جعلا للكلمة باقية في العقب وإن صح أن يقال: أراد بها ذلك لكنه غير جعلها باقية فيهم ! وقيل: المراد أن الله جعل الامامة كلمة باقية في عقبه وسيجئ الكلام فيه في البحث الروائي الاتي إن شاء الله. ويظهر من الاية أن ذرية إبراهيم عليه السلام لا تخلو من هذه الكلمة إلى يوم القيامة. قوله تعالى: (بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين إضراب عما يفهم من الايه السابقة، والمعنى: أن رجوعهم عن الشرك إلى التوحيد كان هو الغاية المرجوة منهم لكنهم لم يرجعوا بل متعت هؤلاء من قومك وآباءهم فتمتعوا بن عمي (حتى جاءهم الحق ورسول مبين). ولعل الالتفات إلى التكلم وحده في قوله: (بل متعت) للاشارة إلى تفخيم جرمهم وأنهم لا يقصدون في كفرانهم للنعمة وكفرهم بالحق ورميه بالسحر إلا إاياه تعالى وحده. والمراد بالحق الذي جاءهم هو القرآن، وبالرسول المبين محمد صلى الله عليه واله وسلم. قوله تعالى: (ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون) هذا طعنهم في الحق الذي جاءهم وهو القرآن ويستلزم الطعن في الرسول. كما أن قولهم الاتي: (لو لا نزل) الخ، كذلك.
[ 98 ]
قوله تعالى: (وقالوا لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) المراد بالقريتين مكة والطائف، ومرادهم بالعظمة - على ما يفيده السياق - ما هو من حيث المال والجاه اللذين هما ملاك الشرافة وعلو المنزلة عند أبناء الدنيا، والمراد بقوله: (رجل من القريتين عظيم) رجل من إحدى القريتين حذف المضاف إيجازا. ومرادهم أن الرسالة منزلة شريفة إلهية لا ينبغي أن يتلبس به إلا رجل شريف في نفسه عظيم مطاع في قومه، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقير فاقد لهذه الخصلة، فلو كان القرآن الذي جاء به وحيا نازلا من الله فلو لا نزل على رجل عظيم من مكة أو الطائف كثير المال رفيع المنزلة. وفي المجمع: ويعنون بالرجل العظيم من إحدى القريتين الوليد بن المغيرة من مكة وأبا مسعود عروة بن مسعود الثقفي من الطائف. عن قتادة، وقيل: عتبة بن أبي ربيعة من مكة وابن عبد ياليل من الطائف. عن مجاهد، وقيل: الوليد بن المغيرة من مكة وحبيب بن عمر الثقفى من الطائف. عن ابن عباس. انتهى. والحق أن ذلك من تطبيق المفسرين وإنما قالوا ما قالوا على الابهام وأرادوا أحد هؤلاء من عظماء القريتين على ما هو ظاهر الاية. قوله تعالى: (أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) الخ، المراد بالرحمة - على ما يعطيه السياق - النبوة. وقال الراغب: العيش الحياة المختصة بالحيوان، وهو أخص من الحياة لان الحياة تقال في الحيوان وفي الباري، تعالى وفي الملك، ويشتق منه المعيشة لما يتعيش به. انتهى. وقال: التسخير سياقة إلى الغرض المختص قهرا - إلى أن قال: والسخري هو الذي يقهر فيتسخر بإرادته. انتهى. والاية والايتان بعدها في مقام الجواب عن قولهم: (لو لا نزل هذا القرآن على رجل) الخ، محصلها أن قولهم هذا تحكم ظاهر ينبغي أن يتعجب منه فإنهم يحكمون فيما لا يملكون. هذه معيشتهم في الحياة الدنيا يعيشون بها ويرتزقون وهي رحمة منا
لا قدر لها ولا منزلة عندنا وليست إلا متاعا زائلا نحن نقسمها بينهم وهي خارجة عن مقدرتهم ومشيتهم فكيف يقسمون النبوة التي هي الرحمة الكبرى وهي مفتاح سعادة البشر الدائمة والفلاح الخالد فيعطونها لمن شاؤا ويمنعونها ممن شاؤا.
[ 99 ]
فقوله: (أهم يقسمون رحمة ربك) الاستفهام للانكار، والالتفات إلى الغيبة في قوله: (رحمة ربك) ولم يقل: رحمتنا، للدلالة على اختصاص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعناية الربوبية في النبوة. والمعنى: أنهم لا يملكون النبوة التي هي رحمة لله خاصة به حتى يمنعوك منها ويعطوها لمن هووا. وقوله: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) بيان لوجه الانكار في الجملة السابقة بأنهم عاجزون عن قسمة ما هو دون النبوة بمراحل ولا منزلة له وهو معيشتهم في الحياة الدنيا فنحن قسمناها بينهم فكيف يقسمون ما هو أرفع منزلة منها بما لا يقدر قدره وهو النبوة التي هي رحمة ربك الخاصة به. والدليل على أن الارزاق والمعايش ليست بيد الانسان اختلاف أفراده بالغنى والفقر والعافية والصحة وفي الاولاد وسائر ما يعد من الرزق، وكل يريد أن يقتني منها ما لا مزيد عليه، ولا يكاد يتيسر لاحد منهم جميع ما يتمناه ويرتضيه فلو كان ذلك بيد الانسان لم يوجد معدم فقير في شئ منها بل لم يختلف اثنان فيها فاختلافهم فيها أوضح دليل على أن الرزق مقسوم بمشية من الله دون الانسان. على أن الارادة والعمل من الانسان بعض الاسباب الناقصة لحصول المطلوب الذي هو الرزق ووراءهما أسباب كونية لا تحصى خارجة عن مقدرة الانسان لا يحصل المطلوب إلا بحصولها جميعا واجتماعها عليه وليست إلا بيد الله الذي إليه تنتهي الاسباب. هذا كله في المال وأما الجاه فهو أيضا مقسوم من عند الله فإنه يتوقف على صفات خاصة بها ترتفع درجات الانسان في المجتمع فيتمكن من تسخير من هو دونه كالفطنة
والدهاء والشجاعة وعلو الهمة وإحكام العزيمة وكثرة المال والعشيرة وشئ من ذلك لا يتم إلا بصنع من الله سبحانه، وذلك قوله: (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا). فيتبين بمجموع القولين أعني قوله: (نحن قسمنا) الخ، وقوله: (ورفعنا بعضهم فوق بعض) الخ، أن القاسم للمعيشة والجاه بين الناس هو الله سبحانه لا غير، وقوله: (ورحمة ربك خير مما يجمعون) أي النبوة خير من المال فكيف يملكون قسمها وهم لا يملكون قسم المال فيما بينهم.
[ 100 ]
ومن الممكن أن يكون قوله: (ورفعنا بعضهم فوق بعض) عطف تفسير على قوله: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم) الخ، يبين قسم المعيشة بينهم ببيان علل انقسامها في المجتمع الانساني، بيان ذلك أن كثرة حوائج الانسان في حياته الدنيا بحيث لا يقدر على رفع جميعها في عيش انفرادي أحوجته إلى الاجتماع مع غيره من الافراد على طريق الاستخدام والاستدرار أولا وعلى طريق التعاون والتعاضد ثانيا كما مر في مباحث النبوة من الجزء الثاني من الكتاب. فال الامر إلى المعاوضة العامة المفيدة لنوع من الاختصاص بأن يعطي كل مما عنده من حوائج الحياة ما يفضل من حاجته ويأخذ به من الغير ما يعادله مما يحتاج إليه فيعطي مثلا ما يفضل من حاجته من الماء الذي عنده وقد حصله واختص به ويأخذ من غيره ما يزيد على قوته من الغذاء، ولازم ذلك أن يسعى كل فرد بما يستعد له ويحسنه من السعي فيقتني مما يحتاج إليه ما يختص به، ولازم ذلك أن يحتاج غيره إليه فيما عنده من متاع الحياة فيتسخر له فيفيده ما يحتاج إليه كالخباز يحتاج إلى ما عند السقاء من الماء وبالعكس فيتعاونان بالمعاوضة وكالمخدوم يتسخر للخادم لخدمته والخادم يتسخر للمخدوم لماله وهكذا فكل بعض من المجتمع مسخر لاخرين بما عنده والاخرون
متسخرون له بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط لما أن كلا يرتفع على غيره بما يختص به مما عنده بدرجات مختلفة باختلاف تعلق الهمم والقصود به. وعلى ما تقدم فالمراد بالمعيشة كل ما يعاش به أعم من المال والجاه أو خصوص المال وغيره تبع له كما يؤيده قوله ذيلا: (ورحمه ربك خير مما يجمعون) فإن المراد به المال وغيره من لوازم الحياة مقصود بالتبع. قوله تعالى: (ولو لا أن يكون الناس أمة واحدة - إلى قوله - ومعارج عليها يظهرون) الاية وما يتلوها لبيان أن متاع الدنيا من مال وزينة لا قدر لها عند الله سبحانه ولا منزلة. قالوا: المراد بكون الناس أمة واحدة كونهم مجتمعين على سنة واحدة هي الكفر بالله لو رأوا أن زينة الدنيا بحذافيرها عند الكافر بالله والمؤمن صفر الكف منها مطلقا، والمعارج الدرجات والمصاعد. والمعنى: ولو لا أن يجتمع الناس على الكفر لو رأوا تنعم الكافرين وحرمان
[ 101 ]
المؤمنين لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ودرجات عليها يظهرون لغيرهم. ويمكن أن يكون المراد بكون الناس أمة واحدة كونهم جميعا على نسبة واحدة تجاه الاسباب العاملة في حظوظ العيش من غير فرق بين المؤمن والكافر، فمن سعى سعيه للرزق ووافقته الاسباب والعوامل الموصلة الاخرى نال منه مؤمنا كان أو كافرا، ومن لم يجتمع له حرم ذلك وقتر عليه الرزق مؤمنا أو كافرا. والمعنى: لولا ما أردنا أن يتساوى الناس تجاه الاسباب الموصلة إلى زخارف الدنيا ولا يختلفوا فيها بالايمان والكفر لجعلنا لمن يكفر، الخ. قوله تعالى: (ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكؤن وزخرفا) تنكير (أبوابا) و (سررا) للتفخيم، والزخرف الذهب أو مطلق الزينة، قال في المجمع: الزخرف
كمال حسن الشئ ومنه قيل للذهب، ويقال: زخرفه زخرفة إذا حسنه وزينه، ومنه قيل للنقوش والتصاوير: زخرف، وفي الحديث إنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يدخل الكعبة حتى أمر بالزخرف فنحي. انتهى. والباقي ظاهر. قوله تعالى: (وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والاخرة عند ربك للمتقين) (إن) للنفي و (لما) بمعنى إلا أي ليس كل ما ذكر من مزايا المعيشة إلا متاع الحياة الدنيا الزائلة الفانية التي لا تدوم. وقوله: (والاخرة عند ربك للمتقين) المراد بالاخرة بقرينة المقام الحياة الاخرة السعيدة كان الحياة الاخرة الشقية لا تعد حياة. والمعنى: أن الحياة الاخرة السعيدة بحكم من الله تعالى وقضاء منه مختصة بالمتقين، وهذا التخصيص والقصر يؤيد ما قدمناه من معنى كون الناس أمة واحدة في الدنيا بعض التأييد. قوله تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين) يقال: عشى يعشى عشا من باب علم يعلم إذا كان ببصره آفة لا يبصر مطلقا أو بالليل فقط، وعشا يعشو عشوا وعشوا من باب نصر ينصر إذا تعامى وتعشى بلا آفة، والتقييض التقدير والاتيان بشئ إلى شئ، يقال: قيضه له إذا جاء به إليه. لما انتهى الكلام إلى ذكر المتقين وأن الاخرة لهم عند الله قرنه بعاقبة أمر
[ 102 ]
المعرضين عن الحق المتعامين عن ذكر الرحمن مشيرا إلى أمرهم من أوله وهو أن تعاميهم عن ذكر الله يورثهم ملازمة قرناء الشياطين فيلازمونهم مضلين لهم حتى يردوا عذاب الاخرة معهم. فقوله: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا) أي من تعامى عن ذكر الرحمن ونظر إليه نظر الاعشى جئنا إليه بشيطان، وقد عبر تعالى عنه في موضع آخر
الارسال فقال: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا) مريم: 83، وإضافة الذكر إلى الرحمن للاشارة إلى أنه رحمة. وقوله: (فهو له قرين) أي مصاحب لا يفارقه. قوله تعالى: (وإنهم ليصدونهم عن السبيل يحسبون أنهم مهتدون) ضمير (أنهم) للشياطين، وضمائر الجمع الباقية للعاشين عن الذكر، واعتبار الجمع نظرا إلى المعنى في (ومن يعش) الخ، والصد الصرف، والمراد بالسبيل ما يدعو إليه الذكر من سبيل الله الذي هو دين التوحيد. والمعنى: وإن الشياطين ليصرفون العاشين عن الذكر ويحسب العاشون أنهم - أي العاشين أنفهسم - مهتدون إلى الحق. وهذا أعني حسبانهم أنهم مهتدون عند انصدادهم عن سبيل الحق امارة تقييض القرين ودخولهم تحت ولاية الشيطان فإن الانسان بطبعه الاولي مفطور على الميل إلى الحق ومعرفته إذا عرض عليه ثم إذا عرض عليه فأعرض عنه اتباعا للهوى ودام عليه طبع الله على قلبه وأعمى بصره وقيض له القرين فلم ير الحق الذي تراءى له وطبق الحق الذي يميل إليه بالفطرة على الباطل الذي يدعوه إليه الشيطان فيحسب أنه مهتد وهو ضال ويخيل إليه أنه على الحق وهو على الباطل. وهذا هو الغطاء الذي يذكر تعالى أنه مضروب عليهم في الدنيا وأنه سينكشف عنهم يوم القيامة، قال تعالى: (الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري - إلى أن قال - قل هل ننبئكم با لاخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) الكهف: 104، وقال فيما يخاطبه يوم القيامة ومعه قرينه: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) - إلى أن قال - (قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد) ق: 27.
[ 103 ]
قوله تعالى: (حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين (حتى) غاية لاستمرار الفعل الذي يدل عليه قوله في الاية السابقة: (يصدونهم) وقوله: (يحسبون) أي لا يزال القرناء يصدونهم ولا يزالون يحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا الواحد منهم. والمراد بالمجئ إليه تعالى البعث، وضمير (جاء) و (قال) راجع الى الموصول باعتبار لفظه، والمراد بالمشرقين المشرق والمغرب غلب فيه جانب المشرق. والمعنى: وإنهم يستمرون على صدهم عن السبيل ويستمر العاشون عن الذكر على حسبان أنهم مهتدون في انصدادهم حتى إذا حضر الواحد منهم عندنا ومعه قرينه وكشف له عن ضلاله وما يستتبعه من العذاب الاليم، قال مخاطبا لقرينه متأذيا من صحابته: يا ليت بيني وبينك بعد المشرق والمغرب فبئس القرين أنت. ويستفاد من السياق أنهم معذبون بصحابة القرناء وراء عذابهم بالنار، ولذا يتمنون التباعد عنهم ويخصونه بالذكر وينسون سائر العذاب. قوله تعالى: (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون) الظاهر أنه معطوف على ما قبله من وصف حالهم، والمراد باليوم يوم القيامة، وقوله: (أنكم في العذاب مشتركون) فاعل (لن ينفعكم) والمراد بضمير جمع المخاطب العاشون عن الذكر وقرناؤهم، و (إذ ظلمتم) واقع موقع التعليل. والمراد - والله أعلم - أنكم إذا أساء بعضكم إلى بعض في الدنيا فأوقعه في مصيبة ربما تسليتم بعض التسلي لو ابتلي هو نفسه بمثل ما ابتلاكم به فينفعكم ذلك تسليا وتشفيا لكن لا ينفعكم يوم القيامة اشتراك قرنائكم معكم في العذاب فإن اشتراكهم معكم في العذاب وكونهم معكم في النار هو بعينه عذاب لكم. وذكر بعض المفسرين أن فاعل (لن ينفعكم) ضمير راجع إلى تمنيهم المذكور في الاية السابقة، وقوله: (إذ ظلمتم) أي لاجل ظلمكم أنفسكم في الدنيا باتباعكم
إياهم في الكفر والمعاصي، وقوله: (أنكم في العذاب مشتركون تعليل لنفي النفع والمعنى: ولن ينفعكم تمني التباعد عنكم لان حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب. وفيه أن فيه تدافعا فإنه أخذ قوله: (إذ ظلمتم) تعليلا لنفي نفع التمنيي أولا
[ 104 ]
وقوله: (أنكم في العذاب مشتركون) تعليلا له ثانيا ولازم التطابق بين التعليلين أن يذكر ثانيا القضاء على المتمنين التابعين بالعذاب لا باشتراك التابعين والمتبوعين فيه. وقال بعضهم: معنى الاية أنه لا يخفف الاشتراك عنكم شيئا من العذاب لان لكل واحد منكم ومن قرنائكم الحظ الاوفر من العذاب. وفيه أن ما ذكر من سبب عدم النفع وإن فرض صحيحا في نفسه لكن لا دلالة عليه من جهة لفظ الاية ولا سياق الكلام. وقال بعضهم: المعنى: لا ينفعكم اشتراككم في العذاب كما ينفع الواقعين في شدائد الدنيا اشتراكهم فيها لتعاونهم في تحمل أعبائها وتقسمهم لعنائها لان لكل منكم ومن قرنائكم من العذاب ما لا تبلغه طاقته. وفيه ما في سابقه من الكلام، ورد أيضا بأن الانتفاع بذلك الوجه ليس مما يخطر ببالهم حتى يرد عليهم بنفيه. قوله تعالى: (أفانت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين) لما ذكر تقييضه القرناء لهم وتقليبهم إدراكهم بحيث يرون الضلال هدى ولا يقدرون على معرفة الحق فرع عليه أن نبه صلى الله عليه وآله وسلم أن هؤلاء صم عمي لا يقدر هو على إسماعهم كلمة الحق وهدايتهم إلى سبيل الرشد فلا يتجشم ولا يتكلف في دعوتهم ولا يحزن لاعراضهم، والاستفهام للانكار، الباقي ظاهر. قوله تعالى: (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم
فإنا عليهم مقتدرون) المراد بالاذهاب به توفيه صلى الله عليه وآله وسلم قبل الانتقام منهم، وقيل: المراد إذهابه بإخراجه من بينهم، وقوله: (فإنا منهم منتقمون) أي لا محالة، والمراد بإراءته ما وعدهم الانتقام منهم قبل توفيه صلى الله عليه وآله وسلم أو حال كونه بينهم، وقوله: (فإنا عليهم مقتدرون) أي اقتدارنا يفوق عليهم. وقوله في الصدر: (فإما نذهبن بك) أصله إن نذهب بك زيدت عليه ما والنون للتأكيد، ومحصل الاية إنا منتقمون منهم بعد توفيك أو قبلها لا محالة. قوله تعالى: (فاستمسك بالذي أوحي اليك إنك على صراط مستقيم) الظاهر أنه تفريع لجميع ما تقدم من أن إنزال الذكر من طريق الوحي والنبوة من سننه تعالى
[ 105 ]
وأن كتابه النازل عليه حق وهو رسول مبين لا يستجيب دعوته إلا المتقون ولا يعرض عنها إلا قرناء الشياطين، ولا مطمع في إيمانهم وسينتقم الله منهم. فأكد عليه الامر بعد ذلك كله أن يجد في التمسك بالكتاب الذي أوحي إليه لانه على صراط مستقيم. قوله تعالى: (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) الظاهر أن المراد بالذكر ذكر الله، وبهذا المعنى تكرر مرارا في السورة، واللام في (لك ولقومك) للاختصاص بمعنى توجه ما فيه من التكاليف إليهم، ويؤيده بعض التأييد قوله: (وسوف تسألون) أي عنه يوم القيامة. وعن أكثر المفسرين أن المراد بالذكر الشرف الذي يذكر به، والمعنى: وإنه لشرف عظيم لك ولقومك من العرب تذكرون به بين الامم. قوله تعالى: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون) قيل: المراد بالسؤال منهم السؤال من أممهم وعلماء دينهم كقوله تعالى: (فاسأل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك) يونس: 94، وفائدة هذا المجاز أن المسؤول
عنه السؤال منهم عين ما جاءت به رسلهم لا ما يجيبونه من تلقاء أنفسهم. وقيل: المراد السؤال من أهل الكتابين: التوراة والانجيل فإنهم وإن كفروا لكن الحجة تقوم بتواتر خبرهم، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والتكليف لامته. وبعد الوجهين غير خفي ويزيد الثاني بعدا التخصيص بأهل الكتابين من غير مخصص ظاهر. وقيل: الاية مما خوطب به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المعراج أن يسأل أرواح الانبياء عليه السلام وقد اجتمع بهم أن يسألهم هل جاؤا بدين وراء دين التوحيد. وقد وردت به غير واحدة من الروايات عن أئمة أهل البيت صلى الله عليه وآله وسلم وسيوافيك في البحث الروائي الاتي إن شاء الله.
[ 106 ]
(بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبه) وقيل: الكلمة الباقية في عقبه هي الامامة إلى يوم الدين. عن أبي عبد الله عليه السلام. أقول: وفي هذا المعنى روايات اخر وقد طبقت الاية في بعضها على الامامة في عقب الحسين عليه السلام. والتأمل في الروايات يعطي أن بناءها على إرجاع الضمير في (جعلها) الى الهداية المفهومة من قوله: (سيهدين) وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: إني جاعلك للناس إماما) أن الامام وظيفته هداية الناس في ملكوت أعمالهم بمعنى سوقهم إلى الله سبحانه بارشادهم وإيرادهم درجات القرب من الله سبحانه وإنزال كل ذي عمل منزله الذي يستدعيه عمله، وحقيقة الهداية من الله سبحانه وتنسب إليه بالتبع أو بالعرض. وفعلية الهداية النازلة من الله إلى الناس تشمله أولا ثم تفيض عنه الى غيره فله أتم الهداية ولغيره ما هي دونها وما ذكره إبراهيم عليه السلام في قوله: (فإنه سيهدين)
هداية مطلقة تقبل الانطباق على أتم مراتب الهداية التي هي حظ الامام منها فهي الامامة وجعلها كلمة باقية في عقبه جعل الامامة كذلك. وفي الاحتجاج عن العسكري عن أبيه عليه السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قاعدا ذات يوم بفناء الكعبة إذ قال له عبد الله بن امية المخزومي: لو أراد الله أن يبعث الينا رسولا لبعث أجل من فيما بيننا مالا وأحسنه حالا فهلا نزل هذا القرآن الذي تزعم أن الله أنزله عليك وابتعثك به رسولا، على رجل من القريتين عظيم: إما الوليد بن المغيرة بمكة وإما عروة بن مسعود الثقفي بالطائف. ثم ذكر عليه السلام في كلام طويل جواب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قوله بما في معنى الايات. ثم قال: وذلك قوله تعالى: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) قال الله: (أهم يقسمون رحمة ربك) يا محمد (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) فأحوجنا بعضنا الى بعض أحوج هذا الى مال ذلك وأحوج ذلك الى سلعة هذا والى خدمته. فترى أجل الملوك وأغنى الاغنياء محتاجا الى أفقر الفقراء في ضرب من الضروب
[ 107 ]
إما سلعة معه، وإما خدمة يصلح لها لا يتهيأ لذلك الملك أن يستغني إلا به وإما باب من العلوم والحكم هو فقير إلى أن يستفيدها من هذا الفقير الذي يحتاج الى مال ذلك الملك الغني، وذلك الملك يحتاج إلى علم هذا الفقير أو رأيه أو معرفته. ثم ليس للملك أن يقول: هلا اجتمع الى مالي علم هذا الفقير ولا للفقير أن يقول: هلا اجتمع الى رأيي ومعرفتي وعلمي وما أتصرف فيه من فنون الحكم مال هذا الملك الغني، ثم قال تعالى: (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا). ثم قال: يا محمد (ورحمة ربك خير مما يجمعون) أي ما يجمعه هؤلاء من أموال الدنيا.
وفي الكافي بإسناده عن سعيد بن المسيب قال: سألت علي بن الحسين عليه السلام عن قول الله عز وجل: (ولولا أن يكون الناس امة واحدة) قال: عنى بذلك امة محمد أن يكونوا على دين واحد كفارا كلهم (لجعلنا لمن يكفر بالرحمان) الى آخر الاية. وفي تفسير القمي بإسناده عن يحيى بن سعيد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (فإما نذهبن بك) يا محمد من مكة الى المدينة فإما رادوك إليها ومنتقمون منهم بعلي بن أبي طالب عليه السلام. وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن قتادة في قوله: (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون) قال: قال أنس ذهب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبقيت النقمة ولم ير الله نبيه في امته شيئا يكرهه حتى قبض ولم يكن نبي قط إلا وقد رأى العقوبة في امته إلا نبيكم رأى ما يصيب امته بعده فما رؤي ضاحكا منبسطا حتى قبض. اقول: وروى فيه هذا المعنى عنه وعن علي بن أبي طالب وعن غيرهما بطرق اخرى. وفيه أخرج ابن مردويه من طريق محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه واله وسلم في قوله تعالى: (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون) نزلت في علي بن أبي طالب انه ينتقم من الناكثين والقاسطين بعدي. أقول: ظاهر الرواية وما قبلها وما في معناهما أن الوعيد في الايتين للمنحرفين عن الحق من أهل القبلة دون كفار قريش.
[ 108 ]
وفي الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث طويل يقول فيه: وأما قوله تعالى: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا) فهذا من براهين نبينا صلى الله عليه وآله وسلم التي آتاه الله إياها وأوجب به الحجة على سائر خلقه لانه لما ختم به الانبياء وجعله الله رسولا إلى
جميع الامم وسائر الملل خصه بالارتقاء إلى السماء عند المعراج وجمع له يومئذ الانبياء فعلم منهم ما أرسلوا به وحملوه من عزائم الله وآياته وبراهينه. الحديث. أقول: وروى هذا المعنى القمي في تفسيره بإسناده عن أبي الربيع عن أبي جعفر عليه السلام في جواب ما سأله نافع بن الازرق، ورواه في الدر المنثور بطرق عن سعيد ابن جبير وابن جريح وابن زيد. * * * ولقد أرسلنا موسى باياتنا إلى فرعون وملائه فقال إنى رسول رب العالمين - 46. فلما جاءهم باياتنا إذا هم منها يضحكون - 47. وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون - 48. وقالوا يا أيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون - 49. فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون - 50. ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الانهار تجري من تحتي أفلا تبصرون - 51. أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين - 52. فلو لا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين - 53. فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين - 54. فلما
[ 109 ]
آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين - 55. فجعلناهم سلفا ومثلا للاخرين - 56. (بيان) لما ذكر طغيانهم بعد تمتيعهم بنعمه ورميهم الحق الذي جاءهم به رسول مبين بأنه سحر وأنهم قالوا: (لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) فرجحوا الرجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكثرة ماله مثل لهم بقصة موسى عليه السلام وفرعون وقومه
حيث أرسله الله إليهم باياته الباهرة فضحكوا منها واستهزؤابها، واحتج فرعون فيما خاطب به قومه على أنه خير من موسى بملك مصر وأنهار تجري من تحته فاستخفهم فأطاعوه فال أمر استكبارهم أن انتقم الله منهم فأغرقهم. قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى باياتنا إلى فرعون وملاه فقال إني رسول رب العالمين) اللام في (لقد) للقسم، والباء في قوله: (باياتنا) للمصاحبة، والباقي ظاهر. قوله تعالى: (فلما جاءهم باياتنا إذا هم منها يضحكون) المراد بمجيئهم بالايات إظهار المعجزات للدلالة على الرسالة، والمراد بالضحك ضحك الاستهزاء استخفافا بالايات. قوله تعالى: (وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها) الخ، الاخت المثل، وقوله: (هي أكبر من أختها) كناية عن كون كل واحدة منها بالغة في الدلالة على حقية الرسالة، وجملة وما نريهم من آية) الخ، حال من ضمير (منها)، والمعنى: فلما أتاهم بالمعجزات إذا هم منها يضحكون والحال أن كلا منها تامة كاملة في إعجازها ودلالتها من غير نقص ولا قصور. وقوله: (وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون) أي رجاء أن يرجعوا عن استكبارهم إلى قبول رسالته، والمراد بالعذاب الذي أخذوا به آيات الرجز التي نزلت عليهم من السنين ونقص من الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات كما في سورة الاعراف.
[ 110 ]
قوله تعالى: (وقالوا يا أيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون) ما في (بما عهد عندك) مصدرية أي بعهده عندك والمراد به عهده أن يكشف عنهم العذاب لو آمنوا كما قيل أو أن يستجيب دعاءه إذا دعا كما احتمله بعضهم. وقولهم: يا أيها الساحر خطاب استهزاء استكبارا منهم كما قالوا: ادع ربك
ولم يقولوا: ادع ربنا أو ادع الله استكبارا، والمراد أنهم طلبوا منه الدعاء لكشف العذاب عنهم ووعدوه الاهتداء. وقيل: معنى الساحر في عرفهم العالم وكان الساحر عندهم عظيما يعظمونه ولم يكن صفة ذم. وليس بذاك بل كانوا ساخرين على استكبارهم كما يشهد به قولهم: ادع لنا ربك. قوله تعالى: (فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون) النكث نقض العهد وخلف الوعد، ووعدهم هو قولهم: (إننا لمهتدون). قوله تعالى: (ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الانهار تجري من تحتي أفلا تبصرون) أي ناداهم وهو بينهم، وفصل (قال) لكونه في موضع جواب السؤال كأنه قيل: فماذا قال ؟ فقيل: قال كذا. وقوله: (وهذه الانهار تجري من تحتي) أي من تحت قصري أو من بستاني الذي فيه قصري المرتفع العالي البناء، والجملة أعني قوله: و (هذه الانهار) الخ، حالية أو (وهذه الانهار) معطوف على (ملك مصر) وقوله: (تجري من تحتي) حال من الانهار، والانهار أنهار النيل. وقوله: (أفلا تبصرون) في معنى تكرير الاستفهام السابق في قوله: (أليس لى ملك مصر) الخ، قوله تعالى: (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين) المهين الحقير الضعيف من المهانة بمعنى الحقارة، ويريد بالمهين موسى عليه السلام لما به من الفقر ورثاثة الحال. وقوله: (ولا يكاد يبين) أي يفصح عن مراده ولعله كان يصف موسى عليه السلام به باعتبار ما كان عليه قبل الرسالة لكن الله رفع عنه ذلك لقوله: (قال قد أوتيت سؤلك يا موسى) طه: 36 بعد قوله عليه السلام: (واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي طه: 28.
[ 111 ]
وقوله في صدر الاية: (أم أنا خير) الخ، أم فيه إما منقطعة لتقرير كلامه السابق والمعنى: بل أنا خير من موسى لانه كذا وكذا، وإما متصلة، وأحد طرفي الترديد محذوف مع همزة الاستفهام، والتقدير: أهذا خير أم أنا خير الخ، وفي المجمع قال سيبويه والخليل: عطف أنا بأم على (أفلا تبصرون) لان معنى (أنا خير) معنى أم تبصرون فكأنه قال: أفلا تبصرون ام تبصرون لانهم إذا قالوا له: أنت خير منه فقد صاروا بصراء عنده انتهى. أي إن وضع (أم أنا خير) موضع أم تبصرون من وضع المسبب موضع السبب أو بالعكس. وكيف كان فالاشارة الى موسى بهذا من دون أن يذكر باسمه للتحقير وتوصيفه بقوله: (الذي هو مهين ولا يكاد يبين) للتحقير وللدلالة على عدم خيريته. قوله تعالى: (فلو لا القي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين) الاسورة جمع سوار بالكسر، وقال الراغب: هو معرب دستواره قالوا: كان من دأبهم أنهم إذا سودوا رجلا سوروه بسوار من ذهب وطوقوه بطوق من ذهب فالمعنى لو كان رسولا وساد الناس بذلك لالقي إليه أسورة من ذهب. وقوله: (أو جاء معه الملائكة مقترنين) الظاهر أن الاقتران بمعنى التقارن كالاستباق والاستواء بمعنى التسابق والتساوي، والمراد إتيان الملائكة معه متقارنين لتصديق رسالته، وهذه الكلمة مما تكررت على لسان مكذبي الرسل كقولهم: (لو لا انزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) الفرقان: 7. قوله تعالى: (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين) أي استخف عقول قومه وأحلامهم، والباقي ظاهر. قوله تعالى: (فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين) الايساف الاغضاب أي فلما أغضبونا بفسوقهم انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين، والغضب منه تعالى
إرادة العقوبة. قوله تعالى: (فجعلناهم سلفا ومثلا للاخرين) السلف المتقدم والظاهر أن المراد بكونهم سلفا للاخرين تقدمهم عليهم في دخول النار، والمثل الكلام السائر الذي يتمثل به ويعتبر به، والظاهر أن كونهم مثلا لهم كونهم مما يعتبر به الاخرون لو اعتبروا واتعظوا.
[ 112 ]
(بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: (ولا يكاد يبين) قال: لم يبين الكلام. وفي التوحيد بإسناده الى أحمد بن أبي عبد الله رفعه الى أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل (فلما آسفونا انتقمنا منهم) قال: إن الله لا يأسف كأسفنا ولكنه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون - وهم مخلوقون مدبرون فجعل رضاهم لنفسه رضى وسخطهم لنفسه سخطا وذلك لانه جعلهم الدعاة إليه والادلاء عليه فلذلك صاروا كذلك. وليس أن ذلك يصل الى الله كما يصل الى خلقه ولكن هذا معنى ما قال من ذلك، وقد قال أيضا من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ودعاني إليها، وقال أيضا: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) وقال أيضا: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) وكل هذا وشبهه على ما ذكرت لك، وهكذا الرضا والغضب وغيرهما من الاشياء مما يشا كل ذلك. ولو كان يصل الى المكون الاسف والضجر وهو الذي أحدثهما وأنشأهما لجاز لقائل أن يقول: ان المكون يبيد يوما لانه إذا دخله الضجر والغضب دخله التغيير فإذا دخله التغيير لم يؤمن عليه الابادة، ولو كان ذلك كذلك لم يعرف المكون من المكون ولا القادر من المقدور ولا الخالق من المخلوقين تعالى الله عن هذا القول علوا كبيرا.
هو الخالق للاشياء لا لحاجة فإذا كان لا لحاجة استحال الحد والكيف فيه فافهم ذلك إن شاء الله. أقول: وروى مثله في الكافي بإسناده عن محمد بن اسماعيل بن بزيع عن عمه حمزة بن بزيع عنه عليه السلام. * * * ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون - 57. وقالوا ءآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم
[ 113 ]
خصمون - 58. إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل - 59. ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الارض يخلفون - 60. وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم - 61. ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين - 62. ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون - 63. إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم - 64. فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم - 65. (بيان) إشارة إلى قصة عيسى بعد الفراغ عن قصة موسى عليه السلام وقدم عليها مجادلتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عيسى عليه السلام وأجيب عنها. قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون - إلى قوله - خصمون) الاية إلى تمام أربع آيات أو ست آيات حول جدال القوم فيما ضرب من مثل ابن مريم، والذي يتحصل بالتدبر فيها نظرا إلى كون السورة مكية ومع قطع النظر
عن الروايات هو أن المراد بقوله: (ولما ضرب ابن مريم مثلا) هو ما أنزله الله من وصفه في أول سورة مريم فإنها السورة المكية الوحيدة التي وردت فيها قصة عيسى بن مريم عليه السلام تفصيلا، والسورة تقص قصص عدة من النبيين بما أن الله أنعم عليهم كما تختتم قصصهم بقوله: (اولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين) مريم: 58، وقد وقع في
[ 114 ]
هذه الايات قوله: (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه) وهو من الشواهد على كون قوله: (ولما ضرب ابن مريم مثلا) إشارة إلى ما في سورة مريم. والمراد بقوله: (إذا قومك منه يصدون) بكسر الصاد أي يضجون ويضحكون ذم لقريش في مقابلتهم المثل الحق بالتهكم والسخرية، وقرئ (يصدون) بضم الصاد أي يعرضون وهو أنسب للجملة التالية. وقوله: (وقالواء آلهتنا خير أم هو) الاستفهام للانكار أي آلهتنا خير من ابن مريم كأنهم لما سمعوا اسمه بما يصفه القرآن به من النعمة والكرامة أعرضوا عنه بما يصفه به القرآن وأخذوه بما له من الصفة عند النصارى أنه إله ابن إله فردوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن آلهتنا خير منه وهذا من أسخف الجدال كأنهم يشيرون بذلك إلى أن الذي في القرآن من وصفه لا يعتنى به وما عند النصارى لا ينفع فإن آلهتهم خير منه. وقوله: (ما ضربوه لك إلا جدلا) أي ما وجهوا هذا الكلام: (ءآلهتنا خير أم هو) اليك إلا جدلا يريدون به إبطال المثل المذكور وإن كان حقا (بل هم قوم خصمون) أي ثابتون على خصومتهم مصرون عليها. وقوله: (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه) رد لما يستفاد من قولهم: (ءآلهتنا خير أم هو) أنه إله النصارى كما سيجئ. وقال الزمخشري في الكشاف وكثير من المفسرين ونسب إلى ابن عباس وغيره في تفسير الاية: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قرأ قوله تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب
جهنم) على قريش امتعضوا من ذلك امتعاضا شديدا فقال ابن الزبعرى: يا محمد، أخاصة لنا ولالهتنا أم لجميع الامم ؟ فقال عليه السلام: هو لكم ولالهتكم ولجميع الامم. فقال: خصمتك ورب الكعبة ألست تزعم أن عيسى بن مريم نبي وتثني عليه خيرا وعلى أمه ؟ وقد علمت أن النصارى يعبدونهما، وعزير يعبد والملائكة يعبدون فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ففرحوا وضحكوا وسكت النبي صلى الله عليه واله وسلم فأنزل الله: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى اولئك عنها مبعدون) ونزلت هذه الاية. والمعنى: ولما ضرب ابن الزبعرى عيسى بن مريم مثلا وجادل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعبادة النصارى إياه إذا قومك يعني قريشا من هذا المثل يضجون فرحا وضحكا بما
[ 115 ]
سمعوا منه من إسكات رسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا: (ءآلهتنا خير أم هو أي إن عيسى عندك خير من آلهتنا وإذا كان هو حصب جهنم فأمر آلهتنا هين. ما ضربوا هذا المثل لك إلا جدلا وغلبة في القول لا لميز الحق من الباطل. وفيه أنه تقدم في تفيسر قوله: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) الانبياء: 98، أن هذه الرواية بما فيها من وجوه الوهن والخلل ضعيفة لا يعبأ بها حتى نقل عن الحافظ ابن حجر أن الحديث لا أصل له ولم يوجد في شئ من كتب الحديث لا مسندا ولا غير مسند. وقصة ابن الزبعرى هذه وإن رويت من طرق الشيعة على وجه سليم عن المناقشة لكن لم يذكر فيها نزول قوله: (ولما ضرب ابن مريم) الاية هناك. على أن ظاهر قوله: (ضرب ابن مريم مثلا) وقوله: (ءآلهتنا خير أم هو) لا يلائم ما فسرته تلك الملاءمة. وقيل: إنهم لما سمعوا قوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) آل عمران: 59، قالوا: نحن أهدى من النصارى لانهم يعبدون آدميا ونحن نعبد الملائكة.
يريدون أرباب الاصنام - فالهتنا خير من إلههم فالذي ضرب المثل بابن مريم هو الله سبحانه، وقولهم: (ءآلهتنا خير أم هو) لتفضيل آلهتهم على عيسى لا بالعكس كما في الوجه السابق. وفيه أن قوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) مدنية. وهذه الايات أعني قوله: (ولما ضرب ابن مريم) الخ، آيات مكية من سورة مكية. على أن الاساس في قولهم - على هذا الوجه - تفضيلهم أنفسهم على النصارى فلا يرتبط على هذا قوله: (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه) الخ، بما تقدمه. وقيل: إنهم لما سمعوا قوله: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) ضجوا وقالوا: ما يريد محمد بهذا إلا أن نعبده كما يعبد النصارى المسيح، وآلهتنا خير منه أي من محمد. وفيه ما في سابقه.
(1) في البحث الروائي المعقود بعد الاية. (*)
[ 116 ]
وقيل: مرادهم بقولهم: (ءآلهتنا خير أم هو) التنصل والتخلص عما أنكر عليهم من قولهم: الملائكة بنات الله، ومن عبادتهم لهم كأنهم قالوا: ما كان ذلك منا بدعا فإن النصارى يعبدون المسيح وينسبونه إلى الله وهو بشر ونحن نعبد الملائكة وننسبهم إلى الله وهم أفضل من البشر. وفيه أنه لا يفي بتوجيه قوله: (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون) على أن قوله: (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه) على هذا الوجه لا يرتبط بما قبله كما في الوجهين السابقين. وقيل: معنى قولهم: (ءآلهتنا خير أم هو) أن مثلنا في عبادة الالهة مثل النصارى في عبادة المسيح فأيهما خير ؟ عبادة آلهتنا أم عبادة المسيح ؟ فإن قال: عبادة
المسيح خير فقد اعترف بعبادة غير الله، وإن قال: عبادة الالهة فكذلك، وإن قال: ليس في عبادة المسيح خير فقد قصر به عن منزلته وجوابه أن اختصاص المسيح بضرب من التشريف والانعام من الله تعالى لا يوجب جواز عبادته. وفيه أنه في نفسه لا بأس به لكن الشأن في دلالة قوله تعالى: (ءآلهتنا خير أم هو) على هذا التفصيل. وقال في المجمع في الوجوه التي أوردها في معنى الاية: ورابعها ما رواه سادة أهل البيت عن علي عليه السلام أنه قال: جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما فوجدته في ملا من قريش فنظر إلي ثم قال: يا علي، إنما مثلك في هذه الامة مثل عيسى بن مريم أحبه قوم فأفرطوا في حبه فهلكوا، وأبغضه قوم فأفرطوا في بغضه فهلكوا، واقتصد فيه قوم فنجوا. فعظم ذلك عليهم فضحكوا وقالوا: يشبهه بالانبياء والرسل، فنزلت الاية. أقول: والرواية غير متعرضة لتوجيه قولهم: (ءآلهتنا خير أم هو) ولئن كانت القصة سببا للنزول فمعنى الجملة: لئن نتبع ءآلهتنا ونطيع كبراءنا خير من أن نتولى عليا فيتحكم علينا أو خير من أن نتبع محمدا فيحكم علينا ابن عمه. ويمكن أن يكون قوله: (وقالوا ءآلهتنا خير أم هو) الخ، استئنافا والنازل في القصة هو قوله: (ولما ضرب ابن مريم مثلا) الاية. قوله تعالى: (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل) الذي
[ 117 ]
يستدعيه السياق أن يكون الضمير لابن مريم، والمراد بكونه مثلا - على ما قيل - كونه آية عجيبة إلهية يسير ذكره كالامثال السائرة. والمعنى: ليس ابن مريم إلا عبدا متظاهرا بالعبودية أنعمنا عليه بالنبوة وتأييده بروح القدس وإجراء المعجزات الباهرة على يديه وغير ذلك وجلعناه آية عجيبة خارقة
نصف به الحق لبني إسرائيل. وهذا المعنى كما ترى رد لقولهم: (ءآلهتنا خير أم هو) الظاهر في تفضيلهم آلهتهم في ألوهيتها على المسيح عليه السلام في ألوهيته ومحصله أن المسيح لم يكن إلها حتى ينظر في منزلته في ألوهيته وإنما كان عبدا أنعم الله عليه بما أنعم، وأما آلهتهم فنظر القرآن فيهم ظاهر. قوله تعالى: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الارض يخلفون) الظاهر أن الاية متصلة بما قبلها مسرودة لرفع استبعاد أن يتلبس البشر من الكمال ما يقصه القرآن عن عيسى عليه السلام فيخلق الطير ويحيي الموتى ويكلم الناس في المهد إلى غير ذلك، فيكون كالملائكة المتوسطين في الاحياء والاماتة والرزق وسائر أنواع التدبير ويكون مع ذلك عبدا غير معبود ومألوها غير إله فإن هذا النوع من الكمال عند الوثنية مختص بالملائكة وهو ملاك الوهيتهم ومعبوديتهم وبالجملة هم يحيلون تلبس البشر بهذا النوع من الكمال الذي يخصونه بالملائكة. فاجيب بأن لله أن يزكي الانسان ويطهره من أدناس المعاصي بحيث يصير باطنه باطن الملائكة فظاهره ظاهر البشر وباطنه باطن الملك يعيش في الارض يخلف مثله ويخلفه مثله ويظهر منه ما يظهر من الملائكة. وعلى هذا فمن في قوله (منكم) للتبعيض، وقوله: (يخلفون) أي يخلف بعضهم بعضا. وفي المجمع أن (من) في قوله: (منكم) تفيد معنى البدلية كما في قوله:
(1) وليس هذا من الانقلاب الحال في شئ بل نوع من التكامل الوجودي بالخروج من حد منه أدنى إلى حإ منه أعلى كما بين في محله. (*)
[ 118 ]
فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على الطهيان
وقوله: (يخلفون) أي يخلفون بني آدم ويكونون خلفاء لهم، والمعنى: ولو نشاء أهلكناكم وجعلنا بدلكم ملائكة يسكنون الارض ويعمرونها ويعبدون الله. وفيه أنه لا يلائم النظم تلك الملاءمة. قوله تعالى: (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم) ضمير (إنه) لعيسى عليه السلام والمراد بالعلم ما يعلم به، والمعنى: وإن عيسى يعلم به الساعة في خلقه من غير أب وإحيائه الموتى فيعلم به أن الساعة ممكنة فلا تشكوا في الساعة ولا ترتابوا فيها البتة. وقيل: المراد بكونه علما للساعة كونه من أشراطها ينزل على الارض فيعلم به قرب الساعة. وقيل: الضمير للقرآن وكونه علما للساعة كونه آخر الكتب المنزلة من السماء. وفي الوجهين جميعا خفاء التفريع الذي في قوله: (فلا تمترن بها). وقوله: (واتبعون هذا صراط مستقيم) قيل: هو من كلامه تعالى، والمعنى: اتبعوا هداي أو شرعي أو رسولي، وقيل: من كلام الرسول بأمر منه تعالى. قوله تعالى: (ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين) الصد الصرف، والباقي ظاهر. قوله تعالى: (ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة) الخ، المراد بالبينات الايات البينات من المعجزات، وبالحكمة المعارف الالهية من العقائد الحقة والاخلاق الفاضلة. وقوله: (ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه) أي في حكمه من الحوادث والافعال، والذي يختلفون فيه وإن كان أعم من الاعتقادات التي يختلف في كونها حقة أو باطلة والحوادث والافعال التي يختلف في مشروع حكمها لكن المناسب لسبق قوله: (قد جئتكم بالحكمة) أن يختص ما اختلفوا فيه بالحوادث والافعال والله أعلم.
(1) الطهيان قلة الجبل، ومعنى البيت: ليت لنا بدلا من ماء زمزم شربة من الماء مبردة بقيت ليلة على قلة الجبل. (*)
[ 119 ]
وقيل: المراد بقوله: (بعض الذي تختلفون فيه) كل الذي تختلفون فيه. وهو كما ترى. وقيل المراد: لابين لكم أمور دينكم دون أمور دنياكم ولا دليل عليه من لفظ الاية ولا من المقام. وقوله: (فاتقوا الله وأطيعون) نسب التقوى إلى الله والطاعة إلى نفسه ليسجل أنه لا يدعي إلا الرسالة. قوله تعالى: (إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) دعوة منه إلى عبادة الله وحده وأنه هو ربه وربهم جميعا وإتمام للحجة على من يقول بالوهيته. قوله تعالى: (فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم) ضمير (من بينهم) لمن بعث إليهم عيسى عليه السلام والمعنى: فاختلف الاحزاب المتشعبة من بين أمته في أمر عيسى من كافر به قال فيه، ومن مؤمن به غال فيه، ومن مقتصد لزم الاعتدال. وقوله: (فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم) تهديد ووعيد للقالي منهم والغالي * * * هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون - 66. الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين - 67. يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون - 68. الذين آمنوا باياتنا وكانوا مسلمين - 69. أدخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون - 70. يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الانفس وتلذ الاعين وأنتم فيها خالدون - 71. وتلك الجنة التي أور ثتموها
بما كنتم تعملون - 72. لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون - 73.
[ 120 ]
إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون - 74. لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون - 75. وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين - 76. ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون - 77. لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون - 78. (بيان) رجوع إلى إنذار القوم وفيه تخويفهم بالساعة والاشارة إلى ما يؤل إليه حال المتقين والمجرمين فيها من الثواب والعقاب. قوله تعالى: (هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون) النظر الانتظار، والبغتة الفجأة، و المراد بعدم شعور هم بها غفلتهم عنها لاشتغالهم بامور الدنيا كما قال تعالى: (ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون) يس: 49، فلا يتكرر المعنى في قوله: (بغتة وهم لا يشعرون). والمعنى: ما ينتظر هؤلاء الكفار بكفرهم و تكذيبهم لايات الله إلا أن تأتيهم الساعة مباغتة لهم وهم غافلون عنها مشتغلون بامور دنياهم أي إن حالهم حال من هدده الهلاك فلم يتوسل بشئ من أسباب النجاة وقعد ينتظر الهلاك ففي الكلام كناية عن عدم اعتنائهم بالايمان بالحق ليتخلصوا به عن أليم العذاب. قوله تعالى: (الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) الاخلاء جمع خليل وهو الصديق حيث يرفع خلة صديقه وحاجته، والظاهر أن المراد بالاخلاء المطلق الشامل للمخالة والتحاب في الله كما في مخالة المتقين أهل الاخرة والمخالة في غيره كما في مخالة أهل الدنيا فاستثناء المتقين متصل. والوجه في عداوة الاخلاء غير المتقين أن من لوازم المخالة إعانة أحد الخليلين
الاخر في مهام اموره فإذا كانت لغير وجه الله كان فيها الاعانة على الشقوة الدائمة والعذاب الخالد كما قال تعالى حاكيا عن الظالمين يوم القيامة: (يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا
[ 121 ]
لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني) الفرقان: 29، وأما الاخلاء من المتقين فإن مخالتهم تتأكد وتنفعهم يومئذ. وفي الخبر النبوي: إذا كان يوم القيامة انقطعت الارحام وقلت الانساب وذهبت الاخوة إلا الاخوة في الله وذلك قوله: (الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين. قوله تعالى: (يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون) من خطابه تعالى لهم يوم القيامة كما يشهد به قوله بعد: (ادخلوا الجنة) الخ، و في الخطاب تأمين لهم من كل مكروه محتمل أو مقطوع به فإن مورد الخوف المكروه المحتمل ومورد الحزن المكروه المقطوع به فإذا ارتفعا ارتفعا. قوله تعالى: (الذين آمنوا باياتنا وكانوا مسلمين) الموصول بدل من المنادى المضاف في (يا عباد) أو صفة له، والايات كل ما يدل عليه تعالى من نبي وكتاب وأي آية أخرى دالة، والمراد بالاسلام التسليم لارادة الله وأمره. قوله تعالى: (ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون) ظاهر الامر بدخول الجنة أن المراد بالازواج هي النساء المؤمنات في الدنيا دون الحور العين لانهن في الجنة غير خارجات منها. والحبور - على ما قيل - السرور الذي يظهر أثره وحباره في الوجه والحبرة الزينة وحسن الهيئة، والمعنى: ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم المؤمنات والحال أنكم تسرون سرورا يظهر أثره في وجوهكم أو تزينون بأحسن زينة. قوله تعالى: (يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب) الخ الصحاف جمع
صحفة وهي القصعة أو أصغر منها، والاكواب جمع كوب وهو كوز لا عروة له، وفي ذكر الصحاف والاكواب إشارة إلى تنعمهم بالطعام والشراب. وفي الالتفات إلى الغيبة في قوله: (يطاف عليهم) بين الخطابين (ادخلوا الجنة) و (أنتم فيها خالدون) تفخيم لاكرامهم وإنعامهم أن ذلك بحيث ينبغي أن يذكر
(1) رواه في الدر المنثور في الاية عن سعد بن معاذ. (*)
[ 122 ]
لغيرهم ليزيد به اغتباطهم ويظهر به صدق ما وعدوا به. وقوله: (وفيها ما تشتهيه الانفس وتلذ الاعين) الظاهر أن المراد بما تشتهيه الانفس ما تتعلق به الشهوة الطبيعية من مذوق ومشموم ومسموع وملموس مما يتشارك فيه الانسان وعامة الحيوان، والمراد بما تلذه الاعين الجمال والزنية وذلك مما الالتذاذ به كالمختص بالانسان كما في المناظر البهجة والوجه الحسن واللباس الفاخر، ولذا غير التعبير فعبر عما يتعلق بالانفس بالاشتهاء وفيما يتعلق بالاعين باللذة وفي هذين القسمين تنحصر اللذائذ النفسانية عندنا. ويمكن أن تندرج اللذائذ الروحية العقلية فيما تلذه الاعين فإن الالتذاذ الروحي يعد من رؤية القلب. قال في المجمع: وقد جمع الله سبحانه في قوله: (ما تشتهيه الانفس وتلذ الاعين) ما لو اجتمع الخلائق كلهم على أن يصفوا ما في الجنة من أنواع النعيم لم يزيدوا على ما انتظمته هاتان الصفتان. انتهى. وقوله: (وأنتم فيها خالدون) إخبار ووعد وتبشير بالخلود ولهم في العلم به من اللذة الروحية ما لا يقاس بغيره ولا يقدر بقدر. قوله تعالى: (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون) قيل: المعنى أعطيتموها بأعمالكم، وقيل أورثتموها من الكفار وكانوا داخليها لو آمنوا وعملوا
صالحا، وقد تقدم الكلام في المعنيين في تفسير قوله تعالى: (أولئك هم الوارثون) المؤمنون: 10. قوله تعالى: (لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون) أضاف الفاكهة الى ما مرت الاشارة إليه من الطعام والشراب لاحصاء النعمة، و (من) في (منها تأكلون) للتبعيض ولا يخلو من إشارة إلى أنها لا تنفد بالاكل. قوله تعالى: (إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لايفتر عنهم وهم فيها مبلسون) المراد بالمجرمين المتلبسون بالاجرام فيكون أعم من الكفار ويؤيده إيراده في مقابلة المتقين وهو أخص من المؤمنين. والتفتير التخفيف والتقليل، والابلاس اليأس ويأسهم من الرحمة أو من الخروج من النار.
[ 123 ]
قوله تعالى: (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين) وذلك أنه تعالى جازاهم بأعمالهم لكنهم ظلموا أنفسهم حيث أوردوها بأعمالهم مورد الشقوة والهلكة. قوله تعالى: (وقالوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون) مالك هو الملك الخازن للنار على ما وردت به الاخبار من طرق العامة والخاصة. وخطابهم مالكا بما يسألونه من الله سبحانه لكونهم محجوبين عنه كما قال تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) المطففين: 15، وقال: (قال اخسؤا فيها ولا تكلمون) المؤمنون: 108. فالمعنى: أنهم يسألون مالكا أن يسأل الله أن يقضي عليهم. والمراد بالقضاء عليهم إماتتهم، ويريدون بالموت الانعدام والبطلان لينجوا بذلك عما هم فيه من الشقوة وأليم العذاب، وهذا من ظهور ملكاتهم الدنيوية فإنهم كانوا يرون في الدنيا أن الموت انعدام وفوت لا انتقال من دار إلى دار فيسألون الموت بالمعنى الذي
ارتكز في نفوسهم وإلا فهم قد ماتوا وشاهدوا ما هي حقيقته. وقوله: (قال إنكم ماكثون) أي فيما أنتم فيه من الحياة الشقية والعذاب الاليم، والقائل هو مالك جوابا عن مسألتهم. قوله تعالى: (لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون) ظاهره أنه من تمام كلام مالك يقوله عن لسان الملائكة وهو منهم، وقيل: من كلامه تعالى ويبعده أنهم محجوبون يومئذ عن ربهم لا يكلمهم الله تعالى. والخطاب لاهل النار بما أنهم بشر، فالمعنى: لقد جئناكم معشر البشر بالحق ولكن أكثركم وهم المجرمون كارهون للحق. وقيل: المراد بالحق مطلق الحق أي حق كان فهم يكرهونه وينفرون منه وأما الحق المعهود الذي هو التوحيد أو القرآن فكلهم كارهون له مشمئزون منه. والمراد بكراهتهم للحق الكراهة بحسب الطبع الثاني المكتسب بالمعاصي والذنوب لا بحسب الطبع الاول الذي هو الفطرة التي فطر الناس عليها إذ لو كرهوه بحسبها لم يكلفوا بقبوله، قال تعالى: (لا تبديل لخلق الله) الروم: 30، وقال: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) الشمس: 8. ويظهر من الاية أن الملاك في السعادة والشقاء قبول الحق ورده.
[ 124 ]
* * * أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون - 79. أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون - 80. قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين - 81. سبحان رب السموات والارض رب العرش عما يصفون - 82. فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون - 83. وهو الذي في السماء إله
وفي الارض إله وهو الحكيم العليم - 84. وتبارك الذي له ملك السموات والارض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون - 85. ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون - 86. ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون - 87. وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون - 88. فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون - 89. (بيان) رجوع إلى سابق الكلام وفيه توبيخهم على ما يريدون من الكيد برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتهديدهم بأن الله يكيدهم، ونفي الولد الذي يقولون به، وإبطال القول بمطلق الشريك وإثبات الربوبية المطلقة لله وحده، وتختتم السورة بالتهديد والوعيد. قوله تعالى: (أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون) الابرام خلاف النقض وهو الاحكام، وام منقطعة.
[ 125 ]
والمعنى: على ما يفيده سياق الاية والاية التالية بل أحكموا أمرا من الكيد بك يا محمد فإنا محكمون الكيد بهم فالاية في معنى قوله تعالى: (أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون) الطور: 42. قوله تعالى: (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم و نجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون) السر ما يستسرونه في قلوبهم والنجوى ما يناجيه بعضهم بعضا بحيث لا يسمعه غيرهما، ولما كان السر حديث النفس عبر عن العلم بالسر والنجوى جميعا بالسمع. وقوله: (بلى ورسلنا لديهم يكتبون) أي بلى نحن نسمع سرهم ونجواهم ورسلنا الموكلون على حفظ أعمالهم عليهم يكتبون ذلك. قوله تعالى: (قل إن كان للرحمان ولد فإنا أول العابدين) إبطال لالوهية الولد بإبطال أصل وجوده من جهة علمه بأنه ليس، والتعبير بإن الشرطية دون لو الدالة على
الامتناع - وكان مقتضى المقام أن يقال: لو كان للرحمن ولد، لاستنزالهم عن رتبة المكابرة إلى مرحلة الانتصاف. والمعنى: قل لهم إن كان للرحمان ولد كما يقولون، فأنا أول من يعبده أداء لحق بنوته ومسانخته لوالده، لكني أعلم أنه ليس ولذلك لا أعبده لا لبغض ونحوه. وقد أوردوا للاية معاني أخرى: منها: أن المعنى لو كان لله ولد كما تزعمون فأنا أعبد الله وحده ولا أعبد الولد الذي تزعمون. ومنها: أن (إن) نافية والمعنى: قل ما كان لله ولد فأنا أول العابدين الموحدين له من بينكم. ومنها: أن (العابدين) من عبد بمعنى أنف والمعنى: قل لو كان للرحمان ولد فأنا أول من أنف واستنكف عن عبادته لان الذي يلد لا يكون إلا جسما والجسمية تنافي الالوهية. ومنها: أن المعنى: كما أني لست أول من عبد الله كذلك ليس لله ولد أي لو جاز لكم أن تدعوا ذاك المحال جاز لي أن أدعي هذا المحال. الى غير ذلك مما قيل لكن الظاهر من الاية ما قدمناه. قوله تعالى: (سبحان رب السماوات والارض رب العرش عما يصفون) تسبيح
[ 126 ]
له سبحانه عما ينسبون إليه، والظاهر أن (رب العرش) عطف بيان لرب السماوات والارض لان المراد بالسماوات والارض مجموع العالم المشهود وهو عرش ملكه تعالى الذي استوى عليه وحكم فيه ودبر أمره. ولا يخلو من إشارة الى حجة على الوحدانية إذ لما كان الخلق مختصا به تعالى حتى باعتراف الخصم وهو من شؤن عرش ملكه، والتدبير من الخلق والايجاد فإنه إيجاد
النظام الجاري بين المخلوقات فالتدبير أيضا من شؤن عرشه فربوبيته للعرش ربوبية لجميع السماوات والارض. قوله تعالى: (فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون) وعيد إجمالي لهم بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاعراض عنهم حتى يلاقوا ما يحذرهم منه من عذاب يوم القيامة. والمعنى: فاتركهم يخوضوا في أباطيلهم ويلعبوا في دنياهم ويشتغلوا بذلك حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدونه وهو يوم القيامة كما ذكر في الايات السابقة: (هل ينظرون إلا الساعة الخ. قوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الارض إله وهو الحكيم العليم) أي هو الذي هو في السماء إله مستحق للمعبودية وهو في الارض إله أي هو المستحق لمعبودية أهل السماوات والارض وحده، ويفيد تكرار (إله) كما قيل التأكيد والدلالة على أن كونه تعالى إلها في السماء والارض بمعنى تعلق ألوهيته بهما لا بمعنى استقراره فيهما أو في أحدهما. وفي الاية مقابلة لما يثبته الوثنية لكل من السماء والارض إلها أو آلهة، وفي تذييل الاية بقوله: (وهو الحكيم العليم) الدال على الحصر إشارة الى وحدانيته في الربوبية التي لازمها الحكمة والعلم. قوله تعالى: (وتبارك الذي له ملك السماوات والارض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه يرجعون) ثناء عليه تعالى بالتبارك وهو مصدريته للخير الكثير. وكل من الصفات الثلاث المذكورة حجة على توحده في الربوبية أما ملكه للجميع فظاهر فإن الربوبية لمن يدبر الامر والتدبير للملك، وأما اختصاص علم الساعة به فلان
[ 127 ]
الساعة هي المنزل الاقصى إليه يسير الكل وكيف يصح أن يرب الاشياء من لا علم له
بمنتهى مسيرها فهو تعالى رب الاشياء لا من يدعونه، وأما رجوع الناس إليه فإن الرجوع للحساب والجزاء وهو آخر التدبير فمن إليه الرجوع فإليه التدبير ومن إليه التدبير له الربوبية. قوله تعالى: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) السياق سياق العموم فالمراد بالذين يدعون، أي يعبدونهم من دونه، كل معبود غيره تعالى من الملائكة والجن والبشر وغيرهم. والمراد (بالحق) الحق الذي هو التوحيد، والشهادة به الاعتراف به، والمراد بقوله: (وهم يعلمون) حيث أطلق العلم علمهم بحقيقة حال من شفعوا له وحقيقة عمله كما قال: (لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا) النبأ: 38، وإذا كان هذا حال الشفعاء لا يملكونها إلا بعد الشهادة بالحق فما هم بشافعين إلا لاهل التوحيد كما قال: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى). والاية مصرحة بوجود الشفاعة. قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون) أي إلى متى يصرفون عن الحق الذي هو التوحيد إلى الباطل الذي هو الشرك، وذلك أنهم معترفون أن لا خالق إلا الله والتدبير الذي هو ملاك الربوبية غير منفك عن الخلق كما اتضح مرارا فالرب المعبود هو الذي بيده الخلق وهو الله سبحانه. قوله تعالى: (وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون) ضمير (قيله) للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بلا إشكال، والقيل مصدر كالقول والقال، و (قيله) معطوف - على ما قيل - على الساعة في قوله: (وعنده علم الساعة)، والمعنى: وعنده علم قوله: (يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون). قوله تعالى: (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون) أمر بالاعراض عنهم وإقناط من إيمانهم، وقوله (قل سلام) أي وادعهم موادعة ترك من غير هم لك
فيهم، وفي قوله: (فسوف يعلمون) تهديد ووعيد.
[ 128 ]
(بحث روائي) في الاحتجاج عن علي عليه السلام في حديث طويل يقول فيه: قوله: (إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) أي الجاحدين، والتأويل في هذا القول باطنه مضاد لظاهره. أقول: الظاهر أن المراد أنه خلاف ما ينصرف إليه لفظ عابد عند الاطلاق. وفي الكافي بإسناده عن هشام بن الحكم قال: قال أبو شاكر الديصاني: إن في القرآن آية هي قولنا. قلت: وما هي ؟ قال: هو الذي في السماء إله وفي الارض إله فلم أدر بما أجيبه فحججت فخبرت أبا عبد الله عليه السلام فقال: هذا كلام زنديق خبيث إذا رجعت إليه فقل: ما اسمك بالكوفة ؟ فإنه يقول: فلان، فقل: ما اسمك بالبصرة ؟ فإنه يقول: فلان، فقل: كذلك الله ربنا في السماء إله، وفي الارض إله، وفي البحار إله، وفي القفار إله، وفي كل مكان إله. قال: فقدمت فأتيت أبا شاكر فأخبرته فقال: هذه نقلت من الحجاز. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة) قال: هم الذين عبدوا في الدنيا لا يملكون الشفاعة لمن عبدهم. وفي الكافي بإسناده عن أبي هاشم الجعفري قال: سألت أبا جعفر الثاني عليه السلام: ما معنى الواحد ؟ فقال: إجماع الالسن عليه بالوحدانية لقوله: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله).
[ 129 ]
(سورة الدخان مكية، وهي تسع وخمسون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. حم - 1. والكتاب المبين - 2.
إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين - 3. فيها يفرق كل أمر حكيم - 4. أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين - 5. رحمة من ربك إنه هو السميع العليم - 6. رب السموات والارض وما بينهما إن كنتم موقنين - 7. لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الاولين - 8. (بيان) يتلخص غرض السورة في إنذار المرتابين في الكتاب بعذاب الدنيا وعذاب الاخرة وقد سيق بيان ذلك بأنه كتاب مبين نازل من عند الله على من أرسله إلى الناس لانذارهم وقد نزل رحمة منه تعالى لعباده خير نزول في ليلة القدر التي فيها يفرق كل أمر حكيم. غير أن الناس وهم الكفار ارتابوا فيه لاعبين في هوساتهم وسيغشاهم أليم عذاب الدنيا ثم يرجعون إلى ربهم فينتقم منهم بعد فصل القضاء بعذاب خالد. ثم يذكر لهم تنظيرا لاول الوعيدين قصة إرسال موسى عليه السلام إلى قوم فرعون لانجاء بنى إسرائيل وتكذيبهم له وإغراقهم نكالا منه.
[ 130 ]
ثم يذكر إنكارهم لثاني الوعيدين وهو الرجوع الى الله في يوم الفصل فيقيم الحجة على أنه آت لا محالة ثم يذكر طرفا من أخباره وما سيجري فيه على المجرمين ويصيبهم من ألوان عذابه، وما سيثاب به المتقون من حياة طيبة ومقام كريم. والسورة مكية بشهادة سياق آياتها. قوله تعالى: (حم والكتاب المبين) الواو للقسم والمراد بالكتاب المبين القرآن. قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين) المراد بالليلة المباركة التي نزل فيها القرآن ليلة القدر على ما يدل عليه قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) القدر: 1، وكونها مباركة ظرفيتها للخير الكثير الذي ينبسط على الخلق من
الرحمة الواسعة، وقد قال تعالى: (وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر) القدر: 3. وظاهر اللفظ أنها إحدى الليالي التي تدور على الارض وظاهر قوله: (فيها يفرق) الدال على الاستمرار أنها تتكرر وظاهر قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) البقرة: 185 أنها تتكرر بتكرر شهر رمضان فهي تتكرر بتكرر السنين القمرية وتقع في كل سنة قمرية مرة واحدة في شهر رمضان، وأما أنها أي ليلة هي ؟ فلا إشعار في كلامه تعالى بذلك، وأما الروايات فستوافيك في البحث الروائي التالي. والمراد بنزول الكتاب في ليلة مباركة على ما هو ظاهر قوله: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) وقوله: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) القدر: 1، وقوله: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) البقرة: 185، أن النازل هو القرآن كله. ولا يدفع ذلك قوله: (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا) أسرى: 106، وقوله: (وقال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) الفرقان: 32، الظاهرين في نزوله تدريجا، ويؤيد ذلك آيات اخر كقوله: (فإذا انزلت سورة محكمة) سورة محمد: 20، وقوله: (وإذا ما انزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض) التوبة: 127 وغير ذلك ويؤيد ذلك أيضا ما لا يحصى من الاخبار المتضمنة لاسباب النزول. وذلك أنه يمكن أن يحمل على نزول القرآن مرتين مرة مجموعا وجملة في ليلة
[ 131 ]
واحدة من ليالي شهر رمضان، ومرة تدريجا ونجوما في مدة ثلاث وعشرين سنة وهي مدة دعوته صلى الله عليه واله وسلم. لكن الذي لا ينبغي الارتياب فيه أن هذا القرآن المؤلف من السور والايات بما
فيه من السياقات المختلفة المنطبقة على موارد النزول المختلفة الشخصية لا يقبل النزول دفعة فإن الايات النازلة في وقائع شخصية وحوادث جزئية مرتبطة بأزمنة وأمكنة وأشخاص وأحوال خاصة لا تصدق إلا مع تحقق مواردها المتفرقة زمانا ومكانا وغير ذلك بحيث لو اجتمعت زمانا ومكانا وغير ذلك انقلبت عن تلك الموارد وصارت غيرها فلا يمكن احتمال نزول القرآن وهو على هيئته وحاله بعينها مرة جملة ومرة نجوما. فلو قيل بنزوله مرتين كان من الواجب أن يفرق بين المرتين بالاجمال والتفصيل فيكون نازلا مرة إجمالا ومرة تفصيلا ونعني بهذا الاجمال والتفصيل ما يشير إليه قوله تعالى: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) هود: 1، وقوله: (إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) الزخرف: 4، وقد مر الكلام في معنى الاحكام والتفصيل في تفسير سورتي هود والزخرف. وقيل: المراد بنزول الكتاب في ليلة مباركة افتتاح نزوله التدريجي في ليلة القدر من شهر رمضان فأول ما نزل من آيات القرآن - وهو سورة العلق أو سورة الحمد - نزل في ليلة القدر. وهذا القول مبني على استشعار منافاة نزول الكتاب كله في ليلة ونزوله التدريجي الذي تدل عليه الايات السابقة وقد عرفت أن لا منافاة بين الايات. على أنك خبير بأنه خلاف ظاهر الايات. وقيل: إنه نزل أولا جملة على السماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل من السماء الدنيا على الارض تدريجا في ثلاث وعشرين سنة مدة الدعوة النبوية. وهذا القول مأخوذ من الاخبار الواردة في تفسير الايات الظاهرة في نزوله جملة وستمر بك في البحث الروائي التالي إن شاء الله. وقوله: (إنا كنا منذرين) واقع موقع التعليل، وهو يدل على استمرار الانذار منه تعالى قبل هذا الانذار، فيدل على أن نزول القرآن من عنده تعالى ليس ببدع،
[ 132 ]
فإنما هو إنذار والانذار سنة جارية له تعالى لم تزل تجري في السابقين من طريق الوحي إلى الانبياء والرسل وبعثهم لانذار الناس. قوله تعالى: (فيها يفرق كل أمر حكيم) ضمير (فيها) لليلة والفرق فصل الشئ من الشئ بحيث يتمايزان ويقابله الاحكام فالامر الحكيم ما لا يتميز بعض أجزائه من بعض ولا يتعين خصوصياته وأحواله كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) الحجر: 21. فللامور بحسب القضاء الالهي مرحلتان: مرحلة الاجمال و الابهام ومرحلة التفصيل، وليلة القدر - على ما يدل عليه قوله: (فيها يفرق كل أمر حكيم - ليلة يخرج فيها الامور من مرحلة الاحكام الى مرحلة الفرق والتفصيل، وقد نزل فيها القرآن وهو أمر من الامور المحكمة فرق في ليلة القدر. ولعل الله سبحانه أطلع نبيه على جزئيات الحوادث التي ستقع في زمان دعوته وما يقارن منها نزول كل آية أو آيات أو سورة من كتابه فيستدعي نزولها وأطلعه على ما ينزل منها فيكون القرآن نازلا عليه دفعة وجملة ه قبل نزوله تدريجا ومفرقا. ومال هذا الوجه اطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على القرآن في مرحلة نزوله إلى القضاء التفصيلي قبل نزوله على الارض واستقراره في مرحله العين، وعلى هذا الوجه لا حاجة إلى تفريق المرتين بالاجمال والتفصيل كما تقدم في الوجه الاول. وظاهر كلام بعضهم أن المراد بقوله: (فيها يفرق كل أمر حكيم) تفصيل الامور المبينة في القرآن من معارف وأحكام وغير ذلك. ويدفعه أن ظاهر قوله: (فيها يفرق) الاستمرار والذي يستمر في هذه الليلة بتكررها تفصيل الامور الكونية بعد إحكامها وأما المعارف والاحكام الالهية فلا استمرار في تفصيلها فلو كان المراد فرقها كان الانسب أن يقال: (فيها فرق).
وقيل: المراد بكون الامر حكيما إحكامه بعد الفرق لا الاحكام الذي قبل التفصيل، والمعنى: يقضى في الليلة كل أمر محكم لا يتغير بزيادة أو نقصان أو غير ذلك هذا، والاظهر ما قدمناه من المعنى. قوله تعالى: (أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين) المراد بالامر الشأن وهو حال من الامر السابق والمعنى فيها يفرق كل أمر حال كونه أمرا من عندنا ومبتدأ من
[ 133 ]
لدنا، ويمكن أن يكون المراد به ما يقابل النهي والمعنى: يفرق فيها كل أمر بأمر منا، وهو على أي حال متعلق بقوله: (يفرق). ويمكن أن يكون متعلقا بقوله: (أنزلناه) أي حال كون الكتاب أمرا أو بأمر من عندنا، وقوله: (إنا كنا مرسلين) لا يخلو من تأييد لذلك، ويكون تعليلا له والمعنى: إنا أنزلناه أمرا من عندنا لان سنتنا الجارية إرسال الانبياء والرسل. قوله تعالى: (رحمة من ربك أنه هو السميع العليم) أي إنزاله رحمة من ربك أو أنزلناه لاجل إفاضة الرحمة على الناس أو لاقتضاء رحمة ربك إنزاله فقوله: (رحمة) حال على المعنى الاول ومفعول له على الثاني والثالث. وفي قوله: (من ربك) التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة ووجهه إظهار العناية بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لانه هو الذي انزل عليه القرآن وهو المنذر المرسل إلى الناس. وقوله: (إنه هو السميع العليم) أي السميع للمسائل والعليم بالحوائج فيسمع مسألتهم ويعلم حاجتهم إلى الاهتداء بهدى ربك فينزل الكتاب ويرسل الرسول رحمة منه لهم. قوله تعالى: (رب السماوات والارض وما بينهما إن كنتم موقنين) لما كانت الوثنية يرون أن لكل صنف من الخلق إلها أو أكثر وربما اتخذ قوم منهم إلها غير ما يتخذه غيرهم عقب قوله: (من ربك) بقوله: (رب السماوات) الخ، لئلا يتوهم
متوهم منهم أن ربوبيته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليست بالاختصاص كالتي بينهم بل هو تعالى ربه ورب السماوات والارض وما بينهما، ولذلك عقبه أيضا في الاية التالية بقوله: (لا إله إلا هو). وقوله: (إن كنتم موقنين) هذا الاشتراط كما ذكره الزمخشري من قبيل قولنا هذا إنعام زيد الذي تسامع الناس بكرمه واشتهروا سخاءه إن بلغك حديثه وحدثت بقصته فالمعنى هو الذي يعرفه الموقنون بأنه رب السماوات والارض وما بينهما إن كنتم منهم عرفتموه بأنه رب كل شئ. قوله تعالى: (لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الاولين) لما كان مدلول الاية السابقة انحصار الربوبية وهي الملك والتدبير فيه تعالى والالوهية وهي
[ 134 ]
المعبودية بالحق من لوازم الربوبية عقبه بكلمة التوحيد النافية لكل إله دونه تعالى. وقوله: (يحيى ويميت) من أخص الصفات به تعالى وهما من شؤن التدبير، وفي ذكرهما نوع تمهيد لما سيأتي من إنذارهم بالمعاد. وقوله: (ربكم ورب آبائكم الاولين) فيه كمال التصريح بأنه ربهم ورب آبائهم فليعبدوه ولا يتعللوا باتباع آبائهم في عبادة الاصنام، ولتكميل التصريح سيقت الجملة بالخطاب فقيل: (ربكم ورب آبائكم). وهما أعني قوله: (يحيى ويميت) وقوله: (ربكم) خبران لمبتدأ محذوف والتقدير هو يحيي ويميت الخ. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة): والليلة المباركة هي ليلة القدر، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام. وفي الكافي بإسناده عن علي بن ابراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة عن الفضيل وزرارة ومحمد بن مسلم عن حمران أنه سأل أبا جعفر عليه السلام عن قول
الله تعالى: (انا أنزلناه في ليلة مباركة) قال: نعم ليلة القدر وهي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الاواخر فلم ينزل القرآن إلا في ليلة القدر قال الله تعالى: (فيها يفرق كل أمر حكيم) قال: يقدر في ليلة القدر كل شئ يكون في تلك السنة الى مثلها من قابل: خير وشر وطاعة ومعصية ومولود وأجل ورزق فما قدر في تلك السنة وقضي فهو المحتوم ولله تعالى فيه المشية. أقول: قوله: فهو المحتوم ولله فيه المشية أي أنه محتوم من جهة الاسباب والشرائط فلا شئ يمنع عن تحققه إلا أن يشاء الله ذلك. وفي البصائر عن عباس بن معروف عن سعدان بن مسلم عن عبد الله بن سنان قال: سألته عن النصف من شعبان فقال: ما عندي فيه شئ ولكن إذا كانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان قسم فيها الارزاق وكتب فيها الاجال وخرج فيها صكاك الحاج واطلع الله إلى عباده فغفر الله لهم إلا شارب خمر مسكر.
[ 135 ]
فإذا كانت ليلة ثلاث وعشرين فيها يفرق كل أمر حكيم ثم ينهى ذلك ويمضى ذلك. قلت: إلى من ؟ قال: إلى صاحبكم ولو لا ذلك لم يعلم. وفي الدر المنثور أخرج محمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: (فيها يفرق كل أمر حكيم) قال: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو موت أو حياة أو مطر حتى يكتب الحاج: يحج فلان ويحج فلان. أقول: والاخبار في ليلة القدر وما يقضى فيها وفي تعيينها كثيرة جدا وسيأتي عمدتها في تفسير سورة القدر إن شاء الله تعالى. * * * بل هم في شك يلعبون - 9. فارتقب يوم تأتي السماء بدخان
مبين - 10. يغشى الناس هذا عذاب أليم - 11. ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون - 12. أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين - 13. ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون - 14. إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون - 15. يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون - 16. ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم - 17. أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين - 18. وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين - 19. وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون - 20. وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون - 21. فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون - 22.
[ 136 ]
فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون - 23. واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون - 24. كم تركوا من جنات وعيون - 25. وزروع ومقام كريم - 26. ونعمة كانوا فيها فاكهين - 27. كذلك وأورثناها قوما آخرين - 28. فما بكت عليهم السماء والارض وما كانوا منظرين - 29. ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين - 30. من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين - 31. ولقد اخترناهم على علم على العالمين - 32. وآتيناهم من الايات ما فيه بلاء مبين - 33. (بيان) تذكر الايات ارتيابهم في كتاب الله بعد ما ذكرت أنه كتاب مبين نازل في خير ليلة على رسوله لغرض الانذار رحمة من الله، ثم تهددهم بعذاب الدنيا وبطش يوم القيامة وتتمثل لهم بقصة إرسال موسى الى قوم فرعون وتكذيبهم له وإغراقهم. ولا تخلو القصة من إيماء إلى أنه تعالى سينجي النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين به من عتاة
قريش بإخراجهم من مكة ثم إهلاك صناديد قريش في تعقيبهم النبي والمؤمنين به. قوله تعالى: (بل هم في شك يلعبون) ضمير الجمع لقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاضراب عن محذوف يدل عليه السياق السابق أي إنهم لا يوقنون ولا يؤمنون بما ذكر من رسالة الرسول وصفة الكتاب الذي أنزل عليه بل هم في شك وارتياب فيه يلعبون بالاشتغال بدنياهم، وذكر الزمخشري أن الاضراب عن قوله: (إن كنتم موقنين). قوله تعالى: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس) الارتقاب الانتظار وهذا وعيد بالعذاب وهو إتيان السماء بدخان مبين يغشى الناس.
[ 137 ]
واختلف في المراد بهذا العذاب المذكور في الاية. فقيل: المراد به المجاعة التي ابتلى بها أهل مكة فإنهم لما أصروا على كفرهم وأذاهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين به دعا عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: اللهم سنين كسني يوسف فأجدبت الارض وأصابت قريشا مجاعة شديدة، وكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان وأكلوا الميتة والعظام ثم جاؤوا الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم وقومك قد هلكوا، ووعدوه إن كشف الله عنهم الجدب أن يؤمنوا، فدعا وسأل الله لهم بالخصب والسعة فكشف عنهم ثم عادوا الى كفرهم ونقضوا عهدهم. وقيل: إن الدخان المذكور في الاية من أشراط الساعة وهو لم يأت بعد وهو يأتي قبل قيام الساعة فيدخل أسماع الناس حتى أن رؤسهم تكون كالرأس الحنيذ. ويصيب المؤمن منه مثل الزكمة وتكون الارض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص ويمكث ذلك أربعين يوما. وربما قيل: إن المراد بيوم الدخان يوم فتح مكة حين دخل جيش المسلمين مكة فارتفع الغبار كالدخان المظلم، وربما قيل: المراد به يوم القيامة، و القولان كما ترى. وقوله: (يغشى الناس) أي يشملهم ويحيط بهم، والمراد بالناس أهل مكة
على القول الاول، وعامة الناس على القول الثاني. قوله تعالى: (هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) حكاية قول الناس عند نزول عذاب الدخان أي يقول الناس يوم تأتي السماء بدخان مبين: هذا عذاب أليم ويسألون الله كشفه بالاعتراف بربوبيته وإظهار الايمان بالدعوة الحقة فيقولون: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون. قوله تعالى: (أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين) أي من أين لهم أن يتذكروا ويذعنوا بالحق و الحال أنه قد جاءهم رسول مبين ظاهر في رسالته لا يقبل الارتياب وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الاية رد صدقهم في وعدهم. قوله تعالى: (ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون) التولي الاعراض، وضمير
(1) الخصاص: الثقبة والفرجة. (*)
[ 138 ]
(عنه) للرسول و (معلم مجنون) خبران لمبتدا محذوف هو ضمير راجع إلى الرسول والمعنى: ثم أعرضوا عن الرسول وقالوا هو معلم مجنون فرموه أولا بأنه معلم يعلمه غيره فيسند ما تعلمه إلى الله سبحانه، قال تعالى: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر) النحل: 103، وثانيا بأنه مجنون مختل العقل. قوله تعالى: (إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون) أي إنا كاشفون للعذاب زمانا انكم عائدون إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب هذا بناء على القول الاول والاية تأكيد لرد صدقهم فيما وعدوه من الايمان. وأما على القول الثاني فالاقرب أن المعنى: إنكم عائدون الى العذاب يوم القيامة. قوله تعالى: (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون) البطش - على ما ذكره الراغب - تناول الشئ بصولة، وهذا اليوم بناء على القول الاول المذكور يوم بدر وبناء على القول الثاني يوم القيامة، وربما أيد توصيف البطشة بالكبرى هذا القول الثاني
فإن بطش يوم القيامة وعذابه أكبر البطش والعذاب، قال تعالى: (فيعذبه الله العذاب الاكبر) الغاشية: 24، كما أن أجره أكبر الاجر قال تعالى: (ولاجر الاخرة أكبر) النحل: 41. قوله تعالى: (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم) الفتنة الامتحان والابتلاء للحصول على حقيقة الشئ، وقوله: (وجاءهم رسول كريم) الخ، تفسير للامتحان، والرسول الكريم موسى عليه السلام، والكريم هو المتصف بالخصال الحميدة قال الراغب: الكرم إذا وصف الله تعالى به فهو اسم لاحسانه وإنعامه المتظاهر نحو قوله: (إن ربي غني كريم) وإذا وصف به الانسان فهو اسم للاخلاق والافعال المحمودة التي تظهر منه، ولا يقال: هو كريم حتى يظهر ذلك منه، قال: وكل شئ شرف في بابه فإنه يوصف بالكرم قال تعالى: (وأنبتنا فيها من كل زوج كريم) (وزروع ومقام كريم) (إنه لقرآن كريم) (وقل لهما قولا كريما) انتهى. قوله تعالى: (أن أدوا إلى عباد الله إني لكم رسول أمين) تفسير لمجئ الرسول فإن معنى مجئ الرسول تبليغ الرسالة وكان من رسالة موسى عليه السلام الى فرعون وقومه أن يرسلوا معهم بني إسرائيل ولا يعذبوهم، والمراد بعباد الله بنو إسرائيل وعبر عنهم
[ 139 ]
بذلك استرحاما وتلويحا الى أنهم في استكبارهم وتعديهم عليهم إنما يستكبرون على الله لانهم عباد الله. وفي قوله: (إنى لكم رسول أمين) حيث وصف نفسه بالامانة دفع لاحتمال أن يخونهم في دعوى الرسالة وإنجاء بني إسرائيل من سيطرتهم فيخرج معهم عليهم فيخرجهم من أرضهم كما حكى تعالى عن فرعون إذ قال للملا حوله: (إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره) الشعراء: 25. وقيل: (عباد الله) نداء لفرعون وقومه والتقدير أن أدوا إلى ما آمركم به
يا عباد الله، ولا يخلو من التقدير المخالف للظاهر. قوله تعالى: (وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين) أي لا تتجبروا على الله بتكذيب رسالتي والاعراض عما أمركم الله فإن تكذيب الرسول في رسالته استعلاء وتجبر على من أرسله والدليل على أن المراد ذلك تعليل النهي بقوله: (إني آتيكم بسلطان مبين) أي حجة بارزة من الايات المعجزة أو حجة المعجزة وحجة البرهان. قيل: ومن حسن التعبير الجمع بين التأديه والامين وكذا بين العلو والسلطان. قوله تعالى: (وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون) أي التجأت إليه تعالى من رجمكم إياي فلا تقدرون على ذلك، والظاهر أنه إشارة الى ما آمنه ربه قبل المجئ الى القوم كما في قوله تعالى: (قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى) طه: 46. وبما مر يظهر فساد ما قيل: إن هذا كان قبل أن يخبره الله بعجزهم عن رجمه بقوله سبحانه: (فلا يصلون اليكما). قوله تعالى: (وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون) أي إن لم تؤمنوا لي فكونوا بمعزل مني لا لي ولا علي ولا تتعرضوا لي بخير أو شر، وقيل المراد تنحوا عني وانقطعوا، وهو بعيد. قوله تعالى: (فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون) أي دعاه بأن هؤلاء قوم مجرمون وقد ذكر من دعائه السبب الداعي له الى الدعاء وهو إجرامهم الى حد يستحقون معه الهلاك ويعلم ما سأله مما أجاب به ربه تعالى إذ قال: (فأسر بعبادي)
[ 140 ]
الخ، وهو الاهلاك. قوله تعالى: (فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون الاسراء: السير بالليل فيكون قوله: (ليلا) تأكيدا له وتصريحا به، والمراد بعبادي بنو إسرائيل، وقوله: (إنكم
متبعون) أي يتبعكم فرعون وجنوده، وهو استئناف يخبر عما سيقع عقيب الاسراء. وفي الكلام إيجاز بالحذف والتقدير فقال له: أسر بعبادي ليلا إنكم متبعون يتبعكم فرعون وجنوده. قوله تعالى: (واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون) قال في المفردات: واترك البحر رهوا أي ساكنا، وقيل: سعة من الطريق وهو الصحيح. انتهى. وقوله: (إنهم جند مغرقون) تعليل لقوله: (واترك البحر رهوا. وفي الكلام إيجاز بالحذف اختصارا والتقدير: أسر بعبادي ليلا يتبعكم فرعون وجنوده حتى إذا بلغتم البحر فاضربه بعصاك لينفتح طريق لجوازكم فجاوزوه واتركه ساكنا أو مفتوحا على حاله فيدخلونه طمعا في إدراككم فهم جند مغرقون. قوله تعالى: (كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك) (كم) للتكثير أي كثيرا ما تركوا، وقوله: (من جنات) الخ... بيان لما تركوا، والمقام الكريم المساكن الحسنة الزاهية، والنعمة بفتح النون التنعم وبناؤها بناء المرة كالضربة وبكسر النون قسم من التنعم وبناؤها بناء النوع كالجلسة وفسروا النعمة ههنا بما يتنعم به وهو أنسب للترك، وفاكهين من الفكاهة بمعنى حديث الانس ولعل المراد به ههنا التمتع كما يتمتع بالفواكه وهي أنواع الثمار. وقوله: (كذلك) قيل: معناه الامر كذلك، وقيل: المعنى نفعل فعلا كذلك لمن نريد إهلاكه، وقيل: الاشارة إلى الاخراج المفهوم من الكلام السابق، والمعنى: مثل ذلك الاخراج أخرجناهم منها. ويمكن أن يكون حالا من مفعول (تركوا) المحذوف والمعنى: كثيرا ما تركوا أشياء كذلك أي على حالها والله أعلم. قوله تعالى: (وأورثناها قوما آخرين) الضمير لمفعول (تركوا) المحذوف المبين بقوله: (من جنات) الخ، والمعنى ظاهر.
[ 141 ]
قوله تعالى: (فما بكت عليهم السماء والارض وما كانوا منظرين) بكاء السماء والارض على شئ فائت كناية تخييلية عن تأثر هما عن فوته وفقده فعدم بكائهما عليهم بعد إهلاكهم كناية عن هوان أمرهم على الله وعدم تأثير هلاكهم في شئ من أجزاء الكون. وقوله: (وما كانوا منظرين) كناية عن سرعة جريان القضاء الالهي والقهر الربوبي في حقهم وعدم مصادفته لمانع يمنعه أو يحتاج إلى علاج في رفعه حتى يتأخر به. قوله تعالى: (ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين) وهو ما يصيبهم وهم في أسارة فرعون من ذبح الابناء واستحياء النساء وغير ذلك. قوله تعالى: (من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين) (من فرعون) بدل من قوله: (من العذاب) إما بحذف مضاف والتقدير من عذاب فرعون، أو من غير حذف بجعل فرعون عين العذاب دعوى للمبالغة، وقوله: (إنه كان عاليا من المسرفين) أي متكبرا من أهل الاسراف والتعدي عن الحد. قوله تعالى: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين) أي اخترناهم على علم منا باستحقاقهم الاختيار على ما يفيده السياق. والمراد بالعالمين جميع العالمين من الامم إن كان المراد بالاختيار الاختيار من بعض الوجوه ككثرة الانبياء فإنهم يمتازون من سائر الامم بكثرة الانبياء المبعوثين منهم ويمتازون بأن مر عليهم دهر طويل في التيه وهم يتظلون بالغمام ويأكلون المن والسلوى إلى غير ذلك. وعالمو أهل زمانهم إن كان المراد بالاختيار مطلقة فإنهم لم يختاروا على الامة الاسلامية التي خاطبهم الله تعالى بمثل قوله: (كنت خير أمة أخرجت للناس) آل عمران: 110، وقوله: (هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج) الحج: 78. قوله تعالى: (وآتيناهم من الايات ما فيه بلاء مبين) البلاء الاختبار والامتحان
أي وأعطينا بني إسرائيل من الايات المعجزات ما فيه امتحان ظاهر ولقد أوتوا من الايات المعجزات ما لم يعهد في غيرهم من الامم وابتلوا بذلك ابتلاء مبينا. قيل: وفي قوله: (فيه) إشارة إلى أن هناك امورا اخرى ككونه معجزة. وفي تذييل القصة بهذه الايات الاربع أعني قوله: (ولقد نجينا بني إسرائيل
[ 142 ]
- إلى قوله - بلاء مبين) نوع تطييب لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإيماء إلى أن الله تعالى سينجيه والمؤمنين به من فراعنة مكة ويختارهم ويمكنهم في الارض فينظر كيف يعملون. (بحث روائي) عن جوامع الجامع في قوله تعالى: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين) واختلف في الدخان فقيل: إنه دخان يأتي من السماء قبل قيام الساعة يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام ويكون الارض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص يمد ذلك أربعين يوما، وروي ذلك عن علي وابن عباس والحسن. أقول: ورواه في الدر المنثور عنهم وأيضا عن حذيفة بن اليمان وأبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورواه أيضا عن ابن عمر موقوفا. وفي تفسير القمي في الاية قال: ذلك إذا خرجوا في الرجعة من القبر - يغشى الناس كلهم الظلمة فيقولون: هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون. وفي المجمع وروى زرارة بن أعين عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: بكت السماء على يحيى بن زكريا والحسين بن علي عليه السلام أربعين صباحا. قلت: فما بكاؤها ؟ قال: كانت تطلع حمراء وتغيب حمراء. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن عبيد المكتب عن إبراهيم قال: ما بكت السماء منذ كانت الدنيا إلا على اثنين. قيل لعبيد: أليس السماء والارض تبكي على المؤمن ؟
قال: ذاك مقامه وحيث يصعد عمله. قال: وتدري ما بكاء السماء ؟ قال: لا. قال: تحمر وتصير وردة كالدهان. إن يحيى بن زكريا لما قتل احمرت السماء وقطرت دما، وإن الحسين بن علي يوم قتل احمرت السماء. وفي الفقيه عن الصادق عليه السلام قال: إذا مات المؤمن بكت عليه بقاع الارض التي كان يعبد الله عز وجل فيها والباب الذي كان يصعد منه عمله وموضع سجوده.
(1) الخليذ: المشوي. (*)
[ 143 ]
أقول: وفي هذا المعنى ومعنى الروايتين السابقتين روايات أخر من طرق الشيعة وأهل السنة. ولو بني في معنى بكاء السماء والارض على ما يظهر من هذه الروايات لم يحتج إلى حمل بكائهما على الكناية التخييلية. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (وقالوا معلم مجنون) قال: قالوا ذلك لما نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فأخذه الغشي فقالوا: هو مجنون. * * * إن هؤلاء ليقولون - 34. إن هي إلا موتتنا الاولى وما نحن بمنشرين - 35. فأتوا بابائنا إن كنتم صادقين - 36. أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين - 37. وما خلقنا السموات والارض وما بينهما لاعبين - 38. ما خلقنا هما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون - 39. إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين - 40. يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون - 41. إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم - 42. إن شجرت الزقوم - 43. طعام الاثيم - 44. كالمهل يغلي في
البطون - 45. كغلي الحميم - 46. خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم - 47. ثم صبوا فوق رأسه من عذاب لحميم - 48. ذق إنك أنت العزيز الكريم - 49. إن هذا ما كنتم به تمترون - 50.
[ 144 ]
إن المتقين في مقام أمين - 51. في جنات وعيون - 52. يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين - 53. كذلك وزوجناهم بحور عين - 54. يدعون فيها بكل فاكهة آمنين - 55. لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الاولى ووقاهم عذاب الجحيم - 56. فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم - 57. فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون - 58. فارتقب إنهم مرتقبون - 59. (بيان) لما أنذر القوم بالعذاب الدنيوي ثم بالعذاب الاخروي وتمثل للعذاب الدنيوي بما جرى على قوم فرعون إذ جاءهم موسى عليه السلام بالرسالة من ربه فكذبوه فأخذهم الله بعذاب الاغراق فاستأصلهم. رجع الى الكلام في العذاب الاخروي فذكر إنكار القوم للمعاد وقولهم أن ليس بعد الموتة الاولى حياة فاحتج على إثبات المعاد بالبرهان ثم أنبا عن بعض ما سيلقاه المجرمون من العذاب في الاخرة وبعض ما سيلقاه المتقون من النعيم المقيم وعند ذلك تختتم السورة بما بدأت به وهو نزول الكتاب للتذكر وأمره صلى الله عليه وآله وسلم بالارتقاب. قوله تعالى: (إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الاولى وما نحن بمنشرين) رجوع الى أول الكلام من قوله: (بل هم في شك يلعبون) والاشارة بهؤلاء الى قريش ومن يلحق بهم من العرب الوثنيين المنكرين للمعاد، وقولهم: (إن هي إلا موتتنا الاولى) يريدون به نفي الحياة بعد الموت الملازم لنفي المعاد بدليل قولهم بعده: (وما
نحن بمنشرين) أي بمبعوثين، قال في الكشاف يقال: أنشر الله الموتى ونشرهم إذا بعثهم. انتهى.
[ 145 ]
فقولهم: (إن هي إلا موتتنا الاولى) الضمير فيه للعاقبة والنهاية أي ليست عاقبة أمرنا ونهاية وجودنا وحياتنا إلا موتتنا الاولى فنعدم بها ولا حياة بعدها أبدا. ووجه تقييد الموتة في الاية بالاولى، بأنه ليس بقيد احترازي إذ لا ملازمة بين الاول والاخر أو بين الاول والثاني فمن الجائز أن يكون هناك شئ أول ولا ثاني له ولا في قباله آخر، كذا قيل. وهناك وجه آخر ذكره الزمخشري في الكشاف فقال: فإن قلت: كان الكلام واقعا في الحياة الثانية لا في الموت فهلا قيل: إلا حياتنا الاولى وما نحن بمنشرين كما قيل: إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين، وما معنى قوله: (إلا موتتنا الاولى) ؟ وما معنى ذكر الاولى ؟ كأنهم وعدوا موتة أخرى حتى نفوها وجحدوها وأثبتوا الاولى. قلت: معناه - والله الموفق للصواب - أنهم قيل لهم: إنكم تموتون موتة تتعقبها حياة كما تقدمتكم موتة قد تعقبتها حياة وذلك قوله عز وجل: (وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) فقالوا: إن هي إلا موتتنا الاولى يريدون ما الموتة التي من شأنها أن تتعقبها حياة إلا الموتة الاولى دون الموتة الثانية، وما هذه الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقب الحياة لها إلا للموتة الاولى خاصة فلا فرق إذا بين هذا وبين قوله: (إن هي إلا حياتنا الدنيا) في المعنى انتهى. ويمكن أن يوجه بوجه ثالث وهو أن يقولوا: (إن هي إلا موتتنا الاولى) بعد ما سمعوا قوله تعالى: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) الاية، وقد تقدم في تفسير الاية أن الاماتة الاولى هي الموتة بعد الحياة الدنيا، والاماتة الثانية هي التي بعد
الحياة البرزخية فهم في قولهم: (إن هي إلا موتتنا الاولى) ينفون الموتة الثانية الملازمة للحياة البرزخية التي هي حياة بعد الموت فإنهم يرون موت الانسان انعداما له وبطلانا لذاته. ويمكن أن يوجه بوجه رابع وهو أن يرجع التقيد بالاولى الى الحكاية دون المحكي وذلك بأن يكون الذي قالوا إنما هو (إن هي إلا موتتنا) ويكون معنى الكلام
[ 146 ]
أن هؤلاء ينفون الحياة بعد الموت ويقولون: إن هي إلا موتتنا يريدون الموتة الاولى من الموتتين اللتين ذكرنا في قولنا: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين) الاية. والوجوه الاربع مختلفة في القرب من الفهم فأقربها ثالثها ثم الرابع ثم الاول. قوله تعالى: (فأتوا بابائنا إن كنتم صادقين) تتمة كلام القوم وخطاب منهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين به حيث كانوا يذكرون لهم البعث والاحياء فاحتجوا لرد الاحياء بعد الموت بقولهم: (فأتوا بابائنا إن كنتم صادقين) أي فليحي آباؤنا الماضون بدعائكم أو بأي وسيلة اتخذتموها حتى نعلم صدقكم في دعواكم أن الاموات سيحيون وأن الموت ليس بانعدام. قوله تعالى: (أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين) تهديد للقوم بالاهلاك كما أهلك قوم تبع والذين من قبلهم من الامم. وتبع هذا ملك من ملوك الحمير باليمن واسمه على ما ذكروا أسعد أبو كرب وقيل: سعد أبو كرب وسيأتي في البحث الروائي نبذة من قصته وفي الكلام نوع تلويح إلى سلامة تبع نفسه من الاهلاك. قوله تعالى: (وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون) ضمير التثنية في قوله: (وما بينهما) لجنسي السماوات والارض ولذا لم يجمع، والباء في قوله (بالحق) للملابسة أي ما خلقنا هما إلا متلبستين
بالحق، وجوزبعضهم كونها للسببية أي ما خلقنا هما بسبب من الاسباب إلا بسبب الحق الذي هو الايمان والطاعة والبعث والجزاء، ولا يخفى بعده. ومضمون الايتين حجة برهانية على ثبوت المعاد وتقريرها أنه لو لم يكن وراء هذا العالم عالم ثابت باق بل كان الله لا يزال يوجد أشياء ثم يعدمها ثم يوجد أشياء أخر ثم يعدمها ويحيي هذا ثم يميته ويحيي آخر وهكذا كان لاعبا في فعله عابثا به واللعب عليه تعالى محال ففعله حق له غرض صحيح فهناك عالم آخر باق دائمي ينتقل إليه الاشياء وما في هذا العالم الدنيوي الفاني البائد مقدمة للانتقال إلى ذلك العالم وهو الحياة الاخرة. وقد فصلنا القول في هذا البرهان في تفسير الاية 16 من سورة الانبياء والاية 27 من سورة ص فليراجع.
[ 147 ]
وقوله: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) تقريع لهم بالجهل. قوله تعالى: (إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين) بيان لصفة اليوم الذي يثبته البرهان السابق وهو يوم القيامة الذي فيه يقوم الناس لرب العالمين. وسماه الله يوم الفصل لانه يفصل فيه بين الحق والباطل وبين المحق والمبطل والمتقين والمجرمين أو لانه يوم القضاء الفصل منه تعالى. وقوله: (ميقاتهم أجمعين) أي موعد الناس أجمعين أو موعد من تقدم ذكره من قوم تبع وقوم فرعون ومن تقدمهم وقريش وغيرهم. قوله تعالى: (يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون) بيان ليوم الفصل، والمولى هو الصاحب الذي له أن يتصرف في أمور صاحبه ويطلق على من يتولى الامر وعلى من يتولى أمره والمولى الاول في الاية هو الاول والثاني هو الثاني. والاية تنفي أولا إغناء مولى عن مولاه يومئذ، وتخبر ثانيا أنهم لا ينصرون والفرق بين المعنيين أن الاغناء يكون فيما استقل المغني في عمله ولا يكون لمن يغني عنه
صنع في ذلك، والنصرة إنما تكون فيما كان للمنصور بعض أسباب الظفر الناقصة ويتم له ذلك بنصرة الناصر. والوجه في انتفاء الاغناء والنصر يومئذ أن الاسباب المؤثرة في نشأة الحياة الدنيا تسقط يوم القيامة، قال تعالى: (وتقطعت بهم الاسباب) البقرة: 166، وقال: (فزيلنا بينهم) يونس: 28. قوله تعالى: (إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم) استثناء من ضمير (لا ينصرون) والاية من أدلة الشفاعة يومئذ وقد تقدم تفصيل القول في الشفاعة في الجزء الاول من الكتاب. هذا على تقدير رجوع ضمير (لا ينصرون) الى الناس جميعا على ما هو الظاهر. وأما لو رجع الى الكفار كما قيل فالاستثناء منقطع والمعنى: لكن من رحمه الله وهم المتقون فإنهم في غنى عن مولى يغني عنهم وناصر ينصرهم. وأما ما جوزه بعضهم من كونه استثناء متصلا من (مولى) فقد ظهر فساده مما قدمناه فإن الاغناء إنما هو فيما لم يكن عند الانسان شئ من أسباب النجاة ومن كان
[ 148 ]
على هذه الصفة لم يغن عنه مغن ولا استثناء والشفاعة نصرة تحتاج إلى بعض أسباب النجاة وهو الدين المرضي وقد تقدم في بحث الشفاعة، نعم يمكن أن يوجه بما سيجئ في رواية الشحام. وقوله: (إنه هو العزيز الرحيم) أي الغالب الذي لا يغلبه شئ حتى يمنعه من تعذيب من يريد عذابه، ومفيض الخير على من يريد أن يرحمه ويفيض الخير عليه ومناسبة الاسمين الكريمين لمضامين الايات ظاهرة. قوله تعالى: (إن شجرة الزقوم طعام الاثيم) تقدم الكلام في شجرة الزقوم في تفسير سورة الصافات، والاثيم من استقر فيه الاثم إما بالمداومة على معصية أو بالاكثار
من المعاصي والاية إلى تمام ثمان آيات بيان حال أهل النار. قوله تعالى: كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم) المهل هو المذاب من النحاس والرصاص وغيرهما، والغلي والغليان معروف، والحميم الماء الحار الشديد الحرارة، وقوله: (كالمهل) خبر ثان لقوله: (إن) كما أن قوله: (طعام الاثيم) خبر أول، وقوله: (يغلي في البطون كغلي الحميم) خبر ثالث، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: (خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم) الاعتلاء الزعزعة والدفع بعنف وسواء الجحيم وسطه، والخطاب للملائكة الموكلين على النار أي نقول للملائكة خذوا الاثيم وادفعوه بعنف الى وسط النار لتحيط به قال تعالى: (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) التوبة: 49. قوله تعالى: (ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم) كأن المراد بالعذاب ما يعذب به، وإضافته الى الحميم بيانية والمعنى: ثم صبوا فوق رأسه من الحميم الذي يعذب به. قوله تعالى: (ذق إنك أنت العزيز الكريم) خطاب يخاطب به الاثيم وهو يقاسي العذاب بعد العذاب، وتوصيفه بالعزة والكرامة على ما هو عليه من الذلة واللامة استهزاء به تشديدا لعذابه وقد كان يرى في الدنيا لنفسه عزة وكرامة لا تفارقانه كما يظهر مما حكى الله سبحانه من قوله: (وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت الى ربي إن لي عنده للحسنى) حم السجدة: 50.
[ 149 ]
قوله تعالى: (إن هذا ما كنتم به تمترون) الامتراء الشك والارتياب، والاية تتمه قولهم له: (ذق) الخ، وفيها تأكيد وإعلام لهم بخطإهم وزلتهم في الدنيا حيث ارتابوا فيما يشاهدونه اليوم من العذاب مشاهدة عيان، ولذا عبر عن تحمل العذاب بالذوق لما أنه يعبر عن إدراك ألم المولمات ولذة الملذات إدراكا تاما بالذوق.
ويمكن أن تكون الاية استئنافا من كلام الله سبحانه يخاطب به الكفار بعد ذكر حالهم في يوم القيامة، وربما أيده قوله: (كنتم به تمترون) بخطاب الجمع والخطاب في الايات السابقة بالافراد. قوله تعالى: (إن المتقين في مقام أمين) المقام محل القيام بمعنى الثبوت والركوز ولذا فسر أيضا بموضع الاقامة، والامين صفة من الامن بمعنى عدم إصابة المكروه، والمعنى: إن المتقين - يوم القيامة - ثابتون في محل ذي أمن من إصابة المكروه مطلقا. وبذلك يظهر أن نسبة الامن إلى المقام بتوصيف المقام بالامين من المجاز في النسبة. قوله تعالى: (في جنات وعيون) بيان لقوله: (في مقام أمين) وجعل العيون ظرفا لهم باعتبار المجاورة ووجودها في الجنات التي هي ظرف، وجمع الجنات باعتبار اختلاف أنواعها أو باعتبار أن لكل منهم وحده جنة أو أكثر. قوله تعالى: يلبسون من سندس واستبرق متقابلين) السندس الرقيق من الحرير والاستبرق الغليظ منه وهما معربان من الفارسية. وقوله: (متقابلين) أي يقابل بعضهم بعضا للاستيناس إذ لا شر ولا مكروه عندهم لكونهم في مقام أمين. قوله تعالى: (كذلك وزوجناهم بحور عين) أي الامر كذلك أي كما وصفناه والمراد بتزويجهم بالحور جعلهم قرناء لهن من الزوج بمعنى القرين وهو أصل التزويج في اللغة، والحور جمع حوراء بمعنى شديدة سواد العين وبياضها أو ذات المقلة السوداء كالظباء، والعين جمع عيناء بمعنى عظيمة العينين، وظاهر كلامه تعالى أن الحور العين غير نساء الدنيا الداخلة في الجنة. قوله تعالى: (يدعون فيها بكل فاكهة آمنين) أي آمنين من ضررها.
[ 150 ]
قوله تعالى: (لا يذوقون فيها الموت إلا الموته الاولى ووقاهم عذاب الجحيم) أي إنهم في جنة الخلد أحياء بحياة أبدية لا يعتريها موت. وقد استشكل في الاية بأن استثناء الموتة الاولى من قوله: (لا يذوقون فيها الموت) يفيد أنهم يذوقون الموتة الاولى فيها، والمراد خلافه قطعا، وبتقرير آخر الموتة الاولى هي موتة الدنيا وقد مضت بالنسبة إلى أهل الجنة، والتلبس في المستقبل بأمر ماض محال قطعا فما معنى استثناء الموتة الاولى من عدم الذوق في المستقبل ؟ وهنا إشكال آخر لم يتعرضوا له وهو أنه قد تقدم في قوله تعالى: (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) المؤمن: 11، أن بين الحياة الدنيا والساعة موتتين: موتة بالانتقال من الدنيا الى البرزخ وموتة بالانتقال من البرزخ الى الاخرة، والظاهر أن المراد بالموتة الاولى في الاية هي موتة الدنيا الناقلة للانسان الى البرزخ فهب أنا أصلحنا استثناء الموتة الاولى بوجه فما بال الموتة الثانية لم تستثن ؟ وما الفرق بينهما وهما موتتان ذاقوهما قبل الدخول في جنة الخلد ؟ وأجيب عن الاشكال الاول بأن الاستثناء منقطع، والمعنى: لكنهم قد ذاقوا الموتة الاولى في الدنيا وقد مضت فعموم قوله: (لا يذوقون فيها الموت) على حاله. وعلى تقدير عدم كون الاستثناء منقطعا (إلا) بمعنى سوى و (إلا الموتة الاولى) بدل من (الموت) وليس من الاستثناء في شئ، والمعنى: لا يذوقون فيها سوى الموتة الاولى من الموت أما الموتة الاولى فقد ذاقوها ومحال أن تعود وتذاق وهي اولى. وأجيب ببعض وجوه أخر لا يعبأ به، وأنت خبير بأن شيئا من الوجهين لا يوجه اتصاف الموتة بالاولى وقد تقدم في تفسير قوله: (إن هي إلا موتتنا الاولى) الاية، وجوه في ذلك. وأما الاشكال الثاني فيمكن أن يجاب عنه بالجواب الثاني المتقدم لما أن هناك موتتين الموتة الاولى وهي الناقلة للانسان من الدنيا الى البرزخ والموتة الثانية وهي
الناقلة له من البرزخ إلى الاخرة فإذا كان (إلا) في قوله: (إلا الموتة الاولى) بمعنى سوى والمجموع بدلا من الموت كانت الاية مسوقة لنفي غير الموتة الاولى وهي الموتة الثانية التي هي موتة البرزخ فلا موت في جنة الاخرة لا موتة الدنيا لانها تحققت لهم قبلا ولا غير موتة الدنيا التي هي موتة البرزخ، ويتبين بهذا وجه تقييد الموتة بالاولى.
[ 151 ]
وقوله: (ووقاهم عذاب الجحيم) الوقاية حفظ الشئ مما يؤذيه ويضره، فالمعنى: وحفظهم من عذاب الجحيم، وذكر وقايتهم من عذاب الجحيم مع نفي الموت عنهم تتميم لقسمة المكاره أي إنهم مصونون من الانتقال من دار إلى دار ومن نشأة الجنة إلى نشأة غيرها وهو الموت ومصونون من الانتقال من حال سعيدة إلى حال شقية وهي عذاب الجحيم. قوله تعالى: (فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم) حال مما تقدم ذكره من الكرامة والنعمة، ويمكن أن يكون مفعولا مطلقا أو مفعولا له، وعلى أي حال هو تفضل منه تعالى من غير استحقاق من العباد استحقاقا يوجب عليه تعالى ويلزمه على الاثابة فإنه تعالى مالك غير مملوك لا يتحكم عليه شئ، وإنما هو وعده لعباده ثم أخبر أنه لا يخلف وعده، وقد تقدم تفصيل القول في هذا المعنى في الابحاث السابقة. وقوله: (ذلك هو الفوز العظيم) الفوز هو الظفر بالمراد وكونه فوزا عظيما لكونه آخر ما يسعد به الانسان. قوله تعالى: (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون) تفريع على جميع ما تقدم من أول السورة إلى هنا وفذلكة للجميع، والتيسير التسهيل، والضمير للكتاب والمراد بلسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم العربية. والمعنى: فإنما سهلنا القرآن - أي فهم مقاصده - بالعربية لعلهم - أي لعل قومك - يتذكرون فتكون الاية قريبة المعنى من قوله: (إنا جعلناه قرآنا عربيا
لعلكم تعقلون) الزخرف: 3. وقيل المراد من تيسير الكتاب بلسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إجراؤه على لسانه وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ليكون آية لصدق نبوته، وهو بعيد من سياق الفذلكة. قوله تعالى: (فارتقب إنهم مرتقبون) كأنه متفرع على ما يتفرع على الاية السابقة، ومحصل المعنى أنا يسرناه بالعربية رجاء أن يتذكروا فلم يتذكروا بل هم في شك يلعبون وينتظرون العذاب الذي لا مرد له من المكذبين فانتظر العذاب إنهم منتظرون له. فإطلاق المرتقبين على القوم من باب التهكم، ومن سخيف القول قول من يقول إن في الاية أمرا بالمتاركة وهي منسوخة باية السيف.
[ 152 ]
(بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: (أهم خير أم قوم تبع) روى سهل بن ساعد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم. أقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثورعن ابن عباس أيضا، وأيضا عن ابن عساكر عن عطاء بن أبي رباح عن النبي صلى الله عليه واله وسلم. وفيه وروى الوليد بن صبيح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن تبعا قال للاوس والخزرج: كونوا ههنا حتى يخرج هذا النبي، أما أنا فلو أدركته لخدمته وخرجت معه. وفي الدر المنثور أخرج أبو نعيم في الدلائل عن عبد الله بن سلام قال: لم يمت تبع حتى صدق بالنبي صلى الله عليه واله وسلم لما كان يهود يثرب يخبرونه. أقول: والاخبار في أمر تبع كثيرة، وفي بعضها أنه أول من كسى الكعبة. وفي الكافي بإسناده عن زيد الشحام قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام ونحن في الطريق في ليلة الجمعة: إقرأ فإنها ليلة الجمعة قرآنا، فقرأت (إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا - ولا هم ينصرون إلا من رحم الله) فقال أبو
عبد الله عليه السلام: نحن والله الذي استثنى الله فكنا نغني عنهم. أقول: يشير عليه السلام إلى الشفاعة وقد أخذ الاستثناء عن (مولى) الاول. و في تفسير القمي: ثم قال: (إن شجرة الزقوم طعام الاثيم) نزلت في أبي جهل ابن هشام، قوله: (كالمهل) قال: المهل الصفر المذاب (يغلي في البطون كغلي الحميم) وهو الذي قد حمي وبلغ المنتهى. أقول: ومن طرق أهل السنة أيضا روايات تؤيد نزول الاية في أبي جهل
[ 153 ]
(سورة الجاثية مكية، وهي سبع و ثلاثون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. حم - 1. تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم - 2. إن في السموات والارض لايات للمؤمنين - 3. وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون - 4. واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الارض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون - 5. تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون - 6. ويل لكل أفاك أثيم - 7. يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم - 8. وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين - 9. من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم - 10. هذا هدى والذين كفروا بايات ربهم لهم عذاب من رجز أليم - 11. ألله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون - 12.
[ 154 ]
وسخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعا منه إن في ذلك
لايات لقوم يتفكرون - 13. (بيان) غرض السورة دعوة عامة على الانذار تفتتح بايات الوحدانية ثم تذكر تشريع الشريعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتشير إلى لزوم اتباعها له و لغيره بما أن أمامهم يوما يحاسبون فيه على أعمالهم الصالحة من الايمان واتباع الشريعة واجتراحهم السيئات بالاعراض عن الدين، ثم تذكر ما سيجري على الفريقين في ذلك اليوم وهو يوم القيامة. وفي خلال مقاصدها إنذار ووعيد شديد للمستكبرين المعرضين عن آيات الله والذين اتخذوا إلههم هواهم وأضلهم الله على علم. ومن طرائف مطالبها بيان معنى كتابة الاعمال واستنساخها. والسورة مكية بشهادة سياق آياتها واستثنى بعضهم قوله تعالى: (قل للذين آمنوا) الاية، ولا شاهد له. قوله تعالى: (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) الظاهر أن (تنزيل الكتاب) من إضافة الصفة إلى الموصوف والمصدر بمعنى المفعول، و (من الله) متعلق بتنزيل، والمجموع خبر لمبتدأ محذوف. والمعنى: هذا كتاب منزل من الله العزيز الحكيم، وقد تقدم الكلام في مفردات الاية فيما تقدم. قوله تعالى: (إن في السماوات والارض لايات للمؤمنين) آية الشئ علامته التي تدل عليه وتشير إليه، والمراد بكون السماوات والارض فيها آيات كونها بنفسها آيات له فليس وراء السماوات والارض وسائر ما خلق الله أمر مظروف لها هو آية دالة عليه تعالى. ومن الدليل على ما ذكرنا اختلاف التعبير فيها في كلامه تعالى فتارة يذكر أن في الشئ آية له وأخرى يعده بنفسه آية كقوله تعالى: (إن في خلق السماوات والارض
[ 155 ]
واختلاف الليل والنهار لايات) آل عمران: 190، وقوله: (ومن آياته خلق السماوات والارض) الروم: 22، ونظائر هما كثيرة، ويستفاد من اختلاف التعبير الذي فيها أن معنى كون الشئ فيه آية هو كونه بنفسه آية كما يستفاد من اختلاف التعبير في مثل قوله: (إن في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار لايات، وقوله: (إن في السماوات والارض لايات) الاية، أن المراد من خلق السماوات والارض نفسها لا غير. والعناية في أخذ الشئ ظرفا للاية مع كونه بنفسه آية اعتبار جهات وجوده وأن لوجوده جهة أو جهات كل واحدة منها آية من الايات ولو أخذت نفس الشئ لم يستقم إلا أخذها آية واحدة كما في قوله تعالى: (وفي الارض آيات للموقنين) الذاريات: 20، ولو أخذت الاية نفس الارض لم يستقم إلا أن يقال: والارض آية للموقنين) وضاع المراد وهو أن في وجود الارض جهات كل واحدة منها آية وحدها. فمعنى قوله: (إن في السماوات والارض) الخ، أن لوجود السماوات والارض جهات دالة على أن الله تعالى هو خالقها المدبر لها وحده لا شريك له فإنها بحاجتها الذاتية إلى من يوجدها وعظمة خلقتها وبداعة تركيبها واتصال وجود بعضها ببعض وارتباطه على كثرتها الهائلة واندراج أنظمتها الجزئية الخاصة بكل واحد تحت نظام عام يجمعها ويحكم فيها تدل على أن لها خالقا هو وحده ربها المدبر أمرها فلو لا أن هناك من يوجدها لم توجد من رأس، ولولا أن مدبرها واحد لتناقضت النظامات وتدافعت واختلف التدبير. ومما تقدم يظهر أن قول بعضهم: إن قوله: (في السماوات) بتقدير مضاف محذوف والتقدير في خلق السماوات، تكلف من غير ضرورة تدعو إليه. قوله تعالى: (وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون) البث التفريق والاثارة وبثه تعالى للدواب خلقها وتفريقها ونشرها على الارض كما قال في خلق الانسان
(ثم إذا أنتم بشر تنتشرون) الروم: 20. ومعنى الاية: وفيكم من حيث وجودكم المخلوق وفيما يفرقه الله من دابة من حيث خلقها آيات لقوم يسلكون سبيل اليقين. وخلق الانسان على كونه موجودا أرضيا له ارتباط بالمادة نوع آخر من الخلق يغاير خلق السماوات والارض لانه مركب من بدن أرضي مؤلف من مواد كونية
[ 156 ]
عنصرية تفسد بالموت بالتفرق والتلاشي وأمر آخر وراء ذلك علوي غير مادي لا يفسد بالموت بل يتوفى ويحفظ عند الله، وهو الذي يسميه القرآن بالروح قال تعالى: (ونفخت فيه من روحي) الحجر: 29، وقال بعد ذكر خلق الانسان من نطفة ثم من علقة ثم مضغة ثم تتميم خلق بدنه: (ثم أنشأناه خلقا آخر) المؤمنون: 14، وقال: (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم) الم السجدة: 11. فالناظر في خلق الانسان ناظر في آية ملكوتية وراء الايات المادية وكذا الناظر في خلق الدواب ولها نفوس ذوات حياة وشعور وإن كانت دون الانسان في حياتها وشعورها كما أنها دونه في تجهيزاتها البدنية ففي الجميع آيات لاهل اليقين يعرفون بها الله سبحانه بأنه واحد لا شريك له في ربوبيته وألوهيته. قوله تعالى: (واختلاف الليل والنهار) إلى آخر الاية هذا القبيل من الايات آيات ما بين السماء والارض. وقوله: (واختلاف الليل والنهار) يريد به اختلافهما في الطول والقصر اختلافا منظما باختلاف الفصول الاربعة بحسب بقاع الارض المختلفة ويتكرر بتكرر السنين يدبر سبحانه بذلك أقوات أهل الارض ويربيهم بذلك تربية صالحة قال تعالى: (وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين) حم السجدة: 10. وقوله: (وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الارض بعد موتها) المراد
بالرزق الذي ينزله الله من السماء هو المطر تسمية للسبب باسم المسبب مجازا أو لان المطر أيضا من الرزق فإن مياه الارض من المطر، والمراد بالسماء جهة العلو أو السحاب مجازا، وإحياء الارض به بعد موتها هو إحياء ما فيها من النبات بالاخذ في الرشد والنمو، ولا يخلو التعرض للاحياء بعد الموت من تلويح الى المعاد. وقوله: (وتصريف الرياح) أي تحويلها وإرسالها من جانب الى جانب، لتصريفها فوائد عامة كثيرة من أعمها سوق السحب الى أقطارالارض وتلقيح النباتات ودفع العفونات والروائح المنتنة. وقوله: (آيات لقوم يعقلون) أي يميزون بين الحق والباطل والحسن والقبيح بالعقل الذي أودعه الله سبحانه فيهم. وقد خص كل قبيل من الايات بقوم خاص فخصت آية السماوات والارض
[ 157 ]
بالمؤمنين وآية الانسان وسائر الحيوان بقوم يوقنون، وآية اختلاف الليل والنهار والامطار وتصريف الرياح بقوم يعقلون. ولعل الوجه في ذلك أن آية السماوات والارض تدل بدلالة بسيطة ساذجة على أنها لم توجد نفسها بنفسها ولا عن اتفاق وصدفة بل لها موجد أوجدها مع ما لها من الاثار والافعال التي يتحصل منها النظام المشهود فخالقها خالق الجميع ورب الكل، والانسان يدرك ذلك بفهمه البسيط الساذج والمؤمنون بجميع طبقاتهم يفهمون ذلك وينتفعون به. وأما أنه خلق الانسان وسائر الدواب التي لها حياة وشعور فإنها من حيث أرواحها ونفوسها الحية الشاعرة من عالم وراء عالم المادة وهو المسمى بالملكوت وقد خص القرآن كمال إدراكه ومشاهدته بأهل اليقين كما قال: (وكذلك نري ابراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين) الانعام: 75.
وأما آية اختلاف الليل والنهار والامطار المحيية للارض وتصريف الرياح فإنها لتنوع أقسامها وتعدد جهاتها وارتباطها بالارض والارضيات وكثرة فوائدها وسعة منافعها تحتاج الى تعقل فكري تفصيلي عميق ولا تنال بالفهم البسيط الساذج ولذلك خصت بقوم يعقلون والايات آيات لجميع الناس لكن لما كان المنتفع بها بعضهم خصت بهم. وقد عبر عن أهل اليقين والعقل بقوم يوقنون وبقوم يعقلون وعن أهل الايمان بالمؤمنين لان بساطة آية أهل الايمان تفيد أن المراد بالايمان أصله وهو ثابت فيهم فناسب التعبير عنهم بالوصف بخلاف آيتي أهل اليقين والعقل فإنهما لدقتهما وعلو منالهما تدركان شيئا فشيئا فنا سبتا التعبير بالفعل المضارع الدال على الاستمرار التجددي. وقيل في وجه ما في الايات الثلاث من الترتيب بين أهلها حيث ذكر أولا أهل الايمان ثم الايقان ثم العقل أنه على ترتيب الترقي فإن الايقان مرتبة خاصة في الايمان فهو بعد الايمان والعقل مدار الايمان والايقان ونعني العقل المؤيد بنور البصيرة فبسببه يخلص اليقين من اعتراء الشكوك من كل وجه وفي استحكامه كل خير. وروعي في ترتيب الايات ما روعي في ترتيب المراتب الثلاث.
(1) هذا الوجه مستفاد من الكشاف، وما يتلوه لصاحب الكشف، والوجه الاخير للرازي في التفسير الكبير. (*)
[ 158 ]
وفيه أن مقتضى ما وصفه من أمر العقل وقوعه قبل الثاني بل قبل أول المراتب على أن ما ذكره من إمكان اعتراء الشكوك على اليقين مما لا سبيل إلى تصوره. وقيل في وجه الترتيب: أن تمام النظر في الثاني يضطر إلى النظر في الاول لان السماوات والارض من أسباب تكون الحيوان بوجه فيجب أن تذكر قبله، وكذلك النظر في الثالث يضطر إلى النظر في الاولين أما الاول فظاهر، وأما الثاني فلانه العلة الغائية فلا بد أن يكون جامعا أي إن الثالث وهو المعلول يتوقف في معرفته على ذكر
علته الغائية قبله. وفيه أنه على تقدير صحته وجه لترتب الايات دون مراتب الصفات الثلاث أعني الايمان والايقان والعقل. على أن الثالث أيضا كالاول من أسباب تكون الحيوان فيجب أن يتقدم على الثاني، وبوجه آخر الثاني علة غائية للاول فيجب أن يتقدم على الاول كما تقدم على الثالث. وقيل: إن السبب في ترتيب هذه الفواصل أنه قيل: إن كنتم مؤمنين فافهموا هذه الدلائل، وإن كنتم لستم بمؤمنين وكنتم من طلاب الجزم واليقين فافهموا هذه الدلائل، وإن كنتم لستم بمؤمنين ولا موقنين فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل. وفيه أنه على تقدير صحته وجه لترتب الصفات الثلاث دون أقسام الايات الثلاثة على أن لازمه أن لا يختص شئ من الايات الثلاث بواحدة من الصفات الثلاث بل يكون الجميع للجميع والسياق لا يساعد عليه. على أن ظاهر كلامه أنه فسر اليقين بالجزم وهو العلم فلا يبقى للعقل إلا الحكم الظني ولا يعبأ به في المعارف الاعتقادية. قوله تعالى: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون) الايمان بأمر هو العلم به مع الالتزام به عملا فلو لم يلتزم لم يكن إيمانا وإن كان هناك علم، قال تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) النمل: 14، وقال: (وأضله الله على علم) الجاثية: 23. والايات هي العلامات الدالة فايات الله الكونية هي الامور الكونية الدالة بوجودها الخارجي على كونه تعالى واحدا في الخلق متصفا بصفات الكمال منزها عن كل نقص وحاجة، والايمان بهذه الايات هو الايمان بدلالتها عليه تعالى ولازمه الايمان به
[ 159 ]
تعالى كما تدل هي عليه. والايات القرآنية آيات له تعالى بما تدل على الايات الكونية الدالة عليه سبحانه
أو على معارف اعتقادية أو أحكام عمليه أو أخلاق يرتضيها الله سبحانه ويأمر بها فإن مضامينها دالة عليه ومن عنده، والايمان بهذه الايات أيضا إيمان بدلالتها ويلزمه الايمان بمدلولها. والايات المعجزة أيضا إما آيات كونية ودلالتها دلالة الايات الكونية وإما غير كونية كالقرآن في إعجازه ومرجع دلالتها إلى دلالة الايات الكونية. وقوله: (تلك آيات الله نتلوها عليك) الاشارة إلى الايات القرآنية المتلوة عليه صلى الله عليه وآله وسلم، ويمكن أن تكون إشارة إلى الايات الكونية المذكورة في الايات الثلاث السابقة بعناية الاتحاد بين الدال والمدلول. وقوله: (فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون) قيل: هو من قبيل قولك: أعجبني زيد وكرمه، وإنما أعجبك كرمه والمعنى بحسب النظر الدقيق أعجبني كرم زيد وزيد من حيث كرمه، فمعنى الاية فبأي حديث بعد آيات الله يعني الايات القرآنية يؤمنون ؟ يعني إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث فبأي حديث بعده يؤمنون ؟ وقيل: الكلام بتقدير حديث أي إذا لم يؤمنوا فبأي حديث بعد حديث الله وآياته يؤمنون، والانسب على هذا المعنى أن يكون المراد بالايات الايات الكونية ولذا قال الطبرسي بعد ذكر هذا المعنى: والفرق بين الحديث الذي هو القرآن وبين الايات أن الحديث قصص يستخرج منه عبر تبيين الحق من الباطل، والايات هي الادلة الفاصلة بين الصحيح والفاسد. انتهى وأول الوجهين ألطف. قوله تعالى: (ويل لكل أفاك أثيم) الويل والهلاك، والافاك مبالغة من الافك وهو الكذب، والاثيم من الاثم بمعنى المعصية والمعنى: ليكن الهلاك على كل كذاب ذي معصية. قوله تعالى: (يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها) الخ صفة لكل أفاك أثيم، و (ثم) للتراخي الرتبي وتفيد معنى الاستبعاد، والاصرار على الفعل ملازمته وعدم الانفكاك عنه.
[ 160 ]
والمعنى: يسمع آيات الله - وهي آيات القرآن - تقرأ عليه ثم يلازم الكفر والحال أنه مستكبر لا يتواضع للحق كأن لم يسمع تلك الايات فبشره بعذاب أليم. قوله تعالى: (وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا) الخ، ظاهر السياق أن ضمير (اتخذها) للايات، وجعل الهزء متعلقا بالايات دون ما علم منها يفيد كمال جهله، والمعنى: وإذا علم ذلك الافاك الاثيم المصر المستكبر بعض آياتنا استهزء باياتنا جميعا. وقوله: (أولئك لهم عذاب مهين) أي مذل مخز، وتوصيف العذاب بالاهانة مقابلة لاستكبارهم واستهزائهم، والاشارة باولئك إلى كل أفاك، وقيل في الاية بوجوه أخر أعرضنا عنها لعدم الجدوى فيها. قوله تعالى: (من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء) الخ، لما كانوا مشتغلين بالدنيا معرضين عن الحق غير ملتفتين الى تبعات أعمالهم جعلت جهنم وراءهم مع أنها قدامهم وهم سائرون نحوها متوجهون إليها. وقيل: وراءهم بمعنى قدامهم قال في المجمع: وراء اسم يقع على القدام والخلف فما توارى عنك فهووراءك خلفك كان أو أمامك. انتهى. وفي قوله: (من ورائهم جهنم) قضاء حتم. وقوله: (ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا) المراد بما كسبوا ما حصلوه في الدنيا من مال ونحوه، وتنكير (شيئا) للتحقير أي ولا يغني عنهم يوم الحساب ما كسبوه من مال وجاه وأنصار في الدنيا شيئا يسيرا حقيرا. وقوله: (ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء) (ما) مصدرية والمراد بالاولياء أرباب الاصنام الذين اتخذوهم أربابا آلهة وزعموا أنهم لهم شفعاء أو الاصنام. وقوله: (ولهم عذاب عظيم) تأكيد لوعيدهم وقد أوعدهم الله سبحانه أولا
بقوله: (ويل لكل أفاك) الخ، وثانيا بقوله: (فبشره بعذاب أليم) وثالثا بقوله: (اولئك لهم عذاب مهين) ورابعا بقوله: (من ورائهم جهنم) الخ، وخامسا بقوله: (ولهم عذاب عظيم)، ووصف عذابهم في خلالها بأنه أليم مهين عظيم. قوله تعالى: (هذا هدى والذين كفروا بايات ربهم لهم عذاب من رجز أليم)
[ 161 ]
الاشارة بقوله: (هذا هدى) إلى القرآن ووصفه بالهدى للمبالغة نحو زيد عدل والرجز - كما قيل - أشد العذاب وأصله الاضطراب. والاية في مقام الرد لما رموا به القرآن وعدوه مهانا بالهزء والسخرية وخلاصة وعيد من كفر باياته. قوله تعالى: (الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره) الخ، لما ذكر سبحانه حال الافاكين من الاستكبار عن الايمان بالايات إذا تليت عليهم والاستهزاء بما علموا منها وأوعدهم أبلغ الايعاد بأشد العذاب رجع إليهم بخطاب الجميع ممن يؤمن ويكفر، وذكر بعض آيات ربوبيته التي فيها من عظيم عليهم وليس في وسعهم إنكارها فذكر أولا تسخير البحر لهم ثم ما في السماوات والارض جميعا ففيها آيات لا يكفر بها إلا من انسلخ عن الفطرة الانسانية ونسي التفكر الذي هو من أجلى خواص الانسان. فقوله: (الله الذي سخر لكم البحر) اللام في (لكم) للغاية أي سخر لاجلكم البحر بأن خلقه على نحو يحمل الفلك ويقبل أن تجري فيه فينتفع به الانسان، ويمكن أن تكون للتعدية فيكون الانسان يسخر البحر بإذن الله. وقوله: (لتجري الفلك فيه بأمره) غاية لتسخير البحر، وجريان الفلك فيه بأمره، هو إيجاد الجريان بكلمة كن فأثار الاشياء كنفس الاشياء منسوبة إليه تعالى وقوله: (ولتبتغوا من فضله) أي ولتطلبوا بركوبه عطيته تعالى وهو رزقه.
وقوله: (ولعلكم تشكرون) أي رجاء أن تشكروه تعالى قبال هذه النعمة التي هي تسخير البحر. قوله تعالى: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الارض جميعا منه) الخ، هذا من الترقي بعطف العام على الخاص، والكلام في (لكم) كالكلام في مثله في الاية السابقة، وقوله: (جميعا) تأكيد لما في السماوات والارض أو حال منه. وقوله: (سخر لكم ما في السماوات وما في الارض جميعا) معنى تسخيرها للانسان أن أجزاء العالم المشهود تجري على نظام واحد يحكم فيها ويربط بعضها ببعض ويربط
[ 162 ]
الجميع بالانسان فينتفع في حياته من علويها وسفليها ولا يزال المجتمع البشري يتوسع في الانتفاع بها والاستفادة من توسيطها والتوسل بشتاتها في الحصول على مزايا الحياة فالكل مسخر له. وقوله: (منه) من للابتداء، والضمير لله تعالى وهو حال مما في السماوات والارض، والمعنى: سخر لكم ما في السماوات والارض جميعا حال كونه مبتدأ منه حاصلا من عنده فذوات الاشياء تبتدئ منه بإيجاده لها من غير مثال سابق وكذلك خواصها وآثارها بخلقه ومن خواصها وآثارها ارتباط بعضها ببعض وهو النظام الجاري فيها المرتبط بالانسان قال تعالى: (الله يبدؤ الخلق ثم يعيده) الروم: 11، وقال: (إنه هو يبدئ ويعيد) البروج: 13. وقد ذكروا لقوله: (منه) معاني أخر لا يخلو شئ منها عن التكلف تركنا التعرض لها. وقوله: (إن في ذلك لايات لقوم يتفكرون) وجه تعلقها بالتفكر ظاهر. * * * قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون - 14. من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء
فعليها ثم إلى ربكم ترجعون - 15. ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين - 16. وآتيناهم بينات من الامر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون - 17. ثم جعلناك على شريعة من الامر فاتبعها
[ 163 ]
ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون - 18. إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين - 19. (بيان) لما ذكر آيات الوحدانية وأشار فيها بعض الاشارة إلى المعاد وكذا إلى النبوة في ضمن ذكر تنزيل الكتاب وإيعاد المستكبرين المستهزئين به ذكر في هذه الايات تشريع الشريعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتوسل إلى ذلك بمقدمتين تربطانه بما تقدم من الكلام إحداهما دعوة المؤمنين إلى أن يكفوا عن التعرض لحال الكفار الذين لا يرجون أيام الله فإن الله مجازيهم لان الاعمال مسؤل عنها صالحة أو طالحة، وهذا هو السبب لتشريع الشريعة، والثانية: أن إنزال الكتاب والحكم والنبوة ليس ببدع فقد آتى الله بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة وآتاهم البينات التي لا يبقى معها في دين الله ريب لمرتاب إلا أن علماءهم اختلفوا فيه بغيا منهم وسيقضي الله بينهم. ثم ذكر سبحانه تشريع الشريعة له وأمره باتباعها ونهاه عن اتباع أهواء الجاهلين. قوله تعالى: (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) الخ، أمر منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمر المؤمنين أن يغفروا للكفار فيصير تقدير الاية: قل لهم: اغفروا يغفروا فهي كقوله تعالى: (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة) إبراهيم: 31.
والاية مكية واقعة في سياق الايات السابقة الواصفة لحال المستكبرين المستهزئين بايات الله المهددة لهم بأشد العذاب وكأن المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا إذا رأوا هؤلاء المستهزئين يبالغون في طعنهم وإهانتهم للنبي واستهزائهم بايات الله لم يتمالكوا أنفسهم دون أن يدافعوا عن كتاب الله ومن أرسله به ويدعوهم إلى رفض ما هم فيه والايمان مع كونهم ممن حقت عليهم كلمة العذاب كما هو ظاهر الايات السابقة، فأمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمرهم بالعفو والصفح عنهم وعدم التعرض لحالهم فإن وبال أعمالهم
[ 164 ]
سيلحق بهم وجزاء ما كسبوه سينالهم. وعلى هذا فالمراد بالمغفرة في قوله: (قل للذين آمنوا يغفروا) الصفح والاعراض عنهم بترك مخاصمتهم ومجادلتهم، والمراد بالذين لا يرجون أيام الله هم الذين ذكروا في الايات السابقة فإنهم لا يتوقعون لله أياما لا حكم فيها ولا ملك إلا له تعالى كيوم الموت والبرزخ ويوم القيامة ويوم عذاب الاستئصال. وقوله: (ليجزي قوما بما كانوا يكسبون) تعليل للامر بالمغفرة أو للامر بالامر بالمغفرة ومحصله ليصفحوا عنهم ولا يتعرضوا لهم، فلا حاجة إلى ذلك لان الله سيجزيهم بما كانوا يكسبون فتكون الاية نظيرة قوله: (وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا إن لدينا أنكالا وجحيما) المزمل: 12، وقوله: (ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) الانعام: 91، وقوله: (فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون) المعارج: 42، وقوله: (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون) الزخرف: 89. ومعنى الاية: مر الذين آمنوا أن يعفوا ويصفحوا عن أولئك المستكبرين المستهزئين بايات الله الذين لا يتوقعون أيام الله ليجزيهم الله بما كانوا يكسبون ويوم الجزاء يوم من أيامه أي ليصفحوا عن هؤلاء المنكرين لايام الله حتى يجزيهم بأعمالهم في يوم من أيامه. وفي قوله: (ليجزي قوما) وضع الظاهر موضع الضمير، وكان مقتضى الظاهر
أن يقال: ليجزيهم، والنكتة فيه مع كون (قوما) نكرة غير موصوفة تحقير أمرهم وعدم العناية بشأنهم كأنهم قوم منكرون لايعرف شخصهم ولا يهتم بشئ من أمرهم. وبما تقدم من تقرير معنى الاية تتصل الاية وما بعدها بما قبلها وتندفع الاشكالات التي أوردوها عليها واهتموا بالجواب عنها، ويظهر فساد المعاني المختلفة التي ذكروها لها ومن أراد الاطلاع عليها فليراجع المطولات. قوله تعالى: (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون) في موضع التعليل لقوله: (ليجزي قوما) الخ، ولذا لم يعطف وليس من الاستئناف في شئ. ومحصل المعنى: ليجزيهم الله بما كسبوا فإن الاعمال لا تذهب سدى وبلا أثر
[ 165 ]
بل من عمل صالحا انتفع به ومن أساء العمل تضرر به ثم إلى ربكم ترجعون فيجزيكم حسب أعمالكم أن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا قوله تعالى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة) الخ، لما بين أن للاعمال آثارا حسنة أو سيئة تلحق صاحبيها أراد التنبيه على تشريع شريعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ كان على الله سبحانه أن يهدي عباده إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم كما قال تعالى: (وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر) النحل: 9. فنبه على ذلك بقوله الاتي: (ثم جعلناك على شريعة من الامر) الخ، وقدم على ذلك الاشارة إلى ما آتى بني إسرائيل من الكتاب والحكم والنبوة ورزقهم من الطيبات وتفضيلهم وإيتائهم البينات ليؤذن به أن الافاضة الالهية بالشريعة والنبوة والكتاب ليست ببدع لم يسبق إليه بل لها نظير في بني إسرائيل وهم بمرآهم ومسمعهم. فقوله: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة) المراد بالكتاب التوراة المشتملة على شريعة موسى عليه السلام وأما الانجيل فلا يتضمن الشريعة وشريعته
شريعة التوراة، وأما زبور داود فهي أدعية وأذكار ويمكن أن يراد بالكتاب جنسه الشامل للتوراة والانجيل والزبور كما قيل لكن يبعده أن الكتاب لم يطلق في القرآن إلا على ما يشتمل على الشريعة. والمراد بالحكم بقرينة ذكره مع الكتاب ما يحكم ويقضي به الكتاب من وظائف الناس كما يذكره قوله تعالى: (وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) البقرة: 213، وقال في التوراة: (يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله) المائدة: 44، فالحكم من لوازم الكتاب كما أن النبوة من لوازمه. والمراد بالنبوة معلوم وقد بعث الله من بني إسرائيل جما غفيرا من الانبياء كما في الاخبار وقص في كتابه جماعة من رسلهم. وقوله: (ورزقناهم من الطيبات) أي طيبات الرزق ومن ذلك المن والسلوى. وقوله: (وفضلنا هم على العالمين) إن كان المراد جميع العالمين فقد فضلوا من بعض الجهات ككثرة الانبياء المبعوثين والمعجزات الكثيرة الظاهرة من أنبيائهم، وإن كان المراد عالمي زمانهم فقد فضلوا من جميع الجهات.
[ 166 ]
قوله تعالى: (وآتيناهم بينات من الامر) إلى آخر الاية المراد بالبينات الايات البينات التي تزيل كل شك وريب تمحوه عن الحق ويشهد بذلك تفريع قوله: (فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم). والمراد بالامر قيل: هو أمر الدين، و (من) بمعنى في والمعنى: وأعطيناهم دلائل بينة في أمر الدين ويندرج فيه معجزات موسى عليه السلام. وقيل: المراد به أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعنى: آتيناهم آيات من أمر النبي وعلامات مبينة لصدقة كظهوره في مكة ومهاجرته منها إلى يثرب ونصرة أهله وغير ذلك مما
كان مذكورا في كتبهم. وقوله: (فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) يشير إلى أن ما ظهر بينهم من الاختلاف في الدين واختلاط الباطل بالحق لم يكن عن شبهة أو جهل وإنما أوجدها علماؤهم بغيا وكان البغي دائرا بينهم. وقوله: (إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) إشارة إلى أن اختلافهم الذي لا يخلو من اختلاط الباطل بالحق لا يذهب سدى وسيؤثر أثره ويقضي الله بينهم يوم القيامة فيجزون على حسب ما يستدعيه أعمالهم. قوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الامر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويشاركه فيه أمته، والشريعة طريق ورود الماء والامر أمر الدين، والمعنى: بعد ما آتينا بني إسرائيل ما آتينا جعلناك على طريقة خاصة من أمر الدين الالهي وهي الشريعة الاسلامية التي خص الله بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته. وقوله: (فاتبعها) الخ، أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم باتباع ما يوحى إليه من الدين وأن لا يتبع أهواء الجاهلين المخالفة للدين الالهي. ويظهر من الاية أولا: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكلف بالدين كسائر الامة. وثانيا: أن كل حكم عملي لم يستند الى الوحي الالهي ولم ينته إليه فهو هوى من أهواء الجاهلين غير منتسب الى العلم. قوله تعالى: (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا) الخ، تعليل للنهي عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، والاغناء من شئ رفع الحاجة إليه، والمحصل: أن لك إلى الله سبحانه حوائج ضرورية لا يرفعها إلا هو والذريعة إلى ذلك اتباع دينه لا غير فلا
[ 167 ]
يغني عنك هؤلاء الذين اتبعت أهواءهم شيئا من الاشياء إليها الحاجة أو لا يغني شيئا من الاغناء.
وقوله: (وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين) الذي يعطيه السياق أنه تعليل آخر للنهي عن اتباع أهواء الجاهلين، وأن المراد بالظالمين المتبعون لاهوائهم المبتدعة وبالمتقين المتبعون لدين الله. والمعنى: أن الله ولي الذين يتعبون دينه لانهم متقون والله وليهم، والذين يتبعون أهواء الجهلة ليس هو تعالى وليا لهم بل بعضهم أولياء بعض لانهم ظالمون والظالمون بعضهم أولياء بعض فاتبع دين الله يكن لك وليا ولا تتبع أهواءهم حتى يكونوا أولياء لك لا يغنون عنك من الله شيئا. وتسمية المتبعين لغير دين الله بالظالمين هو الموافق لما يستفاد من قوله: (أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وبالاخرة هم كافرون) الاعراف: 45. * * * هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون - 20. أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون - 21. وخلق الله السموات والارض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون - 22. أفرايت من اتخذ إلهة هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون - 23. وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت
[ 168 ]
ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون - 24. وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بابائنا إن كنتم صادقين - 25. قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيمة لا ريب فيه ولكن أكثر
الناس لا يعلمون - 26. ولله ملك السموات والارض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون - 27. وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون - 28. هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون - 29. فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين - 30. وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين - 31. وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين - 32. وبدا لهم سيات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن - 33. وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين - 34. ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحيوه الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون - 35. فلله الحمد رب السموات
[ 169 ]
ورب الارض رب العالمين - 36. وله الكبرياء في السموات والارض وهو العزيز الحكيم - 37. (بيان) لما أشار إلى جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على شريعة من الامر وهو تشريع الشريعة الاسلامية أشار في هذه الايات إلى أنها بصائر للناس يبصرون بها ما يجب عليهم أن يسلكوه من سبيل الحياة الطيبة في الدنيا وتتلوها سعادة الحياة الاخرة، وهدى ورحمة لقوم يوقنون بايات الله. وأشار إلى أن الذي يدعو مجترحي السيئات أن يستنكفوا عن التشرع بالشريعة إنكارهم المعاد فيحسبون أنهم والمتشرعون بالدين سواء في الحياة والممات وأن لا أثر
للتشرع بالشريعة فلا ثمرة للعمل الصالح الذي تهدي إليه الشريعة إلا إتعاب النفس بالتقيد من غير موجب. فبر هن تعالى على بطلان حسبانهم بإثبات المعاد ثم أردفه بوصف المعاد وما يثيب به الصالحين يومئذ وما يعاقب به الطالحين أهل الجحود والاجرام، وعند ذلك تختتم السورة بالتحميد والتسبيح. قوله تعالى: (هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون) الاشارة بهذا إلى الامر المذكور الذي هو الشريعة أو إلى القرآن بما يشتمل على الشريعة، والبصائر جمع بصيرة وهي الادراك المصيب للواقع، والمراد بها ما يبصر به، وإنما كانت الشريعة بصائر لانها تتضمن أحكاما وقوانين كل منها يهدي إلى واجب العمل في سبيل السعادة. والمعنى: هذه الشريعة المشرعة أو القرآن المشتمل عليها وظائف عملية يتبصر بكل منها الناس يهتدون إلى السبيل الحق وهو سبيل الله وسبيل السعادة، فقوله بعد ذكر تشريع الشريعة: (هذا بصائر للناس) كقوله بعد ذكر آيات الوحدانية في أول السورة: (هذا هدى والذين كفروا) الخ. وقوله: (وهدى ورحمة لقوم يوقنون) أي دلالة واضحة وإفاضة خير لهم، والمراد بقوم يوقنون: الذين يوقنون: بايات الله الدالة على أصول المعارف فإن المعهود في
[ 170 ]
القرآن تعلق الايقان بالاصول الاعتقادية. وتخصيص الهدى والرحمة بقوم يوقنون مع التصريح بكونه بصائر للناس لا يخلو من تأييد لكون المراد بالهدى الوصول إلى المطلوب دون مجرد التبصر، وبالرحمة الرحمة الخاصة بمن اتقى وآمن برسوله بعد الايمان بالله، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم) الحديد: 28، وقال: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب - إلى أن قال - وبالاخرة هم يوقنون) البقرة: 4، وللرحمة درجات كثيرة تختلف سعة وضيقا ثم للرحمة الخاصة بأهل الايمان أيضا مراتب مختلفة باختلاف مراتب الايمان
فلكل مرتبة من مراتبه ما يناسبها منها. وأما الرحمة بمعنى مطلق الخير الفائض منه تعالى فإن القرآن بما يشتمل على الشريعة رحمة للناس كافة كما أن الرسول المبعوث به رحمة لهم جميعا، قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الانبياء: 107، وقد أوردنا بعض الكلام في هذا المعنى في بعض المباحث السابقة. قوله تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم) الخ، قال في الجمع: الاجتراح الاكتساب، يقال: جرح واجترح وكسب واكتسب وأصله من الجراح لان لذلك تأثيرا كتأثير الجراح. قال: والسيئة الفعلة القبيحة التي يسوء صاحبها باستحقاق الذم عليها. انتهى. والجعل بمعنى التصيير، وقوله: (كالذين آمنوا وعملوا الصالحات) في محل المفعول الثاني للجعل، والتقدير كائنين كالذين آمنوا، الخ. وجزم الزمخشري في الكشاف على كون الكاف في (كالذين) اسما بمعنى المثل هو مفعول ثان لقوله: (نجعلهم)، وقوله: (سواء) بدلا منه. وقوله: (سواء) بالنصب على القراءة الدائرة وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل أي مستويا أو متساويا، وقوله: (محياهم) مصدر ميمي وفاعل (سواء) وضميره راجع إلى مجموع المجترحين والمؤمنين، و (مماتهم) معطوف على (محياهم) وحاله كحاله. والاية مسوقة سوق الانكار و (أم) منقطعة، والمعنى: بل أحسب وظن الذين يكتسبون السيئات أن نصيرهم مثل الذين آمنوا وعملوا الصالحات مستويا محياهم
[ 171 ]
ومماتهم أي تكون حياة هؤلاء كحياة أولئك وموتهم كموتهم فيكون الايمان والتشرع بالدين لغوا لا أثر له في حياة ولاموت ويستوى وجوده وعدمه. وقوله: (ساء ما يحكمون) رد لحسبانهم المذكور وحكمهم بالمماثلة بين مجترحي
السيئات والذين آمنوا وعملوا الصالحات ومساءة الحكم كناية عن بطلانه. فالفريقان لا يتساويان في الحياة ولا في الممات. أما أنهما لا يتساويان في الحياة فلان الذين آمنوا وعملوا الصالحات في سلوكهم مسلك الحياة على بصيرة من أمرهم وهدى ورحمة من ربهم كما ذكره سبحانه في الاية السابقة والمسئ صفر الكف، من ذلك وقال تعالى في موضع آخر: (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا) طه: 124، وقال في موضع آخر: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) الانعام: 122. وأما أنهما لا يتساويان في الممات فلان الموت كما ينطق به البراهين الساطعة ليس انعداما للشئ وبطلانا للنفس الانسانية كما يحسبه المبطلون بل هو رجوع الى الله سبحانه وانتقال من نشأة الدنيا إلى نشأة الاخرة التي هي دار البقاء وعالم الخلود يعيش فيها المؤمن الصالح في سعادة ونعمة وغيره في شقاء وعذاب. وقد أشار سبحانه إليه فيما تقدم من كلامه بقوله: (كذلك يحيي الله الموتى) وقوله: (ثم إلى ربكم ترجعون) وغير ذلك، وسيتعرض له بقوله: (وخلق الله السماوات والارض بالحق) الخ. والاية من حيث تركيب ألفاظها المعنى المتحصل منها من معارك الاراء بين المفسرين وقد ذكروا لها محامل كثيرة والذي يعطيه السياق ويساعد عليه هو ما قدمناه ولا كثير فائدة في التعرض لوجوه أخر ذكروها فمن أراد الاطلاع عليها فليراجع المطولات. قوله تعالى: (وخلق الله السماوات والارض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون) الظاهر أن المراد بالسماوات والارض مجموع العالم المشهود والباء في (بالحق) للملابسة فكون خلق العالم بالحق كونه حقا لا باطلا ولعبا وهو أن يكون لهذا العالم الكائن الفاسد غاية ثابتة باقية وراءه.
وقوله: (ولتجزى) الخ، عطف على (بالحق) والباء في قوله: (بما كسبت)
[ 172 ]
للتعدية أو للمقابلة أي لتجزى مقابل ما كسبت إن كان طاعة فالثواب وإن كان معصية فالعقاب، وقوله: (وهم لا يظلمون) حال من كل نفس أي ولتجزي كل نفس بما كسبت بالعدل. فيؤل معنى الاية إلى مثل قولنا وخلق الله السماوات والارض بالحق وبالعدل فكون الخلق بالحق يقتضي أن يكون وراء هذا العالم عالم آخر يخلد فيه الموجودات وكون الخلق بالعدل يقتضي أن تجزى كل نفس ما تستحقه بكسبها فالمحسن يجزى جزاء حسنا والمسئ يجزى جزاء سيئا وإذ ليس ذلك في هذه النشأة ففي نشأة أخرى. وبهذا البيان يظهر إن الاية تتضمن حجتين على المعاد إحداهما ما أشير إليه بقوله: (وخلق الله السماوات والارض بالحق) ويسلك من طريق الحق، والثانية ما أشير إليه بقوله: (ولتجزى) الخ، ويسلك من طريق العدل. فتؤل الحجتان إلى ما يشتمل عليه قوله: (وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار) ص: 28. والاية بما فيها من الحجة تبطل حسبانهم أن المسئ كالمحسن في الممات فإن حديث المجازاة بالثواب والعقاب على الطاعة والمعصية يوم القيامة ينفي تساوي المطيع والعاصي في الممات، ولازم ذلك إبطال حسبانهم أن المسئ كالمحسن في الحياة فإن ثبوت المجازاة يومئذ يقتضي وجوب الطاعة في الدنيا والمحسن على بصيرة من الامر في حياته يأتي بواجب العمل ويتزود من يومه لغده بخلاف المسئ العائش في عمى وضلال فليسا بمتساويين. قوله تعالى: (أفرايت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم) إلى آخر الاية ظاهر السياق أن قوله: (أفرايت) مسوق للتعجيب أي ألا تعجب ممن حاله هذا الحال ؟
والمراد بقوله: (اتخذ إلهه هواه) حيث قدم (إلهه) على (هواه) أنه يعلم أن له إلها يجب أن يعبده - وهو الله سبحانه - لكنه يبدله من هواه ويجعل هواه مكانه فيعبده فهو كافر بالله سبحانه على علم منه، ولذلك عقبه بقوله: (وأضله الله على علم) أي إنه ضال عن السبيل وهو يعلم. ومعنى اتخاذ الاله العبادة والمراد بها الاطاعة فإن الله سبحانه عد الطاعة عبادة كما في قوله: (ألم أعهد اليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن
[ 173 ]
اعبدوني) يس: 61، وقوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) التوبة: 31، وقوله: (ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) آل عمران: 64. والاعتبار يوافقه إذ ليست العبادة إلا إظهار الخضوع وتمثيل أن العابد عبد لا يريد ولا يفعل إلا ما أراده ورضيه معبوده فمن أطاع شيئا فقد اتخذه إلها وعبده فمن أطاع هواه فقد اتخذ إلهه هواه ولا طاعة إلا لله أو من أمر بطاعته. فقوله: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) أي ألا تعجب ممن يعبد هواه بإطاعته واتباعه وهو يعلم أن له إلها غيره يجب أن يعبده ويطيعه لكنه يجعل معبوده ومطاعه هو هواه. وقوله: (وأضله الله على علم) أي هو ضال بإضلال منه تعالى يضله به مجازاة لاتباعه الهوى حال كون إضلاله مستقرا على علم هذا الضال، ولا ضير في اجتماع الضلال مع العلم بالسبيل ومعرفته كما في قوله تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) النمل: 14، وذلك أن العلم لا يلازم الهدى ولا الضلال يلازم الجهل بل الذي يلازم الهدى هو العلم مع التزام العالم بمقتضى علمه فيتعقبه الاهتداء وأما إذا لم يلتزم العالم بمقتضى علمه لاتباع منه للهوى فلا موجب لاهتدائه بل هو الضلال وإن كان معه علم. وأما قول بعضهم: إن المراد بالعلم هو علمه تعالى والمعنى: وأضله الله على علم منه تعالى بحاله فبعيد عن السياق.
وقوله: (وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) كالعطف التفسيري لقوله: (وأضله الله على علم) والختم على السمع والقلب هو أن لا يسمع الحق ولا يعقله، وجعل الغشاوة على البصر هو أن لا يبصر الحق من آيات الله ومحصل الجميع: أن لا يترتب على السمع والقلب والبصر أثرها وهو الالتزام بمقتضى ما ناله من الحق إذا أدركه لاستكبار من نفسه وإتباع للهوى، وقد عرفت أن الضلال عن السبيل لا ينافي العلم به إذا لم يكن هناك التزام بمقتضاه. وقوله: (فمن يهديه من بعد الله) الضمير لمن اتخذ إلهه هواه والتفريع على ما تحصل من حاله أي إذا كان حاله هذا الحال وقد أضله الله على علم الخ، فمن يهديه من بعد الله سبحانه فلا هادي دونه قال تعالى: (قل إن هدى الله هو الهدى) البقرة: 120 وقال: (ومن يضلل الله فما له من هاد) المؤمن: 33.
[ 174 ]
وقوله: (أفلا تذكرون) أي أفلا تتفكرون في حاله فتتذكروا أن هؤلاء لا سبيل لهم إلى الهدى مع اتباع الهوى فتتعظوا. قوله تعالى: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) إلى آخر الاية، قال الراغب: الدهر في الاصل اسم لمدة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه، وعلى ذلك قوله تعالى: (هل أتى على الانسان حين من الدهر) ثم يعبر به عن كل مدة كثيرة، وهو خلاف الزمان فإن الزمان يقع على المدة القليلة والكثيرة. انتهى. والاية على ما يعطيه السياق - سياق الاحتجاج على الوثنيين المثبتين للصانع المنكرين للمعاد - حكاية قول المشركين في إنكار المعاد لا كلام الدهريين الناسبين للحوادث وجودا وعدما الى الدهر المنكرين للمبدأ والمعاد جميعا إذا لم يسبق لهم ذكر في الايات السابقة.
فقولهم: (ما هي إلا حياتنا الدنيا) الضمير للحياة أي لا حياة لنا إلا حياتنا الدنيا لا حياة وراءها فلا وجود لما يدعيه الدين الالهي من البعث والحياة الاخرة، وهذا هو القرينة المؤيدة لان يكون المراد بقوله: (نموت ونحيا) يموت بعضنا ويحيا بعضنا الاخر فيستمر بذلك بقاء النسل الانساني بموت الاسلاف وحياة الاخلاف ويؤيد ذلك بعض التأييد قوله بعده: (وما يهلكنا إلا الدهر) المشعر بالاستمرار. فالمعنى: و قال المشركون: ليست الحياة إلا حياتنا الدنيا التي نعيش بها في الدنيا فلا يزال يموت بعضنا وهم الاسلاف ويحيى آخرون وهم الاخلاف وما يهلكنا إلا الزمان - الذي بمروره يبلى كل جديد ويفسد كل كائن ويميت كل حي - فليس الموت انتقالا من دار الى دار منتهيا الى البعث والرجوع الى الله. ولعل هذا كلام بعض الجهلة من وثنية العرب وإلا فالعقيدة الدائرة بين الوثنية هي التناسخ وهو أن نفوس غير أهل الكمال إذا فارقت الابدان تعلقت بأبدان اخرى جديدة فإن كانت النفس المفارقة اكتسبت السعادة في بدنها السابق تعلقت ببدن جديد تتنعم فيه وتسعد، وإن كانت اكتسبت الشقاء في البدن السابق تعلقت ببدن لاحق تشقى فيه وتعذب جزاء لعملها السيئ وهكذا، وهؤلاء لا ينكرون استناد أمر الموت كالحياة إلى وساطة الملائكة.
[ 175 ]
ولهذا أعني كون القول بالتناسخ دائرا بين الوثنية ذكر بعض المفسرين أن المراد بالاية قولهم بالتناسخ، والمعنى: (إن هي إلا حياتنا الدنيا) فلسنا نخرج من الدنيا أبدا (نموت) عن حياة دنيا (ونحيا) بعد الموت بالتعلق ببدن جديد وهكذا (وما يهلكنا إلا الدهر). وهذا لا يخلو من وجه لكن لا يلائمه قولهم المنقول ذيلا: (وما يهلكنا إلا الدهر) إلا أن يوجه بأن مرادهم من نسبة الاهلاك إلى الدهر كون الدهر وسيلة يتوسل بها الملك
الموكل على الموت إلى الاماتة، وكذا لا تلائمه حجتهم المنقولة ذيلا: (ائتوا بابائنا إن كنتم صادقين) الظاهرة في أنهم يرون آباءهم معدومين باطلي الذوات. وذكر في معنى الاية وجوه أخر لا يعبأ بها كقول بعضهم: المعنى نكون أمواتا لا حياة فيها وهو قبل ولوج الروح ثم نحيا بولوجها على حد قوله تعالى: (وكنتم أمواتا فأحياكم) البقرة: 28. وقول بعضهم: المراد بالحياة بقاء النسل مجازا، والمعنى: نموت نحن ونحيا ببقاء نسلنا. إلى غير ذلك مما قيل. وقوله: (وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون) أي إن قولهم ذلك المشعر بإنكار المعاد قول بغير علم وإنما هو ظن يظنونه وذلك أنهم لا دليل لهم يدل على نفي المعاد مع ما هناك من الادلة على ثبوته. قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بابائنا إن كنتم صادقين) تأكيد لكون قولهم بنفي المعاد وحصر الحياة في الحياة الدنيا قولا بغير علم. والمراد بالايات البينات الايات المشتملة على الحجج المثبتة للمعاد وكونها بينات وضوح دلالتها على ثبوته بلا شك، وتسمية قولهم: (ائتوا بابائنا إن كنتم صادقين) مع كونه اقتراحا جزافيا بعد قيام الحجة إنما هو من باب التهكم فإنه من قبيل طلب الدليل على المطلوب بعد قيام الدليل عليه فكأنه قيل: ما كانت حجتهم إلا اللاحجة. والمعنى: وإذا تتلى على هؤلاء المنكرين للمعاد آياتنا المشتملة على الحجج المثبتة للمعاد والحال أنها واضحات الدلالة على ثبوته ما قابلوها إلا بجزاف من القول وهو طلب الدليل على إمكانه بإحياء آبائهم الماضين.
[ 176 ]
قوله تعالى: (قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب
فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون - إلى قوله - والارض) ما ذكر من اقتراحهم الحجة على مطلوب قامت عليه الحجة وإن كان اقتراحا جزافيا لا يستدعي شيئا من الجواب لكنه سبحانه أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيبهم بإثبات إمكانه الذي كانوا يستبعدونه. ومحصله: أن الذي يحييكم لاول مرة ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة الذي لا ريب فيه هو الله سبحانه ولله ملك السماوات والارض يحكم فيها ما يشاء ويتصرف فيها كيفما يريد فله أن يحكم برجوع الناس إليه ويتصرف فيكم بجمعكم إلى يوم القيامة والقضاء بينكم ثم الجزاء، والباقي ظاهر. قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون) قال الراغب: الخسر والخسران انتقاص رأس المال وينسب ذلك إلى الانسان فيقال: خسر فلان، وإلى الفعل فيقال: خسرت تجارته، قال تعالى: (تلك إذا كرة خاسرة) ويستعمل ذلك في المقتنيات الخارجية كالمال والجاه في الدنيا وهو الاكثر، وفي المقنيات النفسية كالصحة والسلامة والعقل والايمان والثواب وهو الذي جعله الله تعالى الخسران المبين. قال: وكل خسران ذكره الله تعالى في القرآن فهو على هذا المعنى الاخير دون الخسران المتعلق بالمقتنيات المالية والتجارات البشرية. وقال: والابطال يقال في إفساد الشئ وإزالته سواء كان ذلك الشئ حقا أو باطلا قال تعالى: (ليحق الحق ويبطل الباطل) وقد يقال فيمن يقول شيئا لا حقيقة له نحو (ولئن جئتهم باية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون)، وقوله تعالى: (خسر هنالك المبطلون) أي الذين يبطلون الحق. انتهى. والاشبه أن يكون المراد بقيام الساعة فعلية ما يقع فيها من البعث والجمع والحساب والجزاء وظهوره، وبذلك صح جعل الساعة مظروفا لليوم وهما واحد، والاشبه أن يكون قوله: (يومئذ) تأكيدا لقوله: (يوم تقوم الساعة). والمعنى: ويوم تقوم الساعة وهي يوم الرجوع إلى الله يومئذ يخسر المبطلون الذين
أبطلوا الحق وعدلوا عنه. قوله تعالى: (وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها) الخ، الجثو البروك على الركبتين كما أن الجذو البروك على أطراف الاصابع.
[ 177 ]
والخطاب عام لكل من يصح منه الرؤية وإن كان متوجها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد بالدعوة إلى الكتاب الدعوة إلى الحساب على ما ينطق به الكتاب بإحصائه الاعمال بشهادة قوله بعده: (اليوم تجزون ما كنتم تعملون). والمعنى: وترى أنت وغيرك من الرائين كل امة من الامم جالسة على الجثو جلسة الخاضع الخائف كل امة منهم تدعى إلى كتابها الخاص بها وهي صحيفة الاعمال وقيل لهم: اليوم تجزون ما كنتم تعملون. ويستفاد من ظاهر الاية أن لكل امة كتابا خاصا بهم كما أن لكل إنسان كتابا خاصا به قال تعالى: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) أسرى: 13. قوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) قال في الصحاح: ونسخت الكتاب وانتسخته واستنسخته كله بمعنى، والنسخة اسم المنتسخ منه. انتهى، وقال الراغب: النسخ إزالة الشئ بشئ يتعقبه كنسخ الشمس الظل ونسخ الظل الشمس والشيب الشباب - إلى أن قال - ونسخ الكتاب نقل صورته المجردة إلى كتاب آخر وذلك لا يقتضي إزالة الصورة الاولى بل يقتضي إثبات مثلها في مادة اخرى كاتخاذ نقش الخاتم في شموع كثيرة، والاستنساخ التقدم بنسخ الشئ والترشح للنسخ. انتهى. ومقتضى ما نقل أن المفعول الذي يتعدى إليه الفعل في قولنا: استنسخت الكتاب هو الاصل المنقول منه، ولازم ذلك أن تكون الاعمال في قوله: (إنا كنا
نستنسخ ما كنتم تعملون) كتابا وأصلا وإن شئت فقل: في أصل وكتاب يستنسخ وينقل منه ولو اريد به ضبط الاعمال الخار جية القائمة بالانسان بالكتابة لقيل: إنا كنا نكتب ما كنتم تعملون إذ لا نكتة تستدعي فرض هذه الاعمال كتابا وأصلا يستنسخ، ولا دليل على كون (يستنسخ) بمعنى يستكتب كما ذكره بعضهم. ولازم ذلك أن يكون المراد بما تعملون هو أعمالهم الخارجية بما أنها في اللوح المحفوظ فيكون استنساخ الاعمال استنساخ ما يرتبط بأعمالهم من اللوح المحفوظ وتكون
[ 178 ]
صحيفة الاعمال صحيفة الاعمال وجزء من اللوح المحفوظ، ويكون معنى كتابة الملائكة للاعمال تطبيقهم ما عندهم من نسخة اللوح على الاعمال. وهذا هو المعنى الذي وردت به الرواية من طرق الشيعة عن الصادق عليه السلام ومن طرق أهل السنة عن ابن عباس، وسيوافيك في البحث الروائي التالي. وعلى هذا فقوله: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) من كلامه تعالى لا من كلام الملائكة، وهو من خطابه تعالى لاهل الجمع يوم القيامة يحكيه لنا فيكون في معنى: (ويقال لهم هذا كتابنا) الخ. والاشارة بهذا - على ما يعطيه السياق - إلى صحيفة الاعمال وهي بعينها إشارة إلى اللوح المحفوظ على ما تقدم وإضافة الكتاب إليه تعالى نظرا إلى أنه صحيفة الاعمال من جهة أنه مكتوب بأمره تعالى ونظرا إلى أنه اللوح المحفوظ من جهة التشريف وقوله: (ينطق عليكم بالحق) أي يشهد على ما عملتم ويدل عليه دلالة واضحة ملا بسا للحق. وقوله: (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) تعليل لكون الكتاب ينطق عليهم بالحق أي أن كتابنا هذا دال على عملكم بالحق من غير أن يتخلف عنه لانه اللوح المحفوظ المحيط بأعمالكم بجميع جهاتها الواقعية.
ولولا أن الكتاب يريهم أعمالهم بنحو لا يداخله شك ولا يحتمل منهم التكذيب لكذبوه، قال تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) آل عمران: 30. وللقوم في الاية أقوال أخر: منها ما قيل: إن الاية من كلام الملائكة لا من كلام الله ومعنى الاستنساخ الكتابة والمعنى: هذا أي صحيفة الاعمال كتابنا معشر الملائكة الكاتبين للاعمال يشهد عليكم بالحق إنا كنا نكتب ما كنتم تعملون. وفيه أن كونه من كلام الملائكة بعيد من السياق على أن كون الاستنساخ بمعنى مطلق الكتابة لم يثبت لغة. ومنها: أن الاية من كلام الله، والاشارة بهذا إلى صحيفة الاعمال، وقيل: إلى اللوح المحفوظ، والاستنساخ بمعنى الاستكتاب مطلقا.
[ 179 ]
قوله تعالى: (أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين) تفصيل حال الناس يومئذ بحسب اختلافهم بالسعادة والشقاء والثواب والعقاب والسعداء المثابون هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والاشقياء المعاقبون هم الذين كفروا من المستكبرين المجرمين. والمراد بالرحمة الافاضة الالهية تسعد من استقر فيها ومنها الجنة، والفوز المبين الفلاح الظاهر، والباقي واضح. قوله تعالى: (وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين) المراد بالذين كفروا المتلبسون بالكفر عن تكذيب وجحود بشهادة قوله: (أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم) الخ. والفاء في (أفلم تكن) للتفريع فتدل على مقدر متفرع عليه هو جواب لما،
والتقدير: فيقال لهم ألم تكن آياتي تتلى عليكم، والمراد بالايات الحجج الالهية الملقاة إليهم عن وحي ودعوة، والمجرم هو المتلبس بالاجرام وهو الذنب. والمعنى: وأما الذين كفروا جاحدين للحق مع ظهوره فيقال لهم توبيخا وتقريعا: ألم تكن حججي تقرأ وتبين لكم في الدنيا فاستكبرتم عن قبولها وكنتم قوما مذنبين. قوله تعالى: (وإذا قيل أن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة) الخ، المراد بالوعد الموعود وهو ما وعده الله بلسان رسله من البعث والجزاء فيكون قوله: (والساعة لا ريب فيها) من عطف التفسير، ويمكن أن يراد بالوعد المعنى المصدري. وقولهم: (ما ندري ما الساعة) معناه أنه غير مفهوم لهم والحال أنهم أهل فهم ودراية فهو كناية عن كونه أمرا غير معقول ولو كان معقولا لدروه. وقوله: (إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) أي ليست مما نقطع به ونجزم بل نظن ظنا لا يسعنا أن نعتمد عليه، ففي قولهم: (ما ندري ما الساعة) الخ، غب ما تليت عليهم من الايات البينة أفحش المكابرة مع الحق. قوله تعالى: (وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون) إضافة السيئات إلى ما عملوا بيانية أو بمعنى من، والمراد بما عملوا جنس ما عملوا أي
[ 180 ]
ظهر لهم أعمالهم السيئة أو السيئات من أعمالهم فالاية في معنى قوله: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء) آل عمران: 30. فالاية من الايات الدالة على تمثل الاعمال، وقيل: إن في الكلام حذفا والتقدير: وبدا لهم جزاء سيئات ما عملوا. وقوله: (وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون) أي وحل بهم العذاب الذي كانوا يسخرون منه في الدنيا إذا أنذروا به بلسان الانبياء والرسل. قوله تعالى: (وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما
لكم من ناصرين) النسيان كناية عن الاعراض والترك فنسيانه تعالى لهم يوم القيامة إعراضه عنهم وتركه لهم في شدائده وأهواله، ونسيانهم لقاء يومهم ذاك في الدنيا إعراضهم عن تذكره وتركهم التأهب للقائه، والباقي ظاهر. قوله تعالى: (ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا) الخ، الاشارة بقوله: (ذلكم) إلى ما ذكر من عقابهم من ظهور السيئات وحلول العذاب والهزء السخرية التى يستهزء بها والباء للسببية. والمعنى: ذلكم العذاب الذي يحل بكم بسبب أنكم اتخذتم آيات الله سخرية تستهزءون بها وبسبب أنكم غرتكم الحياة الدنيا فأخلدتم إليها وتعلقتم بها. وقوله: (فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون) صرف الخطاب عنهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويتضمن الكلام خلاصة القول فيما يصيبهم من العذاب يومئذ وهو الخلود في النار وعدم قبول العذر منهم. والاستعتاب طلب العتبى والاعتذار، ونفي الاستعتاب كناية عن عدم قبول العذر. قوله تعالى: (فلله الحمد رب السماوات ورب الارض رب العالمين) تحميد له تعالى بالتفريع على ما تقدم في السورة من كونه خالق السماوات والارض وما بينهما والمدبر لامر الجميع ومن بديع تدبيره خلق الجميع بالحق المستتبع ليوم الرجوع إليه والجزاء بالاعمال وهو المستدعي لجعل الشرائع التي تسوق إلى السعادة والثواب ويتعقبه الجمع ليوم الجمع ثم الجزاء واستقرار الجميع على الرحمة والعدل بإعطاء كل شئ ما يستحقه فلم يدبر إلا تدبيرا جميلا ولم يفعل إلا فعلا محمودا فله الحمد كله.
[ 181 ]
وقد كرر (الرب) فقال: رب السماوات ورب الارض ثم أبدل منهما قوله: (رب العالمين) ليأتي بالتصريح بشمول الربوبية للجميع فلو جئ برب العالمين وأكتفى به أمكن أن يتوهم أنه رب المجموع لكن للسماوات خاصة رب آخر وللارض وحدها
رب آخر كما ربما قال بمثله الوثنية، وكذا لو اكتفى بالسماوات والارض لم يكن صريحا في ربوبيته لغيرهما، وكذا لو أكتفى بإحداهما. قوله تعالى: (وله الكبرياء في السماوات والارض وهو العزيز الحكيم) الكبرياء على ما عن الراغب: الترفع عن الانقياد، وعن ابن الاثير: العظمة والملك وفي المجمع السلطان القاهر والعظمة القاهرة والعظمة والرفعة. وهي على أي حال أبلغ معنى من الكبر وتستعمل في العظمة غير الحسية ومرجعه إلى كمال وجوده ولا تناهي كماله. وقوله: (وله الكبرياء في السماوات والارض) أي له الكبرياء في كل مكان فلا يتعالى عليه شئ فيهما ولا يستصغره شئ وتقديم الخبر في (له الكبرياء) يفيد الحصر كما في قوله: (فلله الحمد). وقوله: (وهو العزيز الحكيم) أي الغالب غير المغلوب فيما يريد من خلق وتدبير في الدنيا والاخرة والباني خلقه وتدبيره على الحكمة والاتقان. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) قال: نزلت في قريش كلما هووا شيئا عبدوه. وفي الدر المنثور أخرج النسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان الرجل من العرب يعبد الحجر فإذا رأى أحسن منه أخذه وألقى الاخر فأنزل الله (أفرايت من اتخذ إلهه هواه). وفي الجمع في قوله تعالى: (وما يهلكنا إلا الدهر) وقد روي في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر. أقول: قال الطبرسي بعد إيراد الحديث: وتأويله أن أهل الجاهلية كانوا ينسبون
[ 182 ]
الحوادث المجحفة والبلايا النازلة الى الدهر فيقولون: فعل الدهر كذا، وكانوا يسبون الدهر فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن فاعل هذه الامور هو الله فلا تسبوا فاعلها انتهى. ويؤيد هذا الوجه الرواية التالية. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير والبيهقي في الاسماء والصفات عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: قال الله تبارك وتعالى: لا يقل ابن آدم يسب الدهر يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أرسل الليل والنهار فإذا شئت قبضتهما. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) الاية، حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن عبد الرحيم القصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن (ن والقلم) قال: إن الله خلق القلم من شجرة في الجنة يقال لها الخلد ثم قال لنهر في الجنة: كن مدادا فجمد النهر وكان أشد بياضا من الثلج وأحلى من الشهد. ثم قال للقلم: أكتب. قال: يا رب ما أكتب ؟ قال: اكتب ما كان وما هو كائن الى يوم القيامة فكتب القلم في رق أشد بياضا من الفضة وأصفى من الياقوت. ثم طواه فجعله في ركن العرش ثم ختم على فم القلم فلن ينطق أبدا. فهو الكتاب المكنون الذي منه النسخ كلها أو لستم عربا ؟ فكيف لا تعرفون معنى الكلام ؟ وأحدكم يقول لصحابه: انسخ ذلك الكتاب أو ليس إنما ينسخ من كتاب آخر من الاصل ؟ وهو قوله: (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون). أقول: قوله عليه السلام: فكتب القلم في رق الخ، تمثيل للوح المكتوب فيه الحوادث بالرق والرق ما يكتب فيه شبه الكاغد - على ما ذكره الراغب - وقد تقدم الحديث عنه عليه السلام أن القلم ملك واللوح ملك، وقوله: فجعله في ركن العرش تمثيل للعرش بعرش الملك ذي الاركان والقوائم وقوله: ثم ختم على فم القلم (الخ) كناية عن كون ما كتب في الرق قضاء محتوما لا يتغير ولا يتبدل، وقوله: أو لستم عربا (الخ) إشارة الى ما تقدم توضيحه في تفسير الاية.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن الله خلق النون وهو الدواة وخلق القلم فقال: اكتب. قال: ما أكتب ؟ قال: اكتب ما هو كائن الى يوم القيامة من عمل معمول بر أو فاجر أو رزق مرزوق حلال أو حرام ثم الزم كل شئ من ذلك شأنه: دخوله في الدنيا ومقامه فيها كم، وخروجه منها كيف ؟
[ 183 ]
ثم جعل على العباد حفظة وعلى الكتاب خزانا تحفظه ينسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم فإذا فنى ذلك الرزق انقطع الامر وانقضى الاجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم فيقول لهم الخزنة: ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا فيرجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا. قال ابن عباس: ألستم قوما عربا ؟ تسمعون الحفظة يقولون: (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل. أقول: والخبر كما ترى يجعل الاية من كلام الملائكة الحفظة. وفيه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الاية قال: يستنسخ الحفظة من أم الكتاب ما يعمل بنو آدم فإنما يعمل الانسان على ما استنسخ الملك من أم الكتاب. وعن كتاب سعد السعود لابن طاوس قال بعد ذكر الملكين الموكلين بالعبد: وفي رواية أنهما إذا أرادا النزول صباحا ومساء ينسخ لهما إسرافيل عمل العبد من اللوح المحفوظ فيعطيهما ذلك فإذا صعدا صباحا ومساء بديوان العبد قابله إسرافيل بالنسخ التي انتسخ لهما حتى يظهر أنه كان كما نسخ منه. وفي الجمع في قوله تعالى: (وله الكبرياء في السماوات والارض) وفي الحديث يقول الله: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدة منهما ألقيته في نار جهنم. أقول: ورواه في الدر المنثورعن مسلم وأبي داود وابن ماجه وغير هم عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
[ 184 ]
(سورة الاحقاف مكية، وهي خمس وثلاثون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. حم - 1. تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم - 2. ما خلقنا السموات والارض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون - 3. قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الارض أم لهم شرك في السموات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين - 4. ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيمة وهم عن دعائهم غافلون - 5. وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين - 6. وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين - 7. أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم - 8. قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا
[ 185 ]
إلا نذير مبين - 9. قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فامن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين - 10. وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم - 11. ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب
مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين - 12. إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون - 13. أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون - 14. (بيان) غرض السورة إنذار المشركين الرادين للدعوة إلى الايمان بالله ورسوله بالمعاد بما فيه من أليم العذاب لمنكريه المعرضين عنه، ولذلك تفتتح الكلام بإثبات المعاد: (ما خلقنا السماوات والارض وما بينهما إلا بالحق) ثم يعود إليه عودة بعد عودة كقوله: (وإذا حشر الناس)، وقوله: (والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج)، وقوله: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم)، وقوله: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق)، وقوله: في مختتم السورة، (كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ) الاية. وفيها احتجاج على الوحدانية والنبوة، وإشارة إلى هلاك قوم هود وهلاك القرى التي حول مكة وإنذارهم بذلك، وإنباء عن حضور نفر من الجن عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستماعهم القرآن وإيمانهم به ورجوعهم إلى قومهم منذرين لهم.
[ 186 ]
والسورة مكية كلها إلا آيتين اختلف فيهما سنشير اليهما في البحث الروائي الاتي إن شاء الله قوله تعالى: (أم يقولون افتراه) الخ، وقوله: (قل أرأيتم إن كان من عند الله) الاية. قوله تعالى: (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) تقدم تفسيره. قوله تعالى: (ما خلقنا السموات والارض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى) الخ، المراد بالسماوات والارض وما بينهما مجموع العالم المشهود علويه وسفليه، والباء في
(بالحق) للملابسة، والمراد بالاجل المسمى ما ينتهي إليه أمد وجود الشئ، والمراد به في الاية الاجل المسمى لوجود مجموع العالم وهو يوم القيامة الذي تطوى فيه السماء كطي السجل للكتب وتبدل الارض غير الارض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار. والمعنى: ما خلقنا العالم المشهود بجميع أجزائه العلوية والسفلية إلا ملابسا للحق له غاية ثابتة وملا بسا لاجل معين لا يتعداه وجوده وإذا كان له أجل معين يفنى عند حلوله وكانت مع ذلك له غاية ثابتة فبعد هذا العالم عالم آخر هو عالم البقاء وهو المعاد الموعود، وقد تكرر الكلام فيما تقدم في معنى كون الخلق بالحق. وقوله: (والذين كفروا عما أنذروا معرضون المراد بالذين كفروا هم المشركون بدليل الاية التالية لكن ظاهر السياق أن المراد بكفرهم كفرهم بالمعاد، و (ما) في (عما) مصدرية أو موصولة والثاني هو الاوفق للسياق والمعنى: والمشركون الذين كفروا بالمعاد عما أنذروا به - وهو يوم القيامة بما فيه من أليم العذاب لمن أشرك بالله - معرضون منصرفون. قوله تعالى: (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله) إلى آخر الاية (أرأيتم) بمعنى أخبروني والمراد بما تدعون من دون الله الاصنام التي كانوا يدعونها ويعبدونها وإرجاع ضمائر اولي العقل إليها بعد لكونهم ينسبون إليه أفعال اولي العقل وحجة الاية وما بعدها مع ذلك تجري في كل إله معبود من دون الله.
(1) اشارة الى الاية 104 من سورة الانبياء. (*)
(2) اشارة الى الاية 48 من سورة ابراهيم. (*)
[ 187 ]
وقوله: (أروني ماذا خلقوا من الارض) أروني بمعنى أخبروني و (ما) اسم استفهام و (ذا) بعده زائدة والمجموع مفعول (خلقوا) ومن الارض متعلق به.
وقوله: (أم لهم شرك في السماوات) أي شركة في خلق السماوات فإن خلق شئ من السماوات والارض هو المسؤل عنه. توضيح ذلك أنهم وإن لم ينسبوا إليها إلا تدبير الكون وخصوا الخلق به سبحانه كما قال تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن الله) الزمر: 38، وقال: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) الزخرف: 87، لكن لما كان الخلق لا ينفك عن التدبير أوجب ذلك أن يكون لمن له سهم من التدبير سهم في الخلق ولذلك أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يسألهم عما لاربابهم الذين يدعون من دون الله من النصيب في خلق الارض أو في خلق السماوات فلا معنى للتدبير في الكون من غير خلق. وقوله: (ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) الاشارة بهذا الى القرآن، والمراد بكتاب من قبل القرآن كتاب سماوي كالتوراة نازل من عند الله يذكر شركة آلهتهم في خلق السماوات أو الارض. و الاثارة على ما ذكره الراغب مصدر بمعنى النقل والرواية قال: وأثرت العلم رويته آثره أثرا وأثارة وأثرة وأصله تتبعت أثره انتهى. وعليه فالاثارة في الاية مصدر بمعنى المفعول أي شئ منقول من علم يثبت أن لالهتهم شركة في شئ من السماوات والارض، وفسره غالب المفسرين بمعنى البقية وهو قريب مما تقدم. والمعنى: ائتوني للدلالة على شركهم لله في خلق شئ من الارض أو في خلق السماوات بكتاب سماوي من قبل القرآن يذكر ذلك أو بشئ منقول من علم أو بقية من علم اورثتموها يثبت ذلك إن كنتم صادقين في دعواكم أنهم شركاء لله سبحانه. قوله تعالى: (ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم) القيامة) الخ، الاستفهام إنكاري، وتحديد عدم استجابتهم الدعوة بيوم القيامة لما أن يوم القيامة أجل مسمى للدنيا والدعوة مقصورة في الدنيا ولا دنيا بعد قيام الساعة. وقوله: (وهم عن دعائهم غافلون) صفة اخرى من صفات آلهتهم مضافة الى
صفة عدم استجابتهم وليس تعليلا لعدم الاستجابة فإن عدم استجابتهم معلول كونهم
[ 188 ]
لا يملكون لعبادهم شيئا قال تعالى: (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا) المائدة: 76. بل هي صفة مضافة إلى صفة مذكورة لتكون توطئه وتمهيدا لما سيذكره في الاية التالية من عداوتهم لهم وكفرهم بعبادتهم يوم القيامة فهم في الدنيا غافلون عن دعائهم وسيطلعون عليه يوم القيامة فيعادونهم ويكفرون بعبادتهم. وفي الاية دلالة على سراية الحياة والشعور في الاشياء حتى الجمادات فإن الاصنام من الجماد وقد نسب إليها الغفلة والغفلة من شؤن ذوي الشعور لا تطلق إلا على ما من شأن موصوفه أن يشعر. قوله تعالى: (حتى إذا حشر الناس كانو لهم أعداء وكانو بعبادتهم كافرين) الحشر إخراج الشي من مقره بإزاج، والمراد بعث الناس من قبورهم وسوقهم إلى الحشر يوم القيامة فيومئذ يعاديهم آلهتم ويكفرون بشرك عبادهم بالتبري منهم كما قال تعالى: (ويوم القيامة يكفرون بشر ككم) فاطر: 14، وقال حكاية عنهم: (تبر أنا اليك ما كانو إيانا بعبدون) القصص: 63، وقال: (فكفى بالله شهيإا بيننا وبينكم أن كنا عن عبادتكم لغافلين) يونس: 29. وفي سياق الا يتين تلويح إلى أن هذه الجمادات التي لا تظهر آثارهاو قد تقدم بعض الكلام في ذيل قوله تعالى: (قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ) الم السجدة: 21. قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين) الاية والتي بعدها مسوقتان للتوبيخ، والمراد بالايات البينات آيات القران تتلى عليهم، ثم بدلها من الحق الذي جاءهم حيث قال: (للحق لما جاءهم)
- وكان مقتضى الظاهر أن يقال: (لها) للدلالة على أنها حق جاءهم لا مسوغ لرميها بأنها سحر مبين وهم يعملون أنها حق مبين فهم متحكون مكابرون للحق الصريح. قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا) الخ، (أم) منطقعة أي بل يقولون افترى القران على الله في دعواه أنه كلامه.
[ 189 ]
وقوله: (قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا) أي إن افتريت القران لاجلكم آخذني بالعذاب أو عاجلني بالعذاب على الافتراء ولستم تقدرون على دفع عذابه عني فكيف أفتريه عليه لاجلكم، والمحصل أني على يقين من أمر الله وأعلم أنه يأخذ المفترى عليه أو يعاجل في عقوبته وأنكم لا تقدرون على دفع ما يريده فكيف أفتري عليه فأعرض نفسي على عذابه المقطوع لاجلكم ؟ أي لست بمفتر عليه. ويتبين بذلك أن جزاء الشرط في قوله: (إن افتريته فلا تملكون لي) الخ، محذوف وقد أقيم مقامه ما يجري مجرى ارتفاع المانع، والتقدير: إن افتريته آخذني بالعذاب أو عاجلني بالعذاب ولا مانع من قبلكم يمنع عنه، وليس من قبيل وضع المسبب موضع السبب كما قيل. وقوله: (هو أعلم بما تفيضون فيه) الافاضة في الحديث الخوض فيه و (ما) موصولة يرجع إليه ضمير (فيه) أو مصدرية ومرجع الضمير هو القرآن، والمعنى: الله سبحانه أعلم بالذي تخوضون فيه من التكذيب برمي القرآن بالسحر والافتراء على الله أو المعنى: هو أعلم بخوضكم في القرآن. وقوله: (كفى به شهيدا بيني وبينكم) احتجاج ثان على نفي الافتراء وأول الاحتجاجين قوله: (إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا) وقد تقدم بيانه آنفا، ومعنى الجملة: أن شهادة الله سبحانه في كلامه بأنه كلامه وليس افتراء مني يكفي في نفي كوني مفتريا به عليه، وقد صدق سبحانه هذه الدعوى بقوله: (لكن الله يشهد
بما أنزل اليك أنزله بعلمه) النساء: 166، وما في معناه من الايات، وأما أنه كلامه فيكفي في ثبوته آيات التحدي. وقوله: (وهو الغفور الرحيم) تذييل الاية بالاسمين الكريمين للاحتجاج على نفي ما يتضمنه تحكمهم الباطل من نفي الرسالة كأنه قيل: إن قولكم: (افتراه) يتضمن دعويين: دعوى عدم كون هذا القرآن من كلام الله ودعوى بطلان الرسالة - والوثنيون ينفونها مطلقا - أما الدعوى الاولى فيدفعه أولا: أنه إن افتريته فلا تملكون، الخ، وثانيا: أن الله يكفيني شهيدا على كونه كلامه لا كلامي. وأما الدعوى الثانية فيدفعها أن الله سبحانه غفور رحيم، ومن الواجب في حكمته أن يعامل خلقه بالمغفرة والرحمة ولا تشملان إلا التائبين الراجعين إليه الصالحين
[ 190 ]
لذلك وذلك بأن يهديهم إلى صراط يقربهم منه سلوكه فتشملهم مغفرته ورحمته بحط السيئات والاستقرار في دار السعادة الخالدة، وكونه واجبا في حكمته لان فيهم صلاحية هذا الكمال وهو الجواد الكريم، قال تعالى: (وما كان عطاء ربك محظورا) أسرى: 20، وقال: (وعلى الله قصد السبيل) النحل: 9، والسبيل إلى هذه الهداية هي الدعوة من طريق الرسالة فمن الواجب في الحكمة أن يرسل إلى الناس رسولا يدعوهم إلى سبيله الموصلة إلى مغفرته ورحمته. قوله تعالى: (قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) الخ، البدع ما كان غير مسبوق بالمثل من حيث صفاته أو من حيث أقواله وأفعاله ولذا فسره بعضهم بأن المعنى: ما كنت أول رسول أرسل اليكم لا رسول قبلي، وقيل: المعنى: ما كنت مبدعا في أقوالي وأفعالي لم يسبقني إليها أحد من الرسل. والمعنى الاول لا يلائم السياق ولا قوله المتقدم: (وهو الغفور الرحيم) بالمعنى الذي تقدم توجيهه فثاني المعنيين هو الانسب، وعليه فالمعنى: لست أخالف الرسل
السابقين في صورة أو سيرة وفي قول أو فعل بل أنا بشر مثلهم في من آثار البشرية ما فيهم وسبيلهم في الحياة سبيلي. وبهذه الجملة يجاب عن مثل ما حكاه الله من قولهم: (ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها) الفرقان: 8. وقوله: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) نفي لعلم الغيب عن نفسه فهو نظير قوله: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء) الاعراف: 188، والفرق بين الايتين أن قوله: (ولو كنت أعلم الغيب) الخ، نفي للعلم بمطلق الغيب واستشهاد له بمس السوء وعدم الاستكثار من الخير، وقوله: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) نفي للعلم بغيب خاص وهو ما يفعل به وبهم من الحوادث التي يواجهونها جميعا، وذلك أنهم كانوا يزعمون أن المتلبس بالنبوة لو كان هناك نبي يجب أن يكون عالما في نفسه بالغيوب ذا قدرة مطلقة غيبية كما يظهر من اقتراحاتهم المحكية في القرآن فامر صلى الله عليه وآله وسلم أن يعترف - مصرحا به - أنه لا يدري ما يفعل به ولا بهم فينفي عن
[ 191 ]
نفسه العلم بالغيب، وأن ما يجري عليه وعليهم من الحوادث خارج عن إرادته واختياره وليس له في شئ منها صنع بل يفعله به وبهم غيره وهو الله سبحانه. فقوله: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) كما ينفي عنه العلم بالغيب ينفي عنه القدرة على شئ مما يصيبه ويصيبهم مما هو تحت أستار الغيب. ونفي الاية العلم بالغيب عنه صلى الله عليه وآله وسلم لا ينافي علمه بالغيب من طريق الوحي كما يصرح تعالى به في مواضع من كلامه كقوله: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه اليك) آل عمران: 44، يوسف: 102، وقوله: (تلك من أنباء الغيب نوحيها اليك) هود: 49، وقوله: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول)
الجن: 27، ومن هذا الباب قول المسيح عليه السلام: (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) آل عمران: 49، وقول يوسف عليه السلام لصاحبي السجن: (لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما) يوسف: 37. وجه عدم المنافاة أن الايات النافية للعلم بالغيب عنه وعن سائر الانبياء عليهم السلام إنما تنفيه عن طبيعتهم البشرية بمعنى أن تكون لهم طبيعة بشرية أو طبيعة هي أعلى من طبيعة البشر من خاصتها العلم بالغيب بحيث يستعمله في جلب كل نفع ودفع كل شر كما نستعمل ما يحصل لنا من طريق الاسباب وهذا لا ينافي انكشاف الغيب لهم بتعليم إلهي من طريق الوحي كما أن إتيانهم بالمعجزات فيما أتوا بها ليس عن قدرة نفسية فيهم يملكونها لانفسهم بل بإذن من الله تعالى وأمر، قال تعالى: (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا) الاسراء: 93، جوابا عما اقترحوا عليه من الايات، وقال: (قل إنما الايات عند الله وإنما أنا نذير مبين) العنكبوت: 50، وقال: (وما كان لرسول أن يأتي باية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق) المؤمن: 78. ويشهد بذلك قوله بعده متصلا به: (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) فإن اتصاله بما قبله يعطي أنه في موضع الاضراب، والمعنى: إني ما أدري شيئا من هذه الحوادث بالغيب من قبل نفسي وإنما أتبع ما يوحى إلي من ذلك. وقوله: (وما أنا إلا نذير مبين) تأكيد لجميع ما تقدم في الاية من قوله: (ما كنت بدعا) الخ و (وما أدري) الخ، وقوله: (إن أتبع) الخ.
[ 192 ]
(بحث فلسفي ودفع شبهة) تظافرت الاخبار من طرق أئمة أهل البيت أن الله سبحانه علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمة عليه السلام علم كل شئ، وفسر ذلك في بعضها أن علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طريق الوحي وأن علم الائمة عليه السلام ينتهي إلى النبي صلى الله عليه واله وسلم. وأورد عليه أن المأثور من سيرتهم أنهم كانوا يعيشون مدى حياتهم عيشة سائر
الناس فيقصدون مقاصدهم ساعين إليها على ما يرشد إليه الاسباب الظاهرية ويهدي إليه السبل العادية فربما أصابوا مقاصدهم وربما أخطابهم الطريق فلم يصيبوا، ولو علموا الغيب لم يخيبوا في سعيهم أبدا فالعاقل لا يترك سبيلا يعلم يقينا أنه مصيب فيه ولا يسلك سبيلا يعلم يقينا أنه مخطئ فيه. وقد أصيبوا بمصائب ليس من الجائز أن يلقى الانسان نفسه في مهلكتها لو علم بواقع الامر كما أصيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد بما أصيب، وأصيب علي عليه السلام في مسجد الكوفة حين فتك به المرادي لعنه الله، وأصيب الحسين عليه السلام فقتل في كربلاء، وأصيب سائر الائمة بالسم، فلو كانوا يعلمون ما سيجري عليهم كان ذلك من إلقاء النفس في التهلكة وهو محرم، والاشكال كما ترى مأخوذ من الايتين: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم). ويرده أنه مغالطة بالخلط بين العلوم العادية وغير العادية فالعلم غير العادي بحقائق الامور لا أثر له في تغيير مجرى الحوادث الخارجية. توضيح ذلك أن أفعالنا الاختيارية كما تتعلق بإرادتنا كذلك تتعلق بعلل وشرائط اخرى مادية زمانية ومكانية إذا اجتمعت عليها تلك العلل والشرائط وتمت بالارادة تحققت العلة التامة وكان تحقق الفعل عند ذلك واجبا ضروريا إذ من المستحيل تخلف المعلول عن علته التامة. فنسبة الفعل وهو معلول إلى علته التامة نسبة الوجوب والضرورة كنسبة جميع الحوادث إلى عللها التامة، ونسبته إلى إرادتنا وهي جزء علته نسبة الجواز والامكان. فتبين أن جميع الحوادث الخارجية ومنها أفعالنا الاختيارية واجبة الحصول في
[ 193 ]
الخارج واقعة فيها على صفة الضرورة ولا ينافي ذلك كون أفعالنا الاختيارية ممكنة بالنسبة الينا مع وجوبها على ما تقدم.
فإذا كان كل حادث ومنها أفعالنا الاختيارية بصفة الاختيار معلولا له علة تامة يستحيل معها تخلفه عنها كانت الحوادث سلسلة منتظمة يستوعبها الوجوب لا يتعدى حلقة من حلقاتها موضعها ولا تتبدل من غيرها، وكان الجميع واجبا من أول يوم سواء في ذلك ما وقع في الماضي وما لم يقع بعد، فلو فرض حصول علم بحقائق الحوادث على ما هي عليها في متن الواقع لم يؤثر ذلك في إخراج حادث منها وإن كان اختياريا عن ساحة الوجوب إلى حد الامكان. فإن قلت: بل يقع هذا العلم اليقيني في مجرى أسباب الافعال الاختيارية كالعلم الحاصل من الطرق العادية فيستفاد منه فيما إذا خالف العلم الحاصل من الطرق العادية فيصير سببا للفعل أو الترك حيث يبطل معه العلم العادي. قلت: كلا فإن المفروض تحقق العلة التامة للعلم العادي مع سائر أسباب الفعل الاختياري فمثله كمثل أهل الجحود والعناد من الكفار يستيقنون بأن مصيرهم مع الجحود إلى النار ومع ذلك يصرون على جحودهم لحكم هواهم بوجوب الجحود وهذا منهم هو العلم العادي بوجوب الفعل، قال تعالى في قصة آل فرعون: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) النمل: 14. وبهذا يندفع ما يمكن أن يقال: لا يتصور علم يقيني بالخلاف مع عدم تأثيره في الارادة فليكشف عدم تأثيره في الارادة عن عدم تحقق علم على هذا الوصف. وجه الاندفاع: أن مجرد تحقق العلم بالخلاف لا يستوجب تحقق الارادة مستندة إليه وإنما هو العلم الذي يتعلق بوجوب الفعل مع التزام النفس به كما مر في جحود إهل الجحود وإنكارهم الحق مع يقينهم به ومثله الفعل بالعناية فإن سقوط الواقف على جذع عال، منه على الارض بمجرد تصور السقوط لا يمنع عنه علمه بأن في السقوط هلاكه القطعي. وقد أجاب بعضهم عن أصل الاشكال بأن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمة عليه السلام
[ 194 ]
تكاليف خاصة بكل واحد منهم فعليهم أن يقتحموا هذه المهالك وإن كان ذلك منا القاء النفس في التهلكة وهو حرام، واليه إشارة في بعض الاخبار. وأجاب بعضهم عنه بأن الذي ينجز التكاليف من العلم هو العلم من الطرق العادية وأما غيره فليس بمنجز، ويمكن توجيه الوجهين بما يرجع إلى ما تقدم. قوله تعالى: (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فامن واستكبرتم) الخ، ضمائر (كان) و (به) و (مثله) على ما يعطيه السياق للقرآن، وقوله: (وشهد شاهد من بني إسرائيل) الخ، معطوف على الشرط ويشاركه في الجزاء، والمراد بمثل القرآن مثله من حيث مضمونه في المعارف الالهية وهو كتاب التوراة الاصلية التي نزلت على موسى عليه السلام، وقوله: (فامن واستكبرتم) أي فامن الشاهد الاسرائيلي المذكور بعد شهادته. وقوله: (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) تعليل للجزاء المحذوف دال عليه، والظاهر أنه ألستم ضالين لا ما قيل: إنه ألستم ظلمتم لان التعليل بعدم هداية الله الظالمين إنما يلائم ضلالهم لا ظلمهم وإن كانوا متصفين بالوصفين جميعا. والمعنى: قل للمشركين: أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله والحال أنكم كفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثل ما في القرآن من المعارف فامن هو واستكبرتم أنتم ألستم في ضلال ؟ فإن الله لا يهدي القوم الظالمين. والذي شهد على مثله فامن على ما في بعض الاخبار هو عبد الله بن سلام من علماء اليهود، والاية على هذا مدنية لا مكية لانه ممن آمن بالمدينة، وقول بعضهم: من الجائز أن يكون التعبير بالماضي في قوله: (وشهد شاهد من بني إسرائيل فامن) لتحقق الوقوع والقصة واقعة في المستقبل سخيف لانه لا يلائم كون الاية في سياق الاحتجاج فالمشركون ما كانوا ليسلموا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم صدقه فيما يخبرهم به من الامور المستقبلة.
وفي معنى الاية أقوال أخر منها أن المراد ممن شهد على مثله فامن هو موسى عليه السلام شهد على التوراة فامن به وإنما عدلوا عن المعنى السابق إلى هذا المعنى للبناء على كون الاية مكية وأنه إنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة. وفيه أولا: عدم الدليل على كون الاية مكية ولتكن القصة دليلا على كونها مدنية، وثانيا: بعد أن يجعل موسى الكليم عليه السلام قرينا لهؤلاء المشركين الاجلاف
[ 195 ]
يقاسون به فيقال ما محصله: إن موسى عليه السلام آمن بالكتاب النازل عليه وأنتم استكبرتم عن الايمان بالقرآن فسخافته ظاهرة. ومما قيل أن المثل في الاية بمعنى نفس الشئ كما قيل في قوله تعالى: (ليس كمثله شئ) الشورى: 11، وهو في البعد كسابقه. قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه) إلى آخر الاية قيل: اللام في قوله: (للذين آمنوا) للتعليل أي لاجل إيمانهم ويؤل إلى معنى في، وضمير (كان) و (إليه) للقرآن من جهة الايمان به. والمعنى: وقال الذين كفروا في الذين آمنوا - أي لاجل إيمانهم -: لو كان الايمان بالقرآن خيرا ما سبقونا - أي المؤمنون - إليه. وقال بعضهم: إن المراد بالذين آمنوا بعض المؤمنين وبالضمير العائد إليه في قوله: (سبقونا) البعض الاخر، واللام متعلق بقال والمعنى: وقال الذين كفروا لبعض المؤمنين لو كان خيرا ما سبقنا البعض من المؤمنين وهم الغائبون إليه، وفيه أنه بعيد من سياق الاية. وقال آخرون: إن المراد بالذين آمنوا المؤمنون جميعا لكن في قوله: ما سبقونا التفاتا والاصل ما سبقتمونا وهو في البعد كسابقه وليس خطاب الحاضرين بصيغة الغيبة من الالتفات في شئ.
وقوله: (وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم) ضمير (به) للقرآن وكذا الاشارة بهذا إليه والافك الافتراء أي وإذ لم يهتدوا بالقرآن لاستكبارهم عن الايمان به فسيقولون أي الذين كفروا هذا أي القرآن إفك وافتراء قديم، وقولهم: هذا إفك قديم كقولهم: أساطير الاولين. قوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا) الخ، الظاهر أن قوله: (ومن قبله) الخ، جملة حالية والمعنى: فسيقولون هذا إفك قديم والحال أن كتاب موسى حال كونه إماما ورحمة قبله أي قبل القرآن وهذا القرآن كتاب مصدق له حال كونه لسانا عربيا ليكون منذرا للذين ظلموا وهو بشرى للمحسنين فكيف يكون إفكا ؟
[ 196 ]
وكون التوراة إماما ورحمة هو كونها بحيث يقتدي بها بنو إسرائيل ويتبعونها في أعمالهم ورحمة للذين آمنوا بها واتبعوها في إصلاح نفوسهم. قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) إلى آخر الاية المراد بقولهم ربنا الله إقرارهم وشهادتهم بانحصار الربوبية في الله سبحانه وتوحده فيها، وباستقامتهم ثباتهم على ما شهدوا به من غير زيغ وانحراف والتزامهمم بلوازمه العملية. وقوله: (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) أي ليس قبالهم مكروه محتمل يخافونه من عقاب محتمل، ولا مكروه محقق يحزنون به من عقاب أو هول، فالخوف إنما يكون من مكروه ممكن الوقوع، والحزن من مكروه محقق الوقوع، والفاء في قوله: (فلا خوف) الخ، لتوهم معنى الشرط فإن الكلام في معنى من قال ربنا الله ثم استقام فلا خوف الخ. قوله تعالى: (أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون) المراد بصحابة الجنة ملازمتها، وقوله: (خالدين فيها) حال مؤكدة لمعنى الصحابة.
والمعنى: اولئك الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ملازمون للجنة حال كونهم خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون في الدنيا من الطاعات والقربات. (بحث روائي) في الكافي بإسناده عن أبي عبيدة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله تعالى: (ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) قال: عنى بالكتاب التوراة والانجيل (وأثارة من علم) فإنما عنى بذلك علم أو صياء الانبياء. وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه واله وسلم (أو أثارة من علم) قال: الخط. أقول: لعل المراد بالخط كتاب مخطوط موروث من الانبياء أو العلماء الماضين لكن في بعض ما روي في تفسير قوله: (أو أثارة من علم) أنه حسن الخط وفي بعض آخر أنه جودة الخط وهو أجنبي من سياق الاحتجاج الذي في الاية.
[ 197 ]
وفي العيون في باب مجلس الرضا مع المأمون عنه عليه السلام حدثني أبي عن جدي عن ابائه عن الحسين بن علي عليه السلام قال: اجتمع المهاجرون والانصار إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فقالوا: إن لك يا رسول الله مؤنة في نفقتك وفيمن يأتيك من الوفود، وهذه أموالنا مع دمائنا فاحكم فيها بارا مأجورا أعط ما شئت واحكم ما شئت من غير حرج. قال: فأنزل الله تعالى إليه الروح الامين فقال: يا محمد (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) يعني أن تودوا قرابتي من بعدي، فخرجوا فقال المنافقون: ما حمل رسول الله على ترك ما عرضنا عليه إلا ليحثنا على قرابته من بعده، وإن هو إلا شئ افتراه في مجلسه وكان ذلك من قولهم عظيما.
فأنزل الله عز وجل هذه الاية (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم) فبعث إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: هل من حدث ؟ فقالوا: أي والله يا رسول الله لقد قال بعضنا كلاما غليظا كرهناه فتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الاية فبكوا واشتد بكاؤهم فأنزل الله تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون). وفي الدر المنثور أخرج أبو داود في ناسخه من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) قال: نسختها هذه الاية التي في الفتح فخرج إلى الناس فبشرهم بالذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فقال رجل من المؤمنين: هنيئا لك يا نبي الله قد علمنا الان ما يفعل بك فماذا يفعل بنا ؟ فأنزل الله في سورة الاحزاب (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا)، وقال: (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما) فبين الله ما به يفعل وبهم. أقول: الرواية لا تخلو من شئ:
(1) يريد قوله تعالى: (ليفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) الفتح: 2. (*)
[ 198 ]
أما أولا: فلما تقدم بيانه في تفسير الاية أعني قوله: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) أنها أجنبية عن العلم بالغيب الذي هو من طريق الوحي بدلالة صريحة من القرآن فلا ينفي بها العلم بالمغفرة من طريق الوحي حتى تنسخها آية سورة الفتح. وأما ثانيا: فلان ظاهر الرواية أن الذنب الذي تصرح بمغفرته آية سورة الفتح هو الذنب بمعنى مخالفة الامر والنهي المولويين وسيأتي في تفسير سورة الفتح - إن شاء
الله تعالى - أن الذنب في الاية لغير هذا المعنى. وأما ثالثا: فلان الايات الدالة على دخول المؤمنين الجنة كثيرة جدا في مكية السور ومدنيتها ولا تدل آيتا سورة الاحزاب على أزيد مما يدل عليه سائر الايات فلا وجه لتخصيصهما بالدلالة على دخول المؤمنين الجنة وشمول المغفرة لهم. على أن سورة الاحزاب نازلة قبل سورة الفتح بزمان. وفيه أخرج أبو يعلى وابن جرير والطبراني والحاكم وصححه بسند صحيح عن عوف بن مالك الا شجعي قال: انطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا معه حتى دخلنا على كنيسة اليهود يوم عيدهم فكرهوا دخولنا عليهم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أروني اثني عشر رجلا منكم - يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - يحبط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه فسكتوا فما أجابه منهم أحد ثم رد عليهم فلم يجبه أحد فثلث فلم يجبه أحد فقال: أبيتم فو الله لانا الحاشر وأنا العاقب وأنا المقفي آمنتم أو كذبتم. ثم انصرف وأنا معه حتى كدنا أن نخرج فإذا رجل من خلفه فقال: كما أنت يا محمد، فأقبل فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلمونني فيكم يا معشر اليهود ؟ فقالوا: والله لا نعلم فينا رجلا أعلم بكتاب الله ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدك، فقال: إني أشهد بالله أنه النبي الذي تجدونه في التوراة والانجيل، قالوا: كذبت ثم ردوا عليه وقالوا شرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كذبتم لن يقبل منكم قولكم. فخرجنا ونحن ثلاث: رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وأنا وابن سلام فأنزل الله: (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فامن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين). أقول: وفي نزول الاية في عبد الله بن سلام روايات اخرى من طرق أهل السنة
[ 199 ]
غير هذه الرواية، وسياق الاية وخاصة قوله: (من بني إسرائيل) لا يلائم كون الخطاب فيها لبني إسرائيل، وقد عد الانجيل في الرواية من كتبهم وليس من كتبهم واليهود لا يصدقونه. وفي بعض الروايات أن الاية نزلت في ابن يامين من علمائهم حين شهد وأسلم فكذبته اليهود، والاشكال السابق على حاله. * * * ووصينا الانسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين - 15. أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون - 16. والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الاولين - 17. أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والانس إنهم كانوا خاسرين - 18. ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون - 19. ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم
[ 200 ]
طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الارض بغير الحق وبما كنتم تفسقون - 20. (بيان)
لما قسم الناس في قوله: (لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين) إلى ظالمين ومحسنين وأشير فيه إلى أن للظالمين ما يخاف ويحذر وللمحسنين ما يسر الانسان ويبشر به عقب ذلك في هذا الفصل من الايات بتفصيل القول فيه، وأن الناس بين قوم تائبين إلى الله مسلمين له وهم الذين يتقبل أحسن أعمالهم ويتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة، وقوم خاسرين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والانس. ومثل الطائفة الاولى بمن كان مؤمنا بالله مسلما له بارا بوالديه يسأل الله أن يلهمه الشكر على ما أنعم عليه وعلى والديه والعمل الصالح وإصلاح ذريته، والطائفة الثانية بمن كان عاقا لوالديه إذا دعواه إلى الايمان بالله واليوم الاخر فيزجرهما ويعد ذلك من أساطير الاولين. قوله تعالى: (ووصينا الانسان بوالديه إحسانا) إلى آخر الاية، الوصية على ما ذكره الراغب هو التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ والتوصية تفعيل من الوصية قال تعالى: (ووصى بها إبراهيم بنيه) البقرة: 132، فمفعوله الثاني الذي يتعدى إليه بالباء من قبيل الافعال، فالمراد بالتوصية بالوالدين التوصية بعمل يتعلق بهما وهو الاحسان اليهما. وعلى هذا فتقدير الكلام: ووصينا الانسان بوالديه أن يحسن اليهما إحسانا. وفي إعراب (إحسانا) أقوال أخر كقول بعضهم: إنه مفعول مطلق على تضمين (وصينا) معنى أحسنا، والتقدير: وصينا الانسان محسنين اليهما إحسانا، وقول بعضهم: إنه صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف أي إيصاء ذا إحسان، وقول بعضهم: هو مفعول له، والتقدير: وصيناه بهما لاحساننا اليهما، إلى غير ذلك مما قيل. وكيف كان فبر الوالدين والاحسان اليهما من الاحكام العامة المشرعة في جميع
[ 201 ]
الشرائع كما تقدم في تفسير قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا
تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) الانعام: 151، ولذلك قال: (ووصينا الانسان) فعممه لكل إنسان. ثم عقبه سبحانه بالاشارة إلى ما قاسته امه في حمله ووضعه وفصاله إشعار بملاك الحكم وتهييجا لعواطفه وإثارة لغريزة رحمته ورأفته فقال: (حملته امه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) أي حملته امه حملا ذا كره أي مشقة وذلك لما في حمله من الثقل، ووضعته وضعا ذا كره وذلك لما عنده من ألم الطلق. وأما قوله: (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) فقد اخذ فيه أقل مدة الحمل وهو ستة أشهر والحولان الباقيان إلى تمام ثلاثين شهرا مدة الرضاع، قال تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) البقرة: 233، وقال: (وفصاله في عامين) لقمان: 14. والفصال التفريق بين الصبي وبين الرضاع، وجعل العامين ظرفا للفصال بعناية أنه في آخر الرضاع ولا يتحقق إلا بانقضاء عامين. وقوله: (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة) بلوغ الاشد بلوغ زمان من العمر تشتد فيه قوى الانسان، وقد مر نقل اختلافهم في معنى بلوغ الاشد في تفسير قوله: (ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما) يوسف: 22، وبلوغ الاربعين ملازم عادة لكمال العقل. وقوله: (قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه) الايزاع الالهام، وهذا الالهام ليس بإلهام علم يعلم به الانسان ما جهلته نفسه بحسب الطبع كما في قوله: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) الشمس: 8، بل هو إلهام عملي بمعنى البعث والدعوة الباطنية إلى فعل الخير وشكر النعمة وبالجملة العمل الصالح. وقد أطلق النعمة التي سأل إلهام الشكر عليها فتعم النعم الظاهرية كالحياة والرزق والشعور والارادة، والباطنية كالايمان بالله والاسلام والخشوع له والتوكل عليه
والتفويض إليه ففي قوله: (رب أوزعني أن أشكر نعمتك) الخ، سؤال أن يلهمه الثناء عليه بإظهار نعمته قولا وفعلا: أما قولا فظاهر، وأما فعلا فباستعمال هذه النعم
[ 202 ]
استعمالا يظهر به أنها لله سبحانه أنعم بها عليه و ليست له من قبل نفسه ولازمه ظهور العبودية والمملوكية من هذا الانسان في قوله وفعله جميعا. وتفسير النعمة بقوله: (التي أنعمت علي وعلى والدي) يفيد شكره من قبل نفسه على ما اختص به من النعمة ومن قبل والديه فيما أنعم به عليهما فهو لسان ذاكر لهما بعدهما. وقوله: (وأن أعمل صالحا ترضاه) عطف على قوله: (أن أشكر) الخ، سؤال متمم لسؤال الشكر على النعم فإن الشكر يحلي ظاهر الاعمال، والصلاحية التي يرتضيها الله تعالى تحلى باطنها وتخلصها له تعالى. وقوله: (وأصلح لي في ذريتي) الاصلاح في الذرية إيجاد الصلاح فيهم وهو من الله سبحانه توفيقهم للعمل الصالح وينجر الى إصلاح نفوسهم، وتقييد الاصلاح بقوله: (لي) للدلالة على أن يكون إصلاحهم بنحو ينتفع هو به أي أن يكون ذريته له في بره وإحسانه كما كان هو لوالديه. ومحصل الدعاء سؤال أن يلهمه الله شكر نعمته وصالح العمل وأن يكون بارا محسنا بوالديه ويكون ذريته له كما كان هو لوالديه، وقد تقدم غير مرة أن شكر نعمه تعالى بحقيقة معناه هو كون العبد خالصا لله فيؤول معنى الدعاء إلى سؤال خلوص النفس وصلاح العمل. وقوله: (إني تبت إليك وإنى من المسلمين) أي الذين يسلمون الامر لك فلا تريد شيئا إلا أرادوه بل لا يريدون إلا ما أردت. والجملة في مقام التعليل لما يتضمنه الدعاء من المطالب، ويتبين بالايه حيث ذكر
الدعاء ولم يرده بل أيده بما وعد في قوله: (أولئك الذين نتقبل عنهم) الخ، أن التوبة والاسلام لله سبحانه إذا اجتمعا في العبد استعقب ذلك إلهامه تعالى بما يصير به العبد من المخلصين - بفتح اللام - ذاتا والمخلصين - بكسر اللام - عملا أما إخلاص الذات فقد تقدمت الاشارة إليه آنفا، وأما إخلاص العمل فلان العمل لا يكون صالحا لقبوله
(1) تفسير الاية 144 من سورة ال عران والاية 17 من سورة الاعراف. (*)
[ 203 ]
تعالى مرفوعا إليه إلا إذا كان خالصا لوجهه الكريم، قال تعالى: (ألا لله الدين الخالص) الزمر: 3. قوله تعالى: (اولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة) الخ، التقبل أبلغ من القبول، والمراد بأحسن ما عملوا طاعاتهم من الواجبات والمندوبات فإنها هي المقبولة المتقبلة وأما المباحات فإنها وإن كانت ذات حسن لكنها ليست بمتقبلة، كذا ذكر في مجمع البيان وهو تفسير حسن ويؤيده مقابلة تقبل أحسن ما عملوا بالتجاوز عن السيئات فكأنه قيل: إن أعمالهم طاعات من الواجبات والمندوبات وهي أحسن أعمالهم فنتقبلها وسيئات فنتجاوز عنها وما ليس بطاعة ولا حسنة فلا شأن له من قبول وغيره. وقوله: (في أصحاب الجنة) متعلق بقوله: (نتجاوز) أي نتجاوز عن سيئاتهم في جملة من نتجاوز عن سيئاتهم من أصحاب الجنة، فهو حال من ضمير (عنهم). وقوله: (وعد الصدق الذي كانوا يوعدون) أي يعدهم الله بهذا الكلام وعد الصدق الذي كانوا يوعدونه الى هذا الحين بلسان الانبياء والرسل، أو المراد أنه ينجز لهم بهذا التقبل والتجاوز يوم القيامة وعد الصدق الذي كانوا يوعدونه في الدنيا. قوله تعالى: (والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي) لما ذكر الانسان الذي تاب إلى الله وأسلم له وسأله الخلوص والاخلاص
وبر والديه وإصلاح أولاده له قابله بهذا الانسان الذي يكفر بالله ورسوله والمعاد ويعق والديه إذا دعواه إلى الايمان وأنذراه بالمعاد. فقوله: (والذي قال لوالديه أف لكما) الظاهر أنه مبتدء في معنى الجمع وخبره قوله بعد: (أولئك الذين) الخ، و (أف) كلمة تبرم يقصد بها إظهار التسخط والتوجع و (أتعدانني أن أخرج) الاستفهام للتوبيخ، والمعنى: أتعدانني أن أخرج من قبري فاحيا وأحضر للحساب أي أتعدانني المعاد (وقد خلت القرون من قبلي) أي والحال أنه هلكت امم الماضون العائشون من قبلي ولم يحي منهم أحد ولا بعث. وهذا على زعمهم حجة على نفي المعاد وتقريره أنه لو كان هناك إحياء وبعث لاحيى بعض من هلك إلى هذا الحين وهم فوق حد الاحصاء عددا في أزمنة طويلة لا
[ 204 ]
أمد لها ولا خبر عنهم ولا أثر ولم يتنبهوا أن القرون السالفة لو عادوا كما يقولون كان ذلك بعثا لهم وإحياء في الدنيا والذي وعده الله سبحانه هو البعث للحياة الاخرة والقيام لنشأة اخرى غير الدنيا. وقوله: (وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق) الاستغاثة طلب الغوث من الله أي والحال أن والديه يطلبان من الله أن يغيثهما ويعينهما على إقامة الحجة واستمالته إلى الايمان ويقولان له: ويلك آمن بالله وبما جاء به رسوله ومنه وعده تعالى بالمعاد إن وعد الله بالمعاد من طريق رسله حق. ومنه يظهر أن مرادهما بقولهما: (آمن) هو الامر بالايمان بالله ورسوله فيما جاء به من عند الله، وقولهما: (إن وعد الله حق) المراد به المعاد، وتعليل الامر بالايمان به لغرض الانذار والتخويف. وقوله: (فيقول ما هذا إلا أساطير الاولين) الاشارة بهذا إلى الوعد الذي ذكراه وأنذراه به أو مجموع ما كانا يدعوانه إليه والمعنى: فيقول هذا الانسان لوالديه
ليس هذا الوعد الذي تنذرانني به أو ليس هذا الذي تدعوانني إليه إلا خرافات الاولين وهم الامم الاولية الهمجية. قوله تعالى: (أولئك الذين حق عليهم القول) الخ، تقدم بعض الكلام فيه في تفسير الاية 25 من سورة حم السجدة. قوله تعالى: (ولكل درجات مما عملوا) إلى آخر الاية أي لكل من المذكورين وهم المؤمنون البررة والكافرون الفجرة منازل ومراتب مختلفة صعودا وحدورا فللجنة درجات وللنار دركات. ويعود هذا الاختلاف إلى اختلافهم في أنفسهم وإن كان ظهوره في أعمالهم ولذلك قال: (لكل درجات مما عملوا) فالدرجات لهم ومنشأها أعمالهم. وقوله: (وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون) اللام للغاية والجملة معطوفة على غاية أو غايات اخرى محذوفة لم يتعلق بذكرها غرض، وإنما جعلت غاية لقوله: (هم درجات لانه في معنى وجلعناهم درجات، والمعنى: جعلناهم درجات لكذا وكذا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون.
[ 205 ]
ومعنى توفيتهم أعمالهم إعطاؤهم نفس أعمالهم فالاية من الايات الدالة على تجسم الاعمال، وقيل: الكلام على تقدير مضاف والتقدير وليوفيهم اجور أعمالهم. قوله تعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار) الخ، عرض الماء على الدابة وللدابة وضعه بمرئى منها بحيث إن شاءت شربته، وعرض المتاع على البيع وضعه موضعا لا مانع من وقوع البيع عليه. وقوله: (ويويعرض الذين كفروا على النار) قيل: المراد بعرضهم على النار تعذيبهم فيها من قولهم: عرض فلان على السيف إذا قتل وهو مجاز شائع. وفيه أن قوله في آخر السورة (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا
بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب) لا يلائمه تلك الملاءمة حيث فرع ذوق العذاب على العرض فهو غيره. وقيل: إن في الاية قلبا والاصل عرض النار على الذين كفروا لان من الواجب في تحقق معنى العرض أن يكون في المعروض عليه شعور بالمعروض والنار لا شعور لها بالذين كفروا بل الامر بالعكس ففي الكلام قلب، والمراد عرض النار على الذين كفروا. ووجهه بعض المفسرين بأن المناسب أن يؤتى بالمعروض إلى المعروض عليه كما في قولنا: عرضت الماء على الدابة وعرضت الطعام على الضيف، ولما كان الامر في عرض النار على الذين كفروا بالعكس فإنهم هم المسيرون إلى النار فقلب الكلام رعاية لهذا الاعتبار. وفيه نظر أما ما ذكر من أن المعروض عليه يجب أن يكون ذا شعور وإدارك بالمعروض حتى يرغب إليه أو يرغب عنه والنار لا شعور لها ففيه أولا: أنه ممنوع كما يؤيده قولهم: عرضت المتاع على البيع، وقوله تعالى: (إنا عرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال) الاحزاب: 72، وثانيا: أنا لا نسلم خلو نار الاخرة عن الشعور، ففي الاخبار الصحيحة أن للجنة والنار شعورا ويشعر به قوله: (يوم نقول لجهنم هل امتلات وفتقول هل من مزيد) ق: 30، وغيره من الايات. وأما ما قيل من أن المناسب تحريك المعروض إلى المعروض عليه فلا نسلم لزومه ولا اطراده فهو منقوض بقوله: (إنا عرضنا الامانة على السماوات والارض) الاية: الاحزاب: 72.
[ 206 ]
على أن في كلامه تعالى ما يدل على الاتيان بالنار إلى الذين كفروا كقوله: وجئ يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الانسان وأني له الذكرى) الفجر: 23. فالحق أن العرض وهو إظهار عدم المانع من تلبس شئ بشئ معنى له نسبة
إلى الجانبين يمكن أخذ كل منهما أصلا معروضا عليه والاخر فرعا معروضا فتارة تؤخذ النار معروضة على الكافرين بعناية أن لا مانع من عمل صالح أو شفاعة تمنع من دخولهم فيها كقوله تعالى: (وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا) الكهف: 100، وتارة يؤخذ الكفار معروضين للنار بعناية أن لا مانع يمنع النار أن تعذبهم، كما في قوله: (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا) المؤمن: 36، وقوله: (يعرض الذين كفروا على النار) الاية. وعلى هذا فالاشبه تحقق عرضين يوم القيامة: عرض جهنم للكافرين حين تبرز لهم ثم عرضهم على جهنم بعد الحساب والقضاء الفصل بدخولهم فيها حين يساقون إليها، قال تعالى: (وسيق الذين كفروا الى جهنم زمرا) الزمر: 71. وقوله: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) على تقدير القول أي يقال لهم: (أذهبتم) الخ، والطيبات الامور التي تلائم النفس وتوافق الطبع ويستلذ بها الانسان، وإذهاب الطيبات إنفادها بالاستيفاء لها، والمراد بالاستمتاع بها استعمالها والانتفاع بها لنفسها لا للاخرة والتهيؤ لها. والمعنى: يقال لهم حين عرضهم على النار: أنفذتم الطيبات التي تلتذون بها في حياتكم الدنيا واستمتعتم بتلك الطيبات فلم يبق لكم شئ تلتذون به في الاخرة. وقوله: (فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الارض بغير الحق وبما كنتم تفسقون) تفريع على إذهابهم الطيبات، وعذاب الهون العذاب الذي فيه الهوان والخزي. والمعنى: فاليوم تجزون العذاب الذي فيه الهوان والخزي قبال استكباركم في الدنيا عن الحق وقبال فسقكم وتوليكم عن الطاعات، وهما ذنبان أحدهما متعلق بالاعتقاد وهو الاستكبار عن الحق والثاني متعلق بالعمل وهو الفسق.
[ 207 ]
(بحث روائي) في الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر من طريق قتادة عن أبي حرب بن أبي الاسود الدئلي قال: رفع إلى عمر امراة ولدت لستة أشهر فسأل عنها أصحاب النبي فقال علي: لا رجم عليها ألا ترى أنه يقول: وحمله وفصاله ثلاثون شهرا، وقال: وفصاله في عامين، وكان الحمل ههنا ستة أشهر فتركها عمر. قال: ثم بلغنا أنها ولدت آخر لستة أشهر. أقول: وروى القصة المفيد في الارشاد. وفيه أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن بعجة بن عبد الله الجهني قال: تزوج رجل منا أمراة من جهينة فولدت له تماما لستة أشهر فانطلق زوجها الى عثمان بن عفان فأمر برجمها فبلغ ذلك عليا فأتاه فقال: ما تصنع ؟ قال: ولدت تماما لستة أشهر وهل يكون ذلك ؟ قال علي: أما سمعت الله تعالى يقول: وحمله وفصاله ثلاثون شهرا وقال: حولين كاملين فكم تجده بقي إلا ستة أشهر ؟ فقال عثمان: والله ما فطنت لهذا. علي بالمرأة فوجدوها قد فرغ منها، وكان من قولها لاختها: لا تحزني فو الله ما كشف فرجي أحد قط غيره. قال: فشب الغلام بعد فاعترف الرجل به وكان أشبه الناس به. قال: فرأيت الرجل بعد يتساقط عضوا عضوا على فراشه. وفي التهذيب بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سأله أبي وأنا حاضر عن قول الله عز وجل: (حتى إذا بلغ أشده) قال: الاحتلام. وفي الخصال عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إذا بلغ العبد ثلاثا وثلاثين سنة فقد بلغ أشده، وإذا بلغ أربعين سنة فقد بلغ منتهاه، فإذا طعن في إحدى وأربعين فهو في النقصان، وينبغي لصاحب الخمسين أن يكون كمن كان في النزع. أقول: لا تخلو الرواية من إشعار بكون بلوغ الاشد مما يختلف بالمراتب فيكون
الاحتلام وهو غالبا في الست عشرة أول مرتبه منها والثلاث الثلاثين وهي بعد مضي ست عشرة اخرى المرتبة الثانية، وقد تقدم في نظيرة الاية من سورة يوسف بعض أخبار أخر.
[ 208 ]
واعلم أنه قد وردت في الاية أخبار تطبقها على الحسين بن علي عليه السلام وولادته لسته أشهر وهي من الجري. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن عبد الله قال: إني لفي المسجد حين خطب مروان فقال: إن الله قد أرى أمير المؤمنين في يزيد رأيا حسنا وإن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: أهر قلية ؟ إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده ولا أحد من أهل بيته ولا جعلها معاوية إلا رحمة وكرامة لولده. فقال مروان: ألست الذي قال لوالديه: أف لكما ؟ فقال عبد الرحمن: ألست ابن اللعين الذي لعن أباك رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ؟ قال: وسمعتها عائشة فقالت: يا مروان أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا ؟ كذبت والله ما فيه نزلت. نزلت في فلان بن فلان. وفيه أخرج ابن جرير عن ابن عباس: في الذي قال لوالديه اف لكما الاية، قال: هذا ابن لابي بكر. أقول: وروي ذلك أيضا عن قتادة والسدي، وقصة رواية مروان وتكذيب عائشة له مشهورة. قال في روح المعاني بعد رد رواية مروان: ووافق بعضهم كالسهيلي في الاعلام مروان في زعم نزولها في عبد الرحمن، وعلى تسليم ذلك لا معنى للتعيير لا سيما من مروان فإن الرجل أسلم وكان من أفاضل الصحابة وأبطالهم، وكان له في الاسلام عناء يوم اليمامة وغيره، والاسلام يجب ما قبله فالكافر إذا أسلم لا ينبغي أن
يعير بما كان يقول. انتهى. وفيه أن الروايات لو صحت لم يكن مناص عن صريح شهادة الاية عليه بقوله: (اولئك الذين حق عليهم القول - إلى قوله - إنهم كانوا خاسرين) ولم ينفع شئ مما دافع عنه به. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا - إلى قوله - واستمتعتم بها) قال: أكلتم وشربتم وركبتم، وهي في بني فلان (فاليوم تجزون عذاب الهون) قال: العطش. وفي المحاسن بإسناده عن ابن القداح عن أبي عبد الله عليه السلام عن آبائه عليه السلام
[ 209 ]
قال: أتي يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخبيص فأبى أن يأكله فقيل: أتحرمه ؟ فقال: لا ولكني أكره أن تتوق إليه نفسي ثم تلا الاية (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا). وفي المجمع في الاية وقد روي في الحديث أن عمر بن الخطاب قال: استأذنت على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فدخلت عليه في مشربة ام ابراهيم وإنه لمضطجع على حفصة وإن بعضه على التراب وتحت رأسه وسادة محشوة ليفا فسلمت عليه ثم جلست فقلت: يا رسول الله أنت نبي الله وصفوته وخيرته من خلقه وكسرى وقيصر على سرير الذهب وفرش الحرير والديباج ! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اولئك قوم عجلت طيباتهم وهي وشيكة الانقطاع، وإنما أخرت لنا طيباتنا. أقول: ورواه في الدر المنثور بطرق عنه. * * * واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالاحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم - 21. قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا
إن كنت من الصادقين - 22. قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون - 23. فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم - 24. تدمر كل شئ بأمر ربها فأصبحوا
(1) نوع من الحلواء. (*)
[ 210 ]
لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين - 25. ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجلعنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شئ إذ كانوا يجحدون بايات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن - 26. ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الايات لعلهم يرجعون - 27. فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون - 28. (بيان) لما قسم الناس على قسمين وانتهى الكلام إلى الانذار عقب ذلك بالاشارة إلى قصتين قصة قوم عاد وهلاكهم ومعها الاشارة إلى هلاك القرى التي حول مكة وقصة إيمان قوم من الجن صرفهم الله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاستمعوا القرآن فامنوا ورجعوا إلى قومهم منذرين وإنما أورد القصتين ليعتبر بهما من شاء أن يعتبر منهم، وهذه الايات المنقولة تتضمن أولى القصتين. قوله تعالى: (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالاحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه) الخ، أخو القوم هو المنسوب إليهم من جهة الاب، والمراد بأخي عاد هود النبي عليه السلام، والاحقاف مسكن قوم عاد والمتيقن أنه في جنوب جزيرة العرب ولا أثر اليوم باقيا منهم، واختلفوا أين هو ؟ فقيل: واد بين عمان ومهرة، وقيل رمال
بين عمان إلى حضرموت، وقيل: رمال مشرفة على البحر بالشحر من أرض اليمن وقيل غير ذلك.
[ 211 ]
وقوله: (وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه) النذر جمع نذير والمراد به الرسول على ما يفيده السياق، وأما تعميم بعضهم الندر للرسول ونوابهم من العلماء ففي غير محله. وفسروا (من بين يديه) بالذين كانوا قبله و (من خلفه) بالذين جاؤا بعده ويمكن العكس بأن يكون المراد بالنذر بين يديه من كانوا في زمانه، ومن خلفه من كان قبله، والاولى على الاول أن يكون المراد بخلو النذر من بين يديه ومن خلفه أن يكون كناية عن مجيئه إليهم وإنذاره لهم على فترة من الرسل. وقوله: (أن لا تعبدوا إلا الله) تفسير للانذار وفيه إشارة إلى أن أساس دينه الذي يرجع إليه تفاصيله هو التوحيد. وقوله: (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) تعليل لدعوتهم إلى التوحيد، والظاهر أن المراد باليوم العظيم يوم عذاب الاستئصال لا يوم القيامة يدل على ذلك ما سيأتي من قولهم: (فائتنا بما تعدنا) وقوله: (بل هو ما استعجلتم به) والباقي ظاهر. قوله تعالى: (قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا) الخ، جواب القوم له قبال إنذاره، وقوله: (لتأفكنا عن آلهتنا) بتضمين الافك وهو الكذب والفرية معنى الصرف والمعنى: قالوا أجئتنا لتصرفنا عن آلهتنا إفكا وافتراء. وقوله: (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) أمر تعجيزي منهم له زعما منهم أنه عليه السلام كاذب في دعواته آفك في إنذاره. قوله تعالى: (قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به) الخ، جواب هود عن قولهم ردا عليهم، فقوله: (إنما العلم عند الله) قصر العلم بنزول العذاب فيه تعالى
لانه من الغيب الذي لا يعلم حقيقته إلا الله جل شأنه، وهو كناية عن أنه عليه السلام لا علم له بأنه ما هو ؟ ولا كيف هو ؟ ولا متى هو ؟ ولذلك عقبه بقوله: (وأبلغكم ما أرسلت به) أي إن الذي حملته وأرسلت به اليكم هو الذي أبلغكموه ولا علم لي بالعذاب الذي أمرت بإنذاركم به ما هو ؟ وكيف هو ؟ ومتى هو ؟ ولا قدرة لى عليه. وقوله: (ولكني أراكم قوما تجهلون) إضراب عما يدل عليه الكلام من نفيه العلم عن نفسه، والمعنى: لا علم لي بما تستعجلون به من العذاب ولكني أراكم قوما
[ 212 ]
تجهلون فلا تميزون ما ينفعكم مما يضركم وخير كم من شركم حين تردون دعوة الله وتكذبون باياته وتستهزؤن بما يوعدكم به من العذاب. قوله تعالى: (فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا) الخ، صفة نزول العذاب إليهم بادئ ظهوره عليهم. والعارض هو السحاب يعرض في الافق ثم يطبق السماء وهو صفة العذاب الذي يرجع إليه ضمير (رأوه) المعلوم من السياق، وقوله: (مستقبل أوديتهم) صفة اخرى له، والاودية جمع الوادي، وقوله: (قالوا هذا عارض ممطرنا) أي استبشروا ظنا منهم أنه سحاب عارض ممطر لهم فقالوا: هذا الذي نشاهده سحاب عارض ممطر إيانا. وقوله: (بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم) رد لقولهم: (هذا عارض ممطرنا) بالاضراب عنه إلى بيان الحقيقة فبين أولا على طريق التهكم أنه العذاب الذي استعجلتم به حين قلتم: (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) وزاد في البيان ثانيا بقوله: (ريح فيها عذاب أليم. والكلام من كلامه تعالى وقيل: هو كلام لهود النبي عليه السلام. قوله تعالى: (تدمر كل شئ بإذن ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين) التدمير الاهلاك، وتعلقه بكل شئ وإن كان يفيد عموم التدمير
لكن السياق يخصصه بنحو الانسان والدواب والاموال، فالمعنى: إن تلك الريح ريح تهلك كل ما مرت عليه من إنسان ودواب وأموال. وقوله: (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم) بيان لنتيجة نزول العذاب، وقوله: (كذلك نجزي القوم المجرمين) إعطاء ضابط كلي في مجازاة المجرمين بتشبيه الكلي بالفرد الممثل به والتشبيه في الشدة أي إن سنتنا في جزاء المجرمين على هذا النحو الذي قصصناه من الشدة فهو كقوله تعالى: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) هود: 102. قوله تعالى: (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه) الخ، موعظة لكفار مكة مستنتجة من القصة.
[ 213 ]
والتمكين إقرار الشئ وإثباته في المكان، وهو كناية عن إعطاء القدرة والاستطاعة في التصرف و (ما) في (فيما) موصولة أو موصوفة و (إن) نافية، والمعنى: ولقد جعلنا قوم هود في الذي - أو في شئ - ما مكناكم معشر كفار مكة ومن يتلوكم فيه من بسطة الاجسام وقوة الابدان والبطش الشديد والقدرة القومية. وقوله: (وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة) أي جهزناهم بما يدركون به ما ينفعهم وما يضرهم وهو السمع والابصار وما يميزون به ما ينفعهم مما يضرهم فيحتالون لجلب النفع ولدفع الضر بما قدروا كما أن لكم ذلك. وقوله: (فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شئ إذ كانوا يجحدون بايات الله) ما في (فما أغنى) نافية لا استفهامية، و (إذ) ظرف متعلق بالنفي الذي في قوله: (فما أغنى). ومحصل المعنى: أنهم كانوا من التمكن على ما ليس لكم ذلك وكان لهم من أدوات الادراك والتمييز ما يحتال به الانسان لدفع المكاره والاتقاء من الحوادث
المهلكة المبيدة لكن لم يغن عنهم ولم ينفعهم هذه المشاعر والافئدة شيئا عند ما جحدوا آيات الله فما الذي يؤمنكم من عذاب الله وأنتم جاحدون لايات الله. وقيل: معنى الاية: ولقد مكناهم في الذي أو في شئ ما مكناكم فيه من القوة والاستطاعة وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة ليستعملوها فيما خلقت له ويسمعوا كلمة الحق ويشاهدوا آيات التوحيد ويعتبروا بالتفكر في العبر، ويستدلوا بالتعقل الصحيح على المبدء والمعاد فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شئ حيث لم يستعملوها فيما يوصل إلى معرفة الله سبحانه، هذا ولعل الذي قدمناه من المعنى أنسب للسياق. وقد جوزوا في مفردات الاية وجوها لم نوردها لعدم جدوى فيها. وقد تقدم في نظائر قوله: (سمعا وأبصارا وأفئدة) أن إفراد السمع - والمراد منه الجمع - لمكان مصدريته في الاصل نظير الضيف والقربان والجنب، قال تعالى: ضيف إبراهيم المكرمين) الذاريات: 24، وقال: (إذ قربا قربانا) المائدة: 27، وقال: (وإن كنتم جنبا) المائدة: 6.
[ 214 ]
وقوله: (وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن) عطف على قوله: (ما أغنى عنهم) الخ. قوله تعالى: (ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى) تذكرة إنذارية متفرعة على العظة التي في قوله: (ولقد مكناهم) الخ، فهي معطوفة عليه على ما يفيده السياق لا على قوله: (واذكر أخا عاد). وقوله: (وصرفنا الايات لعلهم يرجعون) أي وصيرنا الايات المختلفة من معجزة أيدنا بها الانبياء ووحي أنزلناه عليهم ونعم رزقناهموها ليتذكروا بها ونقم ابتليناهم بها ليتوبوا وينصرفوا عن ظلمهم لعلهم يرجعون من عبادة غير الله سبحانه إلى عبادته. والضمير في (لعلهم يرجعون) راجع إلى القرى والمراد بها أهل القرى.
قوله تعالى: (فلو لا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة) الخ، ظاهر السياق أن آلهة مفعول ثان لاتخذوا ومفعوله الاول هو الضمير الراجع إلى الموصول و (قربانا) بمعنى ما يتقرب به، والكلام مسوق للتهكم، والمعنى: فلو لا نصرهم الذين اتخذوهم آلهة حال كونهم متقربا بهم إلى الله كما كانوا يقولون: (ما نعبدهم إلا ليقربونا) إلى الله زلفى). وقوله: (بل ضلوا عنهم) أي ضل الالهة عن أهل القرى وانقطعت رابطة الالوهية والعبودية التي كانوا يزعمونها ويرجون بذلك أن ينصروهم عند الشدائد والمكاره فالضلال عنهم كناية عن بطلان مزعمتهم. وقوله: (وذلك إفكهم وما كانوا يفترون) مبتدأ وخبر والاشارة إلى ضلال آلهتهم، والمراد بالافك أثر الافك أو بتقدير مضاف، و (ما) مصدرية، والمعنى: وذلك الضلال أثر إفكهم وافترائهم. ويمكن أن يكون الكلام على صورته من غير تقدير مضاف أو تجوز والاشارة الى إهلاكهم بعد تصريف الايات وضلال آلهتهم عند ذلك، ومحصل المعنى: أن هذا الذي ذكرناه من عاقبة أمرهم هو حقيقة زعمهم أن الالهة يشفعون لهم ويقربونهم من الله زعمهم الذي أفكوه وافتروه، والكلام مسوق للتهكم.
[ 215 ]
* * * وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين - 29. قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم - 30. يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم - 31. ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الارض وليس له من دونه
أولياء أولئك في ضلال مبين - 32. أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والارض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شئ قدير - 33. ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون - 34. فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون - 35. (بيان) هذه هي القصة الثانية عقبت بها قصة عاد ليعتبر بها قومه صلى الله عليه وآله وسلم إن اعتبروا،
[ 216 ]
وفيه تقريع للقوم حيث كفروا به صلى الله عليه وآله وسلم وبكتابه النازل على لغتهم وهم يعلمون أنها آية معجزة وهم مع ذلك يماثلونه في النوعية البشرية وقد آمن الجن بالقرآن إذ استمعوا إليه ورجعوا إلى قومهم منذرين. قوله تعالى: (وإذ صرفنا اليك نفرا من الجن يستمعون القرآن) إلى آخر الاية الصرف رد الشئ من حالة إلى حالة أو من مكان إلى مكان، والنفر - على ما ذكره الراغب - عدة من الرجال يمكنهم النفر وهو اسم جمع يطلق على ما فوق الثلاثة من الرجال والنساء والانسان وعلى الجن كما في الاية (ويستمعون القرآن) صفة نفر، والمعنى: واذكر إذ وجهنا اليك عدة من الجن يستمعون القرآن. وقوله: (فلما حضروه قالوا انصتوا) ضمير (حضروه) للقرآن بما يلمح إليه من المعنى الحدثي والانصات السكوت للاستماع أي فلما حضروا قراءة القرآن وتلاوته قالوا أي بعضهم لبعض: اسكتوا حتى نستمع حق الاستماع. وقوله: (فلما قضي ولواإلى قومهم منذرين) ضمير (قضي) للقرآن باعتبار قراءته وتلاوته، والتولية الانصراف و (منذرين) حال من ضمير الجمع في (ولوا)
أي فلما أتمت القراءة وفرغ منها انصرفوا إلى قومهم حال كونهم منذرين مخوفين لهم من عذاب الله. قوله تعالى: (قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه) الخ، حكاية دعوتهم قومهم وإنذارهم لهم، والمراد بالكتاب النازل بعد موسى القرآن، وفي الكلام إشعار بل دلالة على كونهم مؤمنين بموسى عليه السلام وكتابه، والمراد بتصديق القرآن لما بين يديه تصديقه التوراة أو جميع الكتب السماوية السابقة. وقوله: (يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم) أي يهدي من اتبعه إلى صراط الحق وإلى طريق مستقيم لا يضل سالكوه عن الحق في الاعتقاد والعمل. قوله تعالى: (يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم) المراد بداعي الله هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى: (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة) يوسف: 108، وقيل: المراد به ما سمعوه من القرآن وهو بعيد.
[ 217 ]
والظاهر أن (من) في (يغفر لكم من ذنوبكم) للتبعيض، والمراد مغفرة بعض الذنوب وهي التي اكتسبوها قبل الايمان، قال تعالى: (إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) الانفال: 38. وقيل: المراد بهذا البعض حقوق الله سبحانه فإنها مغفورة بالتوبة والايمان توبة وأما حقوق الناس فإنها غير مغفورة بالتوبة، ورد بأن الاسلام يجب ما قبله. قوله تعالى: (ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الارض وليس له من دونه أولياء) الخ، أي ومن لم يؤمن بداعي الله فليس بمعجز لله في الارض برد دعوته وليس له من دون الله أولياء ينصرونه ويمدونه في ذلك، والمحصل: أن من لم يجب داعي الله في دعوته فإنما ظلم نفسه وليس له أن يعجز الله بذلك لا مستقلا ولا بنصرة من ينصره من الاولياء فليس له أولياء من دون الله، ولذلك أتم الكلام بقوله: (اولئك في ضلال مبين).
قوله تعالى: (أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والارض ولم يعي بخلقهن بقادر) الخ، الاية وما بعدها إلى آخر السورة متصلة بما تقدم من قوله تعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم) الخ، وفيها تتميم القول فيما به الانذار في هذه السورة وهو المعاد والرجوع إلى الله تعالى كما أشرنا إليه في البيان المتقدم. والمراد بالرؤية العلم عن بصيرة، والعي العجز والتعب، والاول أفصح على ما قيل، والباء في (بقادر) زائدة لوقوعها موقعا فيه شائبة حيز النفي كأنه قيل: أليس الله بقادر. والمعنى: أولم يعلموا أن الله الذي خلق السماوات والارض ولم يعجز عن خلقهن أو لم يتعب بخلقهن قادر على إحياء الموتى - وهو تعالى مبدء وجود كل شئ وحياته - بلى هو قادر لانه على كل شئ قدير، وقد أوضحنا هذه الحجة فيما تقدم غير مرة. قوله تعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق) إلى آخر الاية، تأييد للحجة المذكورة في الاية السابقة بالاخبار عما سيجري على منكري المعاد يوم القيامة، ومعنى الاية ظاهر.
[ 218 ]
قوله تعالى: (فاصبر كما صبر اولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم) إلى آخر الاية، تفريع على حقية المعاد على ما دلت عليه الحجة العقلية وأخبر به الله سبحانه ونفى الريب عنه. والمعنى: فاصبر على جحود هؤلاء الكفار وعدم إيمانهم بذاك اليوم كما صبر اولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم بالعذاب فإنهم سيلاقون اليوم بما فيه من العذاب وليس اليوم عنهم ببعيد وإن استبعدوه. وقوله: (كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار) تبيين لقرب اليوم منهم ومن حياتهم الدنيا بالاخبار عن حالهم حينما يشاهدون ذلك اليوم فإنهم إذا
رأوا ما يوعدون من اليوم وما هيئ لهم فيه من العذاب كان حالهم حال من لم يلبث في الارض إلا ساعة من نهار. وقوله: (بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) أي هذا القرآن بما فيه من البيان تبليغ من الله من طريق النبوة فهل يهلك بهذا الذي بلغه الله من الاهلاك إلا القوم الفاسقون الخارجون عن زي العبودية. وقد أمر الله سبحانه في هذه الاية نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يصبر كما صبر اولوا العزم من الرسل وفيه تلويح إلى أنه صلى الله عليه وآله وسلم منهم فليصبر كصبرهم، ومعنى العزم ههنا إما الصبر كما قال بعضهم لقوله تعالى: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الامور) الشورى: 43، وإما العزم على الوفاء بالميثاق المأخوذ من الانبياء كما يلوح إليه قوله: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) طه: 115، وإما العزم بمعنى العزيمة وهي الحكم والشريعة. وعلى المعنى الثالث وهو الحق الذي تذكره روايات أئمة أهل البيت عليه السلام هم خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم ولقوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا اليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى) الشورى: 13، وقد مر تقريب معنى الاية. وعن بعض المفسرين أن جميع الرسل أولو العزم، وقد أخذ (من الرسل)
[ 219 ]
بيانا لاولي العزم في قوله: (أولوا العزم من الرسل) وعن بعضهم أنهم الرسل الثمانية عشر المذكورون في سورة الانعام (الاية 83 - 90) لانه تعالى قال بعد ذكرهم: (فبهداهم اقتده). وفيه أنه تعالى قال بعد عدهم: (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم) ثم قال: (فبهداهم اقتده) ولم يقل ذلك بعد عدهم بلا فصل.
وعن بعضهم أنهم تسعة: نوح وإبراهيم والذبيح ويعقوب ويوسف وأيوب وموسى وداود وعيسى، وعن بعضهم أنهم سبعة: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى، وعن بعضهم أنهم ستة وهم الذين أمروا بالقتال: نوح وهود وصالح وموسى وداود وسليمان، وذكر بعضهم أن الستة هم نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وأيوب، وعن بعضهم أنهم خمسة وهم: نوح وهود وإبراهيم وشعيب وموسى، وعن بعضهم أنهم أربعة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، و ذكر بعضهم أن الاربعة هم نوح وإبراهيم وهود ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم أجمعين. وهذه الاقوال بين ما لم يستدل عليه بشئ أصلا وبين ما استدل عليه بما لا دلالة فيه، ولذا أغمضنا عن نقلها، وقد تقدم في أبحاث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب بعض الكلام في أولي العزم من الرسل فراجعه إن شئت. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: (وإذ صرفنا اليك نفرا من الجن) الايات، كان سبب نزول هذه الايات أن رسول الله صلى الله عليهو اله وسلم خرج من مكة الى سوق عكاظ، ومعه زيد بن حارثة يدعو الناس الى الاسلام فلم يجبه أحد ولم يجد أحدا يقبله ثم رجع الى مكة. فلما بلغ موضعا يقال له: وادي مجنة تهجد بالقرآن في جوف الليل فمر به
(1) الجنة: محل الجن. (*)
[ 220 ]
نفر من الجن فلما سمعوا قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استمعوا له فلما سمعوا قرآنه قال بعضهم لبعض: (أنصتوا) يعني اسكتوا (فلما قضي) أي فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن (ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا) إلى آخر الايات. فجاؤا الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأسلموا وآمنوا وعلمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شرائع
الاسلام فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى اله عليه واله وسلم (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن) السورة كلها، فحكى الله قولهم وولى عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم، وكانوا يعودون الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كل وقت فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين عليه السلام أن يعلمهم ويفقههم فمنهم مؤمنون وكافرون وناصبون ويهود ونصارى ومجوس، وهم ولد الجان. أقول والروايات في قصة هؤلاء النفر من الجن الذين استمعوا الى القرآن كثيرة مختلفة اختلافا شديدا، ولا سبيل الى تصحيح متونها بالكتاب أو بقرائن موثوق بها ولذا اكتفينا منها على ما تقدم من خبر القمي وسيأتي نبذ منها في تفسير سورة الجن إن شاء الله تعالى. وفيه سئل العالم عليه السلام عن مؤمني الجن أيدخلون الجنة ؟ فقال: لا، ولكن لله حظائر بين الجنة والنار يكون فيها مؤمنو الجن وفساق الشيعة. أقول: وروي مثله في بعض الروايات الموقوفة من طرق أهل السنة، ورواية القمي مرسلة كالمضمرة فإن قبلت فلتحمل على أدنى مراتب الجنة وعمومات الكتاب تدل على عموم الثواب للمطيعين من الانس والجن. وفي الكافي بإسناده عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: سادة النبيين والمرسلين خمسة: وهم أولو العزم من الرسل وعليهم دارت الرحى: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى جميع الانبياء. وفيه بإسناده عن عبد الرحمان بن كثير عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: إن أول وصي كان على وجه الارض هبة الله بن آدم، وما من نبي مضى إلا وله وصي.
[ 221 ]
وكان جميع الانبياء مائة ألف وعشرين ألف نبي: منهم خمسة أولو العزم:
نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم. الحديث. أقول: كون اولي العزم خمسة مما استفاضت عليه الروايات عن أئمة أهل البيت عليه السلام فهو مروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن الباقر والصادق والرضا عليه السلام بطرق كثيرة. وعن روضة الواعظين للمفيد: قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: كم بين الدنيا والاخرة ؟ قال: غمضة عين قال الله عز وجل: (كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ) الاية.
[ 222 ]
(سورة محمد مدنية، وهي ثمان وثلاثون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم - 1. والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيأتهم وأصلح بالهم - 2. ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم - 3. فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم - 4. سيهديهم ويصلح بالهم - 5. ويدخلهم الجنة عرفها لهم - 6. (بيان) تصف السورة الذين كفروا بما يخصهم من الاوصاف الخبيثة والاعمال السيئة وتصف الذين آمنوا بصفاتهم الطيبة وأعمالهم الحسنة ثم تذكر ما يعقب صفات هؤلاء
[ 223 ]
من النعمة والكرامة وصفات اولئك من النقمة والهوان وعلى الجملة فيها المقايسة بين الفريقين في صفاتهم وأعمالهم في الدنيا وما يترتب عليها في الاخرى، وفيها بعض ما يتعلق بالقتال من الاحكام. وهي سورة مدنية على ما يشهد به سياق آياتها. قوله تعالى: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم) فسر الصد بالاعراض عن سبيل الله وهو الاسلام كما عن بعضهم، وفسر بالمنع وهو منعهم الناس أن يؤمنوا بما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم إليه من دين التوحيد كما عن بعض آخر. وثاني التفسيرين أوفق لسياق الايات التالية وخاصة ما يأمر المؤمنين بقتلهم وأسرهم وغيرهم. فالمراد بالذين كفروا كفار مكة ومن تبعهم في كفرهم وقد كانوا يمنعون الناس عن الايمان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويفتنونهم، وصدوهم أيضا عن المسجد الحرام. وقوله: (أضل أعمالهم) أي جعل أعمالهم ضالة لا تهتدي إلى مقاصدها التي قصدت بها وهي بالجملة إبطال الحق وإحياء الباطل فالجملة في معنى ما تكرر منه تعالى من قوله: (والله لا يهدي القوم الكافرين) البقرة: 264، وقد وعد سبحانه بإحياء الحق وإبطال الباطل كما في قوله: (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) الانفال: 8. فالمراد من ضلال أعمالهم بطلانها وفسادها دون الوصول إلى الغاية، وعد ذلك ضلالا من الاستعارة بالكناية. قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم) الخ، ظاهر إطلاق صدر الاية أن المراد بالذين آمنوا الخ، مطلق من آمن وعمل صالحا فيكون قوله: (وآمنوا بما نزل على محمد) تقييدا احترازيا لا تأكيدا وذكرا لما تعلقت به العناية في الايمان.
وقوله: (وهو الحق من ربهم) جملة معترضة والضمير راجع إلى ما نزل. وقوله: (كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم) قال في المجمع: البال الحال والشأن والبال القلب أيضا يقال: خطر ببالي كذا، والبال لا يجمع لانه أبهم أخواته من الحال والشأن. انتهى.
[ 224 ]
وقد قوبل إضلال الاعمال في الاية السابقة بتكفير السيئات وإصلاح البال في هذه الاية فمعنى ذلك هداية إيمانهم وعملهم الصالح إلى غاية السعادة، وإنما يتم ذلك بتكفير السيئات المانعة من الوصول إلى السعادة، ولذلك ضم تكفير السيئات إلى إصلاح البال. والمعنى: ضرب الله الستر على سيئاتهم بالعفو و المغفرة، وأصلح حالهم في الدنيا والاخرة أما الدنيا فلان الدين الحق هو الدين الذي يوافق ما تقتضيه الفطرة الانسانية التي فطر الله الناس عليها، والفطرة لا تقتضي إلا ما فيه سعادتها وكمالها ففي الايمان بما أنزل الله من دين الفطرة و العمل به صلاح حال المؤمنين في مجتمعهم الدنيوي، وأما في الاخرة فلانها عاقبة الحياة الدنيا وإذ كانت فاتحتها سعيدة كانت خاتمتها كذلك قال تعالى: (و العاقبة للتقوى) طه: 132. قوله تعالى: (ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم) الخ، تعليل لما في الايتين السابقتين من إضلال أعمال الكفار وإصلاح حال المؤمنين مع تكفير سيئاتهم. وفي تقييد الحق بقوله: (من ربهم) إشارة إلى أن المنتسب إليه تعالى هو الحق ولا نسبة للباطل إليه ولذلك تولى سبحانه إصلاح بال المؤمنين لما ينتسب إليه طريق الحق الذي اتبعوه، وأما الكفار بأعمالهم فلا شأن له تعالى فيهم وأما انتساب ضلالهم إليه في قوله: (أضل أعمالهم) فمعنى إضلال أعمالهم عدم هدايته لها إلى غايات
صالحة سعيدة. وفي الاية إشارة إلى أن الملاك كل الملاك في سعادة الانسان وشقائه اتباع الحق واتباع الباطل والسبب في ذلك انتساب الحق إليه تعالى دون الباطل. وقوله: (كذلك يضرب الله للناس أمثالهم) أي يبين لهم أوصافهم على ما هي عليه، وفي الاتيان باسم الاشارة الموضوعة للبعيد تفخيم لامر ما ضربه من المثل. قوله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) إلى آخر الاية، تفريع على ما تقدم في الايات الثلاث من وصف الفريقين كأنه قيل: إذا كان المؤمنون أهل الحق والله ينعم عليهم بما ينعم والكفار أهل الباطل والله يضل أعمالهم فعلى المؤمنين إذا لقوا
[ 225 ]
الكفار أن يقتلوهم ويأسروهم ليحيا الحق الذي عليه المؤمنون وتطهر الارض من الباطل الذي عليه الكفار. فقوله: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) المراد باللقاء اللقاء في القتال وضرب الرقاب مفعول مطلق قائم مقام فعله العامل فيه، والتقدير: فاضربوا الرقاب - أي رقابهم - ضربا وضرب الرقبة كناية عن القتل بالسيف، لان أيسر القتل وأسرعه ضرب الرقبة به. وقوله: (حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق) في المجمع: الاثخان إكثار القتل وغلبة العدو وقهرهم ومنه أثخنه المرض اشتد عليه وأثخنه الجراح. انتهى. وفي المفردات: وثقت به أثق ثقة سكنت إليه واعتمدت عليه، وأوثقته شددته، والوثاق - بفتح الواو - والوثاق - بكسر الواو - اسمان لما يوثق به الشئ. انتهى. و (حتى) غاية لضرب الرقاب، والمعنى: فاقتلوهم حتى إذا أكثرتم القتل فيهم فأسروهم بشد الوثاق وإحكامه فالمراد بشد الوثاق الاسر فالاية في ترتب الاسر فيها على الاثخان في معنى قوله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض) الانفال: 67.
وقوله: (فإما منا بعد وإما فداء) أي فأسروهم ويتفرع عليه أنكم إما تمنون عليهم منا بعد الاسر فتطلقونهم أو تسترقونهم وإما تفدونهم فداء بالمال أو بمن لكم عندهم من الاسارى. وقوله: (حتى تضع الحرب أوزارها) أوزار الحرب أثقالها وهي الاسلحة التي يحملها المحاربون والمراد به وضع المقاتلين وأهل الحرب أسلحتهم كناية عن انقضاء القتال. وقد تبين بما تقدم من المعنى ما في قول بعضهم إن هذه الاية ناسخة لقوله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض) الانفال: 67، لان هذه السورة متأخرة نزولا عن سورة الانفال فتكون ناسخة لها. وذلك لعدم التدافع بين الايتين فاية الانفال تنهى عن الاسر قبل الاثخان والاية المبحوث عنها تأامر بالاسر بعد الاثخان. وكذا ما قيل: إن قوله: (فشدوا الوثاق) الخ، منسوخ باية السيف (فاقتلوا
[ 226 ]
المشركين حيث وجدتموهم) التوبة: 5، وكأنه مبني على كون العام الوارد بعد الخاص ناسخا له لا مخصصا به والحق خلافه وتمام البحث في الاصول، وفي الاية أيضا مباحث فقهية محلها علم الفقه. وقوله: (ذلك) أي الامر ذلك أي إن حكم الله هو ما ذكر في الاية. وقوله: (ولو شاء الله لانتصر منهم) الضمير للكفار أي ولو شاء الله الانتقام منهم لانتقم منهم بإهلاكهم وتعذيبهم من غير أن يأمركم بقتالهم. وقوله: (ولكن ليبلوا بعضكم ببعض) استدراك من مشية الانتصار أي ولكن لم ينتصر منهم بل أمركم بقتالهم ليمتحن بعضكم ببعض فيمتحن المؤمنين بالكفار يأمرهم بقتالهم ليظهر المطيعون من العاصين ويمتحن الكفار بالمؤمنين فيتميز أهل الشقاء منهم
ممن يوفق للتوبة من الباطل والرجوع إلى الحق. وقد ظهر بذلك أن قوله: (ليبلوا بعضكم ببعض) تعليل للحكم المذكورة في الاية والخطاب في (بعضكم) لمجموع المؤمنين والكفار ووجه الخطاب إلى المؤمنين. وقوله: (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم) الكلام مسوق سوق الشرط والحكم عام أي ومن قتل في سبيل الله وهو الجهاد والقتال مع أعداء الدين فلن يبطل أعمالهم الصالحة التي أتوا بها في سبيل الله. وقيل: المراد بقوله: (والذين قتلوا في سبيل الله) شهداء يوم أحد، وفيه أنه تخصيص من غير مخصص والسياق سياق العموم. قوله تعالى: (سيهديهم ويصلح بالهم) الضمير للذين قتلوا في سبيل الله فالاية وما يتلوها لبيان حالهم بعد الشهادة أي سيهديهم الله إلى منازل السعادة والكرامة ويصلح حالهم بالمغفرة والعفو عن سيئاتهم فيصلحون لدخول الجنة. وإذا انضمت هذه الاية إلى قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم) آل عمران: 169، ظهر أن المراد بإصلاح بالهم إحياؤهم حياة يصلحون بها للحضور عند ربهم بانكشاف الغطاء. وقال في المجمع: والوجه في تكرير قوله: (بالهم) أن المراد بالاول أنه أصلح بالهم في الدين والدنيا، وبالثاني أنه يصلح حالهم في نعيم العقبى فالاول سبب النعيم والثاني نفس النعيم. انتهى. والفرق بين ما ذكره من المعنى وما قدمناه أن قوله
[ 227 ]
تعالى: (ويصلح بالهم) على ما ذكرنا كالعطف التفسيري لقوله: (سيهديهم) دون ما ذكره، وقوله الاتي: (ويدخلهم الجنة) على ما ذكره كالعطف التفسيري لقوله: (ويصلح بالهم) دون ما ذكرناه. قوله تعالى: (ويدخلهم الجنة عرفها لهم) غاية هدايته لهم، وقوله: (عرفها
لهم) حال من إدخاله إياهم الجنة أي سيدخلهم الجنة والحال أنه عرفها لهم إما بالبيان الدنيوي من طريق الوحي والنبوة وإما بالبشرى عند القبض أو في القبر أو في القيامة أو في جميع هذه المواقف هذا ما يفيده السياق من المعنى. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن علي قال: سورة محمد آية فينا وآية في بني أمية. أقول: وروى القمي في تفسيره عن أبيه عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام مثله. وفي المجمع في قوله: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) الخ، المروي عن أئمة الهدى عليه السلام: أن الاسارى ضربان: ضرب يؤخذون قبل انقضاء القتال والحرب قائمة فهؤلاء يكون الامام مخيرا بين أن يقتلهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ويتركهم حتى ينزفوا، ولا يجوز المن ولا الفداء. والضرب الاخر الذين يؤخذون بعد أن وضعت الحرب أوزارها وانقضى القتال فالامام مخير فيهم بين المن والفداء إما بالمال أو بالنفس وبين الاسترقاق وضرب الرقاب فإذا أسلموا في الحالين سقط جميع ذلك وكان حكمهم حكم المسلمين. اقول: وروى ما في معناه في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام. وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن ابن جريح في قوله تعالى: (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم قال: نزل فيمن قتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد. أقول: قد عرفت أن الاية عامة، وسياق الاستقبال في قوله: سيهديهم ويصلح بالهم) الخ، إنما يلائم العموم وكون الكلام مسوقا لضرب القاعدة.
[ 228 ]
وقد روي أن قوله تعالى: (حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق) ناسخ لقوله:
(وما كان لنبي أن يكون له أسرى) الاية، وأيضا أن قوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) ناسخ لقوله: (فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء) وقد عرفت فيما تقدم عدم استقامة النسخ. * * * يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم - 7. والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم - 8. ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم - 9. أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها - 10. ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم - 11. إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الانعام والنار مثوى لهم - 12. وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم - 13. أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم - 14. مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات
[ 229 ]
ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم - 15. (بيان) الايات جارية على السياق السابق. قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)
تحضيض لهم على الجهاد ووعد لهم بالنصر إن نصروا الله تعالى فالمراد بنصرهم لله أن يجاهدوا في سبيل الله على أن يقاتلوا لوجه الله تأييدا لدينه وإعلاء لكلمة الحق لا ليستعلوا في الارض أو ليصيبوا غنيمة أو ليظهروا نجدة وشجاعة. والمراد بنصر الله لهم توفيقه الاسباب المقتضية لظهورهم وغلبتهم على عدوهم كإلقاء الرعب في قلوب الكفار وإدارة الدوائر للمؤمنين عليهم وربط جأش المؤمنين وتشجيعهم، وعلى هذا فعطف تثبيت الاقدام على النصر من عطف الخاص على العام وتخصيص تثبيت الاقدام، وهو كناية عن التشجيع وتقوية القلوب، لكونه من أظهر أفراد النصر. قوله تعالى: (والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم) ذكر ما يفعل بالكفار عقيب ذكر ما يفعل بالمؤمنين الناصرين لله لقياس حالهم من حالهم. والتعس هو سقوط الانسان على وجهه وبقاؤه عليه ويقابله الانتعاش وهو القيام عن السقوط على الوجه فقوله: (تعسا لهم) أي تعسوا تعسا وهو ما يتلوه دعاء عليهم نظير قوله: (قاتلهم الله أني يؤفكون) التوبة: 30، (قتل الانسان ما أكفره) عبس: 17، ويمكن أن يكون إخبارا عن تعسهم وبطلان أثر مساعيهم على نحو الكناية فإن الانسان أعجز ما يكون إذا كان ساقطا على وجهه. قوله تعالى: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) المراد بما أنزل الله هو القرآن والشرائع الاحكام التي أنزلها الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وأمر بإطاعتها والانقياد لها فكرهوها واستكبروا عن اتباعها.
[ 230 ]
والاية تعليل مضمون الاية السابقة، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها) التدمير الاهلاك، يقال دمره الله أي أهلكه،
ويقال: دمر الله عليه أي أهلك ما يخصه من نفس وأهل ودار وعقار فدمر عليه أبلغ من دمره كما قيل، وضمير (أمثالها) للعاقبة أو للعقوبة المدلول عليها بسابق الكلام. والمراد بالكافرين الكافرون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى: وللكافرين بك يا محمد أمثال تلك العاقبة أو العقوبة وإنما اوعدوا بأمثال العاقبة أو العقوبة ولا يحل بهم إلا مثل واحد لانهم في معرض عقوبات كثيرة دنيوية واخروية وإن كان لا يحل بهم إلا بعضها، ويمكن أن يراد بالكافرين مطلق الكافرين، والجملة من باب ضرب القاعدة. قوله تعالى: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) الاشارة بذلك إلى ما تقدم من نصر المؤمنين ومقت الكافرين وسوء عاقبتهم، ولا يصغى إلى ما قيل: إنه إشارة إلى ثبوت عاقبة أو عقوبة الامم السالفة لهؤلاء، وكذا ما قيل: إنه إشارة إلى نصر المؤمنين، وذلك لان الاية متعرضة لحال الطائفتين: المؤمنين والكفار جميعا. والمولى كأنه مصدر ميمي أريد به المعنى الوصفي فهو بمعنى الولى ولذلك يطلق على سيد العبد ومالكه لان له ولاية التصرف في امور عبده، ويطلق على الناصر لانه يلي التصرف في أمر منصوره بالتقوية والتأييد والله سبحانه مولى لانه المالك الذي يلي امور خلقه في صراط التكوين ويدبرها كيف يشاء، قال تعالى: (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع) الم السجدة: 4، وقال: (وردوا إلى الله مولاهم الحق) يونس: 30، وهو تعالى مولى لانه يلي تدبير امور عباده في صراط السعادة فيهديهم إلى سعادتهم والجنة ويوفقهم للصالحات وينصرهم على أعدائهم، والمولوية بهذا المعنى الثاني تختص بالمؤمنين، لانهم هم الداخلون في حظيرة العبودية المتبعون لما يريده منهم ربهم دون الكفار. وللمؤمنين مولى وولي هو الله سبحانه كما قال: ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا)، وقال: (الله ولي الذين آمنوا) البقرة: 257، وأما الكفار فقد اتخذوا الاصنام أو
[ 231 ]
أرباب الاصنام أولياء فهم أولياؤهم على ما زعموا كما قال بالبناء على مزعمتهم بنوع من التهكم: (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت) البقرة: 257، ونفى ولايتهم بالبناء على حقيقة الامر فقال: (وأن الكافرين لا مولى لهم) ثم نفى ولايتهم مطلقا تكوينا وتشريعا مطلقا فقال: (أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي) الشورى: 9، وقال: (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) النجم: 23. فمعنى الاية: أن نصره تعالى للمؤمنين وتثبيته أقدامهم وخذلانه الكفار وإضلاله أعمالهم وعقوبته لهم إنما ذلك بسبب أنه تعالى مولى المؤمنين ووليهم، وأن الكفار لا مولى لهم فينصرهم ويهدي أعمالهم وينجيهم من عقوبته. وقد تبين بما تقدم ضعف ما قيل: إن المولى في الاية بمعنى الناصر دون المالك وإلا كان منافيا لقوله تعالى: (وردوا إلى الله مولاهم الحق) يونس: 30، ووجه الضعف ظاهر. قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الانعام والنار مثوى لهم) مقايسة بين الفريقين وبيان أثر ولاية الله للمؤمنين وعدم ولايته للكفار من حيث العاقبة والاخرة وهي أن المؤمنين يدخلون الجنة والكفار يقيمون في النار. وقد أشير في الكلام إلى منشإ ما ذكر من الاثر حيث وصف كلا من الفريقين بما يناسب مال حاله فأشار إلى صفة المؤمنين بقوله: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) وإلى صفة الكفار بقوله: (يتمتعون ويأكلون كما تأكل الانعام) فأفاد الوصفان بما بينهما من المقابلة أن المؤمنين راشدون في حياتهم الدنيا مصيبون للحق حيث آمنوا بالله وعملوا الاعمال الصالحة فسلكوا سبيل الرشد وقاموا بوظيفة الانسانية، وأما الكفار فلا عناية لهم بإصابة الحق ولا تعلق لقلوبهم بوظائف الانسانية، و إنما همهم بطنهم
وفرجهم يتمتعون في حياتهم الدنيا القصيرة ويأكلون كما تأكل الانعام لا منية لهم إلا ذلك ولا غاية لهم وراءه. فهؤلاء أي المؤمنون تحت ولاية الله حيث يسلكون مسلكا يريده منهم ربهم ويهديهم إليه ولذلك يدخلهم في الاخرة جنات تجري من تحتها الانهار، وأولئك أي الكفار ما لهم من ولي وإنما وكلوا إلى أنفسهم ولذلك كان مثواهم ومقامهم النار.
[ 232 ]
وإنما نسب دخول المؤمنين الجنات إلى الله نفسه دون إقامة الكفار في النار قضاء لحق الولاية المذكورة فله تعالى عناية خاصة بأوليائه، وأما المنسلخون من ولايته فلا يبالي في أي واد هلكوا. قوله تعالى: (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم) المراد بالقرية أهل القرية بدليل قوله بعد: (أهلكناهم) الخ، والقرية التي أخرجته صلى الله عليه وآله وسلم هي مكة. وفي الاية تقوية لقلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتهديد لاهل مكة وتحقير لامرهم أن الله أهلك قرى كثيرة كل منها أشد قوة من قريتهم ولا ناصر لهم ينصرهم. قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم) السياق الجاري على قياس حال المؤمنين بحال الكفار يدل على أن المراد بمن كان على بينة من ربه هم المؤمنون فالمراد بكونهم على بينة من ربهم كونهم على دلالة بينة من ربهم توجب اليقين على ما اعتقدوا عليه وهي الحجة البرهانية فهم إنما يتبعون الحجة القاطعة على ما هو الحري بالانسان الذي من شأنه أن يستعمل العقل ويتبع الحق. وأما الذين كفروا فقد شغفهم أعمالهم السيئة التي زينها لهم الشيطان وتعلقت بها أهواؤهم وعملوا السيئات، فكم بين الفريقين من فرق. قوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون) إلى آخر الاية يفرق بين الفريقين
ببيان مال أمرهما وهو في الحقيقة توضيح ما مر في قوله: (إن الله يدخل الذين آمنوا) الخ من الفرق بينهما فهذه الاية في الحقيقة تفصيل تلك الاية. فقوله: (مثل الجنة التي وعد المتقون) المثل بمعنى الصفة - كما قيل - أي صفة الجنة التي وعد الله المتقين أن يدخلهم فيها، وربما حمل المثل على معناه المعروف واستفيد منه أن الجنة أرفع وأعلى من أن يحيط بها الوصف ويحدها اللفظ وإنما تقرب إلى الاذهان نوع تقريب بأمثال مضروبة كما يلوح إليه قوله تعالى: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) السجدة: 17. وقد بدل قوله في الاية السابقة: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) في هذه الاية من قوله: (المتقون) تبديل اللازم من الملزوم فإن تقوى الله يستلزم الايمان به وعمل
[ 233 ]
الصالحات من الاعمال. وقوله: (فيها أنهار من ماء غير آسن) أي غير متغير بطول المقام، وقوله: (وأنهار من لبن لم يتغير طعمه) كما في ألبان الدنيا، وقوله: (وأنهار من خمر لذة للشاربين) أي لذيذة للشاربين، واللذة إما صفة مشبهة مؤنثة وصف للخمر، وإما مصدر وصفت به الخمر مبالغة، وإما بتقدير مضاف أي ذات لذة، وقوله: (وأنهار من عسل مصفى) أي خالص من الشمع والرغوة والقذى وسائر ما في عسل الدنيا من الاذى والعيوب، وقوله: (ولهم فيها من كل الثمرات) جمع للتعميم. وقوله: (ومغفرة من ربهم) ينمحي بها عنهم كل ذنب وسيئة فلا تتكدر عيشتهم بمكدر ولا ينتغص بمنغص، وفي التعبير عنه تعالى بربهم إشارة إلى غشيان الرحمة وشمول الحنان والرأفة الالهية. وقوله: (كمن هو خالد في النار) قياس محذوف أحد طرفيه أي أمن يدخل الجنة التي هذا مثلها كمن هو خالد في النار وشرابهم الماء الشديد الحرارة الذي يقطع
أمعاءهم وما في جوفهم من الاحشاء إذا سقوه، وإنما يسقونه وهم مكرهون كما في قوله: (وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم)، وقيل: قوله: (كمن هو خالد) الخ، بيان لقوله في الاية السابقة: (كمن زين) الخ، وهو كما ترى. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله) قال أبو جعفر عليه السلام: كرهوا ما أنزل الله في حق علي عليه السلام. وفيه في قوله تعالى: (كمن زين له سوء عمله) قيل: هم المنافقون: وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام. أقول: ويحتمل أن تكون الروايتان من الجري. وفي تفسير القمي: في قوله تعالى: (كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم) قال: ليس من هو في هذه الجنة الموصوفة كمن هو في هذه النار كما أن ليس عدو الله كوليه.
[ 234 ]
* * * ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم - 16. والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم - 17. فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم - 18. فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم - 19. ويقول الذين آمنوا لو لا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض
ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم - 20. طاعة وقول معروف فإذا عزم الامر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم - 21. فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم - 22. أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم - 23. أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها - 24. إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم - 25. ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الامر والله يعلم إسرارهم - 26. فكيف إذا
[ 235 ]
توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم - 27. ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم - 28. أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم - 29. ولو نشاء لاريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم - 30. ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم - 31. إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم - 32. (بيان) الايات جارية على السياق السابق، وفيها تعرض لحال الذين في قلوبهم مرض والمنافقين ومن ارتد بعد إيمانه. قوله تعالى: (ومنهم من يستمع اليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا) الخ، آنفا اسم فاعل منصوب على الظرفية أو لكونه مفعولا
فيه، ومعناه الساعة التي قبيل ساعتك، وقيل: معناه هذه الساعة وهو على أي حال مأخوذ من الانف بمعنى الجارحة. وقوله: (ومنهم من يستمع اليك) الضمير للذين كفروا، والمراد باستماعهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إصغاؤهم إلى ما يتلوه من القرآن وما يبين لهم من اصول المعارف وشرائع الدين. وقوله: (حتى إذا خرجوا من عندك) الضمير للموصول وجمع الضمير باعتبار المعنى كما أن إفراده في (يستمع) باعتبار اللفظ.
[ 236 ]
وقوله: (قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا) المراد بالذين أوتوا العلم العلماء بالله من الصحابة والضمير في (ماذا قال) للنبي صلى الله عليه واله وسلم. والاستفهام في قولهم: (ماذا قال آنفا) قيل: للاستعلام حقيقة لان استغراقهم في الكبر والغرور واتباع الاهواء ما كان يدعهم أن يفقهوا القول الحق كما قال تعالى: (فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) النساء: 78، وقيل: للاستهزاء، وقيل: للتحقير كأن القول لكونه مشحونا بالاباطيل لا يرجع إلى معنى محصل، ولكل من المعاني الثلاثة وجه. وقوله: (اولئك الذين طبع الله على قلوبهم) تعريف لهم، وقوله: (واتبعوا أهواءهم) تعريف بعد تعريف فهو كعطف التفسير، ويتحصل منه أن اتباع الاهواء أمارة الطبع على القلب فالقلب غير المطبوع عليه الباقي على طهارة الفطرة الاصلية لا يتوقف في فهم المعارف الدينية والحقائق الالهية. قوله تعالى: (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) المقابلة الظاهرة بين الاية وبين الاية السابقة يعطي أن المراد بالاهتداء ما يقابل الضلال الملازم للطبع على القلب وهو التسليم لما تهدي إليه الفطرة السليمة واتباع الحق، وزيادة هداهم من الله
سبحانه رفعه تعالى درجة إيمانهم، وقد تقدم أن الهدى والايمان ذو مراتب مختلفة، والمراد بالتقوى ما يقابل اتباع الاهواء وهو الورع عن محارم الله والتجنب عن ارتكاب المعاصي. وبذلك يظهر أن زيادة الهدى راجع إلى تكميلهم في ناحية العلم وإيتاء التقوى إلى تكميلهم في ناحية العمل، ويظهر أيضا بالمقابلة أن الطبع على القلوب راجع إلى فقدانهم كمال العلم واتباع الاهواء راجع إلى فقدانهم العمل الصالح وحرمانهم منه وهذا لا ينافي ما قدمنا أن اتباع الاهواء كعطف التفسير بالنسبة إلى الطبع على القلوب. قوله تعالى: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها) الخ، النظر هو الانتظار، والاشراط جمع شرط بمعنى العلامة، والاصل في معناه الشرط بمعنى ما يتوقف عليه وجود الشئ لان تحققه علامة تحقق الشئ فأشراط الساعة علاماتها الدالة عليها.
[ 237 ]
وسياق الاية سياق التهكم كأنهم واقفون موقفا عليهم إما أن يتبعوا الحق فتسعد بذلك عاقبتهم، وإما أن ينتظروا الساعة حتى إذا أيقنوا بوقوعها وأشرفوا عليها تذكروا وآمنوا واتبعوا الحق أما اتباع الحق اليوم فلم يخضعوا له بحجة أو بموعظة أو عبرة، وأما انتظارهم مجئ الساعة ليتذكروا عنده فلا ينفعهم شيئا فإنها تجئ بغتة ولا تمهلهم شيئا حتى يستعدوا لها بالذكرى وإذا وقعت لم ينفعهم الذكرى لان اليوم يوم جزاء لا يوم عمل قال تعالى: (يومئذ يتذكر الانسان وأنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي) الفجر: 24. مضافا إلى أن أشراطها وعلاماتها قد جاءت وتحققت، ولعل المراد بأشراطها خلق الانسان وانقسام نوعه إلى صلحاء ومفسدين ومتقين وفجار المستدعي للحكم الفصل بينهم ونزول الموت عليهم فإن ذلك كله من شرائط وقوع الواقعة وإتيان الساعة،
وقيل: المراد بأشراط الساعة ظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو خاتم الانبياء وانشقاق القمر ونزول القرآن وهو آخر الكتب السماوية. هذا ما يعطيه التدبر في الاية من المعنى وهي - كما ترى - حجة برهانية في عين أنها مسوقة سوق التهكم. وعليه فقوله: (بغتة) حال من الاتيان جئ به لبيان الواقع وليتفرع عليه قوله الاتي: (فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم) وليس قيدا للانتظار حتى يفيد أنهم إنما ينتظرون إتيانها بغتة، ولدفع هذا التوهم قيل: (إلا الساعة أن تأتيهم بغتة) ولم يقل: إلا أن تأتيهم الساعة بغتة. وقوله: (فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم) أنى خبر مقدم و (ذكراهم) مبتدأ مؤخر و (إذا جاءتهم) معترضة بينهما، والمعنى: فكيف يكون لهم أن يتذكروا إذا جاءتهم ؟ أي كيف ينتفعون بالذكرى في يوم لا ينفع العمل الذي يعمل فيه وإنما هو يوم الجزاء. وللقوم في معنى جمل الاية ومعناها بالجملة أقوال مختلفة تركنا إيرادها من أرادها فليراجع كتبهم المفصلة. قوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) الخ، قيل: هو متفرع على جميع ما تقدم في السورة من سعادة المؤمنين وشقاوة الكفار
[ 238 ]
كأنه قيل: إذا علمت أن الامر كما ذكر من سعادة هؤلاء وشقاوة أولئك فاثبت على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله سبحانه فمعنى الامر بالعلم على هذا هو الامر بالثبات على العلم. ويمكن أن يكون تفريعا على ما بينه في الايتين السابقتين أعني قوله: (ومنهم من يستمع اليك - إلى قوله - وآتاهم تقواهم) من أنه تعالى يطبع على قلوب المشركين
ويتركهم وذنوبهم ويعكس الامر في الذين اهتدوا الى توحيده والايمان به فكأنه قيل: إذا كان الامر على ذلك فاستمسك بعلمك بوحدانية الاله واطلب مغفرة ذنبك ومغفرة امتك من المؤمنين بك والمؤمنات حتى لا تكون ممن يطبع الله على قلبه ويحرمه التقوى بتركه و نوبه، ويؤيد هذا الوجه قوله في ذيل الاية: (والله يعلم متقلبكم ومثواكم). فقوله: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) معناه على ما يؤيده السياق فاستمسك بعلمك أنه لا إله إلا الله، وقوله: (واستغفر لذنبك) تقدم الكلام في معنى الذنب المنسوب إليه صلى الله عليه وآله وسلم وسيأتى أيضا في تفسير أول سورة الفتح إن شاء الله تعالى. وقوله: (وللمؤمنين والمؤمنات) أمر بطلب المغفرة للامة من المؤمنين والمؤمنات وحاشا أن يأمر تعالى بالاستغفار ولا يواجهه بالمغفرة أو بالدعاء ولا يقابله بالاستجابة. وقوله: (والله يعلم متقلبكم ومثواكم) تعليل لما في صدر الاية: (فاعلم أنه) الخ، والظاهر أن المتقلب مصدر ميمي بمعنى الانتقال من حال الى حال، وكذلك المثوى بمعنى الاستقرار والسكون، والمراد أنه تعالى يعلم كل أحوالكم من متغير وثابت وحركة وسكون فاثبتوا على توحيده واطلبوا مغفرته، واحذروا أن يطبع على قلوبكم ويترككم وأهواءكم. وقيل: المراد بالمتقلب والمثوى التصرف في الحيا الدنيا والاستقرار في الاخرة وقيل: المتقلب هو التقلب من الاصلاب إلى الارحام والمثوى السكون في الارض. وقيل: المتقلب التصرف في اليقظة والمثوى المنام، وقيل: المتقلب التصرف في المعايش والمكاسب والمثوى الاستقرار في المنازل، وما قدمناه أظهر وأعم. قوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا لولا أنزلت سورة) إلى آخر الاية، لولا تحضيضية أي هلا أنزلت سورة يظهرون بها الرغبة في نزول سورة جديدة تأتيهم
[ 239 ]
بتكاليف جديدة يمتثلونها، والمراد بالسورة المحكمة المبينة التي لا تشابه فيها، والمراد
بذكر القتال الامر به. والمراد بالذين في قلوبهم مرض، الضعفاء الايمان من المؤمنين دون المنافقين فإن الاية صريحة في أن الذين أظهروا الرغبة في نزولها هم الذين آمنوا، ولا يعم الذين آمنوا للمنافقين إلا على طريق المساهلة غير اللائقة بكلام الله تعالى فالاية كقوله تعالى في فريق من المؤمنين: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية) النساء: 77. والمغشي عليه من الموت هو المحتضر، يقال: غشيه غشاوة إذا ستره وغطاه وغشي على فلان - بالبناء - للمفعول - إذا نابه ما غشي فهمه، ونظر المغشي عليه من الموت إشخاصه ببصره اليك من غير أن يطرف. وقوله: (فأولى لهم) لعله خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: أولى لهم ذلك أي حري بهم أن ينظروا كذلك أي أن يحتضروا فيموتوا، وعن الاصمعي أن قولهم: (أولى لك) كلمة تهديد معناه وليك وقارنك ما تكره، والاية نظيرة قوله تعالى: (أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى) القيامة: 35. ومعنى الاية: ويقول الذين آمنوا هلا أنزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة لا تشابه فيها وامروا فيها بالقتال والجهاد رأيت الضعفاء الايمان منهم ينظرون اليك من شدة الخشية نظر المحتضر فأولى لهم ذلك. قوله تعالى: (طاعة وقول معروف فإذا عزم الامر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم) عزم الامر أي جد وتنجز. وقوله: (طاعة وقول معروف) كأنه خبر لمبتدأ محذوف والتقدير أمرنا - أو أمرهم وشأنهم - أي إيمانهم بنا طاعة واثقونا عليها وقول معروف غير منكر قالوا لنا وهو إظهار السمع والطاعة كما يحكيه تعالى عنهم بقوله: (آمن الرسول بما أنزل
إليه من ربه والمؤمنون - الى أن قال - وقالوا سمعنا وأطعنا) البقرة: 285. وعلى هذا يتصل قوله بعده: (فإذا عزم الامر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم) بما قبله اتصالا بينا، والمعنى: أن الامر هو ما واثقوا الله عليه من قولهم: سمعنا وأطعنا
[ 240 ]
فلو أنهم حين عزم الامر صدقوا الله فيما قالوا وأطاعوه فيما يأمر به ومنه أمر القتال لكان خيرا لهم. ويحتمل أن يكون قوله: (طاعة) الخ، خبرا لضمير عائد الى القتال المذكور والتقدير القتال المذكور في السورة طاعة منهم وقول معروف فلو أنهم حين عزم الامر صدقوا الله في إيمانهم وأطاعوه به لكان خيرا لهم. أما كونه طاعة منهم فظاهر، وأما كونه قولا معروفا فلان إيجاب القتال والامر بالدفاع عن المجتمع الصالح لابطال كيد أعدائه قول معروف يعرفه العقل والعقلاء. وقيل: إن قوله: (طاعة) الخ، مبتدأ الخبر والتقدير طاعة وقول معروف خير لهم وأمثل، وقيل: مبتدأ خبره (فأولى لهم) في الاية السابقة فالاية من تمام الاية السابقة، وهو قول ردي، وأردء منه ما قيل: إن (طاعة) الخ، صفة لسورة في قوله: (فإذا انزلت سورة) وقيل غير ذلك. قوله تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم) الخطاب للذين في قلوبهم مرض المتثاقلين في أمر الجهاد في سبيل الله، وقد التفت إليهم بالخطاب لزيادة التوبيخ والتقريع، والاستفهام للتقرير، والتولي الاعراض والمراد به الاعراض عن كتاب الله والعمل بما فيه والعود إلى الشرك ورفض الدين. والمعنى: فهل يتوقع منكم إن أعرضتم عن كتاب الله والعمل بما فيه ومنه الجهاد في سبيل الله أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم بسفك الدماء ونهب الاموال وهتك الاعراض تكالبا على جيفة الدنيا أي إن توليتم كان المتوقع منكم ذلك.
وقد ظهر بذلك أن الاية في مقام التعليل لقوله في الاية السابقة: (لكان خيرا لهم) ولذا صدر بالفاء. وقيل: المراد بالتولي التصدي للحكم والولاية، والمعنى: هل يتوقع منكم إن جعلتم ولاة أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم بسفك الدماء الحرام وأخذ الرشاء والجور في الحكم هذا، وهو معنى بعيد عن السياق. قوله تعالى: (اولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) الاشارة إلى المفسدين في الارض المقطعين للارحام وقد وصفهم الله بأنه لعنهم فأصمهم وأذهب
[ 241 ]
بسمعهم فلا يسمعون القول الحق وأعمى أبصارهم فلا يرون الرأي الحق فإنها لا تعمي الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) الاستفهام للتوبيخ وضمير الجمع راجع إلى المذكورين في الاية السابقة، وتنكير (قلوب) كما قيل للدلالة على أن المراد قلوب هؤلاء وأمثالهم. قال في مجمع البيان: وفي هذا دلالة على بطلان قول من قال: لا يجوز تفسير شئ من ظاهر القرآن إلا بخبر وسمع. انتهى. قوله تعالى: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم) الارتداد على الادبار الرجوع إلى الاستدبار بعد الاستقبال وهو استعارة أريد بها الترك بعد الاخذ، والتسويل تزيين ما تحرض النفس عليه وتصوير القبيح لها في صورة الحسن، والمراد بالاملاء الامداد أو تطويل الامال. قوله تعالى: (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الامر والله يعلم إسرارهم) الاشارة بذلك إلى تسويل الشيطان وإملائه وبالجملة تسلطه عليهم، والمراد (بالذين كرهوا ما نزل الله) هم الذين كفروا كما تقدم في قوله: (والذين كفروا
فتعسا لهم وأضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله) الاية: 9 من السورة. وقوله: (سنطيعكم في بعض الامر) مقول قولهم ووعد منهم للكفار بالطاعة وهو كما يلوح من تقييد الطاعة ببعض الامر على نحو الاجمال كلام من لا يقدر على التظاهر بطاعة من يريد طاعتة في جميع الامور لكونه على خطر من التظاهر بالطاعة المطلقة فيسر إلى من يعده أنه سيطيعه في بعض الامر وفيما تيسر له ذلك ثم يكتم ذلك ويقعد متربصا للدوائر. ويستفاد من ذلك أن هؤلاء كانوا قوما من المنافقين أسروا إلى الكفار ما حكاه تعالى عنهم ووعدهم الطاعة لهم مهما تيسر لهم ذلك، ويؤيد ذلك قوله تعالى بعد: (والله يعلم إسرارهم). واختلفوا في هؤلاء من هم ؟ فقيل هم اليهود قالوا للمنافقين: إن أعلنتم الكفر
[ 242 ]
نصرناكم، وقيل: هم اليهود أو اليهود والمنافقون قالوا ذلك للمشركين. ويرد على الوجهين جميعا أن موضوع الكلام في الاية المرتدون بعد إيمانهم واليهود لم يؤمنوا حتى يرتدوا. وقيل: هم المنافقون وعدوا اليهود النصر كما قال تعالى: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لاخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم) الحشر: 11. وفيه أن الاية تقبل الانطباق على ذلك كما تقبل الانطباق على اليهود في وعدهم النصر للمشركين على تكلف في صدق الارتداد على كفرهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد تبين رسالته لهم لكن لا دليل من طريق لفظ الاية على ذلك فلعلهم قوم من المنافقين غيرهم. قوله تعالى: (فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم) متفرع على ما قبله، والمعنى: هذا حالهم اليوم يرتدون بعد تبين الهدى لهم فيفعلون ما يشاؤن
فكيف حالهم إذا توفتهم الملائكة وهم يضربون وجوههم أدبارهم. قوله تعالى: (ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم) الظاهر أن المراد بما أسخط الله أهواء النفس وتسويلات الشيطان المستتبعة للمعاصي والذنوب الموبقة كما قال تعالى: (واتبعوا أهواءهم)، وقال: (الشيطان سول لهم وأملى لهم). والسخط والرضا من صفاته تعالى الفعلية و المراد بهما العقاب والثواب. والاشارة في قوله: (ذلك) إلى ما ذكر في الاية السابقة من عذاب الملائكة لهم عند توفيهم أي سبب عقابهم أن أعمالهم حابطة لاتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه، وإذ لا عمل لهم صالحا يشقون بالعذاب. قوله تعالى: (أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم) قال الراغب: الضغن - بكسر الضاد - والضغن - بضمها - الحقد الشديد وجمعه أضغان انتهى. والمراد بالذين في قلوبهم مرض الضعفاء الايمان ولعلهم الذين آمنوا أولا على ضعف في إيمانهم ثم مالوا إلى النفاق وارتدوا بعد الايمان، فالتدبر الدقيق في تاريخ صدر الاسلام يوضح أن قوما ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا على هذه الصفة كما أن قوما منهم آخرين كانوا
[ 243 ]
منافقين من أول يوم آمنوا إلى آخر عمرهم، وعلى هذا فعدهم من المؤمنين فيما تقدم بملاحظة بادئ أمرهم. والمعنى: بل ظن هؤلاء المنافقون الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله ولن يظهر أحقادهم للدين وأهله. قوله تعالى: (ولو نشاء لاريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم) السيماء العلامة، والمعنى: ولو نشاء لاريناك اولئك المرضى القلوب فلعرفتهم بعلامتهم التي أعلمناهم بها.
وقوله: (ولتعرفنهم في لحن القول) قال الراغب: اللحن صرف الكلام عن سننه الجاري عليه: إما بإزالة الاعراب أو التصحيف وهو المذموم وذلك أكثر استعمالا، وإما بإزالته عن التصريح وصرفه إلى تعريض وفحوى، وهو محمود عند أكثر الادباء من حيث البلاغة. انتهى. فالمعنى: ولتعرفنهم من جنس قولهم بما يشتمل عليه من الكناية والتعريض وفي جعل لحن القول ظرفا للمعرفة نوع من العناية المجازية. وقوله: (والله يعلم أعمالكم) أي يعلم حقائقها وأنها من أي القصود والنيات صدرت فيجازي المؤمنين بصالح أعمالهم وغيرهم بغيرها، ففيه وعد للمؤمنين ووعيد لغيرهم. قوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم) البلاء والابتلاء الامتحان والاختبار، والاية بيان علة كتابة القتال على المؤمنين، وهو الاختبار الالهي ليمتاز به المجاهدون في سبيل الله الصابرون على مشاق التكاليف الالهية. وقوله: (ونبلوا أخباركم) كأن المراد بالاخبار الاعمال من حيث إنها تصدر عن العاملين فيكون أخبارا لهم يخبر بها عنهم، واختبار الاعمال يمتاز به صالحها من طالحها كما أن اختبار النفوس يمتاز به النفوس الصالحة الخيرة وقد تقدم فيما تقدم أن المراد بالعلم الحاصل له تعالى من امتحان عباده هو ظهور حال العباد بذلك، وبنظر أدق هو علم فعلي له تعالى خارج عن الذات. قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد
[ 244 ]
ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم) المراد بهؤلاء رؤساء الضلال من كفار مكة ومن يلحق بهم لانهم الذين صدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول وعادوه أشد المعاداة بعد ما تبين لهم الهدى.
وقوله: (لن يضروا الله شيئا) لان كيد الانسان ومكره لا يرجع إلا إلى نفسه ولا يضر إلا إياه، وقوله: (وسيحبط أعمالهم) أي مساعيهم لهدم أساس الدين وما عملوه لاطفاء نور الله، وقيل: المراد إحباط أعمالهم وإبطالها فلا يثابون في الاخرة على شئ من أعمالهم، والمعنى الاول أنسب للسياق لان فيه تحريض المؤمنين وتشجيعهم على قتال المشركين وتطييب نفوسهم أنهم هم الغالبون كما تفيده الايات التالية. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: (ومنهم من يستمع اليك) الخ، عن الاصبغ بن نباتة عن علي عليه السلام قال: إنا كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيخبرنا بالوحي فأعيه أنا ومن يعيه فإذا خرجنا قالوا: ماذا قال آنفا. وفي الدار المنثور أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: بعث أنا والساعة كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى. أقول: وروي هذا اللفظ عنه صلى اله عليه واله وسلم بطريق أخرى عن أبي هريرة وسهل ابن مسعود. وفيه أخرج ابن أبي شبية والبخاري ومسلم وابن ماجه وابن مردويه عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يوما بارزا للناس فأتاه رجل فقال رجل فقال: يا رسول الله متى الساعة ؟ فقال: ما المسؤل عنها بأعلم من السائل ولكن سأحدثك عن أشراطها. إذا ولدت الامة ربتها فذاك من أشراطها، وإذا كانت الحفاة العروة رعاء الشاء رؤس الناس فذاك من أشراطها، وإذا تطاول رعاء الغنم في البنيان فذاك من أشراطها. وفي العلل بإسناده إلى أنس بن ماك عن النبي صلى الله عليه واله وسلم في حديث طويل يقول فيه لعبد الله بن سلام وقد سأله عن مسائل: أما أشراط الساعة فنار تحشر ا لناس من المشرق إلى المغرب.
[ 245 ]
أقول: ولعل المراد به غيرظاهره، والاخبار في آخر الجزء الخامس من الكتاب رواية سلمان عن النبي صلى الله عليه واله وسلم ورواية حمران عن الصادق عليه السلام وهما روايتان جامعتان في الباب. وفي المجمع قد صح الحديث بإسناد عن حذيفة بن اليمان قال: كنت رجلا ذرب اللسان على أهلي فقلت: يا رسول الله إني لاخشى أن يدخلني لساني النار فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فأين أنت من الاستغفار ؟ إني لاستغفر الله في اليوم مائة مرة. وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن أبي شيبة ومسلم وأبو داود والنسائي وابن حبان وابن مردويه عن الاغر المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: إنه ليغان على قلبي، وإني لاستغفر الله كل يوم مائة مرة. وفيه في قوله تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم) الاية: أخرج البيهقي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: إن الرحم معلقة بالعرش لها لسان ذلق تقول: اللهم صل من وصلني، واقطع من قطعني. أقول: والروايات فيها وفي صلتها وقطعها كثيرة، وقد مر شطر منها في تفسير أول سورة النساء. وفي المجمع في قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن) الاية أفلا يتدبرون القرآن فيقضوا ما عليهم من الحق عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليه السلام. وفي التوحيد بإسناده إلى محمد بن عمارة قال: سألت الصادق جعفر بن محمد عليه السلام فقلت له: يا بن رسول الله أخبرني عن الله عزوجل هل له رضى وسخط ؟ قال: نعم وليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين ولكن غضب الله عقابه ورضاه ثوابه. وفي المجمع في قوله تعالى: (ولتعرفنهم في لحن القول) الاية، عن أبي سعيد الخدري قال: لحن القول بغضهم علي بن أبي طالب. قال: كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ببغضهم علي بن أبي طالب. قال في المجمع: وروي مثل ذلك عن جابر بن عبد الله الانصاري.
وقال: وعن عبادة بن الصامت قال: كنا نبور أولادنا بحب علي بن أبي طالب فإذا رأينا أحدهم لا يحبه علمنا أنه لغير رشدة.
[ 246 ]
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إلا ببغض علي بن أبي طالب. وفي أمالي الطوسي بإسناده إلى علي عليه السلام أنه قال: قلت أربعا أنزل الله تعالى تصديقي بها في كتابه، قلت: المرء مخبو تحت لسانه فإذا تكلم ظهر، فأنزل الله: (ولتعرفنهم في لحن القول). * * * يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم - 33. إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم - 34. فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الاعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم - 35. إنما الحيوة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسئلكم أموالكم - 36. إن يسئلكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم - 37. ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم - 38. (بيان) لما وصف حال الكفار وأضاف إليه وصف حال الذين في قلوبهم مرض وتثاقلهم في أمر القتال وحال من ارتد منهم بعد، رجع يحذر المؤمنين أن يكونوا أمثالهم
[ 247 ]
فيفاوضوا المشركين ويميلوا إليهم فيتبعوا ما أسخط الله ويكرهوا رضوانه فيبطل أعمالهم بالحبط، وفي الايات موعظة لهم بالترغيب والترهيب والتطميع والتخويف، وبذلك تختتم السورة. قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم) الاية وإن كانت في نفسها مستقلة في مدلولها مطلقة في معناها حتى استدل الفقهاء بقوله فيها: (ولا تبطلوا أعمالكم) على حرمة إبطال الصلاة بعد الشروع فيها لكنها من حيث وقوعها في سياق الايات السابقة المتعرضة لامر القتال، وكذا الايات اللاحقة الجارية على السياق وخاصة ما في ظاهر قوله: (إن الذين كفروا) الخ، من التعليل وما في قوله: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم) الخ، من التفريع، وبالجملة الاية بالنظر إلى سياقها تدل على إيجاب طاعة الله سبحانه فيما أنزل من الكتاب وشرع من الحكم وإيجاب طاعة الرسول فيما بلغ عن الله سبحانه، وفيما يصدر من الامر من حيث ولايته على المؤمنين في المجتمع الديني، وعلى تحذير المؤمنين من إبطال أعمالهم بفعل ما يوجب حبط أعمالهم كما ابتلي به اولئك الضعفاء الايمان المائلون إلى النفاق الذين انجر أمر بعضهم أن ارتدوا بعد ما تبين لهم الهدى. فالمراد بحسب المورد من طاعة الله طاعته فيما شرع وأنزل من حكم القتال، ومن طاعة الرسول طاعته فيما بلغ منه وفيما أمر به منه ومن مقدماته بما له من الولاية فيه وبإبطال الاعمال التخلف عن حكم القتال كما تخلف المنافقون وأهل الردة. وقيل: المراد بإبطال الاعمال إحباطها بمنهم على الله ورسوله بإيمانهم كما في قوله تعالى: (يمنون عليك أن أسلموا) وقيل: إبطالها بالرياء والسمعة، وقيل: بالعجب، وقيل: بالكفر والنفاق، وقيل: المراد إبطال الصدقات بالمن والاذى كما قال: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى) البقرة: 264، وقيل: إبطالها بالمعاصي، وقيل: بخصوص الكبائر.
ويرد على هذه الاقوال جميعا أن كل واحد منها على تقدير صحته وتسليمه مصداق من مصاديق الاية مع الغض من وقوعها في السياق الذي تقدمت الاشارة إليه، وأما من حيث وقوعها في السياق فلا تشمل إلا القتال كما مر. قوله تعالى: (إن الذين كفرواو صدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن
[ 248 ]
يغفر الله) لهم ظاهر السياق أنه تعليل لمضمون الاية السابقة فيفيد أنكم لو لم تطيعوا الله ورسوله وأبطلتم أعمالكم باتباع ما أسخط الله وكراهة رضوانه أداكم ذلك إلى اللحوق بأهل الكفر والصد ولا مغفرهة لهم بعد موتهم كذلك أبدا. والمراد بالصد عن سبيل الله الاعراض عن الايمان أو منع الناس أن يؤمنوا. قوله تعالى: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الاعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم) تفريع على ما تقدم، وقوله: (فلا تهنوا) من الوهن بمعنى الضعف والفتور، وقوله: (وتدعوا إلى السلم) معطوف على (تهنوا) واقع في حيز النهي أي ولا تدعوا إلى السلم، والسلم - بفتح السين - الصلح، وقوله: (وأنتم الاعلون) جملة حالية أي لا تفعلوا الصلح، وقوله: (وأنتم الاعلون) جملة حالية أي لا تفعلوا ذلك والحال أنكم الغالبون، والمراد بالعلو الغلبة وهي استعارة مشهورة. وقوله: (والله معكم) معطوف على (وأنتم الاعلون) يبين سبب علوهم ويعلله فالمراد بمعيته تعالى لهم معية النصر دون المعية القيومية التي يشير إليها قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم) الحديد: 4. وقوله: (ولن يتركم أعمالكم) قال في المجمع: يقال: وتره يتره وترا إذا نقصه ومنه الحديث (1) فكأنه وتر أهله وماله، وأصله القطع ومنه الترة القطع بالقتل ومنه الوتر المنقطع بانفراده عن غيره. انتهى. فالمعنى: لن ينقصكم أعمالكم أي يوفي أجرها تاما كاملا، وقيل: المعنى: لن
يضيع أعمالكم، وقيل: لن يظلمكم، والمعاني متقاربة. ومعنى الاية: إذا كانت سبيل عدم طاعة الله ورسوله وإبطال أعمالكم هذه السبيل وكان مؤديا إلى الحرمان من مغفرة الله أبدا فلا تضعفوا ولا تفتروا في أمر القتال ولا تدعوا المشركين إلى الصلح وترك القتال والحال أنكم أنتم الغالبون والله ناصركم عليهم ولن ينقصكم شيئا من اجوركم بل يوفيكموها تامة كاملة.
(1) وهو ما عن النبي صلى الله عليه واله وسلم: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله عن الجوامع. (*)
[ 249 ]
وفي الاية وعد المؤمنين بالغلبة والظفر إن أطاعوا الله ورسوله فهي كقوله: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين) آل عمران - 139. قوله تعالى: (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم اجوركم ولا يسألكم أموالكم) ترغيب لهم في الاخرة وتزهيد لهم عن الدنيا ببيان حقيقتها وهي أنها لعب ولهو - وقد مر معنا كونها لعبا ولهوا -. وقوله: (وإن تؤمنوا) الخ، أي إن تؤمنوا وتتقوا بطاعته وطاعة رسوله يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم بازاء ما أعطاكم وظاهر السياق أن المراد بالاموال جميع أموالهم ويؤيده أيضا الاية التالية. قوله تعالى: (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم) الاحفاء الاجهاد وتحميل المشقة، والمراد بالبخل - كما قيل - الكف عن الاعطاء، والاضغان الاحقاد. والمعنى: إن يسألكم جميع أموالكم فيجهدكم بطلب كلها كففتم عن الاعطاء لحبكم لها ويخرج أحقاد قلوبكم فضللتم. قوله تعالى: (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل) إلى
آخر الاية بمنزلة الاستشهاد في بيان الاية السابقة كأنه قيل: إنه إن يسأل الجميع فيحفكم تبخلوا ويشهد بذلك أنكم أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله - وهو بعض أموالكم - فبعضكم يبخل فيظهر به أنه لو سأل الجميع جميعكم بخلتم. وقوله: (ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه) أي يمنع الخير عن نفسه فإن الله لا يسأل ما لهم لينتفع هو به بل لينتفع به المنفقون فيما فيه خير دنياهم وآخرتهم فامتناعهم عن إنفاقه امتناع منهم عن خير أنفسهم، واليه يشير قوله بعده: (والله الغني وأنتم الفقراء) والقصران للقلب أي الله هو الغني دونكم وأنتم الفقراء دون الله. وقوله: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) قيل: عطف على قوله: (وإن تؤمنوا وتتقوا) والمعنى: إن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم وإن تتلوا وتعرضوا يستبدل قوما غيركم بأن يوفقهم للايمان دونكم ثم لا يكونوا أمثالكم بل يؤمنون ويتقون وينفقون في سبيل الله.
[ 250 ]
(بحث روائي) في ثواب الاعمال عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: من قال: سبحان الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال: الحمد الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال: لا إله إلا الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال: الله أكبر غرس الله له بها شجرة في الجنة. فقال رجل من قريش: يا رسول الله إن شجرنا في الجنة لكثير. قال: نعم ولكن إياكم أن ترسلوا عليها نارا فتحرقوها، وذلك أن الله عزوجل يقول: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم. وفي تفسير القمي (وإن جنحوا للسلم كافة فاجنح لها) قال: هي منسوخة بقوله: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الاعلون والله معكم).
وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الاوسط والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: تلا رسول الله هذه الاية: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على منكب سلمان ثم قال: هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الايمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس. أقول: وروي بطرق أخر عن أبي هريرة مثله. وكذا عن ابن مردويه عن جابر مثله. وفي المجمع وروي أبو بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: (إن تتولوا) يا معشر العرب (يستبدل قوما غيركم) يعني الموالي. وفيه عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قد والله أبدل خيرا منهم الموالي
[ 251 ]
(سورة الفتح مدنية، وهي تسع وعشرون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. إنا فتحنا لك فتحا مبينا - 1. ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما 2. وينصرك الله نصرا عزيزا - 3. هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السموات والارض وكان الله عليما حكيما - 4. ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما - 5. ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم
جهنم وساءت مصيرا - 6. ولله جنود السموات والارض وكان الله عزيزا حكيما - 7. (بيان) مضامين آيات السورة بفصولها المختلفة ظاهرة الانطباق على قصة صلح الحديبية الواقعة في السنة السادسة من الهجرة وما وقع حولها من الوقائع كقصة تخلف الاعراب
[ 252 ]
وصد المشركين، وبيعة الشجرة على ما تفصله الاثار وسيجئ شطر منها في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى. فغرض السورة بيان ما امتن الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بما رزقه من الفتح المبين في هذه السفرة، وعلى المؤمنين ممن معه، ومدحهم البالغ، والوعد الجميل للذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات، والسورة مدنية. قوله تعالى: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) كلام واقع موقع الامتنان، وتأكيد الجملة بإن ونسبة الفتح إلى نون العظمة وتوصيفه بالمبين كل ذلك للاعتناء بشأن الفتح الذي يمتن به. والمراد بهذا الفتح على ما تؤيده قرائن الكلام هو ما رزق الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من الفتح في صلح الحديبية. وذلك أن ما سيأتي في آيات السورة من الامتنان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، ومدحهم والرضا عن بيعتهم ووعدهم الجميل في الدنيا بمغانم عاجلة وآجلة وفي الاخرة بالجنة وذم المخلفين من الاعراب إذ استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يخرجوا معه، وذم المشركين في صدهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه، وذم المنافقين، وتصديقه تعالى رؤيا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وقوله: (فعلم ما لم تعلموا وجعل من دون ذلك فتحا قريبا) - وكاد يكون صريحا - كل ذلك معان مرتبطة بخروجه صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة للحج وانتهاء ذلك إلى
صلح الحديبية. وأما كون هذا الصلح فتحا مبينا رزقه الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فظاهر بالتدبر في لحن آيات السورة في هذه القصة فقد كان خروج النبي والمؤمنين إلى هذه البغية خروجا على خطر عظيم لا يرجى معه رجوعهم إلى المدينة عادة كما يشير إليه قوله تعالى: (بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا) والمشركون من صناديد قريش ومن يتبعهم على ما لهم من الشوكة والقوة والعداوة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين لم يتوسط بينهم منذ سنين إلا السيف ولم يجمعهم جامع غير معركة القتال كغزوة بدر وأحد والاحزاب، ولم يخرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا شرذمة قليلون - ألف وأربعمائة - لا قدر لهم عند جموع المشركين وهم في عقر دارهم. لكن الله سبحانه قلب الامر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين على المشركين فرضوا بما لم
[ 253 ]
يكن مطموعا فيه متوقعا منهم فسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصالحهم على ترك القتال عشر سنين، وعلى تأمين كل من القبيلين أتباع الاخر ومن لحق به، وعلى أن يرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة عامه هذا ثم يقدم إلى مكة العام القابل فيخلوا له المسجد والكعبة ثلاثة أيام. وهذا من أوضح الفتح رزقه الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وكان من أمس الاسباب بفتح مكة سنة ثمان من الهجرة فقد آمن جمع كثير من المشركين في السنتين بين الصلح وفتح مكة، وفتح في أوائل سنة سبع خيبر وما والاه وقوي به المسلمون واتسع الاسلام اتساعا بينا وكثر جمعهم وانتشر صيتهم و أشغلوا بلادا كثيرة، وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفتح مكة في عشرة آلاف أو في اثني عشر ألفا، وقد كان خرج إلى حديبية في ألف وأربعمائة على ما تفصله الاثار. وقيل: المراد بالفتح فتح مكة فالمراد بقوله: (إنا فتحنا لك) إنا قضينا لك فتح مكة، وفيه أن القرائن لا تساعده.
وقيل: المراد به فتح خيبر، ومعناه - على تقدير نزول السورة عند مرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحديبية إلى المدينة - إنا قضينا لك فتح خيبر، وحال هذا القول أيضا كسابقه. وقيل: المراد به الفتح المعنوي وهو الظفر على الاعداء بالحجج البينة والمعجزات الباهرة التي غلب بها كلمة الحق على الباطل وظهر الاسلام على الدين كله، وهذا الوجه وإن كان في نفسه لا بأس به لكن سياق الايات لا يلائمه. قوله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا) اللام في قوله: (ليغفر) للتعليل على ما هو ظاهر اللفظ فظاهره أن الغرض من هذا الفتح المبين هو مغفرة ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ومن المعلوم أن لا رابطة بين الفتح وبين مغفرة الذنب ولا معنى معقولا لتعليله بالمغفرة. وقول بعضهم فرارا عن الاشكال: إن اللام المكسورة في (ليغفر) لام القسم والاصل ليغفرن حذفت نون التوكيد وبقي ما قبلها مفتوحا للدلالة على المحذوف غلط لا شاهد عليه من الاستعمال.
[ 254 ]
وكذا قول بعض آخر فرارا عن الاشكال: (إن العلة هو مجموع المغفرة وما عطف عليه من إتمام النعمة والهداية والنصر العزيز من حيث المجموع فلا ينافي عدم كون البعض أي مغفرة الذنب في نفسه علة للفتح) كلام سخيف لا يغني طائلا فإن مغفرة الذنب لا هي علة أو جزء علة للفتح) ولا مرتبطة نوع ارتباط بما عطف عليها حتى يوجه دخولها في ضمن علله فلا مصحح لذكرها وحدها ولا مع العلل وفي ضمنها. وبالجملة هذا الاشكال نعم الشاهد على أن ليس المراد بالذنب في الاية هو الذنب المعروف وهو مخالفة التكليف المولوي، ولا المراد بالمغفرة معناها المعروف وهو ترك
العقاب على المخالفة المذكورة فالذنب في اللغة على ما يستفاد من موارد استعمالاته هو العمل الذي له تبعة سيئة كيفما كان، والمغفرة هي الستر على الشئ، وأما المعنيان المذكوران المتبادران من لفظي الذنب والمغفرة إلى أذهاننا اليوم أعني مخالفة الامر المولوي المستتبع للعقاب وترك العقاب عليها فإنما لزماهما بحسب عرف المتشرعين. وقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة ونهضته على الكفر والوثنية فيما تقدم على الهجرة وإدامته ذلك وما وقع له من الحروب والمغازي مع الكفار والمشركين فيما تأخر عن الهجرة كان عملا منه صلى الله عليه وآله وسلم ذا تبعة سيئة عند الكفار والمشركين وما كانوا ليغفروا له ذلك ما كانت لهم شوكة ومقدرة، وما كانوا لينسوا زهوق ملتهم وانهدام سنتهم وطريقتهم، ولا ثارات من قتل من صناديدهم دون أن يشفوا غليل صدورهم بالانتقام منه وإمحاء اسمه وإعفاء رسمه غير أن الله سبحانه رزقه صلى الله عليه وآله وسلم هذا الفتح وهو فتح مكة أو فتح الحديبية المنتهي إلى فتح مكة فذهب بشوكتهم وأخمد نارهم فستر بذلك عليه ما كان لهم عليه صلى الله عليه وآله وسلم من الذنب وآمنه منهم. فالمراد بالذنب - والله أعلم - التبعة السيئة التي لدعوته صلى الله عليه وآله وسلم عند الكفار والمشركين وهو ذنب لهم عليه كما في قول موسى لربه: (ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون) الشعراء: 14، وما تقدم من ذنبه هو ما كان منه صلى الله عليه وآله وسلم بمكة قبل الهجرة، وما تأخر من ذنبه هو ما كان منه بعد الهجرة، ومغفرته تعالى لذنبه هي ستره عليه بإبطال تبعته بإذهاب شوكتهم وهدم بنيتهم، ويؤيد ذلك ما يتلوه من قوله: (ويتم نعمته عليك - إلى أن قال - وينصرك الله نصرا عزيزا). وللمفسرين في الاية مذاهب مختلفة أخر:
[ 255 ]
فمن ذلك: أن المراد بذنبه صلى الله عليه وآله وسلم ما صدر عنه من المعصية، والمراد بما تقدم منه وما تأخر ما صدر عنه قبل النبوة وبعدها، وقيل: ما صدر قبل الفتح وما صدر بعده.
وفيه أنه مبني على جواز صدور المعصية عن الانبياء عليه السلام وهو خلاف ما يقطع به الكتاب والسنة والعقل من عصمتهم عليه السلام وقد تقدم البحث عنه في الجزء الثاني من الكتاب وغيره. على أن إشكال عدم الارتباط بين الفتح والمغفرة على حاله. ومن ذلك: أن المراد بمغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر مغفرة ما وقع من معصيته وما لم يقع بمعنى الوعد بمغفرة ما سيقع منه إذا وقع لئلا يرد الاشكال بأن مغفرة ما لم يتحقق من المعصية لا معنى له. وفيه مضافا إلى ورود ما ورد على سابقه عليه أن مغفرة ما سيقع من المعصية قبل وقوعه تلازم ارتفاع التكاليف عنه صلى الله عليه وآله وسلم عامة، ويدفعه نص كلامه تعالى في آيات كثيرة كقوله تعالى: (إنا أنزلنا عليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين) الزمر: 2، وقوله: (وأمرت لان أكون أول المسلمين) الزمر: 12، إلى غير ذلك من الايات التي تأبى بسياقها التخصيص. على أن من الذنوب والمعاصي مثل الشرك بالله وافتراء الكذب على الله والاستهزاء بايات الله والافساد في الارض وهتك المحارم، وإطلاق مغفرة الذنوب يشملها ولا معنى لان يبعث الله عبدا من عباده فيأمره أن يقيم دينه على ساق ويصلح به الارض فإذا فتح له ونصره وأظهره على ما يريد يجيز له مخالفة ما أمره وهدم ما بناه وإفساد ما أصلحه بمغفرة كل مخالفة ومعصية منه والعفو عن كل ما تقوله وافتراه على الله، وفعله تبليغ كقوله، وقد قال تعالى: (ولو تقول علينا بعض الاقاويل لاخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين) الحاقة: 46. ومن ذلك: قول بعضهم: إن المراد بمغفرة ما تقدم من ذنبه مغفرة ما تقدم من ذنب أبويه آدم وحواء عليه السلام ببركته صلى الله عليه وآله وسلم والمراد بمغفرة ما تأخر منه مغفرة ذنوب أمته بدعائه.
وفيه ورود ما ورد على ما تقدم عليه.