تفسير الميزان - السيد الطباطبائي ج 17
تفسير الميزان
السيد الطباطبائي ج 17
[ 1 ]
الميزان في تفسير القرآن 17
[ 3 ]
تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره
[ 4 ]
الميزان في تفسير القران كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره الجزء السابع العشر منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة
[ 5 ]
بسم الله الرحمن الرحيم سورة فاطر مكية وهي خمس وأربعون آية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله فاطر السموات والارض جاعل الملئكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيئ قدير - 1. (بيان) غرض السورة بيان الاصول الثلاثة: وحدانيته تعالى في ربوبيته ورسالة الرسول والمعاد إليه وتقرير الحجة لذلك وقد توسل لذلك بعد جمل من نعمه العظيمة السماوية
والارضية والاشارة إلى تدبيره المتقن لامر العالم عامة والانسان خاصة. وقد قدم على هذا التفصيل الاشارة الاجمالية إلى انحصار فتح الرحمة وإمساكها وهو إفاضة النعمة والكف عنها فيه تعالى بقوله: " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها " الاية. وقدم على ذلك الاشارة إلى وسائط هذه الرحمة المفتوحة والنعم الموهوبة وهم الملائكة المتوسطون بينه تعالى وبين خلقه في حمل أنواع النعم من عنده تعالى وإيصالها إلى خلقه فافتتح السورة بذكرهم.
[ 6 ]
والسورة مكية كما يدل عليه سياق آياتها، وقد استثنى بعضهم آيتين وهما قوله تعالى: " إن الذين يتلون آيات الله " الاية وقوله: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا " الاية وهو غير ظاهر من سياق الايتين. قوله تعالى: " الحمد لله فاطر السماوات والارض " الفطر - على ما ذكره الراغب - هو الشق طولا فإطلاق الفاطر عليه تعالى بعناية استعارية كأنه شق العدم فأخرج من بطنها السماوات والارض فمحصل معناه أنه موجد السماوات والارض إيجادا ابتدائيا من غير مثال سابق، فيقرب معناه من معنى البديع والمبدع والفرق بين الابداع والفطر أن العناية في الابداع متعلقة بنفي المثال السابق وفي الفطر بطرد العدم وإيجاد الشئ من رأس لا كالصانع الذي يؤلف مواد مختلفة فيظهر به صورة جديدة لم تكن. والمراد بالسماوات والارض مجموع العالم المشهود فيشملهما وما فيهما من مخلوق فيكون من قبيل إطلاق معظم الاجزاء وإرادة الكل مجازا، أو المراد نفس السماوات والارض اعتناء بشأنهما لكبر خلقتهما وعجيب أمرهما كما قال: " لخلق السماوات والارض أكبر من خلق الناس " المؤمن: 57. وكيف كان فقوله: " فاطر السماوات والارض " من أسمائه تعالى أجري صفة
لله والمراد بالوصف الاستمرار دون الماضي فقط لان الايجاد مستمر وفيض الوجود غير منقطع ولو انقطع لانعدمت الاشياء. والاتيان بالوصف بعد الوصف للاشعار بأسباب انحصار الحمد فيه تعالى كأنه قيل: الحمد لله على ما أوجد السماوات والارض وعلى ما جعل الملائكة رسلا أولي أجنحة فهو تعالى محمود ما أتى فيما أتى إلا الجميل. قوله تعالى: " جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع " الملائكة جمع ملك بفتح اللام وهم موجودات خلقهم الله وجعلهم وسائط بينه وبين العالم المشهود وكلهم بامور العالم التكوينية والتشريعية عباد مكرمون لا يعصون الله فيما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. فقوله تعالى: " جاعل الملائكة رسلا " يشعر بل يدل على كون جميع الملائكة - والملائكة مجع محلى باللام مفيد للعموم - رسلا وسائط بينه وبين خلقه في إجراء
[ 7 ]
أوامره التكوينية والتشريعية. ولا موجب لتخصيص الرسل في الاية بالملائكة النازلين على الانبياء عليه السلام وقد أطلق القرآن الرسل على غيرهم من الملائكة كقوله تعالى: " حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا " الانعام: 61، وقوله: " إن رسلنا يكتبون ما تمكرون " يونس: 21، وقوله: " ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية " العنكبوت: 31. والاجنحة جمع جناح وهو من الطائر بمنزلة اليد من الانسان يتوسل به إلى الصعود إلى الجو والنزول منه والانتقال من مكان إلى مكان بالطيران. فوجود الملك مجهز بما يفعل به نظير ما يفعله الطائر بجناحه فينتقل به من السماء إلى الارض بأمر الله ويعرج به منها إليها ومن أي موضع إلى أي موضع، وقد سماه
القرآن جناحا ولا يستوجب ذلك إلا ترتب الغاية المطلوبة من الجناح عليه وأما كونه من سنخ جناح غالب الطير ذا ريش وزغب فلا يستوجبه مجرد إطلاق اللفظ كما لم يستوجبه في نظائره كألفاظ العرش والكرسي واللوح والقلم وغيرها. وقوله: " أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع " صفة للملائكة، ومثنى وثلاث ورباع ألفاظ دالة على تكرر العدد أي اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة كأنه قيل: جعل الملائكة بعضهم ذا جناحين وبعضهم ذا ثلاثة أجنحة وبعضهم ذا أربعة أجنحة. وقوله: " يزيد في الخلق ما يشاء " لا يخلو من إشعار بحسب السياق بأن منهم من يزيد أجنحته على أربعة. وقوله: " إن الله على كل شئ قدير " تعليل لجميع ما تقدمه أو الجملة الاخيرة والاول أظهر. (بحث روائي) في البحار عن الاختصاص بإسناده عن المعلى بن محمد رفعه إلى أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله عز وجل خلق الملائكة من نور، الخبر.
[ 8 ]
وفي تفسير القمي قال الصادق عليه السلام: خلق الله الملائكة مختلفة وقد أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبرئيل وله ستمائة جناح على ساقه الدر مثل القطر على البقل قد ملا ما بين السماء والارض وقال إذا أمر الله عز وجل ميكائيل بالهبوط إلى الدنيا صارت رجله في السماء السابعة والاخرى في الارض السابعة، وإن لله ملائكة أنصافهم من برد وأنصافهم من نار يقولون: يا مؤلفا بين البرد والنار ثبت قلوبنا على طاعتك. وقال: إن لله ملكا بعد ما بين شحمة أذنه إلى عينه مسيرة خمس مائة عام بخفقان الطير. وقال: إن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون وإنما يعيشون بنسيم
العرش، وإن لله عز وجل ملائكة ركعا إلى يوم القيامة وإن لله عز وجل ملائكة سجدا إلى يوم القيامة. ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من شئ مما خلق الله عز وجل أكثر من الملائكة وإنه ليهبط في كل يوم أو في كل ليلة سبعون ألف ملك، فيأتون البيت الحرام فيطوفون به ثم يأتون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم يأتون أمير المؤمنين عليه السلام فيسلمون ثم يأتون الحسين عليه السلام فيقيمون عنده فإذا كان عند السحر وضع لهم معراج إلى السماء ثم لا يعودون أبدا. وقال أبو جعفر عليه السلام: إن الله عز وجل خلق إسرافيل وجبرائيل وميكائيل من تسبيحة واحدة، وجعل لهم السمع والبصر وجودة العقل وسرعة الفهم. وقال أمير المؤمنين عليه السلام في خلقة الملائكة: وملائكة خلقتهم وأسكنتهم سماواتك فليس فيهم فترة، ولا عندهم غفلة، ولا فيهم معصية، هم أعلم خلقك بك وأخوف خلقك منك، وأقرب خلقك منك، وأعملهم بطاعتك، لا يغشاهم نوم العيون ولا سهو العقول، ولا فترة الابدان لم يسكنوا الاصلاب، ولم تضمهم الارحام، ولم تخلقهم من ماء مهين أنشأتهم إنشاء فأسكنتهم سماواتك وأكرمتهم بجوارك، وائتمنتهم على وحيك، وجنبتهم الافات، ووقيتهم البليات، وطهرتهم من الذنوب، ولو لا قوتك لم تقووا، ولو لا تثبيتك لم يثبتوا، ولو لا رحمتك لم يطيعوا، ولو لا أنت لم يكونوا.
[ 9 ]
أما إنهم على مكانتهم منك وطاعتهم إياك ومنزلتهم عندك وقلة غفلتهم عن أمرك لو عاينوا ما خفي عنهم منك لاحتقروا أعمالهم، ولازروا على أنفسهم، ولعلموا أنهم لم يعبدوك حق عبادتك سبحانك خالقا ومعبودا ما أحسن بلاءك عند خلقك. وفي البحار عن الدر المنثور عن أبي العلاء بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال يوما
لجلسائه: أطت السماء وحق لها أن تئط ليس منها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد. ثم قرء " وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون ". وعن الخصال بإسناده عن محمد بن طلحة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الملائكة على ثلاثة أجزاء فجزء لهم جناحان وجزء لهم ثلاثة أجنحة وجزء لهم أربعة أجنحة. أقول: ورواه في الكافي بإسناده عن عبد الله بن طلحة مثله، ولعل المراد به وصف أغلب الملائكة حتى لا يعارض سياق الاية والروايات الاخر. وعن التوحيد بإسناده عن أبي حيان التيمي عن أبيه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: ليس أحد من الناس إلا ومعه ملائكة حفظة يحفظونه من أن يتردى في بئر أو يقع عليه حائط أو يصيبه سوء فإذا حان أجله خلوا بينه وبين ما يصيبه - الخبر. وعن البصائر عن السياري عن عبد الله بن أبي عبد الله الفارسي وغيره رفعوه إلى أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الكروبيين قوم من شيعتنا من الخلق الاول جعلهم الله خلف العرش لو قسم نور واحد منهم على أهل الارض لكفاهم. ثم قال: إن موسى عليه السلام لما أن سأل ربه ما سأل أمرا واحدا من الكروبيين فتجلى للجبل فجعله دكا. وعن الصحيفة السجادية وكان من دعائه على حملة العرش وكل ملك مقرب: اللهم وحملة عرشك الذين لا يفترون من تسبيحك، ولا يسأمون من تقديسك، ولا يستحسرون عن عبادتك، ولا يؤثرون التقصير على الجد في أمرك، ولا يغفلون عن الوله إليك، وإسرافيل صاحب الصور الشاخص الذي ينتظر منك الاذن وحلول الامر فينبه بالنفخة صرعى رهائن القبور، وميكائيل ذو الجاه عندك والمكان الرفيع من طاعتك وجبريل الامين على وحيك المطاع في سماواتك المكين لديك المقرب عندك، والروح الذي هو على ملائكة الحجب والروح الذي هو من أمرك.
[ 10 ]
اللهم فصل عليهم وعلى الملائكة الذين من دونهم من سكان سماواتك وأهل
الامانة على رسالاتك، والذين لا يدخلهم سأمة من دؤب ولا إعياء من لغوب ولا فتور ولا تشغلهم عن تسبيحك الشهوات ولا يقطعهم عن تعظيمك سهو الغفلات، الخشع الابصار فلا يرومون النظر إليك، النواكس الاذقان الذين قد طالت رغبتهم فيما لديك المستهترون بذكر آلائك والمتواضعون دون عظمتك وجلال كبريائك، والذين يقولون إذا نظروا إلى جهنم تزفر على أهل معصيتك: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك. فصل عليهم وعلى الروحانيين من ملائكتك وأهل الزلفة عندك وحمال الغيب إلى رسلك والمؤتمنين على وحيك وقبائل الملائكة الذين اختصصتهم لنفسك وأغنيتهم عن الطعام والشراب بتقديسك وأسكنتهم بطون أطباق سماواتك، والذين هم على أرجائها إذا نزل الامر بتمام وعدك. وخزان المطر وزواجر السحاب والذي بصوت زجره يسمع زجل الرعود، وإذا سبحت به حفيفة السحاب التمعت صواعق البروق، ومشيعي الثلج والبرد والهابطين مع قطر المطر إذا نزل، والقوام على خزائن الرياح، والموكلين بالجبال فلا تزول، والذين عرفتهم مثاقيل المياه وكيل ما يحويه لواعج الامطار وعوالجها ورسلك من الملائكة إلى أهل الارض بمكروه ما ينزل من البلاء ومحبوب الرخاء. والسفرة الكرام البررة والحفظة الكرام الكاتبين، وملك الموت وأعوانه، ومنكر ونكير، ومبشر وبشير، ورؤمان فتان القبور، والطائفين بالبيت المعمور، ومالك والخزنة، ورضوان وسدنة الجنان، والذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، والذين يقولون: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، والزبانية الذين إذا قيل لهم: " خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه " ابتدروه سراعا ولم ينظروه، ومن ألهمنا ذكره ولم نعلم مكانه منه وبأي أمر وكلته، وسكان الهواء والارض والماء، ومن منهم على الخلق. فصل عليهم يوم تأتي كل نفس معها سائق وشهيد وصل عليهم صلاة تزيدهم
كرامة على كرامتهم وطهارة على طهارتهم. الدعاء. وفي البحار عن الدر المنثور عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه والسلام سأل جبرئيل
[ 11 ]
أن يتر آى له في صورته فقال جبرئيل: إنك لن تطيق ذلك. قال: إني أحب ذلك فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المصلى في ليلة مقمرة فأتاه جبرئيل في صورته فغشي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين رآه ثم أفاق وجبرئيل مسنده وواضع إحدى يديه على صدره والاخرى بين كتفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما كنت أرى أن شيئا ممن يخلق هكذا فقال جبرئيل: فكيف لو رأيت إسرافيل إن له لاثني عشر جناحا جناح في المشرق وجناح في المغرب وإن العرش على كاهله، وإنه ليتضأل الاحيان لعظمة الله حتى يصير مثل الوصع (1) حتى ما ما يحمل عرشه إلا عظمته. وفي الصافي عن التوحيد بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث قال: وقوله في آخر الايات: " ما زاغ البصر وما طغى لقد رآى من آيات ربه الكبرى " رآى جبرئيل في صورته مرتين هذه المرة ومرة أخرى وذلك أن خلق جبرئيل عظيم فهو من الروحانيين الذي لا يدرك خلقهم وصفتهم إلا الله. وعن الخصال بإسناده عن محمد بن مروان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن جبرئيل أتاني فقال: إنا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه كلب ولا تمثال جسد ولا إناء يبال فيه. أقول وهناك روايات أخرى في صفة الملائكة فوق حد الاحصاء واردة في باب المعاد ومعراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبواب متفرقة أخرى، وفيما أوردناه أنموذج كاف في ذلك. وفي العيون في باب ما جاء عن الرضا عليه السلام من الاخبار المجموعة بإسناده عنه عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد
القرآن حسنا، وقرء " يزيد في الخلق ما يشاء ". وفي التوحيد بإسناده عن زرارة عن عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: إن القضاء والقدر خلقان من خلق الله يزيد في الخلق ما يشاء. وفي المجمع في قوله تعالى: " يزيد في الخلق ما يشاء " روى أبو هريرة عن النبي (1)
بفتح الصاد وسكونها طائر أصغر من العصفور.
[ 12 ]
صلى الله عليه وآله قال: هو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن. أقول: والروايات الثلاث الاخيرة من قبيل الجري والانطباق. (كلام في الملائكة) تكرر ذكر الملائكة في القرآن الكريم ولم يذكر منهم بالتسمية إلا جبريل وميكال وما عداهما مذكور بالوصف كملك الموت والكرام الكاتبين والسفرة الكرام البررة والرقيب والعتيد وغير ذلك. والذي ذكره الله سبحانه في كلامه - وتشايعه الاحاديث السابقة - من صفاتهم وأعمالهم هو أولا: أنهم موجودات مكرمون هم وسائط بينه تعالى وبين العالم المشهود فما من حادثة أو واقعة صغيرة أو كبيرة إلا وللملائكة فيها شأن وعليها ملك موكل أو ملائكة موكلون بحسب ما فيها من الجهة أو الجهات، وليس لهم في ذلك شأن إلا إجراء الامر الالهي في مجراه أو تقريره في مستقره كما قال تعالى: " لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " الانبياء: 27. وثانيا: أنهم لا يعصون الله فيما أمرهم به فليست لهم نفسية مستقلة ذات إرادت مستقلة تريد شيئا غير ما أراد الله سبحانه فلا يستقلون بعمل ولا يغيرون أمرا حملهم الله إياه بتحريف أو زيادة أو نقصان قال تعالى: " لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " التحريم: 6.
وثالثا: أن الملائكة على كثرتهم على مراتب مختلفة علوا ودنوا فبعضهم فوق بعض وبعضهم دون بعض فمنهم آمر مطاع ومنهم مأمور مطيع لامره، والامر منهم آمر بأمر الله حامل له إلى المأمور والمأمور مأمور بأمر الله مطيع له، فليس لهم من أنفسهم شئ البتة قال تعالى: " وما منا إلا له مقام معلوم " الصافات: 164 وقال: " مطاع ثم أمين " التكوير: 21، وقال: " قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق " سبأ: 23. ورابعا: أنهم غير مغلوبين لانهم إنما يعملون بأمر الله وإرادته " وما كان الله ليعجزه من شئ في السماوات ولا في الارض " فاطر: 44، وقد قال الله: " والله غالب على
[ 13 ]
أمره " يوسف: 21، وقال: " إن الله بالغ أمره " الطلاق: 3. ومن هنا يظهر أن الملائكة موجودات منزهة في وجودهم عن المادة الجسمانية التي هي في معرض الزوال والفساد والتغير ومن شأنها الاستكمال التدريجي الذي تتوجه به إلى غايتها، وربما صادفت الموانع والافات فحرمت الغاية وبطلت دون البلوغ إليها. ومن هنا يظهر أن ما ورد في الروايات من صور الملائكة وأشكالهم وهيآتهم الجسمانية كما تقدم نبذة منها في البحث الروائي السابق إنما هو بيان تمثلاتهم وظهوراتهم للواصفين من الانبياء والائمة عليهم السلام، وليس من التصور والتشكل في شئ ففرق بين التمثل والتشكل فتمثل الملك إنسانا هو ظهوره لمن يشاهده في صورة الانسان فهو في ظرف المشاهدة والادراك ذو صورة الانسان وشكله وفي نفسه والخارج من ظرف الادراك ملك ذو صورة ملكية وهذا بخلاف التشكل والتصور فإنه لو تشكل بشكل الانسان وتصور بصورته صار إنسانا في نفسه من غير فرق بين ظرف الادراك والخارج عنه فهو إنسان في العين والذهن معا ؟ وقد تقدم كلام في معنى التمثل في تفسير سورة مريم. ولقد صدق الله سبحانه ما تقدم من معنى التمثل في قوله في قصة المسيح ومريم:
" فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا " مريم: 17 وقد تقدم تفسيره. وأما ما شاع في الالسن أن الملك جسم لطيف يتشكل بأشكال مختلفة إلا الكلب والخنزير، والجن جسم لطيف يتشكل بأشكال مختلفة حتى الكلب والخنزير فمما لا دليل عليه من عقل ولا نقل من كتاب أو سنة معتبرة، وأما ما ادعاه بعضهم من إجماع المسلمين على ذلك فمضافا إلى منعه لا دليل على حجيته في أمثال هذه المسائل الاعتقادية. * * * ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم - 2. يا أيها الناس اذكروا
[ 14 ]
نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والارض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون - 3. وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الامور - 4. يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحيوة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور - 5. إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من اصحاب السعير - 6. الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير - 7. أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدى من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون - 8. (بيان) لما أشار إلى الملائكة وهم وسائط في وصول النعم إلى الخليقة أشار إلى نفس
النعم إشارة كلية فذكر أن عامة النعم من الله سبحانه لا غير فهو الرازق لا يشاركه فيه أحد، ثم احتج بالرازقية على الربوبية ثم على المعاد وأن وعده تعالى بالبعث وعذاب الكافرين ومغفرة المؤمنين الصالحين حق، وفي الايات تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده " الخ المعنى أن ما يؤتيه الله الناس من النعمة وهو الرزق فلا مانع عنه
[ 15 ]
وما يمنع فلا مؤتى له فكان مقتضى الظاهر أن يقال: ما يرسل الله للناس الخ. كما عبر في الجملة الثانية بالارسال لكنه عدل عن الارسال إلى الفتح لما وقع مكررا في كلامه أن لرحمته خزائن كقوله: " أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب " ص: 9 وقوله: " قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لامسكتم خشية الانفاق " أسرى: 100 والتعبير بالفتح أنسب من الارسال في الخزائن ففيه إشارة إلى أن الرحمة التي يؤتاها الناس مخزونة في خزائن محيطة بالناس لا يتوقف نيلهم منها إلا إلى فتحها من غير مؤنة زائدة. وقد عبر عن الرزق الذي هو النعمة بالرحمة للدلالة على أن إفاضته تعالى لهذه النعم ناشئة من مجرد الرحمة من غير توقع لنفع يعود إليه أو كمال يستكمل به. وقوله: " وما يمسك فلا مرسل له من بعده " أي وما يمنع من الرحمة فلا مرسل له من دونه، وفي التعبير بقوله: " من بعده " إشارة إلى أنه تعالى أول في المنع كما أنه أول في الاعطاء. وقوله: " وهو العزيز الحكيم " تقرير للحكم المذكور في الاية الكريمة بالاسمين الكريمين فهو تعالى لكونه عزيزا لا يغلب إذا أعطى فليس لمانع أن يمنع عنه وإذا منع فليس لمعط أن يعطيه، وهو تعالى حكيم إذا أعطى أعطى عن حكمة ومصلحة وإذا منع منع عن حكمة ومصلحة وبالجملة لا معطي إلا الله ولا مانع إلا هو، ومنعه وإعطائه
عن حكمة. قوله تعالى: " يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والارض " الخ. لما قرر في الاية السابقة أن الاعطاء والمنع لله سبحانه لا يشاركه في ذلك أحد احتج في هذه الاية بذلك على توحده في الربوبية. وتقرير الحجة أن الاله إنما يكون إلها معبودا لربوبيته وهي ملكه تدبير أمر الناس وغيرهم، والذي يملك تدبير الامر بهذه النعم التي يتقلب فيها الناس وغيرهم ويرتزقون بها هو الله سبحانه دون غيره من الالهة التي اتخذوها لانه سبحانه هو الذي خلقها دونهم والخلق لا ينفك عن التدبير ولا يفارقه فهو سبحانه إلهكم لا إله إلا هو لانه ربكم الذي يدبر أمركم بهذه النعم التي تتقلبون فيها وإنما كان ربا مدبرا بهذه النعم لانه
[ 16 ]
خالقها وخالق النظام الذي يجري عليها. وبذلك يظهر أن المراد بالناس المخاطبين الوثنيون و غيرهم ممن اتخذ لله شريكا. وقوله: " اذكروا نعمة الله عليكم " المراد بالذكر ما يقابل النسيان دون الذي الذكر اللفظي. وقوله: " هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والارض " الرزق هو ما يمد به البقاء ومبدؤه السماء بواسطة الاشعة والامطار وغيرهما والارض بواسطة النبات والحيوان وغيرهما. وبذلك يظهر أيضا أن في الاية إيجازا لطيفا فقد بدلت الرحمة في الاية السابقة نعمة في هذه الاية أولا ثم النعمة رزقا ثانيا وكان مقتضى سياق الايتين أن يقال: هل من رازق أو هل من منعم أو هل من راحم لكن بدل ذلك من قوله: " هل من خالق " ليكون إشارة إلى برهان ثان ينقطع به الخصام، فإنهم يرون تدبير العالم لالهتهم بإذن الله فلو قيل: هل من رازق أو منعم غير الله لم ينقطع الخصام وأمكن أن يقولوا نعم
آلهتنا بتفويض التدبير من الله إليهم لكن لما قيل: " هل من خالق " أشير بالوصف إلى أن الرازق والمدبر هو خالق الرزق لا غير فانقطع الخصام ولم يمكنهم إلا أن يجيبوا بنفي خالق غير الله يرزقهم من السماء والارض. وقوله: " لا إله إلا هو " اعتراض بالتوحيد يفيد التعظيم نظير قوله: " وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه ". أي لا معبود بالحق إلا هو لان المستحق للعبادة هو الذي ينعم عليكم ويرزقكم وليس إلا الله. وقوله: " فأنى تؤفكون " توبيخ متفرع على ما سبق من البرهان أي فإذا كان الامر هكذا وأنتم تقرون بذلك فإلى متى تصرفون عن الحق إلى الباطل ومن التوحيد إلى الاشراك. وفي إعراب الاية أعني قوله: " هل من خالق غير الله " الخ. بين القوم مشاجرات طويلة والذي يناسب ما تقدم من تقرير البرهان أن " من " زائدة للتعميم، وقوله:
[ 17 ]
" غير الله " صفة لخالق تابع لمحله، وكذا قوله: " يرزقكم " الخ. و " من خالق " مبتدء محذوف الخبر وهو موجود، وقوله: " لا إله إلا هو " اعتراض، وقوله: " فأنى تؤفكون " تفريع على ما تقدمه. قوله تعالى: " وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الامور " تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أي وإن يكذبوك بعد استماع هذه البراهين الساطعة فلا تحزن فليس ذلك ببدع فقد كذبت رسل من قبلك كذبتهم إممهم وأقوامهم وإلى الله ترجع عامة الامور فيجازيهم بما يستحقونه بتكذيبهم الحق بعد ظهوره فليسوا بمعجزين بتكذيبهم. ومن هنا يظهر أن قوله ؟ " فقد كذبت رسل من قبلك " من قبيل وضع السبب موضع المسبب وأن قوله: " وإلى الله ترجع الامور " معطوف على قوله: " قد
كذبت " الخ. قوله تعالى: " يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور خطاب عام للناس يذكرهم بالمعاد كما كان الخطاب العام السابق يذكرهم بتوحده تعالى في الربوبية والالولهية. فقوله: " إن وعد الله حق " أي وعده أنه يبعثكم فيجازي كل عامل بعمله إن خيرا وإن شرا حق أي ثابت واقع، وقد صرح بهذا الوعد في قوله الاتي: " الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير ". وقوله: " فلا تغرنكم الحياة الدنيا " النهي وإن كان متوجها إلى الحياة الدنيا صورة لكنه في الحقيقة متوجه إليهم، والمعنى إذا كان وعد الله حقا فلا تغتروا بالحياة الدنيا بالاشتغال بزينتها والتلهي بما ينسيكم يوم الحساب من ملاذها وملاهيها والاستغراق في طلبها والاعراض عن الحق. وقوله: " ولا يغرنكم بالله الغرور " الغرور بفتح الغين صيغة مبالغة من الغرور بالضم وهو الذي يبالغ في الغرور ومن عادته ذلك، والظاهر - كما قيل - أن المراد به الشيطان ويؤيده التعليل الواقع في الاية التالية " إن الشيطان لكم عدو " الخ. ومعنى غروره بالله توجيهه أنظارهم إلى مظاهر حلمه وعفوه تعالى تارة ومظاهر
[ 18 ]
ابتلائه واستدراجه وكيده أخرى فيرون أن الاشتغال بالدنيا ونسيان الاخرة والاعراض عن الحق والحقيقة لا يستعقب عقوبة ولا يستتبع مؤاخذة، وأن أبناء الدنيا كلما أمعنوا في طلبهم وتوغلوا في غفلتهم واستغرقوا في المعاصي والذنوب زادوا في عيشهم طيبا وفي حياتهم راحة وبين الناس جاها وعزة فيلقي الشيطان عند ذلك في قلوبهم أن لا كرامة إلا في التقدم في الحياة الدنيا، ولا خبر عما وراءها وليس ما تتضمنه الدعوة
الحقة من الوعد والوعيد وتخبر به النبوة من البعث والحساب والجنة والنار إلا خرافة. فالمراد بغرور الشيطان الانسان بالله اغترار الانسان بما يعامل به الله الانسان على غفلته وظلمه. وربما قيل: إن المراد بالغرور الدنيا الغارة للانسان وإن قوله: " ولا يغرنكم بالله الغرور " تأكيد لقوله: فلا تغرنكم الحياة الدنيا " بتكراره معنى. قوله تعالى: " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا " الخ. تعليل للنهي المتقدم في قوله: " ولا يغرنكم بالله الغرور " والمراد بعداوة الشيطان أنه لا شأن له إلا إغواء الانسان وتحريمه سعادة الحياة وحسن العاقبة، والمراد باتخاذ الشيطان عدوا التجنب من اتباع دعوته إلى الباطل وعدم طاعته فيما يشير إليه في وساوسه وتسويلاته ولذلك علل عداوته بقوله: " إنما يدعو حزبه ". فقوله ؟ " إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير " في مقام تعليل ما تقدمه والحزب هو العدة من الناس يجمعهم غرض واحد، واللام في " ليكونوا " للتعليل فكونهم من أصحاب السعير علة غائية لدعوته، والسعير النار المسعرة وهو من أسماء جهنم في القرآن. قوله تعالى: " الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير " هذا هو الوعد الحق الذي ذكره الله سبحانه، وتنكير العذاب للدلاله على التفخيم على أن لهم دركات ومراتب مختلفة من العذاب باختلاف كفرهم وفسوقهم فالابهام أنسب و يجري نظير الوجهين في قوله: " مغفرة وأجر ". قوله تعالى: " أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء " تقرير وبيان للتقسيم الذي تتضمنه الاية السابقة أعني تقسيم الناس إلى كافر
[ 19 ]
له عذاب شديد ومؤمن عامل بالصالحات له مغفرة وأجر كبير والمراد أنهما لا يستويان
فلا تستوي عاقبة أمرهما. فقوله: " أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا " مبتدء خبره محذوف أي كمن ليس كذلك، والفاء لتفريع الجملة على معنى الاية السابقة، والاستفهام للانكار، والمراد بمن زين له سوء عمله فرآه حسنا الكافر ويشير به إلى أنه منكوس فهمه مغلوب على عقله يرى عمله على غير ما هو عليه، والمعنى أنه لا يستوي من زين له عمله السيئ فرآه حسنا والذي ليس كذلك بل يرى السيئ سيئا. وقوله: " فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء " تعليل للانكار السابق في قوله: " أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا " أي الكافر الذي شأنه ذلك والمؤمن الذي بخلافه لا يستويان لان الله يضل أحدهما بمشيته وهو الكافر الذي يرى السيئة حسنة ويهدي الاخر بمشيته وهو المؤمن الذي يعمل الصالحات ويرى السيئة سيئة. وهذا الاضلال إضلال على سبيل المجازاة وليس إضلالا ابتدائيا فلا ضير في انتسابه إلى الله سبحانه. وبالجملة اختلاف الكافر والمؤمن في عاقبتهما بحسب الوعد الالهي بالعذاب والرحمة لاختلافهما بالاضلال والهداية الالهيين واختلافهما بالاضلال والهداية باختلافهما في رؤية السيئة حسنة وعدمها. وقوله: " فلا تذهب نفسك عليهم حسرات " الحسرات جمع حسرة وهي الغم لما فات والندم عليه، وهي منصوبة لانه مفعول لاجله والمراد بذهاب النفس عليهم هلاكها فيهم لاجل الحسرات الناشئة من عدم إيمانهم. والجملة متفرعة على الفرق السابق أي إذا كانت الطائفتان مختلفتين بالاضلال والهداية من جانب الله فلا تهلك نفسك حسرات عليهم إذ كذبوك وكفروا بك فإن الله هو الذي يضلهم جزاء لكفرهم ورؤيتهم السيئة حسنة وهو عليم بما يصنعون فلا يختلط عليه الامر ولا يفعل بهم إلا الحق ولا يجازيهم إلا بالحق.
ومن هنا يظهر أن قوله: " إن الله عليم بما يصنعون " في موضع التعليل لقوله:
[ 20 ]
" فلا تذهب نفسك عليهم حسرات " فلا ينبغي للرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يهلك نفسه عليهم حسرات حيث ضلوا وحقت عليهم كلمة العذاب فإن الله هو الذي يضلهم لصنعهم وهو عليم بما يصنعون. * * * والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الارض بعد موتها كذلك النشور - 9. من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور - 10. والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير - 11. وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون - 12. يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير - 13. إن تدعوهم لا يسمعوا
[ 21 ]
دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير - 14.
(بيان) احتجاجات على وحدانيته تعالى في ألوهيته بعد جملة من النعم السماوية والارضية التي يتنعم بها الانسان ولا خالق لها ولا مدبر لامرها إلا الله سبحانه، وفيها بعض الاشارة إلى البعث. قوله تعالى: " والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت " الخ. العناية في المقام بتحقق وقوع الامطار وإنبات النبات بها، ولذلك قال: " الله الذي أرسل الرياح " وهذا بخلاف ما في سورة الروم من قوله: " الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا " الروم: 48. وقوله: " فتثير سحابا " عطف على " أرسل " والضمير للرياح والاتيان بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية والاثارة إفعال من ثار الغبار يثور ثورانا إذا انتشر ساطعا. وقوله: " فسقناه إلى بلد ميت " أي إلى أرض لانبات فيها " فأحيينا به الارض بعد موتها " وأنبتنا فيها نباتا بعد ما لم تكن، ونسبة الاحياء إلى الارض وإن كانت مجازية لكن نسبته إلى النبات حقيقية وأعمال النبات من التغذية والنمو وتوليد المثل وما يتعلق بذلك أعمال حيوية تنبعث من أصل الحياة. ولذلك شبه البعث وإحياء الاموات بعد موتهم بإحياء الارض بعد موتها أي إنبات النبات بعد توقفه عن العمل وركوده في الشتاء فقال: " كذلك النشور " أي البعث فالنشور بسط الاموات يوم القيامة بعد إحيائهم وإخراجهم من القبور. وفي قوله: " فسقناه إلى بلد ميت " الخ. التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير فهو تعالى في قوله: " والله أرسل " بنعت الغيبة وفي قوله: " فسقناه " الخ. بنعت التكلم مع الغير ولعل النكتة في ذلك هي أنه لما قال: " والله أرسل الرياح " أخذ لنفسه نعت
[ 22 ]
الغيبة ويتبعه فيه الارسال فإن فعل الغائب غائب، ثم لما قال: " فتثير سحابا " على
نحو حكاية الحال الماضية صار المخاطب كأنه يرى الفعل ويشاهد الرياح وهي تثير السحاب وتنشره في الجو فصار كأنه يرى من يرسل الرياح لان مشاهدة الفعل كادت أن لا تنفك عن مشاهدة الفاعل فلما ظهر تعالى بنعت الحضور غير سياق كلامه من الغيبة إلى التكلم واختار لفظ التكلم مع الغير للدلالة على العظمة. وقوله: " فأحيينا به الارض " ولم يقل: فأحييناه مع كفايته وكذا قوله: " بعد موتها " مع جواز الاكتفاء بما تقدمه للاخذ بصريح القول الذي لا ارتياب دونه. قوله تعالى: " من كان يريد العزة فلله العزة جميعا " قال الراغب في المفردات: العزة حالة مانعة للانسان من أن يغلب من قولهم: أرض عزاز أي صلبة قال تعالى: " أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا " انتهى. فالصلابة هو الاصل في معنى العزة ثم توسع فاستعمل العزيز فيمن يقهر ولا يقهر كقوله تعالى: " يا أيها العزيز مسنا " يوسف: 88. وكذا العزة بمعنى الغلبة قال تعالى: " وعزني في الخطاب " ص: 23 والعزة بمعنى القلة وصعوبة المنال، قال تعالى: " وإنه لكتاب عزيز " حم السجدة: 41 والعزة بمعنى مطلق الصعوبة قال تعالى: " عزيز عليه ما عنتم " التوبة: 138 و العزة بمعنى الانفة والحمية قال تعالى: " بل الذين كفروا في عزة وشقاق " ص: 2 إلى غيرذلك. ثم إن العزة بمعنى كون الشئ قاهرا غير مقهور أو غالبا غير مغلوب تختص بحقيقة معناها بالله عز وجل إذ غيره تعالى فقير في ذاته ذليل في نفسه لا يملك لنفسه شيئا إلا أن يرحمه الله ويؤتيه شيئا من العزة كما فعل ذلك بالمؤمنين به قال تعالى: " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " المنافقون: 8. وبذلك يظهر أن قوله: " من كان يريد العزة فلله العزة جميعا " ليس بمسوق لبيان اختصاص العزة بالله بحيث لا ينالها غيره وأن من أرادها فقد طلب محالا وأراد ما لا يكون بل المعنى من كان يريد العزة فليطلبها منه تعالى لان العزة له جميعا لا توجد عند
غيره بالذات. فوضع قوله: " فلله العزة جميعا " في جزاء الشرط من قبيل وضع السبب موضع
[ 23 ]
المسبب وهو طلبها من عنده أي اكتسابها منه بالعبودية التي لا تحصل إلا بالايمان والعمل الصالح. قوله تعالى: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " الكلم - كما قيل - اسم جنس جمعي يذكر ويؤنث، وقال في المجمع: والكلم جمع كلمة يقال ؟ هذا كلم وهذه كلم فيذكر ويؤنث، وكل جمع ليس بينه وبين واحدة إلا الهاء يجوز فيه التذكير والتأنيث انتهى. والمراد بالكلم على أي حال ما يفيد معنى تاما كلاميا ويشهد به توصيفه بالطيب فطيب الكلم هو ملاءمته لنفس سامعه ومتكلمه بحيث تنبسط منه وتستلذه وتستكمل به وذلك إنما يكون بإفادته معنى حقا فيه سعادة النفس وفلاحها. وبذلك يظهر أن المراد به ليس مجرد اللفظ بل بما أن له معنى طيبا فالمراد به الاعتقادات الحقة التي يسعد الانسان بالاذعان لها وبناء عمله عليها والمتيقن منها كلمة التوحيد التي يرجع إليها سائر الاعتقادات الحقة وهي المشمولة لقوله تعالى: " ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها " إبراهيم: 25 وتسمية الاعتقاد قولا وكلمة أمر شائع بينهم. وصعود الكلم الطيب إليه تعالى هو تقربه منه تعالى اعتلاء وهو العلي الاعلى رفيع الدرجات، وإذ كان اعتقادا قائما بمعتقده فتقربه منه تعالى تقرب المعتقد به منه، وقد فسروا صعود الكلم الطيب بقبوله تعالى له وهو من لوازم المعنى. ثم أن الاعتقاد والايمان إذا كان حق الاعتقاد صادقا إلى نفسه صدقه العمل ولم يكذبه أي يصدر عنه العمل على طبقه فالعمل من فروع العلم وآثاره التي لا تنفك عنه،
وكلما تكرر العمل زاد الاعتقاد رسوخا وجلاء وقوي في تأثيره فالعمل الصالح وهو العمل الحري بالقبول الذي طبع عليه بذل العبودية والاخلاص لوجهه الكريم يعين الاعتقاد الحق في ترتب أثره عليه وهو الصعود إليه تعالى وهو المعزي إليه بالرفع فالعمل الصالح يرفع الكلم الطيب. فقد تبين بما مر معنى قوله: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " وأن ضمير " إليه " لله سبحانه والمراد بالكلم الطيب الاعتقاد الحق كالتوحيد، وبصعوده
[ 24 ]
تقربه منه تعالى، وبالعمل الصالح ما كان على طبق الاعتقاد الحق ويلائمه وأن الفاعل في " يرفعه " ضمير مستكن راجع إلى العمل الصالح وضمير المفعول راجع إلى الكلم الطيب. ولهم في الاية أقوال أخر: فقد قيل: إن المراد بصعود الكلم الطيب قبوله والاثابة عليه كما تقدمت الاشارة إليه، وقيل: المراد صعود الملائكة بما كتب من الايمان والطاعات إلى الله سبحانه، وقيل: المراد صعودهم به إلى السماء فسمي الصعود إلى السماء صعودا إلى الله مجازا. وقيل: إن فاعل " يرفعه " ضمير عائد إلى الكلم الطيب وضمير المفعول للعمل الصالح والمعنى أن الكلم الطيب يرفع العمل الصالح أي أن العمل الصالح لا ينفع إلا إذا صدر عن التوحيد، وقيل: فاعل " يرفعه " ضمير مستكن راجع إليه تعالى والمعنى العمل الصالح يرفعه الله. وجملة هذه الوجوه لا تخلو من بعد والاسبق إلى الذهن ما قدمناه من المعنى. قوله تعالى: " والذين يمكرون السيآت لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور " ذكروا أن " السيآت " وصف قائم مقام موصوف محذوف وهو المكرات، ووضع اسم الاشارة موضع الضمير في " مكر أولئك " للدلالة على أنهم متعينون لا مختلطون بغيرهم والمعنى والذين يمكرون المكرات السيآت لهم عذاب شديد ومكر أولئك الماكرين هو
يبور ويهلك فلا يستعقب أثرا حيا فيه سعادتهم وعزتهم. وقد بان أن المراد بالسيآت أنواع المكرات والحيل التي يتخذها المشركون وسائل لكسب العزة، والاية مطلقة، وقيل: المراد المكرات التي اتخذتها قريش على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دار الندوة وغيرها من إثبات أو إخراج أو قتل فرد الله كيدهم إليهم وأخرجهم إلى بدر وقتلهم وأثبتهم في القليب فجمع عليهم الاثبات والاخراج والقتل وهذا وجه حسن لكن الاية مطلقة. ووجه اتصال ذيل الاية بصدرها أعني اتصال قوله: " إليه يصعد " إلى آخر الاية بقوله: " من كان يريد العزة فلله العزة جميعا " أن المشركين كانوا يعتزون بآلهتهم كما قال تعالى: " واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا " مريم: 81 فدعاهم الله سبحانه وهم يطلبون العز إلى نفسه بتذكيرهم أن العزة لله جميعا وبين تعالى ذلك بأن
[ 25 ]
توحيده يصعد إليه والعمل الصالح يرفعه فيكتسب الانسان بالتقرب منه عزة من منبع العزة وأما الذين يمكرون كل مكر سيئ لاكتساب العزة فلهم عذاب شديد وما مكروه من المكر بائر هالك لا يصعد إلى محل ولا يكسب لهم عزا. قوله تعالى: " والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا " الخ. يشير تعالى إلى خلق الانسان فابتدء خلقه من تراب وهو المبدء البعيد الذي تنتهي إليه الخلقة ثم من نطفة وهي مبدء قريب تتعلق به الخلقة. وقيل المراد بخلقهم من تراب خلق أبيهم آدم من تراب فإن الشئ يضاف إلى أصله وقيل: بل المراد خلق آدم نفسه وقيل: بل المراد خلقهم خلقا إجماليا من تراب في ضمن خلق آدم من تراب والخلق التفصيلي هو من نطفة كما قال: ثم من نطفة. والفرق بين الوجوه الثلاثة أن في الاول نسبة الخلق من تراب إليهم على طريق المجاز العقلي، وفي الثاني المراد بخلقهم خلق آدم ولا مجاز في النسبة، وفي الثالث المراد خلق
كل واحد من الافراد من التراب حقيقة من غير مجاز إلا أنه خلق إجمالي لا تفصيلي وبهذا يفارق ما قدمناه من الوجه. ويمكن تأييد القول الاول بقوله تعالى: " خلق الانسان من صلصال كالفخار " الرحمن: 14، والثاني بنحو قوله: " وبدء خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين " السجدة: 8، والثالث بقوله: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لادم " الاعراف: 11 ولكل وجه. وقوله: " ثم جعلكم أزواجا " أي ذكورا وإناثا، وقيل: أي قدر بينكم الزوجية وزوج بعضكم من بعض، وهو كما ترى، وقيل: أي أصنافا وشعوبا. وهو كسابقه. وقوله: " وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه " من زائدة لتأكيد النفي، والباء في " بعلمه " للمصاحبة وهو حال من الحمل والوضع، والمعنى ما تحمل ولا تضع أنثى إلا وعلمه يصاحب حمله ووضعه، وذكر بعضهم أنه حال من الفاعل وأن كونه حالا من الحمل والوضع وكذا من مفعوليهما أي المحمول والموضوع خلاف الظاهر وهو ممنوع.
[ 26 ]
وقوله: " وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب " أي وما يمد ويزاد في عمر أحد فيكون معمرا ولا ينقص من عمره أي عمر أحد إلا في كتاب. فقوله: " وما يعمر من معمر " من قبيل قوله: " إني أراني أعصر خمرا " يوسف: 26 فوضع معمر موضع نائب الفاعل وهو أحد بعناية أنه بعد تعلق التعمير به يصير معمرا وإلا فتعمير المعمر لا معنى له. وقوله: " ولا ينقص من عمره " الضمير في " عمره " راجع إلى " معمر " باعتبار موصوفه المحذوف وهو أحد والمعنى ولا ينقص من عمر أحد وإلا فنقص عمر المفروض معمرا تناقض خارق للفرض.
وقوله: " إلا في كتاب " وهو اللوح المحفوظ الذي لا سبيل للتغيير إليه فقد كتب فيه أن فلانا يزاد في عمره كذا لسبب كذا وفلانا ينقص من عمره كذا لسبب كذا وأما كتاب المحو والاثبات فهو مورد التغير وسياق الاية يفيد وصف العلم الثابت ولهم في قوله: " وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره " وجوه أخر ضعيفة لا جدوى في التعرض لها. وقوله: " إن ذلك على الله يسير " تعليل وتقرير لما في الاية من وصف خلق الانسان وكيفية إحداثه إبقائه والمعنى أن هذا التدبير الدقيق المتين المهيمن على كليات الحوادث وجزئياتها المقرر كل شئ في مقره على الله يسير لانه الله العليم القدير المحيط بكل شئ بعلمه وقدرته فهو تعالى رب الانسان كما أنه رب كل شئ. قوله تعالى: " وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج " إلى آخر الاية قيل: العذب من الماء طيبه، والفرات الماء الذي يكسر العطش أو البارد كما في المجمع، والسائغ هو الذي يسهل انحداره في الحلق لعذوبته والاجاج الذي يحرق لملوحته أو المر. وقوله: " ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها " اللحم الطري الغض الجديد، والمراد لحم السمك أو السمك والطير البحري، والحلية المستخرجة من البحر اللؤلؤ والمرجان والاصداف قال تعالى: " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " الرحمان: 22. وفي الاية تمثيل للمؤمن والكافر بالبحر العذب والمالح يتبين به عدم تساوي المؤمن
[ 27 ]
والكافر في الكمال الفطري وإن تشاركا في غالب الخواص الانسانية وآثارها فالمؤمن باق على فطرته الاصلية ينال بها سعادة الحياة الدائمة والكافر منحرف فيها متلبس بما لا تستطيبه الفطرة الانسانية وسيعذب بأعماله فمثلهما مثل البحرين المختلفين عذوبة وملوحة فهما مختلفان من حيث البقاء على فطرة الماء الاصلية وهي العذوبة والخروج عنها
بالملوحة وإن اشتركا في بعض الاثار التي ينتفع بها، فمن كل منهما تأكلون لحما طريا وهو لحم السمك والطير المصطاد من البحر وتستخرجون حلية تلبسونها كاللؤلؤ والمرجان والاصداف. فظاهر الاية أن الحلية المستخرجة مشتركة بين البحر العذب والبحر المالح لكن جمعا من المفسرين استشكلوا ذلك بأن اللؤلؤ والمرجان إنما يستخرجان من البحر المالح دون العذب، وقد أجابوا عنه بأجوبة مختلفة. منها أن الاية مسوقة لبيان اشتراك البحرين في مطلق الفائدة وإن اختص ببعضها كأنه قيل: ومن كل تنتفعون وتستفيدون كما تأكلون منهما لحما طريا وتستخرجون من البحر المالح حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر. ومنها أنه شبه المؤمن والكافر بالعذب والاجاج ثم فضل الاجاج على الكافر بأن في الاجاج بعض النفع والكافر لا نفع في وجوده فالاية على طريقة قوله تعالى: " ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة " ثم قال: " وإن من الحجارة لما يتفجر منه الانهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله " البقرة: 74. ومنها أن قوله: " وتستخرجون حلية تلبسونها " من تتمة التمثيل على معنى أن البحرين وإن اشتركا في بعض المنافع تفاوتا فيما هو المقصود بالذات لان أحدهما خالطه ما خرج به عن صفاء فطرته والمؤمن والكافر وإن اتفقا أحيانا في بعض المكارم كالشجاعة والسخاوة متفاوتان فيما هو الاصل لبقاء أحدهما على صفاء الفطرة الاصلية دون الاخر. ومنها أنه لا مانع من أن يخرج اللؤلؤ من المياه العذبة وإن لم نره فالاشكال باختصاص الحلية بالماء المالح ممنوع. ومنها منع أصل الدعوى وهو كون الاية " وما يستوي البحران " الخ. تمثيلا
[ 28 ]
للمؤمن والكافر بل هي واقعة في سياق تعداد النعم لاثبات الربوبية كقوله قبلا: " والله الذي أرسل الرياح " وقوله بعدا: " يولج الليل في النهار " الخ. فالاية مسوقة لبيان نعمة البحر واختلافه بالعذوبة والملوحة وما فيهما من المنافع المشتركة والمختصة. ويؤيد هذا الوجه أن نظير الاية في سورة النحل واقعة في سياق الايات العادة لنعم الله سبحانه وهو قوله: " وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون " النحل: 14. والحق أن أصل الاستشكال في غير محله وأن البحرين يشتركان في وجود الحلية فيهما كما هو مذكور في الكتب الباحثة عن هذه الشؤون مشروح فيها (1). قوله تعالى: " وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون " ضمير " فيه " للبحر، ومواخر جمع ماخرة من المخر بمعنى الشق عدت السفينة ماخرة لشقها الماء بجؤجئتها. قيل: إنما أفرد ضمير الخطاب في قوله: " ترى " بخلاف الخطابات المتقدمة والمتأخرة لان الخطاب لكل أحد يتأتى منه الرؤية دون المنتفعين بالبحرين فقط. وقوله: " لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون " أي مخر الفلك البحر بتسخيره لتطلبوا من عطائه وهو الرزق ورجاء أن تشكروا الله سبحانه، وقد تقدم أن الترجي الذي تفيده " لعل " في كلامه تعالى قائم بالمقام دون المتكلم. وقد قيل في هذه الاية: " وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله " وفي سورة النحل: " وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله " فاختلفت الايتان في تقديم " فيه " على " مواخر " وتأخيره منه وعطف " لتبتغوا " وعدمه. ولعل النكتة في ذلك أن آية النحل مصدرة بكلمة التسخير فهي مسوقة لبيان كيفية التسخير والانسب لذلك تأخير " فيه " ليتعلق بمواخر ويشير إلى مخر البحر (1)
وقد ذكر وجود الحلية في الماء العذب في مادة صدف من دائرة المعارف للبستاني وذكر أيضا في
آمريكانا Eneyclo Poedia وبريطانيا Encyclo Poedia وجودها فيه وسميت عدة من الانهار العذبة في أمريكا واوروبا وآسيا يستخرج منها اللؤؤ.
[ 29 ]
فيصرح بالتسخير بخلاف ما ههنا ثم التسخير له غايات كثيرة منها ابتغاء الفضل والانسب لذلك عطف " لتبتغوا " على محذوف ليدل على عدم انحصار الغاية في ابتغاء الفضل بخلاف ما ههنا فإن الغرض بيان أنه الرازق المدبر ليرتدع المكذبون - وقد تقدم ذكر تكذيبهم - عن تكذيبهم ويكفي في ذلك بيان ابتغائهم الفضل غاية من غير حاجة إلى العطف. والله أعلم. وقال في روح المعاني في المقام: والذي يظهر لي في ذلك أن آية النحل سيقت لتعداد النعم كما يؤذن بذلك سوابقها ولواحقها وتعقيب الايات بقوله سبحانه: " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " فكان الاهم هناك تقديم ما هو نعمة وهو مخر الفلك للماء بخلاف ما هنا فإنه إنما سيق استطرادا أو تتمة للتمثيل كما علمت آنفا فقدم فيه " فيه " إيذانا بأنه ليس المقصود بالذات ذلك، وكان الاهتمام بما هناك اقتضى أن يقال في تلك الاية: " ولتبتغوا " بالواو ومخالفة ما هنا لذلك اقتضت ترك الواو في قوله: " لتبتغوا " انتهى. قوله تعالى: " يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى " الخ. إيلاج الليل في النهار قصر النهار بطول الليل وإيلاج النهار في الليل قصر الليل بطول النهار، والمراد بالجملتين الاشارة إلى اختلاف الليل والنهار في الطول والقصر المستمر في أيام السنة بتغير الايام ولذا عبر بقوله: " يولج " الدال على استمرار التغيير بخلاف جريان الشمس والقمر فإنه ثابت على حاله ولذا عبر فيه بقوله: " وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى " والعناية صورية مسامحية. وقوله: " ذلكم الله ربكم " بمنزلة النتيجة لما تقدم أي إذا كان أمر خلقكم وتدبيركم برا وبحرا وأرضا وسماء منتسبا إليه مدبرا بتدبيره فذلكم الله ربكم الذي يملككم
ويدبر أمركم. وقوله: " له الملك " مستنتج مما قبله وتوطئة وتمهيد لما بعده من قوله: " والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ". وقوله: " والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير " القطمير على ما قاله الراغب الاثر على رأس النواة وذلك مثل للشئ الطفيف، وفي المجمع: القطمير لفافة النواة وقيل: الحبة في بطن النواة انتهى والكلام على أي حال مبالغة في نفي أصل الملك
[ 30 ]
والمراد بالذين تدعون من دون الله آلهتهم الذين كانوا يدعونها من الاصنام وأربابها. قوله تعالى: " إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم " الخ. بيان وتقرير لما تقدم من قوله: " والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير " أي تصديق كونهم لا يملكون شيئا أنكم إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم لان الاصنام جمادات لا شعور لها ولا حس وأرباب الاصنام كالملائكة والقديسين من البشر في شغل شاغل من ذلك على أنهم لا يملكون سمعا من عند أنفسهم فلا يسمعون إلا بإسماعه. وقوله: " ولو سمعوا ما استجابوا لكم " إذ لا قدرة لهم على الاستجابة قولا ولا فعلا أما الاصنام فظاهر وأما أرباب الاصنام فقدرتهم من الله سبحانه ولن يأذن الله لاحد أن يستجيب أحدا يدعوه بالربوبية قال تعالى: " لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا " النساء: 172. وقوله: " ويوم القيامة يكفرون بشرككم " أي يردون عبادتكم إليكم ويتبرؤن منكم بدلا من أن يكونوا شفعاء لكم " إذ تبرء الذين اتبعوا من الذين اتبعوا " البقرة: 166. فالاية في نفي الاستجابة وكفر الشركاء يوم القيامة في معنى قوله: " ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم (؟) غافلون وإذا
حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين " الاحقاف 6. وقوله: " ولا ينبئك مثل خبير " أي لا يخبرك عن حقيقة الامر مخبر مثل مخبر خبير وهو خطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الاعراض عن خطابهم لعدم تفقههم بالبيان الحق أو خطاب عام في صورة الخطاب الخاص خوطب به السامع أي من كان كقوله: " وترى الفلك فيه مواخر " الاية السابقة، وقوله: " وترى الشمس إذا طلعت " الاية الكهف: 17، وقوله: " وتحسبهم أيقاظا وهم رقود " الكهف: 18. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " كذلك النشور " حدثني أبي عن ابن أبي عمير
[ 31 ]
عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا أراد الله أن يبعث الخلق أمطر السماء على الارض أربعين صباحا فاجتمعت الاوصال ونبتت اللحوم. أقول: وفي هذا المعنى عدة روايات أخر. وفي الدر المنثور أخرج الطيالسي وأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الاسماء والصفات عن أبي رزين العقيلي قال: قلت: يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى ؟ قال: أما مررت بأرض مجدبة ثم مررت بها مخصبة تهتز خضراء ؟ قال: بلى. قال: كذلك يحيي الله الموتى وكذلك النشور. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن لكل قول مصداقا من عمل يصدقه أو يكذبه فإذا قال ابن آدم وصدق قوله بعمله رفع قوله بعمله إلى الله، وإذا قال وخالف عمله قوله رد قوله على عمله الخبيث وهوى به في النار. وفي التوحيد بإسناده عن زيد بن علي عن أبيه عليه السلام في حديث قال: وإن لله تبارك وتعالى بقاعا في سماواته فمن عرج به إلى بقعة منها فقد عرج به إليه. ألا تسمع الله
عز وجل يقول: " تعرج الملائكة والروح إليه " ويقول في قصة عيسى بن مريم عليهما السلام " بل رفعه الله " ويقول عز وجل: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ". أقول: وعن الفقيه مثله. وفي نهج البلاغة: ولو لا إقرارهن (1) له بالربوبية وإذعانهن له بالطواعية (2) لما جعلهن موضعا لعرشه ولا مسكنا لملائكته ولا مصعدا للكلم الطيب والعمل الصالح من خلقه. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج " الاجاج المر. وفيه في قوله: " والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير " قال: الجلدة الرقيقة التي على ظهر النوى. (1)
الضمير للسماوات. (2) الطاعة.
[ 32 ]
يا أيها الناس انتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد - 15. إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد - 16. وما ذلك على الله بعزيز - 17. ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيئ ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلوة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير - 18. وما يستوي الاعمى والبصير - 19. ولا الظلمات ولا النور - 20. ولا الظل ولا الحرور - 21. وما يستوي الاحياء ولا الاموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور - 22. إن أنت إلا نذير - 23. إنا أرسلناك بالحق بشيرا
ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير - 24. وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات والزبر وبالكتاب المنير - 25. ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير - 26. (بيان) لما بين لهم أن الخلق والتدبير إليه تعالى فهو ربهم له الملك دون الذين يدعون من دونه فهم لا يملكون شيئا حتى يقوموا بتدبيره، أخذ يبين ذلك ببيان آخر مشوب
[ 33 ]
بالوعيد والتهديد وهو أنه تعالى غني عنهم وهم فقراء إليه فله أن يذهبهم ويأت بخلق جديد إن شاء جزاء بما كسبوا. ثم وجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما حاصله أن هذه المؤاخذة والاهلاك لا يشمل إلا هؤلاء المكذبين دون المؤمنين الذين يؤثر فيهم إنذار النبي عليه السلام فبينهما فرق ظاهر وهو صلى الله عليه وآله وسلم نذير كالنذر الماضين وحاله كحال من قبله من المنذرين وإن يكذبوه فقد كذبت الانبياء الماضين مكذبوا أممهم فأخذهم الله أخذا شديدا وسيأخذ المكذبين من هذه الامة. قوله تعالى: " يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد " لا ريب أن في الاية نوع تمهيد بالنسبة إلى الايتين التاليتين يتبين بها مضمونهما وهي مع ذلك مستقلة في مفادها. بيان ذلك: أن السياق يشعر بأن أعمال هؤلاء المكذبين كانت تكشف عن أنهم كانوا يتوهمون أن لهم أن يستغنوا عن الله سبحانه بعبادة آلهتهم وأن لله إليهم حاجة ولذلك يدعوهم إلى نفسه بالدعوة الالهية التي يقوم بها رسله فهناك غنى وفقر ولهم نصيب من الغنى ولله نصيب من الفقر تعالى عن ذلك. فرد الله سبحانه زعمهم ذلك بقوله: " يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو
الغني " فقصر الفقر فيهم وقصر الغنى فيه سبحانه فكل الفقر فيهم وكل الغنى فيه سبحانه، وإذ كان الغنى والفقر وهما الوجدان والفقدان متقابلين لا يرتفعان عن موضوعهما كان لازم القصر السابق قصر آخر وهو قصرهم في الفقر وقصره تعالى في الغنى فليس لهم إلا الفقر وليس له تعالى إلا الغنى. فالله سبحانه غني بالذات له أن يذهبهم ويستغنى عنهم وهم فقراء بالذات ليس لهم أن يستغنوا عنه بغيره. والملاك في غناه تعالى عنهم وفقرهم أنه تعالى خالقهم ومدبر أمرهم وإليه الاشارة بأخذ لفظ الجلالة في بيان فقرهم وبيان غناه، والاشارة إلى الخلق والتدبير في قوله: " إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد " وكذا توصيفه تعالى بالحميد وهو المحمود في فعله
[ 34 ]
الذي هو خلقه وتدبيره. فيعود معنى الكلام إلى نحو من قولنا: يا أيها الناس أنتم بما أنكم مخلوقون مدبرون لله الفقراء إلى الله فيكم كل الفقر والحاجة والله بما أنه الخالق المدبر، الغني لا غنى سواه. وعلى هذا لا ضير في قصر الفقر في الناس سواء أريد به المكذبون خاصة أو عامة الناس مع كون غيرهم من المخلوقات فقراء إلى الله كمثلهم وذلك أن عموم علة الحكم يعمم الحكم فكأنه قيل: أنتم معاشر الخليقة الفقراء إلى خالقكم المدبر لامركم وهو الغني الحميد. وقد أجيب عن إشكال قصر الفقر في الناس مع عمومه لغيرهم بوجوه من الجواب: منها أن في قصر الفقر في الناس مبالغة في فقرهم كأنهم لكثرة افتقارهم وشدة احتياجهم هم الفقراء فحسب وأن افتقار سائر الخلائق بالنسبة إلى فقرهم بمنزلة العدم ولذلك قال تعالى: " خلق الانسان ضعيفا " ولا يرد الجن لانهم لا يحتاجون في المطعم والملبس وغيرهما كما يحتاج الانسان. ومنها أن المراد الناس وغيرهم وهو على طريقة تغليب الحاضر على الغائب وأولي
العلم على غيرهم. ومنها أن الوجه حمل اللام في الناس على العهد وفي الفقراء على الجنس لان المخاطبين في الاية هم الذين خوطبوا في قوله: " ذلكم الله ربكم له الملك " الاية أي ذلكم المعبود هو الذي وصف بصفات الجلال لا الذين تدعون من دونه وأنتم أشد الخلائق احتياجا إليه. ومنها أن القصر إضافي بالنسبة إليه تعالى لا حقيقي. وغير خفي عليك أن مفاد الاية وسياقها لا يلائم شيئا من هذه الاجوبة نعم يمكن توجيه الجواب الاخير بما يرجع إلى ما قدمناه من الوجه. و تذييل الاية بصفة الحميد للاشارة إلى أنه غني محمود الافعال إن أعطى وإن منع لانه إذا أعطى لم يعطه لبدل لغناه عن الجزاء والشكر وكل بدل مفروض وإن منع لم يتوجه إليه لائمة إذ لا حق لاحد عليه ولا يملك منه شئ. قوله تعالى: " إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز " أي
[ 35 ]
إن يرد إذهابكم يذهبكم أيها الناس لانه غني عنكم لا يستضر بذهابكم ويأت بخلق جديد يحمدونه و يثنون عليه لا لحاجة منه إليهم بل لانه حميد ومقتضاه أن يجود فيحمد وليس ذلك على الله بصعب لقدرته المطلقة لانه الله عز اسمه. فقد بان أن مضمون الاية متفرعة على مضمون الاية السابقة فقوله: " إن يشأ يذهبكم " متفرع على كونه تعالى غنيا، وقوله: " ويأت بخلق جديد " متفرع على كونه تعالى حميدا، وقد فرع مضمون الجملتين في موضع آخر على غناه ورحمته قال تعالى: " وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء " الانعام: 133. قوله تعالى: " ولا تزر وازرة وزر أخرى " الخ. قال الراغب: الوزر - بفتحتين - الملجأ الذي يلتجأ إليه من الجبل، قال تعالى: " كلا لا وزر " والوزر - بالكسر
فالسكون - الثقل تشبيها بوزر الجبل، ويعبر به عن الاثم كما يعبر عنه بالثقل قال تعالى: " ليحملوا أوزارهم كاملة " الاية كقوله: " ليحملوا أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ". انتهى فالمعنى لا تحمل نفس حاملة للاثم إثم نفس أخرى ولازم ذلك أن لا تؤاخذ نفس إلا بما حملت من إثم نفسها واكتسبته من الوزر. والاية كأنها دفع دخل يشعر به آخرها كأنه لما قال: إن يشأ يذهبكم ويأت بآخرين، فهددهم بالاهلاك و الافناء، قيل: هؤلاء المكذبون أخذوا بوزرهم فما حال المؤمنين ؟ أيؤخذون بوزر غيرهم ؟ فاجيب أن لا تزور وازرة وزر أخرى ولا تحمل نفس حمل غيرها الذي أثقلها وإن كانت ذات قربى. فهؤلاء المكذبون هم المعنيون بالتهديد ولا تنفع فيهم دعوتك وإنذارك لانهم مطبوع على قلوبهم، وإنما ينفع إنذارك الذين يخشون ربهم بالغيب ويقيمون الصلاه والفريقان لا يستويان لان مثلهم مثل الاعمى والبصير، والظلمات والنور، والظل والحرور، والاحياء والاموات. فقوله: " ولا تزر وازرة وزر أخرى " أي لا تحمل نفس حاملة للوزر والاثم إثم نفس أخرى حاملة. وقوله: " وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شئ ولو كان ذا قربى " أي
[ 36 ]
وإن تدع نفس مثقلة أثقلها حملها من الاثم غيرها إلى ما حملته من الاثم ليحمله عنها لا يستجاب لها ولا يحمل من حملها شئ ولو كان المدعو ذا قربى للداعي كالاب والام والاخ والاخت. وقوله: " إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة " أي هؤلاء المكذبون لا ينتفعون بالانذار ولا تتحقق معهم حقيقة الانذار لانهم مطبوع على قلوبهم
إنما تنذر وينفع إنذارك الذين يخشون ربهم بالغيب ويقيمون الصلاة التي هي أفضل العبادات وأهمها وبالجملة يؤمنون بالله ويعبدونه أي الذين يخشون ربهم بالغيب ويقيمون الصلاة إثر إنذارك لا أنهم يخشون ربهم ويصلون ثم ينذرون بعد ذلك حتى يلزم تحصيل الحاصل فالاية كقوله: " إني أراني أعصر خمرا " يوسف: 36. وقوله: " ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه " بدل الخشية وإقامة الصلاة من التزكي للاشارة إلى أن المطلوب بالدعوة والانذار هو التزكي وتزكية النفس تلبسها بالخشية من الله على الغيب وإقامة الصلاة. وفيه تقرير وتأكيد لما تقدم من كونه تعالى غنيا حميدا فهو تعالى لا ينتفع بما يدعو إليه من التزكي بل الذي تزكى فإنما يتزكى لنفع نفسه. وقد ختم الاية بقوله: " وإلى الله المصير " للدلالة على أن تزكية من تزكى لا يذهب سدى، فإن كلا من الفريقين صائرون إلى ربهم لا محالة وهو يحاسبهم ويجازيهم فيجازي هؤلاء المتزكين أحسن الجزاء. قوله تعالى: " وما يستوي الاعمى والبصير " الظاهر أنه عطف على قوله: " وإلى الله المصير " تعليل في صورة التمثيل لعدم مساواة هؤلاء المتزكين لاولئك المكذبين، وقيل: عطف على قوله السابق: " وما يستوي البحران ". قوله تعالى: " ولا الظلمات ولا النور " تكرار حروف النفي مرة بعد مرة في الاية وما يليها لتأكيد النفي. قوله تعالى: " ولا الظل ولا الحرور " الحرور شدة حر الشمس على ما قيل وقيل: هو السموم وقيل: السموم يهب نهارا والحرور يهب ليلا ونهارا.
[ 37 ]
قوله تعالى: " وما يستوي الاحياء ولا الاموات " إلى آخر الاية عطف على قوله: " وما يستوي الاعمى والبصير " وإنما كرر قوله: " ما يستوي " ولم يعطف " الاحياء
ولا الاموات " على قوله: " الاعمى والبصير " كرابعته لطول الفصل فاعيد " ما يستوي " لئلا يغيب المعنى عن ذهن السامع فهو كقوله: " كيف يكون للمشركين عهد عند الله ورسوله - إلى أن قال - كيف وإن يظهروا عليكم " الخ. التوبة: 8. والجمل المتوالية المترتبة أعني قوله: " وما يستوي الاعمى والبصير - إلى قوله - وما يستوي الاحياء ولا الاموات " تمثيلات للمؤمن والكافر وتبعات أعمالهما. و قوله: " إن الله يسمع من يشاء " وهو المؤمن كان ميتا فأحياه الله فأسمعه لما في نفسه من الاستعداد لذلك قال تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا " الانعام: 122، وأما النبي عليه السلام فإنما هو وسيلة والهدى هدى الله. وقوله: " وما أنت بمسمع من في القبور " أي الاموات والمراد بهم الكفار المطبوع على قلوبهم. قوله تعالى: " إن أنت إلا نذير " قصر إضافي أي ليس لك إلا إنذارهم وأما هداية من اهتدى منهم وإضلال من ضل ولم يهتد جزاء له بسيئ عمله فإنما ذلك لله سبحانه. ولم يذكر البشير مع النذير مع كونه صلى الله عليه وآله وسلم متلبسا بالوصفين معا لان المقام مقام الانذار فالمناسب هو التعرض لوصف الانذار مع أنه مذكور في الاية التالية. قوله تعالى: " إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير " المفاد على ما يقتضيه السياق إنا أرسلناك بالتبشير والانذار وليس ببدع مستغرب فما من أمة من الامم إلا وقد خلا ومضى فيها نذير فذلك من سنن الله الجارية في خلقه. وظاهر السياق أن المراد بالنذير الرسول المبعوث من عند الله وفسر بعضهم النذير بمطلق من يقوم بالعظة والانذار من نبي أو عالم غير نبي وهو خلاف ظاهر الاية. نعم ليس من الواجب أن يكون نذير كل أمة من أفرادها فقد قال تعالى: " خلا فيها " ولم يقل: " خلا منها ". قوله تعالى: " وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات
[ 38 ]
وبالزبر وبالكتاب المنير " البينات هي الايات المعجزة التي تشهد على حقية الرسل، والزبر جمع زبور ولعل المراد بها بقرينة مقابلتها للكتاب الصحائف والكتب التي فيها ذكر الله تعالى من غير أن تتضمن الاحكام والشرائع، والكتاب المنير الكتاب المنزل من السماء المتضمن للشرائع ككتاب نوح وإبراهيم وتوراة موسى وإنجيل عيسى عليهم السلام، ومعنى الاية ظاهر. قوله تعالى: " ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير " الاخذ كناية عن التعذيب، والنكير الانكار، والباقي ظاهر. (كلام في معنى عموم الانذار) قد تقدم في أبحاث النبوة في الجزء الثاني وفي قصص نوح عليه السلام في الجزء العاشر من الكتاب ما يدل من طريق العقل على عموم النبوة ويؤيده الكتاب. فلا تخلو أمة من الامم الانسانية عن ظهور ما للدعوة الحقة النبوية فيها وأما كون نبي كل أمة من نفس تلك الامة فلا دليل عليه، وقد عرفت أن قوله تعالى: " وإن من أمة إلا خلا فيها نذير " الاية مفاده ذلك. وأما فعلية الانذار - بحيث يبلغ كل فرد فرد من الامة مضافا إلى أصل الاقتضاء - واطراد الدعوة في كل واحد واحد فحكومة العلل والاسباب المتزاحمة في هذه النشأة المادية لا توافقه كما لا توافق سائر المقتضيات العامة التي قدرها الصنع كما أن في بنية كل مولود إنساني أن يعمر عمرا طبيعيا والحوادث تحول بين أكثر الافراد وبين ذلك، وكل مولود إنساني مجهز بجهاز التناسل للاستيلاد والايلاد وكثير من الافراد يموت قبل بلوغه فلا يبلغ ذلك إلى غير ذلك من النظائر. فالنبوة والانذار عام لكل أمة ولا يستلزم استلزاما ضروريا أن تبلغ الدعوة كل شخص من أشخاصها بل من الجائز أن تبلغ بلا واسطة أو معها بعض الامة وتتخلف
عن بعض لحيلولة علل وأسباب مزاحمة بينه وبين البلوغ فمن توجهت منهم إليه الدعوة وبلغته تمت عليه الحجة ومن توجهت إليه ولم تبلغه لم تتم عليه الحجة وكان من المستضعفين
[ 39 ]
وكان أمره إلى الله قال تعالى: " إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا " النساء: 98. (بحث روائي) في الدر المنثور في قوله تعالى: " ولا تزر وازرة وزر أخرى " أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن الاحوص أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في حجة الوداع: ألا لا يجني جان إلا على نفسه لا يجني والد على ولده ولا مولود على والده. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور " قال: هؤلاء الكفار لا يسمعون منك كما لا يسمع أهل القبور. وفي الدر المنثور أخرج أبو سهل السري بن سهل الجند يسابوري الخامس من حديثه من طريق عبد القدوس عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: " إنك لا تسمع الموتى وما أنت بمسمع من في القبور " قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقف على القتلى يوم بدر ويقول: هل وجدتم ما وعد ربكم حقا يا فلان بن فلان ألم تكفر بربك ؟ ألم تكذب نبيك ؟ ألم تقطع رحمك ؟ فقالوا: يا رسول الله أيسمعون ما تقول ؟ قال: ما أنتم بأسمع منهم لما أقول فأنزل الله: " إنك لا تسمع الموتى وما أنت بمسمع من في القبور " ومثل ضربه الله للكفار أنهم لا يسمعون لقوله. أقول: وفي الرواية ما لا يخفى من لوائح الوضع فساحة النبي عليه السلام أجل من أن يقول ما ليس له به علم من ربه حتى ينزل الله عليه آية تكذبه فيما يدعيه ويخبر به. على أن ما نقله من الاية لا يطابق المصحف فصدره مأخوذ من سورة النمل الاية
80 وذيله مأخوذ من سورة فاطر الاية 22. على أن سياق الاية مكي في سياق آيات سابقة ولاحقة مكية. وفي الاحتجاج في احتجاج الصادق عليه السلام: قال السائل: فأخبرني عن المجوس أفبعث إليهم نبيا ؟ فإني أجد لهم كتبا محكمة ومواعظ بليغة وأمثالا شافية، ويقرون
[ 40 ]
بالثواب والعقاب، ولهم شرائع يعملون بها. قال: ما من أمة إلا خلا فيها نذير، وقد بعث إليهم نبي بكتاب من عند الله فأنكروه وجحدوا كتابه. * * * ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود - 27. ومن الناس والدواب والانعام مختلف ألوانه كذالك إنما يخشى الله من عباده العلمؤ إن الله عزيز غفور - 28. إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلوة وانفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور - 29. ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور - 30. والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير - 31. ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير - 32. جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير - 33. وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور - 34. الذي أحلنا دار
[ 41 ]
المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب - 35. والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور - 36. وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير - 37. إن الله عالم غيب السموات والارض إنه عليم بذات الصدور - 38. (بيان) رجوع إلى ذكر آيات أخر من آيات التوحيد وفيها انتقال إلى حديث الكتاب وأنه حق نازل من عند الله تعالى وقد انجر الكلام في الفصل السابق من الايات إلى ذكر النبوة والكتاب حيث قال: " إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا " وقال: " جاؤا بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير " فكان من الحري أن يتعرض لصفة الكتاب وما تستتبعه من الاثار. قوله تعالى: " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها " الخ. حجة أخرى على التوحيد وهو أن الله سبحانه ينزل الماء من السماء بالامطار وهو أقوى العوامل المعينة لخروج الثمرات، ولو كان خروجها عن مقتضى طباع هذا العامل وهو واحد لكان جميعها ذا لون واحد فاختلاف الالوان يدل على وقوع التدبير الالهي. والقول بأن اختلافها منوط باختلاف العوامل المؤثرة فيها ومنها اختلاف العناصر الموجودة فيها نوعا وقدرا وخصوصية التأليف. مدفوع بأن الكلام منقول حينئذ إلى اختلاف نفس العناصر وهي منتهية إلى
[ 42 ]
المادة المشتركة التي لا اختلاف فيها فاختلاف العناصر المكونة منها يدل على عامل آخر
وراء المادة يدبر أمرها ويسوقها إلى غايات مختلفة. والظاهر أن المراد باختلاف ألوان الثمرات اختلاف نفس ألوانها ويلزمه اختلافات أخر من حيث الطعم والرائحة والخواص، وقيل المراد باختلاف الالوان اختلاف الانواع فكثيرا ما يطلق اللون في الفواكه والاطعمة على النوع كما يقال: قدم فلان ألوانا من الطعام والفاكهة فهو من الكناية، وقوله بعد: " ومن الجبال جدد بيض وحمر " لا يخلو من تأييد للوجه الاول. وفي قوله: " فأخرجنا به " الخ. التفات من الغيبة إلى التكلم. قيل: إن ذلك لكمال الاعتناء بالفعل لما فيه من الصنع البديع المنبئ عن كمال القدرة والحكمة. ونظير الوجه يجري في قوله السابق: " إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا " وأما ما في الاية السابقة من قوله: " ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير " فلعل الوجه فيه أن أمرهم إلى الله لا يتخلل بينه وبينهم أحد حتى يشفع لهم أو ينصرهم فينجوا من العذاب. و قوله: " ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود " الجدد بالضم فالفتح جمع جدة بضم الجيم وهي الطريقة والجادة، والبيض والحمر جمع أبيض وأحمر، والظاهر أن قوله: " مختلف ألوانها " صفة لجدد و " ألوانها " فاعل " مختلف " ولو كانت الجملة مبتدء وخبرا لقيل: مختلفة ألوانها كما قيل، والغرابيب جمع غربيب وهو الاسود الشديد السواد ومنه الغراب و " سود " بدل أو عطف بيان لغرابيب. والمعنى: ألم تر أن من الجبال طرائق بيض وحمر وسود مختلف ألوانها، والمراد إما الطرق المسلوكة في الجبال ولها ألوان مختلفة، وإما نفس الجبال التي هي خطوط مختلفة ممدودة على وجه الارض بيض وحمر وسود مختلف ألوانها. قوله تعالى: " ومن الناس والدواب والانعام مختلف ألوانه كذلك " أي ومن الناس والدواب التي تدب في الارض والانعام كالابل والغنم والبقر بعض مختلف ألوانه
بالبياض والحمرة و السواد كاختلاف الثمرات والجبال في ألوانها.
[ 43 ]
وقيل: قوله: " كذلك " خبر لمبتدء محذوف، والتقدير الامر كذلك فهو تقرير إجمالي للتفصيل المتقدم من اختلاف الثمرات والجبال والناس والدواب والانعام. وقيل: " كذلك " متعلق بقوله: " يخشى " في قوله: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " والاشارة إلى ما تقدم من الاعتبار بالثمرات والجبال وغيرهما والمعنى إنما يخشى الله كذلك الاعتبار بالايات من عباده العلماء، وهو بعيد لفظا ومعنى. قوله تعالى: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " استئناف يوضح أن الاعتبار بهذه الايات إنما يؤثر أثره ويورث الايمان بالله حقيقة والخشية منه بتمام معنى الكلمة في العلماء دون الجهال، وقد مر أن الانذار إنما ينجح فيهم حيث قال: " إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة " فهذه الاية كالموضحة لمعنى تلك تبين أن الخشية حق الخشية إنما توجد في العلماء. والمراد بالعلماء العلماء بالله وهم الذين يعرفون الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله معرفة تامة تطمئن بها قلوبهم وتزيل وصمة الشك والقلق عن نفوسهم وتظهر آثارها في أعمالهم فيصدق فعلهم قولهم، والمراد بالخشية حينئذ حق الخشية ويتبعها خشوع في باطنهم وخضوع في ظاهرهم. هذا ما يستدعيه السياق في معنى الاية. وقوله: " إن الله عزيز غفور " يفيد معنى التعليل فلعزته تعالى وكونه قاهرا غير مقهور وغالبا غير مغلوب من كل جهة يخشاه العارفون، ولكونه غفورا كثير المغفرة للاثام والخطيئات يؤمنون به ويتقربون إليه ويشتاقون إلى لقائه. قوله تعالى: " إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور " تلاوة الكتاب قراءة القرآن وقد أثنى عليها الله سبحانه، و إقامة الصلاة إدامة إتيانها وحفظها من أن تترك، والانفاق من الرزق سرا
وعلانية بذل المال سرا تحذرا من الرياء وزوال الاخلاص في الانفاق المسنون، وبذل المال علانية ليشيع بين الناس كما في الانفاق الواجب. وقوله: " يرجون تجارة لن تبور " أي لن تهلك بالخسران، وذكر بعضهم أن قوله: " يرجون " الخ. خبر إن في صدر الاية وعند بعضهم الخبر مقدر يتعلق به قوله: " ليوفيهم " الخ " أي فعلوا ما فعلوا ليوفيهم أجورهم " الخ.
[ 44 ]
قوله تعالى: " ليوفيهم أجورهم و يزيدهم من فضله إنه غفور شكور " متعلق بقوله: " يتلون " وما عطف عليه في الاية السابقة أي أنهم عملوا ما عملوا لان يوفيهم ويؤتيهم إيتاء تاما كاملا أجورهم وثوابات أعمالهم. وقوله: " ويزيدهم من فضله " يمكن أن يراد بهذه الزيادة تضعيف الثواب أضعافا كما في قوله: " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " الانعام: 160 وقوله: " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء " البقرة: 261، ويمكن أن يراد بها زيادة ليست من سنخ ثواب الاعمال كما في قوله: " لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد " ق: 35. وقوله: " إنه غفور شكور " تعليل لمضمون الاية وزيادة فهو تعالى لكونه غفورا يغفر زلاتهم ولكونه شكورا يثيبهم ويزيد من فضله. قوله تعالى: " والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق " ضمير الفصل واللام في قوله: " هو الحق " للتأكيد لا للقصر أي هو حق لا يشوبه باطل. قوله تعالى: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا " إلى آخر الاية. يقال: أورثه مالا كذا أي تركه فيهم يقومون بأمره بعده وقد كان هو القائم بأمره المتصرف فيه، وكذا إيراث العلم والجاه ونحوهما تركه عند الغير يقوم بأمره بعد ما كان عند غيره ينتفع به فايراث القوم الكتاب تركه عندهم يتناولونه خلفا عن سلف
وينتفعون به. وتصح هذه النسبة وإن كان القائم به بعض القوم دون كلهم، قال تعالى: " ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لاولي الالباب " المؤمن: 54، وقال " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم (؟) بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله " المائدة: 44، وقال: " وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب " الشورى: 14. فبنو إسرائيل أورثوا الكتاب وإن كان المؤدون حقه القائمون بأمره بعضهم لا جميعهم. والمراد بالكتاب في الاية على ما يعطيه السياق هو القرآن الكريم كيف ؟ وقوله في الاية السابقة: " والذي أوحينا إليك من الكتاب " نص فيه، فاللام في الكتاب
[ 45 ]
للعهد دون الجنس فلا يعبأ بقول من يقول: إن اللام للجنس والمراد بالكتاب مطلق الكتاب السماوي المنزل على الانبياء. والاصطفاء أخذ صفوة الشئ ويقرب من معنى الاختيار والفرق أن الاختيار أخذ الشئ من بين الاشياء بما أنه خيرها والاصطفاء أخذه من بينها بما أنه صفوتها وخالصها. وقوله: " من عبادنا " يحتمل أن يكون " من " للتبيين أو للابتداء أو للتبعيض الاقرب إلى الذهن أن يكون بيانية وقد قال تعالى: " وسلام على عباده الذين اصطفى " النمل: 59. واختلفوا في هؤلاء المصطفين من عباده من هم ؟ فقيل: هم الانبياء، وقيل: هم بنو إسرائيل الداخلون في قوله: " إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين " آل عمران: 33، وقيل: هم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد أورثوا القرآن من نبيهم إليه يرجعون وبه ينتفعون علماؤهم بلا واسطة وغيرهم بواسطتهم، وقيل: هم العلماء من الامة المحمدية.
وقيل: - وهو المأثور عن الصادقين عليهما السلام في روايات كثيرة مستفيضة - أن المراد بهم ذرية النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أولاد فاطمة عليها السلام وهم الداخلون في آل إبراهيم في قوله: " إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم " آل عمران: 33، وقد نص النبي صلى الله عليه وآله على علمهم بالقرآن وإصابة نظرهم فيه وملازمتهم إياه بقوله في الحديث المتواتر المتفق عليه: " إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ". وعلى هذا فالمعنى بعد ما أوحينا إليك القرآن - ثم للتراخي الرتبي - أورثنا ذريتك إياه وهم الذين اصطفينا من عبادنا إذا اصطفينا آل إبراهيم وإضافة العباد إلى نون العظمة للتشريف. وقوله: " فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات " يحتمل أن يكون ضمير " منهم " راجعا إلى " الذين اصطفينا " فيكون الطوائف الثلاث الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات شركاء في الوراثة وإن كان الوارث الحقيقي العالم بالكتاب والحافظ له هو السابق بالخيرات.
[ 46 ]
ويحتمل أن يكون راجعا إلى عبادنا - من غير إفادة الاضافة للتشريف - فيكون قوله: " فمنهم " مفيدا للتعليل والمعنى إنما أورثنا الكتاب بعض عبادنا وهم المصطفون لا جميع العباد لان من عبادنا من هو ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق ولا يصلح الكل للوراثة. ويمكن تأييد أول الاحتمالين بأن لا مانع من نسبة الوراثة إلى الكل مع قيام البعض بها حقيقة كما نجد نظيره في قوله تعالى: " وأورثنا بني إسرائيل الكتاب " المؤمن: 54 وما في الاية من المقابلة بين الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات يعطي أن المراد بالظالم لنفسه من عليه شئ من السيئات وهو مسلم من أهل القرآن لكونه مصطفى
ووارثا، والمراد بالمقتصد المتوسط الذي هو في قصد السبيل وسواء الطريق والمراد بالسابق بالخيرات بإذن الله من سبق الظالم والمقتصد إلى درجات القرب فهو أمام غيره بإذن الله بسبب فعل الخيرات قال تعالى: " والسابقون السابقون أولئك المقربون " الواقعة: 11. وقوله تعالى: " ذلك هو الفضل الكبير " أي ما تقدم من الايراث هو الفضل الكبير من الله لا دخل للكسب فيه. هذا ما يعطيه السياق وتفيده الاخبار من معنى الاية وفيها للقوم اختلاف عجيب فقد اختلف في " ثم " فقيل: هي للتراخي بحسب الاخبار، وقيل: للتراخي الرتبي، وقيل: للتراخي الزماني. ثم العطف على " أوحينا " أو على " الذي أوحينا ". واختلف في " أورثنا " فقيل: هو على ظاهره، وقيل: معناه حكمنا بإيراثه وقدرناه، واختلف في الكتاب فقيل: المراد به القرآن، وقيل: جنس الكتب السماوية، واختلف في " الذين اصطفينا " فقيل: المراد بهم الانبياء، وقيل: بنو إسرائيل، وقيل: أمة محمد، وقيل: العلماء منهم، وقيل: ذرية النبي من ولد فاطمة عليها السلام. واختلف في " من عبادنا " فقيل: من للتبعيض أو للابتداء أو للتبيين ويختلف المراد من العباد بحسب اختلاف معنى " من " وكذا إضافة " عبادنا " للتشريف على بعض الوجوه ولغيره على بعضها.
[ 47 ]
واختلف في " فمنهم " فقيل: مرجع الضمير " الذين " وقيل: " عبادنا " واختلف في الظالم لنفسه والمقتصد والسابق فقيل: الظالم من كان ظاهره خيرا من باطنه و المقتصد من استوى ظاهره وباطنه والسابق من كان باطنه خيرا من ظاهره، وقيل: السابق هم السابقون الماضون في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أصحابه والمقتصد من تبع أثرهم ولحق بهم من الصحابة والظالم لنفسه غيرهم، وقيل: الظالم من غلبت عليه السيئة والمقتصد
المتوسط حالا والسابق هو المقرب إلى الله السابق في الدرجات. وهناك أقوال متفرقة أخر تركنا إيرادها ولو ضربت الاحتمالات بعضها في بعض جاوز الالف. قوله تعالى: " جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤ ولباسهم فيها حرير " التحلية هي التزيين والاساور جمع أسورة وهي جمع سوار بكسر السين قال الراغب: سوار المرأة معرب وأصله دستواره. انتهى. وقوله: " جنات عدن " الخ. ظاهره أنه بيان للفضل الكبير قال في المجمع: هذا تفسير للفضل كأنه قيل: ما ذلك الفضل ؟ فقال: هي جنات أي جزاء جنات أو دخول جنات ويجوز أن يكون بدلا من الفضل كأنه قال: ذلك دخول جنات. انتهى. والباقي ظاهر. قوله تعالى: " وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور " قيل: المراد بالحزن الذي يحمدون الله على إذهابه بإدخالهم الجنة الحزن الذي كان يتوجه إليهم في الحياة الدنيا وما يحف بها من الشدائد والنوائب. وقيل: المراد به الحزن الذي كان قد أحاط بهم بعد الارتحال من الدنيا، وقيل الدخول في جنة الاخرة إشفاقا مما اكتسبوه من السيئات. وعلى هذا فالقول قول الظالم لنفسه منهم أو قوله وقول المقتصد وأما السابق بالخيرات منهم فلا سيئة في صحيفة أعماله حتى يعذب بها. وهذا الوجه أنسب لقولهم في آخر حمدهم: " إن ربنا لغفور شكور ". قوله تعالى: " الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب " المقامة الاقامة، ودار المقامة المنزل الذي لا خروج منه ولا تحول.
[ 48 ]
والنصب بفتحتين التعب والمشقة، واللغوب بضم اللام: العي والتعب في طلب
المعاش وغيره. والمعنى: الذي جعلنا حالين في دار الخلود من فضله من غير استحقاق منا عليه لا يمسنا في هذه الدار وهي الجنة مشقة وتعب ولا يمسنا فيها عي ولا كلال في طلب ما نريد أي إن لنا فيها ما نشاء. وفي قوله: " من فضله " مناسبة خاصة مع قوله السابق: " ذلك هو الفضل الكبير ". قوله تعالى: " والذين كفروا لهم نار جهنم " إلى آخر الاية اللام في " لهم " للاختصاص ويفيد كون النار جزاء لهم لا ينفك عنهم، وقوله: " لا يقضى عليهم فيموتوا " أي لا يحكم عليهم بالموت حتى يموتوا فهم أحياء على ما هم فيه من شدة العذاب ولا يخفف عنهم من عذاب النار كذلك نجزي كل كفور شديد الكفران أو كثيره. قوله تعالى: " وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا " إلى آخر الاية في المجمع: الاصطراخ الصياح والنداء بالاستغاثة افتعال من الصراخ انتهى. وقوله: " ربنا أخرجنا " الخ. بيان لاصطراخهم، وقوله: " أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر " الخ. جواب اصطراخهم وقوله: " فذوقوا " وقوله: " فما للظالمين من نصير " كل منهما متفرع على ما قبله. والمعنى، وهؤلاء الذين في النار من الكفار يصطرخون ويصيحون بالاستغاثة فيها قائلين: ربنا أخرجنا من النار نعمل صالحا غير سيئ غير الذي كنا نعمل فيقال لهم ردا عليهم: - كلا - أو لم نعمركم عمرا يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فأنذركم هذا العذاب فلم تتذكروا ولم تؤمنوا ؟ فذوقوا العذاب فما للظالمين من نصير ينصرهم ليتخلصوا من العذاب. قوله تعالى: " إن الله عالم غيب السماوات والارض إنه عليم بذات الصدور " فيعاملكم بما في باطنكم من الاعتقاد وآثار الاعمال ويحاسبكم عليه سواء وافق ظاهركم باطنكم أو خالف قال تعالى: " إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله "
البقرة: 284، وقال: " يوم تبلى السرائر " الطارق: 9.
[ 49 ]
(بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " الاية روي عن الصادق عليه السلام أنه قال: يعني بالعلماء من صدق قوله فعله، ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم. وفي الحديث أعلمكم بالله أخوفكم لله. أقول: وفي روضة الكافي بإسناده عن أبي حمزة عن علي بن الحسين عليه السلام ما في معناه. وفي الدر المنثور أخرج أبن أبي شيبة والترمذي والحاكم عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: العلم علمان: علم في القلب فذاك العلم النافع، وعلم على اللسان فذاك حجة الله على خلقه. وفي المجمع روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في قوله: " ويزيدهم من فضله ": هو الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليه معروفا في الدنيا. وفي الكافي بإسناده عن أحمد بن عمر قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن قول الله عز وجل: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا " الاية قال: فقال: ولد فاطمة عليها السلام، والسابق بالخيرات الامام والمقتصد العارف بالامام والظالم لنفسه الذي لا يعرف الامام. وعن كتاب سعد السعود لابن طاوس في حديث لابي إسحاق السبيعي عن الباقر عليه السلام في الاية قال: هي لنا خاصة يا أبا إسحاق أما السابق بالخيرات فعلي بن أبي طالب والحسن والحسين والشهيد منا، وأما المقتصد فصائم بالنهار وقائم بالليل، وأما الظالم لنفسه ففيه ما في الناس وهو مغفور له. اقول: المراد بالشهيد بقرينة الروايات الاخر الامام.
وفي معاني الاخبار مسندا عن الصادق عليه السلام في الاية قال: الظالم يحوم حوم نفسه والمقتصد يحوم حوم قلبه والسابق بالخيرات يحوم حوم ربه.
[ 50 ]
أقول: الحوم والحومان الدوران، ودوران الظالم لنفسه حوم نفسه اتباعه أهواءها وسعيه في تحصيل ما يرضيها، ودوران المقتصد حوم قلبه اشتغاله بما يزكى قلبه ويطهره بالزهد والتعبد، ودوران السابق بالخيرات حوم ربه إخلاصه له تعالى فيذكره وينسى غيره فلا يرجو إلا إياه ولا يقصد إلا إياه. واعلم ان الروايات من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في كون الاية خاصة بولد فاطمة عليها السلام كثيرة جدا. وفي الدر المنثور أخرج الفاريابي وأحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن أبي الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله " فأما الذين سبقوا فاولئك يدخلون الجنة بغير حساب، وأما الذين اقتصدوا فاولئك الذين يحاسبون حسابا يسيرا، وأما الذين ظلموا أنفسهم فاولئك يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين يلقاهم الله برحمة فهم الذين يقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب. أقول: ورواه في المجمع عن أبي الدرداء عنه صلى الله عليه وآله وسلم وفي معناه أحاديث أخر، وهناك ما يخالفها ولا يعبأ به كما فيه عن ابن مردويه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: " ومنهم ظالم لنفسه " قال: الكافر. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب " قال: النصب العناء واللغوب الكسل والضجر.
وفي نهج البلاغة، وقال: العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة. أقول: ورواه عنه عليه السلام في المجمع ورواه في الدر المنثور عن ابن جرير عنه عليه السلام. وفي الدر المنثور أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الاصول والبيهقي في سننه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان يوم القيامة قيل: أين أبناء الستين وهو المعمر
[ 51 ]
الذي قال الله: " أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ". أقول: وروى ذلك بطرق أخرى عن سهل بن سعد وأبي هريرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وفي المجمع: وقيل: هو توبيخ لابن ثماني عشر سنة وروي ذلك عن الباقر عليه السلام. أقول: ورواه في الفقيه عنه عليه السلام مضمرا. * * * هو الذي جعلكم خلائف في الارض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا - 39. قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الارض أم لهم شرك في السموات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا - 40. إن الله يمسك السموات والارض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا - 41. وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الامم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا - 42. إستكبارا في الارض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ
إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الاولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا - 43. أو لم يسيروا في الارض فينظروا
[ 52 ]
كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شئ في السموات ولا في الارض إنه كان عليما قديرا - 44. ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا - 45. (بيان) احتجاج على توحيد الربوبية كقوله: " هو الذي جعلكم خلائف في الارض " الاية، وقوله: " إن الله يمسك السماوات والارض أن تزولا " الاية، وعلى نفي ربوبية شركائهم " قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله " الاية وتوبيخ وتهديد لهم على نقضهم ما أبرموه باليمين ومكرهم السيئ. ثم تسجيل أن الله لا يعجزه شئ وإنما يمهل من أمهله من هؤلاء الظالمين إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم جازاهم ما يستحقونه وبذلك تختتم السورة. قوله تعالى: " هو الذي جعلكم خلائف في الارض " الخ. الخلائف جمع خليفة، وكون الناس خلائف في الارض هو قيام كل لاحق منهم مقام سابقه وسلطته على التصرف والانتفاع منها كما كان السابق مسلطا عليه، وهم إنما نالوا هذه الخلافة من جهة نوع الخلقة وهو الخلقة من طريق النسل والولادة فإن هذا النوع من الخلقة يقسم المخلوق إلى سلف وخلف. فجعل الخلافة الارضية نوع من التدبير مشوب بالخلق غير منفك عنه ولذلك استدل به على توحده تعالى في ربوبيته لانه مختص به تعالى لا مجال لدعواه لغيره.
فقوله: " هو الذي جعلكم خلائف في الارض " حجة على توحده تعالى في ربوبيته
[ 53 ]
وانتفائها عن شركائهم: تقريره أن الذي جعل الخلافة الارضية في العالم الانساني هو ربهم المدبر لامرهم، وجعل الخلافة لا ينفك عن نوع الخلقة فخالق الانسان هو رب الانسان لكن الخالق هو الله سبحانه حتى عند الخصم فالله هو رب الانسان. وقوله: " فمن كفر فعليه كفره " أي فالله سبحانه هو رب الانسان فمن كفر وستر هذه الحقيقة ونسب الربوبية إلى غيره تعالى فعلى ضرره كفره. وقوله: " ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا " بيان لكون كفرهم عليهم وهو أن كفرهم يورث لهم مقتا عند ربهم والمقت شدة البغض لان فيه إعراضا عن عبوديته واستهانة بساحته، ويورث لهم خسارا في أنفسهم لانهم بدلوا السعادة الانسانية شقاء ووبالا سيصيبهم في مسيرهم ومنقلبهم إلى دار الجزاء. وإنما عبر عن أثر الكفر بالزيادة لان الفطرة الانسانية بسيطة ساذجة واقعة في معرض الاستكمال والازدياد فإن أسلم الانسان زاده ذلك كمالا وقربا من الله وإن كفر زاده ذلك مقتا عند الله وخسارا. وإنما قيد المقت بقوله: " عند ربهم " دون الخسار لان الخسار من تبعات تبديل الايمان كفرا والسعادة شقاء وهو أمر عند أنفسهم وأما المقت وشدة البغض فمن عند الله سبحانه. والحب والبغض المنسوبان إلى الله سبحانه من صفات الافعال وهي معان خارجة عن الذات غير قائمة بها، ومعنى حبه تعالى لاحد انبساط رحمته عليه وانجذابها إليه وبغضه تعالى لاحد انقباض رحمته منه وابتعادها عنه. قوله تعالى: " قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله " إلى آخر الاية
إضافة الشركاء إليهم بعناية أنهم يدعون أنهم شركاء لله فهي إضافة لامية مجازية. وفي الاية تلقين النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجة على نفي ربوبية آلهتهم الذين كانوا يعبدونهم وتقرير الحجة أنهم لو كانوا أربابا آلهة من دون الله لكان لهم شئ من تدبير العالم فكانوا خالقين لما يدبرونه لان الخلق والتدبير لا ينفك أحدهما عن الاخر ولو كانوا خالقين لدل
[ 54 ]
عليه دليل والدليل إما من العالم أو من قبل الله سبحانه أما العالم فلا شئ منه يدل على كونه مخلوقا لهم ولو بنحو الشركة وهو قوله: " أروني ماذا خلقوا من الارض أم لهم شرك في السماوات ". وأما من قبله تعالى فلو كان لكان كتابا سماويا نازلا من عنده سبحانه يعترف بربوبيتهم ويجوز للناس أن يعبدوهم ويتخذوهم آلهة، ولم ينزل كتاب على هذه الصفة وهم معترفون بذلك وهو قوله: " أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه ". وإنما عبر عن نفي خالقيتهم في الارض بقوله: " أروني ماذا خلقوا من الارض " ولم يقل: أنبئوني ألهم شرك في الارض ؟ وعبر في السماوات بقوله: " أم لهم شرك في السماوات " ولم يقل: أم ماذا خلقوا من السماوات. لان المراد بالارض - على ما يدل عليه سياق الاحتجاج - العالم الارضي وهو الارض بما فيها وما عليها والمراد بالسماوات العالم السماوي المشتمل على السماوات وما فيها وما عليها فقوله: " ماذا خلقوا من الارض " في معنى ألهم شرك في الارض ولا يكون إلا بخلق شئ منها، وقوله: " أم لهم شرك في السماوات " في معنى أم ماذا خلقوا من السماوات، وقد اكتفي بذكر الخلق في جانب الارض إشارة إلى أن الشرك في الربوبية لا يكون إلا بخلق. وقوله: " أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه " أي بل آتيناهم كتابا فهم على بينة منه أي على حجة ظاهرة من الكتاب أن لشركائهم شركة معناء وذلك بدلالته على
أنهم شركاء لله. وقد قال: " أم آتيناهم كتابا " ولم يقل: أم لهم كتاب ونحو ذلك ليتأكد النفي والانكار فإن قولنا: أم لهم كتاب ونحو ذلك إنكار لوجود الكتاب لكن قوله: " أم آتيناهم كتابا " إنكار لوجود الكتاب ممن ينزل الكتاب لو نزل. وقد تبين بما تقدم أن ضمير الجمع في " آتيناهم " وفي " فهم على بينة " للمشركين فلا يعبأ بما قيل: إن الضميرين للشركاء. وقوله: " بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا " إضراب عما تقدم من الاحتجاج بأن الذي حملهم على الشرك ليس هو حجة تحملهم عليه ويعتمدون عليها بل
[ 55 ]
غرور بعضهم بعضا بوعد الشفاعة والزلفى فأسلافهم يغرون أخلافهم ورؤساؤهم وأئمتهم يغرون مرؤسيهم وتابعيهم ويعدونهم شفاعة الشركاء عند الله سبحانه ولا حقيقة لها. وحجة الاية عامة على المشركين عبدة الاصنام وهم الذين يعبدون الملائكة والجن وقديسي البشر ويتخذون لهم أصناما يتوجهون إليها، وعلى الذين يعبدون روحانيي الكواكب ويتوجهون إلى الكواكب ثم يتخذون للكواكب أصناما، وعلى الذين يعبدون الملائكة والعناصر من غير أن يتخذوا لها أصناما كما ينقل عن الفرس القدماء، وعلى الذين يعبدون بعض البشر كالنصارى للمسيح عليه السلام. قوله تعالى: " إن الله يمسك السماوات والارض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده " الخ. قيل: إن الاية استئناف مقرر لغاية قبح الشرك وهوله أي أن الله تعالى يحفظ السماوات والارض كراهة أن تزولا أو لئلا تزولا وتضمحلا لان الممكن كما يحتاج إلى الواجب حال إيجاده يحتاج إليه حال بقائه. انتهى. والظاهر أنه تعالى لما استدل على توحده في الربوبية يجعل الخلافة في النوع الانساني بقوله: " هو الذي جعلكم خلائف في الارض " الاية ثم نفى الشركة مطلقا بالحجة عمم
الحجة بحيث تشمل الخلق كله أعني السماوات والارض فاحتج على توحده بإبقاء الخلق بعد إحداثه فإن من البين الذي لا يرتاب فيه أن حدوث الشئ وأصل تلبسه بالوجود بعد العدم غير بقائه وتلبسه بالوجود بعد الوجود على نحو الاستمرار فبقاء الشئ بعد حدوثه يحتاج إلى إيجاد بعد إيجاد على نحو الاتصال والاستمرار. وإبقاء الشئ بعد إحداثه كما أنه إيجاد بعد الايجاد كذلك هو تدبير لامره فإنك إن دققت النظر وجدت أن النظام الجاري في الكون إنما يجري بالاحداث والابقاء فقط. والموجد والخالق هو الله سبحانه حتى عند الخصم فالله سبحانه هو الخالق المدبر للسماوات والارض وحده لا شريك له. فقوله: " إن الله يمسك السماوات والارض أن تزولا " الامساك بمعناه المعروف وقوله: " أن تزولا " - وتقديره كراهة أن تزولا أو لئلا تزولا - متعلق به، وقيل: الامساك بمعنى المنع أو بمعنى الحفظ وعلى أي حال فالامساك كناية عن الابقاء وهو الايجاد بعد الايجاد على سبيل الاتصال والاستمرار، والزوال هو الاضمحلال والبطلان.
[ 56 ]
ونقل عن بعضهم أنه فسر الزوال بالانتقال المكاني، والمعنى أن الله يمنع السماوات والارض من أن ينتقل شئ منهما عن مكانه الذي استقر فيه فيرتفع أو ينخفض انتهى والشأن في تصور مراده تصورا صحيحا. وقوله: " ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده " السياق يعطي أن المراد بالزوال ههنا الاشراف على الزوال إذ نفس الزوال لا يجتمع معه الامساك والمعنى وأقسم لئن أشرفتا على الزوال لم يمسكهما أحد من بعد الله سبحانه إذ لا مفيض للوجود غيره ويمكن أن يكون المراد بالزوال معناه الحقيقي والمراد بالامساك القدرة على الامساك وقد تبين أن " من " الاولى زائدة للتأكيد والثانية للابتداء، وضمير " من بعده " راجع إليه تعالى، وقيل: راجع إلى الزوال.
وقوله: " إنه كان حليما غفورا " فهو لحلمه لا يعجل إلى أمر ولمغفرة يستر جهات العدم في الاشياء، ومقتضى الاسمين أن يمسك السموات والارض أن تزولا إلى أجل مسمى. وقال في إرشاد العقل السليم: إنه كان حليما غفورا غير معاجل بالعقوبة التي تستوجبها جناياتهم حيث أمسكهما وكانتا جديرتين بأن تهدا هدا حسبما قال تعالى: " تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الارض " انتهى. قوله تعالى: " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الامم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا " قال الراغب: الجهد - بفتح الجيم - والجهد - بضمها - الطاقة والمشقة - إلى أن قال - وقال تعالى: " وأقسموا بالله جهد أيمانهم " أي حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم. انتهى. وقال: النفر الانزعاج عن الشئ وإلى الشئ كالفزع إلى الشئ وعن الشئ يقال: نفر عن الشئ نفورا قال تعالى: " ما زادهم إلا نفورا ". انتهى. قيل (1): بلغ قريشا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم فو الله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الامم انتهى، وسياق الاية يصدق هذا النقل ويؤيده. (1)
رواه في الدر المنثور عن أبي هلال وعن ابن جريح. (*)
[ 57 ]
فقوله: " وأقسموا بالله جهدا أيمانهم " الضمير لقريش وقد حلفوا هذا الحلف قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدليل قوله بعد: " فلما جاءهم نذير "، والمقسم به قوله: " لئن جاءهم نذير " الخ. وقوله: " لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الامم " أي إحدى الامم التي جاءهم نذير كاليهود والنصارى وإنما قال: " ليكونن أهدى من إحدى الامم " ولم
يقل: أهدى منهم لان المعنى أنهم كانوا أمة ما جاءهم نذير ثم لو جاءهم نذير كانوا أمة ذات نذير كإحدى تلك الامم المنذرة ثم بتصديق النذير يصيرون أهدى من التي ماثلوها وهو قوله: " أهدى من إحدى الامم " فافهمه. وقيل: إن مقتضى المقام العموم، وقوله: " إحدى الامم " عام وإن كان نكرة في سياق الاثبات واللام في " الامم " للعهد، والمعنى ليكونن أهدى من كل واحدة من تلك الامم التي كذبوا رسلهم من اليهود والنصارى وغيرهم. وقيل: المعنى ليكونن أهدى من أمة يقال فيها: إحدى الامم تفضيلا لها على غيرها من الامم كما يقال: هو واحد القوم وواحد عصره. انتهى. ولا يخلو الوجه الاخير عن تكلف وبعد. وقوله: " فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا " المراد بالنذير النبي صلى الله عليه وآله وسلم والنفور التباعد والهرب. قوله تعالى: " استكبارا في الارض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " قال الراغب: المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة، وذلك ضربان: مكر محمود وذلك أن يتحرى بذلك فعل جميل وعلى ذلك قال تعالى: " والله خير الماكرين " ومذموم وهو أن يتحرى به فعل قبيح قال تعالى: " لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " انتهى. وقال أيضا: قال عز وجل: " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " أي لا ينزل ولا يصيب. قيل: وأصله حق فقلب نحو زل وزال وقد قرئ فأزلهما الشيطان وأزالهما وعلى هذا ذمه وذامه. انتهى. وقوله: " استكبارا في الارض " مفعول لاجله لقوله: " نفورا " أي نفروا عنه
[ 58 ]
وتباعدوا للاستكبار في الارض وقوله: " ومكر السيئ " معطوف على " استكبارا " ومفعول لاجله مثله، وقيل: معطوف على " نفورا " والاضافة فيه من إضافة الموصوف
إلى الصفة بدليل قوله ثانيا: " ولا يحيق المكر السيئ " الخ. وقوله: " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " أي لا يصيب ولا ينزل المكر السيئ إلا بأهله ولا يستقر إلا فيه، فان المكر السيئ وإن كان ربما أصاب به مكروه للممكور به، لكنه سيزول ولا يدوم إلا أن أثره السيئ بما أنه المكر سيئ يبقى في نفس الماكر وسيظهر فيه ويجزى به إما في الدنيا وإما في الاخرة البتة، ولهذا فسر الاية في مجمع البيان بقوله: والمعنى لا ينزل جزاء المكر السيئ إلا بمن فعله. والكلام مرسل إرسال المثل كقوله تعالى: " إنما بغيكم على أنفسكم " يونس: 23 " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه " الفتح: 10. وقوله: " فهل ينظرون إلا سنة الاولين " النظر والانتظار بمعنى التوقع والفاء للتفريع والجملة استنتاج مما تقدمها و الاستفهام للانكار والمعنى وإذ مكروا المكر السيئ والمكر السيئ يحيق بأهله فهم لا ينتظرون إلا السنة الجارية في الامم الماضين وهي العذاب الالهي النازل بهم إثر مكرهم وتكذيبهم بآيات الله. وقوله: " فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا " تبديل السنة أن توضع العافية والنعمة موضع العذاب، وتحويلها أن ينقل العذاب من قوم يستحقونه إلى غيرهم، وسنة الله لا تقبل تبديلا ولا تحويلا لانه تعالى على صراط مستقيم لا يقبل حكمه تبعيضا ولا استثناء. وقد أخذ الله بالعذاب هؤلا المشركين الماكرين يوم بدر فقتل عامتهم. والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل سامع. قوله تعالى: " أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة " استشهاد على سنته الجارية في الامم الماضية وقد كانوا أشد قوة من مشركي مكة فأخذهم الله بالعذاب لما مكروا وكذبوا. قوله تعالى: " وما كان الله ليعجزه من شئ في السماوات والارض إنه كان عليما
[ 59 ]
قديرا " تتميم لسابق البيان لمزيد إنذارهم وتخويفهم، والمحصل ليتقوا الله وليؤمنوا به ولا يمكروا به ولا يكذبوا فإن سنة الله في ذلك هي العذاب كما يشهد به ما جرى في الامم السابقة من الاهلاك والتعذيب وقد كانوا أشد قوة منهم والله سبحانه لا يعجزه شئ في السماوات والارض بقوة أو مكر فإنه عليم على الاطلاق لا يغفل ولا يجهل حتى ينخدع بمكر أو حيلة قدير على الاطلاق لا يقاومه شئ. قوله تعالى: " ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة " الخ. المراد بالمؤاخذة المؤاخذة الدنيوية كما يدل عليه قوله الاتي: " ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى " الخ. والمراد بالناس جميعهم فإن الاية مسبوقة بذكر مؤاخذة بعضهم وهم الماكرون المكذبون بآيات الله، والمراد بما كسبوا المعاصي التي اكتسبوها بقرينة المؤاخذة التي هو العذاب وقد قال في نظيرة الاية من سورة النحل: " ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة " النحل: 61. والمراد بظهرها ظهر الارض لان الناس يعيشون عليه على أن الارض تقدم ذكرها في الاية السابقة. والمراد بالدابة كل ما يدب في الارض من إنسان ذكر أو أنثى أو كبير أو صغير واحتمل أن يكون المراد كل ما يدب في الارض من حيوان وإهلاك غير الانسان من أنواع الحيوان إنما هو لكونها مخلوقة للانسان كما قال تعالى: " خلق لكم ما في الارض جميعا " البقرة: 29. وقول بعضهم: ذلك لشؤم المعاصي وقد قال تعالى: " واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة " مدفوع بأن شؤم المعصية لا يتعدى العاصي إلى غيره وقد قال تعالى: " ولا تزر وازرة وزر أخرى " فاطر: 18، وأما الاية أعني قوله: " واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة " الانفال: 25 فمدلولها على ما تقدم من تفسيرها اختصاص
الفتنة بالذين ظلموا منهم خاصة لا عمومها لهم ولغيرهم فراجع. وقوله: " ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى " وهو الموت أو القيامة وقوله: " فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا " أي فيجازي كلا بما عمل فإنه بصير بهم عليم بأعمالهم لانهم عباده وكيف يمكن أن يجهل الخالق خلقه والرب عمل عبده ؟
[ 60 ]
وقد بان بما تقدم أن قوله: " فإن الله كان بعباده بصيرا " من وضع السبب موضع المسبب الذي هو الجزاء. والاية أعني قوله تعالى: " ولو يؤاخذ الله الناس " الخ. واقعة موقع الجواب عن سؤال مقدر ناش عن الاية السابقة فإنه تعالى لما أنذر أهل والمكر والتكذيب من المشركين بالمؤاخذة واستشهد بما جرى في الامم السابقة وذكر أنه لا يعجزه شئ في السماوات والارض كأنه قيل: فإذا لم يعجزه شئ في السماوات والارض فكيف يترك سائر الناس على ما هم عليه من المعاصي ؟ وماذا يمنعه أن يؤاخذهم بما كسبوا ؟ فأجاب أنه لو يؤاخذ جميع الناس بما كسبوا من المعاصي كما يؤاخذ هؤلاء الماكرين المكذبين ما ترك على ظهر الارض أحدا منهم يدب ويتحرك، وقد قضى سبحانه أن يعيشوا في الارض ويعمروها إذ قال: " ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين " البقرة: 36 فلا يؤاخذهم ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى وهو الموت أو البعث فإذا جاء أجلهم عاملهم بما عملوا إنه كان بعباده بصيرا. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم من طريق سفيان عن أبي زكريا الكوفي عن رجل حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والمكر السيئ فإنه لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ولهم من الله طالب. وفي تفسير القمي حدثني أبي عن النوفلي عن السكوني عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سبق العلم، وجف القلم، ومضى القضاء وتم القدر
بتحقيق الكتاب، وتصديق الرسل، وبالسعادة من الله لمن آمن واتقى وبالشقاء لمن كذب وكفر، وبالولاية من الله عز وجل للمؤمنين، وبالبراءة منه للمشركين. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله عز وجل يقول: يابن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد، وبفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي، وبقوتي وعصمتي وعافيتي أديت إلي فرائضي وأنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بذنبك مني، الخير مني إليك واصل بما أو ليتك به، والشر منك إليك بما جنيت جزاء،
[ 61 ]
وبكثير من تسلطي لك انطويت على طاعتي، وبسوء ظنك بي قنطت من رحمتي. فلي الحمد والحجة عليك بالبيان، ولي السبيل عليك بالعصيان، ولك الجزاء الحسن عندي بالاحسان، لم أدع تحذيرك، ولم آخذك عند غرتك وهو قوله عز وجل: " ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة "، لم أكلفك فوق طاقتك، ولم أحملك من الامانة إلا ما أقررت بها على نفسك، ورضيت لنفسي منك بما رضيت به لنفسك مني ثم قال عز وجل: " ولكن يوخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا ". سورة يس مكية وهى ثلاث وثمانون آية بسم الله الرحمن الرحيم يس - 1. والقرآن الحكيم - 2. إنك لمن المرسلين - 3. على صراط مستقيم - 4. تنزيل العزيز الرحيم - 5. لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون - 6. لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون - 7. إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الاذقان فهم مقمحون - 8. وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون - 9. وسواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون - 10. إنما
تنذر من أتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم - 11. إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شئ أحصيناه في إمام مبين - 12.
[ 62 ]
(بيان) غرض السورة بيان الاصول الثلاثة للدين فهي تبتدئ بالنبوة وتصف حال الناس في قبول الدعوة وردها وأن غاية الدعوة الحقة إحياء قوم بركوبهم صراط السعادة وتحقيق القول على آخرين وبعبارة أخرى تكميل الناس في طريقي السعادة والشقاء. ثم تنتقل السورة إلى التوحيد فتعد جملة من آيات الوحدانية ثم تنتقل إلى ذكر المعاد فتذكر بعث الناس للجزاء وامتياز المجرمين يومئذ من المتقين وتصف ما تؤل إليه حال كل من الفريقين. ثم ترجع إلى ما بدأت فتلخص القول في الاصول الثلاثة وتستدل عليها وعند ذلك تختتم السورة. ومن غرر الايات فيها قوله تعالى: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ وإليه ترجعون " فالسورة عظيمة الشأن تجمع أصول الحقائق وأعراقها وقد ورد من طرق العامة والخاصة أن لكل شئ قلبا وقلب القرآن يس (1). والسورة مكية بشهادة سياق آياتها. قوله تعالى: " يس والقرآن الحكيم - إلى قوله - فهم غافلون " إقسام منه تعالى بالقرآن الحكيم على كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المرسلين، وقد وصف القرآن بالحكيم لكونه مستقرا فيه الحكمة وهي حقائق المعارف وما يتفرع عليها من الشرائع والعبر والمواعظ. وقوله: " إنك لمن المرسلين " مقسم عليه كما تقدم.
وقوله: " على صراط مستقيم " خبر بعد خبر لقوله: " إنك "، وتنكير الصراط - كما قيل - للدلالة على التفخيم وتوصيفه بالمستقيم للتوضيح فإن الصراط هو الطريق (1)
رواه الصدوق في ثواب الاعمال عن ابي عبد الله عليه السلام والسيوطي في الدر المنثور عن أنس وأبي هريرة ومعقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وآله.
[ 63 ]
الواضح المستقيم، والمراد به الطريق الذي يوصل عابريه إلى الله تعالى أي إلى السعادة الانسانية التي فيها كمال العبودية لله والقرب، وقد تقدم في تفسير الفاتحة بعض ما ينفع في هذا المقام من الكلام. وقوله: " تنزيل العزيز الرحيم " وصف للقرآن مقطوع عن الوصفية منصوب على المدح، والمصدر بمعنى المفعول ومحصل المعنى أعني بالقرآن ذاك المنزل الذي أنزله الله العزيز الرحيم الذي استقر فيه العزة والرحمة. والتذييل بالوصفين للاشارة إلى أنه قاهر غير مقهور وغالب غير مغلوب فلا يعجزه إعراض المعرضين عن عبوديته ولا يستذله جحود الجاحدين وتكذيب المكذبين، وأنه ذو رحمة واسعة لمن يتبع الذكر ويخشاه بالغيب لا لينتفع بإيمانهم بل ليهديهم إلى ما فيه سعادتهم وكمالهم فهو بعزته ورحمته أرسل الرسول وأنزل عليه القرآن الحكيم لينذر الناس فيحق كلمة العذاب على بعضهم ويشمل الرحمة منهم آخرين. وقوله: " لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون " تعليل للارسال والتنزيل و " ما " نافية والجملة صفة لقوله: " قوما " والمعنى إنما أرسلك وأنزل عليك القرآن لتنذر وتخوف قوما لم ينذر آباءهم فهم غافلون. والمراد بالقوم إن كان هو قريش ومن يلحق بهم فالمراد بآبائهم آباؤهم الادنون فإن الابعدين من آبائهم كان فيهم النبي إسماعيل ذبيح الله، وقد أرسل إلى العرب رسل آخرون كهود وصالح وشعيب عليهم السلام، وإن كان المراد جميع الناس المعاصرين
نظرا إلى عموم الرسالة فكذلك أيضا فآخر رسول معروف بالرسالة قبله صلى الله عليه وآله وسلم هو عيسى عليه السلام وبينهما زمان الفترة. واعلم أن ما ذكرناه في تركيب الايات هو الذي يسبق منها إلى الفهم وقد أوردوا في ذلك وجوها أخر بعيدة عن الفهم تركناها من أرادها فليراجع المطولات. قوله تعالى: " لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون " اللام للقسم أي أقسم لقد ثبت ووجب القول على أكثرهم، والمراد بثبوت القول عليهم صيرورتهم مصاديق يصدق عليهم القول. والمراد بالقول الذي حق عليهم كلمة العذاب التي تكلم بها الله سبحانه في بدء
[ 64 ]
الخلقة مخاطبا بها إبليس: " الحق والحق أقول لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين " ص: 85 والمراد بتبعية إبليس طاعته فيما يأمر به بالوسوسة والتسويل بحيث تثبت الغواية وترسخ في النفس كما يشير إليه قوله تعالى خطابا لابليس: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين " الحجر: 43. ولازمه الطغيان والاستكبار على الحق كما يشير إليه ما يحكيه الله من تساؤل المتبوعين والتابعين في النار: " بل كنتم قوما طاغين فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون فأغويناكم إنا كنا غاوين " الصافات: 32، وقوله: " ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين " الزمر: 72. ولازمه الانكباب على الدنيا والاعراض عن الاخرة بالمرة ورسوخ ذلك في نفوسهم قال تعالى: " ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الاخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين اولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون " النحل: 108 فيطبع الله على قلوبهم ومن آثاره أن لا سبيل لهم إلى الايمان قال تعالى: " إن الذين حقت عليهم
كلمة ربك لا يؤمنون " يونس: 96. وبما تقدم ظهر أن الفاء في قوله: " فهم لا يؤمنون " للتفريع لا للتعليل كما احتمله بعضهم. قوله تعالى: " إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الاذقان فهم مقمحون " الاعناق جمع عنق بضمتين وهو الجيد، والاغلال جمع غل بالكسر وهي على ما قيل ما تشد به اليد إلى العنق للتعذيب والتشديد، ومقمحون اسم مفعول من الاقماح وهو رفع الرأس كأنهم قد ملات الاغلال ما بين صدورهم إلى أذقانهم فبقيت رؤوسهم مرفوعة إلى السماء لا يتأتى لهم أن ينكسوها فينظروا إلى ما بين أيديهم من الطريق فيعرفوها ويميزوها من غيرها. وتنكير قوله: " أغلالا " للتفخيم والتهويل. والاية في مقام التعليل لقوله السابق: " فهم لا يؤمنون ".
[ 65 ]
قوله تعالى: " وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون " السد الحاجز بين الشيئين، وقوله: " من بين أيديهم ومن خلفهم " كناية عن جميع الجهات، والغشي والغشيان التغطية يقال: غشيه كذا أي غطاه و أغشى الامر فلانا أي جعل الامر يغطيه، والاية متممة للتعليل السابق وقوله: " جعلنا " معطوف على " جعلنا " المتقدم. وعن الرازي في تفسيره في معنى التشبيه في الايتين أن المانع عن النظر في الايات قسمان: قسم يمنع عن النظر في الانفس فشبه ذلك بالغل الذي يجعل صاحبه مقمحا لا يرى نفسه ولا يقع بصره على بدنه، وقسم يمنع عن النظر في الافاق فشبه ذلك بالسد المحيط فإن المحاط بالسد لا يقع نظره على الافاق فلا يظهر له ما فيها من الايات فمن ابتلى بهما حرم عن النظر بالكلية.
ومعنى الايتين أنهم لا يؤمنون لانا جعلنا في أعناقهم أغلالا نشد بها أيديهم على أعناقهم فهي إلى الاذقان فهم مرفوعة رؤسهم باقون على تلك الحال وجعلنا من جميع جهاتهم سدا فجعلناه يغطيهم فهم لا يبصرون فلا يهتدون. ففي الايتين تمثيل لحالهم في حرمانهم من الاهتداء إلى الايمان وتحريمه تعالى عليهم ذلك جزاء لكفرهم وغوايتهم وطغيانهم في ذلك. وقد تقدم في قوله تعالى: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا " البقرة: 26 في الجزء الاول من الكتاب أن ما وقع في القرآن من هذه الاوصاف ونظائرها التى وصف بها المؤمنون والكفار يكشف عن حياة أخرى للانسان في باطن هذه الحياة الدنيوية مستورة عن الحس المادي ستظهر له إذا انكشفت الحقائق بالموت أو البعث، وعليه فالكلام في أمثال هذه الايات جار في مجرى الحقيقة دون المجاز كما عليه القوم. قوله تعالى: " وسواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " عطف تفسير وتقرير لما تتضمنه الايات الثلاث المتقدمة وتلخيص للمراد وتمهيد لما يتلوه من قوله: " إنما تنذر من اتبع الذكر " الاية. واحتمل أن يكون عطفا على قوله: " لا يبصرون " والمعنى فهم لا يبصرون
[ 66 ]
ويستوي عليهم إنذارك وعدم إنذارك لا يؤمنون والوجه الاول أقرب إلى الفهم. قوله تعالى: " إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم " القصر للافراد، والمراد بالانذار الانذار النافع الذي له أثر، وبالذكر القرآن الكريم، وباتباعه تصديقه والميل إليه إذا تليت آياته، والتعبير بالماضي للاشارة إلى تحقق الوقوع، والمراد بخشية الرحمن بالغيب خشيته تعالى من وراء الحجاب وقبل انكشاف الحقيقة بالموت أو البعث، وقيل: أي حال غيبته من الناس بخلاف المنافق وهو بعيد.
وقد علقت الخشية على اسم الرحمن الدال على صفة الرحمة الجالبة للرجاء للاشعار بأن خشيتهم خوف مشوب برجاء وهو الذي يقر العبد في مقام العبودية فلا يأمن ولا يقنط. وتنكير " مغفرة " و " أجر كريم " للتفخيم أي فبشره بمغفرة عظيمة من الله وأجر كريم لا يقادر قدره وهو الجنة، والدليل على جميع ما تقدم هو السياق. والمعنى: إنما تنذر الانذار النافع الذي له أثر، من اتبع القرآن إذا تليت عليه آياته وما إليه وخشي الرحمن خشية مشوبة بالرجاء فبشره بمغفرة عظيمة وأجر كريم لا يقادر قدره. قوله تعالى: " إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شئ أحصيناه في إمام مبين " المراد بإحياء الموتى إحياؤهم للجزاء. والمراد بما قدموا الاعمال التي عملوها قبل الوفاة فقدموها على موتهم، والمراد بآثارهم ما تركوها لما بعد موتهم من خير يعمل به كتعليم علم ينتفع به أو بناء مسجد يصلى فيه أو ميضاة يتوضأ فيها، أو شر يعمل به كوضع سنة مبتدعة يستن بها أو بناء مفسقة يعصى الله فيها. وربما قيل: إن المراد بما قدموا النيات وبآثارهم الاعمال المترتبة المتفرعة عليها وهو بعيد من السياق. والمراد بكتابة ما قدموا وآثارهم ثبتها في صحائف أعمالهم وضبطها فيها بواسطة كتبة الاعمال من الملائكة وهذه الكتابة غير كتابة الاعمال وإحصائها في الامام المبين
[ 67 ]
الذي هو اللوح المحفوظ وإن توهم بعضهم أن المراد بكتابة ما قدموا وآثارهم هو إحصاؤها في الكتاب المبين وذلك أنه تعالى يثبت في كلامه كتابا يحصى كل شئ ثم لكل أمة كتابا يحصي أعمالهم ثم لكل إنسان كتابا يحصي أعماله كما قال:
" ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " الانعام: 59، وقال: " كل أمة تدعى إلى كتابها " الجاثية: 28، وقال: " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا " أسرى: 13، وظاهر الاية أيضا يقضي بنوع من البينونة بين كتاب الاعمال والامام المبين حيث فرق بينهما بالخصوص والعموم واختلاف التعبير بالكتابة والاحصاء. وقوله: " وكل شئ أحصيناه في إمام مبين " هو اللوح المحفوظ من التغيير الذي يشتمل على تفصيل قضائه سبحانه في خلقه فيحصي كل شئ وقد ذكر في كلامه تعالى بأسماء مختلفة كاللوح المحفوظ وام الكتاب والكتاب المبين والامام المبين كل منها بعناية خاصة. ولعل العناية في تسميته إماما مبينا أنه لاشتماله على القضاء المحتوم متبوع للخلق مقتدى لهم وكتب الاعمال كما سيأتي في تفسير سورة الجاثية مستنسخة منه قال تعالى: " هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون " الجاثية: 29. وقيل: المراد بالامام المبين صحف الاعمال وليس بشئ، وقيل: علمه تعالى وهو كسابقه نعم لو أريد به العلم الفعلي كان له وجه. ومن عجيب القول في هذا المقام ما ذكره بعضهم أن الذي كتب في اللوح المحفوظ هو ما كان وما يكون إلى يوم القيامة لا حوادث العالم إلى أبد الابدين وذلك أن اللوح عند المسلمين جسم وكل جسم متناهي الابعاد كما يشهد به الادلة وبيان كل شئ فيه على الوجه المعروف عندنا دفعة مقتض لكون المتناهي ظرفا لغير المتناهي وهو محال بالبديهة فالوجه تخصيص عموم كل شئ والقول بأن المراد به الحوادث إلى يوم القيامة هذا. وهو تحكم وسنتعرض له تفصيلا. والاية في معنى التعليل بالنسبة إلى ما تقدمها كأنه تعالى يقول: ما أخبرنا به ووصفناه من حال أولئك الذين حق عليهم القول وهؤلاء الذين يتبعون الذكر ويخشون
[ 68 ]
ربهم بالغيب هو كذلك لان أمر حياة الكل إلينا وأعمالهم وآثارهم محفوظة عندنا فنحن على علم وخبرة بما تؤل إليه حال كل من الفريقين. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " فهم مقمحون " قال: قد رفعوا رؤسهم. وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون " الهدى، أخذ الله سمعهم وأبصارهم وقلوبهم وأعمالهم عن الهدى. نزلت في أبي جهل بن هشام ونفر من أهل بيته وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام يصلي وقد حلف أبو جهل لعنه الله لئن رآه يصلي ليدمغه (1) فجاءه ومعه حجر والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قائم يصلي فجعل كلما رفع الحجر ليرميه أثبت الله عز وجل يده إلى عنقه ولا يدور الحجر بيده فلما رجع إلى أصحابه سقط الحجر من يده ثم قام رجل آخر وهو رهطه أيضا فقال أنا أقتله فلما دنا منه فجعل يسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأرعب فرجع إلى أصحابه فقال: حال بيني وبينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه فخفت أن أتقدم. وقوله تعالى: " وسواء عليهم ء أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " فلم يؤمن من اولئك الرهط من بني مخزوم أحد. أقول: وروى نحوا منه في الدر المنثور عن البيهقي في الدلائل عن ابن عباس وفيه أن ناسا من بني مخزوم تواطؤا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه منهم أبو جهل والوليد بن المغيرة فبينا النبي صلى الله عليه وسلم قائم يصلي يسمعون قراءته فأرسلوا إليه الوليد ليقتله فانطلق حتى أتى المكان الذي يصلي فيه فجعل يسمع قراءته ولا يراه فانطلق إليهم فأعلمهم ذلك فأتوه فلما انتهوا إلى المكان الذي يصلي فيه سمعوا قراءته فيذهبون إليه فيسمعون أيضا من
(1)
دمغه أي شجة حتى بلغت الشجة دماغه.
[ 69 ]
خلفهم فانصرفوا فلم يجدوا إليه سبيلا. فذلك قوله: " وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا " الاية. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرء في المسجد فيجهر بالقراءة حتى تأذى به ناس من قريش حتى قاموا ليأخذوه وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم وإذا هم لا يبصرون فجاؤا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ننشدك الله والرحم يا محمد ولم يكن بطن من بطون قريش إلا وللنبي صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة فدعا النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهب ذلك عنهم فنزلت: " يس والقرآن الحكيم - إلى قوله - أم لم تنذرهم لا يؤمنون ". قال: فلم يؤمن من ذلك النفر أحد. أقول: وقد رووا القصة بأشكال مختلفة في بعضها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرء الايات فاحتجب منهم فلم يروه ودفع الله عنه شرهم وكيدهم، وفي بعضها أن الايات - من أول السورة إلى قوله: " فهم لا يؤمنون " - نزلت في القصة فقوله: " إنا جعلنا " إلى آخر الايتين يقص صنع الله بهم في ستر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أبصارهم وقوله: " وسواء عليهم " الخ يخبر عن عدم إيمان ذاك النفر. وأنت خبير بأن سياق الايات يأبى الانطباق على هذه الروايات بما فيها من القصة فهو سياق متناسق منسجم يصف حال طائفتين من الناس وهم الذين حق عليهم القول فهم لا يؤمنون والذين يتبعون الذكر ويخشون ربهم بالغيب. وأين ذلك من حمل قوله: " لقد حق القول على أكثرهم " على الناس المنذرين وحمل قوله: " إنا جعلنا في أعناقهم " و " جعلنا من بين أيديهم سدا " الايتين على قصة أبي جهل ورهطه، وحمل قوله: " وسواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم " على رهطه وأضف إلى ذلك حمل قوله: " ونكتب ما قدموا وآثارهم " على قصة قوم من الانصار
بالمدينة وسيوافيك خبره فيختل بذلك السياق وتنثلم وحدة النظم. فالحق أن الايات نازلة دفعة ذات سياق واحد تصف حال الناس وتفرقهم عند بلوغ الدعوة ووقوع الانذار على فرقتين، ولا مانع من وقوع القصة واحتجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أعدائه بالايات. وفيه أخرج عبد الرزاق والترمذي وحسنه والبزار وابن جرير وابن المنذر
[ 70 ]
وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن أبي سعيد الخدري قال: كان بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فأنزل الله: " إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم " فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنه يكتب آثاركم ثم قرء عليهم الاية فتركوا. وفيه أخرج الفاريابي وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: كانت الانصار منازلهم بعيدة من المسجد فأرادوا أن ينتقلوا قريبا من المسجد فنزلت " ونكتب ما قدموا وآثارهم " فقالوا: بل نمكث مكاننا. أقول: والكلام في الروايتين كالكلام فيما تقدمهما. وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شئ. ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص من أوزارهم شئ. ثم تلا هذه الاية " ونكتب ما قدموا وآثارهم ". وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وكل شئ أحصيناه في إمام مبين " أي في كتاب مبين وهو محكم، وذكر ابن عباس عن أمير المؤمنين عليه السلام: أنا والله الامام المبين أبين الحق من الباطل ورثته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي معاني الاخبار بإسناده إلى أبي الجارود عن أبي جعفر عن أبيه عن جده عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أنه قال في علي عليه السلام أنه الامام الذي أحصى الله تبارك وتعالى فيه علم كل شئ. أقول: الحديثان لو صحا لم يكونا من التفسير في شئ بل مضمونهما من بطن القرآن وإشاراته، ولا مانع من أن يرزق الله عبدا وحده وأخلص العبودية له العلم بما في الكتاب المبين وهو عليه السلام سيد الموحدين بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. * * * واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون - 13.
[ 71 ]
إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون - 14. قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمان من شئ إن أنتم إلا تكذبون - 15. قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون - 16. وما علينا إلا البلاغ المبين - 17. قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم - 18. قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون - 19. وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين - 20. إتبعوا من لا يسئلكم أجرا وهم مهتدون - 21. وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون - 22. ءأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون - 23. إني إذا لفي ضلال مبين - 24. إني آمنت بربكم فاسمعون - 25. قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون - 26. بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين - 27. وما أنزلنا على قومه
من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين - 28. إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون - 29. يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤن - 30. ألم يروا كم
[ 72 ]
أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون - 31. وإن كل لما جميع لدينا محضرون - 32. (بيان) مثل مشتمل على الانذار والتبشير ضربه الله سبحانه لعامة القوم يشير فيه إلى الرسالة الالهية وما تستتبعه الدعوة الحقة من المغفرة والاجر الكريم لمن آمن بها واتبع الذكر وخشي الرحمان بالغيب، ومن العذاب الاليم لمن كفر وكذب بها فحق عليه القول، وفيه إشارة إلى وحدانيته تعالى ومعاد الناس إليه جميعا. ولا منافاة بين إخباره بأنهم لا يؤمنون سواء أنذروا أم لم ينذروا وبين إنذارهم لان في البلاغ إتماما للحجة وتكميلا للسعادة أو الشقاوة قال تعال: " ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة " الانفال: 42، وقال: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " أسرى: 82. قوله تعالى: " واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون " المثل كلام أو قصة يمثل به مقصد من المقاصد فيتضح للمخاطب، ولما كانت قصتهم توضح ما تقدم من الوعد والوعيد أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يضربها مثلا لهم. والظاهر أن " مثلا " مفعول ثان لقوله: " اضرب " ومفعوله الاول قوله: " أصحاب القرية " والمعنى واضرب لهم أصحاب القرية وحالهم هذه الحال مثلا وقد قدم المفعول الثاني تحرزا عن الفصل المخل. قوله تعالى: " إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم
مرسلون " التعزيز من العزة بمعنى القوة والمنعة، وقوله: " إذ أرسلنا إليهم " بيان تفصيلي لقوله: " إذ جاءها المرسلون ". والمعنى: واضرب لهم مثلا أصحاب القرية وهم في زمان أرسلنا إليهم رسولين اثنين من رسلنا فكذبوهما أي الرسولين فقويناهما برسول ثالث فقالت الرسل إنا إليكم
[ 73 ]
مرسلون من جانب الله. قوله تعالى: " قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمان من شئ إن أنتم إلا تكذبون " كانوا يرون أن البشر لا ينال النبوة والوحي، ويستدلون على ذلك بأنفسهم حيث لا يجدون من أنفسهم شيئا من ذاك القبيل فيسرون الحكم إلى نفوس الانبياء مستندين إلى أن حكم الامثال واحد. وعلى هذا التقرير يكون معنى قوله: " وما أنزل الرحمن من شئ " لم ينزل الله وحيا ولو نزل شيئا على بشر لنلناه من نفوسنا كما تدعون أنتم ذلك، وتعبيرهم عن الله سبحانه بالرحمن إنما هو لكونهم كسائر الوثنيين معترفين بالله سبحانه واتصافه بكرائم الصفات (1) كالخلق والرحمة والملك غير أنهم يرون أنه فوض أمر التدبير إلى مقربي خلقه كالملائكة الكرام فهم الارباب المدبرون والالهة المعبودون، وأما الله عز اسمه فهو رب الارباب وإله الالهة. ومن الممكن أن يكون ذكر اسم الرحمان في الحكاية دون المحكي فيكون التعبير به لحلمه ورحمته تعالى قبل إنكارهم وتكذيبهم للحق الصريح. وقوله: " إن أنتم إلا تكذبون " بمنزلة النتيجة لصدر الاية، ومحصل قولهم أنكم بشر مثلنا ولا نجد نحن على بشريتنا في نفوسنا شيئا من الوحي النازل الذي تدعونه وأنتم مثلنا فما أنزل الرحمان شيئا من الوحي فدعواكم كاذبة وإذ ليس لكم إلا هذه الدعوى فإن أنتم إلا تكذبون.
ويظهر بما تقدم نكتة الحصر في قوله: " إن أنتم إلا تكذبون " وكذا الوجه في نفي الفعل ولم يقل: " إن أنتم إلا كاذبون لان المراد نفي الفعل في الحال دون الاستمرار والاستقبال. قوله تعالى: " قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين " لم يحك الله سبحانه عن هؤلاء الرسل جوابا عن حجة قومهم، ما أنتم إلا بشر مثلنا " الخ. (1)
لكنهم مختلفون في تفسيرها والصابئون يفسرونها بالنفى فمعنى العالم والقادر عندهم من ليس بجاهل وعاجز.
[ 74 ]
كما نقل عن الرسل المبعوثين إلى الامم الدارجة لما احتجت أممهم بمثل هذه الحجة " إن أنتم إلا بشر مثلنا " فردتها رسلهم بقولهم: " إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده " إبراهيم: 11 وقد مر تقريره. بل حكى عنهم أنهم ذكروا للقوم أنهم مرسلون إليهم مأمورون بتبليغ الرسالة ليس عليهم إلا ذلك وأنهم في غنى عن تصديقهم لهم وإيمانهم بهم ويكفيهم فيه أن يعلم ربهم بأنهم مرسلون لا حاجة لهم إلى أزيد من ذلك. فقوله: " قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون " إخبار عن رسالتهم وقد أكد الكلام بإن المشددة المكسورة واللام، والاستشهاد بعلم ربهم بذلك، وقوله: " ربنا يعلم " معترض بمنزلة القسم، و المعنى إنا مرسلون إليكم صادقون في دعوى الرسالة ويكفينا في ذلكم علم ربنا الذي أرسلنا بها ولا حاجة لنا فيه إلى تصديقكم لنا ولا نفع لنا فيه من أجر ونحوه ولا يهمنا تحصيله منكم بل الذي يهمنا هو تبليغ الرسالة وإتمام الحجة. وقوله: " وما علينا إلا البلاغ المبين " البلاغ هو التبليغ والمراد به تبليغ الرسالة أي لم يؤمر ولم نكلف إلا بتبليغ الرسالة وإتمام الحجة. قوله تعالى: " قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب
أليم " القائلون أصحاب القرية والمخاطبون هم الرسل، والتطير هو التشأم وقولهم: " لئن لم تنتهوا " الخ. تهديد منهم للرسل. والمعنى: قالت أصحاب القرية لرسلهم، إنا تشأمنا بكم ونقسم لئن لم تنتهوا عن التبليغ ولم تكفوا عن الدعوة لنرجمنكم بالحجارة وليصلن إليكم وليقعن بكم منا عذاب أليم. قوله تعالى: " قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون " القائلون هم الرسل يخاطبون به أصحاب القرية. وقوله: " طائركم معكم " الطائر في الاصل هو الطير وكان يتشاءم به ثم توسع واستعمل في كل ما يتشاءم به، وربما يستعمل فيما يستقبل الانسان من الحوادث، وربما يستعمل في البخت الشقي الذي هو أمر موهوم يرونه مبدء لشقاء الانسان وحرمانه من كل خير.
[ 75 ]
وكيف كان فقوله: " طائركم معكم ظاهر معناه أن الذي ينبغي أن تتشأموا به هو معكم وهو حالة إعراضكم عن الحق الذي هو التوحيد واقبالكم إلى الباطل الذي هو الشرك. وقيل: المعنى طائركم أي حظكم ونصيبكم من الخير والشر معكم من أفعالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر، هذا وهو أخذ الطائر بالمعنى الثاني لكن قوله بعد: " أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون " أنسب بالنسبة إلى المعنى الاولى. وقوله: " أئن ذكرتم " استفهام توبيخي والمراد بالتذكير تذكيرهم بالحق من وحدانيته تعالى ورجوع الكل إليه ونحوهما وجزاء الشرط محذوف في الكلام تلويحا إلى أنه مما لا ينبغي أن يذكر أو يتفوه به والتقدير ءإن ذكرتم بالحق قابلتموه بمثل هذا
الجحود الشنيع والصنيع الفظيع من التطير والتوعد. وقوله: " بل أنتم قوم مسرفون " أي مجاوزون للحد في المعصية وهو إضراب عما تقدم والمعنى بل السبب الاصلي في جحودكم وتكذيبكم للحق أنكم قوم تستمرون على الاسراف ومجاوزة الحد. قوله تعالى: " وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين " أقصى المدينة أبعد مواضعها بالنسبة إلى مبدء مفروض، وقد بدلت القرية في أول الكلام مدينة هنا للدلالة على عظمها والسعي هو الاسراع في المشي. ووقع نظير هذا التعبير في قصة موسى والقبطي وفيها " وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى " فقدم " رجل " هناك وأخر ههنا ولعل النكتة في ذلك أن الاهتمام هناك بمجيئ الرجل وإخباره موسى بائتمار الملاء لقتله فقدم الرجل ثم أشير إلى اهتمام الرجل نفسه بإيصال الخبر وإبلاغه فجيئ بقوله: " يسعى " حالا مؤخرا بخلاف ما ههنا فالاهتمام بمجيئه من أقصى المدينة ليعلم أن لا تواطؤ بينه وبين الرسل في أمر الدعوة فقدم " من أقصى المدينة " وأخر الرجل وسعيه. وقد اشتد الخلاف بينهم في اسم الرجل واسم أبيه وحرفته وشغله ولا يهمنا الاشتغال بذلك في فهم المراد ولو توقف عليه الفهم بعض التوقف لاشار سبحانه في كلامه إليه ولم يهمله.
[ 76 ]
وإنما المهم هو التدبر في حظه من الايمان في هذا الموقف الذي انتهض فيه لتأييد الرسل عليهم السلام ونصرتهم فقد كان على ما يعطيه التدبر في المنقول من كلامه رجلا نور الله سبحانه قلبه بنور الايمان يؤمن بالله إيمان إخلاص يعبده لا طمعا في جنة أو خوفا من نار بل لانه أهل للعبادة ولذلك كان من المكرمين ولم يصف الله سبحانه في كلامه بهذا الوصف إلا ملائكته المقربين وعباده المخلصين، وقد خاصم القوم فخصمهم وأبطل
ما تعلق به القوم من الحجة على عدم جواز عبادة الله سبحانه ووجوب عبادة آلهتهم وأثبت وجوب عبادته وحده وصدق الرسل في دعواهم الرسالة ثم آمن بهم. قوله تعالى: " اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون " بيان لقوله: " اتبعوا المرسلين " وفي وضع قوله: " من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون " في هذه الاية موضع قوله: " المرسلين " في الاية السابقة إشعار بالعلية وبيانها أن عدم جواز اتباع قائل في قوله إنما يكون لاحد أمرين: " إما لكون قوله ضلالا والقائل به ضالا ولا يجوز اتباع الضال في ضلاله، وإما لان القول وإن كان حقا والحق واجب الاتباع لكن لقائله غرض فاسد يريد أن يتوسل إليه بكلمة الحق كاقتناء المال واكتساب الجاه والمقام ونحو ذلك، وأما إذا كان القول حقا وكان القائل بريئا من الغرض الفاسد منزها من الكيد والمكر والخيانة كان من الواجب اتباعه في قوله، وهؤلاء الرسل مهتدون في قولهم: لا تعبدوا إلا الله، وهم لا يريدون منكم أجرا من مال أو جاه فمن الواجب عليكم أن تتبعوهم في قولهم. أما أنهم مهتدون فلقيام الحجة على صدق ما يدعون إليه من التوحيد وكونه حقا، والحجة هي قوله: " وما لي لا أعبد " إلى تمام الايتين. وأما انهم لا يريدون منكم أجرا فلما دل عليه قولهم: " ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون " وقد تقدم تقريره. وبهذا البيان يتأيد ما قدمناه من كون قولهم: " ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون " مسوقا لنفي إرادتهم من القوم أجرا أو غير ذلك. قوله تعالى: " وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ءأتخذ من دونه آلهة - إلى قوله - ولا ينقذون " شرع في استفراغ الحجة على التوحيد ونفي الالهة في آيتين
[ 77 ]
واختار لذلك سياق التكلم وحده إلا في جملة اعترض بها في خلال الكلام وهي قوله:
" وإليه ترجعون " وذلك بإجراء الحكم في نفسه بما أنه إنسان أوجده الله وفطره حتى يجري في كل إنسان هو مثله والافراد أمثال فقوله: " وما لي لا أعبد " الخ. في معنى وما للانسان لا يعبد الخ. أيتخذ الانسان من دونه آلهة الخ. وقد عبر عنه تعالى بقوله: " الذي فطرني " للاشعار بالعلية فإن فطره تعالى للانسان وإيجاده له بعد العدم لازمه رجوع كل ما للانسان من ذات وصفات وأفعال إليه تعالى وقيامه به وملكه له فليس للانسان إلا العبودية محضة فعلى الانسان أن ينصب نفسه في مقام العبودية ويظهرها بالنسبة إليه تعالى وهذا هو العبادة فعليه أن يعبده تعالى لانه أهل لها. وهذا هو الذي أشرنا إليه آنفا أن الرجل كان يعبد الله بالاخلاص له لا طمعا في جنة ولا خوفا من نار بل لانه أهل للعبادة. وإذ كان الايمان به تعالى وعبادته هكذا أمرا لا يناله عامة الناس فإن الاكثرين منهم إنما يعبدون خوفا أو طمعا أو لكليهما التفت الرجل بعد بيان حال نفسه إلى القوم فقال: " وإليه ترجعون " يريد به إنذارهم بيوم الرجوع وأنه تعالى سيحاسبهم على ما عملوا فيجازيهم بمساوي أعمالهم فقوله: " وإليه ترجعون " كالمعترضة الخارجة عن السياق أو هي هي. ثم إن الايتين حجتان قائمتان على إبطال ما احتج به الوثنية وبنوا على ذلك عبادة الاصنام وأربابها. توضيح ذلك أنهم قالوا: إن الله سبحانه أجل من أن يحيط به حس أو خيال أو عقل لا يناله شئ من القوى الادراكية فلا يمكن التوجه إليه بالعبادة فسبيل العبادة أن نتوجه إلى مقربي حضرته والاقوياء من خلقه كالملائكة الكرام والجن والقديسين من البشر حتى يكونوا شفعاء لنا عند الله في إيصال الخيرات ودفع الشرور والمكاره. والجواب عن أولى الحجتين بما حاصله أن الانسان وإن كان لا يحيط علما بالذات
المتعالية لكنه يعرفه تعالى بصفاته الخاصة به مثل كونه فاطرا له موجدا إياه فله أن يتوجه إليه من طريق هذه الصفات وإنكار إمكانه مكابرة، وهذا الجواب هو الذي
[ 78 ]
أشار إليه بقوله: " وما لي لا أعبد الذي فطرني ". وعن الثانية أن هؤلاء الالهة إن كانت لهم شفاعة كانت مما أفاضه الله عليهم والله سبحانه لا يعطيهم ذلك إلا فيما لا تتعلق به منه إرادة حاتمة ولازمه أن شفاعتهم فيما أذن الله لهم فيه كما قال: " ما من شفيع إلا من بعد إذنه " يونس: 3 أما إذا أراد الله شيئا إرادة حتم فلا تنفع شفاعتهم شيئا في المنع عن نفوذها فاتخاذهم آلهة وعدمه سواء في عدم التأثير لجلب خير أو دفع شر، وإلى ذلك أشار بقوله: " ءأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمان بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون ". وتعبيره عنه تعالى بالرحمان إشارة إلى سعة رحمته وكثرتها وأن النعم كلها من عنده وتدبير الخير والشر إليه ويتحصل من هنا برهان آخر على وحدانيته تعالى في الربوبية، إذ لما كان جميع النعم وكذا النظام الجاري فيها، من رحمته وقائمة به من غير استقلال في شئ منها كان المستقل بالتدبير هو تعالى حتى أن تدبير الملائكة لو فرض تدبيرهم لشئ من رحمته تدبيره تعالى وكانت الربوبية له تعالى وحده وكذا الالوهية. قوله تعالى: " إني إذا لفي ضلال مبين " تسجيل للضلال على اتخاذ الالهة. قوله تعالى: " إني آمنت بربكم فاسمعون " من كلام الرجل خطابا للرسل وقوله: " فاسمعون " كناية عن الشهادة بالتحمل، وقوله: " إني آمنت بربكم " الخ. تجديد الشهادة بالحق وتأكيد للايمان فإن ظاهر السياق أنه إنما قال: " إني آمنت بربكم " بعد محاجته خطابا للرسل ليستشهدهم على إيمانه وليؤيدهم بإيمانهم بمرئى من القوم ومسمع. وقيل: " إنه خطاب للقوم تأييدا للرسل، والمعنى إني آمنت بالله فاسمعوا مني فإني لا أبالي بما يكون منكم على ذلك أو المعنى إني آمنت بالله فاسمعوا مني وآمنوا به أو
أنه أراد به أن يغضبهم ويشغلهم عن الرسل بنفسه حيث إنه رآى أنهم بصدد الايقاع بهم. هذا. وفيه أنه لا يلائمه التعبير عن الله سبحانه بقوله: " ربكم " فإن القوم ما كانوا يتخذونه تعالى ربا لهم وإنما كانوا يعبدون الارباب من دون الله سبحانه. ورد بأن المعنى إني آمنت بربكم الذي قامت الحجة على ربوبيته لكم وهو الله سبحانه. وفيه أنه تقييد من غير مقيد.
[ 79 ]
قوله تعالى: " قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لى ربي وجعلني من المكرمين " الخطاب للرجل وهو - كما يفيده السياق - يلوح إلى أن القوم قتلوه فنودي من ساحة العزة أن ادخل الجنة كما يؤيده قوله بعد: " وما أنزلنا على قومه من بعده " الخ فوضع قوله: " قيل ادخل الجنة " موضع الاخبار عن قتلهم إياه إشارة إلى أنه لم يكن بين قتله بأيديهم وبين أمره بدخول الجنة أي فصل وانفكاك كأن قتله بأيديهم هو أمره بدخول الجنة. والمراد بالجنة على هذا جنة البرزخ دون جنة الاخرة، وقول بعضهم: إن المراد بها جنة الاخرة والمعنى سيقال له: ادخل الجنة. يوم القيامة والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع تحكم من غير دليل كما قيل: إن الله رفعه إلى السماء فقيل له ادخل الجنة فهو حي يتنعم فيها إلى قيام الساعة، وهو تحكم كسابقه. وقيل: إن القائل: " ادخل الجنة " هو القوم قالوا له ذاك حين قتله استهزاء وفيه أنه لا يلائم ما أخبر الله سبحانه عنه بقوله بعد: " قال يا ليت قومي يعلمون " الخ فإن ظاهره أنه تمنى علم قومه بما هو فيه بعد استماع نداء " ادخل الجنة " ولم يسبق من الكلام ما يصح أن يبتني عليه قوله ذاك. وقوله: " قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لى ربي وجعلني من المكرمين " استئناف كسابقه كالجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فما ذا كان بعد تأييده للرسل ؟
فقيل: " قيل ادخل الجنة " ثم قيل: فماذا كان بعد ؟ فقيل: " قال يا ليت قومي يعلمون " الخ وهو نصح منه لقومه ميتا كما كان ينصهم حيا. و " ما " في قوله: " بما غفر لى " الخ مصدرية، وقوله: " وجعلني " عطف على " غفر " والمعنى بمغفرة ربي لى وجعله إياي من المكرمين. وموهبة الاكرام وإن كانت وسيعة ينالها كثيرون كالاكرام بالنعمة كما في قوله: " فأما الانسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي اكرمن " الفجر: 15، وقوله: " إن أكرمكم عند الله اتقاكم " الحجرات: 13 فإن كرامة العبد عند الله إكرام منه له لكنه لم يعد من المكرمين بوصف الاطلاق إلا طائفتين من خلقه: الملائكة الكرام كما في قوله: " بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون "
[ 80 ]
الانبياء: 27، والكاملين في إيمانهم من المؤمنين سواء كانوا من المخلصين بكسر اللام كما في قوله: " اولئك في جنات مكرمون " المعارج: 35، أو من المخلصين بفتح اللام كما في قوله: " إلا عباد الله المخلصين - إلى أن قال - وهم مكرمون " الصافات: 42. والاية من أدلة وجود البرزخ. قوله تعالى: " وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين " الضميران للرجل، و " من بعده " أي من بعد قتله، و " من " الاولى والثالثة لابتداء الغاية، والثانية مزيدة لتأكيد النفي. والاية توطئة للاية التالية، وهي مسوقة لبيان هوان أمر القوم والانتقام منهم بإهلاكهم على الله سبحانه وأنه لا يحتاج في إهلاكهم إلى عدة وعدة حتى ينزل من السماء جندا من الملائكة يقاتلونهم فيهلكونهم فلم يفعل ذلك فيهم ولا فعل ذلك في إهلاك من أهلك من الامم الماضين وإنما أهلكهم بصيحة واحدة تقضي عليهم. قوله تعالى: " إن كانت إلا صيحة واحدة، فإذاهم خامدون " أي ما كان
الامر الذي كان سبب إهلاكهم بمشيتنا إلا صيحة واحدة، وتأنيث الفعل لتأنيث الخبر وتنكير " صيحة " وتوصيفها بالوحدة للاستحقار، والخمود السكون، واستئناف الجملة لكونها كالجواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فماذا كان سبب إهلاكهم ؟ فقيل: إن كانت إلا صيحة واحدة. والمعنى: كان سبب هلاكهم أيسر أمر وهي صيحة واحدة ففاجأهم السكون فصاروا ساكنين لا يسمع لهم حس وهم عن آخرهم موتى لا يتحركون. قوله تعالى: " يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤن " أي يا ندامة العباد ونداء الحسرة عليهم أبلغ من إثباتها لهم، وسبب الحسرة ما يتضمنه قوله: " ما يأتيهم من رسول " الخ. ومن هذا السياق يستفاد أن المراد بالعباد عامة الناس وتتأكد الحسرة بكونهم عبادا فان رد العبد دعوة مولاه وتمرده عنه أشنع من رد غيره نصيحة الناصح. وبذلك يظهر سخافة قول من قال: " إن المراد بالعباد الرسل أو الملائكة أو هما
[ 81 ]
جميعا. وكذا قول من قال: " إن المراد بالعباد الناس لكن المتحسر هو الرجل. وظهر أيضا أن قوله: " يا حسرة على العباد " الخ من قول الله تعالى لا من تمام قول الرجل. قوله تعالى: " ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون " توبيخ لاولئك الذين نودي عليهم بالحسرة، و " من القرون " بيان لكم، والقرون جمع قرن وهو أهل عصر واحد. وقوله: " أنهم إليهم لا يرجعون " بيان لقوله: " كم أهلكنا قبلهم من القرون " ضمير الجمع الاول للقرون والثاني والثالث للعباد. والمعنى: ألم يعتبروا بكثرة المهلكين بأمر الله من القرون الماضية وأنهم مأخوذون
بأخذ إلهي لا يتمكنون من الرجوع إلى ما كانوا يترفون فيه ؟ وللقوم في مراجع الضمائر وفي معنى الاية أقوال أخر بعيدة عن الفهم تركنا إيرادها. قوله تعالى: " وإن كل لما جميع لدينا محضرون " لفظة " إن " حرف نفي و " كل " مبتدء تنويه عوض عن المضاف إليه، و " لما " بمعنى إلا، وجميع بمعنى مجموع، ولدينا ظرف متعلق به، ومحضرون خبر بعد خبر وهو جميع، واحتمل بعضهم أن يكون صفة لجميع. والمعنى: وما كلهم إلا مجموعون لدينا محضرون للحساب والجزاء يوم القيامة فالاية في معنى قوله: " ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود " هود 103. (بحث روائي) في المجمع قالوا: بعث عيسى رسولين من الحواريين إلى مدينة أنطاكية فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له وهو حبيب صاحب يس فسلما عليه فقال الشيخ لهما: من أنتما ؟ قالا: رسولا عيسى ندعوكم من عبادة الاوثان إلى عبادة الرحمن فقال: أمعكما آية ؟ قالا نعم نحن نشفي المريض ونبرئ الاكمه والابرص بإذن الله تعالى فقال
[ 82 ]
الشيخ: إن لى إبنا مريضا صاحب فراش منذ سنين قالا: فانطلق بنا إلى منزلك نتطلع حاله فذهب بهما فمسحا ابنه فقام في الوقت بإذن الله تعالى صحيحا ففشى الخبر في المدينة وشفى الله على أيديهما كثيرا من المرضى. وكان لهم ملك يعبد الاصنام فأنهى الخبر إليه فدعاهما فقال لهما: من أنتما ؟ قالا: رسولا عيسى جئنا ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر. قال الملك: ولنا إله سوى آلهتنا ؟ قالا: نعم من أوجدك وآلهتك. قال: قوما حتى أنظر في أمركما فأخذهما الناس في السوق وضربوهما. قال وهب بن منبه: بعث عيسى هذين الرسولين إلى أنطاكية فأتياها ولم يصلا
إلى ملكها وطالت مدة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبرا و ذكرا الله فغضب الملك وأمر بحبسهما وجلد كل واحد منهما مائة جلدة. فلما كذب الرسولان وضربا، بعث عيسى شمعون الصفا رأس الحواريين على أمرهما لينصرهما فدخل شمعون البلد متنكرا فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه ورضى عشرته وأنس به وأكرمه. ثم قال له ذات يوم: أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل سمعت قولهما ؟ قال الملك: حال الغضب بيني وبين ذلك. قال: فإن رأى الملك دعاهما حتى نتطلع ما عندهما. فدعاهما الملك فقال لهما شمعون: من أرسلكما إلى ههنا ؟ قالا: الله الذي خلق كل شئ لا شريك له. قال: وما آتاكما ؟ قالا: ما تتمناه، فأمر الملك حتى جاؤا بغلام مطموس العينين وموضع عينيه كالجبهة فما زالا يدعوان الله حتى انشق موضع البصر فأخذا بندقتين من الطين فوضعا في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما فتعجب الملك ثم قال شمعون للملك: أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع صنيعا مثل هذا ؟ فيكون لك ولالهك شرفا. فقال الملك: ليس لى عنك سر إن إلهنا الذي نعبده لا يضر ولا ينفع. ثم قال الملك للرسولين: إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به وبكما. قالا: إلهنا قادر على كل شئ، فقال الملك: إن ههنا ميتا مات منذ سبعة أيام لم ندفنه حتى يرجع أبوه وكان غائبا فجاؤا بالميت وقد تغير وأروح فجعلا يدعوان ربهما علانية وجعل
[ 83 ]
شمعون يدعو ربه سرا فقام الميت وقال لهم إني قدمت منذ سبعة أيام وأدخلت في سبعة أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا بالله فتعجب الملك، فلما علم شمعون أن قوله أثر في الملك دعاه إلى الله فآمن وآمن من أهل مملكته قوم وكفر آخرون. قال: وقد روى مثل ذلك العياشي بإسناده عن الثمالى وغيره عن أبي جعفر
وأبي عبد الله عليهما السلام إلا أن في بعض الروايات: بعث الله الرسولين إلى أهل أنطاكية ثم بعث الثالث، وفي بعضها أن عيسى أوحى الله إليه أن يبعثهما ثم بعث وصيه شمعون ليخلصهما، وأن الميت الذي أحياه الله بدعائهما كان ابن الملك وأنه قد خرج من قبره ينفض التراب عن رأسه فقال له: يا بني ما حالك ؟ قال: كنت ميتا فرأيت رجلين ساجدين يسألان الله تعالى أن يحييني. قال: يا بني فتعرفهما إذا رأيتهما ؟ قال: نعم فأخرج الناس إلى الصحراء فكان يمر عليه رجل بعد رجل فمر أحدهما بعد جمع كثير فقال: هذا أحدهما. ثم مر الاخر فعرفهما وأشار بيده إليهما فآمن الملك وأهل مملكته. وقال ابن إسحاق: بل كفر الملك وأجمع هو وقومه على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيبا وهو على باب المدينة الاقصى فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم إلى طاعة الرسل. اقول: سياق آيات القصة لا يلائم بعض هذه الروايات. وفي الدر المنثور أخرج أبو داود وأبو نعيم وابن عساكر والديلمي عن أبي ليلى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصديقين ثلاثة: حبيب النجار مؤمن آلياسين الذي قال: يا قوم اتبعوا المرسلين، وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم. اقول: ورواه أيضا عن البخاري في تاريخه عن ابن عباس عنه صلى الله عليه وآله وسلم ولفظه: الصديقون ثلاثة: حزقيل مؤمن آل فرعون وحبيب النجار صاحب آل ياسين وعلي ابن أبي طالب. وفي المجمع عن تفسير الثعلبي بالاسناد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: سباق الامم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين علي بن أبي طالب وصاحب يس ومؤمن آل فرعون فهم الصديقون وعلي أفضلهم. اقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن الطبراني وابن مردويه وضعفه عن
[ 84 ]
ابن عباس عنه عليه السلام ولفظه: السبق ثلاثة فالسابق إلى موسى يوشع بن نون والسابق إلى عيسى صاحب يس والسابق إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب. * * * وآية لهم الارض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون - 33. وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون - 34. ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون - 35. سبحان الذى خلق الازواج كلها مما تنبت الارض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون - 36. وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون - 37. والشمس تجرى لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم - 38. والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم - 39. لا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون - 40. وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون - 41. وخلقنا لهم من مثله ما يركبون - 42. وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون - 43. إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين - 44. وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما
[ 85 ]
خلفكم لعلكم ترحمون - 45. وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين - 46. وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين - 47. (بيان) بعد ما قص عليهم قصة أصحاب القرية وما آل إليه أمرهم في الشرك وتكذيب
الرسل وونجهم على الاستهانة بأمر الرسالة، وأنذرهم بنزول العذاب عليهم كما نزل على المكذبين من القرون الاولى، وبأنهم جميعا محضرون للحساب والجزاء. أورد آيات من الخلق والتدبير تدل على ربوبيته وألوهيته تعالى وحده لا شريك له ثم ونجهم على ترك النظر في آيات الوحدانية والمعاد والاعراض عنها والاستهزاء بالحق والامساك عن الانفاق للفقراء والمساكين. قوله تعالى: " وآية لهم الارض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون " يذكر سبحانه في الاية واللتين بعدها آية من آيات الربوبية وهي تدبير أمر أرزاق الناس وتغذيتهم من أثمار النبات من الحبوب والتمر والعنب وغيرها. فقوله: " وآية لهم الارض الميتة أحييناها " وإن كان ظاهره أن الاية هي الارض إلا أن الجملتين توطئتان لقوله: " وأخرجنا منها حبا " الخ ومسوقتان للاشارة إلى أن هذه الاغذية النباتية من آثار نفخ الحياة في الارض الميتة وتبديلها حبا وثمرا يأكلون من ذلك فالاية بنظر هي الارض الميتة من حيث ظهور هذه الخواص فيها وتمام تدبير أرزاق الناس بها. وقوله: " وأخرجنا منها حبا " أي وأخرجنا من الارض بإنبات النبات حبا كالحنطة والشعير والارز وسائر البقولات.
[ 86 ]
وقوله: " فمنه يأكلون " تفريع على إخراج الحب وبالاكل يتم التدبير، وضمير " فمنه " للحب. قوله تعالى: " وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون " قال الراغب: الجنة كل بستان ذي شجر تستر بأشجاره الارض انتهى. والنخيل جمع نخل وهو معروف، والاعناب جمع عنب يطلق على الشجرة وهي الكرم وعلى الثمرة. وقال الراغب: العين الجارحة - إلى أن قال - ويستعار العين لمعان هي موجودة
في الجارحة بنظرات مختلفة - إلى أن قال - ويقال لمنبع الماء عين تشبيها بها لما فيها من الماء انتهى، والتفجير في الارض شقها لاخراج المياه، والباقي ظاهر. قوله تعالى: " ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون " اللام لتعليل ما ذكر في الاية السابقة أي جعلنا فيها جنات وفجرنا فيها العيون بشقها ليأكل الناس من ثمره. وقوله: " من ثمره " قيل: الضمير للمجعول من الجنات ولذا أفرد وذكر ولم يقل: من ثمرها أي من ثمر الجنات، أو من ثمرهما أي من ثمر النخيل والاعناب. وقيل: الضمير للمذكور وقد يجري الضمير مجرى اسم الاشارة كما في قول رؤبة: فيها خطوط من سواد وبلق * كأنه في الجلد توليع البهق فقد روي أن أبا عبيدة سأله عن قوله " كأنه " فقال كأن ذاك. وفي مرجع ضمير " من ثمره " أقوال أخر رديئة كقول بعضهم: إن الضمير للنخيل فقط، وقول آخر: إنه للماء لدلالة العيون عليه أو بحذف مضاف والتقدير ماء العيون وقول آخر: إن الضمير للتفجير المفهوم من " فجرنا " والمراد بالثمر على هذين الوجهين الفائدة، وقول آخر: إن الضمير له تعالى وإضافته إليه لانه خلقه وملكه. وقوله: " وما عملته أيديهم " العمل هو الفعل والفرق بينهما - على ما ذكره الراغب - أن اكثر ما يستعمل العمل في الفعل المقارن للقصد والارادة، ولذلك يشذ استعماله في الحيوان والجماد، ولذلك أيضا يتصف العمل بالصلاح وخلافه فيقال. عمل صالح وعمل طالح ولا يتصف بهما مطلق الفعل. و " ما " في " وما عملته " نافية والمعنى ولم يعمل الثمر أيديهم حتى يشاركونا في تدبير
[ 87 ]
الارزاق بل هو مما اختصصنا بخلقه وتتميم التدبير به من دون أن تستعين بهم فما با لهم لا يشكرون. ويؤيد هذا المعني قوله تعالى في أواخر السورة وهو بمتن عليهم بخلق الانعام لتدبير أمر رزقهم وحياتهم: " أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما - إلى أن قال -
ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون ". واحتمل بعضهم كون " ما " في " وما عملته " موصولة معطوفة على " ثمره " والمعنى ليأكلوا من ثمره ومن الذي عملته أيديهم من ثمره كالخل والدبس المأخوذين من التمر والعنب وغير ذلك. وهذا الوجه وإن عده بعضهم أوجه من سابقه ليس بذاك فإن المقام مقام بيان آيات دالة على ربوبيته تعالى بذكر أمور من التدبير يخصه تعالى ولا يناسبه ذكر شئ من تدبير الغير معه وتتميم الحجة بذلك، ولو كان المراد ذكر عملهم بما أنه منته إلى خلقه تعالى وجزء من التدبير العام كان الانسب أن يقال: وما هديناهم إلى عمله أو ما يؤدي معناه لينتفي به توهم الشركة في التدبير. واحتمل بعضهم كون " ما " نكرة موصوفة معطوفة على " ثمره " والمعنى ليأكلوا من ثمره ومن شئ عملته أيديهم. هذا ويرد عليه ما يرد على سابقه. وقوله: " أفلا يشكرون " توبيخ واستقباح لعدم شكره، وشكره تعالى منهم على هذا التدبير إظهارهم جميل نعمه بذكره قولا وفعلا أي إظهارهم أنهم عباد له مدبرون بتدبيره وهو العبادة فشكره تعالى هو الاعتراف بربوبيته وإتخاذه إلها معبودا. قوله تعالى: " سبحان الذي خلق الازواج كلها مما تنبت الارض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون " إنشاء لتنزيهه تعالى، لما ذكر عدم شكرهم له على ما خلق لهم من أنواع النبات ورزقهم من الحبوب والاثمار، وإنما عمل ذلك بتزويج بعض النبات بعضا كما قال: " وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج " ق: 7 أشار إلى ما هو أعظم وأوسع من خلق أزواج النبات وهو خلق الازواج كلها وتنظيم العالم المشهود باستيلاد كل شئ من فاعل ومنفعل قبله هما أبواه كالذكر والانثى من الانسان والحيوان والنبات، وكل فاعل ومنفعل يتلاقيان فينتجان بتلاقيهما أمرا ثالثا، أشار تعالى إلى ذلك فنزه نفسه بقوله: " سبحان الذي خلق الازواج كلها " الخ. فقوله: " سبحان الذي خلق الازواج كلها " إنشاء
[ 88 ]
تسبيح على ما يعطيه السياق لا إخبار. وقوله: " مما تنبت الارض " هو وما بعده بيان للازواج والذي تنبت الارض هو النبات ولا يبعد شموله الحيوان وقد قال تعالى في الانسان وهو من أنواع الحيوان " والله أنبتكم من الارض نباتا " نوح: 17 ويؤيد ذلك أن ظاهر سياق البيان استيعابه للمبين مع عدم ذكر الحيوان في عداد الازواج. وقوله: " ومن أنفسهم " أي الناس، وقوله: " ومما لا يعلمون " وهو الذي يجهله الانسان من الخليقة أو يجهل كيفية ظهوره أو ظهور الكثرة فيه. وربما قيل في الاية: إن المراد بالازواج الانواع والاصناف، ولا يساعد عليه الايات التي تذكر خلق الازواج كقوله تعالى: " ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون " الذاريات: 49 والمقارنة ونوع من التألف والتركب من لوازم مفهوم الزوجية. قال الراغب: يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والانثى في الحيوانات المتزاوجة: زوج، ولكل قرينين فيها وفي غيرها: زوج كالخف والنعل، ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا: زوج، قال: وقوله: " خلقنا زوجين " فبين أن كل ما في العالم زوج من حيث إن له ضدا ما أو مثلا ما أو تركيبا ما بل لا ينفك بوجه من تركيب. انتهى. فزوجية الزوج هي كونه مفتقرا في تحققه إلى تألف وتركب ولذلك يقال لكل واحد من القرينين من حيث هما قرينان: زوج لافتقاره إلى قرينه، وكذا يقال لمجموع القرينين: زوج لافتقاره في تحققه زوجا إلى التألف والتركب فكون الاشياء أزواجا مقارنة بعضها بعضا لانتاج ثالث أو كونه مولدا من تألف اثنين. قوله تعالى: " وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون " آية أخرى من آيات الربوبية الدالة على وقوع التدبير العام السماوي للعالم الانساني مذكورة في أربع آيات.
ولا شك أن الاية تشير إلى مفاجأة الليل عقيب ذهاب النهار، والسلخ في الاية بمعنى الاخراج ولذلك عدي بمن ولو كان بمعنى النزع كما في قولنا: سلخت الاهاب عن الشاة تعين تعديه بعن دون من.
[ 89 ]
ويؤيد ذلك أنه تعالى عبر في مواضع من كلامه عن ورود كل من الليل والنهار عقيب الاخر بإيلاجه فيه فقال في مواضع من كلامه: " يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل " الحج: 61 فإذا كان ورود النهار بعد الليل إيلاجا للنهار في الليل اعتبارا كان مفاجأة الليل بعد النهار إخراجا للنهار من الليل اعتبارا. كأن الليل أطبق عليهم وأحاطت بهم ظلمته ثم ولج فيه النهار فوسعهم نوره وضياؤه ثم خرج منه ففاجأهم الليل ثانيا بانطباق الظلام وإحاطته بما أضاءه النهار ففي الكلام نوع من الاستعارة بالكناية. ولعل فيما ذكرناه من الوجه كفاية عما أطنبوا فيه من البحث في معنى سلخ النهار من الليل ثم مفاجأة الليل. قوله تعالى: " والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم " جريها حركتها وقوله: " لمستقر لها " اللام بمعنى إلى أو للغاية، والمستقر مصدر ميمي أو اسم زمان أو مكان، والمعنى أنها تتحرك نحو مستقرها أو حتى تنتهي إلى مستقرها اي استقرارها وسكونها بانقضاء أجلها أو زمن استقرارها أو محله. وأما جريها وهو حركتها فظاهر النظر الحسي يثبت لها حركة دورية حول الارض لكن الابحاث العلمية تقضي بالعكس وتكشف أن لها مع سياراتها حركة انتقالية نحو النسر الواقع. وكيف كان فمحصل المعنى أن الشمس لا تزال تجري ما دام النظام الدنيوي على حاله حتى تستقر وتسكن بانقضاء أجلها فتخرب الدنيا ويبطل هذا النظام، وهذا المعنى
يرجع بالمآل إلى معنى القراءة المنسوبة إلى أهل البيت وغيرهم: " والشمس تجري لا مستقر لها " كما قيل. وأما حمل جريها على حركتها الوضعية حول مركزها فهو خلاف ظاهر الجري الدال على الانتقال من مكان إلى مكان. وقوله: " ذلك تقدير العزيز العليم " أي الجري المذكور تقدير وتدبير ممن لا يغلبه غالب في إرادته ولا يجهل جهات الصلاح في أفعاله.
[ 90 ]
قوله تعالى: " والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم " المنازل جمع منزل اسم مكان من النزول والظاهر أن المراد به المنازل الثمانية و العشرون التي تقطعها القمر في كل ثمانية وعشرين يوما وليلة تقريبا. و العرجون عود عذق النخلة من بين الشمراخ إلى منبته وهو عود أصفر مقوس يشبه الهلال، والقديم العتيق. وقد اختلفت الانظار في معنى الاية للاختلاف في تركيبها، وأقرب التقديرات من الفهم قول من قال: " إن التقدير والقمر قدرناه ذا منازل أو قدرنا له منازل حتى عاد هلالا يشبه العرجون العتيق المصفر لونه. تشير الاية إلى اختلاف مناظر القمر بالنسبة إلى أهل الارض فإن نوره مكتسب من الشمس يستنير بها نصف كرته تقريبا وما يقرب من النصف الاخر غير المسامت للشمس مظلم ثم يتغير موضع الاستنارة ولا يزال كذلك حتى يعود إلى الوضع الاول ويعرض ذلك أن يظهر لاهل الارض في صورة هلال ثم لا يزال ينبسط عليه النور حتى يتبدر ثم لا يزال ينقص حتى يعود إلى ما كان عليه أوله. ولاختلاف صوره آثار بارزة في البر والبحر وحياة الناس على ما بين في الابحاث المربوطة. فالاية الكريمة تذكر من آية القمر أحواله الطارئة له بالنسبة إلى الارض وأهلها
دون حاله في نفسه ودون حاله بالنسبة إلى الشمس فقط. ومن هنا لا يبعد أن يقال في قوله تعالى: " والشمس تجري لمستقر لها " أن المراد بقوله: " تجري " الاشارة إلى ما يعطيه ظاهر الحس من حركتها اليومية والفصلية والسنوية وهي حالها بالنسبة إلينا، وبقوله: " لمستقر لها " حالها في نفسها وهي سكونها بالنسبة إلى سياراتها المتحركة حولها كأنه قيل: وآية لهم أن الشمس على استقرارها تجري عليهم وقد دبر العزيز العليم بذلك كينونة العالم الارضي وحياة أهله والله أعلم. قوله تعالى: " لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون " لفظة ينبغي تدل على الترجح ونفي ترجح الادراك من الشمس نفي وقوعه منها، والمراد به أن التدبير ليس مما يجري يوما ويقف آخر بل هو تدبير دائم غير مختل ولا منقوض حتى ينقضي الاجل المضروب منه تعالى لذلك.
[ 91 ]
فالمعنى أن الشمس والقمر ملازمان لما خط لهما من المسير فلا تدرك الشمس القمر حتى يختل بذلك التدبير المعمول بهما ولا الليل سابق النهار وهما متعاقبان في التدبير فيتقدم الليل النهار فيجتمع ليلتان ثم نهاران بل يتعاقبان. ولم يتعرض لنفي إدراك القمر للشمس ولا لنفي سبق النهار الليل لان المقام مقام بيان انحفاظ النظم الالهي عن الاختلال والفساد فنفى إدراك ما هو أعظم وأقوى وهو الشمس لما هو أصغر وأضعف وهو القمر، ويعلم منه حال العكس ونفى سبق الليل الذي هو افتقاده للنهار الذي هو ليله والليل مضاف إليه متأخر طبعا منه ويعلم به حال العكس. وقوله: " وكل في فلك يسبحون " أي كل من الشمس والقمر وغيرهما من النجوم والكواكب يجرون في مجرى خاص به كما يسبح السمكة في الماء فالفلك هو المدار الفضائي الذي يتحرك فيه الجرم العلوي، ولا يبعد حينئذ أن يكون المراد بالكل كل من الشمس
والقمر والليل والنهار وإن كان لا يوجد في كلامه تعالى ما يشهد على ذلك. والاتيان بضمير الجمع الخاص بالعقلاء في قوله " يسبحون " لعله للاشارة إلى كونها مطاوعة لمشيته مطيعة لامره تعالى كالعقلاء كما في قوله: " ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " حم السجدة: 11. وللمفسرين في جمل الاية آراء أخر مضطربة أضربنا عنها من أراد الوقوف عليها فليراجع المفصلات. قوله تعالى: " وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون " قال الراغب: الذرية أصلها الصغار من الاولاد، وتقع في التعارف على الصغار والكبار معا، ويستعمل للواحد والجمع وأصله للجمع. انتهى، والفلك السفينة، والمشحون المملوء. آية أخرى من آيات ربوبيته تعالى وهو جريان تدبيره في البحر حيث يحمل ذريتهم في الفلك المشحون بهم وبأمتعتهم يجوزون به من جانب إلى جانب للتجارة وغيرها، ولا حامل لهم فيه ولا حافظ لهم عن الغرق إلا هو تعالى والخواص التي يستفيدون منها في ركوب البحر أمور مسخرة له تعالى منتهية إلى خلقه على أن هذه الاسباب لو لم تنته إليه تعالى لم تغن طائلا.
[ 92 ]
وإنما نسب الحمل إلى الذرية دونهم أنفسهم فلم يقل: إنا حملناهم لاثارة الشفقة والرحمة. قوله تعالى: " وخلقنا لهم من مثله ما يركبون " المراد به - على ما فسروه - الانعام قال تعالى: " وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون " الزخرف: 12 وقال: " وعليها وعلى الفلك تحملون " المؤمن 80. وفسر بعضهم الفلك المذكور في الاية السابقة بسفينة نوح عليه السلام وما في هذه الاية بالسفن والزوارق المعمولة بعدها وهو تفسير ردئ ومثله تفسير ما في هذه الاية بالابل خاصة. وربما فسر ما في هذه الاية بالطيارات والسفن الجوية المعمولة في هذه الاعصار
والتعميم أولى. قوله تعالى: " وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون " الصريخ هو الذي يجيب الصراخ ويغيث الاستغاثة، والانقاذ هو الانجاء من الغرق. والاية متصلة بقوله السابق: " إنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون " أي إن الامر إلى مشيتنا فإن نشأ نغرقهم فلا يغيثهم مغيث ولا ينقذهم منقذ. قوله تعالى: " إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين " استثناء مفرغ والتقدير لا ينجون بسبب من الاسباب وأمر من الامور إلا لرحمة منا تنالهم ولتمتع إلى حين الاجل المسمى قدرناه لهم. قوله تعالى: " وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون " لما ذكر الايات الدالة على الربوبية ذمهم على عدم رعايتهم حقها وعدم إقبالهم عليها وعدم ترتيبهم عليها آثارها فإذا قيل لهم هذه الايات البينات ناطقة أن ربكم الله فاتقوا معصيته في حالكم الحاضرة وما قدمتم من المعاصي، أو عذاب الشرك والمعاصي التي أنتم مبتلون بها وما خلفتم وراءكم، أو اتقوا ما بين أيديكم من الشرك والمعاصي في الحياة الدنيا وما خلفكم من العذاب في الاخرة، أعرضوا عنه ولم يستجيبوا له على ما هو دأبهم في جميع الايات التي ذكروا بها. ومن هنا يظهر أولا أن المراد بما بين أيديهم وما خلفهم الشرك والمعاصي التي هم مبتلون بها في حالهم الحاضرة وما كانوا مبتلين به قبل، أو العذاب الذي استوجبوه
[ 93 ]
بذلك، والمال واحد، أو الشرك والمعاصي في الدنيا والعذاب في الاخرة وهو أوجه الوجوه. وثانيا: أن حذف جواب إذا للدلالة على أن حالهم بلغت من الجرأة على الله والاستهانة بالحق مبلغا لا يستطاع معها ذكر ما يجيبون به داعي الحق إذا دعاهم إلى
التقوى فيجب أن يترك أسفا ولا يذكر، وقد دل عليه بقوله: " وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ". قوله تعالى: " وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين " المراد بإتيان الايات موافاتها لهم بالمشاهدة أو بالتلاوة والذكر، وأيضا هي أعم من أن تكون آية آفاقية أو أنفسية، أو تكون آية معجزة كالقرآن، فهم معرضون عنها جميعا. قوله تعالى: " وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله " إلى آخر الاية كان قوله: " وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم " متعرضا لجوابهم إذا دعوا إلى عبادة الله وهي أحد ركني الدين الحق، وهذه الاية تعرضت لجوابهم إذا دعوا إلى الشفقة على خلق الله وهو الركن الاخر ومعلوم أن جوابهم الرد دون القبول. فقوله: " وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله " يتضمن دعوتهم إلى الانفاق على الفقراء والمساكين من أموالهم وفي التعبير عن الاموال بما رزقهم الله إشعار بأن المالك لها حقيقة هو الله الذي رزقهم بها وسلطهم عليها، وهو الذي خلق الفقراء والمساكين وأقام حاجتهم إلى ما عند هؤلاء من فضل المؤن الذي لا يفتقرون إليه فلينفقوا عليهم وليحسنوا وليجملوا والله يحب الاحسان وجميل الفعل. وقوله: " قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه " جوابهم للدعوة إلى الانفاق، وإنما أظهر القائل - الذين كفروا - ومقتضى المقام الاضمار للاشارة إلى أن كفرهم بالحق وإعراضهم عنه باتباع الشهوات هو الذي دعاهم إلى الاعتذار بمثل هذا العذر المبني على الاعراض عما تدعو إليه الفطرة من الشفقة على خلق الله وإصلاح ما فسد في المجتمع كما أن الاظهار في قوله: " للذين آمنوا " للاشارة إلى أن قائل " أنفقوا مما رزقكم الله " هم الذين آمنوا. وفي قولهم: " أنطعم من لو يشاء الله أطعمه " إشعار بأن المؤمنين إنما قالوا لهم:
[ 94 ]
" أنفقوا مما رزقكم الله " بعنوان أنه مما يشاؤه الله ويريده حكما دينيا فردوه بأن إرادة الله لا تتخلف عن مراده فلو شاء أن يطعمهم أطعمهم أي وسع في رزقهم وجعلهم أغنياء. وهذه مغالطة منهم خلطوا فيه بين الارادة التشريعية المبنية على الابتلاء والامتحان وهداية العباد إلى ما فيه صلاح حالهم في دنياهم وآخرتهم ومن الجائز أن تتخلف عن المراد بالعصيان، وبين الارادة التكوينية التي لا تتخلف عن المراد ومن المعلوم أن مشيئة الله وإرادته المتعلقة بإطعام الفقراء والانفاق عليهم من المشيئة التشريعية دون التكوينية فتخلفها في مورد الفقراء إنما يدل على عصيان الذين كفروا وتمردهم عما أمروا به لا على عدم تعلق الارادة به وكذب مدعيه. وهذه مغالطة بنوا عليها جل ما افتعلوه من سنن الوثنية وقد حكى الله سبحانه ذلك عنهم في قوله: " وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ " النحل: 35، وقوله: " سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ " الانعام: 148، وقوله: " وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم " الزخرف: 20. وقوله: " إن أنتم إلا في ضلال مبين " من تمام قول الذين كفروا يخاطبون به المؤمنين أي إنكم في ضلال مبين في دعواكم أن الله أمرنا بالانفاق وشاء منا ذلك. (بحث روائي) في المجمع روي عن علي بن الحسين زين العابدين وأبي جعفر الباقر وجعفر الصادق عليهم السلام " لا مستقر لها " بنصب الراء. وفي الدر المنثور أخرج سعيد بن منصور وأحمد البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: " والشمس تجري لمستقر لها " قال: مستقرها تحت العرش.
اقول: وقد روي هذا المعنى عن أبي ذر عنه صلى الله عليه وآله وسلم من طرق الخاصة والعامة
[ 95 ]
مختصرة ومطولة، وفي بعضها أنها بعد الغروب تصعد سماء سماء حتى تصل إلى ما دون العرش فتسجد وتستأذن في الطلوع وتبقى على ذلك حتى تكسى نورا ويؤذن لها في الطلوع. والرواية إن صحت فهي مؤولة. وفي روضة الكافي بإسناده عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن الله عز وجل خلق الشمس قبل القمر وخلق النور قبل الظلمة. وفي المجمع روى العياشي في تفسيره بالاسناد عن الاشعث بن حاتم قال: كنت بخراسان حيث اجتمع الرضا والفضل بن سهل والمأمون في الايوان بمرو فوضعت المائدة فقال الرضا عليه السلام: إن رجلا من بني إسرائيل سألني بالمدينة فقال: النهار خلق قبل أم الليل ؟ فما عندكم ؟ قال: وأداروا الكلام فلم يكن عندهم في ذلك شئ. فقال الفضل للرضا: أخبرنا بها أصلحك الله. قال: نعم من القرآن أم من الحساب قال له الفضل من جهة الحساب فقال: قد علمت يا فضل أن طالع الدنيا السرطان والكواكب في مواضع شرفها فزحل في الميزان والمشترى في السرطان والمريخ في الجدي والشمس في الحمل والزهرة في الحوت وعطارد في السنبلة والقمر في الثور فتكون الشمس في العاشر وسط السماء فالنهار قبل الليل، ومن القرآن قوله تعالى: " ولا الليل سابق النهار " أي الليل قد سبقه النهار. أقول: نقل الالوسي في روح المعاني هذا الحديث ثم قال: وفي الاستدلال بالاية بحث ظاهر، وأما بالحساب فله وجه في الجملة ورآى المنجمون أن ابتداء الدورة دائرة نصف النهار وله موافقة لما ذكر والذي يغلب على الظن عدم صحة الخبر من مبتدئه فالرضا أجل من أن يستدل بالاية على ما سمعت من دعواه انتهى. وقد اختلط عليه الامر في تحصيل حقيقة معنى الليل والنهار.
توضيحه: أن الليل والنهار متقابلان تقابل العدم والملكة كالعمى والبصر فكما أن العمى ليس مطلق عدم البصر حتى يكون الجدار مثلا أعمى لعدم البصر فيه بل هو عدم البصر مما من شأنه أن يتصف بالبصر كالانسان كذلك الليل ليس هو مطلق عدم النور بل هو زمان عدم استضاءة ناحية من نواحي الارض بنور الشمس ومن المعلوم أن
[ 96 ]
عدم الملكة يتوقف في تحققه على تحقق الملكة المقابلة له قبله حتى يتعين بالاضافة إليه فلو لا البصر لم يتحقق عمى ولولا النهار لم يتحقق الليل. فمطلق الليل بمعناه الذي هو به ليل مسبوق الوجود بالنهار وقوله: " ولا الليل سابق النهار " وإن كان ناظرا إلى الترتيب المفروض بين النهر والليالي وأن هناك نهارا وليلا ونهارا وليلا وأن واحدا من هذه الليالي لا يسبق النهار الذي بجنبه. لكنه تعالى أخذ في قوله: " ولا الليل سابق النهار " مطلق الليل ونفى تقدمه على مطلق النهار ولم يقل: " إن واحدا من الليالي الواقعة في هذا الترتيب لا يسبق النهار الواقع في الترتيب قبله. فالحكم في الاية مبني على ما يقتضيه طبيعة الليل والنهار بحسب التقابل الذي أودعه الله بينهما وقد استفيد منه الحكم بانحفاظ الترتيب في تعاقب الليل والنهار فإن كل ليل هو افتقاد النهار الذي هو يتلوه فلا يتقدم عليه وإلى هذا يشير عليه السلام بعد ذكر الاية بقوله: " أي الليل قد سبقه النهار " يعني أن سبق النهار الليل هو خلقه قبله وليس كما يتوهم أن هناك نهر أو ليالي موجودة ثم يتعين لكل منها محله. وقول المعترض: " وأما بالحساب فله وجه في الجملة " لا يدري وجه قوله: في الجملة وهو وجه تام مبني على تسليم أصول التنجيم صحيح بالجملة على ذلك التقدير لا في الجملة. وكذا قوله: " ورآى المنجمون أن ابتداء الدورة دائرة نصف النهار وله موافقة لما ذكر " لا محصل له لان دائرة نصف النهار وهي الدائرة المارة على القطبين ونقطة
ثالثة بينهما غير متناهية في العدد لا تتعين لها نقطة معينة في السماء دون نقطة أخرى فيكون كون الشمس في إحداهما نهارا للارض دون الاخرى. وفي المجمع في قوله تعالى: " وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم " روى الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: معناه اتقوا ما بين أيديكم من الذنوب وما خلفكم من العقوبة. * * * ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين - 48. ما ينظرون
[ 97 ]
إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون - 49. فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون - 50. ونفخ في الصور فإذا هم من الاجدات إلى ربهم ينسلون - 51. قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون - 52. إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون - 53 فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون - 54 إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون - 55 هم وأزواجهم في ظلال على الارائك متكئون - 56. لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون - 57. سلام قولا من رب رحيم - 58. وامتازوا اليوم أيها المجرمون - 59. ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين - 60. وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم - 61. ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون - 62. هذه جهنم التي كنتم توعدون - 63. إصلوها اليوم بما كنتم تكفرون - 64. اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد
أرجلهم بما كانوا يكسبون - 65.
[ 98 ]
(بيان) لما فرغ من تفصيل آيات التوحيد المشار إليه إجمالا في أول الكلام شرع في تفصيل خبر المعاد وذكر كيفية قيام الساعة وإحضارهم للحساب والجزاء وما يجزى به أصحاب الجنة وما يجازى به المجرمون كل ذلك تبيينا لما تقدم من إجمال خبر المعاد. قوله تعالى: " ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين " كلام منهم وارد مورد الاستهزاء مبني على الانكار، ولعله لذلك جيئ باسم الاشارة الموضوعة للقريبة ولان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين كثيرا ما كانوا يسمعونهم حديث يوم القيامة وينذرونهم به، والوعد يستعمل في الخير والشر إذا ذكر وحده وإذا قابل الوعيد تعين الوعد للخير والوعيد للشر. قوله تعالى: " ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون " النظر بمعنى الانتظار، والمراد بالصيحة نفخة الصور الاولى باعانة السياق، وتوصيف الصيحة بالوحدة للاشارة إلى هوان أمرهم على الله جلت عظمته فلا حاجة إلى مؤنة زائدة، و " يخصمون " أصله يختصمون من الاختصام بمعنى المجادلة والمخاصمة. والاية جواب لقولهم: " متى هذا الوعد " مسوقة سوق الاستهزاء بهم والاستهانة بأمرهم كما كان قولهم كذلك، والمعنى ما ينتظر هؤلاء القائلون: متى هذا الوعد في سؤالهم عن وقت الوعد المنبئ عن الانتظار إلا صيحة واحدة - يسيرة علينا بلا مؤنة ولا تكلف - تأخذهم فلا يسعهم أن يفروا وينجوا منها والحال أنهم غافلون عنها يختصمون فيما بينهم. قوله تعالى: " فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون " أي يتفرع على هذه الصيحة بما أنها تفاجئهم ولا تمهلهم ان يموتوا من فورهم فلا يستطيعوا توصية - على أن الموت يعمهم جميعا دفعة فلا يترك منهم أحدا يوصي إليه - ولا أن يرجعوا إلى أهلهم
إذا كانوا في الخارج من بيوتهم مثلا. قوله تعالى: " ونفخ في الصور فإذا هم من الاجداث إلى ربهم ينسلون " هذه هي نفخة الصور الثانية التي بها الاحياء والبعث، والاجداث جمع جدث وهو القبر والنسل الاسراع في المشي وفي التعبير عنه بقوله: " إلى ربهم " تقريع لهم لانهم كانوا ينكرون
[ 99 ]
ربوبيته والباقي ظاهر. قوله تعالى: " قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمان وصدق المرسلون " البعث الاقامة، والمرقد محل الرقاد والمراد به القبر، وتعبيرهم عنه تعالى بالرحمان نوع استرحام وقد كانوا يقولون في الدنيا: " وما الرحمان " الفرقان: 60، وقوله: " وصدق المرسلون " عطف على قوله: " هذا ما وعد الرحمان " والجملة الفعلية قد تعطف على الاسمية. وقولهم: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا مبني على إنكارهم البعث وهم في الدنيا ورسوخ أثر الانكار والغفلة عن يوم الجزاء في نفوسهم وهم لا يزالون مستغرقين في الاهواء فإذا قاموا من قبورهم مسرعين إلى المحشر فاجأهم الورود في عالم لا يستقبلهم فيه إلا توقع الشر فأخذهم الفزع الاكبر والدهشة التي لا تقوم لها الجبال ولذا يتبادرون أولا إلى دعوة الويل والهلاك كما كان ذلك دأبهم في الدنيا عند الوقوع في المخاطر ثم سألوا عمن بعثهم من مرقدهم لان الذي أحاط بهم من الدهشة أذهلهم من كل شئ. ثم ذكروا ما كانت الرسل عليهم السلام يذكرونهم به من الوعد الحق بالبعث والجزاء فشهدوا بحقية الوعد واستعصموا بالرحمة فقالوا: " هذا ما وعد الرحمان " على ما هو دأبهم في الدنيا حيث يكيدون عدوهم إذا ظهر عليهم بالتملق وإظهار الذلة والاعتراف بالظلم والتقصير ثم صدقوا الرسل بقولهم: " وصدق المرسلون ". وبما تقدم ظهر أولا وجه دعوتهم بالويل إذا بعثوا.
وثانيا وجه سؤالهم عمن بعثهم من مرقدهم الظاهر في أنهم جاهلون به أولا ثم إقرارهم بأنه الذي وعده الرحمان وتصديقهم المرسلين فيما بلغوا عنه تعالى. ويظهر أيضا أن قوله: " من بعثنا من مرقدنا " الخ وقوله: " هذا ما وعد الرحمان " الخ. من قولهم. وقيل: قوله: " وصدق المرسلون " عطف على مدخول " ما " و " ما " موصولة أو مصدرية و " هذا ما وعد الرحمن " الخ جواب من الله أو من الملائكة أو من المؤمنين لقولهم: " من بعثنا من مرقدنا " ؟
[ 100 ]
وغير خفي أنه خلاف الظاهر وخاصة على تقدير كون " ما " مصدرية ولو كان قوله: " هذا ما وعد الرحمان " الخ. جوابا من الله أو الملائكة لقولهم: " من بعثنا من مرقدنا " لا جيب بالفاعل دون الفعل لانهم سألوا عن فاعل البعث ! وما قيل: إن العدول إليه لتذكير كفرهم وتقريعهم عليه مع تضمنه الاشارة إلى الفاعل هذا. لا يغني طائلا. وظهر أيضا أن قوله: " هذا ما وعد الرحمان " مبتدء وخبر، وقيل " هذا " صفة لمرقدنا بتأويل اسم الاشارة إلى المشتق و " ما " مبتدء خبره محذوف تقديره ما وعد الرحمان حق وهو بعيد عن الفهم. قوله تعالى: " إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون " اسم كان محذوف والتقدير إن كانت الفعلة أو النفخة إلا نفخة واحدة تفاجئهم أنهم مجموع محضرون لدينا من غير تأخير ومهلة. والتعبير بقوله: " لدينا " لان اليوم يوم الحضور لفصل القضاء عند الله سبحانه. قوله تعالى: " فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون " أي في هذا اليوم يقضي بينهم قضاء عدلا ويحكم حكما حقا فلا تظلم نفس شيئا.
وقوله: " ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون " عطف تفسير لقوله: فاليوم لا تظلم نفس شيئا " وهو في الحقيقة بيان برهاني لانتفاء الظلم يومئذ لدلالته على أن جزاء أعمال العاملين يومئذ نفس أعمالهم، ولا يتصور مع ذلك ظلم لان الظلم وضع الشئ في غير موضعه وتحميل العامل عمله وضع الشئ في موضعه ضرورة. وخطاب الاية من باب تمثيل يوم القيامة وإحضاره وإحضار من فيه بحسب العناية الكلامية، وليس - كما توهم - حكاية عما سيقال لهم أو يخاطبون به من جانب الله سبحانه أو الملائكة أو المؤمنين يوم القيامة فلا موجب له من جهة السياق. والمخاطب بقوله: " ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون " السعداء والاشقياء جميعا. وما قيل عليه أن الحصر يأبى التعميم فإنه تعالى يوفى المؤمنين أجورهم ويزيدهم من فضله أضعافا مضاعفة مدفوع بأن الحصر في الاية ناظر إلى جزاء العمل وأجره وما
[ 101 ]
يدل من الايات على المزيد كقوله: " لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد " ق: 35 أمر وراء الجزاء والاجر خارج عن طور العمل. وربما أجيب عنه بأن معنى الاية أن الصالح لا ينقص ثوابه والطالح لا يزاد عقابه فإن الحكمة تنافيه أما زيادة الثواب ونقص العقاب فلا مانع منه أو أن المراد بقوله: " لا تجزون إلا ما كنتم تعملون " أنكم لا تجزون إلا من جنس عملكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وفيه أن مدلول الاية لو كان ما ذكر اندفع الاشكال لكن الشأن في دلالتها على ذلك. قوله تعالى: " إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون " الشغل الشأن الذي يشغل الانسان ويصرفه عما عداه، والفاكه من الفكاهة وهي التحدث بما يسر أو التمتع والتلذذ ولا فعل له من الثلاثي المجرد على ما قيل. وقيل: " فاكهون " معناه ذوو فاكهة نحو لابن وتامر ويبعده أن الفاكهة مذكورة
في السياق ولا موجب لتكرارها. والمعنى أن أصحاب الجنة في هذا اليوم في شأن يشغلهم عن كل شئ دونه وهو التنعم في الجنة متمتعون فيها. قوله تعالى: " هم وأزواجهم في ظلال على الارائك متكؤن " الظلال جمع ظل وقيل جمع ظلة بالضم وهي السترة من الشمس من سقف أو شجر أو غير ذلك، والاريكة كل ما يتكى عليه من وسادة أو غيرها. والمعنى: هم أي أصحاب الجنة وأزواجهم من حلائلهم المؤمنات في الدنيا أو من الحور العين في ظلال أو أستار من الشمس وغيرها متكئون على الارائك اتكاء الاعزة. قوله تعالى: " لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون " الفاكهة ما يتفكه به من الثمرات كالتفاح والاترج ونحوهما، وقوله: " يدعون " من الادعاء بمعنى التمني أي لهم في الجنة فاكهة ولهم فيها ما يتمنونه ويطلبونه. قوله تعالى: " سلام قولا من رب رحيم " سلام مبتدء محذوف الخبر والتنكير للتفخيم والتقدير سلام عليهم أو لهم سلام، و " قولا " مفعول مطلق لفعل محذوف و التقدير
[ 102 ]
أقوله قولا من رب رحيم. والظاهر أن السلام منه تعالى وهو غير سلام الملائكة المذكور في قوله: " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقب الدار " الرعد: 24. قوله تعالى: " وامتازوا اليوم أيها المجرمين " أي ونقول اليوم للمجرمين امتازوا من أصحاب الجنة وهو تمييزهم منهم يوم القيامة وإنجاز لما في قوله في موضع آخر: " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار " ص: 28، وقوله: " أم حسب الذين اجترحوا السيآت أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم " الجاثية: 21.
قوله تعالى: " ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين " العهد الوصية، والمراد بعبادة الشيطان طاعته فيما يوسوس ويأمر به إذ لا طاعة إلا لله أو من أمر بطاعته، وقد علل النهى عن طاعته بكونه عدوا مبينا لان العدو لا يريد بعدوه خيرا. وقيل: المراد بعبادته عبادة الالهة من دون الله وإنما نسبت إلى الشيطان لكونها بتسويله وتزيينه، وهو تكلف من غير موجب. وإنما وجه الخطاب إلى المجرمين بعنوان أنهم بنو آدم لان عداوة الشيطان إنما نشبت أول ما نشبت بآدم حيث أمر أن يسجد له فأبى واستكبر فرجم ثم عاد ذريته بعداوته وأوعدهم كما حكاه الله تعالى إذ قال: " أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا " أسرى: 62. وأما عهده تعالى ووصيته إلى بني آدم أن لا يطيعوه فهو الذي وصاهم به بلسان رسله وأنبيائه وحذرهم عن اتباعه كقوله تعالى: " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة " الاعراف: 27: وقوله: " ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين " الزخرف: 62. وقيل: المراد بالعهد عهده تعالى إليهم في عالم الذر حيث قال: ألست بربكم قالوا بلى ". وقد عرفت مما قدمناه في تفسير آية الذر أن العهد الذي هناك هو بوجه عين العهد الذي وجه إليهم في الدنيا.
[ 103 ]
قوله تعالى: " وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم " عطف تفسير لما سبقه، وقد تقدم كلام في معنى الصراط المستقيم في تفسير قوله: " اهدنا الصراط المستقيم " من سورة الفاتحة. قوله تعالى: " ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون " الجبل الجماعة
وقيل: الجماعة الكثيرة والكلام مبنى على التوبيخ والعتاب. قوله تعالى: " هذه جهنم التى كنتم توعدون " أي كان يستمر عليكم الايعاد بها مرة بعد مرة بلسان الانبياء والرسل عليه السلام وأول ما أوعد الله سبحانه بها حين قال لابليس: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين " الحجر: 43 وفي لفظ الاية إشارة إلى إحضار جهنم يومئذ. قوله تعالى: " اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون " الصلا: اللزوم والاتباع، وقيل: مقاساة الحرارة ويظهر بقوله: " بما كنتم تكفرون " أن الخطاب للكفار وهم المراد بالمجرمين. قوله تعالى: " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " أي يشهد كل منها بما كانوا يكسبونه بواسطته فالايدي بالمعاصي التي كسبوها بها والارجل بالمعاصي الخاصة بها على ما يعطيه السياق. ومن هنا يظهر أن كل عضو ينطق بما يخصه من العمل وأن ذكر الايدي والارجل من باب الانموذج ولذا ذكر في موضع آخر السمع والبصر والفؤاد كما في سورة أسرى الاية 36. وفي موضع آخر الجلود كما في سورة حم السجدة الاية 20، وسيأتي بعض ما يتعلق به من الكلام في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " ما ينظرون إلا صيحة واحدة " الاية قال: ذلك في آخر الزمان يصاح فيهم صيحة وهم في أسواقهم يتخاصمون فيموتون كلهم في مكانهم لا يرجع أحد منهم إلى منزله ولا يوصي بوصية، وذلك قوله عز وجل: " فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ".
[ 104 ]
وفي المجمع في الحديث تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعان فما يطويانه
حتى تقوم الساعة، والرجل يرفع أكلته إلى فيه حتى تقوم الساعة، والرجل يليط (1) حوضه ليسقي ما شيته فما يسقيها حتى تقوم. أقول: وروى هذا المعنى في الدر المثور عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذا عن قتادة عنه صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا. وفي تفسير القمي وقوله عز وجل: " ونفخ في الصور فإذاهم من الاجداث إلى ربهم ينسلون " قال: من القبور. وفي رواية أبي الجارود عن ابي جعفر عليه السلام في قوله: تعالى " يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا " فإن القوم كانوا في القبور فلما قاموا حسبوا أنهم كانوا نياما وقالوا: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا. قالت الملائكة: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون. وفي الكافي بإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان أبو ذر رحمه الله يقول في خطبته: وما بين الموت والبعث إلا كنومة نمتها ثم استيقظت منها. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون " قال يفاكهون النساء ويلاعبونهن. وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله عز وجل: " في ظلال على الارائك متكؤن " الارائك السرر عليها الحجال. وفيه في قوله عز وجل: " سلام قولا من رب رحيم " قال: السلام منه هو الامان. وقوله: " وامتازوا اليوم أيها المجرمون " قال: إذا جمع الله الخلق يوم القيامة بقوا قياما على أقدامهم حتى يلجمهم العرق فينادون: يا رب حاسبنا ولو إلى النار قال: فيبعث الله رياحا فتضرب بينهم وينادي مناد: " وامتازوا اليوم أيها المجرمون " فيميز بينهم فصار المجرمون في النار، ومن كان في قلبه الايمان صار إلى الجنة. أقول: وقد ورد في بعض الروايات أن الله سبحانه يتجلى لهم فيشتغلون به عن كل من سواه مادام التجلى والمراد به ارتفاع كل حجاب بينهم وبين ربهم دون الرؤية
(1)
لاطه أي ملاه.
[ 105 ]
البصرية التي لا تتحقق إلا بمقارنة الجهات والابعاد فإنها مستحيلة في حقه تعالى. وفي اعتقادات الصدوق قال عليه السلام: من أصغى إلى ناطق فقد عبده فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس. وفي الكافي بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: وليست تشهد الجوارح على مؤمن إنما تشهد على من حقت عليه كلمة العذاب فأما المؤمن فيعطى كتابه بيمينه قال الله عز وجل: " فمن أوتي كتابه بيمينه فاؤلئك يقرؤن كتابهم ولا يظلمون فتيلا " أسرى: 71. وفي تفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن جده قال: قال أمير المؤمنين عليهم السلام في خطبة يصف هول يوم القيامة: ختم الله على الافواه فلا تكلم وتكلمت الايدي وشهدت الارجل ونطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثا. أقول: وفي هذا المعنى روايات أخر يأتي بعضها في ذيل تفسير قوله تعالى: " شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم " الاية حم السجدة: 20، وتقدم بعضها في الكلام على قوله تعالى: " إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا " أسرى: 36. * * * ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فانى يبصرون - 66. ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون - 67. ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون - 68 وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين - 69. لينذر من كان حيا ويحق القول على
[ 106 ]
الكافرين - 70. أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا انعاما فهم لها مالكون - 71 وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون - 72. ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون - 73. واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون - 74. لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون - 75. فلا يحزنك قولهم انا نعلم ما يسرون وما يعلنون - 76. أو لم ير الانسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين - 77. وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم - 78. قل يحييها الذي انشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم - 79. الذي جعل لكم من الشجر الاخضر نارا فإذا انتم منه توقدون - 80 أو ليس الذي خلق السموات والارض بقادر على ان يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم - 81. إنما امره إذا اراد شيئا أن يقول له كن فيكون - 82. فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ وإليه ترجعون - 83.
[ 107 ]
(بيان) بيان تلخيصي للمعاني السابقة في سياق آخر ففيه تهديد لهم بالعذاب، والاشارة إلى أنه صلى الله عليه وآله وسلم رسول وأن كتابه ذكر وقرآن وليس بشاعر ولا كتابه بشعر، والاشارة إلى خلق الانعام آية للتوحيد، والاحتجاج على الميعاد. قوله تعالى: " ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون " قال في مجمع البيان: الطمس محو الشئ حتى يذهب أثره فالطمس على العين كالطمس على
الكتاب ومثله الطمس على المال وهو إذهابه حتى لا يقع عليه إدراك، وأعمى مطموس وطميس وهو أن يذهب الشق الذي بين الجفنين، انتهى. فقوله: " ولو نشاء لطمسنا على أعينهم " أي لو أردنا لاذهبنا أعينهم فصارت ممسوحة لا أثر منها فذهبت به أبصارهم وبطل إبصارهم. وقوله: " فاستبقوا الصراط " أي أرادوا السبق إلى الطريق الواضح الذي لا يخطئ قاصده ولا يظل سالكه فلم يبصروه ولن يبصروه فالاستبعاد المفهوم من قوله: " فأنى يبصرون " كناية عن الامتناع. وقول بعضهم: إن المراد باستباق الصراط مبادرتهم إلى سلوك طريق الحق وعدم اهتدائهم إليها، لا يخلو من بعد. قوله تعالى: " ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون " قال في المجمع: والمسح قلب الصورة إلى خلقة مشوهة كما مسخ قوم قردة وخنازير وقال: والمكانة والمكان واحد. انتهى. والمراد بمسخهم على مكانتهم تشويه خلقهم وهم قعود في مكانهم الذي هم فيه من غير أن يغيرهم عن حالهم بعلاج وتكلف بل بمجرد المشية فهو كناية عن كونه هينا سهلا عليه تعالى من غير أي صعوبة. وقوله: " فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون " أي مضيا في العذاب ولا يرجعون إلى حالهم قبل العذاب والمسخ فالمضي والرجوع كنايتان عن الرجوع إلى حال السلامة والبقاء على حال العذاب والمسخ.
[ 108 ]
وقيل: المراد مضيهم نحو مقاصدهم ورجوعهم إلى منازلهم وأهليهم ولا يخلو من بعد. قوله تعالى: " ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون " التعمير التطويل في العمر، والتنكيس تقليب الشئ بحيث يعود أعلاه أسفله ويتبدل قوته ضعفا وزيادته
نقصا والانسان في عهد الهرم منكس الخلق يتبدل قوته ضعفا وعلمه جهلا وذكره نسيانا. والاية في مقام الاستشهاد بتنكيس الخلق على إمكان مضمون الايتين السابقتين والمراد أن الذي ينكس خلق الانسان إذا عمره قادر على أن يطمس على أعينهم وعلى أن يمسخهم على مكانتهم. وفي قوله: " أفلا يعقلون " توبيخهم على عدم التعقل وحثهم على التدبر في هذه الامور والاعتبار بها. قوله تعالى: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين عطف ورجوع إلى ما تقدم في صدر السورة من تصديق رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكون كتابه تنزيلا من عنده تعالى. فقوله: " وما علمناه الشعر " نفى أن يكون علمه الشعر ولازمه أن يكون بحيث لا يحسن قول الشعر لا أن يحسنه ويمتنع من قوله لنهي من الله متوجه إليه، ولا أن النازل من القرآن ليس بشعر وإن أمكنه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوله. وبه يظهر أن قوله: " وما ينبغي له " في مقام الامتنان عليه بأنه نزهه عن أن يقول شعرا فالجملة في مقام دفع الدخل والمحصل أن عدم تعليمنا إياه الشعر ليس يوجب نقصا فيه ولا أنه تعجيز له بل لرفع درجته وتنزيه ساحته عما يتعاوره العارف بصناعة الشعر فيقع في معرض تزيين المعاني بالتخيلات الشعرية الكاذبة التي كلما أمعن فيها كان الكلام أوقع في النفس، وتنظيم الكلام بأوزان موسيقية ليكون أوقع في السمع، فلا ينبغي له صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول الشعر وهو رسول من الله وآية رسالته ومتن دعوته القرآن المعجز في بيانه الذي هو ذكر وقرآن مبين. وقوله: " إن هو إلا ذكر وقرآن مبين " تفسير وتوضيح لقوله: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له " بما أن لازم معناه أن القرآن ليس بشعر فالحصر المستفاد من
[ 109 ]
قوله: " إن هو إلا ذكر " الخ من قصر القلب والمعنى ليس هو بشعر ما هو إلا ذكر وقرآن مبين. ومعنى كونه ذكرا وقرآنا أنه ذكر مقرو من الله ظاهر ذلك. قوله تعالى: " لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين " تعليل متعلق بقوله: " وما علمناه الشعر " والمعنى ولم نعلمه الشعر لينذر بالقرآن المنزه من أن يكون شعرا من كان حيا " الخ " أو متعلق بقوله: " إن هو إلا ذكر " الخ والمعنى ليس ما يتلوه على الناس إلا ذكرا وقرآنا مبينا نزلناه إليه لينذر من كان حيا " الخ " ومآل الوجهين واحد. والاية - كما ترى - تعد غاية إرسال الرسول وإنزال القرآن إنذار من كان حيا - وهو كناية عن كونه يعقل الحق ويسمعه - وحقية القول ووجوبه على الكافرين فمحاذاة الاية لما في صدر السورة من الايات في هذا المعنى ظاهر. قوله تعالى: " أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون " ذكر آية من آيات التوحيد تدل على ربوبيته تعالى وتدبيره للعالم الانساني وهي نظيرة ما تقدم في ضمن آيات التوحيد السابقة من إحياء الارض الميتة بإخراج الحب والثمرات وتفجير العيون. والمراد بكون الانعام مما عملته أيديه تعالى عدم إشراكهم في خلقها واختصاصه به تعالى فعمل الايدي كناية عن الاختصاص. وقوله: " فهم لها مالكون " تفريع على قوله: " خلقنا لهم " فإن المعنى خلقنا لاجلهم فهي مخلوقة لاجل الانسان ولازمه اختصاصها به وينتهى الاختصاص إلى الملك فإن الملك الاعتباري الذي في المجتمع من شعب الاختصاص. وبذلك يظهر ما في قول بعضهم: إن في تفرع قوله: " فهم لها مالكون " على قوله: " خلقنا لهم " خفاء، والظاهر تفرعها على مقدر والتقدير خلقناها لهم فهم لها مالكون، وأنت خبير بعدم خفاء تفرعها على " خلقنا لهم " وعدم الحاجة إلى تقدير.
وقيل: الملك بمعنى القدرة والقهر، وفيه أنه مفهوم من قوله بعد: " وذللناها لهم " والتأسيس خير من التأكيد.
[ 110 ]
قوله تعالى: " وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون " تذليل الانعام جعلها منقادة لهم غير عاصية وهو تسخيرها لهم، والركوب بفتح الراء الحمولة كالابل والبقر، وقوله: " ومنها يأكلون " أي من لحمها يأكلون. قوله تعالى: " ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون " المراد بالمنافع ما ينتفعون به من شعرها ووبرها وجلودها وغير ذلك، والمشارب جمع مشرب - مصدر ميمي بمعنى المفعول - والمراد بها الالبان، والكلام في معنى الشكر كالكلام فيما تقدم في قوله: " وما عملته أيديهم أفلا يشكرون ". ومعنى الايات الثلاث: أو لم يعلموا أنا خلقنا لاجلهم ولتدبير أمر حياتهم الدنيا أنعاما من الابل والبقر والغنم فتفرع على ذلك أنهم مالكون لها ملكا يصحح لهم أنواع تصرفاتهم فيها من غير معارض، وذللناها لهم بجعلها مسخرة لهم منقادة غير عاصية فمنها ركوبهم الذي يركبونه، ومنها أي من لحومها يأكلون، ولهم فيها منافع ينتفعون بأشعارها وأوبارها وجلودها ومشروبات من ألبانها يشربونها أفلا يشكرون الله على هذا التدبير الكامل الذى يكشف عن ربوبيته لهم ؟ أو لا يعبدونه شكرا لانعمه ؟. قوله تعالى: " واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون " ضمائر الجمع للمشركين، و المراد بالالهة الاصنام أو الشياطين وفراعنة البشر دون الملائكة المقربين والاولياء من الانسان لعدم ملاءمة ذيل الكلام: " وهم لهم جند محضرون " لذلك. وإنما اتخذوهم آلهة رجاء أن ينصروا من ناحيتهم لان عامتهم تتخذ إلها زعما منهم أن تدبير أمره مفوض إلى من اتخذه إلها من خير أو شر فيعبده العابد منهم ليرضيه بعبادته فلا يسخط فيقطع النعمة أو يرسل النقمة.
قوله تعالى: " لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون " أي لا يستطيع هؤلاء الالهة الذين اتخذوهم آلهة نصر هؤلاء المشركين لانهم لا يملكون شيئا من خير أو شر. وقوله: " وهم لهم جند محضرون " الظاهر أن أول الضميرين للمشركين وثانيهما للالهة من دون الله والمراد أن المشركين جند للالهة وذلك أن من لوازم معنى الجندية التبعية والملازمة والمشركون هم المعدودون أتباعا لالهتهم مطيعين لهم دون العكس.
[ 111 ]
والمراد بالاحضار في قوله: " محضرون " الاحضار للجزاء يوم القيامة قال تعالى: " وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون " الصافات: 158 وقال: " ولو لا نعمة ربي لكنت من المحضرين " الصافات: 57. ومحصل المعنى لا يستطيع الالهة المتخذون نصر المشركين وهم أي المشركون لهم أي لالهتهم أتباع مطيعون محضرون معهم يوم القيامة. وأما قول القائل: إن المعنى أن المشركين جند لالهتهم معدون للذب عنهم في الدنيا، أو أن المعنى وهم أي الالهة لهم أي للمشركين جند محضرون لعذاب المشركين يوم القيامة لانهم وقود النار التي يعذب بها المشركون، أو محضرون لعذابهم إظهارا لعجزهم عن النصر أو لاقناط المشركين عن شفاعتهم فهي معان رديئة. قوله تعالى: " فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون " الفاء لتفريع النهي عن الحزن على حقيقة اتخاذهم الالهة من دون الله رجاء للنصر أي إذا كان هذا حقيقة حالهم أن الذين استنصروهم لا يستطيعون نصرهم أبدا وأنهم سيحضرون معهم للعذاب فلا يحزنك قولهم ما قالوا به من الشرك فإنا لسنا بغافلين عنهم حتى يعجزونا أو يفسدوا علينا بعض الامر بل نعلم ما يسرون من أقوالهم وما يعلنون، وفي تركيب الاية بعض أقوال رديئة أضربنا عنه.
قوله تعالى: " أو لم ير الانسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين " رجوع إلى ما تقدم من حديث البعث والاحتجاج عليه إثر إنكارهم، ولا يبعد أن يكون بيانا تفصيليا لقولهم المشار إليه في قوله تعالى: " فلا يحزنك قولهم " الخ والمراد بالرؤية العلم القطعي أي أو لم يعلم الانسان علما قاطعا أنا خلقناه من نطفة، وتنكير نطفة للتحقير والخصيم المصر على خصومته وجداله. والاستفهام للتعجب والمعنى من العجيب أن الانسان يعلم أنا خلقناه من نطفة مهينة فيفاجؤه أنه خصيم مجادل مبين. قوله تعالى: " وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم " الرميم البالي من العظام، و " نسي خلقه " حال من فاعل ضرب، وقوله: " قال من يحيي العظام وهي رميم " بيان للمثل الذي ضربه الانسان، ولذلك جئ به مفصولا
[ 112 ]
من غير عطف لان الكلام في معنى أن يقال: فماذا ضرب مثلا ؟ فقيل: قال من يحيي العظام وهي رميم. والمعنى وضرب الانسان لنا مثلا وقد نسي خلقه من نطفة لاول مرة، ولو كان ذاكره لم يضرب المثل الذي ضربه وهو قوله: " من يحيي العظام وهي بالية ؟ " لانه كان يرد على نفسه ويجيب عن المثل الذي ضربه بخلقه الاول كما لقنه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم جوابا عنه. قوله تعالى: " قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم " تلقين الجواب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. الانشاء هو الايجاد الابتدائي وتقييده بقوله " أول مرة " للتأكيد، وقوله: " وهو بكل خلق عليم " إشارة إلى أنه تعالى لا ينسى ولا يجهل شيئا من خلقه فإذا كان هو خالق هذه العظام لاول مرة وهو لا يجهل شيئا مما كانت عليه قبل الموت وبعده
فإحياؤه ثانيا بمكان من الامكان لثبوت القدرة وانتفاء الجهل والنسيان. قوله تعالى: " الذي جعل لكم من الشجر الاخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون " بيان لقوله: " الذي أنشأها أول مرة " والايقاد إشعال النار. والاية مسوقة لرفع استبعاد جعل الشئ الموات شيئا ذا حياة والحياة والموت متنافيان والجواب أنه لا استبعاد فيه فإنه هو الذي جعل لكم من الشجر الاخضر الذي يقطر ماء نارا فإذا أنتم منه توقدون وتشعلون النار، والمراد به على المشهور بين المفسرين شجر (1) المرخ والعفار كانوا يأخذون منهما على خضرتهما فيجعل العفار زندا أسفل ويجعل المرخ زنذا أعلى فيسحق الاعلى على الاسفل فتنقدح النار بإذن الله فحصول الحي من الميت ليس بأعجب من انقداح النار من الشجرة الخضراء وهما متضادان. قوله تعالى: " أو ليس الذي خلق السماوات والارض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم " الاستفهام للانكار والاية بيان للحجة السابقة المذكورة في قوله (1)
المرخ بالفتح فالسكون والخاء العمجمة، والعفار بعين مفتوحة ثم الفاء ثم الراء المهملة شجرتان تشتعلان بسحق أحدهما على الاخر.
[ 113 ]
في قوله: " قل يحييها الذي أنشأها أول مرة " الخ. ببيان أقرب إلى الذهن وذلك بتبديل إنشائهم أول مرة من خلق السماوات والارض الذي هو أكبر من خلق الانسان كما قال تعالى: " لخلق السماوات والارض أكبر من خلق الناس " المؤمن: 57. فالاية في معنى قولنا: وكيف يمكن أن يقال: إن الله الذي خلق عوالم السماوات والارض بما فيها من سعة الخلقة البديعة وعجيب النظام العام المتضمن لما لا يحصى من الانظمة الجزئية المدهشة للعقول المحيرة للالباب والعالم الانساني جزء يسير منها، لا يقدر أن يخلق مثل هؤلاء الناس، بلى وإنه خلاق عليم. والمراد بمثلهم قيل: هم وأمثالهم وفيه أنه مغاير لمعنى مثل على ما يعرف من اللغة والعرف.
وقيل: المراد بمثلهم هم أنفسهم بنحو الكناية على حد قولهم: مثلك غني عن كذا أي أنت غني عنه، وفيه أنه لو كان كناية لصح التصريح به لكن لا وجه لقولنا: أو ليس الذي خلق السماوات والارض بقادر على أن يخلقهم فإن الكلام في بعثهم لا في خلقهم والمشركون معترفون بأن خالقهم هو الله سبحانه. وقيل: ضمير " مثلهم " للسماوات والارض فإنهما تشملان ما فيهما من العقلاء فأعيد إليهما ضمير العقلاء تغليبا فالمراد أن الله الخالق للعالم قادر على خلق مثله. وفيه أن المقام مقام إثبات بعث الانسان لا بعث السماوات والارض. على أن الكلام في الاعادة و خلق مثل الشئ ليس إعادة لعينه بل بالضرورة. فالحق أن يقال: إن المراد بخلق مثلهم إعادتهم للجزاء بعد الموت كما يستفاد من كلام الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان. بيانه أن الانسان مركب من نفس وبدن، والبدن في هذه النشأة في معرض التحلل والتبدل دائما فهو لا يزال يتغير أجزاؤه والمركب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه فهو في كل آن غيره في الان السابق بشخصه وشخصية الانسان محفوظة بنفسه - روحه - المجردة المنزهة عن المادة والتغيرات الطارئة من قبلها المأمونة من الموت والفساد. والمتحصل من كلامه تعالى أن النفس لا تموت بموت البدن وأنها محفوظة حتى ترجع
[ 114 ]
إلى الله سبحانه كما تقدم استفادته من قوله تعالى: " و قالوا ءإذا ضللنا في الارض ءإنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون " الم السجدة: 11. فالبدن اللاحق من الانسان إذا أعتبر بالقياس إلى البدن السابق منه كان مثله لا عينه لكن الانسان ذا البدن اللاحق إذا قيس إلى الانسان ذي البدن السابق كان عينه لا مثله لان الشخصية بالنفس وهي واحدة بعينها.
ولما كان استبعاد المشركين في قولهم: " من يحيي العظام وهي رميم " راجعا إلى خلق البدن الجديد دون النفس أجاب سبحانه بإثبات إمكان خلق مثلهم وأما عودهم بأعيانهم فهو إنما يتم بتعلق النفوس والارواح المحفوظة عند الله بالابدان المخلوقة جديدا، فتكون الاشخاص الموجودين في الدنيا من الناس بأعيانهم كما قال تعالى: " أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والارض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى " الاحقاف 33 فعلق الاحياء على الموتى بأعيانهم فقال: على أن يحيي الموتى ولم يقل: على أن يحيي أمثال الموتى. قوله تعالى: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " الاية من غرر الايات القرآنية تصف كلمة الايجاد وتبين أنه تعالى لا يحتاج في إيجاد شئ مما أراده إلى ما وراء ذاته المتعالية من سبب يوجد له ما أراده أو يعينه في إيجاده أو يدفع عنه مانعا يمنعه. وقد اختلف تعبيره تعالى عن هذه الحقيقة في كلامه فقال: " إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " النحل: 40، وقال: " وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " البقرة: 117. فقوله: " إنما أمره " الظاهر أن المراد بالامر الشأن، وقوله في آية النحل المنقولة آنفا: " إنما قولنا لشئ إذا أردنا " إن كان يؤيد كون الامر بمعنى القول وهو الامر اللفظي بلفظة كن إلا أن التدبر في الايات يعطي أن الغرض فيها وصف الشأن الالهي عند إرادة خلق شئ من الاشياء لا بيان أن قوله تعالى عند خلق شئ من الاشياء هذا القول دون غيره، فالوجه حمل القول على الامر بمعنى الشأن بمعنى أنه جئ به لكونه
[ 115 ]
مصداقا للشأن لا حمل الامر على القول بمعنى ما يقابل النهي. وقوله: " إذا أراد شيئا " أي إذا أراد إيجاد شئ كما يعطيه سياق الاية وقد
ورد في عدة من الايات القضاء مكان الارادة كقوله: " إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (1) " ولا ضير فالقضاء هو الحكم والقضاء و الحكم والارادة من الله شئ واحد وهو كون (2) الشئ الموجود بحيث ليس له من الله سبحانه إلا أن يوجد فمعنى إذا أردناه إذا أوقفناه موقف تعلق الارادة. وقوله: " أن يقول له كن " خبر إنما أمره أي يخاطبه بكلمة كن ومن المعلوم أن ليس هناك لفظ يتلفظ به وإلا احتاج في وجوده إلى لفظ آخر وهلم جرا فيتسلسل ولا أن هناك مخاطبا ذا سمع يسمع الخطاب فيوجد به لادائه إلى الخلف فالكلام تمثيل لافاضته تعالى وجود الشئ من غير حاجة إلى شئ آخر وراء ذاته المتعالية ومن غير تخلف ولا مهل. وبه يظهر فساد ما ذكره بعضهم حيث قال: الظاهر أن هناك قولا لفظيا هو لفظ كن وإليه ذهب معظم السلف وشؤون الله تعالى وراء ما تصل إليه الافهام فدع عنك الكلام والخصام. انتهى. وذلك أن ما ذكره من كون شؤنه تعالى وراء طور الافهام لو أبطل الحجة العقلية القطعية بطلت بذلك المعارف الدينية من أصلها فصحة الكتاب مثلا بما يفيده من المعارف الحقيقية إنما تثبت بالحجة العقلية فلو بطلت الحجة العقلية بكتاب أو سنة أو شئ آخر مما يثبت هو بها لكان ذلك الدليل المبطل مبطلا لنفسه أو لا فلا تزل قدم بعد ثبوتها. ومن المعلوم أن ليس هناك إلا الله عز اسمه والشئ الذي يوجد لا ثالث بينهما وإسناد العلية والسببية إلى إرادته دونه تعالى - والارادة صفة فعلية منتزعة من مقام الفعل كما تقدم - يستلزم انقطاع حاجة الاشياء إليه تعالى من رأس لاستيجابه استغناء الاشياء بصفة منتزعة منها عنه تعالى وتقدس. (1)
البقرة: 17، آل عمران: 47، مريم: 35، المؤمن: 68. (2) فإن هذه الارادة صفة فعلية خارجة عن الذات منتزعة عن مقام الفعل.
[ 116 ]
ومن المعلوم أن ليس هناك أمر ينفصل عنه تعالى يسمى إيجادا أو وجودا ثم يتصل بالشئ فيصير به موجودا وهو ظاهر فليس بعده تعالى إلا وجود الشئ فحسب. ومن هنا يظهر أن كلمة الايجاد وهي كلمة كن هي وجود الشئ الذي أوجده لكن بما أنه منتسب إليه قائم به وأما من حيث انتسابه إلى نفسه فهو موجود لا إيجاد ومخلوق لا خلق. و يظهر أيضا أن الذي يفيض منه تعالى لا يقبل مهلة ولا نظرة ولا يتحمل تبدلا ولا تغيرا، ولا يتلبس بتدريج وما يترآى في الخلق من هذه الامور إنما يتأتى في الاشياء في ناحية نفسها لا من الجهة التي تلي ربها سبحانه وهذا باب ينفتح منه ألف باب. وفي الايات للتلويح إلى هذه الحقائق إشارات لطيفة كقوله تعالى: " كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " آل عمران: 59، وقوله تعالى: " وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر " القمر: 50، وقوله تعالى: " وكان أمر الله قدرا مقدورا " الاحزاب: 38 إلى غير ذلك. وقوله في آخر الاية: " فيكون " بيان لطاعة الشئ المراد له تعالى وامتثاله لامر " كن " ولبسه الوجود. قوله تعالى: " فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ وإليه ترجعون " الملكوت مبالغة في معنى الملك كالرحموت والرهبوت في معنى الرحمة والرهبة. وانضمام الاية إلى ما قبلها يعطي أن المراد بالملكوت الجهة التالية له تعالى من وجهي وجود الاشياء، وبالملك الجهة التالية للخلق أو الاعم الشامل للوجهين. وعليه يحمل قوله تعالى: " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين " الانعام: 75. وقوله: " أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والارض " الاعراف: 185: وقوله: " قل من بيده ملكوت كل شئ " المؤمنون: 88.
وجعل الملكوت بيده تعالى للدلالة على أنه متسلط عليها لا نصيب فيها لغيره. ومآل المعنى في قوله: " فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ " تنزيهه تعالى عما استبعدوا منكرين للمعاد لغفلتهم عن أن ملكوت كل شئ بيده وفي قبضته.
[ 117 ]
و قوله: " وإليه ترجعون " خطاب لعامة الناس من مؤمن ومشرك، وبيان لنتيجة البيان السابق بعد التنزيه. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له " الاية قال: كانت قريش تقول: إن هذا الذي يقوله محمد شعر فرد الله عليهم فقال: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين " ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شعرا قط. وفي المجمع روي عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتمثل بهذا البيت: كفى الاسلام والشيب للمرء ناهيا فقال له أبو بكر: يا رسول الله إنما قال: كفى الشيب والاسلام للمرء ناهيا وأشهد أنك رسول الله وما علمك الله الشعر وما ينبغي لك. وفيه عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتمثل ببيت أخي بني قيس: ستبدي لك الايام ما كنت جاهلا * ويأتيك بالاخبار من لم تزود فجعل يقول: ويأتيك من لم تزود بالاخبار فيقول أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله فيقول: إني لست بشاعر ولا ينبغي لي. اقول: وروى في الدر المنثور الخبرين عن الحسن وعائشة كما رواه وروى في الدر المنثور غير ذلك مما تمثل به صلى الله عليه وسلم. وقال في المجمع: فأما قوله: أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب فقد قال قوم: إن هذا ليس بشعر، وقال آخرون: إنما هو اتفاق منه وليس
يقصد إلى شعر انتهى. والبيت منقول عنه صلى الله عليه وآله وسلم وقد أكثروا من البحث فيه وطرح الرواية أهون من نفي كونه شعرا أو شعرا مقصودا إليه. وفيه في قوله تعالى: " لينذر من كان حيا " الاية ويجوز أن يكون المراد بمن كان حيا عاقلا وروى ذلك عن علي عليه السلام. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى:
[ 118 ]
" واتخذوا من دون الله - إلى قوله - محضرون " يقول: لا تستطيع الالهة لهم نصرا وهم للالهة جند محضرون. وعن تفسير العياشي عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: جاء أبي بن خلف فأخذ عظما باليا من حائط ففته ثم قال: إذا كنا عظاما ورفاتا ءإنا لمبعثون خلقا ؟ فأنزل الله: قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم. أقول: وروى مثله في الدر المنثور بطرق كثيرة عن ابن عباس وعروة بن الزبير وعن قتادة والسدي وعكرمة وروى أيضا عن ابن عباس أن القائل هو العاص بن وائل وبطريق آخر عنه أن القائل هو عبد الله بن أبي. وفي الاحتجاج: في احتجاج أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال السائل: أفيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصور فعند ذلك تبطل الاشياء وتفنى فلا حس ولا محسوس ثم أعيدت الاشياء كما بدأها مدبرها وذلك أربعمائة سنة يسبت فيها الخلق وذلك بين النفختين. قال: وأنى له بالبعث والبدن قد بلى والاعضاء قد تفرقت فعضو ببلدة تأكله سباعها وعضو باخرى تمزقه هوامها وعضو قد صار ترابا يبنى به مع الطين في حائط. قال صلى الله عليه وآله وسلم: إن الذي أنشأه من غير شئ وصوره على غير مثال كان سبق إليه قادر
أن يعيده كما بدأه. قال: أوضح لي ذلك. قال صلى الله عليه وآله وسلم: إن الروح مقيمة في مكانها روح المحسن في ضياء وفسحة، وروح المسئ في ضيق وظلمة والبدن يصير ترابا كما منه خلق وما تقذف به السباع والهوام من أجوافها فما أكلته ومزقته كل ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الارض ويعلم عدد الاشياء ووزنها وإن تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب. فإذا كان حين البعث مطرت الارض مطر النشور فتربو الارض ثم تمخض مخض السقاء فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء والزبد من اللبن إذا مخض
[ 119 ]
فيجتمع تراب كل قالب إلى قالبه فينتقل بإذن الله القادر إلى حيث الروح فتعود الصور بإذن المصور كهيئتها ويلج الروح فيها فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا. وفي نهج البلاغة: يقول لما أراد كونه: كن فيكون، لا بصوت يقرع ولا نداء يسمع وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثله لم يكن من قبل ذلك كائنا ولو كان قديما لكان إلها ثانيا. وفيه: يقول ولا يلفظ ويريد ولا يضمر. وفي الكافي بإسناده عن صفوان بن يحيي قال. قلت لابي الحسن عليه السلام: أخبرني عن الارادة من الله ومن الخلق قال: فقال: الارادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، وأما من الله فإرادته إحداثه لا غير ذلك لانه لا يروي ولا يهم ولا يتفكر، وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق. فإرادة الله الفعل لا غير ذلك يقول له: كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكر ولا كيف لذلك كما أنه لا كيف له. أقول: والروايات عنهم عليه السلام في كون إرادته من صفات الفعل مستفيضة.
* * * سورة الصافات مكية وهي مائة واثنان وثمانون آية بسم الله الرحمن الرحيم والصافات صفا - 1. فالزاجرات زجرا - 2. فالتاليات ذكرا - 3. إن إلهكم لواحد - 4. رب السموات والارض وما بينهما ورب المشارق - 5. إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب - 6 وحفظا من كل شيطان مارد - 7. لا يسمعون إلى الملاء الاعلى ويقذفون من كل
[ 120 ]
جانب - 8. دحورا ولهم عذاب واصب - 9. إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب - 10. فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب - 11. (بيان) في السورة احتجاج على التوحيد، وإنذار للمشركين و تبشير للمخلصين من المؤمنين، وبيان ما يؤل إليه حال كل من الفريقين ثم ذكر عدة من عباده المؤمنين ممن من الله عليهم وقضى أن ينصرهم على عدوهم، وفي خاتمة السورة ما هو بمنزلة محصل الغرض منها وهو تنزيهه والسلام على عباده المرسلين وتحميده تعالى فيما فعل والسورة مكية بشهادة سياقها. قوله تعالى: " والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا " الصافات - على ما قيل - جمع صافة وهي جمع صاف، والمراد بها على أي حال الجماعة التي تصطف أفرادها والزاجرات من الزجر وهو الصرف عن الشئ بالتخويف بذم أو عقاب والتاليات من التلاوة بمعنى القراءة. وقد أقسم الله تعالى بهذه الطوائف الثلاث: الصافات والزاجرات والتاليات وقد
اختلفت كلماتهم في المراد بها: فأما الصافات فقيل: إن المراد بها الملائكة تصف أنفسها في السماء صفوفا كصفوف المؤمنين في الصلاة، وقيل: إنها الملائكة تصف أجنحتها في الهواء إذا أرادت النزول إلى الارض واقفة في انتظار أمر الله تعالى، وقيل: إنها الجماعة من المؤمنين يقومون في الصلاة أو في الجهاد مصطفين. وأما الزاجرات فقيل: إنها الملائكة تزجر العباد عن المعاصي فيوصله الله إلى قلوب الناس في صورة الخطرات كما يوصل وساوس الشياطين، وقيل: إنها الملائكة الموكلة بالسحاب تزجرها وتسوقها إلى حيث أراد الله سبحانه، وقيل: هي زواجر
[ 121 ]
القرآن وهي آياته الناهية عن القبائح، وقيل: هم المؤمنون يرفعون أصواتهم بالقرآن عند قراءته فيزجرون الناس عن المنهيات. وأما التاليات فقيل: هم الملائكة يتلون الوحي على النبي الموحى إليه، وقيل: هي الملائكة تتلو الكتاب الذي كتبه الله وفيها ذكر الحوادث، وقيل: جماعة قراء القرآن يتلونه في الصلاة. ويحتمل - والله العالم - أن يكون المراد بالطوائف الثلاث المذكورة في الايات طوائف الملائكة النازلين بالوحي المأمورين بتأمين الطريق ودفع الشياطين عن المداخلة فيه وإيصاله إلى النبي مطلقا أو خصوص محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما يستفاد من قوله تعالى: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم " الجن: 28. وعليه فالمعنى أقسم بالملائكة الذين يصفون في طريق الوحي صفا فبالذين يزجرون الشياطين ويمنعونهم عن المداخلة في الوحي فبالذين يتلون على النبي الذكر وهو مطلق الوحي أو خصوص القرآن كما يؤيده التعبير عنه بتلاوة الذكر.
ويؤيد ما ذكرنا وقوع حديث رمي الشياطين بالشهب بعد هذه الايات، وكذا قوله بعد: " فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا " الاية كما سنشير إليه. ولا ينافي ذلك إسناد النزول بالقرآن إلى جبريل وحده في قوله: " من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك " البقرة: 97 وقوله: " نزل به الروح الامين على قلبك " الشعراء: 194 لان الملائكة المذكورين أعوان جبريل فنزولهم به نزوله به وقد قال تعالى: " في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة " عبس: 16، وقال حكاية عنهم: " وما نتنزل إلا بأمر ربك " مريم: 64، وقال: " وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون " الصافات: 166 وهذا كنسبة التوفى إلى الرسل من الملائكة في قوله: " حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا " الانعام: 61 وإلى ملك الموت وهو رئيسهم في قوله: " قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم " السجدة: 11. ولا ضير في التعبير عن الملائكة بلفظ الاناث: الصافات والزاجرات والتاليات
[ 122 ]
لان موصوفها الجماعة، والتأنيث لفظي. وهذه أول سورة في القرآن صدرت بالقسم وقد اقسم الله سبحانه في كلامه بكثير من خلقه كالسماء والارض والشمس والقمر والنجم والليل والنهار والملائكة والناس والبلاد والاثمار، وليس ذلك إلا لما فيها من الشرف باستناد خلقها إليه تعالى وهو قيومها المنبع لكل شرف وبهاء. قوله تعالى: " إن إلهكم لواحد " الخطاب لعامة الناس وهو مقسم به، وهو كلام مسوق بدليل كما سيأتي. قوله تعالى: " رب السماوات والارض وما بينهما ورب المشارق " خبر بعد خبر لان، أو خبر لمبتدء محذوف والتقدير هو رب السماوات " الخ " أو بدل من واحد.
وفي سوق الاوصاف إشعار بعلة كون الاله واحدا كما أن خصوصية القسم مشعر بعلة كونه رب السماوات والارض وما بينهما. كأنه قيل إن إلهكم لواحد لان الملاك في الوهية الاله وهي كونه معبودا بالحق أن يكون ربا يدبر الامر على ما تعترفون وهو سبحانه رب السماوات والارض وما بينهما الذي يدبر أمرها ويتصرف في جميعها. وكيف لا ؟ وهو تعالى يوحي إلى نبيه فيتصرف في السماء وسكانها بإرسال ملائكة يصطفون بينها وبين الارض وهناك مجال الشياطين فيزجرونهم وهو تصرف منه فيما بين السماء و الارض وفي الشياطين ثم يتلون الذكر على نبيه وفيه تكميل للناس وتربية لهم سواء صدقوا أم كذبوا ففي الوحي تصرف منه في السماوات والارض وما بينهما فهو على وحدانيته رب الجميع المدبر لامرها والاله الواحد. وقوله: " ورب المشارق " أي مشارق الشمس باختلاف الفصول أو المراد مشارق مطلق النجوم أو مطلق المشارق، وفي تخصيص المشارق بالذكر مناسبة لطلوع الوحي بملائكته من السماء وقد قال تعالى: " ولقد رآه بالافق المبين " التكوير 23، وقال: " وهو بالافق الاعلى " النجم: 7. قوله تعالى: " إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب " المراد بالزينة ما يزين به،
[ 123 ]
والكواكب بيان أو بدل من الزينة وقد تكرر حديث تزيين السماء الدنيا بزينة الكواكب في كلامه كقوله: " وزينا السماء الدنيا بمصابيح " حم السجدة: 12 وقوله: " ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح " الملك: 5، وقوله: " أو لم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها " ق: 6. ولا يخلو من ظهور في كون السماء الدنيا من السماوات السبع التي يذكرها القرآن هو عالم الكواكب فوق الارض وإن وجهه بعضهم بما يوافق مقتضى الهيئة القديمة أو الجديدة.
قوله تعالى: " وحفظا من كل شيطان مارد " حفظا مفعول مطلق لفعل محذوف والتقدير وحفظناها حفظا من كل شيطان مارد، والمراد بالشيطان الشرير من الجن والمارد الخبيث العاري من الخير. قوله تعالى: " لا يسمعون إلى الملا الاعلى ويقذفون من كل جانب " أصل " لا يسمعون " لا يتسمعون والتسمع الاصغاء، وهو كناية عن كونهم ممنوعين مدحورين وبهذه العناية صار وصفا لكل شيطان ولو كان بمعنى الاصغاء صريحا أفاد لغوا من الفعل إذ لو كانوا لا يصغون لم يكن وجه لقذفهم. والملا من الناس الاشراف منهم الذين يملؤن العيون، والملا الاعلى هم الذين يريد الشياطين التسمع إليهم وهم الملائكة الكرام الذين هم سكنة السماوات العلى - على ما يدل عليه كلامه تعالى كقوله: " لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا " أسرى: 95. وقصدهم من التسمع إلى الملا الاعلى الاطلاع على أخبار الغيب المستوردة عن هذا العالم الارضي كالحوادث المستقبلة والاسرار المكنونة كما يشير إليه قوله تعالى: " وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون " الشعراء: 212، وقوله حكاية عن الجن: " وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا كنا نقعد مقاعد للسمع فمن يستمع الان يجد له شهابا رصدا " الجن: 9. وقوله: " ويقذقون من كل جانب " القذف الرمي والجانب الجهة. قوله تعالى: " دحورا ولهم عذاب واصب " الدحور الطرد والدفع، وهو مصدر بمعنى المفعول منصوب حالا أي مدحورين أو مفعول له أو مفعول مطلق، والواصب الواجب اللازم.
[ 124 ]
قوله تعالى: " إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب " الخطفة الاختلاس والاستلاب، والشهاب ما يرى في الجو كالكوكب المنقض، والثقوب الركوز وسمي
الشهاب ثاقبا لانه لا يخطئ هدفه وغرضه. والمراد بالخطفة اختلاس السمع وقد عبر عنه في موضع آخر باستراق السمع قال تعالى: " إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين " الحجر: 18، والاستثناء من ضمير الفاعل في قوله: " لا يسمعون " وجوز بعضهم كون الاستثناء منقطعا. ومعنى الايات الخمس: إنا زينا السماء التي هي أقرب السماوات منكم - أو السماء السفلي بزينة وهي الكواكب، وحفظناها حفظا من كل شيطان خبيث عار من الخير ممنوعين من الاصغاء إلى الملا الاعلى - للاطلاع إلى ما يلقون بين أنفسهم من أخبار الغيب - ويرمون من كل جهة حال كونهم مطرودين ولهم عذاب لازم لا يفارقهم إلا من اختلس من أخبارهم الاختلاسة فأتبعه شهاب ثاقب لا يخطئ غرضه. (كلام في معنى الشهب) أورد المفسرون أنواعا من التوجيه لتصوير استراق السمع من الشياطين ورميهم بالشهب وهي مبنية على ما يسبق إلى الذهن من ظاهر الايات والاخبار ان هناك أفلاكا محيطة بالارض تسكنها جماعات الملائكة ولها أبواب لا يلج فيها شئ إلا منها وأن في السماء الاولى جمعا من الملائكة بأيديهم الشهب يرصدون المسترقين للسمع من الشياطين فيقذفونهم بالشهب. وقد اتضح اليوم اتضاح عيان بطلان هذه الاراء ويتفرع على ذلك بطلان الوجوه التى أوردوها في تفسير الشهب وهي وجوه كثيرة أودعوها في المطولات كالتفسير الكبير للرازي وروح المعاني للالوسي وغيرهما. ويحتمل - والله العالم أن هذه البيانات في كلامه تعالى من قبيل الامثال المضروبة تصور بها الحقائق الخارجة عن الحس في صورة المحسوس لتقريبها من الحس وهو القائل عز وجل: " وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون " العنكبوت: 43.
[ 125 ]
وهو كثير في كلامه تعالى ومنه العرش والكرسي واللوح والكتاب وقد تقدمت الاشارة إليها وسيجئ بعض منها. وعلى هذا يكون المراد من السماء التي تسكنها الملائكة عالما ملكوتيا ذا افق أعلى نسبته إلى هذا العالم المشهود نسبة السماء المحسوسة بأجرامها إلى الارض، والمراد باقتراب الشياطين من السماء واستراقهم السمع وقذفهم بالشهب اقترابهم من عالم الملائكة للاطلاع على أسرار الخلقة والحوادث المستقبلة ورميهم بما لا يطيقونه من نور الملكوت، أو كرتهم على الحق لتلبيسه ورمي الملائكة إياهم بالحق الذي يبطل أباطيلهم. وإيراده تعالى قصة استراق الشياطين للسمع ورميهم بالشهب عقيب الاقسام بملائكة الوحي وحفظهم إياه عن مداخلة الشياطين لا يخلو من تأييد لما ذكرناه والله أعلم. قوله تعالى: " فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب " اللازب الملتزق بعضه ببعض بحيث يلزمه ما جاوره، وقال في مجمع البيان: اللازب واللازم بمعنى. انتهى. والمراد بقوله: " من خلقنا " إما الملائكة المشار إليهم في الايات السابقة وهم حفظة الوحي ورماة الشهب، وإما غير الناس من الخلق العظيم كالسماوات والارض والملائكة، والتعبير بلفظ أولى العقل للتغليب. والمعنى: فإذا كان الله هو رب السماوات والارض وما بينهما والملائكة فاسألهم أن يفتوا أهم أشد خلقا أم غيرهم ممن خلقنا فهم أضعف خلقا لانا خلقناهم من طين ملتزق فليسوا بمعجزين لنا. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " والصافات صفا " قال: الملائكة والانبياء. وفيه عن أبيه ويعقوب بن يزيد عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: إن هذه النجوم التي في السماء
مدائن مثل المدائن التي في الارض. الحديث. وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال: " عذاب واصب "
[ 126 ]
أي دائم موجع قد وصل إلى قلوبهم. وفيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث المعراج: قال: فصعد جبرئيل وصعدت معه إلى سماء الدنيا وعليها ملك يقال له: اسماعيل وهو صاحب الخطفة التي قال الله عز وجل: " إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب " وتحته سبعون ألف ملك تحت كل ملك سبعون ألف ملك. الحديث. أقول: والروايات في هذا الباب كثيرة أوردنا بعضا منها في تفسير قوله تعالى: " إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين " الحجر: 18 وسيأتي بعضها في تفسير سورتي الملك والجن إن شاء الله تعالى. وفي نهج البلاغة: ثم جمع سبحانه من حزن الارض وسهلها وعذبها وسبخها تربة سنها بالماء حتى خلصت، ولاطها بالبلة حتى لزبت. * * * بل عجبت ويسخرون - 12. وإذا ذكروا لا يذكرون - 13. وإذا رأوا آية يستسخرون - 14. وقالوا إن هذا إلا سحر مبين - 15. ءإذا متنا وكنا ترابا وعظاماءإنا لمبعوثون - 16. أو آباؤنا الاولون - 17. قل نعم وأنتم داخرون - 18. فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون - 19. وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين - 20. هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون - 21. أحشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون - 22. من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم - 23. وقفوهم إنهم
[ 127 ]
مسؤلون - 24. مالكم لا تناصرون - 25. بل هم اليوم مستسلمون - 26. وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون - 27. قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين - 28. قالوا بل لم تكونوا مؤمنين - 29. وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين - 30. فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون - 31. فأغويناكم إنا كنا غاوين - 32. فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون - 33. إنا كذلك نفعل بالمجرمين - 34. إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون - 35. ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون - 36. بل جاء بالحق وصدق المرسلين - 37. إنكم لذائقوا العذاب الاليم - 38. وما تجزون إلا ما كنتم تعملون - 39. إلا عباد الله المخلصين - 40. أولئك لهم رزق معلوم - 41. فواكه وهم مكرمون - 42. في جنات النعيم - 43. على سرر متقابلين - 44. يطاف عليهم بكأس من معين - 45. بيضاء لذة للشاربين - 46. لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون - 47. وعندهم قاصرات الطرف
[ 128 ]
عين - 48. كأنهن بيض مكنون - 49. فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون - 50. قال قائل منهم إني كان لي قرين - 51. يقول ءإنك لمن المصدقين - 52. ءإذا متنا وكنا ترابا وعظاما ءإنا لمدينون - 53. قال هل أنتم مطلعون - 54. فاطلع فرآه في سوآء الجحيم - 55. قال تالله إن كدت لتردين - 56.
ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين - 57. أفما نحن بميتين 58. إلا موتتنا الاولى وما نحن بمعذبين - 59. إن هذا لهو الفوز العظيم - 60. لمثل هذا فليعمل العاملون - 61. أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم - 62. إنا جعلناها فتنة للظالمين - 63. إنها شجرة يخرج في أصل الجحيم - 64. طلعها كانه رءوس الشياطين - 65. فإنهم لاكلون منها فمالؤن منها البطون - 66. ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم - 67. ثم إن مرجعهم لالى الجحيم - 68. إنهم ألفوا آباءهم ضالين - 69. فهم على آثارهم يهرعون - 70.
[ 129 ]
(بيان) حكاية استهزائهم بآيات الله وبعض أقاويلهم المبنية على الكفر وإنكار المعاد والرد عليهم بتقرير أمر البعث وما يجري عليهم فيه من الشدة وألوان العذاب وما يكرم الله به عباده المخلصين من النعمة والكرامة. وفيها ذكر تخاصم أهل النار يوم القيامة، وذكر محادثة بين أهل الجنة وأخرى بين بعضهم وبعض أهل النار. قوله تعالى: " بل عجبت ويسخرون وإذا ذكروا لا يذكرون " أي بل عجبت يا محمد من تكذيبهم إياك مع دعوتك إياهم إلى كلمة الحق، وهم يسخرون ويهزؤن من تعجبك منهم أو من دعائك إياهم إلى الحق، وإذا ذكروا بآيات الله الدالة على التوحيد ودين الحق لا يذكرون ولا يتنبهون. قوله تعالى: " وإذا رأوا آية يستسخرون " في مجمع البيان: سخر واستسخر بمعنى واحد. انتهى.
والمعنى: وإذا رأوا هؤلاء المشركون اية معجزة من آيات الله المعجزة كالقرآن وشق القمر يستهزؤن بها. قوله تعالى: " وقالوا إن هذا إلا سحر مبين " في إشارتهم إلى الاية بلفظة هذا إشعار منهم أنهم لا يفقهون منها إلا أنها شئ ما من غير زيادة وهو من أقوى الاهانة والاستسخار. قوله تعالى: " ءإذا متنا وكنا ترابا وعظاما ءإنا لمبعوثون أو آباؤنا الاولون " إنكار منهم للبعث مبني على الاستبعاد فمن المستبعد عند الوهم أن يموت الانسان فيتلاشى بدنه ويعود ترابا وعظاما ثم يعود إلى صورته الاولى. ومن الدليل على أن الكلام مسوق لافادة الاستبعاد تكرارهم الاستفهام الانكاري
[ 130 ]
بالنسبة إلى آبائهم الاولين فإن استبعاد الوهم لبعثهم وقد انمحت رسومهم ولم يبق منهم إلا أحاديث أشد وأقوى من استبعاده بعثهم أنفسهم. ولو كان إنكارهم البعث مبنيا على أنهم ينعدمون بالموت فتستحيل إعادتهم كان الحكم فيهم وفي آبائهم على نهج واحد ولم يحتج إلى تجديد استفهام بالنسبة إلى آبائهم. قوله تعالى: " قل نعم وأنتم داخرون فإنما هي زجرة واحدة فإذاهم ينظرون " أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيبهم بأنهم مبعوثون. وقوله: " وأنتم داخرون " أي صاغرون مهانون أذلاء، وهذا في الحقيقة احتجاج بعموم القدرة ونفوذ الارادة من غير مهلة، فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ولذا عقبه بقوله: " فإنما هي زجرة واحدة فإذاهم ينظرون " وقد قال تعالى: " ولله غيب السماوات والارض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شئ قدير " النحل: 77. وقوله: " فإنما هي زجرة واحدة " الخ (؟) الفاء لافادة التعليل والجملة تعليل لقوله:
" وأنتم داخرون " وفي التعبير بزجرة إشعار باستذلالهم. قوله تعالى: " وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون " معطوف على قوله: " ينظرون " المشعر بأنهم مبهوتون مدهوشون متفكرون ثم يتنبهون بكونه يوم البعث فيه الدين والجزاء وهم يحذرون منه بما كفروا وكذبوا ولذا قالوا: يوم الدين، ولم يقولوا يوم البعث، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع. وقوله: " هذا يوم الفصل الذى كنتم به تكذبون " قيل هو كلام بعضهم لبعض وقيل: كلام الملائكة أو كلامه تعالى لهم، ويؤيده الاية التالية، والفصل هو التمييز بين الشيئين وسمي يوم الفصل لكونه يوم التمييز بين الحق والباطل بقضائه وحكمه تعالى أو التمييز بين المجرمين والمتقين قال تعالى: " وامتازوا اليوم أيها المجرمون " يس: 59. قوله تعالى: " احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم " من كلامه تعالى للملائكة والمعنى وقلنا للملائكة: احشروهم وقيل: هو من كلام الملائكة بعضهم لبعض.
[ 131 ]
والحشر - على ما ذكره الراغب - إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها. والمراد بالذين ظلموا على ما يؤيده آخر الاية المشركون ولا كل المشركين بل المعاندون للحق الصادون عنه منهم قال تعالى: " فأذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالاخرة كافرون " الاعراف: 45، والتعبير بالماضي في المقام يفيد فائدة الوصف فليس المراد بالذين ظلموا من تحقق منه ظلم ما ولو مرة واحدة بل تعريف لهم بحاصل ما اكتسبوا في حياتهم الدنيا كما لو قيل: ماذا فعل فلان في حياته فيقال ظلم، فالفعل يفيد فائدة الوصف، وفي كلامه تعالى من ذلك شئ كثير كقوله تعالى: " وسيق الذين اتقوا إلى الجنة زمرا " الزمر: 73 وقوله:
" وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا " الزمر: 71 وقوله: " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " يونس 26. وقوله: " وأزواجهم " الظاهر أن المراد به قرناؤهم من الشياطين قال تعالى: " ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين - إلى أن قال - حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين " الزخرف: 38. وقيل: المراد بالازواج الاشباه والنظائر فأصحاب الزنا يحشرون مع أصحاب الزنا وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر وهكذا. وفيه أن لازمه أن يراد بالذين ظلموا طائفة خاصة من أصحاب كل معصية واللفظ لا يساعد عليه على أن ذيل الاية لا يناسبه. وقيل: المراد بالازواج نساؤهم الكافرات وهو ضعيف كسابقه. وقوله: " وما كانوا يعبدون من دون الله " الظاهر أن المراد به الاصنام التي يعبدونها نظرا إلى ظاهر لفظة " ما " فالاية نظيرة قوله: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " الانبياء: 98. ويمكن أن يكون المراد بلفظة " ما " ما يعم اولي العقل من المعبودين كالفراعنة والنماردة، وأما الملائكة المعبودون والمسيح عليه السلام فيخرجهم من العموم قوله
[ 132 ]
تعالى: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى اولئك عنها مبعدون " الانبياء: 101. وقوله: " فاهدوهم إلى صراط الجحيم " الجحيم من أسماء جهنم في القرآن وهو من الجحمة بمعنى شدة تأجج النار على ما ذكره الراغب. والمراد بهدايتهم إلى صراطها إيصالهم إليه وإيقاعهم فيه بالسوق، وقيل: تسمية ذلك بالهداية من الاستهزاء، وقال في مجمع البيان: إنما عبر عن ذلك بالهداية من حيث كان بدلا من الهداية إلى الجنة كقوله: " فبشرهم بعذاب أليم " من حيث إن هذه
البشارة وقعت لهم بدلا من البشارة بالنعيم. انتهى. قوله تعالى: " وقفوهم إنهم مسؤلون ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون " قال في المجمع يقال: وقفت أنا ووقفت غيري - أي يعدي ولا يعدى - وبعض بني تميم يقول: أوقفت الدابة والدار. انتهى. فقوله: " وقفوهم إنهم مسؤلون " أي احبسوهم لانهم مسؤلون أي حتى يسأل عنهم. والسياق يعطي أن هذا الامر بالوقوف والسؤال إنما يقع في صراط الجحيم. واختلفت كلماتهم فيما هو السؤال عنه فقيل: يسألون عن قول لا إله إلا الله، وقيل: عن شرب الماء البارد استهزاء بهم، وقيل: عن ولاية علي عليه السلام. وهذه الوجوه لو صحت فإنما تشير إلى بعض مصاديق ما يسأل عنه والسياق يشهد أن السؤال هو ما يشتمل عليه قوله: " ما لكم لا تناصرون " أي لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم تفعلونه في الدنيا فتستعينون به على حوائجكم ومقاصدكم، وما يتلوه من قوله: " بل هم اليوم مستسلمون " أي مسلمون لا يستكبرون يدل على أن المراد بقوله: " ما لكم لا تناصرون " السؤال عن استكبارهم عن طاعة الحق كما كانوا يستكبرون في الدنيا. فالسؤال عن عدم تناصرهم سؤال عن سبب الاستكبار الذي كانوا عليه في الدنيا فقد تبين به أن المسؤل عنه هو كل حق أعرضوا عنه في الدنيا من اعتقاد حق أو عمل صالح استكبارا على الحق تظاهرا بالتناصر. قوله تعالى: " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون - إلى قوله - إنا كنا غاوين " تخاصم واقع بين الاتباع والمتبوعين يوم القيامة، والتعبير عنه بالتساؤل لانه في معنى
[ 133 ]
سؤال بعضهم بعضا تلاوما وتعاتبا يقول التابعون لمتبوعيهم: لم أضللتمونا ؟ فيقول المتبوعون: لم قبلتم منا ولا سلطان لنا عليكم ؟
فقوله: " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " البعض الاول هم المعترضون والبعض الثاني المعترض عليهم كما يعطيه سياق التساؤل وتساؤلهم تخاصمهم. وقوله: " قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين " أي من جهة الخير والسعادة فاستعمال اليمين فيها شائع كثير كقوله: " وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين " الواقعة: 27 والمعنى أنكم كنتم تأتوننا من جهة الخير والسعادة فتقطعون الطريق وتحولون بيننا وبين الخير والسعادة وتضلوننا. وقيل: المراد باليمين الدين وهو قريب من الوجه السابق، وقيل: المراد باليمين القهر والقوة كما في قوله تعالى: " فراغ عليهم ضربا باليمين " الصافات: 93 ولا يخلو من وجه نظرا إلى جواب المتبوعين. وقوله: " قالوا بل لم تكونوا مؤمنين وما كان لنا عليكم من سلطان - إلى قوله - غاوين " جواب المتبوعين بتبرئة أنفسهم من إشقاء التابعين وأن جرمهم مستند إلى سوء اختيار أنفسهم. فقالوا: بل لم تكونوا مؤمنين أي لم نكن نحن السبب الموجب لاجرامكم وهلاككم بخلوكم عن الايمان بل لم تكونوا مؤمنين لا أنا جردناكم من الايمان. ثم قالوا: " وما كان لنا عليكم من سلطان " وهو في معنى الجواب على فرض التسليم كأنه قيل: ولو فرض أنه كان لكم إيمان فما كان لنا عليكم من سلطان حتى نسلبه منكم ونجردكم منه. على أن سلطان المتبوعين إنما هو بالتابعين فهم الذين يعطونهم السلطة والقوة فيتسلطون عليهم أنفسهم. ثم قالوا: " بل كنتم قوما طاغين " والطغيان هو التجاوز عن الحد وهو إضراب عن قوله: " لم تكونوا مؤمنين " كأنه قيل: ولم يكن سبب هلاككم مجرد الخلو من الايمان بل كنتم قوما طاغين كما كنا مستكبرين طاغين فتعاضدنا جميعا على ترك سبيل الرشد واتخاذ سبيل الغي فحق علينا كلمة العذاب التي قضى بها الله سبحانه قال تعالى:
[ 134 ]
" إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا " النبأ: 22 وقال: " فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى " النازعات: 39. ولهذا المعنى عقب قوله: " بل كنتم قوما طاغين " بقوله: " فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون " أي لذائقون العذاب. ثم قالوا: " فأغويناكم إنا كنا غاوين " وهو متفرع على ثبوت كلمة العذاب وآخر الاسباب لهلاكهم فإن الطغيان يستتبع الغواية ثم نار جهنم، قال تعالى لابليس " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين " الحجر: 43. فكأنه قيل: فلما تلبستم بالطغيان حل بكم الغواية بأيدينا من غير سلطان لنا عليكم إلا اتباعكم لنا واتصالكم بنا فسرى إليكم ما فينا من الصفة وهي الغواية فالغاوي لا يتأتى منه إلا الغواية والاناء لا يترشح منه إلا ما فيه، وبالجملة إنكم لم تجبروا ولم تسلبوا الاختيار منذ بدأتم في سلوك سبيل الهلاك إلى أن وقعتم في ورطته وهي الغواية فحق عليكم القول. قوله تعالى: " فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون - إلى قوله - يستكبرون " ضمير " فإنهم " للتابعين والمتبوعين فهم مشتركون في العذاب لاشتراكهم في الظلم وتعاونهم على الجرم من غير مزية لبعضهم على بعض. واستظهر بعضهم أن المغوين أشد عذابا وذلك في مقابلة أوزارهم وأوزار أمثال أوزارهم فالشركة لا تقتضي المساواة والحق أن الايات مسوقة لبيان اشتراكهم في الظلم والجرم والعذاب اللاحق بهم من قبله، ويمكن مع ذلك أن يلحق بكل من المتبوعين والتابعين ألوان من العذاب ناشئة عن خصوص شأنهم قال تعالى: " وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم " العنكبوت: 13، وقال: " ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا
ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون " الاعراف: 38. وقوله: " إنا كذلك نفعل بالمجرمين " تأكيد لتحقيق العذاب، والمراد بالمجرمين المشركون بدليل قوله بعد: " إنهم إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون " أي إذا
[ 135 ]
عرض عليهم التوحيد أن يؤمنوا به أو كلمة الاخلاص أن يقولوها استمروا على استكبارهم ولم يقبلوا. قوله تعالى: " ويقولون ءإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق وصدق المرسلين " قولهم هذا إنكار منهم للرسالة بعد استكبارهم عن التوحيد وإنكارهم له. وقوله: " بل جاء بالحق وصدق المرسلين " رد لقولهم: " لشاعر مجنون " حيث رموه عليه السلام بالشعر والجنون وفيه رمي لكتاب الله بكونه شعرا ومن هفوات الجنون فرد عليهم بأن ما جاء به حق وفيه تصديق الرسل السابقين فليس بباطل من القول كالشعر وهفوة الجنون وليس ببدع غير مسبوق في معناه. قوله تعالى: " إنكم لذائقوا العذاب الاليم " تهديد لهم بالعذاب لاستكبارهم ورميهم الحق بالباطل. قوله تعالى: " وما تجزون إلا ما كنتم تعملون " أي لا ظلم فيه لانه نفس عملكم يرد إليكم. قوله تعالى: " إلا عباد الله المخلصين - إلى قوله - بيض مكنون " استثناء منقطع من ضمير " لذائقوا " أو من ضمير " ما تجزون " ولكل وجه والمعنى على الاول لكن عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم وليسوا بذائقي العذاب الاليم والمعنى على الثاني لكن عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم وراء جزاء عملهم وسيجئ الاشارة إلى معناه. واحتمال كون الاستثناء متصلا ضعيف لا يخلو من تكلف.
وقد سماهم الله سبحانه عباد الله المخلصين فأثبت لهم عبودية نفسه والعبد هو الذي لا يملك لنفسه شيئا من إرادة ولا عمل فهؤلاء لا يريدون إلا ما أراده الله ولا يعملون إلا له. ثم أثبت لهم أنهم مخلصون بفتح اللام أي إن الله تعالى أخلصهم لنفسه فلا يشاركه فيهم أحد فلا تعلق لهم بشئ غيره تعالى من زينة الحياة الدنيا ولا من نعم العقبى وليس في قلوبهم إلا الله سبحانه.
[ 136 ]
ومن المعلوم أن من كانت هذه صفته كان التذاذه وتنعمه غير ما يلتذ ويتنعم غيره وارتزاقه بغير ما يرتزق به سواه وإن شاركهم في ضروريات المأكل والمشرب ومن هنا يتأيد أن المراد بقوله: " أولئك لهم رزق معلوم " الاشارة إلى أن رزقهم في الجنة - وهم عباد مخلصون - رزق خاص لا يشبه رزق غيرهم ولا يختلط بما يتمتع به من دونهم وإن اشتركا في الاسم. فقوله: " أولئك لهم رزق معلوم " أي رزق خاص متعين ممتاز من رزق غيرهم فكونه معلوما كناية عن امتيازه كما في قوله: " وما منا إلا له مقام معلوم " الصافات: 164 والاشارة بلفظ البعيد للدلالة على علو مقامهم. و أما ما فسره بعضهم أن المراد بكون رزقهم معلوما كونه معلوم الخصائص مثل كونه غير مقطوع ولا ممنوع حسن المنظر لذيذ الطعم طيب الرائحة، وكذا ما ذكره آخرون أن المراد أنه معلوم الوقت لقوله: " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا " مريم: 62 وكذا قول القائل: إن المراد به الجنة فهي وجوه غير سديدة. ومن هنا يظهر أن أخذ قوله: " إلا عباد الله المخلصين " استثناء من ضمير " وما تجزون " لا يخلو من وجه كما تقدمت الاشارة إليه. وقوله: " فواكه وهم مكرمون في جنات النعيم " الفواكه جمع فاكهة وهي ما
يتفكه به من الاثمار بيان لرزقهم المعلوم غير أنه تعالى شفعه بقوله: " وهم مكرمون " للدلالة على امتياز هذا الرزق أعني الفاكهة مما عند غيرهم بأنها مقارنة لاكرام خاص يخصهم قبال اختصاصهم بالله سبحانه وكونه لهم لا يشاركهم فيه شئ. وفي إضافة الجنات إلى النعيم إشارة إلى ذلك فقد تقدم في قوله: " فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم " الاية النساء: 69، وقوله: " وأتممت عليكم نعمتي " المائدة: 3 وغيرهما أن حقيقة النعمة هي الولاية وهي كونه تعالى هو القائم بأمر عبده. وقوله: " على سرر متقابلين " السرر جمع سرير وهو معروف وكونهم متقابلين معناه استئناس بعضهم ببعض و استمتاعهم بنظر بعضهم في وجه بعض من غير أن يرى بعضهم قفا بعض
[ 137 ]
وقوله: " يطاف عليهم بكأس من معين " الكأس إناء الشراب ونقل عن كثير من اللغويين أن إناء الشراب لا يسمى كأسا إلا وفيه الشراب فإن خلا منه فهو قدح و المعين من الشراب الظاهر منه من عان الماء إذا ظهر وجرى على وجه الارض، و المراد بكون الكأس من معين صفاء الشراب فيها ولذا عقبه بقوله: " بيضاء ". وقوله: " بيضاء لذة للشاربين " أي صافية في بياضها لذيذة للشاربين فاللذة مصدر أريد به الوصف مبالغة أو هي مؤنث لذ بمعنى لذيذ كما قيل. وقوله: " لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون " الغول الاضرار والافساد، قال الراغب: الغول إهلاك الشئ من حيث لا يحس به انتهى. فنفي الغول عن الخمر نفي مضارها و الانزاف فسر بالسكر المذهب للعقل وأصله إذهاب الشئ تدريجا. ومحصل المعنى: أنه ليس فيها مضار الخمر التي في الدنيا ولا اسكارها بإذهاب العقل. وقوله: " وعندهم قاصرات الطرف عين " وصف للحور التي يرزقونها وقصور
طرفهن كناية عن نظرهن نظرة الغنج والدلال ويؤيده ذكر العين بعده وهو جمع عيناء مؤنث أعين وهي الواسعة العين في جمال. وقيل: المراد بقاصرات الطرف أنهن قصرن طرفهن على أزواجهن لا يردن غيرهم لحبهن لهم، وبالعين أن أعينهن شديدة في سوادها شديدة في بياضها. وقوله: " كأنهن بيض مكنون " البيض معروف وهو اسم جنس واحدته بيضة والمكنون هو المستور بالادخار قيل: المراد تشبيههن بالبيض الذي كنه الريش في العش أو غيره في غيره فلم تمسه الايدي ولم يصبه الغبار، وقيل: المراد تشبيههن ببطن البيض قبل أن يقشر وقبل أن تمسه الايدي. قوله تعالى: " فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون - إلى قوله - فليعمل العاملون " حكاية محادثة تقع بين أهل الجنة فيسأل بعضهم عن أحوال بعض ويحدث بعضهم بما جرى عليه في الدنيا وتنتهي المحادثة إلى تكليمهم بعض أهل النار وهو في سواء الجحيم. فقوله: " فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " ضمير الجمع لاهل الجنة من عباد الله
[ 138 ]
المخلصين وتساؤلهم - كما تقدم - سؤال بعضهم عن بعض وما جرى عليه. وقوله: " قال قائل منهم إني كان لي قرين " أي قال قائل من أهل الجنة المتسائلين إني كان لي في الدنيا مصاحب يختص بي من الناس. كذا يعطي السياق. وقيل: المراد بالقرين القرين من الشياطين وفيه أن القرآن إنما يثبت قرناء الشياطين في المعرضين عن ذكر الله والمخلصون في عصمة إلهية من قرين الشياطين وكذا من تأثير الشيطان فيهم كما حكى عن إبليس استثناءهم من الاغواء: " فبعزتك لاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين " ص: 83 نعم ربما أمكن أن يتعرض لهم الشيطان من غير تأثير فيهم لكنه غير أثر القرين. وقوله: " يقول ءإنك لمن المصدقين إذا متنا وكنا ترابا وعظاما ءإنا لمدينون "
ضمير " يقول " للقرين، ومفعول " المصدقين " البعث للجزاء وقد قام مقامه قوله: " ءإذا متنا " الخ والمدينون المجزيون. والمعنى: كان يقول لي قريني مستبعدا منكرا ءإنك لمن المصدقين للبعث للجزاء ءإذا متنا وكنا ترابا وعظاما فتلاشت أبداننا وتغيرت صورهاءإنا لمجزيون بالاحياء والاعادة ؟ فهذا مما لا ينبغي أن يصدق. وقوله: " قال هل أنتم مطلعون " ضمير " قال " للقائل المذكور قبلا، والاطلاع الاشراف والمعنى ثم قال القائل المذكور مخاطبا لمحادثيه من أهل الجنة: هل أنتم مشرفون على النار حتى تروا قريني والحال التى هو فيها ؟ وقوله: " فاطلع فرآه في سواء الجحيم " السواء الوسط ومنه سواء الطريق أي وسطه والمعنى فأشرف القائل المذكور على النار فرآه أي قرينه في وسط الجحيم. وقوله: " قال تالله إن كدت لتردين " " إن " مخففة من الثقيلة، والارداء السقوط من مكان عال كالشاهق ويكنى به عن الهلاك والمعنى أقسم بالله إنك قربت أن تهلكني وتسقطني فيما سقطت فيه من الجحيم. وقوله: " ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين " المراد بالنعمة التوفيق والهداية
[ 139 ]
الالهية، والاحضار الاشخاص للعذاب قال في مجمع البيان: ولا يستعمل " أحضر " مطلقا إلا في الشر. والمعنى ولولا توفيق ربي وهدايته لكنت من المحضرين للعذاب مثلك. وقوله: " أفما نحن بميتين إلا موتتنا الاولى وما نحن بمعذبين " الاستفهام للتقرير والتعجيب، والمراد بالموتة الاولى هي الموتة عن الحياة الدنيا وأما الموتة عن البرزخ المدلول عليها بقوله: " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " المؤمن: 11 فلم يعبأ بها لان الموت الذي يزعم الزاعم فيه الفناء والبطلان هو الموت الدنيوي.
والمعنى - على ما في الكلام من الحذف والايجاز - ثم يرجع القائل المذكور إلى نفسه وأصحابه فيقول متعجبا أنحن خالدون منعمون فما نحن بميتين إلا الموتة الاولى وما نحن بمعذبين ؟ قال في مجمع البيان: ويريدون به التحقيق لا الشك وإنما قالوا هذا القول لان لهم في ذلك سرورا مجددا وفرحا مضاعفا وإن كان قد عرفوا أنهم سيخلدون في الجنة وهذا كما أن الرجل يعطى المال الكثير فيقول مستعجبا: كل هذا المال لي ؟ وهو يعلم أن ذلك له وهذا كقوله: أبطحاء مكة هذا الذي * أراه عيانا وهذا أنا ؟ قال: ولهذا عقبه بقوله: " إن هذا لهو الفوز العظيم " انتهى. وقوله: " إن هذا لهو الفوز العظيم " هو من تمام قول القائل المذكور وفيه إعظام لموهبة الخلود وارتفاع العذاب وشكر للنعمة. وقوله: " لمثل هذا فليعمل العاملون " ظاهر السياق أنه من قول القائل المذكور والاشارة بهذا إلى الفوز أو الثواب أي لمثل هذا الفوز أو الثواب فليعمل العاملون في دار التكليف، وقيل: هو من قول الله سبحانه وقيل: من قول أهل الجنة. واعلم أن لهم أقوالا مختلفة في نسبة أكثر الجمل السابقة إلى قول الله تعالى أو قول الملائكة أو قول أهل الجنة غير القائل المذكور والذي أوردناه هو الذي يساعد عليه السياق.
[ 140 ]
قوله تعالى: " أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم - إلى قوله - يهرعون " مقايسة بين ما هيأه الله نزلا لاهل الجنة مما وصفه من الرزق الكريم وبين ما أعده نزلا لاهل النار من شجرة الزقوم التي طلعها كأنه رؤس الشياطين وشراب من حميم. فقوله: " أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم " الاشارة بذلك إلى الرزق الكريم
المذكورة سابقا المعد لورود أهل الجنة والنزل بضمتين ما يهيؤ لورود الضيف فيقدم إليه إذا ورد من الفواكه ونحوها. والزقوم - على ما قيل - اسم شجرة صغيرة الورق مرة كريهة الرائحة ذات لبن إذا أصاب جسد إنسان تورم تكون في تهامة والبلاد المجدبة المجاورة للصحراء سميت به الشجرة الموصوفة بما في الاية من الاوصاف، وقيل: إن قريشا ما كانت تعرفه وسيأتي ذلك في البحث الروائي. ولفظة خير في الاية بمعنى الوصف دون التفضيل إذ لا خيرية في الزقوم أصلا فهو كقوله: " ما عند الله خير من اللهو " الجمعة: 11 والاية على ما يعطيه السياق من كلامه تعالى. وقوله: " إنا جعلناها فتنة للظالمين " الضمير لشجرة الزقوم، والفتنة المحنة والعذاب. وقوله: " إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم " وصف لشجرة الزقوم، وأصل الجحيم قعرها، ولا عجب في نبات شجرة في النار وبقائها فيها فحياة الانسان وبقاؤها خالدا فيها أعجب والله يفعل ما يشاء. وقوله: " طلعها كأنه رؤس الشياطين " الطلع حمل النخلة أو مطلق الشجرة أول ما يبدو، وتشبيه ثمرة الزقوم برؤس الشياطين بعناية أن الاوهام العامية تصور الشيطان في أقبح صورة كما تصور الملك في أحسن صورة وأجملها قال تعالى: " ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم " يوسف: 31، وبذلك يندفع ما قيل: إن الشئ إنما يشبه بما يعرف ولا معرفة لاحد برؤس الشياطين. وقوله: " فإنهم لاكلون منها فمالؤن منها البطون " الفاء للتعليل يبين به كونها نزلا للظالمين يأكلون منها، وفي قوله: " فمالؤن منها البطون " إشارة إلى تسلط جوع
[ 141 ]
شديد عليهم يحرصون به على الاكل كيفما كان.
وقوله: " ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم " الشوب المزيج والخليط، والحميم الماء الحار البالغ في حرارته، والمعنى ثم إن لاولئك الظالمين - زيادة عليها - لخليطا مزيجا من ماء حار بالغ الحرارة يشربونه فيختلط به ما ملؤا منه البطون من الزقوم. وقوله: " ثم إن مرجعهم لالى الجحيم " أي إنهم بعد شرب الحميم يرجعون إلى الجحيم فيستقرون فيها ويعذبون، وفي الاية تلويح إلى أن الحميم خارج الجحيم. وقوله: " إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون " ألفيت كذا أي وجدته وصادفته، والاهراع الاسراع والمعنى أن سبب أكلهم وشربهم ثم رجوعهم إلى الجحيم أنهم صادفوا آباءهم ضالين - وهم مقلدون وأتباع لهم وهم أصلهم ومرجعهم - فهم يسرعون على آثارهم فجوزوا بنزل كذلك والرجوع إلى الجحيم جزاء وفاقا. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن ابن جريح في قوله تعالى: " بل عجبت " قال النبي صلى الله عليه وسلم: عجبت بالقرآن حين أنزل ويسخر منه ضلال بني آدم. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " أحشروا الذين ظلموا " قال: الذين ظلموا آل محمد عليهم السلام حقهم " وأزواجهم " قال: أشباههم. اقول: صدر الرواية من الجري. وفي المجمع في قوله تعالى: " وقفوهم إنهم مسؤلون " قيل: عن ولاية علي عليه السلام عن أبي سعيد الخدري. اقول: ورواه الشيخ في الامالي بإسناده إلى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي العيون عن علي وعن الرضا عليه السلام عنه صلى الله عليه وآله وسلم، وفي تفسير القمي عن الامام عليه السلام. وفي الخصال عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تزول قدم
[ 142 ]
عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، وعن
ماله من أين كسبه وفيما أنفقه، وعن حبنا أهل البيت. اقول: وروى في العلل عنه صلى الله عليه وآله وسلم مثله. وفي نهج البلاغة: اتقوا الله في عباده وبلاده فإنكم مسؤلون حتى عن البقاع والبهائم. وفي الدر المنثور أخرج البخاري في تاريخه والترمذي والدارمي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من داع دعا إلى شئ إلا كان موقوفا يوم القيامة لازما به لا يفارقه وإن دعا رجل رجلا ثم قرء " وقفوهم إنهم مسؤلون ". وفي روضة الكافي بإسناده عن محمد بن إسحاق المدني عن أبي جعفر عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث: وأما قوله: " أولئك لهم رزق معلوم " قال: يعلمه (1) الخدام فيأتون به إلى أولياء الله قبل أن يسألوهم إياه. أما قوله: " فواكه وهم مكرمون " قال: فإنهم لا يشتهون شيئا في الجنة إلا أكرموا به. وفي تفسير القمي وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام " فاطلع فرآه في سواء الجحيم " يقول: في وسط الجحيم. وفيه في قوله تعالى: " أفما نحن بميتين " الخ بإسناده عن أبيه عن علي بن مهزيار والحسن بن محبوب عن النضر بن سويد عن درست عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار جيئ بالموت ويذبح كالكبش بين الجنة والنار ثم يقال: خلود فلا موت أبدا فيقول أهل الجنة: " أفما نحن بميتين إلا موتتنا الاولى وما نحن بمعذبين إن هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليعمل العاملون ". اقول: وحديث ذبح الموت في صورة كبش يوم القيامة من المشهورات رواه الشيعة وأهل السنة، وهو تمثل الخلود يومئذ. وفي المجمع في قوله تعالى: " شجرة الزقوم " روي أن قريشا لما سمعت هذه (1)
يعنى: خ.
[ 143 ]
الاية قالت: ما نعرف هذه الشجرة قال ابن الزبعرى: الزقوم بكلام البربر التمر والزبد وفي رواية بلغة اليمن فقال أبو جهل لجاريته: يا جارية زقمينا فأتته الجارية بتمر وزبد فقال لاصحابه: تزقموا بهذا الذي يخوفكم به محمد فيزعم أن النار تنبت الشجر والنار تحرق الشجر فأنزل الله سبحانه " إنا جعلناها فتنة للظالمين ". اقول: وهذا المعنى مروي بطرق عديدة. * * * ولقد ضل قبلهم أكثر الاولين - 71. ولقد أرسلنا فيهم منذرين - 72. فانظر كيف كان عاقبة المنذرين - 73. إلا عباد الله المخلصين - 74. ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون - 75. ونجيناه وأهله من الكرب العظيم - 76. وجعلنا ذريته هم الباقين - 77. وتركنا عليه في الاخرين - 78. سلام على نوح في العالمين - 79. إنا كذلك نجزي المحسنين - 80. إنه من عبادنا المؤمنين - 81. ثم أغرقنا الاخرين - 82. وإن من شيعته لابراهيم - 83. إذ جاء ربه بقلب سليم - 84. إذ قال لابيه وقومه ماذا تعبدون - 85. أئفكا آلهة دون الله تريدون - 86 - فما ظنكم برب العالمين - 87. فنظر نظرة في النجوم - 88. فقال إني سقيم - 89. فتولوا عنه مدبرين - 90. فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون - 91.
[ 144 ]
ما لكم لا تنطقون - 92. فراغ عليهم ضربا باليمين - 93. فأقبلوا إليه يزفون - 94. قال أتعبدون ما تنحتون - 95. والله خلقكم وما تعملون - 96. قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في
الجحيم - 97. فأرادوا به كيدا فجعلناهم الاسفلين - 98. وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين - 99. رب هب لي من الصالحين - 100. فبشرناه بغلام حليم - 101. فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين - 102. فلما أسلما وتله للجبين - 103. وناديناه أن يا إبراهيم - 104. قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين - 105. إن هذا لهو البلاء المبين - 106. وفديناه بذبح عظيم - 107. وتركنا عليه في الاخرين - 108. سلام على إبراهيم - 109. كذلك نجزي المحسنين - 110. إنه من عبادنا المؤمنين - 111. وبشرناه بإسحق نبيا من الصالحين - 112. وباركنا عليه وعلى إسحق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين - 113.
[ 145 ]
(بيان) تعقيب لغرض السياق السابق المتعرض لشركهم وتكذيبهم بآيات الله وتهديدهم بأليم العذاب يقول: إن أكثر الاولين ضلوا كضلالهم وكذبوا الرسل المنذرين كتكذيبهم ويستشهد بقصص نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس ولوط ويونس عليهم السلام وما في الايات المنقولة إشارة إلى قصة نوح وخلاصة قصص إبراهيم عليه السلام. قوله تعالى: " ولقد ضل قبلهم أكثر الاولين - إلى قوله - المخلصين " كلام مسوق لانذار مشركي هذه الامة بتنظيرهم للامم الهالكين من قبلهم فقد ضل أكثرهم كما ضل هؤلاء وأرسل إليهم رسل منذرون كما أرسل منذر إلى هؤلاء فكذبوا فكان عاقبة أمرهم الهلاك إلا المخلصين منهم.
واللام في " لقد ضل " للقسم وكذا في " لقد أرسلنا " والمنذرين الاول بكسر الذال المعجمة وهم الرسل والثاني بفتح الذال المعجمة وهم الامم الاولون، و " إلا عباد الله " إن كان المراد بهم من في الامم من المخلصين كان استثناء متصلا وإن عم الانبياء كان منقطعا إلا بتغليبه غير الانبياء عليهم والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون " اللامان للقسم وهو يدل على كمال العناية بنداء نوح وإجابته تعالى، وقد مدح تعالى نفسه في إجابته فإن التقدير فلنعم المجيبون نحن، وجمع المجيب لافادة التعظيم وقد كان نداء نوح - على ما يفيده السياق - دعاءه على قومه واستغاثته بربه المنقولين في قوله تعالى: " وقال نوح رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا " نوح: 26، وفي قوله تعالى: " فدعا ربه أني مغلوب فانتصر " القمر: 10. قوله تعالى: " ونجيناه وأهله من الكرب العظيم " الكرب - على ما ذكره الراغب - الغم الشديد والمراد به الطوفان أو أذى قومه، والمراد بأهله أهل بيته و المؤمنون به من قومه وقد قال تعالى في سورة هود: " قلنا احمل فيها من كل زوجين
[ 146 ]
اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن " هود: 40 والاهل كما يطلق على زوج الرجل وبنيه يطلق على كل من هو من خاصته. قوله تعالى: " وجعلنا ذريته هم الباقين " أي الباقين من الناس بعد قرنهم وقد بحثنا في هذا المعنى في قصة نوح من سورة هود. قوله تعالى: " وتركنا عليه في الاخرين " المراد بالترك الابقاء وبالاخرين الامم الغابرة غير الاولين، وقد ذكرت هذه الجملة بعد ذكر إبراهيم عليه السلام أيضا في هذه السورة وقد بدلت في القصة بعينها من سورة الشعراء من قوله: " واجعل لي لسان صدق في الاخرين " الشعراء: 84 واستفدنا منه هناك أن المراد بلسان صدق كذلك أن يبعث
الله بعده من يقوم بدعوته ويدعو إلى ملته وهي دين التوحيد. فيتأيد بذلك أن المراد بالابقاء في الاخرين هو إحياؤه تعالى دعوة نوح عليه السلام إلى التوحيد ومجاهدته في سبيل الله عصرا بعد عصر وجيلا بعد جيل إلى يوم القيامة. قوله تعالى: " سلام على نوح في العالمين " المراد بالعالمين جميعها لكونه جمعا محلى باللام مفيدا للعموم، والظاهر أن المراد به عالموا البشر واممهم وجماعاتهم إلى يوم القيامة فإنه تحية من عند الله مباركة طيبة تهدى إليه من قبل الامم الانسانية ما جرى فيها شئ من الخيرات اعتقادا أو عملا فانه عليه السلام أول من انتهض لدعوة التوحيد ودحض الشرك وما يتبعه من العمل وقاسى في ذلك أشد المحنة فيما يقرب من ألف سنة لا يشاركه في ذلك أحد فله نصيب من كل خير واقع بينهم إلى يوم القيامة، ولا يوجد في كلامه تعالى سلام على هذه السعة على أحد ممن دونه. وقيل: المراد بالعالمين عوالم الملائكة والثقلين من الجن والانس. قوله تعالى: " إنا كذلك نجزي المحسنين " تعليل لما امتن عليه من الكرامة كإجابة ندائه وتنجيته وأهله من الكرب العظيم وإبقاء ذريته وتركه عليه في الاخرين والسلام عليه في العالمين، وتشبيه جزائه بجزاء عموم المحسنين من حيث أصل الجزاء الحسن لا في خصوصياته فلا يوجب ذلك اشتراك الجميع فيما اختص به عليه السلام و هو ظاهر.
[ 147 ]
قوله تعالى: " إنه من عبادنا المؤمنين " تعليل لاحسانه المدلول عليه بالجملة السابقة وذلك لانه عليه السلام لكونه عبد الله بحقيقة معنى الكلمة كان لا يريد ولا يفعل إلا ما يريده الله، ولكونه من المؤمنين حقا كان لا يرى من الاعتقاد إلا الحق وسرى ذلك إلى جميع أركان وجوده ومن كان كذلك لا يصدر منه إلا الحسن الجميل فكان من المحسنين. قوله تعالى: " ثم أغرقنا الاخرين " ثم للتراخي الكلامي دون الزماني والمراد
بالاخرين قومه المشركون. قوله تعالى: " وإن من شيعته لابراهيم " الشيعة هم القوم المشايعون لغيرهم الذاهبون على أثرهم وبالجملة كل من وافق غيره في طريقته فهو من شيعته تقدم أو تأخر قال تعالى: " وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل " سبأ: 54. وظاهر السياق أن ضمير " شيعته " لنوح أي إن إبراهيم كان ممن يوافقه في دينه وهو دين التوحيد، وقيل: الضمير لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا دليل عليه من جهة اللفظ. قيل: ومن حسن الارداف في نظم الايات تعقيب قصة نوح عليه السلام وهو آدم الثاني أبو البشر بقصة إبراهيم عليه السلام وهو أبو الانبياء إليه تنتهى أنساب جل الانبياء بعده وعلى دينه تعتمد أديان التوحيد الحية اليوم كدين موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأيضا نوح عليه السلام نجاه الله من الغرق وإبراهيم عليه السلام نجاه الله من الحرق. قوله تعالى: " إذ جاء ربه بقلب سليم " مجيئه ربه كناية عن تصديقه له وإيمانه به، ويؤيد ذلك أن المراد بسلامة القلب عروه عن كل ما يضر التصديق والايمان بالله سبحانه من الشرك الجلي والخفي ومساوي الاخلاق وآثار المعاصي وأي تعلق بغيره ينجذب إليه الانسان ويختل به صفاء توجهه إليه سبحانه. وبذلك يظهر أن المراد بالقلب السليم ما لا تعلق له بغيره تعالى كما في الحديث وسيجئ إن شاء الله في البحث الروائي الاتي. وقيل: المراد به السالم من الشرك، ويمكن أن يوجه بما يرجع إلى الاول وقيل: المراد به القلب الحزين، وهو كما ترى. والظرف في الاية متعلق بقوله سابقا " من شيعته " والظروف يغتفر فيها ما لا
[ 148 ]
يغتفر في غيرها، وقيل متعلق بأذكر المقدر. قوله تعالى: " إذ قال لابيه وقومه ماذا تعبدون " أي أي شئ تعبدون ؟ وانما
سألهم عن معبودهم وهو يرى أنهم يعبدون الاصنام تعجبا واستغرابا. قوله تعالى: " ءافكا آلهة دون الله تريدون " أي تقصدون آلهة دون الله افكا وافتراء، انما قدم الافك والالهة لتعلق عنايته بذلك. قوله تعالى: " فنظر نظرة في النجوم فقال اني سقيم " لا شك أن ظاهر الايتين أن اخباره عليه السلام بأنه سقيم مرتبط بنظرته في النجوم ومبني عليه ونظرته في النجوم اما لتشخيص الساعة وخصوص الوقت كمن به حمى ذات نوبة يعين وقتها بطلوع كوكب أو غروبها أو وضع خاص من النجوم واما للوقوف على الحوادث المستقبلة التي كان المنجمون يرون أن الاوضاع الفلكية تدل عليها، وقد كان الصابئون مبالغين فيها وكان في عهده عليه السلام منهم جم غفير. فعلى الوجه الاول لما أراد أهل المدينة أن يخرجوا كافة إلى عيد لهم نظر إلى النجوم وأخبرهم أنه سقيم ستعتريه العلة فلا يقدر على الخروج معهم. وعلى الوجه الثاني نظر عليه السلام حينذاك إلى النجوم نظرة المنجمين فأخبرهم أنها تدل على أنه سيسقم فليس في وسعه الخروج معهم. وأول الوجهين أنسب لحاله عليه السلام وهو في إخلاص التوحيد بحيث لا يرى لغيره تعالى تأثيرا، ولا دليل لنا قويا يدل على أنه عليه السلام لم يكن به في تلك الايام سقم أصلا، وقد أخبر القرآن بإخباره بأنه سقيم وذكر سبحانه قبيل ذلك أنه جاء ربه بقلب سليم فلا يجوز عليه كذب ولا لغو من القول. ولهم في الايتين وجوه آخر أوجهها أن نظرته في النجوم وإخباره بالسقم من المعاريض في الكلام والمعاريض أن يقول الرجل شيئا يقصد به غيره ويفهم منه غير ما يقصده فلعله نظر عليه السلام في النجوم نظر الموحد في صنعه تعالى يستدل به عليه تعالى وعلى وحدانيته وهم يحسبون أنه ينظر إليها نظر المنجم فيها ليستدل بها على الحوادث ثم قال: إني سقيم يريد أنه سيعتريه سقم فإن الانسان لا يخلو في حياته من سقم ما ومرض ما
[ 149 ]
كما قال: " وإذا مرضت فهو يشفين " الشعراء: 80 وهم يحسبون أنه يخبر عن سقمه يوم يخرجون فيه لعيد لهم، والمرجح عنده لجميع ذلك ما كان يهتم به من الرواغ إلى أصنامهم وكسرها. لكن هذا الوجه مبني على أنه كان صحيحا غير سقيم يومئذ، وقد سمعت أن لا دليل يدل عليه. على أن المعاريض غير جائزة على الانبياء لارتفاع الوثوق بذلك عن قولهم. قوله تعالى: " فتولوا عنه مدبرين " ضمير الجمع للقوم وضمير الافراد لابراهيم عليه السلام أي خرجوا من المدينة وخلفوه. قوله تعالى: " فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون " الروغ والرواغ والروغان الحياد والميل، وقيل أصله الميل في جانب ليخدع من يريده. وفي قوله: " ألا تأكلون " ؟ تأييد لما ذكروا أن المشركين كانوا يضعون أيام أعيادهم طعاما عند آلهتهم. وقوله: " ألا تأكلون ؟ ما لكم لا تنطقون " ؟ تكليم منه لالهتهم وهي جماد وهو يعلم أنها جماد لا تأكل ولا تنطق لكن الوجد وشدة الغيظ حمله على أن يمثل موقفها موقف العقلاء ثم يؤاخذها مؤاخذة العقلاء كما يفعل بالمجرمين. فنظر إليها وهي ذوات أبدان كهيئة من يتغذى ويأكل وعندها شئ من الطعام فامتلا غيظا وجاش وجدا فقال: ألا تأكلون ؟ فلم يسمع منها جوابا فقال: " ما لكم لا تنطقون " ؟ وأنتم آلهة يزعم عبادكم أنكم عقلاء قادرون مدبرون لامورهم فلما لم يسمع لها حسا راغ عليها ضربا باليمين. قوله تعالى: " فراغ عليهم ضربا باليمين " أي تفرع على ذاك الخطاب أن مال على آلهتهم يضربهم ضربا باليد اليمنى أو بقوة بناء على كون المراد باليمين القوة.
وقول بعضهم: إن المراد باليمين القسم والمعنى مال عليهم ضربا بسبب القسم الذي سبق منه وهو قوله: " تالله لاكيدن أصنامكم " الانبياء: 57 بعيد. قوله تعالى: " فأقبلوا إليه يزفون " الزف والزفيف الاسراع في المشي أي فجائوا
[ 150 ]
إلى إبراهيم والحال أنهم يسرعون اهتماما بالحادثة التي يظنون أنه الذي أحدثها. وفي الكلام إيجاز وحذف من خبر رجوعهم إلى المدينة ووقوفهم على ما فعل بالاصنام وتحقيقهم الامر وظنهم به عليه السلام مذكور في سورة الانبياء. قوله تعالى: " قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعبدون " فيه إيجاز وحذف من حديث القبض عليه والاتيان به على أعين الناس ومسألته وغيرها. والاستفهام للتوبيخ وفيه مع ذلك احتجاج على بطلان طريقتهم فهو يقول: لا يصلح ما نحته الانسان بيده أن يكون ربا للانسان معبودا له والله سبحانه خلق الانسان وما يعمله والخلق لا ينفك عن التدبير فهو رب الانسان ومن السفه أن يترك هذا ويعبد ذاك. وقد بان بذلك أن الاظهر كون ما في قوله: " ما تنحتون " موصولة والتقدير ما تنحتونه، وكذا في قوله: " وما تعملون " وجوز بعضهم كون " ما " فيها مصدرية وهو في أولهما بعيد جدا. ولا ضير في نسبة الخلق إلى ما عمله الانسان أو إلى عمله لان ما يريده الانسان ويعمله من طريق اختياره مراد الله سبحانه من طريق إرادة الانسان واختياره ولا يوجب هذا النوع من تعلق الارادة بالفعل بطلان تأثير إرادة الانسان وخروج الفعل عن الاختيار وصيرورته مجبرا عليه، وهو ظاهر. ولو كان المراد نسبة خلق أعمالهم إلى الله سبحانه بلا واسطة لا من طريق إرادتهم بل بتعلق إرادته بنفس عملهم وأفاد الجبر لكان القول أقرب إلى أن يكون عذرا لهم
من أن يكون توبيخا وتقبيحا، وكانت الحجة لهم لا عليهم. قوله تعالى: " قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم " البنيان مصدر بنى يبني والمراد به المبنى، والجحيم النار في شدة تأججها. قوله تعالى: " فأرادوا به كيدا فجعلناهم الاسفلين " الكيد الحيلة والمراد احتيالهم إلى إهلاكه وإحراقه بالنار. وقوله: " فجعلناهم الاسفلين " كناية عن جعل إبراهيم فوقهم لا يؤثر فيه كيدهم
[ 151 ]
شيئا إذ قال سبحانه: " يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم " الانبياء: 69. وقد اختتم بهذا فصل من قصص إبراهيم عليه السلام وهو انتهاضه أولا على عبادة الاوثان واختصامه لعبادها وانتهاء أمره إلى إلقائه النار وإبطاله تعالى كيدهم. قوله تعالى: " وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين " فصل آخر من قصصه عليه السلام يذكر عزمه على المهاجرة من بين قومه واستيهابه من الله ولدا صالحا وإجابته إلى ذلك وقصة ذبحه ونزول الفداء. فقوله: " وقال إني ذاهب إلى ربي " الخ كالانجاز لما وعدهم به مخاطبا لازر: " واعتز لكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا " مريم: 48 ومنه يعلم أن مراده بالذهاب إلى ربه الذهاب إلى مكان يتجرد فيه لعبادته تعالى ودعائه وهو الارض المقدسة. وقول بعضهم: إن المراد أذهب إلى حيث أمرني ربي لا شاهد عليه. وكذا قول بعضهم: إن المراد إني ذاهب إلى لقاء ربي حيث يلقونني في النار فأموت وألقي ربي سيهديني إلى الجنة. وفيه - كما قيل - أن ذيل الاية لا يناسبه وهو قوله: " رب هب لي من الصالحين " وكذا قوله بعده: " فبشرناه بغلام حليم ".
قوله تعالى: " رب هب لي من الصالحين " حكاية دعاء إبراهيم عليه السلام ومسألته الولد أي قال: رب هب لي " الخ " وقد قيده بكونه من الصالحين. قوله تعالى: " فبشرناه بغلام حليم " أي فبشرناه أنا سنرزقه غلاما حليما وفيه إشارة إلى أنه يكون ذكرا ويبلغ حد الغلمان، وأخذ الغلومة في وصفه مع أنه بلغ مبلغ الرجال للاشارة إلى حاله التي يظهر فيها صفة كماله وصفاء ذاته وهو حلمه الذي مكنه من الصبر في ذات الله إذ قال: " يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ". ولم يوصف في القرآن من الانبياء بالحلم إلا هذا النبي الكريم في هذه الاية وأبوه في قوله تعالى: " إن إبراهيم لحليم اواه منيب " هود: 75.
[ 152 ]
قوله تعالى: " فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام إني أذبحك فانظر ماذا ترى " الخ الفاء في أول الاية فصيحة تدل على محذوف والتقدير فلما ولد له ونشأ وبلغ معه السعي، والمراد ببلوغ السعي بلوغه من العمر مبلغا يسعى فيه لحوائج الحياة عادة وهو سن الرهاق، والمعنى فلما راهق الغلام قال له يا بني " الخ ". وقوله: " قال يا بني إني أرى في المنام إني أذبحك " هي رؤيا إبراهيم ذبح ابنه، وقوله: " إني أرى " يدل على تكرر هذه الرؤيا له كما في قوله: " وقال الملك إني أرى " الخ يوسف: 33. وقوله: " فانظر ماذا ترى " هو من الرأي بمعنى الاعتقاد أي فتفكر فيما قلت وعين ما هو رأيك فيه، وهذه الجملة دليل على أن إبراهيم عليه السلام فهم من منامه أنه أمر له بالذبح مثل له في مثال نتيجة الامر ولذا طلب من ابنه الرأي فيه وهو يختبره بما ذا يجيبه ؟ وقوله: " قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين " جواب
ابنه، وقوله: " يا أبت افعل ما تؤمر " إظهار رضى بالذبح في صورة الامر وقد قال: افعل ما تؤمر ولم يقل: اذبحني إشارة إلى أن أباه مأمور بأمر ليس له إلا ائتماره وطاعته. وقوله: " ستجدني إن شاء الله من الصابرين " تطييب منه لنفس أبيه أنه لا يجزع منه ولا يأتي بما يهيج وجد الوالد عن ولده المزمل بدمائه، وقد زاد في كلامه صفاء على صفاء إذ قيد وعده بالصبر بقوله: " إن شاء الله " فأشار إلى أن اتصافه بهذه الصفة الكريمة أعني الصبر ليس له من نفسه ولا أن زمامه بيده بل هو من مواهب الله ومننه إن يشأ تلبس به وله أن لا يشاء فينزعه منه. قوله تعالى: " فلما أسلما وتله للجبين " الاسلام الرضا والاستسلام: والتل الصرع والجبين أحد جانبي الجبهة واللام في " للجبين " لبيان ما وقع عليه الصراع كقوله: " يخرون للاذقان سجدا " أسرى: 107، والمعنى فلما استسلما إبراهيم وابنه لامر الله ورضيا به وصرعه إبراهيم على جبينه. وجواب لما محذوف إيماء إلى شدة المصيبة ومرارة الواقعة. قوله تعالى: " وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا " معطوف على جواب
[ 153 ]
لما المحذوف، وقوله: " قد صدقت الرؤيا " أي أوردتها مورد الصدق وجعلتها صادقة وامتثلت الامر الذى أمرناك فيها أي إن الامر فيها كان امتحانيا يكفي في امتثاله تهيؤ المأمور للفعل وإشرافه عليه فحسب. قوله تعالى: " إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين " الاشارة بكذلك إلى قصة الذبح بما أنها محنة شاقة وابتلاء شديد والاشارة بهذا إليها أيضا وهو تعليل لشدة الامر. والمعنى: إنا على هذه الوتيرة نجزي المحسنين فنمتحنهم امتحانات شاقة صورة هينة معنى فإذا أتموا الابتلاء جزيناهم أحسن الجزاء في الدنيا والاخرة، وذلك لان الذي
ابتلينا به إبراهيم لهو البلاء المبين. قوله تعالى: " وفديناه بذبح عظيم " أي وفدينا ابنه بذبح عظيم وكان كبشا أتا به جبريل من عند الله سبحانه فداء على ما في الاخبار، والمراد بعظمة الذبح عظمة شأنه بكونه من عند الله سبحانه وهو الذي فدى به الذبيح. قوله تعالى: " وتركنا عليه في الاخرين " تقدم الكلام فيه. قوله تعالى: " سلام على إبراهيم " تحية منه تعالى عليه، وفي تنكير سلام تفخيم له. قوله تعالى: " إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين " تقدم تفسير الايتين. قوله تعالى: " وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين " الضمير لابراهيم عليه السلام. واعلم أن هذه الاية المتضمنة للبشرى بإسحاق بوقوعها بعد البشرى السابقة بقوله: " فبشرناه بغلام حليم " المتعقبة بقوله: " فلما بلغ معه السعي " إلى آخر القصة ظاهرة كالصريحة أو هي صريحة في أن الذبيح غير إسحاق وهو إسماعيل عليهما السلام وقد فصلنا القول في ذلك في قصص إبراهيم عليه السلام من سورة الانعام. قوله تعالى: " وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه
[ 154 ]
مبين " المباركة على شئ جعل الخير والنماء والثبات فيه أي وجعلنا فيما أعطينا إبراهيم وإسحاق الخير الثابت والنماء. ويمكن أن يكون قوله: " ومن ذريتهما " الخ قرينة على أن المراد بقوله: " باركنا " إعطاء البركة والكثرة في أولاده وأولاد إسحاق، والباقي ظاهر. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " بقلب سليم " قال: القلب السليم الذي يلقى
الله عز وجل وليس فيه أحد سواه. وفيه قال: القلب السليم من الشك. وفي روضة الكافي بإسناده عن حجر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أبو جعفر عليه السلام: عاب آلهتهم فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم. قال ابو جعفر عليه السلام: والله ما كان سقيما وما كذب. أقول: وفي معناه روايات أخر وفي بعضها: ما كان إبراهيم سقيما وما كذب إنما عنى سقيما في دينه مرتادا. وقد تقدم الروايات في قصة حجاج إبراهيم عليه السلام قومه وكسره الاصنام وإلقائه في النار في تفسير سور الانعام ومريم والانبياء والشعراء. وفي التوحيد عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث وقد سأله رجل عما اشتبه عليه من الايات قال: وقد أعلمتك أن رب شئ من كتاب الله عز وجل تأويله غير تنزيله ولا يشبه كلام البشر وسأنبئك بطرف منه فتكتفي إن شاء الله. من ذلك قول إبراهيم عليه السلام: " إني ذاهب إلى ربي سيهدين " فذهابه إلى ربه توجهه إليه عبادة واجتهادا وقربة إلى الله عز وجل ألا ترى أن تأويله غير تنزيله ؟. وفيه بإسناده عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن عليه السلام قال: يا فتح إن لله إرادتين ومشيتتين: إرادة حتم، وإرادة عزم ينهى وهو يشاء ذلك ويأمر وهو
[ 155 ]
لا يشاء أو ما رأيت أنه نهى آدم وزوجته عن أن يأكلا من الشجرة وهو يشاء ذلك ؟ ولو لم يشأ لم يأكلا، ولو أكلا لغلبت شهوتهما مشيئة الله تعالى، وأمر إبراهيم بذبح ابنه اسماعيل عليهما السلام وشاء أن لا يذبحه ولو لم يشأ أن لا يذبحه لغلبت مشية إبراهيم مشية الله عز وجل. قلت: فرجت عني فرج الله عنك.
وعن أمالي الشيخ بإسناده إلى سليمان بن يزيد قال: حدثنا على بن موسى قال: حدثني أبي عن أبيه عن أبي جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: الذبيح إسماعيل عليه السلام. أقول: وروى مثله في المجمع عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام، وبهذا المضمون روايات كثيرة أخرى عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، وقد وقع في بعض رواياتهم أنه إسحاق وهو مطروح لمخالفة الكتاب. وعن الفقيه سئل الصادق عليه السلام عن الذبيح من كان ؟ فقال اسماعيل لان الله تعالى ذكر قصته في كتابه ثم قال: " وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين ". أقول: هذا ما تقدم في بيان الاية أن الاية بسياقها ظاهرة بل صريحة في ذلك. وفي المجمع عن ابن إسحاق أن ابراهيم كان إذا زار اسماعيل وهاجر حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام حتى إذا بلغ معه السعي رآى في المنام أن (1) يذبحه فقال له: يا بني خذ الحبل والمدية (2) ثم انطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب. فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب ثبير أخبره بما قد ذكره الله عنه فقال: يا أبت أشدد رباطي حتى لا اضطرب واكفف عني ثيابك حتى لا ينتضح من دمي شيئا فيراه امي واشحذ شفرتك وأسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون علي فإن الموت شديد فقال له إبراهيم: نعم العون أنت يا بني على أمر الله. ثم ساق القصة وفيها ثم انحنى إليه بالمدية وقلب جبرائيل المدية على قفاها واجتر (1)
أنه ظ (2) المدية: السكين
[ 156 ]
الكبش من قبل ثبير وإجتر الغلام من تحته ووضع الكبش مكان الغلام، ونودي من
ميسرة مسجد الخيف: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. أقول: والروايات في القصة كثيرة ولا تخلو من اختلاف. وفيه: روى العياشي بإسناده عن بريد بن معاوية العجلي قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: كم كان بين بشارة إبراهيم بإسماعيل وبين بشارته بإسحاق عليه السلام ؟ قال: كان بين البشارتين خمس سنين قال الله سبحانه فبشرناه بغلام حليم يعني إسماعيل وهي أول بشارة بشر الله به إبراهيم عليه السلام في الولد. ولقد مننا على موسى وهارون - 114. ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم - 115. ونصرناهم فكانوا هم الغالبين - 116. و آتيناهما الكتاب المستبين - 117. وهديناهما الصراط المستقيم 118. وتركنا عليهما في الاخرين - 119. سلام على موسى وهرون - 120. إنا كذلك نجزى المحسنين - 121. إنهما من عبادنا المؤمنين - 122. وإن إلياس لمن المرسلين - 123. إذ قال لقومه ألا تتقون - 124. أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين - 125. الله ربكم ورب آبائكم الاولين - 126. فكذبوه فإنهم لمحضرون 127. إلا عباد الله المخلصين - 128. وتركنا عليه في الاخرين - 129. سلام على إل ياسين - 130. إنا كذلك نجزى المحسنين - 131. إنه من عبادنا المؤمنين - 132.
[ 157 ]
(بيان) ملخص قصة موسى وهارون وإشارة إلى قصة إلياس عليه السلام. وبيان ما أنعم الله عليهم وعذب مكذبيهم وجانب الرحمة يربو فيها على جانب العذاب والتبشير يزيد على الانذار.
قوله تعالى: " ولقد مننا على موسى وهارون " المن الانعام ومن المحتمل أن يكون المراد به ما سيعده مما أنعم عليهما وعلى قومهما من التنجية والنصر وإيتاء الكتاب والهداية وغيرها فيكون قوله: " ونجيناهما " الخ من عطف التفسير. قوله تعالى: " ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم " وهو الغم الشديد من استضعاف فرعون لهم يسومهم سوء العذاب ويذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم. قوله تعالى: " ونصرناهم فكانوا هم الغالبين " وهو الذي أدى إلى خروجهم من مصر وجوازهم البحر وهلاك فرعون وجنوده. وبذلك يندفع ما توهم أن مقتضى الظاهر أن يذكر النصر قبل التنجية لتوقفها عليه، وذلك أن النصر إنما يكون فيما إذا كان للمنصور قوة ما لكنها لا تكفي لدفع الشر فتتم بالنصر وكان لبني إسرائيل عند الخروج من مصر بعض القوة فناسب إطلاق النصر على إعانتهم على ذلك بخلاف أصل تخليصهم من يد فرعون فإنهم كانوا أسراء مستعبدين لا قوة لهم فلا يناسب هذا الاعتبار إلا ذكر التنجية دون النصر. قوله تعالى: وآتيناهما الكتاب المستبين " أي يستبين المجهولات الخفية فيبينها وهي التي يحتاج إليها الناس في دنياهم وآخرتهم. قوله تعالى: " وهديناهما الصراط المستقيم " المراد بها الهداية بتمام معنى الكلمة، ولذا خصها بهما ولم يشرك فيها معهما قومهما، ولقد تقدم كلام في معنى البداية إلى الصراط المستقيم في سورة الفاتحة. قوله تعالى: " وتركنا عليهما في الاخرين - إلى قوله - المؤمنين " تقدم تفسيرها. قوله تعالى: " وإن إلياس لمن المرسلين " قيل: إنه عليه السلام من آل هارون كان
[ 158 ]
مبعوثا إلى بعلبك (1) ولم يذكر في كلامه ما يستشهد به عليه. قوله تعالى: " إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين
- إلى قوله - الاولين " شطر من دعوته عليه السلام يدعو قومه فيها إلى التوحيد ويوبخهم على عبادة بعل - صنم كان لهم - وترك عبادة الله سبحانه. وكلامه عليه السلام على ما فيه من التوبيخ واللوم يتضمن حجة تامة على توحيده تعالى فإن قوله: " وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ورب آبائكم الاولين " يوبخهم أولا على ترك عبادة أحسن الخالقين، والخلق والايجاد كما يتعلق بذوات الاشياء يتعلق بالنظام الجاري فيها الذي يسمى تدبيرا فكما أن الخلق إليه تعالى فالتدبير أيضا إليه فهو المدبر كما أنه الخالق، وأشار إلى ذلك بقوله: " الله ربكم " بعد وصفه تعالى بأحسن الخالقين. ثم أشار إلى أن ربوبيته تعالى لا تختص بقوم دون قوم كالاصنام التي يتخذ كل قوم بعضا منها دون بعض فيكون صنم ربا لقوم دون آخرين بل هو تعالى رب لهم ولابائهم الاولين لا يختص ببعض دون بعض لعموم خلقه وتدبيره، وإليه أشار بقوله: " الله ربكم ورب آباؤكم الاولين ". قوله تعالى: " فكذبوه فإنهم لمحضرون " أي مبعوثون ليحضروا العذاب، وقد تقدم أن الاحضار إذا أطلق أفاد معنى الشر. قوله تعالى: " إلا عباد الله المخلصين " دليل على أنه كان في قومه جمع منهم. قوله تعالى: " وتركنا عليه في الاخرين - إلى قوله - المؤمنين " تقدم الكلام في نظائرها. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " أتدعون بعلا " قال: كان لهم صنم يسمونه بعلا. وفي المعاني بإسناده إلى قادح عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عن علي (1)
ولعلهم أخذوه من بعل فقد قيل: أن بعلبك سمى به لان بعلا كان منصوبا في معبد فيه.
[ 159 ]
عليه السلام في قول الله عز وجل: " سلام على آل يس " قال: يس محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونحن
آل يس. أقول: وعن العيون عن الرضا عليه السلام مثله، وهو مبني على قراءة آل يس كما قرأه نافع وابن عامر ويعقوب وزيد. (كلام في قصة الياس عليه السلام) 1 - قصته في القرآن: لم يذكر اسمه عليه السلام في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع وفي سورة الانعام عند ذكر هداية الانبياء حيث قال: " وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس وكل من الصالحين " الانعام: 85. ولم يذكر تعالى من قصته في هذه السورة إلا أنه كان يدعو إلى عبادة الله سبحانه قوما كانوا يعبدون بعلا فآمن به وأخلص الايمان قوم منهم وكذبه آخرون وهم جل القوم وإنهم لمحضرون. وقد أثنى الله سبحانه عليه في سورة الانعام بما أثنى به على الانبياء عامة وأثنى عليه في هذه السورة بأنه من عباده المؤمنين المحسنين وحياه بالسلام بناء على القراءة المشهورة " سلام على إل ياسين ". 2 - الاحاديث فيه: ورد فيه عليه السلام أخبار مختلفة متهافتة كغالب الاخبار الواردة في قصص الانبياء الحاكية للعجائب كالذي روي عن ابن مسعود أن إلياس هو إدريس وما عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن الخضر هو إلياس، وما عن وهب وكعب الاحبار وغيرهما أن إلياس حي لا يموت إلى النفخة الاولى، وما عن وهب أن إلياس سأل الله أن يريحه من قومه فأرسل الله إليه دابة كهيئة الفرس في لون النار فوثب إليه فانطلق به فكساه الله الريش والنور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فصار في الملائكة، وما عن كعب الاحبار أن إلياس صاحب الجبال والبر وأنه الذي سماه الله بذي النون، وما عن الحسن أن إلياس موكل بالفيافي والخضر موكل بالجبال، وما عن أنس (؟) أن
[ 160 ]
إلياس لاقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أسفاره فقعدا يتحدثان ثم نزل عليهما مائدة من السماء فأكلا وأطعماني ثم ودعه وودعني ثم رأيته مر على السحاب نحو السماء إلى غير ذلك (1). وفي بعض أخبار الشيعة أنه عليه السلام حي مخلد (2) لكنها ضعاف وظاهر آيات القصة لا يساعد عليه. وفي البحار في قصة إلياس عليه السلام عن قصص الانبياء بالاسناد عن الصدوق بإسناده إلى وهب بن منبه، ورواه الثعلبي في العرائس عن ابن إسحاق وعلماء الاخبار أبسط منه - والحديث طويل جدا، وملخصه - أنه بعد انشعاب ملك بني إسرائيل وتقسمه بينهم سار سبط منهم إلى بعلبك وكان لهم ملك منهم يعبد صنما اسمه بعل ويحمل الناس على عبادته. وكانت له مرأة فاجرة قد تزوجت قبله بسبعة من الملوك وولدت تسعين ولدا سوى أبناء الابناء، وكان الملك يستخلفها إذا غاب فتقضي بين الناس، وكان له كاتب مؤمن حكيم قد خلص من يدها ثلاث مائة مؤمن تريد قتله، وكان في جوار قصر الملك رجل مؤمن له بستان وكان الملك يحترم جواره ويكرمه. ففي بعض ما غاب الملك قتلت المرأة الجار المؤمن وغصبت بستانه فلما رجع وعلم به عاتبها فاعتذرت إليه وأرضته فآلى الله تعالى على نفسه أن ينتقم منهما إن لم يتوبا فأرسل إليهم إلياس عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وأخبرهما بما آلى الله فاشتد غضبهم عليه وهموا بتعذيبه وقتله فهرب منهم إلى أصعب جبل هناك فلبث فيه سبع سنين يعيش بنبات الارض وثمار الشجر. فأمرض الله ابنا للملك يحبه حبا شديدا فاستشفع ببعل فلم ينفعه فقيل له: إنه غضبان عليك إن لم تقتل إلياس فأرسل إليه فئة من قومه ليخدعوه ويقبضوا عليه فأرسل الله إليهم نارا فأحرقتهم ثم أرسل إليه فئة اخرى من ذوي البأس مع كاتبه (1)
رواه في الدر المنثور في تفسير آيات القصة. (2) رواه في البحار عن قصص الانبياء.
[ 161 ]
المؤمن فذهب معه إلياس صونا له من غضب الملك لكن الله سبحانه أمات ابنه فشغله حزنه عن إلياس فرجع سالما. ثم لما طال الامر نزل إلياس من الجبل واستخفى عند ام يونس بن متى في بيتها ويونس طفل رضيع ثم خرج بعد ستة أشهر إلى الجبل ثانيا واتفق أن مات بعده يونس ثم أحياه الله بدعاء إلياس بعد ما خرجت امه في طلبه فوجدته فتضرعت إليه. ثم إنه سأل الله أن ينتقم له من بني إسرائيل ويمسك عنهم الامطار فاجيب وسلط الله عليهم القحط فأجهدوا سنين فندموا فجاؤه فتابوا وأسلموا فدعا الله فأرسل عليهم المطر فسقاهم وأحيا بلادهم. فشكوا إليه هدم الجدران وعدم البذر من الحبوب فأوحى إليه أن يأمرهم أن يبذروا الملح فأنبت لهم الحمص وأن يبذروا الرمل فأنبت لهم منه الدخن. ثم لما كشف الله عنهم الضر نقضوا العهد وعادوا إلى أخبث ما كانوا عليه فأمل ذلك إلياس فدعا الله أن يريحه منهم فأرسل الله إليه فرسا من نار فوثب عليه إلياس فرفعه الله إلى السماء وكساه الريش والنور فكان مع الملائكة. ثم سلط الله على الملك وامرأته عدوا فقصدهما وظهر عليهما فقتلهما وألقى جيفتهما في بستان ذلك الرجل المؤمن الذي قتلاه وغصبوا بستانه. وأنت بالتأمل فيما تقصه الرواية لا ترتاب في ضعفها. * * * وإن لوطا لمن المرسلين - 133. إذ نجيناه وأهله أجمعين - 134. إلا عجوزا في الغابرين - 135. ثم دمرنا الاخرين - 136. وإنكم لتمرون عليهم مصبحين - 137. وبالليل أفلا تعقلون - 138.
[ 162 ]
وإن يونس لمن المرسلين - 139. إذ أبق إلى الفلك المشحون - 140. فساهم فكان من المدحضين - 141. فالتقمه الحوت وهو مليم - 142. فلو لا أنه كان من المسبحين - 143. للبث في بطنه إلى يوم يبعثون - 144. فنبذناه بالعراء وهو سقيم - 145. وأنبتنا عليه شجرة من يقطين - 146. وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون - 147. فآمنوا فمتعناهم إلى حين - 148. (بيان) خلاصة قصة لوط عليه السلام ثم قصة يونس عليه السلام وابتلاء الله تعالى له بالحوت مأخوذا بما أعرض عن قومه عند ارتفاع العذاب عنهم بعد نزوله وإشرافه عليهم. قوله تعالى: " وإن لوطا لمن المرسلين إذ نجيناه وأهله أجمعين " وإنما نجاه وأهله من العذاب النازل على قومه وهو الخسف وإمطار حجارة من سجيل على ما ذكره الله تعالى في سائر كلامه. قوله تعالى: " إلا عجوزا في الغابرين " أي في الباقين في العذاب المهلكين به وهي امرأة لوط. قوله تعالى: " ثم دمرنا الاخرين " التدمير الاهلاك، والاخرين قومه الذين أرسل إليهم. قوله تعالى: " وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون " فإنهم على طريق الحجاز إلى الشام، والمراد بالمرور عليهم المرور على ديارهم الخربة وهي اليوم مستورة بالماء على ما قيل. قوله تعالى: " وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون " أي السفينة
[ 163 ]
المملوءة من الناس والاباق هرب العبد من مولاه.
والمراد بإباقه إلى الفلك خروجه من قومه معرضا عنهم وهو عليه السلام وإن لم يعص في خروجه ذلك ربه ولا كان هناك نهي من ربه عن الخروج لكن خروجه إذ ذاك كان ممثلا لا باق العبد من خدمة مولاه فأخذه الله بذلك، وقد تقدم بعض الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى: " وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه " الانبياء: 87 قوله تعالى: " فساهم فكان من المدحضين " المساهمة المقارعة والادحاض الغلبة أي فقارع من في السفينة فكان من المغلوبين، وقد كان عرض لسفينتهم الحوت فاضطروا إلى أن يلقوا واحدا منهم في البحر ليبتلعه ويخلي السفينة فقارعوا فأصابت يونس عليه السلام. قوله تعالى: " فالتقمه الحوت وهو مليم " الالتقام الابتلاع، ومليم من ألام أي دخل في اللوم كأحرم إذا دخل في الحرم أو بمعنى صار ذا ملامة. قوله تعالى: " فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون " عده من المسبحين وهم الذين تكرر منهم التسبيح وتمكن منهم حتى صار وصفا لهم يدل على دوام تلبسه زمانا بالتسبيح. قيل: أي من المسبحين قبل التقام الحوت إياه، وقيل: بل في بطن الحوت، وقيل: أي كان من المسبحين قبل التقام الحوت وفي بطنه. والذى حكي من تسبيحه في كلامه تعالى قوله في سورة الانبياء: " فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " الانبياء: 87 ولازم ذلك أن يكون من المسبحين في بطن الحوت خاصة أو فيه وفيما قبله فاحتمال كون المراد تسبيحه قبل التقام الحوت مرجوح لا ينبغي أن يصار إليه. على أن تسبيحه مع اعترافه بالظلم في قوله: " سبحانك إني كنت من الظالمين " - على ما سيجئ - تسبيح له تعالى عما كان يشعر به (1) فعله من ترك قومه وذهابه على وجهه، وقوله: " فلولا أنه كان من المسبحين " الخ يدل على أن تسبيحه كان هو السبب المستدعي لنجاته، ولازم ذلك أن يكون إنما ابتلي بما ابتلى به لينزهه تعالى فينجو بذلك من الغم الذي ساقه إليه فعله إلى ساحة العافية.
(1)
وهو أن الله لا يقدر عليه كما قال تعالى: " وظن أن لن نقدر عليه ".
[ 164 ]
وبذلك يظهر أن العناية في الكلام إنما هي بتسبيحه في بطن الحوت خاصة فخير الاقوال الثلاثة أوسطها. فالظاهر أن المراد بتسبيحه نداؤه في الظلمات بقوله: " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " وقد قدم التهليل ليكون كالعلة المبينة لتسبيحه كأنه يقول: لا معبود بالحق يتوجه إليه غيرك فأنت منزه مما كان يشعر به فعلى أني آبق منك معرض عن عبوديتك متوجه إلى سواك اني كنت ظالما لنفسي في فعلى فها أنا متوجه إليك متبرئ مما كان يشعر به فعلى من التوجه عنك إلى غيرك. فهذا معنى تسبيحه ولو لا ذلك منه لم ينج أبدا إذ كان سبب نجاته منحصرا في التسبيح والتنزيه بالمعنى الذي ذكر. وبذلك يظهر أن المراد بقوله: " للبث في بطنه إلى يوم يبعثون " تأبيد مكثه في بطنه إلى أن يبعث فيخرج منه كالقبر الذي يقبر فيه الانسان ويلبث فيه حتى يبعث فيخرج منه قال تعالى: " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى " طه: 55. ولا دلالة في الاية على كونه عليه السلام على تقدير اللبث حيا في بطن الحوت إلى يوم يبعثون أو ميتا وبطنه قبره مع بقاء بدنه وبقاء جسد الحوت على حالهما أو بنحو آخر فلا مساغ لاختلافهم في كونه عليه السلام حيا على هذا التقدير أو ميتا وبطنه قبره، وأن المراد بيوم يبعثون النفخة الاولى التي فيها يموت الخلائق أو النفخة الثانية أو التأجيل بيوم القيامة كناية عن طول اللبث. قوله تعالى: " فنبذناه بالعراء وهو سقيم " النبذ طرح الشئ والرمي به، والعراء المكان الذي لا سترة فيه يستظل بها من سقف أو خباء أو شجر. والمعنى على ما يعطيه السياق أنه صار من المسبحين فأخرجناه من بطن الحوت
وطرحناه خارج الماء في أرض لا ظل فيها يستظل به وهو سقيم. قوله تعالى: " وأنبتنا عليه شجرة من يقطين " اليقطين من نوع القرع و يكون ورقه عريضا مستديرا وقد أنبتها الله عليه ليستظل بورقها. قوله تعالى: " وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون " أو في مورد الترقي وتفيد معنى بل، والمراد بهذه الجماعة أهل نينوى.
[ 165 ]
قوله تعالى: " فآمنوا فمتعناهم إلى حين " أي آمنوا به فلم نعذبهم ولم نهلكهم بما أشرف عليهم من العذاب فمتعناهم بالحياة والبقاء إلى أجلهم المقدر لهم. والاية في إشعارها برفع العذاب عنهم وتمتيعهم تشير إلى قوله تعالى: " فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدتيا ومتعناهم إلى حين " يونس: 98. ولا يخلو السياق من إشعار - بل دلالة - على أن المراد من إرساله في قوله: " فأرسلناه " أمره بالذهاب ثانيا إلى القوم، وبإيمانهم في قوله: " فآمنوا " الخ إيمانهم بتصديقه واتباعه بعد ما آمنوا وتابوا حين رأوا العذاب. ومن هنا يظهر ضعف ما استدل بعضهم بالايتين أن إرساله إلى القوم كان بعد خروجه من بطن الحوت وأنه أمر أولا بالذهاب إلى أهل نينوى ودعوتهم إلى الله وكانوا يعبدون الاصنام فاستعظم الامر وخرج من بيته يسير في الارض لعل الله يصرف عنه هذا التكليف وركب البحر فابتلاه الله بالحوت ثم لما نبذ بالعراء كلف ثانيا فأجاب وأطاع ودعاهم فاستجابوا فدفع الله عذابا كان يهددهم إن لم يؤمنوا. وذلك أن السياق كما سمعت يدل على كون إرساله بأمر ثان وأن إيمانهم كان إيمانا ثانيا بعد الايمان والتوبة وأن تمتيعهم إلى حين كان مترتبا على إيمانهم به لا على كشف العذاب عنهم فلم يكن الله سبحانه ليتركهم لو لم يؤمنوا برسوله ثانيا كما آمنوا به وتابوا
إليه أولا في غيبته فافهم ذلك. على أن قوله تعالى: " وذا النون إذ ذهب مغاضبا " الانبياء: 87 وقوله: " ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم " ن: 48 لا يلائم ما ذكروه، وكذا قوله: " إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا " يونس: 98 إذ لا يطلق الكشف إلا في عذاب واقع حال أو مشرف. (كلام في قصة يونس عليه السلام في فصول) 1 - لم يتعرض القرآن الكريم إلا لطرف من قصته وقصة قومه فقد تعرض في سورة الصافات لارساله ثم إباقه وركوبه الفلك والتقام الحوت له ثم نجاته وإرساله إلى
[ 166 ]
القوم وإيمانهم قال تعالى: " وإن يونس لمن المرسلين. إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين. فالتقمه الحوت وهو مليم. فلو لا أنه كان من المسبحين. للبث في بطنه إلى يوم يبعثون. فنبذناه بالعراء وهو سقيم. وأنبتنا عليه شجرة من يقطين. وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون. فآمنوا فمتعناهم إلى حين ". وفي سورة الانبياء: لتسبيحه في بطن الحوت وتنجيته قال تعالى: " وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين " الانبياء: 87 - 88. وفي سورة ن: لندائه مكظوما وخروجه من بطنه واجتبائه قال تعالى: " فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم. فلولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم. فاجتباه ربه فجعله من الصالحين " ن: 50. وفي سورة يونس: لايمان قومه وكشف العذاب عنهم قال تعالى: " فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا
ومتعناهم إلى حين " يونس: 98. وخلاصة ما يستفاد من الايات بضم بعضها إلى بعض واعتبار القرائن الحافة بها أن يونس عليه السلام كان من الرسل أرسله الله تعالى إلى قومه وهم جمع كثير يزيدون على مائة ألف فدعاهم فلم يجيبوه إلا بالتكذيب والرد حتى جاءهم عذاب أوعدهم به يونس ثم خرج من بينهم. فلما أشرف عليهم العذاب وشاهدوه مشاهدة عيان أجمعوا على الايمان والتوبة إلى الله سبحانه فكشف الله عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا. ثم إن يونس عليه السلام استخبر عن حالهم فوجد العذاب انكشف عنهم - وكأنه لم يعلم بإيمانهم وتوبتهم - فلم يعد إليهم وذهب لوجهه على ما به من الغضب والسخط عليهم فكان ظاهر حاله حال من يأبق من ربه مغاضبا عليه ظانا أنه لا يقدر عليه وركب البحر في فلك مشحون. فعرض لهم حوت عظيم لم يجدوا بدا من أن يلقوا إليه واحدا منهم يبتلعه
[ 167 ]
وينجو الفلك بذلك فساهموا وقارعوا فيما بينهم فأصابت يونس عليه السلام فألقوه في البحر فابتلعه الحوت ونجت السفينة. ثم أن الله سبحانه حفظه حيا سويا في بطنه أياما وليالي ويونس عليه السلام يعلم أنها بلية ابتلاه الله بها مؤاخذة بما فعل وهو ينادي في بطنه أن " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ". فاستجاب الله له فأمر الحوت أن يلفظه فنبذه بالعراء وهو سقيم فأنبت الله سبحانه عليه شجرة من يقطين يستظل بأوراقها ثم لما استقامت حاله أرسله إلى قومه فلبوا دعوته وآمنوا به فمتعهم الله إلى حين. والاخبار الواردة من طرق أئمة أهل البيت عليه السلام على كثرتها وبعض الاخبار
من طرق أهل السنة مشتركة المتون في قصة يونس عليه السلام على النحو الذي يستفاد من الايات وإن اختلفت في بعض الخصوصيات الخارجة عن ذلك (1). 2 - قصته عند أهل الكتاب: هو عليه السلام مذكور باسم يوناه بن إمتاي في مواضع من العهد القديم وكذا في مواضع من العهد الجديد أشير في بعضها إلى قصة لبثه في بطن الحوت لكن لم تذكر قصته الكاملة في شئ منهما. ونقل الالوسي في روح المعاني في قصته عند أهل الكتاب ويؤيده ما في بعض كتبهم من إجمال (2) القصة: أن الله أمره بالذهاب إلى دعوة أهل نينوى (3) وكانت إذ ذاك عظيمة جدا لا يقطع إلا في نحو ثلاثة أيام وكانوا قد عظم شرهم وكثر فسادهم، فاستعظم الامر وهرب إلى ترسيس (4) فجاء يافا (5) فوجد سفينة يريد أهلها الذهاب بها إلى ترسيس فاستأجر وأعطى (1)
ولذلك لم نوردها لانها في نفسها آحاد لا حجية لها في مثل المقام ولا يمكن تصحيح خصوصياتها بلايات وهو ظاهر لمن راجعها. (2) قاموس الكتاب المقدس. (3) كانت مدينة عظيمة من مدائن آشور على ساحل دجلة. (4) اسم مدينة. (5) مدينة في الارض المقدسة.
[ 168 ]
الاجرة وركب السفينة فهاجت ريح عظيمة وكثرت الامواج وأشرفت السفينة على الغرق. ففزع الملاحون ورموا في البحر بعض الامتعة لتخف السفينة وعند ذلك نزل يونس إلى بطن السفينة ونام حتى علا نفسه فتقدم إليه الرئيس فقال له: ما بالك نائما ؟ قم وادع إلهك لعله يخلصنا مما نحن فيه ولا يهلكنا. وقال بعضهم لبعض: تعالوا نتقارع لنعرف من أصابنا هذا الشر بسببه فتقارعوا
فوقعت القرعة على يونس فقالوا له: أخبرنا ماذا عملت: ومن أين جئت ؟ وإلى أين تمضي ؟ ومن أي كورة أنت ؟ ومن أي شعب أنت ؟ فقال لهم: أنا عبد الرب إله السماء خالق البر والبحر وأخبرهم خبره فخافوا خوفا عظيما وقالوا له: لم صنعت ما صنعت ؟ يلومونه على ذلك. ثم قالوا له: ما نصنع الان بك ؟ ليسكن البحر عنا ؟ فقال: ألقوني في البحر يسكن فإنه من أجلي صار هذا الموج العظيم فجهد الرجال أن يردوه إلى البر فلم يستطيعوا فأخذوا يونس وألقوه في البحر لنجاة جميع من في السفينة فسكن البحر وأمر الله حوتا عظيما فابتلعه فبقي في بطنه ثلاثة أيام وثلاث ليال وصلى في بطنه إلى ربه واستغاث به فأمر سبحانه الحوت فألقاه إلى اليبس ثم قال له: قم وامض إلى نينوى وناد في أهلها كما أمرتك من قبل. فمضى عليه السلام ونادى وقال: يخسف نينوى بعد ثلاثة أيام فآمنت رجال نينوى بالله ونادوا بالصيام ولبسوا المسوح جميعا ووصل الخبر إلى الملك فقام عن كرسيه ونزع حلته ولبس مسحا وجلس على الرماد ونودي أن لا يذق أحد من الناس والبهائم طعاما ولا شرابا وجأروا إلى الله تعالى ورجعوا عن الشر والظلم فرحمهم الله ولم ينزل بهم العذاب. فحزن يونس وقال: إلهي من هذا هربت، فإني علمت أنك الرحيم الرؤف الصبور التواب. يا رب خذ نفسي فالموت خير لي من الحياة فقال: يا يونس حزنت من هذا جدا ؟ فقال: نعم يا رب. وخرج يونس وجلس مقابل المدينة وصنع له هناك مظلة وجلس تحتها إلى أن يرى ما يكون في المدينة ؟ فأمر الله يقطينا فصعد على رأسه ليكون ظلا له من كربه ففرح باليقطين فرحا عظيما وأمر الله تعالى دودة فضربت اليقطين فجف ثم هبت ريح
[ 169 ]
سموم وأشرقت الشمس على رأس يونس فعظم الامر عليه واستطاب الموت.
فقال الرب: يا يونس أحزنت جدا على اليقطين ؟ فقال: نعم يا رب حزنت جدا فقال تعالى: حزنت عليه وأنت لم تتعب فيه ولم تربه بل صار من ليلته وهلك من ليلته فأنا لا أشفق على نينوى المدينة العظيمة التي فيها أكثر من اثنا عشر ربوة من الناس قوم لا يعلمون يمينهم ولا شمالهم وبهائمهم كثيرة انتهى. وجهات اختلاف القصة مع ما يستفاد من القرآن الكريم ظاهرة كالفرار من الرسالة وعدم رضاه برفع العذاب عنهم مع علمه بإيمانهم وتوبتهم. فإن قلت: نظير ذلك وارد في القرآن الكريم كنسبة الاباق إليه في سورة الصافات وكذا مغاضبته وظنه أن الله لن يقدر عليه على ما في سورة الانبياء. قلت: بين النسبتين فرق فكتبهم المقدسة أعني العهدين لا تأبى عن نسبة المعاصي حتى الكبائر الموبقة إلى الانبياء عليه السلام فلا موجب لتوجيه ما نسب من المعاصي إليه بما يخرج به عن كونه معصية بخلاف القرآن الكريم فإنه ينزه ساحتهم عن لوث المعاصي حتى الصغائر فما ورد فيه مما يوهم ذلك يحمل على أحسن الوجوه بهذه القرينة الموجبة ولذا حملنا قوله: " إذ أبق " وقوله: " مغاضبا فظن أن لن نقدر " على حكاية الحال وإيهام فعله. 3 - ثناؤه تعالى عليه: أثنى الله سبحانه عليه بأنه من المؤمنين " سورة الانبياء 88 " وأنه اجتباه وقد عرفت أن اجتباءه إخلاصة العبد لنفسه خاصة، وأنه جعله من الصالحين " سورة ن: 50 " وعده في سورة الانعام فيمن عده من الانبياء وذكر أنه فضلهم على العالمين وأنه هداهم إلى صراط مستقيم " سورة الانعام: 87 ". (بحث روائي) في الفقيه وقال الصادق عليه السلام: ما تقارع قوم ففوضوا أمرهم إلى الله عز وجل إلا خرج سهم الحق، وقال: أي قضية أعدل من القرعة إذا فوض الامر إلى الله. أليس الله عز وجل يقول: " فساهم فكان من المدحضين ".
[ 170 ]
وفي البحار عن البصائر بإسناده عن حبة العرني قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام إن الله عرض ولايتي على أهل السماوات وعلى أهل الارض أقر بها من أقر وأنكرها من أنكر أنكرها يونس فحبسه الله في بطن الحوت حتى أقربها. اقول: وفي معناه روايات أخر، والمراد الولاية الكلية الالهية التي هو عليه السلام أول من فتح بابها من هذه الامة وهي قيامه تعالى مقام عبده في تدبير أمره فلا يتوجه العبد إلا إليه ولا يريد إلا ما أراده وذلك بسلوك طريق العبودية التي تنتهي بالعبد إلى أن يخلصه الله لنفسه فلا يشاركه فيه غيره. وكان ظاهر ما أتى به يونس عليه السلام مما لا يرتضيه الله تعالى فلم يكن قابلا للانتساب إلى إرادته فابتلاه الله بما ابتلاه ليعترف بظلمه على نفسه وأنه تعالى منزه عن إرادة مثله فالبلايا والمحن التي يبتلى بها الاولياء من التربية الالهية التي يربيهم بها ويكملهم ويرفع درجاتهم بسببها وإن كان بعضها من جهة أخرى مؤاخذة ذات عتاب، وقد قيل البلاء للولاء. ويؤيد ذلك ما عن العلل بإسناده عن أبي بصير قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: لاي علة صرف الله العذاب عن قوم يونس وقد أظلهم ولم يفعل ذلك بغيرهم من الامم ؟ فقال: لانه كان في علم الله أنه سيصرفه عنهم لتوبتهم وإنما ترك إخبار يونس بذلك لانه أراد أن يفرغه لعبادته في بطن الحوت فيستوجب بذلك ثوابه وكرامته. * * * فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون - 149. أم خلقنا الملئكة إناثا وهم شاهدون - 150. ألا إنهم من إفكهم ليقولون - 151. ولد الله وإنهم لكاذبون - 152. أصطفى البنات على البنين - 153. ما لكم كيف تحكمون - 154. أفلا تذكرون - 155. أم لكم سلطان مبين - 156. فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين - 157.
[ 171 ]
وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون - 158. سبحان الله عما يصفون - 159. إلا عباد الله المخلصين - 160. فإنكم وما تعبدون - 161. ما أنتم عليه بفاتنين - 162. إلا من هو صال الجحيم - 163. وما منا إلا له مقام معلوم - 164. وإنا لنحن الصافون - 165. وإنا لنحن المسبحون - 166. وإن كانوا ليقولون - 167. لو أن عندنا ذكرا من الاولين - 158. لكنا عباد الله المخلصين - 169. فكفروا به فسوف يعلمون - 170 ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين - 171. إنهم لهم المنصورون - 172. وإن جندنا لهم الغالبون - 173. فتول عنهم حتى حين - 174. وأبصرهم فسوف يبصرون - 195. أفبعذابنا يستعجلون - 176. فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين - 177. وتول عنهم حتى حين - 178. وأبصر فسوف يبصرون - 179. سبحان ربك رب العزة عما يصفون - 180. وسلام على المرسلين - 181. والحمد لله رب العالمين - 182.
[ 172 ]
(بيان) قدم سبحانه ما بين به أنه رب معبود، عبده عباد مخلصون كالانبياء المكرمين وكفر به آخرون فنجى عباده وأخذ الكافرين بأليم العذاب. ثم تعرض في هذه الايات لما يعتقدونه في آلهتهم وهم الملائكة والجن وأن الملائكة بنات الله وبينه وبين الجنة نسبا. والوثنية البرهمية والبوذية والصابئة ما كانوا يقولون بأنوثة جميع الملائكة وإن
قالوا بها في بعضهم لكن المنقول عن بعض قبائل العرب الوثنيين كجهينة وسليم وخزاعة وبني مليح القول بانوثة الملائكة جميعا، وأما الجن فالقول بانتهاء نسبهم إليه في الجملة منقول عن الجميع. وبالجملة يشير تعالى في الايات إلى فساد قولهم ثم يبشر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر ويهددهم بالعذاب، ويختم السورة بتنزيهه تعالى والتسليم على المرسلين والحمد لله رب العالمين. قوله تعالى: " فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون " حلل سبحانه قولهم: إن الملائكة بنات الله إلى ما يستلزمه من اللوازم وهي أن الملائكة أولاده، وأنهم بنات، وأنه تعالى خص نفسه بالبنات وهم مخصوصون بالبنين ثم رد هذه اللوازم واحدا بعد واحد فرد قولهم: إن له البنات ولهم البنين بقوله: " فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون " وهو استفهام إنكاري لقولهم بما يلزمه من تفضيلهم على الله لما أنهم يفضلون البنين على البنات ويتنزهون منهن ويئدونهن. قوله تعالى: " أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون " أم منقطعة أي بل أخلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون يشهدون خلقهم ولم يكونوا شاهدين خلقهم ولا لهم أن يدعوا ذلك، والذكورة والانوثة مما لا يثبت إلا بنوع من الحس، وهذا رد لقولهم بانوثة الملائكة. قوله تعالى: " ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون " رد لقولهم بالولادة بأنه من الافك أي صرف القول عن وجهه إلى غير وجهه أي من الحق إلى الباطل فيوجهون خلقهم بما يعدونه ولادة ويعبرون عنه بها فهم آفكون كاذبون. قوله تعالى: " أصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون أفلا تذكرون "
[ 173 ]
كرر الانكار على اصطفاء البنات من بين لوازم قولهم لشدة شناعته. ثم ونجهم بقوله: " ما لكم كيف تحكمون " لكون قولهم حكما من غير دليل ثم عقبه بقوله: " أفلا تذكرون " توبيخا وإشارة إلى أن قولهم ذلك - فضلا عن كونه
مما لا دليل عليه - الدليل على خلافه ولو تذكروا لانكشف لهم فقد تنزهت ساحته تعالى عن أن يتجزى فيلد أو يحتاج فيتخذ ولدا، وقد احتج عليهم بذلك في مواضع من كلامه. والالتفات من الغيبة إلى الخطاب للدلالة على اشتداد السخط الموجب لتوبيخهم شفاها. قوله تعالى: " أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين " أم منقطعة والمراد بالسلطان وهو البرهان كتاب نازل من عند الله سبحانه يخبر فيه أن الملائكة بناته على ما يعطيه السياق إذ لما لم يثبت بعقل أو حس بقي أن يثبت بكتاب من عند الله نازل بالوحي فلو كانت دعواهم حقة وهم صادقون فيها كان لهم أن يأتوا بالكتاب. وإضافة الكتاب إليهم بعناية فرضه دالا على دعواهم. قوله تعالى: " وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون " جعل النسب بينه وبين الجنة قولهم: إن الجنة أولاده وقد تقدم تفصيل قولهم في تفسير سورة هود في الكلام على عبادة الاصنام. وقوله: " ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون " أي للحساب أو للنار على ما يفيده إطلاق " لمحضرون " وكيف كان فهم يعلمون أنهم مربوبون لله سيحاسبهم ويجازيهم بما عملوا فبينهم وبين الله سبحانه نسبة الربوبية والعبودية لا نسب الولادة ومن كان كذلك لا يستحق العبادة. ومن الغريب قول بعضهم: إن المراد بالجنة طائفة من الملائكة يسمون بها ولازمه إرجاع ضمير " إنهم " إلى الكفار دون الجنة. وهو مما لا شاهد له من كلامه تعالى مضافا إلى بعده من السياق. قوله تعالى: " سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين " ضمير " يصفون " - نظرا إلى اتصال الاية بما قبلها - راجع إلى الكفار المذكورين قبل، والاستثناء منه
[ 174 ]
منقطع والمعنى هو منزه عن وصفهم - أو عما يصفه الكفار به من الاوصاف كالولادة والنسب والشركة ونحوها - لكن عباد الله المخلصين يصفونه تعالى وصفا يليق به - أو بما يليق به من الاوصاف -. وقيل: إنه استثناء منقطع من ضمير " لمحضرون "، وقيل: من فاعل " جعلوا " وما بينهما من الجمل المتخللة اعتراض، وهما وجهان بعيدان. وللايتين باستقلالهما معنى أوسع من ذلك وأدق وهو رجوع ضمير " يصفون " إلى الناس، والوصف مطلق يشمل كل ما يصفه به واصف، والاستثناء متصل والمعنى هو منزه عن كل ما يصفه الواصفون إلا عباد الله المخلصين. وذلك أنهم إنما يصفونه بمفاهيم محدودة عندهم وهو سبحانه غير محدود لا يحيط به حد ولا يدركه نعت فكلما وصف به فهو أجل منه وكل ما توهم أنه هو فهو غيره لكن له سبحانه عباد أخلصهم لنفسه وخصهم بنفسه لا يشاركه فيهم أحد غيره فعرفهم نفسه وأنساهم غيره يعرفونه ويعرفون غيره به فإذا وصفوه في نفوسهم وصفوه بما يليق بساحة كبريائه وإذا وصفوه بألسنتهم - والالفاظ قاصرة والمعاني محدودة - اعترفوا بقصور البيان وأقروا بكلال اللسان كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو سيد المخلصين: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك (1) فافهم ذلك. قوله تعالى: " فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم " تفريع على حكم المستثنى والمستثنى منه أو المستثنى خاصة، والمعنى لما كان ما وصفتموه ضلالا - وعباد الله المخلصون لا يضلون في وصفهم - فلستم بمضلين به إلا سالكي سبيل النار. والظاهر من السياق أن " ما " في " ما تعبدون " موصولة والمراد بها الاصنام فحسب أو الاصنام وآلهة الضلال كشياطين الجن، و " ما " في " ما أنتم " نافية، وضمير " عليه " لله سبحانه والظرف متعلق بفاتنين، وفاتنين اسم فاعل من الفتنة بمعنى الاضلال و " صالي " من الصلو بمعنى الاتباع فصالي الجحيم هو المتبع للجحيم السالك سبيل
النار، والاستثناء مفرغ تقديره ما أنتم بفاتنين أحدا إلا من هو صال الجحيم. (1)
فقد أثنى على الله وتمم نقصه بأنه يريد ما يريده الله من الثناء على نفسه.
[ 175 ]
والمعنى فإنكم وآلهة الضلال التي تعبدونها لستم جميعا بمضلين أحدا على الله إلا من هو متبع الجحيم. وقيل: إن " ما " الاولى مصدرية أو موصولة وجملة " فإنكم وما تعبدون كلام " تام مستقل من قبيل قولهم: أنت وشأنك والمعنى فإنكم وما تعبدون متقارنان ثم استونف وقيل: " ما أنتم عليه بفاتنين " و " فاتنين " مضمن معنى الحمل وضمير " عليه " راجع إلى " ما تعبدون " ان كانت ما مصدرية وإلى " ما " بتقدير مضاف ان كانت موصولة والمعنى ما أنتم بحاملين على عبادتكم أو على عبادة ما تعبدونه الا من هو صال الجحيم. قيل: ويمكن أن يكون " على " بمعنى الباء والضمير لما تعبدون أو لما ان كانت موصولة و " فاتنين " على ظاهر معناه من غير تضمين، والمعنى ما أنتم بمضلين أحدا بعبادتكم أو بعبادة ما تعبدونه الا " الخ ". وهذه كلها تكلفات من غير موجب. والكلام فيما في الاية من الالتفات كالكلام فيما سبق منه. قوله تعالى: " وما منا الا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون " الايات الثلاث - على ما يعطيه السياق - اعتراض من كلام جبريل أو هو وأعوانه من ملائكة الوحي نظير قوله تعالى في سورة مريم: " وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك " الخ مريم: 64. وقيل: هي من كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يصف نفسه والمؤمنين به للكافرين تبكيتا لهم وتقريعا وهو متصل بقوله: " فاستفتهم " والتقدير فاستفتهم وقل: ما منا معشر المسلمين إلا له مقام معلوم على قدر أعماله يوم القيامة وإنا لنحن الصافون في الصلاة وإنا
لنحن المسبحون. وهو تكلف لا يلائمه السياق. والايات الثلاث مسوقة لرد قولهم بالوهية الملائكة بإيراد نفس اعترافهم بما ينتفي به قول الكفار وهم لا ينفون العبودية عن الملائكة بل يرون أنهم مربوبون لله سبحانه أرباب وآلهة لمن دونهم يستقلون بالتصرف فيما فوض إليهم من أمر العالم من غير أن يرتبط شئ من هذا التدبير إلى الله سبحانه وهذا هو الذي ينفيه الملائكة عن أنفسهم لا كونهم أسبابا متوسطة بينه تعالى وبين خلقه كما قال تعالى " بل عباد مكرمون
[ 176 ]
لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " الانبياء: 27. فقوله: " وما منا إلا له مقام معلوم " أي معين مشخص أقيم فيه ليس له أن يتعداه بأن يفوض إليه أمر فيستقل فيه بل مجبول على طاعة الله فيما يأمر به وعبادته. وقوله: " وإنا لنحن الصافون " أي نصف عند الله في انتظار أوامره في تدبير العالم لنجريها على ما يريد. كما قال تعالى: " لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " هذا ما يفيده السياق، وربما قيل: إن المراد إنا نصف للصلاة عند الله وهو بعيد من الفهم لا شاهد عليه. وقوله: " وإنا لنحن المسبحون " أي المنزهون له تعالى عما لا يليق بساحة كبريائه كما قال تعالى: " يسبحون الليل والنهار لا يفترون " الانبياء: 20. فالايات الثلاث تصف موقف الملائكة في الخلقة وعملهم المناسب لخلقتهم وهو الاصطفاف لتلقي أمره تعالى والتنزيه لساحة كبريائه عن الشريك وكل ما لا يليق بكمال ذاته المتعالية. قوله تعالى: " وإن كانوا ليقولون لو أن عندنا ذكرا من الاولين لكنا عباد الله المخلصين " رجوع إلى السياق السابق. والضمير في قوله: " وإن كانوا ليقولون " لقريش ومن يتلوهم، و " إن "
مخففة من الثقيلة، والمراد بذكر من الاولين كتاب سماوي من جنس الكتب النازلة على الاولين. والمعنى لو أن عندنا كتابا سماويا من جنس الكتب النازلة قبلنا على الاولين لاهتدينا وكنا عباد الله المخلصين يريدون أنهم معذورون لو كفروا لعدم قيام الحجة عليهم من قبل الله سبحانه. وهذا في الحقيقة هفوة منهم فإن مذهب الوثنية يحيل النبوة والرسالة ونزول الكتاب السماوي. قوله تعالى: " فكفروا به فسوف يعلمون " الفاء فصيحة، والمعنى فأنزلنا عليهم الذكر وهو القرآن الكريم فكفروا به ولم يفوا بما قالوا فسوف يعلمون وبال كفرهم
[ 177 ]
وهذا تهديد منه تعالى لهم. قوله تعالى: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون " كلمته تعالى لهم قوله الذي قاله فيهم وهو حكمه وقضاؤه في حقهم وسبق الكلمة تقدمها عهدا أو تقدمها بالنفوذ والغلبة واللام تفيد معنى النفع أي إنا قضينا قضاء محتوما فيهم أنهم لهم المنصورون وقد أكد الكلام بوجوه من التأكيد. وقد أطلق النصر من غير تقييده بدنيا أو آخرة أو بنحو آخر بل القرينة على خلافه قال تعالى: " انا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد " المؤمن: 51. فالرسل عليهم السلام منصورون في الحجة لانهم على الحق والحق غير مغلوب. وهم منصورون على أعدائهم اما بإظهارهم عليهم واما بالانتقام منهم قال تعالى: " وما أرسلنا من قبلك الا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى - إلى أن قال - حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا
عن القوم المجرمين " يوسف: 110. وهم منصورون في الاخرة كما قال تعالى: " يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه " التحريم: 8، وقد تقدم آنفا آية في سورة المؤمن في هذا المعنى. قوله تعالى: " وإن جندنا لهم الغالبون " الجند هو المجتمع الغليظ ولذا يقال للعسكر جند فهو قريب المعنى من الحزب (1) وقد قال تعالى في موضع آخر من كلامه: " ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون " المائدة: 56. والمراد بقوله: " جندنا " هو المجتمع المؤتمر بأمره المجاهد في سبيله وهم المؤمنون خاصة أو الانبياء ومن تبعهم من المؤمنين وفي الكلام على التقدير الثاني تعميم بعد التخصيص، وكيف كان فالمؤمنون منصورون كمتبوعيهم من الانبياء قال تعالى: " ولا (1)
قال تعالى: " إذ جاءتكم جنود " الاحزاب: 9 وقال فيهم بعينهم: " ولما رآى المؤمنون الاحزاب " الاحزاب: 22.
[ 178 ]
تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين " آل عمران: 139 وقد مر بعض الايات الدالة عليه آنفا. والحكم أعني النصر والغلبة حكم اجتماعي منوط على العنوان لا غير أي إن الرسل وهم عباد أرسلهم الله والمؤمنون وهم جند لله يعملون بأمره ويجاهدون في سبيله ما داموا على هذا النعت منصورون غالبون، وأما إذا لم يبق من الايمان الا اسمه ومن الانتساب الا حديثه فلا ينبغي أن يرجي نصر ولا غلبة. قوله تعالى: " فتول عنهم حتى حين " تفريع على حديث النصر والغلبة ففيه وعد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر والغلبة وايعاد للمشركين ولقريش خاصة. والامر بالاعراض عنهم ثم جعله مغيا بقوله: " حتى حين " يلوح إلى أن الامد غير بعيد وكان كذلك فهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد قليل وأباد الله صناديد قريش في غزوة
بدر وغيرها. قوله تعالى: " وأبصرهم فسوف يبصرون " الامر بالابصار والاخبار بإبصارهم عاجلا وعطف الكلام على الامر بالتولي معجلا يفيد بحسب القياس أن المعنى أنظرهم وأبصر ما هم عليه من الجحود والعناد قبال انذارك وتخويفك فسوف يبصرون وبال جحودهم واستكبارهم. قوله تعالى: " أفبعذابنا يستعجلون فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين " توبيخ لهم لاستعجالهم وقولهم: متى هذا الوعد ؟ متى هذا الفتح ؟ وإيذان بأن هذا العذاب مما لا ينبغي أن يستعجل لانه يعقب يوما بئيسا وصباحا مشؤما. ونزول العذاب بساحتهم كناية عن نزوله بهم على نحو الشمول والاحاطة، وقوله: " فساء صباح المنذرين " أي بئس صباحهم صباحا، والمنذرون هم المشركون من قريش. قوله تعالى: " وتول عنهم حتى حين وأبصر فسوف يبصرون " تأكيد لما مر بتكرار الايتين على ما قيل، واحتمل بعضهم أن يكون المراد بما تقدم التهديد بعذاب الدنيا وبهذا، التهديد بعذاب الاخرة. ولا يخلو من وجه فإن الواقع في الاية " وأبصر "
[ 179 ]
من غير مفعول كما في الاية السابقة من قوله: " وأبصرهم " والحذف يشعر بالعموم وأن المراد إبصار ما عليه عامة الناس من الكفر والفسوق ويناسبه التهديد بعذاب يوم القيامة. قوله تعالى: " سبحان ربك رب العزة عما يصفون " تنزيه له تعالى عما يصفه به الكفار المخالفون لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما تقدم ذكره في السورة. والدليل عليه إضافة التنزيه إلى قوله: " ربك " أي الرب الذي تعبده وتدعو إليه، وإضافة الرب ثانيا إلى العزة المفيد لاختصاصه تعالى بالعزة فهو منيع الجانب على
الاطلاق فلا يذله مذل ولا يغلبه غالب ولا يفوته هارب فالمشركون أعداء الحق المهددون بالعذاب ليسوا له بمعجزين. قوله تعالى: " وسلام على المرسلين " تسليم على عامة المرسلين وصون لهم من أن يصيبهم من قبله تعالى ما يسوؤهم ويكرهونه. قوله تعالى: " والحمد لله رب العالمين " تقدم الكلام فيه في تفسير سورة الفاتحة. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج محمد بن نضر وابن عساكر عن العلاء بن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوما لجلسائه: أطت السماء وحق لها أن تئط، ليس منها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد. ثم قرء " وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون ". أقول: وروي هذا المعنى عنه صلى الله عليه وآله وسلم بغير هذا الطريق. وفيه أخرج ابن مردويه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قال: استووا تقدم يا فلان تأخر يا فلان أقيموا صفوفكم يريد الله بكم هدي الملائكة ثم يتلو: " وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون ". وفي نهج البلاغة قال عليه السلام في وصف الملائكة: وصافون لا يتزايلون ومسبحون لا يسأمون.
[ 180 ]
سورة ص: مكية وهي ثمان وثمانون آية. بسم الله الرحمن الرحيم ص والقرآن ذي الذكر - 1. بل الذين كفروا في عزة وشقاق - 2. كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص - 3. وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب - 4. أجعل الالهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب - 5 وانطلق الملاء منهم ان امشوا واصبروا
على آلهتكم إن هذا لشئ يراد - 6. ما سمعنا بهذا في الملة الاخرة إن هذا إلا اختلاق - 7. ءانزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب - 8. أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب - 9. أم لهم ملك السموات والارض وما بينهما فليرتقوا في الاسباب - 10. جند ما هنالك مهزوم من الاحزاب - 11. كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الاوتاد - 12. وثمود وقوم لوط واصحاب الئيكة أولئك الاحزاب - 13. إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب - 14. وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة مالها من فواق - 15. وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب - 16.
[ 181 ]
(بيان) يدور الكلام في السورة حول كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذرا بالذكر النازل عليه من عند الله سبحانه الداعي إلى التوحيد وإخلاص العبودية له تعالى. فتبدء بذكر اعتزاز الكفار وشقاقهم وبالجملة استكبارهم عن اتباعه والايمان به وصد الناس عنه وتفوههم بباطل القول في ذلك ورده في فصل. ثم تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر وذكر قصص عباده الاولين في فصل ثم يذكر مآل حال المتقين والطاغين في فصل. ثم تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإبلاغ نذارته ودعوته إلى توحيد الله وأن مآل اتباع الشيطان إلى النار على ما قضى به الله يوم أمر الملائكة بالسجدة لادم فأبى إبليس فرجمه وقضى عليه وعلى من تبعه النار. في فصل. والسورة مكية بشهادة سياق آياتها. قوله تعالى: " ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق " المراد
بالذكر ذكر الله تعالى بتوحيده وما يتفرع عليه من المعارف الحقة من المعاد والنبوة وغيرهما، والعزة الامتناع، والشقاق المخالفة، قال في مجمع البيان: وأصله أن يصير كل من الفريقين في شق أي في جانب ومنه يقال: شق فلان العصا إذا خالف انتهى. والمستفاد من سياق الايات أن قوله: " والقرآن ذي الذكر " قسم نظير ما في قوله: " يس والقرآن الحكيم " " ق والقرآن المجيد " " ن والقلم " لا عطف على ما تقدمه، وأما المقسم عليه فالذي يدل عليه الاضراب في قوله: " بل الذين كفروا في عزة وشقاق أنه أمر يمتنع عن قبوله القوم ويكفرون به عزة وشقاقا وقد هلك فيه قرون كثيرة ثم ذكر إنذار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما قاله الكفار عليه وما أمرهم به ملؤهم حول إنذاره صلى الله عليه وآله وسلم أنه أعني المقسم عليه نحو من قولنا: إنك لمن المنذرين، ويشهد على ذلك أيضا التعرض في السورة بإنذاره صلى الله عليه وآله وسلم بالذكر مرة بعد اخرى. وقد قيل في قوله: " ص والقرآن ذي الذكر " من حيث الاعراب والمعنى وجوه كثيرة لا محصل لاكثرها تركنا إيرادها لعدم الجدوى.
[ 182 ]
والمعنى - والله أعلم - اقسم بالقرآن المتضمن للذكر - إنك لمن المنذرين - بل الذين كفروا في امتناع عن قبوله واتباعه ومخالفة له. قوله تعالى: " كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص " القرن أهل عصر واحد، والمناص بالنون مصدر ناص ينوص أي تأخر كما أنه بالباء الموحدة بمعنى التقدم على ما في المجمع وقيل: هو بمعنى الفرار. والمعنى: كثيرا ما أهلكنا من قبل هؤلاء الكفار من قرن وامة بتكذيبهم الرسل المنذرين فنادوا عند نزول العذاب بالويل كقولهم: يا ويلنا إنا كنا ظالمين أو بالاستغاثة بالله سبحانه وليس الحين حين تأخر الاخذ والعذاب أو ليس الحين حين فرار. قوله تعالى: " وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب "
أي تعجبوا من مجيئ منذر من نوعهم بأن كان بشرا فإن الوثنية تنكر رسالة البشر. وقوله: " وقال الكافرون هذا ساحر كذاب " يشيرون بهذا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرمونه بالسحر لكونهم عاجزين عن الاتيان بمثل ما أتى به وهو القرآن، وبالكذب لزعمهم أنه يفتري على الله بنسبة القرآن وما فيه من المعارف الحقة إليه تعالى. قوله تعالى: " أجعل الالهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب " العجاب بتخفيف الجيم اسم مبالغة من العجب وهو بتشديد الجيم أبلغ. وهو من تتمة قول الكافرين والاستفهام للتعجيب والجعل بمعنى التصيير وهو كما قيل تصيير بحسب القول والاعتقاد والدعوى لا بحسب الواقع كما في قوله تعالى: " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا " الزخرف: 19 فمعنى جعله صلى الله عليه وآله وسلم الالهة إلها واحدا هو إبطاله الوهية الالهة من دون الله وحكمه بأن الاله هو الله لا إله إلا هو. قوله تعالى: " وانطلق الملا منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشئ يراد " نسبة الانطلاق إلى ملاهم وأشرافهم وقولهم ما قالوا يلوح إلى أن أشراف قريش اجتمعوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليحلوا مشكلة دعوته إلى التوحيد ورفض الالهة بنوع من الاستمالة وكلموه في ذلك فما وافقهم في شئ منه ثم انطلقوا وقال بعضهم لبعض أو قالوا
[ 183 ]
لاتباعهم أن امشوا واصبروا " الخ " وهذا يؤيد ما ورد في أسباب النزول مما سيجئ في البحث الروائي الاتي إن شاء الله. وقوله: " أن امشوا واصبروا على آلهتكم " بتقدير القول أي قائلين أن امشوا واصبروا على آلهتكم ولا تتركوا عبادتها وإن عابها وقدح فيها، وظاهر السياق أن القول قول بعضهم لبعض، ويمكن أن يكون قولهم لتبعتهم. وقوله: " إن هذا لشئ يراد " ظاهره أنه إشارة إلى ما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ويطلبه وأن مطلوبه شئ يراد بالطبع وهو السيادة والرئاسة وإنما جعل الدعوة ذريعة إليه فهو نظير قول الملا من قوم نوح لعامتهم: " ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم " المؤمنون: 24. وقيل: المعنى إن هذا الذي شاهدناه من إسراره صلى الله عليه وآله وسلم على ما يطلبه وتصلبه في دينه لشئ عظيم يراد من قبله. وقيل: المعنى أن هذا الامر لشئ من نوائب الدهر يراد بنا فلا حيلة إلا إن تمشوا وتصبروا. وقيل: المعنى إن الصبر خلق محمود يراد منا في مثل هذه الموارد، وقيل غير ذلك وهي وجوه ضعيفة لا يلائمها السياق. قوله تعالى: " ما سمعنا بهذا في الملة الاخرة إن هذا إلا اختلاق " أرادوا بالملة الاخرة المذهب الذي تداوله الاخرون من الامم المعاصرين لهم أو المقارنين لعصرهم قبال الملل الاولى التي تداولتها الاولون كأنهم يقولون: ليس هذا من الملة الاخرة التي يرتضيها أهل الدنيا اليوم بل من أساطير الاولين. وقيل: المراد بالملة الاخرة النصرانية لانها آخر الملل وهم لا يقولون بالتوحيد بل بالتثليث. وضعفه ظاهر إذ لم يكن للنصرانية وقع عندهم كالاسلام. وقوله: " إن هذا إلا اختلاق " أي كذب وافتعال. قوله تعالى: " ءأنزل عليه الذكر من بيننا " استفهام إنكاري بداعي التكذيب أي لا مرجح عند محمد صلى الله عليه وآله وسلم يترجح به علينا فينزل عليه الذكر دوننا فهو في إنكار
[ 184 ]
الاختصاص بنزول الذكر نظير قولهم: ما أنت إلا بشر مثلنا في نفي الاختصاص بالرسالة. قوله تعالى: " بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب " إضراب عن
جميع ما قالوه أي إنهم لم يقولوا عن إيمان واعتقاد به بل هم في شك من ذكري وهو القرآن. وليس شكهم فيه من جهة خفاء دلالة آية النبوة وقصورها عن إفادة اليقين بل تعلق قلوبهم بما عندهم من الباطل ولزومهم التقليد يصرفهم عن النظر في دلالة الاية الالهية المعجزة فشكوا في الذكر والحال أنه آية معجزة. وقوله: " بل لما يذوقوا عذاب " إضراب عن الاضراب أي ليس إنكارهم وعدم إيمانهم به عن شك منهم فيه بل لانهم لعتوهم واستكبارهم لا يعترفون بحقيته ولو لم يكن شك، حتى يذوقوا عذابي فيضطروا إلى الاعتراف كما فعل غيرهم. وفي قوله: " لما يذوقوا عذاب " أي لم يذوقوا بعد عذابي، تهديد بعذاب واقع. قوله تعالى: " أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب " الكلام في موقع الاضراب و " أم " منقطعة والكلام ناظر إلى قولهم: " ما أنزل عليه الذكر من بيننا " أي بل أعندهم خزائن رحمة ربك التي ينفق منها على من يشاء حتى يمنعوك منها بل هي له تعالى وهو أعلم حيث يجعل رسالته ويخص برحمته من يشاء. وتذييل الكلام بقوله: " العزيز الوهاب " لتأييد محصل الجملة أي ليس عندهم شئ من خزائن رحمته لانه عزيز منيع جانبه لا يداخل في أمره أحد، ولا لهم أن يصرفوا رحمته عن أحد لانه وهاب كثير الهبات. قوله تعالى: " أم لهم ملك السماوات والارض وما بينهما فليرتقوا في الاسباب " " أم " منقطعة، والامر في قوله: " ليرتقوا " للتعجيز والارتقاء الصعود، والاسباب المعارج والمناهج التي يتوسل بها إلى الصعود إلى السماوات ويمكن أن يراد بارتقاء الاسباب التسبب بالعلل والحيل الذي يحصل به لهم المنع والصرف. والمعنى: بل أنهم ملك السماوات والارض فيكون لهم أن يتصرفوا فيها فيمنعوا
[ 185 ]
نزول الوحي السماوي إلى بشر أرضي فإن كان كذلك فليصعدوا معارج السماوات أو فليتسببوا الاسباب وليمنعوا من نزول الوحي عليك. قوله تعالى: " جند ما هنالك مهزوم من الاحزاب " الهزيمة الخذلان و " من الاحزاب " بيان لقوله: " جند ما " و " ما " للتقليل والتحقير، والكلام مسوق لتحقير أمرهم رغما لما يشعر به ظاهر كلامهم من التعزز والاعجاب بأنفسهم. يدل على ذلك تنكير " جند " وتتميمه بلفظة " ما " والاشارة إلى مكانتهم بهنالك الدال على البعيد وعدهم من الاحزاب المتحزبين على الرسل الذين قطع الله دابر الماضين منهم كما سيذكر ولذلك عد هذا الجند مهزوما قبل انهزامهم. والمعنى: هم جندما أقلاء أذلاء منهزمون هنالك من اولئك الاحزاب المتحزبين على الرسل الذين كذبوهم فحق عليهم عقابي. قوله تعالى: " كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الاوتاد - إلى قوله - فحق عقاب " ذو الاوتاد وصف فرعون والاوتاد جمع وتد وهو معروف. قيل: سمي بذي الاوتاد لانه كانت له ملاعب من أوتاد يلعب له عليها، وقيل: لانه كان يعذب من غضب عليه من المجرمين بالاوتاد يوتد يديه ورجليه ورأسه على الارض فيعذبه وقيل: معناه ذو الجنود أوتاد الملك، وقيل: غير ذلك من الوجوه، ولا دليل على شئ منها يعول عليه. وأصحاب الايكة قوم شعيب وقد تقدم في سورة الحجر والشعراء، وقوله: " فحق عقاب " أي ثبت في حقهم واستقر فيهم عقابي فأهلكتهم. قوله تعالى: " وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة مالها من فواق " النظر الانتظار والفواق الرجوع والمهلة اليسيرة، والمعنى وما ينتظر هؤلاء المكذبون من امتك إلا صيحة واحدة تقضي عليهم وتهلكهم مالها من رجوع أو مهلة وهي عذاب الاستئصال. قالوا: والمراد من الصيحة صيحة يوم القيامة لان امة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مؤخر عنهم
العذاب إلى قيام الساعة، وقد عرفت في تفسير سورة يونس أن ظاهر آيات الكتاب يعطي خلاف ذلك فراجع.
[ 186 ]
قوله تعالى: " وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب " القط النصيب والحظ، وهذه الكلمة استعجال منهم للعذاب قبل يوم القيامة استهزاء بحديث يوم الحساب والوعيد بالعذاب فيه. (بحث روائي) في الكافي بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: أقبل أبو جهل بن هشام ومعه قوم من قريش فدخلوا على أبي طالب فقالوا. إن ابن اخيك قد آذانا وآذى آلهتنا فادعه ومره فليكف عن آلهتنا ونكف عن إلهه. قال: فبعث أبو طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعاه فلما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ير في البيت إلا مشركا فقال: السلام على من اتبع الهدى ثم جلس فخبره أبو طالب بما جاؤا به فقال: أو هل لهم في كلمة خير لهم من هذا يسودون بها العرب ويطأون أعناقهم ؟ فقال أبو جهل: نعم وما هذه الكلمة ؟ قال: تقولون: لا إله إلا الله. قال: فوضعوا أصابعهم في آذانهم وخرجوا وهم يقولون: ما سمعنا بهذا في الملة الاخرة إن هذا إلا اختلاق فأنزل الله في قولهم ص والقرآن ذي الذكر - إلى قوله - إلا اختلاق. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وعجبوا أن جاءهم منذر منهم " قال: لما أظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة اجتمعت قريش إلى أبى طالب فقالوا: يا أبا طالب إن إبن أخيك قد سفه أحلامنا وسب آلهتنا وأفسد شبابنا وفرق جماعتنا فإن كان الذي يحمله على ذلك العدم جمعنا له مالا حتى يكون أغنى رجل في قريش ونملكه علينا. فاخبر أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فقال: والله لو وضعوا الشمس في يميني
والقمر في يساري ما أردته ولكن يعطونني كلمة يملكون بها العرب ويدين لهم بها العجم ويكونون ملوكا في الجنة فقال لهم أبو طالب ذلك فقالوا: نعم وعشر كلمات فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشهدون أن لا إله الله وأني رسول الله فقالوا: ندع ثلاث مائة وستين إلها ونعبد إلها واحدا ؟
[ 187 ]
فأنزل الله سبحانه: " بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب - إلى قوله - إلا اختلاق " أي تخليط " ءأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري - إلى قوله - من الاحزاب " يعني الذين تحزبوا عليه يوم الاحزاب. أقول: والقصة مروية من طرق أهل السنة أيضا وفي بعض رواياتهم أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما عرض عليهم كلمة التوحيد قالوا له: سلنا غير هذه قال: لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها فغضبوا وقالوا والكلمة كناية عن تمليكهم إياه زمام نظام العالم الارضي فإن الشمس والقمر من أعظم المؤثرات فيه، وقد أخذ على ما يظهر ان للحسن من القدر ليصح ما أريد من التمثيل. وفي العلل بإسناده إلى إسحاق بن عمار قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام كيف صارت الصلاة ركعة وسجدتين ؟ وكيف إذا صارت سجدتين لم تكن ركعتين ؟ فقال: إذا سألت عن شئ ففرغ قلبك لتفهم. إن أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما صلاها في السماء بين يدي الله تبارك وتعالى قدام عرشه. وذلك أنه لما أسري به وصار عند عرشه قال يا محمد أدن من صاد فاغسل مساجدك وطهرها وصل لربك فدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حيث أمره الله تبارك وتعالى فتوضأ واسبغ وضوءه. قلت: جعلت فداك وما صاد الذي أمر أن يغتسل منه ؟ فقال: عين تنفجر من ركن من أركان العرش يقال له ماء الحيوان وهو ما قال الله عز وجل: " ص والقرآن
ذي الذكر " الحديث. أقول: وروى هذا المعنى أعني أن ص نهر يخرج من ساق العرش في المعاني عن سفيان الثوري عن الصادق عليه السلام، وروي ذلك في مجمع البيان عن ابن عباس أنه اسم من أسماء الله تعالى قال: وروي ذلك عن الصادق عليه السلام. وفي المعاني بإسناده إلى الاصبغ عن علي عليه السلام في قول الله عز وجل: " وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب " قال: نصيبهم من العذاب.
[ 188 ]
* * * إصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الايد إنه أواب - 17. إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق - 18. والطير محشورة كل له أواب 19 وشددنا ملكه و آتيناه الحكمة وفصل الخطاب - 20. وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب - 21. إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط - 22. إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب - 23. قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب - 24. فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب - 25. يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين
يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب - 26.
[ 189 ]
وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار - 27. أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار - 28. كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الالباب - 29. (بيان) لما حكى سبحانه عن المشركين رميهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته الحقة باختلاق وأنها ذريعة إلى التقدم والرئاسة وأنه لا مرجح له عليهم حتى يختص بالرسالة والانذر. ثم استهزائهم بيوم الحساب وعذابه الذي ينذرون به، أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر وأن لا يزلز له هفواتهم ولا توهن عزمه وأن يذكر عدة من عباده الاوابين له الراجعين إليه فيما دهمهم من الحوادث. وهؤلاء تسعة من الانبياء الكرام ذكرهم الله سبحانه: داود وسليمان وأيوب ابراهيم واسحاق ويعقوب واسماعيل واليسع وذو الكفل عليهم السلام، وبدء بداود عليه السلام وذكر بعض قصصه. قوله تعالى: " اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الايد انه أواب " الايد القوة وكان عليه السلام ذا قوة في تسبيحه تعالى يسبح ويسبح معه الجبال والطير وذا قوة في ملكه وذا قوة في علمه وذا قوة وبطش في الحروب وقد قتل جالوت الملك كما قصه الله في سورة البقرة. والاواب اسم مبالغة من الاوب بمعنى الرجوع والمراد به كثرة رجوعه إلى ربه. قوله تعالى: " انا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق " الظاهر أن
" معه " متعلق بقوله: " يسبحن " وجملة " معه يسبحن " بيان لمعنى التسخير وقدم الظرف لتعلق العناية بتبعيتها لداد واقتدائها به في التسبيح لكن قوله تعالى في موضع
[ 190 ]
آخر: " وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير " الانبياء: 79 يؤيد تعلق الظرف بسخرنا، وقد وقع في موضع آخر من كلامه تعالى: " يا جبال أوبي معه والطير " سبأ: 10. والعشي والاشراق الرواح والصباح. وقوله: " انا سخرنا " الخ " ان " فيه للتعليل والاية وما عطف عليها من الايات بيان لكونه عليه السلام ذا ايد في تسبيحه وملكه وعلمه وكونه أوابا إلى ربه. قوله تعالى: " والطير محشورة كل له اواب " المحشورة من الحشر بمعنى الجمع بإزعاج أي وسخرنا معه الطير مجموعة له تسبح معه. وقوله: " كل له أواب " استئناف يقرر ما تقدمه من تسبيح الجبال والطير أي كل من الجبال والطير أواب أي كثير الرجوع إلينا بالتسبيح فإن التسبيح من مصاديق الرجوع إليه تعالى. ويحتمل رجوع ضمير " له " إلى داود على بعد. ولم يكن تأييد داود عليه السلام في أصل جعله تعالى للجبال والطير تسبيحا فإن كل شئ مسبح لله سبحانه قال تعالى: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " أسرى: 44 بل في موافقة تسبيحها لتسبيحه وقرع تسبيحها أسماع الناس وقد تقدم كلام في معنى تسبيح الاشياء لله سبحانه في تفسير قوله تعالى: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده " الاية وأنه بلسان القال دون لسان الحال. قوله تعالى: " وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب " قال الراغب: الشد العقد القوي يقال: شددت الشئ قويت عقده. انتهى فشد الملك من الاستعارة بالكناية والمراد به تقوية الملك وتحكيم أساسه بالهيبة والجنود والخزائن وحسن التدبير وسائر ما يتقوى به الملك.
والحكمة في الاصل بناء نوع من الحكم والمراد بها المعارف الحقة المتقنة التي تنفع الانسان وتكمله، وقيل: المراد النبوة، وقيل الزبور وعلم الشرائع، وقيل غير ذلك وهي وجوه ردية. وفصل الخطاب تفكيك الكلام الحاصل من مخاطبة واحد لغيره وتمييز حقه من باطله وينطبق على القضاء بين المتخاصمين في خصامهم.
[ 191 ]
وقيل: المراد به الكلام القصد ليس بإيجازه مخلا ولا بإطنابه مملا، وقيل: فصل الخطاب قول أما بعد فهو عليه السلام أول من قال: أما بعد، والاية التالية " وهل أتاك نبؤ الخصم " الخ تؤيد ما قدمناه. قوله تعالى: " وهل أتاك نبؤ الخصم إذ تسوروا المحراب " الخصم مصدر كالخصومة اريد به القوم الذي استقر فيهم الخصومة، والتسور الارتقاء إلى أعلى السور وهو الحائط الرفيع كالتسنم بمعنى الارتقاء إلى سنام البعير والتذري بمعنى الارتقاء إلى ذروة الجيل، وقد فسر المحراب بالغرفة والعلية، والاستفهام للتعجيب والتشويق إلى استماع الخبر. والمعنى هل أتاك يا محمد خبر القوم المتخاصمين إذ علوا سور المحراب محراب داود عليه السلام. قوله تعالى: " إذ دخلوا على داود ففزع منهم " إلى آخر الاية لفظة " إن " هذه ظرف لقوله: " تسو روا " كما أن " إذ " الاولى ظرف لقوله: " نبؤ الخصم " ومحصل المعنى أنهم دخلوا على داود وهو في محرابه لا من الطريق العادي بل بتسوره بالارتقاء إلى سوره والورود عليه منه ولذا فزع منهم لما رآهم دخلوا عليه من غير الطريق العادي وبغير إذن. وقوله: " ففزع منهم " قال الراغب: الفزع انقباض ونفار يعتري الانسان من
الشئ المخيف وهو من جنس الجزع ولا يقال: فزعت من الله كما يقال: خفت منه. انتهى. وقد تقدم أن الخشية تأثير القلب بحيث يستتبع الاضطراب والقلق وهي رذيلة مذمومة إلا الخشية من الله سبحانه ولذا كان الانبياء عليهم السلام لا يخشون غيره قال تعالى: " ولا يخشون أحدا إلا الله " الاحزاب: 39. وأن الخوف هو التأثير عن المكروه في مقام العمل بتهيئة ما يتحرز به من الشر ويدفع به المكروه لا في مقام الادراك فليس برذيلة مذمومة لذاته بل هو حسن فيما يحسن الاتقاء قال تعالى خطابا لرسوله: " وإما تخافن من قوم خيانة " الانفال: 58. وإذا كان الفزع هو الانقباض والنفار الحاصل من الشئ المخوف كان أمرا راجعا
[ 192 ]
إلى مقام العمل دون الادراك فلم يكن رذيلة بذاته بل كان فضيلة عند تحقق مكروه ينبغي التحرز منه فلا ضير في نسبته إلى داود عليه السلام في قوله: " ففزع منهم " وهو من الانبياء الذين لا يخشون إلا الله. وقوله: " قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض " لما رأوا ما عليه داود عليه السلام من الفزع أرادوا تطييب نفسه وإسكان روعه فقالوا: " لا تخف " وهو نهي عن الفزع بالنهي عن سببه الذي هو الخوف " خصمان بغى " الخ أي نحن خصمان أي فريقان متخاصمان تجاوز بعضنا ظلما على بعض. وقوله: " فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط " الخ الشطط الجور أي فاحكم بيننا حكما مصاحبا للحق ولا تجر في حكمك ودلنا على الوسط العدل من الطريق. قوله تعالى: " إن هذا أخي " إلى آخر الاية بيان لخصومتهم وقوله: " إن هذا أخي " كلام لواحد من أحد الفريقين يشير إلى آخر من الفريق الاخر بأن هذا أخي له " الخ. وبهذا يظهر فساد ما استدل بعضهم بالاية على أن أقل الجمع اثنان لظهور قوله:
إذ تسو روا " " إذ دخلوا " في كونهم جمعا ودلالة قوله: " خصمان " " هذا أخي " على الاثنينية. وذلك لجواز أن يكون في كل واحد من جانبي التثنية أكثر من فرد واحد قال تعالى: " هذا خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا " الخ الحج: 19 وجواز أن يكون أصل الخصومة بين فردين ثم يلحق بكل منهما غيره لاعانته في دعواه. وقوله: " له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب " النعجة الانثى من الضأن، و " أكفلنيها " أي اجعلها في كفالتي وتحت سلطتي و " عزني في الخطاب " أي غلبني فيه والباقي ظاهر. قوله تعالى: " قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه - إلى قوله - وقليل ما هم " جواب داود عليه السلام، ولعله قضاء تقديري قبل استماع كلام المتخاصم الاخر فإن من الجائز أن يكون عنده من القول ما يكشف عن كونه محقا فيما يطلبه ويقترحه على
[ 193 ]
صاحبه لكن صاحب النعجة الواحدة ألقى كلامه بوجه هيج الرحمة والعطوفة منه عليه السلام فبادر إلى هذا التصديق التقديري فقال: " لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ". فاللام للقسم، والسؤال - على ما قيل - مضمن معنى الاضافة ولذا عدي إلى المفعول الثاني بإلى، والمعنى اقسم لقد ظلمك بسؤال إضافة نعجتك إلى نعاجه. وقوله: " وإن كثير من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم " من تمام كلام داود عليه السلام يقرر به كلامه الاول والخلطاء الشركاء المخالطون. قوله تعالى: " وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب " أي علم داود أنما فتناه بهذه الواقعة أي أنها إنما كانت فتنة فتناه بها والفتنة الامتحان، وقيل: ظن بمعناه المعروف الذي هو خلاف اليقين وذكر استغفاره وتوبته مطلقين يؤيد ما
قدمناه ولو كان الظن بمعناه المعروف كان الاستغفار والتوبة على تقدير كونها فتنة واقعا وإطلاق اللفظ يدفعه، والخر على ما ذكره الراغب سقوط يسمع منه خرير والخرير يقال لصوت الماء والريح وغير ذلك مما يسقط من علو، والركوع - على ما ذكره - مطلق الانحناء. والانابة إلى الله - على ما ذكره الراغب - الرجوع إليه بالتوبة وإخلاص العمل وهي من النوب بمعنى رجوع الشئ مرة بعد أخرى. والمعنى: وعلم داود أن هذه الواقعة إنما كانت امتحانا امتحناه وأنه أخطأ فاستغفر ربه - مما وقع منه - وخر منحنيا وتاب إليه. وأكثر المفسرين تبعا للروايات على أن هؤلاء الخصم الداخلين على داود عليه السلام كانوا ملائكة أرسلهم الله سبحانه إليه ليمتحنه وستعرف حال الروايات. لكن خصوصيات القصة كتسورهم المحراب ودخولهم عليه دخولا غير عادي بحيث أفزعوه، وكذا تنبهه بأنه إنما كان فتنة من الله له لا واقعة عادية، وقوله تعالى بعد: " فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى " الظاهر في أن الله ابتلاه بما ابتلى
[ 194 ]
لينبهه ويسدده في خلافته وحكمه بين الناس، كل ذلك يؤيد كونهم من الملائكة وقد تمثلوا له في صورة رجال من الانس. وعلى هذا فالواقعة تمثل تمثل فيه الملائكة في صورة متخاصمين لاحدهما نعجة واحدة يسألها آخر له تسع وتسعون نعجة وسألوه القضاء فقال لصاحب النعجة الواحدة: " لقد ظلمك " الخ وكان قوله عليه السلام - لو كان قضاء منجزا - حكما منه في ظرف التمثل كما لو كان رآهم فيما يرى النائم فقال لهم ما قال وحكم فيهم بما حكم ومن المعلوم أن لا تكليف في ظرف التمثل كما لا تكليف في عالم الرؤيا وإنما التكليف في عالمنا المشهود وهو عالم المادة ولم تقع الواقعة فيه ولا كان هناك متخاصمان ولا نعجة ولا نعاج إلا في
ظرف التمثل فكانت خطيئة داود عليه السلام في هذا الظرف من التمثل ولا تكليف هناك كخطيئة آدم عليه السلام في الجنة من أكل الشجرة قبل الهبوط إلى الارض وتشريع الشرائع وجعل التكاليف، واستغفاره وتوبته مما صدر منه كاستغفار آدم وتوبته مما صدر منه وقد صرح الله بخلافته في كلامه كما صرح بخلافة آدم عليه السلام في كلامه وقد مر توضيح ذلك في قصة آدم عليه السلام من سورة البقرة في الجزء الاول من الكتاب. وأما على قول بعض المفسرين من أن المتخاصمين الداخلين عليه كانوا بشرا والقصة على ظاهرها فينبغي أن يؤخذ قوله: " لقد ظلمك " الخ قضاء تقديريا أي إنك مظلوم لو لم يأت خصيمك بحجة بينة، وإنما ذلك للحفظ على ما قامت عليه الحجة من طريقي العقل والنقل أن الانبياء معصومون بعصمة من الله لا يجوز عليهم كبيرة ولا صغيرة. على أن الله سبحانه صرح قبلا بأنه آتاه الحكمة وفصل الخطاب ولا يلائم ذلك خطأه في القضاء. قوله تعالى: " وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " الزلفة والزلفى المنزلة والحظوة، والمآب المرجع، وتنكير " زلفى " و " مآب " للتفخيم، والباقي ظاهر. قوله تعالى: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض " إلى آخر الاية الظاهر أن الكلام بتقدير القول والتقدير فغفرنا له ذلك وقلنا يا داود " الخ ". وظاهر الخلافة إنها خلافة الله فتنطبق على ما في قوله تعالى: " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة " البقرة: 30 ومن شأن الخلافة أن يحاكي الخليفة
[ 195 ]
من استخلفه في صفاته وأعماله فعلى خليفة الله في الارض أن يتخلق بأخلاق الله ويريد ويفعل ما يريده الله ويحكم ويقضي بما يقضي به الله - والله يقضي بالحق - ويسلك سبيل الله ولا يتعداها. ولذلك فرع على جعل خلافته قوله: " فاحكم بين الناس بالحق " وهذا يؤيد أن
المراد بجعل خلافته إخراجها من القوة إلى الفعل في حقه لا مجرد الخلافة الشأنية لان الله أكمله في صفاته وآتاه الملك يحكم بين الناس. وقول بعضهم: إن المراد بخلافته المجعولة خلافته ممن قبله من الانبياء وتفريع قوله: " فاحكم بين الناس بالحق " لان الخلافة نعمة عظيمة شكرها العدل أو أن المترتب هو مطلق الحكم بين الناس الذي هو من آثار الخلافة وتقييده بالحق لان سداده به، تصرف في اللفظ من غير شاهد. وقوله: " ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله " العطف والمقابلة بينه وبين ما قبله يعطيان أن المعنى ولا تتبع في قضائك الهوى هوى النفس فيضلك عن الحق الذي هو سبيل الله فتفيد الاية أن سبيل الله هو الحق. قال بعضهم: إن في أمره عليه السلام بالحكم بالحق ونهيه عن اتباع الهوى تنبيها لغيره ممن يلي امور الناس أن يحكم بينهم بالحق ولا يتبع الباطل وإلا فهو عليه السلام من حيث إنه معصوم لا يحكم إلا بالحق ولا يتبع الباطل. وفيه أن أمر تنبيه غيره بما وجه إليه من التكليف في محله لكن عصمة المعصوم وعدم حكمه إلا بالحق لا يمنع توجه التكليف بالامر والنهي إليه فإن العصمة لا توجب سلب اختياره وما دام اختياره باقيا جاز بل وجب توجه التكليف إليه كما يتوجه إلى غيره من الناس، ولو لا توجه التكليف إلى المعصوم لم يتحقق بالنسبة إليه واجب ومحرم ولم تتميز طاعة من معصية فلغى معنى العصمة التي هي المصونية عن المعصية. وقوله: " إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " تعليل للنهي عن اتباع الهوى بأنه يلازم نسيان يوم الحساب وفي نسيانه عذاب شديد والمراد بنسيانه عدم الاعتناء بأمره. وفي الاية دلالة على أن كل ضلال عن سبيل الله سبحانه بمعصية من المعاصي لا
[ 196 ]
ينفك عن نسيان يوم الحساب. قوله تعالى: " وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا " إلى آخر الاية، لما انتهى الكلام إلى ذكر يوم الحساب عطف عنان البيان عليه فاحتج عليه بحجتين إحداهما ما ساقه في هذه الاية بقوله: " وما خلقنا السماء " الخ وهو احتجاج من طريق الغايات إذ لو لم يكن خلق السماء والارض وما بينهما - وهي أمور مخلوقة مؤجلة توجد وتفنى - مؤديا إلى غاية ثابتة باقية غير مؤجلة كان باطلا والباطل بمعنى ما لا غاية له ممتنع التحقق في الاعيان. على أنه مستحيل من الحكيم ولا ريب في حكمته تعالى. وربما أطلق الباطل وأريد به اللعب ولو كان المراد ذلك كانت الاية في معنى قوله: " وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق " الدخان: 39. وقيل: الاية عطف على ما قبلها بحسب المعنى كأنه قيل: ولا تتبع الهوى لانه يكون سببا لضلالك ولانه تعالى لم يخلق العالم لاجل اتباع الهوى وهو الباطل بل خلقه للتوحيد ومتابعة الشرع. وفيه أن الاية التالية: " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض " الخ لا تلائم هذا المعنى. وقوله: " ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار " أي خلق العالم باطلا لا غاية له وانتفاء يوم الحساب الذي يظهر فيه ما ينتجه حساب الامور ظن الذين كفروا بالمعاد فويل لهم من عذاب النار. قوله تعالى: " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار " هذه هي الحجة الثانية على المعاد وتقريرها أن للانسان كسائر الانواع كمالا بالضرورة وكمال الانسان هو خروجه في جانبي العلم والعمل من القوة إلى الفعل بأن يعتقد الاعتقادات الحقة ويعمل الاعمال الصالحة اللتين يهديه إليهما فطرته الصحيحة وهما الايمان بالحق والعمل الصالح اللذين بهما يصلح المجتمع الانساني الذي
في الارض. فالذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم المتقون هم الكاملون من الانسان والمفسدون
[ 197 ]
في الارض بفساد اعتقادهم وعملهم وهم الفجار هم الناقصون الخاسرون في إنسانيتهم حقيقة، ومقتضى هذا الكمال والنقص أن يكون بإزاء الكمال حياة سعيدة وعيش طيب وبإزاء خلافه خلاف ذلك. ومن المعلوم أن هذه الحياة الدنيا التي يشتركان فيها هي تحت سيطرة الاسباب والعوامل المادية ونسبتها إلى الكامل والناقص والمؤمن والكافر على السواء فمن أجاد العمل ووافقته الاسباب المادية فاز بطيب العيش ومن كان على خلاف ذلك لزمه الشقاء وضنك المعيشة. فلو كانت الحياة مقصورة على هذه الحياة الدنيوية التي نسبتها إلى الفريقين على السواء ولم تكن هناك حياة تختص بكل منهما وتناسب حاله كان ذلك منافيا للعناية الالهية بإيصال كل ذي حق حقه وإعطاء المقتضيات ما تقتضيه. وإن شئت فقل: تسوية (1) بين الفريقين وإلغاء ما يقتضيه صلاح هذا وفساد ذلك خلاف عدله تعالى. والاية - كما ترى - لا تنفي استواء حال المؤمن والكافر وإنما قررت المقابلة بين من آمن وعمل صالحا وبين من لم يكن كذلك سواء كان غير مؤمن أو مؤمنا غير صالح ولذا أتت بالمقابلة ثانيا بين المتقين والفجار. قوله تعالى: " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الالباب " أي هذا كتاب من وصفه كذا وكذا، وتوصيفه بالانزال المشعر بالدفعة دون التنزيل الدال على التدريج لان ما ذكر من التدبر والتذكر يناسب اعتباره مجموعا لا نجوما مفرقة. والمقابلة بين " ليدبروا " و " ليتذكر أولوا الالباب " تفيد أن المراد بضمير
الجمع الناس عامة. والمعنى: هذا كتاب أنزلناه إليك كثير الخيرات والبركات للعامة والخاصة ليتدبره الناس فيهتدوا به أو تتم لهم الحجة وليتذكر به أولو الالباب فيهتدوا إلى الحق باستحضار حجته وتليقها من بيانه. (1)
الحجة الاولى برهانية والثانية جدلية.
[ 198 ]
(بحث روائي) روى في الدر المنثور بطريق عن أنس وعن مجاهد والسدي وبعدة طرق عن ابن عباس قصة دخول الخصم على داود عليه السلام على اختلاف ما في الروايات وروى مثلها القمي في تفسيره ورواها في العرائس وغيره وقد لخصها في مجمع البيان كما يأتي: إن داود كان كثير الصلاة فقال: يا رب فضلت علي إبراهيم فاتخذته خليلا وفضلت علي موسى فكلمته تكليما فقال: يا داود إنا ابتليناهم بما لم نبتلك بمثله فإن شئت ابتليتك فقال: نعم يا رب فابتلني. فبينا هو في محرابه ذات يوم إذ وقعت حمامة فأراد أن يأخذها فطارت إلى كوة المحراب فذهب ليأخذها فاطلع من الكوة فإذا امرأة أوريا بن حيان تغتسل فهواها وهم بتزويجها فبعث باوريا إلى بعض سراياه وأمر بتقديمه أمام التابوت الذي فيه السكينة ففعل ذلك وقتل. فلما انقضت عدتها تزوجها وبنى بها فولد له منها سليمان فبينا هو ذات يوم في محرابه إذ دخل عليه رجلان ففزع منهما فقالا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض - إلى قوله - وقليل ما هم، فنظر أحد الرجلين إلى صاحبه ثم ضحك فتنبه داود على إنهما ملكان بعثهما الله إليه في صورة خصمين ليبكتاه على خطيئته فتاب وبكى حتى نبت الزرع من كثرة دموعه.
ثم قال في المجمع - ونعم ما قال -: إنه مما لا شبهة في فساده فإن ذلك مما يقدح في العدالة فكيف يجوز أن يكون أنبياء الله الذين هم أمناؤه على وحيه وسفراؤه بينه وبين خلقه بصفة من لا تقبل شهادته وعلى حالة تنفر عن الاستماع إليه والقبول منه. اقول: والقصة مأخوذة من التوراة غير أن التي فيها أشنع وأفظع فعدلت بعض التعديل على ما سيلوح لك. ففي التوراة ما ملخصه: وكان في وقت المساء أن داود قام عن سريره وتمشى على سطح بيت الملك فرآى من على السطح امرأة تستحم وكانت المرأة جميلة المنظر جدا. فأرسل داود وسأل عن المرأة فقيل: إنها بتشبع امرأة أوريا الحثي فأرسل
[ 199 ]
داود رسلا وأخذها فدخلت عليه فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها ثم رجعت إلى بيتها وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود أنها حبلى. وكان أوريا في جيش لداود يحاربون بني عمون فكتب داود إلى يوآب أمير جيشه يأمره بإرسال أوريا إليه ولما أتاه وأقام عنده أياما كتب مكتوبا إلى يوآب وأرسله بيد أوريا، وكتب في المكتوب يقول: اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت ففعل به ذلك فقتل وأخبر داود بذلك. فلما سمعت امرأة أوريا أنه قد مات ندبت بعلها، ولما مضت المناحة أرسل داود وضمها إلى بيته وصارت له امرأة وولدت له ابنا وأما الامر الذي فعله داود فقبح في عيني الرب. فأرسل الرب ناثان النبي إلى داود فجاء إليه وقال له: كان رجلان في مدينة واحدة واحد منهما غني والاخر فقير، وكان للغني غنم وبقر كثيرة جدا وأما الفقير فلم يكن له شئ إلا نعجة واحدة صغيرة قد اقتناها ورباها فجاء ضيف إلى الرجل الغني فعفا أن يأخذ من غنمه ومن بقره ليهيئ للضيف الذي جاء إليه فأخذ نعجة الرجل
الفقير وهيأ لضيفه، فحمي غضب داود على الرجل جدا وقال لناثان: حي هو الرب إنه يقتل الرجل الفاعل ذلك وترد النعجة أربعة أضعاف لانه فعل هذا الامر ولانه لم يشفق. فقال ناثان لداود: أنت هو الرجل يعاتبك الرب ويقول: ساقيم عليك الشر من بيتك وآخذ نساءك أمام عينيك وأعطيهن لقريبك فيضطجع معهن قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس جزاء لما فعلت باوريا وامرأته. فقال داود لناثان: قد أخطأت إلى الرب فقال ناثان لداود: الرب أيضا قد نقل عنك خطيئتك. لا تموت غير أنه من أجل أنك قد جعلت بهذا الامر أعداء الرب يشمتون فالابن المولود لك من المرأة يموت، فأمرض الله الصبي سبعة أيام ثم قبضه ثم ولدت مرأة أوريا بعده لداود ابنه سليمان. وفي العيون في باب مجلس الرضا عند المأمون مع أصحاب الملل والمقالات قال (1)
ملخص من الاصحاح الحادي عشر والثاني عشر من صموئيل الثاني.
[ 200 ]
الرضا عليه السلام لابن جهم: وأما داود فما يقول من قبلكم فيه ؟ قال: يقولون: إن داود كان يصلي في محرابه إذ تصور له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من الطيور فقطع داود صلاته وقام يأخذ الطير إلى الدار فخرج في إثره فطار الطير إلى السطح فصعد في طلبه فسقط الطير في دار أوريا بن حيان. فاطلع داود في إثر الطير فإذا بامرأة اوريا تغتسل فلما نظر إليها هواها وكان قد أخرج اوريا في بعض غزواته فكتب إلى صاحبه أن قدم اوريا أمام التابوت فقدم فظفر اوريا بالمشركين فصعب ذلك على داود فكتب إليه ثانية أن قدمه أمام التابوت فقدم فقتل اوريا وتزوج داود بامرأته. قال: فضرب الرضا عليه السلام يده على جبهته وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون لقد نسبتم نبيا من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حتى خرج في إثر الطير ثم بالفاحشة ثم بالقتل.
فقال: يا ابن رسول الله ما كانت خطيئته ؟ فقال: ويحك إن داود عليه السلام إنما ظن أنه ما خلق الله خلقا هو أعلم منه فبعث الله عز وجل إليه الملكين فسورا المحراب فقال: خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب فعجل داود على المدعى عليه فقال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ولم يسأل المدعي البينة على ذلك، ولم يقبل على المدعي عليه فيقول له: ما تقول ؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه ألا تسمع الله عز وجل يقول: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق " إلى آخر الاية. فقال: يا ابن رسول الله فما قصته مع اوريا ؟ قال الرضا عليه السلام: إن المرأة في أيام داود كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبدا فأول من أباح الله عز وجل له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها داود عليه السلام فتزوج بامرأة اوريا لما قتل وانقضت عدتها فذلك الذي شق على الناس من قتل اوريا. وفي أمالي الصدوق بإسناده إلى أبي عبد الله عليه السلام أنه قال لعلقمة: إن رضا الناس لا يملك وألسنتهم لا تضبط ألم ينسبوا داود عليه السلام إلى أنه تبع الطير حتى نظر إلى امرأة اوريا فهواها، وأنه قدم زوجها أمام التابوت حتى قتل ثم تزوج بها الحديث.
[ 201 ]
(كلام في قصص داود في فصول) 1 - قصته في القرآن: لم يقع من قصته في القرآن إلا إشارات فقد ذكر سبحانه أنه كان في جيش طالوت الملك حين حارب جالوت فقتل داود فآتاه الله الملك بعد طالوت والحكمة وعلمه مما يشاء " البقرة: 251 " وجعله خليفة له يحكم بين الناس وآتاه فصل الخطاب " ص: 20 و 26 " وقد أيد الله ملكه وسخر معه الجبال والطير يسبحن معه " الانبياء: 79، ص 19 " وألان له الحديد يعمل وينسج منه الدروع
" الانبياء: 80 سبأ: 11 ". 2 - جميل الثناء عليه في القرآن. عده سبحانه من الانبياء وأثنى عليه بما أثنى عليهم وخصه بقوله: " وآتينا داود زبورا " " النساء: 163 الانعام: 84 - 87 " وآتاه فضلا وعلما " سبأ: 10 النمل: 15 " وآتاه الحكمة وفصل الخطاب وجعله خليفة في الارض " ص: 20 و 26 " ووصفه بأنه أواب وأن له عنده لزلفى وحسن مآب " ص: 19 و 25 ". 3 - التدبر في آيات الكتاب المتعرضة لقصة دخول المتخاصمين على داود عليه السلام لا يعطي أزيد من كونه امتحانا منه تعالى له عليه السلام في ظرف التمثل ليربيه تربية إلهية ويعلمه رسم القضاء العدل فلا يجور في الحكم ولا يعدل عن العدل. وأما ما تضمنته غالب الروايات من قصة اوريا وامرأته فهو مما يجل عنه الانبياء ويتنزه عنه ساحتهم وقد تقدم في بيان الايات والبحث الروائي محصل الكلام في ذلك. * * * ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب - 30. إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد - 31. فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب - 32. ردوها علي فطفق
[ 202 ]
مسحا بالسوق والاعناق - 33. ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب - 34. قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي إنك أنت الوهاب - 35. فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب - 36. والشياطين كل بناء وغواص - 37. وآخرين مقرنين في الاصفاد - 38. هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب - 39. وإن له عندنا لزلفى
وحسن مآب - 40. (بيان) القصة الثانية من قصص العباد الاوابين التي أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصبر ويذكرها. قوله تعالى: " ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب " أي وهبناه له ولدا والباقي ظاهر مما تقدم. قوله تعالى: " إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد " العشي مقابل الغداة وهو آخر النهار بعد الزوال، والصافنات على ما في المجمع جمع الصافنة من الخيل وهي التي تقوم على ثلاث قوائم وترفع إحدى يديها حتى تكون على طرف الحافر. قال: والجياد جمع جواد والياء ههنا منقلبة عن واو والاصل جواد وهي السراع من الخيل كأنها تجود بالركض. انتهى. قوله تعالى: " فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب " الضمير لسليمان، والمراد بالخير: الخيل - على ما قيل - فإن العرب تسمي الخيل خيرا وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة.
[ 203 ]
وقيل: المراد بالخير المال الكثير وقد استعمل بهذا المعنى في مواضع من كلامه تعالى كقوله: " إن ترك خيرا " البقرة: 180. وقوله: " إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي " قالوا: إن " أحببت " مضمن معنى الايثار و " عن " بمعنى على، والمراد إني آثرت حب الخيل على ذكر ربي وهو الصلاة محبا إياه أو أحببت الخيل حبا مؤثرا إياه على ذكر ربي - فاشتغلت بما عرض علي من الخيل عن الصلاة حتى غربت الشمس. وقوله: " حتى توارت بالحجاب " الضمير على ما قالوا للشمس والمراد بتواريها بالحجاب غروبها واستتارها تحت حجاب الافق، ويؤيد هذا المعنى ذكر العشي في
الاية السابقة إذ لو لا ذلك لم يكن غرض ظاهر يترتب على ذكر العشي. فمحصل معنى الاية أني شغلني حب الخيل - حين عرض الخيل علي - عن الصلاة حتى فات وقتها بغروب الشمس، وإنما كان يحب الخيل في الله ليتهيأ به للجهاد في سبيل الله فكان الحضور للعرض عبادة منه فشغلته عبادة عن عبادة غير أنه يعد الصلاة أهم. وقيل: ضمير " توارت " للخيل وذلك أنه أمر بإجراء الخيل فشغله النظر في جريها حتى غابت عن نظره وتوارت بحجاب البعد، وقد تقدم أن ذكر العشي يؤيد المعنى السابق ولا دليل على ما ذكره من حديث الامر بالجري من لفظ الاية. قوله تعالى: " ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والاعناق " قيل: الضمير في " ردوها " للشمس وهو أمر منه للملائكة برد الشمس ليصلي صلاته في وقتها، وقوله: " فطفق مسحا بالسوق والاعناق " أي شرع يمسح ساقيه وعنقه ويأمر أصحابه أن يمسحوا سوقهم وأعناقهم وكان ذلك وضوءهم ثم صلى وصلوا، وقد ورد ذلك في بعض الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام. وقيل: الضمير للخيل والمعنى قال: ردوا الخيل فلما ردت. شرع يمسح مسحا بسوقها وأعناقها ويجعلها مسبلة في سبيل الله جزاء ما اشتغل بها عن الصلاة. وقيل: الضمير للخيل والمراد بمسح أعناق الخيل وسوقها ضربها بالسيف وقطعها والمسح القطع فهو عليه السلام غضب عليها في الله لما شغلته عن ذكر الله فأمر بردها ثم ضرب بالسيف أعناقها وسوقها فقتلها جميعا.
[ 204 ]
وفيه أن مثل هذا الفعل مما تتنزه ساحة الانبياء عليهم السلام عن مثله فما ذنب الخيل لو شغله النظر إليها عن الصلاة حتى تؤاخذ بأشد المؤاخذة فتقتل تلك القتلة الفظيعة عن آخرها مع ما فيه من إتلاف المال المحترم. وأما استدلال بعضهم عليه برواية أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى:
فطفق مسحا بالسوق والاعناق قطع سوقها وأعناقها بالسيف ثم أضاف إليها وقد جعلها بذلك قربانا لله وكان تقريب الخيل مشروعا في دينه فليس من التقريب ذكر في الحديث ولا في غيره. على أنه عليه السلام لم يشتغل عن العبادة بالهوى بل شغلته عبادة عن عبادة كما تقدمت الاشارة إليه. فالمعول عليه هو أول الوجوه إن ساعده لفظ الاية وإلا فالوجه الثاني. قوله تعالى: " ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب " الجسد هو الجسم الذي لا روح فيه. قيل: المراد بالجسد الملقى على كرسيه هو سليمان نفسه لمرض امتحنه الله به وتقدير الكلام ألقيناه على كرسيه جسدا أي كجسد لا روح فيه من شدة المرض. وفيه أن حذف الضمير من " ألقيناه " وإخراج الكلام على صورته التي في الاية الظاهرة في أن الملقى هو الجسد مخل بالمعنى المقصود لا يجوز حمل أفصح الكلام عليه. ولسائر المفسرين أقوال مختلفة في المراد من الاية تبعا للروايات المختلفة الواردة فيها والذي يمكن أن يؤخذ من بينها إجمالا أنه كان جسد صبي له أماته الله وألقى جسده على كرسيه، ولقوله: " ثم أناب قال رب اغفر لي " إشعار أو دلالة على أنه كان له عليه السلام فيه رجاء أو امنية في الله فأماته الله سبحانه وألقاه علبى كرسيه فنبهه أن يفوض الامر إلى الله ويسلم له. قوله تعالى: " قال رب اغفر لي وهب ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي إنك انت الوهاب " ظاهر السياق أن الاستغفار مرتبطة بما في الاية السابقة من إلقاء الجسد على كرسيه، والفصل لكون الكلام في محل دفع الدخل كأنه لما قيل: " ثم أناب " قيل: فماذا قال ؟ فقيل: قال رب اغفر لي " الخ.
[ 205 ]
وربما استشكل في قوله: " وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي " أن فيه ضنا وبخلا، فإن فيه اشتراط أن لا يؤتى مثل ما اوتيه من الملك لاحد من العالمين غيره. ويدفعه أن فيه سؤال ملك يختص به لا سؤال أن يمنع غيره عن مثل ما أتاه ويحرمه ففرق بين أن يسأل ملكا اختصاصيا وأن يسأل الاختصاص بملك أوتيه. قوله تعالى: " فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب " متفرع على سؤاله الملك وإخباره عن إجابة دعوته وبيان الملك الذي لا ينبغي لاحد غيره وهو تسخير الريح والجن. والرخاء بالضم اللينة و الظاهر أن المراد بكون الريح تجري بأمره رخاء مطاوعتها لامره وسهولة جريانها على ما يريده عليه السلام فلا يرد أن توصيف الريح ههنا بالرخاء يناقض توصيفه في قوله: " ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره " الانبياء: 81 بكونها عاصفة. وربما أجيب عنه بأن من الجائز أن يجعلها الله رخوة تارة وعاصفة اخرى حسب ما أراد سليمان عليه السلام. وقوله: " حيث أصاب " أي حيث شاء سليمان عليه السلام وقصد وهو متعلق بتجري. قوله تعالى: " والشياطين كل بناء وغواص " أي وسخرنا له الشياطين من الجن كل بناء منهم يبني له في البر وكل غواص يعمل له في البحر فيستخرج اللئالي وغيرها. قوله تعالى: " وآخرين مقرنين في الاصفاد " الاصفاد جمع صفد وهو الغل من الحديد، والمعنى وسخرنا له آخرين منهم مجموعين في الاغلال مشدودين بالسلاسل. قوله تعالى: " هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب " أي هذا الذي ذكر من الملك عطاؤنا لك بغير حساب والظاهر أن المراد بكونه بغير حساب أنه لا ينفد بالعطاء والمن ولذا قيل: " فامنن أو أمسك " أي أنهما يستويان في عدم التأثير فيه. وقيل: المراد بغير حساب أنك لا تحاسب عليه يوم القيامة، وقيل: المراد أن
إعطاءه تفضل لا مجازاة وقيل غير ذلك. قوله تعالى: " وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " تقدم معناه.
[ 206 ]
(بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: " فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي " الاية قيل: إن هذه الخيل كانت شغلته عن صلاة العصر حتى فات وقتها عن علي عليه السلام وفي رواية أصحابنا أنه فاته أول الوقت. وفيه قال ابن عباس: سألت عليا عن هذه الاية فقال: ما بلغك فيها يابن عباس ؟ قلت: سمعت كعبا يقول: اشتغل سليمان بعرض الافراس حتى فاتته الصلاة فقال: ردوها علي يعني الافراس وكانت أربعة عشر فأمر بضرب سوقها وأعناقها بالسيف فقتلها فسلبه الله ملكه أربعة عشر يوما لانه ظلم الخيل بقتلها. فقال علي: كذب كعب لكن اشتغل سليمان بعرض الافراس ذات يوم لانه أراد جهاد العدو حتى توارت الشمس بالحجاب فقال بأمر الله للملائكة الموكلين بالشمس: ردوها علي فردت فصلى العصر في وقتها وإن أنبياء الله لا يظلمون ولا يأمرون بالظلم لانهم معصومون مطهرون. اقول: وقول كعب الاحبار: فسلبه الله ملكه إشارة إلى حديث الخاتم الذي سنشير إليه. وفي الفقيه روي عن الصادق عليه السلام أنه قال: إن سليمان بن داود عرض عليه ذات يوم بالعشي الخيل فاشتغل بالنظر إليها حتى توارت الشمس بالحجاب فقال للملائكة: ردوا الشمس علي حتى أصلي صلاتي في وقتها فردوها فقام ومسح ساقيه وعنقه بمثل ذلك وكان ذلك وضوءهم للصلاة ثم قام فصلى فلما فرغ غابت الشمس وطلعت النجوم، وذلك قول الله عز وجل: " ووهبنا لداود سليمان - إلى قوله - مسحا بالسوق والاعناق ".
اقول: والرواية لا بأس بها لو ساعد لفظ الاية أعني قوله: " فطفق مسحا بالسوق والاعناق " على ما فيها من المعنى، وأما مسألة رد الشمس فلا إشكال فيه بعد ثبوت إعجاز الانبياء، وقد ورد ردها لغيره عليه السلام كيوشع بن نون وعلي بن أبي طالب عليه السلام في النقل المعتبر ولا يعبؤ بما أورده الرازي في تفسيره الكبير. وأما عقره عليه السلام الخيل وضربه أعناقها بالسيف فقد روي في ذلك عدة روايات
[ 207 ]
من طرق أهل السنة وأورده القمي في تفسيره وكأنها تنتهي إلى كعب كما مر في رواية ابن عباس المتقدمة وكيف كان فلا يعبؤ بها كما تقدم. وقد بلغ من إغراقهم في القصة أن رووا أن الخيل كانت عشرين ألف فرس ذات أجنحة ومثله ما روي في قوله: حتى توارت بالحجاب عن كعب أنه حجاب من ياقوتة خضراء محيط بالخلائق منه اخضرت السماء. ومثل هذه الروايات أعاجيب من القصص رووها في قوله تعالى: " وألقينا على كرسيه جسدا " الاية كما روي أنه ولد له ولد فأمر بإرضاعه وحفظه في السحاب إشفاقا عليه من مردة الجن وفي بعضها خوفا عليه من ملك الموت فوقع يوما جسده على كرسيه ميتا. وما روي أنه قال يوما: لا طوفن الليلة بمائة امرأة من نسائي تلد لي كل واحدة منهن لي فارسا يجاهد في سبيل الله ولم يستثن فلم تحمل منهن إلا واحدة بشق من ولد وكان يحبه فخبأه له بعض الجن من ملك الموت فأخذه من مخبإه وقبضه على كرسي سليمان. وما روي في روايات كثيرة تنتهي عدة منها إلى ابن عباس وهو يصرح في بعضها أنه أخذه عن كعب أن ملك سليمان كان في خاتمه فتخطفه شيطان منه فزال ملكه وتسلط الشيطان على ملكه أياما ثم أعاد الله الخاتم إليه فعاد إلى ما كان عليه من الملك، وقد أوردوا في القصة أمورا ينبغي أن تنزه ساحة الانبياء عليه السلام عن ذكرها فضلا
عن نسبتها إليهم. قالوا: وجلوس الشيطان على كرسي سليمان هو المراد بقوله تعالى: " وألقينا على كرسيه جسدا " الاية. فهذه (1) كلها مما لا يعبؤ بها على ما تقدمت الاشارة إليه وإنما هي مما لعبت بها أيدي الوضع. * * * واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب (1)
ليراجع في الحصول على عامة هذه الروايات الدر المنثور.
[ 208 ]
وعذاب - 41. أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب - 42. ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لاولي الالباب - 43. وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنت إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب - 44. واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولي الايدي والابصار - 45. إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار - 46. وإنهم عندنا لمن المصطفين الاخيار - 47. واذكر إسمعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار - 48. (بيان) القصة الثالثة مما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصبر ويذكرها وهي قصة أيوب النبي عليه السلام وما ابتلي به من المحنة ثم أكرمه الله بالعافية والعطية. ثم الامر بذكر إبراهيم وخمسة من ذريته من الانبياء عليه السلام. قوله تعالى: " واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب " دعاء منه عليه السلام وسؤال للعافية وأن يكشف عنه ربه ما أصابه من سوء الحال، ولم يصرح بما يريده ويسأله تواضعا وتذللا غير أن نداءه تعالى بلفظ ربي يشعر بأنه يناديه لحاجة.
والنصب التعب، وقوله: " إذ نادى " الخ بدل اشتمال من " عبدنا " أو " أيوب " وقوله: " أني مسني " الخ حكاية ندائه. والظاهر من الايات التالية أن مراده من النصب والعذاب ما أصابه من سوء الحال في بدنه وأهله وهو الذي ذكره عنه عليه السلام في سورة الانبياء من ندائه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين بناء على شمول الضر مصيبته في نفسه وأهله ولم يشر في هذه السورة ولا في سورة الانبياء إلى ذهاب ماله وإن وقع ذكر المال في الروايات.
[ 209 ]
والظاهر أن المراد من مس الشيطان له بالنصب والعذاب استناد نصبه وعذابه إلى الشيطان بنحو من السببية والتأثير وهو الذي يظهر من الروايات، ولا ينافي استناد المرض ونحوه إلى الشيطان استناده أيضا إلى بعض الاسباب العادية الطبيعية لان السببين ليسا عرضيين متدافعين بل أحدهما في طول الاخر وقد أوضحنا ذلك في تفسير قوله تعالى: " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء " الاعراف: 96 في الجزء الثامن من الكتاب. ولا دليل يدل على امتناع وقوع هذا النوع من التأثير للشيطان في الانسان وقد قال تعالى: " إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان " المائدة: 90 فنسبها أنفسها إليه، وقال حاكيا عن موسى عليه السلام: " هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين " القصص: 15 يشير إلى الاقتتال. ولو أغمض عن الروايات أمكن أن يحتمل أن يكون المراد بانتساب ذلك إلى الشيطان إغراؤه الناس بوسوسته أن يتجنبوا من الاقتراب منه وابتعادهم وطعنهم فيه أن لو كان نبيا لم تحط به البلية من كل جانب ولم يصر إلى ما صار إليه من العاقبة السوآى وشماتتهم واستهزاؤهم به. وقد أنكر في الكشاف ما تقدم من الوجه قائلا: لا يجوز أن يسلط الله الشيطان
على أنبيائه عليه السلام ليقضي من تعذيبهم وإتعابهم وطره ولو قدر على ذلك لم يدع صالحا إلا وقد نكبه وأهلكه، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب. انتهى. وفيه أن الذي يخص الانبياء وأهل العصمة أنهم لمكان عصمتهم في أمن من تأثير الشيطان في نفوسهم بالوسوسة، وأما تأثيره في أبدانهم وسائر ما ينسب إليهم بإيذاء أو إتعاب أو نحو ذلك من غير إضلال فلا دليل يدل على امتناعه، وقد حكى الله سبحانه عن فتى موسى وهو يوشع النبي عليه السلام: " فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره " الكهف: 63. ولا يلزم من تسلطه على نبي بالايذاء والاتعاب لمصلحة تقتضيه كظهور صبره في
[ 210 ]
الله سبحانه وأوبته إليه أن يقدر على ما يشاء فيمن يشاء من عباد الله تعالى إلا أن يشاء الله ذلك وهو ظاهر. قوله تعالى: " اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب " وقوع الاية عقيب ندائه ومسألته يعطي أنه إيذان باستجابة دعائه وأن قوله تعالى: " اركض برجلك " الخ حكاية لما اوحي إليه عند الكشف عن الاستجابة أو هو بإضمار القول والتقدير فاستجبنا له وقلنا: اركض " الخ " وسياق الامر مشعر بل كاشف عن أنه كان لا يقدر على القيام والمشي بقدميه وكان مصابا في سائر بدنه فأبرء الله ما في رجليه من ضر وأظهر له عينا هناك وأمره أن يغتسل منها ويشرب حتى يبرء ظاهر بدنه وباطنه ويتأيد بذلك ما سيأتي من الرواية. وفي الكلام إيجاز بالحذف والتقدير فركض برجله واغتسل وشرب فبرأه الله من مرضه. قوله تعالى: " ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لاولي الالباب " ورد في الرواية أنه ابتلي فيما ابتلي بموت جميع أهله إلا امرأته وأن الله أحياهم له ووهبهم
له ومثلهم معهم، وقيل: إنهم كانوا قد تفرقوا عنه أيام ابتلائه فجمعهم الله إليه بعد برئه وتناسلوا فكانوا مثلي ما كانوا عددا. وقوله: " رحمة منا وذكرى لاولي الالباب " مفعول له أي فعلنا به ما فعلنا ليكون رحمة منا وذكرى لاولي الالباب يتذكرون به. قوله تعالى: " وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب " في المجمع: الضغث مل ء الكف من الشجرة والحشيش والشماريخ ونحو ذلك انتهى، وكان عليه السلام قد حلف لئن عوفي أن يجلد امرأته مائة جلدة لامر أنكره عليها على ما سيأتي من الرواية فلما عافاه الله تعالى أمره أن يأخذ بيده ضغثا بعدد ما حلف عليه من الجلدات فيضربها به ولا يحنث. وفي سياق الاية تلويح إلى ذلك وإنما طوي ذكر المرءة وسبب الحلف تأدبا ورعاية لجانبه. وقوله: " إنا وجدناه صابرا " أي فيما ابتليناه به من المرض وذهاب الاهل والمال،
[ 211 ]
والجملة تعليل لقوله: " واذكر " أو لقوله: " عبدنا " أي لتسميته عبدا وإضافته إليه تعالى، والاول أولى. وقوله: " نعم العبد إنه أواب " مدح له عليه السلام. قوله تعالى: " واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب اولي الايدي والابصار " مدحهم بتوصيفهم بأن لهم الايدي والابصار ويد الانسان وبصره إنما يمدحان إذا كانا يد إنسان وبصر إنسان واستعملا فيما خلقا له وخدما الانسان في إنسانيته فتكتسب اليد صالح العمل ويجري منها الخير على الخلق ويميز البصر طرق العافية والسلامة من موارد الهلكة ويصيب الحق ولا يلتبس عليه الباطل. فيكون كونهم اولي الايدي والابصار كناية عن قوتهم في الطاعة وإيصال الخير
وتبصرهم في إصابة الحق في الاعتقاد والعمل وقد جمع المعنيين في قوله تعالى: " ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين " الانبياء: 73 فجعلهم أئمة والامر والوحي لابصارهم وفعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة لايديهم (1) وإليه يؤل ما في الرواية من تفسير ذلك باولي القوة في العبادة والبصر فيها. قوله تعالى: " إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار " الخالصة وصف قائم مقام موصوفه، والباء للسببية والتقدير بسبب خصلة خالصة، وذكرى الدار بيان للخصلة والدار هي الدار الاخرة. والاية أعني قوله: " إنا أخلصناهم " الخ لتعليل ما في الاية السابقة من قوله: " أولي الايدي والابصار " أو لقوله: " عبادنا " أو لقوله: " واذكر " وأوجه الوجوه أولها، وذلك لان استغراق الانسان في ذكرى الدار الاخرة وجوار رب العالمين وركوز همه فيها يلازم كمال معرفته في جنب الله تعالى وإصابة نظره في حق الاعتقاد والتبصر في سلوك سبيل العبودية والتخلص عن الجمود على ظاهر الحياة الدنيا وزينتها كما هو شأن أبنائها قال تعالى: " فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا (1)
رواها القمي في تفسيره عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام.
[ 212 ]
ذلك مبلغهم من العلم " النجم: 30. ومعنى الاية وإنما كانوا اولي الايدي والابصار لانا أخلصناهم بخصلة خالصة غير مشوبة عظيمة الشأن هي ذكرى الدار الاخرة. وقيل: المراد بالدار هي الدنيا والمراد بالاية بقاء ذكرهم الجميل في الالسن ما دامت الدنيا كما قال تعالى: " ووهبنا له إسحاق ويعقوب - إلى أن قال - وجعلنا لهم لسان ذكر عليا " مريم: 50 والوجه السابق أوجه.
قوله تعالى: " وإنهم عندنا لمن المصطفين الاخيار " تقدم أن الاصطفاء يلازم الاسلام التام لله سبحانه، وفي الاية إشارة إلى قوله تعالى: " إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين " آل عمران: 33. والاخيار جمع خير مقابل الشر على ما قيل، وقيل: جمع خير بالتشديد أو التخفيف كأموات جمع ميت بالتشديد أو بالتخفيف. قوله تعالى: " واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار " معناه ظاهر. (كلام في قصة أيوب عليه السلام في فصول) 1 - قصته في القرآن: لم يذكر من قصته في القرآن إلا ابتلاؤه بالضر في نفسه وأولاده ثم تفريجه تعالى بمعافاته وإيتائه أهله ومثلهم معهم رحمة منه وذكرى للعابدين " الانبياء: 83 - 84. ص: 41 - 44 ". 2 - جميل ثنانه: ذكره تعالى في زمرة الانبياء من ذرية إبراهم عليهم السلام في سورة الانعام وأثنى عليهم بكل ثناء جميل " الانعام: 84 - 90 " وذكره في سورة ص فعده صابرا ونعم العبد وأوابا " ص: 44 ". 3 - قصته في الروايات: في تفسير القمي حدثني أبي عن ابن فضال عن عبد الله ابن بحر عن أبن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن بلية أيوب التي ابتلي بها في الدنيا لاي علة كانت ؟ قال: لنعمة أنعم الله عز وجل عليه بها في الدنيا وأدى شكرها وكان في ذلك الزمان لا يحجب إبليس دون العرش فلما صعد ورآى
[ 213 ]
شكر نعمة أيوب حسده إبليس. فقال: يا رب إن أيوب لم يؤد إليك شكر هذه النعمة إلا بما أعطيته من الدنيا ولو حرمته دنياه ما أدى إليك شكر نعمة أبدا فسلطني على دنياه حتى تعلم أنه لم يؤد إليه شكر نعمة أبدا فقيل له: قد سلطتك على ما له وولده.
قال: فانحدر إبليس فلم يبق له مالا ولا ولدا إلا أعطبه فازداد أيوب لله شكرا وحمدا، وقال: فسلطني على زرعه يا رب. قال: قد فعلت فجاء مع شياطينه فنفخ فيه فاحترق فازداد أيوب لله شكرا وحمدا فقال: يا رب سلطني على غنمه فأهلكها فازداد أيوب لله شكرا وحمدا. فقال: يا رب سلطني على بدنه فسلطه على بدنه ما خلا عقله وعينيه فنفخ فيه إبليس فصار قرحة واحدة من قرنه إلى قدمه فبقي في ذلك دهرا طويلا يحمد الله ويشكره حتى وقع في بدنه الدود فكانت تخرج من بدنه فيردها فيقول لها: ارجعي إلى موضعك الذي خلقك الله منه، ونتن حتى أخرجه أهل القرية من القرية وألقوه في المزبلة خارج القرية. وكانت امرأته رحمة بنت أفراييم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام وعليها يتصدق من الناس وتأتيه بما تجده. قال: فلما طال عليه البلاء ورآى إبليس صبره أتى أصحابا لايوب كانوا رهبانا في الجبال وقال لهم: مروا بنا إلى هذا العبد المبتلى فنسأله عن بليته فركبوا بغالا شهبا وجاؤوا فلما دنوا منه نفرت بغالهم من نتن ريحه فنظر بعضهم إلى بعض ثم مشوا إليه وكان فيهم شاب حدث السن فقعدوا إليه فقالوا: يا أيوب لو أخبرتنا بذنبك لعل الله يهلكنا إذا سألناه، وما نرى ابتلاءك بهذا البلاء الذي لم يبتل به أحد إلا من أمر كنت تستره. فقال أيوب: وعزة ربي إنه ليعلم أني ما أكلت طعاما إلا ويتيم أو ضعيف يأكل معي، وما عرض لي أمر ان كلاهما طاعة الله إلا أخذت بأشدهما على بدني. فقال الشاب: سوءة لكم عيرتم نبي الله حتى أظهر من عبادة ربه ما كان يسترها. فقال أيوب: يا رب لو جلست مجلس الحكم منك لادليت بحجتي فبعث الله إليه
[ 214 ]
غمامة فقال: يا أيوب أدل بحجتك فقد أقعدتك مقعد الحكم وها أنا ذا قريب ولم أزل. فقال: يا رب إنك لتعلم أنه لم يعرض لي أمران قط كلاهما لك طاعة إلا أخذت بأشدهما على نفسي. ألم أحمدك ؟ ألم أشكرك ؟ ألم أسبحك ؟ قال: فنودي من الغمامة بعشرة آلاف لسان: يا أيوب من صيرك تعبد الله والناس عنه غافلون ؟ وتحمده وتسبحه وتكبره والناس عنه غافلون ؟ أتمن على الله بما لله فيه المنة عليك ؟ قال: فأخذ التراب ووضعه في فيه ثم قال: لك العتبى يا رب أنت فعلت ذلك بي. فأنزل الله عليه ملكا فركض برجله فخرج الماء فغسله بذلك الماء فعاد أحسن ما كان وأطرأ، وأنبت الله عليه روضة خضراء، ورد عليه أهله وماله وولده وزرعه وقعد معه الملك يحدثه ويؤنسه. فأقبلت امرأته معها الكسرة (1) فلما انتهت إلى الموضع إذا الموضع متغير وإذا رجلان جالسان فبكت وصاحت وقالت: يا أيوب ما دهاك ؟ فناداها أيوب فأقبلت فلما رأته وقد رد الله عليه بدنه ونعمه سجدت لله شكرا. فرآى ذؤابتها مقطوعة وذلك أنها سألت قوما أن يعطوها ما تحمله إلى أيوب من الطعام وكانت حسنة الذوائب فقالوا لها: تبيعينا ذؤابتك هذه حتى نعطيك ؟ فقطعتها ودفعتها إليهم وأخذت منهم طعاما لايوب، فلما رآها مقطوعة الشعر غضب وحلف عليها أن يضربها مائة فأخبرته أنه كان سببه كيت وكيت. فاغتم أيوب من ذلك فأوحى الله عز وجل إليه " خذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث " فأخذ عذقا مشتملا على مائة شمراخ فضربها ضربة واحدة فخرج من يمينه. أقول: وروي عن ابن عباس ما يقرب منه، وعن وهب أن امرأته كانت بنت ميشا بن يوسف، والرواية - كما ترى - تذكر ابتلاءه بما تتنفر عنه الطباع وهناك من الروايات ما يؤيد ذلك لكن بعض الاخبار المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ينفي ذلك وينكره أشد الانكار كما يأتي.
وعن الخصال: القطان عن السكري عن الجوهري عن ابن عمارة عن أبيه عن (1)
الكسرة القطعة من الخبز.
[ 215 ]
جعفر بن محمد عن أبيه عليهم السلام قال: إن أيوب عليه السلام ابتلي سبع سنين من غير ذنب وإن الانبياء لا يذنبون لانهم معصومون مطهرون لا يذنبون ولا يزيغون ولا يرتكبون ذنبا صغيرا ولا كبيرا. وقال: إن أيوب من جميع ما ابتلي به لم تنتن له رائحة، ولا قبحت له صورة ولا خرجت منه مدة من دم ولا قيح، ولا استقذره أحد رآه، ولا استوحش منه أحد شاهده، ولا تدود شئ من جسده وهكذا يصنع الله عز وجل بجميع من يبتليه من أنبيائه وأوليائه المكرمين عليه. وإنما اجتنبه الناس لفقره وضعفه في ظاهر أمره لجهلهم بما له عند ربه تعالى ذكره من التأييد والفرج، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أعظم الناس بلاء الانبياء ثم الامثل فالامثل. وإنما ابتلاه الله بالبلاء العظيم الذي يهون معه على جميع الناس لئلا يدعوا له الربوبية إذا شاهدوا ما أراد الله أن يوصله إليه من عظائم نعمه متى شاهدوه، وليستدلوا بذلك على أن الثواب من الله على ضربين: استحقاق واختصاص، ولئلا يحتقروا ضعيفا لضعفه ولا فقيرا لفقره ولا مريضا لمرضه، وليعلموا أنه يسقم من يشاء، ويشفي من يشاء متى شاء كيف شاء بأي سبب شاء، ويجعل ذلك عبرة لمن شاء، وشقاوة لمن شاء، وسعادة لمن شاء، وهو عز وجل في جميع ذلك عدل في قضائه وحكيم في أفعاله لا يفعل بعباده إلا الاصلح لهم ولا قوة لهم إلا به. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " ووهبنا له أهله ومثلهم معهم " الاية قال: فرد الله عليه أهله الذين ماتوا قبل البلاء، ورد عليه أهله الذين ماتوا بعد ما أصابهم
البلاء كلهم أحياهم الله له فعاشوا معه. وسئل أيوب بعد ما عافاه الله: أي شئ كان أشد عليك مما مر ؟ فقال: شماتة الاعداء. وفي المجمع في قوله تعالى: " أني مسني الشيطان " الاية قيل: إنه اشتد مرضه حتى تجنبه الناس فوسوس الشيطان إلى الناس أن يستقذروه ويخرجوه من بينهم ولا يتركوا امرأته التي تخدمه أن تدخل عليهم فكان أيوب يتأذى بذلك ويتألم به ولم يشك
[ 216 ]
الالم الذي كان من أمر الله سبحانه. قال قتادة: دام ذلك سبع سنين وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. (خبر اليسع وذي الكفل " ع ") ذكر سبحانه اسمهما في كلامه وعدهما من الانبياء وأثنى عليهما وعدهما من الاخيار " ص: 48 " وعد ذا الكفل من الصابرين " الانبياء: 85 " ولهما ذكر في الاخبار. ففي البحار عن الاحتجاج والتوحيد والعيون في خبر طويل رواه الحسن بن محمد النوفلي عن الرضا عليه السلام فيما احتج به على جاثليق النصارى أن قال عليه السلام أن اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى عليه السلام مشى على الماء وأحيى الموتى وأبرء الاكمه والابرص فلم يتخذه امته ربا، الخبر. وعن قصص الانبياء: الصدوق عن الدقاق عن الاسدي عن سهل عن عبد العظيم الحسني قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني أسأله عن ذي الكفل ما اسمه ؟ وهل كان من المرسلين ؟ فكتب عليه السلام بعث الله جل ذكره مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي. مرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، وإن ذا الكفل منهم، وكان بعد سليمان بن داود، وكان يقضي بين الناس كما كان يقضي داود، ولم يغضب إلا لله عز وجل وكان
اسمه عويديا وهو الذي ذكره الله جلت عظمته في كتابه حيث قال: " واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار ". اقول: وهناك روايات متفرقة اخر في قصصهما عليهما السلام تركنا إيرادها لضعفها وعدم الاعتماد عليها. * * * هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب - 49. جنات عدن مفتحة
[ 217 ]
لهم الابواب - 50. متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب - 51. وعندهم قاصرات الطرف أتراب - 52. هذا ما توعدون ليوم الحساب - 53. إن هذا لرزقنا ماله من نفاد - 54. هذا وإن للطاغين لشر مآب - 55. جهنم يصلونها فبئس المهاد - 56. هذا فليذوقوه حميم وغساق - 57. وآخر من شكله أزواج - 58. هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار - 59. قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار - 60. قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار - 61. وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الاشرار - 62. أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الابصار - 63. إن ذلك لحق تخاصم أهل النار - 64. (بيان) فصل آخر من الكلام يبين فيه مآل أمر المتقين والطاغين تبشيرا وإنذارا. قوله تعالى: " هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب " الاشارة بهذا إلى ما ذكر من قصص الاوابين من الانبياء الكرام عليهما السلام، والمراد بالذكر الشرف والثناء الجميل
أي هذا الذي ذكر شرف وذكر جميل وثناء حسن لهم يذكرون به في الدنيا أبدا ولهم حسن مآب من ثواب الاخرة. كذا قالوا.
[ 218 ]
وعلى هذا فالمراد بالمتقين هم المذكورون من الانبياء بالخصوص أو عموم أهل التقوى وهم داخلون فيهم ويكون ذكر مآب الطاغين بعد من باب الاستطراد. والظاهر أن الاشارة بهذا إلى القرآن والمراد بالذكر ما يشتمل عليه من الذكر وفي الكلام عود إلى ما بدئ به في السورة من قوله " والقرآن ذي الذكر " فهو فصل من الكلام يذكر فيه الله سبحانه ما في الدار الاخرة من ثواب المتقين وعقاب الطاغين. وقوله: " وإن للمتقين لحسن مآب " المآب المرجع والتنكير للتفخيم، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " جنات عدن مفتحة لهم الابواب " أي جنات استقرار وخلود وكون الابواب مفتحة لهم كناية عن أنهم غير ممنوعين عن شئ من النعم الموجودة فيها فهي مهيأة لهم مخلوقة لاجلهم، وقيل: المراد أن أبوابها مفتحة لهم لا تحتاج إلى الوقوف وراءها ودقها، وقيل: المراد أنها تفتح بغير مفتاح وتغلق بغير مغلاق. والاية وما بعدها بيان لحسن مآبهم. قوله تعالى: " متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب " أي حالكونهم جالسين فيها بنحو الاتكاء والاستناد جلسة الاعزة والاشراف. وقوله: " يدعون فيها بفاكهة " الخ أي يتحكمون فيها بدعوة الفاكهة وهي كثيرة والشراب فإذا دعيت فاكهة أو دعي شراب أجابهم المدعو فأتاهم من غير حاجة إلى من يحمله ويناوله. قوله تعالى: " وعندهم قاصرات الطرف أتراب " الضمير للمتقين وقاصرات الطرف صفة قائمة مقام الموصوف والتقدير وعندهم أزواج قاصرات الطرف والمراد قصور طرفهن على أزواجهن يرضين بهم ولا يرون غيرهم أو هو كناية عن كونهن ذوات
غنج ودلال. والاتراب الاقران أي إنهن أمثال لا يختلفن سنا أو جمالا أو إنهن أمثال لازواجهن فكلما زادوا نورا وبهاء زدن حسنا وجمالا. قوله تعالى: " هذا ما توعدون ليوم الحساب " الاشارة إلى ما ذكر من الجنة ونعيمها، والخطاب للمتقين ففي الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب والنكتة فيه
[ 219 ]
إظهار القرب منهم والاشراف عليهم ليكمل نعمهم الصورية بهذه النعمة المعنوية. قوله تعالى: " إن هذا لرزقنا ما له من نفاد " النفاد الفناء والانقطاع، والاية من تمام الخطاب الذي في الاية السابقة على ما يعطيه السياق. قوله تعالى: " هذا وإن للطاغين لشر مآب " الاشارة بهذا إلى ما ذكر من مقام المتقين أي هذا ما للمتقين من المآب، ويمكن أن يكون هذا اسم فعل أي خذ هذا. والباقي ظاهر. قوله تعالى: " جهنم يصلونها فبئس المهاد " الصلي دخول النار ومقاساة حرارتها أو اتباعها والمهاد - على ما في المجمع - الفراش الموطأ يقال: مهدت له تمهيدا مثل وطأت له توطئة، والاية وما بعدها تفسير لمآب الطاغين. قوله تعالى: " هذا فليذوقوه حميم وغساق " الحميم الحار الشديد الحرارة والغساق - على ما في المجمع - قيح شديد النتن، وفسر بتفاسير أخر، وقوله: " حميم وغساق " بيان لهذا، وقوله: " فليذوقوه " دال على إكراههم وحملهم على ذوقه وتقديم المخبر عنه وجعله اسم إشارة يؤكد ذلك، والمعنى هذا حميم وغساق عليهم أن يذوقوه ليس إلا. قوله تعالى: " وآخر من شكله أزواج " شكل الشئ ما يشابهه وجنسه والازواج الانواع والاقسام أي وهذا آخر من جنس الحميم والغساق أنواع مختلفة ليذوقوها. قوله تعالى: " هذا فوج مقتحم معكم - إلى قوله - في النار " الايات الثلاث - على
ما يعطيه السياق - حكاية ما يجري بين التابعين والمتبوعين من الطاغين في النار من التخاصم والمجاراة. فقوله: " هذا فوج مقتحم معكم " خطاب يخاطب به المتبوعون يشار به إلى التابعين الذين يدخلون النار مع المتبوعين فوجا، و الاقتحام الدخول في الشئ بشدة وصعوبة. وقوله: " لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار " جواب المتبوعين لمن يخاطبهم بقوله: " هذا فوج " ومرحبا تحية للوارد معناه عرض رحب الدار وسعتها له فقولهم: " لا مرحبا بهم " معناه نفي الرحب والسعة عنهم. وقولهم: " إنهم صالوا النار " أي داخلوها ومقاسوا حرارتها أو متبعوها تعليل لتحيتهم بنفي التحية.
[ 220 ]
وقوله: " قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار " نقل كلام التابعين وهم القائلون يردون إلى متبوعيهم نفي التحية ويذمون القرار في النار. قوله تعالى: " قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار " لم يذكر تعالى جواب المتبوعين لقولهم: " أنتم قدمتموه لنا " الخ وقد ذكره في سورة الصافات فيما حكى من تساؤلهم بقوله: " قالوا بل لم تكونوا مؤمنين وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين " الخ الاية 30 فقولهم: ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار " كلامهم بعد الانقطاع عن المخاصمة. وجملة " من قدم " الخ شرط وجزاء، والضعف المثل و " عذابا ضعفا " أي ذا ضعف ومثل أي ضعفين من العذاب. قوله تعالى: " وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الاشرار " القائلون - على ما يعطيه السياق - مطلق أهل النار، ومرادهم بالرجال الذين كانوا يعدونهم من الاشرار المؤمنون وهم في الجنة فيطلبهم أهل النار فلا يجدونهم فيها. قوله تعالى: " أتخذنا هم سخريا أم زاغت عنهم الابصار " أي أتخذناهم سخريا
في الدنيا فأخطأنا وقد كانوا ناجين أم عدلت أبصارنا فلا نراهم وهم معنا في النار. قوله تعالى: " إن ذلك لحق تخاصم أهل النار " إشارة إلى ما حكي من تخاصمهم وبيان أن تخاصم أهل النار ثابت واقع لا ريب فيه وهو ظهور ما استقر في نفوسهم في الدنيا من ملكة التنازع والتشاجر. * * * قل إنما أنا منذر وما من إله إلا ألله الواحد القهار - 65. رب السموات والارض وما بينهما العزيز الغفار - 66. قل هو نبؤا عظيم - 67. أنتم عنه معرضون - 68. ما كان لي من علم بالملا الاعلى إذ يختصمون - 69. إن يوحى إلي إلا أنما أنا
[ 221 ]
نذير مبين - 70. إذ قال ربك للملئكة إني خالق بشرا من طين - 71. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين - 72. فسجد الملئكة كلهم أجمعون - 73. إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين - 74. قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين - 75. قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين - 76. قال فاخرج منها فإنك رجيم - 77. وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين - 78. قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون - 79. قال فإنك من المنظرين - 80. إلى يوم الوقت المعلوم - 81. قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين - 82. إلا عبادك منهم المخلصين - 83. قال فالحق والحق أقول - 84. لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين - 85. قل ما أسئلكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين - 86. إن هو إلا
ذكر للعالمين - 87. ولتعلمن نبأه بعد حين - 88. (بيان) الفصل الاخير من فصول السورة المشتمل على أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإبلاغ نذارته ودعوته إلى التوحيد. وأن الاعراض عن الحق واتباع الشيطان ينتهي بالانسان إلى
[ 222 ]
عذاب النار المقضي في حقه وحق أتباعه وعند ذلك تختتم السورة. قوله تعالى: " قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار - إلى قوله - العزيز الغفار " في الايتين أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإبلاغ أنه منذر وأن الله تعالى واحد في الالوهية فقوله: " إنما أنا منذر " يفيد قصره في كونه منذرا ونفي سائر الاغراض التي ربما تتلبس به الدعوة بين الناس من طلب مال أو جاه كما يشير إليه ما في آخر الايات من قوله: " قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ". وقوله: " وما من إله إلا الله " إلى آخر الايتين إبلاغ لتوحيده تعالى بحجة يدل عليها ما اورد من صفاته المدلول عليها بأسمائه. فقوله: " وما من إله إلا الله " نفي لكل إله - والاله هو المعبود بالحق - غيره تعالى وأما ثبوت ألوهيته تعالى فهو مسلم بانتفاء الوهية غيره إذ لا نزاع بين الاسلام والشرك في أصل ثبوت الاله وإنما النزاع في أن الاله وهو المعبود بالحق هو الله تعالى أو غيره. على أن ما ذكر في الايتين من الصفات متضمن لاثبات الوهيته كما أنها حجة على انتفاء الوهية غيره تعالى. وقوله: " الواحد القهار " يدل على توحده تعالى في وجوده وقهره كل شئ وذلك أنه تعالى واحد لا يماثله شئ في وجوده ولا تناهي كماله الذي هو عين وجوده الواجب فهو الغني بذاته وعلى الاطلاق وغيره من شئ فقير يحتاج إليه من كل جهة ليس له من الوجود وآثار الوجود إلا ما أنعم وأفاض فهو سبحانه القاهر لكل شئ
على ما يريد وكل شئ مطيع له فيما أراد خاضع له فيما شاء. وهذا الخضوع الذاتي هو حقيقة العبادة فلو جاز أن يعبد شئ في الوجود عملا بأن يؤتى بعمل يمثل به العبودية والخضوع فهي عبادته سبحانه إذ كل شئ مفروض دونه فهو مقهور خاضع له لا يملك لنفسه ولا لغيره شئ ولا يستقل من الوجود وآثار الوجود بشئ فهو سبحانه الاله المعبود بالحق لا غير. وقوله: " رب السماوات والارض وما بينهما " يفيد حجة اخرى على توحده تعالى في الالوهية وذلك أن نظام التدبير الجاري في العالم برمته نظام واحد متصل غير متبعض ولا متجز وهو آية وحدة المدبر، وقد تقدم كرارا أن الخلق والتدبير لا ينفكان
[ 223 ]
فالتدبير خلق بوجه كما أن الخلق تدبير بوجه، والخالق الموجد للسماوات والارض وما بينهما هو الله سبحانه - حتى عند الخصم - فهو تعالى ربها المدبر لها جميعا فهو وحده الاله الذي يجب أن يقصد بالعبادة لان العبادة تمثيل عبودية العابد ومملو كيته تجاه مولوية المعبود ومالكيته وتصرفه في المعبود بإفاضة النعمة ودفع النقمة فهو سبحانه الاله في السماوات والارض وما بينهما لا إله غيره. فافهم ذلك. ويمكن أن يكون قوله: " رب السماوات والارض وما بينهما " بيانا لقوله " القهار " أو " الواحد القهار ". وقوله: " العزيز الغفار " يفيد حجة اخرى على توحده تعالى في الالوهية وذلك أنه تعالى عزيز لا يغلبه شئ بإكراهه على ما لم يرد أو بمنعه عما أراد فهو العزيز على الاطلاق وغيره من شئ ذليل عنده قانت له والعبادة إظهار للمذلة ولا يستقيم إلا قبال العزة ولا عزة لغيره تعالى إلا به. وأيضا غاية العبادة وهي تمثيل العبودية التقرب إلى المعبود ورفع وصمة البعد عن العبد العابد وهو مغفرة الذنب والله سبحانه هو المستقل بالرحمة التي لا تنفد خزائنها
وهو الذي يورد عباده العابدين له في الاخرة دار كرامته فهو الغفار الذي يجب أن يعبد طمعا في مغفرته. ويمكن أن يكون قوله: " العزيز الغفار " تلويحا إلى وجه الدعوة إلى التوحيد أو وجوب الايمان به المفهوم بحسب المقام من قوله: " وما من إله إلا الله الواحد القهار " والمعنى أدعوكم إلى توحيده فآمنوا به لانه العزيز الذي لا يشوبه ذلة الغفار للذنوب وهكذا يجب أن يكون الاله. قوله تعالى: " قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون " مرجع الضمير ما ذكره من حديث الوحدانية في قوله: " وما من إله إلا الله " الخ. وقيل: الضمير للقرآن فهو النبأ العظيم الذي أعرضوا عنه، وهو أوفق لسياق الايات السابقة المرتبطة بأمر القرآن، وأوفق أيضا لقوله الاتي: " ما كان لي من علم بالملا الاعلى إذ يختصمون " أي حتى أخبرني به القرآن، وقيل: المراد به يوم القيامة وهو أبعد الوجوه.
[ 224 ]
قوله تعالى: " ما كان لي من علم بالملا الاعلى إذ يختصمون " الملا الاعلى جماعة الملائكة وكأن المراد باختصامهم ما أشار تعالى إليه بقوله: إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة " إلى آخر الايات. وكأن المعنى إني ما كنت أعلم اختصام الملا الاعلى حتى أوحى الله إلي ذلك في كتابه فإنما أنا منذر أتبع الوحي. قوله تعالى: " إن يوحى إلي إلا انما أنا نذير مبين " تأكيد لقوله: " إنما أنا منذر " وبمنزلة التعليل لقوله: " ما كان لي من علم بالملا الاعلى " والمعنى لم أكن أعلم ذلك لان علمي ليس من قبل نفسي وإنما هو بالوحي وليس يوحى إلي إلا ما يتعلق بالانذار. قوله تعالى: " إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين " الذي يعطيه
السياق أن الاية وما بعدها ليست تتمة لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " إنما أنا منذر " الخ والشاهد عليه قوله: " ربك " فهو من كلامه تعالى يشير إلى زمان اختصام الملا الاعلى والظرف متعلق بما تعلق به قوله: " إذ يختصمون " أو متعلق بمحذوف والتقدير " اذكر إذ قال ربك للملائكة " الخ فإن قوله تعالى للملائكة: " إني جاعل في الارض خليفة " وقوله لهم: " إني خالق بشرا من طين " متقارنان وقعا في ظرف واحد. وعلى هذا يؤل معنى قوله: " إذ قال ربك " الخ إلى نحو من قولنا: اذكر وقتئذ قال ربك كذا وكذا فهو وقت اختصامهم. وجعل بعضهم قوله: " إذ قال ربك " الخ مفسرا لقوله: " إذ يختصمون " ثم أخذ الاختصام بعد تفسيره بالتقاول مجموع قوله تعالى للملائكة " إني جاعل في الارض خليفة " وقولهم: " أتجعل " الخ، وقوله لادم وقول آدم لهم، وقوله تعالى لهم: إني خالق بشرا " وقول إبليس وقوله تعالى له. وقال على تقدير كون الاختصام بمعنى المخاصمة ودلالة قومه: " إذ يختصمون " على كون المخاصمة بين الملائكة أنفسهم لا بينهم وبين الله سبحانه إن إخباره تعالى لهم بقوله: " إني جاعل في الارض خليفة " " إني خالق بشرا " كان بتوسط ملك من الملائكة وكذا قوله لادم ولابليس فيكون قولهم لربهم: " أتجعل فيها من يفسد فيها " الخ وغيره قولا منهم للملك المتوسط ويقع الاختصام فيما بينهم أنفسهم.
[ 225 ]
وأنت خبير بأن شيئا مما ذكره لا يستفاد من سياق الايات. وقوله: " إني خالق بشرا من طين " البشر الانسان، قال الراغب: البشر ظاهر الجلد والادمة باطنه. كذا قال عامة الادباء، قال: وعبر عن الانسان بالبشر اعتبارا بظهور جلده من الشعر بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف أو الوبر، واستوى في لفظ البشر الواحد والجمع وثني فقال تعالى: " أنؤمن لبشرين " وخص في القرآن كل موضع
اعتبر من الانسان جثته وظاهره بلفظ البشر. انتهى. وقد عد في الاية مبدء خلق الانسان الطين، وفي سورة الروم التراب وفي سورة الحجر صلصال من حماء مسنون، وفي سورة الرحمان صلصال كالفخار ولا ضير فإنها أحوال مختلفة لمادته الاصلية التي منها خلق وقد أشير في كل موضع إلى واحدة منها. قوله تعالى: " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " تسوية الانسان تعديل أعضائه بتركيب بعضها على بعض وتتميمها صورة إنسان تام، ونفخ الروح فيه جعله ذا نفس حية إنسانية وإضافة الروح إليه تعالى تشريفية وقوله: " فقعوا " أمر من الوقوع وهو متفرع على التسوية والنفخ. قوله تعالى: " فسجد الملائكة كلهم أجمعون " ظاهر الدلالة على سجود الملائكة له من غير استثناء. قوله تعالى: " إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين " أي استكبر إبليس فلم يسجد له وكان قبل ذلك من الكافرين كما حكى سبحانه عنه في سورة الحجر قوله: " لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون " الحجر: 33. قوله تعالى: " قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين " نسبة خلقه إلى اليد للتشريف بالاختصاص كما قال: " ونفخت فيه من روحي " وتثنية اليد كناية عن الاهتمام التام بخلقه وصنعه فان الانسان إنما يستعمل اليدين فيما يهتم به من العمل فقوله: " خلقت بيدي " كقوله: " مما عملت أيدينا " يس: 71 وقيل: المراد باليد القدرة والتثنية لمجرد التأكيد كقوله: " فارجع البصر كرتين "
[ 226 ]
الملك: 3 وقد وردت به الرواية. وقيل: المراد باليدين نعم الدنيا والاخرة، ويمكن أن يحتمل إرادة مبدئي الجسم والروح أو الصورة والمعنى أو صفتي الجلال والجمال من اليدين لكنها معان لا دليل
على شئ منها من اللفظ. وقوله: " استكبرت أم كنت من العالين " استفهام توبيخ أي أكان عدم سجودك لانك استكبرت أم كنت من الذين يعلون أي يعلو قدرهم أن يؤمروا بالسجود، ولذا قال بعضهم بالاستفادة من الاية إن العالين قوم من خلقه تعالى مستغرقون في التوجه إلى ربهم لا يشعرون بغيره تعالى. وقيل: المراد بالعلو الاستكبار كما في قوله تعالى: " وإن فرعون لعال في الارض " يونس: 83 والمعنى استكبرت حين أمرت بالسجدة أم كنت من قبل من المستكبرين ؟ ويدفعه أنه لا يلائم مقتضى المقام فإن مقتضاه تعلق الغرض باستعلام أصل استكباره لا تعيين كون استكباره قديما أو حديثا. وقيل: المراد بالعالين ملائكة السماء فإن المأمورين بالسجود هم ملائكة الارض. ويدفعه ما في الاية من العموم. قوله تعالى: " قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " تعليل عدم سجوده بما يدعيه من شرافة ذاته وأنه لكون خلقه من نار خير من آدم المخلوق من طين، وفيه تلويح أن الامر الالهي إنما يطاع إذا كان حقا لا لذاته، وليس أمره بالسجود له حقا، ويؤل إلى إنكار إطلاق ملكه تعالى وحكمته وهو الاصل الذي ينتهي إليه كل معصية فإن المعصية إنما تقع بالخروج عن حكم عبوديته تعالى ومملو كيته وبالاعراض عن كون تركها أولى من فعلها واقترافها. قوله تعالى: " قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين " الرجم الطرد، ويوم الدين يوم الجزاء. وقوله: " وإن عليك لعنتي " وفي سورة الحجر: " وإن عليك اللعنة " الاية 35 قيل في وجهه: لو كانت اللام للعهد فلا فرق بين التعبيرين، ولو كانت للجنس فكذلك
[ 227 ]
أيضا لان لعن غيره تعالى من الملائكة والناس عليه إنما يكون طردا له حقيقة وإبعادا من الرحمة إذا كان بأمر الله وبإبعاده من رحمته. قوله تعالى: " قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون - إلى قوله - إلى يوم الوقت المعلوم " ظاهر تغير الغاية في السؤال والجواب حيث قال: " إلى يوم يبعثون " فاجيب بقوله: " إلى يوم الوقت المعلوم " أن ما اجيب إليه غير ما سأله فهو لا محالة آخر يوم يعصي فيه الناس ربهم وهو قبل يوم البعث، والظاهر أن المراد باليوم الظرف فتفيد إضافته إلى الوقت التأكيد. قوله تعالى: " قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين " الباء في " فبعزتك " للقسم اقسم بعزته ليغوينهم أجمعين واستثنى منهم المخلصين وهم الذين أخلصهم الله لنفسه فلا نصيب فيهم لابليس ولا لغيره. قوله تعالى: " قال فالحق والحق أقول لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين " جوابه تعالى لابليس وهو يتضمن القضاء عليه وعلى من تبعه بالنار. فقوله: " فالحق " مبتدء محذوف الخبر أو خبر محذوف المبتدء، والفاء لترتيب ما بعده على ما قبله، والمراد بالحق ما يقابل الباطل على ما يؤيده إعادة الحق ثانيا باللام والمراد به ما يقابل الباطل قطعا والتقدير فالحق أقسم به لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم، أو فقولي الحق لاملان " الخ ". وقوله: " والحق أقول " جملة معترضة تشير إلى حتمية القضاء وترد على إبليس ما يلوح إليه قوله: " أنا خير منه " الخ من كون قوله تعالى وهو أمره بالسجود غير حق، وتقديم الحق في " والحق أقول " وتحليته باللام لافادة الحصر. وقوله: " لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين " متن القضاء الذي قضى به وكأن المراد بقوله: " منك " جنس الشياطين حتى يشمل إبليس وذريته وقبيله، وقوله: " وممن تبعك منهم " أي من الناس ذرية آدم.
وقد أشبعنا الكلام في نظائر الايات من سورة الحجر وفي القصة من سور البقرة والاعراف والاسراء فعليك بالرجوع إليها.
[ 228 ]
قوله تعالى: " قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين " وجوع إلى ما تقدم في أول السورة وخلال آياتها أن القرآن ذكر وأن ليس النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا منذرا لا غير ورد لما رموه بقولهم " امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشئ يراد ". فقوله: " ما أسألكم عليه من أجر " أي أجرا دنيويا من مال أو جاه، وقوله: " وما أنا من المتكلفين " أي من أهل التكلف وهو التصنع والتحلي بما ليس له. قوله تعالى: " إن هو إلا ذكر للعالمين " أي القرآن ذكر عام للعالمين من جماعات الناس ومختلف الشعوب والامم وغيرهم لا يختص بقوم دون قوم حتى يؤخذ على تلاوته مال وعلى تعليمه أجر بل هو للجميع. قوله تعالى: " ولتعلمن نبأه بعد حين " أي لتعلمن ما أخبر به القرآن من الوعد والوعيد وظهوره على الاديان وغير ذلك بعد حين أي بعد مرور زمان. قيل: المراد بعد حين يوم القيامة، وقيل: يوم الموت، وقيل: يوم بدر، ولا يبعد أن يقال: إن نبأه مختلف لا يختص بيوم من هذه الايام حتى يكون هو المراد بل المراد به المطلق فلكل من أقسام نبائه حينه. (بحث روائي) في تفسير القمي بإسناده عن إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام في حديث يذكر فيه المعراج، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قال تعالى: يا محمد. قلت: لبيك يا رب. قال: فيما اختصم الملا الاعلى ؟ قال: قلت: سبحانك لا علم لي إلا ما علمتني. قال: فوضع يده أي يد القدرة بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي. قال: فلم يسألني عما مضى ولا عما بقي إلا علمته. فقال: يا محمد فيم اختصم الملا الاعلى ؟ قال: قلت: في الكفارات
والدرجات والحسنات الحديث. وفي المجمع روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال لي ربي: أتدري فيم يختصم الملا الاعلى ؟ فقلت: لا. قال: اختصموا في الكفارات والدرجات فأما الكفارات فإسباغ الوضوء في السبرات ونقل الاقدام إلى الجماعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة،
[ 229 ]
وأما الدرجات فإفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام. اقول: ورواه في الخصال عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجعل ما فسر به الكفارات تفسيرا للدرجات وبالعكس، وروى في الدر المنثور حديث المجمع بطرق كثيرة عن عدة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على اختلاف ما في الروايات. وكيفما كان فسياق الاية يأبى الانطباق على مضمون هذه الروايات ولا دليل يدل على كون الروايات في مقام تفسير الاية فلعل الاختصام المذكور فيها غير المذكور في الاية. وفي نهج البلاغة الحمد لله الذي لبس العز والكبرياء واختارهما لنفسه دون خلقه، وجعلهما حمى وحرما على غيره، واصطفاهما لجلاله، وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده، ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب: إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس اعترضته الحمية فافتخر على آدم بخلقه وتعصب عليه لاصله. فعدو الله إمام المتعصبين وسلف المستكبرين الذي وضع أساس العصبية، ونازع الله رداء الجبرية، وادرع لباس التعزز، وخلع قناع التذلل ألا ترون كيف صغره الله بتكبره، ووضعه بترفعه فجعله في الدنيا مدحورا، وأعد له في الاخرة سعيرا. الخطبة. وفي العيون بإسناده إلى محمد بن عبيدة قال: سألت الرضا عليه السلام عن قول الله تعالى
لابليس: " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " قال: يعني بقدرتي وقوتي. اقول: وروى مثله في التوحيد بإسناده عن محمد بن مسلم عن الصادق عليه السلام. وفي القصة روايات اخر أوردناها في ذيلها من سور البقرة والاعراف والحجر والاسراء فراجع. وعن جوامع الجامع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: للمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، ويتعاطى مالا ينال، ويقول مالا يعلم. اقول: وروى مثله في الخصال عن الصادق عليه السلام عن لقمان في وصيته لابنه،
[ 230 ]
وروى أيضا من طرق أهل السنة، وفي بعض الروايات: ينازل من فوقه. * * * سورة الزمر مكية وهي خمس وسبعون آية بسم الله الرحمن الرحيم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم - 1. إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين - 2. ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه اولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار - 3. لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار - 4. خلق السموات والارض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى ألا هو العزيز الغفار - 5. خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات
ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون - 6. إن تكفروا فإن الله غنى عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن
[ 231 ]
تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور - 7. وإذا مس الانسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعوا إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار - 8. أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الاخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الالباب - 9. قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب - 01. (بيان) يظهر من خلال آيات السورة أن المشركين من قومه صلى الله عليه وآله وسلم سألوه أن ينصرف عما هو عليه من التوحيد والدعوة إليه والتعرض لالهتهم وخوفوه بآلهتهم فنزلت السورة - وهي قرينة سورة ص بوجه - وهي تؤكد الامر بأن يخلص دينه لله سبحانه ولا يعبأ بآلهتهم وأن يعلمهم أنه مأمور بالتوحيد وإخلاص الدين الذي تواترت الايات من طريق الوحي والعقل جميعا عليه. ولذلك نراه سبحانه يعطف الكلام عليه في خلال السورة مرة بعد مرة كقوله في مفتتح السورة: " فا عبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص " ثم يرجع إليه ويقول:
[ 232 ]
" قل إني امرت أن أ عبد الله مخلصا له الدين " - إلى قوله - " قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه ". ثم يقول: " إنك ميت وإنهم ميتون " الخ ثم يقول: " أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه " ثم يقول: " قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل " ثم يقول: " قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون " إلى غير ذلك من الاشارات. ثم عمم الاحتجاج على توحده تعالى في الربوبية والالوهية من الوحي ومن طريق البرهان وقايس بين المؤمنين والمشركين مقايسات لطيفة فوصف المؤمنين بأجمل أوصافهم وبشرهم بما سيثيبهم في الاخرة مرة بعد مرة وذكر المشركين وأنذرهم بما سيلحقهم من الخسران وعذاب الاخرة مضافا إلى ما يصيبهم في الدنيا من وبال أمرهم كما أصاب الذين كذبوا من الامم الدارجة من عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الاخرة أكبر. ومن ثم وصفت السورة يوم البعث وخاصة في مختتمها بأوضح الوصف وأتمه. والسورة مكية لشهادة سياق آياتها بذلك وكأنها نزلت دفعة واحدة لما بين آياتها من الاتصال. والايات العشر المنقولة تجمع الدعوة من طريق الوحي والحجة العقلية بادئة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: " تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " " تنزيل الكتاب " خبر لمبتدء محذوف، وهو مصدر بمعنى المفعول فيكون إضافته إلى الكتاب من إضافة الصفة إلى موصوفها و " من الله " متعلق بتنزيل والمعنى هذا كتاب منزل من الله العزيز الحكيم. وقيل: " تنزيل الكتاب " مبتدء و " من الله " خبره ولعل الاول أقرب إلى الذهن. قوله تعالى: " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين " عبر بالانزال دون التنزيل كما في الاية السابقة لان القصد إلى بيان كونه بالحق وهو يناسب مجموع ما نزل إليه من ربه.
وقوله: " بالحق " الباء فيه للملابسة أي أنزلناه إليك متلبسا بالحق فما فيه من الامر بعبادة الله وحده حق، وعلى هذا المعنى فرع عليه قوله: " فا عبد الله مخلصا له
[ 233 ]
الدين " والمعنى فإذا كان بالحق فا عبد الله مخلصا له الدين لان فيه ذلك. والمراد بالدين - على ما يعطيه السياق - العبادة ويمكن أن يراد به سنة الحياة وهي الطريقة المسلوكة في الحياة في المجتمع الانساني، ويراد بالعبادة تمثيل العبودية بسلوك الطريق التي شرعها الله سبحانه والمعنى فأظهر العبودية لله في جميع شئون حياتك باتباع ما شرعه لك فيها والحال أنك مخلص له دينك لا تتبع غير ما شرعه لك. قوله تعالى: " ألا لله الدين الخالص " إظهار وإعلان لما أضمر وأجمل في قوله: " بالحق " وتعميم لما خصص في قوله: " فا عبد الله مخلصا له الدين " أي إن الذي أوحيناه إليك من إخلاص الدين لله واجب على كل من سمع هذا النداء، ولكون الجملة نداء مستقلا أظهر اسم الجلالة وكان مقتضى الظاهر أن يضمر ويقال: له الدين الخالص. ومعنى كون الدين الخالص له أنه لا يقبل العبادة ممن لا يعبده وحده سواء عبده وغيره أو عبد غيره وحده. قوله تعالى: " والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " إلى آخر الاية تقدم أن الوثنية يرون أن الله سبحانه أجل من أن يحيط به الادراك الانساني من عقل أو وهم أو حس فيتنزه تعالى عن أن يقع عليه توجه عبادي منا. فمن الواجب أن نتقرب إليه بالتقرب إلى مقربيه من خلقه وهم الذين فوض إليهم تدبير شئون العالم فنتخذهم أربابا من دون الله ثم آلهة تعبدهم ونتقرب إليهم ليشفعوا لنا عند الله ويقربونا إليه زلفى وهؤلاء هم الملائكة والجن وقديسوا البشر وهؤلاء هم الارباب والالهة بالحقيقة. أما الاصنام المصنوعة المنصوبة في الهياكل والمعابد فإنما هي تماثيل للارباب
والالهة وليست في نفسها أربابا ولا آلهة غير أن الجهلة من عامتهم ربما لم يفرقوا بين الاصنام وأرباب الاصنام فعبدوا الاصنام كما يعبد الارباب والالهة وكذلك كانت عرب الجاهلية وكذلك الجهلة من عامة الصابئين ربما لم يفرقوا بين أصنام الكواكب والكواكب التي هي أيضا أصنام لارواحها الموكلة عليها وبين أرواحها التي هي الارباب والالهة بالحقيقة عند خاصتهم.
[ 234 ]
وكيف كان فالارباب والالهة هم المعبودون عندهم وهم موجودات ممكنة مخلوقة لله مقربة عنده مفوضة إليهم تدبير أمر العالم لكل بحسب منزلته وأما الله سبحانه فليس له إلا الخلق والايجاد وهو رب الارباب وإله الالهة. إذا تذكرت ما مر ظهر أن المراد بقوله: " والذين اتخذوا من دونه أولياء " اتخاذهم أربابا يدبرون الامر بأن يسندوا الربوبية وأمر التدبير إليهم لا إلى الله فهم المدبرون للامر عندهم ويتفرع عليه أن يخضع لهم ويعبدوا لان العبادة لجلب النفع أو لدفع الضرر أو شكر النعم وكل ذلك إليهم لتصديهم أمر التدبير دون الله سبحانه. فالمراد باتخاذهم أولياء اتخاذهم أربابا (1)، ولذا عقب اتخاذ الاولياء بذكر العبادة " ما نعبدهم إلا ليقربونا " فقوله: " والذين اتخذوا من دونه أولياء " مبتدء خبره " إن الله يحكم " الخ والمراد بهم المشركون القائلون بربوبية الشركاء والوهيتهم دون الله إلا ما ذهب إليه جهلتهم من كونه تعالى شريكا لهم في المعبودية. وقوله: " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " تفسير لمعنى اتخاذ الاولياء من دون الله وهو حكاية لقولهم أو بتقدير القول أي يقولون: ما نعبدهم هؤلاء إلا ليقربونا بسبب عبادتنا لهم إلى الله تقريبا فهم عادلون منه تعالى إلى غيره، وإنما سموا مشركين لانهم يشركون به تعالى غيره حيث يقولون بكونهم أربابا وآلهة للعالم وكونه تعالى ربا وإلها لاولئك الارباب والالهة، وأما الشركة في الخلق والايجاد فلم يقل به لا مشرك
ولا موحد. وقوله: " إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون " قيل: ضمير الجمع للمشركين وأوليائهم أي إن الله يحكم بين المشركين وبين أوليائهم فيما هم فيه يختلفون، وقيل: الضميران راجعان إلى المشركين وخصمائهم من أهل الاخلاص في الدين المفهوم من السياق، والمعنى أن الله يحكم بينهم وبين المخلصين للدين. وقوله: " إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار " الكفار كثير الكفران لنعم الله (1)
فالولاية والربوبية قريبا المعنى فالرب هو المالك المدبر والولى هو مالك التدبير أو متصدى التدبير.
[ 235 ]
أو كثير الستر للحق، وفي الجملة إشعار بل دلالة على أن الحكم يوم القيامة على المشركين لا لهم وأنهم مسيرون إلى العذاب، والمراد بالهداية الايصال إلى حسن العاقبة. قوله تعالى: " لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار " احتجاج على نفي قولهم: إن الله اتخذ ولدا، وقول بعضهم: الملائكة بنات الله. والقول بالولد دائر بين عامة الوثنية على اختلاف مذاهبهم وقد قالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت اليهود على ما حكاه القرآن عنهم: عزير ابن الله وكأنها بنوة تشريفية. والبنوة كيفما كانت تقتضي شركة ما بين الابن والاب والولد والوالد فإن كانت بنوة حقيقية وهي اشتقاق شئ من شئ وانفصاله منه اقتضت الشركة في حقيقة الذات والخواص والاثار المنبعثة من الذات كبنوة إنسان لانسان المقتضية لشركة الابن لابيه في الانسانية ولوازمها، وإن كانت بنوة اعتبارية كالبنوة الاجتماعية وهو التبني اقتضت الاشتراك في الشؤنات الخاصة بالاب كالسؤدد والملك والشرف والتقدم والوراثة وبعض أحكام النسب، والحجة المسوقة في الاية تدل على استحالة اتخاذ الولد عليه تعالى بكلا المعنيين.
فقوله: " لو أراد الله أن يتخذ ولدا " شرط صدر بلو الدال على الامتناع للامتناع، وقوله: " لاصطفى مما يخلق ما يشاء " أي لاختار لذلك مما يخلق ما يتعلق به مشيئته على ما يفيده السياق وكونه مما يخلق لكون ما عداه سبحانه خلقا له. وقوله: " سبحانه " تنزيه له سبحانه، وقوله: " هو الله الواحد القهار " بيان لاستحالة الشرط وهو إرادة اتخاذ الولد ليترتب عليه استحالة الجزاء وهو اصطفاء ما يشاء مما يخلق وذلك لانه سبحانه واحد في ذاته المتعالية لا يشاركه فيها شئ ولا يماثله فيها أحد لادلة التوحيد، وواحد في صفاته الذاتية التي هي عين ذاته كالحياة والعلم والقدرة، وواحد في شؤنه التي هي من لوازم ذاته كالخلق والملك والعزة والكبرياء لا يشاركه فيها أحد. وهو سبحانه قهار يقهر كل شئ بذاته وصفاته فلا يستقل قبال ذاته ووجوده شئ في ذاته ووجوده ولا يستغني عنه شئ في صفاته وآثار وجوده فالكل أذلاء داخرون بالنسبه إليه مملوكون له فقراء إليه.
[ 236 ]
فمحصل حجة الاية قياس استثنائي ساذج يستثنى فيه نقيض المقدم لينتج نقيض التالي وهو نحو من قولنا: لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى لذلك بعض من يشاء من خلقه لكن إرادته اتخاذ الولد ممتنعة لكونه واحدا قهارا فاصطفاؤه لذلك بعض من يشاء من خلقه ممتنع. وقد أغرب بعضهم في تقريب حجة الاية فقال: حاصل المعنى لو أراد سبحانه اتخاذ الولد لامتنعت تلك الارادة لتعلقها بالممتنع أعني الاتخاذ لكن لا يجوز للباري إرادة ممتنعة لانها ترجح بعض الممكنات على بعض. وأصل الكلام لو اتخذ الولد لامتنع لاستلزامه ما ينافي الالوهية فعدل إلى لو أراد الاتخاذ لامتنع أن يريده ليكون أبلغ وأبلغ ثم حذف هذا الجواب وجئ بدله لاصطفى
تنبيها على أن الممكن هذا لا الاول وأنه لو كان هذا من اتخاذ الولد في شئ لجاز اتخاذ الولد عليه سبحانه وتعالى شأنه عن ذلك فقد تحقق التلازم وحق نفي اللازم وإثبات الملزوم دون صعوبة. انتهى. وكأنه مأخوذ من قول الزمخشري في الكشاف في تفسير الاية حيث قال: يعني لو أراد اتخاذ الولد لامتنع ولم يصح لكونه محالا ولم يتأت إلا أن يصطفي من خلقه بعضه ويختصهم ويقربهم كما يختص الرجل ولده ويقربه وقد فعل ذلك بالملائكة فافتتنتم به وغركم اختصاصه إياهم فزعمتم أنهم أولاده جهلا منكم به وبحقيقته المخالفة لحقائق الاجسام والاعراض كأنه قال: لو أراد اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما يشاء من خلقه وهم الملائكة لكنكم لجهلكم به حسبتم اصطفاءهم اتخاذهم أولادا ثم تماديتم في جهلكم وسفهكم فجعلتموهم بنات فكنتم كذا بين كفارين متبالغين في الافتراء على الله وملائكته غالين في الكفر. انتهى. وأنت خبير أن سياق الاية لا يلائم هذا البيان. على أنه لا يدفع قول القائل بالتبني التشريفي كقول اليهود عزير ابن الله فإنهم لا يريدون بالتبني إلا اصطفاء من يشاء من خلقه. وهناك بعض تقريبات أخر منهم لا جدوى فيه تركنا إيراده. قوله تعالى: " خلق السماوات والارض بالحق " لا يبعد أن يكون ما فيه من
[ 237 ]
الاشارة إلى الخلق والتدبير بيانا لقهاريته تعالى لكن اتصال الايتين وارتباطهما مضمونا وانتهاء الثانية إلى قوله: " ذلكم الله ربكم " الخ كالصريح في أن ذلك استئناف بيان للاحتجاج على توحيد الربوبية. فالاية والتي تليها مسوقتان لتوحيد الربوببة وقد جمع فيهما بين الخلق والتدبير لما مر مرارا أن إثبات وحدة الخالق لا يستلزم عند الوثني نفي تعدد الارباب والالهة لانهم
لا ينكرون انحصار الخلق والايجاد فيه تعالى لكنه سبحانه فيما يحتج على توحده في الربوبية والالوهية في كلامه يجمع بين الخلق والتدبير إشارة إلى أن التدبير غير خارج من الخلق بل هو خلق بوجه كما أن الخلق تدبير بوجه وعند ذلك يتم الاحتجاج على رجوع التدبير إليه تعالى وانحصاره فيه برجوع الخلق إليه. وقوله: " خلق السماوات والارض بالحق " إشارة إلى الخلقة، وفي قوله: " بالحق " - والباء للملابسة - إشارة إلى البعث فإن كون الخلقة حقا غير باطل يلازم كونها لغاية تقصدها وتنساق إليها وهي البعث قال تعالى: " وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا " ص: 27. وقوله: " يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل " قال في المجمع التكوير طرح الشئ بعضه على بعض. انتهى فالمراد طرح الليل على النهار وطرح النهار على الليل فيكون من الاستعارة بالكناية قريب المعنى من قوله: " يغشي الليل النهار " الاعراف: 54 والمراد استمرار توالي الليل والنهار بظهور هذا على ذاك ثم ذاك على هذا وهكذا، وهو من التدبير. وقوله: " وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى " أي سخر الشمس والقمر فأجراهما للنظام الجاري في العالم الارضي إلى أجل مسمى معين لا يتجاوزانه. وقوله: " ألا هو العزيز الغفار " يمكن أن يكون في ذكر الاسمين إشارة إلى ما يحتج به على توحده تعالى في الربوبية والالوهية فإن العزيز الذي لا يعتريه ذلة إن كان فهو الله وهو المتعين للعبادة لا غيره الذي تغشاه الذلة وتغمره الفاقة وكذا الغفار للذنوب إذا قيس إلى من ليس من شأنه ذلك. ويمكن أن يكون ذكرهما تحضيضا على التوحيد والايمان بالله الواحد والمعنى
[ 238 ]
انبهكم أنه هو العزيز فآمنوا به واعتزوا بعزته، الغفار فآمنوا به يغفر لكم.
قوله تعالى: " خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها " الخ الخطاب لعامة البشر، والمراد بالنفس الواحدة - على ما تؤيده نظائره من الايات - آدم أبو البشر، والمراد بزوجها امرأته التي هي من نوعها وتماثلها في الانسانية، و " ثم " للتراخي بحسب رتبة الكلام. والمراد أنه تعالى خلق هذا النوع وكثر أفراده من نفس واحدة وزوجها. وقوله: " وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج " الانعام هي الابل والبقر والضأن والمعز، وكونها ثمانية أزواج باعتبار انقسامها إلى الذكر والانثى. وتسمية خلق الانعام في الارض إنزالا لها باعتبار أنه تعالى يسمى ظهور الاشياء في الكون بعد ما لم يكن إنزالا لها من خزائنه التي هي عنده ومن الغيب إلى الشهادة قال تعالى: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " الحجر: 21. وقوله: " يخلقكم في بطون امهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث " بيان لكيفية خلق من تقدم ذكره من البشر والانعام، وفي الخطاب تغليب اولي العقل على غيرهم، والخلق من بعد الخلق التوالي والتوارد كخلق النطفة علقة وخلق العلقة مضغة وهكذا، والظلمات الثلاث هي ظلمة البطن والرحم والمشيمة كما قيل ورواه في المجمع عن أبي جعفر عليه السلام. وقيل: المراد بها ظلمة الصلب والرحم والمشيمة وهو خطأ فإن قوله: " في بطون امهاتكم " صريح في أن المراد بالظلمات الثلاث ما في بطون النساء دون أصلاب الرجال. وقوله: " ذلكم الله ربكم " أي الذي وصف لكم في الايتين بالخلق والتدبير هو ربكم دون غيره لان الرب هو المالك الذي يدبر أمر ما ملكه وإذ كان خالقا لكم ولكل شئ دونكم وللنظام الجاري فيكم فهو الذي يملككم ويدبر أمركم فهو ربكم لا غير. وقوله: " له الملك " أي على جميع المخلوقات في الدنيا والاخرة فهو المليك على الاطلاق " وتقديم الظرف يفيد الحصر، والجملة خبر بعد خبر لقوله: " ذلكم الله " كما أن
قوله: " لا إله إلا هو، كذلك، وانحصار الالوهية فيه تعالى فرع انحصار الربوبية فيه
[ 239 ]
لان الا له إنما يعبد لانه رب مدبر فيعبد إما خوفا منه أو رجاء فيه أو شكرا له. وقوله: " فأنى تصرفون " أي فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره وهو ربكم الذي خلقكم ودبر أمركم وهو المليك عليكم. قوله تعالى: " إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر " إلى آخر الاية. مسوق لبيان أن الدعوة إلى التوحيد وإخلاص الدين لله سبحانه ليست لحاجة منه تعالى إلى إقبالهم إليه بالانصراف عن عبادة غيره بل لعناية منه تعالى بهم فيدعوهم إلى سعادتهم اعتناء بها كما يعتني برزقهم فيفيض النعم عليهم وكما يعتني بحفظهم فيلهمهم أن يدفعوا الافات عن أنفسهم. فقوله: " إن تكفروا فإن الله غني عنكم " الخطاب لعامة المكلفين أي إن تكفروا بالله فلم توحدوه فإنه غني عنكم لذاته لا ينتفع بإيمانكم وطاعتكم ولا يتضرر بكفركم ومعصيتكم فالنفع والضرر إنما يتحققان في مجال الامكان والحاجة وأما الواجب الغني بذاته فلا يتصور في حقه انتفاع ولا تضرر. وقوله: " ولا يرضى لعباده الكفر " دفع لما ربما يمكن أن يتوهم من قوله: " فإن الله غني عنكم " أنه إذا لم يتضرر بكفر ولم ينتفع بإيمان فلا موجب له أن يريد منا الايمان والشكر فدفعه بأن تعلق العناية الالهية بكم يقتضي أن لا يرضى بكفركم وأنتم عباده. والمراد بالكفر كفر النعمة الذي هو ترك الشكر بقرينة مقابلة قوله: " وإن تشكروا يرضه لكم " وبذلك يظهر أن التعبير بقوله: " لعباده " دون أن يقول: لكم للدلالة على علة الحكم أعني سبب عدم الرضا. والمحصل أنكم عباد مملو كون لله سبحانه منغمرون في نعمه ورابطة المولوية والعبودية وهي نسبة المالكية والمملوكية لا تلائمه أن يكفر العبد بنعمة سيده فينسى
ولاية مولاه ويتخذ لنفسه أولياء من دونه ويعصى المولى ويطيع عدوه وهو عبد عليه طابع العبودية لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا. وقوله: " وإن تشكروا يرضه لكم " الضمير للشكر نظير قوله تعالى: " اعدلوا هو أقرب للتقوى " المائدة: 8 والمعنى وإن تشكروا الله بالجري على مقتضى العبودية
[ 240 ]
وإخلاص الدين له يرض الشكر لكم وأنتم عباده، والشكر والكفر المقابل له ينطبقان على الايمان والكفر المقابل له. ومما تقدم يظهر أن العباد في قوله: " ولا يرضى لعباده الكفر " عام يشمل الجميع فقول بعضهم: إنه خاص اريد به من عناهم في قوله: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين " الحجر: 42 وهم المخلصون - أو المعصومون على ما فسره الزمخشري - ولازمه أن الله سبحانه رضي الايمان لمن آمن ورضى الكفر لمن كفر إلا المعصومين فإنه أراد منهم الايمان، وصانهم عن الكفر سخيف جدا، والسياق يأباه كل الاباء، إذ الكلام مشعر حينئذ برضاه الكفر للكافر فيؤل معنى الكلام إلى نحو من قولنا: إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى للانبياء مثلا الكفر لرضاه لهم الايمان وإن تشكروا أنتم يرضه لكم وإن تكفروا يرضه لكم وهذا - كما ترى - معنى ردي ساقط وخاصة من حيث وقوعه في سياق الدعوة. على أن الانبياء مثلا داخلون فيمن شكر وقد رضي لهم الشكر والايمان ولم يرض لهم الكفر فلا موجب لافرادهم بالذكر وقد ذكر الرضا عمن شكر. وقوله: " ولا تزر وازرة وزر اخرى " أي لا تحمل نفس حاملة حمل نفس اخرى أي لا يؤاخذ بالذنب إلا من ارتكبه. وقوله: " ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور " أي هذا في الدنيا من كفر أو شكر ثم يبعثكم الله فيظهر لكم حقيقة أعمالكم
ويحاسبكم على ما في قلوبكم وقد تكرر الكلام في معاني هذه الجمل فيما تقدم. (كلام في معنى الرضا والسخط من الله) الرضا من المعاني التي يتصف بها اولو الشعور والارادة ويقابله السخط وكلاهما وصفان وجوديان. ثم الرضا يتعلق بالمعاني من الاوصاف والافعال دون الذوات يقال: رضي له كذا ورضي بكذا قال تعالى: " ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله رسوله " التوبة: 59 وقال:
[ 241 ]
ورضوا بالحياة الدنيا " يونس: 7 وما ربما يتعلق بالذوات فإنما هو بعناية ما ويؤل بالاخرة إلى المعنى كقوله: " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى " البقرة: 120. وليس الرضا هو الارادة بعينها وإن كان كلما تعلقت به الارادة فقد تعلق به الرضا بعد وقوعه بوجه. وذلك لان الارادة - كما قيل - تتعلق بأمر غير واقع والرضا إنما يتعلق بالامر بعد وقوعه أو فرض وقوعه فإذن كون الانسان راضيا بفعل كذا كونه بحيث يلائم ذلك الفعل ولا ينافره، وهو وصف قائم بالراضي دون المرضي. ثم الرضا لكونه متعلقا بالامر بعد وقوعه كان متحققا بتحقق المرضي حادثا بحدوثه فيمتنع أن يكون صفة من الصفات القائمة بذاته لتنزهه تعالى عن أن يكون محلا للحوادث فما نسب إليه تعالى من الرضا صفة فعل قائم بفعله منتزع عنه كالرحمة والغضب والارادة والكراهة قال تعالى: " رضي الله عنهم ورضوا عنه " البينة: 8 وقال: " وأن أعمل صالحا ترضاه " النمل: 19، وقال: " ورضيت لكم الاسلام دينا " المائدة: 3. فرضاه تعالى عن أمر من الامور ملائمة فعله تعالى له، وإذ كان فعله قسمين تكويني وتشريعي انقسم الرضا منه أيضا إلى تكويني وتشريعي فكل أمر تكويني وهو الذي أراد الله وأوجده فهو مرضي له رضا تكوينيا بمعنى كون فعله وهو إيجاده عن مشية ملائما لما أوجده، وكل أمر تشريعي وهو الذي تعلق به التكليف من اعتقاد أو عمل
كالايمان والعمل الصالح فهو مرضي له رضا تشريعيا بمعنى ملاءمة تشريعه للمأتي به. وأما ما يقابل هذه الامور المأمور بها مما تعلق به نهي فلا يتعلق بها رضى البتة لعدم ملاءمة التشريع لها كالكفر والفسوق كما قال تعالى: " إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر " الزمر: 7، وقال: " فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين " التوبة: 96. قوله تعالى: " وإذا مس الانسان ضر دعا ربه منيبا إليه " إلى آخر الاية الانابة الرجوع، والتخويل العطية العظيمة على وجه الهبة وهي المنحة. على ما في المجمع. لما مر في الاية السابقة ذكر من كفر النعمة وأن الله سبحانه على غناه من الناس
[ 242 ]
لا يرضى لهم ذلك نبه في هذه الاية على أن الانسان كفور بالطبع مع أنه يعرف ربه بالفطرة ولا يلبث عند الاضطرار دون أن يرجع إليه فيسأله كشف ضره كما قال: " وكان الانسان كفورا " أسرى: 67، وقال: إن الانسان لظلوم كفار " إبراهيم: 34. فقوله: " وإذا مس الانسان ضر دعا ربه منيبا إليه " أي إذا أصاب الانسان ضر من شدة أو مرض أو قحط ونحوه دعا ربه - وهو الله يعترف عند ذلك بربوبيته - راجعا إليه معرضا عمن سواه يسأله كشف الضر عنه. وقوله: " ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل " أي وإذا أعطاه ربه سبحانه بعد كشف الضر نعمة منه اشتغل به مستغرقا ونسي الضر الذي كان يدعو إليه أي إلى كشفه من قبل إعطاء النعمة. فما في قوله: " ما كان يدعو إليه " موصولة والمراد به الضر وضمير " إليه " له وقيل: مصدرية والضمير للرب سبحانه والمعنى نسي دعاءه إلى ربه من قبل الاعطاء، وقيل: موصولة والمراد به الله سبحانه وهو أبعد الوجوه. وقوله: " وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله " الانداد الامثال والمراد بها - على
ما قيل - الاصنام وأربابها، واللام في " ليضل عن سبيله " للعاقبة، والمعنى واتخذ لله أمثالا يشاركونه في الربوبية والالوهية على مزعمته لينتهي به ذلك إلى إضلال الناس عن سبيل الله لان الناس مطبوعون على التقليد يتشبه بعضهم ببعض، وفي الفعل دعوة كالقول. ولا يبعد أن يراد بالانداد مطلق الاسباب التي يعتمد عليها الانسان ويطمئن إليها ومن جملتها أرباب الاصنام عند الوثني وذلك لان الاية تصف الانسان وهو أعم من المشرك نعم مورد الاية هو الكافر. وقوله: " قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار " أي تمتع تمتعا قليلا لا يدوم لك لانك من أصحاب النار مصيرك إليها، وهو أمر تهديدي في معنى الاخبار أي إنك إلى النار ولا يدفعها عنك تمتعك بالكفر أياما قلائل. قوله تعالى: " أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الاخرة ويرجو رحمة ربه " الاية لا تخلو عن مناسبة واتصال بقوله السابق: " ولا تزر وازرة وزر اخرى "
[ 243 ]
فإن فحواه أن الكافر والشاكر لا يستويان ولا يختلطان فأوضح ذلك في هذه الاية بأن القانت الذي يخاف العذاب ويرجو رحمة ربه لا يساوي غيره. فقوله: " أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الاخرة ويرجو رحمة ربه " أحد شقي الترديد محذوف والتقدير أهذا الذي ذكرناه خير أم من هو قانت الخ ؟ والقنوت - على ما ذكره الراغب - لزوم الطاعة مع الخضوع، والاناء جمع أنى وهو الوقت، و " يحذر الاخرة " أي عذاب الله في الاخرة قال تعالى: " إن عذاب ربك كان محذورا " أسرى: 57، وقوله: " يرجو رحمة ربك " هو وما قبله يجمعان خوف العذاب ورجاء الرحمة، ولم يقيد الرحمة بالاخرة فإن رحمة الاخرة ربما وسعت الدنيا. والمعنى أهذا الكافر الذي هو من أصحاب النار خير أم من هو لازم للطاعة والخضوع لربه في أوقات الليل إذا جن عليه ساجدا في صلاته تارة قائما فيها اخرى يحذر
عذاب الاخرة ويرجو رحمة ربه ؟ أي لا يستويان. وقوله: " قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون " العلم وعدمه مطلقان لكن المراد بهما بحسب ما ينطبق على مورد الاية العلم بالله وعدمه فإن ذلك هو الذي يكمل به الانسان وينتفع بحقيقة معنى الكلمة ويتضرر بعدمه، وغيره من العلم كالمال ينتفع به في الحياة الدنيا ويفنى بفنائها. وقوله: " إنما يتذكر اولو الالباب " أي ذوو العقول وهو في مقام التعليل لعدم تساوى الفريقين بأن أحد الفريقين يتذكر حقائق الامور دون الفريق الاخر فلا يستويان بل يترجح الذين يعلمون على غيرهم. قوله تعالى: " قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة " إلى آخر الاية، الجار والمجرور " في هذه الدنيا " متعلق بقوله: " احسنوا " فالمراد بالجملة وعد الذين أحسنوا أي لزموا الاعمال الحسنة أن لهم حسنة لا يقدر وصفها بقدر. وقد أطلق الحسنة فلم يقيدها بدنيا أو آخرة وظاهرها ما يعلم الدنيا فللمؤمنين المحسنين في هذه الدنيا طيب النفس وسلامة الروح وصون النفوس عما يتقلب فيه الكفار من تشوش البال وتقسم القلب وغل الصدر والخضوع للاسباب الظاهرية وفقد من يرجى
[ 244 ]
في كل نائبة وينصر عند طروق الطارقة ويطمأن إليه في كل نازلة وفي الاخرة سعادة دائمة ونعيم مقيم. وقيل: " في هذه الدنيا " متعلق بحسنة. وليس بذاك. وقوله: " وأرض الله واسعة " حث وترغيب لهم في الهجرة من مكة إذ كان التوقف فيها صعبا على المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركون يزيدون كل يوم في التشديد عليهم وفتنتهم، والاية بحسب لفظها عامة. وقيل: المراد بأرض الله الجنة أي إن الجنة واسعة لا تزاحم فيها فاكتسبوها
بالطاعة والعبادة. وهو بعيد. وقوله: " إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب " توفية الاجر إعطاؤه تاما كاملا، والسياق يفيد أن القصر في الكلام متوجه إلى قوله: " بغير حساب " فالجار والمجرور متعلق بقوله: " يوفى " صفة لمصدر يدل عليه والمعنى لا يعطى الصابرون أجرهم إلا إعطاء بغير حساب، فالصابرون لا يحاسبون على أعمالهم ولا ينشر لهم ديوان ولا يقدر أجرهم بزنة عملهم. وقد اطلق الصابرون في الاية ولم يقيد بكون الصبر على الطاعة أو عن المعصية أو عند المصيبة وإن كان الذي ينطبق على مورد الاية هو الصبر على مصائب الدنيا وخاصة ما يصيب من جهة أهل الكفر والسوق من آمن بالله وأخلص له دينه واتقاه. وقيل: " بغير حساب " حال من " أجرهم " و يفيد كثرة الاجر الذي يوفونه، والوجه السابق أقرب. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن يزيد الرقاشي أن رجلا قال: يا رسول الله انا نعطي أموالنا التماس الذكر فهل لنا في ذلك من أجر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يقبل إلا ممن أخلص له. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاية " ألا لله الدين الخالص ". وفيه أخرج ابن جرير من طريق جويبر عن ابن عباس " والذين اتخذوا من دونه
[ 245 ]
أولياء " الاية قال: أنزلت في ثلاثة أحياء: عامر وكنانة وبني سلمة كانوا يعبدون الاوثان ويقولون: الملائكة بناته فقالوا: " إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ". أقول: الاية مطلقة تشمل عامة الوثنيين، وقول: " إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى " قول جميعهم، وكذا القول بالولد ولا تصريح في الاية بالقول بكون الملائكة بنات فالحق أن الخبر من التطبيق.
وفي الكافي والعلل بإسنادهما عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت: " آناء الليل ساجدا وقائما " الخ قال: يعني صلاة الليل. وفي الكافي بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام في قوله عز وجل: " هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر اولو الالباب " قال نحن الذين يعلمون، وعدونا الذين لا يعلمون، وشيعتنا اولو الالباب. أقول: وهذا المعنى مروى بطرق كثيرة عن الباقر والصادق عليهما السلام وهو جرى وليس من التفسير في شئ. وفي الدر المنثور أخرج ابن سعد في طبقاته وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما " قال: نزلت في عمار بن ياسر. اقول: وروى مثله عن جويبر عن عكرمة، وروى عن جويبر عن ابن عباس أيضا أنها نزلت في ابن مسعود وعمار وسالم مولى أبي حذيفة، وروى عن أبي نعيم وابن عساكر عن ابن عمر أنه عثمان وقيل غير ذلك، والجميع من التطبيق وليس من النزول بالمعنى المصطلح عليه، والسورة نازلة دفعة. وفي المجمع روى العياشي بالاسناد عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا نشرت الدواوين ونصبت الموازين لم ينصب لاهل البلاء ميزان ولم ينشر لهم ديوان. ثم تلا هذه الاية " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ". أقول: وروى ما في معناه في الدر المنثور عن ابن مردويه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث.
[ 246 ]
* * * قل إني أمرت أن أ عبد الله مخلصا له الدين - 11. وأمرت لان أكون أول المسلمين - 12. قل إني أخاف إن عصيت ربي
عذاب يوم عظيم - 13. قل الله أعبد مخلصا له ديني - 14. فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيمة ألا ذلك هو الخسران المبين - 15. لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون - 16. والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد - 17. الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الالباب - 18. أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار - 19. لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف مبنية تجري من تحتها الانهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد - 20. (بيان) في الايات نوع رجوع إلى أول الكلام وأمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يبلغهم أن الذي يدعوهم إليه من التوحيد وإخلاص الدين لله هو مأمور به كأحدهم ويزيد أنه مأمور أن يكون
[ 247 ]
أول مسلم لما يدعو إليه أي يكون بحيث يدعو إلى ما قد أسلم له وآمن به قبل، سواء أجابوا إلى دعوته أو ردوها. فعليهم أن لا يطمعوا فيه أن يخالف فعله قوله وسيرته دعوته فإنه مجيب لربه مسلم له متصلب في دينه خائف منه أن يعصيه ثم تنذر الكافرين وتبشر المؤمنين بما أعد الله سبحانه لكل من الفريقين من عذاب أو نعمة. قوله تعالى: " قل إني أمرت أن أ عبد الله مخلصا له الدين - إلى قوله - أول المسلمين " نحو رجوع إلى قوله تعالى في مفتتح السورة: " إنا أنزلنا إليك الكتاب فاعبد الله مخلصا له الدين " بداعي أن يؤيسهم من نفسه، فلا يطمعوا فيه أن يترك دعوتهم
ويوافقهم على الاشراك بالله كما يشير إليه أول سورة ص وآيات أخر. فكأنه يقول: قل لهم إن الذي تلوت عليكم من أمره تعالى بعبادته بإخلاص الدين - وقد وجه به الخطاب إلى - ليس المراد به مجرد دعوتكم إلى ذلك بإقامتي في الخطاب مقام السامع فيكون من قبيل " إياك أعني واسمعي يا جارة " بل أنا كأحدكم مأمور بعبادته مخلصا له الدين، ولا ذلك فحسب، بل مأمور بأن أكون أول المسلمين لما ينزل إلى من الوحي فأسلم له أولا ثم ابلغه لغيري - فأنا أخاف ربي وأعبده بالاخلاص آمنتم به أو كفرتم فلا تطمعوا في. فقوله: " قل إني امرت أن أ عبد الله مخلصا له الدين " إشارة إلى أنه صلى الله عليه وآله وسلم يشارك غيره في الامر بدون الاخلاص. وقوله: " وأمرت لان أكون أول المسلمين " إشارة إلى أن في الامر المتوجه إلى زيادة على ما توجه إليكم من التكليف وهو أني امرت بما امرت وقد توجه الخطاب إلى قبلكم والغرض منه أن أكون أول من أسلم لهذا الامر وآمن به. قيل: اللام في قوله: " لان أكون " للتعليل والمعنى وأمرت بذلك لاجل أن أكون أو المسلمين، وقيل: اللام زائدة كما تركت اللام في قوله تعالى: " قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم " الانعام: 14. ومآل الوجهين واحد بحسب المعنى فإن كونه صلى الله عليه وآله وسلم أول المسلمين يعطى عنوانا
[ 248 ]
لاسلامه وعنوان الفعل يصح أن يجعل غاية للامر بالفعل وأن يجعل متعلقا للامر فيؤمر به يقال: اضربه للتأديب، ويقال: أدبه بالضرب. قال في الكشاف: وفي معناه أوجه: أن أكون أول من أسلم في زماني ومن قومي لانه أول من خالف دين آبائه وخلع الاصنام وحطمها، وأن أكون أول الذين دعوتهم إلى الاسلام إسلاما، وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا غيره لاكون مقتدى بي
في قولي وفعلي جميعا ولا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون، وأن أفعل ما أستحق به الاولية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب. انتهى. وأنت خبير بأن الانسب لسياق الايات هو الوجه الثالث وهو الذي قدمناه ويلزمه سائر الوجوه. قوله تعالى: " قال إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم " المراد بمعصية ربه بشهادة السياق مخالفة أمره بعبادته مخلصا له الدين، وباليوم العظيم يوم القيامة والاية كالتوطئة لمضمون الاية التالية. قوله تعالى: " قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه " تصريح بأنه ممتثل لامر ربه مطيع له بعد التكنية عنه في الاية السابقة، وإيآس لهم أن يطمعوا فيه أن يخالف أمر ربه. وتقديم المفعول في قوله: " قل الله أعبد " يفيد الحصر، وقوله: " مخلصا له ديني " يؤكد معنى الحصر، وقوله: " فاعبدوا ما شئتم من دونه " أمر تهديدي بمعنى أنهم لا ينفعهم ذلك فإنهم مصيبهم وبال إعراضهم عن عبادة الله بالاخلاص كما يشير إليه ذيل الاية " قل إن الخاسرين " الخ. قوله تعالى: " قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة " الخ الخسر والخسران ذهاب رأس المال إما كلا أو بعضا والخسران أبلغ من الخسر، وخسران النفس هو إيرادها مورد الهلكة والشقاء بحيث يبطل منها استعداد الكمال فيفوتها السعادة بحيث لا يطمع فيها وكذا خسارة الاهل. وفي الاية تعريض للمشركين المخاطبين بقوله: " فاعبدوا ما شئتم من دونه " كأنه
[ 249 ]
يقول: فأياما عبدتم فإنكم تخسرون أنفسكم بإيرادها بالكفر مورد الهلكة وأهليكم وهم خاصتكم بحملهم على الكفر والشرك وهي الخسران بالحقيقة.
وقوله: " ألا ذلك هو الخسران المبين " وذلك لان الخسران المتعلق بالدنيا - وهو الخسران في مال أو جاه - سريع الزوال منقطع الاخر بخلاف خسران يوم القيامة الدائم الخالد فإنه لا زوال له ولا انقطاع. على أن المال أو الجاه إذا زال بالخسران أمكن أن يخلفه آخر مثله أو خير منه بخلاف النفس إذا خسرت. هذا على تقدير كون المراد بالاهل خاصة الانسان في الدنيا، وقيل: المراد بالاهل من أعده الله في الجنة للانسان لو آمن واتقى من أزواج وخدم وغيرهم وهو أوجه وأنسب للمقام فإن النسب وكل رابطة من الروابط الدنيوية الاجتماعية مقطوعة يوم القيامة قال تعالى: " فلا أنساب بينهم يومئذ " المؤمنون: 101 وقال: " يوم لا تملك نفس لنفس شيئا " الانفطار: 19 إلى غير ذلك من الايات. ويؤيده أيضا قوله تعالى: " فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرووا " الانشقاق: 9. قوله تعالى: " لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل " الخ الظلل جمع ظلة وهي - كما قيل - الستر العالي. والمراد بكونها من فوقهم ومن تحتهم إحاطتها بهم فإن المعهود من النار الجهتان والباقي ظاهر. قوله تعالى: " والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى " قال الراغب: الطاغوت عبارة عن كل متعد وكل معبود من دون الله، ويستعمل في الواحد والجمع. انتهى، والظاهر أن المراد بها في الاية الاوثان وكل معبود طاغ من دون الله. ولم يقتصر على مجرد اجتناب عبادة الطاغوت بل أضاف إليه قوله: " وأنابوا إلى الله " إشارة إلى أن مجرد النفي لا يجدي شيئا بل الذي ينفع الانسان مجموع النفي
[ 250 ]
والاثبات، عبادة الله وترك عبادة غيره وهو عبادته مخلصا له الدين. وقوله: " لهم البشرى " إنشاء بشرى وخبر لقوله: " والذين اجتنبوا " الخ. قوله تعالى: " فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " إلى آخر الاية كان مقتضى الظاهر أن يقال: فبشرهم غير أنه قيل: فبشر عباد و اضيف إلى ضمير التكلم لتشريفهم به ولتوصيفهم بقوله: " الذين يستمعون القول " الخ. والمراد بالقول بقرينة ما ذكر من الاتباع ماله نوع ارتباط ومساس بالعمل فأحسن القول أرشده في إصابة الحق وأنصحه للانسان، والانسان إذا كان ممن يحب الحسن وينجذب إلى الجمال كان كلما زاد الحسن زاد انجذابا فإذا وجد قبيحا وحسنا مال إلى الحسن، وإذا وجد حسنا وأحسن قصد ما هو أحسن، وأما لو لم يمل إلى الاحسن وانجمد على الحسن كشف ذلك عن أنه لا ينجذب إليه من حيث حسنه وإلا زاد الانجذاب بزيادة الحسن. فتوصيفهم باتباع أحسن القول معناه أنهم مطبوعون على طلب الحق وإرادة الرشد وإصابة الواقع فكلما دار الامر بين الحق والباطل والرشد والغي اتبعوا الحق والرشد وتركوا الباطل والغي وكلما دار الامر بين الحق والاحق والرشد وما هو أكثر رشدا أخذوا بالاحق الارشد. فالحق والرشد هو مطلوبهم ولذلك يستمعون القول ولا يردون قولا بمجرد ما قرع سمعهم اتباعا لهوى أنفسهم من غير أن يتدبروا فيه ويفقهوه. فقوله: " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " مفاده أنهم طالبوا الحق والرشد يستمعون القول رجاء أن يجدوا فيه حقا وخوفا أن يفوتهم شئ منه. وقيل: المراد باستماع القول واتباع أحسنه استماع القرآن وغيره واتباع القرآن، وقيل: المراد استماع أوامر الله تعالى واتباع أحسنها كالقصاص والعفو فيتبعون العفو
وإبداء الصدقات وإخفائها فيتبعون الاخفاء، والقولان من قبيل التخصيص من غير مخصص. وقوله: " أولئك الذين هداهم الله " إشارة إلى أن هذه الصفة هي الهداية الالهية وهذه الهداية أعني طلب الحق والتهيأ التام لاتباع الحق أينما وجد هي الهداية الاجمالية
[ 251 ]
وإليها تنتهي كل هداية تفصيلية إلى المعارف الالهية. وقوله: " وأولئك هم اولو الالباب " أي ذوو العقول ويستفاد منه أن العقل هو الذي به الاهتداء إلى الحق وآيته صفة اتباع الحق، وقد تقدم في تفسير قوله: " ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه " البقرة: 130 أنه يستفاد منه أن العقل ما يتبع به دين الله. قوله تعالى: " أفمن حقت عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار " ثبوت كلمة العذاب وجوب دخول النار بالكفر بقوله عند إهباط آدم إلى الارض: " والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " البقرة: 39 وما في معناه من الايات. ومقتضى السياق أن في الاية إضمارا يدل عليه قوله: " أفأنت تنقذ من في النار والتقدير أفمن حقت عليه كلمة العذاب ينجو منه وهو اولى من تقدير قولنا: خير أم من وجبت عليه الجنة وقيل: المعنى أفمن وجب عليه وعيده تعالى بالعقاب أفأنت تخلصه من النار فاكتفى بذكر " من النار " عن ذكر الضمير العائد إلى المبتدء وجئ بالاستفهام مرتين للتأكيد تنبيها على المعنى. وقيل: التقدير أفأنت تنقذ من في النار منهم فحذف الضمير، وهو أردء الوجوه. قوله تعالى: " لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجرى من تحتها الانهار " الغرف جمع غرفة وهي المنزل الرفيع. قيل: وهذا في مقابلة قوله في
الكافرين: " لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ". وقوله: " وعد الله " أي وعدهم الله ذلك وعدا فهو مفعول مطلق قائم مقام فعله وقوله: " لا يخلف الله الميعاد " إخبار عن سنته تعالى في مواعيده وفيه تطييب لنفوسهم. (بحث روائي) في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " قل
[ 252 ]
إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم " يقول: غبنوا أنفسهم وأهليهم. وفي المجمع في قوله تعالى: " والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى ربهم لهم البشرى " روى أبو بصير عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: أنتم هم ومن أطاع جبارا فقد عبده. أقول: وهو من الجرى. وفي الكافي: بعض أصحابنا رفعه عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام: يا هشام إن الله تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه فقال: " فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم اولو الالباب ". وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله تعالى: " والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها " قال: نزلت هاتان الايتان في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون: لا إله إلا الله، في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي. اقول: ورواه في المجمع عن عبد الله بن زيد، وروى في الدر المنثور أيضا عن ابن مردويه عن ابن عمر أنها نزلت في سعيد بن زيد وأبي ذر وسلمان، وروى أيضا عن جويبر عن جابر بن عبد الله أنها نزلت في رجل من الانصار أعتق سبعة مماليك لما نزل
قوله تعالى: " لها سبعة أبواب " الاية، والظاهر أن الجميع من تطبيق القصة على الاية. * * * ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الارض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لاولي الالباب - 21. أفمن شرح الله صدره
[ 253 ]
للاسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين - 22. الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد - 23. أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيمة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون - 24. كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون - 25. فأذاقهم الله الخزي في الحيوة الدنيا ولعذاب الاخرة أكبر لو كانوا يعلمون - 26. ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون - 27. قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون - 28. ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون و رجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون - 29. إنك ميت وإنهم ميتون - 30. ثم إنكم يوم القيمة عند ربكم تختصمون - 31. فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين - 32. و الذي جاء بالصدق
[ 254 ]
وصدق به أولئك هم المتقون - 33. لهم ما يشاؤن عند ربهم ذلك جزاء المحسنين - 34. ليكفر الله عنهم أسوء الذي عملوا ويجزيهم أجرهم باحسن الذي كانوا يعملون - 35. أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد - 36. ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام - 37. (بيان) عود إلى بدء من الاحتجاج على ربوبيته تعالى والقول في اهتداء المهتدين وضلال الضالين والمقايسة بين الفريقين وما ينتهي إليه عاقبة أمر كل منهما، وفيها معنى هداية القرآن. قوله تعالى: " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الارض " إلى آخر الاية، قال في المجمع: الينابيع جمع ينبوع وهو الذي ينبع منه الماء يقال نبع الماء من موضع كذا إذا فار منه، والزرع ما ينبت على غير ساق والشجر ما له ساق وأغصان النبات يعم الجميع، وهاج النبت يهيج هيجا إذا جف وبلغ نهايته في اليبوسة، والحطام فتات التبن والحشيش. انتهى. وقوله: " فسلكه ينابيع في الارض " أي فأدخله في عيون ومجاري في الارض هي كالعروق في الابدان تنقل ما تحمله من جانب إلى جانب، والباقي ظاهر والاية - كما ترى - تحتج على توحده تعالى في الربوبية. قوله تعالى: " أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله " الخ لما ذكر في الاية السابقة أن فيما ذكره من إنزال الماء وإنبات