تفسير الميزان - السيد الطباطبائي ج 17

تفسير الميزان

السيد الطباطبائي ج 17


[ 1 ]

الميزان في تفسير القرآن 17

[ 3 ]

تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره

[ 4 ]

الميزان في تفسير القران كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره الجزء السابع العشر منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة

[ 5 ]

بسم الله الرحمن الرحيم سورة فاطر مكية وهي خمس وأربعون آية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله فاطر السموات والارض جاعل الملئكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيئ قدير - 1. (بيان) غرض السورة بيان الاصول الثلاثة: وحدانيته تعالى في ربوبيته ورسالة الرسول والمعاد إليه وتقرير الحجة لذلك وقد توسل لذلك بعد جمل من نعمه العظيمة السماوية والارضية والاشارة إلى تدبيره المتقن لامر العالم عامة والانسان خاصة. وقد قدم على هذا التفصيل الاشارة الاجمالية إلى انحصار فتح الرحمة وإمساكها وهو إفاضة النعمة والكف عنها فيه تعالى بقوله: " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها " الاية. وقدم على ذلك الاشارة إلى وسائط هذه الرحمة المفتوحة والنعم الموهوبة وهم الملائكة المتوسطون بينه تعالى وبين خلقه في حمل أنواع النعم من عنده تعالى وإيصالها إلى خلقه فافتتح السورة بذكرهم.

[ 6 ]

والسورة مكية كما يدل عليه سياق آياتها، وقد استثنى بعضهم آيتين وهما قوله تعالى: " إن الذين يتلون آيات الله " الاية وقوله: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا " الاية وهو غير ظاهر من سياق الايتين. قوله تعالى: " الحمد لله فاطر السماوات والارض " الفطر - على ما ذكره الراغب - هو الشق طولا فإطلاق الفاطر عليه تعالى بعناية استعارية كأنه شق العدم فأخرج من بطنها السماوات والارض فمحصل معناه أنه موجد السماوات والارض إيجادا ابتدائيا من غير مثال سابق، فيقرب معناه من معنى البديع والمبدع والفرق بين الابداع والفطر أن العناية في الابداع متعلقة بنفي المثال السابق وفي الفطر بطرد العدم وإيجاد الشئ من رأس لا كالصانع الذي يؤلف مواد مختلفة فيظهر به صورة جديدة لم تكن. والمراد بالسماوات والارض مجموع العالم المشهود فيشملهما وما فيهما من مخلوق فيكون من قبيل إطلاق معظم الاجزاء وإرادة الكل مجازا، أو المراد نفس السماوات والارض اعتناء بشأنهما لكبر خلقتهما وعجيب أمرهما كما قال: " لخلق السماوات والارض أكبر من خلق الناس " المؤمن: 57. وكيف كان فقوله: " فاطر السماوات والارض " من أسمائه تعالى أجري صفة لله والمراد بالوصف الاستمرار دون الماضي فقط لان الايجاد مستمر وفيض الوجود غير منقطع ولو انقطع لانعدمت الاشياء. والاتيان بالوصف بعد الوصف للاشعار بأسباب انحصار الحمد فيه تعالى كأنه قيل: الحمد لله على ما أوجد السماوات والارض وعلى ما جعل الملائكة رسلا أولي أجنحة فهو تعالى محمود ما أتى فيما أتى إلا الجميل. قوله تعالى: " جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع " الملائكة جمع ملك بفتح اللام وهم موجودات خلقهم الله وجعلهم وسائط بينه وبين العالم المشهود وكلهم بامور العالم التكوينية والتشريعية عباد مكرمون لا يعصون الله فيما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. فقوله تعالى: " جاعل الملائكة رسلا " يشعر بل يدل على كون جميع الملائكة - والملائكة مجع محلى باللام مفيد للعموم - رسلا وسائط بينه وبين خلقه في إجراء

[ 7 ]

أوامره التكوينية والتشريعية. ولا موجب لتخصيص الرسل في الاية بالملائكة النازلين على الانبياء عليه السلام وقد أطلق القرآن الرسل على غيرهم من الملائكة كقوله تعالى: " حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا " الانعام: 61، وقوله: " إن رسلنا يكتبون ما تمكرون " يونس: 21، وقوله: " ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية " العنكبوت: 31. والاجنحة جمع جناح وهو من الطائر بمنزلة اليد من الانسان يتوسل به إلى الصعود إلى الجو والنزول منه والانتقال من مكان إلى مكان بالطيران. فوجود الملك مجهز بما يفعل به نظير ما يفعله الطائر بجناحه فينتقل به من السماء إلى الارض بأمر الله ويعرج به منها إليها ومن أي موضع إلى أي موضع، وقد سماه القرآن جناحا ولا يستوجب ذلك إلا ترتب الغاية المطلوبة من الجناح عليه وأما كونه من سنخ جناح غالب الطير ذا ريش وزغب فلا يستوجبه مجرد إطلاق اللفظ كما لم يستوجبه في نظائره كألفاظ العرش والكرسي واللوح والقلم وغيرها. وقوله: " أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع " صفة للملائكة، ومثنى وثلاث ورباع ألفاظ دالة على تكرر العدد أي اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة كأنه قيل: جعل الملائكة بعضهم ذا جناحين وبعضهم ذا ثلاثة أجنحة وبعضهم ذا أربعة أجنحة. وقوله: " يزيد في الخلق ما يشاء " لا يخلو من إشعار بحسب السياق بأن منهم من يزيد أجنحته على أربعة. وقوله: " إن الله على كل شئ قدير " تعليل لجميع ما تقدمه أو الجملة الاخيرة والاول أظهر. (بحث روائي) في البحار عن الاختصاص بإسناده عن المعلى بن محمد رفعه إلى أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله عز وجل خلق الملائكة من نور، الخبر.

[ 8 ]

وفي تفسير القمي قال الصادق عليه السلام: خلق الله الملائكة مختلفة وقد أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبرئيل وله ستمائة جناح على ساقه الدر مثل القطر على البقل قد ملا ما بين السماء والارض وقال إذا أمر الله عز وجل ميكائيل بالهبوط إلى الدنيا صارت رجله في السماء السابعة والاخرى في الارض السابعة، وإن لله ملائكة أنصافهم من برد وأنصافهم من نار يقولون: يا مؤلفا بين البرد والنار ثبت قلوبنا على طاعتك. وقال: إن لله ملكا بعد ما بين شحمة أذنه إلى عينه مسيرة خمس مائة عام بخفقان الطير. وقال: إن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون وإنما يعيشون بنسيم العرش، وإن لله عز وجل ملائكة ركعا إلى يوم القيامة وإن لله عز وجل ملائكة سجدا إلى يوم القيامة. ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من شئ مما خلق الله عز وجل أكثر من الملائكة وإنه ليهبط في كل يوم أو في كل ليلة سبعون ألف ملك، فيأتون البيت الحرام فيطوفون به ثم يأتون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم يأتون أمير المؤمنين عليه السلام فيسلمون ثم يأتون الحسين عليه السلام فيقيمون عنده فإذا كان عند السحر وضع لهم معراج إلى السماء ثم لا يعودون أبدا. وقال أبو جعفر عليه السلام: إن الله عز وجل خلق إسرافيل وجبرائيل وميكائيل من تسبيحة واحدة، وجعل لهم السمع والبصر وجودة العقل وسرعة الفهم. وقال أمير المؤمنين عليه السلام في خلقة الملائكة: وملائكة خلقتهم وأسكنتهم سماواتك فليس فيهم فترة، ولا عندهم غفلة، ولا فيهم معصية، هم أعلم خلقك بك وأخوف خلقك منك، وأقرب خلقك منك، وأعملهم بطاعتك، لا يغشاهم نوم العيون ولا سهو العقول، ولا فترة الابدان لم يسكنوا الاصلاب، ولم تضمهم الارحام، ولم تخلقهم من ماء مهين أنشأتهم إنشاء فأسكنتهم سماواتك وأكرمتهم بجوارك، وائتمنتهم على وحيك، وجنبتهم الافات، ووقيتهم البليات، وطهرتهم من الذنوب، ولو لا قوتك لم تقووا، ولو لا تثبيتك لم يثبتوا، ولو لا رحمتك لم يطيعوا، ولو لا أنت لم يكونوا.

[ 9 ]

أما إنهم على مكانتهم منك وطاعتهم إياك ومنزلتهم عندك وقلة غفلتهم عن أمرك لو عاينوا ما خفي عنهم منك لاحتقروا أعمالهم، ولازروا على أنفسهم، ولعلموا أنهم لم يعبدوك حق عبادتك سبحانك خالقا ومعبودا ما أحسن بلاءك عند خلقك. وفي البحار عن الدر المنثور عن أبي العلاء بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال يوما لجلسائه: أطت السماء وحق لها أن تئط ليس منها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد. ثم قرء " وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون ". وعن الخصال بإسناده عن محمد بن طلحة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الملائكة على ثلاثة أجزاء فجزء لهم جناحان وجزء لهم ثلاثة أجنحة وجزء لهم أربعة أجنحة. أقول: ورواه في الكافي بإسناده عن عبد الله بن طلحة مثله، ولعل المراد به وصف أغلب الملائكة حتى لا يعارض سياق الاية والروايات الاخر. وعن التوحيد بإسناده عن أبي حيان التيمي عن أبيه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: ليس أحد من الناس إلا ومعه ملائكة حفظة يحفظونه من أن يتردى في بئر أو يقع عليه حائط أو يصيبه سوء فإذا حان أجله خلوا بينه وبين ما يصيبه - الخبر. وعن البصائر عن السياري عن عبد الله بن أبي عبد الله الفارسي وغيره رفعوه إلى أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الكروبيين قوم من شيعتنا من الخلق الاول جعلهم الله خلف العرش لو قسم نور واحد منهم على أهل الارض لكفاهم. ثم قال: إن موسى عليه السلام لما أن سأل ربه ما سأل أمرا واحدا من الكروبيين فتجلى للجبل فجعله دكا. وعن الصحيفة السجادية وكان من دعائه على حملة العرش وكل ملك مقرب: اللهم وحملة عرشك الذين لا يفترون من تسبيحك، ولا يسأمون من تقديسك، ولا يستحسرون عن عبادتك، ولا يؤثرون التقصير على الجد في أمرك، ولا يغفلون عن الوله إليك، وإسرافيل صاحب الصور الشاخص الذي ينتظر منك الاذن وحلول الامر فينبه بالنفخة صرعى رهائن القبور، وميكائيل ذو الجاه عندك والمكان الرفيع من طاعتك وجبريل الامين على وحيك المطاع في سماواتك المكين لديك المقرب عندك، والروح الذي هو على ملائكة الحجب والروح الذي هو من أمرك.

[ 10 ]

اللهم فصل عليهم وعلى الملائكة الذين من دونهم من سكان سماواتك وأهل الامانة على رسالاتك، والذين لا يدخلهم سأمة من دؤب ولا إعياء من لغوب ولا فتور ولا تشغلهم عن تسبيحك الشهوات ولا يقطعهم عن تعظيمك سهو الغفلات، الخشع الابصار فلا يرومون النظر إليك، النواكس الاذقان الذين قد طالت رغبتهم فيما لديك المستهترون بذكر آلائك والمتواضعون دون عظمتك وجلال كبريائك، والذين يقولون إذا نظروا إلى جهنم تزفر على أهل معصيتك: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك. فصل عليهم وعلى الروحانيين من ملائكتك وأهل الزلفة عندك وحمال الغيب إلى رسلك والمؤتمنين على وحيك وقبائل الملائكة الذين اختصصتهم لنفسك وأغنيتهم عن الطعام والشراب بتقديسك وأسكنتهم بطون أطباق سماواتك، والذين هم على أرجائها إذا نزل الامر بتمام وعدك. وخزان المطر وزواجر السحاب والذي بصوت زجره يسمع زجل الرعود، وإذا سبحت به حفيفة السحاب التمعت صواعق البروق، ومشيعي الثلج والبرد والهابطين مع قطر المطر إذا نزل، والقوام على خزائن الرياح، والموكلين بالجبال فلا تزول، والذين عرفتهم مثاقيل المياه وكيل ما يحويه لواعج الامطار وعوالجها ورسلك من الملائكة إلى أهل الارض بمكروه ما ينزل من البلاء ومحبوب الرخاء. والسفرة الكرام البررة والحفظة الكرام الكاتبين، وملك الموت وأعوانه، ومنكر ونكير، ومبشر وبشير، ورؤمان فتان القبور، والطائفين بالبيت المعمور، ومالك والخزنة، ورضوان وسدنة الجنان، والذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، والذين يقولون: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، والزبانية الذين إذا قيل لهم: " خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه " ابتدروه سراعا ولم ينظروه، ومن ألهمنا ذكره ولم نعلم مكانه منه وبأي أمر وكلته، وسكان الهواء والارض والماء، ومن منهم على الخلق. فصل عليهم يوم تأتي كل نفس معها سائق وشهيد وصل عليهم صلاة تزيدهم كرامة على كرامتهم وطهارة على طهارتهم. الدعاء. وفي البحار عن الدر المنثور عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه والسلام سأل جبرئيل

[ 11 ]

أن يتر آى له في صورته فقال جبرئيل: إنك لن تطيق ذلك. قال: إني أحب ذلك فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المصلى في ليلة مقمرة فأتاه جبرئيل في صورته فغشي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين رآه ثم أفاق وجبرئيل مسنده وواضع إحدى يديه على صدره والاخرى بين كتفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما كنت أرى أن شيئا ممن يخلق هكذا فقال جبرئيل: فكيف لو رأيت إسرافيل إن له لاثني عشر جناحا جناح في المشرق وجناح في المغرب وإن العرش على كاهله، وإنه ليتضأل الاحيان لعظمة الله حتى يصير مثل الوصع (1) حتى ما ما يحمل عرشه إلا عظمته. وفي الصافي عن التوحيد بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث قال: وقوله في آخر الايات: " ما زاغ البصر وما طغى لقد رآى من آيات ربه الكبرى " رآى جبرئيل في صورته مرتين هذه المرة ومرة أخرى وذلك أن خلق جبرئيل عظيم فهو من الروحانيين الذي لا يدرك خلقهم وصفتهم إلا الله. وعن الخصال بإسناده عن محمد بن مروان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن جبرئيل أتاني فقال: إنا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه كلب ولا تمثال جسد ولا إناء يبال فيه. أقول وهناك روايات أخرى في صفة الملائكة فوق حد الاحصاء واردة في باب المعاد ومعراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبواب متفرقة أخرى، وفيما أوردناه أنموذج كاف في ذلك. وفي العيون في باب ما جاء عن الرضا عليه السلام من الاخبار المجموعة بإسناده عنه عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا، وقرء " يزيد في الخلق ما يشاء ". وفي التوحيد بإسناده عن زرارة عن عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: إن القضاء والقدر خلقان من خلق الله يزيد في الخلق ما يشاء. وفي المجمع في قوله تعالى: " يزيد في الخلق ما يشاء " روى أبو هريرة عن النبي (1)


بفتح الصاد وسكونها طائر أصغر من العصفور.

[ 12 ]

صلى الله عليه وآله قال: هو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن. أقول: والروايات الثلاث الاخيرة من قبيل الجري والانطباق. (كلام في الملائكة) تكرر ذكر الملائكة في القرآن الكريم ولم يذكر منهم بالتسمية إلا جبريل وميكال وما عداهما مذكور بالوصف كملك الموت والكرام الكاتبين والسفرة الكرام البررة والرقيب والعتيد وغير ذلك. والذي ذكره الله سبحانه في كلامه - وتشايعه الاحاديث السابقة - من صفاتهم وأعمالهم هو أولا: أنهم موجودات مكرمون هم وسائط بينه تعالى وبين العالم المشهود فما من حادثة أو واقعة صغيرة أو كبيرة إلا وللملائكة فيها شأن وعليها ملك موكل أو ملائكة موكلون بحسب ما فيها من الجهة أو الجهات، وليس لهم في ذلك شأن إلا إجراء الامر الالهي في مجراه أو تقريره في مستقره كما قال تعالى: " لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " الانبياء: 27. وثانيا: أنهم لا يعصون الله فيما أمرهم به فليست لهم نفسية مستقلة ذات إرادت مستقلة تريد شيئا غير ما أراد الله سبحانه فلا يستقلون بعمل ولا يغيرون أمرا حملهم الله إياه بتحريف أو زيادة أو نقصان قال تعالى: " لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " التحريم: 6. وثالثا: أن الملائكة على كثرتهم على مراتب مختلفة علوا ودنوا فبعضهم فوق بعض وبعضهم دون بعض فمنهم آمر مطاع ومنهم مأمور مطيع لامره، والامر منهم آمر بأمر الله حامل له إلى المأمور والمأمور مأمور بأمر الله مطيع له، فليس لهم من أنفسهم شئ البتة قال تعالى: " وما منا إلا له مقام معلوم " الصافات: 164 وقال: " مطاع ثم أمين " التكوير: 21، وقال: " قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق " سبأ: 23. ورابعا: أنهم غير مغلوبين لانهم إنما يعملون بأمر الله وإرادته " وما كان الله ليعجزه من شئ في السماوات ولا في الارض " فاطر: 44، وقد قال الله: " والله غالب على

[ 13 ]

أمره " يوسف: 21، وقال: " إن الله بالغ أمره " الطلاق: 3. ومن هنا يظهر أن الملائكة موجودات منزهة في وجودهم عن المادة الجسمانية التي هي في معرض الزوال والفساد والتغير ومن شأنها الاستكمال التدريجي الذي تتوجه به إلى غايتها، وربما صادفت الموانع والافات فحرمت الغاية وبطلت دون البلوغ إليها. ومن هنا يظهر أن ما ورد في الروايات من صور الملائكة وأشكالهم وهيآتهم الجسمانية كما تقدم نبذة منها في البحث الروائي السابق إنما هو بيان تمثلاتهم وظهوراتهم للواصفين من الانبياء والائمة عليهم السلام، وليس من التصور والتشكل في شئ ففرق بين التمثل والتشكل فتمثل الملك إنسانا هو ظهوره لمن يشاهده في صورة الانسان فهو في ظرف المشاهدة والادراك ذو صورة الانسان وشكله وفي نفسه والخارج من ظرف الادراك ملك ذو صورة ملكية وهذا بخلاف التشكل والتصور فإنه لو تشكل بشكل الانسان وتصور بصورته صار إنسانا في نفسه من غير فرق بين ظرف الادراك والخارج عنه فهو إنسان في العين والذهن معا ؟ وقد تقدم كلام في معنى التمثل في تفسير سورة مريم. ولقد صدق الله سبحانه ما تقدم من معنى التمثل في قوله في قصة المسيح ومريم: " فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا " مريم: 17 وقد تقدم تفسيره. وأما ما شاع في الالسن أن الملك جسم لطيف يتشكل بأشكال مختلفة إلا الكلب والخنزير، والجن جسم لطيف يتشكل بأشكال مختلفة حتى الكلب والخنزير فمما لا دليل عليه من عقل ولا نقل من كتاب أو سنة معتبرة، وأما ما ادعاه بعضهم من إجماع المسلمين على ذلك فمضافا إلى منعه لا دليل على حجيته في أمثال هذه المسائل الاعتقادية. * * * ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم - 2. يا أيها الناس اذكروا

[ 14 ]

نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والارض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون - 3. وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الامور - 4. يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحيوة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور - 5. إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من اصحاب السعير - 6. الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير - 7. أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدى من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون - 8. (بيان) لما أشار إلى الملائكة وهم وسائط في وصول النعم إلى الخليقة أشار إلى نفس النعم إشارة كلية فذكر أن عامة النعم من الله سبحانه لا غير فهو الرازق لا يشاركه فيه أحد، ثم احتج بالرازقية على الربوبية ثم على المعاد وأن وعده تعالى بالبعث وعذاب الكافرين ومغفرة المؤمنين الصالحين حق، وفي الايات تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده " الخ المعنى أن ما يؤتيه الله الناس من النعمة وهو الرزق فلا مانع عنه

[ 15 ]

وما يمنع فلا مؤتى له فكان مقتضى الظاهر أن يقال: ما يرسل الله للناس الخ. كما عبر في الجملة الثانية بالارسال لكنه عدل عن الارسال إلى الفتح لما وقع مكررا في كلامه أن لرحمته خزائن كقوله: " أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب " ص: 9 وقوله: " قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لامسكتم خشية الانفاق " أسرى: 100 والتعبير بالفتح أنسب من الارسال في الخزائن ففيه إشارة إلى أن الرحمة التي يؤتاها الناس مخزونة في خزائن محيطة بالناس لا يتوقف نيلهم منها إلا إلى فتحها من غير مؤنة زائدة. وقد عبر عن الرزق الذي هو النعمة بالرحمة للدلالة على أن إفاضته تعالى لهذه النعم ناشئة من مجرد الرحمة من غير توقع لنفع يعود إليه أو كمال يستكمل به. وقوله: " وما يمسك فلا مرسل له من بعده " أي وما يمنع من الرحمة فلا مرسل له من دونه، وفي التعبير بقوله: " من بعده " إشارة إلى أنه تعالى أول في المنع كما أنه أول في الاعطاء. وقوله: " وهو العزيز الحكيم " تقرير للحكم المذكور في الاية الكريمة بالاسمين الكريمين فهو تعالى لكونه عزيزا لا يغلب إذا أعطى فليس لمانع أن يمنع عنه وإذا منع فليس لمعط أن يعطيه، وهو تعالى حكيم إذا أعطى أعطى عن حكمة ومصلحة وإذا منع منع عن حكمة ومصلحة وبالجملة لا معطي إلا الله ولا مانع إلا هو، ومنعه وإعطائه عن حكمة. قوله تعالى: " يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والارض " الخ. لما قرر في الاية السابقة أن الاعطاء والمنع لله سبحانه لا يشاركه في ذلك أحد احتج في هذه الاية بذلك على توحده في الربوبية. وتقرير الحجة أن الاله إنما يكون إلها معبودا لربوبيته وهي ملكه تدبير أمر الناس وغيرهم، والذي يملك تدبير الامر بهذه النعم التي يتقلب فيها الناس وغيرهم ويرتزقون بها هو الله سبحانه دون غيره من الالهة التي اتخذوها لانه سبحانه هو الذي خلقها دونهم والخلق لا ينفك عن التدبير ولا يفارقه فهو سبحانه إلهكم لا إله إلا هو لانه ربكم الذي يدبر أمركم بهذه النعم التي تتقلبون فيها وإنما كان ربا مدبرا بهذه النعم لانه

[ 16 ]

خالقها وخالق النظام الذي يجري عليها. وبذلك يظهر أن المراد بالناس المخاطبين الوثنيون و غيرهم ممن اتخذ لله شريكا. وقوله: " اذكروا نعمة الله عليكم " المراد بالذكر ما يقابل النسيان دون الذي الذكر اللفظي. وقوله: " هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والارض " الرزق هو ما يمد به البقاء ومبدؤه السماء بواسطة الاشعة والامطار وغيرهما والارض بواسطة النبات والحيوان وغيرهما. وبذلك يظهر أيضا أن في الاية إيجازا لطيفا فقد بدلت الرحمة في الاية السابقة نعمة في هذه الاية أولا ثم النعمة رزقا ثانيا وكان مقتضى سياق الايتين أن يقال: هل من رازق أو هل من منعم أو هل من راحم لكن بدل ذلك من قوله: " هل من خالق " ليكون إشارة إلى برهان ثان ينقطع به الخصام، فإنهم يرون تدبير العالم لالهتهم بإذن الله فلو قيل: هل من رازق أو منعم غير الله لم ينقطع الخصام وأمكن أن يقولوا نعم آلهتنا بتفويض التدبير من الله إليهم لكن لما قيل: " هل من خالق " أشير بالوصف إلى أن الرازق والمدبر هو خالق الرزق لا غير فانقطع الخصام ولم يمكنهم إلا أن يجيبوا بنفي خالق غير الله يرزقهم من السماء والارض. وقوله: " لا إله إلا هو " اعتراض بالتوحيد يفيد التعظيم نظير قوله: " وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه ". أي لا معبود بالحق إلا هو لان المستحق للعبادة هو الذي ينعم عليكم ويرزقكم وليس إلا الله. وقوله: " فأنى تؤفكون " توبيخ متفرع على ما سبق من البرهان أي فإذا كان الامر هكذا وأنتم تقرون بذلك فإلى متى تصرفون عن الحق إلى الباطل ومن التوحيد إلى الاشراك. وفي إعراب الاية أعني قوله: " هل من خالق غير الله " الخ. بين القوم مشاجرات طويلة والذي يناسب ما تقدم من تقرير البرهان أن " من " زائدة للتعميم، وقوله:

[ 17 ]

" غير الله " صفة لخالق تابع لمحله، وكذا قوله: " يرزقكم " الخ. و " من خالق " مبتدء محذوف الخبر وهو موجود، وقوله: " لا إله إلا هو " اعتراض، وقوله: " فأنى تؤفكون " تفريع على ما تقدمه. قوله تعالى: " وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الامور " تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أي وإن يكذبوك بعد استماع هذه البراهين الساطعة فلا تحزن فليس ذلك ببدع فقد كذبت رسل من قبلك كذبتهم إممهم وأقوامهم وإلى الله ترجع عامة الامور فيجازيهم بما يستحقونه بتكذيبهم الحق بعد ظهوره فليسوا بمعجزين بتكذيبهم. ومن هنا يظهر أن قوله ؟ " فقد كذبت رسل من قبلك " من قبيل وضع السبب موضع المسبب وأن قوله: " وإلى الله ترجع الامور " معطوف على قوله: " قد كذبت " الخ. قوله تعالى: " يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور خطاب عام للناس يذكرهم بالمعاد كما كان الخطاب العام السابق يذكرهم بتوحده تعالى في الربوبية والالولهية. فقوله: " إن وعد الله حق " أي وعده أنه يبعثكم فيجازي كل عامل بعمله إن خيرا وإن شرا حق أي ثابت واقع، وقد صرح بهذا الوعد في قوله الاتي: " الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير ". وقوله: " فلا تغرنكم الحياة الدنيا " النهي وإن كان متوجها إلى الحياة الدنيا صورة لكنه في الحقيقة متوجه إليهم، والمعنى إذا كان وعد الله حقا فلا تغتروا بالحياة الدنيا بالاشتغال بزينتها والتلهي بما ينسيكم يوم الحساب من ملاذها وملاهيها والاستغراق في طلبها والاعراض عن الحق. وقوله: " ولا يغرنكم بالله الغرور " الغرور بفتح الغين صيغة مبالغة من الغرور بالضم وهو الذي يبالغ في الغرور ومن عادته ذلك، والظاهر - كما قيل - أن المراد به الشيطان ويؤيده التعليل الواقع في الاية التالية " إن الشيطان لكم عدو " الخ. ومعنى غروره بالله توجيهه أنظارهم إلى مظاهر حلمه وعفوه تعالى تارة ومظاهر

[ 18 ]

ابتلائه واستدراجه وكيده أخرى فيرون أن الاشتغال بالدنيا ونسيان الاخرة والاعراض عن الحق والحقيقة لا يستعقب عقوبة ولا يستتبع مؤاخذة، وأن أبناء الدنيا كلما أمعنوا في طلبهم وتوغلوا في غفلتهم واستغرقوا في المعاصي والذنوب زادوا في عيشهم طيبا وفي حياتهم راحة وبين الناس جاها وعزة فيلقي الشيطان عند ذلك في قلوبهم أن لا كرامة إلا في التقدم في الحياة الدنيا، ولا خبر عما وراءها وليس ما تتضمنه الدعوة الحقة من الوعد والوعيد وتخبر به النبوة من البعث والحساب والجنة والنار إلا خرافة. فالمراد بغرور الشيطان الانسان بالله اغترار الانسان بما يعامل به الله الانسان على غفلته وظلمه. وربما قيل: إن المراد بالغرور الدنيا الغارة للانسان وإن قوله: " ولا يغرنكم بالله الغرور " تأكيد لقوله: فلا تغرنكم الحياة الدنيا " بتكراره معنى. قوله تعالى: " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا " الخ. تعليل للنهي المتقدم في قوله: " ولا يغرنكم بالله الغرور " والمراد بعداوة الشيطان أنه لا شأن له إلا إغواء الانسان وتحريمه سعادة الحياة وحسن العاقبة، والمراد باتخاذ الشيطان عدوا التجنب من اتباع دعوته إلى الباطل وعدم طاعته فيما يشير إليه في وساوسه وتسويلاته ولذلك علل عداوته بقوله: " إنما يدعو حزبه ". فقوله ؟ " إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير " في مقام تعليل ما تقدمه والحزب هو العدة من الناس يجمعهم غرض واحد، واللام في " ليكونوا " للتعليل فكونهم من أصحاب السعير علة غائية لدعوته، والسعير النار المسعرة وهو من أسماء جهنم في القرآن. قوله تعالى: " الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير " هذا هو الوعد الحق الذي ذكره الله سبحانه، وتنكير العذاب للدلاله على التفخيم على أن لهم دركات ومراتب مختلفة من العذاب باختلاف كفرهم وفسوقهم فالابهام أنسب و يجري نظير الوجهين في قوله: " مغفرة وأجر ". قوله تعالى: " أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء " تقرير وبيان للتقسيم الذي تتضمنه الاية السابقة أعني تقسيم الناس إلى كافر

[ 19 ]

له عذاب شديد ومؤمن عامل بالصالحات له مغفرة وأجر كبير والمراد أنهما لا يستويان فلا تستوي عاقبة أمرهما. فقوله: " أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا " مبتدء خبره محذوف أي كمن ليس كذلك، والفاء لتفريع الجملة على معنى الاية السابقة، والاستفهام للانكار، والمراد بمن زين له سوء عمله فرآه حسنا الكافر ويشير به إلى أنه منكوس فهمه مغلوب على عقله يرى عمله على غير ما هو عليه، والمعنى أنه لا يستوي من زين له عمله السيئ فرآه حسنا والذي ليس كذلك بل يرى السيئ سيئا. وقوله: " فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء " تعليل للانكار السابق في قوله: " أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا " أي الكافر الذي شأنه ذلك والمؤمن الذي بخلافه لا يستويان لان الله يضل أحدهما بمشيته وهو الكافر الذي يرى السيئة حسنة ويهدي الاخر بمشيته وهو المؤمن الذي يعمل الصالحات ويرى السيئة سيئة. وهذا الاضلال إضلال على سبيل المجازاة وليس إضلالا ابتدائيا فلا ضير في انتسابه إلى الله سبحانه. وبالجملة اختلاف الكافر والمؤمن في عاقبتهما بحسب الوعد الالهي بالعذاب والرحمة لاختلافهما بالاضلال والهداية الالهيين واختلافهما بالاضلال والهداية باختلافهما في رؤية السيئة حسنة وعدمها. وقوله: " فلا تذهب نفسك عليهم حسرات " الحسرات جمع حسرة وهي الغم لما فات والندم عليه، وهي منصوبة لانه مفعول لاجله والمراد بذهاب النفس عليهم هلاكها فيهم لاجل الحسرات الناشئة من عدم إيمانهم. والجملة متفرعة على الفرق السابق أي إذا كانت الطائفتان مختلفتين بالاضلال والهداية من جانب الله فلا تهلك نفسك حسرات عليهم إذ كذبوك وكفروا بك فإن الله هو الذي يضلهم جزاء لكفرهم ورؤيتهم السيئة حسنة وهو عليم بما يصنعون فلا يختلط عليه الامر ولا يفعل بهم إلا الحق ولا يجازيهم إلا بالحق. ومن هنا يظهر أن قوله: " إن الله عليم بما يصنعون " في موضع التعليل لقوله:

[ 20 ]

" فلا تذهب نفسك عليهم حسرات " فلا ينبغي للرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يهلك نفسه عليهم حسرات حيث ضلوا وحقت عليهم كلمة العذاب فإن الله هو الذي يضلهم لصنعهم وهو عليم بما يصنعون. * * * والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الارض بعد موتها كذلك النشور - 9. من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور - 10. والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير - 11. وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون - 12. يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير - 13. إن تدعوهم لا يسمعوا

[ 21 ]

دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير - 14. (بيان) احتجاجات على وحدانيته تعالى في ألوهيته بعد جملة من النعم السماوية والارضية التي يتنعم بها الانسان ولا خالق لها ولا مدبر لامرها إلا الله سبحانه، وفيها بعض الاشارة إلى البعث. قوله تعالى: " والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت " الخ. العناية في المقام بتحقق وقوع الامطار وإنبات النبات بها، ولذلك قال: " الله الذي أرسل الرياح " وهذا بخلاف ما في سورة الروم من قوله: " الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا " الروم: 48. وقوله: " فتثير سحابا " عطف على " أرسل " والضمير للرياح والاتيان بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية والاثارة إفعال من ثار الغبار يثور ثورانا إذا انتشر ساطعا. وقوله: " فسقناه إلى بلد ميت " أي إلى أرض لانبات فيها " فأحيينا به الارض بعد موتها " وأنبتنا فيها نباتا بعد ما لم تكن، ونسبة الاحياء إلى الارض وإن كانت مجازية لكن نسبته إلى النبات حقيقية وأعمال النبات من التغذية والنمو وتوليد المثل وما يتعلق بذلك أعمال حيوية تنبعث من أصل الحياة. ولذلك شبه البعث وإحياء الاموات بعد موتهم بإحياء الارض بعد موتها أي إنبات النبات بعد توقفه عن العمل وركوده في الشتاء فقال: " كذلك النشور " أي البعث فالنشور بسط الاموات يوم القيامة بعد إحيائهم وإخراجهم من القبور. وفي قوله: " فسقناه إلى بلد ميت " الخ. التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير فهو تعالى في قوله: " والله أرسل " بنعت الغيبة وفي قوله: " فسقناه " الخ. بنعت التكلم مع الغير ولعل النكتة في ذلك هي أنه لما قال: " والله أرسل الرياح " أخذ لنفسه نعت

[ 22 ]

الغيبة ويتبعه فيه الارسال فإن فعل الغائب غائب، ثم لما قال: " فتثير سحابا " على نحو حكاية الحال الماضية صار المخاطب كأنه يرى الفعل ويشاهد الرياح وهي تثير السحاب وتنشره في الجو فصار كأنه يرى من يرسل الرياح لان مشاهدة الفعل كادت أن لا تنفك عن مشاهدة الفاعل فلما ظهر تعالى بنعت الحضور غير سياق كلامه من الغيبة إلى التكلم واختار لفظ التكلم مع الغير للدلالة على العظمة. وقوله: " فأحيينا به الارض " ولم يقل: فأحييناه مع كفايته وكذا قوله: " بعد موتها " مع جواز الاكتفاء بما تقدمه للاخذ بصريح القول الذي لا ارتياب دونه. قوله تعالى: " من كان يريد العزة فلله العزة جميعا " قال الراغب في المفردات: العزة حالة مانعة للانسان من أن يغلب من قولهم: أرض عزاز أي صلبة قال تعالى: " أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا " انتهى. فالصلابة هو الاصل في معنى العزة ثم توسع فاستعمل العزيز فيمن يقهر ولا يقهر كقوله تعالى: " يا أيها العزيز مسنا " يوسف: 88. وكذا العزة بمعنى الغلبة قال تعالى: " وعزني في الخطاب " ص: 23 والعزة بمعنى القلة وصعوبة المنال، قال تعالى: " وإنه لكتاب عزيز " حم السجدة: 41 والعزة بمعنى مطلق الصعوبة قال تعالى: " عزيز عليه ما عنتم " التوبة: 138 و العزة بمعنى الانفة والحمية قال تعالى: " بل الذين كفروا في عزة وشقاق " ص: 2 إلى غيرذلك. ثم إن العزة بمعنى كون الشئ قاهرا غير مقهور أو غالبا غير مغلوب تختص بحقيقة معناها بالله عز وجل إذ غيره تعالى فقير في ذاته ذليل في نفسه لا يملك لنفسه شيئا إلا أن يرحمه الله ويؤتيه شيئا من العزة كما فعل ذلك بالمؤمنين به قال تعالى: " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " المنافقون: 8. وبذلك يظهر أن قوله: " من كان يريد العزة فلله العزة جميعا " ليس بمسوق لبيان اختصاص العزة بالله بحيث لا ينالها غيره وأن من أرادها فقد طلب محالا وأراد ما لا يكون بل المعنى من كان يريد العزة فليطلبها منه تعالى لان العزة له جميعا لا توجد عند غيره بالذات. فوضع قوله: " فلله العزة جميعا " في جزاء الشرط من قبيل وضع السبب موضع

[ 23 ]

المسبب وهو طلبها من عنده أي اكتسابها منه بالعبودية التي لا تحصل إلا بالايمان والعمل الصالح. قوله تعالى: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " الكلم - كما قيل - اسم جنس جمعي يذكر ويؤنث، وقال في المجمع: والكلم جمع كلمة يقال ؟ هذا كلم وهذه كلم فيذكر ويؤنث، وكل جمع ليس بينه وبين واحدة إلا الهاء يجوز فيه التذكير والتأنيث انتهى. والمراد بالكلم على أي حال ما يفيد معنى تاما كلاميا ويشهد به توصيفه بالطيب فطيب الكلم هو ملاءمته لنفس سامعه ومتكلمه بحيث تنبسط منه وتستلذه وتستكمل به وذلك إنما يكون بإفادته معنى حقا فيه سعادة النفس وفلاحها. وبذلك يظهر أن المراد به ليس مجرد اللفظ بل بما أن له معنى طيبا فالمراد به الاعتقادات الحقة التي يسعد الانسان بالاذعان لها وبناء عمله عليها والمتيقن منها كلمة التوحيد التي يرجع إليها سائر الاعتقادات الحقة وهي المشمولة لقوله تعالى: " ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها " إبراهيم: 25 وتسمية الاعتقاد قولا وكلمة أمر شائع بينهم. وصعود الكلم الطيب إليه تعالى هو تقربه منه تعالى اعتلاء وهو العلي الاعلى رفيع الدرجات، وإذ كان اعتقادا قائما بمعتقده فتقربه منه تعالى تقرب المعتقد به منه، وقد فسروا صعود الكلم الطيب بقبوله تعالى له وهو من لوازم المعنى. ثم أن الاعتقاد والايمان إذا كان حق الاعتقاد صادقا إلى نفسه صدقه العمل ولم يكذبه أي يصدر عنه العمل على طبقه فالعمل من فروع العلم وآثاره التي لا تنفك عنه، وكلما تكرر العمل زاد الاعتقاد رسوخا وجلاء وقوي في تأثيره فالعمل الصالح وهو العمل الحري بالقبول الذي طبع عليه بذل العبودية والاخلاص لوجهه الكريم يعين الاعتقاد الحق في ترتب أثره عليه وهو الصعود إليه تعالى وهو المعزي إليه بالرفع فالعمل الصالح يرفع الكلم الطيب. فقد تبين بما مر معنى قوله: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " وأن ضمير " إليه " لله سبحانه والمراد بالكلم الطيب الاعتقاد الحق كالتوحيد، وبصعوده

[ 24 ]

تقربه منه تعالى، وبالعمل الصالح ما كان على طبق الاعتقاد الحق ويلائمه وأن الفاعل في " يرفعه " ضمير مستكن راجع إلى العمل الصالح وضمير المفعول راجع إلى الكلم الطيب. ولهم في الاية أقوال أخر: فقد قيل: إن المراد بصعود الكلم الطيب قبوله والاثابة عليه كما تقدمت الاشارة إليه، وقيل: المراد صعود الملائكة بما كتب من الايمان والطاعات إلى الله سبحانه، وقيل: المراد صعودهم به إلى السماء فسمي الصعود إلى السماء صعودا إلى الله مجازا. وقيل: إن فاعل " يرفعه " ضمير عائد إلى الكلم الطيب وضمير المفعول للعمل الصالح والمعنى أن الكلم الطيب يرفع العمل الصالح أي أن العمل الصالح لا ينفع إلا إذا صدر عن التوحيد، وقيل: فاعل " يرفعه " ضمير مستكن راجع إليه تعالى والمعنى العمل الصالح يرفعه الله. وجملة هذه الوجوه لا تخلو من بعد والاسبق إلى الذهن ما قدمناه من المعنى. قوله تعالى: " والذين يمكرون السيآت لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور " ذكروا أن " السيآت " وصف قائم مقام موصوف محذوف وهو المكرات، ووضع اسم الاشارة موضع الضمير في " مكر أولئك " للدلالة على أنهم متعينون لا مختلطون بغيرهم والمعنى والذين يمكرون المكرات السيآت لهم عذاب شديد ومكر أولئك الماكرين هو يبور ويهلك فلا يستعقب أثرا حيا فيه سعادتهم وعزتهم. وقد بان أن المراد بالسيآت أنواع المكرات والحيل التي يتخذها المشركون وسائل لكسب العزة، والاية مطلقة، وقيل: المراد المكرات التي اتخذتها قريش على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دار الندوة وغيرها من إثبات أو إخراج أو قتل فرد الله كيدهم إليهم وأخرجهم إلى بدر وقتلهم وأثبتهم في القليب فجمع عليهم الاثبات والاخراج والقتل وهذا وجه حسن لكن الاية مطلقة. ووجه اتصال ذيل الاية بصدرها أعني اتصال قوله: " إليه يصعد " إلى آخر الاية بقوله: " من كان يريد العزة فلله العزة جميعا " أن المشركين كانوا يعتزون بآلهتهم كما قال تعالى: " واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا " مريم: 81 فدعاهم الله سبحانه وهم يطلبون العز إلى نفسه بتذكيرهم أن العزة لله جميعا وبين تعالى ذلك بأن

[ 25 ]

توحيده يصعد إليه والعمل الصالح يرفعه فيكتسب الانسان بالتقرب منه عزة من منبع العزة وأما الذين يمكرون كل مكر سيئ لاكتساب العزة فلهم عذاب شديد وما مكروه من المكر بائر هالك لا يصعد إلى محل ولا يكسب لهم عزا. قوله تعالى: " والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا " الخ. يشير تعالى إلى خلق الانسان فابتدء خلقه من تراب وهو المبدء البعيد الذي تنتهي إليه الخلقة ثم من نطفة وهي مبدء قريب تتعلق به الخلقة. وقيل المراد بخلقهم من تراب خلق أبيهم آدم من تراب فإن الشئ يضاف إلى أصله وقيل: بل المراد خلق آدم نفسه وقيل: بل المراد خلقهم خلقا إجماليا من تراب في ضمن خلق آدم من تراب والخلق التفصيلي هو من نطفة كما قال: ثم من نطفة. والفرق بين الوجوه الثلاثة أن في الاول نسبة الخلق من تراب إليهم على طريق المجاز العقلي، وفي الثاني المراد بخلقهم خلق آدم ولا مجاز في النسبة، وفي الثالث المراد خلق كل واحد من الافراد من التراب حقيقة من غير مجاز إلا أنه خلق إجمالي لا تفصيلي وبهذا يفارق ما قدمناه من الوجه. ويمكن تأييد القول الاول بقوله تعالى: " خلق الانسان من صلصال كالفخار " الرحمن: 14، والثاني بنحو قوله: " وبدء خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين " السجدة: 8، والثالث بقوله: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لادم " الاعراف: 11 ولكل وجه. وقوله: " ثم جعلكم أزواجا " أي ذكورا وإناثا، وقيل: أي قدر بينكم الزوجية وزوج بعضكم من بعض، وهو كما ترى، وقيل: أي أصنافا وشعوبا. وهو كسابقه. وقوله: " وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه " من زائدة لتأكيد النفي، والباء في " بعلمه " للمصاحبة وهو حال من الحمل والوضع، والمعنى ما تحمل ولا تضع أنثى إلا وعلمه يصاحب حمله ووضعه، وذكر بعضهم أنه حال من الفاعل وأن كونه حالا من الحمل والوضع وكذا من مفعوليهما أي المحمول والموضوع خلاف الظاهر وهو ممنوع.

[ 26 ]

وقوله: " وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب " أي وما يمد ويزاد في عمر أحد فيكون معمرا ولا ينقص من عمره أي عمر أحد إلا في كتاب. فقوله: " وما يعمر من معمر " من قبيل قوله: " إني أراني أعصر خمرا " يوسف: 26 فوضع معمر موضع نائب الفاعل وهو أحد بعناية أنه بعد تعلق التعمير به يصير معمرا وإلا فتعمير المعمر لا معنى له. وقوله: " ولا ينقص من عمره " الضمير في " عمره " راجع إلى " معمر " باعتبار موصوفه المحذوف وهو أحد والمعنى ولا ينقص من عمر أحد وإلا فنقص عمر المفروض معمرا تناقض خارق للفرض. وقوله: " إلا في كتاب " وهو اللوح المحفوظ الذي لا سبيل للتغيير إليه فقد كتب فيه أن فلانا يزاد في عمره كذا لسبب كذا وفلانا ينقص من عمره كذا لسبب كذا وأما كتاب المحو والاثبات فهو مورد التغير وسياق الاية يفيد وصف العلم الثابت ولهم في قوله: " وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره " وجوه أخر ضعيفة لا جدوى في التعرض لها. وقوله: " إن ذلك على الله يسير " تعليل وتقرير لما في الاية من وصف خلق الانسان وكيفية إحداثه إبقائه والمعنى أن هذا التدبير الدقيق المتين المهيمن على كليات الحوادث وجزئياتها المقرر كل شئ في مقره على الله يسير لانه الله العليم القدير المحيط بكل شئ بعلمه وقدرته فهو تعالى رب الانسان كما أنه رب كل شئ. قوله تعالى: " وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج " إلى آخر الاية قيل: العذب من الماء طيبه، والفرات الماء الذي يكسر العطش أو البارد كما في المجمع، والسائغ هو الذي يسهل انحداره في الحلق لعذوبته والاجاج الذي يحرق لملوحته أو المر. وقوله: " ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها " اللحم الطري الغض الجديد، والمراد لحم السمك أو السمك والطير البحري، والحلية المستخرجة من البحر اللؤلؤ والمرجان والاصداف قال تعالى: " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " الرحمان: 22. وفي الاية تمثيل للمؤمن والكافر بالبحر العذب والمالح يتبين به عدم تساوي المؤمن

[ 27 ]

والكافر في الكمال الفطري وإن تشاركا في غالب الخواص الانسانية وآثارها فالمؤمن باق على فطرته الاصلية ينال بها سعادة الحياة الدائمة والكافر منحرف فيها متلبس بما لا تستطيبه الفطرة الانسانية وسيعذب بأعماله فمثلهما مثل البحرين المختلفين عذوبة وملوحة فهما مختلفان من حيث البقاء على فطرة الماء الاصلية وهي العذوبة والخروج عنها بالملوحة وإن اشتركا في بعض الاثار التي ينتفع بها، فمن كل منهما تأكلون لحما طريا وهو لحم السمك والطير المصطاد من البحر وتستخرجون حلية تلبسونها كاللؤلؤ والمرجان والاصداف. فظاهر الاية أن الحلية المستخرجة مشتركة بين البحر العذب والبحر المالح لكن جمعا من المفسرين استشكلوا ذلك بأن اللؤلؤ والمرجان إنما يستخرجان من البحر المالح دون العذب، وقد أجابوا عنه بأجوبة مختلفة. منها أن الاية مسوقة لبيان اشتراك البحرين في مطلق الفائدة وإن اختص ببعضها كأنه قيل: ومن كل تنتفعون وتستفيدون كما تأكلون منهما لحما طريا وتستخرجون من البحر المالح حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر. ومنها أنه شبه المؤمن والكافر بالعذب والاجاج ثم فضل الاجاج على الكافر بأن في الاجاج بعض النفع والكافر لا نفع في وجوده فالاية على طريقة قوله تعالى: " ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة " ثم قال: " وإن من الحجارة لما يتفجر منه الانهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله " البقرة: 74. ومنها أن قوله: " وتستخرجون حلية تلبسونها " من تتمة التمثيل على معنى أن البحرين وإن اشتركا في بعض المنافع تفاوتا فيما هو المقصود بالذات لان أحدهما خالطه ما خرج به عن صفاء فطرته والمؤمن والكافر وإن اتفقا أحيانا في بعض المكارم كالشجاعة والسخاوة متفاوتان فيما هو الاصل لبقاء أحدهما على صفاء الفطرة الاصلية دون الاخر. ومنها أنه لا مانع من أن يخرج اللؤلؤ من المياه العذبة وإن لم نره فالاشكال باختصاص الحلية بالماء المالح ممنوع. ومنها منع أصل الدعوى وهو كون الاية " وما يستوي البحران " الخ. تمثيلا

[ 28 ]

للمؤمن والكافر بل هي واقعة في سياق تعداد النعم لاثبات الربوبية كقوله قبلا: " والله الذي أرسل الرياح " وقوله بعدا: " يولج الليل في النهار " الخ. فالاية مسوقة لبيان نعمة البحر واختلافه بالعذوبة والملوحة وما فيهما من المنافع المشتركة والمختصة. ويؤيد هذا الوجه أن نظير الاية في سورة النحل واقعة في سياق الايات العادة لنعم الله سبحانه وهو قوله: " وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون " النحل: 14. والحق أن أصل الاستشكال في غير محله وأن البحرين يشتركان في وجود الحلية فيهما كما هو مذكور في الكتب الباحثة عن هذه الشؤون مشروح فيها (1). قوله تعالى: " وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون " ضمير " فيه " للبحر، ومواخر جمع ماخرة من المخر بمعنى الشق عدت السفينة ماخرة لشقها الماء بجؤجئتها. قيل: إنما أفرد ضمير الخطاب في قوله: " ترى " بخلاف الخطابات المتقدمة والمتأخرة لان الخطاب لكل أحد يتأتى منه الرؤية دون المنتفعين بالبحرين فقط. وقوله: " لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون " أي مخر الفلك البحر بتسخيره لتطلبوا من عطائه وهو الرزق ورجاء أن تشكروا الله سبحانه، وقد تقدم أن الترجي الذي تفيده " لعل " في كلامه تعالى قائم بالمقام دون المتكلم. وقد قيل في هذه الاية: " وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله " وفي سورة النحل: " وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله " فاختلفت الايتان في تقديم " فيه " على " مواخر " وتأخيره منه وعطف " لتبتغوا " وعدمه. ولعل النكتة في ذلك أن آية النحل مصدرة بكلمة التسخير فهي مسوقة لبيان كيفية التسخير والانسب لذلك تأخير " فيه " ليتعلق بمواخر ويشير إلى مخر البحر (1)


وقد ذكر وجود الحلية في الماء العذب في مادة صدف من دائرة المعارف للبستاني وذكر أيضا في آمريكانا Eneyclo Poedia وبريطانيا Encyclo Poedia وجودها فيه وسميت عدة من الانهار العذبة في أمريكا واوروبا وآسيا يستخرج منها اللؤؤ.

[ 29 ]

فيصرح بالتسخير بخلاف ما ههنا ثم التسخير له غايات كثيرة منها ابتغاء الفضل والانسب لذلك عطف " لتبتغوا " على محذوف ليدل على عدم انحصار الغاية في ابتغاء الفضل بخلاف ما ههنا فإن الغرض بيان أنه الرازق المدبر ليرتدع المكذبون - وقد تقدم ذكر تكذيبهم - عن تكذيبهم ويكفي في ذلك بيان ابتغائهم الفضل غاية من غير حاجة إلى العطف. والله أعلم. وقال في روح المعاني في المقام: والذي يظهر لي في ذلك أن آية النحل سيقت لتعداد النعم كما يؤذن بذلك سوابقها ولواحقها وتعقيب الايات بقوله سبحانه: " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " فكان الاهم هناك تقديم ما هو نعمة وهو مخر الفلك للماء بخلاف ما هنا فإنه إنما سيق استطرادا أو تتمة للتمثيل كما علمت آنفا فقدم فيه " فيه " إيذانا بأنه ليس المقصود بالذات ذلك، وكان الاهتمام بما هناك اقتضى أن يقال في تلك الاية: " ولتبتغوا " بالواو ومخالفة ما هنا لذلك اقتضت ترك الواو في قوله: " لتبتغوا " انتهى. قوله تعالى: " يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى " الخ. إيلاج الليل في النهار قصر النهار بطول الليل وإيلاج النهار في الليل قصر الليل بطول النهار، والمراد بالجملتين الاشارة إلى اختلاف الليل والنهار في الطول والقصر المستمر في أيام السنة بتغير الايام ولذا عبر بقوله: " يولج " الدال على استمرار التغيير بخلاف جريان الشمس والقمر فإنه ثابت على حاله ولذا عبر فيه بقوله: " وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى " والعناية صورية مسامحية. وقوله: " ذلكم الله ربكم " بمنزلة النتيجة لما تقدم أي إذا كان أمر خلقكم وتدبيركم برا وبحرا وأرضا وسماء منتسبا إليه مدبرا بتدبيره فذلكم الله ربكم الذي يملككم ويدبر أمركم. وقوله: " له الملك " مستنتج مما قبله وتوطئة وتمهيد لما بعده من قوله: " والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ". وقوله: " والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير " القطمير على ما قاله الراغب الاثر على رأس النواة وذلك مثل للشئ الطفيف، وفي المجمع: القطمير لفافة النواة وقيل: الحبة في بطن النواة انتهى والكلام على أي حال مبالغة في نفي أصل الملك

[ 30 ]

والمراد بالذين تدعون من دون الله آلهتهم الذين كانوا يدعونها من الاصنام وأربابها. قوله تعالى: " إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم " الخ. بيان وتقرير لما تقدم من قوله: " والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير " أي تصديق كونهم لا يملكون شيئا أنكم إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم لان الاصنام جمادات لا شعور لها ولا حس وأرباب الاصنام كالملائكة والقديسين من البشر في شغل شاغل من ذلك على أنهم لا يملكون سمعا من عند أنفسهم فلا يسمعون إلا بإسماعه. وقوله: " ولو سمعوا ما استجابوا لكم " إذ لا قدرة لهم على الاستجابة قولا ولا فعلا أما الاصنام فظاهر وأما أرباب الاصنام فقدرتهم من الله سبحانه ولن يأذن الله لاحد أن يستجيب أحدا يدعوه بالربوبية قال تعالى: " لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا " النساء: 172. وقوله: " ويوم القيامة يكفرون بشرككم " أي يردون عبادتكم إليكم ويتبرؤن منكم بدلا من أن يكونوا شفعاء لكم " إذ تبرء الذين اتبعوا من الذين اتبعوا " البقرة: 166. فالاية في نفي الاستجابة وكفر الشركاء يوم القيامة في معنى قوله: " ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم (؟) غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين " الاحقاف 6. وقوله: " ولا ينبئك مثل خبير " أي لا يخبرك عن حقيقة الامر مخبر مثل مخبر خبير وهو خطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الاعراض عن خطابهم لعدم تفقههم بالبيان الحق أو خطاب عام في صورة الخطاب الخاص خوطب به السامع أي من كان كقوله: " وترى الفلك فيه مواخر " الاية السابقة، وقوله: " وترى الشمس إذا طلعت " الاية الكهف: 17، وقوله: " وتحسبهم أيقاظا وهم رقود " الكهف: 18. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " كذلك النشور " حدثني أبي عن ابن أبي عمير

[ 31 ]

عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا أراد الله أن يبعث الخلق أمطر السماء على الارض أربعين صباحا فاجتمعت الاوصال ونبتت اللحوم. أقول: وفي هذا المعنى عدة روايات أخر. وفي الدر المنثور أخرج الطيالسي وأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الاسماء والصفات عن أبي رزين العقيلي قال: قلت: يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى ؟ قال: أما مررت بأرض مجدبة ثم مررت بها مخصبة تهتز خضراء ؟ قال: بلى. قال: كذلك يحيي الله الموتى وكذلك النشور. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن لكل قول مصداقا من عمل يصدقه أو يكذبه فإذا قال ابن آدم وصدق قوله بعمله رفع قوله بعمله إلى الله، وإذا قال وخالف عمله قوله رد قوله على عمله الخبيث وهوى به في النار. وفي التوحيد بإسناده عن زيد بن علي عن أبيه عليه السلام في حديث قال: وإن لله تبارك وتعالى بقاعا في سماواته فمن عرج به إلى بقعة منها فقد عرج به إليه. ألا تسمع الله عز وجل يقول: " تعرج الملائكة والروح إليه " ويقول في قصة عيسى بن مريم عليهما السلام " بل رفعه الله " ويقول عز وجل: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ". أقول: وعن الفقيه مثله. وفي نهج البلاغة: ولو لا إقرارهن (1) له بالربوبية وإذعانهن له بالطواعية (2) لما جعلهن موضعا لعرشه ولا مسكنا لملائكته ولا مصعدا للكلم الطيب والعمل الصالح من خلقه. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج " الاجاج المر. وفيه في قوله: " والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير " قال: الجلدة الرقيقة التي على ظهر النوى. (1)


الضمير للسماوات. (2) الطاعة.

[ 32 ]

يا أيها الناس انتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد - 15. إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد - 16. وما ذلك على الله بعزيز - 17. ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيئ ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلوة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير - 18. وما يستوي الاعمى والبصير - 19. ولا الظلمات ولا النور - 20. ولا الظل ولا الحرور - 21. وما يستوي الاحياء ولا الاموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور - 22. إن أنت إلا نذير - 23. إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير - 24. وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات والزبر وبالكتاب المنير - 25. ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير - 26. (بيان) لما بين لهم أن الخلق والتدبير إليه تعالى فهو ربهم له الملك دون الذين يدعون من دونه فهم لا يملكون شيئا حتى يقوموا بتدبيره، أخذ يبين ذلك ببيان آخر مشوب

[ 33 ]

بالوعيد والتهديد وهو أنه تعالى غني عنهم وهم فقراء إليه فله أن يذهبهم ويأت بخلق جديد إن شاء جزاء بما كسبوا. ثم وجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما حاصله أن هذه المؤاخذة والاهلاك لا يشمل إلا هؤلاء المكذبين دون المؤمنين الذين يؤثر فيهم إنذار النبي عليه السلام فبينهما فرق ظاهر وهو صلى الله عليه وآله وسلم نذير كالنذر الماضين وحاله كحال من قبله من المنذرين وإن يكذبوه فقد كذبت الانبياء الماضين مكذبوا أممهم فأخذهم الله أخذا شديدا وسيأخذ المكذبين من هذه الامة. قوله تعالى: " يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد " لا ريب أن في الاية نوع تمهيد بالنسبة إلى الايتين التاليتين يتبين بها مضمونهما وهي مع ذلك مستقلة في مفادها. بيان ذلك: أن السياق يشعر بأن أعمال هؤلاء المكذبين كانت تكشف عن أنهم كانوا يتوهمون أن لهم أن يستغنوا عن الله سبحانه بعبادة آلهتهم وأن لله إليهم حاجة ولذلك يدعوهم إلى نفسه بالدعوة الالهية التي يقوم بها رسله فهناك غنى وفقر ولهم نصيب من الغنى ولله نصيب من الفقر تعالى عن ذلك. فرد الله سبحانه زعمهم ذلك بقوله: " يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني " فقصر الفقر فيهم وقصر الغنى فيه سبحانه فكل الفقر فيهم وكل الغنى فيه سبحانه، وإذ كان الغنى والفقر وهما الوجدان والفقدان متقابلين لا يرتفعان عن موضوعهما كان لازم القصر السابق قصر آخر وهو قصرهم في الفقر وقصره تعالى في الغنى فليس لهم إلا الفقر وليس له تعالى إلا الغنى. فالله سبحانه غني بالذات له أن يذهبهم ويستغنى عنهم وهم فقراء بالذات ليس لهم أن يستغنوا عنه بغيره. والملاك في غناه تعالى عنهم وفقرهم أنه تعالى خالقهم ومدبر أمرهم وإليه الاشارة بأخذ لفظ الجلالة في بيان فقرهم وبيان غناه، والاشارة إلى الخلق والتدبير في قوله: " إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد " وكذا توصيفه تعالى بالحميد وهو المحمود في فعله

[ 34 ]

الذي هو خلقه وتدبيره. فيعود معنى الكلام إلى نحو من قولنا: يا أيها الناس أنتم بما أنكم مخلوقون مدبرون لله الفقراء إلى الله فيكم كل الفقر والحاجة والله بما أنه الخالق المدبر، الغني لا غنى سواه. وعلى هذا لا ضير في قصر الفقر في الناس سواء أريد به المكذبون خاصة أو عامة الناس مع كون غيرهم من المخلوقات فقراء إلى الله كمثلهم وذلك أن عموم علة الحكم يعمم الحكم فكأنه قيل: أنتم معاشر الخليقة الفقراء إلى خالقكم المدبر لامركم وهو الغني الحميد. وقد أجيب عن إشكال قصر الفقر في الناس مع عمومه لغيرهم بوجوه من الجواب: منها أن في قصر الفقر في الناس مبالغة في فقرهم كأنهم لكثرة افتقارهم وشدة احتياجهم هم الفقراء فحسب وأن افتقار سائر الخلائق بالنسبة إلى فقرهم بمنزلة العدم ولذلك قال تعالى: " خلق الانسان ضعيفا " ولا يرد الجن لانهم لا يحتاجون في المطعم والملبس وغيرهما كما يحتاج الانسان. ومنها أن المراد الناس وغيرهم وهو على طريقة تغليب الحاضر على الغائب وأولي العلم على غيرهم. ومنها أن الوجه حمل اللام في الناس على العهد وفي الفقراء على الجنس لان المخاطبين في الاية هم الذين خوطبوا في قوله: " ذلكم الله ربكم له الملك " الاية أي ذلكم المعبود هو الذي وصف بصفات الجلال لا الذين تدعون من دونه وأنتم أشد الخلائق احتياجا إليه. ومنها أن القصر إضافي بالنسبة إليه تعالى لا حقيقي. وغير خفي عليك أن مفاد الاية وسياقها لا يلائم شيئا من هذه الاجوبة نعم يمكن توجيه الجواب الاخير بما يرجع إلى ما قدمناه من الوجه. و تذييل الاية بصفة الحميد للاشارة إلى أنه غني محمود الافعال إن أعطى وإن منع لانه إذا أعطى لم يعطه لبدل لغناه عن الجزاء والشكر وكل بدل مفروض وإن منع لم يتوجه إليه لائمة إذ لا حق لاحد عليه ولا يملك منه شئ. قوله تعالى: " إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز " أي

[ 35 ]

إن يرد إذهابكم يذهبكم أيها الناس لانه غني عنكم لا يستضر بذهابكم ويأت بخلق جديد يحمدونه و يثنون عليه لا لحاجة منه إليهم بل لانه حميد ومقتضاه أن يجود فيحمد وليس ذلك على الله بصعب لقدرته المطلقة لانه الله عز اسمه. فقد بان أن مضمون الاية متفرعة على مضمون الاية السابقة فقوله: " إن يشأ يذهبكم " متفرع على كونه تعالى غنيا، وقوله: " ويأت بخلق جديد " متفرع على كونه تعالى حميدا، وقد فرع مضمون الجملتين في موضع آخر على غناه ورحمته قال تعالى: " وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء " الانعام: 133. قوله تعالى: " ولا تزر وازرة وزر أخرى " الخ. قال الراغب: الوزر - بفتحتين - الملجأ الذي يلتجأ إليه من الجبل، قال تعالى: " كلا لا وزر " والوزر - بالكسر فالسكون - الثقل تشبيها بوزر الجبل، ويعبر به عن الاثم كما يعبر عنه بالثقل قال تعالى: " ليحملوا أوزارهم كاملة " الاية كقوله: " ليحملوا أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ". انتهى فالمعنى لا تحمل نفس حاملة للاثم إثم نفس أخرى ولازم ذلك أن لا تؤاخذ نفس إلا بما حملت من إثم نفسها واكتسبته من الوزر. والاية كأنها دفع دخل يشعر به آخرها كأنه لما قال: إن يشأ يذهبكم ويأت بآخرين، فهددهم بالاهلاك و الافناء، قيل: هؤلاء المكذبون أخذوا بوزرهم فما حال المؤمنين ؟ أيؤخذون بوزر غيرهم ؟ فاجيب أن لا تزور وازرة وزر أخرى ولا تحمل نفس حمل غيرها الذي أثقلها وإن كانت ذات قربى. فهؤلاء المكذبون هم المعنيون بالتهديد ولا تنفع فيهم دعوتك وإنذارك لانهم مطبوع على قلوبهم، وإنما ينفع إنذارك الذين يخشون ربهم بالغيب ويقيمون الصلاه والفريقان لا يستويان لان مثلهم مثل الاعمى والبصير، والظلمات والنور، والظل والحرور، والاحياء والاموات. فقوله: " ولا تزر وازرة وزر أخرى " أي لا تحمل نفس حاملة للوزر والاثم إثم نفس أخرى حاملة. وقوله: " وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شئ ولو كان ذا قربى " أي

[ 36 ]

وإن تدع نفس مثقلة أثقلها حملها من الاثم غيرها إلى ما حملته من الاثم ليحمله عنها لا يستجاب لها ولا يحمل من حملها شئ ولو كان المدعو ذا قربى للداعي كالاب والام والاخ والاخت. وقوله: " إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة " أي هؤلاء المكذبون لا ينتفعون بالانذار ولا تتحقق معهم حقيقة الانذار لانهم مطبوع على قلوبهم إنما تنذر وينفع إنذارك الذين يخشون ربهم بالغيب ويقيمون الصلاة التي هي أفضل العبادات وأهمها وبالجملة يؤمنون بالله ويعبدونه أي الذين يخشون ربهم بالغيب ويقيمون الصلاة إثر إنذارك لا أنهم يخشون ربهم ويصلون ثم ينذرون بعد ذلك حتى يلزم تحصيل الحاصل فالاية كقوله: " إني أراني أعصر خمرا " يوسف: 36. وقوله: " ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه " بدل الخشية وإقامة الصلاة من التزكي للاشارة إلى أن المطلوب بالدعوة والانذار هو التزكي وتزكية النفس تلبسها بالخشية من الله على الغيب وإقامة الصلاة. وفيه تقرير وتأكيد لما تقدم من كونه تعالى غنيا حميدا فهو تعالى لا ينتفع بما يدعو إليه من التزكي بل الذي تزكى فإنما يتزكى لنفع نفسه. وقد ختم الاية بقوله: " وإلى الله المصير " للدلالة على أن تزكية من تزكى لا يذهب سدى، فإن كلا من الفريقين صائرون إلى ربهم لا محالة وهو يحاسبهم ويجازيهم فيجازي هؤلاء المتزكين أحسن الجزاء. قوله تعالى: " وما يستوي الاعمى والبصير " الظاهر أنه عطف على قوله: " وإلى الله المصير " تعليل في صورة التمثيل لعدم مساواة هؤلاء المتزكين لاولئك المكذبين، وقيل: عطف على قوله السابق: " وما يستوي البحران ". قوله تعالى: " ولا الظلمات ولا النور " تكرار حروف النفي مرة بعد مرة في الاية وما يليها لتأكيد النفي. قوله تعالى: " ولا الظل ولا الحرور " الحرور شدة حر الشمس على ما قيل وقيل: هو السموم وقيل: السموم يهب نهارا والحرور يهب ليلا ونهارا.

[ 37 ]

قوله تعالى: " وما يستوي الاحياء ولا الاموات " إلى آخر الاية عطف على قوله: " وما يستوي الاعمى والبصير " وإنما كرر قوله: " ما يستوي " ولم يعطف " الاحياء ولا الاموات " على قوله: " الاعمى والبصير " كرابعته لطول الفصل فاعيد " ما يستوي " لئلا يغيب المعنى عن ذهن السامع فهو كقوله: " كيف يكون للمشركين عهد عند الله ورسوله - إلى أن قال - كيف وإن يظهروا عليكم " الخ. التوبة: 8. والجمل المتوالية المترتبة أعني قوله: " وما يستوي الاعمى والبصير - إلى قوله - وما يستوي الاحياء ولا الاموات " تمثيلات للمؤمن والكافر وتبعات أعمالهما. و قوله: " إن الله يسمع من يشاء " وهو المؤمن كان ميتا فأحياه الله فأسمعه لما في نفسه من الاستعداد لذلك قال تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا " الانعام: 122، وأما النبي عليه السلام فإنما هو وسيلة والهدى هدى الله. وقوله: " وما أنت بمسمع من في القبور " أي الاموات والمراد بهم الكفار المطبوع على قلوبهم. قوله تعالى: " إن أنت إلا نذير " قصر إضافي أي ليس لك إلا إنذارهم وأما هداية من اهتدى منهم وإضلال من ضل ولم يهتد جزاء له بسيئ عمله فإنما ذلك لله سبحانه. ولم يذكر البشير مع النذير مع كونه صلى الله عليه وآله وسلم متلبسا بالوصفين معا لان المقام مقام الانذار فالمناسب هو التعرض لوصف الانذار مع أنه مذكور في الاية التالية. قوله تعالى: " إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير " المفاد على ما يقتضيه السياق إنا أرسلناك بالتبشير والانذار وليس ببدع مستغرب فما من أمة من الامم إلا وقد خلا ومضى فيها نذير فذلك من سنن الله الجارية في خلقه. وظاهر السياق أن المراد بالنذير الرسول المبعوث من عند الله وفسر بعضهم النذير بمطلق من يقوم بالعظة والانذار من نبي أو عالم غير نبي وهو خلاف ظاهر الاية. نعم ليس من الواجب أن يكون نذير كل أمة من أفرادها فقد قال تعالى: " خلا فيها " ولم يقل: " خلا منها ". قوله تعالى: " وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات

[ 38 ]

وبالزبر وبالكتاب المنير " البينات هي الايات المعجزة التي تشهد على حقية الرسل، والزبر جمع زبور ولعل المراد بها بقرينة مقابلتها للكتاب الصحائف والكتب التي فيها ذكر الله تعالى من غير أن تتضمن الاحكام والشرائع، والكتاب المنير الكتاب المنزل من السماء المتضمن للشرائع ككتاب نوح وإبراهيم وتوراة موسى وإنجيل عيسى عليهم السلام، ومعنى الاية ظاهر. قوله تعالى: " ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير " الاخذ كناية عن التعذيب، والنكير الانكار، والباقي ظاهر. (كلام في معنى عموم الانذار) قد تقدم في أبحاث النبوة في الجزء الثاني وفي قصص نوح عليه السلام في الجزء العاشر من الكتاب ما يدل من طريق العقل على عموم النبوة ويؤيده الكتاب. فلا تخلو أمة من الامم الانسانية عن ظهور ما للدعوة الحقة النبوية فيها وأما كون نبي كل أمة من نفس تلك الامة فلا دليل عليه، وقد عرفت أن قوله تعالى: " وإن من أمة إلا خلا فيها نذير " الاية مفاده ذلك. وأما فعلية الانذار - بحيث يبلغ كل فرد فرد من الامة مضافا إلى أصل الاقتضاء - واطراد الدعوة في كل واحد واحد فحكومة العلل والاسباب المتزاحمة في هذه النشأة المادية لا توافقه كما لا توافق سائر المقتضيات العامة التي قدرها الصنع كما أن في بنية كل مولود إنساني أن يعمر عمرا طبيعيا والحوادث تحول بين أكثر الافراد وبين ذلك، وكل مولود إنساني مجهز بجهاز التناسل للاستيلاد والايلاد وكثير من الافراد يموت قبل بلوغه فلا يبلغ ذلك إلى غير ذلك من النظائر. فالنبوة والانذار عام لكل أمة ولا يستلزم استلزاما ضروريا أن تبلغ الدعوة كل شخص من أشخاصها بل من الجائز أن تبلغ بلا واسطة أو معها بعض الامة وتتخلف عن بعض لحيلولة علل وأسباب مزاحمة بينه وبين البلوغ فمن توجهت منهم إليه الدعوة وبلغته تمت عليه الحجة ومن توجهت إليه ولم تبلغه لم تتم عليه الحجة وكان من المستضعفين

[ 39 ]

وكان أمره إلى الله قال تعالى: " إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا " النساء: 98. (بحث روائي) في الدر المنثور في قوله تعالى: " ولا تزر وازرة وزر أخرى " أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن الاحوص أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في حجة الوداع: ألا لا يجني جان إلا على نفسه لا يجني والد على ولده ولا مولود على والده. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور " قال: هؤلاء الكفار لا يسمعون منك كما لا يسمع أهل القبور. وفي الدر المنثور أخرج أبو سهل السري بن سهل الجند يسابوري الخامس من حديثه من طريق عبد القدوس عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: " إنك لا تسمع الموتى وما أنت بمسمع من في القبور " قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقف على القتلى يوم بدر ويقول: هل وجدتم ما وعد ربكم حقا يا فلان بن فلان ألم تكفر بربك ؟ ألم تكذب نبيك ؟ ألم تقطع رحمك ؟ فقالوا: يا رسول الله أيسمعون ما تقول ؟ قال: ما أنتم بأسمع منهم لما أقول فأنزل الله: " إنك لا تسمع الموتى وما أنت بمسمع من في القبور " ومثل ضربه الله للكفار أنهم لا يسمعون لقوله. أقول: وفي الرواية ما لا يخفى من لوائح الوضع فساحة النبي عليه السلام أجل من أن يقول ما ليس له به علم من ربه حتى ينزل الله عليه آية تكذبه فيما يدعيه ويخبر به. على أن ما نقله من الاية لا يطابق المصحف فصدره مأخوذ من سورة النمل الاية 80 وذيله مأخوذ من سورة فاطر الاية 22. على أن سياق الاية مكي في سياق آيات سابقة ولاحقة مكية. وفي الاحتجاج في احتجاج الصادق عليه السلام: قال السائل: فأخبرني عن المجوس أفبعث إليهم نبيا ؟ فإني أجد لهم كتبا محكمة ومواعظ بليغة وأمثالا شافية، ويقرون

[ 40 ]

بالثواب والعقاب، ولهم شرائع يعملون بها. قال: ما من أمة إلا خلا فيها نذير، وقد بعث إليهم نبي بكتاب من عند الله فأنكروه وجحدوا كتابه. * * * ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود - 27. ومن الناس والدواب والانعام مختلف ألوانه كذالك إنما يخشى الله من عباده العلمؤ إن الله عزيز غفور - 28. إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلوة وانفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور - 29. ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور - 30. والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير - 31. ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير - 32. جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير - 33. وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور - 34. الذي أحلنا دار

[ 41 ]

المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب - 35. والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور - 36. وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير - 37. إن الله عالم غيب السموات والارض إنه عليم بذات الصدور - 38. (بيان) رجوع إلى ذكر آيات أخر من آيات التوحيد وفيها انتقال إلى حديث الكتاب وأنه حق نازل من عند الله تعالى وقد انجر الكلام في الفصل السابق من الايات إلى ذكر النبوة والكتاب حيث قال: " إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا " وقال: " جاؤا بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير " فكان من الحري أن يتعرض لصفة الكتاب وما تستتبعه من الاثار. قوله تعالى: " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها " الخ. حجة أخرى على التوحيد وهو أن الله سبحانه ينزل الماء من السماء بالامطار وهو أقوى العوامل المعينة لخروج الثمرات، ولو كان خروجها عن مقتضى طباع هذا العامل وهو واحد لكان جميعها ذا لون واحد فاختلاف الالوان يدل على وقوع التدبير الالهي. والقول بأن اختلافها منوط باختلاف العوامل المؤثرة فيها ومنها اختلاف العناصر الموجودة فيها نوعا وقدرا وخصوصية التأليف. مدفوع بأن الكلام منقول حينئذ إلى اختلاف نفس العناصر وهي منتهية إلى

[ 42 ]

المادة المشتركة التي لا اختلاف فيها فاختلاف العناصر المكونة منها يدل على عامل آخر وراء المادة يدبر أمرها ويسوقها إلى غايات مختلفة. والظاهر أن المراد باختلاف ألوان الثمرات اختلاف نفس ألوانها ويلزمه اختلافات أخر من حيث الطعم والرائحة والخواص، وقيل المراد باختلاف الالوان اختلاف الانواع فكثيرا ما يطلق اللون في الفواكه والاطعمة على النوع كما يقال: قدم فلان ألوانا من الطعام والفاكهة فهو من الكناية، وقوله بعد: " ومن الجبال جدد بيض وحمر " لا يخلو من تأييد للوجه الاول. وفي قوله: " فأخرجنا به " الخ. التفات من الغيبة إلى التكلم. قيل: إن ذلك لكمال الاعتناء بالفعل لما فيه من الصنع البديع المنبئ عن كمال القدرة والحكمة. ونظير الوجه يجري في قوله السابق: " إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا " وأما ما في الاية السابقة من قوله: " ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير " فلعل الوجه فيه أن أمرهم إلى الله لا يتخلل بينه وبينهم أحد حتى يشفع لهم أو ينصرهم فينجوا من العذاب. و قوله: " ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود " الجدد بالضم فالفتح جمع جدة بضم الجيم وهي الطريقة والجادة، والبيض والحمر جمع أبيض وأحمر، والظاهر أن قوله: " مختلف ألوانها " صفة لجدد و " ألوانها " فاعل " مختلف " ولو كانت الجملة مبتدء وخبرا لقيل: مختلفة ألوانها كما قيل، والغرابيب جمع غربيب وهو الاسود الشديد السواد ومنه الغراب و " سود " بدل أو عطف بيان لغرابيب. والمعنى: ألم تر أن من الجبال طرائق بيض وحمر وسود مختلف ألوانها، والمراد إما الطرق المسلوكة في الجبال ولها ألوان مختلفة، وإما نفس الجبال التي هي خطوط مختلفة ممدودة على وجه الارض بيض وحمر وسود مختلف ألوانها. قوله تعالى: " ومن الناس والدواب والانعام مختلف ألوانه كذلك " أي ومن الناس والدواب التي تدب في الارض والانعام كالابل والغنم والبقر بعض مختلف ألوانه بالبياض والحمرة و السواد كاختلاف الثمرات والجبال في ألوانها.

[ 43 ]

وقيل: قوله: " كذلك " خبر لمبتدء محذوف، والتقدير الامر كذلك فهو تقرير إجمالي للتفصيل المتقدم من اختلاف الثمرات والجبال والناس والدواب والانعام. وقيل: " كذلك " متعلق بقوله: " يخشى " في قوله: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " والاشارة إلى ما تقدم من الاعتبار بالثمرات والجبال وغيرهما والمعنى إنما يخشى الله كذلك الاعتبار بالايات من عباده العلماء، وهو بعيد لفظا ومعنى. قوله تعالى: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " استئناف يوضح أن الاعتبار بهذه الايات إنما يؤثر أثره ويورث الايمان بالله حقيقة والخشية منه بتمام معنى الكلمة في العلماء دون الجهال، وقد مر أن الانذار إنما ينجح فيهم حيث قال: " إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة " فهذه الاية كالموضحة لمعنى تلك تبين أن الخشية حق الخشية إنما توجد في العلماء. والمراد بالعلماء العلماء بالله وهم الذين يعرفون الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله معرفة تامة تطمئن بها قلوبهم وتزيل وصمة الشك والقلق عن نفوسهم وتظهر آثارها في أعمالهم فيصدق فعلهم قولهم، والمراد بالخشية حينئذ حق الخشية ويتبعها خشوع في باطنهم وخضوع في ظاهرهم. هذا ما يستدعيه السياق في معنى الاية. وقوله: " إن الله عزيز غفور " يفيد معنى التعليل فلعزته تعالى وكونه قاهرا غير مقهور وغالبا غير مغلوب من كل جهة يخشاه العارفون، ولكونه غفورا كثير المغفرة للاثام والخطيئات يؤمنون به ويتقربون إليه ويشتاقون إلى لقائه. قوله تعالى: " إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور " تلاوة الكتاب قراءة القرآن وقد أثنى عليها الله سبحانه، و إقامة الصلاة إدامة إتيانها وحفظها من أن تترك، والانفاق من الرزق سرا وعلانية بذل المال سرا تحذرا من الرياء وزوال الاخلاص في الانفاق المسنون، وبذل المال علانية ليشيع بين الناس كما في الانفاق الواجب. وقوله: " يرجون تجارة لن تبور " أي لن تهلك بالخسران، وذكر بعضهم أن قوله: " يرجون " الخ. خبر إن في صدر الاية وعند بعضهم الخبر مقدر يتعلق به قوله: " ليوفيهم " الخ " أي فعلوا ما فعلوا ليوفيهم أجورهم " الخ.

[ 44 ]

قوله تعالى: " ليوفيهم أجورهم و يزيدهم من فضله إنه غفور شكور " متعلق بقوله: " يتلون " وما عطف عليه في الاية السابقة أي أنهم عملوا ما عملوا لان يوفيهم ويؤتيهم إيتاء تاما كاملا أجورهم وثوابات أعمالهم. وقوله: " ويزيدهم من فضله " يمكن أن يراد بهذه الزيادة تضعيف الثواب أضعافا كما في قوله: " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " الانعام: 160 وقوله: " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء " البقرة: 261، ويمكن أن يراد بها زيادة ليست من سنخ ثواب الاعمال كما في قوله: " لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد " ق: 35. وقوله: " إنه غفور شكور " تعليل لمضمون الاية وزيادة فهو تعالى لكونه غفورا يغفر زلاتهم ولكونه شكورا يثيبهم ويزيد من فضله. قوله تعالى: " والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق " ضمير الفصل واللام في قوله: " هو الحق " للتأكيد لا للقصر أي هو حق لا يشوبه باطل. قوله تعالى: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا " إلى آخر الاية. يقال: أورثه مالا كذا أي تركه فيهم يقومون بأمره بعده وقد كان هو القائم بأمره المتصرف فيه، وكذا إيراث العلم والجاه ونحوهما تركه عند الغير يقوم بأمره بعد ما كان عند غيره ينتفع به فايراث القوم الكتاب تركه عندهم يتناولونه خلفا عن سلف وينتفعون به. وتصح هذه النسبة وإن كان القائم به بعض القوم دون كلهم، قال تعالى: " ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لاولي الالباب " المؤمن: 54، وقال " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم (؟) بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله " المائدة: 44، وقال: " وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب " الشورى: 14. فبنو إسرائيل أورثوا الكتاب وإن كان المؤدون حقه القائمون بأمره بعضهم لا جميعهم. والمراد بالكتاب في الاية على ما يعطيه السياق هو القرآن الكريم كيف ؟ وقوله في الاية السابقة: " والذي أوحينا إليك من الكتاب " نص فيه، فاللام في الكتاب

[ 45 ]

للعهد دون الجنس فلا يعبأ بقول من يقول: إن اللام للجنس والمراد بالكتاب مطلق الكتاب السماوي المنزل على الانبياء. والاصطفاء أخذ صفوة الشئ ويقرب من معنى الاختيار والفرق أن الاختيار أخذ الشئ من بين الاشياء بما أنه خيرها والاصطفاء أخذه من بينها بما أنه صفوتها وخالصها. وقوله: " من عبادنا " يحتمل أن يكون " من " للتبيين أو للابتداء أو للتبعيض الاقرب إلى الذهن أن يكون بيانية وقد قال تعالى: " وسلام على عباده الذين اصطفى " النمل: 59. واختلفوا في هؤلاء المصطفين من عباده من هم ؟ فقيل: هم الانبياء، وقيل: هم بنو إسرائيل الداخلون في قوله: " إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين " آل عمران: 33، وقيل: هم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد أورثوا القرآن من نبيهم إليه يرجعون وبه ينتفعون علماؤهم بلا واسطة وغيرهم بواسطتهم، وقيل: هم العلماء من الامة المحمدية. وقيل: - وهو المأثور عن الصادقين عليهما السلام في روايات كثيرة مستفيضة - أن المراد بهم ذرية النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أولاد فاطمة عليها السلام وهم الداخلون في آل إبراهيم في قوله: " إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم " آل عمران: 33، وقد نص النبي صلى الله عليه وآله على علمهم بالقرآن وإصابة نظرهم فيه وملازمتهم إياه بقوله في الحديث المتواتر المتفق عليه: " إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ". وعلى هذا فالمعنى بعد ما أوحينا إليك القرآن - ثم للتراخي الرتبي - أورثنا ذريتك إياه وهم الذين اصطفينا من عبادنا إذا اصطفينا آل إبراهيم وإضافة العباد إلى نون العظمة للتشريف. وقوله: " فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات " يحتمل أن يكون ضمير " منهم " راجعا إلى " الذين اصطفينا " فيكون الطوائف الثلاث الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات شركاء في الوراثة وإن كان الوارث الحقيقي العالم بالكتاب والحافظ له هو السابق بالخيرات.

[ 46 ]

ويحتمل أن يكون راجعا إلى عبادنا - من غير إفادة الاضافة للتشريف - فيكون قوله: " فمنهم " مفيدا للتعليل والمعنى إنما أورثنا الكتاب بعض عبادنا وهم المصطفون لا جميع العباد لان من عبادنا من هو ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق ولا يصلح الكل للوراثة. ويمكن تأييد أول الاحتمالين بأن لا مانع من نسبة الوراثة إلى الكل مع قيام البعض بها حقيقة كما نجد نظيره في قوله تعالى: " وأورثنا بني إسرائيل الكتاب " المؤمن: 54 وما في الاية من المقابلة بين الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات يعطي أن المراد بالظالم لنفسه من عليه شئ من السيئات وهو مسلم من أهل القرآن لكونه مصطفى ووارثا، والمراد بالمقتصد المتوسط الذي هو في قصد السبيل وسواء الطريق والمراد بالسابق بالخيرات بإذن الله من سبق الظالم والمقتصد إلى درجات القرب فهو أمام غيره بإذن الله بسبب فعل الخيرات قال تعالى: " والسابقون السابقون أولئك المقربون " الواقعة: 11. وقوله تعالى: " ذلك هو الفضل الكبير " أي ما تقدم من الايراث هو الفضل الكبير من الله لا دخل للكسب فيه. هذا ما يعطيه السياق وتفيده الاخبار من معنى الاية وفيها للقوم اختلاف عجيب فقد اختلف في " ثم " فقيل: هي للتراخي بحسب الاخبار، وقيل: للتراخي الرتبي، وقيل: للتراخي الزماني. ثم العطف على " أوحينا " أو على " الذي أوحينا ". واختلف في " أورثنا " فقيل: هو على ظاهره، وقيل: معناه حكمنا بإيراثه وقدرناه، واختلف في الكتاب فقيل: المراد به القرآن، وقيل: جنس الكتب السماوية، واختلف في " الذين اصطفينا " فقيل: المراد بهم الانبياء، وقيل: بنو إسرائيل، وقيل: أمة محمد، وقيل: العلماء منهم، وقيل: ذرية النبي من ولد فاطمة عليها السلام. واختلف في " من عبادنا " فقيل: من للتبعيض أو للابتداء أو للتبيين ويختلف المراد من العباد بحسب اختلاف معنى " من " وكذا إضافة " عبادنا " للتشريف على بعض الوجوه ولغيره على بعضها.

[ 47 ]

واختلف في " فمنهم " فقيل: مرجع الضمير " الذين " وقيل: " عبادنا " واختلف في الظالم لنفسه والمقتصد والسابق فقيل: الظالم من كان ظاهره خيرا من باطنه و المقتصد من استوى ظاهره وباطنه والسابق من كان باطنه خيرا من ظاهره، وقيل: السابق هم السابقون الماضون في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أصحابه والمقتصد من تبع أثرهم ولحق بهم من الصحابة والظالم لنفسه غيرهم، وقيل: الظالم من غلبت عليه السيئة والمقتصد المتوسط حالا والسابق هو المقرب إلى الله السابق في الدرجات. وهناك أقوال متفرقة أخر تركنا إيرادها ولو ضربت الاحتمالات بعضها في بعض جاوز الالف. قوله تعالى: " جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤ ولباسهم فيها حرير " التحلية هي التزيين والاساور جمع أسورة وهي جمع سوار بكسر السين قال الراغب: سوار المرأة معرب وأصله دستواره. انتهى. وقوله: " جنات عدن " الخ. ظاهره أنه بيان للفضل الكبير قال في المجمع: هذا تفسير للفضل كأنه قيل: ما ذلك الفضل ؟ فقال: هي جنات أي جزاء جنات أو دخول جنات ويجوز أن يكون بدلا من الفضل كأنه قال: ذلك دخول جنات. انتهى. والباقي ظاهر. قوله تعالى: " وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور " قيل: المراد بالحزن الذي يحمدون الله على إذهابه بإدخالهم الجنة الحزن الذي كان يتوجه إليهم في الحياة الدنيا وما يحف بها من الشدائد والنوائب. وقيل: المراد به الحزن الذي كان قد أحاط بهم بعد الارتحال من الدنيا، وقيل الدخول في جنة الاخرة إشفاقا مما اكتسبوه من السيئات. وعلى هذا فالقول قول الظالم لنفسه منهم أو قوله وقول المقتصد وأما السابق بالخيرات منهم فلا سيئة في صحيفة أعماله حتى يعذب بها. وهذا الوجه أنسب لقولهم في آخر حمدهم: " إن ربنا لغفور شكور ". قوله تعالى: " الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب " المقامة الاقامة، ودار المقامة المنزل الذي لا خروج منه ولا تحول.

[ 48 ]

والنصب بفتحتين التعب والمشقة، واللغوب بضم اللام: العي والتعب في طلب المعاش وغيره. والمعنى: الذي جعلنا حالين في دار الخلود من فضله من غير استحقاق منا عليه لا يمسنا في هذه الدار وهي الجنة مشقة وتعب ولا يمسنا فيها عي ولا كلال في طلب ما نريد أي إن لنا فيها ما نشاء. وفي قوله: " من فضله " مناسبة خاصة مع قوله السابق: " ذلك هو الفضل الكبير ". قوله تعالى: " والذين كفروا لهم نار جهنم " إلى آخر الاية اللام في " لهم " للاختصاص ويفيد كون النار جزاء لهم لا ينفك عنهم، وقوله: " لا يقضى عليهم فيموتوا " أي لا يحكم عليهم بالموت حتى يموتوا فهم أحياء على ما هم فيه من شدة العذاب ولا يخفف عنهم من عذاب النار كذلك نجزي كل كفور شديد الكفران أو كثيره. قوله تعالى: " وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا " إلى آخر الاية في المجمع: الاصطراخ الصياح والنداء بالاستغاثة افتعال من الصراخ انتهى. وقوله: " ربنا أخرجنا " الخ. بيان لاصطراخهم، وقوله: " أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر " الخ. جواب اصطراخهم وقوله: " فذوقوا " وقوله: " فما للظالمين من نصير " كل منهما متفرع على ما قبله. والمعنى، وهؤلاء الذين في النار من الكفار يصطرخون ويصيحون بالاستغاثة فيها قائلين: ربنا أخرجنا من النار نعمل صالحا غير سيئ غير الذي كنا نعمل فيقال لهم ردا عليهم: - كلا - أو لم نعمركم عمرا يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فأنذركم هذا العذاب فلم تتذكروا ولم تؤمنوا ؟ فذوقوا العذاب فما للظالمين من نصير ينصرهم ليتخلصوا من العذاب. قوله تعالى: " إن الله عالم غيب السماوات والارض إنه عليم بذات الصدور " فيعاملكم بما في باطنكم من الاعتقاد وآثار الاعمال ويحاسبكم عليه سواء وافق ظاهركم باطنكم أو خالف قال تعالى: " إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " البقرة: 284، وقال: " يوم تبلى السرائر " الطارق: 9.

[ 49 ]

(بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " الاية روي عن الصادق عليه السلام أنه قال: يعني بالعلماء من صدق قوله فعله، ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم. وفي الحديث أعلمكم بالله أخوفكم لله. أقول: وفي روضة الكافي بإسناده عن أبي حمزة عن علي بن الحسين عليه السلام ما في معناه. وفي الدر المنثور أخرج أبن أبي شيبة والترمذي والحاكم عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: العلم علمان: علم في القلب فذاك العلم النافع، وعلم على اللسان فذاك حجة الله على خلقه. وفي المجمع روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في قوله: " ويزيدهم من فضله ": هو الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليه معروفا في الدنيا. وفي الكافي بإسناده عن أحمد بن عمر قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن قول الله عز وجل: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا " الاية قال: فقال: ولد فاطمة عليها السلام، والسابق بالخيرات الامام والمقتصد العارف بالامام والظالم لنفسه الذي لا يعرف الامام. وعن كتاب سعد السعود لابن طاوس في حديث لابي إسحاق السبيعي عن الباقر عليه السلام في الاية قال: هي لنا خاصة يا أبا إسحاق أما السابق بالخيرات فعلي بن أبي طالب والحسن والحسين والشهيد منا، وأما المقتصد فصائم بالنهار وقائم بالليل، وأما الظالم لنفسه ففيه ما في الناس وهو مغفور له. اقول: المراد بالشهيد بقرينة الروايات الاخر الامام. وفي معاني الاخبار مسندا عن الصادق عليه السلام في الاية قال: الظالم يحوم حوم نفسه والمقتصد يحوم حوم قلبه والسابق بالخيرات يحوم حوم ربه.

[ 50 ]

أقول: الحوم والحومان الدوران، ودوران الظالم لنفسه حوم نفسه اتباعه أهواءها وسعيه في تحصيل ما يرضيها، ودوران المقتصد حوم قلبه اشتغاله بما يزكى قلبه ويطهره بالزهد والتعبد، ودوران السابق بالخيرات حوم ربه إخلاصه له تعالى فيذكره وينسى غيره فلا يرجو إلا إياه ولا يقصد إلا إياه. واعلم ان الروايات من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في كون الاية خاصة بولد فاطمة عليها السلام كثيرة جدا. وفي الدر المنثور أخرج الفاريابي وأحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن أبي الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله " فأما الذين سبقوا فاولئك يدخلون الجنة بغير حساب، وأما الذين اقتصدوا فاولئك الذين يحاسبون حسابا يسيرا، وأما الذين ظلموا أنفسهم فاولئك يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين يلقاهم الله برحمة فهم الذين يقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب. أقول: ورواه في المجمع عن أبي الدرداء عنه صلى الله عليه وآله وسلم وفي معناه أحاديث أخر، وهناك ما يخالفها ولا يعبأ به كما فيه عن ابن مردويه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: " ومنهم ظالم لنفسه " قال: الكافر. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب " قال: النصب العناء واللغوب الكسل والضجر. وفي نهج البلاغة، وقال: العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة. أقول: ورواه عنه عليه السلام في المجمع ورواه في الدر المنثور عن ابن جرير عنه عليه السلام. وفي الدر المنثور أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الاصول والبيهقي في سننه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان يوم القيامة قيل: أين أبناء الستين وهو المعمر

[ 51 ]

الذي قال الله: " أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ". أقول: وروى ذلك بطرق أخرى عن سهل بن سعد وأبي هريرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وفي المجمع: وقيل: هو توبيخ لابن ثماني عشر سنة وروي ذلك عن الباقر عليه السلام. أقول: ورواه في الفقيه عنه عليه السلام مضمرا. * * * هو الذي جعلكم خلائف في الارض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا - 39. قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الارض أم لهم شرك في السموات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا - 40. إن الله يمسك السموات والارض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا - 41. وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الامم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا - 42. إستكبارا في الارض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الاولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا - 43. أو لم يسيروا في الارض فينظروا

[ 52 ]

كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شئ في السموات ولا في الارض إنه كان عليما قديرا - 44. ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا - 45. (بيان) احتجاج على توحيد الربوبية كقوله: " هو الذي جعلكم خلائف في الارض " الاية، وقوله: " إن الله يمسك السماوات والارض أن تزولا " الاية، وعلى نفي ربوبية شركائهم " قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله " الاية وتوبيخ وتهديد لهم على نقضهم ما أبرموه باليمين ومكرهم السيئ. ثم تسجيل أن الله لا يعجزه شئ وإنما يمهل من أمهله من هؤلاء الظالمين إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم جازاهم ما يستحقونه وبذلك تختتم السورة. قوله تعالى: " هو الذي جعلكم خلائف في الارض " الخ. الخلائف جمع خليفة، وكون الناس خلائف في الارض هو قيام كل لاحق منهم مقام سابقه وسلطته على التصرف والانتفاع منها كما كان السابق مسلطا عليه، وهم إنما نالوا هذه الخلافة من جهة نوع الخلقة وهو الخلقة من طريق النسل والولادة فإن هذا النوع من الخلقة يقسم المخلوق إلى سلف وخلف. فجعل الخلافة الارضية نوع من التدبير مشوب بالخلق غير منفك عنه ولذلك استدل به على توحده تعالى في ربوبيته لانه مختص به تعالى لا مجال لدعواه لغيره. فقوله: " هو الذي جعلكم خلائف في الارض " حجة على توحده تعالى في ربوبيته

[ 53 ]

وانتفائها عن شركائهم: تقريره أن الذي جعل الخلافة الارضية في العالم الانساني هو ربهم المدبر لامرهم، وجعل الخلافة لا ينفك عن نوع الخلقة فخالق الانسان هو رب الانسان لكن الخالق هو الله سبحانه حتى عند الخصم فالله هو رب الانسان. وقوله: " فمن كفر فعليه كفره " أي فالله سبحانه هو رب الانسان فمن كفر وستر هذه الحقيقة ونسب الربوبية إلى غيره تعالى فعلى ضرره كفره. وقوله: " ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا " بيان لكون كفرهم عليهم وهو أن كفرهم يورث لهم مقتا عند ربهم والمقت شدة البغض لان فيه إعراضا عن عبوديته واستهانة بساحته، ويورث لهم خسارا في أنفسهم لانهم بدلوا السعادة الانسانية شقاء ووبالا سيصيبهم في مسيرهم ومنقلبهم إلى دار الجزاء. وإنما عبر عن أثر الكفر بالزيادة لان الفطرة الانسانية بسيطة ساذجة واقعة في معرض الاستكمال والازدياد فإن أسلم الانسان زاده ذلك كمالا وقربا من الله وإن كفر زاده ذلك مقتا عند الله وخسارا. وإنما قيد المقت بقوله: " عند ربهم " دون الخسار لان الخسار من تبعات تبديل الايمان كفرا والسعادة شقاء وهو أمر عند أنفسهم وأما المقت وشدة البغض فمن عند الله سبحانه. والحب والبغض المنسوبان إلى الله سبحانه من صفات الافعال وهي معان خارجة عن الذات غير قائمة بها، ومعنى حبه تعالى لاحد انبساط رحمته عليه وانجذابها إليه وبغضه تعالى لاحد انقباض رحمته منه وابتعادها عنه. قوله تعالى: " قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله " إلى آخر الاية إضافة الشركاء إليهم بعناية أنهم يدعون أنهم شركاء لله فهي إضافة لامية مجازية. وفي الاية تلقين النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجة على نفي ربوبية آلهتهم الذين كانوا يعبدونهم وتقرير الحجة أنهم لو كانوا أربابا آلهة من دون الله لكان لهم شئ من تدبير العالم فكانوا خالقين لما يدبرونه لان الخلق والتدبير لا ينفك أحدهما عن الاخر ولو كانوا خالقين لدل

[ 54 ]

عليه دليل والدليل إما من العالم أو من قبل الله سبحانه أما العالم فلا شئ منه يدل على كونه مخلوقا لهم ولو بنحو الشركة وهو قوله: " أروني ماذا خلقوا من الارض أم لهم شرك في السماوات ". وأما من قبله تعالى فلو كان لكان كتابا سماويا نازلا من عنده سبحانه يعترف بربوبيتهم ويجوز للناس أن يعبدوهم ويتخذوهم آلهة، ولم ينزل كتاب على هذه الصفة وهم معترفون بذلك وهو قوله: " أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه ". وإنما عبر عن نفي خالقيتهم في الارض بقوله: " أروني ماذا خلقوا من الارض " ولم يقل: أنبئوني ألهم شرك في الارض ؟ وعبر في السماوات بقوله: " أم لهم شرك في السماوات " ولم يقل: أم ماذا خلقوا من السماوات. لان المراد بالارض - على ما يدل عليه سياق الاحتجاج - العالم الارضي وهو الارض بما فيها وما عليها والمراد بالسماوات العالم السماوي المشتمل على السماوات وما فيها وما عليها فقوله: " ماذا خلقوا من الارض " في معنى ألهم شرك في الارض ولا يكون إلا بخلق شئ منها، وقوله: " أم لهم شرك في السماوات " في معنى أم ماذا خلقوا من السماوات، وقد اكتفي بذكر الخلق في جانب الارض إشارة إلى أن الشرك في الربوبية لا يكون إلا بخلق. وقوله: " أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه " أي بل آتيناهم كتابا فهم على بينة منه أي على حجة ظاهرة من الكتاب أن لشركائهم شركة معناء وذلك بدلالته على أنهم شركاء لله. وقد قال: " أم آتيناهم كتابا " ولم يقل: أم لهم كتاب ونحو ذلك ليتأكد النفي والانكار فإن قولنا: أم لهم كتاب ونحو ذلك إنكار لوجود الكتاب لكن قوله: " أم آتيناهم كتابا " إنكار لوجود الكتاب ممن ينزل الكتاب لو نزل. وقد تبين بما تقدم أن ضمير الجمع في " آتيناهم " وفي " فهم على بينة " للمشركين فلا يعبأ بما قيل: إن الضميرين للشركاء. وقوله: " بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا " إضراب عما تقدم من الاحتجاج بأن الذي حملهم على الشرك ليس هو حجة تحملهم عليه ويعتمدون عليها بل

[ 55 ]

غرور بعضهم بعضا بوعد الشفاعة والزلفى فأسلافهم يغرون أخلافهم ورؤساؤهم وأئمتهم يغرون مرؤسيهم وتابعيهم ويعدونهم شفاعة الشركاء عند الله سبحانه ولا حقيقة لها. وحجة الاية عامة على المشركين عبدة الاصنام وهم الذين يعبدون الملائكة والجن وقديسي البشر ويتخذون لهم أصناما يتوجهون إليها، وعلى الذين يعبدون روحانيي الكواكب ويتوجهون إلى الكواكب ثم يتخذون للكواكب أصناما، وعلى الذين يعبدون الملائكة والعناصر من غير أن يتخذوا لها أصناما كما ينقل عن الفرس القدماء، وعلى الذين يعبدون بعض البشر كالنصارى للمسيح عليه السلام. قوله تعالى: " إن الله يمسك السماوات والارض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده " الخ. قيل: إن الاية استئناف مقرر لغاية قبح الشرك وهوله أي أن الله تعالى يحفظ السماوات والارض كراهة أن تزولا أو لئلا تزولا وتضمحلا لان الممكن كما يحتاج إلى الواجب حال إيجاده يحتاج إليه حال بقائه. انتهى. والظاهر أنه تعالى لما استدل على توحده في الربوبية يجعل الخلافة في النوع الانساني بقوله: " هو الذي جعلكم خلائف في الارض " الاية ثم نفى الشركة مطلقا بالحجة عمم الحجة بحيث تشمل الخلق كله أعني السماوات والارض فاحتج على توحده بإبقاء الخلق بعد إحداثه فإن من البين الذي لا يرتاب فيه أن حدوث الشئ وأصل تلبسه بالوجود بعد العدم غير بقائه وتلبسه بالوجود بعد الوجود على نحو الاستمرار فبقاء الشئ بعد حدوثه يحتاج إلى إيجاد بعد إيجاد على نحو الاتصال والاستمرار. وإبقاء الشئ بعد إحداثه كما أنه إيجاد بعد الايجاد كذلك هو تدبير لامره فإنك إن دققت النظر وجدت أن النظام الجاري في الكون إنما يجري بالاحداث والابقاء فقط. والموجد والخالق هو الله سبحانه حتى عند الخصم فالله سبحانه هو الخالق المدبر للسماوات والارض وحده لا شريك له. فقوله: " إن الله يمسك السماوات والارض أن تزولا " الامساك بمعناه المعروف وقوله: " أن تزولا " - وتقديره كراهة أن تزولا أو لئلا تزولا - متعلق به، وقيل: الامساك بمعنى المنع أو بمعنى الحفظ وعلى أي حال فالامساك كناية عن الابقاء وهو الايجاد بعد الايجاد على سبيل الاتصال والاستمرار، والزوال هو الاضمحلال والبطلان.

[ 56 ]

ونقل عن بعضهم أنه فسر الزوال بالانتقال المكاني، والمعنى أن الله يمنع السماوات والارض من أن ينتقل شئ منهما عن مكانه الذي استقر فيه فيرتفع أو ينخفض انتهى والشأن في تصور مراده تصورا صحيحا. وقوله: " ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده " السياق يعطي أن المراد بالزوال ههنا الاشراف على الزوال إذ نفس الزوال لا يجتمع معه الامساك والمعنى وأقسم لئن أشرفتا على الزوال لم يمسكهما أحد من بعد الله سبحانه إذ لا مفيض للوجود غيره ويمكن أن يكون المراد بالزوال معناه الحقيقي والمراد بالامساك القدرة على الامساك وقد تبين أن " من " الاولى زائدة للتأكيد والثانية للابتداء، وضمير " من بعده " راجع إليه تعالى، وقيل: راجع إلى الزوال. وقوله: " إنه كان حليما غفورا " فهو لحلمه لا يعجل إلى أمر ولمغفرة يستر جهات العدم في الاشياء، ومقتضى الاسمين أن يمسك السموات والارض أن تزولا إلى أجل مسمى. وقال في إرشاد العقل السليم: إنه كان حليما غفورا غير معاجل بالعقوبة التي تستوجبها جناياتهم حيث أمسكهما وكانتا جديرتين بأن تهدا هدا حسبما قال تعالى: " تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الارض " انتهى. قوله تعالى: " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الامم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا " قال الراغب: الجهد - بفتح الجيم - والجهد - بضمها - الطاقة والمشقة - إلى أن قال - وقال تعالى: " وأقسموا بالله جهد أيمانهم " أي حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم. انتهى. وقال: النفر الانزعاج عن الشئ وإلى الشئ كالفزع إلى الشئ وعن الشئ يقال: نفر عن الشئ نفورا قال تعالى: " ما زادهم إلا نفورا ". انتهى. قيل (1): بلغ قريشا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم فو الله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الامم انتهى، وسياق الاية يصدق هذا النقل ويؤيده. (1)


رواه في الدر المنثور عن أبي هلال وعن ابن جريح. (*)

[ 57 ]

فقوله: " وأقسموا بالله جهدا أيمانهم " الضمير لقريش وقد حلفوا هذا الحلف قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدليل قوله بعد: " فلما جاءهم نذير "، والمقسم به قوله: " لئن جاءهم نذير " الخ. وقوله: " لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الامم " أي إحدى الامم التي جاءهم نذير كاليهود والنصارى وإنما قال: " ليكونن أهدى من إحدى الامم " ولم يقل: أهدى منهم لان المعنى أنهم كانوا أمة ما جاءهم نذير ثم لو جاءهم نذير كانوا أمة ذات نذير كإحدى تلك الامم المنذرة ثم بتصديق النذير يصيرون أهدى من التي ماثلوها وهو قوله: " أهدى من إحدى الامم " فافهمه. وقيل: إن مقتضى المقام العموم، وقوله: " إحدى الامم " عام وإن كان نكرة في سياق الاثبات واللام في " الامم " للعهد، والمعنى ليكونن أهدى من كل واحدة من تلك الامم التي كذبوا رسلهم من اليهود والنصارى وغيرهم. وقيل: المعنى ليكونن أهدى من أمة يقال فيها: إحدى الامم تفضيلا لها على غيرها من الامم كما يقال: هو واحد القوم وواحد عصره. انتهى. ولا يخلو الوجه الاخير عن تكلف وبعد. وقوله: " فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا " المراد بالنذير النبي صلى الله عليه وآله وسلم والنفور التباعد والهرب. قوله تعالى: " استكبارا في الارض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " قال الراغب: المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة، وذلك ضربان: مكر محمود وذلك أن يتحرى بذلك فعل جميل وعلى ذلك قال تعالى: " والله خير الماكرين " ومذموم وهو أن يتحرى به فعل قبيح قال تعالى: " لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " انتهى. وقال أيضا: قال عز وجل: " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " أي لا ينزل ولا يصيب. قيل: وأصله حق فقلب نحو زل وزال وقد قرئ فأزلهما الشيطان وأزالهما وعلى هذا ذمه وذامه. انتهى. وقوله: " استكبارا في الارض " مفعول لاجله لقوله: " نفورا " أي نفروا عنه

[ 58 ]

وتباعدوا للاستكبار في الارض وقوله: " ومكر السيئ " معطوف على " استكبارا " ومفعول لاجله مثله، وقيل: معطوف على " نفورا " والاضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة بدليل قوله ثانيا: " ولا يحيق المكر السيئ " الخ. وقوله: " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " أي لا يصيب ولا ينزل المكر السيئ إلا بأهله ولا يستقر إلا فيه، فان المكر السيئ وإن كان ربما أصاب به مكروه للممكور به، لكنه سيزول ولا يدوم إلا أن أثره السيئ بما أنه المكر سيئ يبقى في نفس الماكر وسيظهر فيه ويجزى به إما في الدنيا وإما في الاخرة البتة، ولهذا فسر الاية في مجمع البيان بقوله: والمعنى لا ينزل جزاء المكر السيئ إلا بمن فعله. والكلام مرسل إرسال المثل كقوله تعالى: " إنما بغيكم على أنفسكم " يونس: 23 " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه " الفتح: 10. وقوله: " فهل ينظرون إلا سنة الاولين " النظر والانتظار بمعنى التوقع والفاء للتفريع والجملة استنتاج مما تقدمها و الاستفهام للانكار والمعنى وإذ مكروا المكر السيئ والمكر السيئ يحيق بأهله فهم لا ينتظرون إلا السنة الجارية في الامم الماضين وهي العذاب الالهي النازل بهم إثر مكرهم وتكذيبهم بآيات الله. وقوله: " فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا " تبديل السنة أن توضع العافية والنعمة موضع العذاب، وتحويلها أن ينقل العذاب من قوم يستحقونه إلى غيرهم، وسنة الله لا تقبل تبديلا ولا تحويلا لانه تعالى على صراط مستقيم لا يقبل حكمه تبعيضا ولا استثناء. وقد أخذ الله بالعذاب هؤلا المشركين الماكرين يوم بدر فقتل عامتهم. والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل سامع. قوله تعالى: " أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة " استشهاد على سنته الجارية في الامم الماضية وقد كانوا أشد قوة من مشركي مكة فأخذهم الله بالعذاب لما مكروا وكذبوا. قوله تعالى: " وما كان الله ليعجزه من شئ في السماوات والارض إنه كان عليما

[ 59 ]

قديرا " تتميم لسابق البيان لمزيد إنذارهم وتخويفهم، والمحصل ليتقوا الله وليؤمنوا به ولا يمكروا به ولا يكذبوا فإن سنة الله في ذلك هي العذاب كما يشهد به ما جرى في الامم السابقة من الاهلاك والتعذيب وقد كانوا أشد قوة منهم والله سبحانه لا يعجزه شئ في السماوات والارض بقوة أو مكر فإنه عليم على الاطلاق لا يغفل ولا يجهل حتى ينخدع بمكر أو حيلة قدير على الاطلاق لا يقاومه شئ. قوله تعالى: " ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة " الخ. المراد بالمؤاخذة المؤاخذة الدنيوية كما يدل عليه قوله الاتي: " ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى " الخ. والمراد بالناس جميعهم فإن الاية مسبوقة بذكر مؤاخذة بعضهم وهم الماكرون المكذبون بآيات الله، والمراد بما كسبوا المعاصي التي اكتسبوها بقرينة المؤاخذة التي هو العذاب وقد قال في نظيرة الاية من سورة النحل: " ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة " النحل: 61. والمراد بظهرها ظهر الارض لان الناس يعيشون عليه على أن الارض تقدم ذكرها في الاية السابقة. والمراد بالدابة كل ما يدب في الارض من إنسان ذكر أو أنثى أو كبير أو صغير واحتمل أن يكون المراد كل ما يدب في الارض من حيوان وإهلاك غير الانسان من أنواع الحيوان إنما هو لكونها مخلوقة للانسان كما قال تعالى: " خلق لكم ما في الارض جميعا " البقرة: 29. وقول بعضهم: ذلك لشؤم المعاصي وقد قال تعالى: " واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة " مدفوع بأن شؤم المعصية لا يتعدى العاصي إلى غيره وقد قال تعالى: " ولا تزر وازرة وزر أخرى " فاطر: 18، وأما الاية أعني قوله: " واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة " الانفال: 25 فمدلولها على ما تقدم من تفسيرها اختصاص الفتنة بالذين ظلموا منهم خاصة لا عمومها لهم ولغيرهم فراجع. وقوله: " ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى " وهو الموت أو القيامة وقوله: " فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا " أي فيجازي كلا بما عمل فإنه بصير بهم عليم بأعمالهم لانهم عباده وكيف يمكن أن يجهل الخالق خلقه والرب عمل عبده ؟

[ 60 ]

وقد بان بما تقدم أن قوله: " فإن الله كان بعباده بصيرا " من وضع السبب موضع المسبب الذي هو الجزاء. والاية أعني قوله تعالى: " ولو يؤاخذ الله الناس " الخ. واقعة موقع الجواب عن سؤال مقدر ناش عن الاية السابقة فإنه تعالى لما أنذر أهل والمكر والتكذيب من المشركين بالمؤاخذة واستشهد بما جرى في الامم السابقة وذكر أنه لا يعجزه شئ في السماوات والارض كأنه قيل: فإذا لم يعجزه شئ في السماوات والارض فكيف يترك سائر الناس على ما هم عليه من المعاصي ؟ وماذا يمنعه أن يؤاخذهم بما كسبوا ؟ فأجاب أنه لو يؤاخذ جميع الناس بما كسبوا من المعاصي كما يؤاخذ هؤلاء الماكرين المكذبين ما ترك على ظهر الارض أحدا منهم يدب ويتحرك، وقد قضى سبحانه أن يعيشوا في الارض ويعمروها إذ قال: " ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين " البقرة: 36 فلا يؤاخذهم ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى وهو الموت أو البعث فإذا جاء أجلهم عاملهم بما عملوا إنه كان بعباده بصيرا. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم من طريق سفيان عن أبي زكريا الكوفي عن رجل حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والمكر السيئ فإنه لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ولهم من الله طالب. وفي تفسير القمي حدثني أبي عن النوفلي عن السكوني عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سبق العلم، وجف القلم، ومضى القضاء وتم القدر بتحقيق الكتاب، وتصديق الرسل، وبالسعادة من الله لمن آمن واتقى وبالشقاء لمن كذب وكفر، وبالولاية من الله عز وجل للمؤمنين، وبالبراءة منه للمشركين. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله عز وجل يقول: يابن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد، وبفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي، وبقوتي وعصمتي وعافيتي أديت إلي فرائضي وأنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بذنبك مني، الخير مني إليك واصل بما أو ليتك به، والشر منك إليك بما جنيت جزاء،

[ 61 ]

وبكثير من تسلطي لك انطويت على طاعتي، وبسوء ظنك بي قنطت من رحمتي. فلي الحمد والحجة عليك بالبيان، ولي السبيل عليك بالعصيان، ولك الجزاء الحسن عندي بالاحسان، لم أدع تحذيرك، ولم آخذك عند غرتك وهو قوله عز وجل: " ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة "، لم أكلفك فوق طاقتك، ولم أحملك من الامانة إلا ما أقررت بها على نفسك، ورضيت لنفسي منك بما رضيت به لنفسك مني ثم قال عز وجل: " ولكن يوخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا ". سورة يس مكية وهى ثلاث وثمانون آية بسم الله الرحمن الرحيم يس - 1. والقرآن الحكيم - 2. إنك لمن المرسلين - 3. على صراط مستقيم - 4. تنزيل العزيز الرحيم - 5. لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون - 6. لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون - 7. إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الاذقان فهم مقمحون - 8. وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون - 9. وسواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون - 10. إنما تنذر من أتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم - 11. إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شئ أحصيناه في إمام مبين - 12.

[ 62 ]

(بيان) غرض السورة بيان الاصول الثلاثة للدين فهي تبتدئ بالنبوة وتصف حال الناس في قبول الدعوة وردها وأن غاية الدعوة الحقة إحياء قوم بركوبهم صراط السعادة وتحقيق القول على آخرين وبعبارة أخرى تكميل الناس في طريقي السعادة والشقاء. ثم تنتقل السورة إلى التوحيد فتعد جملة من آيات الوحدانية ثم تنتقل إلى ذكر المعاد فتذكر بعث الناس للجزاء وامتياز المجرمين يومئذ من المتقين وتصف ما تؤل إليه حال كل من الفريقين. ثم ترجع إلى ما بدأت فتلخص القول في الاصول الثلاثة وتستدل عليها وعند ذلك تختتم السورة. ومن غرر الايات فيها قوله تعالى: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ وإليه ترجعون " فالسورة عظيمة الشأن تجمع أصول الحقائق وأعراقها وقد ورد من طرق العامة والخاصة أن لكل شئ قلبا وقلب القرآن يس (1). والسورة مكية بشهادة سياق آياتها. قوله تعالى: " يس والقرآن الحكيم - إلى قوله - فهم غافلون " إقسام منه تعالى بالقرآن الحكيم على كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المرسلين، وقد وصف القرآن بالحكيم لكونه مستقرا فيه الحكمة وهي حقائق المعارف وما يتفرع عليها من الشرائع والعبر والمواعظ. وقوله: " إنك لمن المرسلين " مقسم عليه كما تقدم. وقوله: " على صراط مستقيم " خبر بعد خبر لقوله: " إنك "، وتنكير الصراط - كما قيل - للدلالة على التفخيم وتوصيفه بالمستقيم للتوضيح فإن الصراط هو الطريق (1)


رواه الصدوق في ثواب الاعمال عن ابي عبد الله عليه السلام والسيوطي في الدر المنثور عن أنس وأبي هريرة ومعقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وآله.

[ 63 ]

الواضح المستقيم، والمراد به الطريق الذي يوصل عابريه إلى الله تعالى أي إلى السعادة الانسانية التي فيها كمال العبودية لله والقرب، وقد تقدم في تفسير الفاتحة بعض ما ينفع في هذا المقام من الكلام. وقوله: " تنزيل العزيز الرحيم " وصف للقرآن مقطوع عن الوصفية منصوب على المدح، والمصدر بمعنى المفعول ومحصل المعنى أعني بالقرآن ذاك المنزل الذي أنزله الله العزيز الرحيم الذي استقر فيه العزة والرحمة. والتذييل بالوصفين للاشارة إلى أنه قاهر غير مقهور وغالب غير مغلوب فلا يعجزه إعراض المعرضين عن عبوديته ولا يستذله جحود الجاحدين وتكذيب المكذبين، وأنه ذو رحمة واسعة لمن يتبع الذكر ويخشاه بالغيب لا لينتفع بإيمانهم بل ليهديهم إلى ما فيه سعادتهم وكمالهم فهو بعزته ورحمته أرسل الرسول وأنزل عليه القرآن الحكيم لينذر الناس فيحق كلمة العذاب على بعضهم ويشمل الرحمة منهم آخرين. وقوله: " لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون " تعليل للارسال والتنزيل و " ما " نافية والجملة صفة لقوله: " قوما " والمعنى إنما أرسلك وأنزل عليك القرآن لتنذر وتخوف قوما لم ينذر آباءهم فهم غافلون. والمراد بالقوم إن كان هو قريش ومن يلحق بهم فالمراد بآبائهم آباؤهم الادنون فإن الابعدين من آبائهم كان فيهم النبي إسماعيل ذبيح الله، وقد أرسل إلى العرب رسل آخرون كهود وصالح وشعيب عليهم السلام، وإن كان المراد جميع الناس المعاصرين نظرا إلى عموم الرسالة فكذلك أيضا فآخر رسول معروف بالرسالة قبله صلى الله عليه وآله وسلم هو عيسى عليه السلام وبينهما زمان الفترة. واعلم أن ما ذكرناه في تركيب الايات هو الذي يسبق منها إلى الفهم وقد أوردوا في ذلك وجوها أخر بعيدة عن الفهم تركناها من أرادها فليراجع المطولات. قوله تعالى: " لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون " اللام للقسم أي أقسم لقد ثبت ووجب القول على أكثرهم، والمراد بثبوت القول عليهم صيرورتهم مصاديق يصدق عليهم القول. والمراد بالقول الذي حق عليهم كلمة العذاب التي تكلم بها الله سبحانه في بدء

[ 64 ]

الخلقة مخاطبا بها إبليس: " الحق والحق أقول لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين " ص: 85 والمراد بتبعية إبليس طاعته فيما يأمر به بالوسوسة والتسويل بحيث تثبت الغواية وترسخ في النفس كما يشير إليه قوله تعالى خطابا لابليس: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين " الحجر: 43. ولازمه الطغيان والاستكبار على الحق كما يشير إليه ما يحكيه الله من تساؤل المتبوعين والتابعين في النار: " بل كنتم قوما طاغين فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون فأغويناكم إنا كنا غاوين " الصافات: 32، وقوله: " ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين " الزمر: 72. ولازمه الانكباب على الدنيا والاعراض عن الاخرة بالمرة ورسوخ ذلك في نفوسهم قال تعالى: " ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الاخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين اولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون " النحل: 108 فيطبع الله على قلوبهم ومن آثاره أن لا سبيل لهم إلى الايمان قال تعالى: " إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون " يونس: 96. وبما تقدم ظهر أن الفاء في قوله: " فهم لا يؤمنون " للتفريع لا للتعليل كما احتمله بعضهم. قوله تعالى: " إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الاذقان فهم مقمحون " الاعناق جمع عنق بضمتين وهو الجيد، والاغلال جمع غل بالكسر وهي على ما قيل ما تشد به اليد إلى العنق للتعذيب والتشديد، ومقمحون اسم مفعول من الاقماح وهو رفع الرأس كأنهم قد ملات الاغلال ما بين صدورهم إلى أذقانهم فبقيت رؤوسهم مرفوعة إلى السماء لا يتأتى لهم أن ينكسوها فينظروا إلى ما بين أيديهم من الطريق فيعرفوها ويميزوها من غيرها. وتنكير قوله: " أغلالا " للتفخيم والتهويل. والاية في مقام التعليل لقوله السابق: " فهم لا يؤمنون ".

[ 65 ]

قوله تعالى: " وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون " السد الحاجز بين الشيئين، وقوله: " من بين أيديهم ومن خلفهم " كناية عن جميع الجهات، والغشي والغشيان التغطية يقال: غشيه كذا أي غطاه و أغشى الامر فلانا أي جعل الامر يغطيه، والاية متممة للتعليل السابق وقوله: " جعلنا " معطوف على " جعلنا " المتقدم. وعن الرازي في تفسيره في معنى التشبيه في الايتين أن المانع عن النظر في الايات قسمان: قسم يمنع عن النظر في الانفس فشبه ذلك بالغل الذي يجعل صاحبه مقمحا لا يرى نفسه ولا يقع بصره على بدنه، وقسم يمنع عن النظر في الافاق فشبه ذلك بالسد المحيط فإن المحاط بالسد لا يقع نظره على الافاق فلا يظهر له ما فيها من الايات فمن ابتلى بهما حرم عن النظر بالكلية. ومعنى الايتين أنهم لا يؤمنون لانا جعلنا في أعناقهم أغلالا نشد بها أيديهم على أعناقهم فهي إلى الاذقان فهم مرفوعة رؤسهم باقون على تلك الحال وجعلنا من جميع جهاتهم سدا فجعلناه يغطيهم فهم لا يبصرون فلا يهتدون. ففي الايتين تمثيل لحالهم في حرمانهم من الاهتداء إلى الايمان وتحريمه تعالى عليهم ذلك جزاء لكفرهم وغوايتهم وطغيانهم في ذلك. وقد تقدم في قوله تعالى: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا " البقرة: 26 في الجزء الاول من الكتاب أن ما وقع في القرآن من هذه الاوصاف ونظائرها التى وصف بها المؤمنون والكفار يكشف عن حياة أخرى للانسان في باطن هذه الحياة الدنيوية مستورة عن الحس المادي ستظهر له إذا انكشفت الحقائق بالموت أو البعث، وعليه فالكلام في أمثال هذه الايات جار في مجرى الحقيقة دون المجاز كما عليه القوم. قوله تعالى: " وسواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " عطف تفسير وتقرير لما تتضمنه الايات الثلاث المتقدمة وتلخيص للمراد وتمهيد لما يتلوه من قوله: " إنما تنذر من اتبع الذكر " الاية. واحتمل أن يكون عطفا على قوله: " لا يبصرون " والمعنى فهم لا يبصرون

[ 66 ]

ويستوي عليهم إنذارك وعدم إنذارك لا يؤمنون والوجه الاول أقرب إلى الفهم. قوله تعالى: " إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم " القصر للافراد، والمراد بالانذار الانذار النافع الذي له أثر، وبالذكر القرآن الكريم، وباتباعه تصديقه والميل إليه إذا تليت آياته، والتعبير بالماضي للاشارة إلى تحقق الوقوع، والمراد بخشية الرحمن بالغيب خشيته تعالى من وراء الحجاب وقبل انكشاف الحقيقة بالموت أو البعث، وقيل: أي حال غيبته من الناس بخلاف المنافق وهو بعيد. وقد علقت الخشية على اسم الرحمن الدال على صفة الرحمة الجالبة للرجاء للاشعار بأن خشيتهم خوف مشوب برجاء وهو الذي يقر العبد في مقام العبودية فلا يأمن ولا يقنط. وتنكير " مغفرة " و " أجر كريم " للتفخيم أي فبشره بمغفرة عظيمة من الله وأجر كريم لا يقادر قدره وهو الجنة، والدليل على جميع ما تقدم هو السياق. والمعنى: إنما تنذر الانذار النافع الذي له أثر، من اتبع القرآن إذا تليت عليه آياته وما إليه وخشي الرحمن خشية مشوبة بالرجاء فبشره بمغفرة عظيمة وأجر كريم لا يقادر قدره. قوله تعالى: " إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شئ أحصيناه في إمام مبين " المراد بإحياء الموتى إحياؤهم للجزاء. والمراد بما قدموا الاعمال التي عملوها قبل الوفاة فقدموها على موتهم، والمراد بآثارهم ما تركوها لما بعد موتهم من خير يعمل به كتعليم علم ينتفع به أو بناء مسجد يصلى فيه أو ميضاة يتوضأ فيها، أو شر يعمل به كوضع سنة مبتدعة يستن بها أو بناء مفسقة يعصى الله فيها. وربما قيل: إن المراد بما قدموا النيات وبآثارهم الاعمال المترتبة المتفرعة عليها وهو بعيد من السياق. والمراد بكتابة ما قدموا وآثارهم ثبتها في صحائف أعمالهم وضبطها فيها بواسطة كتبة الاعمال من الملائكة وهذه الكتابة غير كتابة الاعمال وإحصائها في الامام المبين

[ 67 ]

الذي هو اللوح المحفوظ وإن توهم بعضهم أن المراد بكتابة ما قدموا وآثارهم هو إحصاؤها في الكتاب المبين وذلك أنه تعالى يثبت في كلامه كتابا يحصى كل شئ ثم لكل أمة كتابا يحصي أعمالهم ثم لكل إنسان كتابا يحصي أعماله كما قال: " ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " الانعام: 59، وقال: " كل أمة تدعى إلى كتابها " الجاثية: 28، وقال: " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا " أسرى: 13، وظاهر الاية أيضا يقضي بنوع من البينونة بين كتاب الاعمال والامام المبين حيث فرق بينهما بالخصوص والعموم واختلاف التعبير بالكتابة والاحصاء. وقوله: " وكل شئ أحصيناه في إمام مبين " هو اللوح المحفوظ من التغيير الذي يشتمل على تفصيل قضائه سبحانه في خلقه فيحصي كل شئ وقد ذكر في كلامه تعالى بأسماء مختلفة كاللوح المحفوظ وام الكتاب والكتاب المبين والامام المبين كل منها بعناية خاصة. ولعل العناية في تسميته إماما مبينا أنه لاشتماله على القضاء المحتوم متبوع للخلق مقتدى لهم وكتب الاعمال كما سيأتي في تفسير سورة الجاثية مستنسخة منه قال تعالى: " هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون " الجاثية: 29. وقيل: المراد بالامام المبين صحف الاعمال وليس بشئ، وقيل: علمه تعالى وهو كسابقه نعم لو أريد به العلم الفعلي كان له وجه. ومن عجيب القول في هذا المقام ما ذكره بعضهم أن الذي كتب في اللوح المحفوظ هو ما كان وما يكون إلى يوم القيامة لا حوادث العالم إلى أبد الابدين وذلك أن اللوح عند المسلمين جسم وكل جسم متناهي الابعاد كما يشهد به الادلة وبيان كل شئ فيه على الوجه المعروف عندنا دفعة مقتض لكون المتناهي ظرفا لغير المتناهي وهو محال بالبديهة فالوجه تخصيص عموم كل شئ والقول بأن المراد به الحوادث إلى يوم القيامة هذا. وهو تحكم وسنتعرض له تفصيلا. والاية في معنى التعليل بالنسبة إلى ما تقدمها كأنه تعالى يقول: ما أخبرنا به ووصفناه من حال أولئك الذين حق عليهم القول وهؤلاء الذين يتبعون الذكر ويخشون

[ 68 ]

ربهم بالغيب هو كذلك لان أمر حياة الكل إلينا وأعمالهم وآثارهم محفوظة عندنا فنحن على علم وخبرة بما تؤل إليه حال كل من الفريقين. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " فهم مقمحون " قال: قد رفعوا رؤسهم. وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون " الهدى، أخذ الله سمعهم وأبصارهم وقلوبهم وأعمالهم عن الهدى. نزلت في أبي جهل بن هشام ونفر من أهل بيته وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام يصلي وقد حلف أبو جهل لعنه الله لئن رآه يصلي ليدمغه (1) فجاءه ومعه حجر والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قائم يصلي فجعل كلما رفع الحجر ليرميه أثبت الله عز وجل يده إلى عنقه ولا يدور الحجر بيده فلما رجع إلى أصحابه سقط الحجر من يده ثم قام رجل آخر وهو رهطه أيضا فقال أنا أقتله فلما دنا منه فجعل يسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأرعب فرجع إلى أصحابه فقال: حال بيني وبينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه فخفت أن أتقدم. وقوله تعالى: " وسواء عليهم ء أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " فلم يؤمن من اولئك الرهط من بني مخزوم أحد. أقول: وروى نحوا منه في الدر المنثور عن البيهقي في الدلائل عن ابن عباس وفيه أن ناسا من بني مخزوم تواطؤا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه منهم أبو جهل والوليد بن المغيرة فبينا النبي صلى الله عليه وسلم قائم يصلي يسمعون قراءته فأرسلوا إليه الوليد ليقتله فانطلق حتى أتى المكان الذي يصلي فيه فجعل يسمع قراءته ولا يراه فانطلق إليهم فأعلمهم ذلك فأتوه فلما انتهوا إلى المكان الذي يصلي فيه سمعوا قراءته فيذهبون إليه فيسمعون أيضا من (1)


دمغه أي شجة حتى بلغت الشجة دماغه.

[ 69 ]

خلفهم فانصرفوا فلم يجدوا إليه سبيلا. فذلك قوله: " وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا " الاية. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرء في المسجد فيجهر بالقراءة حتى تأذى به ناس من قريش حتى قاموا ليأخذوه وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم وإذا هم لا يبصرون فجاؤا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ننشدك الله والرحم يا محمد ولم يكن بطن من بطون قريش إلا وللنبي صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة فدعا النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهب ذلك عنهم فنزلت: " يس والقرآن الحكيم - إلى قوله - أم لم تنذرهم لا يؤمنون ". قال: فلم يؤمن من ذلك النفر أحد. أقول: وقد رووا القصة بأشكال مختلفة في بعضها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرء الايات فاحتجب منهم فلم يروه ودفع الله عنه شرهم وكيدهم، وفي بعضها أن الايات - من أول السورة إلى قوله: " فهم لا يؤمنون " - نزلت في القصة فقوله: " إنا جعلنا " إلى آخر الايتين يقص صنع الله بهم في ستر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أبصارهم وقوله: " وسواء عليهم " الخ يخبر عن عدم إيمان ذاك النفر. وأنت خبير بأن سياق الايات يأبى الانطباق على هذه الروايات بما فيها من القصة فهو سياق متناسق منسجم يصف حال طائفتين من الناس وهم الذين حق عليهم القول فهم لا يؤمنون والذين يتبعون الذكر ويخشون ربهم بالغيب. وأين ذلك من حمل قوله: " لقد حق القول على أكثرهم " على الناس المنذرين وحمل قوله: " إنا جعلنا في أعناقهم " و " جعلنا من بين أيديهم سدا " الايتين على قصة أبي جهل ورهطه، وحمل قوله: " وسواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم " على رهطه وأضف إلى ذلك حمل قوله: " ونكتب ما قدموا وآثارهم " على قصة قوم من الانصار بالمدينة وسيوافيك خبره فيختل بذلك السياق وتنثلم وحدة النظم. فالحق أن الايات نازلة دفعة ذات سياق واحد تصف حال الناس وتفرقهم عند بلوغ الدعوة ووقوع الانذار على فرقتين، ولا مانع من وقوع القصة واحتجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أعدائه بالايات. وفيه أخرج عبد الرزاق والترمذي وحسنه والبزار وابن جرير وابن المنذر

[ 70 ]

وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن أبي سعيد الخدري قال: كان بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فأنزل الله: " إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم " فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنه يكتب آثاركم ثم قرء عليهم الاية فتركوا. وفيه أخرج الفاريابي وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: كانت الانصار منازلهم بعيدة من المسجد فأرادوا أن ينتقلوا قريبا من المسجد فنزلت " ونكتب ما قدموا وآثارهم " فقالوا: بل نمكث مكاننا. أقول: والكلام في الروايتين كالكلام فيما تقدمهما. وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شئ. ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص من أوزارهم شئ. ثم تلا هذه الاية " ونكتب ما قدموا وآثارهم ". وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وكل شئ أحصيناه في إمام مبين " أي في كتاب مبين وهو محكم، وذكر ابن عباس عن أمير المؤمنين عليه السلام: أنا والله الامام المبين أبين الحق من الباطل ورثته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفي معاني الاخبار بإسناده إلى أبي الجارود عن أبي جعفر عن أبيه عن جده عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أنه قال في علي عليه السلام أنه الامام الذي أحصى الله تبارك وتعالى فيه علم كل شئ. أقول: الحديثان لو صحا لم يكونا من التفسير في شئ بل مضمونهما من بطن القرآن وإشاراته، ولا مانع من أن يرزق الله عبدا وحده وأخلص العبودية له العلم بما في الكتاب المبين وهو عليه السلام سيد الموحدين بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. * * * واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون - 13.

[ 71 ]

إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون - 14. قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمان من شئ إن أنتم إلا تكذبون - 15. قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون - 16. وما علينا إلا البلاغ المبين - 17. قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم - 18. قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون - 19. وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين - 20. إتبعوا من لا يسئلكم أجرا وهم مهتدون - 21. وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون - 22. ءأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون - 23. إني إذا لفي ضلال مبين - 24. إني آمنت بربكم فاسمعون - 25. قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون - 26. بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين - 27. وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين - 28. إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون - 29. يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤن - 30. ألم يروا كم

[ 72 ]

أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون - 31. وإن كل لما جميع لدينا محضرون - 32. (بيان) مثل مشتمل على الانذار والتبشير ضربه الله سبحانه لعامة القوم يشير فيه إلى الرسالة الالهية وما تستتبعه الدعوة الحقة من المغفرة والاجر الكريم لمن آمن بها واتبع الذكر وخشي الرحمان بالغيب، ومن العذاب الاليم لمن كفر وكذب بها فحق عليه القول، وفيه إشارة إلى وحدانيته تعالى ومعاد الناس إليه جميعا. ولا منافاة بين إخباره بأنهم لا يؤمنون سواء أنذروا أم لم ينذروا وبين إنذارهم لان في البلاغ إتماما للحجة وتكميلا للسعادة أو الشقاوة قال تعال: " ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة " الانفال: 42، وقال: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " أسرى: 82. قوله تعالى: " واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون " المثل كلام أو قصة يمثل به مقصد من المقاصد فيتضح للمخاطب، ولما كانت قصتهم توضح ما تقدم من الوعد والوعيد أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يضربها مثلا لهم. والظاهر أن " مثلا " مفعول ثان لقوله: " اضرب " ومفعوله الاول قوله: " أصحاب القرية " والمعنى واضرب لهم أصحاب القرية وحالهم هذه الحال مثلا وقد قدم المفعول الثاني تحرزا عن الفصل المخل. قوله تعالى: " إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون " التعزيز من العزة بمعنى القوة والمنعة، وقوله: " إذ أرسلنا إليهم " بيان تفصيلي لقوله: " إذ جاءها المرسلون ". والمعنى: واضرب لهم مثلا أصحاب القرية وهم في زمان أرسلنا إليهم رسولين اثنين من رسلنا فكذبوهما أي الرسولين فقويناهما برسول ثالث فقالت الرسل إنا إليكم

[ 73 ]

مرسلون من جانب الله. قوله تعالى: " قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمان من شئ إن أنتم إلا تكذبون " كانوا يرون أن البشر لا ينال النبوة والوحي، ويستدلون على ذلك بأنفسهم حيث لا يجدون من أنفسهم شيئا من ذاك القبيل فيسرون الحكم إلى نفوس الانبياء مستندين إلى أن حكم الامثال واحد. وعلى هذا التقرير يكون معنى قوله: " وما أنزل الرحمن من شئ " لم ينزل الله وحيا ولو نزل شيئا على بشر لنلناه من نفوسنا كما تدعون أنتم ذلك، وتعبيرهم عن الله سبحانه بالرحمن إنما هو لكونهم كسائر الوثنيين معترفين بالله سبحانه واتصافه بكرائم الصفات (1) كالخلق والرحمة والملك غير أنهم يرون أنه فوض أمر التدبير إلى مقربي خلقه كالملائكة الكرام فهم الارباب المدبرون والالهة المعبودون، وأما الله عز اسمه فهو رب الارباب وإله الالهة. ومن الممكن أن يكون ذكر اسم الرحمان في الحكاية دون المحكي فيكون التعبير به لحلمه ورحمته تعالى قبل إنكارهم وتكذيبهم للحق الصريح. وقوله: " إن أنتم إلا تكذبون " بمنزلة النتيجة لصدر الاية، ومحصل قولهم أنكم بشر مثلنا ولا نجد نحن على بشريتنا في نفوسنا شيئا من الوحي النازل الذي تدعونه وأنتم مثلنا فما أنزل الرحمان شيئا من الوحي فدعواكم كاذبة وإذ ليس لكم إلا هذه الدعوى فإن أنتم إلا تكذبون. ويظهر بما تقدم نكتة الحصر في قوله: " إن أنتم إلا تكذبون " وكذا الوجه في نفي الفعل ولم يقل: " إن أنتم إلا كاذبون لان المراد نفي الفعل في الحال دون الاستمرار والاستقبال. قوله تعالى: " قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين " لم يحك الله سبحانه عن هؤلاء الرسل جوابا عن حجة قومهم، ما أنتم إلا بشر مثلنا " الخ. (1)


لكنهم مختلفون في تفسيرها والصابئون يفسرونها بالنفى فمعنى العالم والقادر عندهم من ليس بجاهل وعاجز.

[ 74 ]

كما نقل عن الرسل المبعوثين إلى الامم الدارجة لما احتجت أممهم بمثل هذه الحجة " إن أنتم إلا بشر مثلنا " فردتها رسلهم بقولهم: " إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده " إبراهيم: 11 وقد مر تقريره. بل حكى عنهم أنهم ذكروا للقوم أنهم مرسلون إليهم مأمورون بتبليغ الرسالة ليس عليهم إلا ذلك وأنهم في غنى عن تصديقهم لهم وإيمانهم بهم ويكفيهم فيه أن يعلم ربهم بأنهم مرسلون لا حاجة لهم إلى أزيد من ذلك. فقوله: " قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون " إخبار عن رسالتهم وقد أكد الكلام بإن المشددة المكسورة واللام، والاستشهاد بعلم ربهم بذلك، وقوله: " ربنا يعلم " معترض بمنزلة القسم، و المعنى إنا مرسلون إليكم صادقون في دعوى الرسالة ويكفينا في ذلكم علم ربنا الذي أرسلنا بها ولا حاجة لنا فيه إلى تصديقكم لنا ولا نفع لنا فيه من أجر ونحوه ولا يهمنا تحصيله منكم بل الذي يهمنا هو تبليغ الرسالة وإتمام الحجة. وقوله: " وما علينا إلا البلاغ المبين " البلاغ هو التبليغ والمراد به تبليغ الرسالة أي لم يؤمر ولم نكلف إلا بتبليغ الرسالة وإتمام الحجة. قوله تعالى: " قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم " القائلون أصحاب القرية والمخاطبون هم الرسل، والتطير هو التشأم وقولهم: " لئن لم تنتهوا " الخ. تهديد منهم للرسل. والمعنى: قالت أصحاب القرية لرسلهم، إنا تشأمنا بكم ونقسم لئن لم تنتهوا عن التبليغ ولم تكفوا عن الدعوة لنرجمنكم بالحجارة وليصلن إليكم وليقعن بكم منا عذاب أليم. قوله تعالى: " قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون " القائلون هم الرسل يخاطبون به أصحاب القرية. وقوله: " طائركم معكم " الطائر في الاصل هو الطير وكان يتشاءم به ثم توسع واستعمل في كل ما يتشاءم به، وربما يستعمل فيما يستقبل الانسان من الحوادث، وربما يستعمل في البخت الشقي الذي هو أمر موهوم يرونه مبدء لشقاء الانسان وحرمانه من كل خير.

[ 75 ]

وكيف كان فقوله: " طائركم معكم ظاهر معناه أن الذي ينبغي أن تتشأموا به هو معكم وهو حالة إعراضكم عن الحق الذي هو التوحيد واقبالكم إلى الباطل الذي هو الشرك. وقيل: المعنى طائركم أي حظكم ونصيبكم من الخير والشر معكم من أفعالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر، هذا وهو أخذ الطائر بالمعنى الثاني لكن قوله بعد: " أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون " أنسب بالنسبة إلى المعنى الاولى. وقوله: " أئن ذكرتم " استفهام توبيخي والمراد بالتذكير تذكيرهم بالحق من وحدانيته تعالى ورجوع الكل إليه ونحوهما وجزاء الشرط محذوف في الكلام تلويحا إلى أنه مما لا ينبغي أن يذكر أو يتفوه به والتقدير ءإن ذكرتم بالحق قابلتموه بمثل هذا الجحود الشنيع والصنيع الفظيع من التطير والتوعد. وقوله: " بل أنتم قوم مسرفون " أي مجاوزون للحد في المعصية وهو إضراب عما تقدم والمعنى بل السبب الاصلي في جحودكم وتكذيبكم للحق أنكم قوم تستمرون على الاسراف ومجاوزة الحد. قوله تعالى: " وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين " أقصى المدينة أبعد مواضعها بالنسبة إلى مبدء مفروض، وقد بدلت القرية في أول الكلام مدينة هنا للدلالة على عظمها والسعي هو الاسراع في المشي. ووقع نظير هذا التعبير في قصة موسى والقبطي وفيها " وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى " فقدم " رجل " هناك وأخر ههنا ولعل النكتة في ذلك أن الاهتمام هناك بمجيئ الرجل وإخباره موسى بائتمار الملاء لقتله فقدم الرجل ثم أشير إلى اهتمام الرجل نفسه بإيصال الخبر وإبلاغه فجيئ بقوله: " يسعى " حالا مؤخرا بخلاف ما ههنا فالاهتمام بمجيئه من أقصى المدينة ليعلم أن لا تواطؤ بينه وبين الرسل في أمر الدعوة فقدم " من أقصى المدينة " وأخر الرجل وسعيه. وقد اشتد الخلاف بينهم في اسم الرجل واسم أبيه وحرفته وشغله ولا يهمنا الاشتغال بذلك في فهم المراد ولو توقف عليه الفهم بعض التوقف لاشار سبحانه في كلامه إليه ولم يهمله.

[ 76 ]

وإنما المهم هو التدبر في حظه من الايمان في هذا الموقف الذي انتهض فيه لتأييد الرسل عليهم السلام ونصرتهم فقد كان على ما يعطيه التدبر في المنقول من كلامه رجلا نور الله سبحانه قلبه بنور الايمان يؤمن بالله إيمان إخلاص يعبده لا طمعا في جنة أو خوفا من نار بل لانه أهل للعبادة ولذلك كان من المكرمين ولم يصف الله سبحانه في كلامه بهذا الوصف إلا ملائكته المقربين وعباده المخلصين، وقد خاصم القوم فخصمهم وأبطل ما تعلق به القوم من الحجة على عدم جواز عبادة الله سبحانه ووجوب عبادة آلهتهم وأثبت وجوب عبادته وحده وصدق الرسل في دعواهم الرسالة ثم آمن بهم. قوله تعالى: " اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون " بيان لقوله: " اتبعوا المرسلين " وفي وضع قوله: " من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون " في هذه الاية موضع قوله: " المرسلين " في الاية السابقة إشعار بالعلية وبيانها أن عدم جواز اتباع قائل في قوله إنما يكون لاحد أمرين: " إما لكون قوله ضلالا والقائل به ضالا ولا يجوز اتباع الضال في ضلاله، وإما لان القول وإن كان حقا والحق واجب الاتباع لكن لقائله غرض فاسد يريد أن يتوسل إليه بكلمة الحق كاقتناء المال واكتساب الجاه والمقام ونحو ذلك، وأما إذا كان القول حقا وكان القائل بريئا من الغرض الفاسد منزها من الكيد والمكر والخيانة كان من الواجب اتباعه في قوله، وهؤلاء الرسل مهتدون في قولهم: لا تعبدوا إلا الله، وهم لا يريدون منكم أجرا من مال أو جاه فمن الواجب عليكم أن تتبعوهم في قولهم. أما أنهم مهتدون فلقيام الحجة على صدق ما يدعون إليه من التوحيد وكونه حقا، والحجة هي قوله: " وما لي لا أعبد " إلى تمام الايتين. وأما انهم لا يريدون منكم أجرا فلما دل عليه قولهم: " ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون " وقد تقدم تقريره. وبهذا البيان يتأيد ما قدمناه من كون قولهم: " ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون " مسوقا لنفي إرادتهم من القوم أجرا أو غير ذلك. قوله تعالى: " وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ءأتخذ من دونه آلهة - إلى قوله - ولا ينقذون " شرع في استفراغ الحجة على التوحيد ونفي الالهة في آيتين

[ 77 ]

واختار لذلك سياق التكلم وحده إلا في جملة اعترض بها في خلال الكلام وهي قوله: " وإليه ترجعون " وذلك بإجراء الحكم في نفسه بما أنه إنسان أوجده الله وفطره حتى يجري في كل إنسان هو مثله والافراد أمثال فقوله: " وما لي لا أعبد " الخ. في معنى وما للانسان لا يعبد الخ. أيتخذ الانسان من دونه آلهة الخ. وقد عبر عنه تعالى بقوله: " الذي فطرني " للاشعار بالعلية فإن فطره تعالى للانسان وإيجاده له بعد العدم لازمه رجوع كل ما للانسان من ذات وصفات وأفعال إليه تعالى وقيامه به وملكه له فليس للانسان إلا العبودية محضة فعلى الانسان أن ينصب نفسه في مقام العبودية ويظهرها بالنسبة إليه تعالى وهذا هو العبادة فعليه أن يعبده تعالى لانه أهل لها. وهذا هو الذي أشرنا إليه آنفا أن الرجل كان يعبد الله بالاخلاص له لا طمعا في جنة ولا خوفا من نار بل لانه أهل للعبادة. وإذ كان الايمان به تعالى وعبادته هكذا أمرا لا يناله عامة الناس فإن الاكثرين منهم إنما يعبدون خوفا أو طمعا أو لكليهما التفت الرجل بعد بيان حال نفسه إلى القوم فقال: " وإليه ترجعون " يريد به إنذارهم بيوم الرجوع وأنه تعالى سيحاسبهم على ما عملوا فيجازيهم بمساوي أعمالهم فقوله: " وإليه ترجعون " كالمعترضة الخارجة عن السياق أو هي هي. ثم إن الايتين حجتان قائمتان على إبطال ما احتج به الوثنية وبنوا على ذلك عبادة الاصنام وأربابها. توضيح ذلك أنهم قالوا: إن الله سبحانه أجل من أن يحيط به حس أو خيال أو عقل لا يناله شئ من القوى الادراكية فلا يمكن التوجه إليه بالعبادة فسبيل العبادة أن نتوجه إلى مقربي حضرته والاقوياء من خلقه كالملائكة الكرام والجن والقديسين من البشر حتى يكونوا شفعاء لنا عند الله في إيصال الخيرات ودفع الشرور والمكاره. والجواب عن أولى الحجتين بما حاصله أن الانسان وإن كان لا يحيط علما بالذات المتعالية لكنه يعرفه تعالى بصفاته الخاصة به مثل كونه فاطرا له موجدا إياه فله أن يتوجه إليه من طريق هذه الصفات وإنكار إمكانه مكابرة، وهذا الجواب هو الذي

[ 78 ]

أشار إليه بقوله: " وما لي لا أعبد الذي فطرني ". وعن الثانية أن هؤلاء الالهة إن كانت لهم شفاعة كانت مما أفاضه الله عليهم والله سبحانه لا يعطيهم ذلك إلا فيما لا تتعلق به منه إرادة حاتمة ولازمه أن شفاعتهم فيما أذن الله لهم فيه كما قال: " ما من شفيع إلا من بعد إذنه " يونس: 3 أما إذا أراد الله شيئا إرادة حتم فلا تنفع شفاعتهم شيئا في المنع عن نفوذها فاتخاذهم آلهة وعدمه سواء في عدم التأثير لجلب خير أو دفع شر، وإلى ذلك أشار بقوله: " ءأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمان بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون ". وتعبيره عنه تعالى بالرحمان إشارة إلى سعة رحمته وكثرتها وأن النعم كلها من عنده وتدبير الخير والشر إليه ويتحصل من هنا برهان آخر على وحدانيته تعالى في الربوبية، إذ لما كان جميع النعم وكذا النظام الجاري فيها، من رحمته وقائمة به من غير استقلال في شئ منها كان المستقل بالتدبير هو تعالى حتى أن تدبير الملائكة لو فرض تدبيرهم لشئ من رحمته تدبيره تعالى وكانت الربوبية له تعالى وحده وكذا الالوهية. قوله تعالى: " إني إذا لفي ضلال مبين " تسجيل للضلال على اتخاذ الالهة. قوله تعالى: " إني آمنت بربكم فاسمعون " من كلام الرجل خطابا للرسل وقوله: " فاسمعون " كناية عن الشهادة بالتحمل، وقوله: " إني آمنت بربكم " الخ. تجديد الشهادة بالحق وتأكيد للايمان فإن ظاهر السياق أنه إنما قال: " إني آمنت بربكم " بعد محاجته خطابا للرسل ليستشهدهم على إيمانه وليؤيدهم بإيمانهم بمرئى من القوم ومسمع. وقيل: " إنه خطاب للقوم تأييدا للرسل، والمعنى إني آمنت بالله فاسمعوا مني فإني لا أبالي بما يكون منكم على ذلك أو المعنى إني آمنت بالله فاسمعوا مني وآمنوا به أو أنه أراد به أن يغضبهم ويشغلهم عن الرسل بنفسه حيث إنه رآى أنهم بصدد الايقاع بهم. هذا. وفيه أنه لا يلائمه التعبير عن الله سبحانه بقوله: " ربكم " فإن القوم ما كانوا يتخذونه تعالى ربا لهم وإنما كانوا يعبدون الارباب من دون الله سبحانه. ورد بأن المعنى إني آمنت بربكم الذي قامت الحجة على ربوبيته لكم وهو الله سبحانه. وفيه أنه تقييد من غير مقيد.

[ 79 ]

قوله تعالى: " قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لى ربي وجعلني من المكرمين " الخطاب للرجل وهو - كما يفيده السياق - يلوح إلى أن القوم قتلوه فنودي من ساحة العزة أن ادخل الجنة كما يؤيده قوله بعد: " وما أنزلنا على قومه من بعده " الخ فوضع قوله: " قيل ادخل الجنة " موضع الاخبار عن قتلهم إياه إشارة إلى أنه لم يكن بين قتله بأيديهم وبين أمره بدخول الجنة أي فصل وانفكاك كأن قتله بأيديهم هو أمره بدخول الجنة. والمراد بالجنة على هذا جنة البرزخ دون جنة الاخرة، وقول بعضهم: إن المراد بها جنة الاخرة والمعنى سيقال له: ادخل الجنة. يوم القيامة والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع تحكم من غير دليل كما قيل: إن الله رفعه إلى السماء فقيل له ادخل الجنة فهو حي يتنعم فيها إلى قيام الساعة، وهو تحكم كسابقه. وقيل: إن القائل: " ادخل الجنة " هو القوم قالوا له ذاك حين قتله استهزاء وفيه أنه لا يلائم ما أخبر الله سبحانه عنه بقوله بعد: " قال يا ليت قومي يعلمون " الخ فإن ظاهره أنه تمنى علم قومه بما هو فيه بعد استماع نداء " ادخل الجنة " ولم يسبق من الكلام ما يصح أن يبتني عليه قوله ذاك. وقوله: " قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لى ربي وجعلني من المكرمين " استئناف كسابقه كالجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فما ذا كان بعد تأييده للرسل ؟ فقيل: " قيل ادخل الجنة " ثم قيل: فماذا كان بعد ؟ فقيل: " قال يا ليت قومي يعلمون " الخ وهو نصح منه لقومه ميتا كما كان ينصهم حيا. و " ما " في قوله: " بما غفر لى " الخ مصدرية، وقوله: " وجعلني " عطف على " غفر " والمعنى بمغفرة ربي لى وجعله إياي من المكرمين. وموهبة الاكرام وإن كانت وسيعة ينالها كثيرون كالاكرام بالنعمة كما في قوله: " فأما الانسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي اكرمن " الفجر: 15، وقوله: " إن أكرمكم عند الله اتقاكم " الحجرات: 13 فإن كرامة العبد عند الله إكرام منه له لكنه لم يعد من المكرمين بوصف الاطلاق إلا طائفتين من خلقه: الملائكة الكرام كما في قوله: " بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون "

[ 80 ]

الانبياء: 27، والكاملين في إيمانهم من المؤمنين سواء كانوا من المخلصين بكسر اللام كما في قوله: " اولئك في جنات مكرمون " المعارج: 35، أو من المخلصين بفتح اللام كما في قوله: " إلا عباد الله المخلصين - إلى أن قال - وهم مكرمون " الصافات: 42. والاية من أدلة وجود البرزخ. قوله تعالى: " وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين " الضميران للرجل، و " من بعده " أي من بعد قتله، و " من " الاولى والثالثة لابتداء الغاية، والثانية مزيدة لتأكيد النفي. والاية توطئة للاية التالية، وهي مسوقة لبيان هوان أمر القوم والانتقام منهم بإهلاكهم على الله سبحانه وأنه لا يحتاج في إهلاكهم إلى عدة وعدة حتى ينزل من السماء جندا من الملائكة يقاتلونهم فيهلكونهم فلم يفعل ذلك فيهم ولا فعل ذلك في إهلاك من أهلك من الامم الماضين وإنما أهلكهم بصيحة واحدة تقضي عليهم. قوله تعالى: " إن كانت إلا صيحة واحدة، فإذاهم خامدون " أي ما كان الامر الذي كان سبب إهلاكهم بمشيتنا إلا صيحة واحدة، وتأنيث الفعل لتأنيث الخبر وتنكير " صيحة " وتوصيفها بالوحدة للاستحقار، والخمود السكون، واستئناف الجملة لكونها كالجواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فماذا كان سبب إهلاكهم ؟ فقيل: إن كانت إلا صيحة واحدة. والمعنى: كان سبب هلاكهم أيسر أمر وهي صيحة واحدة ففاجأهم السكون فصاروا ساكنين لا يسمع لهم حس وهم عن آخرهم موتى لا يتحركون. قوله تعالى: " يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤن " أي يا ندامة العباد ونداء الحسرة عليهم أبلغ من إثباتها لهم، وسبب الحسرة ما يتضمنه قوله: " ما يأتيهم من رسول " الخ. ومن هذا السياق يستفاد أن المراد بالعباد عامة الناس وتتأكد الحسرة بكونهم عبادا فان رد العبد دعوة مولاه وتمرده عنه أشنع من رد غيره نصيحة الناصح. وبذلك يظهر سخافة قول من قال: " إن المراد بالعباد الرسل أو الملائكة أو هما

[ 81 ]

جميعا. وكذا قول من قال: " إن المراد بالعباد الناس لكن المتحسر هو الرجل. وظهر أيضا أن قوله: " يا حسرة على العباد " الخ من قول الله تعالى لا من تمام قول الرجل. قوله تعالى: " ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون " توبيخ لاولئك الذين نودي عليهم بالحسرة، و " من القرون " بيان لكم، والقرون جمع قرن وهو أهل عصر واحد. وقوله: " أنهم إليهم لا يرجعون " بيان لقوله: " كم أهلكنا قبلهم من القرون " ضمير الجمع الاول للقرون والثاني والثالث للعباد. والمعنى: ألم يعتبروا بكثرة المهلكين بأمر الله من القرون الماضية وأنهم مأخوذون بأخذ إلهي لا يتمكنون من الرجوع إلى ما كانوا يترفون فيه ؟ وللقوم في مراجع الضمائر وفي معنى الاية أقوال أخر بعيدة عن الفهم تركنا إيرادها. قوله تعالى: " وإن كل لما جميع لدينا محضرون " لفظة " إن " حرف نفي و " كل " مبتدء تنويه عوض عن المضاف إليه، و " لما " بمعنى إلا، وجميع بمعنى مجموع، ولدينا ظرف متعلق به، ومحضرون خبر بعد خبر وهو جميع، واحتمل بعضهم أن يكون صفة لجميع. والمعنى: وما كلهم إلا مجموعون لدينا محضرون للحساب والجزاء يوم القيامة فالاية في معنى قوله: " ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود " هود 103. (بحث روائي) في المجمع قالوا: بعث عيسى رسولين من الحواريين إلى مدينة أنطاكية فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له وهو حبيب صاحب يس فسلما عليه فقال الشيخ لهما: من أنتما ؟ قالا: رسولا عيسى ندعوكم من عبادة الاوثان إلى عبادة الرحمن فقال: أمعكما آية ؟ قالا نعم نحن نشفي المريض ونبرئ الاكمه والابرص بإذن الله تعالى فقال

[ 82 ]

الشيخ: إن لى إبنا مريضا صاحب فراش منذ سنين قالا: فانطلق بنا إلى منزلك نتطلع حاله فذهب بهما فمسحا ابنه فقام في الوقت بإذن الله تعالى صحيحا ففشى الخبر في المدينة وشفى الله على أيديهما كثيرا من المرضى. وكان لهم ملك يعبد الاصنام فأنهى الخبر إليه فدعاهما فقال لهما: من أنتما ؟ قالا: رسولا عيسى جئنا ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر. قال الملك: ولنا إله سوى آلهتنا ؟ قالا: نعم من أوجدك وآلهتك. قال: قوما حتى أنظر في أمركما فأخذهما الناس في السوق وضربوهما. قال وهب بن منبه: بعث عيسى هذين الرسولين إلى أنطاكية فأتياها ولم يصلا إلى ملكها وطالت مدة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبرا و ذكرا الله فغضب الملك وأمر بحبسهما وجلد كل واحد منهما مائة جلدة. فلما كذب الرسولان وضربا، بعث عيسى شمعون الصفا رأس الحواريين على أمرهما لينصرهما فدخل شمعون البلد متنكرا فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه ورضى عشرته وأنس به وأكرمه. ثم قال له ذات يوم: أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل سمعت قولهما ؟ قال الملك: حال الغضب بيني وبين ذلك. قال: فإن رأى الملك دعاهما حتى نتطلع ما عندهما. فدعاهما الملك فقال لهما شمعون: من أرسلكما إلى ههنا ؟ قالا: الله الذي خلق كل شئ لا شريك له. قال: وما آتاكما ؟ قالا: ما تتمناه، فأمر الملك حتى جاؤا بغلام مطموس العينين وموضع عينيه كالجبهة فما زالا يدعوان الله حتى انشق موضع البصر فأخذا بندقتين من الطين فوضعا في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما فتعجب الملك ثم قال شمعون للملك: أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع صنيعا مثل هذا ؟ فيكون لك ولالهك شرفا. فقال الملك: ليس لى عنك سر إن إلهنا الذي نعبده لا يضر ولا ينفع. ثم قال الملك للرسولين: إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به وبكما. قالا: إلهنا قادر على كل شئ، فقال الملك: إن ههنا ميتا مات منذ سبعة أيام لم ندفنه حتى يرجع أبوه وكان غائبا فجاؤا بالميت وقد تغير وأروح فجعلا يدعوان ربهما علانية وجعل

[ 83 ]

شمعون يدعو ربه سرا فقام الميت وقال لهم إني قدمت منذ سبعة أيام وأدخلت في سبعة أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا بالله فتعجب الملك، فلما علم شمعون أن قوله أثر في الملك دعاه إلى الله فآمن وآمن من أهل مملكته قوم وكفر آخرون. قال: وقد روى مثل ذلك العياشي بإسناده عن الثمالى وغيره عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام إلا أن في بعض الروايات: بعث الله الرسولين إلى أهل أنطاكية ثم بعث الثالث، وفي بعضها أن عيسى أوحى الله إليه أن يبعثهما ثم بعث وصيه شمعون ليخلصهما، وأن الميت الذي أحياه الله بدعائهما كان ابن الملك وأنه قد خرج من قبره ينفض التراب عن رأسه فقال له: يا بني ما حالك ؟ قال: كنت ميتا فرأيت رجلين ساجدين يسألان الله تعالى أن يحييني. قال: يا بني فتعرفهما إذا رأيتهما ؟ قال: نعم فأخرج الناس إلى الصحراء فكان يمر عليه رجل بعد رجل فمر أحدهما بعد جمع كثير فقال: هذا أحدهما. ثم مر الاخر فعرفهما وأشار بيده إليهما فآمن الملك وأهل مملكته. وقال ابن إسحاق: بل كفر الملك وأجمع هو وقومه على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيبا وهو على باب المدينة الاقصى فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم إلى طاعة الرسل. اقول: سياق آيات القصة لا يلائم بعض هذه الروايات. وفي الدر المنثور أخرج أبو داود وأبو نعيم وابن عساكر والديلمي عن أبي ليلى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصديقين ثلاثة: حبيب النجار مؤمن آلياسين الذي قال: يا قوم اتبعوا المرسلين، وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم. اقول: ورواه أيضا عن البخاري في تاريخه عن ابن عباس عنه صلى الله عليه وآله وسلم ولفظه: الصديقون ثلاثة: حزقيل مؤمن آل فرعون وحبيب النجار صاحب آل ياسين وعلي ابن أبي طالب. وفي المجمع عن تفسير الثعلبي بالاسناد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: سباق الامم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين علي بن أبي طالب وصاحب يس ومؤمن آل فرعون فهم الصديقون وعلي أفضلهم. اقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن الطبراني وابن مردويه وضعفه عن

[ 84 ]

ابن عباس عنه عليه السلام ولفظه: السبق ثلاثة فالسابق إلى موسى يوشع بن نون والسابق إلى عيسى صاحب يس والسابق إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب. * * * وآية لهم الارض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون - 33. وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون - 34. ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون - 35. سبحان الذى خلق الازواج كلها مما تنبت الارض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون - 36. وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون - 37. والشمس تجرى لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم - 38. والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم - 39. لا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون - 40. وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون - 41. وخلقنا لهم من مثله ما يركبون - 42. وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون - 43. إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين - 44. وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما

[ 85 ]

خلفكم لعلكم ترحمون - 45. وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين - 46. وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين - 47. (بيان) بعد ما قص عليهم قصة أصحاب القرية وما آل إليه أمرهم في الشرك وتكذيب الرسل وونجهم على الاستهانة بأمر الرسالة، وأنذرهم بنزول العذاب عليهم كما نزل على المكذبين من القرون الاولى، وبأنهم جميعا محضرون للحساب والجزاء. أورد آيات من الخلق والتدبير تدل على ربوبيته وألوهيته تعالى وحده لا شريك له ثم ونجهم على ترك النظر في آيات الوحدانية والمعاد والاعراض عنها والاستهزاء بالحق والامساك عن الانفاق للفقراء والمساكين. قوله تعالى: " وآية لهم الارض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون " يذكر سبحانه في الاية واللتين بعدها آية من آيات الربوبية وهي تدبير أمر أرزاق الناس وتغذيتهم من أثمار النبات من الحبوب والتمر والعنب وغيرها. فقوله: " وآية لهم الارض الميتة أحييناها " وإن كان ظاهره أن الاية هي الارض إلا أن الجملتين توطئتان لقوله: " وأخرجنا منها حبا " الخ ومسوقتان للاشارة إلى أن هذه الاغذية النباتية من آثار نفخ الحياة في الارض الميتة وتبديلها حبا وثمرا يأكلون من ذلك فالاية بنظر هي الارض الميتة من حيث ظهور هذه الخواص فيها وتمام تدبير أرزاق الناس بها. وقوله: " وأخرجنا منها حبا " أي وأخرجنا من الارض بإنبات النبات حبا كالحنطة والشعير والارز وسائر البقولات.

[ 86 ]

وقوله: " فمنه يأكلون " تفريع على إخراج الحب وبالاكل يتم التدبير، وضمير " فمنه " للحب. قوله تعالى: " وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون " قال الراغب: الجنة كل بستان ذي شجر تستر بأشجاره الارض انتهى. والنخيل جمع نخل وهو معروف، والاعناب جمع عنب يطلق على الشجرة وهي الكرم وعلى الثمرة. وقال الراغب: العين الجارحة - إلى أن قال - ويستعار العين لمعان هي موجودة في الجارحة بنظرات مختلفة - إلى أن قال - ويقال لمنبع الماء عين تشبيها بها لما فيها من الماء انتهى، والتفجير في الارض شقها لاخراج المياه، والباقي ظاهر. قوله تعالى: " ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون " اللام لتعليل ما ذكر في الاية السابقة أي جعلنا فيها جنات وفجرنا فيها العيون بشقها ليأكل الناس من ثمره. وقوله: " من ثمره " قيل: الضمير للمجعول من الجنات ولذا أفرد وذكر ولم يقل: من ثمرها أي من ثمر الجنات، أو من ثمرهما أي من ثمر النخيل والاعناب. وقيل: الضمير للمذكور وقد يجري الضمير مجرى اسم الاشارة كما في قول رؤبة: فيها خطوط من سواد وبلق * كأنه في الجلد توليع البهق فقد روي أن أبا عبيدة سأله عن قوله " كأنه " فقال كأن ذاك. وفي مرجع ضمير " من ثمره " أقوال أخر رديئة كقول بعضهم: إن الضمير للنخيل فقط، وقول آخر: إنه للماء لدلالة العيون عليه أو بحذف مضاف والتقدير ماء العيون وقول آخر: إن الضمير للتفجير المفهوم من " فجرنا " والمراد بالثمر على هذين الوجهين الفائدة، وقول آخر: إن الضمير له تعالى وإضافته إليه لانه خلقه وملكه. وقوله: " وما عملته أيديهم " العمل هو الفعل والفرق بينهما - على ما ذكره الراغب - أن اكثر ما يستعمل العمل في الفعل المقارن للقصد والارادة، ولذلك يشذ استعماله في الحيوان والجماد، ولذلك أيضا يتصف العمل بالصلاح وخلافه فيقال. عمل صالح وعمل طالح ولا يتصف بهما مطلق الفعل. و " ما " في " وما عملته " نافية والمعنى ولم يعمل الثمر أيديهم حتى يشاركونا في تدبير

[ 87 ]

الارزاق بل هو مما اختصصنا بخلقه وتتميم التدبير به من دون أن تستعين بهم فما با لهم لا يشكرون. ويؤيد هذا المعني قوله تعالى في أواخر السورة وهو بمتن عليهم بخلق الانعام لتدبير أمر رزقهم وحياتهم: " أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما - إلى أن قال - ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون ". واحتمل بعضهم كون " ما " في " وما عملته " موصولة معطوفة على " ثمره " والمعنى ليأكلوا من ثمره ومن الذي عملته أيديهم من ثمره كالخل والدبس المأخوذين من التمر والعنب وغير ذلك. وهذا الوجه وإن عده بعضهم أوجه من سابقه ليس بذاك فإن المقام مقام بيان آيات دالة على ربوبيته تعالى بذكر أمور من التدبير يخصه تعالى ولا يناسبه ذكر شئ من تدبير الغير معه وتتميم الحجة بذلك، ولو كان المراد ذكر عملهم بما أنه منته إلى خلقه تعالى وجزء من التدبير العام كان الانسب أن يقال: وما هديناهم إلى عمله أو ما يؤدي معناه لينتفي به توهم الشركة في التدبير. واحتمل بعضهم كون " ما " نكرة موصوفة معطوفة على " ثمره " والمعنى ليأكلوا من ثمره ومن شئ عملته أيديهم. هذا ويرد عليه ما يرد على سابقه. وقوله: " أفلا يشكرون " توبيخ واستقباح لعدم شكره، وشكره تعالى منهم على هذا التدبير إظهارهم جميل نعمه بذكره قولا وفعلا أي إظهارهم أنهم عباد له مدبرون بتدبيره وهو العبادة فشكره تعالى هو الاعتراف بربوبيته وإتخاذه إلها معبودا. قوله تعالى: " سبحان الذي خلق الازواج كلها مما تنبت الارض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون " إنشاء لتنزيهه تعالى، لما ذكر عدم شكرهم له على ما خلق لهم من أنواع النبات ورزقهم من الحبوب والاثمار، وإنما عمل ذلك بتزويج بعض النبات بعضا كما قال: " وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج " ق: 7 أشار إلى ما هو أعظم وأوسع من خلق أزواج النبات وهو خلق الازواج كلها وتنظيم العالم المشهود باستيلاد كل شئ من فاعل ومنفعل قبله هما أبواه كالذكر والانثى من الانسان والحيوان والنبات، وكل فاعل ومنفعل يتلاقيان فينتجان بتلاقيهما أمرا ثالثا، أشار تعالى إلى ذلك فنزه نفسه بقوله: " سبحان الذي خلق الازواج كلها " الخ. فقوله: " سبحان الذي خلق الازواج كلها " إنشاء

[ 88 ]

تسبيح على ما يعطيه السياق لا إخبار. وقوله: " مما تنبت الارض " هو وما بعده بيان للازواج والذي تنبت الارض هو النبات ولا يبعد شموله الحيوان وقد قال تعالى في الانسان وهو من أنواع الحيوان " والله أنبتكم من الارض نباتا " نوح: 17 ويؤيد ذلك أن ظاهر سياق البيان استيعابه للمبين مع عدم ذكر الحيوان في عداد الازواج. وقوله: " ومن أنفسهم " أي الناس، وقوله: " ومما لا يعلمون " وهو الذي يجهله الانسان من الخليقة أو يجهل كيفية ظهوره أو ظهور الكثرة فيه. وربما قيل في الاية: إن المراد بالازواج الانواع والاصناف، ولا يساعد عليه الايات التي تذكر خلق الازواج كقوله تعالى: " ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون " الذاريات: 49 والمقارنة ونوع من التألف والتركب من لوازم مفهوم الزوجية. قال الراغب: يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والانثى في الحيوانات المتزاوجة: زوج، ولكل قرينين فيها وفي غيرها: زوج كالخف والنعل، ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا: زوج، قال: وقوله: " خلقنا زوجين " فبين أن كل ما في العالم زوج من حيث إن له ضدا ما أو مثلا ما أو تركيبا ما بل لا ينفك بوجه من تركيب. انتهى. فزوجية الزوج هي كونه مفتقرا في تحققه إلى تألف وتركب ولذلك يقال لكل واحد من القرينين من حيث هما قرينان: زوج لافتقاره إلى قرينه، وكذا يقال لمجموع القرينين: زوج لافتقاره في تحققه زوجا إلى التألف والتركب فكون الاشياء أزواجا مقارنة بعضها بعضا لانتاج ثالث أو كونه مولدا من تألف اثنين. قوله تعالى: " وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون " آية أخرى من آيات الربوبية الدالة على وقوع التدبير العام السماوي للعالم الانساني مذكورة في أربع آيات. ولا شك أن الاية تشير إلى مفاجأة الليل عقيب ذهاب النهار، والسلخ في الاية بمعنى الاخراج ولذلك عدي بمن ولو كان بمعنى النزع كما في قولنا: سلخت الاهاب عن الشاة تعين تعديه بعن دون من.

[ 89 ]

ويؤيد ذلك أنه تعالى عبر في مواضع من كلامه عن ورود كل من الليل والنهار عقيب الاخر بإيلاجه فيه فقال في مواضع من كلامه: " يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل " الحج: 61 فإذا كان ورود النهار بعد الليل إيلاجا للنهار في الليل اعتبارا كان مفاجأة الليل بعد النهار إخراجا للنهار من الليل اعتبارا. كأن الليل أطبق عليهم وأحاطت بهم ظلمته ثم ولج فيه النهار فوسعهم نوره وضياؤه ثم خرج منه ففاجأهم الليل ثانيا بانطباق الظلام وإحاطته بما أضاءه النهار ففي الكلام نوع من الاستعارة بالكناية. ولعل فيما ذكرناه من الوجه كفاية عما أطنبوا فيه من البحث في معنى سلخ النهار من الليل ثم مفاجأة الليل. قوله تعالى: " والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم " جريها حركتها وقوله: " لمستقر لها " اللام بمعنى إلى أو للغاية، والمستقر مصدر ميمي أو اسم زمان أو مكان، والمعنى أنها تتحرك نحو مستقرها أو حتى تنتهي إلى مستقرها اي استقرارها وسكونها بانقضاء أجلها أو زمن استقرارها أو محله. وأما جريها وهو حركتها فظاهر النظر الحسي يثبت لها حركة دورية حول الارض لكن الابحاث العلمية تقضي بالعكس وتكشف أن لها مع سياراتها حركة انتقالية نحو النسر الواقع. وكيف كان فمحصل المعنى أن الشمس لا تزال تجري ما دام النظام الدنيوي على حاله حتى تستقر وتسكن بانقضاء أجلها فتخرب الدنيا ويبطل هذا النظام، وهذا المعنى يرجع بالمآل إلى معنى القراءة المنسوبة إلى أهل البيت وغيرهم: " والشمس تجري لا مستقر لها " كما قيل. وأما حمل جريها على حركتها الوضعية حول مركزها فهو خلاف ظاهر الجري الدال على الانتقال من مكان إلى مكان. وقوله: " ذلك تقدير العزيز العليم " أي الجري المذكور تقدير وتدبير ممن لا يغلبه غالب في إرادته ولا يجهل جهات الصلاح في أفعاله.

[ 90 ]

قوله تعالى: " والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم " المنازل جمع منزل اسم مكان من النزول والظاهر أن المراد به المنازل الثمانية و العشرون التي تقطعها القمر في كل ثمانية وعشرين يوما وليلة تقريبا. و العرجون عود عذق النخلة من بين الشمراخ إلى منبته وهو عود أصفر مقوس يشبه الهلال، والقديم العتيق. وقد اختلفت الانظار في معنى الاية للاختلاف في تركيبها، وأقرب التقديرات من الفهم قول من قال: " إن التقدير والقمر قدرناه ذا منازل أو قدرنا له منازل حتى عاد هلالا يشبه العرجون العتيق المصفر لونه. تشير الاية إلى اختلاف مناظر القمر بالنسبة إلى أهل الارض فإن نوره مكتسب من الشمس يستنير بها نصف كرته تقريبا وما يقرب من النصف الاخر غير المسامت للشمس مظلم ثم يتغير موضع الاستنارة ولا يزال كذلك حتى يعود إلى الوضع الاول ويعرض ذلك أن يظهر لاهل الارض في صورة هلال ثم لا يزال ينبسط عليه النور حتى يتبدر ثم لا يزال ينقص حتى يعود إلى ما كان عليه أوله. ولاختلاف صوره آثار بارزة في البر والبحر وحياة الناس على ما بين في الابحاث المربوطة. فالاية الكريمة تذكر من آية القمر أحواله الطارئة له بالنسبة إلى الارض وأهلها دون حاله في نفسه ودون حاله بالنسبة إلى الشمس فقط. ومن هنا لا يبعد أن يقال في قوله تعالى: " والشمس تجري لمستقر لها " أن المراد بقوله: " تجري " الاشارة إلى ما يعطيه ظاهر الحس من حركتها اليومية والفصلية والسنوية وهي حالها بالنسبة إلينا، وبقوله: " لمستقر لها " حالها في نفسها وهي سكونها بالنسبة إلى سياراتها المتحركة حولها كأنه قيل: وآية لهم أن الشمس على استقرارها تجري عليهم وقد دبر العزيز العليم بذلك كينونة العالم الارضي وحياة أهله والله أعلم. قوله تعالى: " لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون " لفظة ينبغي تدل على الترجح ونفي ترجح الادراك من الشمس نفي وقوعه منها، والمراد به أن التدبير ليس مما يجري يوما ويقف آخر بل هو تدبير دائم غير مختل ولا منقوض حتى ينقضي الاجل المضروب منه تعالى لذلك.

[ 91 ]

فالمعنى أن الشمس والقمر ملازمان لما خط لهما من المسير فلا تدرك الشمس القمر حتى يختل بذلك التدبير المعمول بهما ولا الليل سابق النهار وهما متعاقبان في التدبير فيتقدم الليل النهار فيجتمع ليلتان ثم نهاران بل يتعاقبان. ولم يتعرض لنفي إدراك القمر للشمس ولا لنفي سبق النهار الليل لان المقام مقام بيان انحفاظ النظم الالهي عن الاختلال والفساد فنفى إدراك ما هو أعظم وأقوى وهو الشمس لما هو أصغر وأضعف وهو القمر، ويعلم منه حال العكس ونفى سبق الليل الذي هو افتقاده للنهار الذي هو ليله والليل مضاف إليه متأخر طبعا منه ويعلم به حال العكس. وقوله: " وكل في فلك يسبحون " أي كل من الشمس والقمر وغيرهما من النجوم والكواكب يجرون في مجرى خاص به كما يسبح السمكة في الماء فالفلك هو المدار الفضائي الذي يتحرك فيه الجرم العلوي، ولا يبعد حينئذ أن يكون المراد بالكل كل من الشمس والقمر والليل والنهار وإن كان لا يوجد في كلامه تعالى ما يشهد على ذلك. والاتيان بضمير الجمع الخاص بالعقلاء في قوله " يسبحون " لعله للاشارة إلى كونها مطاوعة لمشيته مطيعة لامره تعالى كالعقلاء كما في قوله: " ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " حم السجدة: 11. وللمفسرين في جمل الاية آراء أخر مضطربة أضربنا عنها من أراد الوقوف عليها فليراجع المفصلات. قوله تعالى: " وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون " قال الراغب: الذرية أصلها الصغار من الاولاد، وتقع في التعارف على الصغار والكبار معا، ويستعمل للواحد والجمع وأصله للجمع. انتهى، والفلك السفينة، والمشحون المملوء. آية أخرى من آيات ربوبيته تعالى وهو جريان تدبيره في البحر حيث يحمل ذريتهم في الفلك المشحون بهم وبأمتعتهم يجوزون به من جانب إلى جانب للتجارة وغيرها، ولا حامل لهم فيه ولا حافظ لهم عن الغرق إلا هو تعالى والخواص التي يستفيدون منها في ركوب البحر أمور مسخرة له تعالى منتهية إلى خلقه على أن هذه الاسباب لو لم تنته إليه تعالى لم تغن طائلا.

[ 92 ]

وإنما نسب الحمل إلى الذرية دونهم أنفسهم فلم يقل: إنا حملناهم لاثارة الشفقة والرحمة. قوله تعالى: " وخلقنا لهم من مثله ما يركبون " المراد به - على ما فسروه - الانعام قال تعالى: " وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون " الزخرف: 12 وقال: " وعليها وعلى الفلك تحملون " المؤمن 80. وفسر بعضهم الفلك المذكور في الاية السابقة بسفينة نوح عليه السلام وما في هذه الاية بالسفن والزوارق المعمولة بعدها وهو تفسير ردئ ومثله تفسير ما في هذه الاية بالابل خاصة. وربما فسر ما في هذه الاية بالطيارات والسفن الجوية المعمولة في هذه الاعصار والتعميم أولى. قوله تعالى: " وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون " الصريخ هو الذي يجيب الصراخ ويغيث الاستغاثة، والانقاذ هو الانجاء من الغرق. والاية متصلة بقوله السابق: " إنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون " أي إن الامر إلى مشيتنا فإن نشأ نغرقهم فلا يغيثهم مغيث ولا ينقذهم منقذ. قوله تعالى: " إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين " استثناء مفرغ والتقدير لا ينجون بسبب من الاسباب وأمر من الامور إلا لرحمة منا تنالهم ولتمتع إلى حين الاجل المسمى قدرناه لهم. قوله تعالى: " وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون " لما ذكر الايات الدالة على الربوبية ذمهم على عدم رعايتهم حقها وعدم إقبالهم عليها وعدم ترتيبهم عليها آثارها فإذا قيل لهم هذه الايات البينات ناطقة أن ربكم الله فاتقوا معصيته في حالكم الحاضرة وما قدمتم من المعاصي، أو عذاب الشرك والمعاصي التي أنتم مبتلون بها وما خلفتم وراءكم، أو اتقوا ما بين أيديكم من الشرك والمعاصي في الحياة الدنيا وما خلفكم من العذاب في الاخرة، أعرضوا عنه ولم يستجيبوا له على ما هو دأبهم في جميع الايات التي ذكروا بها. ومن هنا يظهر أولا أن المراد بما بين أيديهم وما خلفهم الشرك والمعاصي التي هم مبتلون بها في حالهم الحاضرة وما كانوا مبتلين به قبل، أو العذاب الذي استوجبوه

[ 93 ]

بذلك، والمال واحد، أو الشرك والمعاصي في الدنيا والعذاب في الاخرة وهو أوجه الوجوه. وثانيا: أن حذف جواب إذا للدلالة على أن حالهم بلغت من الجرأة على الله والاستهانة بالحق مبلغا لا يستطاع معها ذكر ما يجيبون به داعي الحق إذا دعاهم إلى التقوى فيجب أن يترك أسفا ولا يذكر، وقد دل عليه بقوله: " وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ". قوله تعالى: " وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين " المراد بإتيان الايات موافاتها لهم بالمشاهدة أو بالتلاوة والذكر، وأيضا هي أعم من أن تكون آية آفاقية أو أنفسية، أو تكون آية معجزة كالقرآن، فهم معرضون عنها جميعا. قوله تعالى: " وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله " إلى آخر الاية كان قوله: " وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم " متعرضا لجوابهم إذا دعوا إلى عبادة الله وهي أحد ركني الدين الحق، وهذه الاية تعرضت لجوابهم إذا دعوا إلى الشفقة على خلق الله وهو الركن الاخر ومعلوم أن جوابهم الرد دون القبول. فقوله: " وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله " يتضمن دعوتهم إلى الانفاق على الفقراء والمساكين من أموالهم وفي التعبير عن الاموال بما رزقهم الله إشعار بأن المالك لها حقيقة هو الله الذي رزقهم بها وسلطهم عليها، وهو الذي خلق الفقراء والمساكين وأقام حاجتهم إلى ما عند هؤلاء من فضل المؤن الذي لا يفتقرون إليه فلينفقوا عليهم وليحسنوا وليجملوا والله يحب الاحسان وجميل الفعل. وقوله: " قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه " جوابهم للدعوة إلى الانفاق، وإنما أظهر القائل - الذين كفروا - ومقتضى المقام الاضمار للاشارة إلى أن كفرهم بالحق وإعراضهم عنه باتباع الشهوات هو الذي دعاهم إلى الاعتذار بمثل هذا العذر المبني على الاعراض عما تدعو إليه الفطرة من الشفقة على خلق الله وإصلاح ما فسد في المجتمع كما أن الاظهار في قوله: " للذين آمنوا " للاشارة إلى أن قائل " أنفقوا مما رزقكم الله " هم الذين آمنوا. وفي قولهم: " أنطعم من لو يشاء الله أطعمه " إشعار بأن المؤمنين إنما قالوا لهم:

[ 94 ]

" أنفقوا مما رزقكم الله " بعنوان أنه مما يشاؤه الله ويريده حكما دينيا فردوه بأن إرادة الله لا تتخلف عن مراده فلو شاء أن يطعمهم أطعمهم أي وسع في رزقهم وجعلهم أغنياء. وهذه مغالطة منهم خلطوا فيه بين الارادة التشريعية المبنية على الابتلاء والامتحان وهداية العباد إلى ما فيه صلاح حالهم في دنياهم وآخرتهم ومن الجائز أن تتخلف عن المراد بالعصيان، وبين الارادة التكوينية التي لا تتخلف عن المراد ومن المعلوم أن مشيئة الله وإرادته المتعلقة بإطعام الفقراء والانفاق عليهم من المشيئة التشريعية دون التكوينية فتخلفها في مورد الفقراء إنما يدل على عصيان الذين كفروا وتمردهم عما أمروا به لا على عدم تعلق الارادة به وكذب مدعيه. وهذه مغالطة بنوا عليها جل ما افتعلوه من سنن الوثنية وقد حكى الله سبحانه ذلك عنهم في قوله: " وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ " النحل: 35، وقوله: " سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ " الانعام: 148، وقوله: " وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم " الزخرف: 20. وقوله: " إن أنتم إلا في ضلال مبين " من تمام قول الذين كفروا يخاطبون به المؤمنين أي إنكم في ضلال مبين في دعواكم أن الله أمرنا بالانفاق وشاء منا ذلك. (بحث روائي) في المجمع روي عن علي بن الحسين زين العابدين وأبي جعفر الباقر وجعفر الصادق عليهم السلام " لا مستقر لها " بنصب الراء. وفي الدر المنثور أخرج سعيد بن منصور وأحمد البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: " والشمس تجري لمستقر لها " قال: مستقرها تحت العرش. اقول: وقد روي هذا المعنى عن أبي ذر عنه صلى الله عليه وآله وسلم من طرق الخاصة والعامة

[ 95 ]

مختصرة ومطولة، وفي بعضها أنها بعد الغروب تصعد سماء سماء حتى تصل إلى ما دون العرش فتسجد وتستأذن في الطلوع وتبقى على ذلك حتى تكسى نورا ويؤذن لها في الطلوع. والرواية إن صحت فهي مؤولة. وفي روضة الكافي بإسناده عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن الله عز وجل خلق الشمس قبل القمر وخلق النور قبل الظلمة. وفي المجمع روى العياشي في تفسيره بالاسناد عن الاشعث بن حاتم قال: كنت بخراسان حيث اجتمع الرضا والفضل بن سهل والمأمون في الايوان بمرو فوضعت المائدة فقال الرضا عليه السلام: إن رجلا من بني إسرائيل سألني بالمدينة فقال: النهار خلق قبل أم الليل ؟ فما عندكم ؟ قال: وأداروا الكلام فلم يكن عندهم في ذلك شئ. فقال الفضل للرضا: أخبرنا بها أصلحك الله. قال: نعم من القرآن أم من الحساب قال له الفضل من جهة الحساب فقال: قد علمت يا فضل أن طالع الدنيا السرطان والكواكب في مواضع شرفها فزحل في الميزان والمشترى في السرطان والمريخ في الجدي والشمس في الحمل والزهرة في الحوت وعطارد في السنبلة والقمر في الثور فتكون الشمس في العاشر وسط السماء فالنهار قبل الليل، ومن القرآن قوله تعالى: " ولا الليل سابق النهار " أي الليل قد سبقه النهار. أقول: نقل الالوسي في روح المعاني هذا الحديث ثم قال: وفي الاستدلال بالاية بحث ظاهر، وأما بالحساب فله وجه في الجملة ورآى المنجمون أن ابتداء الدورة دائرة نصف النهار وله موافقة لما ذكر والذي يغلب على الظن عدم صحة الخبر من مبتدئه فالرضا أجل من أن يستدل بالاية على ما سمعت من دعواه انتهى. وقد اختلط عليه الامر في تحصيل حقيقة معنى الليل والنهار. توضيحه: أن الليل والنهار متقابلان تقابل العدم والملكة كالعمى والبصر فكما أن العمى ليس مطلق عدم البصر حتى يكون الجدار مثلا أعمى لعدم البصر فيه بل هو عدم البصر مما من شأنه أن يتصف بالبصر كالانسان كذلك الليل ليس هو مطلق عدم النور بل هو زمان عدم استضاءة ناحية من نواحي الارض بنور الشمس ومن المعلوم أن

[ 96 ]

عدم الملكة يتوقف في تحققه على تحقق الملكة المقابلة له قبله حتى يتعين بالاضافة إليه فلو لا البصر لم يتحقق عمى ولولا النهار لم يتحقق الليل. فمطلق الليل بمعناه الذي هو به ليل مسبوق الوجود بالنهار وقوله: " ولا الليل سابق النهار " وإن كان ناظرا إلى الترتيب المفروض بين النهر والليالي وأن هناك نهارا وليلا ونهارا وليلا وأن واحدا من هذه الليالي لا يسبق النهار الذي بجنبه. لكنه تعالى أخذ في قوله: " ولا الليل سابق النهار " مطلق الليل ونفى تقدمه على مطلق النهار ولم يقل: " إن واحدا من الليالي الواقعة في هذا الترتيب لا يسبق النهار الواقع في الترتيب قبله. فالحكم في الاية مبني على ما يقتضيه طبيعة الليل والنهار بحسب التقابل الذي أودعه الله بينهما وقد استفيد منه الحكم بانحفاظ الترتيب في تعاقب الليل والنهار فإن كل ليل هو افتقاد النهار الذي هو يتلوه فلا يتقدم عليه وإلى هذا يشير عليه السلام بعد ذكر الاية بقوله: " أي الليل قد سبقه النهار " يعني أن سبق النهار الليل هو خلقه قبله وليس كما يتوهم أن هناك نهر أو ليالي موجودة ثم يتعين لكل منها محله. وقول المعترض: " وأما بالحساب فله وجه في الجملة " لا يدري وجه قوله: في الجملة وهو وجه تام مبني على تسليم أصول التنجيم صحيح بالجملة على ذلك التقدير لا في الجملة. وكذا قوله: " ورآى المنجمون أن ابتداء الدورة دائرة نصف النهار وله موافقة لما ذكر " لا محصل له لان دائرة نصف النهار وهي الدائرة المارة على القطبين ونقطة ثالثة بينهما غير متناهية في العدد لا تتعين لها نقطة معينة في السماء دون نقطة أخرى فيكون كون الشمس في إحداهما نهارا للارض دون الاخرى. وفي المجمع في قوله تعالى: " وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم " روى الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: معناه اتقوا ما بين أيديكم من الذنوب وما خلفكم من العقوبة. * * * ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين - 48. ما ينظرون

[ 97 ]

إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون - 49. فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون - 50. ونفخ في الصور فإذا هم من الاجدات إلى ربهم ينسلون - 51. قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون - 52. إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون - 53 فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون - 54 إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون - 55 هم وأزواجهم في ظلال على الارائك متكئون - 56. لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون - 57. سلام قولا من رب رحيم - 58. وامتازوا اليوم أيها المجرمون - 59. ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين - 60. وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم - 61. ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون - 62. هذه جهنم التي كنتم توعدون - 63. إصلوها اليوم بما كنتم تكفرون - 64. اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون - 65.

[ 98 ]

(بيان) لما فرغ من تفصيل آيات التوحيد المشار إليه إجمالا في أول الكلام شرع في تفصيل خبر المعاد وذكر كيفية قيام الساعة وإحضارهم للحساب والجزاء وما يجزى به أصحاب الجنة وما يجازى به المجرمون كل ذلك تبيينا لما تقدم من إجمال خبر المعاد. قوله تعالى: " ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين " كلام منهم وارد مورد الاستهزاء مبني على الانكار، ولعله لذلك جيئ باسم الاشارة الموضوعة للقريبة ولان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين كثيرا ما كانوا يسمعونهم حديث يوم القيامة وينذرونهم به، والوعد يستعمل في الخير والشر إذا ذكر وحده وإذا قابل الوعيد تعين الوعد للخير والوعيد للشر. قوله تعالى: " ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون " النظر بمعنى الانتظار، والمراد بالصيحة نفخة الصور الاولى باعانة السياق، وتوصيف الصيحة بالوحدة للاشارة إلى هوان أمرهم على الله جلت عظمته فلا حاجة إلى مؤنة زائدة، و " يخصمون " أصله يختصمون من الاختصام بمعنى المجادلة والمخاصمة. والاية جواب لقولهم: " متى هذا الوعد " مسوقة سوق الاستهزاء بهم والاستهانة بأمرهم كما كان قولهم كذلك، والمعنى ما ينتظر هؤلاء القائلون: متى هذا الوعد في سؤالهم عن وقت الوعد المنبئ عن الانتظار إلا صيحة واحدة - يسيرة علينا بلا مؤنة ولا تكلف - تأخذهم فلا يسعهم أن يفروا وينجوا منها والحال أنهم غافلون عنها يختصمون فيما بينهم. قوله تعالى: " فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون " أي يتفرع على هذه الصيحة بما أنها تفاجئهم ولا تمهلهم ان يموتوا من فورهم فلا يستطيعوا توصية - على أن الموت يعمهم جميعا دفعة فلا يترك منهم أحدا يوصي إليه - ولا أن يرجعوا إلى أهلهم إذا كانوا في الخارج من بيوتهم مثلا. قوله تعالى: " ونفخ في الصور فإذا هم من الاجداث إلى ربهم ينسلون " هذه هي نفخة الصور الثانية التي بها الاحياء والبعث، والاجداث جمع جدث وهو القبر والنسل الاسراع في المشي وفي التعبير عنه بقوله: " إلى ربهم " تقريع لهم لانهم كانوا ينكرون

[ 99 ]

ربوبيته والباقي ظاهر. قوله تعالى: " قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمان وصدق المرسلون " البعث الاقامة، والمرقد محل الرقاد والمراد به القبر، وتعبيرهم عنه تعالى بالرحمان نوع استرحام وقد كانوا يقولون في الدنيا: " وما الرحمان " الفرقان: 60، وقوله: " وصدق المرسلون " عطف على قوله: " هذا ما وعد الرحمان " والجملة الفعلية قد تعطف على الاسمية. وقولهم: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا مبني على إنكارهم البعث وهم في الدنيا ورسوخ أثر الانكار والغفلة عن يوم الجزاء في نفوسهم وهم لا يزالون مستغرقين في الاهواء فإذا قاموا من قبورهم مسرعين إلى المحشر فاجأهم الورود في عالم لا يستقبلهم فيه إلا توقع الشر فأخذهم الفزع الاكبر والدهشة التي لا تقوم لها الجبال ولذا يتبادرون أولا إلى دعوة الويل والهلاك كما كان ذلك دأبهم في الدنيا عند الوقوع في المخاطر ثم سألوا عمن بعثهم من مرقدهم لان الذي أحاط بهم من الدهشة أذهلهم من كل شئ. ثم ذكروا ما كانت الرسل عليهم السلام يذكرونهم به من الوعد الحق بالبعث والجزاء فشهدوا بحقية الوعد واستعصموا بالرحمة فقالوا: " هذا ما وعد الرحمان " على ما هو دأبهم في الدنيا حيث يكيدون عدوهم إذا ظهر عليهم بالتملق وإظهار الذلة والاعتراف بالظلم والتقصير ثم صدقوا الرسل بقولهم: " وصدق المرسلون ". وبما تقدم ظهر أولا وجه دعوتهم بالويل إذا بعثوا. وثانيا وجه سؤالهم عمن بعثهم من مرقدهم الظاهر في أنهم جاهلون به أولا ثم إقرارهم بأنه الذي وعده الرحمان وتصديقهم المرسلين فيما بلغوا عنه تعالى. ويظهر أيضا أن قوله: " من بعثنا من مرقدنا " الخ وقوله: " هذا ما وعد الرحمان " الخ. من قولهم. وقيل: قوله: " وصدق المرسلون " عطف على مدخول " ما " و " ما " موصولة أو مصدرية و " هذا ما وعد الرحمن " الخ جواب من الله أو من الملائكة أو من المؤمنين لقولهم: " من بعثنا من مرقدنا " ؟

[ 100 ]

وغير خفي أنه خلاف الظاهر وخاصة على تقدير كون " ما " مصدرية ولو كان قوله: " هذا ما وعد الرحمان " الخ. جوابا من الله أو الملائكة لقولهم: " من بعثنا من مرقدنا " لا جيب بالفاعل دون الفعل لانهم سألوا عن فاعل البعث ! وما قيل: إن العدول إليه لتذكير كفرهم وتقريعهم عليه مع تضمنه الاشارة إلى الفاعل هذا. لا يغني طائلا. وظهر أيضا أن قوله: " هذا ما وعد الرحمان " مبتدء وخبر، وقيل " هذا " صفة لمرقدنا بتأويل اسم الاشارة إلى المشتق و " ما " مبتدء خبره محذوف تقديره ما وعد الرحمان حق وهو بعيد عن الفهم. قوله تعالى: " إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون " اسم كان محذوف والتقدير إن كانت الفعلة أو النفخة إلا نفخة واحدة تفاجئهم أنهم مجموع محضرون لدينا من غير تأخير ومهلة. والتعبير بقوله: " لدينا " لان اليوم يوم الحضور لفصل القضاء عند الله سبحانه. قوله تعالى: " فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون " أي في هذا اليوم يقضي بينهم قضاء عدلا ويحكم حكما حقا فلا تظلم نفس شيئا. وقوله: " ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون " عطف تفسير لقوله: فاليوم لا تظلم نفس شيئا " وهو في الحقيقة بيان برهاني لانتفاء الظلم يومئذ لدلالته على أن جزاء أعمال العاملين يومئذ نفس أعمالهم، ولا يتصور مع ذلك ظلم لان الظلم وضع الشئ في غير موضعه وتحميل العامل عمله وضع الشئ في موضعه ضرورة. وخطاب الاية من باب تمثيل يوم القيامة وإحضاره وإحضار من فيه بحسب العناية الكلامية، وليس - كما توهم - حكاية عما سيقال لهم أو يخاطبون به من جانب الله سبحانه أو الملائكة أو المؤمنين يوم القيامة فلا موجب له من جهة السياق. والمخاطب بقوله: " ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون " السعداء والاشقياء جميعا. وما قيل عليه أن الحصر يأبى التعميم فإنه تعالى يوفى المؤمنين أجورهم ويزيدهم من فضله أضعافا مضاعفة مدفوع بأن الحصر في الاية ناظر إلى جزاء العمل وأجره وما

[ 101 ]

يدل من الايات على المزيد كقوله: " لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد " ق: 35 أمر وراء الجزاء والاجر خارج عن طور العمل. وربما أجيب عنه بأن معنى الاية أن الصالح لا ينقص ثوابه والطالح لا يزاد عقابه فإن الحكمة تنافيه أما زيادة الثواب ونقص العقاب فلا مانع منه أو أن المراد بقوله: " لا تجزون إلا ما كنتم تعملون " أنكم لا تجزون إلا من جنس عملكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وفيه أن مدلول الاية لو كان ما ذكر اندفع الاشكال لكن الشأن في دلالتها على ذلك. قوله تعالى: " إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون " الشغل الشأن الذي يشغل الانسان ويصرفه عما عداه، والفاكه من الفكاهة وهي التحدث بما يسر أو التمتع والتلذذ ولا فعل له من الثلاثي المجرد على ما قيل. وقيل: " فاكهون " معناه ذوو فاكهة نحو لابن وتامر ويبعده أن الفاكهة مذكورة في السياق ولا موجب لتكرارها. والمعنى أن أصحاب الجنة في هذا اليوم في شأن يشغلهم عن كل شئ دونه وهو التنعم في الجنة متمتعون فيها. قوله تعالى: " هم وأزواجهم في ظلال على الارائك متكؤن " الظلال جمع ظل وقيل جمع ظلة بالضم وهي السترة من الشمس من سقف أو شجر أو غير ذلك، والاريكة كل ما يتكى عليه من وسادة أو غيرها. والمعنى: هم أي أصحاب الجنة وأزواجهم من حلائلهم المؤمنات في الدنيا أو من الحور العين في ظلال أو أستار من الشمس وغيرها متكئون على الارائك اتكاء الاعزة. قوله تعالى: " لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون " الفاكهة ما يتفكه به من الثمرات كالتفاح والاترج ونحوهما، وقوله: " يدعون " من الادعاء بمعنى التمني أي لهم في الجنة فاكهة ولهم فيها ما يتمنونه ويطلبونه. قوله تعالى: " سلام قولا من رب رحيم " سلام مبتدء محذوف الخبر والتنكير للتفخيم والتقدير سلام عليهم أو لهم سلام، و " قولا " مفعول مطلق لفعل محذوف و التقدير

[ 102 ]

أقوله قولا من رب رحيم. والظاهر أن السلام منه تعالى وهو غير سلام الملائكة المذكور في قوله: " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقب الدار " الرعد: 24. قوله تعالى: " وامتازوا اليوم أيها المجرمين " أي ونقول اليوم للمجرمين امتازوا من أصحاب الجنة وهو تمييزهم منهم يوم القيامة وإنجاز لما في قوله في موضع آخر: " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار " ص: 28، وقوله: " أم حسب الذين اجترحوا السيآت أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم " الجاثية: 21. قوله تعالى: " ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين " العهد الوصية، والمراد بعبادة الشيطان طاعته فيما يوسوس ويأمر به إذ لا طاعة إلا لله أو من أمر بطاعته، وقد علل النهى عن طاعته بكونه عدوا مبينا لان العدو لا يريد بعدوه خيرا. وقيل: المراد بعبادته عبادة الالهة من دون الله وإنما نسبت إلى الشيطان لكونها بتسويله وتزيينه، وهو تكلف من غير موجب. وإنما وجه الخطاب إلى المجرمين بعنوان أنهم بنو آدم لان عداوة الشيطان إنما نشبت أول ما نشبت بآدم حيث أمر أن يسجد له فأبى واستكبر فرجم ثم عاد ذريته بعداوته وأوعدهم كما حكاه الله تعالى إذ قال: " أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا " أسرى: 62. وأما عهده تعالى ووصيته إلى بني آدم أن لا يطيعوه فهو الذي وصاهم به بلسان رسله وأنبيائه وحذرهم عن اتباعه كقوله تعالى: " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة " الاعراف: 27: وقوله: " ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين " الزخرف: 62. وقيل: المراد بالعهد عهده تعالى إليهم في عالم الذر حيث قال: ألست بربكم قالوا بلى ". وقد عرفت مما قدمناه في تفسير آية الذر أن العهد الذي هناك هو بوجه عين العهد الذي وجه إليهم في الدنيا.

[ 103 ]

قوله تعالى: " وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم " عطف تفسير لما سبقه، وقد تقدم كلام في معنى الصراط المستقيم في تفسير قوله: " اهدنا الصراط المستقيم " من سورة الفاتحة. قوله تعالى: " ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون " الجبل الجماعة وقيل: الجماعة الكثيرة والكلام مبنى على التوبيخ والعتاب. قوله تعالى: " هذه جهنم التى كنتم توعدون " أي كان يستمر عليكم الايعاد بها مرة بعد مرة بلسان الانبياء والرسل عليه السلام وأول ما أوعد الله سبحانه بها حين قال لابليس: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين " الحجر: 43 وفي لفظ الاية إشارة إلى إحضار جهنم يومئذ. قوله تعالى: " اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون " الصلا: اللزوم والاتباع، وقيل: مقاساة الحرارة ويظهر بقوله: " بما كنتم تكفرون " أن الخطاب للكفار وهم المراد بالمجرمين. قوله تعالى: " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " أي يشهد كل منها بما كانوا يكسبونه بواسطته فالايدي بالمعاصي التي كسبوها بها والارجل بالمعاصي الخاصة بها على ما يعطيه السياق. ومن هنا يظهر أن كل عضو ينطق بما يخصه من العمل وأن ذكر الايدي والارجل من باب الانموذج ولذا ذكر في موضع آخر السمع والبصر والفؤاد كما في سورة أسرى الاية 36. وفي موضع آخر الجلود كما في سورة حم السجدة الاية 20، وسيأتي بعض ما يتعلق به من الكلام في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " ما ينظرون إلا صيحة واحدة " الاية قال: ذلك في آخر الزمان يصاح فيهم صيحة وهم في أسواقهم يتخاصمون فيموتون كلهم في مكانهم لا يرجع أحد منهم إلى منزله ولا يوصي بوصية، وذلك قوله عز وجل: " فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ".

[ 104 ]

وفي المجمع في الحديث تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعان فما يطويانه حتى تقوم الساعة، والرجل يرفع أكلته إلى فيه حتى تقوم الساعة، والرجل يليط (1) حوضه ليسقي ما شيته فما يسقيها حتى تقوم. أقول: وروى هذا المعنى في الدر المثور عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذا عن قتادة عنه صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا. وفي تفسير القمي وقوله عز وجل: " ونفخ في الصور فإذاهم من الاجداث إلى ربهم ينسلون " قال: من القبور. وفي رواية أبي الجارود عن ابي جعفر عليه السلام في قوله: تعالى " يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا " فإن القوم كانوا في القبور فلما قاموا حسبوا أنهم كانوا نياما وقالوا: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا. قالت الملائكة: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون. وفي الكافي بإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان أبو ذر رحمه الله يقول في خطبته: وما بين الموت والبعث إلا كنومة نمتها ثم استيقظت منها. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون " قال يفاكهون النساء ويلاعبونهن. وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله عز وجل: " في ظلال على الارائك متكؤن " الارائك السرر عليها الحجال. وفيه في قوله عز وجل: " سلام قولا من رب رحيم " قال: السلام منه هو الامان. وقوله: " وامتازوا اليوم أيها المجرمون " قال: إذا جمع الله الخلق يوم القيامة بقوا قياما على أقدامهم حتى يلجمهم العرق فينادون: يا رب حاسبنا ولو إلى النار قال: فيبعث الله رياحا فتضرب بينهم وينادي مناد: " وامتازوا اليوم أيها المجرمون " فيميز بينهم فصار المجرمون في النار، ومن كان في قلبه الايمان صار إلى الجنة. أقول: وقد ورد في بعض الروايات أن الله سبحانه يتجلى لهم فيشتغلون به عن كل من سواه مادام التجلى والمراد به ارتفاع كل حجاب بينهم وبين ربهم دون الرؤية (1)


لاطه أي ملاه.

[ 105 ]

البصرية التي لا تتحقق إلا بمقارنة الجهات والابعاد فإنها مستحيلة في حقه تعالى. وفي اعتقادات الصدوق قال عليه السلام: من أصغى إلى ناطق فقد عبده فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس. وفي الكافي بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: وليست تشهد الجوارح على مؤمن إنما تشهد على من حقت عليه كلمة العذاب فأما المؤمن فيعطى كتابه بيمينه قال الله عز وجل: " فمن أوتي كتابه بيمينه فاؤلئك يقرؤن كتابهم ولا يظلمون فتيلا " أسرى: 71. وفي تفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن جده قال: قال أمير المؤمنين عليهم السلام في خطبة يصف هول يوم القيامة: ختم الله على الافواه فلا تكلم وتكلمت الايدي وشهدت الارجل ونطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثا. أقول: وفي هذا المعنى روايات أخر يأتي بعضها في ذيل تفسير قوله تعالى: " شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم " الاية حم السجدة: 20، وتقدم بعضها في الكلام على قوله تعالى: " إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا " أسرى: 36. * * * ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فانى يبصرون - 66. ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون - 67. ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون - 68 وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين - 69. لينذر من كان حيا ويحق القول على

[ 106 ]

الكافرين - 70. أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا انعاما فهم لها مالكون - 71 وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون - 72. ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون - 73. واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون - 74. لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون - 75. فلا يحزنك قولهم انا نعلم ما يسرون وما يعلنون - 76. أو لم ير الانسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين - 77. وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم - 78. قل يحييها الذي انشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم - 79. الذي جعل لكم من الشجر الاخضر نارا فإذا انتم منه توقدون - 80 أو ليس الذي خلق السموات والارض بقادر على ان يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم - 81. إنما امره إذا اراد شيئا أن يقول له كن فيكون - 82. فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ وإليه ترجعون - 83.

[ 107 ]

(بيان) بيان تلخيصي للمعاني السابقة في سياق آخر ففيه تهديد لهم بالعذاب، والاشارة إلى أنه صلى الله عليه وآله وسلم رسول وأن كتابه ذكر وقرآن وليس بشاعر ولا كتابه بشعر، والاشارة إلى خلق الانعام آية للتوحيد، والاحتجاج على الميعاد. قوله تعالى: " ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون " قال في مجمع البيان: الطمس محو الشئ حتى يذهب أثره فالطمس على العين كالطمس على الكتاب ومثله الطمس على المال وهو إذهابه حتى لا يقع عليه إدراك، وأعمى مطموس وطميس وهو أن يذهب الشق الذي بين الجفنين، انتهى. فقوله: " ولو نشاء لطمسنا على أعينهم " أي لو أردنا لاذهبنا أعينهم فصارت ممسوحة لا أثر منها فذهبت به أبصارهم وبطل إبصارهم. وقوله: " فاستبقوا الصراط " أي أرادوا السبق إلى الطريق الواضح الذي لا يخطئ قاصده ولا يظل سالكه فلم يبصروه ولن يبصروه فالاستبعاد المفهوم من قوله: " فأنى يبصرون " كناية عن الامتناع. وقول بعضهم: إن المراد باستباق الصراط مبادرتهم إلى سلوك طريق الحق وعدم اهتدائهم إليها، لا يخلو من بعد. قوله تعالى: " ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون " قال في المجمع: والمسح قلب الصورة إلى خلقة مشوهة كما مسخ قوم قردة وخنازير وقال: والمكانة والمكان واحد. انتهى. والمراد بمسخهم على مكانتهم تشويه خلقهم وهم قعود في مكانهم الذي هم فيه من غير أن يغيرهم عن حالهم بعلاج وتكلف بل بمجرد المشية فهو كناية عن كونه هينا سهلا عليه تعالى من غير أي صعوبة. وقوله: " فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون " أي مضيا في العذاب ولا يرجعون إلى حالهم قبل العذاب والمسخ فالمضي والرجوع كنايتان عن الرجوع إلى حال السلامة والبقاء على حال العذاب والمسخ.

[ 108 ]

وقيل: المراد مضيهم نحو مقاصدهم ورجوعهم إلى منازلهم وأهليهم ولا يخلو من بعد. قوله تعالى: " ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون " التعمير التطويل في العمر، والتنكيس تقليب الشئ بحيث يعود أعلاه أسفله ويتبدل قوته ضعفا وزيادته نقصا والانسان في عهد الهرم منكس الخلق يتبدل قوته ضعفا وعلمه جهلا وذكره نسيانا. والاية في مقام الاستشهاد بتنكيس الخلق على إمكان مضمون الايتين السابقتين والمراد أن الذي ينكس خلق الانسان إذا عمره قادر على أن يطمس على أعينهم وعلى أن يمسخهم على مكانتهم. وفي قوله: " أفلا يعقلون " توبيخهم على عدم التعقل وحثهم على التدبر في هذه الامور والاعتبار بها. قوله تعالى: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين عطف ورجوع إلى ما تقدم في صدر السورة من تصديق رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكون كتابه تنزيلا من عنده تعالى. فقوله: " وما علمناه الشعر " نفى أن يكون علمه الشعر ولازمه أن يكون بحيث لا يحسن قول الشعر لا أن يحسنه ويمتنع من قوله لنهي من الله متوجه إليه، ولا أن النازل من القرآن ليس بشعر وإن أمكنه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوله. وبه يظهر أن قوله: " وما ينبغي له " في مقام الامتنان عليه بأنه نزهه عن أن يقول شعرا فالجملة في مقام دفع الدخل والمحصل أن عدم تعليمنا إياه الشعر ليس يوجب نقصا فيه ولا أنه تعجيز له بل لرفع درجته وتنزيه ساحته عما يتعاوره العارف بصناعة الشعر فيقع في معرض تزيين المعاني بالتخيلات الشعرية الكاذبة التي كلما أمعن فيها كان الكلام أوقع في النفس، وتنظيم الكلام بأوزان موسيقية ليكون أوقع في السمع، فلا ينبغي له صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول الشعر وهو رسول من الله وآية رسالته ومتن دعوته القرآن المعجز في بيانه الذي هو ذكر وقرآن مبين. وقوله: " إن هو إلا ذكر وقرآن مبين " تفسير وتوضيح لقوله: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له " بما أن لازم معناه أن القرآن ليس بشعر فالحصر المستفاد من

[ 109 ]

قوله: " إن هو إلا ذكر " الخ من قصر القلب والمعنى ليس هو بشعر ما هو إلا ذكر وقرآن مبين. ومعنى كونه ذكرا وقرآنا أنه ذكر مقرو من الله ظاهر ذلك. قوله تعالى: " لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين " تعليل متعلق بقوله: " وما علمناه الشعر " والمعنى ولم نعلمه الشعر لينذر بالقرآن المنزه من أن يكون شعرا من كان حيا " الخ " أو متعلق بقوله: " إن هو إلا ذكر " الخ والمعنى ليس ما يتلوه على الناس إلا ذكرا وقرآنا مبينا نزلناه إليه لينذر من كان حيا " الخ " ومآل الوجهين واحد. والاية - كما ترى - تعد غاية إرسال الرسول وإنزال القرآن إنذار من كان حيا - وهو كناية عن كونه يعقل الحق ويسمعه - وحقية القول ووجوبه على الكافرين فمحاذاة الاية لما في صدر السورة من الايات في هذا المعنى ظاهر. قوله تعالى: " أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون " ذكر آية من آيات التوحيد تدل على ربوبيته تعالى وتدبيره للعالم الانساني وهي نظيرة ما تقدم في ضمن آيات التوحيد السابقة من إحياء الارض الميتة بإخراج الحب والثمرات وتفجير العيون. والمراد بكون الانعام مما عملته أيديه تعالى عدم إشراكهم في خلقها واختصاصه به تعالى فعمل الايدي كناية عن الاختصاص. وقوله: " فهم لها مالكون " تفريع على قوله: " خلقنا لهم " فإن المعنى خلقنا لاجلهم فهي مخلوقة لاجل الانسان ولازمه اختصاصها به وينتهى الاختصاص إلى الملك فإن الملك الاعتباري الذي في المجتمع من شعب الاختصاص. وبذلك يظهر ما في قول بعضهم: إن في تفرع قوله: " فهم لها مالكون " على قوله: " خلقنا لهم " خفاء، والظاهر تفرعها على مقدر والتقدير خلقناها لهم فهم لها مالكون، وأنت خبير بعدم خفاء تفرعها على " خلقنا لهم " وعدم الحاجة إلى تقدير. وقيل: الملك بمعنى القدرة والقهر، وفيه أنه مفهوم من قوله بعد: " وذللناها لهم " والتأسيس خير من التأكيد.

[ 110 ]

قوله تعالى: " وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون " تذليل الانعام جعلها منقادة لهم غير عاصية وهو تسخيرها لهم، والركوب بفتح الراء الحمولة كالابل والبقر، وقوله: " ومنها يأكلون " أي من لحمها يأكلون. قوله تعالى: " ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون " المراد بالمنافع ما ينتفعون به من شعرها ووبرها وجلودها وغير ذلك، والمشارب جمع مشرب - مصدر ميمي بمعنى المفعول - والمراد بها الالبان، والكلام في معنى الشكر كالكلام فيما تقدم في قوله: " وما عملته أيديهم أفلا يشكرون ". ومعنى الايات الثلاث: أو لم يعلموا أنا خلقنا لاجلهم ولتدبير أمر حياتهم الدنيا أنعاما من الابل والبقر والغنم فتفرع على ذلك أنهم مالكون لها ملكا يصحح لهم أنواع تصرفاتهم فيها من غير معارض، وذللناها لهم بجعلها مسخرة لهم منقادة غير عاصية فمنها ركوبهم الذي يركبونه، ومنها أي من لحومها يأكلون، ولهم فيها منافع ينتفعون بأشعارها وأوبارها وجلودها ومشروبات من ألبانها يشربونها أفلا يشكرون الله على هذا التدبير الكامل الذى يكشف عن ربوبيته لهم ؟ أو لا يعبدونه شكرا لانعمه ؟. قوله تعالى: " واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون " ضمائر الجمع للمشركين، و المراد بالالهة الاصنام أو الشياطين وفراعنة البشر دون الملائكة المقربين والاولياء من الانسان لعدم ملاءمة ذيل الكلام: " وهم لهم جند محضرون " لذلك. وإنما اتخذوهم آلهة رجاء أن ينصروا من ناحيتهم لان عامتهم تتخذ إلها زعما منهم أن تدبير أمره مفوض إلى من اتخذه إلها من خير أو شر فيعبده العابد منهم ليرضيه بعبادته فلا يسخط فيقطع النعمة أو يرسل النقمة. قوله تعالى: " لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون " أي لا يستطيع هؤلاء الالهة الذين اتخذوهم آلهة نصر هؤلاء المشركين لانهم لا يملكون شيئا من خير أو شر. وقوله: " وهم لهم جند محضرون " الظاهر أن أول الضميرين للمشركين وثانيهما للالهة من دون الله والمراد أن المشركين جند للالهة وذلك أن من لوازم معنى الجندية التبعية والملازمة والمشركون هم المعدودون أتباعا لالهتهم مطيعين لهم دون العكس.

[ 111 ]

والمراد بالاحضار في قوله: " محضرون " الاحضار للجزاء يوم القيامة قال تعالى: " وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون " الصافات: 158 وقال: " ولو لا نعمة ربي لكنت من المحضرين " الصافات: 57. ومحصل المعنى لا يستطيع الالهة المتخذون نصر المشركين وهم أي المشركون لهم أي لالهتهم أتباع مطيعون محضرون معهم يوم القيامة. وأما قول القائل: إن المعنى أن المشركين جند لالهتهم معدون للذب عنهم في الدنيا، أو أن المعنى وهم أي الالهة لهم أي للمشركين جند محضرون لعذاب المشركين يوم القيامة لانهم وقود النار التي يعذب بها المشركون، أو محضرون لعذابهم إظهارا لعجزهم عن النصر أو لاقناط المشركين عن شفاعتهم فهي معان رديئة. قوله تعالى: " فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون " الفاء لتفريع النهي عن الحزن على حقيقة اتخاذهم الالهة من دون الله رجاء للنصر أي إذا كان هذا حقيقة حالهم أن الذين استنصروهم لا يستطيعون نصرهم أبدا وأنهم سيحضرون معهم للعذاب فلا يحزنك قولهم ما قالوا به من الشرك فإنا لسنا بغافلين عنهم حتى يعجزونا أو يفسدوا علينا بعض الامر بل نعلم ما يسرون من أقوالهم وما يعلنون، وفي تركيب الاية بعض أقوال رديئة أضربنا عنه. قوله تعالى: " أو لم ير الانسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين " رجوع إلى ما تقدم من حديث البعث والاحتجاج عليه إثر إنكارهم، ولا يبعد أن يكون بيانا تفصيليا لقولهم المشار إليه في قوله تعالى: " فلا يحزنك قولهم " الخ والمراد بالرؤية العلم القطعي أي أو لم يعلم الانسان علما قاطعا أنا خلقناه من نطفة، وتنكير نطفة للتحقير والخصيم المصر على خصومته وجداله. والاستفهام للتعجب والمعنى من العجيب أن الانسان يعلم أنا خلقناه من نطفة مهينة فيفاجؤه أنه خصيم مجادل مبين. قوله تعالى: " وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم " الرميم البالي من العظام، و " نسي خلقه " حال من فاعل ضرب، وقوله: " قال من يحيي العظام وهي رميم " بيان للمثل الذي ضربه الانسان، ولذلك جئ به مفصولا

[ 112 ]

من غير عطف لان الكلام في معنى أن يقال: فماذا ضرب مثلا ؟ فقيل: قال من يحيي العظام وهي رميم. والمعنى وضرب الانسان لنا مثلا وقد نسي خلقه من نطفة لاول مرة، ولو كان ذاكره لم يضرب المثل الذي ضربه وهو قوله: " من يحيي العظام وهي بالية ؟ " لانه كان يرد على نفسه ويجيب عن المثل الذي ضربه بخلقه الاول كما لقنه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم جوابا عنه. قوله تعالى: " قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم " تلقين الجواب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. الانشاء هو الايجاد الابتدائي وتقييده بقوله " أول مرة " للتأكيد، وقوله: " وهو بكل خلق عليم " إشارة إلى أنه تعالى لا ينسى ولا يجهل شيئا من خلقه فإذا كان هو خالق هذه العظام لاول مرة وهو لا يجهل شيئا مما كانت عليه قبل الموت وبعده فإحياؤه ثانيا بمكان من الامكان لثبوت القدرة وانتفاء الجهل والنسيان. قوله تعالى: " الذي جعل لكم من الشجر الاخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون " بيان لقوله: " الذي أنشأها أول مرة " والايقاد إشعال النار. والاية مسوقة لرفع استبعاد جعل الشئ الموات شيئا ذا حياة والحياة والموت متنافيان والجواب أنه لا استبعاد فيه فإنه هو الذي جعل لكم من الشجر الاخضر الذي يقطر ماء نارا فإذا أنتم منه توقدون وتشعلون النار، والمراد به على المشهور بين المفسرين شجر (1) المرخ والعفار كانوا يأخذون منهما على خضرتهما فيجعل العفار زندا أسفل ويجعل المرخ زنذا أعلى فيسحق الاعلى على الاسفل فتنقدح النار بإذن الله فحصول الحي من الميت ليس بأعجب من انقداح النار من الشجرة الخضراء وهما متضادان. قوله تعالى: " أو ليس الذي خلق السماوات والارض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم " الاستفهام للانكار والاية بيان للحجة السابقة المذكورة في قوله (1)


المرخ بالفتح فالسكون والخاء العمجمة، والعفار بعين مفتوحة ثم الفاء ثم الراء المهملة شجرتان تشتعلان بسحق أحدهما على الاخر.

[ 113 ]

في قوله: " قل يحييها الذي أنشأها أول مرة " الخ. ببيان أقرب إلى الذهن وذلك بتبديل إنشائهم أول مرة من خلق السماوات والارض الذي هو أكبر من خلق الانسان كما قال تعالى: " لخلق السماوات والارض أكبر من خلق الناس " المؤمن: 57. فالاية في معنى قولنا: وكيف يمكن أن يقال: إن الله الذي خلق عوالم السماوات والارض بما فيها من سعة الخلقة البديعة وعجيب النظام العام المتضمن لما لا يحصى من الانظمة الجزئية المدهشة للعقول المحيرة للالباب والعالم الانساني جزء يسير منها، لا يقدر أن يخلق مثل هؤلاء الناس، بلى وإنه خلاق عليم. والمراد بمثلهم قيل: هم وأمثالهم وفيه أنه مغاير لمعنى مثل على ما يعرف من اللغة والعرف. وقيل: المراد بمثلهم هم أنفسهم بنحو الكناية على حد قولهم: مثلك غني عن كذا أي أنت غني عنه، وفيه أنه لو كان كناية لصح التصريح به لكن لا وجه لقولنا: أو ليس الذي خلق السماوات والارض بقادر على أن يخلقهم فإن الكلام في بعثهم لا في خلقهم والمشركون معترفون بأن خالقهم هو الله سبحانه. وقيل: ضمير " مثلهم " للسماوات والارض فإنهما تشملان ما فيهما من العقلاء فأعيد إليهما ضمير العقلاء تغليبا فالمراد أن الله الخالق للعالم قادر على خلق مثله. وفيه أن المقام مقام إثبات بعث الانسان لا بعث السماوات والارض. على أن الكلام في الاعادة و خلق مثل الشئ ليس إعادة لعينه بل بالضرورة. فالحق أن يقال: إن المراد بخلق مثلهم إعادتهم للجزاء بعد الموت كما يستفاد من كلام الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان. بيانه أن الانسان مركب من نفس وبدن، والبدن في هذه النشأة في معرض التحلل والتبدل دائما فهو لا يزال يتغير أجزاؤه والمركب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه فهو في كل آن غيره في الان السابق بشخصه وشخصية الانسان محفوظة بنفسه - روحه - المجردة المنزهة عن المادة والتغيرات الطارئة من قبلها المأمونة من الموت والفساد. والمتحصل من كلامه تعالى أن النفس لا تموت بموت البدن وأنها محفوظة حتى ترجع

[ 114 ]

إلى الله سبحانه كما تقدم استفادته من قوله تعالى: " و قالوا ءإذا ضللنا في الارض ءإنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون " الم السجدة: 11. فالبدن اللاحق من الانسان إذا أعتبر بالقياس إلى البدن السابق منه كان مثله لا عينه لكن الانسان ذا البدن اللاحق إذا قيس إلى الانسان ذي البدن السابق كان عينه لا مثله لان الشخصية بالنفس وهي واحدة بعينها. ولما كان استبعاد المشركين في قولهم: " من يحيي العظام وهي رميم " راجعا إلى خلق البدن الجديد دون النفس أجاب سبحانه بإثبات إمكان خلق مثلهم وأما عودهم بأعيانهم فهو إنما يتم بتعلق النفوس والارواح المحفوظة عند الله بالابدان المخلوقة جديدا، فتكون الاشخاص الموجودين في الدنيا من الناس بأعيانهم كما قال تعالى: " أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والارض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى " الاحقاف 33 فعلق الاحياء على الموتى بأعيانهم فقال: على أن يحيي الموتى ولم يقل: على أن يحيي أمثال الموتى. قوله تعالى: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " الاية من غرر الايات القرآنية تصف كلمة الايجاد وتبين أنه تعالى لا يحتاج في إيجاد شئ مما أراده إلى ما وراء ذاته المتعالية من سبب يوجد له ما أراده أو يعينه في إيجاده أو يدفع عنه مانعا يمنعه. وقد اختلف تعبيره تعالى عن هذه الحقيقة في كلامه فقال: " إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " النحل: 40، وقال: " وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " البقرة: 117. فقوله: " إنما أمره " الظاهر أن المراد بالامر الشأن، وقوله في آية النحل المنقولة آنفا: " إنما قولنا لشئ إذا أردنا " إن كان يؤيد كون الامر بمعنى القول وهو الامر اللفظي بلفظة كن إلا أن التدبر في الايات يعطي أن الغرض فيها وصف الشأن الالهي عند إرادة خلق شئ من الاشياء لا بيان أن قوله تعالى عند خلق شئ من الاشياء هذا القول دون غيره، فالوجه حمل القول على الامر بمعنى الشأن بمعنى أنه جئ به لكونه

[ 115 ]

مصداقا للشأن لا حمل الامر على القول بمعنى ما يقابل النهي. وقوله: " إذا أراد شيئا " أي إذا أراد إيجاد شئ كما يعطيه سياق الاية وقد ورد في عدة من الايات القضاء مكان الارادة كقوله: " إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (1) " ولا ضير فالقضاء هو الحكم والقضاء و الحكم والارادة من الله شئ واحد وهو كون (2) الشئ الموجود بحيث ليس له من الله سبحانه إلا أن يوجد فمعنى إذا أردناه إذا أوقفناه موقف تعلق الارادة. وقوله: " أن يقول له كن " خبر إنما أمره أي يخاطبه بكلمة كن ومن المعلوم أن ليس هناك لفظ يتلفظ به وإلا احتاج في وجوده إلى لفظ آخر وهلم جرا فيتسلسل ولا أن هناك مخاطبا ذا سمع يسمع الخطاب فيوجد به لادائه إلى الخلف فالكلام تمثيل لافاضته تعالى وجود الشئ من غير حاجة إلى شئ آخر وراء ذاته المتعالية ومن غير تخلف ولا مهل. وبه يظهر فساد ما ذكره بعضهم حيث قال: الظاهر أن هناك قولا لفظيا هو لفظ كن وإليه ذهب معظم السلف وشؤون الله تعالى وراء ما تصل إليه الافهام فدع عنك الكلام والخصام. انتهى. وذلك أن ما ذكره من كون شؤنه تعالى وراء طور الافهام لو أبطل الحجة العقلية القطعية بطلت بذلك المعارف الدينية من أصلها فصحة الكتاب مثلا بما يفيده من المعارف الحقيقية إنما تثبت بالحجة العقلية فلو بطلت الحجة العقلية بكتاب أو سنة أو شئ آخر مما يثبت هو بها لكان ذلك الدليل المبطل مبطلا لنفسه أو لا فلا تزل قدم بعد ثبوتها. ومن المعلوم أن ليس هناك إلا الله عز اسمه والشئ الذي يوجد لا ثالث بينهما وإسناد العلية والسببية إلى إرادته دونه تعالى - والارادة صفة فعلية منتزعة من مقام الفعل كما تقدم - يستلزم انقطاع حاجة الاشياء إليه تعالى من رأس لاستيجابه استغناء الاشياء بصفة منتزعة منها عنه تعالى وتقدس. (1)


البقرة: 17، آل عمران: 47، مريم: 35، المؤمن: 68. (2) فإن هذه الارادة صفة فعلية خارجة عن الذات منتزعة عن مقام الفعل.

[ 116 ]

ومن المعلوم أن ليس هناك أمر ينفصل عنه تعالى يسمى إيجادا أو وجودا ثم يتصل بالشئ فيصير به موجودا وهو ظاهر فليس بعده تعالى إلا وجود الشئ فحسب. ومن هنا يظهر أن كلمة الايجاد وهي كلمة كن هي وجود الشئ الذي أوجده لكن بما أنه منتسب إليه قائم به وأما من حيث انتسابه إلى نفسه فهو موجود لا إيجاد ومخلوق لا خلق. و يظهر أيضا أن الذي يفيض منه تعالى لا يقبل مهلة ولا نظرة ولا يتحمل تبدلا ولا تغيرا، ولا يتلبس بتدريج وما يترآى في الخلق من هذه الامور إنما يتأتى في الاشياء في ناحية نفسها لا من الجهة التي تلي ربها سبحانه وهذا باب ينفتح منه ألف باب. وفي الايات للتلويح إلى هذه الحقائق إشارات لطيفة كقوله تعالى: " كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " آل عمران: 59، وقوله تعالى: " وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر " القمر: 50، وقوله تعالى: " وكان أمر الله قدرا مقدورا " الاحزاب: 38 إلى غير ذلك. وقوله في آخر الاية: " فيكون " بيان لطاعة الشئ المراد له تعالى وامتثاله لامر " كن " ولبسه الوجود. قوله تعالى: " فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ وإليه ترجعون " الملكوت مبالغة في معنى الملك كالرحموت والرهبوت في معنى الرحمة والرهبة. وانضمام الاية إلى ما قبلها يعطي أن المراد بالملكوت الجهة التالية له تعالى من وجهي وجود الاشياء، وبالملك الجهة التالية للخلق أو الاعم الشامل للوجهين. وعليه يحمل قوله تعالى: " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين " الانعام: 75. وقوله: " أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والارض " الاعراف: 185: وقوله: " قل من بيده ملكوت كل شئ " المؤمنون: 88. وجعل الملكوت بيده تعالى للدلالة على أنه متسلط عليها لا نصيب فيها لغيره. ومآل المعنى في قوله: " فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ " تنزيهه تعالى عما استبعدوا منكرين للمعاد لغفلتهم عن أن ملكوت كل شئ بيده وفي قبضته.

[ 117 ]

و قوله: " وإليه ترجعون " خطاب لعامة الناس من مؤمن ومشرك، وبيان لنتيجة البيان السابق بعد التنزيه. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له " الاية قال: كانت قريش تقول: إن هذا الذي يقوله محمد شعر فرد الله عليهم فقال: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين " ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شعرا قط. وفي المجمع روي عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتمثل بهذا البيت: كفى الاسلام والشيب للمرء ناهيا فقال له أبو بكر: يا رسول الله إنما قال: كفى الشيب والاسلام للمرء ناهيا وأشهد أنك رسول الله وما علمك الله الشعر وما ينبغي لك. وفيه عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتمثل ببيت أخي بني قيس: ستبدي لك الايام ما كنت جاهلا * ويأتيك بالاخبار من لم تزود فجعل يقول: ويأتيك من لم تزود بالاخبار فيقول أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله فيقول: إني لست بشاعر ولا ينبغي لي. اقول: وروى في الدر المنثور الخبرين عن الحسن وعائشة كما رواه وروى في الدر المنثور غير ذلك مما تمثل به صلى الله عليه وسلم. وقال في المجمع: فأما قوله: أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب فقد قال قوم: إن هذا ليس بشعر، وقال آخرون: إنما هو اتفاق منه وليس يقصد إلى شعر انتهى. والبيت منقول عنه صلى الله عليه وآله وسلم وقد أكثروا من البحث فيه وطرح الرواية أهون من نفي كونه شعرا أو شعرا مقصودا إليه. وفيه في قوله تعالى: " لينذر من كان حيا " الاية ويجوز أن يكون المراد بمن كان حيا عاقلا وروى ذلك عن علي عليه السلام. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى:

[ 118 ]

" واتخذوا من دون الله - إلى قوله - محضرون " يقول: لا تستطيع الالهة لهم نصرا وهم للالهة جند محضرون. وعن تفسير العياشي عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: جاء أبي بن خلف فأخذ عظما باليا من حائط ففته ثم قال: إذا كنا عظاما ورفاتا ءإنا لمبعثون خلقا ؟ فأنزل الله: قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم. أقول: وروى مثله في الدر المنثور بطرق كثيرة عن ابن عباس وعروة بن الزبير وعن قتادة والسدي وعكرمة وروى أيضا عن ابن عباس أن القائل هو العاص بن وائل وبطريق آخر عنه أن القائل هو عبد الله بن أبي. وفي الاحتجاج: في احتجاج أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال السائل: أفيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصور فعند ذلك تبطل الاشياء وتفنى فلا حس ولا محسوس ثم أعيدت الاشياء كما بدأها مدبرها وذلك أربعمائة سنة يسبت فيها الخلق وذلك بين النفختين. قال: وأنى له بالبعث والبدن قد بلى والاعضاء قد تفرقت فعضو ببلدة تأكله سباعها وعضو باخرى تمزقه هوامها وعضو قد صار ترابا يبنى به مع الطين في حائط. قال صلى الله عليه وآله وسلم: إن الذي أنشأه من غير شئ وصوره على غير مثال كان سبق إليه قادر أن يعيده كما بدأه. قال: أوضح لي ذلك. قال صلى الله عليه وآله وسلم: إن الروح مقيمة في مكانها روح المحسن في ضياء وفسحة، وروح المسئ في ضيق وظلمة والبدن يصير ترابا كما منه خلق وما تقذف به السباع والهوام من أجوافها فما أكلته ومزقته كل ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الارض ويعلم عدد الاشياء ووزنها وإن تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب. فإذا كان حين البعث مطرت الارض مطر النشور فتربو الارض ثم تمخض مخض السقاء فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء والزبد من اللبن إذا مخض

[ 119 ]

فيجتمع تراب كل قالب إلى قالبه فينتقل بإذن الله القادر إلى حيث الروح فتعود الصور بإذن المصور كهيئتها ويلج الروح فيها فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا. وفي نهج البلاغة: يقول لما أراد كونه: كن فيكون، لا بصوت يقرع ولا نداء يسمع وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثله لم يكن من قبل ذلك كائنا ولو كان قديما لكان إلها ثانيا. وفيه: يقول ولا يلفظ ويريد ولا يضمر. وفي الكافي بإسناده عن صفوان بن يحيي قال. قلت لابي الحسن عليه السلام: أخبرني عن الارادة من الله ومن الخلق قال: فقال: الارادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، وأما من الله فإرادته إحداثه لا غير ذلك لانه لا يروي ولا يهم ولا يتفكر، وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق. فإرادة الله الفعل لا غير ذلك يقول له: كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكر ولا كيف لذلك كما أنه لا كيف له. أقول: والروايات عنهم عليه السلام في كون إرادته من صفات الفعل مستفيضة. * * * سورة الصافات مكية وهي مائة واثنان وثمانون آية بسم الله الرحمن الرحيم والصافات صفا - 1. فالزاجرات زجرا - 2. فالتاليات ذكرا - 3. إن إلهكم لواحد - 4. رب السموات والارض وما بينهما ورب المشارق - 5. إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب - 6 وحفظا من كل شيطان مارد - 7. لا يسمعون إلى الملاء الاعلى ويقذفون من كل

[ 120 ]

جانب - 8. دحورا ولهم عذاب واصب - 9. إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب - 10. فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب - 11. (بيان) في السورة احتجاج على التوحيد، وإنذار للمشركين و تبشير للمخلصين من المؤمنين، وبيان ما يؤل إليه حال كل من الفريقين ثم ذكر عدة من عباده المؤمنين ممن من الله عليهم وقضى أن ينصرهم على عدوهم، وفي خاتمة السورة ما هو بمنزلة محصل الغرض منها وهو تنزيهه والسلام على عباده المرسلين وتحميده تعالى فيما فعل والسورة مكية بشهادة سياقها. قوله تعالى: " والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا " الصافات - على ما قيل - جمع صافة وهي جمع صاف، والمراد بها على أي حال الجماعة التي تصطف أفرادها والزاجرات من الزجر وهو الصرف عن الشئ بالتخويف بذم أو عقاب والتاليات من التلاوة بمعنى القراءة. وقد أقسم الله تعالى بهذه الطوائف الثلاث: الصافات والزاجرات والتاليات وقد اختلفت كلماتهم في المراد بها: فأما الصافات فقيل: إن المراد بها الملائكة تصف أنفسها في السماء صفوفا كصفوف المؤمنين في الصلاة، وقيل: إنها الملائكة تصف أجنحتها في الهواء إذا أرادت النزول إلى الارض واقفة في انتظار أمر الله تعالى، وقيل: إنها الجماعة من المؤمنين يقومون في الصلاة أو في الجهاد مصطفين. وأما الزاجرات فقيل: إنها الملائكة تزجر العباد عن المعاصي فيوصله الله إلى قلوب الناس في صورة الخطرات كما يوصل وساوس الشياطين، وقيل: إنها الملائكة الموكلة بالسحاب تزجرها وتسوقها إلى حيث أراد الله سبحانه، وقيل: هي زواجر

[ 121 ]

القرآن وهي آياته الناهية عن القبائح، وقيل: هم المؤمنون يرفعون أصواتهم بالقرآن عند قراءته فيزجرون الناس عن المنهيات. وأما التاليات فقيل: هم الملائكة يتلون الوحي على النبي الموحى إليه، وقيل: هي الملائكة تتلو الكتاب الذي كتبه الله وفيها ذكر الحوادث، وقيل: جماعة قراء القرآن يتلونه في الصلاة. ويحتمل - والله العالم - أن يكون المراد بالطوائف الثلاث المذكورة في الايات طوائف الملائكة النازلين بالوحي المأمورين بتأمين الطريق ودفع الشياطين عن المداخلة فيه وإيصاله إلى النبي مطلقا أو خصوص محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما يستفاد من قوله تعالى: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم " الجن: 28. وعليه فالمعنى أقسم بالملائكة الذين يصفون في طريق الوحي صفا فبالذين يزجرون الشياطين ويمنعونهم عن المداخلة في الوحي فبالذين يتلون على النبي الذكر وهو مطلق الوحي أو خصوص القرآن كما يؤيده التعبير عنه بتلاوة الذكر. ويؤيد ما ذكرنا وقوع حديث رمي الشياطين بالشهب بعد هذه الايات، وكذا قوله بعد: " فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا " الاية كما سنشير إليه. ولا ينافي ذلك إسناد النزول بالقرآن إلى جبريل وحده في قوله: " من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك " البقرة: 97 وقوله: " نزل به الروح الامين على قلبك " الشعراء: 194 لان الملائكة المذكورين أعوان جبريل فنزولهم به نزوله به وقد قال تعالى: " في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة " عبس: 16، وقال حكاية عنهم: " وما نتنزل إلا بأمر ربك " مريم: 64، وقال: " وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون " الصافات: 166 وهذا كنسبة التوفى إلى الرسل من الملائكة في قوله: " حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا " الانعام: 61 وإلى ملك الموت وهو رئيسهم في قوله: " قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم " السجدة: 11. ولا ضير في التعبير عن الملائكة بلفظ الاناث: الصافات والزاجرات والتاليات

[ 122 ]

لان موصوفها الجماعة، والتأنيث لفظي. وهذه أول سورة في القرآن صدرت بالقسم وقد اقسم الله سبحانه في كلامه بكثير من خلقه كالسماء والارض والشمس والقمر والنجم والليل والنهار والملائكة والناس والبلاد والاثمار، وليس ذلك إلا لما فيها من الشرف باستناد خلقها إليه تعالى وهو قيومها المنبع لكل شرف وبهاء. قوله تعالى: " إن إلهكم لواحد " الخطاب لعامة الناس وهو مقسم به، وهو كلام مسوق بدليل كما سيأتي. قوله تعالى: " رب السماوات والارض وما بينهما ورب المشارق " خبر بعد خبر لان، أو خبر لمبتدء محذوف والتقدير هو رب السماوات " الخ " أو بدل من واحد. وفي سوق الاوصاف إشعار بعلة كون الاله واحدا كما أن خصوصية القسم مشعر بعلة كونه رب السماوات والارض وما بينهما. كأنه قيل إن إلهكم لواحد لان الملاك في الوهية الاله وهي كونه معبودا بالحق أن يكون ربا يدبر الامر على ما تعترفون وهو سبحانه رب السماوات والارض وما بينهما الذي يدبر أمرها ويتصرف في جميعها. وكيف لا ؟ وهو تعالى يوحي إلى نبيه فيتصرف في السماء وسكانها بإرسال ملائكة يصطفون بينها وبين الارض وهناك مجال الشياطين فيزجرونهم وهو تصرف منه فيما بين السماء و الارض وفي الشياطين ثم يتلون الذكر على نبيه وفيه تكميل للناس وتربية لهم سواء صدقوا أم كذبوا ففي الوحي تصرف منه في السماوات والارض وما بينهما فهو على وحدانيته رب الجميع المدبر لامرها والاله الواحد. وقوله: " ورب المشارق " أي مشارق الشمس باختلاف الفصول أو المراد مشارق مطلق النجوم أو مطلق المشارق، وفي تخصيص المشارق بالذكر مناسبة لطلوع الوحي بملائكته من السماء وقد قال تعالى: " ولقد رآه بالافق المبين " التكوير 23، وقال: " وهو بالافق الاعلى " النجم: 7. قوله تعالى: " إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب " المراد بالزينة ما يزين به،

[ 123 ]

والكواكب بيان أو بدل من الزينة وقد تكرر حديث تزيين السماء الدنيا بزينة الكواكب في كلامه كقوله: " وزينا السماء الدنيا بمصابيح " حم السجدة: 12 وقوله: " ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح " الملك: 5، وقوله: " أو لم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها " ق: 6. ولا يخلو من ظهور في كون السماء الدنيا من السماوات السبع التي يذكرها القرآن هو عالم الكواكب فوق الارض وإن وجهه بعضهم بما يوافق مقتضى الهيئة القديمة أو الجديدة. قوله تعالى: " وحفظا من كل شيطان مارد " حفظا مفعول مطلق لفعل محذوف والتقدير وحفظناها حفظا من كل شيطان مارد، والمراد بالشيطان الشرير من الجن والمارد الخبيث العاري من الخير. قوله تعالى: " لا يسمعون إلى الملا الاعلى ويقذفون من كل جانب " أصل " لا يسمعون " لا يتسمعون والتسمع الاصغاء، وهو كناية عن كونهم ممنوعين مدحورين وبهذه العناية صار وصفا لكل شيطان ولو كان بمعنى الاصغاء صريحا أفاد لغوا من الفعل إذ لو كانوا لا يصغون لم يكن وجه لقذفهم. والملا من الناس الاشراف منهم الذين يملؤن العيون، والملا الاعلى هم الذين يريد الشياطين التسمع إليهم وهم الملائكة الكرام الذين هم سكنة السماوات العلى - على ما يدل عليه كلامه تعالى كقوله: " لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا " أسرى: 95. وقصدهم من التسمع إلى الملا الاعلى الاطلاع على أخبار الغيب المستوردة عن هذا العالم الارضي كالحوادث المستقبلة والاسرار المكنونة كما يشير إليه قوله تعالى: " وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون " الشعراء: 212، وقوله حكاية عن الجن: " وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا كنا نقعد مقاعد للسمع فمن يستمع الان يجد له شهابا رصدا " الجن: 9. وقوله: " ويقذقون من كل جانب " القذف الرمي والجانب الجهة. قوله تعالى: " دحورا ولهم عذاب واصب " الدحور الطرد والدفع، وهو مصدر بمعنى المفعول منصوب حالا أي مدحورين أو مفعول له أو مفعول مطلق، والواصب الواجب اللازم.

[ 124 ]

قوله تعالى: " إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب " الخطفة الاختلاس والاستلاب، والشهاب ما يرى في الجو كالكوكب المنقض، والثقوب الركوز وسمي الشهاب ثاقبا لانه لا يخطئ هدفه وغرضه. والمراد بالخطفة اختلاس السمع وقد عبر عنه في موضع آخر باستراق السمع قال تعالى: " إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين " الحجر: 18، والاستثناء من ضمير الفاعل في قوله: " لا يسمعون " وجوز بعضهم كون الاستثناء منقطعا. ومعنى الايات الخمس: إنا زينا السماء التي هي أقرب السماوات منكم - أو السماء السفلي بزينة وهي الكواكب، وحفظناها حفظا من كل شيطان خبيث عار من الخير ممنوعين من الاصغاء إلى الملا الاعلى - للاطلاع إلى ما يلقون بين أنفسهم من أخبار الغيب - ويرمون من كل جهة حال كونهم مطرودين ولهم عذاب لازم لا يفارقهم إلا من اختلس من أخبارهم الاختلاسة فأتبعه شهاب ثاقب لا يخطئ غرضه. (كلام في معنى الشهب) أورد المفسرون أنواعا من التوجيه لتصوير استراق السمع من الشياطين ورميهم بالشهب وهي مبنية على ما يسبق إلى الذهن من ظاهر الايات والاخبار ان هناك أفلاكا محيطة بالارض تسكنها جماعات الملائكة ولها أبواب لا يلج فيها شئ إلا منها وأن في السماء الاولى جمعا من الملائكة بأيديهم الشهب يرصدون المسترقين للسمع من الشياطين فيقذفونهم بالشهب. وقد اتضح اليوم اتضاح عيان بطلان هذه الاراء ويتفرع على ذلك بطلان الوجوه التى أوردوها في تفسير الشهب وهي وجوه كثيرة أودعوها في المطولات كالتفسير الكبير للرازي وروح المعاني للالوسي وغيرهما. ويحتمل - والله العالم أن هذه البيانات في كلامه تعالى من قبيل الامثال المضروبة تصور بها الحقائق الخارجة عن الحس في صورة المحسوس لتقريبها من الحس وهو القائل عز وجل: " وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون " العنكبوت: 43.

[ 125 ]

وهو كثير في كلامه تعالى ومنه العرش والكرسي واللوح والكتاب وقد تقدمت الاشارة إليها وسيجئ بعض منها. وعلى هذا يكون المراد من السماء التي تسكنها الملائكة عالما ملكوتيا ذا افق أعلى نسبته إلى هذا العالم المشهود نسبة السماء المحسوسة بأجرامها إلى الارض، والمراد باقتراب الشياطين من السماء واستراقهم السمع وقذفهم بالشهب اقترابهم من عالم الملائكة للاطلاع على أسرار الخلقة والحوادث المستقبلة ورميهم بما لا يطيقونه من نور الملكوت، أو كرتهم على الحق لتلبيسه ورمي الملائكة إياهم بالحق الذي يبطل أباطيلهم. وإيراده تعالى قصة استراق الشياطين للسمع ورميهم بالشهب عقيب الاقسام بملائكة الوحي وحفظهم إياه عن مداخلة الشياطين لا يخلو من تأييد لما ذكرناه والله أعلم. قوله تعالى: " فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب " اللازب الملتزق بعضه ببعض بحيث يلزمه ما جاوره، وقال في مجمع البيان: اللازب واللازم بمعنى. انتهى. والمراد بقوله: " من خلقنا " إما الملائكة المشار إليهم في الايات السابقة وهم حفظة الوحي ورماة الشهب، وإما غير الناس من الخلق العظيم كالسماوات والارض والملائكة، والتعبير بلفظ أولى العقل للتغليب. والمعنى: فإذا كان الله هو رب السماوات والارض وما بينهما والملائكة فاسألهم أن يفتوا أهم أشد خلقا أم غيرهم ممن خلقنا فهم أضعف خلقا لانا خلقناهم من طين ملتزق فليسوا بمعجزين لنا. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " والصافات صفا " قال: الملائكة والانبياء. وفيه عن أبيه ويعقوب بن يزيد عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: إن هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الارض. الحديث. وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال: " عذاب واصب "

[ 126 ]

أي دائم موجع قد وصل إلى قلوبهم. وفيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث المعراج: قال: فصعد جبرئيل وصعدت معه إلى سماء الدنيا وعليها ملك يقال له: اسماعيل وهو صاحب الخطفة التي قال الله عز وجل: " إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب " وتحته سبعون ألف ملك تحت كل ملك سبعون ألف ملك. الحديث. أقول: والروايات في هذا الباب كثيرة أوردنا بعضا منها في تفسير قوله تعالى: " إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين " الحجر: 18 وسيأتي بعضها في تفسير سورتي الملك والجن إن شاء الله تعالى. وفي نهج البلاغة: ثم جمع سبحانه من حزن الارض وسهلها وعذبها وسبخها تربة سنها بالماء حتى خلصت، ولاطها بالبلة حتى لزبت. * * * بل عجبت ويسخرون - 12. وإذا ذكروا لا يذكرون - 13. وإذا رأوا آية يستسخرون - 14. وقالوا إن هذا إلا سحر مبين - 15. ءإذا متنا وكنا ترابا وعظاماءإنا لمبعوثون - 16. أو آباؤنا الاولون - 17. قل نعم وأنتم داخرون - 18. فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون - 19. وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين - 20. هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون - 21. أحشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون - 22. من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم - 23. وقفوهم إنهم

[ 127 ]

مسؤلون - 24. مالكم لا تناصرون - 25. بل هم اليوم مستسلمون - 26. وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون - 27. قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين - 28. قالوا بل لم تكونوا مؤمنين - 29. وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين - 30. فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون - 31. فأغويناكم إنا كنا غاوين - 32. فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون - 33. إنا كذلك نفعل بالمجرمين - 34. إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون - 35. ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون - 36. بل جاء بالحق وصدق المرسلين - 37. إنكم لذائقوا العذاب الاليم - 38. وما تجزون إلا ما كنتم تعملون - 39. إلا عباد الله المخلصين - 40. أولئك لهم رزق معلوم - 41. فواكه وهم مكرمون - 42. في جنات النعيم - 43. على سرر متقابلين - 44. يطاف عليهم بكأس من معين - 45. بيضاء لذة للشاربين - 46. لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون - 47. وعندهم قاصرات الطرف

[ 128 ]

عين - 48. كأنهن بيض مكنون - 49. فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون - 50. قال قائل منهم إني كان لي قرين - 51. يقول ءإنك لمن المصدقين - 52. ءإذا متنا وكنا ترابا وعظاما ءإنا لمدينون - 53. قال هل أنتم مطلعون - 54. فاطلع فرآه في سوآء الجحيم - 55. قال تالله إن كدت لتردين - 56. ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين - 57. أفما نحن بميتين 58. إلا موتتنا الاولى وما نحن بمعذبين - 59. إن هذا لهو الفوز العظيم - 60. لمثل هذا فليعمل العاملون - 61. أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم - 62. إنا جعلناها فتنة للظالمين - 63. إنها شجرة يخرج في أصل الجحيم - 64. طلعها كانه رءوس الشياطين - 65. فإنهم لاكلون منها فمالؤن منها البطون - 66. ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم - 67. ثم إن مرجعهم لالى الجحيم - 68. إنهم ألفوا آباءهم ضالين - 69. فهم على آثارهم يهرعون - 70.

[ 129 ]

(بيان) حكاية استهزائهم بآيات الله وبعض أقاويلهم المبنية على الكفر وإنكار المعاد والرد عليهم بتقرير أمر البعث وما يجري عليهم فيه من الشدة وألوان العذاب وما يكرم الله به عباده المخلصين من النعمة والكرامة. وفيها ذكر تخاصم أهل النار يوم القيامة، وذكر محادثة بين أهل الجنة وأخرى بين بعضهم وبعض أهل النار. قوله تعالى: " بل عجبت ويسخرون وإذا ذكروا لا يذكرون " أي بل عجبت يا محمد من تكذيبهم إياك مع دعوتك إياهم إلى كلمة الحق، وهم يسخرون ويهزؤن من تعجبك منهم أو من دعائك إياهم إلى الحق، وإذا ذكروا بآيات الله الدالة على التوحيد ودين الحق لا يذكرون ولا يتنبهون. قوله تعالى: " وإذا رأوا آية يستسخرون " في مجمع البيان: سخر واستسخر بمعنى واحد. انتهى. والمعنى: وإذا رأوا هؤلاء المشركون اية معجزة من آيات الله المعجزة كالقرآن وشق القمر يستهزؤن بها. قوله تعالى: " وقالوا إن هذا إلا سحر مبين " في إشارتهم إلى الاية بلفظة هذا إشعار منهم أنهم لا يفقهون منها إلا أنها شئ ما من غير زيادة وهو من أقوى الاهانة والاستسخار. قوله تعالى: " ءإذا متنا وكنا ترابا وعظاما ءإنا لمبعوثون أو آباؤنا الاولون " إنكار منهم للبعث مبني على الاستبعاد فمن المستبعد عند الوهم أن يموت الانسان فيتلاشى بدنه ويعود ترابا وعظاما ثم يعود إلى صورته الاولى. ومن الدليل على أن الكلام مسوق لافادة الاستبعاد تكرارهم الاستفهام الانكاري

[ 130 ]

بالنسبة إلى آبائهم الاولين فإن استبعاد الوهم لبعثهم وقد انمحت رسومهم ولم يبق منهم إلا أحاديث أشد وأقوى من استبعاده بعثهم أنفسهم. ولو كان إنكارهم البعث مبنيا على أنهم ينعدمون بالموت فتستحيل إعادتهم كان الحكم فيهم وفي آبائهم على نهج واحد ولم يحتج إلى تجديد استفهام بالنسبة إلى آبائهم. قوله تعالى: " قل نعم وأنتم داخرون فإنما هي زجرة واحدة فإذاهم ينظرون " أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيبهم بأنهم مبعوثون. وقوله: " وأنتم داخرون " أي صاغرون مهانون أذلاء، وهذا في الحقيقة احتجاج بعموم القدرة ونفوذ الارادة من غير مهلة، فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ولذا عقبه بقوله: " فإنما هي زجرة واحدة فإذاهم ينظرون " وقد قال تعالى: " ولله غيب السماوات والارض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شئ قدير " النحل: 77. وقوله: " فإنما هي زجرة واحدة " الخ (؟) الفاء لافادة التعليل والجملة تعليل لقوله: " وأنتم داخرون " وفي التعبير بزجرة إشعار باستذلالهم. قوله تعالى: " وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون " معطوف على قوله: " ينظرون " المشعر بأنهم مبهوتون مدهوشون متفكرون ثم يتنبهون بكونه يوم البعث فيه الدين والجزاء وهم يحذرون منه بما كفروا وكذبوا ولذا قالوا: يوم الدين، ولم يقولوا يوم البعث، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع. وقوله: " هذا يوم الفصل الذى كنتم به تكذبون " قيل هو كلام بعضهم لبعض وقيل: كلام الملائكة أو كلامه تعالى لهم، ويؤيده الاية التالية، والفصل هو التمييز بين الشيئين وسمي يوم الفصل لكونه يوم التمييز بين الحق والباطل بقضائه وحكمه تعالى أو التمييز بين المجرمين والمتقين قال تعالى: " وامتازوا اليوم أيها المجرمون " يس: 59. قوله تعالى: " احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم " من كلامه تعالى للملائكة والمعنى وقلنا للملائكة: احشروهم وقيل: هو من كلام الملائكة بعضهم لبعض.

[ 131 ]

والحشر - على ما ذكره الراغب - إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها. والمراد بالذين ظلموا على ما يؤيده آخر الاية المشركون ولا كل المشركين بل المعاندون للحق الصادون عنه منهم قال تعالى: " فأذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالاخرة كافرون " الاعراف: 45، والتعبير بالماضي في المقام يفيد فائدة الوصف فليس المراد بالذين ظلموا من تحقق منه ظلم ما ولو مرة واحدة بل تعريف لهم بحاصل ما اكتسبوا في حياتهم الدنيا كما لو قيل: ماذا فعل فلان في حياته فيقال ظلم، فالفعل يفيد فائدة الوصف، وفي كلامه تعالى من ذلك شئ كثير كقوله تعالى: " وسيق الذين اتقوا إلى الجنة زمرا " الزمر: 73 وقوله: " وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا " الزمر: 71 وقوله: " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " يونس 26. وقوله: " وأزواجهم " الظاهر أن المراد به قرناؤهم من الشياطين قال تعالى: " ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين - إلى أن قال - حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين " الزخرف: 38. وقيل: المراد بالازواج الاشباه والنظائر فأصحاب الزنا يحشرون مع أصحاب الزنا وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر وهكذا. وفيه أن لازمه أن يراد بالذين ظلموا طائفة خاصة من أصحاب كل معصية واللفظ لا يساعد عليه على أن ذيل الاية لا يناسبه. وقيل: المراد بالازواج نساؤهم الكافرات وهو ضعيف كسابقه. وقوله: " وما كانوا يعبدون من دون الله " الظاهر أن المراد به الاصنام التي يعبدونها نظرا إلى ظاهر لفظة " ما " فالاية نظيرة قوله: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " الانبياء: 98. ويمكن أن يكون المراد بلفظة " ما " ما يعم اولي العقل من المعبودين كالفراعنة والنماردة، وأما الملائكة المعبودون والمسيح عليه السلام فيخرجهم من العموم قوله

[ 132 ]

تعالى: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى اولئك عنها مبعدون " الانبياء: 101. وقوله: " فاهدوهم إلى صراط الجحيم " الجحيم من أسماء جهنم في القرآن وهو من الجحمة بمعنى شدة تأجج النار على ما ذكره الراغب. والمراد بهدايتهم إلى صراطها إيصالهم إليه وإيقاعهم فيه بالسوق، وقيل: تسمية ذلك بالهداية من الاستهزاء، وقال في مجمع البيان: إنما عبر عن ذلك بالهداية من حيث كان بدلا من الهداية إلى الجنة كقوله: " فبشرهم بعذاب أليم " من حيث إن هذه البشارة وقعت لهم بدلا من البشارة بالنعيم. انتهى. قوله تعالى: " وقفوهم إنهم مسؤلون ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون " قال في المجمع يقال: وقفت أنا ووقفت غيري - أي يعدي ولا يعدى - وبعض بني تميم يقول: أوقفت الدابة والدار. انتهى. فقوله: " وقفوهم إنهم مسؤلون " أي احبسوهم لانهم مسؤلون أي حتى يسأل عنهم. والسياق يعطي أن هذا الامر بالوقوف والسؤال إنما يقع في صراط الجحيم. واختلفت كلماتهم فيما هو السؤال عنه فقيل: يسألون عن قول لا إله إلا الله، وقيل: عن شرب الماء البارد استهزاء بهم، وقيل: عن ولاية علي عليه السلام. وهذه الوجوه لو صحت فإنما تشير إلى بعض مصاديق ما يسأل عنه والسياق يشهد أن السؤال هو ما يشتمل عليه قوله: " ما لكم لا تناصرون " أي لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم تفعلونه في الدنيا فتستعينون به على حوائجكم ومقاصدكم، وما يتلوه من قوله: " بل هم اليوم مستسلمون " أي مسلمون لا يستكبرون يدل على أن المراد بقوله: " ما لكم لا تناصرون " السؤال عن استكبارهم عن طاعة الحق كما كانوا يستكبرون في الدنيا. فالسؤال عن عدم تناصرهم سؤال عن سبب الاستكبار الذي كانوا عليه في الدنيا فقد تبين به أن المسؤل عنه هو كل حق أعرضوا عنه في الدنيا من اعتقاد حق أو عمل صالح استكبارا على الحق تظاهرا بالتناصر. قوله تعالى: " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون - إلى قوله - إنا كنا غاوين " تخاصم واقع بين الاتباع والمتبوعين يوم القيامة، والتعبير عنه بالتساؤل لانه في معنى

[ 133 ]

سؤال بعضهم بعضا تلاوما وتعاتبا يقول التابعون لمتبوعيهم: لم أضللتمونا ؟ فيقول المتبوعون: لم قبلتم منا ولا سلطان لنا عليكم ؟ فقوله: " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " البعض الاول هم المعترضون والبعض الثاني المعترض عليهم كما يعطيه سياق التساؤل وتساؤلهم تخاصمهم. وقوله: " قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين " أي من جهة الخير والسعادة فاستعمال اليمين فيها شائع كثير كقوله: " وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين " الواقعة: 27 والمعنى أنكم كنتم تأتوننا من جهة الخير والسعادة فتقطعون الطريق وتحولون بيننا وبين الخير والسعادة وتضلوننا. وقيل: المراد باليمين الدين وهو قريب من الوجه السابق، وقيل: المراد باليمين القهر والقوة كما في قوله تعالى: " فراغ عليهم ضربا باليمين " الصافات: 93 ولا يخلو من وجه نظرا إلى جواب المتبوعين. وقوله: " قالوا بل لم تكونوا مؤمنين وما كان لنا عليكم من سلطان - إلى قوله - غاوين " جواب المتبوعين بتبرئة أنفسهم من إشقاء التابعين وأن جرمهم مستند إلى سوء اختيار أنفسهم. فقالوا: بل لم تكونوا مؤمنين أي لم نكن نحن السبب الموجب لاجرامكم وهلاككم بخلوكم عن الايمان بل لم تكونوا مؤمنين لا أنا جردناكم من الايمان. ثم قالوا: " وما كان لنا عليكم من سلطان " وهو في معنى الجواب على فرض التسليم كأنه قيل: ولو فرض أنه كان لكم إيمان فما كان لنا عليكم من سلطان حتى نسلبه منكم ونجردكم منه. على أن سلطان المتبوعين إنما هو بالتابعين فهم الذين يعطونهم السلطة والقوة فيتسلطون عليهم أنفسهم. ثم قالوا: " بل كنتم قوما طاغين " والطغيان هو التجاوز عن الحد وهو إضراب عن قوله: " لم تكونوا مؤمنين " كأنه قيل: ولم يكن سبب هلاككم مجرد الخلو من الايمان بل كنتم قوما طاغين كما كنا مستكبرين طاغين فتعاضدنا جميعا على ترك سبيل الرشد واتخاذ سبيل الغي فحق علينا كلمة العذاب التي قضى بها الله سبحانه قال تعالى:

[ 134 ]

" إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا " النبأ: 22 وقال: " فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى " النازعات: 39. ولهذا المعنى عقب قوله: " بل كنتم قوما طاغين " بقوله: " فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون " أي لذائقون العذاب. ثم قالوا: " فأغويناكم إنا كنا غاوين " وهو متفرع على ثبوت كلمة العذاب وآخر الاسباب لهلاكهم فإن الطغيان يستتبع الغواية ثم نار جهنم، قال تعالى لابليس " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين " الحجر: 43. فكأنه قيل: فلما تلبستم بالطغيان حل بكم الغواية بأيدينا من غير سلطان لنا عليكم إلا اتباعكم لنا واتصالكم بنا فسرى إليكم ما فينا من الصفة وهي الغواية فالغاوي لا يتأتى منه إلا الغواية والاناء لا يترشح منه إلا ما فيه، وبالجملة إنكم لم تجبروا ولم تسلبوا الاختيار منذ بدأتم في سلوك سبيل الهلاك إلى أن وقعتم في ورطته وهي الغواية فحق عليكم القول. قوله تعالى: " فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون - إلى قوله - يستكبرون " ضمير " فإنهم " للتابعين والمتبوعين فهم مشتركون في العذاب لاشتراكهم في الظلم وتعاونهم على الجرم من غير مزية لبعضهم على بعض. واستظهر بعضهم أن المغوين أشد عذابا وذلك في مقابلة أوزارهم وأوزار أمثال أوزارهم فالشركة لا تقتضي المساواة والحق أن الايات مسوقة لبيان اشتراكهم في الظلم والجرم والعذاب اللاحق بهم من قبله، ويمكن مع ذلك أن يلحق بكل من المتبوعين والتابعين ألوان من العذاب ناشئة عن خصوص شأنهم قال تعالى: " وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم " العنكبوت: 13، وقال: " ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون " الاعراف: 38. وقوله: " إنا كذلك نفعل بالمجرمين " تأكيد لتحقيق العذاب، والمراد بالمجرمين المشركون بدليل قوله بعد: " إنهم إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون " أي إذا

[ 135 ]

عرض عليهم التوحيد أن يؤمنوا به أو كلمة الاخلاص أن يقولوها استمروا على استكبارهم ولم يقبلوا. قوله تعالى: " ويقولون ءإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق وصدق المرسلين " قولهم هذا إنكار منهم للرسالة بعد استكبارهم عن التوحيد وإنكارهم له. وقوله: " بل جاء بالحق وصدق المرسلين " رد لقولهم: " لشاعر مجنون " حيث رموه عليه السلام بالشعر والجنون وفيه رمي لكتاب الله بكونه شعرا ومن هفوات الجنون فرد عليهم بأن ما جاء به حق وفيه تصديق الرسل السابقين فليس بباطل من القول كالشعر وهفوة الجنون وليس ببدع غير مسبوق في معناه. قوله تعالى: " إنكم لذائقوا العذاب الاليم " تهديد لهم بالعذاب لاستكبارهم ورميهم الحق بالباطل. قوله تعالى: " وما تجزون إلا ما كنتم تعملون " أي لا ظلم فيه لانه نفس عملكم يرد إليكم. قوله تعالى: " إلا عباد الله المخلصين - إلى قوله - بيض مكنون " استثناء منقطع من ضمير " لذائقوا " أو من ضمير " ما تجزون " ولكل وجه والمعنى على الاول لكن عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم وليسوا بذائقي العذاب الاليم والمعنى على الثاني لكن عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم وراء جزاء عملهم وسيجئ الاشارة إلى معناه. واحتمال كون الاستثناء متصلا ضعيف لا يخلو من تكلف. وقد سماهم الله سبحانه عباد الله المخلصين فأثبت لهم عبودية نفسه والعبد هو الذي لا يملك لنفسه شيئا من إرادة ولا عمل فهؤلاء لا يريدون إلا ما أراده الله ولا يعملون إلا له. ثم أثبت لهم أنهم مخلصون بفتح اللام أي إن الله تعالى أخلصهم لنفسه فلا يشاركه فيهم أحد فلا تعلق لهم بشئ غيره تعالى من زينة الحياة الدنيا ولا من نعم العقبى وليس في قلوبهم إلا الله سبحانه.

[ 136 ]

ومن المعلوم أن من كانت هذه صفته كان التذاذه وتنعمه غير ما يلتذ ويتنعم غيره وارتزاقه بغير ما يرتزق به سواه وإن شاركهم في ضروريات المأكل والمشرب ومن هنا يتأيد أن المراد بقوله: " أولئك لهم رزق معلوم " الاشارة إلى أن رزقهم في الجنة - وهم عباد مخلصون - رزق خاص لا يشبه رزق غيرهم ولا يختلط بما يتمتع به من دونهم وإن اشتركا في الاسم. فقوله: " أولئك لهم رزق معلوم " أي رزق خاص متعين ممتاز من رزق غيرهم فكونه معلوما كناية عن امتيازه كما في قوله: " وما منا إلا له مقام معلوم " الصافات: 164 والاشارة بلفظ البعيد للدلالة على علو مقامهم. و أما ما فسره بعضهم أن المراد بكون رزقهم معلوما كونه معلوم الخصائص مثل كونه غير مقطوع ولا ممنوع حسن المنظر لذيذ الطعم طيب الرائحة، وكذا ما ذكره آخرون أن المراد أنه معلوم الوقت لقوله: " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا " مريم: 62 وكذا قول القائل: إن المراد به الجنة فهي وجوه غير سديدة. ومن هنا يظهر أن أخذ قوله: " إلا عباد الله المخلصين " استثناء من ضمير " وما تجزون " لا يخلو من وجه كما تقدمت الاشارة إليه. وقوله: " فواكه وهم مكرمون في جنات النعيم " الفواكه جمع فاكهة وهي ما يتفكه به من الاثمار بيان لرزقهم المعلوم غير أنه تعالى شفعه بقوله: " وهم مكرمون " للدلالة على امتياز هذا الرزق أعني الفاكهة مما عند غيرهم بأنها مقارنة لاكرام خاص يخصهم قبال اختصاصهم بالله سبحانه وكونه لهم لا يشاركهم فيه شئ. وفي إضافة الجنات إلى النعيم إشارة إلى ذلك فقد تقدم في قوله: " فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم " الاية النساء: 69، وقوله: " وأتممت عليكم نعمتي " المائدة: 3 وغيرهما أن حقيقة النعمة هي الولاية وهي كونه تعالى هو القائم بأمر عبده. وقوله: " على سرر متقابلين " السرر جمع سرير وهو معروف وكونهم متقابلين معناه استئناس بعضهم ببعض و استمتاعهم بنظر بعضهم في وجه بعض من غير أن يرى بعضهم قفا بعض

[ 137 ]

وقوله: " يطاف عليهم بكأس من معين " الكأس إناء الشراب ونقل عن كثير من اللغويين أن إناء الشراب لا يسمى كأسا إلا وفيه الشراب فإن خلا منه فهو قدح و المعين من الشراب الظاهر منه من عان الماء إذا ظهر وجرى على وجه الارض، و المراد بكون الكأس من معين صفاء الشراب فيها ولذا عقبه بقوله: " بيضاء ". وقوله: " بيضاء لذة للشاربين " أي صافية في بياضها لذيذة للشاربين فاللذة مصدر أريد به الوصف مبالغة أو هي مؤنث لذ بمعنى لذيذ كما قيل. وقوله: " لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون " الغول الاضرار والافساد، قال الراغب: الغول إهلاك الشئ من حيث لا يحس به انتهى. فنفي الغول عن الخمر نفي مضارها و الانزاف فسر بالسكر المذهب للعقل وأصله إذهاب الشئ تدريجا. ومحصل المعنى: أنه ليس فيها مضار الخمر التي في الدنيا ولا اسكارها بإذهاب العقل. وقوله: " وعندهم قاصرات الطرف عين " وصف للحور التي يرزقونها وقصور طرفهن كناية عن نظرهن نظرة الغنج والدلال ويؤيده ذكر العين بعده وهو جمع عيناء مؤنث أعين وهي الواسعة العين في جمال. وقيل: المراد بقاصرات الطرف أنهن قصرن طرفهن على أزواجهن لا يردن غيرهم لحبهن لهم، وبالعين أن أعينهن شديدة في سوادها شديدة في بياضها. وقوله: " كأنهن بيض مكنون " البيض معروف وهو اسم جنس واحدته بيضة والمكنون هو المستور بالادخار قيل: المراد تشبيههن بالبيض الذي كنه الريش في العش أو غيره في غيره فلم تمسه الايدي ولم يصبه الغبار، وقيل: المراد تشبيههن ببطن البيض قبل أن يقشر وقبل أن تمسه الايدي. قوله تعالى: " فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون - إلى قوله - فليعمل العاملون " حكاية محادثة تقع بين أهل الجنة فيسأل بعضهم عن أحوال بعض ويحدث بعضهم بما جرى عليه في الدنيا وتنتهي المحادثة إلى تكليمهم بعض أهل النار وهو في سواء الجحيم. فقوله: " فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " ضمير الجمع لاهل الجنة من عباد الله

[ 138 ]

المخلصين وتساؤلهم - كما تقدم - سؤال بعضهم عن بعض وما جرى عليه. وقوله: " قال قائل منهم إني كان لي قرين " أي قال قائل من أهل الجنة المتسائلين إني كان لي في الدنيا مصاحب يختص بي من الناس. كذا يعطي السياق. وقيل: المراد بالقرين القرين من الشياطين وفيه أن القرآن إنما يثبت قرناء الشياطين في المعرضين عن ذكر الله والمخلصون في عصمة إلهية من قرين الشياطين وكذا من تأثير الشيطان فيهم كما حكى عن إبليس استثناءهم من الاغواء: " فبعزتك لاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين " ص: 83 نعم ربما أمكن أن يتعرض لهم الشيطان من غير تأثير فيهم لكنه غير أثر القرين. وقوله: " يقول ءإنك لمن المصدقين إذا متنا وكنا ترابا وعظاما ءإنا لمدينون " ضمير " يقول " للقرين، ومفعول " المصدقين " البعث للجزاء وقد قام مقامه قوله: " ءإذا متنا " الخ والمدينون المجزيون. والمعنى: كان يقول لي قريني مستبعدا منكرا ءإنك لمن المصدقين للبعث للجزاء ءإذا متنا وكنا ترابا وعظاما فتلاشت أبداننا وتغيرت صورهاءإنا لمجزيون بالاحياء والاعادة ؟ فهذا مما لا ينبغي أن يصدق. وقوله: " قال هل أنتم مطلعون " ضمير " قال " للقائل المذكور قبلا، والاطلاع الاشراف والمعنى ثم قال القائل المذكور مخاطبا لمحادثيه من أهل الجنة: هل أنتم مشرفون على النار حتى تروا قريني والحال التى هو فيها ؟ وقوله: " فاطلع فرآه في سواء الجحيم " السواء الوسط ومنه سواء الطريق أي وسطه والمعنى فأشرف القائل المذكور على النار فرآه أي قرينه في وسط الجحيم. وقوله: " قال تالله إن كدت لتردين " " إن " مخففة من الثقيلة، والارداء السقوط من مكان عال كالشاهق ويكنى به عن الهلاك والمعنى أقسم بالله إنك قربت أن تهلكني وتسقطني فيما سقطت فيه من الجحيم. وقوله: " ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين " المراد بالنعمة التوفيق والهداية

[ 139 ]

الالهية، والاحضار الاشخاص للعذاب قال في مجمع البيان: ولا يستعمل " أحضر " مطلقا إلا في الشر. والمعنى ولولا توفيق ربي وهدايته لكنت من المحضرين للعذاب مثلك. وقوله: " أفما نحن بميتين إلا موتتنا الاولى وما نحن بمعذبين " الاستفهام للتقرير والتعجيب، والمراد بالموتة الاولى هي الموتة عن الحياة الدنيا وأما الموتة عن البرزخ المدلول عليها بقوله: " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " المؤمن: 11 فلم يعبأ بها لان الموت الذي يزعم الزاعم فيه الفناء والبطلان هو الموت الدنيوي. والمعنى - على ما في الكلام من الحذف والايجاز - ثم يرجع القائل المذكور إلى نفسه وأصحابه فيقول متعجبا أنحن خالدون منعمون فما نحن بميتين إلا الموتة الاولى وما نحن بمعذبين ؟ قال في مجمع البيان: ويريدون به التحقيق لا الشك وإنما قالوا هذا القول لان لهم في ذلك سرورا مجددا وفرحا مضاعفا وإن كان قد عرفوا أنهم سيخلدون في الجنة وهذا كما أن الرجل يعطى المال الكثير فيقول مستعجبا: كل هذا المال لي ؟ وهو يعلم أن ذلك له وهذا كقوله: أبطحاء مكة هذا الذي * أراه عيانا وهذا أنا ؟ قال: ولهذا عقبه بقوله: " إن هذا لهو الفوز العظيم " انتهى. وقوله: " إن هذا لهو الفوز العظيم " هو من تمام قول القائل المذكور وفيه إعظام لموهبة الخلود وارتفاع العذاب وشكر للنعمة. وقوله: " لمثل هذا فليعمل العاملون " ظاهر السياق أنه من قول القائل المذكور والاشارة بهذا إلى الفوز أو الثواب أي لمثل هذا الفوز أو الثواب فليعمل العاملون في دار التكليف، وقيل: هو من قول الله سبحانه وقيل: من قول أهل الجنة. واعلم أن لهم أقوالا مختلفة في نسبة أكثر الجمل السابقة إلى قول الله تعالى أو قول الملائكة أو قول أهل الجنة غير القائل المذكور والذي أوردناه هو الذي يساعد عليه السياق.

[ 140 ]

قوله تعالى: " أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم - إلى قوله - يهرعون " مقايسة بين ما هيأه الله نزلا لاهل الجنة مما وصفه من الرزق الكريم وبين ما أعده نزلا لاهل النار من شجرة الزقوم التي طلعها كأنه رؤس الشياطين وشراب من حميم. فقوله: " أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم " الاشارة بذلك إلى الرزق الكريم المذكورة سابقا المعد لورود أهل الجنة والنزل بضمتين ما يهيؤ لورود الضيف فيقدم إليه إذا ورد من الفواكه ونحوها. والزقوم - على ما قيل - اسم شجرة صغيرة الورق مرة كريهة الرائحة ذات لبن إذا أصاب جسد إنسان تورم تكون في تهامة والبلاد المجدبة المجاورة للصحراء سميت به الشجرة الموصوفة بما في الاية من الاوصاف، وقيل: إن قريشا ما كانت تعرفه وسيأتي ذلك في البحث الروائي. ولفظة خير في الاية بمعنى الوصف دون التفضيل إذ لا خيرية في الزقوم أصلا فهو كقوله: " ما عند الله خير من اللهو " الجمعة: 11 والاية على ما يعطيه السياق من كلامه تعالى. وقوله: " إنا جعلناها فتنة للظالمين " الضمير لشجرة الزقوم، والفتنة المحنة والعذاب. وقوله: " إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم " وصف لشجرة الزقوم، وأصل الجحيم قعرها، ولا عجب في نبات شجرة في النار وبقائها فيها فحياة الانسان وبقاؤها خالدا فيها أعجب والله يفعل ما يشاء. وقوله: " طلعها كأنه رؤس الشياطين " الطلع حمل النخلة أو مطلق الشجرة أول ما يبدو، وتشبيه ثمرة الزقوم برؤس الشياطين بعناية أن الاوهام العامية تصور الشيطان في أقبح صورة كما تصور الملك في أحسن صورة وأجملها قال تعالى: " ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم " يوسف: 31، وبذلك يندفع ما قيل: إن الشئ إنما يشبه بما يعرف ولا معرفة لاحد برؤس الشياطين. وقوله: " فإنهم لاكلون منها فمالؤن منها البطون " الفاء للتعليل يبين به كونها نزلا للظالمين يأكلون منها، وفي قوله: " فمالؤن منها البطون " إشارة إلى تسلط جوع

[ 141 ]

شديد عليهم يحرصون به على الاكل كيفما كان. وقوله: " ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم " الشوب المزيج والخليط، والحميم الماء الحار البالغ في حرارته، والمعنى ثم إن لاولئك الظالمين - زيادة عليها - لخليطا مزيجا من ماء حار بالغ الحرارة يشربونه فيختلط به ما ملؤا منه البطون من الزقوم. وقوله: " ثم إن مرجعهم لالى الجحيم " أي إنهم بعد شرب الحميم يرجعون إلى الجحيم فيستقرون فيها ويعذبون، وفي الاية تلويح إلى أن الحميم خارج الجحيم. وقوله: " إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون " ألفيت كذا أي وجدته وصادفته، والاهراع الاسراع والمعنى أن سبب أكلهم وشربهم ثم رجوعهم إلى الجحيم أنهم صادفوا آباءهم ضالين - وهم مقلدون وأتباع لهم وهم أصلهم ومرجعهم - فهم يسرعون على آثارهم فجوزوا بنزل كذلك والرجوع إلى الجحيم جزاء وفاقا. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن ابن جريح في قوله تعالى: " بل عجبت " قال النبي صلى الله عليه وسلم: عجبت بالقرآن حين أنزل ويسخر منه ضلال بني آدم. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " أحشروا الذين ظلموا " قال: الذين ظلموا آل محمد عليهم السلام حقهم " وأزواجهم " قال: أشباههم. اقول: صدر الرواية من الجري. وفي المجمع في قوله تعالى: " وقفوهم إنهم مسؤلون " قيل: عن ولاية علي عليه السلام عن أبي سعيد الخدري. اقول: ورواه الشيخ في الامالي بإسناده إلى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي العيون عن علي وعن الرضا عليه السلام عنه صلى الله عليه وآله وسلم، وفي تفسير القمي عن الامام عليه السلام. وفي الخصال عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تزول قدم

[ 142 ]

عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين كسبه وفيما أنفقه، وعن حبنا أهل البيت. اقول: وروى في العلل عنه صلى الله عليه وآله وسلم مثله. وفي نهج البلاغة: اتقوا الله في عباده وبلاده فإنكم مسؤلون حتى عن البقاع والبهائم. وفي الدر المنثور أخرج البخاري في تاريخه والترمذي والدارمي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من داع دعا إلى شئ إلا كان موقوفا يوم القيامة لازما به لا يفارقه وإن دعا رجل رجلا ثم قرء " وقفوهم إنهم مسؤلون ". وفي روضة الكافي بإسناده عن محمد بن إسحاق المدني عن أبي جعفر عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث: وأما قوله: " أولئك لهم رزق معلوم " قال: يعلمه (1) الخدام فيأتون به إلى أولياء الله قبل أن يسألوهم إياه. أما قوله: " فواكه وهم مكرمون " قال: فإنهم لا يشتهون شيئا في الجنة إلا أكرموا به. وفي تفسير القمي وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام " فاطلع فرآه في سواء الجحيم " يقول: في وسط الجحيم. وفيه في قوله تعالى: " أفما نحن بميتين " الخ بإسناده عن أبيه عن علي بن مهزيار والحسن بن محبوب عن النضر بن سويد عن درست عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار جيئ بالموت ويذبح كالكبش بين الجنة والنار ثم يقال: خلود فلا موت أبدا فيقول أهل الجنة: " أفما نحن بميتين إلا موتتنا الاولى وما نحن بمعذبين إن هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليعمل العاملون ". اقول: وحديث ذبح الموت في صورة كبش يوم القيامة من المشهورات رواه الشيعة وأهل السنة، وهو تمثل الخلود يومئذ. وفي المجمع في قوله تعالى: " شجرة الزقوم " روي أن قريشا لما سمعت هذه (1)


يعنى: خ.

[ 143 ]

الاية قالت: ما نعرف هذه الشجرة قال ابن الزبعرى: الزقوم بكلام البربر التمر والزبد وفي رواية بلغة اليمن فقال أبو جهل لجاريته: يا جارية زقمينا فأتته الجارية بتمر وزبد فقال لاصحابه: تزقموا بهذا الذي يخوفكم به محمد فيزعم أن النار تنبت الشجر والنار تحرق الشجر فأنزل الله سبحانه " إنا جعلناها فتنة للظالمين ". اقول: وهذا المعنى مروي بطرق عديدة. * * * ولقد ضل قبلهم أكثر الاولين - 71. ولقد أرسلنا فيهم منذرين - 72. فانظر كيف كان عاقبة المنذرين - 73. إلا عباد الله المخلصين - 74. ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون - 75. ونجيناه وأهله من الكرب العظيم - 76. وجعلنا ذريته هم الباقين - 77. وتركنا عليه في الاخرين - 78. سلام على نوح في العالمين - 79. إنا كذلك نجزي المحسنين - 80. إنه من عبادنا المؤمنين - 81. ثم أغرقنا الاخرين - 82. وإن من شيعته لابراهيم - 83. إذ جاء ربه بقلب سليم - 84. إذ قال لابيه وقومه ماذا تعبدون - 85. أئفكا آلهة دون الله تريدون - 86 - فما ظنكم برب العالمين - 87. فنظر نظرة في النجوم - 88. فقال إني سقيم - 89. فتولوا عنه مدبرين - 90. فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون - 91.

[ 144 ]

ما لكم لا تنطقون - 92. فراغ عليهم ضربا باليمين - 93. فأقبلوا إليه يزفون - 94. قال أتعبدون ما تنحتون - 95. والله خلقكم وما تعملون - 96. قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم - 97. فأرادوا به كيدا فجعلناهم الاسفلين - 98. وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين - 99. رب هب لي من الصالحين - 100. فبشرناه بغلام حليم - 101. فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين - 102. فلما أسلما وتله للجبين - 103. وناديناه أن يا إبراهيم - 104. قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين - 105. إن هذا لهو البلاء المبين - 106. وفديناه بذبح عظيم - 107. وتركنا عليه في الاخرين - 108. سلام على إبراهيم - 109. كذلك نجزي المحسنين - 110. إنه من عبادنا المؤمنين - 111. وبشرناه بإسحق نبيا من الصالحين - 112. وباركنا عليه وعلى إسحق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين - 113.

[ 145 ]

(بيان) تعقيب لغرض السياق السابق المتعرض لشركهم وتكذيبهم بآيات الله وتهديدهم بأليم العذاب يقول: إن أكثر الاولين ضلوا كضلالهم وكذبوا الرسل المنذرين كتكذيبهم ويستشهد بقصص نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس ولوط ويونس عليهم السلام وما في الايات المنقولة إشارة إلى قصة نوح وخلاصة قصص إبراهيم عليه السلام. قوله تعالى: " ولقد ضل قبلهم أكثر الاولين - إلى قوله - المخلصين " كلام مسوق لانذار مشركي هذه الامة بتنظيرهم للامم الهالكين من قبلهم فقد ضل أكثرهم كما ضل هؤلاء وأرسل إليهم رسل منذرون كما أرسل منذر إلى هؤلاء فكذبوا فكان عاقبة أمرهم الهلاك إلا المخلصين منهم. واللام في " لقد ضل " للقسم وكذا في " لقد أرسلنا " والمنذرين الاول بكسر الذال المعجمة وهم الرسل والثاني بفتح الذال المعجمة وهم الامم الاولون، و " إلا عباد الله " إن كان المراد بهم من في الامم من المخلصين كان استثناء متصلا وإن عم الانبياء كان منقطعا إلا بتغليبه غير الانبياء عليهم والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون " اللامان للقسم وهو يدل على كمال العناية بنداء نوح وإجابته تعالى، وقد مدح تعالى نفسه في إجابته فإن التقدير فلنعم المجيبون نحن، وجمع المجيب لافادة التعظيم وقد كان نداء نوح - على ما يفيده السياق - دعاءه على قومه واستغاثته بربه المنقولين في قوله تعالى: " وقال نوح رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا " نوح: 26، وفي قوله تعالى: " فدعا ربه أني مغلوب فانتصر " القمر: 10. قوله تعالى: " ونجيناه وأهله من الكرب العظيم " الكرب - على ما ذكره الراغب - الغم الشديد والمراد به الطوفان أو أذى قومه، والمراد بأهله أهل بيته و المؤمنون به من قومه وقد قال تعالى في سورة هود: " قلنا احمل فيها من كل زوجين

[ 146 ]

اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن " هود: 40 والاهل كما يطلق على زوج الرجل وبنيه يطلق على كل من هو من خاصته. قوله تعالى: " وجعلنا ذريته هم الباقين " أي الباقين من الناس بعد قرنهم وقد بحثنا في هذا المعنى في قصة نوح من سورة هود. قوله تعالى: " وتركنا عليه في الاخرين " المراد بالترك الابقاء وبالاخرين الامم الغابرة غير الاولين، وقد ذكرت هذه الجملة بعد ذكر إبراهيم عليه السلام أيضا في هذه السورة وقد بدلت في القصة بعينها من سورة الشعراء من قوله: " واجعل لي لسان صدق في الاخرين " الشعراء: 84 واستفدنا منه هناك أن المراد بلسان صدق كذلك أن يبعث الله بعده من يقوم بدعوته ويدعو إلى ملته وهي دين التوحيد. فيتأيد بذلك أن المراد بالابقاء في الاخرين هو إحياؤه تعالى دعوة نوح عليه السلام إلى التوحيد ومجاهدته في سبيل الله عصرا بعد عصر وجيلا بعد جيل إلى يوم القيامة. قوله تعالى: " سلام على نوح في العالمين " المراد بالعالمين جميعها لكونه جمعا محلى باللام مفيدا للعموم، والظاهر أن المراد به عالموا البشر واممهم وجماعاتهم إلى يوم القيامة فإنه تحية من عند الله مباركة طيبة تهدى إليه من قبل الامم الانسانية ما جرى فيها شئ من الخيرات اعتقادا أو عملا فانه عليه السلام أول من انتهض لدعوة التوحيد ودحض الشرك وما يتبعه من العمل وقاسى في ذلك أشد المحنة فيما يقرب من ألف سنة لا يشاركه في ذلك أحد فله نصيب من كل خير واقع بينهم إلى يوم القيامة، ولا يوجد في كلامه تعالى سلام على هذه السعة على أحد ممن دونه. وقيل: المراد بالعالمين عوالم الملائكة والثقلين من الجن والانس. قوله تعالى: " إنا كذلك نجزي المحسنين " تعليل لما امتن عليه من الكرامة كإجابة ندائه وتنجيته وأهله من الكرب العظيم وإبقاء ذريته وتركه عليه في الاخرين والسلام عليه في العالمين، وتشبيه جزائه بجزاء عموم المحسنين من حيث أصل الجزاء الحسن لا في خصوصياته فلا يوجب ذلك اشتراك الجميع فيما اختص به عليه السلام و هو ظاهر.

[ 147 ]

قوله تعالى: " إنه من عبادنا المؤمنين " تعليل لاحسانه المدلول عليه بالجملة السابقة وذلك لانه عليه السلام لكونه عبد الله بحقيقة معنى الكلمة كان لا يريد ولا يفعل إلا ما يريده الله، ولكونه من المؤمنين حقا كان لا يرى من الاعتقاد إلا الحق وسرى ذلك إلى جميع أركان وجوده ومن كان كذلك لا يصدر منه إلا الحسن الجميل فكان من المحسنين. قوله تعالى: " ثم أغرقنا الاخرين " ثم للتراخي الكلامي دون الزماني والمراد بالاخرين قومه المشركون. قوله تعالى: " وإن من شيعته لابراهيم " الشيعة هم القوم المشايعون لغيرهم الذاهبون على أثرهم وبالجملة كل من وافق غيره في طريقته فهو من شيعته تقدم أو تأخر قال تعالى: " وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل " سبأ: 54. وظاهر السياق أن ضمير " شيعته " لنوح أي إن إبراهيم كان ممن يوافقه في دينه وهو دين التوحيد، وقيل: الضمير لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا دليل عليه من جهة اللفظ. قيل: ومن حسن الارداف في نظم الايات تعقيب قصة نوح عليه السلام وهو آدم الثاني أبو البشر بقصة إبراهيم عليه السلام وهو أبو الانبياء إليه تنتهى أنساب جل الانبياء بعده وعلى دينه تعتمد أديان التوحيد الحية اليوم كدين موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأيضا نوح عليه السلام نجاه الله من الغرق وإبراهيم عليه السلام نجاه الله من الحرق. قوله تعالى: " إذ جاء ربه بقلب سليم " مجيئه ربه كناية عن تصديقه له وإيمانه به، ويؤيد ذلك أن المراد بسلامة القلب عروه عن كل ما يضر التصديق والايمان بالله سبحانه من الشرك الجلي والخفي ومساوي الاخلاق وآثار المعاصي وأي تعلق بغيره ينجذب إليه الانسان ويختل به صفاء توجهه إليه سبحانه. وبذلك يظهر أن المراد بالقلب السليم ما لا تعلق له بغيره تعالى كما في الحديث وسيجئ إن شاء الله في البحث الروائي الاتي. وقيل: المراد به السالم من الشرك، ويمكن أن يوجه بما يرجع إلى الاول وقيل: المراد به القلب الحزين، وهو كما ترى. والظرف في الاية متعلق بقوله سابقا " من شيعته " والظروف يغتفر فيها ما لا

[ 148 ]

يغتفر في غيرها، وقيل متعلق بأذكر المقدر. قوله تعالى: " إذ قال لابيه وقومه ماذا تعبدون " أي أي شئ تعبدون ؟ وانما سألهم عن معبودهم وهو يرى أنهم يعبدون الاصنام تعجبا واستغرابا. قوله تعالى: " ءافكا آلهة دون الله تريدون " أي تقصدون آلهة دون الله افكا وافتراء، انما قدم الافك والالهة لتعلق عنايته بذلك. قوله تعالى: " فنظر نظرة في النجوم فقال اني سقيم " لا شك أن ظاهر الايتين أن اخباره عليه السلام بأنه سقيم مرتبط بنظرته في النجوم ومبني عليه ونظرته في النجوم اما لتشخيص الساعة وخصوص الوقت كمن به حمى ذات نوبة يعين وقتها بطلوع كوكب أو غروبها أو وضع خاص من النجوم واما للوقوف على الحوادث المستقبلة التي كان المنجمون يرون أن الاوضاع الفلكية تدل عليها، وقد كان الصابئون مبالغين فيها وكان في عهده عليه السلام منهم جم غفير. فعلى الوجه الاول لما أراد أهل المدينة أن يخرجوا كافة إلى عيد لهم نظر إلى النجوم وأخبرهم أنه سقيم ستعتريه العلة فلا يقدر على الخروج معهم. وعلى الوجه الثاني نظر عليه السلام حينذاك إلى النجوم نظرة المنجمين فأخبرهم أنها تدل على أنه سيسقم فليس في وسعه الخروج معهم. وأول الوجهين أنسب لحاله عليه السلام وهو في إخلاص التوحيد بحيث لا يرى لغيره تعالى تأثيرا، ولا دليل لنا قويا يدل على أنه عليه السلام لم يكن به في تلك الايام سقم أصلا، وقد أخبر القرآن بإخباره بأنه سقيم وذكر سبحانه قبيل ذلك أنه جاء ربه بقلب سليم فلا يجوز عليه كذب ولا لغو من القول. ولهم في الايتين وجوه آخر أوجهها أن نظرته في النجوم وإخباره بالسقم من المعاريض في الكلام والمعاريض أن يقول الرجل شيئا يقصد به غيره ويفهم منه غير ما يقصده فلعله نظر عليه السلام في النجوم نظر الموحد في صنعه تعالى يستدل به عليه تعالى وعلى وحدانيته وهم يحسبون أنه ينظر إليها نظر المنجم فيها ليستدل بها على الحوادث ثم قال: إني سقيم يريد أنه سيعتريه سقم فإن الانسان لا يخلو في حياته من سقم ما ومرض ما

[ 149 ]

كما قال: " وإذا مرضت فهو يشفين " الشعراء: 80 وهم يحسبون أنه يخبر عن سقمه يوم يخرجون فيه لعيد لهم، والمرجح عنده لجميع ذلك ما كان يهتم به من الرواغ إلى أصنامهم وكسرها. لكن هذا الوجه مبني على أنه كان صحيحا غير سقيم يومئذ، وقد سمعت أن لا دليل يدل عليه. على أن المعاريض غير جائزة على الانبياء لارتفاع الوثوق بذلك عن قولهم. قوله تعالى: " فتولوا عنه مدبرين " ضمير الجمع للقوم وضمير الافراد لابراهيم عليه السلام أي خرجوا من المدينة وخلفوه. قوله تعالى: " فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون " الروغ والرواغ والروغان الحياد والميل، وقيل أصله الميل في جانب ليخدع من يريده. وفي قوله: " ألا تأكلون " ؟ تأييد لما ذكروا أن المشركين كانوا يضعون أيام أعيادهم طعاما عند آلهتهم. وقوله: " ألا تأكلون ؟ ما لكم لا تنطقون " ؟ تكليم منه لالهتهم وهي جماد وهو يعلم أنها جماد لا تأكل ولا تنطق لكن الوجد وشدة الغيظ حمله على أن يمثل موقفها موقف العقلاء ثم يؤاخذها مؤاخذة العقلاء كما يفعل بالمجرمين. فنظر إليها وهي ذوات أبدان كهيئة من يتغذى ويأكل وعندها شئ من الطعام فامتلا غيظا وجاش وجدا فقال: ألا تأكلون ؟ فلم يسمع منها جوابا فقال: " ما لكم لا تنطقون " ؟ وأنتم آلهة يزعم عبادكم أنكم عقلاء قادرون مدبرون لامورهم فلما لم يسمع لها حسا راغ عليها ضربا باليمين. قوله تعالى: " فراغ عليهم ضربا باليمين " أي تفرع على ذاك الخطاب أن مال على آلهتهم يضربهم ضربا باليد اليمنى أو بقوة بناء على كون المراد باليمين القوة. وقول بعضهم: إن المراد باليمين القسم والمعنى مال عليهم ضربا بسبب القسم الذي سبق منه وهو قوله: " تالله لاكيدن أصنامكم " الانبياء: 57 بعيد. قوله تعالى: " فأقبلوا إليه يزفون " الزف والزفيف الاسراع في المشي أي فجائوا

[ 150 ]

إلى إبراهيم والحال أنهم يسرعون اهتماما بالحادثة التي يظنون أنه الذي أحدثها. وفي الكلام إيجاز وحذف من خبر رجوعهم إلى المدينة ووقوفهم على ما فعل بالاصنام وتحقيقهم الامر وظنهم به عليه السلام مذكور في سورة الانبياء. قوله تعالى: " قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعبدون " فيه إيجاز وحذف من حديث القبض عليه والاتيان به على أعين الناس ومسألته وغيرها. والاستفهام للتوبيخ وفيه مع ذلك احتجاج على بطلان طريقتهم فهو يقول: لا يصلح ما نحته الانسان بيده أن يكون ربا للانسان معبودا له والله سبحانه خلق الانسان وما يعمله والخلق لا ينفك عن التدبير فهو رب الانسان ومن السفه أن يترك هذا ويعبد ذاك. وقد بان بذلك أن الاظهر كون ما في قوله: " ما تنحتون " موصولة والتقدير ما تنحتونه، وكذا في قوله: " وما تعملون " وجوز بعضهم كون " ما " فيها مصدرية وهو في أولهما بعيد جدا. ولا ضير في نسبة الخلق إلى ما عمله الانسان أو إلى عمله لان ما يريده الانسان ويعمله من طريق اختياره مراد الله سبحانه من طريق إرادة الانسان واختياره ولا يوجب هذا النوع من تعلق الارادة بالفعل بطلان تأثير إرادة الانسان وخروج الفعل عن الاختيار وصيرورته مجبرا عليه، وهو ظاهر. ولو كان المراد نسبة خلق أعمالهم إلى الله سبحانه بلا واسطة لا من طريق إرادتهم بل بتعلق إرادته بنفس عملهم وأفاد الجبر لكان القول أقرب إلى أن يكون عذرا لهم من أن يكون توبيخا وتقبيحا، وكانت الحجة لهم لا عليهم. قوله تعالى: " قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم " البنيان مصدر بنى يبني والمراد به المبنى، والجحيم النار في شدة تأججها. قوله تعالى: " فأرادوا به كيدا فجعلناهم الاسفلين " الكيد الحيلة والمراد احتيالهم إلى إهلاكه وإحراقه بالنار. وقوله: " فجعلناهم الاسفلين " كناية عن جعل إبراهيم فوقهم لا يؤثر فيه كيدهم

[ 151 ]

شيئا إذ قال سبحانه: " يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم " الانبياء: 69. وقد اختتم بهذا فصل من قصص إبراهيم عليه السلام وهو انتهاضه أولا على عبادة الاوثان واختصامه لعبادها وانتهاء أمره إلى إلقائه النار وإبطاله تعالى كيدهم. قوله تعالى: " وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين " فصل آخر من قصصه عليه السلام يذكر عزمه على المهاجرة من بين قومه واستيهابه من الله ولدا صالحا وإجابته إلى ذلك وقصة ذبحه ونزول الفداء. فقوله: " وقال إني ذاهب إلى ربي " الخ كالانجاز لما وعدهم به مخاطبا لازر: " واعتز لكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا " مريم: 48 ومنه يعلم أن مراده بالذهاب إلى ربه الذهاب إلى مكان يتجرد فيه لعبادته تعالى ودعائه وهو الارض المقدسة. وقول بعضهم: إن المراد أذهب إلى حيث أمرني ربي لا شاهد عليه. وكذا قول بعضهم: إن المراد إني ذاهب إلى لقاء ربي حيث يلقونني في النار فأموت وألقي ربي سيهديني إلى الجنة. وفيه - كما قيل - أن ذيل الاية لا يناسبه وهو قوله: " رب هب لي من الصالحين " وكذا قوله بعده: " فبشرناه بغلام حليم ". قوله تعالى: " رب هب لي من الصالحين " حكاية دعاء إبراهيم عليه السلام ومسألته الولد أي قال: رب هب لي " الخ " وقد قيده بكونه من الصالحين. قوله تعالى: " فبشرناه بغلام حليم " أي فبشرناه أنا سنرزقه غلاما حليما وفيه إشارة إلى أنه يكون ذكرا ويبلغ حد الغلمان، وأخذ الغلومة في وصفه مع أنه بلغ مبلغ الرجال للاشارة إلى حاله التي يظهر فيها صفة كماله وصفاء ذاته وهو حلمه الذي مكنه من الصبر في ذات الله إذ قال: " يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ". ولم يوصف في القرآن من الانبياء بالحلم إلا هذا النبي الكريم في هذه الاية وأبوه في قوله تعالى: " إن إبراهيم لحليم اواه منيب " هود: 75.

[ 152 ]

قوله تعالى: " فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام إني أذبحك فانظر ماذا ترى " الخ الفاء في أول الاية فصيحة تدل على محذوف والتقدير فلما ولد له ونشأ وبلغ معه السعي، والمراد ببلوغ السعي بلوغه من العمر مبلغا يسعى فيه لحوائج الحياة عادة وهو سن الرهاق، والمعنى فلما راهق الغلام قال له يا بني " الخ ". وقوله: " قال يا بني إني أرى في المنام إني أذبحك " هي رؤيا إبراهيم ذبح ابنه، وقوله: " إني أرى " يدل على تكرر هذه الرؤيا له كما في قوله: " وقال الملك إني أرى " الخ يوسف: 33. وقوله: " فانظر ماذا ترى " هو من الرأي بمعنى الاعتقاد أي فتفكر فيما قلت وعين ما هو رأيك فيه، وهذه الجملة دليل على أن إبراهيم عليه السلام فهم من منامه أنه أمر له بالذبح مثل له في مثال نتيجة الامر ولذا طلب من ابنه الرأي فيه وهو يختبره بما ذا يجيبه ؟ وقوله: " قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين " جواب ابنه، وقوله: " يا أبت افعل ما تؤمر " إظهار رضى بالذبح في صورة الامر وقد قال: افعل ما تؤمر ولم يقل: اذبحني إشارة إلى أن أباه مأمور بأمر ليس له إلا ائتماره وطاعته. وقوله: " ستجدني إن شاء الله من الصابرين " تطييب منه لنفس أبيه أنه لا يجزع منه ولا يأتي بما يهيج وجد الوالد عن ولده المزمل بدمائه، وقد زاد في كلامه صفاء على صفاء إذ قيد وعده بالصبر بقوله: " إن شاء الله " فأشار إلى أن اتصافه بهذه الصفة الكريمة أعني الصبر ليس له من نفسه ولا أن زمامه بيده بل هو من مواهب الله ومننه إن يشأ تلبس به وله أن لا يشاء فينزعه منه. قوله تعالى: " فلما أسلما وتله للجبين " الاسلام الرضا والاستسلام: والتل الصرع والجبين أحد جانبي الجبهة واللام في " للجبين " لبيان ما وقع عليه الصراع كقوله: " يخرون للاذقان سجدا " أسرى: 107، والمعنى فلما استسلما إبراهيم وابنه لامر الله ورضيا به وصرعه إبراهيم على جبينه. وجواب لما محذوف إيماء إلى شدة المصيبة ومرارة الواقعة. قوله تعالى: " وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا " معطوف على جواب

[ 153 ]

لما المحذوف، وقوله: " قد صدقت الرؤيا " أي أوردتها مورد الصدق وجعلتها صادقة وامتثلت الامر الذى أمرناك فيها أي إن الامر فيها كان امتحانيا يكفي في امتثاله تهيؤ المأمور للفعل وإشرافه عليه فحسب. قوله تعالى: " إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين " الاشارة بكذلك إلى قصة الذبح بما أنها محنة شاقة وابتلاء شديد والاشارة بهذا إليها أيضا وهو تعليل لشدة الامر. والمعنى: إنا على هذه الوتيرة نجزي المحسنين فنمتحنهم امتحانات شاقة صورة هينة معنى فإذا أتموا الابتلاء جزيناهم أحسن الجزاء في الدنيا والاخرة، وذلك لان الذي ابتلينا به إبراهيم لهو البلاء المبين. قوله تعالى: " وفديناه بذبح عظيم " أي وفدينا ابنه بذبح عظيم وكان كبشا أتا به جبريل من عند الله سبحانه فداء على ما في الاخبار، والمراد بعظمة الذبح عظمة شأنه بكونه من عند الله سبحانه وهو الذي فدى به الذبيح. قوله تعالى: " وتركنا عليه في الاخرين " تقدم الكلام فيه. قوله تعالى: " سلام على إبراهيم " تحية منه تعالى عليه، وفي تنكير سلام تفخيم له. قوله تعالى: " إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين " تقدم تفسير الايتين. قوله تعالى: " وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين " الضمير لابراهيم عليه السلام. واعلم أن هذه الاية المتضمنة للبشرى بإسحاق بوقوعها بعد البشرى السابقة بقوله: " فبشرناه بغلام حليم " المتعقبة بقوله: " فلما بلغ معه السعي " إلى آخر القصة ظاهرة كالصريحة أو هي صريحة في أن الذبيح غير إسحاق وهو إسماعيل عليهما السلام وقد فصلنا القول في ذلك في قصص إبراهيم عليه السلام من سورة الانعام. قوله تعالى: " وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه

[ 154 ]

مبين " المباركة على شئ جعل الخير والنماء والثبات فيه أي وجعلنا فيما أعطينا إبراهيم وإسحاق الخير الثابت والنماء. ويمكن أن يكون قوله: " ومن ذريتهما " الخ قرينة على أن المراد بقوله: " باركنا " إعطاء البركة والكثرة في أولاده وأولاد إسحاق، والباقي ظاهر. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " بقلب سليم " قال: القلب السليم الذي يلقى الله عز وجل وليس فيه أحد سواه. وفيه قال: القلب السليم من الشك. وفي روضة الكافي بإسناده عن حجر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أبو جعفر عليه السلام: عاب آلهتهم فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم. قال ابو جعفر عليه السلام: والله ما كان سقيما وما كذب. أقول: وفي معناه روايات أخر وفي بعضها: ما كان إبراهيم سقيما وما كذب إنما عنى سقيما في دينه مرتادا. وقد تقدم الروايات في قصة حجاج إبراهيم عليه السلام قومه وكسره الاصنام وإلقائه في النار في تفسير سور الانعام ومريم والانبياء والشعراء. وفي التوحيد عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث وقد سأله رجل عما اشتبه عليه من الايات قال: وقد أعلمتك أن رب شئ من كتاب الله عز وجل تأويله غير تنزيله ولا يشبه كلام البشر وسأنبئك بطرف منه فتكتفي إن شاء الله. من ذلك قول إبراهيم عليه السلام: " إني ذاهب إلى ربي سيهدين " فذهابه إلى ربه توجهه إليه عبادة واجتهادا وقربة إلى الله عز وجل ألا ترى أن تأويله غير تنزيله ؟. وفيه بإسناده عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن عليه السلام قال: يا فتح إن لله إرادتين ومشيتتين: إرادة حتم، وإرادة عزم ينهى وهو يشاء ذلك ويأمر وهو

[ 155 ]

لا يشاء أو ما رأيت أنه نهى آدم وزوجته عن أن يأكلا من الشجرة وهو يشاء ذلك ؟ ولو لم يشأ لم يأكلا، ولو أكلا لغلبت شهوتهما مشيئة الله تعالى، وأمر إبراهيم بذبح ابنه اسماعيل عليهما السلام وشاء أن لا يذبحه ولو لم يشأ أن لا يذبحه لغلبت مشية إبراهيم مشية الله عز وجل. قلت: فرجت عني فرج الله عنك. وعن أمالي الشيخ بإسناده إلى سليمان بن يزيد قال: حدثنا على بن موسى قال: حدثني أبي عن أبيه عن أبي جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: الذبيح إسماعيل عليه السلام. أقول: وروى مثله في المجمع عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام، وبهذا المضمون روايات كثيرة أخرى عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، وقد وقع في بعض رواياتهم أنه إسحاق وهو مطروح لمخالفة الكتاب. وعن الفقيه سئل الصادق عليه السلام عن الذبيح من كان ؟ فقال اسماعيل لان الله تعالى ذكر قصته في كتابه ثم قال: " وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين ". أقول: هذا ما تقدم في بيان الاية أن الاية بسياقها ظاهرة بل صريحة في ذلك. وفي المجمع عن ابن إسحاق أن ابراهيم كان إذا زار اسماعيل وهاجر حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام حتى إذا بلغ معه السعي رآى في المنام أن (1) يذبحه فقال له: يا بني خذ الحبل والمدية (2) ثم انطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب. فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب ثبير أخبره بما قد ذكره الله عنه فقال: يا أبت أشدد رباطي حتى لا اضطرب واكفف عني ثيابك حتى لا ينتضح من دمي شيئا فيراه امي واشحذ شفرتك وأسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون علي فإن الموت شديد فقال له إبراهيم: نعم العون أنت يا بني على أمر الله. ثم ساق القصة وفيها ثم انحنى إليه بالمدية وقلب جبرائيل المدية على قفاها واجتر (1)


أنه ظ (2) المدية: السكين

[ 156 ]

الكبش من قبل ثبير وإجتر الغلام من تحته ووضع الكبش مكان الغلام، ونودي من ميسرة مسجد الخيف: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. أقول: والروايات في القصة كثيرة ولا تخلو من اختلاف. وفيه: روى العياشي بإسناده عن بريد بن معاوية العجلي قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: كم كان بين بشارة إبراهيم بإسماعيل وبين بشارته بإسحاق عليه السلام ؟ قال: كان بين البشارتين خمس سنين قال الله سبحانه فبشرناه بغلام حليم يعني إسماعيل وهي أول بشارة بشر الله به إبراهيم عليه السلام في الولد. ولقد مننا على موسى وهارون - 114. ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم - 115. ونصرناهم فكانوا هم الغالبين - 116. و آتيناهما الكتاب المستبين - 117. وهديناهما الصراط المستقيم 118. وتركنا عليهما في الاخرين - 119. سلام على موسى وهرون - 120. إنا كذلك نجزى المحسنين - 121. إنهما من عبادنا المؤمنين - 122. وإن إلياس لمن المرسلين - 123. إذ قال لقومه ألا تتقون - 124. أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين - 125. الله ربكم ورب آبائكم الاولين - 126. فكذبوه فإنهم لمحضرون 127. إلا عباد الله المخلصين - 128. وتركنا عليه في الاخرين - 129. سلام على إل ياسين - 130. إنا كذلك نجزى المحسنين - 131. إنه من عبادنا المؤمنين - 132.

[ 157 ]

(بيان) ملخص قصة موسى وهارون وإشارة إلى قصة إلياس عليه السلام. وبيان ما أنعم الله عليهم وعذب مكذبيهم وجانب الرحمة يربو فيها على جانب العذاب والتبشير يزيد على الانذار. قوله تعالى: " ولقد مننا على موسى وهارون " المن الانعام ومن المحتمل أن يكون المراد به ما سيعده مما أنعم عليهما وعلى قومهما من التنجية والنصر وإيتاء الكتاب والهداية وغيرها فيكون قوله: " ونجيناهما " الخ من عطف التفسير. قوله تعالى: " ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم " وهو الغم الشديد من استضعاف فرعون لهم يسومهم سوء العذاب ويذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم. قوله تعالى: " ونصرناهم فكانوا هم الغالبين " وهو الذي أدى إلى خروجهم من مصر وجوازهم البحر وهلاك فرعون وجنوده. وبذلك يندفع ما توهم أن مقتضى الظاهر أن يذكر النصر قبل التنجية لتوقفها عليه، وذلك أن النصر إنما يكون فيما إذا كان للمنصور قوة ما لكنها لا تكفي لدفع الشر فتتم بالنصر وكان لبني إسرائيل عند الخروج من مصر بعض القوة فناسب إطلاق النصر على إعانتهم على ذلك بخلاف أصل تخليصهم من يد فرعون فإنهم كانوا أسراء مستعبدين لا قوة لهم فلا يناسب هذا الاعتبار إلا ذكر التنجية دون النصر. قوله تعالى: وآتيناهما الكتاب المستبين " أي يستبين المجهولات الخفية فيبينها وهي التي يحتاج إليها الناس في دنياهم وآخرتهم. قوله تعالى: " وهديناهما الصراط المستقيم " المراد بها الهداية بتمام معنى الكلمة، ولذا خصها بهما ولم يشرك فيها معهما قومهما، ولقد تقدم كلام في معنى البداية إلى الصراط المستقيم في سورة الفاتحة. قوله تعالى: " وتركنا عليهما في الاخرين - إلى قوله - المؤمنين " تقدم تفسيرها. قوله تعالى: " وإن إلياس لمن المرسلين " قيل: إنه عليه السلام من آل هارون كان

[ 158 ]

مبعوثا إلى بعلبك (1) ولم يذكر في كلامه ما يستشهد به عليه. قوله تعالى: " إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين - إلى قوله - الاولين " شطر من دعوته عليه السلام يدعو قومه فيها إلى التوحيد ويوبخهم على عبادة بعل - صنم كان لهم - وترك عبادة الله سبحانه. وكلامه عليه السلام على ما فيه من التوبيخ واللوم يتضمن حجة تامة على توحيده تعالى فإن قوله: " وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ورب آبائكم الاولين " يوبخهم أولا على ترك عبادة أحسن الخالقين، والخلق والايجاد كما يتعلق بذوات الاشياء يتعلق بالنظام الجاري فيها الذي يسمى تدبيرا فكما أن الخلق إليه تعالى فالتدبير أيضا إليه فهو المدبر كما أنه الخالق، وأشار إلى ذلك بقوله: " الله ربكم " بعد وصفه تعالى بأحسن الخالقين. ثم أشار إلى أن ربوبيته تعالى لا تختص بقوم دون قوم كالاصنام التي يتخذ كل قوم بعضا منها دون بعض فيكون صنم ربا لقوم دون آخرين بل هو تعالى رب لهم ولابائهم الاولين لا يختص ببعض دون بعض لعموم خلقه وتدبيره، وإليه أشار بقوله: " الله ربكم ورب آباؤكم الاولين ". قوله تعالى: " فكذبوه فإنهم لمحضرون " أي مبعوثون ليحضروا العذاب، وقد تقدم أن الاحضار إذا أطلق أفاد معنى الشر. قوله تعالى: " إلا عباد الله المخلصين " دليل على أنه كان في قومه جمع منهم. قوله تعالى: " وتركنا عليه في الاخرين - إلى قوله - المؤمنين " تقدم الكلام في نظائرها. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " أتدعون بعلا " قال: كان لهم صنم يسمونه بعلا. وفي المعاني بإسناده إلى قادح عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عن علي (1)


ولعلهم أخذوه من بعل فقد قيل: أن بعلبك سمى به لان بعلا كان منصوبا في معبد فيه.

[ 159 ]

عليه السلام في قول الله عز وجل: " سلام على آل يس " قال: يس محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونحن آل يس. أقول: وعن العيون عن الرضا عليه السلام مثله، وهو مبني على قراءة آل يس كما قرأه نافع وابن عامر ويعقوب وزيد. (كلام في قصة الياس عليه السلام) 1 - قصته في القرآن: لم يذكر اسمه عليه السلام في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع وفي سورة الانعام عند ذكر هداية الانبياء حيث قال: " وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس وكل من الصالحين " الانعام: 85. ولم يذكر تعالى من قصته في هذه السورة إلا أنه كان يدعو إلى عبادة الله سبحانه قوما كانوا يعبدون بعلا فآمن به وأخلص الايمان قوم منهم وكذبه آخرون وهم جل القوم وإنهم لمحضرون. وقد أثنى الله سبحانه عليه في سورة الانعام بما أثنى به على الانبياء عامة وأثنى عليه في هذه السورة بأنه من عباده المؤمنين المحسنين وحياه بالسلام بناء على القراءة المشهورة " سلام على إل ياسين ". 2 - الاحاديث فيه: ورد فيه عليه السلام أخبار مختلفة متهافتة كغالب الاخبار الواردة في قصص الانبياء الحاكية للعجائب كالذي روي عن ابن مسعود أن إلياس هو إدريس وما عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن الخضر هو إلياس، وما عن وهب وكعب الاحبار وغيرهما أن إلياس حي لا يموت إلى النفخة الاولى، وما عن وهب أن إلياس سأل الله أن يريحه من قومه فأرسل الله إليه دابة كهيئة الفرس في لون النار فوثب إليه فانطلق به فكساه الله الريش والنور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فصار في الملائكة، وما عن كعب الاحبار أن إلياس صاحب الجبال والبر وأنه الذي سماه الله بذي النون، وما عن الحسن أن إلياس موكل بالفيافي والخضر موكل بالجبال، وما عن أنس (؟) أن

[ 160 ]

إلياس لاقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أسفاره فقعدا يتحدثان ثم نزل عليهما مائدة من السماء فأكلا وأطعماني ثم ودعه وودعني ثم رأيته مر على السحاب نحو السماء إلى غير ذلك (1). وفي بعض أخبار الشيعة أنه عليه السلام حي مخلد (2) لكنها ضعاف وظاهر آيات القصة لا يساعد عليه. وفي البحار في قصة إلياس عليه السلام عن قصص الانبياء بالاسناد عن الصدوق بإسناده إلى وهب بن منبه، ورواه الثعلبي في العرائس عن ابن إسحاق وعلماء الاخبار أبسط منه - والحديث طويل جدا، وملخصه - أنه بعد انشعاب ملك بني إسرائيل وتقسمه بينهم سار سبط منهم إلى بعلبك وكان لهم ملك منهم يعبد صنما اسمه بعل ويحمل الناس على عبادته. وكانت له مرأة فاجرة قد تزوجت قبله بسبعة من الملوك وولدت تسعين ولدا سوى أبناء الابناء، وكان الملك يستخلفها إذا غاب فتقضي بين الناس، وكان له كاتب مؤمن حكيم قد خلص من يدها ثلاث مائة مؤمن تريد قتله، وكان في جوار قصر الملك رجل مؤمن له بستان وكان الملك يحترم جواره ويكرمه. ففي بعض ما غاب الملك قتلت المرأة الجار المؤمن وغصبت بستانه فلما رجع وعلم به عاتبها فاعتذرت إليه وأرضته فآلى الله تعالى على نفسه أن ينتقم منهما إن لم يتوبا فأرسل إليهم إلياس عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وأخبرهما بما آلى الله فاشتد غضبهم عليه وهموا بتعذيبه وقتله فهرب منهم إلى أصعب جبل هناك فلبث فيه سبع سنين يعيش بنبات الارض وثمار الشجر. فأمرض الله ابنا للملك يحبه حبا شديدا فاستشفع ببعل فلم ينفعه فقيل له: إنه غضبان عليك إن لم تقتل إلياس فأرسل إليه فئة من قومه ليخدعوه ويقبضوا عليه فأرسل الله إليهم نارا فأحرقتهم ثم أرسل إليه فئة اخرى من ذوي البأس مع كاتبه (1)


رواه في الدر المنثور في تفسير آيات القصة. (2) رواه في البحار عن قصص الانبياء.

[ 161 ]

المؤمن فذهب معه إلياس صونا له من غضب الملك لكن الله سبحانه أمات ابنه فشغله حزنه عن إلياس فرجع سالما. ثم لما طال الامر نزل إلياس من الجبل واستخفى عند ام يونس بن متى في بيتها ويونس طفل رضيع ثم خرج بعد ستة أشهر إلى الجبل ثانيا واتفق أن مات بعده يونس ثم أحياه الله بدعاء إلياس بعد ما خرجت امه في طلبه فوجدته فتضرعت إليه. ثم إنه سأل الله أن ينتقم له من بني إسرائيل ويمسك عنهم الامطار فاجيب وسلط الله عليهم القحط فأجهدوا سنين فندموا فجاؤه فتابوا وأسلموا فدعا الله فأرسل عليهم المطر فسقاهم وأحيا بلادهم. فشكوا إليه هدم الجدران وعدم البذر من الحبوب فأوحى إليه أن يأمرهم أن يبذروا الملح فأنبت لهم الحمص وأن يبذروا الرمل فأنبت لهم منه الدخن. ثم لما كشف الله عنهم الضر نقضوا العهد وعادوا إلى أخبث ما كانوا عليه فأمل ذلك إلياس فدعا الله أن يريحه منهم فأرسل الله إليه فرسا من نار فوثب عليه إلياس فرفعه الله إلى السماء وكساه الريش والنور فكان مع الملائكة. ثم سلط الله على الملك وامرأته عدوا فقصدهما وظهر عليهما فقتلهما وألقى جيفتهما في بستان ذلك الرجل المؤمن الذي قتلاه وغصبوا بستانه. وأنت بالتأمل فيما تقصه الرواية لا ترتاب في ضعفها. * * * وإن لوطا لمن المرسلين - 133. إذ نجيناه وأهله أجمعين - 134. إلا عجوزا في الغابرين - 135. ثم دمرنا الاخرين - 136. وإنكم لتمرون عليهم مصبحين - 137. وبالليل أفلا تعقلون - 138.

[ 162 ]

وإن يونس لمن المرسلين - 139. إذ أبق إلى الفلك المشحون - 140. فساهم فكان من المدحضين - 141. فالتقمه الحوت وهو مليم - 142. فلو لا أنه كان من المسبحين - 143. للبث في بطنه إلى يوم يبعثون - 144. فنبذناه بالعراء وهو سقيم - 145. وأنبتنا عليه شجرة من يقطين - 146. وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون - 147. فآمنوا فمتعناهم إلى حين - 148. (بيان) خلاصة قصة لوط عليه السلام ثم قصة يونس عليه السلام وابتلاء الله تعالى له بالحوت مأخوذا بما أعرض عن قومه عند ارتفاع العذاب عنهم بعد نزوله وإشرافه عليهم. قوله تعالى: " وإن لوطا لمن المرسلين إذ نجيناه وأهله أجمعين " وإنما نجاه وأهله من العذاب النازل على قومه وهو الخسف وإمطار حجارة من سجيل على ما ذكره الله تعالى في سائر كلامه. قوله تعالى: " إلا عجوزا في الغابرين " أي في الباقين في العذاب المهلكين به وهي امرأة لوط. قوله تعالى: " ثم دمرنا الاخرين " التدمير الاهلاك، والاخرين قومه الذين أرسل إليهم. قوله تعالى: " وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون " فإنهم على طريق الحجاز إلى الشام، والمراد بالمرور عليهم المرور على ديارهم الخربة وهي اليوم مستورة بالماء على ما قيل. قوله تعالى: " وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون " أي السفينة

[ 163 ]

المملوءة من الناس والاباق هرب العبد من مولاه. والمراد بإباقه إلى الفلك خروجه من قومه معرضا عنهم وهو عليه السلام وإن لم يعص في خروجه ذلك ربه ولا كان هناك نهي من ربه عن الخروج لكن خروجه إذ ذاك كان ممثلا لا باق العبد من خدمة مولاه فأخذه الله بذلك، وقد تقدم بعض الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى: " وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه " الانبياء: 87 قوله تعالى: " فساهم فكان من المدحضين " المساهمة المقارعة والادحاض الغلبة أي فقارع من في السفينة فكان من المغلوبين، وقد كان عرض لسفينتهم الحوت فاضطروا إلى أن يلقوا واحدا منهم في البحر ليبتلعه ويخلي السفينة فقارعوا فأصابت يونس عليه السلام. قوله تعالى: " فالتقمه الحوت وهو مليم " الالتقام الابتلاع، ومليم من ألام أي دخل في اللوم كأحرم إذا دخل في الحرم أو بمعنى صار ذا ملامة. قوله تعالى: " فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون " عده من المسبحين وهم الذين تكرر منهم التسبيح وتمكن منهم حتى صار وصفا لهم يدل على دوام تلبسه زمانا بالتسبيح. قيل: أي من المسبحين قبل التقام الحوت إياه، وقيل: بل في بطن الحوت، وقيل: أي كان من المسبحين قبل التقام الحوت وفي بطنه. والذى حكي من تسبيحه في كلامه تعالى قوله في سورة الانبياء: " فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " الانبياء: 87 ولازم ذلك أن يكون من المسبحين في بطن الحوت خاصة أو فيه وفيما قبله فاحتمال كون المراد تسبيحه قبل التقام الحوت مرجوح لا ينبغي أن يصار إليه. على أن تسبيحه مع اعترافه بالظلم في قوله: " سبحانك إني كنت من الظالمين " - على ما سيجئ - تسبيح له تعالى عما كان يشعر به (1) فعله من ترك قومه وذهابه على وجهه، وقوله: " فلولا أنه كان من المسبحين " الخ يدل على أن تسبيحه كان هو السبب المستدعي لنجاته، ولازم ذلك أن يكون إنما ابتلي بما ابتلى به لينزهه تعالى فينجو بذلك من الغم الذي ساقه إليه فعله إلى ساحة العافية. (1)


وهو أن الله لا يقدر عليه كما قال تعالى: " وظن أن لن نقدر عليه ".

[ 164 ]

وبذلك يظهر أن العناية في الكلام إنما هي بتسبيحه في بطن الحوت خاصة فخير الاقوال الثلاثة أوسطها. فالظاهر أن المراد بتسبيحه نداؤه في الظلمات بقوله: " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " وقد قدم التهليل ليكون كالعلة المبينة لتسبيحه كأنه يقول: لا معبود بالحق يتوجه إليه غيرك فأنت منزه مما كان يشعر به فعلى أني آبق منك معرض عن عبوديتك متوجه إلى سواك اني كنت ظالما لنفسي في فعلى فها أنا متوجه إليك متبرئ مما كان يشعر به فعلى من التوجه عنك إلى غيرك. فهذا معنى تسبيحه ولو لا ذلك منه لم ينج أبدا إذ كان سبب نجاته منحصرا في التسبيح والتنزيه بالمعنى الذي ذكر. وبذلك يظهر أن المراد بقوله: " للبث في بطنه إلى يوم يبعثون " تأبيد مكثه في بطنه إلى أن يبعث فيخرج منه كالقبر الذي يقبر فيه الانسان ويلبث فيه حتى يبعث فيخرج منه قال تعالى: " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى " طه: 55. ولا دلالة في الاية على كونه عليه السلام على تقدير اللبث حيا في بطن الحوت إلى يوم يبعثون أو ميتا وبطنه قبره مع بقاء بدنه وبقاء جسد الحوت على حالهما أو بنحو آخر فلا مساغ لاختلافهم في كونه عليه السلام حيا على هذا التقدير أو ميتا وبطنه قبره، وأن المراد بيوم يبعثون النفخة الاولى التي فيها يموت الخلائق أو النفخة الثانية أو التأجيل بيوم القيامة كناية عن طول اللبث. قوله تعالى: " فنبذناه بالعراء وهو سقيم " النبذ طرح الشئ والرمي به، والعراء المكان الذي لا سترة فيه يستظل بها من سقف أو خباء أو شجر. والمعنى على ما يعطيه السياق أنه صار من المسبحين فأخرجناه من بطن الحوت وطرحناه خارج الماء في أرض لا ظل فيها يستظل به وهو سقيم. قوله تعالى: " وأنبتنا عليه شجرة من يقطين " اليقطين من نوع القرع و يكون ورقه عريضا مستديرا وقد أنبتها الله عليه ليستظل بورقها. قوله تعالى: " وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون " أو في مورد الترقي وتفيد معنى بل، والمراد بهذه الجماعة أهل نينوى.

[ 165 ]

قوله تعالى: " فآمنوا فمتعناهم إلى حين " أي آمنوا به فلم نعذبهم ولم نهلكهم بما أشرف عليهم من العذاب فمتعناهم بالحياة والبقاء إلى أجلهم المقدر لهم. والاية في إشعارها برفع العذاب عنهم وتمتيعهم تشير إلى قوله تعالى: " فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدتيا ومتعناهم إلى حين " يونس: 98. ولا يخلو السياق من إشعار - بل دلالة - على أن المراد من إرساله في قوله: " فأرسلناه " أمره بالذهاب ثانيا إلى القوم، وبإيمانهم في قوله: " فآمنوا " الخ إيمانهم بتصديقه واتباعه بعد ما آمنوا وتابوا حين رأوا العذاب. ومن هنا يظهر ضعف ما استدل بعضهم بالايتين أن إرساله إلى القوم كان بعد خروجه من بطن الحوت وأنه أمر أولا بالذهاب إلى أهل نينوى ودعوتهم إلى الله وكانوا يعبدون الاصنام فاستعظم الامر وخرج من بيته يسير في الارض لعل الله يصرف عنه هذا التكليف وركب البحر فابتلاه الله بالحوت ثم لما نبذ بالعراء كلف ثانيا فأجاب وأطاع ودعاهم فاستجابوا فدفع الله عذابا كان يهددهم إن لم يؤمنوا. وذلك أن السياق كما سمعت يدل على كون إرساله بأمر ثان وأن إيمانهم كان إيمانا ثانيا بعد الايمان والتوبة وأن تمتيعهم إلى حين كان مترتبا على إيمانهم به لا على كشف العذاب عنهم فلم يكن الله سبحانه ليتركهم لو لم يؤمنوا برسوله ثانيا كما آمنوا به وتابوا إليه أولا في غيبته فافهم ذلك. على أن قوله تعالى: " وذا النون إذ ذهب مغاضبا " الانبياء: 87 وقوله: " ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم " ن: 48 لا يلائم ما ذكروه، وكذا قوله: " إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا " يونس: 98 إذ لا يطلق الكشف إلا في عذاب واقع حال أو مشرف. (كلام في قصة يونس عليه السلام في فصول) 1 - لم يتعرض القرآن الكريم إلا لطرف من قصته وقصة قومه فقد تعرض في سورة الصافات لارساله ثم إباقه وركوبه الفلك والتقام الحوت له ثم نجاته وإرساله إلى

[ 166 ]

القوم وإيمانهم قال تعالى: " وإن يونس لمن المرسلين. إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين. فالتقمه الحوت وهو مليم. فلو لا أنه كان من المسبحين. للبث في بطنه إلى يوم يبعثون. فنبذناه بالعراء وهو سقيم. وأنبتنا عليه شجرة من يقطين. وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون. فآمنوا فمتعناهم إلى حين ". وفي سورة الانبياء: لتسبيحه في بطن الحوت وتنجيته قال تعالى: " وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين " الانبياء: 87 - 88. وفي سورة ن: لندائه مكظوما وخروجه من بطنه واجتبائه قال تعالى: " فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم. فلولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم. فاجتباه ربه فجعله من الصالحين " ن: 50. وفي سورة يونس: لايمان قومه وكشف العذاب عنهم قال تعالى: " فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين " يونس: 98. وخلاصة ما يستفاد من الايات بضم بعضها إلى بعض واعتبار القرائن الحافة بها أن يونس عليه السلام كان من الرسل أرسله الله تعالى إلى قومه وهم جمع كثير يزيدون على مائة ألف فدعاهم فلم يجيبوه إلا بالتكذيب والرد حتى جاءهم عذاب أوعدهم به يونس ثم خرج من بينهم. فلما أشرف عليهم العذاب وشاهدوه مشاهدة عيان أجمعوا على الايمان والتوبة إلى الله سبحانه فكشف الله عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا. ثم إن يونس عليه السلام استخبر عن حالهم فوجد العذاب انكشف عنهم - وكأنه لم يعلم بإيمانهم وتوبتهم - فلم يعد إليهم وذهب لوجهه على ما به من الغضب والسخط عليهم فكان ظاهر حاله حال من يأبق من ربه مغاضبا عليه ظانا أنه لا يقدر عليه وركب البحر في فلك مشحون. فعرض لهم حوت عظيم لم يجدوا بدا من أن يلقوا إليه واحدا منهم يبتلعه

[ 167 ]

وينجو الفلك بذلك فساهموا وقارعوا فيما بينهم فأصابت يونس عليه السلام فألقوه في البحر فابتلعه الحوت ونجت السفينة. ثم أن الله سبحانه حفظه حيا سويا في بطنه أياما وليالي ويونس عليه السلام يعلم أنها بلية ابتلاه الله بها مؤاخذة بما فعل وهو ينادي في بطنه أن " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ". فاستجاب الله له فأمر الحوت أن يلفظه فنبذه بالعراء وهو سقيم فأنبت الله سبحانه عليه شجرة من يقطين يستظل بأوراقها ثم لما استقامت حاله أرسله إلى قومه فلبوا دعوته وآمنوا به فمتعهم الله إلى حين. والاخبار الواردة من طرق أئمة أهل البيت عليه السلام على كثرتها وبعض الاخبار من طرق أهل السنة مشتركة المتون في قصة يونس عليه السلام على النحو الذي يستفاد من الايات وإن اختلفت في بعض الخصوصيات الخارجة عن ذلك (1). 2 - قصته عند أهل الكتاب: هو عليه السلام مذكور باسم يوناه بن إمتاي في مواضع من العهد القديم وكذا في مواضع من العهد الجديد أشير في بعضها إلى قصة لبثه في بطن الحوت لكن لم تذكر قصته الكاملة في شئ منهما. ونقل الالوسي في روح المعاني في قصته عند أهل الكتاب ويؤيده ما في بعض كتبهم من إجمال (2) القصة: أن الله أمره بالذهاب إلى دعوة أهل نينوى (3) وكانت إذ ذاك عظيمة جدا لا يقطع إلا في نحو ثلاثة أيام وكانوا قد عظم شرهم وكثر فسادهم، فاستعظم الامر وهرب إلى ترسيس (4) فجاء يافا (5) فوجد سفينة يريد أهلها الذهاب بها إلى ترسيس فاستأجر وأعطى (1)


ولذلك لم نوردها لانها في نفسها آحاد لا حجية لها في مثل المقام ولا يمكن تصحيح خصوصياتها بلايات وهو ظاهر لمن راجعها. (2) قاموس الكتاب المقدس. (3) كانت مدينة عظيمة من مدائن آشور على ساحل دجلة. (4) اسم مدينة. (5) مدينة في الارض المقدسة.

[ 168 ]

الاجرة وركب السفينة فهاجت ريح عظيمة وكثرت الامواج وأشرفت السفينة على الغرق. ففزع الملاحون ورموا في البحر بعض الامتعة لتخف السفينة وعند ذلك نزل يونس إلى بطن السفينة ونام حتى علا نفسه فتقدم إليه الرئيس فقال له: ما بالك نائما ؟ قم وادع إلهك لعله يخلصنا مما نحن فيه ولا يهلكنا. وقال بعضهم لبعض: تعالوا نتقارع لنعرف من أصابنا هذا الشر بسببه فتقارعوا فوقعت القرعة على يونس فقالوا له: أخبرنا ماذا عملت: ومن أين جئت ؟ وإلى أين تمضي ؟ ومن أي كورة أنت ؟ ومن أي شعب أنت ؟ فقال لهم: أنا عبد الرب إله السماء خالق البر والبحر وأخبرهم خبره فخافوا خوفا عظيما وقالوا له: لم صنعت ما صنعت ؟ يلومونه على ذلك. ثم قالوا له: ما نصنع الان بك ؟ ليسكن البحر عنا ؟ فقال: ألقوني في البحر يسكن فإنه من أجلي صار هذا الموج العظيم فجهد الرجال أن يردوه إلى البر فلم يستطيعوا فأخذوا يونس وألقوه في البحر لنجاة جميع من في السفينة فسكن البحر وأمر الله حوتا عظيما فابتلعه فبقي في بطنه ثلاثة أيام وثلاث ليال وصلى في بطنه إلى ربه واستغاث به فأمر سبحانه الحوت فألقاه إلى اليبس ثم قال له: قم وامض إلى نينوى وناد في أهلها كما أمرتك من قبل. فمضى عليه السلام ونادى وقال: يخسف نينوى بعد ثلاثة أيام فآمنت رجال نينوى بالله ونادوا بالصيام ولبسوا المسوح جميعا ووصل الخبر إلى الملك فقام عن كرسيه ونزع حلته ولبس مسحا وجلس على الرماد ونودي أن لا يذق أحد من الناس والبهائم طعاما ولا شرابا وجأروا إلى الله تعالى ورجعوا عن الشر والظلم فرحمهم الله ولم ينزل بهم العذاب. فحزن يونس وقال: إلهي من هذا هربت، فإني علمت أنك الرحيم الرؤف الصبور التواب. يا رب خذ نفسي فالموت خير لي من الحياة فقال: يا يونس حزنت من هذا جدا ؟ فقال: نعم يا رب. وخرج يونس وجلس مقابل المدينة وصنع له هناك مظلة وجلس تحتها إلى أن يرى ما يكون في المدينة ؟ فأمر الله يقطينا فصعد على رأسه ليكون ظلا له من كربه ففرح باليقطين فرحا عظيما وأمر الله تعالى دودة فضربت اليقطين فجف ثم هبت ريح

[ 169 ]

سموم وأشرقت الشمس على رأس يونس فعظم الامر عليه واستطاب الموت. فقال الرب: يا يونس أحزنت جدا على اليقطين ؟ فقال: نعم يا رب حزنت جدا فقال تعالى: حزنت عليه وأنت لم تتعب فيه ولم تربه بل صار من ليلته وهلك من ليلته فأنا لا أشفق على نينوى المدينة العظيمة التي فيها أكثر من اثنا عشر ربوة من الناس قوم لا يعلمون يمينهم ولا شمالهم وبهائمهم كثيرة انتهى. وجهات اختلاف القصة مع ما يستفاد من القرآن الكريم ظاهرة كالفرار من الرسالة وعدم رضاه برفع العذاب عنهم مع علمه بإيمانهم وتوبتهم. فإن قلت: نظير ذلك وارد في القرآن الكريم كنسبة الاباق إليه في سورة الصافات وكذا مغاضبته وظنه أن الله لن يقدر عليه على ما في سورة الانبياء. قلت: بين النسبتين فرق فكتبهم المقدسة أعني العهدين لا تأبى عن نسبة المعاصي حتى الكبائر الموبقة إلى الانبياء عليه السلام فلا موجب لتوجيه ما نسب من المعاصي إليه بما يخرج به عن كونه معصية بخلاف القرآن الكريم فإنه ينزه ساحتهم عن لوث المعاصي حتى الصغائر فما ورد فيه مما يوهم ذلك يحمل على أحسن الوجوه بهذه القرينة الموجبة ولذا حملنا قوله: " إذ أبق " وقوله: " مغاضبا فظن أن لن نقدر " على حكاية الحال وإيهام فعله. 3 - ثناؤه تعالى عليه: أثنى الله سبحانه عليه بأنه من المؤمنين " سورة الانبياء 88 " وأنه اجتباه وقد عرفت أن اجتباءه إخلاصة العبد لنفسه خاصة، وأنه جعله من الصالحين " سورة ن: 50 " وعده في سورة الانعام فيمن عده من الانبياء وذكر أنه فضلهم على العالمين وأنه هداهم إلى صراط مستقيم " سورة الانعام: 87 ". (بحث روائي) في الفقيه وقال الصادق عليه السلام: ما تقارع قوم ففوضوا أمرهم إلى الله عز وجل إلا خرج سهم الحق، وقال: أي قضية أعدل من القرعة إذا فوض الامر إلى الله. أليس الله عز وجل يقول: " فساهم فكان من المدحضين ".

[ 170 ]

وفي البحار عن البصائر بإسناده عن حبة العرني قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام إن الله عرض ولايتي على أهل السماوات وعلى أهل الارض أقر بها من أقر وأنكرها من أنكر أنكرها يونس فحبسه الله في بطن الحوت حتى أقربها. اقول: وفي معناه روايات أخر، والمراد الولاية الكلية الالهية التي هو عليه السلام أول من فتح بابها من هذه الامة وهي قيامه تعالى مقام عبده في تدبير أمره فلا يتوجه العبد إلا إليه ولا يريد إلا ما أراده وذلك بسلوك طريق العبودية التي تنتهي بالعبد إلى أن يخلصه الله لنفسه فلا يشاركه فيه غيره. وكان ظاهر ما أتى به يونس عليه السلام مما لا يرتضيه الله تعالى فلم يكن قابلا للانتساب إلى إرادته فابتلاه الله بما ابتلاه ليعترف بظلمه على نفسه وأنه تعالى منزه عن إرادة مثله فالبلايا والمحن التي يبتلى بها الاولياء من التربية الالهية التي يربيهم بها ويكملهم ويرفع درجاتهم بسببها وإن كان بعضها من جهة أخرى مؤاخذة ذات عتاب، وقد قيل البلاء للولاء. ويؤيد ذلك ما عن العلل بإسناده عن أبي بصير قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: لاي علة صرف الله العذاب عن قوم يونس وقد أظلهم ولم يفعل ذلك بغيرهم من الامم ؟ فقال: لانه كان في علم الله أنه سيصرفه عنهم لتوبتهم وإنما ترك إخبار يونس بذلك لانه أراد أن يفرغه لعبادته في بطن الحوت فيستوجب بذلك ثوابه وكرامته. * * * فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون - 149. أم خلقنا الملئكة إناثا وهم شاهدون - 150. ألا إنهم من إفكهم ليقولون - 151. ولد الله وإنهم لكاذبون - 152. أصطفى البنات على البنين - 153. ما لكم كيف تحكمون - 154. أفلا تذكرون - 155. أم لكم سلطان مبين - 156. فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين - 157.

[ 171 ]

وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون - 158. سبحان الله عما يصفون - 159. إلا عباد الله المخلصين - 160. فإنكم وما تعبدون - 161. ما أنتم عليه بفاتنين - 162. إلا من هو صال الجحيم - 163. وما منا إلا له مقام معلوم - 164. وإنا لنحن الصافون - 165. وإنا لنحن المسبحون - 166. وإن كانوا ليقولون - 167. لو أن عندنا ذكرا من الاولين - 158. لكنا عباد الله المخلصين - 169. فكفروا به فسوف يعلمون - 170 ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين - 171. إنهم لهم المنصورون - 172. وإن جندنا لهم الغالبون - 173. فتول عنهم حتى حين - 174. وأبصرهم فسوف يبصرون - 195. أفبعذابنا يستعجلون - 176. فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين - 177. وتول عنهم حتى حين - 178. وأبصر فسوف يبصرون - 179. سبحان ربك رب العزة عما يصفون - 180. وسلام على المرسلين - 181. والحمد لله رب العالمين - 182.

[ 172 ]

(بيان) قدم سبحانه ما بين به أنه رب معبود، عبده عباد مخلصون كالانبياء المكرمين وكفر به آخرون فنجى عباده وأخذ الكافرين بأليم العذاب. ثم تعرض في هذه الايات لما يعتقدونه في آلهتهم وهم الملائكة والجن وأن الملائكة بنات الله وبينه وبين الجنة نسبا. والوثنية البرهمية والبوذية والصابئة ما كانوا يقولون بأنوثة جميع الملائكة وإن قالوا بها في بعضهم لكن المنقول عن بعض قبائل العرب الوثنيين كجهينة وسليم وخزاعة وبني مليح القول بانوثة الملائكة جميعا، وأما الجن فالقول بانتهاء نسبهم إليه في الجملة منقول عن الجميع. وبالجملة يشير تعالى في الايات إلى فساد قولهم ثم يبشر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر ويهددهم بالعذاب، ويختم السورة بتنزيهه تعالى والتسليم على المرسلين والحمد لله رب العالمين. قوله تعالى: " فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون " حلل سبحانه قولهم: إن الملائكة بنات الله إلى ما يستلزمه من اللوازم وهي أن الملائكة أولاده، وأنهم بنات، وأنه تعالى خص نفسه بالبنات وهم مخصوصون بالبنين ثم رد هذه اللوازم واحدا بعد واحد فرد قولهم: إن له البنات ولهم البنين بقوله: " فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون " وهو استفهام إنكاري لقولهم بما يلزمه من تفضيلهم على الله لما أنهم يفضلون البنين على البنات ويتنزهون منهن ويئدونهن. قوله تعالى: " أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون " أم منقطعة أي بل أخلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون يشهدون خلقهم ولم يكونوا شاهدين خلقهم ولا لهم أن يدعوا ذلك، والذكورة والانوثة مما لا يثبت إلا بنوع من الحس، وهذا رد لقولهم بانوثة الملائكة. قوله تعالى: " ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون " رد لقولهم بالولادة بأنه من الافك أي صرف القول عن وجهه إلى غير وجهه أي من الحق إلى الباطل فيوجهون خلقهم بما يعدونه ولادة ويعبرون عنه بها فهم آفكون كاذبون. قوله تعالى: " أصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون أفلا تذكرون "

[ 173 ]

كرر الانكار على اصطفاء البنات من بين لوازم قولهم لشدة شناعته. ثم ونجهم بقوله: " ما لكم كيف تحكمون " لكون قولهم حكما من غير دليل ثم عقبه بقوله: " أفلا تذكرون " توبيخا وإشارة إلى أن قولهم ذلك - فضلا عن كونه مما لا دليل عليه - الدليل على خلافه ولو تذكروا لانكشف لهم فقد تنزهت ساحته تعالى عن أن يتجزى فيلد أو يحتاج فيتخذ ولدا، وقد احتج عليهم بذلك في مواضع من كلامه. والالتفات من الغيبة إلى الخطاب للدلالة على اشتداد السخط الموجب لتوبيخهم شفاها. قوله تعالى: " أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين " أم منقطعة والمراد بالسلطان وهو البرهان كتاب نازل من عند الله سبحانه يخبر فيه أن الملائكة بناته على ما يعطيه السياق إذ لما لم يثبت بعقل أو حس بقي أن يثبت بكتاب من عند الله نازل بالوحي فلو كانت دعواهم حقة وهم صادقون فيها كان لهم أن يأتوا بالكتاب. وإضافة الكتاب إليهم بعناية فرضه دالا على دعواهم. قوله تعالى: " وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون " جعل النسب بينه وبين الجنة قولهم: إن الجنة أولاده وقد تقدم تفصيل قولهم في تفسير سورة هود في الكلام على عبادة الاصنام. وقوله: " ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون " أي للحساب أو للنار على ما يفيده إطلاق " لمحضرون " وكيف كان فهم يعلمون أنهم مربوبون لله سيحاسبهم ويجازيهم بما عملوا فبينهم وبين الله سبحانه نسبة الربوبية والعبودية لا نسب الولادة ومن كان كذلك لا يستحق العبادة. ومن الغريب قول بعضهم: إن المراد بالجنة طائفة من الملائكة يسمون بها ولازمه إرجاع ضمير " إنهم " إلى الكفار دون الجنة. وهو مما لا شاهد له من كلامه تعالى مضافا إلى بعده من السياق. قوله تعالى: " سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين " ضمير " يصفون " - نظرا إلى اتصال الاية بما قبلها - راجع إلى الكفار المذكورين قبل، والاستثناء منه

[ 174 ]

منقطع والمعنى هو منزه عن وصفهم - أو عما يصفه الكفار به من الاوصاف كالولادة والنسب والشركة ونحوها - لكن عباد الله المخلصين يصفونه تعالى وصفا يليق به - أو بما يليق به من الاوصاف -. وقيل: إنه استثناء منقطع من ضمير " لمحضرون "، وقيل: من فاعل " جعلوا " وما بينهما من الجمل المتخللة اعتراض، وهما وجهان بعيدان. وللايتين باستقلالهما معنى أوسع من ذلك وأدق وهو رجوع ضمير " يصفون " إلى الناس، والوصف مطلق يشمل كل ما يصفه به واصف، والاستثناء متصل والمعنى هو منزه عن كل ما يصفه الواصفون إلا عباد الله المخلصين. وذلك أنهم إنما يصفونه بمفاهيم محدودة عندهم وهو سبحانه غير محدود لا يحيط به حد ولا يدركه نعت فكلما وصف به فهو أجل منه وكل ما توهم أنه هو فهو غيره لكن له سبحانه عباد أخلصهم لنفسه وخصهم بنفسه لا يشاركه فيهم أحد غيره فعرفهم نفسه وأنساهم غيره يعرفونه ويعرفون غيره به فإذا وصفوه في نفوسهم وصفوه بما يليق بساحة كبريائه وإذا وصفوه بألسنتهم - والالفاظ قاصرة والمعاني محدودة - اعترفوا بقصور البيان وأقروا بكلال اللسان كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو سيد المخلصين: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك (1) فافهم ذلك. قوله تعالى: " فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم " تفريع على حكم المستثنى والمستثنى منه أو المستثنى خاصة، والمعنى لما كان ما وصفتموه ضلالا - وعباد الله المخلصون لا يضلون في وصفهم - فلستم بمضلين به إلا سالكي سبيل النار. والظاهر من السياق أن " ما " في " ما تعبدون " موصولة والمراد بها الاصنام فحسب أو الاصنام وآلهة الضلال كشياطين الجن، و " ما " في " ما أنتم " نافية، وضمير " عليه " لله سبحانه والظرف متعلق بفاتنين، وفاتنين اسم فاعل من الفتنة بمعنى الاضلال و " صالي " من الصلو بمعنى الاتباع فصالي الجحيم هو المتبع للجحيم السالك سبيل النار، والاستثناء مفرغ تقديره ما أنتم بفاتنين أحدا إلا من هو صال الجحيم. (1)


فقد أثنى على الله وتمم نقصه بأنه يريد ما يريده الله من الثناء على نفسه.

[ 175 ]

والمعنى فإنكم وآلهة الضلال التي تعبدونها لستم جميعا بمضلين أحدا على الله إلا من هو متبع الجحيم. وقيل: إن " ما " الاولى مصدرية أو موصولة وجملة " فإنكم وما تعبدون كلام " تام مستقل من قبيل قولهم: أنت وشأنك والمعنى فإنكم وما تعبدون متقارنان ثم استونف وقيل: " ما أنتم عليه بفاتنين " و " فاتنين " مضمن معنى الحمل وضمير " عليه " راجع إلى " ما تعبدون " ان كانت ما مصدرية وإلى " ما " بتقدير مضاف ان كانت موصولة والمعنى ما أنتم بحاملين على عبادتكم أو على عبادة ما تعبدونه الا من هو صال الجحيم. قيل: ويمكن أن يكون " على " بمعنى الباء والضمير لما تعبدون أو لما ان كانت موصولة و " فاتنين " على ظاهر معناه من غير تضمين، والمعنى ما أنتم بمضلين أحدا بعبادتكم أو بعبادة ما تعبدونه الا " الخ ". وهذه كلها تكلفات من غير موجب. والكلام فيما في الاية من الالتفات كالكلام فيما سبق منه. قوله تعالى: " وما منا الا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون " الايات الثلاث - على ما يعطيه السياق - اعتراض من كلام جبريل أو هو وأعوانه من ملائكة الوحي نظير قوله تعالى في سورة مريم: " وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك " الخ مريم: 64. وقيل: هي من كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يصف نفسه والمؤمنين به للكافرين تبكيتا لهم وتقريعا وهو متصل بقوله: " فاستفتهم " والتقدير فاستفتهم وقل: ما منا معشر المسلمين إلا له مقام معلوم على قدر أعماله يوم القيامة وإنا لنحن الصافون في الصلاة وإنا لنحن المسبحون. وهو تكلف لا يلائمه السياق. والايات الثلاث مسوقة لرد قولهم بالوهية الملائكة بإيراد نفس اعترافهم بما ينتفي به قول الكفار وهم لا ينفون العبودية عن الملائكة بل يرون أنهم مربوبون لله سبحانه أرباب وآلهة لمن دونهم يستقلون بالتصرف فيما فوض إليهم من أمر العالم من غير أن يرتبط شئ من هذا التدبير إلى الله سبحانه وهذا هو الذي ينفيه الملائكة عن أنفسهم لا كونهم أسبابا متوسطة بينه تعالى وبين خلقه كما قال تعالى " بل عباد مكرمون

[ 176 ]

لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " الانبياء: 27. فقوله: " وما منا إلا له مقام معلوم " أي معين مشخص أقيم فيه ليس له أن يتعداه بأن يفوض إليه أمر فيستقل فيه بل مجبول على طاعة الله فيما يأمر به وعبادته. وقوله: " وإنا لنحن الصافون " أي نصف عند الله في انتظار أوامره في تدبير العالم لنجريها على ما يريد. كما قال تعالى: " لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " هذا ما يفيده السياق، وربما قيل: إن المراد إنا نصف للصلاة عند الله وهو بعيد من الفهم لا شاهد عليه. وقوله: " وإنا لنحن المسبحون " أي المنزهون له تعالى عما لا يليق بساحة كبريائه كما قال تعالى: " يسبحون الليل والنهار لا يفترون " الانبياء: 20. فالايات الثلاث تصف موقف الملائكة في الخلقة وعملهم المناسب لخلقتهم وهو الاصطفاف لتلقي أمره تعالى والتنزيه لساحة كبريائه عن الشريك وكل ما لا يليق بكمال ذاته المتعالية. قوله تعالى: " وإن كانوا ليقولون لو أن عندنا ذكرا من الاولين لكنا عباد الله المخلصين " رجوع إلى السياق السابق. والضمير في قوله: " وإن كانوا ليقولون " لقريش ومن يتلوهم، و " إن " مخففة من الثقيلة، والمراد بذكر من الاولين كتاب سماوي من جنس الكتب النازلة على الاولين. والمعنى لو أن عندنا كتابا سماويا من جنس الكتب النازلة قبلنا على الاولين لاهتدينا وكنا عباد الله المخلصين يريدون أنهم معذورون لو كفروا لعدم قيام الحجة عليهم من قبل الله سبحانه. وهذا في الحقيقة هفوة منهم فإن مذهب الوثنية يحيل النبوة والرسالة ونزول الكتاب السماوي. قوله تعالى: " فكفروا به فسوف يعلمون " الفاء فصيحة، والمعنى فأنزلنا عليهم الذكر وهو القرآن الكريم فكفروا به ولم يفوا بما قالوا فسوف يعلمون وبال كفرهم

[ 177 ]

وهذا تهديد منه تعالى لهم. قوله تعالى: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون " كلمته تعالى لهم قوله الذي قاله فيهم وهو حكمه وقضاؤه في حقهم وسبق الكلمة تقدمها عهدا أو تقدمها بالنفوذ والغلبة واللام تفيد معنى النفع أي إنا قضينا قضاء محتوما فيهم أنهم لهم المنصورون وقد أكد الكلام بوجوه من التأكيد. وقد أطلق النصر من غير تقييده بدنيا أو آخرة أو بنحو آخر بل القرينة على خلافه قال تعالى: " انا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد " المؤمن: 51. فالرسل عليهم السلام منصورون في الحجة لانهم على الحق والحق غير مغلوب. وهم منصورون على أعدائهم اما بإظهارهم عليهم واما بالانتقام منهم قال تعالى: " وما أرسلنا من قبلك الا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى - إلى أن قال - حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين " يوسف: 110. وهم منصورون في الاخرة كما قال تعالى: " يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه " التحريم: 8، وقد تقدم آنفا آية في سورة المؤمن في هذا المعنى. قوله تعالى: " وإن جندنا لهم الغالبون " الجند هو المجتمع الغليظ ولذا يقال للعسكر جند فهو قريب المعنى من الحزب (1) وقد قال تعالى في موضع آخر من كلامه: " ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون " المائدة: 56. والمراد بقوله: " جندنا " هو المجتمع المؤتمر بأمره المجاهد في سبيله وهم المؤمنون خاصة أو الانبياء ومن تبعهم من المؤمنين وفي الكلام على التقدير الثاني تعميم بعد التخصيص، وكيف كان فالمؤمنون منصورون كمتبوعيهم من الانبياء قال تعالى: " ولا (1)


قال تعالى: " إذ جاءتكم جنود " الاحزاب: 9 وقال فيهم بعينهم: " ولما رآى المؤمنون الاحزاب " الاحزاب: 22.

[ 178 ]

تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين " آل عمران: 139 وقد مر بعض الايات الدالة عليه آنفا. والحكم أعني النصر والغلبة حكم اجتماعي منوط على العنوان لا غير أي إن الرسل وهم عباد أرسلهم الله والمؤمنون وهم جند لله يعملون بأمره ويجاهدون في سبيله ما داموا على هذا النعت منصورون غالبون، وأما إذا لم يبق من الايمان الا اسمه ومن الانتساب الا حديثه فلا ينبغي أن يرجي نصر ولا غلبة. قوله تعالى: " فتول عنهم حتى حين " تفريع على حديث النصر والغلبة ففيه وعد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر والغلبة وايعاد للمشركين ولقريش خاصة. والامر بالاعراض عنهم ثم جعله مغيا بقوله: " حتى حين " يلوح إلى أن الامد غير بعيد وكان كذلك فهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد قليل وأباد الله صناديد قريش في غزوة بدر وغيرها. قوله تعالى: " وأبصرهم فسوف يبصرون " الامر بالابصار والاخبار بإبصارهم عاجلا وعطف الكلام على الامر بالتولي معجلا يفيد بحسب القياس أن المعنى أنظرهم وأبصر ما هم عليه من الجحود والعناد قبال انذارك وتخويفك فسوف يبصرون وبال جحودهم واستكبارهم. قوله تعالى: " أفبعذابنا يستعجلون فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين " توبيخ لهم لاستعجالهم وقولهم: متى هذا الوعد ؟ متى هذا الفتح ؟ وإيذان بأن هذا العذاب مما لا ينبغي أن يستعجل لانه يعقب يوما بئيسا وصباحا مشؤما. ونزول العذاب بساحتهم كناية عن نزوله بهم على نحو الشمول والاحاطة، وقوله: " فساء صباح المنذرين " أي بئس صباحهم صباحا، والمنذرون هم المشركون من قريش. قوله تعالى: " وتول عنهم حتى حين وأبصر فسوف يبصرون " تأكيد لما مر بتكرار الايتين على ما قيل، واحتمل بعضهم أن يكون المراد بما تقدم التهديد بعذاب الدنيا وبهذا، التهديد بعذاب الاخرة. ولا يخلو من وجه فإن الواقع في الاية " وأبصر "

[ 179 ]

من غير مفعول كما في الاية السابقة من قوله: " وأبصرهم " والحذف يشعر بالعموم وأن المراد إبصار ما عليه عامة الناس من الكفر والفسوق ويناسبه التهديد بعذاب يوم القيامة. قوله تعالى: " سبحان ربك رب العزة عما يصفون " تنزيه له تعالى عما يصفه به الكفار المخالفون لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما تقدم ذكره في السورة. والدليل عليه إضافة التنزيه إلى قوله: " ربك " أي الرب الذي تعبده وتدعو إليه، وإضافة الرب ثانيا إلى العزة المفيد لاختصاصه تعالى بالعزة فهو منيع الجانب على الاطلاق فلا يذله مذل ولا يغلبه غالب ولا يفوته هارب فالمشركون أعداء الحق المهددون بالعذاب ليسوا له بمعجزين. قوله تعالى: " وسلام على المرسلين " تسليم على عامة المرسلين وصون لهم من أن يصيبهم من قبله تعالى ما يسوؤهم ويكرهونه. قوله تعالى: " والحمد لله رب العالمين " تقدم الكلام فيه في تفسير سورة الفاتحة. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج محمد بن نضر وابن عساكر عن العلاء بن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوما لجلسائه: أطت السماء وحق لها أن تئط، ليس منها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد. ثم قرء " وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون ". أقول: وروي هذا المعنى عنه صلى الله عليه وآله وسلم بغير هذا الطريق. وفيه أخرج ابن مردويه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قال: استووا تقدم يا فلان تأخر يا فلان أقيموا صفوفكم يريد الله بكم هدي الملائكة ثم يتلو: " وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون ". وفي نهج البلاغة قال عليه السلام في وصف الملائكة: وصافون لا يتزايلون ومسبحون لا يسأمون.

[ 180 ]

سورة ص: مكية وهي ثمان وثمانون آية. بسم الله الرحمن الرحيم ص والقرآن ذي الذكر - 1. بل الذين كفروا في عزة وشقاق - 2. كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص - 3. وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب - 4. أجعل الالهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب - 5 وانطلق الملاء منهم ان امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشئ يراد - 6. ما سمعنا بهذا في الملة الاخرة إن هذا إلا اختلاق - 7. ءانزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب - 8. أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب - 9. أم لهم ملك السموات والارض وما بينهما فليرتقوا في الاسباب - 10. جند ما هنالك مهزوم من الاحزاب - 11. كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الاوتاد - 12. وثمود وقوم لوط واصحاب الئيكة أولئك الاحزاب - 13. إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب - 14. وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة مالها من فواق - 15. وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب - 16.

[ 181 ]

(بيان) يدور الكلام في السورة حول كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذرا بالذكر النازل عليه من عند الله سبحانه الداعي إلى التوحيد وإخلاص العبودية له تعالى. فتبدء بذكر اعتزاز الكفار وشقاقهم وبالجملة استكبارهم عن اتباعه والايمان به وصد الناس عنه وتفوههم بباطل القول في ذلك ورده في فصل. ثم تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر وذكر قصص عباده الاولين في فصل ثم يذكر مآل حال المتقين والطاغين في فصل. ثم تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإبلاغ نذارته ودعوته إلى توحيد الله وأن مآل اتباع الشيطان إلى النار على ما قضى به الله يوم أمر الملائكة بالسجدة لادم فأبى إبليس فرجمه وقضى عليه وعلى من تبعه النار. في فصل. والسورة مكية بشهادة سياق آياتها. قوله تعالى: " ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق " المراد بالذكر ذكر الله تعالى بتوحيده وما يتفرع عليه من المعارف الحقة من المعاد والنبوة وغيرهما، والعزة الامتناع، والشقاق المخالفة، قال في مجمع البيان: وأصله أن يصير كل من الفريقين في شق أي في جانب ومنه يقال: شق فلان العصا إذا خالف انتهى. والمستفاد من سياق الايات أن قوله: " والقرآن ذي الذكر " قسم نظير ما في قوله: " يس والقرآن الحكيم " " ق والقرآن المجيد " " ن والقلم " لا عطف على ما تقدمه، وأما المقسم عليه فالذي يدل عليه الاضراب في قوله: " بل الذين كفروا في عزة وشقاق أنه أمر يمتنع عن قبوله القوم ويكفرون به عزة وشقاقا وقد هلك فيه قرون كثيرة ثم ذكر إنذار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما قاله الكفار عليه وما أمرهم به ملؤهم حول إنذاره صلى الله عليه وآله وسلم أنه أعني المقسم عليه نحو من قولنا: إنك لمن المنذرين، ويشهد على ذلك أيضا التعرض في السورة بإنذاره صلى الله عليه وآله وسلم بالذكر مرة بعد اخرى. وقد قيل في قوله: " ص والقرآن ذي الذكر " من حيث الاعراب والمعنى وجوه كثيرة لا محصل لاكثرها تركنا إيرادها لعدم الجدوى.

[ 182 ]

والمعنى - والله أعلم - اقسم بالقرآن المتضمن للذكر - إنك لمن المنذرين - بل الذين كفروا في امتناع عن قبوله واتباعه ومخالفة له. قوله تعالى: " كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص " القرن أهل عصر واحد، والمناص بالنون مصدر ناص ينوص أي تأخر كما أنه بالباء الموحدة بمعنى التقدم على ما في المجمع وقيل: هو بمعنى الفرار. والمعنى: كثيرا ما أهلكنا من قبل هؤلاء الكفار من قرن وامة بتكذيبهم الرسل المنذرين فنادوا عند نزول العذاب بالويل كقولهم: يا ويلنا إنا كنا ظالمين أو بالاستغاثة بالله سبحانه وليس الحين حين تأخر الاخذ والعذاب أو ليس الحين حين فرار. قوله تعالى: " وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب " أي تعجبوا من مجيئ منذر من نوعهم بأن كان بشرا فإن الوثنية تنكر رسالة البشر. وقوله: " وقال الكافرون هذا ساحر كذاب " يشيرون بهذا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرمونه بالسحر لكونهم عاجزين عن الاتيان بمثل ما أتى به وهو القرآن، وبالكذب لزعمهم أنه يفتري على الله بنسبة القرآن وما فيه من المعارف الحقة إليه تعالى. قوله تعالى: " أجعل الالهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب " العجاب بتخفيف الجيم اسم مبالغة من العجب وهو بتشديد الجيم أبلغ. وهو من تتمة قول الكافرين والاستفهام للتعجيب والجعل بمعنى التصيير وهو كما قيل تصيير بحسب القول والاعتقاد والدعوى لا بحسب الواقع كما في قوله تعالى: " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا " الزخرف: 19 فمعنى جعله صلى الله عليه وآله وسلم الالهة إلها واحدا هو إبطاله الوهية الالهة من دون الله وحكمه بأن الاله هو الله لا إله إلا هو. قوله تعالى: " وانطلق الملا منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشئ يراد " نسبة الانطلاق إلى ملاهم وأشرافهم وقولهم ما قالوا يلوح إلى أن أشراف قريش اجتمعوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليحلوا مشكلة دعوته إلى التوحيد ورفض الالهة بنوع من الاستمالة وكلموه في ذلك فما وافقهم في شئ منه ثم انطلقوا وقال بعضهم لبعض أو قالوا

[ 183 ]

لاتباعهم أن امشوا واصبروا " الخ " وهذا يؤيد ما ورد في أسباب النزول مما سيجئ في البحث الروائي الاتي إن شاء الله. وقوله: " أن امشوا واصبروا على آلهتكم " بتقدير القول أي قائلين أن امشوا واصبروا على آلهتكم ولا تتركوا عبادتها وإن عابها وقدح فيها، وظاهر السياق أن القول قول بعضهم لبعض، ويمكن أن يكون قولهم لتبعتهم. وقوله: " إن هذا لشئ يراد " ظاهره أنه إشارة إلى ما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويطلبه وأن مطلوبه شئ يراد بالطبع وهو السيادة والرئاسة وإنما جعل الدعوة ذريعة إليه فهو نظير قول الملا من قوم نوح لعامتهم: " ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم " المؤمنون: 24. وقيل: المعنى إن هذا الذي شاهدناه من إسراره صلى الله عليه وآله وسلم على ما يطلبه وتصلبه في دينه لشئ عظيم يراد من قبله. وقيل: المعنى أن هذا الامر لشئ من نوائب الدهر يراد بنا فلا حيلة إلا إن تمشوا وتصبروا. وقيل: المعنى إن الصبر خلق محمود يراد منا في مثل هذه الموارد، وقيل غير ذلك وهي وجوه ضعيفة لا يلائمها السياق. قوله تعالى: " ما سمعنا بهذا في الملة الاخرة إن هذا إلا اختلاق " أرادوا بالملة الاخرة المذهب الذي تداوله الاخرون من الامم المعاصرين لهم أو المقارنين لعصرهم قبال الملل الاولى التي تداولتها الاولون كأنهم يقولون: ليس هذا من الملة الاخرة التي يرتضيها أهل الدنيا اليوم بل من أساطير الاولين. وقيل: المراد بالملة الاخرة النصرانية لانها آخر الملل وهم لا يقولون بالتوحيد بل بالتثليث. وضعفه ظاهر إذ لم يكن للنصرانية وقع عندهم كالاسلام. وقوله: " إن هذا إلا اختلاق " أي كذب وافتعال. قوله تعالى: " ءأنزل عليه الذكر من بيننا " استفهام إنكاري بداعي التكذيب أي لا مرجح عند محمد صلى الله عليه وآله وسلم يترجح به علينا فينزل عليه الذكر دوننا فهو في إنكار

[ 184 ]

الاختصاص بنزول الذكر نظير قولهم: ما أنت إلا بشر مثلنا في نفي الاختصاص بالرسالة. قوله تعالى: " بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب " إضراب عن جميع ما قالوه أي إنهم لم يقولوا عن إيمان واعتقاد به بل هم في شك من ذكري وهو القرآن. وليس شكهم فيه من جهة خفاء دلالة آية النبوة وقصورها عن إفادة اليقين بل تعلق قلوبهم بما عندهم من الباطل ولزومهم التقليد يصرفهم عن النظر في دلالة الاية الالهية المعجزة فشكوا في الذكر والحال أنه آية معجزة. وقوله: " بل لما يذوقوا عذاب " إضراب عن الاضراب أي ليس إنكارهم وعدم إيمانهم به عن شك منهم فيه بل لانهم لعتوهم واستكبارهم لا يعترفون بحقيته ولو لم يكن شك، حتى يذوقوا عذابي فيضطروا إلى الاعتراف كما فعل غيرهم. وفي قوله: " لما يذوقوا عذاب " أي لم يذوقوا بعد عذابي، تهديد بعذاب واقع. قوله تعالى: " أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب " الكلام في موقع الاضراب و " أم " منقطعة والكلام ناظر إلى قولهم: " ما أنزل عليه الذكر من بيننا " أي بل أعندهم خزائن رحمة ربك التي ينفق منها على من يشاء حتى يمنعوك منها بل هي له تعالى وهو أعلم حيث يجعل رسالته ويخص برحمته من يشاء. وتذييل الكلام بقوله: " العزيز الوهاب " لتأييد محصل الجملة أي ليس عندهم شئ من خزائن رحمته لانه عزيز منيع جانبه لا يداخل في أمره أحد، ولا لهم أن يصرفوا رحمته عن أحد لانه وهاب كثير الهبات. قوله تعالى: " أم لهم ملك السماوات والارض وما بينهما فليرتقوا في الاسباب " " أم " منقطعة، والامر في قوله: " ليرتقوا " للتعجيز والارتقاء الصعود، والاسباب المعارج والمناهج التي يتوسل بها إلى الصعود إلى السماوات ويمكن أن يراد بارتقاء الاسباب التسبب بالعلل والحيل الذي يحصل به لهم المنع والصرف. والمعنى: بل أنهم ملك السماوات والارض فيكون لهم أن يتصرفوا فيها فيمنعوا

[ 185 ]

نزول الوحي السماوي إلى بشر أرضي فإن كان كذلك فليصعدوا معارج السماوات أو فليتسببوا الاسباب وليمنعوا من نزول الوحي عليك. قوله تعالى: " جند ما هنالك مهزوم من الاحزاب " الهزيمة الخذلان و " من الاحزاب " بيان لقوله: " جند ما " و " ما " للتقليل والتحقير، والكلام مسوق لتحقير أمرهم رغما لما يشعر به ظاهر كلامهم من التعزز والاعجاب بأنفسهم. يدل على ذلك تنكير " جند " وتتميمه بلفظة " ما " والاشارة إلى مكانتهم بهنالك الدال على البعيد وعدهم من الاحزاب المتحزبين على الرسل الذين قطع الله دابر الماضين منهم كما سيذكر ولذلك عد هذا الجند مهزوما قبل انهزامهم. والمعنى: هم جندما أقلاء أذلاء منهزمون هنالك من اولئك الاحزاب المتحزبين على الرسل الذين كذبوهم فحق عليهم عقابي. قوله تعالى: " كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الاوتاد - إلى قوله - فحق عقاب " ذو الاوتاد وصف فرعون والاوتاد جمع وتد وهو معروف. قيل: سمي بذي الاوتاد لانه كانت له ملاعب من أوتاد يلعب له عليها، وقيل: لانه كان يعذب من غضب عليه من المجرمين بالاوتاد يوتد يديه ورجليه ورأسه على الارض فيعذبه وقيل: معناه ذو الجنود أوتاد الملك، وقيل: غير ذلك من الوجوه، ولا دليل على شئ منها يعول عليه. وأصحاب الايكة قوم شعيب وقد تقدم في سورة الحجر والشعراء، وقوله: " فحق عقاب " أي ثبت في حقهم واستقر فيهم عقابي فأهلكتهم. قوله تعالى: " وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة مالها من فواق " النظر الانتظار والفواق الرجوع والمهلة اليسيرة، والمعنى وما ينتظر هؤلاء المكذبون من امتك إلا صيحة واحدة تقضي عليهم وتهلكهم مالها من رجوع أو مهلة وهي عذاب الاستئصال. قالوا: والمراد من الصيحة صيحة يوم القيامة لان امة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مؤخر عنهم العذاب إلى قيام الساعة، وقد عرفت في تفسير سورة يونس أن ظاهر آيات الكتاب يعطي خلاف ذلك فراجع.

[ 186 ]

قوله تعالى: " وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب " القط النصيب والحظ، وهذه الكلمة استعجال منهم للعذاب قبل يوم القيامة استهزاء بحديث يوم الحساب والوعيد بالعذاب فيه. (بحث روائي) في الكافي بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: أقبل أبو جهل بن هشام ومعه قوم من قريش فدخلوا على أبي طالب فقالوا. إن ابن اخيك قد آذانا وآذى آلهتنا فادعه ومره فليكف عن آلهتنا ونكف عن إلهه. قال: فبعث أبو طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعاه فلما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ير في البيت إلا مشركا فقال: السلام على من اتبع الهدى ثم جلس فخبره أبو طالب بما جاؤا به فقال: أو هل لهم في كلمة خير لهم من هذا يسودون بها العرب ويطأون أعناقهم ؟ فقال أبو جهل: نعم وما هذه الكلمة ؟ قال: تقولون: لا إله إلا الله. قال: فوضعوا أصابعهم في آذانهم وخرجوا وهم يقولون: ما سمعنا بهذا في الملة الاخرة إن هذا إلا اختلاق فأنزل الله في قولهم ص والقرآن ذي الذكر - إلى قوله - إلا اختلاق. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وعجبوا أن جاءهم منذر منهم " قال: لما أظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة اجتمعت قريش إلى أبى طالب فقالوا: يا أبا طالب إن إبن أخيك قد سفه أحلامنا وسب آلهتنا وأفسد شبابنا وفرق جماعتنا فإن كان الذي يحمله على ذلك العدم جمعنا له مالا حتى يكون أغنى رجل في قريش ونملكه علينا. فاخبر أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فقال: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما أردته ولكن يعطونني كلمة يملكون بها العرب ويدين لهم بها العجم ويكونون ملوكا في الجنة فقال لهم أبو طالب ذلك فقالوا: نعم وعشر كلمات فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشهدون أن لا إله الله وأني رسول الله فقالوا: ندع ثلاث مائة وستين إلها ونعبد إلها واحدا ؟

[ 187 ]

فأنزل الله سبحانه: " بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب - إلى قوله - إلا اختلاق " أي تخليط " ءأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري - إلى قوله - من الاحزاب " يعني الذين تحزبوا عليه يوم الاحزاب. أقول: والقصة مروية من طرق أهل السنة أيضا وفي بعض رواياتهم أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما عرض عليهم كلمة التوحيد قالوا له: سلنا غير هذه قال: لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها فغضبوا وقالوا والكلمة كناية عن تمليكهم إياه زمام نظام العالم الارضي فإن الشمس والقمر من أعظم المؤثرات فيه، وقد أخذ على ما يظهر ان للحسن من القدر ليصح ما أريد من التمثيل. وفي العلل بإسناده إلى إسحاق بن عمار قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام كيف صارت الصلاة ركعة وسجدتين ؟ وكيف إذا صارت سجدتين لم تكن ركعتين ؟ فقال: إذا سألت عن شئ ففرغ قلبك لتفهم. إن أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما صلاها في السماء بين يدي الله تبارك وتعالى قدام عرشه. وذلك أنه لما أسري به وصار عند عرشه قال يا محمد أدن من صاد فاغسل مساجدك وطهرها وصل لربك فدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حيث أمره الله تبارك وتعالى فتوضأ واسبغ وضوءه. قلت: جعلت فداك وما صاد الذي أمر أن يغتسل منه ؟ فقال: عين تنفجر من ركن من أركان العرش يقال له ماء الحيوان وهو ما قال الله عز وجل: " ص والقرآن ذي الذكر " الحديث. أقول: وروى هذا المعنى أعني أن ص نهر يخرج من ساق العرش في المعاني عن سفيان الثوري عن الصادق عليه السلام، وروي ذلك في مجمع البيان عن ابن عباس أنه اسم من أسماء الله تعالى قال: وروي ذلك عن الصادق عليه السلام. وفي المعاني بإسناده إلى الاصبغ عن علي عليه السلام في قول الله عز وجل: " وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب " قال: نصيبهم من العذاب.

[ 188 ]

* * * إصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الايد إنه أواب - 17. إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق - 18. والطير محشورة كل له أواب 19 وشددنا ملكه و آتيناه الحكمة وفصل الخطاب - 20. وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب - 21. إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط - 22. إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب - 23. قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب - 24. فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب - 25. يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب - 26.

[ 189 ]

وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار - 27. أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار - 28. كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الالباب - 29. (بيان) لما حكى سبحانه عن المشركين رميهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته الحقة باختلاق وأنها ذريعة إلى التقدم والرئاسة وأنه لا مرجح له عليهم حتى يختص بالرسالة والانذر. ثم استهزائهم بيوم الحساب وعذابه الذي ينذرون به، أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر وأن لا يزلز له هفواتهم ولا توهن عزمه وأن يذكر عدة من عباده الاوابين له الراجعين إليه فيما دهمهم من الحوادث. وهؤلاء تسعة من الانبياء الكرام ذكرهم الله سبحانه: داود وسليمان وأيوب ابراهيم واسحاق ويعقوب واسماعيل واليسع وذو الكفل عليهم السلام، وبدء بداود عليه السلام وذكر بعض قصصه. قوله تعالى: " اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الايد انه أواب " الايد القوة وكان عليه السلام ذا قوة في تسبيحه تعالى يسبح ويسبح معه الجبال والطير وذا قوة في ملكه وذا قوة في علمه وذا قوة وبطش في الحروب وقد قتل جالوت الملك كما قصه الله في سورة البقرة. والاواب اسم مبالغة من الاوب بمعنى الرجوع والمراد به كثرة رجوعه إلى ربه. قوله تعالى: " انا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق " الظاهر أن " معه " متعلق بقوله: " يسبحن " وجملة " معه يسبحن " بيان لمعنى التسخير وقدم الظرف لتعلق العناية بتبعيتها لداد واقتدائها به في التسبيح لكن قوله تعالى في موضع

[ 190 ]

آخر: " وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير " الانبياء: 79 يؤيد تعلق الظرف بسخرنا، وقد وقع في موضع آخر من كلامه تعالى: " يا جبال أوبي معه والطير " سبأ: 10. والعشي والاشراق الرواح والصباح. وقوله: " انا سخرنا " الخ " ان " فيه للتعليل والاية وما عطف عليها من الايات بيان لكونه عليه السلام ذا ايد في تسبيحه وملكه وعلمه وكونه أوابا إلى ربه. قوله تعالى: " والطير محشورة كل له اواب " المحشورة من الحشر بمعنى الجمع بإزعاج أي وسخرنا معه الطير مجموعة له تسبح معه. وقوله: " كل له أواب " استئناف يقرر ما تقدمه من تسبيح الجبال والطير أي كل من الجبال والطير أواب أي كثير الرجوع إلينا بالتسبيح فإن التسبيح من مصاديق الرجوع إليه تعالى. ويحتمل رجوع ضمير " له " إلى داود على بعد. ولم يكن تأييد داود عليه السلام في أصل جعله تعالى للجبال والطير تسبيحا فإن كل شئ مسبح لله سبحانه قال تعالى: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " أسرى: 44 بل في موافقة تسبيحها لتسبيحه وقرع تسبيحها أسماع الناس وقد تقدم كلام في معنى تسبيح الاشياء لله سبحانه في تفسير قوله تعالى: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده " الاية وأنه بلسان القال دون لسان الحال. قوله تعالى: " وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب " قال الراغب: الشد العقد القوي يقال: شددت الشئ قويت عقده. انتهى فشد الملك من الاستعارة بالكناية والمراد به تقوية الملك وتحكيم أساسه بالهيبة والجنود والخزائن وحسن التدبير وسائر ما يتقوى به الملك. والحكمة في الاصل بناء نوع من الحكم والمراد بها المعارف الحقة المتقنة التي تنفع الانسان وتكمله، وقيل: المراد النبوة، وقيل الزبور وعلم الشرائع، وقيل غير ذلك وهي وجوه ردية. وفصل الخطاب تفكيك الكلام الحاصل من مخاطبة واحد لغيره وتمييز حقه من باطله وينطبق على القضاء بين المتخاصمين في خصامهم.

[ 191 ]

وقيل: المراد به الكلام القصد ليس بإيجازه مخلا ولا بإطنابه مملا، وقيل: فصل الخطاب قول أما بعد فهو عليه السلام أول من قال: أما بعد، والاية التالية " وهل أتاك نبؤ الخصم " الخ تؤيد ما قدمناه. قوله تعالى: " وهل أتاك نبؤ الخصم إذ تسوروا المحراب " الخصم مصدر كالخصومة اريد به القوم الذي استقر فيهم الخصومة، والتسور الارتقاء إلى أعلى السور وهو الحائط الرفيع كالتسنم بمعنى الارتقاء إلى سنام البعير والتذري بمعنى الارتقاء إلى ذروة الجيل، وقد فسر المحراب بالغرفة والعلية، والاستفهام للتعجيب والتشويق إلى استماع الخبر. والمعنى هل أتاك يا محمد خبر القوم المتخاصمين إذ علوا سور المحراب محراب داود عليه السلام. قوله تعالى: " إذ دخلوا على داود ففزع منهم " إلى آخر الاية لفظة " إن " هذه ظرف لقوله: " تسو روا " كما أن " إذ " الاولى ظرف لقوله: " نبؤ الخصم " ومحصل المعنى أنهم دخلوا على داود وهو في محرابه لا من الطريق العادي بل بتسوره بالارتقاء إلى سوره والورود عليه منه ولذا فزع منهم لما رآهم دخلوا عليه من غير الطريق العادي وبغير إذن. وقوله: " ففزع منهم " قال الراغب: الفزع انقباض ونفار يعتري الانسان من الشئ المخيف وهو من جنس الجزع ولا يقال: فزعت من الله كما يقال: خفت منه. انتهى. وقد تقدم أن الخشية تأثير القلب بحيث يستتبع الاضطراب والقلق وهي رذيلة مذمومة إلا الخشية من الله سبحانه ولذا كان الانبياء عليهم السلام لا يخشون غيره قال تعالى: " ولا يخشون أحدا إلا الله " الاحزاب: 39. وأن الخوف هو التأثير عن المكروه في مقام العمل بتهيئة ما يتحرز به من الشر ويدفع به المكروه لا في مقام الادراك فليس برذيلة مذمومة لذاته بل هو حسن فيما يحسن الاتقاء قال تعالى خطابا لرسوله: " وإما تخافن من قوم خيانة " الانفال: 58. وإذا كان الفزع هو الانقباض والنفار الحاصل من الشئ المخوف كان أمرا راجعا

[ 192 ]

إلى مقام العمل دون الادراك فلم يكن رذيلة بذاته بل كان فضيلة عند تحقق مكروه ينبغي التحرز منه فلا ضير في نسبته إلى داود عليه السلام في قوله: " ففزع منهم " وهو من الانبياء الذين لا يخشون إلا الله. وقوله: " قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض " لما رأوا ما عليه داود عليه السلام من الفزع أرادوا تطييب نفسه وإسكان روعه فقالوا: " لا تخف " وهو نهي عن الفزع بالنهي عن سببه الذي هو الخوف " خصمان بغى " الخ أي نحن خصمان أي فريقان متخاصمان تجاوز بعضنا ظلما على بعض. وقوله: " فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط " الخ الشطط الجور أي فاحكم بيننا حكما مصاحبا للحق ولا تجر في حكمك ودلنا على الوسط العدل من الطريق. قوله تعالى: " إن هذا أخي " إلى آخر الاية بيان لخصومتهم وقوله: " إن هذا أخي " كلام لواحد من أحد الفريقين يشير إلى آخر من الفريق الاخر بأن هذا أخي له " الخ. وبهذا يظهر فساد ما استدل بعضهم بالاية على أن أقل الجمع اثنان لظهور قوله: إذ تسو روا " " إذ دخلوا " في كونهم جمعا ودلالة قوله: " خصمان " " هذا أخي " على الاثنينية. وذلك لجواز أن يكون في كل واحد من جانبي التثنية أكثر من فرد واحد قال تعالى: " هذا خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا " الخ الحج: 19 وجواز أن يكون أصل الخصومة بين فردين ثم يلحق بكل منهما غيره لاعانته في دعواه. وقوله: " له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب " النعجة الانثى من الضأن، و " أكفلنيها " أي اجعلها في كفالتي وتحت سلطتي و " عزني في الخطاب " أي غلبني فيه والباقي ظاهر. قوله تعالى: " قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه - إلى قوله - وقليل ما هم " جواب داود عليه السلام، ولعله قضاء تقديري قبل استماع كلام المتخاصم الاخر فإن من الجائز أن يكون عنده من القول ما يكشف عن كونه محقا فيما يطلبه ويقترحه على

[ 193 ]

صاحبه لكن صاحب النعجة الواحدة ألقى كلامه بوجه هيج الرحمة والعطوفة منه عليه السلام فبادر إلى هذا التصديق التقديري فقال: " لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ". فاللام للقسم، والسؤال - على ما قيل - مضمن معنى الاضافة ولذا عدي إلى المفعول الثاني بإلى، والمعنى اقسم لقد ظلمك بسؤال إضافة نعجتك إلى نعاجه. وقوله: " وإن كثير من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم " من تمام كلام داود عليه السلام يقرر به كلامه الاول والخلطاء الشركاء المخالطون. قوله تعالى: " وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب " أي علم داود أنما فتناه بهذه الواقعة أي أنها إنما كانت فتنة فتناه بها والفتنة الامتحان، وقيل: ظن بمعناه المعروف الذي هو خلاف اليقين وذكر استغفاره وتوبته مطلقين يؤيد ما قدمناه ولو كان الظن بمعناه المعروف كان الاستغفار والتوبة على تقدير كونها فتنة واقعا وإطلاق اللفظ يدفعه، والخر على ما ذكره الراغب سقوط يسمع منه خرير والخرير يقال لصوت الماء والريح وغير ذلك مما يسقط من علو، والركوع - على ما ذكره - مطلق الانحناء. والانابة إلى الله - على ما ذكره الراغب - الرجوع إليه بالتوبة وإخلاص العمل وهي من النوب بمعنى رجوع الشئ مرة بعد أخرى. والمعنى: وعلم داود أن هذه الواقعة إنما كانت امتحانا امتحناه وأنه أخطأ فاستغفر ربه - مما وقع منه - وخر منحنيا وتاب إليه. وأكثر المفسرين تبعا للروايات على أن هؤلاء الخصم الداخلين على داود عليه السلام كانوا ملائكة أرسلهم الله سبحانه إليه ليمتحنه وستعرف حال الروايات. لكن خصوصيات القصة كتسورهم المحراب ودخولهم عليه دخولا غير عادي بحيث أفزعوه، وكذا تنبهه بأنه إنما كان فتنة من الله له لا واقعة عادية، وقوله تعالى بعد: " فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى " الظاهر في أن الله ابتلاه بما ابتلى

[ 194 ]

لينبهه ويسدده في خلافته وحكمه بين الناس، كل ذلك يؤيد كونهم من الملائكة وقد تمثلوا له في صورة رجال من الانس. وعلى هذا فالواقعة تمثل تمثل فيه الملائكة في صورة متخاصمين لاحدهما نعجة واحدة يسألها آخر له تسع وتسعون نعجة وسألوه القضاء فقال لصاحب النعجة الواحدة: " لقد ظلمك " الخ وكان قوله عليه السلام - لو كان قضاء منجزا - حكما منه في ظرف التمثل كما لو كان رآهم فيما يرى النائم فقال لهم ما قال وحكم فيهم بما حكم ومن المعلوم أن لا تكليف في ظرف التمثل كما لا تكليف في عالم الرؤيا وإنما التكليف في عالمنا المشهود وهو عالم المادة ولم تقع الواقعة فيه ولا كان هناك متخاصمان ولا نعجة ولا نعاج إلا في ظرف التمثل فكانت خطيئة داود عليه السلام في هذا الظرف من التمثل ولا تكليف هناك كخطيئة آدم عليه السلام في الجنة من أكل الشجرة قبل الهبوط إلى الارض وتشريع الشرائع وجعل التكاليف، واستغفاره وتوبته مما صدر منه كاستغفار آدم وتوبته مما صدر منه وقد صرح الله بخلافته في كلامه كما صرح بخلافة آدم عليه السلام في كلامه وقد مر توضيح ذلك في قصة آدم عليه السلام من سورة البقرة في الجزء الاول من الكتاب. وأما على قول بعض المفسرين من أن المتخاصمين الداخلين عليه كانوا بشرا والقصة على ظاهرها فينبغي أن يؤخذ قوله: " لقد ظلمك " الخ قضاء تقديريا أي إنك مظلوم لو لم يأت خصيمك بحجة بينة، وإنما ذلك للحفظ على ما قامت عليه الحجة من طريقي العقل والنقل أن الانبياء معصومون بعصمة من الله لا يجوز عليهم كبيرة ولا صغيرة. على أن الله سبحانه صرح قبلا بأنه آتاه الحكمة وفصل الخطاب ولا يلائم ذلك خطأه في القضاء. قوله تعالى: " وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " الزلفة والزلفى المنزلة والحظوة، والمآب المرجع، وتنكير " زلفى " و " مآب " للتفخيم، والباقي ظاهر. قوله تعالى: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض " إلى آخر الاية الظاهر أن الكلام بتقدير القول والتقدير فغفرنا له ذلك وقلنا يا داود " الخ ". وظاهر الخلافة إنها خلافة الله فتنطبق على ما في قوله تعالى: " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة " البقرة: 30 ومن شأن الخلافة أن يحاكي الخليفة

[ 195 ]

من استخلفه في صفاته وأعماله فعلى خليفة الله في الارض أن يتخلق بأخلاق الله ويريد ويفعل ما يريده الله ويحكم ويقضي بما يقضي به الله - والله يقضي بالحق - ويسلك سبيل الله ولا يتعداها. ولذلك فرع على جعل خلافته قوله: " فاحكم بين الناس بالحق " وهذا يؤيد أن المراد بجعل خلافته إخراجها من القوة إلى الفعل في حقه لا مجرد الخلافة الشأنية لان الله أكمله في صفاته وآتاه الملك يحكم بين الناس. وقول بعضهم: إن المراد بخلافته المجعولة خلافته ممن قبله من الانبياء وتفريع قوله: " فاحكم بين الناس بالحق " لان الخلافة نعمة عظيمة شكرها العدل أو أن المترتب هو مطلق الحكم بين الناس الذي هو من آثار الخلافة وتقييده بالحق لان سداده به، تصرف في اللفظ من غير شاهد. وقوله: " ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله " العطف والمقابلة بينه وبين ما قبله يعطيان أن المعنى ولا تتبع في قضائك الهوى هوى النفس فيضلك عن الحق الذي هو سبيل الله فتفيد الاية أن سبيل الله هو الحق. قال بعضهم: إن في أمره عليه السلام بالحكم بالحق ونهيه عن اتباع الهوى تنبيها لغيره ممن يلي امور الناس أن يحكم بينهم بالحق ولا يتبع الباطل وإلا فهو عليه السلام من حيث إنه معصوم لا يحكم إلا بالحق ولا يتبع الباطل. وفيه أن أمر تنبيه غيره بما وجه إليه من التكليف في محله لكن عصمة المعصوم وعدم حكمه إلا بالحق لا يمنع توجه التكليف بالامر والنهي إليه فإن العصمة لا توجب سلب اختياره وما دام اختياره باقيا جاز بل وجب توجه التكليف إليه كما يتوجه إلى غيره من الناس، ولو لا توجه التكليف إلى المعصوم لم يتحقق بالنسبة إليه واجب ومحرم ولم تتميز طاعة من معصية فلغى معنى العصمة التي هي المصونية عن المعصية. وقوله: " إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " تعليل للنهي عن اتباع الهوى بأنه يلازم نسيان يوم الحساب وفي نسيانه عذاب شديد والمراد بنسيانه عدم الاعتناء بأمره. وفي الاية دلالة على أن كل ضلال عن سبيل الله سبحانه بمعصية من المعاصي لا

[ 196 ]

ينفك عن نسيان يوم الحساب. قوله تعالى: " وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا " إلى آخر الاية، لما انتهى الكلام إلى ذكر يوم الحساب عطف عنان البيان عليه فاحتج عليه بحجتين إحداهما ما ساقه في هذه الاية بقوله: " وما خلقنا السماء " الخ وهو احتجاج من طريق الغايات إذ لو لم يكن خلق السماء والارض وما بينهما - وهي أمور مخلوقة مؤجلة توجد وتفنى - مؤديا إلى غاية ثابتة باقية غير مؤجلة كان باطلا والباطل بمعنى ما لا غاية له ممتنع التحقق في الاعيان. على أنه مستحيل من الحكيم ولا ريب في حكمته تعالى. وربما أطلق الباطل وأريد به اللعب ولو كان المراد ذلك كانت الاية في معنى قوله: " وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق " الدخان: 39. وقيل: الاية عطف على ما قبلها بحسب المعنى كأنه قيل: ولا تتبع الهوى لانه يكون سببا لضلالك ولانه تعالى لم يخلق العالم لاجل اتباع الهوى وهو الباطل بل خلقه للتوحيد ومتابعة الشرع. وفيه أن الاية التالية: " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض " الخ لا تلائم هذا المعنى. وقوله: " ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار " أي خلق العالم باطلا لا غاية له وانتفاء يوم الحساب الذي يظهر فيه ما ينتجه حساب الامور ظن الذين كفروا بالمعاد فويل لهم من عذاب النار. قوله تعالى: " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار " هذه هي الحجة الثانية على المعاد وتقريرها أن للانسان كسائر الانواع كمالا بالضرورة وكمال الانسان هو خروجه في جانبي العلم والعمل من القوة إلى الفعل بأن يعتقد الاعتقادات الحقة ويعمل الاعمال الصالحة اللتين يهديه إليهما فطرته الصحيحة وهما الايمان بالحق والعمل الصالح اللذين بهما يصلح المجتمع الانساني الذي في الارض. فالذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم المتقون هم الكاملون من الانسان والمفسدون

[ 197 ]

في الارض بفساد اعتقادهم وعملهم وهم الفجار هم الناقصون الخاسرون في إنسانيتهم حقيقة، ومقتضى هذا الكمال والنقص أن يكون بإزاء الكمال حياة سعيدة وعيش طيب وبإزاء خلافه خلاف ذلك. ومن المعلوم أن هذه الحياة الدنيا التي يشتركان فيها هي تحت سيطرة الاسباب والعوامل المادية ونسبتها إلى الكامل والناقص والمؤمن والكافر على السواء فمن أجاد العمل ووافقته الاسباب المادية فاز بطيب العيش ومن كان على خلاف ذلك لزمه الشقاء وضنك المعيشة. فلو كانت الحياة مقصورة على هذه الحياة الدنيوية التي نسبتها إلى الفريقين على السواء ولم تكن هناك حياة تختص بكل منهما وتناسب حاله كان ذلك منافيا للعناية الالهية بإيصال كل ذي حق حقه وإعطاء المقتضيات ما تقتضيه. وإن شئت فقل: تسوية (1) بين الفريقين وإلغاء ما يقتضيه صلاح هذا وفساد ذلك خلاف عدله تعالى. والاية - كما ترى - لا تنفي استواء حال المؤمن والكافر وإنما قررت المقابلة بين من آمن وعمل صالحا وبين من لم يكن كذلك سواء كان غير مؤمن أو مؤمنا غير صالح ولذا أتت بالمقابلة ثانيا بين المتقين والفجار. قوله تعالى: " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الالباب " أي هذا كتاب من وصفه كذا وكذا، وتوصيفه بالانزال المشعر بالدفعة دون التنزيل الدال على التدريج لان ما ذكر من التدبر والتذكر يناسب اعتباره مجموعا لا نجوما مفرقة. والمقابلة بين " ليدبروا " و " ليتذكر أولوا الالباب " تفيد أن المراد بضمير الجمع الناس عامة. والمعنى: هذا كتاب أنزلناه إليك كثير الخيرات والبركات للعامة والخاصة ليتدبره الناس فيهتدوا به أو تتم لهم الحجة وليتذكر به أولو الالباب فيهتدوا إلى الحق باستحضار حجته وتليقها من بيانه. (1)


الحجة الاولى برهانية والثانية جدلية.

[ 198 ]

(بحث روائي) روى في الدر المنثور بطريق عن أنس وعن مجاهد والسدي وبعدة طرق عن ابن عباس قصة دخول الخصم على داود عليه السلام على اختلاف ما في الروايات وروى مثلها القمي في تفسيره ورواها في العرائس وغيره وقد لخصها في مجمع البيان كما يأتي: إن داود كان كثير الصلاة فقال: يا رب فضلت علي إبراهيم فاتخذته خليلا وفضلت علي موسى فكلمته تكليما فقال: يا داود إنا ابتليناهم بما لم نبتلك بمثله فإن شئت ابتليتك فقال: نعم يا رب فابتلني. فبينا هو في محرابه ذات يوم إذ وقعت حمامة فأراد أن يأخذها فطارت إلى كوة المحراب فذهب ليأخذها فاطلع من الكوة فإذا امرأة أوريا بن حيان تغتسل فهواها وهم بتزويجها فبعث باوريا إلى بعض سراياه وأمر بتقديمه أمام التابوت الذي فيه السكينة ففعل ذلك وقتل. فلما انقضت عدتها تزوجها وبنى بها فولد له منها سليمان فبينا هو ذات يوم في محرابه إذ دخل عليه رجلان ففزع منهما فقالا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض - إلى قوله - وقليل ما هم، فنظر أحد الرجلين إلى صاحبه ثم ضحك فتنبه داود على إنهما ملكان بعثهما الله إليه في صورة خصمين ليبكتاه على خطيئته فتاب وبكى حتى نبت الزرع من كثرة دموعه. ثم قال في المجمع - ونعم ما قال -: إنه مما لا شبهة في فساده فإن ذلك مما يقدح في العدالة فكيف يجوز أن يكون أنبياء الله الذين هم أمناؤه على وحيه وسفراؤه بينه وبين خلقه بصفة من لا تقبل شهادته وعلى حالة تنفر عن الاستماع إليه والقبول منه. اقول: والقصة مأخوذة من التوراة غير أن التي فيها أشنع وأفظع فعدلت بعض التعديل على ما سيلوح لك. ففي التوراة ما ملخصه: وكان في وقت المساء أن داود قام عن سريره وتمشى على سطح بيت الملك فرآى من على السطح امرأة تستحم وكانت المرأة جميلة المنظر جدا. فأرسل داود وسأل عن المرأة فقيل: إنها بتشبع امرأة أوريا الحثي فأرسل

[ 199 ]

داود رسلا وأخذها فدخلت عليه فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها ثم رجعت إلى بيتها وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود أنها حبلى. وكان أوريا في جيش لداود يحاربون بني عمون فكتب داود إلى يوآب أمير جيشه يأمره بإرسال أوريا إليه ولما أتاه وأقام عنده أياما كتب مكتوبا إلى يوآب وأرسله بيد أوريا، وكتب في المكتوب يقول: اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت ففعل به ذلك فقتل وأخبر داود بذلك. فلما سمعت امرأة أوريا أنه قد مات ندبت بعلها، ولما مضت المناحة أرسل داود وضمها إلى بيته وصارت له امرأة وولدت له ابنا وأما الامر الذي فعله داود فقبح في عيني الرب. فأرسل الرب ناثان النبي إلى داود فجاء إليه وقال له: كان رجلان في مدينة واحدة واحد منهما غني والاخر فقير، وكان للغني غنم وبقر كثيرة جدا وأما الفقير فلم يكن له شئ إلا نعجة واحدة صغيرة قد اقتناها ورباها فجاء ضيف إلى الرجل الغني فعفا أن يأخذ من غنمه ومن بقره ليهيئ للضيف الذي جاء إليه فأخذ نعجة الرجل الفقير وهيأ لضيفه، فحمي غضب داود على الرجل جدا وقال لناثان: حي هو الرب إنه يقتل الرجل الفاعل ذلك وترد النعجة أربعة أضعاف لانه فعل هذا الامر ولانه لم يشفق. فقال ناثان لداود: أنت هو الرجل يعاتبك الرب ويقول: ساقيم عليك الشر من بيتك وآخذ نساءك أمام عينيك وأعطيهن لقريبك فيضطجع معهن قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس جزاء لما فعلت باوريا وامرأته. فقال داود لناثان: قد أخطأت إلى الرب فقال ناثان لداود: الرب أيضا قد نقل عنك خطيئتك. لا تموت غير أنه من أجل أنك قد جعلت بهذا الامر أعداء الرب يشمتون فالابن المولود لك من المرأة يموت، فأمرض الله الصبي سبعة أيام ثم قبضه ثم ولدت مرأة أوريا بعده لداود ابنه سليمان. وفي العيون في باب مجلس الرضا عند المأمون مع أصحاب الملل والمقالات قال (1)


ملخص من الاصحاح الحادي عشر والثاني عشر من صموئيل الثاني.

[ 200 ]

الرضا عليه السلام لابن جهم: وأما داود فما يقول من قبلكم فيه ؟ قال: يقولون: إن داود كان يصلي في محرابه إذ تصور له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من الطيور فقطع داود صلاته وقام يأخذ الطير إلى الدار فخرج في إثره فطار الطير إلى السطح فصعد في طلبه فسقط الطير في دار أوريا بن حيان. فاطلع داود في إثر الطير فإذا بامرأة اوريا تغتسل فلما نظر إليها هواها وكان قد أخرج اوريا في بعض غزواته فكتب إلى صاحبه أن قدم اوريا أمام التابوت فقدم فظفر اوريا بالمشركين فصعب ذلك على داود فكتب إليه ثانية أن قدمه أمام التابوت فقدم فقتل اوريا وتزوج داود بامرأته. قال: فضرب الرضا عليه السلام يده على جبهته وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون لقد نسبتم نبيا من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حتى خرج في إثر الطير ثم بالفاحشة ثم بالقتل. فقال: يا ابن رسول الله ما كانت خطيئته ؟ فقال: ويحك إن داود عليه السلام إنما ظن أنه ما خلق الله خلقا هو أعلم منه فبعث الله عز وجل إليه الملكين فسورا المحراب فقال: خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب فعجل داود على المدعى عليه فقال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ولم يسأل المدعي البينة على ذلك، ولم يقبل على المدعي عليه فيقول له: ما تقول ؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه ألا تسمع الله عز وجل يقول: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق " إلى آخر الاية. فقال: يا ابن رسول الله فما قصته مع اوريا ؟ قال الرضا عليه السلام: إن المرأة في أيام داود كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبدا فأول من أباح الله عز وجل له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها داود عليه السلام فتزوج بامرأة اوريا لما قتل وانقضت عدتها فذلك الذي شق على الناس من قتل اوريا. وفي أمالي الصدوق بإسناده إلى أبي عبد الله عليه السلام أنه قال لعلقمة: إن رضا الناس لا يملك وألسنتهم لا تضبط ألم ينسبوا داود عليه السلام إلى أنه تبع الطير حتى نظر إلى امرأة اوريا فهواها، وأنه قدم زوجها أمام التابوت حتى قتل ثم تزوج بها الحديث.

[ 201 ]

(كلام في قصص داود في فصول) 1 - قصته في القرآن: لم يقع من قصته في القرآن إلا إشارات فقد ذكر سبحانه أنه كان في جيش طالوت الملك حين حارب جالوت فقتل داود فآتاه الله الملك بعد طالوت والحكمة وعلمه مما يشاء " البقرة: 251 " وجعله خليفة له يحكم بين الناس وآتاه فصل الخطاب " ص: 20 و 26 " وقد أيد الله ملكه وسخر معه الجبال والطير يسبحن معه " الانبياء: 79، ص 19 " وألان له الحديد يعمل وينسج منه الدروع " الانبياء: 80 سبأ: 11 ". 2 - جميل الثناء عليه في القرآن. عده سبحانه من الانبياء وأثنى عليه بما أثنى عليهم وخصه بقوله: " وآتينا داود زبورا " " النساء: 163 الانعام: 84 - 87 " وآتاه فضلا وعلما " سبأ: 10 النمل: 15 " وآتاه الحكمة وفصل الخطاب وجعله خليفة في الارض " ص: 20 و 26 " ووصفه بأنه أواب وأن له عنده لزلفى وحسن مآب " ص: 19 و 25 ". 3 - التدبر في آيات الكتاب المتعرضة لقصة دخول المتخاصمين على داود عليه السلام لا يعطي أزيد من كونه امتحانا منه تعالى له عليه السلام في ظرف التمثل ليربيه تربية إلهية ويعلمه رسم القضاء العدل فلا يجور في الحكم ولا يعدل عن العدل. وأما ما تضمنته غالب الروايات من قصة اوريا وامرأته فهو مما يجل عنه الانبياء ويتنزه عنه ساحتهم وقد تقدم في بيان الايات والبحث الروائي محصل الكلام في ذلك. * * * ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب - 30. إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد - 31. فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب - 32. ردوها علي فطفق

[ 202 ]

مسحا بالسوق والاعناق - 33. ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب - 34. قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي إنك أنت الوهاب - 35. فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب - 36. والشياطين كل بناء وغواص - 37. وآخرين مقرنين في الاصفاد - 38. هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب - 39. وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب - 40. (بيان) القصة الثانية من قصص العباد الاوابين التي أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصبر ويذكرها. قوله تعالى: " ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب " أي وهبناه له ولدا والباقي ظاهر مما تقدم. قوله تعالى: " إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد " العشي مقابل الغداة وهو آخر النهار بعد الزوال، والصافنات على ما في المجمع جمع الصافنة من الخيل وهي التي تقوم على ثلاث قوائم وترفع إحدى يديها حتى تكون على طرف الحافر. قال: والجياد جمع جواد والياء ههنا منقلبة عن واو والاصل جواد وهي السراع من الخيل كأنها تجود بالركض. انتهى. قوله تعالى: " فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب " الضمير لسليمان، والمراد بالخير: الخيل - على ما قيل - فإن العرب تسمي الخيل خيرا وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة.

[ 203 ]

وقيل: المراد بالخير المال الكثير وقد استعمل بهذا المعنى في مواضع من كلامه تعالى كقوله: " إن ترك خيرا " البقرة: 180. وقوله: " إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي " قالوا: إن " أحببت " مضمن معنى الايثار و " عن " بمعنى على، والمراد إني آثرت حب الخيل على ذكر ربي وهو الصلاة محبا إياه أو أحببت الخيل حبا مؤثرا إياه على ذكر ربي - فاشتغلت بما عرض علي من الخيل عن الصلاة حتى غربت الشمس. وقوله: " حتى توارت بالحجاب " الضمير على ما قالوا للشمس والمراد بتواريها بالحجاب غروبها واستتارها تحت حجاب الافق، ويؤيد هذا المعنى ذكر العشي في الاية السابقة إذ لو لا ذلك لم يكن غرض ظاهر يترتب على ذكر العشي. فمحصل معنى الاية أني شغلني حب الخيل - حين عرض الخيل علي - عن الصلاة حتى فات وقتها بغروب الشمس، وإنما كان يحب الخيل في الله ليتهيأ به للجهاد في سبيل الله فكان الحضور للعرض عبادة منه فشغلته عبادة عن عبادة غير أنه يعد الصلاة أهم. وقيل: ضمير " توارت " للخيل وذلك أنه أمر بإجراء الخيل فشغله النظر في جريها حتى غابت عن نظره وتوارت بحجاب البعد، وقد تقدم أن ذكر العشي يؤيد المعنى السابق ولا دليل على ما ذكره من حديث الامر بالجري من لفظ الاية. قوله تعالى: " ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والاعناق " قيل: الضمير في " ردوها " للشمس وهو أمر منه للملائكة برد الشمس ليصلي صلاته في وقتها، وقوله: " فطفق مسحا بالسوق والاعناق " أي شرع يمسح ساقيه وعنقه ويأمر أصحابه أن يمسحوا سوقهم وأعناقهم وكان ذلك وضوءهم ثم صلى وصلوا، وقد ورد ذلك في بعض الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام. وقيل: الضمير للخيل والمعنى قال: ردوا الخيل فلما ردت. شرع يمسح مسحا بسوقها وأعناقها ويجعلها مسبلة في سبيل الله جزاء ما اشتغل بها عن الصلاة. وقيل: الضمير للخيل والمراد بمسح أعناق الخيل وسوقها ضربها بالسيف وقطعها والمسح القطع فهو عليه السلام غضب عليها في الله لما شغلته عن ذكر الله فأمر بردها ثم ضرب بالسيف أعناقها وسوقها فقتلها جميعا.

[ 204 ]

وفيه أن مثل هذا الفعل مما تتنزه ساحة الانبياء عليهم السلام عن مثله فما ذنب الخيل لو شغله النظر إليها عن الصلاة حتى تؤاخذ بأشد المؤاخذة فتقتل تلك القتلة الفظيعة عن آخرها مع ما فيه من إتلاف المال المحترم. وأما استدلال بعضهم عليه برواية أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: فطفق مسحا بالسوق والاعناق قطع سوقها وأعناقها بالسيف ثم أضاف إليها وقد جعلها بذلك قربانا لله وكان تقريب الخيل مشروعا في دينه فليس من التقريب ذكر في الحديث ولا في غيره. على أنه عليه السلام لم يشتغل عن العبادة بالهوى بل شغلته عبادة عن عبادة كما تقدمت الاشارة إليه. فالمعول عليه هو أول الوجوه إن ساعده لفظ الاية وإلا فالوجه الثاني. قوله تعالى: " ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب " الجسد هو الجسم الذي لا روح فيه. قيل: المراد بالجسد الملقى على كرسيه هو سليمان نفسه لمرض امتحنه الله به وتقدير الكلام ألقيناه على كرسيه جسدا أي كجسد لا روح فيه من شدة المرض. وفيه أن حذف الضمير من " ألقيناه " وإخراج الكلام على صورته التي في الاية الظاهرة في أن الملقى هو الجسد مخل بالمعنى المقصود لا يجوز حمل أفصح الكلام عليه. ولسائر المفسرين أقوال مختلفة في المراد من الاية تبعا للروايات المختلفة الواردة فيها والذي يمكن أن يؤخذ من بينها إجمالا أنه كان جسد صبي له أماته الله وألقى جسده على كرسيه، ولقوله: " ثم أناب قال رب اغفر لي " إشعار أو دلالة على أنه كان له عليه السلام فيه رجاء أو امنية في الله فأماته الله سبحانه وألقاه علبى كرسيه فنبهه أن يفوض الامر إلى الله ويسلم له. قوله تعالى: " قال رب اغفر لي وهب ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي إنك انت الوهاب " ظاهر السياق أن الاستغفار مرتبطة بما في الاية السابقة من إلقاء الجسد على كرسيه، والفصل لكون الكلام في محل دفع الدخل كأنه لما قيل: " ثم أناب " قيل: فماذا قال ؟ فقيل: قال رب اغفر لي " الخ.

[ 205 ]

وربما استشكل في قوله: " وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي " أن فيه ضنا وبخلا، فإن فيه اشتراط أن لا يؤتى مثل ما اوتيه من الملك لاحد من العالمين غيره. ويدفعه أن فيه سؤال ملك يختص به لا سؤال أن يمنع غيره عن مثل ما أتاه ويحرمه ففرق بين أن يسأل ملكا اختصاصيا وأن يسأل الاختصاص بملك أوتيه. قوله تعالى: " فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب " متفرع على سؤاله الملك وإخباره عن إجابة دعوته وبيان الملك الذي لا ينبغي لاحد غيره وهو تسخير الريح والجن. والرخاء بالضم اللينة و الظاهر أن المراد بكون الريح تجري بأمره رخاء مطاوعتها لامره وسهولة جريانها على ما يريده عليه السلام فلا يرد أن توصيف الريح ههنا بالرخاء يناقض توصيفه في قوله: " ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره " الانبياء: 81 بكونها عاصفة. وربما أجيب عنه بأن من الجائز أن يجعلها الله رخوة تارة وعاصفة اخرى حسب ما أراد سليمان عليه السلام. وقوله: " حيث أصاب " أي حيث شاء سليمان عليه السلام وقصد وهو متعلق بتجري. قوله تعالى: " والشياطين كل بناء وغواص " أي وسخرنا له الشياطين من الجن كل بناء منهم يبني له في البر وكل غواص يعمل له في البحر فيستخرج اللئالي وغيرها. قوله تعالى: " وآخرين مقرنين في الاصفاد " الاصفاد جمع صفد وهو الغل من الحديد، والمعنى وسخرنا له آخرين منهم مجموعين في الاغلال مشدودين بالسلاسل. قوله تعالى: " هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب " أي هذا الذي ذكر من الملك عطاؤنا لك بغير حساب والظاهر أن المراد بكونه بغير حساب أنه لا ينفد بالعطاء والمن ولذا قيل: " فامنن أو أمسك " أي أنهما يستويان في عدم التأثير فيه. وقيل: المراد بغير حساب أنك لا تحاسب عليه يوم القيامة، وقيل: المراد أن إعطاءه تفضل لا مجازاة وقيل غير ذلك. قوله تعالى: " وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " تقدم معناه.

[ 206 ]

(بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: " فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي " الاية قيل: إن هذه الخيل كانت شغلته عن صلاة العصر حتى فات وقتها عن علي عليه السلام وفي رواية أصحابنا أنه فاته أول الوقت. وفيه قال ابن عباس: سألت عليا عن هذه الاية فقال: ما بلغك فيها يابن عباس ؟ قلت: سمعت كعبا يقول: اشتغل سليمان بعرض الافراس حتى فاتته الصلاة فقال: ردوها علي يعني الافراس وكانت أربعة عشر فأمر بضرب سوقها وأعناقها بالسيف فقتلها فسلبه الله ملكه أربعة عشر يوما لانه ظلم الخيل بقتلها. فقال علي: كذب كعب لكن اشتغل سليمان بعرض الافراس ذات يوم لانه أراد جهاد العدو حتى توارت الشمس بالحجاب فقال بأمر الله للملائكة الموكلين بالشمس: ردوها علي فردت فصلى العصر في وقتها وإن أنبياء الله لا يظلمون ولا يأمرون بالظلم لانهم معصومون مطهرون. اقول: وقول كعب الاحبار: فسلبه الله ملكه إشارة إلى حديث الخاتم الذي سنشير إليه. وفي الفقيه روي عن الصادق عليه السلام أنه قال: إن سليمان بن داود عرض عليه ذات يوم بالعشي الخيل فاشتغل بالنظر إليها حتى توارت الشمس بالحجاب فقال للملائكة: ردوا الشمس علي حتى أصلي صلاتي في وقتها فردوها فقام ومسح ساقيه وعنقه بمثل ذلك وكان ذلك وضوءهم للصلاة ثم قام فصلى فلما فرغ غابت الشمس وطلعت النجوم، وذلك قول الله عز وجل: " ووهبنا لداود سليمان - إلى قوله - مسحا بالسوق والاعناق ". اقول: والرواية لا بأس بها لو ساعد لفظ الاية أعني قوله: " فطفق مسحا بالسوق والاعناق " على ما فيها من المعنى، وأما مسألة رد الشمس فلا إشكال فيه بعد ثبوت إعجاز الانبياء، وقد ورد ردها لغيره عليه السلام كيوشع بن نون وعلي بن أبي طالب عليه السلام في النقل المعتبر ولا يعبؤ بما أورده الرازي في تفسيره الكبير. وأما عقره عليه السلام الخيل وضربه أعناقها بالسيف فقد روي في ذلك عدة روايات

[ 207 ]

من طرق أهل السنة وأورده القمي في تفسيره وكأنها تنتهي إلى كعب كما مر في رواية ابن عباس المتقدمة وكيف كان فلا يعبؤ بها كما تقدم. وقد بلغ من إغراقهم في القصة أن رووا أن الخيل كانت عشرين ألف فرس ذات أجنحة ومثله ما روي في قوله: حتى توارت بالحجاب عن كعب أنه حجاب من ياقوتة خضراء محيط بالخلائق منه اخضرت السماء. ومثل هذه الروايات أعاجيب من القصص رووها في قوله تعالى: " وألقينا على كرسيه جسدا " الاية كما روي أنه ولد له ولد فأمر بإرضاعه وحفظه في السحاب إشفاقا عليه من مردة الجن وفي بعضها خوفا عليه من ملك الموت فوقع يوما جسده على كرسيه ميتا. وما روي أنه قال يوما: لا طوفن الليلة بمائة امرأة من نسائي تلد لي كل واحدة منهن لي فارسا يجاهد في سبيل الله ولم يستثن فلم تحمل منهن إلا واحدة بشق من ولد وكان يحبه فخبأه له بعض الجن من ملك الموت فأخذه من مخبإه وقبضه على كرسي سليمان. وما روي في روايات كثيرة تنتهي عدة منها إلى ابن عباس وهو يصرح في بعضها أنه أخذه عن كعب أن ملك سليمان كان في خاتمه فتخطفه شيطان منه فزال ملكه وتسلط الشيطان على ملكه أياما ثم أعاد الله الخاتم إليه فعاد إلى ما كان عليه من الملك، وقد أوردوا في القصة أمورا ينبغي أن تنزه ساحة الانبياء عليه السلام عن ذكرها فضلا عن نسبتها إليهم. قالوا: وجلوس الشيطان على كرسي سليمان هو المراد بقوله تعالى: " وألقينا على كرسيه جسدا " الاية. فهذه (1) كلها مما لا يعبؤ بها على ما تقدمت الاشارة إليه وإنما هي مما لعبت بها أيدي الوضع. * * * واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب (1)


ليراجع في الحصول على عامة هذه الروايات الدر المنثور.

[ 208 ]

وعذاب - 41. أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب - 42. ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لاولي الالباب - 43. وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنت إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب - 44. واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولي الايدي والابصار - 45. إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار - 46. وإنهم عندنا لمن المصطفين الاخيار - 47. واذكر إسمعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار - 48. (بيان) القصة الثالثة مما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصبر ويذكرها وهي قصة أيوب النبي عليه السلام وما ابتلي به من المحنة ثم أكرمه الله بالعافية والعطية. ثم الامر بذكر إبراهيم وخمسة من ذريته من الانبياء عليه السلام. قوله تعالى: " واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب " دعاء منه عليه السلام وسؤال للعافية وأن يكشف عنه ربه ما أصابه من سوء الحال، ولم يصرح بما يريده ويسأله تواضعا وتذللا غير أن نداءه تعالى بلفظ ربي يشعر بأنه يناديه لحاجة. والنصب التعب، وقوله: " إذ نادى " الخ بدل اشتمال من " عبدنا " أو " أيوب " وقوله: " أني مسني " الخ حكاية ندائه. والظاهر من الايات التالية أن مراده من النصب والعذاب ما أصابه من سوء الحال في بدنه وأهله وهو الذي ذكره عنه عليه السلام في سورة الانبياء من ندائه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين بناء على شمول الضر مصيبته في نفسه وأهله ولم يشر في هذه السورة ولا في سورة الانبياء إلى ذهاب ماله وإن وقع ذكر المال في الروايات.

[ 209 ]

والظاهر أن المراد من مس الشيطان له بالنصب والعذاب استناد نصبه وعذابه إلى الشيطان بنحو من السببية والتأثير وهو الذي يظهر من الروايات، ولا ينافي استناد المرض ونحوه إلى الشيطان استناده أيضا إلى بعض الاسباب العادية الطبيعية لان السببين ليسا عرضيين متدافعين بل أحدهما في طول الاخر وقد أوضحنا ذلك في تفسير قوله تعالى: " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء " الاعراف: 96 في الجزء الثامن من الكتاب. ولا دليل يدل على امتناع وقوع هذا النوع من التأثير للشيطان في الانسان وقد قال تعالى: " إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان " المائدة: 90 فنسبها أنفسها إليه، وقال حاكيا عن موسى عليه السلام: " هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين " القصص: 15 يشير إلى الاقتتال. ولو أغمض عن الروايات أمكن أن يحتمل أن يكون المراد بانتساب ذلك إلى الشيطان إغراؤه الناس بوسوسته أن يتجنبوا من الاقتراب منه وابتعادهم وطعنهم فيه أن لو كان نبيا لم تحط به البلية من كل جانب ولم يصر إلى ما صار إليه من العاقبة السوآى وشماتتهم واستهزاؤهم به. وقد أنكر في الكشاف ما تقدم من الوجه قائلا: لا يجوز أن يسلط الله الشيطان على أنبيائه عليه السلام ليقضي من تعذيبهم وإتعابهم وطره ولو قدر على ذلك لم يدع صالحا إلا وقد نكبه وأهلكه، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب. انتهى. وفيه أن الذي يخص الانبياء وأهل العصمة أنهم لمكان عصمتهم في أمن من تأثير الشيطان في نفوسهم بالوسوسة، وأما تأثيره في أبدانهم وسائر ما ينسب إليهم بإيذاء أو إتعاب أو نحو ذلك من غير إضلال فلا دليل يدل على امتناعه، وقد حكى الله سبحانه عن فتى موسى وهو يوشع النبي عليه السلام: " فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره " الكهف: 63. ولا يلزم من تسلطه على نبي بالايذاء والاتعاب لمصلحة تقتضيه كظهور صبره في

[ 210 ]

الله سبحانه وأوبته إليه أن يقدر على ما يشاء فيمن يشاء من عباد الله تعالى إلا أن يشاء الله ذلك وهو ظاهر. قوله تعالى: " اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب " وقوع الاية عقيب ندائه ومسألته يعطي أنه إيذان باستجابة دعائه وأن قوله تعالى: " اركض برجلك " الخ حكاية لما اوحي إليه عند الكشف عن الاستجابة أو هو بإضمار القول والتقدير فاستجبنا له وقلنا: اركض " الخ " وسياق الامر مشعر بل كاشف عن أنه كان لا يقدر على القيام والمشي بقدميه وكان مصابا في سائر بدنه فأبرء الله ما في رجليه من ضر وأظهر له عينا هناك وأمره أن يغتسل منها ويشرب حتى يبرء ظاهر بدنه وباطنه ويتأيد بذلك ما سيأتي من الرواية. وفي الكلام إيجاز بالحذف والتقدير فركض برجله واغتسل وشرب فبرأه الله من مرضه. قوله تعالى: " ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لاولي الالباب " ورد في الرواية أنه ابتلي فيما ابتلي بموت جميع أهله إلا امرأته وأن الله أحياهم له ووهبهم له ومثلهم معهم، وقيل: إنهم كانوا قد تفرقوا عنه أيام ابتلائه فجمعهم الله إليه بعد برئه وتناسلوا فكانوا مثلي ما كانوا عددا. وقوله: " رحمة منا وذكرى لاولي الالباب " مفعول له أي فعلنا به ما فعلنا ليكون رحمة منا وذكرى لاولي الالباب يتذكرون به. قوله تعالى: " وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب " في المجمع: الضغث مل ء الكف من الشجرة والحشيش والشماريخ ونحو ذلك انتهى، وكان عليه السلام قد حلف لئن عوفي أن يجلد امرأته مائة جلدة لامر أنكره عليها على ما سيأتي من الرواية فلما عافاه الله تعالى أمره أن يأخذ بيده ضغثا بعدد ما حلف عليه من الجلدات فيضربها به ولا يحنث. وفي سياق الاية تلويح إلى ذلك وإنما طوي ذكر المرءة وسبب الحلف تأدبا ورعاية لجانبه. وقوله: " إنا وجدناه صابرا " أي فيما ابتليناه به من المرض وذهاب الاهل والمال،

[ 211 ]

والجملة تعليل لقوله: " واذكر " أو لقوله: " عبدنا " أي لتسميته عبدا وإضافته إليه تعالى، والاول أولى. وقوله: " نعم العبد إنه أواب " مدح له عليه السلام. قوله تعالى: " واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب اولي الايدي والابصار " مدحهم بتوصيفهم بأن لهم الايدي والابصار ويد الانسان وبصره إنما يمدحان إذا كانا يد إنسان وبصر إنسان واستعملا فيما خلقا له وخدما الانسان في إنسانيته فتكتسب اليد صالح العمل ويجري منها الخير على الخلق ويميز البصر طرق العافية والسلامة من موارد الهلكة ويصيب الحق ولا يلتبس عليه الباطل. فيكون كونهم اولي الايدي والابصار كناية عن قوتهم في الطاعة وإيصال الخير وتبصرهم في إصابة الحق في الاعتقاد والعمل وقد جمع المعنيين في قوله تعالى: " ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين " الانبياء: 73 فجعلهم أئمة والامر والوحي لابصارهم وفعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة لايديهم (1) وإليه يؤل ما في الرواية من تفسير ذلك باولي القوة في العبادة والبصر فيها. قوله تعالى: " إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار " الخالصة وصف قائم مقام موصوفه، والباء للسببية والتقدير بسبب خصلة خالصة، وذكرى الدار بيان للخصلة والدار هي الدار الاخرة. والاية أعني قوله: " إنا أخلصناهم " الخ لتعليل ما في الاية السابقة من قوله: " أولي الايدي والابصار " أو لقوله: " عبادنا " أو لقوله: " واذكر " وأوجه الوجوه أولها، وذلك لان استغراق الانسان في ذكرى الدار الاخرة وجوار رب العالمين وركوز همه فيها يلازم كمال معرفته في جنب الله تعالى وإصابة نظره في حق الاعتقاد والتبصر في سلوك سبيل العبودية والتخلص عن الجمود على ظاهر الحياة الدنيا وزينتها كما هو شأن أبنائها قال تعالى: " فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا (1)


رواها القمي في تفسيره عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام.

[ 212 ]

ذلك مبلغهم من العلم " النجم: 30. ومعنى الاية وإنما كانوا اولي الايدي والابصار لانا أخلصناهم بخصلة خالصة غير مشوبة عظيمة الشأن هي ذكرى الدار الاخرة. وقيل: المراد بالدار هي الدنيا والمراد بالاية بقاء ذكرهم الجميل في الالسن ما دامت الدنيا كما قال تعالى: " ووهبنا له إسحاق ويعقوب - إلى أن قال - وجعلنا لهم لسان ذكر عليا " مريم: 50 والوجه السابق أوجه. قوله تعالى: " وإنهم عندنا لمن المصطفين الاخيار " تقدم أن الاصطفاء يلازم الاسلام التام لله سبحانه، وفي الاية إشارة إلى قوله تعالى: " إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين " آل عمران: 33. والاخيار جمع خير مقابل الشر على ما قيل، وقيل: جمع خير بالتشديد أو التخفيف كأموات جمع ميت بالتشديد أو بالتخفيف. قوله تعالى: " واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار " معناه ظاهر. (كلام في قصة أيوب عليه السلام في فصول) 1 - قصته في القرآن: لم يذكر من قصته في القرآن إلا ابتلاؤه بالضر في نفسه وأولاده ثم تفريجه تعالى بمعافاته وإيتائه أهله ومثلهم معهم رحمة منه وذكرى للعابدين " الانبياء: 83 - 84. ص: 41 - 44 ". 2 - جميل ثنانه: ذكره تعالى في زمرة الانبياء من ذرية إبراهم عليهم السلام في سورة الانعام وأثنى عليهم بكل ثناء جميل " الانعام: 84 - 90 " وذكره في سورة ص فعده صابرا ونعم العبد وأوابا " ص: 44 ". 3 - قصته في الروايات: في تفسير القمي حدثني أبي عن ابن فضال عن عبد الله ابن بحر عن أبن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن بلية أيوب التي ابتلي بها في الدنيا لاي علة كانت ؟ قال: لنعمة أنعم الله عز وجل عليه بها في الدنيا وأدى شكرها وكان في ذلك الزمان لا يحجب إبليس دون العرش فلما صعد ورآى

[ 213 ]

شكر نعمة أيوب حسده إبليس. فقال: يا رب إن أيوب لم يؤد إليك شكر هذه النعمة إلا بما أعطيته من الدنيا ولو حرمته دنياه ما أدى إليك شكر نعمة أبدا فسلطني على دنياه حتى تعلم أنه لم يؤد إليه شكر نعمة أبدا فقيل له: قد سلطتك على ما له وولده. قال: فانحدر إبليس فلم يبق له مالا ولا ولدا إلا أعطبه فازداد أيوب لله شكرا وحمدا، وقال: فسلطني على زرعه يا رب. قال: قد فعلت فجاء مع شياطينه فنفخ فيه فاحترق فازداد أيوب لله شكرا وحمدا فقال: يا رب سلطني على غنمه فأهلكها فازداد أيوب لله شكرا وحمدا. فقال: يا رب سلطني على بدنه فسلطه على بدنه ما خلا عقله وعينيه فنفخ فيه إبليس فصار قرحة واحدة من قرنه إلى قدمه فبقي في ذلك دهرا طويلا يحمد الله ويشكره حتى وقع في بدنه الدود فكانت تخرج من بدنه فيردها فيقول لها: ارجعي إلى موضعك الذي خلقك الله منه، ونتن حتى أخرجه أهل القرية من القرية وألقوه في المزبلة خارج القرية. وكانت امرأته رحمة بنت أفراييم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام وعليها يتصدق من الناس وتأتيه بما تجده. قال: فلما طال عليه البلاء ورآى إبليس صبره أتى أصحابا لايوب كانوا رهبانا في الجبال وقال لهم: مروا بنا إلى هذا العبد المبتلى فنسأله عن بليته فركبوا بغالا شهبا وجاؤوا فلما دنوا منه نفرت بغالهم من نتن ريحه فنظر بعضهم إلى بعض ثم مشوا إليه وكان فيهم شاب حدث السن فقعدوا إليه فقالوا: يا أيوب لو أخبرتنا بذنبك لعل الله يهلكنا إذا سألناه، وما نرى ابتلاءك بهذا البلاء الذي لم يبتل به أحد إلا من أمر كنت تستره. فقال أيوب: وعزة ربي إنه ليعلم أني ما أكلت طعاما إلا ويتيم أو ضعيف يأكل معي، وما عرض لي أمر ان كلاهما طاعة الله إلا أخذت بأشدهما على بدني. فقال الشاب: سوءة لكم عيرتم نبي الله حتى أظهر من عبادة ربه ما كان يسترها. فقال أيوب: يا رب لو جلست مجلس الحكم منك لادليت بحجتي فبعث الله إليه

[ 214 ]

غمامة فقال: يا أيوب أدل بحجتك فقد أقعدتك مقعد الحكم وها أنا ذا قريب ولم أزل. فقال: يا رب إنك لتعلم أنه لم يعرض لي أمران قط كلاهما لك طاعة إلا أخذت بأشدهما على نفسي. ألم أحمدك ؟ ألم أشكرك ؟ ألم أسبحك ؟ قال: فنودي من الغمامة بعشرة آلاف لسان: يا أيوب من صيرك تعبد الله والناس عنه غافلون ؟ وتحمده وتسبحه وتكبره والناس عنه غافلون ؟ أتمن على الله بما لله فيه المنة عليك ؟ قال: فأخذ التراب ووضعه في فيه ثم قال: لك العتبى يا رب أنت فعلت ذلك بي. فأنزل الله عليه ملكا فركض برجله فخرج الماء فغسله بذلك الماء فعاد أحسن ما كان وأطرأ، وأنبت الله عليه روضة خضراء، ورد عليه أهله وماله وولده وزرعه وقعد معه الملك يحدثه ويؤنسه. فأقبلت امرأته معها الكسرة (1) فلما انتهت إلى الموضع إذا الموضع متغير وإذا رجلان جالسان فبكت وصاحت وقالت: يا أيوب ما دهاك ؟ فناداها أيوب فأقبلت فلما رأته وقد رد الله عليه بدنه ونعمه سجدت لله شكرا. فرآى ذؤابتها مقطوعة وذلك أنها سألت قوما أن يعطوها ما تحمله إلى أيوب من الطعام وكانت حسنة الذوائب فقالوا لها: تبيعينا ذؤابتك هذه حتى نعطيك ؟ فقطعتها ودفعتها إليهم وأخذت منهم طعاما لايوب، فلما رآها مقطوعة الشعر غضب وحلف عليها أن يضربها مائة فأخبرته أنه كان سببه كيت وكيت. فاغتم أيوب من ذلك فأوحى الله عز وجل إليه " خذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث " فأخذ عذقا مشتملا على مائة شمراخ فضربها ضربة واحدة فخرج من يمينه. أقول: وروي عن ابن عباس ما يقرب منه، وعن وهب أن امرأته كانت بنت ميشا بن يوسف، والرواية - كما ترى - تذكر ابتلاءه بما تتنفر عنه الطباع وهناك من الروايات ما يؤيد ذلك لكن بعض الاخبار المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ينفي ذلك وينكره أشد الانكار كما يأتي. وعن الخصال: القطان عن السكري عن الجوهري عن ابن عمارة عن أبيه عن (1)


الكسرة القطعة من الخبز.

[ 215 ]

جعفر بن محمد عن أبيه عليهم السلام قال: إن أيوب عليه السلام ابتلي سبع سنين من غير ذنب وإن الانبياء لا يذنبون لانهم معصومون مطهرون لا يذنبون ولا يزيغون ولا يرتكبون ذنبا صغيرا ولا كبيرا. وقال: إن أيوب من جميع ما ابتلي به لم تنتن له رائحة، ولا قبحت له صورة ولا خرجت منه مدة من دم ولا قيح، ولا استقذره أحد رآه، ولا استوحش منه أحد شاهده، ولا تدود شئ من جسده وهكذا يصنع الله عز وجل بجميع من يبتليه من أنبيائه وأوليائه المكرمين عليه. وإنما اجتنبه الناس لفقره وضعفه في ظاهر أمره لجهلهم بما له عند ربه تعالى ذكره من التأييد والفرج، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أعظم الناس بلاء الانبياء ثم الامثل فالامثل. وإنما ابتلاه الله بالبلاء العظيم الذي يهون معه على جميع الناس لئلا يدعوا له الربوبية إذا شاهدوا ما أراد الله أن يوصله إليه من عظائم نعمه متى شاهدوه، وليستدلوا بذلك على أن الثواب من الله على ضربين: استحقاق واختصاص، ولئلا يحتقروا ضعيفا لضعفه ولا فقيرا لفقره ولا مريضا لمرضه، وليعلموا أنه يسقم من يشاء، ويشفي من يشاء متى شاء كيف شاء بأي سبب شاء، ويجعل ذلك عبرة لمن شاء، وشقاوة لمن شاء، وسعادة لمن شاء، وهو عز وجل في جميع ذلك عدل في قضائه وحكيم في أفعاله لا يفعل بعباده إلا الاصلح لهم ولا قوة لهم إلا به. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " ووهبنا له أهله ومثلهم معهم " الاية قال: فرد الله عليه أهله الذين ماتوا قبل البلاء، ورد عليه أهله الذين ماتوا بعد ما أصابهم البلاء كلهم أحياهم الله له فعاشوا معه. وسئل أيوب بعد ما عافاه الله: أي شئ كان أشد عليك مما مر ؟ فقال: شماتة الاعداء. وفي المجمع في قوله تعالى: " أني مسني الشيطان " الاية قيل: إنه اشتد مرضه حتى تجنبه الناس فوسوس الشيطان إلى الناس أن يستقذروه ويخرجوه من بينهم ولا يتركوا امرأته التي تخدمه أن تدخل عليهم فكان أيوب يتأذى بذلك ويتألم به ولم يشك

[ 216 ]

الالم الذي كان من أمر الله سبحانه. قال قتادة: دام ذلك سبع سنين وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. (خبر اليسع وذي الكفل " ع ") ذكر سبحانه اسمهما في كلامه وعدهما من الانبياء وأثنى عليهما وعدهما من الاخيار " ص: 48 " وعد ذا الكفل من الصابرين " الانبياء: 85 " ولهما ذكر في الاخبار. ففي البحار عن الاحتجاج والتوحيد والعيون في خبر طويل رواه الحسن بن محمد النوفلي عن الرضا عليه السلام فيما احتج به على جاثليق النصارى أن قال عليه السلام أن اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى عليه السلام مشى على الماء وأحيى الموتى وأبرء الاكمه والابرص فلم يتخذه امته ربا، الخبر. وعن قصص الانبياء: الصدوق عن الدقاق عن الاسدي عن سهل عن عبد العظيم الحسني قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني أسأله عن ذي الكفل ما اسمه ؟ وهل كان من المرسلين ؟ فكتب عليه السلام بعث الله جل ذكره مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي. مرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، وإن ذا الكفل منهم، وكان بعد سليمان بن داود، وكان يقضي بين الناس كما كان يقضي داود، ولم يغضب إلا لله عز وجل وكان اسمه عويديا وهو الذي ذكره الله جلت عظمته في كتابه حيث قال: " واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار ". اقول: وهناك روايات متفرقة اخر في قصصهما عليهما السلام تركنا إيرادها لضعفها وعدم الاعتماد عليها. * * * هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب - 49. جنات عدن مفتحة

[ 217 ]

لهم الابواب - 50. متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب - 51. وعندهم قاصرات الطرف أتراب - 52. هذا ما توعدون ليوم الحساب - 53. إن هذا لرزقنا ماله من نفاد - 54. هذا وإن للطاغين لشر مآب - 55. جهنم يصلونها فبئس المهاد - 56. هذا فليذوقوه حميم وغساق - 57. وآخر من شكله أزواج - 58. هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار - 59. قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار - 60. قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار - 61. وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الاشرار - 62. أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الابصار - 63. إن ذلك لحق تخاصم أهل النار - 64. (بيان) فصل آخر من الكلام يبين فيه مآل أمر المتقين والطاغين تبشيرا وإنذارا. قوله تعالى: " هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب " الاشارة بهذا إلى ما ذكر من قصص الاوابين من الانبياء الكرام عليهما السلام، والمراد بالذكر الشرف والثناء الجميل أي هذا الذي ذكر شرف وذكر جميل وثناء حسن لهم يذكرون به في الدنيا أبدا ولهم حسن مآب من ثواب الاخرة. كذا قالوا.

[ 218 ]

وعلى هذا فالمراد بالمتقين هم المذكورون من الانبياء بالخصوص أو عموم أهل التقوى وهم داخلون فيهم ويكون ذكر مآب الطاغين بعد من باب الاستطراد. والظاهر أن الاشارة بهذا إلى القرآن والمراد بالذكر ما يشتمل عليه من الذكر وفي الكلام عود إلى ما بدئ به في السورة من قوله " والقرآن ذي الذكر " فهو فصل من الكلام يذكر فيه الله سبحانه ما في الدار الاخرة من ثواب المتقين وعقاب الطاغين. وقوله: " وإن للمتقين لحسن مآب " المآب المرجع والتنكير للتفخيم، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " جنات عدن مفتحة لهم الابواب " أي جنات استقرار وخلود وكون الابواب مفتحة لهم كناية عن أنهم غير ممنوعين عن شئ من النعم الموجودة فيها فهي مهيأة لهم مخلوقة لاجلهم، وقيل: المراد أن أبوابها مفتحة لهم لا تحتاج إلى الوقوف وراءها ودقها، وقيل: المراد أنها تفتح بغير مفتاح وتغلق بغير مغلاق. والاية وما بعدها بيان لحسن مآبهم. قوله تعالى: " متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب " أي حالكونهم جالسين فيها بنحو الاتكاء والاستناد جلسة الاعزة والاشراف. وقوله: " يدعون فيها بفاكهة " الخ أي يتحكمون فيها بدعوة الفاكهة وهي كثيرة والشراب فإذا دعيت فاكهة أو دعي شراب أجابهم المدعو فأتاهم من غير حاجة إلى من يحمله ويناوله. قوله تعالى: " وعندهم قاصرات الطرف أتراب " الضمير للمتقين وقاصرات الطرف صفة قائمة مقام الموصوف والتقدير وعندهم أزواج قاصرات الطرف والمراد قصور طرفهن على أزواجهن يرضين بهم ولا يرون غيرهم أو هو كناية عن كونهن ذوات غنج ودلال. والاتراب الاقران أي إنهن أمثال لا يختلفن سنا أو جمالا أو إنهن أمثال لازواجهن فكلما زادوا نورا وبهاء زدن حسنا وجمالا. قوله تعالى: " هذا ما توعدون ليوم الحساب " الاشارة إلى ما ذكر من الجنة ونعيمها، والخطاب للمتقين ففي الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب والنكتة فيه

[ 219 ]

إظهار القرب منهم والاشراف عليهم ليكمل نعمهم الصورية بهذه النعمة المعنوية. قوله تعالى: " إن هذا لرزقنا ما له من نفاد " النفاد الفناء والانقطاع، والاية من تمام الخطاب الذي في الاية السابقة على ما يعطيه السياق. قوله تعالى: " هذا وإن للطاغين لشر مآب " الاشارة بهذا إلى ما ذكر من مقام المتقين أي هذا ما للمتقين من المآب، ويمكن أن يكون هذا اسم فعل أي خذ هذا. والباقي ظاهر. قوله تعالى: " جهنم يصلونها فبئس المهاد " الصلي دخول النار ومقاساة حرارتها أو اتباعها والمهاد - على ما في المجمع - الفراش الموطأ يقال: مهدت له تمهيدا مثل وطأت له توطئة، والاية وما بعدها تفسير لمآب الطاغين. قوله تعالى: " هذا فليذوقوه حميم وغساق " الحميم الحار الشديد الحرارة والغساق - على ما في المجمع - قيح شديد النتن، وفسر بتفاسير أخر، وقوله: " حميم وغساق " بيان لهذا، وقوله: " فليذوقوه " دال على إكراههم وحملهم على ذوقه وتقديم المخبر عنه وجعله اسم إشارة يؤكد ذلك، والمعنى هذا حميم وغساق عليهم أن يذوقوه ليس إلا. قوله تعالى: " وآخر من شكله أزواج " شكل الشئ ما يشابهه وجنسه والازواج الانواع والاقسام أي وهذا آخر من جنس الحميم والغساق أنواع مختلفة ليذوقوها. قوله تعالى: " هذا فوج مقتحم معكم - إلى قوله - في النار " الايات الثلاث - على ما يعطيه السياق - حكاية ما يجري بين التابعين والمتبوعين من الطاغين في النار من التخاصم والمجاراة. فقوله: " هذا فوج مقتحم معكم " خطاب يخاطب به المتبوعون يشار به إلى التابعين الذين يدخلون النار مع المتبوعين فوجا، و الاقتحام الدخول في الشئ بشدة وصعوبة. وقوله: " لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار " جواب المتبوعين لمن يخاطبهم بقوله: " هذا فوج " ومرحبا تحية للوارد معناه عرض رحب الدار وسعتها له فقولهم: " لا مرحبا بهم " معناه نفي الرحب والسعة عنهم. وقولهم: " إنهم صالوا النار " أي داخلوها ومقاسوا حرارتها أو متبعوها تعليل لتحيتهم بنفي التحية.

[ 220 ]

وقوله: " قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار " نقل كلام التابعين وهم القائلون يردون إلى متبوعيهم نفي التحية ويذمون القرار في النار. قوله تعالى: " قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار " لم يذكر تعالى جواب المتبوعين لقولهم: " أنتم قدمتموه لنا " الخ وقد ذكره في سورة الصافات فيما حكى من تساؤلهم بقوله: " قالوا بل لم تكونوا مؤمنين وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين " الخ الاية 30 فقولهم: ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار " كلامهم بعد الانقطاع عن المخاصمة. وجملة " من قدم " الخ شرط وجزاء، والضعف المثل و " عذابا ضعفا " أي ذا ضعف ومثل أي ضعفين من العذاب. قوله تعالى: " وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الاشرار " القائلون - على ما يعطيه السياق - مطلق أهل النار، ومرادهم بالرجال الذين كانوا يعدونهم من الاشرار المؤمنون وهم في الجنة فيطلبهم أهل النار فلا يجدونهم فيها. قوله تعالى: " أتخذنا هم سخريا أم زاغت عنهم الابصار " أي أتخذناهم سخريا في الدنيا فأخطأنا وقد كانوا ناجين أم عدلت أبصارنا فلا نراهم وهم معنا في النار. قوله تعالى: " إن ذلك لحق تخاصم أهل النار " إشارة إلى ما حكي من تخاصمهم وبيان أن تخاصم أهل النار ثابت واقع لا ريب فيه وهو ظهور ما استقر في نفوسهم في الدنيا من ملكة التنازع والتشاجر. * * * قل إنما أنا منذر وما من إله إلا ألله الواحد القهار - 65. رب السموات والارض وما بينهما العزيز الغفار - 66. قل هو نبؤا عظيم - 67. أنتم عنه معرضون - 68. ما كان لي من علم بالملا الاعلى إذ يختصمون - 69. إن يوحى إلي إلا أنما أنا

[ 221 ]

نذير مبين - 70. إذ قال ربك للملئكة إني خالق بشرا من طين - 71. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين - 72. فسجد الملئكة كلهم أجمعون - 73. إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين - 74. قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين - 75. قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين - 76. قال فاخرج منها فإنك رجيم - 77. وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين - 78. قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون - 79. قال فإنك من المنظرين - 80. إلى يوم الوقت المعلوم - 81. قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين - 82. إلا عبادك منهم المخلصين - 83. قال فالحق والحق أقول - 84. لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين - 85. قل ما أسئلكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين - 86. إن هو إلا ذكر للعالمين - 87. ولتعلمن نبأه بعد حين - 88. (بيان) الفصل الاخير من فصول السورة المشتمل على أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإبلاغ نذارته ودعوته إلى التوحيد. وأن الاعراض عن الحق واتباع الشيطان ينتهي بالانسان إلى

[ 222 ]

عذاب النار المقضي في حقه وحق أتباعه وعند ذلك تختتم السورة. قوله تعالى: " قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار - إلى قوله - العزيز الغفار " في الايتين أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإبلاغ أنه منذر وأن الله تعالى واحد في الالوهية فقوله: " إنما أنا منذر " يفيد قصره في كونه منذرا ونفي سائر الاغراض التي ربما تتلبس به الدعوة بين الناس من طلب مال أو جاه كما يشير إليه ما في آخر الايات من قوله: " قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ". وقوله: " وما من إله إلا الله " إلى آخر الايتين إبلاغ لتوحيده تعالى بحجة يدل عليها ما اورد من صفاته المدلول عليها بأسمائه. فقوله: " وما من إله إلا الله " نفي لكل إله - والاله هو المعبود بالحق - غيره تعالى وأما ثبوت ألوهيته تعالى فهو مسلم بانتفاء الوهية غيره إذ لا نزاع بين الاسلام والشرك في أصل ثبوت الاله وإنما النزاع في أن الاله وهو المعبود بالحق هو الله تعالى أو غيره. على أن ما ذكر في الايتين من الصفات متضمن لاثبات الوهيته كما أنها حجة على انتفاء الوهية غيره تعالى. وقوله: " الواحد القهار " يدل على توحده تعالى في وجوده وقهره كل شئ وذلك أنه تعالى واحد لا يماثله شئ في وجوده ولا تناهي كماله الذي هو عين وجوده الواجب فهو الغني بذاته وعلى الاطلاق وغيره من شئ فقير يحتاج إليه من كل جهة ليس له من الوجود وآثار الوجود إلا ما أنعم وأفاض فهو سبحانه القاهر لكل شئ على ما يريد وكل شئ مطيع له فيما أراد خاضع له فيما شاء. وهذا الخضوع الذاتي هو حقيقة العبادة فلو جاز أن يعبد شئ في الوجود عملا بأن يؤتى بعمل يمثل به العبودية والخضوع فهي عبادته سبحانه إذ كل شئ مفروض دونه فهو مقهور خاضع له لا يملك لنفسه ولا لغيره شئ ولا يستقل من الوجود وآثار الوجود بشئ فهو سبحانه الاله المعبود بالحق لا غير. وقوله: " رب السماوات والارض وما بينهما " يفيد حجة اخرى على توحده تعالى في الالوهية وذلك أن نظام التدبير الجاري في العالم برمته نظام واحد متصل غير متبعض ولا متجز وهو آية وحدة المدبر، وقد تقدم كرارا أن الخلق والتدبير لا ينفكان

[ 223 ]

فالتدبير خلق بوجه كما أن الخلق تدبير بوجه، والخالق الموجد للسماوات والارض وما بينهما هو الله سبحانه - حتى عند الخصم - فهو تعالى ربها المدبر لها جميعا فهو وحده الاله الذي يجب أن يقصد بالعبادة لان العبادة تمثيل عبودية العابد ومملو كيته تجاه مولوية المعبود ومالكيته وتصرفه في المعبود بإفاضة النعمة ودفع النقمة فهو سبحانه الاله في السماوات والارض وما بينهما لا إله غيره. فافهم ذلك. ويمكن أن يكون قوله: " رب السماوات والارض وما بينهما " بيانا لقوله " القهار " أو " الواحد القهار ". وقوله: " العزيز الغفار " يفيد حجة اخرى على توحده تعالى في الالوهية وذلك أنه تعالى عزيز لا يغلبه شئ بإكراهه على ما لم يرد أو بمنعه عما أراد فهو العزيز على الاطلاق وغيره من شئ ذليل عنده قانت له والعبادة إظهار للمذلة ولا يستقيم إلا قبال العزة ولا عزة لغيره تعالى إلا به. وأيضا غاية العبادة وهي تمثيل العبودية التقرب إلى المعبود ورفع وصمة البعد عن العبد العابد وهو مغفرة الذنب والله سبحانه هو المستقل بالرحمة التي لا تنفد خزائنها وهو الذي يورد عباده العابدين له في الاخرة دار كرامته فهو الغفار الذي يجب أن يعبد طمعا في مغفرته. ويمكن أن يكون قوله: " العزيز الغفار " تلويحا إلى وجه الدعوة إلى التوحيد أو وجوب الايمان به المفهوم بحسب المقام من قوله: " وما من إله إلا الله الواحد القهار " والمعنى أدعوكم إلى توحيده فآمنوا به لانه العزيز الذي لا يشوبه ذلة الغفار للذنوب وهكذا يجب أن يكون الاله. قوله تعالى: " قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون " مرجع الضمير ما ذكره من حديث الوحدانية في قوله: " وما من إله إلا الله " الخ. وقيل: الضمير للقرآن فهو النبأ العظيم الذي أعرضوا عنه، وهو أوفق لسياق الايات السابقة المرتبطة بأمر القرآن، وأوفق أيضا لقوله الاتي: " ما كان لي من علم بالملا الاعلى إذ يختصمون " أي حتى أخبرني به القرآن، وقيل: المراد به يوم القيامة وهو أبعد الوجوه.

[ 224 ]

قوله تعالى: " ما كان لي من علم بالملا الاعلى إذ يختصمون " الملا الاعلى جماعة الملائكة وكأن المراد باختصامهم ما أشار تعالى إليه بقوله: إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة " إلى آخر الايات. وكأن المعنى إني ما كنت أعلم اختصام الملا الاعلى حتى أوحى الله إلي ذلك في كتابه فإنما أنا منذر أتبع الوحي. قوله تعالى: " إن يوحى إلي إلا انما أنا نذير مبين " تأكيد لقوله: " إنما أنا منذر " وبمنزلة التعليل لقوله: " ما كان لي من علم بالملا الاعلى " والمعنى لم أكن أعلم ذلك لان علمي ليس من قبل نفسي وإنما هو بالوحي وليس يوحى إلي إلا ما يتعلق بالانذار. قوله تعالى: " إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين " الذي يعطيه السياق أن الاية وما بعدها ليست تتمة لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " إنما أنا منذر " الخ والشاهد عليه قوله: " ربك " فهو من كلامه تعالى يشير إلى زمان اختصام الملا الاعلى والظرف متعلق بما تعلق به قوله: " إذ يختصمون " أو متعلق بمحذوف والتقدير " اذكر إذ قال ربك للملائكة " الخ فإن قوله تعالى للملائكة: " إني جاعل في الارض خليفة " وقوله لهم: " إني خالق بشرا من طين " متقارنان وقعا في ظرف واحد. وعلى هذا يؤل معنى قوله: " إذ قال ربك " الخ إلى نحو من قولنا: اذكر وقتئذ قال ربك كذا وكذا فهو وقت اختصامهم. وجعل بعضهم قوله: " إذ قال ربك " الخ مفسرا لقوله: " إذ يختصمون " ثم أخذ الاختصام بعد تفسيره بالتقاول مجموع قوله تعالى للملائكة " إني جاعل في الارض خليفة " وقولهم: " أتجعل " الخ، وقوله لادم وقول آدم لهم، وقوله تعالى لهم: إني خالق بشرا " وقول إبليس وقوله تعالى له. وقال على تقدير كون الاختصام بمعنى المخاصمة ودلالة قومه: " إذ يختصمون " على كون المخاصمة بين الملائكة أنفسهم لا بينهم وبين الله سبحانه إن إخباره تعالى لهم بقوله: " إني جاعل في الارض خليفة " " إني خالق بشرا " كان بتوسط ملك من الملائكة وكذا قوله لادم ولابليس فيكون قولهم لربهم: " أتجعل فيها من يفسد فيها " الخ وغيره قولا منهم للملك المتوسط ويقع الاختصام فيما بينهم أنفسهم.

[ 225 ]

وأنت خبير بأن شيئا مما ذكره لا يستفاد من سياق الايات. وقوله: " إني خالق بشرا من طين " البشر الانسان، قال الراغب: البشر ظاهر الجلد والادمة باطنه. كذا قال عامة الادباء، قال: وعبر عن الانسان بالبشر اعتبارا بظهور جلده من الشعر بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف أو الوبر، واستوى في لفظ البشر الواحد والجمع وثني فقال تعالى: " أنؤمن لبشرين " وخص في القرآن كل موضع اعتبر من الانسان جثته وظاهره بلفظ البشر. انتهى. وقد عد في الاية مبدء خلق الانسان الطين، وفي سورة الروم التراب وفي سورة الحجر صلصال من حماء مسنون، وفي سورة الرحمان صلصال كالفخار ولا ضير فإنها أحوال مختلفة لمادته الاصلية التي منها خلق وقد أشير في كل موضع إلى واحدة منها. قوله تعالى: " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " تسوية الانسان تعديل أعضائه بتركيب بعضها على بعض وتتميمها صورة إنسان تام، ونفخ الروح فيه جعله ذا نفس حية إنسانية وإضافة الروح إليه تعالى تشريفية وقوله: " فقعوا " أمر من الوقوع وهو متفرع على التسوية والنفخ. قوله تعالى: " فسجد الملائكة كلهم أجمعون " ظاهر الدلالة على سجود الملائكة له من غير استثناء. قوله تعالى: " إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين " أي استكبر إبليس فلم يسجد له وكان قبل ذلك من الكافرين كما حكى سبحانه عنه في سورة الحجر قوله: " لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون " الحجر: 33. قوله تعالى: " قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين " نسبة خلقه إلى اليد للتشريف بالاختصاص كما قال: " ونفخت فيه من روحي " وتثنية اليد كناية عن الاهتمام التام بخلقه وصنعه فان الانسان إنما يستعمل اليدين فيما يهتم به من العمل فقوله: " خلقت بيدي " كقوله: " مما عملت أيدينا " يس: 71 وقيل: المراد باليد القدرة والتثنية لمجرد التأكيد كقوله: " فارجع البصر كرتين "

[ 226 ]

الملك: 3 وقد وردت به الرواية. وقيل: المراد باليدين نعم الدنيا والاخرة، ويمكن أن يحتمل إرادة مبدئي الجسم والروح أو الصورة والمعنى أو صفتي الجلال والجمال من اليدين لكنها معان لا دليل على شئ منها من اللفظ. وقوله: " استكبرت أم كنت من العالين " استفهام توبيخ أي أكان عدم سجودك لانك استكبرت أم كنت من الذين يعلون أي يعلو قدرهم أن يؤمروا بالسجود، ولذا قال بعضهم بالاستفادة من الاية إن العالين قوم من خلقه تعالى مستغرقون في التوجه إلى ربهم لا يشعرون بغيره تعالى. وقيل: المراد بالعلو الاستكبار كما في قوله تعالى: " وإن فرعون لعال في الارض " يونس: 83 والمعنى استكبرت حين أمرت بالسجدة أم كنت من قبل من المستكبرين ؟ ويدفعه أنه لا يلائم مقتضى المقام فإن مقتضاه تعلق الغرض باستعلام أصل استكباره لا تعيين كون استكباره قديما أو حديثا. وقيل: المراد بالعالين ملائكة السماء فإن المأمورين بالسجود هم ملائكة الارض. ويدفعه ما في الاية من العموم. قوله تعالى: " قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " تعليل عدم سجوده بما يدعيه من شرافة ذاته وأنه لكون خلقه من نار خير من آدم المخلوق من طين، وفيه تلويح أن الامر الالهي إنما يطاع إذا كان حقا لا لذاته، وليس أمره بالسجود له حقا، ويؤل إلى إنكار إطلاق ملكه تعالى وحكمته وهو الاصل الذي ينتهي إليه كل معصية فإن المعصية إنما تقع بالخروج عن حكم عبوديته تعالى ومملو كيته وبالاعراض عن كون تركها أولى من فعلها واقترافها. قوله تعالى: " قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين " الرجم الطرد، ويوم الدين يوم الجزاء. وقوله: " وإن عليك لعنتي " وفي سورة الحجر: " وإن عليك اللعنة " الاية 35 قيل في وجهه: لو كانت اللام للعهد فلا فرق بين التعبيرين، ولو كانت للجنس فكذلك

[ 227 ]

أيضا لان لعن غيره تعالى من الملائكة والناس عليه إنما يكون طردا له حقيقة وإبعادا من الرحمة إذا كان بأمر الله وبإبعاده من رحمته. قوله تعالى: " قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون - إلى قوله - إلى يوم الوقت المعلوم " ظاهر تغير الغاية في السؤال والجواب حيث قال: " إلى يوم يبعثون " فاجيب بقوله: " إلى يوم الوقت المعلوم " أن ما اجيب إليه غير ما سأله فهو لا محالة آخر يوم يعصي فيه الناس ربهم وهو قبل يوم البعث، والظاهر أن المراد باليوم الظرف فتفيد إضافته إلى الوقت التأكيد. قوله تعالى: " قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين " الباء في " فبعزتك " للقسم اقسم بعزته ليغوينهم أجمعين واستثنى منهم المخلصين وهم الذين أخلصهم الله لنفسه فلا نصيب فيهم لابليس ولا لغيره. قوله تعالى: " قال فالحق والحق أقول لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين " جوابه تعالى لابليس وهو يتضمن القضاء عليه وعلى من تبعه بالنار. فقوله: " فالحق " مبتدء محذوف الخبر أو خبر محذوف المبتدء، والفاء لترتيب ما بعده على ما قبله، والمراد بالحق ما يقابل الباطل على ما يؤيده إعادة الحق ثانيا باللام والمراد به ما يقابل الباطل قطعا والتقدير فالحق أقسم به لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم، أو فقولي الحق لاملان " الخ ". وقوله: " والحق أقول " جملة معترضة تشير إلى حتمية القضاء وترد على إبليس ما يلوح إليه قوله: " أنا خير منه " الخ من كون قوله تعالى وهو أمره بالسجود غير حق، وتقديم الحق في " والحق أقول " وتحليته باللام لافادة الحصر. وقوله: " لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين " متن القضاء الذي قضى به وكأن المراد بقوله: " منك " جنس الشياطين حتى يشمل إبليس وذريته وقبيله، وقوله: " وممن تبعك منهم " أي من الناس ذرية آدم. وقد أشبعنا الكلام في نظائر الايات من سورة الحجر وفي القصة من سور البقرة والاعراف والاسراء فعليك بالرجوع إليها.

[ 228 ]

قوله تعالى: " قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين " وجوع إلى ما تقدم في أول السورة وخلال آياتها أن القرآن ذكر وأن ليس النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا منذرا لا غير ورد لما رموه بقولهم " امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشئ يراد ". فقوله: " ما أسألكم عليه من أجر " أي أجرا دنيويا من مال أو جاه، وقوله: " وما أنا من المتكلفين " أي من أهل التكلف وهو التصنع والتحلي بما ليس له. قوله تعالى: " إن هو إلا ذكر للعالمين " أي القرآن ذكر عام للعالمين من جماعات الناس ومختلف الشعوب والامم وغيرهم لا يختص بقوم دون قوم حتى يؤخذ على تلاوته مال وعلى تعليمه أجر بل هو للجميع. قوله تعالى: " ولتعلمن نبأه بعد حين " أي لتعلمن ما أخبر به القرآن من الوعد والوعيد وظهوره على الاديان وغير ذلك بعد حين أي بعد مرور زمان. قيل: المراد بعد حين يوم القيامة، وقيل: يوم الموت، وقيل: يوم بدر، ولا يبعد أن يقال: إن نبأه مختلف لا يختص بيوم من هذه الايام حتى يكون هو المراد بل المراد به المطلق فلكل من أقسام نبائه حينه. (بحث روائي) في تفسير القمي بإسناده عن إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام في حديث يذكر فيه المعراج، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قال تعالى: يا محمد. قلت: لبيك يا رب. قال: فيما اختصم الملا الاعلى ؟ قال: قلت: سبحانك لا علم لي إلا ما علمتني. قال: فوضع يده أي يد القدرة بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي. قال: فلم يسألني عما مضى ولا عما بقي إلا علمته. فقال: يا محمد فيم اختصم الملا الاعلى ؟ قال: قلت: في الكفارات والدرجات والحسنات الحديث. وفي المجمع روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال لي ربي: أتدري فيم يختصم الملا الاعلى ؟ فقلت: لا. قال: اختصموا في الكفارات والدرجات فأما الكفارات فإسباغ الوضوء في السبرات ونقل الاقدام إلى الجماعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة،

[ 229 ]

وأما الدرجات فإفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام. اقول: ورواه في الخصال عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجعل ما فسر به الكفارات تفسيرا للدرجات وبالعكس، وروى في الدر المنثور حديث المجمع بطرق كثيرة عن عدة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على اختلاف ما في الروايات. وكيفما كان فسياق الاية يأبى الانطباق على مضمون هذه الروايات ولا دليل يدل على كون الروايات في مقام تفسير الاية فلعل الاختصام المذكور فيها غير المذكور في الاية. وفي نهج البلاغة الحمد لله الذي لبس العز والكبرياء واختارهما لنفسه دون خلقه، وجعلهما حمى وحرما على غيره، واصطفاهما لجلاله، وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده، ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب: إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس اعترضته الحمية فافتخر على آدم بخلقه وتعصب عليه لاصله. فعدو الله إمام المتعصبين وسلف المستكبرين الذي وضع أساس العصبية، ونازع الله رداء الجبرية، وادرع لباس التعزز، وخلع قناع التذلل ألا ترون كيف صغره الله بتكبره، ووضعه بترفعه فجعله في الدنيا مدحورا، وأعد له في الاخرة سعيرا. الخطبة. وفي العيون بإسناده إلى محمد بن عبيدة قال: سألت الرضا عليه السلام عن قول الله تعالى لابليس: " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " قال: يعني بقدرتي وقوتي. اقول: وروى مثله في التوحيد بإسناده عن محمد بن مسلم عن الصادق عليه السلام. وفي القصة روايات اخر أوردناها في ذيلها من سور البقرة والاعراف والحجر والاسراء فراجع. وعن جوامع الجامع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: للمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، ويتعاطى مالا ينال، ويقول مالا يعلم. اقول: وروى مثله في الخصال عن الصادق عليه السلام عن لقمان في وصيته لابنه،

[ 230 ]

وروى أيضا من طرق أهل السنة، وفي بعض الروايات: ينازل من فوقه. * * * سورة الزمر مكية وهي خمس وسبعون آية بسم الله الرحمن الرحيم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم - 1. إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين - 2. ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه اولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار - 3. لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار - 4. خلق السموات والارض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى ألا هو العزيز الغفار - 5. خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون - 6. إن تكفروا فإن الله غنى عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن

[ 231 ]

تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور - 7. وإذا مس الانسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعوا إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار - 8. أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الاخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الالباب - 9. قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب - 01. (بيان) يظهر من خلال آيات السورة أن المشركين من قومه صلى الله عليه وآله وسلم سألوه أن ينصرف عما هو عليه من التوحيد والدعوة إليه والتعرض لالهتهم وخوفوه بآلهتهم فنزلت السورة - وهي قرينة سورة ص بوجه - وهي تؤكد الامر بأن يخلص دينه لله سبحانه ولا يعبأ بآلهتهم وأن يعلمهم أنه مأمور بالتوحيد وإخلاص الدين الذي تواترت الايات من طريق الوحي والعقل جميعا عليه. ولذلك نراه سبحانه يعطف الكلام عليه في خلال السورة مرة بعد مرة كقوله في مفتتح السورة: " فا عبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص " ثم يرجع إليه ويقول:

[ 232 ]

" قل إني امرت أن أ عبد الله مخلصا له الدين " - إلى قوله - " قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه ". ثم يقول: " إنك ميت وإنهم ميتون " الخ ثم يقول: " أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه " ثم يقول: " قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل " ثم يقول: " قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون " إلى غير ذلك من الاشارات. ثم عمم الاحتجاج على توحده تعالى في الربوبية والالوهية من الوحي ومن طريق البرهان وقايس بين المؤمنين والمشركين مقايسات لطيفة فوصف المؤمنين بأجمل أوصافهم وبشرهم بما سيثيبهم في الاخرة مرة بعد مرة وذكر المشركين وأنذرهم بما سيلحقهم من الخسران وعذاب الاخرة مضافا إلى ما يصيبهم في الدنيا من وبال أمرهم كما أصاب الذين كذبوا من الامم الدارجة من عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الاخرة أكبر. ومن ثم وصفت السورة يوم البعث وخاصة في مختتمها بأوضح الوصف وأتمه. والسورة مكية لشهادة سياق آياتها بذلك وكأنها نزلت دفعة واحدة لما بين آياتها من الاتصال. والايات العشر المنقولة تجمع الدعوة من طريق الوحي والحجة العقلية بادئة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: " تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " " تنزيل الكتاب " خبر لمبتدء محذوف، وهو مصدر بمعنى المفعول فيكون إضافته إلى الكتاب من إضافة الصفة إلى موصوفها و " من الله " متعلق بتنزيل والمعنى هذا كتاب منزل من الله العزيز الحكيم. وقيل: " تنزيل الكتاب " مبتدء و " من الله " خبره ولعل الاول أقرب إلى الذهن. قوله تعالى: " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين " عبر بالانزال دون التنزيل كما في الاية السابقة لان القصد إلى بيان كونه بالحق وهو يناسب مجموع ما نزل إليه من ربه. وقوله: " بالحق " الباء فيه للملابسة أي أنزلناه إليك متلبسا بالحق فما فيه من الامر بعبادة الله وحده حق، وعلى هذا المعنى فرع عليه قوله: " فا عبد الله مخلصا له

[ 233 ]

الدين " والمعنى فإذا كان بالحق فا عبد الله مخلصا له الدين لان فيه ذلك. والمراد بالدين - على ما يعطيه السياق - العبادة ويمكن أن يراد به سنة الحياة وهي الطريقة المسلوكة في الحياة في المجتمع الانساني، ويراد بالعبادة تمثيل العبودية بسلوك الطريق التي شرعها الله سبحانه والمعنى فأظهر العبودية لله في جميع شئون حياتك باتباع ما شرعه لك فيها والحال أنك مخلص له دينك لا تتبع غير ما شرعه لك. قوله تعالى: " ألا لله الدين الخالص " إظهار وإعلان لما أضمر وأجمل في قوله: " بالحق " وتعميم لما خصص في قوله: " فا عبد الله مخلصا له الدين " أي إن الذي أوحيناه إليك من إخلاص الدين لله واجب على كل من سمع هذا النداء، ولكون الجملة نداء مستقلا أظهر اسم الجلالة وكان مقتضى الظاهر أن يضمر ويقال: له الدين الخالص. ومعنى كون الدين الخالص له أنه لا يقبل العبادة ممن لا يعبده وحده سواء عبده وغيره أو عبد غيره وحده. قوله تعالى: " والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " إلى آخر الاية تقدم أن الوثنية يرون أن الله سبحانه أجل من أن يحيط به الادراك الانساني من عقل أو وهم أو حس فيتنزه تعالى عن أن يقع عليه توجه عبادي منا. فمن الواجب أن نتقرب إليه بالتقرب إلى مقربيه من خلقه وهم الذين فوض إليهم تدبير شئون العالم فنتخذهم أربابا من دون الله ثم آلهة تعبدهم ونتقرب إليهم ليشفعوا لنا عند الله ويقربونا إليه زلفى وهؤلاء هم الملائكة والجن وقديسوا البشر وهؤلاء هم الارباب والالهة بالحقيقة. أما الاصنام المصنوعة المنصوبة في الهياكل والمعابد فإنما هي تماثيل للارباب والالهة وليست في نفسها أربابا ولا آلهة غير أن الجهلة من عامتهم ربما لم يفرقوا بين الاصنام وأرباب الاصنام فعبدوا الاصنام كما يعبد الارباب والالهة وكذلك كانت عرب الجاهلية وكذلك الجهلة من عامة الصابئين ربما لم يفرقوا بين أصنام الكواكب والكواكب التي هي أيضا أصنام لارواحها الموكلة عليها وبين أرواحها التي هي الارباب والالهة بالحقيقة عند خاصتهم.

[ 234 ]

وكيف كان فالارباب والالهة هم المعبودون عندهم وهم موجودات ممكنة مخلوقة لله مقربة عنده مفوضة إليهم تدبير أمر العالم لكل بحسب منزلته وأما الله سبحانه فليس له إلا الخلق والايجاد وهو رب الارباب وإله الالهة. إذا تذكرت ما مر ظهر أن المراد بقوله: " والذين اتخذوا من دونه أولياء " اتخاذهم أربابا يدبرون الامر بأن يسندوا الربوبية وأمر التدبير إليهم لا إلى الله فهم المدبرون للامر عندهم ويتفرع عليه أن يخضع لهم ويعبدوا لان العبادة لجلب النفع أو لدفع الضرر أو شكر النعم وكل ذلك إليهم لتصديهم أمر التدبير دون الله سبحانه. فالمراد باتخاذهم أولياء اتخاذهم أربابا (1)، ولذا عقب اتخاذ الاولياء بذكر العبادة " ما نعبدهم إلا ليقربونا " فقوله: " والذين اتخذوا من دونه أولياء " مبتدء خبره " إن الله يحكم " الخ والمراد بهم المشركون القائلون بربوبية الشركاء والوهيتهم دون الله إلا ما ذهب إليه جهلتهم من كونه تعالى شريكا لهم في المعبودية. وقوله: " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " تفسير لمعنى اتخاذ الاولياء من دون الله وهو حكاية لقولهم أو بتقدير القول أي يقولون: ما نعبدهم هؤلاء إلا ليقربونا بسبب عبادتنا لهم إلى الله تقريبا فهم عادلون منه تعالى إلى غيره، وإنما سموا مشركين لانهم يشركون به تعالى غيره حيث يقولون بكونهم أربابا وآلهة للعالم وكونه تعالى ربا وإلها لاولئك الارباب والالهة، وأما الشركة في الخلق والايجاد فلم يقل به لا مشرك ولا موحد. وقوله: " إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون " قيل: ضمير الجمع للمشركين وأوليائهم أي إن الله يحكم بين المشركين وبين أوليائهم فيما هم فيه يختلفون، وقيل: الضميران راجعان إلى المشركين وخصمائهم من أهل الاخلاص في الدين المفهوم من السياق، والمعنى أن الله يحكم بينهم وبين المخلصين للدين. وقوله: " إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار " الكفار كثير الكفران لنعم الله (1)


فالولاية والربوبية قريبا المعنى فالرب هو المالك المدبر والولى هو مالك التدبير أو متصدى التدبير.

[ 235 ]

أو كثير الستر للحق، وفي الجملة إشعار بل دلالة على أن الحكم يوم القيامة على المشركين لا لهم وأنهم مسيرون إلى العذاب، والمراد بالهداية الايصال إلى حسن العاقبة. قوله تعالى: " لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار " احتجاج على نفي قولهم: إن الله اتخذ ولدا، وقول بعضهم: الملائكة بنات الله. والقول بالولد دائر بين عامة الوثنية على اختلاف مذاهبهم وقد قالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت اليهود على ما حكاه القرآن عنهم: عزير ابن الله وكأنها بنوة تشريفية. والبنوة كيفما كانت تقتضي شركة ما بين الابن والاب والولد والوالد فإن كانت بنوة حقيقية وهي اشتقاق شئ من شئ وانفصاله منه اقتضت الشركة في حقيقة الذات والخواص والاثار المنبعثة من الذات كبنوة إنسان لانسان المقتضية لشركة الابن لابيه في الانسانية ولوازمها، وإن كانت بنوة اعتبارية كالبنوة الاجتماعية وهو التبني اقتضت الاشتراك في الشؤنات الخاصة بالاب كالسؤدد والملك والشرف والتقدم والوراثة وبعض أحكام النسب، والحجة المسوقة في الاية تدل على استحالة اتخاذ الولد عليه تعالى بكلا المعنيين. فقوله: " لو أراد الله أن يتخذ ولدا " شرط صدر بلو الدال على الامتناع للامتناع، وقوله: " لاصطفى مما يخلق ما يشاء " أي لاختار لذلك مما يخلق ما يتعلق به مشيئته على ما يفيده السياق وكونه مما يخلق لكون ما عداه سبحانه خلقا له. وقوله: " سبحانه " تنزيه له سبحانه، وقوله: " هو الله الواحد القهار " بيان لاستحالة الشرط وهو إرادة اتخاذ الولد ليترتب عليه استحالة الجزاء وهو اصطفاء ما يشاء مما يخلق وذلك لانه سبحانه واحد في ذاته المتعالية لا يشاركه فيها شئ ولا يماثله فيها أحد لادلة التوحيد، وواحد في صفاته الذاتية التي هي عين ذاته كالحياة والعلم والقدرة، وواحد في شؤنه التي هي من لوازم ذاته كالخلق والملك والعزة والكبرياء لا يشاركه فيها أحد. وهو سبحانه قهار يقهر كل شئ بذاته وصفاته فلا يستقل قبال ذاته ووجوده شئ في ذاته ووجوده ولا يستغني عنه شئ في صفاته وآثار وجوده فالكل أذلاء داخرون بالنسبه إليه مملوكون له فقراء إليه.

[ 236 ]

فمحصل حجة الاية قياس استثنائي ساذج يستثنى فيه نقيض المقدم لينتج نقيض التالي وهو نحو من قولنا: لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى لذلك بعض من يشاء من خلقه لكن إرادته اتخاذ الولد ممتنعة لكونه واحدا قهارا فاصطفاؤه لذلك بعض من يشاء من خلقه ممتنع. وقد أغرب بعضهم في تقريب حجة الاية فقال: حاصل المعنى لو أراد سبحانه اتخاذ الولد لامتنعت تلك الارادة لتعلقها بالممتنع أعني الاتخاذ لكن لا يجوز للباري إرادة ممتنعة لانها ترجح بعض الممكنات على بعض. وأصل الكلام لو اتخذ الولد لامتنع لاستلزامه ما ينافي الالوهية فعدل إلى لو أراد الاتخاذ لامتنع أن يريده ليكون أبلغ وأبلغ ثم حذف هذا الجواب وجئ بدله لاصطفى تنبيها على أن الممكن هذا لا الاول وأنه لو كان هذا من اتخاذ الولد في شئ لجاز اتخاذ الولد عليه سبحانه وتعالى شأنه عن ذلك فقد تحقق التلازم وحق نفي اللازم وإثبات الملزوم دون صعوبة. انتهى. وكأنه مأخوذ من قول الزمخشري في الكشاف في تفسير الاية حيث قال: يعني لو أراد اتخاذ الولد لامتنع ولم يصح لكونه محالا ولم يتأت إلا أن يصطفي من خلقه بعضه ويختصهم ويقربهم كما يختص الرجل ولده ويقربه وقد فعل ذلك بالملائكة فافتتنتم به وغركم اختصاصه إياهم فزعمتم أنهم أولاده جهلا منكم به وبحقيقته المخالفة لحقائق الاجسام والاعراض كأنه قال: لو أراد اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما يشاء من خلقه وهم الملائكة لكنكم لجهلكم به حسبتم اصطفاءهم اتخاذهم أولادا ثم تماديتم في جهلكم وسفهكم فجعلتموهم بنات فكنتم كذا بين كفارين متبالغين في الافتراء على الله وملائكته غالين في الكفر. انتهى. وأنت خبير أن سياق الاية لا يلائم هذا البيان. على أنه لا يدفع قول القائل بالتبني التشريفي كقول اليهود عزير ابن الله فإنهم لا يريدون بالتبني إلا اصطفاء من يشاء من خلقه. وهناك بعض تقريبات أخر منهم لا جدوى فيه تركنا إيراده. قوله تعالى: " خلق السماوات والارض بالحق " لا يبعد أن يكون ما فيه من

[ 237 ]

الاشارة إلى الخلق والتدبير بيانا لقهاريته تعالى لكن اتصال الايتين وارتباطهما مضمونا وانتهاء الثانية إلى قوله: " ذلكم الله ربكم " الخ كالصريح في أن ذلك استئناف بيان للاحتجاج على توحيد الربوبية. فالاية والتي تليها مسوقتان لتوحيد الربوببة وقد جمع فيهما بين الخلق والتدبير لما مر مرارا أن إثبات وحدة الخالق لا يستلزم عند الوثني نفي تعدد الارباب والالهة لانهم لا ينكرون انحصار الخلق والايجاد فيه تعالى لكنه سبحانه فيما يحتج على توحده في الربوبية والالوهية في كلامه يجمع بين الخلق والتدبير إشارة إلى أن التدبير غير خارج من الخلق بل هو خلق بوجه كما أن الخلق تدبير بوجه وعند ذلك يتم الاحتجاج على رجوع التدبير إليه تعالى وانحصاره فيه برجوع الخلق إليه. وقوله: " خلق السماوات والارض بالحق " إشارة إلى الخلقة، وفي قوله: " بالحق " - والباء للملابسة - إشارة إلى البعث فإن كون الخلقة حقا غير باطل يلازم كونها لغاية تقصدها وتنساق إليها وهي البعث قال تعالى: " وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا " ص: 27. وقوله: " يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل " قال في المجمع التكوير طرح الشئ بعضه على بعض. انتهى فالمراد طرح الليل على النهار وطرح النهار على الليل فيكون من الاستعارة بالكناية قريب المعنى من قوله: " يغشي الليل النهار " الاعراف: 54 والمراد استمرار توالي الليل والنهار بظهور هذا على ذاك ثم ذاك على هذا وهكذا، وهو من التدبير. وقوله: " وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى " أي سخر الشمس والقمر فأجراهما للنظام الجاري في العالم الارضي إلى أجل مسمى معين لا يتجاوزانه. وقوله: " ألا هو العزيز الغفار " يمكن أن يكون في ذكر الاسمين إشارة إلى ما يحتج به على توحده تعالى في الربوبية والالوهية فإن العزيز الذي لا يعتريه ذلة إن كان فهو الله وهو المتعين للعبادة لا غيره الذي تغشاه الذلة وتغمره الفاقة وكذا الغفار للذنوب إذا قيس إلى من ليس من شأنه ذلك. ويمكن أن يكون ذكرهما تحضيضا على التوحيد والايمان بالله الواحد والمعنى

[ 238 ]

انبهكم أنه هو العزيز فآمنوا به واعتزوا بعزته، الغفار فآمنوا به يغفر لكم. قوله تعالى: " خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها " الخ الخطاب لعامة البشر، والمراد بالنفس الواحدة - على ما تؤيده نظائره من الايات - آدم أبو البشر، والمراد بزوجها امرأته التي هي من نوعها وتماثلها في الانسانية، و " ثم " للتراخي بحسب رتبة الكلام. والمراد أنه تعالى خلق هذا النوع وكثر أفراده من نفس واحدة وزوجها. وقوله: " وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج " الانعام هي الابل والبقر والضأن والمعز، وكونها ثمانية أزواج باعتبار انقسامها إلى الذكر والانثى. وتسمية خلق الانعام في الارض إنزالا لها باعتبار أنه تعالى يسمى ظهور الاشياء في الكون بعد ما لم يكن إنزالا لها من خزائنه التي هي عنده ومن الغيب إلى الشهادة قال تعالى: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " الحجر: 21. وقوله: " يخلقكم في بطون امهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث " بيان لكيفية خلق من تقدم ذكره من البشر والانعام، وفي الخطاب تغليب اولي العقل على غيرهم، والخلق من بعد الخلق التوالي والتوارد كخلق النطفة علقة وخلق العلقة مضغة وهكذا، والظلمات الثلاث هي ظلمة البطن والرحم والمشيمة كما قيل ورواه في المجمع عن أبي جعفر عليه السلام. وقيل: المراد بها ظلمة الصلب والرحم والمشيمة وهو خطأ فإن قوله: " في بطون امهاتكم " صريح في أن المراد بالظلمات الثلاث ما في بطون النساء دون أصلاب الرجال. وقوله: " ذلكم الله ربكم " أي الذي وصف لكم في الايتين بالخلق والتدبير هو ربكم دون غيره لان الرب هو المالك الذي يدبر أمر ما ملكه وإذ كان خالقا لكم ولكل شئ دونكم وللنظام الجاري فيكم فهو الذي يملككم ويدبر أمركم فهو ربكم لا غير. وقوله: " له الملك " أي على جميع المخلوقات في الدنيا والاخرة فهو المليك على الاطلاق " وتقديم الظرف يفيد الحصر، والجملة خبر بعد خبر لقوله: " ذلكم الله " كما أن قوله: " لا إله إلا هو، كذلك، وانحصار الالوهية فيه تعالى فرع انحصار الربوبية فيه

[ 239 ]

لان الا له إنما يعبد لانه رب مدبر فيعبد إما خوفا منه أو رجاء فيه أو شكرا له. وقوله: " فأنى تصرفون " أي فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره وهو ربكم الذي خلقكم ودبر أمركم وهو المليك عليكم. قوله تعالى: " إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر " إلى آخر الاية. مسوق لبيان أن الدعوة إلى التوحيد وإخلاص الدين لله سبحانه ليست لحاجة منه تعالى إلى إقبالهم إليه بالانصراف عن عبادة غيره بل لعناية منه تعالى بهم فيدعوهم إلى سعادتهم اعتناء بها كما يعتني برزقهم فيفيض النعم عليهم وكما يعتني بحفظهم فيلهمهم أن يدفعوا الافات عن أنفسهم. فقوله: " إن تكفروا فإن الله غني عنكم " الخطاب لعامة المكلفين أي إن تكفروا بالله فلم توحدوه فإنه غني عنكم لذاته لا ينتفع بإيمانكم وطاعتكم ولا يتضرر بكفركم ومعصيتكم فالنفع والضرر إنما يتحققان في مجال الامكان والحاجة وأما الواجب الغني بذاته فلا يتصور في حقه انتفاع ولا تضرر. وقوله: " ولا يرضى لعباده الكفر " دفع لما ربما يمكن أن يتوهم من قوله: " فإن الله غني عنكم " أنه إذا لم يتضرر بكفر ولم ينتفع بإيمان فلا موجب له أن يريد منا الايمان والشكر فدفعه بأن تعلق العناية الالهية بكم يقتضي أن لا يرضى بكفركم وأنتم عباده. والمراد بالكفر كفر النعمة الذي هو ترك الشكر بقرينة مقابلة قوله: " وإن تشكروا يرضه لكم " وبذلك يظهر أن التعبير بقوله: " لعباده " دون أن يقول: لكم للدلالة على علة الحكم أعني سبب عدم الرضا. والمحصل أنكم عباد مملو كون لله سبحانه منغمرون في نعمه ورابطة المولوية والعبودية وهي نسبة المالكية والمملوكية لا تلائمه أن يكفر العبد بنعمة سيده فينسى ولاية مولاه ويتخذ لنفسه أولياء من دونه ويعصى المولى ويطيع عدوه وهو عبد عليه طابع العبودية لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا. وقوله: " وإن تشكروا يرضه لكم " الضمير للشكر نظير قوله تعالى: " اعدلوا هو أقرب للتقوى " المائدة: 8 والمعنى وإن تشكروا الله بالجري على مقتضى العبودية

[ 240 ]

وإخلاص الدين له يرض الشكر لكم وأنتم عباده، والشكر والكفر المقابل له ينطبقان على الايمان والكفر المقابل له. ومما تقدم يظهر أن العباد في قوله: " ولا يرضى لعباده الكفر " عام يشمل الجميع فقول بعضهم: إنه خاص اريد به من عناهم في قوله: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين " الحجر: 42 وهم المخلصون - أو المعصومون على ما فسره الزمخشري - ولازمه أن الله سبحانه رضي الايمان لمن آمن ورضى الكفر لمن كفر إلا المعصومين فإنه أراد منهم الايمان، وصانهم عن الكفر سخيف جدا، والسياق يأباه كل الاباء، إذ الكلام مشعر حينئذ برضاه الكفر للكافر فيؤل معنى الكلام إلى نحو من قولنا: إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى للانبياء مثلا الكفر لرضاه لهم الايمان وإن تشكروا أنتم يرضه لكم وإن تكفروا يرضه لكم وهذا - كما ترى - معنى ردي ساقط وخاصة من حيث وقوعه في سياق الدعوة. على أن الانبياء مثلا داخلون فيمن شكر وقد رضي لهم الشكر والايمان ولم يرض لهم الكفر فلا موجب لافرادهم بالذكر وقد ذكر الرضا عمن شكر. وقوله: " ولا تزر وازرة وزر اخرى " أي لا تحمل نفس حاملة حمل نفس اخرى أي لا يؤاخذ بالذنب إلا من ارتكبه. وقوله: " ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور " أي هذا في الدنيا من كفر أو شكر ثم يبعثكم الله فيظهر لكم حقيقة أعمالكم ويحاسبكم على ما في قلوبكم وقد تكرر الكلام في معاني هذه الجمل فيما تقدم. (كلام في معنى الرضا والسخط من الله) الرضا من المعاني التي يتصف بها اولو الشعور والارادة ويقابله السخط وكلاهما وصفان وجوديان. ثم الرضا يتعلق بالمعاني من الاوصاف والافعال دون الذوات يقال: رضي له كذا ورضي بكذا قال تعالى: " ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله رسوله " التوبة: 59 وقال:

[ 241 ]

ورضوا بالحياة الدنيا " يونس: 7 وما ربما يتعلق بالذوات فإنما هو بعناية ما ويؤل بالاخرة إلى المعنى كقوله: " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى " البقرة: 120. وليس الرضا هو الارادة بعينها وإن كان كلما تعلقت به الارادة فقد تعلق به الرضا بعد وقوعه بوجه. وذلك لان الارادة - كما قيل - تتعلق بأمر غير واقع والرضا إنما يتعلق بالامر بعد وقوعه أو فرض وقوعه فإذن كون الانسان راضيا بفعل كذا كونه بحيث يلائم ذلك الفعل ولا ينافره، وهو وصف قائم بالراضي دون المرضي. ثم الرضا لكونه متعلقا بالامر بعد وقوعه كان متحققا بتحقق المرضي حادثا بحدوثه فيمتنع أن يكون صفة من الصفات القائمة بذاته لتنزهه تعالى عن أن يكون محلا للحوادث فما نسب إليه تعالى من الرضا صفة فعل قائم بفعله منتزع عنه كالرحمة والغضب والارادة والكراهة قال تعالى: " رضي الله عنهم ورضوا عنه " البينة: 8 وقال: " وأن أعمل صالحا ترضاه " النمل: 19، وقال: " ورضيت لكم الاسلام دينا " المائدة: 3. فرضاه تعالى عن أمر من الامور ملائمة فعله تعالى له، وإذ كان فعله قسمين تكويني وتشريعي انقسم الرضا منه أيضا إلى تكويني وتشريعي فكل أمر تكويني وهو الذي أراد الله وأوجده فهو مرضي له رضا تكوينيا بمعنى كون فعله وهو إيجاده عن مشية ملائما لما أوجده، وكل أمر تشريعي وهو الذي تعلق به التكليف من اعتقاد أو عمل كالايمان والعمل الصالح فهو مرضي له رضا تشريعيا بمعنى ملاءمة تشريعه للمأتي به. وأما ما يقابل هذه الامور المأمور بها مما تعلق به نهي فلا يتعلق بها رضى البتة لعدم ملاءمة التشريع لها كالكفر والفسوق كما قال تعالى: " إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر " الزمر: 7، وقال: " فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين " التوبة: 96. قوله تعالى: " وإذا مس الانسان ضر دعا ربه منيبا إليه " إلى آخر الاية الانابة الرجوع، والتخويل العطية العظيمة على وجه الهبة وهي المنحة. على ما في المجمع. لما مر في الاية السابقة ذكر من كفر النعمة وأن الله سبحانه على غناه من الناس

[ 242 ]

لا يرضى لهم ذلك نبه في هذه الاية على أن الانسان كفور بالطبع مع أنه يعرف ربه بالفطرة ولا يلبث عند الاضطرار دون أن يرجع إليه فيسأله كشف ضره كما قال: " وكان الانسان كفورا " أسرى: 67، وقال: إن الانسان لظلوم كفار " إبراهيم: 34. فقوله: " وإذا مس الانسان ضر دعا ربه منيبا إليه " أي إذا أصاب الانسان ضر من شدة أو مرض أو قحط ونحوه دعا ربه - وهو الله يعترف عند ذلك بربوبيته - راجعا إليه معرضا عمن سواه يسأله كشف الضر عنه. وقوله: " ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل " أي وإذا أعطاه ربه سبحانه بعد كشف الضر نعمة منه اشتغل به مستغرقا ونسي الضر الذي كان يدعو إليه أي إلى كشفه من قبل إعطاء النعمة. فما في قوله: " ما كان يدعو إليه " موصولة والمراد به الضر وضمير " إليه " له وقيل: مصدرية والضمير للرب سبحانه والمعنى نسي دعاءه إلى ربه من قبل الاعطاء، وقيل: موصولة والمراد به الله سبحانه وهو أبعد الوجوه. وقوله: " وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله " الانداد الامثال والمراد بها - على ما قيل - الاصنام وأربابها، واللام في " ليضل عن سبيله " للعاقبة، والمعنى واتخذ لله أمثالا يشاركونه في الربوبية والالوهية على مزعمته لينتهي به ذلك إلى إضلال الناس عن سبيل الله لان الناس مطبوعون على التقليد يتشبه بعضهم ببعض، وفي الفعل دعوة كالقول. ولا يبعد أن يراد بالانداد مطلق الاسباب التي يعتمد عليها الانسان ويطمئن إليها ومن جملتها أرباب الاصنام عند الوثني وذلك لان الاية تصف الانسان وهو أعم من المشرك نعم مورد الاية هو الكافر. وقوله: " قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار " أي تمتع تمتعا قليلا لا يدوم لك لانك من أصحاب النار مصيرك إليها، وهو أمر تهديدي في معنى الاخبار أي إنك إلى النار ولا يدفعها عنك تمتعك بالكفر أياما قلائل. قوله تعالى: " أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الاخرة ويرجو رحمة ربه " الاية لا تخلو عن مناسبة واتصال بقوله السابق: " ولا تزر وازرة وزر اخرى "

[ 243 ]

فإن فحواه أن الكافر والشاكر لا يستويان ولا يختلطان فأوضح ذلك في هذه الاية بأن القانت الذي يخاف العذاب ويرجو رحمة ربه لا يساوي غيره. فقوله: " أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الاخرة ويرجو رحمة ربه " أحد شقي الترديد محذوف والتقدير أهذا الذي ذكرناه خير أم من هو قانت الخ ؟ والقنوت - على ما ذكره الراغب - لزوم الطاعة مع الخضوع، والاناء جمع أنى وهو الوقت، و " يحذر الاخرة " أي عذاب الله في الاخرة قال تعالى: " إن عذاب ربك كان محذورا " أسرى: 57، وقوله: " يرجو رحمة ربك " هو وما قبله يجمعان خوف العذاب ورجاء الرحمة، ولم يقيد الرحمة بالاخرة فإن رحمة الاخرة ربما وسعت الدنيا. والمعنى أهذا الكافر الذي هو من أصحاب النار خير أم من هو لازم للطاعة والخضوع لربه في أوقات الليل إذا جن عليه ساجدا في صلاته تارة قائما فيها اخرى يحذر عذاب الاخرة ويرجو رحمة ربه ؟ أي لا يستويان. وقوله: " قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون " العلم وعدمه مطلقان لكن المراد بهما بحسب ما ينطبق على مورد الاية العلم بالله وعدمه فإن ذلك هو الذي يكمل به الانسان وينتفع بحقيقة معنى الكلمة ويتضرر بعدمه، وغيره من العلم كالمال ينتفع به في الحياة الدنيا ويفنى بفنائها. وقوله: " إنما يتذكر اولو الالباب " أي ذوو العقول وهو في مقام التعليل لعدم تساوى الفريقين بأن أحد الفريقين يتذكر حقائق الامور دون الفريق الاخر فلا يستويان بل يترجح الذين يعلمون على غيرهم. قوله تعالى: " قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة " إلى آخر الاية، الجار والمجرور " في هذه الدنيا " متعلق بقوله: " احسنوا " فالمراد بالجملة وعد الذين أحسنوا أي لزموا الاعمال الحسنة أن لهم حسنة لا يقدر وصفها بقدر. وقد أطلق الحسنة فلم يقيدها بدنيا أو آخرة وظاهرها ما يعلم الدنيا فللمؤمنين المحسنين في هذه الدنيا طيب النفس وسلامة الروح وصون النفوس عما يتقلب فيه الكفار من تشوش البال وتقسم القلب وغل الصدر والخضوع للاسباب الظاهرية وفقد من يرجى

[ 244 ]

في كل نائبة وينصر عند طروق الطارقة ويطمأن إليه في كل نازلة وفي الاخرة سعادة دائمة ونعيم مقيم. وقيل: " في هذه الدنيا " متعلق بحسنة. وليس بذاك. وقوله: " وأرض الله واسعة " حث وترغيب لهم في الهجرة من مكة إذ كان التوقف فيها صعبا على المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركون يزيدون كل يوم في التشديد عليهم وفتنتهم، والاية بحسب لفظها عامة. وقيل: المراد بأرض الله الجنة أي إن الجنة واسعة لا تزاحم فيها فاكتسبوها بالطاعة والعبادة. وهو بعيد. وقوله: " إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب " توفية الاجر إعطاؤه تاما كاملا، والسياق يفيد أن القصر في الكلام متوجه إلى قوله: " بغير حساب " فالجار والمجرور متعلق بقوله: " يوفى " صفة لمصدر يدل عليه والمعنى لا يعطى الصابرون أجرهم إلا إعطاء بغير حساب، فالصابرون لا يحاسبون على أعمالهم ولا ينشر لهم ديوان ولا يقدر أجرهم بزنة عملهم. وقد اطلق الصابرون في الاية ولم يقيد بكون الصبر على الطاعة أو عن المعصية أو عند المصيبة وإن كان الذي ينطبق على مورد الاية هو الصبر على مصائب الدنيا وخاصة ما يصيب من جهة أهل الكفر والسوق من آمن بالله وأخلص له دينه واتقاه. وقيل: " بغير حساب " حال من " أجرهم " و يفيد كثرة الاجر الذي يوفونه، والوجه السابق أقرب. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن يزيد الرقاشي أن رجلا قال: يا رسول الله انا نعطي أموالنا التماس الذكر فهل لنا في ذلك من أجر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يقبل إلا ممن أخلص له. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاية " ألا لله الدين الخالص ". وفيه أخرج ابن جرير من طريق جويبر عن ابن عباس " والذين اتخذوا من دونه

[ 245 ]

أولياء " الاية قال: أنزلت في ثلاثة أحياء: عامر وكنانة وبني سلمة كانوا يعبدون الاوثان ويقولون: الملائكة بناته فقالوا: " إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ". أقول: الاية مطلقة تشمل عامة الوثنيين، وقول: " إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى " قول جميعهم، وكذا القول بالولد ولا تصريح في الاية بالقول بكون الملائكة بنات فالحق أن الخبر من التطبيق. وفي الكافي والعلل بإسنادهما عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت: " آناء الليل ساجدا وقائما " الخ قال: يعني صلاة الليل. وفي الكافي بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام في قوله عز وجل: " هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر اولو الالباب " قال نحن الذين يعلمون، وعدونا الذين لا يعلمون، وشيعتنا اولو الالباب. أقول: وهذا المعنى مروى بطرق كثيرة عن الباقر والصادق عليهما السلام وهو جرى وليس من التفسير في شئ. وفي الدر المنثور أخرج ابن سعد في طبقاته وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما " قال: نزلت في عمار بن ياسر. اقول: وروى مثله عن جويبر عن عكرمة، وروى عن جويبر عن ابن عباس أيضا أنها نزلت في ابن مسعود وعمار وسالم مولى أبي حذيفة، وروى عن أبي نعيم وابن عساكر عن ابن عمر أنه عثمان وقيل غير ذلك، والجميع من التطبيق وليس من النزول بالمعنى المصطلح عليه، والسورة نازلة دفعة. وفي المجمع روى العياشي بالاسناد عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا نشرت الدواوين ونصبت الموازين لم ينصب لاهل البلاء ميزان ولم ينشر لهم ديوان. ثم تلا هذه الاية " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ". أقول: وروى ما في معناه في الدر المنثور عن ابن مردويه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث.

[ 246 ]

* * * قل إني أمرت أن أ عبد الله مخلصا له الدين - 11. وأمرت لان أكون أول المسلمين - 12. قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم - 13. قل الله أعبد مخلصا له ديني - 14. فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيمة ألا ذلك هو الخسران المبين - 15. لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون - 16. والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد - 17. الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الالباب - 18. أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار - 19. لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف مبنية تجري من تحتها الانهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد - 20. (بيان) في الايات نوع رجوع إلى أول الكلام وأمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يبلغهم أن الذي يدعوهم إليه من التوحيد وإخلاص الدين لله هو مأمور به كأحدهم ويزيد أنه مأمور أن يكون

[ 247 ]

أول مسلم لما يدعو إليه أي يكون بحيث يدعو إلى ما قد أسلم له وآمن به قبل، سواء أجابوا إلى دعوته أو ردوها. فعليهم أن لا يطمعوا فيه أن يخالف فعله قوله وسيرته دعوته فإنه مجيب لربه مسلم له متصلب في دينه خائف منه أن يعصيه ثم تنذر الكافرين وتبشر المؤمنين بما أعد الله سبحانه لكل من الفريقين من عذاب أو نعمة. قوله تعالى: " قل إني أمرت أن أ عبد الله مخلصا له الدين - إلى قوله - أول المسلمين " نحو رجوع إلى قوله تعالى في مفتتح السورة: " إنا أنزلنا إليك الكتاب فاعبد الله مخلصا له الدين " بداعي أن يؤيسهم من نفسه، فلا يطمعوا فيه أن يترك دعوتهم ويوافقهم على الاشراك بالله كما يشير إليه أول سورة ص وآيات أخر. فكأنه يقول: قل لهم إن الذي تلوت عليكم من أمره تعالى بعبادته بإخلاص الدين - وقد وجه به الخطاب إلى - ليس المراد به مجرد دعوتكم إلى ذلك بإقامتي في الخطاب مقام السامع فيكون من قبيل " إياك أعني واسمعي يا جارة " بل أنا كأحدكم مأمور بعبادته مخلصا له الدين، ولا ذلك فحسب، بل مأمور بأن أكون أول المسلمين لما ينزل إلى من الوحي فأسلم له أولا ثم ابلغه لغيري - فأنا أخاف ربي وأعبده بالاخلاص آمنتم به أو كفرتم فلا تطمعوا في. فقوله: " قل إني امرت أن أ عبد الله مخلصا له الدين " إشارة إلى أنه صلى الله عليه وآله وسلم يشارك غيره في الامر بدون الاخلاص. وقوله: " وأمرت لان أكون أول المسلمين " إشارة إلى أن في الامر المتوجه إلى زيادة على ما توجه إليكم من التكليف وهو أني امرت بما امرت وقد توجه الخطاب إلى قبلكم والغرض منه أن أكون أول من أسلم لهذا الامر وآمن به. قيل: اللام في قوله: " لان أكون " للتعليل والمعنى وأمرت بذلك لاجل أن أكون أو المسلمين، وقيل: اللام زائدة كما تركت اللام في قوله تعالى: " قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم " الانعام: 14. ومآل الوجهين واحد بحسب المعنى فإن كونه صلى الله عليه وآله وسلم أول المسلمين يعطى عنوانا

[ 248 ]

لاسلامه وعنوان الفعل يصح أن يجعل غاية للامر بالفعل وأن يجعل متعلقا للامر فيؤمر به يقال: اضربه للتأديب، ويقال: أدبه بالضرب. قال في الكشاف: وفي معناه أوجه: أن أكون أول من أسلم في زماني ومن قومي لانه أول من خالف دين آبائه وخلع الاصنام وحطمها، وأن أكون أول الذين دعوتهم إلى الاسلام إسلاما، وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا غيره لاكون مقتدى بي في قولي وفعلي جميعا ولا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون، وأن أفعل ما أستحق به الاولية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب. انتهى. وأنت خبير بأن الانسب لسياق الايات هو الوجه الثالث وهو الذي قدمناه ويلزمه سائر الوجوه. قوله تعالى: " قال إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم " المراد بمعصية ربه بشهادة السياق مخالفة أمره بعبادته مخلصا له الدين، وباليوم العظيم يوم القيامة والاية كالتوطئة لمضمون الاية التالية. قوله تعالى: " قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه " تصريح بأنه ممتثل لامر ربه مطيع له بعد التكنية عنه في الاية السابقة، وإيآس لهم أن يطمعوا فيه أن يخالف أمر ربه. وتقديم المفعول في قوله: " قل الله أعبد " يفيد الحصر، وقوله: " مخلصا له ديني " يؤكد معنى الحصر، وقوله: " فاعبدوا ما شئتم من دونه " أمر تهديدي بمعنى أنهم لا ينفعهم ذلك فإنهم مصيبهم وبال إعراضهم عن عبادة الله بالاخلاص كما يشير إليه ذيل الاية " قل إن الخاسرين " الخ. قوله تعالى: " قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة " الخ الخسر والخسران ذهاب رأس المال إما كلا أو بعضا والخسران أبلغ من الخسر، وخسران النفس هو إيرادها مورد الهلكة والشقاء بحيث يبطل منها استعداد الكمال فيفوتها السعادة بحيث لا يطمع فيها وكذا خسارة الاهل. وفي الاية تعريض للمشركين المخاطبين بقوله: " فاعبدوا ما شئتم من دونه " كأنه

[ 249 ]

يقول: فأياما عبدتم فإنكم تخسرون أنفسكم بإيرادها بالكفر مورد الهلكة وأهليكم وهم خاصتكم بحملهم على الكفر والشرك وهي الخسران بالحقيقة. وقوله: " ألا ذلك هو الخسران المبين " وذلك لان الخسران المتعلق بالدنيا - وهو الخسران في مال أو جاه - سريع الزوال منقطع الاخر بخلاف خسران يوم القيامة الدائم الخالد فإنه لا زوال له ولا انقطاع. على أن المال أو الجاه إذا زال بالخسران أمكن أن يخلفه آخر مثله أو خير منه بخلاف النفس إذا خسرت. هذا على تقدير كون المراد بالاهل خاصة الانسان في الدنيا، وقيل: المراد بالاهل من أعده الله في الجنة للانسان لو آمن واتقى من أزواج وخدم وغيرهم وهو أوجه وأنسب للمقام فإن النسب وكل رابطة من الروابط الدنيوية الاجتماعية مقطوعة يوم القيامة قال تعالى: " فلا أنساب بينهم يومئذ " المؤمنون: 101 وقال: " يوم لا تملك نفس لنفس شيئا " الانفطار: 19 إلى غير ذلك من الايات. ويؤيده أيضا قوله تعالى: " فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرووا " الانشقاق: 9. قوله تعالى: " لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل " الخ الظلل جمع ظلة وهي - كما قيل - الستر العالي. والمراد بكونها من فوقهم ومن تحتهم إحاطتها بهم فإن المعهود من النار الجهتان والباقي ظاهر. قوله تعالى: " والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى " قال الراغب: الطاغوت عبارة عن كل متعد وكل معبود من دون الله، ويستعمل في الواحد والجمع. انتهى، والظاهر أن المراد بها في الاية الاوثان وكل معبود طاغ من دون الله. ولم يقتصر على مجرد اجتناب عبادة الطاغوت بل أضاف إليه قوله: " وأنابوا إلى الله " إشارة إلى أن مجرد النفي لا يجدي شيئا بل الذي ينفع الانسان مجموع النفي

[ 250 ]

والاثبات، عبادة الله وترك عبادة غيره وهو عبادته مخلصا له الدين. وقوله: " لهم البشرى " إنشاء بشرى وخبر لقوله: " والذين اجتنبوا " الخ. قوله تعالى: " فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " إلى آخر الاية كان مقتضى الظاهر أن يقال: فبشرهم غير أنه قيل: فبشر عباد و اضيف إلى ضمير التكلم لتشريفهم به ولتوصيفهم بقوله: " الذين يستمعون القول " الخ. والمراد بالقول بقرينة ما ذكر من الاتباع ماله نوع ارتباط ومساس بالعمل فأحسن القول أرشده في إصابة الحق وأنصحه للانسان، والانسان إذا كان ممن يحب الحسن وينجذب إلى الجمال كان كلما زاد الحسن زاد انجذابا فإذا وجد قبيحا وحسنا مال إلى الحسن، وإذا وجد حسنا وأحسن قصد ما هو أحسن، وأما لو لم يمل إلى الاحسن وانجمد على الحسن كشف ذلك عن أنه لا ينجذب إليه من حيث حسنه وإلا زاد الانجذاب بزيادة الحسن. فتوصيفهم باتباع أحسن القول معناه أنهم مطبوعون على طلب الحق وإرادة الرشد وإصابة الواقع فكلما دار الامر بين الحق والباطل والرشد والغي اتبعوا الحق والرشد وتركوا الباطل والغي وكلما دار الامر بين الحق والاحق والرشد وما هو أكثر رشدا أخذوا بالاحق الارشد. فالحق والرشد هو مطلوبهم ولذلك يستمعون القول ولا يردون قولا بمجرد ما قرع سمعهم اتباعا لهوى أنفسهم من غير أن يتدبروا فيه ويفقهوه. فقوله: " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " مفاده أنهم طالبوا الحق والرشد يستمعون القول رجاء أن يجدوا فيه حقا وخوفا أن يفوتهم شئ منه. وقيل: المراد باستماع القول واتباع أحسنه استماع القرآن وغيره واتباع القرآن، وقيل: المراد استماع أوامر الله تعالى واتباع أحسنها كالقصاص والعفو فيتبعون العفو وإبداء الصدقات وإخفائها فيتبعون الاخفاء، والقولان من قبيل التخصيص من غير مخصص. وقوله: " أولئك الذين هداهم الله " إشارة إلى أن هذه الصفة هي الهداية الالهية وهذه الهداية أعني طلب الحق والتهيأ التام لاتباع الحق أينما وجد هي الهداية الاجمالية

[ 251 ]

وإليها تنتهي كل هداية تفصيلية إلى المعارف الالهية. وقوله: " وأولئك هم اولو الالباب " أي ذوو العقول ويستفاد منه أن العقل هو الذي به الاهتداء إلى الحق وآيته صفة اتباع الحق، وقد تقدم في تفسير قوله: " ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه " البقرة: 130 أنه يستفاد منه أن العقل ما يتبع به دين الله. قوله تعالى: " أفمن حقت عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار " ثبوت كلمة العذاب وجوب دخول النار بالكفر بقوله عند إهباط آدم إلى الارض: " والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " البقرة: 39 وما في معناه من الايات. ومقتضى السياق أن في الاية إضمارا يدل عليه قوله: " أفأنت تنقذ من في النار والتقدير أفمن حقت عليه كلمة العذاب ينجو منه وهو اولى من تقدير قولنا: خير أم من وجبت عليه الجنة وقيل: المعنى أفمن وجب عليه وعيده تعالى بالعقاب أفأنت تخلصه من النار فاكتفى بذكر " من النار " عن ذكر الضمير العائد إلى المبتدء وجئ بالاستفهام مرتين للتأكيد تنبيها على المعنى. وقيل: التقدير أفأنت تنقذ من في النار منهم فحذف الضمير، وهو أردء الوجوه. قوله تعالى: " لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجرى من تحتها الانهار " الغرف جمع غرفة وهي المنزل الرفيع. قيل: وهذا في مقابلة قوله في الكافرين: " لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ". وقوله: " وعد الله " أي وعدهم الله ذلك وعدا فهو مفعول مطلق قائم مقام فعله وقوله: " لا يخلف الله الميعاد " إخبار عن سنته تعالى في مواعيده وفيه تطييب لنفوسهم. (بحث روائي) في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " قل

[ 252 ]

إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم " يقول: غبنوا أنفسهم وأهليهم. وفي المجمع في قوله تعالى: " والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى ربهم لهم البشرى " روى أبو بصير عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: أنتم هم ومن أطاع جبارا فقد عبده. أقول: وهو من الجرى. وفي الكافي: بعض أصحابنا رفعه عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام: يا هشام إن الله تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه فقال: " فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم اولو الالباب ". وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله تعالى: " والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها " قال: نزلت هاتان الايتان في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون: لا إله إلا الله، في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي. اقول: ورواه في المجمع عن عبد الله بن زيد، وروى في الدر المنثور أيضا عن ابن مردويه عن ابن عمر أنها نزلت في سعيد بن زيد وأبي ذر وسلمان، وروى أيضا عن جويبر عن جابر بن عبد الله أنها نزلت في رجل من الانصار أعتق سبعة مماليك لما نزل قوله تعالى: " لها سبعة أبواب " الاية، والظاهر أن الجميع من تطبيق القصة على الاية. * * * ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الارض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لاولي الالباب - 21. أفمن شرح الله صدره

[ 253 ]

للاسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين - 22. الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد - 23. أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيمة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون - 24. كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون - 25. فأذاقهم الله الخزي في الحيوة الدنيا ولعذاب الاخرة أكبر لو كانوا يعلمون - 26. ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون - 27. قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون - 28. ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون و رجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون - 29. إنك ميت وإنهم ميتون - 30. ثم إنكم يوم القيمة عند ربكم تختصمون - 31. فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين - 32. و الذي جاء بالصدق

[ 254 ]

وصدق به أولئك هم المتقون - 33. لهم ما يشاؤن عند ربهم ذلك جزاء المحسنين - 34. ليكفر الله عنهم أسوء الذي عملوا ويجزيهم أجرهم باحسن الذي كانوا يعملون - 35. أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد - 36. ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام - 37. (بيان) عود إلى بدء من الاحتجاج على ربوبيته تعالى والقول في اهتداء المهتدين وضلال الضالين والمقايسة بين الفريقين وما ينتهي إليه عاقبة أمر كل منهما، وفيها معنى هداية القرآن. قوله تعالى: " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الارض " إلى آخر الاية، قال في المجمع: الينابيع جمع ينبوع وهو الذي ينبع منه الماء يقال نبع الماء من موضع كذا إذا فار منه، والزرع ما ينبت على غير ساق والشجر ما له ساق وأغصان النبات يعم الجميع، وهاج النبت يهيج هيجا إذا جف وبلغ نهايته في اليبوسة، والحطام فتات التبن والحشيش. انتهى. وقوله: " فسلكه ينابيع في الارض " أي فأدخله في عيون ومجاري في الارض هي كالعروق في الابدان تنقل ما تحمله من جانب إلى جانب، والباقي ظاهر والاية - كما ترى - تحتج على توحده تعالى في الربوبية. قوله تعالى: " أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله " الخ لما ذكر في الاية السابقة أن فيما ذكره من إنزال الماء وإنبات

[ 255 ]

النبات ذكرى لاولى الالباب وهم عباده المتقون وقد ذكر قبل أنهم الذين هداهم الله ذكر في هذه الاية أنهم ليسوا كغيرهم من الضالين وأوضح السبب في ذلك وهو أنهم على نور من ربهم يبصرون به الحق وفي قلوبهم لين لا تعصي عن قبول ما يلقى إليهم من أحسن القول. فقوله: " أفمن شرح الله صدره " خبره محذوف يدل عليه قوله: " فويل للقاسية قلوبهم " الخ أي كالقاسية قلوبهم والاستفهام للانكار أي لا يستويان. وشرح الصدر بسطه ليسع ما يلقى إليه من القول وإذ كان ذلك للاسلام وهو التسليم لله فيما أراد وليس إلا الحق كان معناه كون الانسان بحيث يقبل ما يلقى إليه من القول الحق ولا يرده، وليس قبولا من غير دراية وكيفما كان بل عن بصيرة بالحق وعرفان بالرشد ولذا عقبه بقوله: " فهو على نور من ربه " فجعله بحسب التمثيل راكب نور يسير عليه ويبصر ما يمر به في ساحة صدره الرحب الوسيع من الحق فيبصره ويميزه من الباطل بخلاف الضال الذي لا في صدره شرح فيسع الحق ولا هو راكب نور من ربه فيبصر الحق ويميزه. وقوله: " فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله " تفريع على الجملة السابقة بما يدل على أن القاسية القلوب - وقساوة القلب وصلابته لازمة عدم شرح الصدر وعدم النور - لا يتذكرون بآيات الله فلا يهتدون إلى ما تدل عليه من الحق، ولذا عقبه بقوله: " أولئك في ضلال مبين ". وفي الاية تعريف الهداية بلازمها وهو شرح الصدر وجعله على نور من ربه، وتعريف الضلال بلازمه وهو قساوة القلب من ذكر الله. وقد تقدم في تفسير قوله: " ومن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام " الاية الانعام: 125 كلام في معنى الهداية فراجع. قوله تعالى: " الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني " إلى آخر الاية كالاجمال بعد التفصيل بالنسبة إلى الاية السابقة بالنظر إلى ما يتحصل من الاية في معنى الهداية وان كانت بيانا لهداية القرآن.

[ 256 ]

فقوله: " الله نزل أحسن الحديث " هو القرآن الكريم و الحيث هو القول كما في قوله تعالى: " فليأتوا بحديث مثله " الطور: 34، و قوله: " فبأي حديث بعده يؤمنون " المرسلات: 50 فهو أحسن القول لاشتماله على محض الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو كلامه المجيد. وقوله: " كتابا متشابها " أي يشبه بعض أجزائه بعضا وهذا غير التشابه الذي في المتشابه المقابل للمحكم فإنه صفة بعض آيات الكتاب وهذا صفة الجميع. وقوله: " مثاني " جمع مثنية بمعنى المعطوف لانعطاف بعض آياته على بعض ورجوعه إليه بتبين بعضها ببعض وتفسير بعضها لبعض من غير اختلاف فيها بحيث يدفع بعضه بعضا ويناقضه كما قال تعالى: " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " النساء: 82. وقوله: " تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم " صفة الكتاب وليس استئنافا، والاقشعرار تقبض الجلد تقبضا شديدا لخشية عارضة عن استماع أمر هائل أو رؤيته، وليس ذلك إلا لانهم على تبصر من موقف نفوسهم قبال عظمة ربهم فإذا سمعوا كلامه توجهوا إلى ساحة العظمة و الكبرياء فغشيت قلوبهم الخشية وأخذت جلودهم في الاقشعرار. وقوله: " ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله " " تلين " مضمنة معنى السكون والطمأنينة ولذا عدي بالى والمعنى ثم تسكن وتطمئن جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله لينة تقبله أو تلين له ساكنة إليه. ولم يذكر القلوب في الجملة السابقة عند ذكر الاقشعرار لان المراد بالقلوب النفوس ولا اقشعرار لها وإنما لها الخشية. وقوله: " ذلك هدى الله يهدي به من يشاء " أي ما يأخذهم من اقشعرار الجلود من القرآن ثم سكون جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله هو هدى الله وهذا تعريف آخر للهداية بلازمها. وقوله: " يهدي به من يشاء من عباده " أي يهدي بهداه من يشاء من عباده وهو الذي لم يبطل استعداده للاهتداء ولم يشغل بالموانع عنه كالفسق والظلم وفي السياق

[ 257 ]

إشعار بأن الهداية من فضله وليس بموجب فيها مضطر إليها. وقيل: المشار إليه بقوله: " ذلك هدى الله " القرآن وهو كما ترى، وقد استدل بالايات على أن الهداية من صنع الله لا يشاركه فيها غيره، والحق أنها خالية عن الدلالة على ذلك وإن كان الحق هو ذلك بمعنى كونها لله سبحانه أصالة ولمن اختاره من عباده لذلك تبعا كما يستفاد من مثل قوله: " قل إن هدى الله هو الهدى " البقرة: 120 وقوله: " إن علينا للهدى " الليل: 12، وقوله: " وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا " الانبياء: 73، وقوله: " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " الشورى: 52. فالهداية كلها لله إما بلا واسطة أو بواسطة الهداة المهديين من خلقه وعلى هذا فمن أضله من خلقه بأن لم يهده بالواسطة ولا بلا واسطة فلا هادي له وذلك قوله في ذيل الاية: " ومن يضلل الله فما له من هاد " وسيأتي الجملة بعد عدة آيات وهي متكررة في كلامه تعالى. قوله تعالى: " أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون " مقايسة بين أهل العذاب يوم القيامة والامنين منه والفريقان هما أهل الضلال وأهل الهدى ولذا عقب الاية السابقة بهذه الاية. والاستفهام للانكار وخبر " من " محذوف والتقدير كمن هو في أمن منه، ويوم القيامة متعلق بيتقي، والمعنى أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة لكون يده التي بها كان يتقي المكاره مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن من العذاب لا يصيبه مكروه. كذا قيل. وقيل: الاتقاء بوجهه بالمعنى المذكور لا وجه له لان الوجه ليس مما يتقي به بل المراد الاتقاء بكليته أو بخصوص وجهه سوء عذاب يوم القيامة ويوم القيامة قيد للعذاب والمراد عكس الوجه السابق، والمعنى أفمن يتقي سوء العذاب الذي يوم القيامة في الدنيا بتقوى الله كالمصر على كفره، ولا يخلو من التكلف. وقوله: " وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون " القول لملائكة النار، والظاهر أن الجملة بتقدير قد أو بدونه والاصل وقيل لهم ذوقوا " الخ " لكن وضع الظاهر موضع

[ 258 ]

الضمير للدلالة على علة الحكم وهي الظلم. قوله تعالى: " كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون " أي من الجهة التي لا يحتسبون ففوجؤا وأخذوا على غفلة وهو أشد الاخذ، وفي الاية وما بعدها بيان لما أصاب بعض الكفار من عذاب الخزي ليكون عبرة لغيرهم. قوله تعالى: " فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الاخرة أكبر لو كانوا يعلمون " الخزي هو الذل والصغار، وقد أذاقهم الله ذلك في ألوان من العذاب أنزلنا عليهم كالغرق والخسف والصيحة والرجفة والمسخ والقتل. قوله تعالى: " ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون " أي ضربنا لهم من كل نوع من الامثال شيئا لعلهم يتنبهون ويعتبرون ويتعظون بتذكر ما تتضمنه. قوله تعالى: " قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون " العوج الانحراف والانعطاف، " قرآنا عربيا " منصوب على المدح بتقدير أمدح أو أخص ونحوه أو حال معتمد على الوصف. قوله تعالى: " ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان " الخ، قال الراغب: الشكس - بالفتح فالكسر - سيئ الخلق، وقوله: " شركاء متشاكسون " أي متشاجرون لشكاسة خلقهم. انتهى وفسروا السلم بالخالص الذي لا يشترك فيه كثيرون. مثل ضربه الله للمشرك الذي يعبد أربابا وآلهة مختلفين فيشتركون فيه وهم متنازعون فيأمره هذا بما ينهاه عنه الاخر وكل يريد أن يتفرد فيه ويخصه بخدمة نفسه، وللموحد الذي هو خالص لمخدوم واحد لا يشاركه فيه غيره فيخدمه فيما يريد منه من غير تنارع يؤدي إلى الحيرة فالمشرك هو الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون والموحد هو الرجل الذي هو سلم لرجل. لا يستويان بل الذي هو سلم لرجل أحسن حالا من صاحبه. وهذا مثل ساذج ممكن الفهم لعامة الناس لكنه عند المداقة يرجع إلى قوله

[ 259 ]

تعالى: " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " الانبياء: 22 وعاد برهانا على نفي تعدد الارباب والالهة. وقوله: " الحمد لله " ثناء لله بما أن عبوديته خير من عبودية من سواه. وقوله: " بل أكثرهم لا يعلمون " مزية عبادته على عبادة غيره على ما له من الظهور التام لمن له أدنى بصيرة. قوله تعالى: " إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون " الاية الاولى تمهيد لما يذكر في الثانية من اختصامهم يوم القيامة عند ربهم والخطاب في " إنكم " للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وامته أو المشركين منهم خاصة والاختصام - كما في المجمع - رد كل واحد من الاثنين ما أتى به الاخر على وجه الانكار عليه. والمعنى: إن عاقبتك وعاقبتهم الموت ثم إنكم جميعا يوم القيامة بعد ما حضرتم عند ربكم تختصمون وقد حكى مما يلقيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم " وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا " الفرقان: 30. والايتان عامتان بحسب لفظهما لكن الايات الاربع التالية تؤيد أن المراد بالاختصام ما يقع بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين الكافرين من امته يوم القيامة. قوله تعالى: " فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين " في الاية وما بعدها مبادرة إلى ذكر ما ينتهي إليه أمر اختصامهم يوم القيامة وتلويح إلى ما هو نتيجة القضاء بينهم كأنه قيل: ونتيجة ما يقضى به بينكم معلومة اليوم وأنه من هو الناجي منكم، ومن هو الهالك ؟ فإن القضاء يومئذ يدور مدار الظلم والاحسان ولا أظلم من الكافر والمؤمن متق محسن والظلم إلى النار والاحسان إلى الجنة. هذا ما يعطيه السياق. فقوله: " فمن أظلم ممن كذب على الله " أي افترى عليه بأن ادعى أن له شركاء والظلم يعظم بعظم من تعلق به وإذا كان هو الله سبحانه كان أعظم من كل ظلم ومرتكبه أظلم من كل ظالم. وقوله: " وكذب بالصدق إذ جاءه " المراد بالصدق الصادق من النباء وهو الدين

[ 260 ]

الالهي الذي جاء به الرسول بقرينة قوله: " إذ جاءه ". وقوله: " أليس في جهنم مثوى للمتكبرين " المثوى اسم مكان بمعنى المنزل والمقام، والاستفهام للتقرير أي إن في جهنم مقام هؤلاء الظالمين لتكبرهم على الحق الموجب لافترائهم على الله وتكذيبهم بصادق النباء الذي جاء به الرسول. والاية خاصة بمشركي عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بمشركي امته بحسب السياق وعامة لكل من ابتدع بدعة وترك سنة من سنن الدين. قوله تعالى: " والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون " المراد بالمجئ بالصدق الاتيان بالدين الحق والمراد بالتصديق به الايمان به والذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقوله: " أولئك هم المتقون " لعل الاشارة إلى الذي جاء به بصيغة الجمع لكونه جمعا بحسب المعنى وهو كل نبي جاء بالدين الحق وآمن بما جاء به بل وكل مؤمن آمن بالدين الحق ودعى إليه فإن الدعوة إلى الحق قولا وفعلا من شئون اتباع النبي، قال تعالى: " قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني " يوسف: 108. قوله تعالى: " لهم ما يشاؤن عند ربهم ذلك جزاء المحسنين " هذا جزاؤهم عند ربهم وهو أن لهم ما تتعلق به مشيتهم فالمشية هناك هي السبب التام لحصول ما يشاؤه الانسان أياما كان بخلاف ما عليه الامر في الدنيا فإن حصول شئ من مقاصد الحياة فيها يتوقف - مضافا إلى المشية - على عوامل وأسباب كثيرة منها السعي والعمل المستمد من الاجتماع والتعاون. فالاية تدل أولا على إقامتهم في دار القرب وجوار رب العالمين، وثانيا أن لهم ما يشاؤن فهذان جزاء المتقين وهم المحسنون فإحسانهم هو السبب في إيتائهم الاجر المذكور وهذه هي النكتة في إقامة الظاهر مقام الضمير في قوله: " وذلك جزاء المحسنين " وكان مقتضى الظاهر أن يقال: وذلك جزاؤهم. وتوصيفهم بالاحسان وظاهره العمل الصالح أو الاعتقاد الحق والعمل الحسن جميعا يشهد أن المراد بالتصديق المذكور هو التصديق قولا وفعلا. على أن القرآن لا يسمي تارك بعض ما أنزله الله من حكم مصدقا به.

[ 261 ]

قوله تعالى: " ليكفر الله عنهم أسوء الذي عملوا " إلى آخر الاية ومن المعلوم أنه إذا كفر أسوء أعمالهم كفر ما دون ذلك، والمراد بأسوء الذي عملوا ما هو كالشرك والكبائر. قال في مجمع البيان في الاية: أي أسقط الله عنهم عقاب الشرك والمعاصي التي فعلوها قبل ذلك بإيمانهم وإحسانهم ورجوعهم إلى الله تعالى انتهى وهو حسن من جهة تعميم الاعمال السيئة، ومن جهة تقييد التكفير بكونه قبل ذلك بالايمان والاحسان والتوبة فإن الاية تبين أثر تصديق الصدق الذي أتاهم وهو تكفير السيئات بالتصديق والجزاء الحسن في الاخرة. وقوله: " ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون ". قيل: المراد أنه ينظر إلى أعمالهم فيجازيهم في أحسنها جزاءه اللائق به وفي غير الاحسن يجازيهم جزاء الاحسن فالباء للمقابلة نحو بعت هذا بهذا. ويمكن أن يقال: إن المراد أنه ينظر إلى أرفع أعمالهم درجة فيترفع درجتهم بحسبه فلا يضيع شئ مما هو آخر ما بلغه عملهم من الكمال لكن في جريان نظير الكلام في تكفير الاسوء خفاء. وقيل: صيغة التفضيل في الاية " أسوء " و " أحسن " مستعملة في الزيادة المطلقة من غير نظر إلى مفضل عليه فإن معصية الله كلها أسوء وطاعته كلها أحسن. قوله تعالى: " أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه " المراد بالذين من دونه آلهتهم من دون الله على ما يستفاد من السياق، والمراد بالعبد من مدحه الله تعالى في الايات السابقة ويشمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم شمولا أوليا. والاستفهام للتقرير والمعنى هو يكفيهم، وفيه تأمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبال تخويفهم إياه بآلهتهم وكناية عن وعده بالكفاية كما صرح به في قوله: " فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم " البقرة: 137. قوله تعالى: " ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل " الخ جملتان كالمتعاكستين مرسلتان إرسال الضوابط الكلية ولذا جئ فيهما باسم الجلالة

[ 262 ]

وكان من قبيل وضع الظاهر موضع الضمير. وفي تعقيب قوله: " أليس الله بكاف " الخ بقوله: " ومن يضلل " الخ إشارة إلى أن هؤلاء المخوفين لا يهتدون بالايمان أبدا ولن ينجح مسعاهم وأنهم لن ينالوا بغيتهم ولا امنيتهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن الله لن يضله وقد هداه. وقوله: " أليس الله بعزيز ذي انتقام " استفهام للتقرير أي هو كذلك، وهو تعليل ظاهر لقوله: " ومن يضلل الله " الخ فإن عزته وكونه ذا انتقام يقتضيان أن ينتقم ممن جحد الحق وأصر على كفره فيضله ولا هادي يهديه لانه تعالى عزيز لا يغلبه فيما يريد غالب، وكذا إذا هدى عبدا من عباده لتقواه وإحسانه لم يقدر على إضلاله مضل. وفي التعليل دلالة على أن الاضلال المنسوب إلى الله تعالى هو ما كان على نحو المجازاة والانتقام دون الضلال الابتدائي وقد مر مرارا. (بحث روائي) عن روضة الواعظين روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرء " أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه " فقال: إن النور إذا وقع في القلب انفسح له وانشرح. قالوا: يا رسول الله فهل لذلك علامة يعرف بها ؟ قال: التجاني عن دار الغرور، والانابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزول الموت. أقول: ورواه في الدر المنثور عن ابن مردويه عن عبد الله بن مسعود وعن الحكيم الترمذي عن ابن عمر، وعن ابن جرير وغيره عن قتادة. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " أفمن شرح الله صدره " الاية قال: نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام. أقول: ونزول السورة دفعة لا يلائمه كما مر في نظيره. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن ابن عباس قالوا: يا رسول الله لو حدثتنا فنزل: " الله نزل أحسن الحديث ". أقول: وهو من التطبيق.

[ 263 ]

وفي المجمع في قوله تعالى: " تقشعر منه جلود " الاية روى عن العباس بن عبد المطلب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت (1) عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها. وفي الدر المنثور في قوله تعالى: " قرآنا عربيا غير ذي عوج " أخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: " قرآنا عربيا غير ذي عوج " قال: غير مخلوق. اقول: الاية تأبى عن الانطباق على الرواية وقد تقدم كلام في معنى الكلام في ذيل قوله تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض " البقرة: 253 في الجزء الثاني من الكتاب. وفي المجمع في قوله تعالى: " ورجلا سلما لرجل " روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بالاسناد عن علي أنه قال: أنا ذلك الرجل السلم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. اقول: ورواه أيضا عن العياشي بإسناده عن أبي خالد عن أبي جعفر عليه السلام وهو من الجري والمثل عام. وفيه في قوله تعالى: " ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون " قال ابن عمر: كنا نرى أن هذه فينا وفي أهل الكتابين وقلنا: كيف نختصم نحن ونبينا واحد وكتابنا واحد، حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعلمت أنها فينا نزلت. وقال أبو سعيد الخدري: كنا نقول: إن ربنا واحد ونبينا واحد وديننا واحد فما هذه الخصومة ؟ فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا: نعم هو هذا. اقول: وروى في الدر المنثور الحديث الاول بطرق مختلفة عن ابن عمر وفي ألفاظها اختلاف والمعنى واحد، ورواه أيضا عن عدة من أصحاب الجوامع عن إبراهيم النخعي، وروى ما يقرب منه بطريقين عن الزبير بن العوام، وروى الحديث الثاني عن سعيد بن منصور عن أبي سعيد الخدري. (1)


أي تناثرت.

[ 264 ]

والاحاديث تعارض ما روي أن الصحابة مجتهدون مأجورون إن أصابوا وإن أخطأوا. وفي المجمع في قوله تعالى: " والذي جاء بالصدق وصدق به " قيل: الذي جاء بالصدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدق به علي بن ابي طالب عليه السلام وهو المروي عن أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم. اقول: ورواه في الدر المنثور عن ابن مردويه عن أبي هريرة، والظاهر أنه من الجري نظرا إلى قوله في ذيل الاية " أولئك هم المتقون ". وروي من طرقهم أن الذي صدق به أبو بكر وهو أيضا من تطبيق الراوي، روي أن الذي جاء به جبريل والذي صدق به محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو أيضا تطبيق غير أن السياق يدفعه فإن الايات مسوقة لوصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وجبريل أجنبي عنه لا تعلق للكلام به. * * * ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون - 38. قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون - 39. من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم - 40. إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم

[ 265 ]

بوكيل - 41. الله يتوفى الانفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الاخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لايات لقوم يتفكرون - 42. أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون - 43. قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والارض ثم إليه ترجعون - 44. وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالاخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون - 45. قل اللهم فاطر السموات والارض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون - 46. ولو أن للذين ظلموا ما في الارض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيمة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون - 47. وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون - 48. فإذا مس الانسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون - 49. قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون - 50.

[ 266 ]

فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين - 51. أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لايات لقوم يؤمنون - 52. (بيان) في الايات كرة اخرى على المشركين بالاحتجاج على توحده تعالى في الربوبية وأنه لا يصلح لها شركاؤهم وأن الشفاعة التي يدعونها لشركائهم لا يملكها إلا الله سبحانه وفيها امور أخر متعلقة بالدعوة من موعظة وإنذار وتبشير. قوله تعالى: " ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن الله " إلى آخر الاية، شروع في إقامة الحجة وقد قدم لها مقدمة تبتني الحجة عليها وهي مسلمة عند الخصم وهي أن خالق العالم هو الله سبحانه فإن الخصم لا نزاع له في أن الخالق هو الله وحده لا شريك له وإنما يدعي لشركائه التدبير دون الخلق. وإذا كان الخلق إليه تعالى فما في السماوات والارض من عين ولا أثر إلا وينتهي وجوده إليه تعالى فما يصيب كل شئ من خير أو شر كان وجوده منه تعالى وليس لاحد أن يمسك خيرا يريده تعالى له أو يكشف شرا يريده تعالى له لانه من الخلق والايجاد ولا شريك له تعالى في الخلق والايجاد حتى يزاحمه في خلق شئ أو يمنعه من خلق شئ أو يسبقه إلى خلق شئ والتدبير نظم الامور وترتيب بعضها على بعض خلق وإيجاد فالله الخالق لكل شئ كاف في تدبير أمر العالم لانه الخالق لكل شئ وليس وراء الخلق شئ حتى يتوهم إستناده إلى غيره فهو الله رب كل شئ وإلهه لا رب سواه ولا إله غيره. فقوله: " قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله " أي أقم الحجة عليهم بانيا لها على هذه المقدمة المسلمة عندهم أن الله خالق كل شئ وقل مفرعا عليه أخبروني عما تدعون من دون الله، والتعبير عن آلهتهم بلفظة " ما " دون " من " ونحوه يفيد تعميم البيان للاصنام وأربابها جميعا فإن الخواص منهم وإن قصروا العبادة على الارباب من الملائكة

[ 267 ]

وغيرهم واتخذوا الاصنام قبلة وذريعة إلى التوجه إلى أربابها لكن عامتهم ربما أخذوا الاصنام نفسها أربابا وآلهة يعبدونها ونتيجة الحجة عامة تشمل الجميع. وقوله: " إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته " الضر كالمرض والشدة ونحوهما، وظاهر مقابلته الرحمة عمومه لكل مصيبة، وإضافة الضر والرحمة إلى ضميره تعالى في " كاشفات ضره " و " ممسكات رحمته " لحفظ النسبة لان المانع من كشف الضر وإمساك الرحمة هو نسبتهما إليه تعالى. وتخصيص الضر والرحمة به صلى الله عليه وآله وسلم من عموم الحجة له ولغيره لكونه المخاصم الاصيل لهم وقد خوفوه بآلهتهم من دون الله. وإرجاع ضمير الجمع المؤنث إلى ما يدعونه من دون الله لتغليب جانب غير اولي العقل من الاصنام وهو يؤيد ما قدمناه في قوله: " أفرأيتم ما تدعون من دون الله " أن التعبير بما لتعميم الحجة للاصنام وأربابها. وقوله: " قل حسبي الله " أمر بالتوكل عليه تعالى كما يدل عليه قوله بعده: " عليه يتوكل المتوكلون " وهو موضوع موضع نتيجة الحجة كأنه قيل: قل لهم: إني اتخذت الله وكيلا لان أمر تدبيري إليه كما أن أمر خلقي إليه فهو في معنى قولنا: فقد دلت الحجة على ربوبيته وصدقت ذلك عملا باتخاذه وكيلا في اموري. وقوله: " عليه يتوكل المتوكلون " تقديم الظرف على متعلقه للدلالة على الحصر أي عليه يتوكلون لا على غيره، وإسناد الفعل إلى الوصف من مادته للدلالة على كون المراد المتوكلين بحقيقة معنى التوكل ففي الجملة ثناء عليه تعالى بأنه الاهل للتوكل عليه يتوكل أهل البصيرة في التوكل فلا لوم علي إن توكلت عليه وقلت: حسبي الله. قوله تعالى: " قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل - إلى قوله - عذاب مقيم " المكانة هي المنزلة والقدر وهي في المعقولات كالمكان في المحسوسات فأمرهم بأن يعملوا على مكانتهم معناه أمرهم أن يستمروا على الحالة التي هم عليها من الكفر والعناد والصد عن سبيل الله. وقوله: " فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه " الظاهر أن " من " استفهامية

[ 268 ]

لا موصولة لظهور العلم فيما يتعلق بالجملة لا بالمفرد. وقوله: " ويحل عليه عذاب مقيم " أي دائم وهو المناسب للحلول، وتفكيك أمر العذابين يشهد أن المراد بالاول عذاب الدنيا وبالثاني عذاب الاخرة، وفي الكلام أشد التهديد. والمعنى قل مخاطبا للمشركين من قومك: يا قوم اعملوا - مستمرين - على حالتكم التي أنتم عليها من الكفر والعناد إني عامل - كما اؤمر غير منصرف عنه - فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويذله ؟ وهو عذاب الدنيا كما في يوم بدر ويحل عليه ولا يفارقه عذاب دائم وهو عذاب الاخرة. قوله تعالى: " إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق " إلى آخر الاية. في مقام التعليل للامر الذي في الاية السابقة، واللام في قوله: " للناس " للتعليل أي لاجل الناس أن تتلوه عليهم وتبلغهم ما فيه، والباء في قوله: " بالحق " للملابسة أي ملابسا للحق لا يشوبه باطل. وقوله: " فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها " أي يتفرع على هذا الانزال أن من اهتدى فإنما يعود نفعه من سعادة الحياة وثواب الدار الاخرة إلى نفسه، ومن ضل ولم يهتد به فإنما يعود شقاؤه ووباله من عقاب الدار الاخرة إلى نفسه فالله سبحانه أجل من أن ينتفع بهداهم أو يتضرر بضلالهم. وقوله: " وما أنت عليهم بوكيل " أي مفوضا إليه أمرهم قائما بتدبير شئونهم حتى توصل ما فيه من الهدى إلى قلوبهم. والمعنى إنما أمرناك أن تهددهم بما قلنا لانا نزلنا عليك الكتاب بالحق لاجل أن تقرأه على الناس لا غير فمن اهتدى منهم فإنما يعود نفعه إلى نفسه ومن ضل ولم يهتد به فإنما يعود ضرره إلى نفسه وما أنت وكيلا من قبلنا عليهم تدبر شئونهم فتوصل الهدى إلى قلوبهم فليس لك من الامر شئ. قوله تعالى: " الله يتوفى الانفس حين موتها " إلى آخر الاية، قال في المجمع: التوفي قبض الشئ على الايفاء والاتمام يقال: توفيت حقي من فلان واستوفيته بمعنى.

[ 269 ]

انتهى. تقديم المسند إليه في الاية يفيد الحصر أي هو تعالى المتوفي لها لا غير وإذا انضمت الاية إلى مثل قوله تعالى: " قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم " السجدة: 11، وقوله: " حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا " الانعام: 61 أفادت معنى الاصالة والتبعية أي إنه تعالى هو المتوفي بالحقيقة وملك الموت والملائكة الذين هم أعوانه أسباب متوسطة يعملون بأمره. وقوله: " الله يتوفى الانفس حين موتها " المراد بالانفس الارواح المتعلقة بالابدان لا مجموع الارواح والابدان لان المجموع غير مقبوض عند الموت وإنما المقبوض هو الروح يقبض من البدن بمعنى قطع تعلقه بالبدن تعلق التصرف والتدبير والمراد بموتها موت أبدانها إما بتقدير المضاف أو بنحو المجاز العقلي، وكذا المراد بمنامها. وقوله: " والتي لم تمت في منامها " معطوف على الانفس في الجملة السابقة، والظاهر أن المنام اسم زمان وفي منامها متعلق بيتوفى والتقدير ويتوفى الانفس التي لم تمت في وقت نومها. ثم فصل تعالى في القول في الانفس المتوفاة في وقت النوم فقال: " فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الاخرى إلى أجل مسمى " أي فيحفظ النفس التي قضى عليها الموت كما يحفظ النفس التي توفاها حين موتها ولا يردها إلى بدنها، ويرسل النفس الاخرى التي لم يقض عليها الموت إلى بدنها إلى أجل مسمى تنتهي إليه الحياة. وجعل الاجل المسمى غاية للارسال دليل على أن المراد بالارسال جنسه بمعنى أنه يرسل بعض الانفس إرسالا واحدا وبعضها إرسالا بعد إرسال حتى ينتهي إلى الاجل المسمى. ويستفاد من الاية أولا: أن النفس موجود مغاير للبدن بحيث تفارقه وتستقل عنه وتبقى بحيالها. وثانيا: أن الموت والنوم كلاهما توف وإن افترقا في أن الموت توف لا إرسال بعده والنوم توف ربما كان بعده إرسال. ثم تمم الاية بقوله: " إن في ذلك لايات لقوم يتفكرون " فيتذكرون أن الله

[ 270 ]

سبحانه هو المدبر لامرهم وأنهم إليه راجعون سيحاسبهم على ما عملوا. قوله تعالى: " أم اتخذوا من دون الله شفعاء " الخ " أم " منقطعة أي بل اتخذ المشركون من دون الله شفعاء وهم آلهتهم الذين يعبدونهم ليشفعوا لهم عند الله سبحانه كما قال في أول السورة: " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " وقال: " يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله " يونس: 18. وقوله: " قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون " أمر بأن يرده عليهم بالمناقشة في إطلاق كلامهم فإن من البديهي أن الشفاعة تتوقف على علم في الشفيع يعلم به ما يريد ؟ وممن يريد ؟ ولمن يريد ؟ فلا معنى لشفاعة الجهاد الذي لا شعور له وكذا تتوقف على أن يملك الشفيع الشفاعة ويكون له حق أن يشفع ولا ملك لغير الله إلا أن يملكه الله شيئا ويأذن له في التصرف فيه فقولهم بشفاعة أوليائهم مطلقا الشامل لما لا يملكونه ولا علم لهم بإذنه تعالى لهم فيها تخرص. فالاستفهام في " أو لو كانوا " الخ للانكار والمعنى قل لهم: هل تتخذونهم شفعاءلكم ولو كانوا لا يملكون من عند أنفسهم شيئا كالملائكة ولا يعقلون شيئا كالاصنام ؟ فإنه سفه. قوله تعالى: " قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والارض " الخ توضيح وتأكيد لما مر من قوله: " قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا " واللام في " لله " للملك، وقوله: " له ملك السماوات والارض " في مقام التعليل الجملة السابقة، والمعنى كل شفاعة فإنها مملوكة لله فإنه المالك لكل شئ إلا أن يأذن لاحد في شئ منها فيملكه إياها، وأما استغلال بعض عباده كالملائكة يملك الشفاعة مطلقا كما يقولون فمما لا يكون قال تعالى: " ما من شفيع إلا من بعد إذنه " يونس: 3. وللاية معنى آخر أدق إذا انضمت إلى مثل قوله تعالى: " ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع " الانعام: 51 وهو أن الشفيع بالحقيقة هو الله سبحانه وغيره من الشفعاء لهم الشفاعة بإذن منه فقد تقدم في بحث الشفاعة في الجزء الاول من الكتاب أن الشفاعة ينتهي إلى توسط بعض صفاته تعالى بينه وبين المشفوع له لاصلاح حاله كتوسط الرحمة والمغفرة بينه وبين عبده المذنب لانجائه من وبال الذنب وتخليصه من العذاب. والفرق بين هذا الملك وما في الوجه السابق أن المالك لا يتصف بمملوكه في الوجه

[ 271 ]

السابق كما في ملك زيد للدار بخلاف الملك في هذا الوجه فإن المالك فيه يتصف بمملوكه كملك زيد الشجاع لشجاعته. وقوله: " ثم إليه ترجعون " تعليل آخر لكونه يملك الشفاعة جميعا الدال على الحصر وذلك أن الشفاعة إنما يملكها الذي ينتهي إليه أمر المشفوع له إن شاء قبلها وأصلح حال المشفوع له وأما غيره فإنما يملكها إذ رضي بها وأذن فيها والله سبحانه هو الذي يرجع إليه العباد دون الذين يدعون من دون الله فالله هو المالك للشفاعة جميعا فقولهم يكون أوليائهم شفعاء لهم مطلقا ثم عبادتهم لهم كذلك بناء بلا مبنى يعتمد عليه. وقيل: قوله: " ثم إليه ترجعون " تهديد لهم كأنه قيل: ثم إليه ترجعون فتعلمون أنهم لا يشفعون لكم ويخيب سعيكم في عبادتهم. وقيل: يحتمل أن يكون تنصيصا على مالكية الاخرة التي فيها معظم نفع الشفاعة وإيماء إلى انقطاع الملك الصوري عما سواه تعالى، والوجه ما قدمناه. قوله تعالى: " وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالاخرة " الخ المراد من ذكره تعالى وحده جعله مفردا بالذكر من غير ذكر آلهتهم ومن مصاديقه قول لا إله إلا الله، والاشمئزاز الانقباض والنفور عن الشئ. وإنما ذكر من وصفهم عدم إيمانهم بالاخرة لان ذلك هو الاصل في اشمئزازهم ولو كانوا مؤمنين بالاخرة وأنهم يرجعون إلى الله فيجازيهم بأعمالهم عبدوه دون أوليائهم ولم يرغبوا عن ذكره وحده. وقوله: " وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون " المراد بالذين من دونه آلهتهم، والاستبشار سرور القلب بحيث يظهر أثره في الوجه. قوله تعالى: " قل اللهم فاطر السماوات والارض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم " الخ لما بلغ الكلام مبلغا لا يرجى معه فيهم خير لنسيانهم أمر الاخرة وإنكارهم الرجوع إليه تعالى حتى كانوا يشمئزون من ذكره تعالى وحده أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يذكره تعالى وحده ويذكرهم حكمه بين عباده فيما اختلفوا فيه في صورة الالتجاء إليه تعالى على ما فيه من الاقرار بالبعث وقد وصف الله تعالى بأنه فاطر السماوات والارض أي مخرجها من

[ 272 ]

كتم العدم إلى ساحة الوجود، وعالم الغيب والشهادة فلا يخفى عليه شئ، ولازمه أن يحكم بالحق وينفذ حكمه. قوله تعالى: " ولو أن للذين ظلموا ما في الارض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة " الخ المراد بالذين ظلموا هم الذين ظلموا في الدنيا فالفعل يفيد مفاد الوصف، والظالمون هم المنكرون للمعاد كما قال: " أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالاخرة كافرون " الاعراف: 45. والمعنى: ولو أن الظالمين المنكرين للمعاد ضعفي ما في الارض من أموال وذخائر وكنوز لجعلوه فدية من سوء العذاب. وقوله: " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " البداء والبدو بمعنى الظهور والحساب والحسبان العد، والاحتساب الاعتداد بالشئ بمعنى البناء على عده شيئا وكثيرا ما يستعمل الحسبان والاحتساب بمعنى الظن كما قيل ومنه قوله: " ما لم يكونوا يحتسبون " أي ما لم يكونوا يظنون لكن فرق الراغب بين الحسبان والظن حيث قال: والحسبان أن يحكم لاحد النقيضين من غير أن يخطر الاخر بباله ويكون بعرض أن يعتريه فيه شك، ويقارب ذلك الظن لكن الظن أن يخطر النقيضين بباله فيغلب أحدهما على الاخر. انتهى. ومقتضى سياق الاية أن المراد بيان أنهم سيواجهون يوم القيامة امورا على صفة هي فوق ما تصوروه وأعظم وأهول مما خطر ببالهم لا أنهم يشاهدون أمورا ما كانوا يعتقدونها ويذعنون بها وبالجملة كانوا يسمعون أن الله حسابا ووزنا للاعمال وقضاء ونارا وألوانا من العذاب فيقيسون ما سمعوه - على إنكار منهم له - على ما عهدوه من هذه الامور في الدنيا فلما شاهدوها إذ ظهرت لهم وجدوها أعظم مما كان يخطر ببالهم من صفتها فهذه الاية في وصف عذابه نظير قوله في وصف نعيم أهل الجنة: " فلا تعلم نفس ما اخفي لهم من قرة أعين " السجدة: 17. وأيضا مقتضى السياق أن البدو المذكور من قبيل الظهور بعد الخفاء والانكشاف بعد الاستتار كما يشير إليه قوله تعالى: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " ق: 22. قوله تعالى: " وبدا لهم سيئات ما كسبوا " إلى آخر الاية أي ظهر لهم سيئات

[ 273 ]

أعمالهم بعد ما كانت خفية عليهم فهو كقوله: " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء " آل عمران: 30. وقوله: " وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن " أي ونزل عليهم وأصابهم ما كانوا يستهزؤن به في الدنيا إذا سمعوه من أولياء الدين من شدائد يوم القيامة وأهواله وأنواع عذابه. قوله تعالى: " فإذا مس الانسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة قال إنما اوتيته على علم " الخ الاية في مقام التعليل البياني لما تقدم من وصف الظالمين ولذا صدرت بالفاء لتتفرع على ما تقدم تفرع البيان على المبين. فهو تعالى لما ذكر من حالهم أنهم أعرضوا عن كل آية دالة على الحق ولم يصغوا إلى الحجج المقامة عليهم ولم يسمعوا موعظة ولم يعتدوا بعبرة فجحدوا ربوبيته تعالى وأنكروا البعث والحساب وبلغ بهم ذلك أن اشمأزت قلوبهم إذا ذكر الله وحده. بين أن ذلك مما يستدعيه طبع الانسان المائل إلى اتباع هوى نفسه والاغترار بما زين له من نعم الدنيا والاسباب الظاهرية الحافة بها فالانسان حليف النسيان إذا مسه الضر أقبل إلى ربه وأخلص له ودعاه ثم إذا خوله ربه نعمة نسبه إلى علم نفسه وخبرته ونسي ربه وجهل أنها فتنة فتن بها. فقوله: " فإذا مس الانسان ضر " أي مرض أو شدة " دعانا " أي خصنا بالدعاء وانقطع عن غيرنا. وقوله: " ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما اوتيته على علم " التخويل الاعطاء على نحو الهبة، وتقييد النعمة بقوله: " منا " للدلالة على كون وصف النعمة محفوظا لها والمعنى خولناه نعمة ظاهرا كونها نعمة. وضمير " اوتيته " للنعمة بما أنه شئ أو مال والعناية في ذلك بالاشارة إلى أنه لا يعترف بكونها نعمة منا بل يقطعها عنا فيسميها شيئا أو مالا ونحوه ولا يسميها نعمة حتى يضطره ذلك إلى الاعتراف بمنعم والاشارة إليه كما قال: " اوتيته " فصفح عن

[ 274 ]

الفاعل لذلك والتعبيران أعني " نعمة منا " " إنما اوتيته " من لطيف تعبير القرآن، وقد وجهوا تذكير الضمير في " اوتيته " بوجوه أخر غير موجهة من أرادها فليرجع إلى المفصلات. والملائم لسياق الاية أن يكون معنى " على علم " على علم مني أي اوتيت هذا الذي أوتيت على علم مني وخبرة بطرق كسب المعاش واقتناء الثروة وجمع المال. وقيل: المراد إنما أوتيته على علم من الله بخير عندي استحق به أن يؤتيني النعمة، وقيل: المراد على علم مني برضى الله عني، وأنت خبير بأن ما تقدم من معنى قوله: " ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته " لا يلائم شيئا من القولين. وقوله: " بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون " أي بل النعمة التي خولناه منا فتنة أي ابتلاء وامتحان نمتحنه بذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون بذلك. وقيل: معناه بل تلك النعمة عذاب لهم، وقيل: المعنى بل هذه المقالة فتنة لهم يعاقبون عليها والوجهان بعيدان سيما الاخير. قوله تعالى: " قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فأصابهم سيئات ما كسبوا " ضمير " قد قالها " راجع إلى القول السابق باعتبار أنه مقالة أو كلمة. والاية رد لقولهم وإثبات لكونها فتنة يمتحنون بها بأنهم لو اوتوها على علم منهم واكتسبوها بحولهم وقوتهم لاغنى عنهم كسبهم ولم يصبهم سيئات ما كسبوا وحفظوها لانفسهم وتنعموا بها ولم يهلكوا دونها وليس كذلك فهؤلاء الذين قبلهم قالوا هذه المقالة فما أغنى عنهم كسبهم وأصابهم سيئات ما كسبوا. والظاهر أن الاية تشير بقوله: " قد قالها الذين من قبلهم " إلى قارون وأمثاله وقد حكي عنه قول " إنما اوتيته على علم مني " في قصته من سورة القصص. قوله تعالى: " والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم ما كسبوا وما هم بمعجزين " الاشارة بهؤلاء إلى قومه صلى الله عليه وآله وسلم والمعنى أن هؤلاء الذين ظلموا من قومك سبيلهم سبيل من قبلهم سيصيبهم سيئات كسبهم ووبالات عملهم وما هم بمعجزين لله. قوله تعالى: " أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر " الخ جواب آخر

[ 275 ]

عن قول القائل منهم: " إنما اوتيته على علم " وقد كان الجواب الاول " قد قالها الذين من قبلهم " الخ جوابا من طريق النقض وهذا جواب من طريق المعارضة بالاشارة إلى دلالة الدليل على أن الله سبحانه هو الذي يبسط الرزق ويقدر. بيان ذلك: أن سعي الانسان عن علم وإرادة لتحصيل الرزق ليس سببا تاما موجبا لحصول الرزق وإلا لم يتخلف ومن البين خلافه فكم من طالب رجع آيسا وساع خاب سعيه. فهناك علل وشرائط زمانية ومكانية و موانع مختلفة باختلاف الظروف خارجة عن حد الاحصاء إذا اجتمعت وتوافقت أنتج ذلك حصول الرزق. وليس اجتماع هذه العلل والشرائط على ما فيها من الاختلاف و التشتت والتفرق من مادة وزمان ومكان ومقتضيات اخر مرتبطة بها مقارنة أو متقدمة وعلل العلل ومقدماتها الذاهبة إلى ما لا يحصى، اجتماعا وتوافقا على سبيل الاتفاق فإن الاتفاق لا يكون دائميا ولا أكثريا وقانون ارتزاق المرتزقين الشامل للموجودات الحية بل المنبسط على أقطار العالم المشهود وأرجائه ثابت محفوظ في نظام جار على ما فيه من السعة والانبساط ولو انقطع لهلكت الاشياء لاول لحظة ومن فورها. وهذا النظام الجاري بوحدته وتناسب أجزاؤه وتلاؤمها يكشف عن وحدانية ناظمه وفردانية مدبره ومديره الخارج عن أجزاء العالم المحفوظة بنفس النظام الباقية به وهو الله عز اسمه. على أن النظام من التدبير والتدبير من الخلق كما مر مرارا فخالق العالم مدبره ومدبره رازقه وهو الله تعالى شأنه. ويشير إلى هذا البرهان في الاية قوله: " لمن يشاء " فإنه إذا كان بسط الرزق وقدره بمشيته تعالى لم يكن بمشية الانسان الذي يتبجح بعلمه وسعيه ولا بمشية شئ من العلل والاسباب وإيجابه كما هو ظاهر وليس من قبيل الاتفاق بل هو على نظام جار فهو بمشية جاعل النظام ومجريه وهو الله سبحانه. وقد تقدم كلام في معنى الرزق في ذيل قوله تعالى: " وترزق من تشاء بغير حساب " آل عمران: 27 وسيأتي كلام فيه في تفسير قوله: " فو رب السماء والارض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون " الذاريات: 23 إن شاء الله تعالى.

[ 276 ]

(بحث روائي) في التوحيد عن علي عليه السلام في حديث وقد سأله رجل عما اشتبه عليه من الايات قال: وأما قوله: " يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم " وقوله: " الله يتوفى الانفس حين موتها " وقوله: " توفته رسلنا وهم لا يفرطون " وقوله: " الذين يتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " وقوله: " الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم " فإن الله تبارك وتعالى يدبر الامر كيف يشاء ويوكل من خلقه من يشاء بما يشاء أما ملك الموت فإن الله يوكله بخاصته ممن يشاء من خلقه ويوكل رسله من الملائكة خاصة بمن يشاء من خلقه. وليس كل العلم يستطيع صاحب العلم أن يفسره لكل الناس لان فيهم القوي والضعيف، ولان منه ما يطاق حمله ومنه ما لا يطاق حمله إلا أن يسهل الله له حمله وأعانه عليه من خاصة أوليائه. وإنما يكفيك أن تعلم أن الله المحيي المميت، وأنه يتوفى الانفس على يدي من يشاء من خلقه من ملائكته وغيرهم. وفي الخصال عن علي عليه السلام في حديث الاربعمائة: لا ينام المسلم وهو جنب لا ينام إلا على طهور فإن لم يجد الماء فليتيمم بالصعيد فإن روح المؤمن ترفع إلى الله تعالى فيقبلها ويبارك عليها فإن كان أجلها قد حضر جعلها في كنوز رحمته وإن لم يكن أجلها قد حضر بعث بها مع امنائه من ملائكته فيردونها في جسده. وفي المجمع روى العياشي بالاسناد عن الحسن بن محبوب عن عمرو بن ثابت عن أبي المقدام عن أبيه عن أبي جعفر عليه السلام قال: ما من أحد ينام إلا عرجت نفسه إلى السماء وبقيت روحه في بدنه وصار بينهما سبب كشعاع الشمس فإن أذن الله في قبض الارواح أجابت الروح النفس وإن أذن الله في رد الروح أجابت النفس الروح وهو قوله سبحانه: " الله يتوفى الانفس حين موتها " الاية. فمهما رأت في ملكوت السماوات فهو مما له تأويل وما رأت فيما بين السماء والارض فهو مما يخيله الشيطان ولا تأويل له.

[ 277 ]

وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن سليم بن عامر أن عمر بن الخطاب قال: العجب من رؤيا الرجل إنه يبيت فيرى الشئ لم يخطر له على بال فيكون رؤياه كأخذ باليد ويرى الرجل الرؤيا فلا يكون رؤياه شيئا. فقال علي بن أبي طالب: أفلا اخبرك بذلك يا أمير المؤمنين يقول الله تعالى: " الله يتوفى الانفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الاخرى إلى أجل مسمى " فالله يتوفى الانفس كلها فما رأت وهي عنده في السماء فهي الرؤيا الصادقة، وما رأت إذا ارسلت إلى أجسادها تلقيها الشياطين في الهواء فكذبتها وأخبرتها بالاباطيل فعجب عمر من قوله. اقول: تقدم تفصيل الكلام في الرؤيا في سورة يوسف والرجوع إليه يعين في فهم معنى الروايتين، وقد اطلق فيهما السماء على ما اصطلح عليه بعالم المثال الاعظم وما بين السماء والارض على ما اصطلح عليه بعالم المثال الاصغر فتبصر. * * * قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم - 53. وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون - 54. واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون - 55. أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين - 56. أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين - 57.

[ 278 ]

أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين - 58. بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين - 59. ويوم القيمة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين - 60. وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون - 61. (بيان) في الايات أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعوهم إلى الاسلام واتباع ما أنزل الله ويحذرهم عما يستعقبه اسرافهم على أنفسهم من الحسرة والندامة يوم لا ينفعهم ذلك مع استكبارهم في الدنيا على الحق والفوز والنجاة يومئذ للمتقين والنار و الخسران للكافرين، وفي لسان الايات من الرأفة والرحمة ما لا يخفى. قوله تعالى: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " الخ أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعوهم من قبله ويناديهم بلفظة يا عبادي وفيه تذكير بحجة الله سبحانه على دعوتهم إلى عبادتهم وترغيب لهم إلى استجابة الدعوة أما التذكير بالحجة فلانه يشير إلى أنهم عباده وهو مولاهم ومن حق المولى على عبده أن يطيعه ويعبده فله أن يدعوه إلى طاعته وعبادته، وأما ترغيبهم إلى استجابة الدعوة فلما فيه من الاضافة إليه تعالى الباعث لهم إلى التمسك بذيل رحمته ومغفرته. وقوله: " الذين أسرفوا على أنفسهم " الاسراف - على ما ذكره الراغب - تجاوز الحد في كل فعل يفعله الانسان وإن كان ذلك في الانفاق أشهر، وكأن الفعل مضمن معنى الجناية أو ما يقرب منها ولذا عدي بعلى. والاسراف على النفس هو التعدي عليها باقتراف الذنب أعم من الشرك وسائر الذنوب الكبيرة والصغيرة على ما يعطيه السياق. وقال جمع: إن المراد بالعباد المؤمنون وقد غلب استعماله فيهم مضافا إليه تعالى

[ 279 ]

في القرآن فمعنى يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم أيها المؤمنون المذنبون. ويدفعه أن قوله: " يا عبادي الذين أسرفوا " إلى تمام سبع آيات ذو سياق واحد متصل يفصح عن دعوتهم وقوله في ذيل الايات: " بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت " الخ كالصريح أو هو صريح في شمول العباد للمشركين. وما ورد في كلامه تعالى من لفظ " عبادي " والمراد به المؤمنون بضعة عشر موردا جميعها محفوفة بالقرينة وليس بحيث ينصرف عند الاطلاق إلى المؤمنين كما أن الموارد التي أطلق فيها واريد به الاعم من المشرك والمؤمن في كلامه كذلك. وبالجملة شمول " عبادي " في الاية للمشركين لا ينبغي أن يرتاب فيه، والقول بأن المراد به المشركون خاصة نظرا إلى سياق الايات كما نقل عن ابن عباس أقرب إلى القبول من تخصيصه بالمؤمنين. وقوله: " لا تقنطوا من رحمة الله " القنوط اليأس، والمراد بالرحمة بقرينة خطاب المذنبين ودعوتهم هو الرحمة المتعلقة بالاخرة دون ما هي أعم الشاملة للدنيا و الاخرة ومن المعلوم أن الذي يفتقر إليه المذنبون من شئون رحمة الاخرة بلا واسطة هو المغفرة فالمراد بالرحمة المغفرة ولذا علل النهي عن القنوط من الرحمة بقوله: " إن الله يغفر الذنوب جميعا ". وفي الاية التفات من التكلم إلى الغيبة حيث قيل: " إن الله يغفر " ولم يقل: إني أغفر وذلك للاشارة إلى أنه الله الذي له الاسماء الحسنى ومنها أنه غفور رحيم كأنه يقول لا تقنطوا من رحمتي فإني أنا الله أغفر الذنوب جميعا لان الله هو الغفور الرحيم. وقوله: " إن الله يغفر الذنوب جميعا " تعليل للنهي عن القنوط وإعلام بأن جميع الذنوب قابلة للمغفرة فالمغفرة عامة لكنها تحتاج إلى سبب مخصص ولا تكون جزافا، والذي عده القرآن سببا للمغفرة أمران: الشفاعة (1) والتوبة لكن ليس المراد في قوله: " إن الله يغفر الذنوب جميعا " المغفرة الحاصلة بالشفاعة لان الشفاعة لا تنال (1)


وقد مر الكلام فيها في مباحث الشفاعة في الجزء الاول من الكتاب.

[ 280 ]

الشرك بنص القرآن في آيات كثيرة وقد مر أيضا أن قوله: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " النساء: 48 ناظر إلى الشفاعة والاية أعني قوله: " إن الله يغفر الذنوب جميعا " موردها الشرك وسائر الذنوب. فلا يبقى إلا أن يكون المراد المغفرة الحاصلة بالتوبة وكلامه تعالى صريح في مغفرة الذنوب جميعا حتى الشرك بالتوبة. على أن الايات السبع - كما عرفت - كلام واحد ذو سياق واحد متصل ينهى عن القنوط - وهو تمهيد لما يتلوه - ويأمر بالتوبة والاسلام والعمل الصالح وليست الاية الاولى كلاما مستقلا منقطعا عما يتلوه حتى يحتمل عدم تقييد عموم المغفرة فيها بالتوبة وأي سبب آخر مفروض للمغفرة. والاية أعني قوله: " إن الله يغفر الذنوب جميعا " من معارك الاراء بينهم فقد ذهب قوم إلى تقييد عموم المغفرة فيها بالشرك وسائر الكبائر التي وعد الله عليها النار مع عدم تقييد العموم بالتوبة فالمغفرة لا تنال إلا الصغائر من الذنوب. وذهب آخرون إلى إطلاق المغفرة وعدم تقيدها بالتوبة ولا بسبب آخر من أسباب المغفرة غير أنهم قيدوها بالشرك لصراحة قوله: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " الاية فاستنتجوا عموم المغفرة وإن لم يكن هناك سبب مخصص يرجح المذنب المغفور له على غيره في مغفرته كالتوبة والشفاعة وهي المغفرة الجزافية وقد استدلوا على (1) ذلك بوجوه غير سديدة. وأنت خبير بأن مورد الاية هو الشرك وسائر الذنوب، ومن المعلوم من كلامه تعالى أن الشرك لا يغفر إلا بالتوبة فتقيد إطلاق المغفرة في الاية بالتوبة مما لا مفر منه. قوله تعالى: " وانيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون " عطف على قوله: " لا تقنطوا "، والانابة إلى الله الرجوع إليه وهو التوبة، وقوله: (1)


وقد استدل الالوسى في روح المعاني على عدم تقيد إطلاق المغفرة في الاية بالتوبة بسبعة عشر وجبا لا تغنى طائلا، وناقش في كون المغفرة لا عن سبب مرجح من التوبة وغيرها منافيا للحكمة ثم قيد الاية بتقدير " لمن يشاء " لوقوعه في بعض القراءات غير المشهورة فراجعه إن شئت.

[ 281 ]

" إلى ربكم " من وضع الظاهر موضع المضمر وكان مقتضى الظاهر أن يقال: وأنيبوا إليه والوجه فيه الاشارة إلى التعليل فإن الملاك في عبادة الله سبحانه صفة ربوبية. والمراد بالاسلام التسليم لله والانقياد له فيما يريد، وإنما قال: " وأسلموا له " ولم يقل: وآمنوا به لان المذكور قبل الاية وبعدها استكبارهم على الحق والمقابل له الاسلام. وقوله: " من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون " متعلق بقوله: " أنيبوا وأسلموا " والمراد بالعذاب عذاب الاخرة بقرينة الايات التالية، ويمكن على بعد أن يراد مطلق العذاب الذي لا تقبل معه التوبة ومنه عذاب الاستئصال قال تعالى: " فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده " المؤمن: 85. والمراد بقوله: " ثم لا تنصرون " أن المغفرة لا تدرككم بوجه لعدم تحقق سببها فالتوبة مفروضة العدم والشفاعة لا تشمل الشرك. قوله تعالى: " واتبعوا أحسن ما انزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون " الخطاب عام للمؤمن والكافر كالخطابات السابقة والقرآن قد انزل إلى الفريقين جميعا. وفي الاية أمر بإتباع أحسن ما انزل من الله قيل: المراد به اتباع الاحكام من الحلال والحرام دون القصص، وقيل: اتباع ما أمر به ونهي عنه كاتيان الواجب والمستحب واجتناب الحرام والمكروه دون المباح، وقيل: الاتباع في العزائم وهي الواجبات والمحرمات، وقيل: اتباع الناسخ دون المنسوخ، وقيل: ما أنزل هو جنس الكتب السماوية وأحسنها القرآن فاتباع أحسن ما انزل وهو اتباع القرآن. والانصاف أن قوله في الاية السابقة: " وأسلموا له " يشمل مضمون كل من هذه الاقوال فحمل قوله: " واتبعوا أحسن ما انزل إليكم " على شئ منها لا يخلو عن تكرار من غير موجب. ولعل المراد من أحسن ما أنزل الخطابات التي تشير إلى طريق استعمال حق العبودية في امتثال الخطابات الالهية الاعتقادية والعملية وذلك كالخطابات الداعية إلى ذكر الله تعالى بالاستغراق وإلى حبه وإلى تقواه حق تقاته وإلى إخلاص الدين له فإن

[ 282 ]

اتباع هذه الخطابات يحيي الانسان حياة طيبة وينفخ فيه روح الايمان ويصلح أعماله ويدخله في ولاية الله تعالى وهي الكرامة ليست فوقها كرامة. وقوله: " من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون " أنسب لهذا المعنى فإن الدعوة إلى عمل بالتخويف من مفاجاة الحرمان ومباغتة المانع إنما تكون غالبا فيما يساهل المدعو في أمره ويطيب نفسه بسوف ولعل، وهذا المعنى أمس بإصلاح الباطن منه بإصلاح الظاهر والاتيان بأجساد الاعمال، ويقرب منه قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه " الانفال: 24. قوله تعالى: " أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله " الخ قال في المجمع: التفريط إهمال ما يجب أن يتقدم فيه حتى يفوت وقته، وقال: التحسر الاغتمام مما فات وقته لانحساره عنه بما لا يمكن استدراكه. انتهى. وقال الراغب: الجنب الجارحة. قال: ثم يستعار في الناحية التي تليها لعادتهم في استعارة سائر الجوارح لذلك نحو اليمين والشمال. انتهى. فجنب الله جانبه وناحيته وهي ما يرجع إليه تعالى مما يجب على العبد أن يعامله ومصداق ذلك أن يعبده وحده ولا يعصيه والتفريط في جنب الله التقصير في ذلك. وقوله: " وإن كنت لمن الساخرين " " إن " مخففة من الثقيلة، والساخرين اسم فاعل من سخر بمعنى استهزء. ومعنى الاية إنما نخاطبكم بهذا الخطاب حذر أن تقول أو لئلا تقول نفس منكم يا حسرتا على ما قصرت في جانب الله وإني كنت من المستهزئين، وموطن القول يوم القيامة. قوله تعالى: " أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين " ضمير تقول للنفس، والمراد بالهداية الارشاد وإراءة الطريق، والمعنى ظاهر وهو قطع للعذر. قوله تعالى: " أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين " لو للتمني والكرة الرجعة، والمعنى أو تقول نفس متمنية حين ترى العذاب يوم القيامة: ليت لي رجعة إلى الدنيا فأكون من المحسنين.

[ 283 ]

قوله تعالى: " بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين " رد لها وجواب لخصوص قولها ثانيا: " لو أن الله هداني لكنت من المتقين " وموطن الجواب يوم القيامة كما أن موطن القول ذلك ولسياق الجواب شهادة عليه. وقد فصل بين قولها وجوابه بقوله: " أو تقول حين ترى " الخ ولم يجب إلا عن قولها: " لو أن الله هداني " الخ. والوجه في الفصل أن الاقوال الثلاثة المنقولة عنها مرتبة على ترتيب صدورها عن المجرمين يوم القيامة فإذا قامت القيامة ورآى المجرمون أن اليوم يوم الجزاء بالاعمال وقد فرطوا فيها وفاتهم وقتها تحسروا على ما فرطوا ونادوا بالحسرة على تفريطهم " يا حسرتا على ما فرطت " قال تعالى: " حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها " الانعام: 31. ثم إذا حوسبوا وأمر المتقون بدخول الجنة وقيل: " وامتازوا اليوم أيها المجرمون " يس: 59 تعللوا بقولهم: " لو أن الله هداني لكنت من المتقين ". ثم إذا امروا بدخول النار فأوقفوا عليها ثم ادخلوا فيها تمنوا الرجوع إلى الدنيا ليحسنوا فيها فيسعدوا " أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة " قال تعالى: " ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين " الانعام: 27، وقال حاكيا عنهم: " ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون " المؤمنون: 107. ثم لما نقل الاقوال على ما بينها من الترتيب أخذ في الجواب ولو أخر القول المجاب عنه حتى يتصل بالجواب أو قدم الجواب حتى يتصل به اختل النظم (1). وقد خص قولهم الثاني: " لو أن الله هداني " الخ بالجواب وأمسك عن جواب قولهم الاول والثالث لان في الاول حديث استهزائهم بالحق وأهله وفي الثالث تمنيهم للرجوع إلى الدنيا والله سبحانه يزجر هؤلاء يوم القيامة ويمنعهم أن يكلموه ولا يجيب عن كلامهم كما يشير إلى ذلك قوله: " قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا (1)


وأصل الوجه مأخوذ من تفسير أبى السعود باصلاح منا.

[ 284 ]

أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسؤا فيها ولا تكلمون إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكرى وكنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون " المؤمنون: 111. قوله تعالى: " ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين " الكذب على الله هو القول بأن له شريكا وأن له ولدا ومنه البدعة في الدين. وسواد الوجه آية الذلة وهي جزاء تكبرهم ولذا قال: " أليس في جهنم مثوى للمتكبرين ". قوله تعالى: " وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون " الظاهر أن مفازة مصدر ميمي بمعنى الفوز وهو الظفر بالمراد، والباء في " بمفازتهم " للملابسة أو السببية فالفوز الذي يقضيه الله لهم اليوم سبب تنجيتهم. وقوله: " لا يمسهم " الخ بيان لتنجيتهم كأنه قيل: ينجيهم لا يمسهم السوء من خارج ولا هم يحزنون في أنفسهم. وللاية نظر إلى قوله تعالى في ذيل آيات سورة المؤمنون المنقولة آنفا: " إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون " فتدبر ولا تغفل. (بحث روائي) في المجمع عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: ما في القرآن آية أوسع من: " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " الاية. اقول: ورواه في الدر المنثور عن ابن جرير عن ابن سيرين عنه عليه السلام، وستأتي إن شاء الله في تفسير سورة الليل الرواية عنه عليه السلام أن قوله تعالى: " ولسوف يعطيك ربك فترضى " أرجى من هذه الاية. وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي

[ 285 ]

في شعب الايمان عن ثوبان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الاية " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " إلى آخر الاية. فقال رجل: يا رسول الله فمن أشرك " فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: إلا من أشرك. اقول: في الرواية شئ فقد تقدم أن مورد الاية هو الشرك وأن الاية مقيدة بالتوبة. وفيه أخرج ابن أبي شيبة ومسلم عن أبي أيوب الانصاري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقا يذنبون فيغفر لهم. اقول: ما في الحديث من المغفرة لا يأبى التقيد بأسباب المغفره كالتوبة والشفاعة. وفي المجمع قيل: هذه الاية يعني قوله: " يا عبادي الذين أسرفوا " الخ نزلت في وحشي قاتل حمزة حين أراد أن يسلم وخاف أن لا تقبل توبته فلما نزلت الاية أسلم فقيل: يا رسول الله هذه له خاصة أم للمسلمين عامة ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: بل للمسلمين عامة. وعن كتاب سعد السعود لابن طاوس نقلا عن تفسير الكلبي: بعث وحشي وجماعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ما يمنعنا من دينك إلا أننا سمعناك تقرء في كتابك أن من يدعو مع الله إلها آخر ويقتل النفس ويزني يلق أثاما ويخلد في العذاب ونحن قد فعلنا ذلك كله فبعث إليهم بقوله تعالى: " إلا من تاب وآمن وعمل صالحا " فقالوا: نخاف أن لا نعمل صالحا. فبعث إليهم " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " فقالوا نخاف أن لا ندخل في المشية. فبعث إليهم " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا " فجاؤا وأسلموا. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوحشي قاتل حمزة: غيب وجهك عني فإني لا أستطيع النظر إليك. قال: فلحق بالشام فمات في الخمر. اقول: وروى ما يقرب منه في الدر المنثور بعدة طرق وفي بعضها أن قوله: " يا عبادي الذين أسرفوا " الخ نزل فيه كما في خبر المجمع السابق، ويضعفه أن السورة مكية وقد أسلم وحشي بعد الهجرة. على أن ظاهر الخبر عدم تقيد إطلاق المغفرة في

[ 286 ]

الاية بالتوبة وقد عرفت أن السياق يأباه. وقوله: فمات في الخمر لعله بفتح الخاء وتشديد الميم موضع من أعراض المدينة ولعله من غلط الناسخ والصحيح الحمص، ولعل المراد به موته عن شرب الخمر فإنه كان مدمن الخمر وقد جلد في ذلك غير مرة ثم ترك. واعلم أن هناك روايات كثيرة عن أئمة اهل البيت عليه السلام في تطبيق هذه الايات على شيعتهم وتطبيق جنب الله عليهم وهي جميعا من الجري دون التفسير ولذا تركنا إيرادها ههنا. * * * الله خالق كل شئ وهو على كل شئ وكيل - 62. له مقالبد (؟) السموات والارض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون 63. قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون - 64. ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين - 65. بل الله فاعبد وكن من الشاكرين - 66. وما قدروا الله حق قدره والارض جميعا قبضته يوم القيمة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون - 67. ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الارض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون - 68. وأشرقت الارض بنور ربها ووضع الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء وقضي

[ 287 ]

بينهم بالحق وهم لا يظلمون - 69. ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون - 70. وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين - 71. قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين - 72. وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين - 73. وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الارض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين - 74. وترى الملئكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين - 75. (بيان) فصل من الايات به تختتم السورة يذكر فيه خلاصة ما تنتجه الحجج المذكورة فيها قبل ذلك ثم يؤمر صلى الله عليه وآله وسلم أن يخاطب المشركين أن ما اقترحوا به عليه أن يعبد آلهتهم ليس إلا جهلا بمقامه تعالى ويذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما اوحى إليه وإلى الذين من قبله: لئن أشرك ليحبطن عمله.

[ 288 ]

ثم يذكر سبحانه أن المشركين ما عرفوه واجب معرفته وإلا لم يرتابوا في ربوبيته لهم ولا عبدوا غيره ثم يذكر تعالى نظام الرجوع إليه وهو تدبير جانب المعاد من الخلقة ببيان جامع كاف لا مزيد عليه ويختم السورة بالحمد. قوله تعالى: " الله خالق كل شئ " هذا هو الذي ذكر اعتراف المشركين به من قبل في قوله: " ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن الله " الاية 38 من السورة وبنى عليه إستناد الاشياء في تدبيرها إليه. والجملة في المقام تمهيد لما يذكر بعدها من كون التدبير مستندا إليه لما تقدم مرارا أن الخلق لا ينفك عن التدبير فانتقل في المقام من استناد الخلق إليه إلى اختصاص الملك به وهو قوله: " له مقاليد السماوات والارض " ومن اختصاص الملك به إلى كونه هو الوكيل على كل شئ القائم مقامه في تدبير أمره. وقد تقدم في ذيل قوله: " ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ " الانعام: 102 في الجزء السابع من الكتاب كلام في معنى عموم الخلقة لكل شئ. قوله تعالى: " وهو على كل شئ وكيل " وذلك لان انتهاء خلق كل شئ وجوده إليه يقتضى أن يكون تعالى هو المالك لكل شئ فلا يملك شئ من الاشياء لا نفسه ولا شيئا مما يترشح من نفسه إلا بتمليك الله تعالى، فهو لفقره مطلقا لا يملك تدبيرا والله المالك لتدبيره. وأما تمليكه تعالى له نفسه وعمله فهو أيضا نوع من تدبيره تعالى مؤكد لملكه غير ناف ولا مناف حتى أن توكيله الملائكة على شئ من الامر من شئون وكالته تعالى عليهم لا تفويض للامر وإبطال للوكالة فافهم ذلك. وبالجملة إذ كان كل شئ من الاشياء لا يملك لنفسه شيئا كان سبحانه هو الوكيل عليه القائم مقامه المدبر لامره والاسباب والمسببات في ذلك سواء فالله سبحانه هو ربها وحده. فقد تبين أن الجملة مسوقة للاشارة إلى توحده في الربوبية وهو المقصود بيانه فقول بعضهم إن ذكر ذلك بعد قوله: " الله خالق كل شئ " للدلالة على أنه هو الغني المطلق وأن المنافع والمضار راجعة إلى العباد، أو أن المراد أنه تعالى حفيظ على كل شئ

[ 289 ]

فيكون إشارة إلى أن الاشياء محتاجة إليه في بقائها كما أنها محتاجة إليه في حدوثها، أجنبي عن معنى الاية بالمرة. قوله تعالى: " له مقاليد السماوات والارض " الخ المقاليد - كما قيل - بمعنى المفاتيح ولا مفرد له من لفظه. ومفاتيح السماوات والارض مفاتيح خزائنها قال تعالى: " ولله خزائن السماوات والارض " المنافقون: 7 وخزائنها غيبها الذي يظهر منه الاشياء والنظام الجاري فيها فتخرج إلى الشهادة قال تعالى: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " الحجر: 21. وملك مقاليد السماوات والارض كناية عن ملك خزائنها التي منها وجودات الاشياء وأرزاقها وأعمارها وآجالها وسائر ما يواجهها في مسيرها من حين تبتدئ منه تعالى إلى حين ترجع إليه. وهو أعني قوله: " له مقاليد " الخ في مقام التعليل لقوله: " وهو على كل شئ وكيل " ولذا جئ به مفصولا من غير عطف. وقوله: " والذين كفروا بآيات ربهم أولئك هم الخاسرون " قد تقدم أن قوله: " الله خالق كل شئ - إلى قوله - والارض " ذكر خلاصة ما تفيده الحجج المذكورة في خلال الايات السابقة، وعليه فقوله: " والذين كفروا بآيات ربهم " الخ معطوف على قوله: " الله خالق كل شئ " والمعنى الذي تدل عليه الايات والحجج المتقدمة أن الله سبحانه خالق فما لك فوكيل على كل شئ أي متوحد في الربوبية والالوهية والذين كفروا بآيات ربهم فلم يوحدوه ولم يعبدوه أولئك هم الخاسرون. وقد اختلفوا فيما عطف عليه قوله: " والذين كفروا " الخ فذكروا فيه وجوها مختلفة كثيرة لا جدوى فيها من أرادها فليرجع إلى المطولات. قوله تعالى: " قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون " لما أورد سبحانه خلاصة ما تنطق به الحجج المذكورة في السورة من توحده تعالى بالخلق والملك والتدبير

[ 290 ]

ولازم ذلك توحده تعالى في الربوبية والالوهية أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يخاطب المشركين المقترحين عليه أن يعبد آلهتهم أنه لا يبقى مع هذه الحجج الباهرة الظاهرة محل لعبادته غير الله وإجابة اقتراحهم وهل هي إلا الجهل. فقوله: " أفغير الله تأمروني أعبد " الفاء لتفريع مضمون الجملة على قوله: " الله خالق كل شئ " إلى آخر الايتين، والاستفهام إنكارى، و " غير الله " مفعول " أعبد " قدم عليه لتعلق العناية به، و " تأمروني " معترض بين الفعل ومفعوله وأصله تأمرونني أدغمت فيه إحدى النونين في الاخرى. وقوله: " أيها الجاهلون " خطابهم بصفة الجهل للاشارة إلى أن أمرهم إياه بعبادة غير الله واقتراحهم بذلك مع ظهور آيات وحدته في الربوبية والالوهية ليس إلا جهلا منهم. قوله تعالى: " ولقد اوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك " الخ فيه تأييد لمدلول الحجج العقلية المذكورة بالوحي كأنه قيل: لا تعبد غير الله فإنه جهل وكيف يسوغ لك أن تعبده وقد دل الوحي على النهي عنه كما دل العقل على ذلك. فقوله: " ولقد اوحي إليك " اللام للقسم، وقوله: " لئن أشركت ليحبطن عملك " بيان لما اوحي إليه، وتقدير الكلام وأقسم لقد أوحي إليك لئن أشركت " الخ " وإلى الذين من قبلك من الانبياء والرسل لئن أشركتم ليحبطن عملكم ولتكونن من الخاسرين. وخطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الانبياء عليه السلام بالنهي عن الشرك وإنذارهم بحبط العمل والدخول في زمرة الخاسرين خطاب وإنذار على حقيقة معناهما كيف ؟ وغرض السورة - كما تقدمت الاشارة إليه - بيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مأمور بالايمان بما يدعو المشركين إلى الايمان به مكلف بما يكلفهم ولا يسعه أن يجيبهم إلى ما يقترحون به عليه من عبادة آلهتهم. وأما كون الانبياء معصومين بعصمة إلهية يمتنع معها صدور المعصية عنهم فلا يوجب ذلك سقوط التكليف عنهم وعدم صحة توجهه إليهم ولو كان كذلك لم تتصور في حقهم معصية كسائر من لا تكليف عليه فلم يكن معنى لعصمتهم.

[ 291 ]

على أن العصمة - وهي قوة يمتنع معها صدور المعصية - من شئون مقام العلم - كما تقدمت الاشارة إليه في تفسير قوله تعالى: " وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ " النساء: 113 - لا تنافي ثبوت الاختيار الذي هو من شئون مقام العمل وصحة صدور الفعل والترك عن الجوارح. فمنع العلم القطعي بمفسدة شئ منعا قطعيا عن صدوره عن العالم به كمنع العلم بأثر السم عن شربه لا ينافي كون العالم بذلك مختارا في الفعل لصحة صدوره ولا صدوره عن جوارحه فالعصمة لا تنافي بوجه التكليف. ومما تقدم يظهر ضعف ما يستفاد من بعضهم أن نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن الشرك ونحوه نهي صوري والمراد به نهي امته فهو من قبيل " إياك أعني واسمعي يا جارة ". ووجه الضعف ظاهر مما تقدم، وأما قولنا كما ورد في بعض الروايات أن هذه الخطابات القرآنية من قبيل " إياك أعني واسمعي يا جارة " فمعناه أن التكليف لما كان من ظاهر أمره أن يتعلق بمن يجوز عليه الطاعة والمعصية فلو تعلق بمن ليس منه إلا الطاعة مع مشاركة غيره له كان ذلك تكليفا على وجه أبلغ كالكناية التي هي أبلغ من التصريح. وقوله: " ولتكونن من الخاسرين " ظهر معناه مما تقدم ويمكن أن يكون اللام في الخاسرين مفيدا للعهد، والمعنى ولتكونن من الخاسرين الذين كفروا بآيات الله وأعرضوا عن الحجج الدالة على وحدانيته. قوله تعالى: " بل الله فاعبد وكن من الشاكرين " إضراب عن النهي المفهوم من سابق الكلام كأنه قيل: فلا تعبد غير الله بل الله فاعبد، وتقديم اسم الجلالة للدلالة على الحصر. والفاء في " فاعبد " زائدة للتأكيد على ما قيل، وقيل: هي فاء الجزاء وقد حذف شرطه والتقدير بل إن كنت عابدا أو عاقلا فا عبد الله. وقوله: " وكن من الشاكرين " أي وكن بعبادتك له من الذين يشكرونه على نعمه الدالة على توحده في الربوبية والالوهية، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: " وسيجزي الله الشاكرين " آل عمران: 144 وقوله: " ولا تجد أكثرهم شاكرين " الاعراف:

[ 292 ]

17 أن مصداق الشاكرين بحقيقة معنى الكلمة هم المخلصون بفتح اللام فراجع. قوله تعالى: " وما قدروا الله حق قدره " إلى آخر الاية قدر الشئ هو مقداره وكميته من حجم أو عدد أو وزن وما أشبه ذلك ثم استعير للمعنويات من المكانة والمنزلة. فقوله: " وما قدروا الله حق قدره " تمثيل أريد به عدم معرفتهم به تعالى واجب المعرفة إذ لم يعرفوه من حيث المعاد ورجوع الاشياء إليه كما يدل عليه تعقيب الجملة بقوله: " والارض جميعا قبضته يوم القيامة " إلى آخر السورة حيث ذكر فيه انقطاع كل سبب دونه يوم القيامة، وقبضه الارض وطيه السماوات ونفخ الصور لاماتة الكل ثم لاحيائهم وإشراق الارض بنور ربها ووضع الكتاب والمجئ بالنبيين والشهداء والقضاء وتوفية كل نفس ما عملت وسوق المجرمين إلى النار والمتقين إلى الجنة فمن كان شأنه في الملك والتصرف هذا الشأن وعرف بذلك أوجبت هذه المعرفة الاقبال إليه بعبادته وحده والاعراض عن غيره بالكلية. لكن المشركين لما لم يؤمنوا بالمعاد ولم يقدروه حق قدره ولم يعرفوه واجب معرفته أعرضوا عن عبادته إلى عبادة من سواه. وقوله: " والارض جميعا قبضته يوم القيامة " أي الارض بما فيها من الاجزاء والاسباب الفعالة بعضها في بعض، والقبضة مصدر بمعنى المقبوضة، والقبض على الشئ وكونه في القبضة كناية عن التسلط التام عليه أو انحصار التسلط عليه في القابض والمراد ههنا المعنى الثاني كما يدل عليه قوله تعالى: " والامر يومئذ لله " الانفطار: 19 وغيره من الايات. وقد مر مرارا أن معنى انحصار الملك والامر والحكم والسلطان وغير ذلك يوم القيامة فيه تعالى ظهور ذلك لاهل الجمع يومئذ وإلا فهي له تعالى دائما فمعنى كون الارض جميعا قبضته يوم القيامة ظهور ذلك يومئذ للناس لا أصله. وقوله: " والسماوات مطويات بيمينه " يمين الشئ يده اليمنى وجانبه القوى ويكنى بها عن القدرة، ويستفاد من السياق أن محصل الجملتين أعني قوله: " والارض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه " تقطع الاسباب الارضية والسماوية وسقوطها وظهور أن لا مؤثر في الوجود إلا الله سبحانه.

[ 293 ]

وقوله: " سبحانه وتعالى عما يشركون " تنزيه له تعالى عما أشركوا غيره في ربوبيته والوهيته فنسبوا تدبير العالم إلى آلهتهم وعبدوها. قوله تعالى: " ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الارض إلا من شاء الله " الخ ظاهر ما ورد في كلامه تعالى في معنى نفخ الصور أن النفخ نفختان نفخة للاماتة ونفخة للاحياء، وهو الذي تدل عليه روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام وبعض ما ورد من طرق أهل السنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان بعض آخر من رواياتهم لا يخلو عن إبهام ولذا اختار بعضهم أنها ثلاث نفخات نفخة للاماتة ونفخة للاحياء والبعث ونفخة للفزع والصعق وقال بعضهم: إنها أربع نفخات ولكن دون إثبات ذلك من ظواهر الايات خرط القتاد. ولعل انحصار النفخ في نفختي الاماتة والاحياء هو الموجب لتفسيرهم الصعق في النفخة الاولى بالموت مع أن المعروف من معنى الصعق الغشية، قال في الصحاح: يقال: صعق الرجل صعقا وتصاعقا أي غشي عليه وأصعقه غيره، ثم قال: وقوله تعالى: " فصعق من في السماوات ومن في الارض " أي مات. انتهى. وقوله: " إلا من شاء الله " استثناء من أهل السماوات والارض واختلف في من هم ؟ فقيل: هم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل سادة الملائكة فإنهم إنما يموتون بعد ذلك، وقيل: هم هؤلاء الاربعة وحملة العرش، وقيل: هم رضوان والحور ومالك والزبانية، وقيل: وهو أسخف الاقوال: إن المراد بمن شاء الله هو الله سبحانه. وأنت خبير بأن شيئا من هذه الاقاويل لا يستند إلى دليل من لفظة الايات يصح الاستناد إليه. نعم لو تصور لله سبحانه خلق وراء السماوات والارض جاز استثناؤهم من أهلهما استثناء منقطعا أو قيل: إن الموت إنما يلحق الاجساد بانقطاع تعلق الارواح بها وأما الارواح فإنها لا تموت فالارواح هم المستثنون استثناء متصلا، ويؤيد هذا الوجه بعض (1) الروايات المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام. (1)


وهو ما وود في قوله تعالى: " لمن الملك اليوم " المؤمن: 16 أن الجواب بقوله: " لله الواحد القهار " من أرواح الانبياء وغير ذلك من الروايات.

[ 294 ]

وقوله: " ونفخ فيه اخرى فإذا هم قيام ينظرون " ضمير " فيه " للصور، و " اخرى " صفة محذوف موصوفها أي نفخة أخرى، وقيام جمع قائم و " ينظرون " أي ينتظرون أو من النظر بمعناه المعروف. والمعنى: ونفخ في الصور نفخة اخرى فإذا هم قائمون من قبورهم ينتظرون ما يؤمرون أو ينتظرون ماذا يفعل بهم أو فإذا هم قائمون ينظرون نظر المبهوت المتحير. ولا ينافي ما في هذه الاية من كونهم بعد النفخ قياما ينظرون ما في قوله: " ونفخ في الصور فإذا هم من الاجداث إلى ربهم ينسلون " يس: 51 أي يسرعون، وقوله: " يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا " النبأ: 18، وقوله: " ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الارض " النمل: 87 فإن فزعهم بالنفخ وإسراعهم في المشي إلى عرصة المحشر وإتيانهم إليها أفواجا كقيامهم ينظرون حوادث متقارنة لا يدفع بعضها بعضا. قوله تعالى: " وأشرقت الارض بنور ربها " إلى آخر الاية إشراق الارض إضاءتها، والنور معروف المعنى وقد استعمل النور في كلامه تعالى في النور الحسي كثيرا واطلق أيضا على الايمان وعلى القرآن بعناية أن كلا منهما يظهر للمتلبس به ما خفي عليه لولاه قال تعالى: " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور " البقرة: 257، وقال: " فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا " التغابن: 8. وقد اختلفوا في معنى إشراق الارض بنور ربها فقيل: إنها تضئ بنور يخلقه الله بلا واسطة أجسام مضيئة كالشمس والقمر وإضافته إليه تعالى من قبيل " روحي " و " ناقة الله ". وفيه أنه لا يستند إلى دليل يعتمد عليه. وقيل: المراد به تجلي الرب تعالى لفصل القضاء كما ورد في بعض الاخبار من طرق أهل السنة. وفيه أنه على تقدير صحة الرواية لا يدل على المدعي. وقيل: المراد به إضاءة الارض بعدل ربها يوم القيامة لان نور الارض بالعدل كما أن نور العلم بالعمل.

[ 295 ]

وفيه أن صحة استعارة النور للعدل في نفسه لا تستلزم كون المراد بالنور في الاية هو العدل إلا بدليل يدل عليه ولم يأت به. وفي الكشاف قد استعار الله عز وجل النور للحق والبرهان في مواضع من التنزيل وهذا من ذاك، والمعنى وأشرقت الارض بما يقيمه فيها من الحق والعدل ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات. وينادي عليه بأنه مستعار إضافته إلى اسمه لانه هو الحق العدل، وإضافة اسمه إلى الارض لانه يزينها حيث ينشر فيها عدله وينصب فيها موازين قسطه، ويحكم بالحق بين أهلها، ولا ترى أزين للبقاع من العدل ولا أعمر لها منه، وفي هذه الاضافة أن ربها وخالقها هو الذي يعدل فيها وإنما يجور فيها غير ربها، ثم ما عطف على إشراق الارض من وضع الكتاب والمجئ بالنبيين والشهداء والقضاء بالحق وهو النور المذكور، وترى الناس يقولون للملك العادل: أشرقت الافاق بعدلك وأضاءت الدنيا بقسطك كما تقول أظلمت البلاد بجور فلان قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الظلم ظلمات يوم القيامة وكما فتح الاية بإثبات العدل ختمها بنفي الظلم. انتهى وفيه أولا: أن قوله إن النور مستعار في مواضع كثيرة من القرآن للحق والقرآن والبرهان فاستعارته للحق والبرهان غير ظاهر في شئ من الايات. وثانيا: ان الحق والعدل مفهومان متغايران وإن كانا ربما يتصادقان وكون النور في الاية مستعارا للحق لا يستلزم كون العدل مرادا به، ولذا لما أراد بيان إرادة العدل من النور ذكر الحق مع العدل ثم استنتج للعدل دون الحق. ولا يبعد أن يراد - والله أعلم - من إشراق الارض بنور ربها ما هو خاصة يوم القيامة من انكشاف الغطاء وظهور الاشياء بحقائقها وبدو الاعمال من خير أو شر أو طاعة أو معصية أو حق أو باطل للناظرين، وإشراق الشئ هو ظهوره بالنور ولا ريب أن مظهرها يومئذ هو الله سبحانه إذ الاسباب ساقطة دونه فالاشياء مشرقة بنور مكتسب منه تعالى. وهذا الاشراق وإن كان عاما لكل شئ يسعه النور لكن لما كان الغرض بيان ما للارض وأهله يومئذ من الشأن خصها بالبيان فقال: " وأشرقت الارض بنور ربها "

[ 296 ]

وذكره تعالى بعنوان ربوبية الارض تعريضا للمشركين المنكرين لربوبيته تعالى للارض وما فيها. والمراد بالارض مع ذلك الارض وما فيها وما يتعلق بها كما تقدم أن المراد بالارض في قوله: " والارض جميعا قبضته " ذلك. ويستفاد ما قدمناه من مواضع كثيرة من كلامه تعالى كقوله تعالى: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " ق: 22 وقوله: " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء " آل عمران: 30، وقوله: " يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " الزلزال: 8 وآيات اخرى كثيرة تدل على ظهور الاعمال وتجسمها وشهادة الاعضاء وغير ذلك. وقوله: " ووضع الكتاب " قيل: المراد به الحساب وهو كما ترى وقيل: المراد به صحائف الاعمال التي يحاسب عليها ويقضى بها، وقيل: المراد به اللوح المحفوظ ويؤيده قوله تعالى: " هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون " الجاثية: 29. وقوله: " وجئ بالنبيين والشهداء " أما النبيون فليسألوا عن أداء رسالتهم كما يشعر به السياق قال تعالى: " فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين " الاعراف: 6، وأما الشهداء وهم شهداء الاعمال فليؤدوا ما تحملوه من الشهادة قال تعالى: " فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " النساء: 41. وقوله: " وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون " ضميرا الجمع للناس المعلوم من السياق، والقضاء بينهم هو القضاء فيما اختلفوا فيه الوارد كرارا في كلامه تعالى قال: " إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " يونس: 93. قوله تعالى: " ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون " التوفية الاعطاء بالتمام وقد علقت بنفس ما عملت دون جزائه ويقطع ذلك الريب في كونه قسطا وعدلا من أصله والاية بمنزلة البيان لقوله: " وهم لا يظلمون ".

[ 297 ]

وقوله: " وهو أعلم بما يفعلون " أي ليس حكمه بهذا النمط من وضع الكتاب والمجئ بالنبيين والشهداء عن جهل منه وحاجة بل لان يجري حكمه على القسط والعدل فهو أعلم بما يفعلون. والاية السابقة تتضمن القضاء والحكم وهذه الاية إجراؤه والايات اللاحقة تفصيل إجرائه. قوله تعالى: " وسيق الذين كفروا إلى جهنم " إلى آخر الاية السوق بالفتح فالسكون - على ما في المجمع - الحث على السير، والزمر جمع زمرة وهي - كما في الصحاح - الجماعة من الناس. والمعنى " وسيق " وحث على السير " الذين كفروا إلى جهنم زمرا " جماعة بعد جماعة " حتى إذا جاؤها " بلغوها " فتحت أبوابها " لاجل دخولهم وهي سبعة قال تعالى: " لها سبعة أبواب " الحجر: 44 " وقال لهم خزنتها " وهم الملائكة الموكلون عليها يقولون لهم تهجينا وإنكارا عليهم " ألم يأتيكم رسل منكم " من نوعكم من البشر " يتلون " ويقرؤن " عليكم آيات ربكم " من الحجج الدالة على وحدانيته ووجوب عبادته " قالوا " بلى قد جاؤا وتلوا " ولكن " كفرنا وكذبنا و " حقت كلمة العذاب على الكافرين " وكلمة العذاب هي قوله تعالى حين أمر آدم بالهبوط: " والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " البقرة: 39. قوله تعالى: " قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين " القائل - على ما يفيده السياق - خزنة جهنم، وفي قوله: " فبئس مثوى المتكبرين " دلالة على أن هؤلاء الذين كفروا هم المكذبون بآيات الله المعاندون للحق. قوله تعالى: " وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها " لم يذكر في الاية جواب إذا إشارة إلى أنه أمر فوق ما يوصف ووراء ما يقدر بقدر، وقوله: " وفتحت أبوابها " حال أي جاؤها وقد فتحت أبوابها، وقوله: " خزنتها " هم الملائكة الموكلون عليها. والمعنى " وسيق " وحث على السير " الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا " جماعة بعد جماعة " حتى إذا جاؤها و " قد " فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها " الموكلون عليها

[ 298 ]

مستقبلين لهم " سلام عليكم " أنتم في سلام مطلق لا يلقاكم إلا ما ترضون " طبتم " ولعله تعليل لاطلاق السلام " فادخلوها خالدين " فيها. وهو أثر طيبهم. قوله تعالى: " وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الارض " إلى آخر الاية. القائلون هم المتقون والمراد بالوعد ما تكرر في كلامه تعالى وفيما اوحي إلى سائر الانبياء من وعد المتقين بالجنة قال: " للذين اتقوا عند ربهم جنات " آل عمران: 15 وقال: " إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم " القلم: 34، كذا قيل، وقيل: المراد بالوعد الوعد بالبعث والثواب. ولا يبعد أن يراد بالوعد الوعد بإيراث الجنة كما في قوله: " أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون " المؤمنون: 11 ويكون قوله: " وأورثنا الارض " عطف تفسير لقوله " صدقنا وعده ". وقوله: " وأورثنا الارض " المراد بالارض - على ما قالوا - أرض الجنة وهي التي عليها الاستقرار فيها وقد تقدم في أول سورة المؤمنون أن المراد بوراثتهم الجنة بقاؤها لهم بعد ما كانت في معرض أن يشاركها غيرهم أو يملكها دونهم لكنهم زالوا عنها فانتقلت إليهم. وقوله: " نتبوء من الجنة حيث نشاء " بيان لايراثهم الارض، وتبديل ضمير الارض بالجنة للاشارة إلى أنها المراد بالارض. وقيل: المراد بالارض هي أرض الدنيا وهو سخيف إلا أن يوجه بأن الجنة هي عقبى هذه الدار قال تعالى: " أولئك لهم عقبى الدار " الرعد: 22. والمعنى وقال المتقون بعد دخول الجنة: الحمد لله الذي صدقنا وعده أن سيدخلنا أو أن سيورثنا الجنة نسكن منها حيث نشاء ونختار - فلهم ما يشاؤن فيها -. وقوله: " فنعم أجر العاملين " أي فنعم الاجر أجر العاملين لله تعالى، وهو على ما يعطيه السياق قول أهل الجنة، واحتمل أن يكون من قوله تعالى. قوله تعالى: " وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم " إلى آخر الاية. الحف الاحداق والاحاطة بالشئ، والعرش هو المقام الذي يصدر منه

[ 299 ]

الفرامين والاوامر الالهية التي يدبر بها العالم، والملائكة هم المجرون لمشيته العاملون بأمره، ورؤية الملائكة على تلك الحال كناية عن ظهور ذلك وقد طويت السماوات. والمعنى: وترى يومئذ الملائكة والحال أنهم محدقون بالعرش مطيفون به لاجراء الامر الصادر منه وهم يسبحون بحمد ربهم. وقوله: " وقضى بينهم " احتمل رجوع الضمير إلى الملائكة، ورجوعه إلى الناس والملائكة جميعا، ورجوعه إلى جميع الخلائق، ورجوعه إلى الناس فالقضاء بين أهل الجنة وأهل النار منهم أو بين الانبياء واممهم. ويضعف الاحتمال الاخير أن القضاء بين الناس قد ذكر قبلا في قوله: " وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون " فذكر القضاء بينهم ثانيا تكرار من غير موجب. لكن ظاهر القضاء بين جماعة هو الحكم لبعضهم على بعض لوجود اختلاف ما بينهم ولا تحقق للاختلاف بين الملائكة، وهذا يؤيد أن يكون الضمير لغيرهم والقضاء بين الناس غير أن القضاء كما يطلق على نفس حكم الحاكم يصح إطلاقه على مجموع الحكم ومقدماته وتبعاته من حضور المتخاصمين وطرح الدعوى وشهادة الشهود وحكم الحاكم وإيفاء المحق حقه فمن الممكن أن يكون المراد بالقضاء المذكور أولا نفس الحكم الالهي وبهذا القضاء المذكور ثانيا هو مجموع ما يجري عليهم من حين يبعثون إلى حين دخول أهل النار النار وأهل الجنة الجنة واستقرارهم فيهما وبذلك يندفع إشكال التكرار من غير موجب. وقوله: " وقيل الحمد لله رب العالمين " كلمة خاتمة للبدء والعود وثناء عام له تعالى أنه لم يفعل ولا يفعل إلا الجميل. قيل: قائله المتقون وكان حمدهم الاول على دخولهم الجنة والثاني للقضاء بينهم وبين غيرهم بالحق، وقيل: قائله الملائكة ولم ينسب إليهم صريحا لتعظيم أمرهم، وقيل: القائل جميع الخلائق. ويؤيد الاول قوله تعالى في صفة أهل الجنة: " وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين " يونس: 10 وهو حمد عام خاتم للخلقة كما سمعت.

[ 300 ]

(بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين " فهذه مخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعنى لامته، وهو ما قاله الصادق عليه السلام: إن الله عز وجل بعث نبيه باياك أعني واسمعي يا جارة. وعن كتاب التوحيد بإسناده إلى الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن الله عز وجل لا يوصف. قال: وقال زرارة: قال أبو جعفر عليه السلام: إن الله لا يوصف وكيف يوصف وقد قال في كتابه: " وما قدروا الله حق قدره ؟ " فلا يوصف بقدر إلا كان أعظم من ذلك. وفيه بإسناده عن سليمان بن مهران قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: " والارض جميعا قبضته يوم القيامة " قال: ملكه لا يملكها معه أحد. والقبض عن الله تعالى في موضع آخر المنع والبسط منه الاعطاء والتوسع كما قال عز وجل: " والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون " يعني يعطي ويوسع ويضيق، والقبض منه عز وجل في وجه آخر الاخذ والاخذ في وجه القبول منه كما قال: " و يأخذ الصدقات " أي يقبلها من أهلها ويثيب عليها. قلت: فقوله عز وجل: " والسماوات مطويات بيمينه " ؟ قال: اليمين اليد واليد القدرة والقوة يقول عز وجل: " والسماوات مطويات بيمينه " أي بقدرته وقوته سبحانه وتعالى عما يشركون. أقول: وروى في الدر المنثور عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: " فصعق من في السماوات ومن في الارض إلا من شاء الله " أنهم الشهداء مقلدون بأسيافهم حول عرشه الخبر وظاهره أن النفخة غير نفخة الاماتة وقد تقدم أن الاية ظاهرة في خلافه. وروى عن أنس عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنهم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وحملة العرش وأنهم يموتون بعدها الخبر. والاية ظاهرة في خلافه. وروى عن جابر: استثنى موسى لانه كان صعق قبل، الخبر. وفيه أن الصعق

[ 301 ]

سواء أخذ بمعنى الموت أو بمعنى الغشية لا يختص الصعق قبل ذلك بموسى عليه السلام. وفي المجمع في قوله تعالى: " لها سبعة أبواب " فيه قولان أحدهما ما روى عن أمير المؤمنين عليه السلام أن جهنم لها سبعة أبواب أطباق بعضها فوق بعض ووضع إحدى يديه على الاخرى فقال: هكذا وأن الله وضع الجنان على الارض، ووضع النيران بعضها فوق بعض فأسفلها جهنم، وفوقها لظى، وفوقها الحطمة، وفوقها سقر، وفوقها الجحيم، وفوقها السعير، وفوقها الهاوية وفي رواية الكلبي أسفلها الهاوية وأعلاها جهنم. وفي الخصال عن أبي عبد الله عن أبيه عن جده عن علي عليهم السلام قال: إن للجنة ثمانية أبواب: باب يدخل منه النبيون والصديقون، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبونا. فلا أزال واقفا على الصراط أدعو وأقول: رب سلم شيعتي ومحبي وأنصاري ومن تولاني في دار الدنيا فإذا النداء من بطنان العرش قد أجيبت دعوتك وشفعت في شيعتك ويشفع كل رجل من شيعتي ومن تولاني ونصرني وحارب من حاربني بفعل أو قول في سبعين ألفا من جيرانه وأقربائه. وباب يدخل منه سائر المسلمين ممن يشهد أن لا إله إلا الله ولم يكن في قلبه مثقال من بغضنا أهل البيت. * * * سورة المؤمن مكية وهي خمس وثمانون آية بسم الله الرحمن الرحيم حم - 1. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم - 2. غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير - 3. ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد - 4. كذبت قبلهم

[ 302 ]

قوم نوح والاحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب - 5. وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار - 6. (بيان) تتكلم السورة في استكبار الكافرين ومجادلتهم بالباطل ليدحضوا به الحق الذي يدعون إليه ولذلك نراها تذكر جدالهم وتعود إليه عودة بعد عودة " ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد " " الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا " " ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون ". فتكسر سورة استكبارهم وجدالهم بذكر ما عاقب الله به الماضين من الامم المكذبين وما أعد الله لهم من العذاب المهين بذكر طرف مما يجري عليهم في الاخرة. وتدحض باطل أقاويلهم بوجوه من الحجج الناطقة بتوحده في الربوبية والالوهية وتأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر وتعده والمؤمنين به بالنصر، وتأمرهم أن يؤذنهم أنه مسلم لربه غير تارك لعبادته فلييأسوا منه. والسورة مكية كلها لاتصال آياتها وشهادة مضامينها بذلك، وما قيل فيه من الايات أنه نزل بالمدينة لا يعبؤ به وسيجئ الاشارة إليها إن شاء الله. قوله تعالى: " حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم " التنزيل مصدر بمعنى المفعول فقوله: " تنزيل الكتاب " من قبيل إضافة الصفة إلى موصوفها والتقدير هذا كتاب منزل من الله. وتخصيص الوصفين: " العزيز العليم " بالذكر قيل: للاشارة إلى ما في القرآن من الاعجاز وأنواع العلوم التي يضيق عنها نطاق الافهام، وقيل: هو من باب التفنن. والوجه أن يقال: إن السورة لما كانت تتكلم حول جحد الجاحدين ومجادلتهم في

[ 303 ]

آيات الله بالباطل جهلا وهم يحسبونه علما ويعتزون به كما حكى ذلك عنهم في خاتمة السورة بقوله: " فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم " وكما حكى عن فرعون قوله لقومه في موسى: " إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الارض الفساد " وقوله لهم: " ما اريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ". افتتح الكلام في السورة بما فيه إشارة إلى أن هذا الكتاب النازل عليهم تنزيل ممن هو عزيز على الاطلاق لا يغلبه غالب حتى يخاف على ما نزله من استعلائهم و استكبارهم بحسب أوهامهم، عليم على الاطلاق لا يداخل علمه جهل وضلال فلا يقاوم جدالهم بالباطل ما نزله من الحق وبينه بحججه الباهرة. ويؤيد هذا الوجه ما في الاية التالية من قوله: " غافر الذنب وقابل التوب " الخ على ما سنبين. قوله تعالى: " غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير " الاتيان بصيغة اسم الفاعل في " غافر الذنب وقابل التوب " - لعله - للدلالة على الاستمرار التجددي فإن المغفرة وقبول التوب من صفاته الفعلية ولا يزال تعالى يغفر الذنب ثم يغفر ويقبل التوب ثم يقبل. وإنما عطف قابل التوب على ما قبله دون " شديد العقاب ذي الطول " لان غافر الذنب وقابل التوب مجموعهما كصفة واحدة متعلقة بالعباد المذنبين يغفر لهم تارة بتوبة و تارة بغيرها كالشفاعة. والعقاب والمعاقبة المؤاخذة التي تكون في عاقبة الذنب قال الراغب: والعقب والعقبى يختصان بالثواب نحو خير ثوابا وخير عقبا، وقال تعالى: وألئك لهم عقبى الدار، والعاقبة إطلاقها يختص بالثواب نحو والعاقبة للمتقين، وبالاضافة قد تستعمل في العقوبة نحو ثم كان عاقبة الذين أساؤا، وقوله: فكان عاقبتهما أنهما في النار يصح أن يكون ذلك استعارة من ضده، والعقوبة والمعاقبة والعقاب تختص بالعذاب. انتهى. فشديد العقاب كذي انتقام من أسماء الله الحسنى تحكي صفته تعالى في جانب العذاب كما يحكي الغفور والرحيم صفته تعالى في جانب الرحمة.

[ 304 ]

والطول - على ما في المجمع - الانعام الذي تطول مدته على صاحبه فذو الطول من أسمائه الحسنى في معنى المنعم لكنه أخص من المنعم لعدم شموله النعم القصار. وذكر هذه الاسماء الاربعة: غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول بعد اسم العليم للاشارة إلى أن تنزيل هذا الكتاب المشتمل على دعوته الحقة المبني على العلم مبني على أساس ما تقتضيه مضامين هذه الاسماء الاربعة. وذلك أن العالم الانساني كما يتحد قبيلا واحدا في نيل الطول الالهي والتنعم بنعمه المستمرة المتوالية مدى الحياة الدنيا ينقسم من حيث حياته الاخرة قسمين وينشعب إلى شعبتين: سعيد وشقي والله سبحانه عالم بتفاصيل خلقه وكيف لا يعلم وهو خالقها وفاعلها، ومقتضى كونه غافرا للذنب قابلا للتوب أن يغفر لمن استعد للمغفرة وأن يقبل توبة التائب إليه، ومقتضى كونه شديد العقاب أن يعاقب من استحق ذلك. ومقتضى ذلك أن يهدي الناس إلى صراط السعادة كما قال: " إن علينا للهدى وإن لنا للاخرة والاولى " الليل: 13، وقال: " وعلى الله قصد السبيل " النحل: 9. لينقسم الناس بذلك قسمين ويتميز عنده السعيد من الشقي والمهتدي من الضال فيرحم هذا ويعذب ذلك. فتنزيل الكتاب من الله العزيز العليم مبني على علمه المحيط بخلقه أنهم في حاجة إلى دعوة يهتدي بها قوم ويضل بردها آخرون ليغفر لقوم ويعذب آخرين، وفي حاجة إليها لينتظم بها نظام معاشهم في الدنيا فينعموا بطوله ونعمته في الدنيا ثم في دار القرار. فهذا شأن كتابه المنزل بعلمه الذي لا يشوبه جهل والمبني على الحق الذي لا يداخله باطل، وأين هو من تكذيب الذين لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة وجدالهم بالباطل ليدحضوا به الحق. وعلى هذا الذي ذكرنا من العناية بالعلم يشهد ما سيذكره تعالى من دعاء الملائكة للمؤمنين بالمغفرة: " ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك " فتدبر فيه. وقوله: " لا إله إلا هو إليه المصير " ذكر كلمة التوحيد للاشارة إلى وجوب

[ 305 ]

عبادته وحده فلا تلغو الدعوة الدينية بتنزيل الكتاب، وذكر كون مصير الكل ورجوعهم إليه وهو البعث للاشارة إلى أنه هو السبب العمدة الداعي إلى الايمان بالكتاب واتباعه فيما يدعو إليه لان الاعتقاد بيوم الحساب هو الذي يستتبع الخوف والرجاء خوف العقاب ورجاء الثواب الداعيين إلى عبادة الله سبحانه. قوله تعالى: " ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد " لما ذكر تنزيل الكتاب وأشار إلى الحجة الباهرة على حقيته، المستفادة من صفاته الكريمة المعدودة في الايتين، الدالة على أنه منزل بعلمه الذي لا يشوبه جهل وبالحق الذي لا يدحضه باطل تعرض لحال الذين قابلوا حججه الحقة بباطل جدالهم فلوح إلى إن هؤلاء أهل العقاب وليسوا بفائتين ولا مغفولا عنهم فإنهم كما نزل الكتاب ليغفر الذنب ويقبل التوب كذلك نزله ليعاقب أهل العقاب فلا يسوءن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جدالهم ولا يغرنه ما يشاهده من حالهم. فقوله: " ما يجادل في آيات الله " لم يقل: ما يجادل فيه أي في القرآن ليدل على أن الجدال في الحق الذي تدل عليه الايات بما هي آيات. على أن طرف جدالهم هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو داع إلى الحق الذي تدل عليه الايات فجدالهم لدفع الحق لا للدفاع عن الحق. على أن الجدال في الاية التالية مقيدة بالباطل لادحاض الحق. فالمراد بالمجادلة في آيات الله هي المجادلة لادحاضها ودفعها وهي المذمومة ولا تشمل الجدال لاثبات الحق والدفاع عنه كيف ؟ وهو سبحانه يأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بذلك إذا كان جدالا بالتي هي أحسن قال تعالى: " وجادلهم بالتي هي أحسن " النحل: 125. وقوله: " إلا الذين كفروا " ظاهر السياق أنهم الذين رسخ الكفر في قلوبهم فلا يرجى زواله، وقد قيل: " ما يجادل " ولم يقل: لا يجادل، وكذا ظاهر قوله: " فلا يغررك تقلبهم في البلاد " أن المراد بهم الكفار المعاصرون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن لم يكونوا من أهل مكة. وتقلبهم في البلاد انتقالهم من طور من أطوار الحياة إلى طور آخر ومن نعمة إلى

[ 306 ]

نعمة في سلامة وصحة وعافية، وتوجيه النهي عن الغرور إلى تقلبهم في البلاد كناية عن نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الاغترار بما يشاهده منهم أن يحسب أنهم أعجزوه سبحانه. قوله تعالى: " كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهم " الخ في مقام الجواب عما يسبق إلى الوهم أنهم استكبروا وجادلوا في آيات الله فلم يكن بهم بأس وسبقوا في ذلك. ومحصل الجواب: أن الامم الماضين كقوم نوح والاحزاب من بعدهم كعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم سبقوا هؤلاء إلى مثل صنيعهم من التكذيب والجدال بالباطل وهموا برسولهم ليأخذوه فحل بهم العقاب وكذلك قضى في حق الكفار العذاب فتوهم أن هؤلاء سبقوا الله إلى ما يريد توهم باطل. فقوله: " كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهم " دفع للدخل السابق ولذا جيئ بالفصل، وقوله: " وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه " يقال: هم به أي قصده ويغلب فيه القصد بالسوء أي قصدوا رسولهم ليأخذوه بالقتل أو الاخراج أو غيرهما كما قصه الله تعالى في قصصهم. وقوله: " وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق " الادحاض الازالة والابطال وقوله: " فأخذتهم " أي عذبتهم، وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم وحده والنكتة فيه الاشارة إلى أن أمرهم في هذا الطغيان والاستكبار إلى الله وحده لا يدخل بينه وبينهم أحد بنصرة أو شفاعة كما قال: " فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد " الفجر: 14. وقوله: " فكيف كان عقاب " توجيه لذهن المخاطب إلى ما يعلمه من كيفية إهلاكهم وقطع دابرهم ليحضر شدة ما نزل بهم وقد قصه الله فيما قص من قصصهم. قوله تعالى: " وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار " ظاهر السياق أن المشبه به هو ما في الاية السابقة من أخذهم وعقابهم، والمراد بالذين كفروا مطلق الكفار من الماضين، والمعنى كما أخذ الله المكذبين من الماضين بعذاب الدنيا كذلك حقت كلمته على مطلق الكافرين بعذاب الاخرة، والذين كفروا من قومك منهم.

[ 307 ]

وقيل: المراد بالذين كفروا كفار مكة، ولا يساعد عليه السياق والتشبيه لا يخلو عليه من اختلال. وفي قوله: " كلمة ربك " ولم يقل: كلمتي تطييب لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتأييد له بالاشارة إلى أن الركن الذي يركن إليه هو الشديد القوي. * * * الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم - 7. ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم - 8. وقهم السيآت ومن تق السيآت يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم - 9. إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الايمان فتكفرون - 10. قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل - 11. ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير - 12.

[ 308 ]

(بيان) لما ذكر سبحانه تكذيب الذين كفروا وجدالهم في آيات الله بالباطل ولوح إلى انهم غير معجزين ولا مغفول عنهم بل معنيون في هذه الدعوة والعناية فيهم أن يتميزوا فيحق عليهم كلمة العذاب فيعاقبوا عاد إلى بدء الكلام الذي أشار فيه إلى أن تنزيل الكتاب وإقامة الدعوة لمغفرة جمع وقبول توبتهم وعقاب آخرين فذكر أن الناس قبال هذه الدعوة قبيلان: قبيل تستغفر لهم حملة العرش والحافون به من الملائكة وهم التائبون إلى الله المتبعون سبيله ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، وقبيل ممقوتون معذبون وهم الكافرون بالتوحيد. قوله تعالى: " الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به " إلى آخر الاية. لم يعرف سبحانه هؤلاء الحاملين للعرش من هم ؟ ولا في كلامه تصريح بأنهم من الملائكة لكن يشعر عطف قوله: " ومن حوله " عليهم وقد قال فيهم: " وترى الملائكة حافين من حول العرش " الزمر: 75 أن حملة العرش أيضا من الملائكة. وقد تقدم تفصيل الكلام في معنى العرش في الجزء الثامن من الكتاب. فقوله: " الذين يحملون العرش ومن حوله " أي الملائكة الذين يحملون العرش الذي منه تظهر الاوامر وتصدر الاحكام الالهية التي بها يدبر العالم، والذين حول العرش من الملائكة وهم المقربون منهم. وقوله: " يسبحون بحمد ربهم " أي ينزهون الله سبحانه والحال أن تنزيههم له يصاحب ثناءهم لربهم فهم ينزهونه تعالى عن كل ما لا يليق بساحة قدسه ومن ذلك وجود الشريك في ملكه ويثنون عليه على فعله وتدبيره. وقوله: " ويؤمنون به " إيمانهم به - والحال هذه الحال عرش الملك والتدبير لله وهم حاملوه أو مطيفون حوله لتلقي الاوامر وينزهونه عن كل نقص ويحمدونه على أفعاله - معناه الايمان بوحدانيته في ربوبيته وألوهيته ففي ذكر العرش ونسبة التنزيه والتحميد والايمان إلى الملائكة رد للمشركين حيث يعدون الملائكة المقربين شركاء لله في ربوبيته وألوهيته ويتخذونهم أربابا الهة يعبدونهم.

[ 309 ]

وقوله: " ويستغفرون للذين آمنوا " أي يسألون الله سبحانه أن يغفر للذين آمنوا. وقوله: " ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما " الخ حكاية متن استغفارهم وقد بدؤا فيه بالثناء عليه تعالى بسعة الرحمة والعلم، وإنما ذكروا الرحمة وشفعوها بالعلم لانه برحمته ينعم على كل محتاج فالرحمة مبدء إفاضة كل نعمة، وبعلمه يعلم حاجة كل محتاج مستعد للرحمة. وقوله: " فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم " تفريع على ما أثنوا به من سعة الرحمة والعلم، والمراد بالسبيل التي اتبعوها هو ما شرع لهم من الدين وهو الاسلام واتباعهم له هو تطبيق عملهم عليه فالمراد بتوبتهم رجوعهم إليه تعالى بالايمان والمعنى فاغفر للذين رجعوا إليك بالايمان بوحدانيتك وسلوك سبيلك الذي هو الاسلام وقهم عذاب الجحيم وهو غاية المغفرة وغرضها. قوله تعالى: " ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم " إلى آخر الاية تكرار النداء بلفظة ربنا لمزيد الاستعطاف والمراد بالوعد وعده تعالى لهم بلسان رسله وفي كتبه. وقوله: " ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم " عطف على موضع الضمير في قوله: " وأدخلهم " والمراد بالصلوح صلاحية دخول الجنة، والمعنى وأدخل من صلح لدخول الجنة من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم جنات عدن. ثم من المعلوم من سياق الايات أن استغفارهم لعامة المؤمنين، ومن المعلوم أيضا أنهم قسموهم قسمين اثنين قسموهم إلى الذين تابوا واتبعوا سبيل الله وقد وعدهم الله جنات عدن، وإلى من صلح وقد جعلوا الطائفة الاولى متبوعين والثانية تابعين. ويظهر منه أن الطائفة الاولى هم الكاملون في الايمان والعمل على ما هو مقتضى حقيقة معنى قولهم: " الذين تابوا واتبعوا سبيلك " فذكروهم وسألوه أن يغفر لهم وينجز لهم ما وعدهم من جنات عدن، والطائفة الثانية دون هؤلاء في المنزلة ممن لم يستكمل الايمان والعمل من ناقص الايمان ومستضعف وسيئ العمل من منسوبي الطائفة الاولى فذكروهم وسألوه تعالى أن يلحقهم بالطائفة الاولى الكاملين في جناتهم ويقيهم السيئات. فالاية في معنى قوله تعالى: " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ " الطور: 21 غير أن الاية التي نحن فيها أوسع

[ 310 ]

وأشمل لشمولها الاباء والازواج بخلاف آية سورة الطور، والمأخوذ فيها الصلوح وهو أعم من الايمان المأخوذ في آية الطور. وقوله: " إنك أنت العزيز الحكيم " تعليل لقولهم: " فاغفر للذين تابوا " إلى آخر مسألتهم، وكان الذي يقتضيه الظاهر أن يقال: إنك أنت الغفور الرحيم لكنه عدل إلى ذكر الوصفين: العزيز الحكيم لانه وقع في مفتتح مسألتهم الثناء عليه تعالى بقولهم: " ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما ". ولازم سعة الرحمة وهي عموم الاعطاء أن له أن يعطي ما يشاء لمن يشاء ويمنع ما يشاء ممن يشاء وهذا معنى العزة التي هي القدرة على الاعطاء والمنع، ولازم سعة العلم لكل شئ أن ينفذ العلم في جميع أقطار الفعل فلا يداخل الجهل شيئا منها ولازمه إتقان الفعل وهو الحكمة. فقوله: " إنك أنت العزيز الحكيم " في معنى الاستشفاع بسعة رحمته وسعة علمه تعالى المذكورتين في مفتتح المسألة تمهيدا وتوطئة لذكر الحاجة وهي المغفرة والجنة. قوله تعالى: " وقهم السيآت ومن تق السيآت يومئذ فقد رحمته " الخ ظاهر السياق أن الضمير في " قهم " للذين تابوا ومن صلح جميعا. والمراد بالسيآت - على ما قيل - تبعات المعاصي وهي جزاؤها وسميت التبعات سيأت لان جزاء السيئ سيئ قال تعالى: " وجزاء سيئة سيئة مثلها " الشورى: 40. وقيل: المراد بالسيآت المعاصي والذنوب نفسها والكلام على تقدير مضاف والتقدير وقهم جزاء السيآت أو عذاب السيآت. والظاهر أن الاية من الايات الدالة على أن الجزاء بنفس الاعمال خيرها وشرها، وقد تكرر في كلامه تعالى أمثال قوله: " إنما تجزون ما كنتم تعملون " التحريم: 7. وكيف كان فالمراد بالسيآت التي سألوا وقايتهم عنها هي الاهوال والشدائد التي تواجههم يوم القيامة غير عذاب الجحيم فلا تكرار في قوليهم: " وقهم عذاب الجحيم " " وقهم السيآت ". وقيل: المراد بالسيآت نفس المعاصي التي في الدنيا، وقولهم: " يومئذ " إشارة إلى الدنيا، والمعنى واحفظهم من اقتراف المعاصي وارتكابها في الدنيا بتوفيقك.

[ 311 ]

وفيه أن السياق يؤيد كون المراد بيومئذ يوم القيامة كما يشهد به قولهم: " وقهم عذاب الجحيم " وقولهم: " وأدخلهم جنات عدن " الخ فالحق أن المراد بالسيآت ما يظهر للناس يوم القيامة من الاهوال والشدائد. ويظهر من هذه الايات المشتملة على دعاء الملائكة ومسألتهم: أولا: أن من الادب في الدعاء أن يبدء بحمده والثناء عليه تعالى ثم يذكر الحاجة ثم يستشفع بأسمائه الحسنى المناسبة له. وثانيا: أن سؤال المغفرة قبل سؤال الجنة وقد كثر ذكر المغفرة قبل الجنة في كلامه تعالى إذا ذكرا معا، وهو الموافق للاعتبار فإن حصول استعداد أي نعمة كانت بزوال المانع قبل حصول نفس النعمة. وذكر بعضهم أن في قوله: " فاغفر للذين تابوا " الاية دلالة على أن إسقاط العقاب عند التوبة تفضل من الله تعالى إذ لو كان واجبا لكان لا يحتاج فيه إلى مسألتهم بل كان يفعله الله سبحانه لا محالة. وفيه أن وجوب صدور الفعل عنه تعالى لا ينافي صحة مسألته وطلبه منه تعالى كما يشهد به قولهم بعد الاستغفار: " ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم " فقد سألوا لهم الجنة مع اعترافهم بأن الله وعدهم إياها ووعده تعالى واجب الانجاز فإنه لا يخلف الميعاد، وأصرح من هذه الاية قوله يحكي عن المؤمنين: " ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد " آل عمران: 194. وقبول التوبة مما أوجبه الله تعالى على نفسه وجعله حقا للتائبين عليه قال تعالى: " إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم " النساء: 17 فطلب كل حق أوجبه الله تعالى على نفسه منه كسؤال المغفرة للتائب هو في الحقيقة رجوع إليه لاستنجاز ما وعده وإظهار اشتياق للفوز بكرامته. وكذا لا يستلزم التفضل منه تعالى كون الفعل جائز الصدور غير واجبه فكل عطية من عطاياه تفضل سواء كانت واجبة الصدور أم لم تكن إذ لو كان فعل من أفعاله واجب الصدور عنه لم يكن إيجابه عليه بتأثير من غيره فيه وقهره عليه إذ هو المؤثر في كل شئ لا يؤثر فيه غيره بل كان ذلك بإيجاب منه تعالى على نفسه ويؤل معناه إلى

[ 312 ]

قضائه تعالى فعل شئ من الافعال وإفاضة عطية من العطايا قضاء حتم فيكون سبحانه إنما يفعله بمشية من نفسه منزها عن إلزام الغير إياه عليه متفضلا به فالفعل تفضل منه وإن كان واجب الصدور، وأما لو لم يكن الفعل واجب الصدور فكونه تفضلا أوضح. قوله تعالى: " إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الايمان فتكفرون " المقت أشد البغض. لما ذكر المؤمنين ببعض ما لهم من جهة إيمانهم رجع إلى ذكر الكافرين ببعض ما عليهم من جهة كفرهم. وظاهر الاية والاية التالية أن هذا النداء المذكور فيها إنما ينادون به في الاخرة بعد دخول النار حين يذوقون العذاب لكفرهم فيظهر لهم أن كفرهم في الدنيا إذ كانوا يدعون من قبل الانبياء إلى الايمان كان مقتا وشدة بغض منهم لانفسهم حيث أوردوها بذلك مورد الهلاك الدائم. وينادون من جانب الله سبحانه فيقال لهم: أقسم لمقت الله وشدة بغضه لكم أكبر من مقتكم أنفسكم وشدة بغضكم لها إذ تدعون - حكاية حال ماضية - إلى الايمان من قبل الانبياء فتكفرون. قوله تعالى: " قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل " سياق الاية وما قبلها يشعر بأنهم يقولون هذا القول بعد استماع النداء السابق، وإنما يقولونه وهم في النار بدليل قولهم: " فهل إلى خروج من سبيل ". وتقديم هذا الاعتراف منهم نوع تسبيب وتوسل إلى التخلص من العذاب ولات حين مناص، وذلك أنهم كانوا - وهم في الدنيا - في ريب من البعث والرجوع إلى الله فأنكروه ونسوا يوم الحساب وكان نسيان ذلك سبب استرسالهم في الذنوب وذهابهم لوجوههم في المعاصي ونسيان يوم الحساب مفتاح كل معصية وضلال قال تعالى: " إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " ص: 26. ثم لما أماتهم الله إماتة بعد إماتة وأحياهم إحياءة بعد إحياءة زال ارتيابهم في أمر البعث والرجوع إلى الله بما عاينوا من البقاء بعد الموت والحياة بعد الحياة وقد كانوا يرون أن الموت فناء، ويقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين. وبالجملة زال عنهم الارتياب بحصول اليقين وبقيت الذنوب والمعاصي ولذلك

[ 313 ]

توسلوا إلى التخلص من العذاب بالاعتراف فتارة اعترفوا بحصول اليقين كما حكاه الله عنهم في قوله: " ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون " الم السجدة: 12، وتارة اعترفوا بذنوبهم كما في الاية المبحوث عنها وقد كانوا يرون أنهم أحرار مستقلون في إرادتهم وأفعالهم لهم أن يشاؤا ما شاؤا وأن يفعلوا ما فعلوا ولا حساب ولا ذنب. ومن ذلك يظهر وجه ترتب قولهم: " فاعترفنا بذنوبنا " على قولهم: " أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " فالاعتراف في الحقيقة مترتب على حصول اليقين بالمعاد الموجب لحصول العلم بكون انحرافاتهم عن سبيل الله ضلالات وذنوبا. والمراد بقولهم: " أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " - كما قيل - الاماتة عن الحياة الدنيا والاحياء للبرزخ ثم الاماتة عن البرزخ والاحياء للحساب يوم القيامة فالاية تشير إلى الاماتة بعد الحياة الدنيا والاماتة بعد الحياة البرزخية وإلى الاحياء في البرزخ والاحياء ليوم القيامة ولو لا الحياة البرزخية لم تتحقق الاماتة الثانية لان كلا من الاماتة والاحياء يتوقف تحققه على سبق خلافه. ولم يتعرضوا للحياة الدنيا ولم يقولوا: " وأحييتنا ثلاثا وإن كانت إحياء لكونها واقعة بعد الموت الذي هو حال عدم ولوج الروح لان مرادهم ذكر الاحياء الذي هو سبب الايقان بالمعاد وهو الاحياء في البرزخ ثم في القيامة وأما الحياة الدنيوية فإنها وإن كانت إحياء لكنها لا توجب بنفسها يقينا بالمعاد فقد كانوا مرتابين في المعاد وهم أحياء في الدنيا. وبما تقدم من البيان يظهر فساد ما اعترض عليه بأنه لو كان المراد بالاحياءتين ما كان في البرزخ وفي الاخرة لكان من الواجب أن يقال: " أمتنا اثنتين وأحييتنا ثلاثا " إذ ليس المراد إلا ذكر ما مر عليهم من الاماتة والاحياءة وذلك إماتتان اثنتان وإحياءآت ثلاث. والجواب أنه ليس المراد هو مجرد ذكر الاماتة والاحياء اللتين مرتا عليهم كيفما كانتا بل ذكر ما كان منهما مورثا لليقين بالمعاد، وليس الاحياء الدنيوي على هذه الصفة. وقيل: المراد بالاماتة الاولى حال النطفة قبل ولوج الروح، وبالاحياءة الاولى ما هو حال الانسان بعد ولوجها، وبالاماتة الثانية إماتته في الدنيا، وبالاحياءة الثانية

[ 314 ]

إحياءته بالبعث للحساب يوم القيامة، والاية منطبقة على ما في قوله تعالى: " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " البقرة: 28. ولما أحسوا بعدم صدق الاماتة على حال الانسان قبل ولوج الروح في جسده لتوقفها على سبق الحياة تمحلوا في تصحيحه تمحلات عجيبة من أراد الوقوف عليها فليراجع الكشاف وشروحه. على أنك قد عرفت أن ذكرهم ما مر عليهم من الاماتة والاحياءة إشارة إلى أسباب حصول يقينهم بالمعاد والحياة الدنيا والموت الذي قبلها لا أثر لهما في ذلك. وقيل: إن الحياة الاولى في الدنيا والثانية في القبر، والموتة الاولى في الدنيا والثانية في القبر ولا تعرض في الاية لحياة يوم البعث، ويرد عليه ما تقدم أن الحياة الدنيا لا تعلق لها بالغرض فلا موجب للتعرض لها، والحياة يوم القيامة بالخلاف من ذلك. وقيل: المراد بالاحياءتين إحياء البعث والاحياء الذي قبله وإحياء البعث قسمان إحياء في القبر وإحياء عند البعث ولم يتعرض لهذا التقسيم في الاية فتشمل الاية الاحياءات الثلاث والاماتتين جميعا. ويرد عليه ما يرد على الوجهين السابقين عليه مضافا إلى ما أورد عليه أن ذكر الاماتة الثانية التي في القبر دليل على أن التقسيم ملحوظ والمراد التعدد الشخصي لا النوعي. وقيل: المراد إحياء النفوس في عالم الذر ثم الاماتة ثم الاحياء في الدنيا ثم الاماتة ثم الاحياء للبعث، ويرد عليه ما يرد على سوابقه. وقيل: المراد بالتثنية التكرار كما في قوله تعالى: " ثم ارجع البصر كرتين " الملك: 4، والمعنى أمتنا إماتة وأحييتنا إحياءة بعد إحياءة. وأورد عليه أنه إنما يتم لو كان القول: " أمتنا إماتتين وأحييتنا إحياءتين أو كرتين مثلا لكن المقول نفس العدد وهو لا يحتمل ذلك كما قيل في قوله: " إلهين اثنين " النحل: 51. وقولهم: " فهل إلى خروج من سبيل " دعاء ومسألة في صورة الاستفهام، وفي تنكير الخروج والسبيل إشارة إلى رضاهم بأي نوع من الخروج كان من أي سبيل كانت

[ 315 ]

فقد بلغ بهم الجهد واليوم يوم تقطعت بهم الاسباب فلا سبب يرجى أثره في تخلصهم من العذاب. قوله تعالى: " ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا " الخ خطاب تشديد للكفار موطنه يوم القيامة، ويحتمل أن يكون موطنه الدنيا خوطبوا بداعي زجرهم عن الشرك. والاشارة بقوله: " ذلكم " إلى ما هم فيه من الشدة، وفي قوله: " وإن يشرك به " دلالة على الاستمرار، والكلام مسوق لبيان معاندتهم للحق ومعاداتهم لتوحيده تعالى فهم يكفرون بكل ما يلوح فيه أثر التوحيد ويؤمنون بكل ما فيه سمة الشرك فهم لا يراعون لله حقا ولا يحترمون له جانبا فالله سبحانه يحرم عليهم رحمته ولا يراعي في حكمه لهم جانبا. وبهذا المعنى يتصل قوله: " فالحكم لله العلي الكبير " بأول الاية ويتفرع عليه كأنه قيل: فإذا قطعتم عن الله بالمرة وكفرتم بكل ما يريده وآمنتم بكل ما يكرهه فهو يقطع عنكم ويحكم فيكم بما يحكم من غير أي رعاية لحالكم. فالاية في معنى قوله: " نسوا الله فنسيهم " التوبة: 67، والجملة أعني قوله: " فالحكم لله العلي الكبير " خاصة بحسب السياق وإن كانت عامة في نفسها، وفيها تهديد ويتأكد التهديد باختتامها بالاسمين العلي الكبير. * * * هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب - 13. فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون - 14. رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق - 15. يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ لمن الملك اليوم لله الواحد

[ 316 ]

القهار - 16. اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب - 17. وأنذرهم يوم الازفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع - 18. يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور - 19. والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشئ إن الله هو السميع البصير - 20. (بيان) احتجاج على التوحيد وإنذار بعد تقسيم الناس إلى راجع إلى الله متبع سبيله ومكذب بالايات مجادل بالباطل. قوله تعالى: " هو الذي يريكم آياته " إلى آخر الاية المراد بالايات هي العلائم والحجج الدالة على وحدانيته تعالى في الربوبية والالوهية بدليل ما سيجيئ من تفريع قوله: " فادعوا الله مخلصين له الدين " عليه، والايات مطلقة شاملة للايات الكونية المشهودة في العالم لكل إنسان صحيح الادراك والايات التي تجري على أيدي الرسل والحجج القائمة من طريق الوحي. والجملة مشتملة على حجة فإنه لو كان هناك إله تجب عبادته على الانسان وكانت عبادته كمالا للانسان وسعادة له كان من الواجب في تمام التدبير وكامل العناية أن يهدي الانسان إليه، والذي تدل الايات الكونية على ربوبيته وألوهيته ويؤيد دلالتها الرسل والانبياء بالدعوة والاتيان بالايات هو الله سبحانه، وأما آلهتهم الذين يدعونهم من دون الله فلا آية من قبلهم تدل على شئ فالله سبحانه هو الاله وحده لا شريك له، وإلى هذه الحجة يشير علي عليه السلام بقوله فيما روي عنه: " لو كان لربك شريك لاتتك رسله ".

[ 317 ]

وقوله: " وينزل لكم من السماء رزقا " حجة أخرى على وحدانيته تعالى من جهة الرزق فإن رزق العباد من شؤن الربوبية والالوهية والرزق من الله دون شركائهم فهو الرب الاله دونهم. وقد فسروا الرزق بالمطر، والسماء بجهة العلو، ولا يبعد أن يراد بالرزق نفس الاشياء التي يرتزق بها وبنزولها من السماء بروزها من الغيب إلى الشهادة على ما يفيده قوله: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " الحجر: 21. وقوله: " وما يتذكر إلا من ينيب " معترضة تبين أن حصول التذكر بهذه الحجج إنما هو شأن إحدى الطائفتين المذكورتين من قبل وهم المنيبون الراجعون إلى ربهم دون المجادلين الكافرين فإن الكفر والجحود يبطل استعداد التذكر بالحجة والاتباع للحق. قوله تعالى: " فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " الانسب للسياق أن يكون الخطاب عاما للمؤمنين وغيرهم متفرعا على الحجة السابقة غير أنه لا يشمل الكافرين المذكورين في آخر الاية وهم المكذبون المجادلون بالباطل. كأنه قيل: إذا كانت الايات تدل على وحدانيته تعالى وهو الرازق فعلى غير الكافرين الذين كذبوا وجادلوا أن يدعوا الله مخلصين له الدين، وأما الكافرون الكارهون للتوحيد فلا مطمع فيهم ولا آية تفيدهم ولا حجة تقنعهم فاعبدوه بالاخلاص ودعوا الكافرين يكرهون ذلك. قوله تعالى: " رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده " الخ صفات ثلاث له تعالى وكل منها خبر بعد خبر للضمير في قوله: " هو الذي يريكم آياته " والاية وما بعدها مسوقة للانذار. وقد أورد لقوله: " رفيع الدرجات " تفاسير شتى فقيل: معناه رافع درجات الانبياء والاولياء في الجنة، وقيل: رافع السماوات السبع التي منها تصعد الملائكة إلى عرشه، وقيل: رفيع مصاعد عرشه، وقيل: كناية عن رفعة شأنه وسلطانه. والذي يعطيه التدبر أن الاية وما بعدها يصفان ملكه تعالى على خلقه أن له عرشا تجتمع فيه أزمة أمور الخلق ويتنزل منه الامر متعاليا بدرجات رفيعة هي

[ 318 ]

مراتب خلقه ولعلها السماوات التي وصفها في كلامه بأنها مساكن ملائكته وأن أمره يتنزل بينهن وهي التي تحجب عرشه عن الناس. ثم إن له يوما هو يوم التلاقي يرفع فيه الحجاب ما بينه وبين الناس بكشف الغطاء عن بصائرهم وطي السماوات بيمينه وإظهار عرشه لهم فينكشف لهم أنه هو المليك على كل شئ لا ملك إلا ملكه فيحكم بينهم. فالمراد بالدرجات الدرجات التي يرتقى منها إلى عرشه ويعود قوله: " رفيع الدرجات ذو العرش كناية استعارية عن تعالي عرش ملكه عن مستوى الخلق وغيبته واحتجابه عنهم قبل يوم القيامة بدرجات رفيعة ومراحل بعيدة. وقوله: " يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده " إشارة إلى أمر الرسالة التي من شأنها الانذار، وتقييد الروح بقوله: " من أمره " دليل على أن المراد بها الروح التي ذكرها في قوله: " قل الروح من أمر ربي " أسرى: 85، وهي التي تصاحب ملائكة الوحي كما يشير إليه قوله: " ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا " النحل: 2. فالمراد بالقاء الروح على من يشاء تنزيلها مع ملائكة الوحي عليه، والمراد بقوله: " من يشاء من عباده " الرسل الذين اصطفاهم الله لرسالته، وفي معنى الروح الملقاة على النبي أقوال أخر لا يعبؤ بها. وقوله: " لينذر يوم التلاق " وهو يوم القيامة سمي به لالتقاء الخلائق فيه أو لالتقاء الخالق والمخلوق أو لالتقاء أهل السماء والارض أو لالتقاء الظالم والمظلوم أو لالتقاء المرء وعمله ولكل من هذه الوجوه قائل. ويمكن أن يتأيد القول الثاني بما تكرر في كلامه تعالى من حديث اللقاء كقوله: " بلقاء ربهم لكافرون " الروم: 8، وقوله: " إنهم ملاقوا ربهم " هود: 29، وقوله: " يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " الانشقاق: 6 ومعنى اللقاء تقطع الاسباب الشاغلة وظهور أن الله هو الحق المبين وبروزهم لله. قوله تعالى: " يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ " الخ تفسير ليوم التلاق، ومعنى بروزهم لله ظهور ذلك لهم وارتفاع الاسباب الوهمية التي كانت تجذبهم

[ 319 ]

إلى نفسها وتحجبهم عن ربهم وتغفلهم عن إحاطة ملكه وتفرده في الحكم وتوحده في الربوبية والالوهية. فقوله: " يوم هم بارزون " إشارة إلى ارتفاع كل سبب حاجب، وقوله: " لا يخفى على الله منهم شئ " تفسير لمعنى بروزهم لله وتوضيح فقلوبهم وأعمالهم بعين الله وظاهرهم وباطنهم وما ذكروه وما نسوه مكشوفة غير مستورة. وقوله: " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " سؤال وجواب من ناحيته سبحانه تبين بهما حقيقة اليوم وهي ظهور ملكه وسلطانه تعالى على الخلق على الاطلاق. وفي توصيفه تعالى بالواحد القهار تعليل لانحصار الملك فيه لانه إذ قهر كل شئ ملكه وتسلط عليه بسلب الاستقلال عنه وهو واحد فله الملك وحده. قوله تعالى: " اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب " الباء في " بما كسبت " للصلة والمراد بيان خصيصة اليوم وهي أن كل نفس تجزى عين ما كسبت فجزاؤها عملها، قال تعالى: " يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون " التحريم: 7. وقوله: " إن الله سريع الحساب " تعليل لنفي الظلم في قوله: " لا ظلم اليوم " أي إنه تعالى سريع في المحاسبة لا يشغله حساب نفس عن حساب أخرى حتى يخطئ فيجزي نفسا غير جزائها فيظلمها. وهذا التعليل ناظر إلى نفي الظلم الناشئ عن الخطاء وأما الظلم عن عمد وعلم فانتفاؤه مفروغ عنه لان الجزاء لما كان بنفس العمل لم يتصور معه ظلم. قوله تعالى: " وأنذرهم يوم الازفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين " إلى آخر الاية. الازفة من أوصاف القيامة ومعناها القريبة الدانية قال تعالى: " إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا " المعارج: 7. وقوله: " إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين " الحناجر جمع حنجرة وهي رأس الغلصمة من خارج وكون القلوب لدى الحناجر كناية عن غاية الخوف كأنها تزول عن مقرها وتبلغ الحناجر من شدة الخوف، وكاظمين من الكظم وهو شدة الاغتمام.

[ 320 ]

وقوله: " ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع " الحميم القريب أي ليس لهم قريب يقوم بنصرهم بحمية القرابة قال تعالى: " فلا أنساب بينهم يومئذ " المؤمنون: 101، ولا شفيع يطاع في شفاعته. قوله تعالى: " يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور " قيل: الخائنة مصدر كالخيانة نظيرة الكاذبة واللاغية بمعنى الكذب واللغو، وليس المراد بخائنة الاعين كل معصية من معاصيها بل المعاصي التي لا تظهر للغير كسارقة النظر بدليل ذكرها مع ما تخفي الصدور. وقيل: " خائنة الاعين " من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف، ولازمه كون العلم بمعنى المعرفة والمعنى يعرف الاعين الخائنة، والوجه هو الاول. وقوله: " وما تخفي الصدور " وهو ما تسره النفس وتستره من وجوه الكفر والنفاق وهيئات المعاصي. قوله تعالى: " والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشئ " الخ هذه حجة أخرى على توحده تعالى بالالوهية أقامها بعد ما ذكر حديث انحصار الملك فيه يوم القيامة وعلمه بخائنة الاعين وما تخفي الصدور تمهيدا وتوطئة. ومحصلها أن من اللازم الضروري في الالوهية أن يقضي الاله في عباده وبينهم والله سبحانه هو يقضي بين الخلق وفيهم يوم القيامة والذين يدعون من دونه لا يقضون بشئ لانهم عباد مملوكون لا يملكون شيئا. ومن قضائه تعالى تدبيره جزئيات أمور عباده بالخلق بعد الخلق فإنه مصداق القضاء والحكم قال تعالى: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " يس (؟): 82، وقال: " إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " آل عمران: 47، ولا نصيب لغيره تعالى في الخلق فلا نصيب له في القضاء. ومن قضائه تعالى تشريع الدين وارتضاؤه سبيلا لنفسه قال تعالى: " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " الاية أسرى: 23. وقوله: " إن الله هو السميع البصير " أي له حقيقة العلم بالمسموعات والمبصرات لذاته، وليس لغيره من ذلك إلا ما ملكه الله وأذن فيه لا لذاته.

[ 321 ]

(بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده " قال: روح القدس وهو خاص برسول الله والائمة صلوات الله وسلامه عليهم. وفي المعاني بإسناده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام قال: يوم التلاق يوم يلتقي أهل السماء وأهل الارض. أقول: ورواه القمي في تفسيره مضمرا مرسلا. وفي التوحيد بإسناده عن ابن فضال عن الرضا عن آبائه عن علي عليه السلام في حديث قال: ويقول الله عز وجل: " لمن الملك اليوم " ثم ينطق أرواح أنبيائه ورسله وحججه فيقولون " لله الواحد القهار " ثم يقول الله جل جلاله: " اليوم تجزى كل نفس بما كسبت " الاية. وفي نهج البلاغة: وإنه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شئ معه، كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها، بلا وقت ولا زمان ولا حين ولا مكان، عدمت عند ذلك الاجال والاوقات، وزالت السنون والساعات، فلا شئ إلا الله الواحد القهار الذي إليه مصير جميع الامور، بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها، وبغير امتناع منها كان فناؤها، ولو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها. وفي تفسير القمي بإسناده عن ثوير بن أبي فاختة عن علي بن الحسين عليه السلام قال: سئل عن النفختين كم بينهما ؟ قال: ما شاء. ثم ذكر عليه السلام كيفية النفخ وموت أهل الارض والسماء إلى أن قال - فيمكثون في ذلك ما شاء الله ثم يأمر السماء فتمور ويأمر الجبال فتسير وهو قوله: " يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا " يعني يبسط وتبدل الارض غير الارض يعني بأرض لم تكسب عليها الذنوب بارزة ليس عليها جبال ولا نبات كما دحاها أول مرة، ويعيد عرشه على الماء كما كان أول مرة مستقلا بعظمته وقدرته.

[ 322 ]

قال: فعند ذلك ينادي الجبار جل جلاله بصوت من قبله جهوري يسمع أقطار السماوات والارضين " لمن الملك اليوم " فلم يجبه مجيب فعند ذلك يقول الجبار عز وجل مجيبا لنفسه " لله الواحد القهار " الحديث. أقول: التدبر في الروايات الثلاث الاخيرة يهدي إلى أن الذي يفنى من الخلق استقلال وجودها والنسب وروابط التأثير التي بينها كما تفيده الايات القرآنية وأن الارواح لا تموت، وأن لا وقت بين النفختين فلا تغفل، وفي الروايات لطائف من الاشارات تظهر للمتدبر، وفيها ما يخالف بظاهره ما تقدم. وفي روضة الكافي بإسناده عن ابن أبي عمير عن موسى بن جعفر عليه السلام في حديث قال: يا أبا أحمد ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلا أساءه ذلك وندم عليه وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " كفى بالندم توبة " وقال: " من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن " فإن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ولم تجب له شفاعة وكان ظالما والله تعالى يقول: " ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ". وفي المعاني بإسناده إلى عبد الرحمان بن سلمة الحريري قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: " يعلم خائنة الاعين " فقال: " ألم تر إلى الرجل ينظر إلى الشئ وكأنه لا ينظر فذلك خائنة الاعين. وفي الدر المنثور أخرج أبو داود والنسائي وابن مردويه عن سعد قال: لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح فاختبأ عند عثمان ابن عفان. فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلى البيعة جاء به فقال: يا رسول الله بايع عبد الله فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى أن يبايعه ثم بايعه ثم أقبل على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا إلى حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله ؟ فقالوا: ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك هلا أومأت إلينا بعينك. قال: إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الاعين.

[ 323 ]

* * * أو لم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الارض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق - 21. ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب - 22. ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين - 23. إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب - 24. فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال - 25. وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الارض الفساد - 26. وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب - 27. وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب - 28. يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين

[ 324 ]

في الارض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد - 29. وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الاحزاب - 30. مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد - 31. ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد - 32. يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد - 33. ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب - 34. الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار - 35. وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلى أبلغ الاسباب - 36. أسباب السموات فاطلع إلى إله موسى وإني لاظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب - 37. وقال

[ 325 ]

الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد - 38. يا قوم إنما هذه الحيوة الدنيا متاع وإن الاخرة هي دار القرار - 39. من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب - 40. ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار - 41. تدعونني لاكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار - 42. لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الاخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار - 43. فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد - 44. فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب - 45. النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب - 46. وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفؤا للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار - 47. قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم

[ 326 ]

بين العباد - 48. وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب - 49. قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعؤا الكافرين إلا في ضلال - 50. إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحيوة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد - 51. يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار - 52. ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب - 53. هدى وذكرى لاولي الالباب - 54. (بيان) في الايات موعظتهم بالارجاع إلى آثار الامم الماضين وقصصهم للنظر والاعتبار فلينظروا فيها وليعتبروا بها ويعلموا أن الله سبحانه لا تعجزه قوة الاقوياء واستكبار المستكبرين ومكر الماكرين وتذكر منها من باب الانموذج طرفا من قصص موسى وفرعون وفيها قصة مؤمن آل فرعون. قوله تعالى: " أو لم يسيروا في الارض فينظروا " إلى آخر الاية الاستفهام إنكاري، والواقي اسم فاعل من الوقاية بمعنى حفظ الشئ مما يؤذيه ويضره. والمعنى: أو لم يسيروا هؤلاء الذين أرسلناك إليهم " في الارض فينظروا " نظر تفكر واعتبار " كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم " من الامم الدارجة المكذبين لرسلهم " كانوا هم أشد منهم قوة " أي قدرة وتمكنا وسلطة " وآثارا " كالمدائن الحصينة والقلاع المنيعة والقصور العالية المشيدة " في الارض فأخذهم الله بذنوبهم " وأهلكهم بأعمالهم " وما كان لهم من الله من واق " يقيهم وحافظ يحفظهم.

[ 327 ]

قوله تعالى: " ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات " الخ الاشارة بذلك إلى الاخذ الالهي، والمراد بالبينات الايات الواضحات، والباقي ظاهر. قوله تعالى: " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين " لعل المراد بالايات الخوارق المعجزة التي أرسل بها كالعصا واليد وغيرهما وبالسلطان المبين السلطة الالهية القاهرة التي أيد بها فمنعت فرعون أن يقتله ويطفئ نوره، وقيل: المراد بالايات الحجج والدلالات وبالسلطان معجزاته من العصا واليد وغيرهما، وقيل: غير ذلك. قوله تعالى: " إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب " فرعون جبار القبط ومليكهم، وهامان وزيره وقارون من طغاة بني إسرائيل ذو الخزائن المليئة ؟ وإنما اختص الثلاثة من بين الامتين بالذكر لكونهم اصولا ينتهي إليهم كل فساد وفتنة فيهما. قوله تعالى: " فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه " الخ مقايسة بين ما جاءهم به موسى ودعاهم إليه وبين ما قابلوه به من كيدهم فقد جاءهم بالحق وكان من الواجب أن يقبلوه لانه حق وكان ما جاء به من عند الله وكان من الواجب أن يقبلوه ولا يردوه فقابلوه بالكيد وقالوا ما قالوا لئلا يؤمن به أحد لكن الله أضل كيدهم فلم يصب المؤمنين معه. ويشعر السياق أن من القائلين بهذا القول قارون وهو من بني إسرائيل ولا ضير فيه لان الحكم بقتل الابناء واستحياء النساء كان قبل الدعوة صادرا في حق بني إسرائيل عامة وهذا الحكم في حق المؤمنين منهم خاصة فلعل قارون وافقهم عليه لعداوته وبغضه موسى والمؤمنين من قومه. وفي قوله: " الذين آمنوا معه " ولم يقل: آمنوا به إشارة إلى مظاهرتهم موسى في دعوته. قوله تعالى: " وقال فرعون ذروني اقتل موسى وليدع ربه " الخ " ذروني " أي اتركوني، خطاب يخاطب به ملاه، وفيه دلالة على أنه كان هناك قوم يشيرون عليه أن لا يقتل موسى ويكف عنه كما يشير إليه قوله تعالى: " قالوا أرجه وأخاه " الشعراء: 36. وقوله: " وليدع ربه " كلمة قالها كبرا وعتوا يقول: اتركوني أقتله وليدع ربه

[ 328 ]

فلينجه من يدي وليخلصه من القتل إن قدر. وقوله: " إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الارض الفساد " تعليل لما عزم عليه من القتل وقد ذكر أنه يخافه عليهم من جهة دينهم ومن جهة دنياهم، أما من جهة دينهم - وهو عبادة الاصنام - فأن يبدله ويضع موضعه عبادة الله وحده، وأما من جهة دنياهم فكأن يعظم أمره ويتقوى جانبه ويكثر متبعوه فيتظاهروا بالتمرد والمخالفة فيؤل الامر إلى المشاجرة والقتال وانسلاب الامن. قوله تعالى: " وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب " مقابلة منه عليه السلام لتهديد فرعون إياه بالقتل واستعاذة منه بربه، وقوله: " عذت بربي وربكم " فيه مقابلة منه أيضا لفرعون في قوله: " وليدع ربه " حيث خص ربوبيته تعالى بموسى فأشار موسى بقوله: " عذت بربي وربكم " إلى أنه تعالى ربهم كما هو ربه نافذ حكمه فيهم كما هو نافذ فيه فله أن يقي عائذه من شرهم وقد وقى. ومن هنا يظهر أن الخطاب في قوله: " وربكم " لفرعون ومن معه دون قومه من بني إسرائيل. وقوله: " من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب " يشير به إلى فرعون وكل من يشاركه في صفتي التكبر وعدم الايمان بيوم الحساب ولا يؤمن ممن اجتمعت فيه الصفتان شر أصلا. قوله تعالى: " وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه " إلى آخر الاية. ظاهر السياق أن " من آل فرعون " صفة رجل و " يكتم إيمانه " صفة اخرى فكان الرجل من القبط من خاصة فرعون وهم لا يعلمون بإيمانه لكتمانه إياهم ذلك تقية. وقيل: قوله: " من آل فرعون " مفعول ثان لقوله: " يكتم " قدم عليه، والغالب فيه وإن كان التعدي إلى المفعول الثاني بنفسه كما في قوله: " ولا يكتمون الله حديثا " النساء. 42 لكنه قد يتعدى إليه بمن كما صرح به في المصباح. وفيه أن السياق يأباه فلا نكتة ظاهرة تقتضي تقدم المفعول الثاني على الفعل من حصر ونحوه. على أن الرجل يكرر نداء فرعون وقومه بلفظة " يا قومي " ولو لم يكن منهم لم يكن له ذلك.

[ 329 ]

وقوله: " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم " إنكار لعزمهم على قتله، وفي قوله: " من ربكم " دليل على أن في البينات التي جاء بها دلالة على أن الله ربهم أيضا كما اتخذه ربا فقتله قتل رجل جاء بالحق من ربهم. وقوله: " وإن يك كاذبا فعليه كذبه " قيل: إن ذكره هذا التقدير تلطف منه لا أنه كان شاكا في صدقه. وقوله: " وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم " فيه تنزل في المخاصمة بالاكتفاء على أيسر التقادير وأقلها كأنه يقول: " وإن يك صادقا يصبكم ما وعدكم من أنواع العذاب ولا أقل من إصابة بعض ما يعدكم مع أن لازم صدقه إصابة جميع ما وعد. وقوله: " إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب " تعليل للتقدير الثاني فقط والمعنى إن يك كاذبا كفاه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم لانكم حينئذ مسرفون متعدون طوركم كذابون في نفي ربوبية ربكم واتخاذ أرباب من دونه والله لا يهدي من هو مسرف كذاب، وأما على تقدير كذبه فلا ربوبية لمن اتخذه ربا حتى يهديه أو لا يهديه. ومن هنا يظهر أن ما ذكره بعضهم من كون الجملة تعليلا للتقديرين جميعا متعلقة بكلتا الجملتين غير مستقيم. قوله تعالى: " يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الارض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا " ظهورهم غلبتهم وعلوهم في الارض، والارض أرض مصر، و بأس الله أخذه وعذابه والاستفهام للانكار. والمعنى: يا قوم لكم الملك حالكونكم غالبين عالين في أرض مصر على من دونكم من بني إسرائيل فمن ينصرنا من أخذ الله وعذابه كما يعدنا به موسى إن جاءنا ؟ وقد أدخل نفسه فيهم على تقدير مجئ البأس ليكون أبلغ في النصح وأوقع في قلوبهم أنه يريد لهم من العافية ما يريده لنفسه. قوله تعالى: " قال فرعون ما اريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " أي طريق الصواب المطابقة للواقع يريد أنه على يقين مما يهدي إليه قومه من الطريق

[ 330 ]

وهي مع كونها معلومة له مطابقة للواقع، وهذا كان تمويها منه وتجلدا. قوله تعالى: " وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الاحزاب - إلى قوله - للعباد " المراد بالذي آمن هو مؤمن آل فرعون، ولا يعبؤ بما قيل: إنه موسى لقوة كلامه، والمراد بالاحزاب الامم المذكورون في الاية التالية قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم، وقوله: " مثل دأب قوم نوح " بيان للمثل السابق والدأب هو العادة. والمعنى: يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الاقوام الماضين مثل العادة الجارية من العذاب عليهم واحدا بعد واحد لكفرهم وتكذيبهم الرسل، أو مثل جزاء عادتهم الدائمة من الكفر والتكذيب وما الله يريد ظلما للعباد. قوله تعالى: " ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد - إلى قوله - من هاد " يوم التناد يوم القيامة، ولعل تسميته بذلك لكون الظالمين فيه ينادي بعضهم بعضا وينادون بالويل والثبور على ما اعتادوا به في الدنيا. وقيل: المراد بالتنادي المناداة التي تقع بين أصحاب الجنة وأصحاب النار على ما ذكره الله تعالى في سورة الاعراف، وهناك وجوه آخر ذكروها لا جدوى فيها. وقوله: " يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم " المراد به يوم القيامة ولعل المراد أنهم يفرون في النار من شدة عذابها ليتخلصوا منها فردوا إليها كما قال تعالى: " كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق " الحج: 22. وقوله: " ومن يضلل الله فما له من هاد " بمنزلة التعليل لقوله: " ما لكم من الله من عاصم " أي تفرون مدبرين ما لكم من عاصم ولو كان لكان من جانب الله وليس وذلك لان الله أضلهم ومن يضلل الله فما له من هاد. قوله تعالى: " ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات " إلى آخر الاية. لما ذكر أن الله أضلهم ولا هادي لهم استشهد له بما عاملوا به يوسف عليه السلام في رسالته إليهم حيث شكوا في نبوته ما دام حيا ثم إذا مات قالوا: لا نبي بعده. فالمعنى: وأقسم لقد جاءكم يوسف من قبل بالايات البينات التي لا تدع ريبا في

[ 331 ]

رسالته من الله فما زلتم في شك مما جاءكم به ما دام حيا حتى إذا هلك ومات قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا فناقضتم أنفسكم ولم تبالوا. ثم أكده - وهو في معنى التعليل - بقوله: " كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب ". قوله تعالى: " الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم " الخ وصف لكل مسرف مرتاب فإن من تعدى طوره بالاعراض عن الحق واتباع الهوى واستقر في نفسه الارتياب فكان لا يستقر على علم ولا يطمئن إلى حجة تهديه إلى الحق جادل في آيات الله بغير برهان إذا خالفت مقتضى هواه. وقوله: " كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار " يفيد أن قلوبهم مطبوع عليها فلا يفقهون حجة ولا يركنون إلى برهان. قوله تعالى: " وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا - إلى قوله - في تباب " أمر منه لوزيره هامان أن يبني له بناء يتوصل به إلى الاطلاع إلى إله موسى ولعله أصدر هذا الامر أثناء محاجة الذي آمن وبعد الانصراف عن قتل موسى ولذلك وقع ذكره بين مواعظ الذي آمن واحتجاجاته. والصرح - على ما في المجمع - البناء الظاهر الذي لا يخفى على عين الناظر وإن بعد، والاسباب جمع سبب وهو ما تتوصل به إلى ما يبتعد عنك. وقوله: " لعلي أبلغ الاسباب " في معنى التعليل لامره ببناء الصرح، والمعنى آمرك ببنائه لاني أرجو أن أبلغ بالصعود عليه الاسباب ثم فسر الاسباب بقوله: " أسباب السماوات " وفرع عليه قوله: " فأطلع إلى إله موسى " كأنه يقول: إن الاله الذي يدعوه ويدعو إليه موسى ليس في الارض إذ لا إله فيها غيري فلعله في السماء فابن لي صرحا لعلي أبلغ بالصعود عليه الاسباب السماوية الكاشفة عن خبايا السماء فأطلع ؟ من جهتها إلى إله موسى وإني لاظنه كاذبا. وقيل: إن مراده أن يبني له رصدا يرصد فيه الاوضاع السماوية لعله يعثر فيها على ما يستدل به على وجود إله موسى بعد اليأس عن الظفر عليه بالوسائل الارضية

[ 332 ]

وهو حسن، وعلى أي حال لا يستقيم ما ذكره على شئ من مذاهب الوثنية فلعله كان منه تمويها على الناس أو جهلا منه وما هو من الظالمين ببعيد. وقوله: " وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل " مفاد السياق أنه في معنى إعطاء الضابط لما واجه به فرعون الحق الذي كان يدعوه إليه موسى فقد زين الشيطان له قبيح عمله فرآه حسنا وصده عن سبيل الرشاد فرآى انصداده عنها ركوبا عليها فجادل في آيات الله بالباطل وأتى بمثل هذه الاعمال القبيحة والمكائد السفهية لادحاض الحق. ولذلك ختمت الاية بقوله: " وما كيد فرعون إلا في تباب " أي هلاك وانقطاع. قوله تعالى: " وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد " يدعوهم إلى اتباعه ليهديهم، و اتباعه اتباع موسى، وسبيل الرشاد السبيل التي في سلوكها إصابة الحق والظفر بالسعادة، والهداية بمعنى إراءة الطريق، وفي قوله: " أهدكم سبيل الرشاد " تعريض لفرعون حيث قال: " وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " والباقي ظاهر. قوله تعالى: " يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الاخرة هي دار القرار " هذا هو السناد الذي يستند إليه سلوك سبيل الرشاد والتدين بدين الحق لا غنى عنه بحال وهو الاعتقاد بأن للانسان حياة خالدة مؤبدة هي الحياة الاخرة وأن هذه الحياة الدنيا متاع في الاخرة ومقدمة مقصودة لاجلها، ولذلك بدء به في بيان سبيل الرشاد ثم ذكر السيئة والعمل الصالح. قوله تعالى: " من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها " إلى آخر الاية. أي إن الذي يصيبه ويعيش به في الاخرة يشاكل ما أتى به في هذه الحياة الدنيا التي هي متاع فيها فإنما الدنيا دار عمل والاخرة دار جزاء. من عمل في الدنيا سيئة ذات صفة المساءة فلا يجزى في الاخرة إلا مثلها مما يسوؤه ومن عمل صالحا من ذكر أو انثى من غير فرق بينهما في ذلك والحال أنه مؤمن فاولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب. وفيه إشارة إلى المساواة بين الذكر والانثى في قبول العمل وتقييد العمل الصالح

[ 333 ]

في تأثيره بالايمان لكون العمل حبطا بدون الايمان قال تعالى: " ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله " المائدة: 5 إلى غيرها من الايات. وقد جمع الدين الحق وهو سبيل الرشاد في أوجز بيان وهو أن للانسان دار قرار يجزى فيها بما عمل في الدنيا من عمل سيئ أو صالح فليعمل صالحا ولا يعمل سيئا، وزاد بيانا إذ أفاد أنه إن عمل صالحا يرزق بغير حساب. قوله تعالى: " ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار - إلى قوله - العزيز الغفار " كأنه لما دعاهم إلى التوحيد قابلوه بدعوته إلى عبادة آلهتهم أو قدرها لهم لما شاهد جدالهم بالباطل وإصرارهم على الشرك فنسب إليهم الدعوة بشهادة حالهم فأظهر العجب من مقابلتهم دعوته الحقة بدعوتهم الباطلة. فقال: ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة أي النجاة من النار وتدعونني إلى النار وقد كان يدعوهم إلى سبب النجاة ويدعونه إلى سبب دخول النار فجعل الدعوة إلى السببين دعوة إلى المسببين أو لان الجزاء هو العمل بوجه. ثم فسر ما دعوه إليه وما دعاهم إليه فقال: تدعونني لاكفر أي إلى أن أكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم أي أشرك به شيئا لا حجة لي على كونه شريكا فأفتري على الله بغير علم، وأنا أدعوكم إلى العزيز الذي يغلب ولا يغلب، الغفار لمن تاب إليه وآمن به أي أدعوكم إلى الايمان به والاسلام له. قوله تعالى: " لا جرم أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الاخرة " الخ لا جرم بمعنى حقا أو بمعنى لابد، ومفاد الاية إقامة الحجة على عدم كون ما يدعون إليه إلها من طريق عدم الدعوة إليه وفي ذلك تأييد لقوله في الاية السابقة " ما ليس لي به علم ". والمعنى: ثبت ثبوتا أن ما تدعونني إليه مما تسمونه شريكا له سبحانه ليس له دعوة في الدنيا إذ لم يعهد نبي أرسل إلى الناس من ناحيته ليدعوهم إلى عبادته، ولا في الاخرة إذ لا رجوع إليه فيها من أحد، وأما الذي أدعوكم إليه وهو الله سبحانه فإن له دعوة في الدنيا وهي التي تصداها أنبياؤه ورسله المبعوثون من عنده المؤيدون بالحجج والبينات،

[ 334 ]

وفي الاخرة وهي التي يتبعها رجوع الخلق إليه لفصل القضاء بينهم، قال تعالى: " يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده " أسرى: 52. ومن المعلوم كما قررناه في ذيل قوله تعالى: " هو الذي يريكم آياته " الاية 13 من السورة أن الربوبية لا تتم بدون دعوة في الدنيا ونظيرتها الدعوة في الاخرة، وإذ كان الذي يدعوهم إليه ذا دعوة في الدنيا والاخرة دون ما يدعونه إليه فهو الاله دون ما يدعون إليه. وقوله: " وإن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار " معطوف على قوله: " أن ما تدعونني " أي لا جرم أن مردنا إلى الله فيجب الاسلام له واتباع سبيله ورعاية حدود العبودية، ولا جرم أن المسرفون وهم المتعدون طور العبودية - وهم أنتم - أصحاب النار فالذي أدعوكم إليه فيه النجاة دون ما تدعونني إليه. قوله تعالى: " فستذكرون ما أقول لكم وافوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد " صدر الاية موعظة وتخويف لهم وهو تفريع على قوله: " وأن مردنا إلى الله " الخ أي إذ كان لابد من الرجوع إلى الله وحلول العذاب بالمسرفين وأنتم منهم ولم تسمعوا اليوم ما أقول لكم فستذكرون ما أقول لكم حين عاينتم العذاب وتعلمون عند ذاك أني كنت ناصحا لكم. وقوله: " وافوض أمري إلى الله " التفويض على ما فسره الراغب هو الرد فتفويض الامر إلى الله رده إليه فيقرب من معنى التوكل والتسليم والاعتبار مختلف: فالتفويض من العبد رده ما نسب إليه من الامر إلى الله سبحانه وحال العبد حينئذ حال من هو أعزل لا أمر راجعا إليه، والتوكل من العبد جعله ربه وكيلا يتصرف فيما له من الامر، والتسليم من العبد مطاوعته المحضة لما يريده الله سبحانه فيه ومنه من غير نظر إلى انتساب أمر إليه فهي مقامات ثلاث من مقامات العبودية: التوكل ثم التفويض وهو أدق من التوكل ثم التسليم وهو أدق منهما. وقوله: " إن الله بصير بالعباد " تعليل لتفويضه أمره إلى الله، وفي وضع اسم الجلالة موضع ضميره - و كان مقتضى الظاهر الاضمار إشارة إلى علة بصيرته بالعباد كأنه قيل: إنه بصير بالعباد لانه الله عز اسمه.

[ 335 ]

قوله تعالى: " فوقاه الله سيئات ما مكروا " تفريع على تفويضه الامر إلى الله فكفاه الله شرهم ووقاه سيئات مكرهم، وفيه إشارة إلى أنهم قصدوه بالسوء لكن الله دفعهم عنه. قوله تعالى: " وحاق بآل فرعون سوء العذاب - إلى قوله - أشد العذاب " أي نزل بهم وأصابهم العذاب السيئ فسوء العذاب من إضافة الصفة إلى موصوفها وفي التوصيف بالمصدر مبالغة، وآل فرعون أشياعه وأتباعه، وربما يقال آل فلان ويشمل نفسه. وقوله: " النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " ظاهر السياق أنه بيان لسوء العذاب وليس من الاستئناف في شئ. والاية صريحة أولا في أن هناك عرضا على النار ثم إدخالا فيها والادخال أشد من العرض، وثانيا: في أن العرض على النار قبل قيام الساعة التي فيها الادخال وهو عذاب البرزخ - عالم متوسط بين الموت والبعث - وثالثا: أن التعذيب في البرزخ ويوم تقوم الساعة بشئ واحد وهو نار الاخرة لكن البرزخيين يعذبون بها من بعيد وأهل الاخرة بدخولها. وفي قوله: " غدوا وعشيا " إشارة إلى التوالي من غير انقطاع، ولعل لاهل البرزخ لعدم انقطاعهم عن الدنيا بالكلية نسبة ما إلى الغداة والعشي. وفي قوله: " ويوم تقوم الساعة ادخلوا " إيجاز بالحذف والتقدير يقال: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب. قوله تعالى: " وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا - إلى قوله - بين العباد " يفيد السياق أن الضمير في " يتحاجون " لال فرعون ومن الدليل على ذلك تغيير السياق في قوله بعد: " وقال الذين في النار " والمعنى وحاق بآل فرعون سوء العذاب إذ يتحاجون في النار أو واذكر من سوء عذابهم إذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء منهم للذين استكبروا إنا كنا في الدنيا لكم تبعا وكان لازم ذلك أن تكفونا في الحوائج وتنصرونا في الشدائد ولا شدة أشد مما نحن فيه فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار وإن لم يكن جميع عذابها فقد قنعنا بالبعض.

[ 336 ]

وهذا ظهور مما رسخ في نفوسهم في الدنيا من الالتجاء بكبريائهم ومتبوعيهم من دون الله يظهر منهم ذلك يوم القيامة وهم يعلمون أنهم في يوم لا تغني فيه نفس عن نفس شيئا والامر يومئذ لله وله نظائر محكية عنهم في كلامه تعالى من كذبهم يومئذ وخلفهم وإنكارهم أعمالهم وتكذيب بعضهم لبعض وغير ذلك. وقوله: " قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد " جواب من مستكبريهم عن قولهم ومحصله أن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل فالاسباب ساقطة عن التأثير وقد طاحت منا ما كنا نتوهمه لانفسنا في الدنيا من القوة والقدرة فحالنا وحالكم - ونحن جميعا في النار - واحدة. فقولهم: " إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد " مفاده أن ظهور الحكم الالهي قد أبطل أحكام سائر الاسباب وتأثيراتها وأثبتنا على ما نحن فيه من الحال في حد سواء فلسنا نختص دونكم بقوة حتى نغني عنكم شيئا من العذاب. ومما قيل في الاية أن الضمير في قوله: " يتحاجون " لمطلق الكفار من أهل النار وهو بعيد كما عرفت، وقيل: الضمير لقريش وهو أبعد. قوله تعالى: " وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب " مكالمة بين أهل النار - ومنهم آل فرعون - وبين خزنة جهنم أوردها سبحانه تلو قصة آل فرعون، وهم إنما سألوا الخزنة أن يدعوا لهم ليأسهم من أن يستجاب منهم أنفسهم. والمراد باليوم من العذاب ما يناسب من معنى اليوم لعالمهم الذي هم فيه، ويؤل معناه إلى قطعة من العذاب. قوله تعالى: " قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " أجابوهم بالاستخبار عن إتيان رسلهم إياهم بالبينات فاعترفوا بذلك وهو اعتراف منهم بأنهم كفروا بهم مع العلم بكونهم على الحق وهو الكفر بالنبوة فلم يجبهم الخزنة فيما سألوهم من الدعاء إثباتا ولا نفيا بل ردوهم إلى أنفسهم مشيرين إلى أنهم لا يستجاب لهم دعاء.

[ 337 ]

وقوله: " وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " أي إن دعاءهم قد أحاط به الضلال فلا يهتدي إلى هدف الاجابة وهو تتمة كلام الخزنة على ما يعطيه السياق، ويحتمل أن يكون من كلامه تعالى، على بعد. والجملة على أي حال تفيد معنى التعليل والمحصل: ادعوا فلا يستجاب لكم فإنكم كافرون، والكافرون لا يستجاب لهم دعاء. وتعليق حكم عدم الاستجابة بوصف الكفر مشعر بعليته وذلك أن الله سبحانه وإن وعد عباده وعدا قطعيا أن يجيب دعوة من دعاه منهم فقال: " أجيب دعوة الداع إذا دعان " البقرة 186، والدعاء إذا كان واقعا على حقيقته لا يرد البتة لكن الذي يتضمنه متن هذا الوعد هو أن يكون هناك دعاء وطلب حقيقة وأن يتعلق ذلك بالله حقيقة أي يدعو الداعي ويطلب جدا وينقطع في ذلك إلى الله عن سائر الاسباب التي يسميها أسبابا. والكافر بعذاب الاخرة وهو الذي ينكرها ويستر حقيقتها لا يتمشى منه طلب جدي لرفعه أما في الدنيا فظاهر، وأما في الاخرة فلانه وإن أيقن به بالمعاينة وانقطع إلى الله سبحانه لما هو فيه من الشدة وقد انقطعت عنه الاسباب لكن صفة الانكار لزمته وبالا وقد جوزي بها فلا تدعه يطلب ما كان ينكره طلبا جديا. على أن الكلام في انقطاعه إلى الله أيضا كالكلام في طلبه الجدي للتخلص وأنى له الانقطاع إلى الله هناك ولم يتلبس به في الدنيا فافهمه. وبذلك يظهر ضعف الاستدلال بالاية على أن دعاء الكافر لا يستجاب مطلقا فإنك عرفت أن مدلول الاية عدم استجابة دعائه فيما يكفر به وينكره لا مطلقا كيف ؟ وهناك آيات كثيرة تذكر استجابة دعائه في موارد الاضطرار. قوله تعالى: " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد " الاشهاد جمع شهيد بمعنى شاهد، والاية وعد نوعي لا وعد شخصي لكل واحد شخصي منهم في كل واقعة شخصية، وقد تقدم كلام في معنى النصر الالهي في تفسير قوله تعالى:

[ 338 ]

" إنهم لهم المنصورون " الصافات: 172. قوله تعالى: " يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار " تفسير ليوم يقوم الاشهاد، وظاهر إضافة المصدر إلى فاعله في قوله " معذرتهم " ولم يقل: أن يعتذروا، تحقق معذرة ما منهم يومئذ، وأما قوله: " هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون " المرسلات: 36 فمحمول على بعض مراحل يوم القيامة وعقباته لدلالة آيات اخرى على وقوع تكلم ما منهم يومئذ. وقوله: " ولهم اللعنة " أي البعد من رحمة الله، وقوله: " لهم سوء الدار " أي الدار السيئة وهي جهنم. قوله تعالى: " ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب - إلى قوله - الالباب " خاتمة لما تقدم من إرسال موسى بالايات والسلطان المبين ومجادلة آل فرعون في الايات بالباطل ومحاجة مؤمن آل فرعون، يشير بها وقد صدرت بلام القسم إلى حقية ما ارسل به وظلمهم فيما قابلوه به. والمراد بالهدى الدين الذي اوتيه موسى، و " بإيراث بني إسرائيل الكتاب " إبقاء التوراة بينهم يعملون بها ويهتدون. وقوله: " هدى وذكرى لاولي الالباب " أي حالكون الكتاب هدى يهتدي به عامتهم وذكرى يتذكر به خاصتهم من اولي الالباب. (بحث روائي) في العلل بإسناده عن إسماعيل بن منصور أبي زياد عن رجل عن أبي عبد الله عليه السلام في قول فرعون: " ذروني أقتل موسى " ما كان يمنعه ؟ قال: منعته رشدته، ولا يقتل الانبياء ولا أولاد الانبياء إلا أولاد الزنا. وفي المجمع قال أبو عبد الله: التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية ترس الله في الارض لان مؤمن آل فرعون لو أظهر الاسلام لقتل. اقول: والروايات من طرق الشيعة فيها كثيرة والايات تؤيدها كقوله: " إلا أن

[ 339 ]

تتقوا منهم تقاة " آل عمران: 28 وقوله: " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان " النحل: 106. وفي المحاسن بإسناده عن أيوب بن الحر عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله: " فوقاه الله سيئات ما مكروا " قال: أما لقد سطوا عليه وقتلوه ولكن أتدرون ما وقاه ؟ وقاه أن يفتنوه في دينه. اقول: وفي معناه بعض روايات اخر وفي بعض ما ورد من طرق أهل السنة أن الله نجاه من القتل. وفي الخصال عن الصادق عليه السلام قال: عجبت لمن يفزع من أربع كيف لا يفزع إلى أربع ؟ - إلى أن قال - وعجبت لمن مكر به كيف لا يفزع إلى قوله: " وافوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد " فإني سمعت الله تعالى يقول بعقبها: " فوقاه الله سيئات ما مكروا ". اقول: وهو مروي في غير هذا الكتاب. وفي تفسير القمي قال رجل لابي عبد الله عليه السلام: ما تقول في قول الله عز وجل: " النار يعرضون عليها غدوا وعشيا " فقال أبو عبد الله عليه السلام: ما يقول الناس ؟ فقال: يقولون: إنها في نار الخلد وهم لا يعذبون فيما بين ذلك فقال: فهم من السعداء. فقيل له: جعلت فداك فكيف هذا ؟ فقال: إنما هذا في الدنيا فأما في دار الخلد فهو قوله: " يوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب ". اقول: مراده عليه السلام بالدنيا البرزخ وهو كثير الورود في رواياتهم. وفي المجمع عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي فإن كان من أهل الجنة فمن الجنة، وإن كان من أهل النار فمن النار يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة أورده البخاري ومسلم في الصحيح. أقول: ورواه السيوطي في الدر المنثور عنهما وعن ابن أبي شيبة وابن مردويه وهذا المعنى كثير الورود في روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام، وقد مر كثير منها في البحث عن البرزخ في الجزء الاول من الكتاب وغيره من المواضع.

[ 340 ]

* * * فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والابكار - 55. إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير - 56. لخلق السموات والارض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون - 57. وما يستوي الاعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسئ قليلا ما تتذكرون - 58. إن الساعة لاتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون - 59. وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين - 60. (بيان) لما قص قصة موسى وإرساله بالحق إلى فرعون وقومه، ومجادلتهم في آيات الله بالباطل ومكرهم فيها ونصره تعالى لنبيه وإبطاله كيدهم وما آل إليه أمرهم من خيبة السعي وسوء المنقلب فرع على ذلك أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر منبها له أن وعد الله بالنصر حق وأن كيد قومه وجدالهم بالباطل واستكبارهم عن قبول دعوته سيبطل ويعود وبالا على أنفسهم فليسوا بمعجزي الله وستقوم الساعة الموعودة ويدخلون جهنم داخرين. قوله تعالى: " فاصبر إن وعد الله حق " إلى آخر الاية. تفريع على ما تقدم

[ 341 ]

من الامر بالاعتبار في قوله: " أو لم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم " وما أورد بعده من قصة موسى ومآل أمر المستكبرين المجادلين بالباطل ونصره تعالى للحق وأهله. والمعنى: إذا كان الامر على ذلك فاصبر على إيذاء المشركين ومجادلتهم بالباطل إن وعد الله حق وسيفي لك بما وعد، والمراد بالوعد ما في قوله قبيل هذا: " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا " الاية من وعد النصر. وقوله: " واستغفر لذنبك " أمر له بالاستغفار لما يعد بالنسبة إليه ذنبا وإن لم يكن ذنبا بمعنى المخالفة للامر المولوي لمكان عصمته صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تقدم كلام في معنى الذنب والمغفرة في أواخر الجزء السادس من الكتاب. وللذنب المنسوب إليه صلى الله عليه وآله وسلم معنى آخر سنشير إليه في تفسير أول سورة الفتح إن شاء الله تعالى، وقيل: المراد بذنبه صلى الله عليه وآله وسلم ذنب امته أعطي الشفاعة فيه. وقوله: " وسبح بحمد ربك بالعشي والابكار " أي نزهه سبحانه مصاحبا لحمده على جميل آلائه مستمرا متواليا بتوالي الايام أو في كل صباح ومساء، وكونه بالعشي والابكار على المعنى الاول من قبيل الكناية. وقيل: المراد به صلاتا الصبح والعصر، والاية مدنية. وفيه أن المسلم من الروايات ومنها أخبار المعراج أن الصلوات الخمس فرضت جميعا بمكة قبل الهجرة فلو كان المراد به الفريضتين كان ذلك بمكة قبل فرض بقية الصلوات الخمس. قوله تعالى: " إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه " الخ تأكيد لما تقدم في الاية السابقة من أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر وتطييب نفسه بتأييد وعد النصر، ومحصله أن هؤلاء المجادلين لا ينالون بغيتهم ولن ينالوا فلا يحزنك جدالهم وطب نفسا من ناحيتهم. فقوله: " إن في صدورهم إلا كبر " حصر للسبب الموجب لمجادلتهم في الكبر أي ليس عاملهم في ذلك طلب الحق أو الارتياب في آياتنا والشك فيها حتى يريدوا بها

[ 342 ]

ظهور الحق ولا حجة ولا سلطان عندهم حتى يريدوا إظهارها بل الذى في صدورهم وهو الداعي لهم إلى الجدال، الكبر، يريدون به إدحاض الحق الصريح. وقوله: " ما هم ببالغيه " الضمير لكبر باعتبار مسببه فإن الكبر سبب للجدال والجدال يراد به إبطال الحق ومحق الدعوة الحقة، والمعنى ما هم ببالغي مرادهم وبغيتهم من الجدال الذي يأتون به لكبرهم. وقوله: " فاستعذ بالله " أي فاستعذ بالله منهم بما لهم من الكبر كما استعاذ موسى من كل متكبر مجادل كما قال: " وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ". وقوله: " إنه هو السميع البصير " أي السميع لدعاء عباده البصير بحوائجهم والذي يبصر ما هم فيه من شدة أو رخاء. قوله تعالى: " لخلق السماوات والارض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون " اللام للقسم، والمراد بالسماوات والارض مجموع العالم، ومعنى الاية حسب ما يعطيه المقام أنهم ليسوا ببالغي بغيتهم وليسوا بمعجزين فإن الله الذي قدر على خلق مجموع العالم ولم يعجزه ذلك على ما فيه من العظمة ليس يعجزه جزء يسير منه وهو الناس المخلوقون الذين هم أهون عليه ولكن أكثر الناس جاهلون يظنون بجهلهم أنهم يعجزون الله بجدال يجادلونه أو أي كيد يكيدونه. قوله تعالى: " وما يستوي الاعمى والبصير " الخ لما ذكر أن أكثر الناس لا يعلمون أكده بأنهم ليسوا على وتيرة واحدة فإن منهم الاعمى والبصير ولا يستويان وعطف عليهما الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمسيئ فالطائفة الاولى اولو بصيرة يتذكرون بها والثانية أعمى الله قلوبهم فلا يتذكرون. وقوله: " قليلا ما تتذكرون " خطاب للناس بداعي التوبيخ وهو الوجه في الالتفات من الغيبة إلى الحضور. قوله تعالى: " إن الساعة لاتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون " ذكرهم تعالى في هذه الاية بإتيان الساعة وفي الاية التالية بدعوة ربهم إياهم إلى دعائه

[ 343 ]

وعبادته كما نبه الذي آمن من آل فرعون في القصة السابقة بإتيان الساعة وبأن لله الدعوة وليس لالهتهم دعوة في الدنيا ولا في الاخرة. قوله تعالى: " وقال ربكم ادعوني أستجب لكم " دعوة منه تعالى لعباده إلى دعائه ووعد بالاستجابة، وقد اطلق الدعوة والدعاء والاستجابة إطلاقا، وقد أشبعنا الكلام في معنى الدعاء والاجابة في ذيل قوله تعالى: " أجيب دعوة الداع إذا دعان " البقرة: 186 في الجزء الاول من الكتاب. وقوله: " إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " الدخور الذلة، وقد بدل الدعاء عبادة فدل على أن الدعاء عبادة. (بحث روائي) في الصحيفة السجادية: وقلت: " ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " فسميت دعاءك عبادة وتركه استكبارا وتوعدت على تركه دخول جهنم داخرين. وفي الكافي بإسناده عن حماد بن عيسى عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: ادع ولا تقل: قد فرغ من الامر فإن الدعاء هو العبادة إن الله عز وجل يقول: " إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " وقال: " ادعوني أستجب لكم ". أقول: قوله عليه السلام: فإن الدعاء - إلى قوله - داخرين احتجاج على ما ندب إليه أولا بقوله: ادع، وقوله: وقال: " ادعوني أستجب لكم " احتجاج على ما قاله ثانيا: ولا تقل: قد فرغ من الامر ولذا قدم عليه السلام في بيانه ذيل الاية على صدرها. وفي الخصال عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: يا معاوية من أعطي ثلاثة لم يحرم ثلاثة: من أعطي الدعاء أعطي الاجابة، ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة ومن أعطي التوكل أعطي الكفاية فإن الله عز وجل يقول في كتابه: " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " وقال: " لئن شكرتم لازيدنكم "، وقال: " ادعوني أستجب لكم ". وفي التوحيد بإسناده إلى موسى بن جعفر عليه السلام قال: قال قوم للصادق عليه السلام:

[ 344 ]

ندعوه فلا يستجاب لنا. قال: لانكم تدعون من لا تعرفونه. اقول: وقد أوردنا جملة من روايات الدعاء في ذيل قوله: " أجيب دعوة الداع إذا دعان " البقرة: 186 في الجزء الاول من الكتاب. * * * الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون - 61. ذلكم الله ربكم خالق كل شئ لا إله إلا هو فأنى تؤفكون - 62. كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون - 63. الله الذي جعل لكم الارض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين - 64. هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين - 65. قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين - 66. هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون - 67. هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون - 68.

[ 345 ]

(بيان) رجع سبحانه ثانيا إلى الاشارة إلى آيات التوحيد توحيد الربوبية والالوهية بعد ما بدء بها في السورة أولا بقوله: " هو الذي يريكم آياته ". قوله تعالى: " هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا " الاية. أي جعل لاجلكم الليل مظلما لتسكنوا فيه من التعب الذي عرض لكم وجه النهار من جهة السعي في طلب الرزق، والنهار مبصرا لتبتغوا من فضل ربكم وتكسبوا الرزق، وهذا من أركان تدبير الحياة الانسانية. وقد ظهر بذلك أن نسبة الابصار إلى النهار من المجاز العقلي لكن ليس من المبالغة في شئ كما ادعاه بعضهم. وقوله: " إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون " امتنان عليهم بالفضل وتقريع لهم بعدم شكرهم له قبال هذا الفضل العظيم ولو شكروه لعبدوه ووضع " الناس " الثاني موضع الضمير للاشارة إلى أن من طبع الناس بما هم ناس كفران النعم كما قال: " إن الانسان لظلوم كفار " إبراهيم: 34. قوله تعالى: " ذلكم الله ربكم خالق كل شئ لا إله إلا هو فأنى تؤفكون " أي ذلكم الذي يدبر أمر حياتكم ورزقكم بسكون الليل وسعي النهار هو الله تعالى وهو ربكم لان تدبير أمركم إليه. وقوله: " خالق كل شئ " أي ورب كل شئ لانه خالق كل شئ والخلق لا ينفك عن التدبير ولازم ذلك أن لا يكون في الوجود رب غيره لا لكم ولا لغيركم ولذلك عقبه بقوله: " لا إله إلا هو " أي فإذن لا معبود بالحق غيره إذ لو كان هناك معبود آخر كان رب آخر فإن الالوهية من شئون الربوبية. وقوله: " فأنى تؤفكون " أي فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره. قوله تعالى: " كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون " أي كمثل هذا الافك يؤفك الجاحدون لايات الله فإن الايات ظاهرة غير خفية فالانصراف عن مدلولها لا سبب له إلا الجحد.

[ 346 ]

قوله تعالى: " الله الذي جعل لكم الارض قرارا والسماء بناء " إلى آخر الاية القرار المستقر الذي يستقر عليه، والبناء - على ما قيل - القبة ومنه أبنية العرب للقباب المضروبة (؟) عليهم. يذكر تعالى نعمة استقرار الانسان على الارض وتحت السماء. وقوله: " وصوركم فأحسن صوركم " الفاء للتفسير والمعنى أحسن خلق صوركم وذلك أن الانسان جهز من دقائق التجهيز في صورته بما يقوى به من الاعمال المتنوعة العجيبة على مالا يقوى عليه شئ من سائر الموجودات الحية، ويلتذ من مزايا الحياة بما لا يتيسر لغيره أبدا. وقوله: " ورزقكم من الطيبات " هي الارزاق المتنوعة التي تلائم بطبائعها طبيعة الانسان من الحبوب والفواكه واللحوم وغيرها، وليس في الحيوان متنوع في الرزق كالانسان. وقوله: " ذلكم الله ربكم " أي المدبر لامركم، وقوله: " فتبارك الله رب العالمين " ثناء عليه عز وجل بربوبيته لجميع العالمين، وقد فرعه على ربوبيته وتدبيره للانسان إشارة إلى أن الربوبية واحدة وتدبيره لامر الانسان عين تدبيره لامر العالمين جميعا فإن النظام الجاري نظام واحد روعي في انطباقه على كل، انطباقه على الكل فهو سبحانه متبارك منشأ للخير الكثير فتبارك الله رب العالمين. قوله تعالى: " هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين " الخ في جملة " هو الحي " إطلاق لا مقيد له لا عقلا ولا نقلا مضافا إلى إفادة الحصر فمفادها أن له تعالى وحده حياة لا يداخلها موت ولا يزيلها فناء فهو تعالى حي بذاته وغيره كائنا ما كان حي بإحياء غيره. وإذا فرض هناك حي بذاته وحي بغيره لم يستحق العبادة بذاته إلا من كان حيا بذاته، ولذلك عقب قوله: " هو الحي " بقوله: " لا إله إلا هو ".. وقد سيقت الجملتان توطئة للامر بدعائه ولا مطلق دعائه بل دعائه بالتوحيد وإخلاص الدين له وحده لانه الحي بذاته دون غيره ولانه المعبود بالاستحقاق الذاتي دون غيره، ولذلك فرع على قوله: " هو الحي لا إله إلا هو " قوله: " فادعوه مخلصين له الدين ".

[ 347 ]

وقوله: " الحمد لله رب العالمين " ثناء عليه بربوبيته للعالمين. قوله تعالى: " قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين " معنى الاية ظاهر، وفيه إيآس للمشركين من موافقته لهم في عبادة آلهتهم " وقد تكرر هذا المعنى في سورة الزمر ويمكن أن يستأنس منه أن هذه السورة نزلت بعد سورة الزمر. قوله تعالى: " هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة " الخ المراد بخلقهم من تراب خلق أبيهم آدم من تراب فإن خلق غيره ينتهي إليه فخلقه من تراب هو خلقهم منه أو المراد بخلقهم من تراب تكوين النطفة من البسائط الارضية. وقوله: " ثم من نطفة " الخ أي ثم خلقناكم من نطفة حقيرة معلومة الحال " ثم من علقة " كذلك " ثم يخرجكم " من بطون امهاتكم " طفلا " أي أطفالا، والطفل - كما قيل - يطلق على الواحد والجمع قال تعالى: " أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء " النور: 31. " ثم لتبلغوا أشدكم " اللام للغاية وكأن متعلقها محذوف والتقدير ثم ينشئكم لتبلغوا أشدكم وهو من العمر زمان اشتداد القوى " ثم لتكونوا شيوخا " معطوف على " لتبلغوا " " ومنكم من يتوفى من قبل " فلا يبلغ أحد هذه المراحل من العمر كالشيخوخة وبلوغ الاشد و غيرهما. " ولتبلغوا أجلا مسمى " وهو النهاية من الامد المضروب الذي لا سبيل للتغير إليه أصلا، وهو غاية عامة لجميع الناس كيفما عمروا قال تعالى: " وأجل مسمى عنده " الانعام: 2. ولذلك لم تعطف الجملة بثم حتى تتميز من الغايتين المذكورتين سابقا. وقوله: " ولعلكم تعقلون " أي تدركون الحق بالتعقل المغروز فيكم، وهذا غاية خلقة الانسان بحسب حياته المعنوية كما أن بلوغ الاجل المسمى غاية حياته الدنيا الصورية. قوله تعالى: " هو الذي يحيي ويميت " الخ أي هو الذي يفعل الاحياء والاماتة وفيهما نقل الاحياء من عالم إلى عالم وكل منهما مبدء لتصرفاته بالنعم التي يتفضل بها على من يدبر أمره. وقوله: " فإذا قضي أمرا فإنما يقول له كن فيكون " تقدم تفسيره كرارا.

[ 348 ]

(بحث روائي) في الدر المنثور أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم بسند صحيح عن أبي العالية قال: إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا إن الدجال يكون منا في آخر الزمان ويكون من أمره فعظموا أمره وقالوا يصنع كذا فأنزل الله: " إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه " قال: لا يبلغ الذي يقول. " فاستعذ بالله " فأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يتعوذ من فتنة الدجال " لخلق السماوات والارض أكبر من خلق الناس " الدجال. وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن كعب الاحبار في قوله: " إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان " قال: هم اليهود نزلت فيهم فيما ينتظرونه من أمر الدجال. وفيه أخرج ابن المنذر عن ابن جريح في قوله: " لخلق السماوات والارض أكبر من خلق الناس " قال: زعموا أن اليهود قالوا: يكون منا ملك في آخر الزمان البحر إلى ركبتيه، والسحاب دون رأسه، يأخذ الطير بين السماء والارض، معه جبل خبز ونهر فنزلت: " لخلق السماوات والارض أكبر من خلق الناس ". أقول: قد عرفت فيما تقدم أن غرض السورة - كما يستفاد من سياق آياتها - التكلم حول استكبارهم ومجادلتهم في آيات الله بغير الحق فمنها ابتدء الكلام وإليها يعود عودة بعد عودة كقوله: " ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا " وقوله: " وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق "، وقوله: " الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا "، وقوله: " إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر "، وقوله: " ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون ". فسياق آيات السورة يأبى أن يكون بعضها يختص بسبب في نزولها لا يشاركها فيه غيرها كما هو مؤدى هذه الروايات الثلاث. على أن ما في الروايات من قصة إخبار اليهود بالدجال لا ينطبق على الايتين إنطباقا ظاهرا بعد التأمل في مضمون الايتين نفسهما أعني قوله: " إن الذين يجادلون - إلى قوله - ولكن أكثر الناس لا يعلمون ". ومن هذا يظهر أن القول بكون الايتين مدنيتين استنادا إلى هذه الروايات كما ترى.

[ 349 ]

* * * ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون - 69. الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون - 70. إذ الاغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون - 71. في الحميم ثم في النار يسجرون - 72. ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون - 73. من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين - 74. ذلكم بما كنتم تفرحون في الارض بغير الحق وبما كنتم تمرحون - 75. أدخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين - 76. فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون - 77. ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون - 78. (بيان) رجوع بعد رجوع إلى حديث المجادلين في آيات الله وقد تعرض لبيان مآل أمرهم بذكر ما آل إليه أمر أشباههم من الامم الخالية ونصره تعالى لدينه في أول السورة

[ 350 ]

إجمالا ثم بذكر الحال في دعوة موسى عليه السلام بالخصوص فيما قصه من قصته ونصره له بالخصوص ثم في ضمن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر ووعده بالنصر. وهذا آخر كرة عليهم يذكر فيها مآل أمرهم وما يصرفون إليه وهو العذاب المخلد ثم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر وبعده بالنصر ويطيب نفسه بأن وعد الله حق. قوله تعالى: " ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون " " ألم تر " مفيد للتعجيب و " أنى " بمعنى كيف، والمعنى ألا تعجب أو ألم تعجب من أمر هؤلاء المجادلين في آيات الله كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل وعن الهدى إلى الضلال. والتعرض لحال المجادلين ههنا من حيث الاشارة إلى كونهم مصروفين عن الحق والهدى ومآل ذلك، وفيما تقدم من قوله: " إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه " من حيث إن الداعي لهم إلى ذلك الكبر وأنهم لا يبلغون ما يريدون فلا تكرار. ومنه يظهر ما في قول بعضهم: إن تكرير ذكر المجادلة محمول على تعدد المجادل بأن يكون المجادلون المذكورون في الاية السابقة غير المذكورين في هذه الاية أو على اختلاف ما فيه المجادلة كأن يكون المجادلة هناك في أمر البعث وههنا في أمر التوحيد على أن فيه غفلة عن غرض السورة كما عرفت. قوله تعالى: " الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون " الذي يعطيه سياق الايات التالية أن المراد بهؤلاء المجادلين هم المجادلون من قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعليه فالانسب أن يكون المراد بالكتاب هو القرآن الكريم، وبقوله: " بما أرسلنا به رسلنا " ما جاءت به الرسل عليهم السلام من عند الله من كتاب ودين فالوثنية منكرون للنبوة. وقوله: " فسوف يعلمون " تفريع على مجادلتهم وتكذيبهم وتهديد لهم أي سوف يعلمون حقيقة مجادلتهم في آيات الله وتكذيبهم بالكتاب وبالرسل. قوله تعالى: " إذ الاغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون " في المجمع: الاغلال جمع غل وهو طوق يدخل في العنق للذل والالم وأصله الدخول، وقال: السلاسل جمع سلسلة وهى الحلق منتظمة في جهة الطول مستمرة

[ 351 ]

وقال: السحب جر الشئ على الارض. هذا أصله، وقال: السجر أصله إلقاء الحطب في معظم النار كالتنور الذي يسجر بالوقود. انتهى. وقوله: " إذ الاغلال في أعناقهم والسلاسل " ظرف لقوله: " فسوف يعلمون " قيل: الاتيان بإذ - وهو للماضي - للدلالة على تحقق الوقوع وإن كان موقعه المستقبل فلا تنافي، في الجمع بين سوف وإذ. و " الاغلال في أعناقهم " مبتدء وخبر، و " السلاسل " معطوف على الاغلال، و " يسحبون في الحميم " خبر بعد خبر، و " في النار يسجرون " معطوف على " يسحبون ". والمعنى: سوف يعلمون حقيقة عملهم حين تكون الاغلال والسلاسل في أعناقهم يجرون في الماء الحار الشديد الحرارة ثم يقذفون في النار. وقيل: معنى قوله: " ثم في النار يسجرون " ثم يصيرون وقود النار، ويؤيده قوله تعالى في صفة جهنم: " وقودها الناس والحجارة " البقرة: 24، وقوله: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " الانبياء: 98. قوله تعالى: " ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا " إلى آخر الاية. أي قيل لهم وهم يتقلبون بين السحب والسجر: أين ما كنتم تشركون من شركائكم من دون الله حتى ينصروكم بالانجاء من هذا العذاب أو يشفعوا لكم كما كنتم تزعمون أنهم سيشفعون لكم قبال عبادتكم لهم ؟. وقوله: " قالوا ضلوا عنا " أي غابوا عنا من قولهم: ضلت الدابة إذا غابت فلم يعرف مكانها، وهذا جوابهم عما قيل لهم: أين ما كنتم تشركون من دون الله. وقوله: " بل لم نكن ندعو من قبل شيئا " إضراب منهم عن الجواب الاول لما يظهر لهم أن الالهة الذين كانوا يزعمونهم شركاء لم يكونوا إلى أسماء لا مسميات لها ومفاهيم لا يطابقها شئ ولم يكن عبادتهم لها إلا سدى، ولذلك نفوا أن يكونوا يعبدون شيئا قال تعالى: " فزيلنا بينهم " يونس: 28 وقال: " لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون " الانعام: 94. وقيل: هذا من كذبهم يوم القيامة على حد قوله: " والله ربنا ما كنا مشركين "

[ 352 ]

الانعام: 23. وقوله: " كذلك يضل الله الكافرين " أي إضلاله تعالى للكافرين وهم الساترون للحق يشبه هذا الضلال وهو أنهم يرون الباطل حقا فيقصدونه ثم يتبين لهم بعد ضلال سعيهم أنه لم يكن إلا باطلا في صورة حق وسرابا في سيماء الحقيقة. والمعنى: على الوجه الثاني أعني كون قولهم: " بل لم نكن ندعو من قبل شيئا " كذبا منهم: كمثل هذا الاضلال يضل الله الكافرين فيؤل أمرهم إلى الكذب حيث لا ينفع مع علمهم بأنه لا ينفع. وقد فسرت الجملة بتفاسير اخرى متقاربة وقريبة مما ذكرناه. قوله تعالى: " ذلكم بما كنتم تفرحون في الارض بغير الحق وبما كنتم تمرحون " الفرح مطلق السرور، والمرح الافراط فيه وهو مذموم، وقال الراغب: الفرح انشراح الصدر بلذة عاجلة وأكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية، وقال: المرح شدة الفرح والتوسع فيه. انتهى. وقوله: " ذلكم بما كنتم " الاشارة إلى ما هم فيه من العذاب والباء في " بما كنتم " للسببية أو المقابلة. والمعنى: ذلكم العذاب الذي أنتم فيه بسبب كونكم تفرحون في الارض بغير الحق من اللذات العاجلة وبسبب كونكم تفرطون في الفرح وذلك لتعلق قلوبهم بعرض الدنيا وزينتها ومعاداتهم لكل حق يخالف باطلهم فيفرحون ويمرحون بإحياء باطلهم وإماتة الحق واضطهاده. قال في المجمع: قيد الفرح وأطلق المرح لان الفرح قد يكون بحق فيحمد عليه وقد يكون بالباطل فيذم عليه، والمرح لا يكون إلا باطلا. انتهى. قوله تعالى: " ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين " أي ادخلوا أبوابها المقسومة لكم خالدين فيها فبئس مقام الذين يتكبرون عن الحق جهنم، وقد تقدم أن أبواب جهنم دركاتها. قوله تعالى: " فاصبر إن وعد الله حق " لما بين مآل أمر المجادلين في آيات الله

[ 353 ]

وهي النار وأن الله يضلهم بكفرهم فرع عليه أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر معللا ذلك بأن وعد الله حق. وقوله: " فإما نرينك بعض الذي نعدهم " هو عذاب الدنيا " أو نتوفينك " بالموت فلم نرك ذلك " فإلينا يرجعون " ولا يفوتوننا فننجز فيهم ما وعدناه. قوله تعالى: " ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك " الخ بيان لكيفية النصر المذكور في الاية السابقة أن آية النصر - التي جرت سنة الله على إنزالها للقضاء بين كل رسول وامته وإظهار الحق على الباطل كما يشير إليه قوله: " ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون " يونس: 47 - لم يفوض أمرها إلى رسول من الرسل من قبلك بل كان يأتي بها من يأتي منهم بإذن الله، وحالك حالهم، فمن الممكن أن نأذن لك في الاتيان بها فنريك بعض ما نعدهم، ومن الممكن أن نتوفاك فلا نريك غير أن أمر الله إذا جاء قضى بينهم بالحق وخسر هنالك المبطلون. هذا ما يفيده السياق. فقوله: " ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك " مسوق للاشارة إلى كون ما سيذكره سنة جارية منه تعالى. وقوله: " وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله " الاية وإن كانت أعم من الاية المعجزة التي يؤتاها الرسول لتأييد رسالته، والاية التي تنصر الحق وتقضي بين الرسول وبين امته والكل بإذن الله لكن مورد الكلام كما استفدناه من السياق القسم الثاني وهي القاضية بين الرسول وامته. وقوله: " فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون " أي فإذا جاء أمر الله بالعذاب قضي بالحق فأظهر الحق وأزهق الباطل وخسر عند ذلك المتمسكون بالباطل في دنياهم بالهلاك وفي آخرتهم بالعذاب الدائم. واستدل بالاية على أن من الرسل من لم تذكر قصته في القرآن، وفيه أن الاية مكية لا تدل على أزيد من عدم ذكر قصة بعض الرسل إلى حين نزولها بمكة، وقد ورد

[ 354 ]

في سورة النساء: " ورسلا قد قصصنا هم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك " النساء: 164 ولم يذكر في السور النازلة بعد سورة النساء اسم أحد من الرسل المذكورين بأسمائهم في القرآن. وفي المجمع وروي عن علي عليه السلام أنه قال: بعث الله نبيا أسود لم يقص علينا قصته، وروى في الدر المنثور عن الطبراني في الاوسط وابن مردويه عنه ما في معناه. * * * الله الذي جعل لكم الانعام لتركبوا منها ومنها تأكلون - 79. ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون - 80. ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون - 81. أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الارض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون - 82. فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن - 83. فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين - 84. فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنا لك الكافرون - 85.

[ 355 ]

(بيان) رجوع بعد رجوع إلى ذكر بعض آيات التوحيد وإرجاع لهم إلى الاعتبار بحال الامم الدارجة الهالكة وسنة الله الجارية فيهم بإرسال رسله إليهم ثم القضاء بين رسلهم وبينهم المؤدي إلى خسران الكافرين منهم، وعند ذلك تختتم السورة. قوله تعالى: " الله الذي جعل لكم الانعام لتركبوا منها ومنها تأكلون " ذكر سبحانه مما ينتفع به الانسان في حياته ويدبر به أمره الانعام والمراد بها الابل والبقر والغنم، وقيل: المراد بها ههنا الابل خاصة. فقوله: " جعل لكم الانعام لتركبوا منها ومنها تأكلون " الجعل هنا الخلق أو التسخير، واللام في " لتركبوا " للغرض و " من " للتبعيض، والمعنى خلق لاجلكم أو سخر لكم الانعام والغرض من هذا الجعل أن تركبوا بعضها كبعض الابل وبعضها كبعض الابل والبقر والغنم تأكلون. قوله تعالى: " ولكم فيها منافع " الخ كانتفاعكم بألبانها وأصوافها وأوبارها وأشعارها وجلودها وغير ذلك، وقوله: " ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم " أي ومن الغرض من جعلها أن تبلغوا، حالكونكم عليها بالركوب، حاجة في صدوركم وهي الانتقال من مكان إلى مكان لاغراض مختلفة. وقوله: " وعليها وعلى الفلك تحملون " كناية عن قطع البر والبحر بالانعام والفلك. قوله تعالى: " ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون " تقدم معنى إراءته تعالى آياته في تفسير أوائل السورة، وكأن الجملة أعني قوله: " ويريكم آياته " غير مقصودة لنفسها حتى يلزم التكرار وإنما هي تمهيد وتوطئة للتوبيخ الذي في قوله: " فأي آيات الله تنكرون " أي أي هذه الايات التي يريكم الله إياها عيانا وبيانا، تنكرون إنكارا يمهد لكم الاعراض عن توحيده. قوله تعالى: " أفلم يسيروا في الارض فينظروا " إلى آخر الاية توبيخ لهم وعطف لانظارهم إلى ما جرى من سنة القضاء والحكم في الامم السالفة، وقد تقدمت نظيرة الاية في أوائل السورة وكان الغرض هناك أن يتبين لهم أن الله أخذ كلا منهم بذنوبهم

[ 356 ]

لما كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فيكفرون بهم ولذا ذيل الاية بقوله: " فأخذهم الله بذنوبهم "، والغرض ههنا أن يتبين لهم أنهم لم يغنهم ما كسبوا ولم ينفعهم في دفع عذاب الله ما فرحوا به من العلم الذي عندهم ولا توبتهم وندامتهم مما عملوا. وقد صدرت الاية بفاء التفريع فقيل: " أفلم يسيروا " الخ مع الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، وكأن الكلام تفريع على قوله: " فأي آيات الله تنكرون " فكأنه لما ذمهم وأنكر إنكارهم لاياته رجع وانصرف عنهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشيرا إلى سقوطه من منزلة الخطاب وقال: إذا كانت آياته تعالى ظاهرة بينة لا تقبل الانكار ومن جملتها ما في آثار الماضين من الايات الناطقة وهم قد ساروا في الارض وشاهدوها فلم لم ينظروا فيها فيتبين لهم أن الماضين مع كونهم أقوى من هؤلاء كما وكيفا لم ينفعهم ما فرحوا به من علم وقوة. قوله تعالى: " فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم " الخ ضمائر الجمع في الاية - وهي سبع - للذين من قبلهم، والمراد بما عندهم من العلم ما وقع في قلوبهم وشغل نفوسهم من زينة الحياة الدنيا وفنون التدبير للظفر بها وبلوغ لذائذها وقد عد الله سبحانه ذلك علما لهم وقصر علمهم فيه، قال تعالى: " يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الاخرة هم غافلون " الروم: 7، وقال: " فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم " النجم: 30. والمراد بفرحهم بما عندهم من العلم شدة إعجابهم بما كسبوه من الخبرة والعلم الظاهري وانجذابهم إليه الموجب لاعراضهم عن المعارف الحقيقية التي جاءت بها رسلهم، واستهانتهم بها وسخريتهم لها، ولذا عقب فرحهم بما عندهم من العلم بقوله: " وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن ". وفي معنى قوله: " فرحوا بما عندهم من العلم " أقوال أخر: منها: أن المراد بما عندهم من العلم عقائدهم الفاسدة وآراؤهم الباطلة وتسميتها علما للتهكم فهم كانوا يفرحون بها ويستحقرون لذلك علم الرسل، وأنت خبير بأنه تصوير من غير دليل. ومنها: أن المراد بالعلم هو علوم الفلاسفة من يونان والدهريين فكانوا إذا سمعوا بالوحي ومعارف النبوة صغروا علم الانبياء وتبجحوا بما عندهم، وهو كسابقه على أنه

[ 357 ]

لا ينطبق على أحد من الامم التي قص القرآن قصتهم كقوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وقوم شعيب وغيرهم. ومنها: أن أصل المعنى فلما جاءتهم رسلهم بالبينات لم يفرحوا بما جاءهم من العلم فوضع موضعه فرحوا بما عندهم من الجهل ثم بدل الجهل علما تهكما فقيل: فرحوا بما عندهم من العلم، وهذا الوجه - على ما فيه من التكلف والبعد من الفهم - يرد عليه ما يرد على الاول. ومنها: أن ضمير فرحوا للكفار وضمير " عندهم " للرسل، والمعنى فرح الكفار بما عند الرسل من العلم فرح ضحك واستهزاء وفيه أن لازمه اختلاف الضمائر المتسقة مضافا إلى أن الضحك والاستهزاء لا يسمى فرحا ولا قرينة. ومنها: أن ضميري " فرحوا بما عندهم " للرسل، والمعنى أن الرسل لما جاؤهم وشاهدوا ما هم فيه من الجهل والتمادي على الكفر والجحود وعلموا عاقبة أمرهم فرحوا بما عندهم من العلم الحق وشكروا الله على ذلك. وفيه أن سياق الايات أصدق شاهد على أنها سيقت لبيان حال الكفار بعد إتيان رسلهم بالبينات وكيف آلت إلى نزول العذاب ولم ينفعهم الايمان بعد مشاهدة البأس ؟ وأي ارتباط له بفرح الرسل بعلومهم الحقة ؟ على أن لازمه أيضا اختلاف الضمائر. قوله تعالى: " فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين " البأس شدة العذاب، والباقي ظاهر. قوله تعالى: " فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا " الخ وذلك لعدم استناد الايمان حينئذ إلى الاختيار، وقوله: " سنة الله التي قد خلت في عباده " أي سنها الله سنة ماضية في عباده أن لا تقبل توبة بعد رؤية البأس " وخسر هنالك الكافرون ". (سورة حم السجدة مكية وهي أربع وخمسون آية) بسم الله الرحمن الرحيم حم - 1. تنزيل من الرحمن الرحيم - 2. كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون - 3. بشيرا ونذيرا

[ 358 ]

فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون - 4. وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون - 5. قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين - 6. الذين لا يؤتون الزكوة وهم بالاخرة هم كافرون - 7. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون 8 -. قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين - 9. وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين - 10. ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين - 11. فقضيهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم - 12. (بيان) تتكلم السورة حول إعراضهم عن الكتاب المنزل عليهم وهو القرآن الكريم فهو الغرض الاصلي ولذلك ترى طائف الكلام يطوف حوله ويبتدئ به ثم يعود إليه فصلا

[ 359 ]

بعد فصل فقد افتتح بقوله: " تنزيل من الرحمان الرحيم " الخ ثم قيل: " وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن " الخ، وقيل: " إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا " الخ، و قيل: " إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم " الخ، وقيل - وهو في خاتمة الكلام -: " قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به " الخ. ولازم إعراضهم عن كتاب الله إنكار الاصول الثلاثة التي هي أساس دعوته الحقة وهي الوحدانية والنبوة والمعاد فبسطت الكلام فيها وضمنته التبشير والانذار. والسورة مكية لشهادة مضامين آياتها على ذلك وهي من السور النازلة في أوائل البعثة على ما يستفاد من الروايات. قوله تعالى: " حم تنزيل من الرحمان الرحيم " خبر مبتدء محذوف، والمصدر بمعنى المفعول، والتقدير هذا منزل من الرحمان الرحيم، والتعرض للصفتين الكريمتين: الرحمان الدال على الرحمة العامة للمؤمن والكافر، والرحيم الدال على الرحمة الخاصة بالمؤمنين للاشارة إلى أن هذا التنزيل يصلح للناس دنياهم كما يصلح لهم آخرتهم. قوله تعالى: " كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون " خبر بعد خبر، والتفصيل يقابل الاحكام والاجمال، والمراد بتفصيل آيات القرآن تمييز أبعاضه بعضها من بعض بإنزاله إلى مرتبة البيان بحيث يتمكن السامع العارف بأساليب البيان من فهم معانيه وتعقل مقاصده وإلى هذا يشير قوله تعالى: " كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير " هود: 1، وقوله: " والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم " الزخرف: 4. وقوله: " قرآنا عربيا " حال من الكتاب أو من آياته، وقوله: " لقوم يعلمون " اللام للتعليل أو للاختصاص، ومفعول " يعلمون " إما محذوف والتقدير لقوم يعلمون معانيه لكونهم عارفين باللسان الذي نزل به وهم العرب وإما متروك والمعنى لقوم لهم علم. ولازم المعنى الاول أن يكون هناك عناية خاصة بالعرب في نزول القرآن عربيا وهو الذي يشعر به أيضا قوله الاتي: " ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته ءأعجمي وعربي " الاية وقريب منه قوله: " ولو نزلناه على بعض الاعجمين فقرأه

[ 360 ]

عليهم ما كانوا به يؤمنون " الشعراء: 199. ولا ينافي ذلك عموم دعوته صلى الله عليه وآله وسلم لعامة البشر لان دعوته صلى الله عليه وآله وسلم كانت مرتبة على مراحل فأول ما دعى دعى الناس بالموسم فقوبل بإنكار شديد منهم ثم كان يدعو بعد ذلك سرا مدة ثم أمر بدعوة عشيرته الاقربين كما يشير إليه قوله تعالى: " وأنذر عشيرتك الاقربين " الشعراء: 214 ثم أمر بدعوة قومه كما يشير إليه قوله: " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين " الحجر: 94 ثم أمر بدعوة الناس عامة كما يشير إليه قوله: " قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا " الاعراف: 158، وقوله: وأوحي إلي هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ " الانعام: 19. على أن من المسلم تاريخا أنه كان من المؤمنين به سلمان وكان فارسيا، وبلال وكان حبشيا، وصهيب وكان روميا، ودعوته لليهود ووقائعه صلى الله عليه وآله وسلم معهم، وكذا كتابه إلى ملك إيران ومصر وحبشة والروم في دعوتهم إلى الاسلام كل ذلك دليل على عموم الدعوة. قوله تعالى: " بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون " بشيرا ونذيرا " حالان من الكتاب في الاية السابقة، والمراد بالسمع المنفي سمع القبول كما يدل عليه قرينة الاعراض. قوله تعالى: " وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه " إلى آخر الاية. قال الراغب: الكن ما يحفظ فيه الشئ. قال: الكنان الغطاء الذي يكن فيه الشئ والجمع أكنة نحو غطاء وأغطية قال تعالى: " وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه ". انتهى. فقوله: " قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه " كناية عن كون قلوبهم بحيث لا تفقه ما يدعو صلى الله عليه وآله وسلم إليه من التوحيد كأنها مغطاة بأغطية لا يتطرق إليها شئ من خارج. وقوله: " وفي آذاننا وقر " أي ثقل من الصمم فلا تسمع شيئا من هذه الدعوة، وقوله: " ومن بيننا وبينك حجاب " أي حاجز يحجزنا منك فلا نجتمع معك على شئ مما تريد فقد أيأسوه صلى الله عليه وآله وسلم من قبول دعوته بما أخبروه أولا بكون قلوبهم في أكنة فلا تقع فيها دعوته حتى يفقهوها، وثانيا بكون طرق ورودها إلى القلوب وهي الاذان مسدودة فلا تلجها دعوة ولا ينفذ منها إنذار وتبشير، وثالثا بأن بينهم وبينه صلى الله عليه وآله وسلم

[ 361 ]

حجابا مضروبا لا يجمعهم معه جامع وفيه تمام الاياس. وقوله: " فاعمل إننا عاملون " تفريع على ما سبق، ولا يخلو من شوب تهديد، وعليه فالمعنى إذا كان لا سبيل إلى التفاهم بيننا فاعمل بما يمكنك العمل به في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك. وقيل: المعنى فاعمل على دينك فإننا عاملون على ديننا، وقيل: المعنى فاعمل في هلاكنا فإننا عاملون في هلاكك، ولا يخلوان من بعد. قوله تعالى: " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه " في مقام الجواب عن قولهم: " قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه " على ما يعطيه السياق فمحصله قل لهم: إنما أنا بشر مثلكم أعاشركم كما يعاشر بعضكم بعضا وأكلمكم كما يكلم أحدكم صاحبه فلست من جنس يباينكم كالملك حتى يكون بيني وبينكم حجاب مضروب أولا ينفذ كلامي في آذانكم أولا يرد قولي في قلوبكم غير أن الذي أقول لكم وأدعوكم إليه وحي يوحى إلي وهو أنما إلهكم الذي يستحق أن تعبدوه إله واحد لا آلهة متفرقون. وقوله: " فاستقيموا إليه واستغفروه " أي فإذا لم يكن إلا إلها واحدا لا شريك له فاستووا إليه بتوحيده ونفي الشركاء عنه واستغفروه فيما صدر عنكم من الشرك والذنوب. قوله تعالى: " وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالاخرة هم كافرون " تهديد للمشركين الذين يثبتون لله شركاء ولا يوحدونه، وقد وصفهم من أخص صفاتهم بصفتين هما عدم إيتائهم الزكاة وكفرهم بالاخرة. والمراد بإيتاء الزكاة مطلق إنفاق المال للفقراء والمساكين لوجه الله فإن الزكاة بمعنى الصدقة الواجبة في الاسلام لم تكن شرعت بعد عند نزول السورة وهي من أقدم السور المكية. وقيل: المراد بإيتاء الزكاة تزكية النفس وتطهيرها من أوساخ الذنوب وقذارتها وإنماؤها نماء طيبا بعبادة الله سبحانه، وهو حسن لو حسن إطلاق إيتاء الزكاة على ذلك.

[ 362 ]

وقوله: " وهم بالاخرة هم كافرون " وصف آخر للمشركين هو من لوازم مذهبهم وهو إنكار المعاد، ولذلك أتى بضمير الفصل ليفيد أنهم معروفون بالكفر بالاخرة. قوله تعالى: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون " أي غير مقطوع بل متصل دائم كما فسره بعضهم، وفسره آخرون بغير معدود كما قال تعالى: " يرزقون فيها بغير حساب " المؤمن: 40. وجوز أن يكون المراد أنه لا أذى فيه من المن الذي يكدر الصنيعة، ويمكن أن يوجه هذا الوجه بأن في تسمية ما يؤتونه بالاجر دلالة على ذلك لاشعاره بالاستحقاق وإن كان هذا الاستحقاق بجعل من الله تعالى لا لهم من عند أنفسهم قال تعالى: " إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا " الدهر: 22. قوله تعالى: " قل ءإنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين وتجعلون له أندادا " الاية. أمره ثانيا أن يستفهم عن كفرهم بالله بمعنى شركهم مع ظهور آيات وحدانية في خلق السماوات والارض وتدبير أمرهما بعد ما أمره أولا بدفع قولهم: " قلوبنا في أكنة " الخ. والاستفهام للتعجيب ولذا أكد المستفهم عنه بإن واللام كأن المستفهم لا يكاد يذعن بكفرهم بالله وقولهم بالانداد مع ظهور المحجة واستقامة الحجة. وقوله: " وتجعلون له أندادا " تفسير لقوله: " لتكفرون بالذي خلق الارض " الخ، والانداد جمع ند وهو المثل، والمراد بجعل الانداد له اتخاذ شركاء له يماثلونه في الربوبية والالوهية. وقوله: " ذلك رب العالمين " في الاشارة بلفظ البعيد رفع لساحته تعالى وتنزيهه عن أمثال هذه الاوهام فهو رب العالمين المدبر لامر الخلق أجمعين فلا مسوغ لان يتوهم ربا آخر سواه وإلها آخر غيره. والمراد باليوم في قوله: " خلق الارض في يومين " برهة من الزمان دون مصداق اليوم الذي نعهده ونحن على بسيط أرضنا هذه وهو مقدار حركة الكرة الارضية حول نفسها مرة واحدة فإنه ظاهر الفساد، وإطلاق اليوم على قطعة من الزمان تحوي حادثة من الحوادث كثير الورود شائع الاستعمال، ومن ذلك قوله تعالى: " وتلك الايام

[ 363 ]

نداولها بين الناس " آل عمران: 140، وقوله: " فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم " يونس: 102، وغير ذلك. فاليومان اللذان خلق الله فيهما الارض قطعتان من الزمان تم فيهما تكون الارض أرضا تامة، وفي عدهما يومين لا يوما واحدا دليل على أن الارض لاقت زمان تكونها الاولي مرحلتين متغايرتين كمرحلة النئ والنضج أو الذوبان والانعقاد أو نحو ذلك. قوله تعالى: " وجعل فيها رواسي من فوقها " إلى آخر الاية. معطوف على قوله: " خلق الارض في يومين " ولا ضير في تخلل الجملتين: " وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين " بين المعطوف والمعطوف عليه لان الاولى تفسير لقوله: " لتكفرون " والثانية تقرير للتعجيب الذي يفيده الاستفهام. والرواسي صفة لموصوف محذوف والتقدير جبالا رواسي أي ثابتات على الارض وضمائر التأنيث الخمس في الاية للارض. وقوله: " وبارك فيها " أي جعل فيها الخير الكثير الذي ينتفع به ما على الارض من نبات وحيوان وإنسان في حياته أنواع الانتفاعات. وقوله: " وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين " قيل: الظرف أعني قوله: " في أربعة أيام " بتقدير مضاف وهو متعلق بقدر، والتقدير قدر الاقوات في تتمة أربعة أيام من حين بدء الخلق - فيومان لخلق الارض ويومان - وهما تتمة أربعة أيام - لتقدير الاقوات. وقيل: متعلق بحصول الاقوات وتقدير المضاف على حاله، والتقدير قدر حصول أقواتها في تتمة أربعة أيام - فيها خلق الارض وأقواتها جميعا -. وقيل: متعلق بحصول جميع الامور المذكورة من جعل الرواسي من فوقها والمباركة فيها وتقدير أقواتها والتقدير وحصول ذلك كله في تتمة أربعة أيام وفيه حذف وتقدير كثير. وجعل الزمخشري في الكشاف الظرف متعلقا بخبر مبتدء محذوفين من غير تقدير مضاف والتقدير كل ذلك كائن في أربعة أيام فيكون قوله: " في أربعة أيام " من قبيل الفذلكة كأنه قيل: خلق الارض في يومين وأقواتها وغير ذلك في يومين فكل ذلك في أربعة أيام.

[ 364 ]

قالوا: وإنما لم يجز حمل الاية على أن جعل الرواسي وما ذكر عقيبه أو تقدير الاقوات في أربعة أيام لان لازمه كون خلق الارض وما فيها في ستة أيام وقد ذكر بعده أن السماوات خلقت في يومين فيكون المجموع ثمانية أيام وقد تكرر في كلامه تعالى أنه خلق السماوات والارض في ستة أيام فهذا هو الوجه في حمل الاية على أحد الوجوه السابقة على ما فيها من ارتكاب الحذف والتقدير. والانصاف أن الاية أعني قوله: " وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين " ظاهرة في غير ما ذكروه والقرائن الحافة بها تؤيد كون المراد بها تقدير أقواتها في الفصول الاربعة التي يكونها ميل الشمس الشمالي والجنوبي بحسب ظاهر الحس فالايام الاربعة هي الفصول الاربعة. والذي ذكر في هذه الايات من أيام خلق السماوات والارض أربعة أيام يومان لخلق الارض ويومان لتسوية السماوات سبعا بعد كونها دخانا وأما أيام الاقوات فقد ذكرت أياما لتقديرها لا لخلقها، وما تكرر في كلامه تعالى هو خلق السماوات والارض في ستة أيام لا مجموع خلقها وتقدير أمرها فالحق أن الظرف قيد للجملة الاخيرة فقط ولا حذف ولا تقدير في الاية والمراد بيان تقدير أقوات الارض وأرزاقها في الفصول الاربعة من السنة. وقوله: " سواء للسائلين " مفعول مطلق لفعل مقدر أي استوت الاقوات المقدرة استواء للسائلين أو حال من الاقوات أي قدرها حالكونها مستوية للسائلين يقتاتون بها جميعا وتكفيهم من دون زيادة أو نقيصة. والسائلون هم أنواع النبات والحيوان والانسان فإنهم محتاجون في بقائهم إلى الارزاق والاقوات فهم سائلون ربهم (1) قال تعالى: " يسأله من في السماوات والارض " الرحمان: 29، وقال: " وآتاكم من كل ما سألتموه " إبراهيم: 34. قوله تعالى: " ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو (1)


ظاهر الايتين وإن كان اختصاصهما بذوى العقول لكنهما وخاصة الثانية تفيدان إن المراد بالسؤال هو الحاجة والاستعداد وعليه فالاية نعم (؟) النبات والاتيان بضمير اولى العقل للتغليب.

[ 365 ]

كرها قالتا أتينا طائعين " الاستواء - على ما ذكره الراغب - إذا عدي بعلى أفاد معنى الاستيلاء نحو الرحمان على العرش استوى، وإذا عدي بإلى أفاد معنى الانتهاء إليه. وأيضا في المفردات أن الكره بفتح الكاف المشقة التي تنال الانسان من خارج فيما يحمل عليه بإكراه، والكره بضم الكاف ما تناله من ذاته وهو يعافه. فقوله: " ثم استوى إلى السماء " أي توجه إليها وقصدها بالخلق دون القصد المكاني الذي لا يتم إلا بانتقال القاصد من مكان إلى مكان ومن جهة إلى جهة لتنزهه تعالى على ذلك. وظاهر العطف بثم تأخر خلق السماوات عن الارض لكن قيل: إن " ثم " لافادة التراخي بحسب الخبر لا بحسب الوجود والتحقق ويؤيده قوله تعالى: " أم السماء بناها - إلى أن قال - والارض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها " النازعات: 32 فإنه يفيد تأخر الارض عن السماء خلقا. والاعتراض عليه بأن مفاده تأخر دحو الارض عن بناء السماء ودحوها غير خلقها مدفوع بأن الارض كروية فليس دحوها وبسطها غير تسويتها كرة وهو خلقها على أنه تعالى أشار بعد ذكر دحو الارض إلى إخراج مائها ومرعاها وإرساء جبالها وهذه بعينها جعل الرواسي من فوقها والمباركة فيها وتقدير أقواتها التي ذكرها في الايات التي نحن فيها مع خلق الارض وعطف عليها خلق السماء بثم فلا مناص عن حمل ثم على غير التراخي الزماني فإن قوله في آية النازعات: " بعد ذلك " أظهر في التراخي الزماني من لفظة " ثم " فيه في آية حم السجدة والله أعلم. وقوله: " وهي دخان " حال من السماء أي استوى إلى السماء بالخلق حالكونها شيئا سماه الله دخانا وهو مادتها التي ألبسها الصورة وقضاها سبع سماوات بعد ما لم تكن معدودة متميزا بعضها من بعض، ولذا أفرد السماء فقال: " استوى إلى السماء ". وقوله: " فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها " تفريع على استوائه إلى السماء والمورد مورد التكوين بلا شك فقوله لها وللارض: " ائتيا طوعا أو كرها " كلمة إيجاد وأمر تكويني كقوله لشئ أراد وجوده: كن، قال تعالى: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن " يس: 83.

[ 366 ]

ومجموع قوله لهما: " ائتيا " الخ وقولهما له: " أتينا " الخ تمثيل لصفة الايجاد والتكوين على الفهم الساذج العرفي وحقيقة تحليلية بناء على ما يستفاد من كلامه تعالى من سراية العلم في الموجودات وكون تكليم كل شئ بحسب ما يناسب حاله، وقد أوردنا بعض الكلام فيه فيما تقدم من المباحث، و سيجئ شطر من الكلام فيه في تفسير قوله: " قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ " الاية 21 من السورة إن شاء الله. وقول بعضهم: إن المراد بقوله: " ائتيا " الخ أمرهما بإظهار ما فيهما من الاثار والمنافع دون الامر بأن توجدا وتكونا مدفوع بأن تكون السماء مذكور فيما بعد ولا معنى لتقديم الامر بإظهار الاثار و المنافع قبل ذكر التكون. وفي قوله: " ائتيا طوعا أو كرها " إيجاب الاتيان عليهما وتخييرهما بين أن تفعلا ذلك بطوع أو كره، ولعل المراد بالطوع والكره - وهما بوجه قبول الفعل ونوع ملاءمة وعدمه - هو الاستعداد السابق للكون وعدمه فيكون قوله: " ائتيا طوعا أو كرها " كناية عن وجوب إتيانهما بلا مناص وأنه أمر لا يتخلف البتة أرادتا أو كرهتا سألتاه أو لم تسألا فأجابتا أنهما يمتثلان الامر عن استعداد سابق وقبول ذاتي وسؤال فطري إذ قالتا: أتينا طائعين. وقول بعضهم: " إن قوله: " طوعا أو كرها " تمثيل لتحتم تأثير قدرته تعالى فيهما واستحالة امتناعهما من ذلك لا إثبات الطوع والكره لهما. مدفوع بقوله بعد: " قالتا أتينا طائعين " إذ لو كان الترديد المذكور تمثيلا فقط من غير إثبات كما ذكره لم يكن لاثبات الطوع في الجواب وجه. وقوله: " قالتا أتينا طائعين " جواب السماء والارض لخطابه تعالى باختيار الطوع، والتعبير باللفظ الخاص بأولي العقل - طائعين - لمكان المخاطبة والجواب وهما من خواص أولي العقل، والتعبير بلفظ الجمع دون أن تقولا: أتينا طائعتين لعله تواضع منهما بعد أنفسهما غير متميزة من سائر مخلوقاته تعالى المطيعة لامره فأجابتا عن لسان الجميع، نظير ما قيل في قوله تعالى: " إياك نعبد وإياك نستعين " الحمد: 5. ثم إن تشريك الارض مع السماء في خطاب " ائتيا " الخ مع ذكر خلقها وتدبير أمرها قبلا لا يخلو من إشعار بأن بينهما نوع ارتباط في الوجود واتصال في النظام الجاري

[ 367 ]

فيهما وهو كذلك فإن الفعل والانفعال والتأثير والتأثر دائر بين أجزاء العالم المشهود. وفي قوله: " فقال لها وللارض " تلويح على أي حال إلى كون " ثم " في قوله: " ثم استوى " للتراخي بحسب رتبة الكلام. قوله تعالى: " فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها " الاصل في معنى القضاء فصل الامر، وضمير " هن " للسماء على المعنى، و " سبع سماوات " حال من الضمير و " في يومين " متعلق بقضاهن فتفيد الجملة أن السماء لما استوى سبحانه إليها وهي دخان كان أمرها مبهما غير مشخص من حيث فعلية الوجود ففصل تعالى أمرها بجعلها سبع سماوات في يومين. وقيل: إن القضاء في الاية مضمن معنى التصيير و " سبع سماوات " مفعوله الثاني، وقيل فيها وجوه أخر لا يهمنا إيرادها. والاية وما قبلها ناظرة إلى تفصيل ما أجمل في قوله: " أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والارض كانتا رتقا ففتقناهما " الانبياء: 30. وقوله: " وأوحى في كل سماء أمرها " قيل: المراد بأمر السماء ما تستعد له أو تقتضيه الحكمة فيها من وجود ملك أو كوكب وما أشبه ذلك، والوحي هو الخلق والايجاد، والجملة معطوفة على قوله: " قضاهن " مقيدة بالوقت المذكور للمعطوف عليه، والمعنى وخلق في كل سماء ما فيها من الملائكة والكواكب وغيرها. وأنت خبير بأن إرادة الخلق من الوحي وأمثال الملك والكوكب من الامر تحتاج إلى عناية زائدة لا تثبت إلا بدليل بين، وكذا تقيد الجملة المعطوفة بالوقت المذكور في المعطوف عليها. وقيل: المراد بالامر التكليف الالهي المتوجه إلى أهل كل سماء من الملائكة والوحي بمعناه المعروف والمعنى وأوحى إلى أهل كل سماء من الملائكة ما أمرهم به من العبادة. وفيه أن ظاهر الاية وقد قال تعالى: " في كل سماء " ولم يقل: إلى كل سماء لا يوافقه تلك الموافقة. وقيل: المراد بأمرها ما أراده الله منها، وهذا الوجه في الحقيقة راجع إلى أحد

[ 368 ]

الوجهين السابقين فإن أريد بالوحي الخلق والايجاد رجع إلى أول الوجهين وإن أريد به معناه المعروف رجع إلى ثانيهما. والذي وقع في كلامه تعالى من الامر المتعلق بوجه بالسماء يلوح إلى معنى أدق مما ذكروه فقد قال تعالى: " يدبر الامر من السماء إلى الارض ثم يعرج إليه " الم السجدة: 5، وقال: " الله الذي خلق سبع سماوات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن " الطلاق: 12، وقال: " ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين " المؤمنون: 17. دلت الاية الاولى على أن السماء مبدء لامره تعالى النازل إلى الارض بوجه والثانية على أن الامر يتنزل بين السماوات من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى الارض، والثالثة على أن السماوات طرائق لسلوك الامر من عند ذي العرش أو لسلوك الملائكة الحاملين للامر إلى الارض كما يشير إليه قوله: " تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر " القدر: 4، و قوله: " فيها يفرق كل أمر حكيم " الدخان: 4. ولو كان المراد بالامر أمره تعالى التكويني وهو كلمة الايجاد كما يستفاد من قوله: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن " يس: 82، أفادت الايات بانضمام بعضها إلى بعض أن الامر الالهي الذي مضيه في العالم الارضي هو خلق الاشياء وحدوث الحوادث تحمله الملائكة من عند ذي العرش تعالى وتسلك في تنزيله طرق السماوات فتنزله من سماء إلى سماء حتى تنتهي به إلى الارض. وإنما تحمله ملائكة كل سماء إلى من دونهم كما يستفاد من قوله: " حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير " سبأ: 23 وقد تقدم الكلام فيه والسماوات مساكن الملائكة كما يستفاد من قوله: " وكم من ملك في السماوات " النجم: 26، و قوله: " لا يسمعون إلى الملا الاعلى ويقذفون من كل جانب " الصافات: 8. فللامر نسبة إلى كل سماء باعتبار الملائكة الساكنين فيها، ونسبة إلى كل قبيل من الملائكة الحاملين له باعتبار تحميله لهم وهو وحيه إليهم فإن الله سبحانه سماه قولا كما قال: " إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن " النحل: 40. فتحصل بما مر أن معنى قوله: " وأوحى في كل سماء أمرها " أوحى في كل

[ 369 ]

سماء إلى أهلها من الملائكة الامر الالهي. المنسوب إلى تلك السماء المتعلق بها، وأما كون اليومين المذكورين في الاية ظرفا لهذا الوحي كما هما ظرف لخلق السماوات سبعا فلا دليل عليه من لفظ الاية. قوله تعالى: " وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم " توصيف هذه السماء بالدنيا للدلالة على أنها أقرب السماوات من الارض وهي طباق بعضها فوق بعض كما قال: " خلق سبع سماوات طباقا " الملك: 3. والظاهر من معنى تزيينها بمصابيح وهي الكواكب كما قال: " إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب " الصافات: 6 أن الكواكب في السماء الدنيا أو دونها كالقناديل المعلقة ولو كانت متفرقة في جميع السماوات من غير حجب بعضها بعضا لكون السماوات شفافة كما قيل كانت زينة لجميعها ولم تختص الزينة ببعضها كما يفيده السياق فلا وجه لقول القائل: إنها في الجميع لكن لكونها ترى متلالئة على السماء الدنيا عدت زينة لها. وأما قوله: " ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا " نوح: 16 فهو بالنسبة إلينا معاشر المستضيئين بالليل والنهار كقوله: " وجعلنا سراجا وهاجا " النبأ: 13. وقوله: " وحفظا " أي وحفظناها من الشياطين حفظا كما قال: " وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين " الحجر: 18. وقوله: " ذلك تقدير العزيز العليم " إشارة إلى ما تقدم من النظم والترتيب. (كلام فيه تتميم) قد تحصل مما تقدم: أولا: أن المستفاد من ظاهر الايات الكريمة - وليست بنص - أن السماء الدنيا من هذه السبع هي عالم النجوم والكواكب فوقنا. وثانيا: أن هذه السماوات السبع المذكورة جميعا من الخلق الجسماني فكأنها طبقات

[ 370 ]

سبع متطابقة من عالم الاجسام أقربها منا عالم النجوم والكواكب، ولم يصف القرآن شيئا من السماوات الست الباقية دون أن ذكر أنها طباق. وثالثا: أن ليس المراد بالسماوات السبع الاجرام العلوية أو خصوص بعضها كالشمس والقمر أو غيرهما. ورابعا: أن ما ورد من كون السماوات مساكن للملائكة وأنهم ينزلون منها بأمر الله حاملين له ويعرجون إليها بكتب الاعمال، وأن للسماء أبوابا لا تفتح للكفار و أن الاشياء والارزاق تنزل منها وغير ذلك مما تشير إليه متفرقات الايات و الروايات يكشف عن أن لهذه الامور نوع تعلق بهذه السماوات لا كتعلق ما نراه من الاجسام بمحالها وأماكنها الجسمانية الموجبة لحكومة النظام المادي فيها وتسرب التغير والتبدل والدثور والفتور إليها. وذلك أن من الضروري اليوم أن لهذه الاجرام العلوية كائنة ما كانت كينونة عنصرية جسمانية تجري فيها نظائر الاحكام والاثار الجارية في عالمنا الارضي العنصري والنظام الذي يثبت للسماء وأهلها والامور الجارية فيها مما أشرنا إليه يباين هذا النظام العنصري المشهود. أضف إلى ذلك ما ورد أن الملائكة خلقوا من نور، وأن غذاءهم التسبيح، وما ورد من توصيف خلقهم، وما ورد في توصيف خلق السماوات وما خلق فيها إلى غير ذلك. فللملائكة عوالم ملكوتية سبعة مترتبة سميت سماوات سبعا ونسبت ما لها من الخواص والاثار إلى ظاهر هذه السماوات بلحاظ ما لها من العلو والاحاطة بالنسبة إلى الارض تسهيلا للفهم الساذج. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: اجتمع قريش يوما فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ولينظر ماذا يرد

[ 371 ]

عليه ؟ فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة قالوا: أنت يا أبا الوليد. فأتاه فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله ؟ أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الالهة التي عبت وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع منك. أما والله ما رأينا سلحة قط أشأم على قومك منك فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف. يا أيها الرجل إن كان نما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا واحدا وإن كان نما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فرغت ؟ قال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمان الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون " حتى بلغ " فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ". فقال عتبة: حسبك. ما عندك غير هذا ؟ قال: لا فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك ؟ قال: ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمون به إلا كلمته قالوا: فهل أجابك ؟ قال: والذي نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قال غير أنه قال: " أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " قالوا: ويلك يكلمك الرجل بالعربية وما تدري ما قال ؟ قال: لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة. اقول: ورواه عن عدة من الكتب قريبا منه، وفي بعض الطرق قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال: والله إني قد سمعت قولا ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، والله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، وفي بعضها غير ذلك. وفي تلاوته صلى الله عليه وآله وسلم آيات أول السورة على وليد بن المغيرة رواية أخرى ستوافيك إن شاء الله في تفسير سورة المدثر في ذيل قوله تعالى: " ذرني ومن خلقت وحيدا " الايات. وفيه أخرج ابن جرير عن أبي بكر قال: جاء اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا ما خلق الله من الخلق في هذه الايام الستة ؟ فقال: خلق الله

[ 372 ]

الارض يوم الاحد والاثنين ء، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق المدائن والاقوات والانهار وعمرانها وخرابها يوم الاربعاء، وخلق السماوات والملائكة يوم الخميس إلى ثلاث ساعات يعني من يوم الجمعة، وخلق في أول ساعة الاجال وفي الثانية الافة وفي الثالثة آدم. قالوا: صدقت إن تممت فعرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يريدون فغضب فأنزل الله " وما مسنا من لغوب فاصبر على ما يقولون ". اقول: وروى ما يقرب منه عن ابن عباس وعبد الله بن سلام وعن عكرمة وغيره وقد ورد في بعض أخبار الشيعة، وقوله: قالوا: صدقت إن تممت أي تممت كلامك في الخلق بأن تقول: إنه تعالى فرغ من الخلق يوم السبت واستراح فيه. والروايات لا تخلو من شئ: أما أولا: فمن جهة اشتمالها على تصديق اليهود ما ذكر فيها من ترتيب الخلق وهو مخالف لما ورد في أول سفر التكوين من التوراة مخالفة صريحة ففيها أنه خلق النور والظلمة - النهار والليل - يوم الاحد، وخلق السماء يوم الاثنين، وخلق الارض والبحار والنبات يوم الثلاثاء وخلق الشمس والقمر والنجوم يوم الاربعاء وخلق دواب البحر والطير يوم الخميس، وخلق حيوان البر والانسان يوم الجمعة وفرغ من الخلق يوم السبت واستراح فيه، والقول بأن التوراة الحاضرة غير ما كان في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما ترى. وأما ثانيا: فلان اليوم من الاسبوع وهو نهار مع ليلته يتوقف في كينونته على حركة الارض الوضعية دورة واحدة قبال الشمس فما معنى خلق الارض في يومين ولم يخلق السماء والسماويات بعد ولا تمت الارض كرة متحركة ؟ ونظير الاشكال جار في خلق السماء والسماويات ومنها الشمس ولا يوم حيث لا شمس بعد. وأما ثالثا: فلانه عد فيها يوم لخلق الجبال وقد جزم الفحص العلمي بأنها تخلق تدريجا، ونظير الاشكال جار في خلق المدائن والانهار والاقوات. وفي روضة الكافي بإسناده عن محمد بن عطية عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: وخلق الشئ الذي جميع الاشياء منه وهو الماء الذي خلق الاشياء منه فجعل نسب كل شئ إلى الماء ولم يجعل للماء نسبا يضاف إليه، وخلق الريح من الماء. ثم سلط الريح على الماء فشققت الريح متن الماء حتى ثار من الماء زبد على قدر

[ 373 ]

ما شاء أن يثور فخلق من ذلك الزبد أرضا بيضاء نقية ليس فيها صدع ولا ثقب ولا صعود ولا هبوط ولا شجرة ثم طواها فوضعها فوق الماء. ثم خلق الله النار من الماء فشققت النار متن الماء حتى ثار من الماء دخان على قدر ما شاء الله أن يثور فخلق من ذلك الدخان سماء صافية نقية ليس فيها صدع ولا ثقب وذلك قوله: " والسماء بناها ". اقول: وفي هذه المعنى بعض روايات أخر، ويمكن تطبيق ما في الرواية وكذا مضامين الايات على ما تسلمته الابحاث العلمية اليوم في خلق العالم وهيئته غير أنا تركنا ذلك احترازا من تحديد الحقائق القرآنية بالاحداس والفرضيات العلمية ما دامت فرضية غير مقطوع بها من طريق البرهان العلمي. وفي نهج البلاغة: فمن شواهد خلقه خلق السماوات موطدات بلا عمد قائمات بلا سند، دعاهن فأجبن طائعات مذعنات غير متلكئات ولا مبطئات، ولو لا إقرارهن له بالربوبية، وإذعانهن له بالطواعية لما جعلهن موضعا لعرشه، ولا مسكنا لملائكته ولا مصعدا للكلم الطيب والعمل الصالح من خلقه. وفي كمال الدين بإسناده إلى فضيل الرسان قال: كتب محمد بن إبراهيم إلى أبي عبد الله عليه السلام: أخبرنا ما فضلكم أهل البيت ؟ فكتب إليه إبو عبد الله عليه السلام: إن الكواكب جعلت أمانا لاهل السماء فإذا ذهبت نجوم السماء جاء أهل السماء ما كانوا يوعدون، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: جعل أهل بيتي أمانا لامتي فإذا ذهب أهل بيتي جاء أمتي ما كانوا يوعدون. اقول: وورد هذا المعنى في غير واحد من الروايات. وفي البحار عن كتاب الغارات بإسناده عن ابن نباتة قال: سئل أمير المؤمنين عليه السلام كم بين السماء والارض ؟ قال: مد البصر ودعوة المظلوم. اقول: وهو من لطائف كلامه عليه السلام يشير به إلى ظاهر السماء وباطنها كما تقدم. * * * فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود - 13.

[ 374 ]

إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم أن لا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لانزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون - 14. فأما عاد فاستكبروا في الارض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون - 15. فأرسلنا عليهم ريحا (؟) صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحيوة الدنيا ولعذاب الاخرة أخزى وهم لا ينصرون - 16. وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون - 17. ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون - 18. ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون - 19. حتى إذا ما جاؤها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون - 20. وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون - 21. وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون - 22. وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم

[ 375 ]

أرداكم فأصبحتم من الخاسرين - 23. فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين - 24. وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والانس إنهم كانوا خاسرين - 25. (بيان) الايات تتضمن الانذار بالعذاب الدنيوي الذي ابتليت به عاد وثمود بكفرهم بالرسل وجحدهم لايات الله، وبالعذاب الاخروي الذي سيبتلى به أعداء الله من أهل الجحود الذين حقت عليهم كلمة العذاب، وفيها إشارة إلى كيفية إضلالهم في الدنيا وإلى استنطاق أعضائهم في الاخرة. قوله تعالى: " فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " قال في المجمع: الصاعقة المهلكة من كل شئ انتهى، وقال الراغب: قال بعض أهل اللغة: الصاعقة على ثلاثة أوجه: الموت كقوله: " صعق من في السماوات " وقوله: " فأخذتهم الصاعقة " والعذاب كقوله: " أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " والنار كقوله: " ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء " وما ذكره فهو أشياء حاصلة من الصاعقة فإن الصاعقة هي الصوت الشديد من الجو ثم يكون نار فقط أو عذاب أو موت وهي في ذاتها شئ واحد، وهذه الاشياء تأثيرات منها. انتهى. وعلى ما مر تنطبق الصاعقة على عذابي عاد وثمود وهما الريح والصيحة، والتعبير بالماضي في قوله: " أنذرتكم " للدلالة على التحقق والوقوع. قوله تعالى: " إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم أن لا تعبدوا إلا الله " الخ ظرف لصاعقة الثانية فإن الانذار بالصاعقة بالحقيقة إنذار بوقوعها وحلولها فالمعنى مثل حلول صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الخ. ونسبة المجئ إلى الرسل وهو جمع - مع أن الذي ذكر في قصتهم رسولان هما هود وصالح - باعتبار أن الرسل دعوتهم واحدة والمبعوث منهم إلى قوم مبعوث لاخرين

[ 376 ]

وكذا القوم المكذبون لاحدهم مكذبون لاخرين قال تعالى: " كذبت عاد المرسلين " الشعراء: 123 وقال: " كذبت ثمود المرسلين " الشعراء: 141، وقال: " كذبت قوم لوط المرسلين " الشعراء: 160 إلى غير ذلك. وقول بعضهم: إن إطلاق الرسل وهو جمع على هود وصالح عليهما السلام وهما اثنان من إطلاق الجمع على ما دون الثلاثة وهو شائع، ومن هذا القبيل إرجاع ضمير الجمع في قوله: " إذ جاءتهم " إلى عاد وثمود. ممنوع بما تقدم، وأما إرجاع ضمير الجمع إلى عاد وثمود فإنما هو لكون مجموع الجمعين جمعا مثلهما. وقوله: " من بين أيديهم ومن خلفهم " أي من جميع الجهات فاستعمال هاتين الجهتين في جميع الجهات شائع، وجوز أن يكون المراد به الماضي والمستقبل فقوله: " جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم " كناية عن دعوتهم لهم من جميع الطرق الممكنة خلوة وجلوة وفرادى ومجتمعين بالتبشير والانذار ولذلك فسر مجيئهم كذلك بعد بقوله: " أن لا تعبدوا إلا الله " وهو التوحيد. وقوله: " قالوا لو شاء ربنا لانزل ملائكة " رد منهم لرسالتهم بأن الله لو شاء إرسال رسول إلينا لارسل من الملائكة، وقد تقدم كرارا معنى قولهم هذا وأنه مبني على إنكارهم نبوة البشر. وقوله: " فإنا بما أرسلتم به كافرون " تفريع على النفي المفهوم من الجملة السابقة أي فإذا لم يشأ ولم يرسل فإنا بما أرسلتم به وهو التوحيد كافرون. قوله تعالى: " فأما عاد فاستكبروا في الارض بغير الحق " الخ رجوع إلى تفصيل حال كل من الفريقين على حدته، من كفرهم ووبال ذلك، وقوله: " بغير الحق " قيد توضيحي للاستكبار في الارض فإنه بغير الحق دائما، والباقي ظاهر. قوله تعالى: " فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات " الخ فسر الصرصر بالريح الشديدة السموم، وبالريح الشديدة البرد، وبالريح الشديدة الصوت وتلازم شدة الهبوب، والنحسات بكسر الحاء صفة مشبهة من نحس ينحس نحسا خلاف سعد فالايام النحسات الايام المشؤمات.

[ 377 ]

وقيل: أيام نحسات أي ذوات الغبار والتراب لا يرى فيها بعضهم بعضا، ويؤيده قوله في سورة الاحقاف: " فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم " الاحقاف: 24. وقوله: " وما لهم من ناصرين " أي لا منج ينجيهم ولا شفيع يشفع لهم. والباقي ظاهر. قوله تعالى: " وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " الخ المراد بهدايتهم إراءتهم الطريق ودلالتهم على الحق ببيان حق الاعتقاد والعمل لهم، والمراد بالاستحباب الايثار والاختيار، ولعله بالتضمين ولذا عدي إلى المفعول الثاني بعلى والمراد بالعمى الضلال استعارة، وفي مقابلة الهدى له إيماء إلى أن الهدى بصر كما أن الضلالة عمى، والهون مصدر بمعنى الذل وتوصيف العذاب به للمبالغة أو بحذف ذي والتقدير صاعقة العذاب ذي الهون. والمعنى: وأما قوم ثمود فدللناهم على طريق الحق وعرفناهم الهدى بتمييزه من الضلال فاختاروا الضلال الذي هو عمى على الهدى الذي هو بصر فأخذتهم صيحة العذاب ذي المذلة - أو أخذهم العذاب بناء على كون الصاعقة بمعنى العذاب والاضافة بيانية - بما كانوا يكسبون. قوله تعالى: " ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون " ضم التقوى إلى الايمان معبرا عن التقوى بقوله: " وكانوا يتقون " الدال على الاستمرار للدلالة على جمعهم بين الايمان والعمل الصالح وذلك هو السبب لنجاتهم من عذاب الاستئصال على ما وعده الله بقوله: " وكان حقا علينا نصر المؤمنين " الروم: 47. والظاهر أن الاية متعلقة بالقصتين جميعا متممة لهما وإن كان ظاهر المفسرين تعلقها بالقصة الثانية. قوله تعالى: " ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون " الحشر إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها. كذا قال الراغب، و " يوزعون " من الوزع وهو حبس أول القوم ليلحق بهم آخرهم فيجتمعوا. قيل: المراد بحشرهم إلى النار إخراجهم إلى المحشر للسؤال والحساب، وجعل

[ 378 ]

النار غاية لحشرهم لان عاقبتهم إليها، والدليل عليه ما ذكره من أمر شهادة الاعضاء فإنها في الموقف قبل الامر بهم إلى النار. وقيل: المراد حشرهم إلى النار نفسها ومن الممكن أن يستشهد عليهم مرتين مرة في الموقف ومرة على شفير جهنم وهو كما ترى. والمراد بأعداء الله - على ما قيل - المكذبون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من مشركي قومه لا مطلق الكفار والدليل عليه قوله الاتي: " وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم " الاية. قوله تعالى: " حتى إذا ما جاؤها شهدت عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون " " ما " في " إذا ما جاؤها " زائدة للتأكيد والضمير للنار. وشهادة الاعضاء أو القوى يوم القيامة ذكرها وإخبارها ما تحملته في الدنيا من معصية صاحبها فهي شهادة أداء لما تحملته، ولولا التحمل في الدنيا حين العمل كما لو جعل الله لها شعورا ونطقا يوم القيامة فعلمت ثم أخبرت بما عملته أو أوجد الله عندها صوتا يفيد معنى الاخبار من غير شعور منها به لم يصدق عليه الشهادة، ولا تمت بذلك على العبد المنكر حجة وهو ظاهر. وبذلك يظهر فساد قول بعضهم: إن الله يخلق يوم القيامة للاعضاء علما وقدرة على الكلام فتخبر بمعاصي صاحبيها وهو شهادتها وقول بعضهم: إنه يخلق عندها أصواتا في صورة كلام مدلوله الشهادة، وكذا قول بعضهم: إن معنى الشهادة دلالة الحال على صدور معصية كذائية منهم. وظاهر الاية أن شهادة السمع والبصر أداؤهما ما تحملاه وإن لم يكن معصية مأتيا بها بواسطتهما كشهادة السمع أنه سمع آيات الله تتلى عليه فأعرض عنها صاحبه أو أنه سمع صاحبه يتكلم بكلمة الكفر، وشهادة البصر أنه رآى الايات الدالة على وحدانية الله تعالى فأعرض عنها صاحبه أو أنه رآى صاحبه يستمع إلى الغيبة أو سائر ما يحرم الاصغاء إليه فتكون الاية على حد قوله تعالى: " إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا " أسرى: 36.

[ 379 ]

وعلى هذا يختلف السمع والابصار والجلود فيما شهدت عليه فالسمع والابصار تشهد على معصية العبد وإن لم تكن بسببهما والجلود تشهد على المعصية التي كانت هي آلات لها بالمباشرة، وهذا الفرق هو السبب لتخصيصهم الجلود بالخطاب في قولهم: " لم شهدتم علينا " على ما سيجئ. والمراد بالجلود على ظاهر إطلاق الاية مطلق الجلود وشهادتها على أنواع المعاصي التي تتم بالجلود من التمتعات المحرمة كالزنا ونحوه، ويمكن حينئذ أن تعمم الجلود بحيث تشمل شهادتها ما شهدت الايدي والارجل المذكورة في قوله: " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم " يس: 65 على بعد. وقيل: المراد بالجلود الفروج وقد كني بها عنها تأدبا. قوله تعالى: " وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا " اعتراض وعتاب منهم لجلودهم في شهادتها عليهم، وقيل: الاستفهام للتعجب فهو سؤال عن السبب لرفع التعجب وإنما خصوها بالسؤال دون سمعهم وأبصارهم مع اشتراكها في الشهادة لان الجلود شهدت على ما كانت هي بنفسها أسبابا وآلات مباشرة له بخلاف السمع والابصار فإنها كسائر الشهداء تشهد بما ارتكبه غيرها. وقيل: تخصيص الجلود بالذكر تقريع لهم وزيادة تشنيع وفضاحة وخاصة لو كان المراد بالجلود الفروج وقيل غير ذلك. قوله تعالى: " قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ " الخ إرجاع ضمير اولى العقل إلى الجوارح لمكان نسبة الشهادة والنطق إليها وذلك من شئون اولي العقل. والمتيقن من معنى النطق إذا استعمل على الحقيقة من غير تجوز هو إظهار ما في الضمير من طريق التكلم فيتوقف على علم وكشفه لغيره، قال الراغب: ولا يكاد يستعمل النطق في غير الانسان إلا تبعا وبنوع من التشبيه وظاهر سياق الايات وما فيها من ألفاظ القول والتكلم والشهادة والنطق أن المراد بالنطق ما هو حقيقة معناه. فشهادة الاعضاء على المجرمين كانت نطقا وتكلما حقيقة عن علم تحملته سابقا بدليل قولها: " أنطقنا الله ". ثم إن قولها: " أنطقنا الله " جوابا عن قول المجرمين:

[ 380 ]

" لم شهدتم علينا " ؟ إراءة منها للسبب الذي أوجب نطقها وكشف عن العلم المدخر عندها المكنون في ضميرها فهى ملجأة إلى التكلم والنطق، ولا يضر ذلك نفوذ شهادتها وتمام الحجة بذلك فإنها إنما ألجئت إلى الكشف عما في ضميرها لا على الستر عليه والاخبار بخلافه كذبا وزورا حتى ينافي جواز الشهادة وتمام الحجة. وقوله: " الذي أنطق كل شئ " توصيف لله سبحانه وإشارة إلى أن النطق ليس مختصا بالاعضاء حتى تختص هي بالسؤال بل هو عام شامل لكل شئ والسبب الموجب له هو الله سبحانه. وقوله: " وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون " من تتمة الكلام السابق أو هو من كلامه، وهو احتجاج على علمه بأعمالهم وقد أنطق الجوارح بما علم. يقول: إن وجودكم يبتدئ منه تعالى وينتهي إليه تعالى فعند ما تظهرون من كتم العدم - وهو خلقكم أول مرة - يعطيكم الوجود ويملككم الصفات والافعال فتنسب إليكم ثم ترجعون وتنتهون إليه فيرجع ما عندكم من ظاهر الملك الموهوب إليه فلا يبقى ملك إلا وهو لله سبحانه. فهو سبحانه المالك لجميع ما عندكم أولا وآخرا فما عندكم من شئ في أول وجودكم هو الذي أعطاكموه وملكه لكم وهو أعلم بما أعطى وأودع، وما عندكم من شئ حينما ترجعون إليه هو الذي يقبضه منكم إليه ويملكه فكيف لا يعلمه، وانكشافه له سبحانه حينما يرجع إليه إنطاقه لكم وشهادتكم على أنفسكم عنده. وبما مر من البيان يظهر وجه تقييد قوله: " وهو الذي خلقكم " بقوله: " أول مرة " فالمراد به أول وجودهم. ولهم في قوله: " قالوا أنطقنا الله " في معنى الانطاق نظائر ما تقدم في قوله: " شهدت عليهم " من الاقوال فمن قائل: إن الله يخلق لهم يومئذ العلم والقدرة على النطق فينطقون، ومن قائل: إنه يخلق عند الاعضاء أصواتا شبيهة بنطق الناطقين وهو المراد بنطقهم، ومن قائل: إن المراد بالنطق دلالة ظاهر الحال على ذلك. وكذا في عموم قوله: " أنطق كل شئ " فقيل: هو مخصص بكل حي نطق إذ

[ 381 ]

ليس كل شئ ولا كل حي ينطق بالنطق الحقيقي ومثل هذا التخصيص شائع ومنه قوله تعالى في الريح المرسلة إلى عاد: " تدمر كل شئ " الاحقاف: 25. وقيل: النطق في " أنطقنا " بمعناه الحقيقي وفي قوله: " أنطق كل شئ " بمعنى الدلالة فيبقي الاطلاق على حاله. ويرد عليهما أن تخصيص الاية أو حملها على المعنى المجازي مبني على تسلم كون غير ما نعده من الاشياء حيا ناطقا كالانسان والحيوان والملك والجن فاقدا للعلم والنطق على ما نراه من حالها. لكن لا دليل على فقدان الاشياء غير ما استثنيناه للشعور والارادة سوى أنا في حجاب من بطون ذواتها لا طريق لنا إلى الاطلاع على حقيقة حالها، والايات القرآنية وخاصة الايات المتعرضة لشئون يوم القيامة ظاهرة في عموم العلم. (بحث إجمالي قرآني) كررنا الاشارة في الابحاث المتقدمة إلى أن الظاهر من كلامه تعالى أن العلم صار في الموجودات عامة كما تقدم في تفسير قوله تعالى: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " أسرى: 44 فإن قوله: " ولكن لا تفقهون " نعم الدليل على كون التسبيح منهم عن علم وإرادة لا بلسان الحال. ومن هذا القبيل قوله: " فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " وقد تقدم تفسيره في السورة. ومن هذا القبيل قوله: " ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين " الاحقاف: 6 فالمراد بمن لا يستجيب الاصنام فقط أو هي وغيرها، وقوله: " يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها " الزلزال: 5. ومن هذا القبيل الايات الدالة على شهادة الاعضاء ونطقها وتكليمها لله والسؤال

[ 382 ]

منها وخاصة ما ورد في ذيل الايات الماضية آنفا من قوله: " أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ " الاية. لا يقال: لو كان غير الانسان والحيوان كالجماد والنبات ذا شعور وإرادة لبانت آثاره وظهر منها ما يظهر من الانسان والحيوان من الاعمال العلمية والافعال والانفعالات الشعورية. لانه يقال: لا دليل على كون العلم ذا سنخ واحد حتى تتشابه الاثار المترشحة منه فمن الممكن أن يكون ذا مراتب مختلفة تختلف باختلافها آثارها. على أن الاثار والاعمال العجيبة المتقنة المشهودة من النبات وسائر الانواع الطبيعية في عالمنا هذا لا تقصر في إتقانها ونظمها وترتيبها عن آثار الاحياء كالانسان والحيوان. (بحث إجمالي فلسفي) حقق في مباحث العلم من الفلسفة أن العلم وهو حضور شئ لشئ يساوق الوجود المجرد لكونه ما له من فعلية الكمال حاضرا عنده من غير قوة فكل وجود مجرد يمكنه أن يوجد حاضر المجرد غيره أو يوجد له مجرد غيره وما أمكن لمجرد بالامكان العام فهو له بالضرورة. فكل عالم فهو مجرد وكذا كل معلوم وينعكسان بعكس النقيض إلى أن المادة وما تألف منها ليس بعالم ولا معلوم. فالعلم يساوق الوجود المجرد، والوجودات المادية لا يتعلق بها علم ولا لها علم بشئ لكن لها، على كونها مادية متغيرة متحركة لا تستقر على حال، ثبوتا من غير تغير ولا تحول لا ينقلب عما وقع عليه. فلها من هذه الجهة تجرد والعلم سار فيها كما هو سار في المجردات المحضة العقلية والمثالية فافهم ذلك. قوله تعالى: " وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم "

[ 383 ]

الخ لا شك أن الله سبحانه خالق كل شئ لا موجد غيره فلا يحول بين خلقه وبينه شئ ولا يحجب خلقه من حاجب فهو تعالى مع كل شئ أينما كان وكيفما كان قال تعالى: " إن الله على كل شئ شهيد " الحج: 17 وقال: " وكان الله على كل شئ رقيبا " الاحزاب: 52. فالانسان أينما كان كان الله معه، وأي عمل عمله كان الله مع عمله، وأي عضو من أعضائه استعمله وأي سبب أو أداة أو طريق اتخذه لعمله كان مع ذلك العضو والسبب والاداة والطريق قال تعالى: " وهو معكم أينما كنتم " الحديد: 4، وقال: " أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت " الرعد: 33، وقال: " إن ربك لبالمرصاد " الفجر: 14. ومن هنا يستنتج أن الانسان - وهو جار في عمله - واقع بين مراصد كثيرة يرصده من كل منها ربه ويرقبه ويشهده فمرتكب المعصية وهو متوغل في سيئته غافل عنه تعالى في جهل عظيم بمقام ربه واستهانة به سبحانه وهو يرصده ويرقبه. وهذه الحقيقة هي التي تشير إليه الاية أعني قوله: " وما كنتم تستترون " الخ على ما يعطيه السياق. فقوله: " وما كنتم تستترون " نفي لاستتارهم وهم في المعاصي قبلا وهم في الدنيا وقوله: " أن يشهد " الخ منصوب بنزع الخافض والتقدير من أن يشهد الخ. وقوله: " ولكن ظننتم أن الله لا يعلم " استدراك في معنى الاضراب عن محذوف يدل عليه صدر الاية، والتقدير ولم تظنوا أنها لا تعلم أعمالكم ولكن ظننتم الخ والاية تقريع وتوبيخ للمشركين أو لمطلق المجرمين يوجه إليهم يوم القيامة من قبله تعالى. ومحصل المعنى وما كنتم تستخفون في الدنيا عند المعاصي من شهادة أعضائكم التي تستعملونها في معصية الله ولم يكن ذلك لظنكم أنها لا إدراك فيها لعملكم بل لظنكم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون أي لم تستهينوا عند المعصية بشهادة أعضائكم وإنما استهنتم = بشهادتنا. فالاستدراك ومعنى الاضراب في الاية نظير ما في قوله تعالى: " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " الانفال: 17، وقوله: " وما ظلمونا ولكن كانوا أنفهم

[ 384 ]

يظلمون " البقرة: 57. وقوله: " كثيرا مما تعملون " ولم يقل: لا يعلم ما تعملون ولعل ذلك لكونهم معتقدين بالله وبصفاته العليا التي منها العلم فهم يعتقدون فيه العلم في الجملة لكن حالهم في المعاصي حال من لا يرى علمه بكثير من أعماله. ويستفاد من الاية أن شهادة الشهود شهادته تعالى بوجه قال تعالى: " ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهود إذ تفيضون فيه " يونس: 61. ولهم في توجيه معنى الاية أقوال اخر لا يساعد عليها السياق ولا تخلو من تكلف أضربنا عن التعرض لها. قوله تعالى: " وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين " الارداء من الردى بمعنى الهلاك، و " ذلكم ظنكم " مبتدء وخبر و " أرداكم " خبر بعد خبر، ويمكن أن يكون " ظنكم " بدلا من ذلكم. ومعنى الاية على الاول وذلكم الظن الذي ذكر ظن ظننتموه لا يغني من الحق شيئا والعلم والشهادة على حالها أهلككم ذلك الظن فأصبحتم من الخاسرين. وعلى الثاني وظنكم الذي ظننتم بربكم أنه لا يعلم كثيرا مما تعملون أهلككم إذ هون عليكم أمر المعاصي وأدى بكم إلى الكفر فأصبحتم من الخاسرين. قوله تعالى: " فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين " في المفردات: الثواء الاقامة مع الاستقرار. انتهى، وفي المجمع الاستعتاب طلب العتبى وهى الرضا وهو الاسترضاء، والاعتاب الارضاء، وأصل الاعتاب عند العرب استصلاح الجلد بإعادته في الدباغ ثم استعير فيما يستعطف به البعض بعضا لاعادته ما كان من الالفة. انتهى. ومعنى الاية فإن يصبروا فالنار مأواهم ومستقرهم وإن يطلبوا الرضى ويعتذروا لينجوا من العذاب فليسوا ممن يرضى عنهم ويقبل إعتابهم و معذرتهم فالاية في معنى قوله: " اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم " الطور: 16. قوله تعالى: " وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم " إلى آخر

[ 385 ]

الاية. أصل التقييض - كما في المجمع - التبديل، والقرناء جمع قرين وهو معروف. فقوله: " وقيضنا لهم قرناء " إشارة إلى أنهم لو آمنوا واتقوا لايدهم الله بمن يسددهم ويهديهم كما قال: " أولئك كتب في قلوبهم الايمان وايدهم بروح منه " المجادلة: 22 لكنهم كفروا وفسقوا فبدل الله لهم قرناء من الشياطين يقارنونهم ويلازمونهم، وإنما يفعل ذلك بهم مجازاة لكفرهم وفسوقهم. وقيل: المعنى بدلناهم قرناء سوء من الجن والانس مكان قرناء الصدق الذين امروا بمقارنتهم فلم يفعلوا، ولعل ما قدمناه أحسن. وقوله: " فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم " لعل المراد التمتعات المادية التي هم مكبون عليها في الحال وما تعلقت به آمالهم وأمانيهم في المستقبل. وقيل: ما بين أيديهم ما قدموه من أعمالهم السيئة حتى ارتكبوها، وما خلفهم ما سنوه لغيرهم ممن يأتي بعدهم، ويمكن إدراج هذا الوجه في سابقه. وقيل: ما بين أيديهم هو ما يحضرهم من أمر الدنيا فيؤثرونه ويقبلون إليه ويعملون له، وما خلفهم هو أمر الاخرة حيث يدعوهم قرناؤهم إلى أنه لا بعث ولا نشور ولا حساب ولا جنة ولا نار، وهو وجه بعيد إذ لا يقال لمن ينكر الاخرة أنها زينت له. وقوله: " وحق عليهم القول في امم قد خلت من قبلهم من الجن والانس " أي ثبت ووجب عليهم كلمة العذاب حالكونهم في امم مماثلين لهم ماضين قبلهم من الجن والانس وكلمة العذاب قوله تعالى: " والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " البقرة: 39 كقوله: " لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين " ص: 85. وقوله: " إنهم كانوا خاسرين " تعليل لوجوب كلمة العذاب عليهم أو لجميع ما تقدم. ويظهر من الاية أن حكم الموت جار في الجن مثل الانس.

[ 386 ]

(بحث روائي) في الفقيه عن أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لابن الحنفية: قال الله تعالى: " وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم " يعني بالجلود الفروج. وفي تفسير القمي بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه السلام في الاية: يعني بالجلود الفروج والافخاذ. وفي المجمع قال الصادق عليه السلام: ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفا كأنه يشرف على النار، ويرجوه رجاء كأنه من أهل الجنة إن الله تعالى يقول: " وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم " الاية، ثم قال: إن الله عند ظن عبده إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وفي تفسير القمي بإسناده عن عبد الرحمان بن الحجاج عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليس من عبد يظن بالله عز وجل خيرا إلا كان عند ظنه به وذلك قوله عز وجل: " وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم " الاية. وفي الدر المنثور أخرج أحمد والطبراني وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود وابن ماجة وابن حبان وابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله عز وجل قال الله: " وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين ". أقول: وقد روي في سبب نزول بعض الايات السابقة ما لا يلائم سياقها تلك الملاءمة ولذلك أغمضنا عن إيراده. * * * وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون - 26. فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوء الذي كانوا يعملون - 27. ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار

[ 387 ]

الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون - 28. وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والانس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الاسفلين - 29. إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون - 30. نحن أولياؤكم في الحيوة الدنيا وفي الاخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون - 31. نزلا من غفور رحيم - 32. ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين - 33. ولا تستوي الحسنة ولا السيئة إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم - 34. وما يلقها إلا الذين صبروا وما يلقها إلا ذو حظ عظيم - 35. وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم - 36. ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون - 37. فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسئمون - 38. ومن آياته أنك ترى الارض

[ 388 ]

خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شئ قدير - 39. (بيان) رجوع إلى حديث كفرهم بالقرآن المذكور في أول السورة وذكر كيدهم لابطال حجته، وفي الايات ذكر الكفار وبعض ما في عقبى ضلالتهم وأهل الاستقامة من المؤمنين وبعض ما لهم في الاخرة ومتفرقات اخر. قوله تعالى: " وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون " اللغو من الامر ما لا أصل له ومن الكلام ما لا معنى له يقال: لغى يلغى ويلغو لغوا أي أتى باللغو، والاشارة إلى القرآن مع ذكر اسمه دليل على كمال عنايتهم بالقرآن لاعفاء أثره. والاية تدل على نهاية عجزهم عن مخاصمة القرآن بإتيان كلام يعادله ويماثله أو إقامة حجة تعارضه حتى أمر بعضهم بعضا أن لا ينصتوا له ويأتوا بلغو الكلام عند قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن ليختل به قراءته ولا تقرع أسماع الناس آياته فيلغو أثره وهو الغلبة. قوله تعالى: " فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا " الخ اللام للقسم، والمراد بالذين كفروا بحسب مورد الاية هم الذين قالوا: لا تسمعوا لهذا القرآن وإن كانت الاية مطلقة بحسب اللفظ. وقوله: " ولنجزينهم أسوء الذي كانوا يعملون " قيل: المراد العمل السيئ الذي كانوا يعملون بتجريد أفعل عن معنى التفضيل، وقيل: المراد بيان جزاء ما هو أسوء أعمالهم وسكت عن الباقي مبالغة في الزجر. قوله تعالى: " ذلك جزاء أعداء الله النار " الخ " ذلك جزاء " مبتدء وخبر و " النار " بدل أو عطف بيان من " ذلك " أو خبر مبتدء محذوف والتقدير هي النار أو مبتدء خبره " لهم فيها دار الخلد ". وقوله: " لهم فيها دار الخلد " أي النار محيطة بهم جميعا ولكل منهم فيها دار

[ 389 ]

تخصه خالدا فيها. وقوله: " جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون " مفعول مطلق لفعل مقدر، والتقدير يجزون جزاء أو للمصدر المتقدم أعني قوله: " ذلك جزاء " نظير قوله: " فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا " أسرى: 63. قوله تعالى: " وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والانس " محكي قول يقولونه وهم في النار، يسألون الله أن يريهم متبوعيهم من الجن والانس ليجعلوهما تحت أقدامهم إذلالا لهما وتشديدا لعذابهما كما يشعر به قولهم ذيلا: " نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الاسلفين ". قوله تعالى: " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة " الخ قال الراغب: الاستقامة تقال في الطريق الذي يكون على خط مستو، وبه شبه طريق الحق نحو " اهدنا الصراط المستقيم ". قال: واستقامة الانسان لزومه المنهج المستقيم نحو قوله: " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ". انتهى. وفي الصحاح: الاستقامة الاعتدال يقال: استقام له الامر. انتهى. فالمراد بقوله: " ثم استقاموا " لزوم وسط الطريق من غير ميل وانحراف والثبات على القول الذي قالوه، قال تعالى: " فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم " التوبة: 7 وقال: " واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم " الشورى: 15 وما ورد فيها من مختلف التفاسير يرجع إلى ما ذكر. والاية وما يتلوها بيان حسن حال المؤمنين كما كانت الايات قبلها بيان سوء حال الكافرين. وقوله: " تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون " إخبار عما سيستقبلهم به الملائكة من تقوية قلوبهم وتطييب نفوسهم والبشرى بالكرامة. فالملائكة يؤمنونهم من الخوف والحزن، والخوف إنما يكون من مكروه متوقع كالعذاب الذي يخافونه والحرمان من الجنة الذي يخشونه، والحزن إنما يكون من

[ 390 ]

مكروه واقع وشر لازم كالسيئات التي يحزنون من اكتسابها والخيرات التي يحزنون لفوتها عنهم فيطيب الملائكة أنفسهم أنهم في أمن من أن يخافوا شيئا أو يحزنوا لشئ فالذنوب مغفورة لهم والعذاب مصروف عنهم. ثم يبشرونهم بالجنة الموعودة بقولهم: " وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون " وفي قولهم: " كنتم توعدون " دلالة على أن تنزلهم بهذه البشرى عليهم إنما هو بعد الحياة الدنيا. قوله تعالى: " نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الاخرة " الخ من تتمة البشارة، وعلى هذا فذكر ولايتهم لهم في الحياة الدنيا مع انقضاء وقتها كما تقدم من باب التوطئة والتمهيد إلى ذكر الاخرة للاشارة إلى أن ولاية الاخرة مترتبة على ولاية الدنيا فكأنه قيل: نحن أولياؤكم في الاخرة كما كنا - لما كنا - أولياءكم في الحياة الدنيا وسنتولى أمركم بعد هذا كما توليناه قبل. وكون الملائكة أولياء لهم لا ينافي كونه تعالى هو الولي لانهم وسائط الرحمة والكرامة ليس لهم من الامر شئ، ولعل ذكر ولايتهم لهم في الاية دون ولايته تعالى للمقابلة والمقايسة بين أوليائه تعالى وأعدائه إذ قال في حق أعدائه: " وقيضنا لهم قرناء " الخ وقال في حق أوليائه عن لسان ملائكته: " نحن أولياؤكم ". وبالمقابلة يستفاد أن المراد ولايتهم لهم بالتسديد والتأييد فإن الملائكة المسددين هم المخصوصون بأهل ولاية الله، وأما الملائكة الحرس وموكلوا الارزاق والاجال وغيرهم فمشتركون بين المؤمن والكافر. وقيل: الاية من كلام الله دون الملائكة. وقوله: " ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون " ضمير " فيها " في الموضعين للاخرة، وأصل الشهوة نزوع النفس بقوة من قواها إلى ما تريده تلك القوة وتلتذ به كشهوة الطعام والشراب والنكاح، وأصل الادعاء - وهو افتعال من الدعاء - هو الطلب فالجملة الثانية أعني قوله: " ولكم فيها ما تدعون " أوسع نطاقا من الاولى أعني قوله: " لكم فيها ما تشتهي أنفسكم " فإن الشهوة طلب خاص ومطلق الطلب أعم منها.

[ 391 ]

فالاية تبشرهم بأن لهم في الاخرة ما يمكن أن تتعلق به شهواتهم من أكل وشرب ونكاح وغير ذلك بل ما هو أوسع من ذلك وأعلى كعبا وهو أن لهم ما يشاؤن فيها كما قال تعالى: " لهم ما يشاؤن فيها " ق: 35. قوله تعالى: " ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين " للاية اتصال بقوله السابق: " وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن، والغوا فيه " الاية فإنهم كانوا يخاصمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما ينازعون القرآن، وقد ذكر في أول السورة قولهم: " قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه " الاية فأيد سبحانه في هذه الاية نبيه بأن قوله وهو دعوته أحسن القول. فقوله: " ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله " المراد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان لفظ الاية يعم كل من دعا إلى الله ولما أمكن أن يدعو الداعي إلى الله لغرض فاسد وليست الدعوة التي هذا شأنها من القول الاحسن قيده بقوله: " وعمل صالحا " فإن العمل الصالح يكشف عن نية صالحة غير أن العمل الصالح لا يكشف عن الاعتقاد الحق والالتزام به، ولا حسن في قول لا يقول به صاحبه ولذا قيده بقوله: " وقال إنني من المسلمين " والمراد بالقول الرأي والاعتقاد على ما يعطيه السياق. فإذا تم الاسلام لله والعمل الصالح للانسان ثم دعا إلى الله كان قوله أحسن القول لان أحسن القول أحقه وأنفعه ولا قول أحق من كلمة التوحيد ولا أنفع منها وهي الهادية للانسان إلى حاق سعادته. قوله تعالى: " لا تستوي الحسنة ولا السيئة " الاية لما ذكر أحسن القول وأنه الدعوة إلى الله والقائم به حقا هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم التفت إليه ببيان أحسن الطريق إلى الدعوة وأقربها من الغاية المطلوبة منها وهي التأثير في النفوس فخاطبه بقوله: " لا تستوي " الخ. فقوله: " لا تستوي الحسنة ولا السيئة " أي الخصلة الحسنة والسيئة من حيث حسن التأثير في النفوس، و " لا " في " ولا السيئة " زائدة لتأكيد النفي. وقوله: " ادفع بالتي هي أحسن " استئناف في معنى دفع الدخل كأن المخاطب لما سمع قوله: " لا تستوي " الخ قال: فما ذا أصنع ؟ فقيل: " ادفع " الخ والمعنى

[ 392 ]

ادفع بالخصلة التي هي أحسن الخصلة السيئة التي تقابلها وتضادها فادفع بالحق الذي عندك باطلهم لا بباطل آخر وبحلمك جهلهم وبعفوك إساءتهم وهكذا. وقوله: " فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " بيان لاثر الدفع بالاحسن ونتيجته، والمراد أنك إن دفعت بالتي هي أحسن فاجأك أن عدوك صار كأنه ولي شفيق. قيل: " الذي بينك وبينه عداوة " ابلغ من " عدوك " ولذا اختاره عليه مع اختصاره. ثم عظم الله سبحانه الدفع بالتي هي أحسن ومدحه أحسن التعظيم وأبلغ المدح بقوله: " وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " أي ذو نصيب وافر من كمال الانسانية وخصال الخير. وفي الاية مع ذلك دلالة ظاهرة على أن الحظ العظيم إنما يوجد لاهل الصبر خاصة. قوله تعالى: " وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم " النزغ النخس وهو غرز جنب الدابة أو مؤخرها بقضيب ونحوه ليهيج، و " ما " في " إما ينزغنك " زائدة والاصل وإن ينزغنك فاستعذ. والنازغ هو الشيطان أو تسويله ووسوسته، والاول هو الانسب لمقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه لا سبيل للشيطان إليه بالوسوسة غير أنه يمكن أن يقلب له الامور بالوسوسة على المدعوين من أهل الكفر والجحود فيبالغوا في جحودهم ومشاقتهم وإيذائهم له فلا يؤثر فيهم الدفع بالاحسن ويؤل هذا إلى نزغ من الشيطان بتشديد العداوة في البين كما في قوله: " من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي " يوسف: 100، قال تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " الاية الحج: 52. ولو حمل على الوجه الثاني فالمتعين حمله على مطلق الدستور تتميما للامر، وهو بوجه من باب " إياك أعني واسمعي يا جارة ". وقوله: " فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم " العوذ والعياذ بكسر العين والمعاذ والاستعاذة بمعنى وهو الالتجاء والمعنى فالتجئ بالله من نزغه إنه هو السميع لمسألتك العليم بحالك أو السميع لاقوالكم العليم بأفعالكم. قوله تعالى: " ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر " الخ لما ذكر سبحانه

[ 393 ]

كون دعوته صلى الله عليه وآله وسلم أحسن القول ووصاه أن يدفع بأحسن الخصال عاد إلى أصل الدعوة فاحتج على الوحدانية والمعاد في هذه الايات الثلاث. فقوله: " ومن آياته الليل والنهار " الخ احتجاج بوحدة التدبير واتصاله على وحدة الرب المدبر، وبوحدة الرب على وجوب عبادته وحده، ولذلك عقبه بقوله " لا تسجدوا للشمس ولا للقمر " الخ. فالكلام في معنى دفع الدخل كأنه لما قيل: " ومن آياته الليل والنهار " الخ فأثبت وحدته في ربوبيته قيل: فماذا نصنع ؟ فقيل " لا تسجدوا للشمس ولا للقمر هما مخلوقان مدبران من خلقه بل خصوه بالسجدة واعبدوه وحده، وعامة الوثنيين كانوا يعظمون الشمس والقمر وإن لم يعبدهما غير الصابئين على ما قيل، وضمير " خلقهن " لليل والنهار والشمس والقمر. وقوله: " إن كنتم إياه تعبدون " أي إن عبادته لا تجامع عبادة غيره. قوله تعالى: " فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار لا يسأمون " السأمة الملال، والمراد " بالذين عند ربك " الملائكة والمخلصون من عباد الله وقد تقدم كلام في ذلك في تفسير قوله: " إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون " الاعراف: 206. وقوله: " يسبحون له " ولم يقل: يسبحونه للدلالة على الحصر والاختصاص أي يسبحونه خاصة، وقوله: " بالليل والنهار " أي دائما لا ينقطع فإن الملائكة ليس عندهم ليل ولا نهار. والمعنى: فإن استكبر هؤلاء الكفار عن السجدة لله وحده فعبادته تعالى لا ترتفع من الوجود فهناك من يسبحه تسبيحا دائما لا ينقطع من غير سأمة وهم الذين عند ربك. قوله تعالى: " ومن آياته أنك ترى الارض خاشعة " الخ الخشوع التذلل، والاهتزاز التحرك الشديد، والربو النشوء والنماء والعلو، واهتزاز الارض وربوها تحركها بنباتها وارتفاعه.

[ 394 ]

وفي الاية استعارة تمثيلية شبهت فيها الارض في جدبها وخلوها عن النبات ثم اخضرارها ونمو نباتها وعلوه بشخص كان وضيع الحال رث الثياب متذللا خاشعا ثم أصاب مالا يقيم أوده فلبس أفخر الثياب وانتصب ناشطا متبخترا يعرف في وجهه نضرة النعيم. والاية مسوقة للاحتجاج على المعاد، وقد تكرر البحث عن مضمونها في السور المتقدمة. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: " أرنا اللذين أضلانا " يعنون إبليس الابالسة وقابيل بن آدم أول من أبدع المعصية. روى ذلك عن علي عليه السلام. اقول: ولعله من نوع الجري فالاية عامة. وفيه في قوله تعالى: " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " روي عن أنس قال: قرء علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الاية ثم قال: قد قالها ناس ثم كفر أكثرهم فمن قالها حتى يموت فقد استقام عليها. وفيه في قوله تعالى: " تتنزل عليهم الملائكة " يعني عند الموت عن مجاهد والسدي وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا " قال: كنا نحرسكم من الشياطين " وفي الاخرة " أي عند الموت. وفي المجمع في الاية قيل: " نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا " أي نحرسكم في الدنيا وعند الموت في الاخرة. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " ادفع بالتي هي أحسن " قال: ادفع سيئة من أساء إليك بحسنتك حتى يكون الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. * * * إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار

[ 395 ]

خير أم من يأتي آمنا يوم القيمة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير - 40. إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز - 41. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد - 42. ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم - 43. ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لو لا فصلت آياته ءأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد - 44. ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب - 45. من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد - 46. إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركاءي قالوا آذناك ما منا من شهيد - 47. وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص - 48. لا يسئم الانسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيؤس قنوط - 49.

[ 396 ]

ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ - 50. وإذا أنعمنا على الانسان أعرض ونآ بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض - 51. قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد - 52. سنريهم آياتنا في الافاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد - 53. ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شئ محيط - 54. (بيان) عودة اخرى إلى حديث القرآن وكفرهم به على ظهور آيته ورفعة درجته وما فرطوا في جنبه ورميهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجحدهم الحق وكفرهم بالايات وما يتبع ذلك، وتختتم السورة. والاية الاولى أعني قوله: " إن الذين يلحدون في آياتنا " الاية كالبرزخ الرابط بين هذا الفصل والفصل السابق من الايات لما وقعت بين قوله: " إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم " الاية وبين قوله: " وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن " الاية وقوله: " ومن آياته الليل والنهار " الخ. قوله تعالى: " إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا " الخ سياق تهديد

[ 397 ]

لملحدي هذه الامة كما يؤيده الاية التالية، والالحاد الميل. وإطلاق قوله: " يلحدون " وقوله: " آياتنا " يشمل كل إلحاد في كل آية فيشمل الالحاد في الايات التكوينية كالشمس والقمر وغيرهما فيعدونها آيات لله سبحانه ثم يعودون فيعبدونها، ويشمل آيات الوحي والنبوة فيعدون القرآن افتراء على الله وتقولا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو يلغون فيه لتختل تلاوته فلا يسمعه سامع أو يفسرونه من عند أنفسهم أو يؤولونه ابتغاء الفتنة فكل ذلك إلحاد في آيات الله بوضعها في غير موضعها والميل بها إلى غير مستقرها. وقوله: " أفمن يلقي في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة " إيذان بالجزاء وهو الالقاء في النار يوم القيامة قسرا من غير أي مؤمن متوقع كشفيع أو ناصر أو عذر مسموع فليس لهم إلا النار يلقون فيها، والظاهر أن قوله: " أم من يأتي آمنا يوم القيامة " لابانة أنهما قبيلان لا ثالث لهما فمستقيم في الايمان بالايات وملحد فيها ويظهر به أن أهل الاستقامة في أمن يوم القيامة. وقوله: " اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير " تشديد في التهديد. قوله تعالى: " إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم - إلى قوله - من حكيم حميد " المراد بالذكر القرآن لما فيه من ذكر الله، وتقييد الجملة بقوله: " لما جاءهم " يدل على أن المراد بالذين كفروا هم مشركوا العرب المعاصرين للقرآن من قريش وغيرهم. وقد اختلفوا في خبر " إن " ويمكن أن يستظهر من السياق أنه محذوف يدل عليه قوله: " إن الذين يلحدون في آياتنا " الخ فإن الكفر بالقرآن من مصاديق الالحاد في آيات الله فالتقدير إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم يلقون في النار يوم القيامة، وإنما حذف ليذهب فيه وهم السامع أي مذهب ممكن والكلام مسوق للوعيد. وإلى هذا المعنى يرجع قول الزمخشري في الكشاف: إن قوله: " إن الذين كفروا " الخ بدل من قوله: " إن الذين يلحدون في آياتنا ". وقيل: خبر إن قوله الاتي: " أولئك ينادون من مكان بعيد " وقيل: الخبر قوله: " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " بحذف ضمير عائد إلى اسم إن

[ 398 ]

والتقدير لا يأتيه منهم أي لا يأتيه من قبلهم ما يبطله ولا يقدرون على ذلك أو بجعل أل في الباطل عوضا من الضمير والمعنى لا يأتيه باطلهم. وقيل: إن قوله: " وإنه لكتاب عزيز " الخ قائم مقام الخبر، والتقدير إن الذين كفروا بالذكر كفروا به وإنه لكتاب عزيز. وقيل: الخبر قوله: " ما يقال لك " الخ بحذف الضمير وهو " فيهم " والمعنى ما يقال لك في الذين كفروا بالذكر إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن لهم عذاب الاستئصال في الدنيا وعذاب النار في الاخرة، ووجوه التكلف في هذه الوجوه غير خفية على المتأمل البصير. وقوله: " وإنه لكتاب عزيز " الضمير للذكر وهو القرآن، والعزيز عديم النظير أو المنيع الممتنع من أن يغلب، والمعنى الثاني أنسب لما يتعقبه من قوله: " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ". وقوله: " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " إتيان الباطل إليه وروده فيه وصيرورة بعض أجزائه أو جميعها باطلا بأن يصير ما فيه من المعارف الحقة أو بعضها غير حقة أو ما فيه من الاحكام والشرائع وما يلحقها من الاخلاق أو بعضها لغى لا ينبغي العمل به. وعليه فالمراد بقوله: " من بين يديه ولا من خلفه " زمانا الحال والاستقبال أي زمان النزول وما بعده إلى يوم القيامة، وقيل: المراد بما بين يديه ومن خلفه جميع الجهات، كالصباح والمساء كناية عن الزمان كله فهو مصون من البطلان من جميع الجهات وهذا العموم على الوجه الاول مستفاد من إطلاق النفي في قوله: " لا يأتيه ". والمدلول على أي حال أنه لا تناقض في بياناته، ولا كذب في أخباره، ولا بطلان يتطرق إلى معارفه وحكمه وشرائعه، ولا يعارض ولا يغير بإدخال ما ليس منه فيه أو بتحريف آية من وجه إلى وجه. فالاية تجري مجري قوله: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " الحجر: 9. وقوله: " تنزيل من حكيم حميد " بمنزلة التعليل لكونه كتابا عزيزا لا يأتيه

[ 399 ]

الباطل " الخ " أي كيف لا يكون كذلك وهو منزل من حكيم متقن في فعله لا يشوب فعله وهن، محمود على الاطلاق. قوله تعالى: " ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك " الخ " ما " في " ما يقال لك " نافية، والقائلون هم الذين كفروا حيث قالوا: إنه ساحر أو مجنون أو شاعر لاغ في كلامه أو يريد أن يتأمر علينا، والقائلون لما قد قيل للرسل اممهم. والمعنى: ما يقال لك من قبل كفار قومك حيث أرسلت إليهم فدعوتهم فرموك بما رموك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك أي مثل ما قد قيل لهم. وقوله: " إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم " في موضع التهديد والوعيد أي إن ربك ذو هاتين الصفتين أي فانظر أو فلينظروا ماذا يصيبهم من ربهم وهم يقولون ما يقولونه لرسوله ؟ أهو مغفرة أم عقاب ؟ فالاية في معنى قوله: " اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير " أي ما عملتم من حسنة أو سيئة أصابكم جزاؤه بعينه. وقيل: المعنى ما يوحي إليك في أمر هؤلاء الذين كفروا بالذكر إلا ما قد أوحي للرسل من قبلك وهو أن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم فالمراد بالقول الوحي، و " إن ربك " الخ بيان لما قد قيل. قوله تعالى: " ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته ءأعجمي وعربي " قال الراغب: العجمة خلاف الابانة. قال: والعجم خلاف العرب والعجمي منسوب إليهم، والاعجم من في لسانه عجمة عربيا كان أو غير عربي اعتبارا بقلة فهمهم عن العجم. انتهى. فالاعجمي غير العربي البليغ سواء كان من غير أهل اللغة العربية أو كان منهم وهو غير مفصح للكنة في لسانه، وإطلاق الاعجمي على الكلام كإطلاق العربي من المجاز. فالمعنى: ولو جعلنا القرآن أعجميا غير مبين لمقاصده غير بليغ في نظمه لقال الذين كفروا من قومك: هلا فصلت وبينت آياته وأجزاؤه فانفصلت وبانت بعضها من بعض بالعربية والبلاغة أكتاب مرسل أعجمي ومرسل إليه عربي ؟ أي يتنافيان ولا يتناسبان.

[ 400 ]

وإنما قال: " عربي " ولم يقل: عربيون أو عربية مع كون من أرسل إليه جمعا وهم جماعة العرب، إذ القصد إلى مجرد العربية من دون خصوصية للكثرة بل المراد بيان التنافي بين الكلام وبين المخاطب به لا بيان كون المخاطب واحدا أو كثيرا. قال في الكشاف: فإن قلت: كيف يصح أن يراد بالعربي المرسل إليهم وهم أمة العرب ؟ قلت: هو على ما يجب أن يقع في إنكار المنكر لو رأى كتابا عجميا كتب إلى قوم من العرب يقول: كتاب أعجمي ومكتوب إليه عربي وذلك لان مبنى الانكار على تنافر حالتي الكتاب والمكتوب إليه لا على أن المكتوب إليه واحد أو جماعة فوجب أن يجرد لما سيق إليه من الغرض ولا يوصل به ما يخل غرضا آخر ألا تراك تقول وقد رأيت لباسا طويلا على امرأة قصيرة: اللباس طويل واللابس قصير ولو قلت: واللابس قصيرة جئت بما هو لكنة وفضول قول لان الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته إنما وقع في غرض وراءهما. وقوله: " قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء " بيان أن أثر القرآن وخاصته لا يدور مدار لغته بل الناس تجاهه صنفان وهم الذين آمنوا والذين لا يؤمنون، وهو هدى وشفاء للذين آمنوا يهديهم إلى الحق ويشفي ما في قلوبهم من مرض الشك والريب. وهو عمى على الذين لا يؤمنون - وهم الذين في آذانهم وقر - يعميهم فلا يبصرون الحق وسبيل الرشاد. وفي توصيف الذين لا يؤمنون بأن في آذانهم وقرا إيماء إلى اعترافهم بذلك المنقول عنهم في أول السورة: " وفي آذاننا وقر ". وقوله: " أولئك ينادون من مكان بعيد " أي فلا يسمعون الصوت ولا يرون الشخص وهو تمثيل لحالهم حيث لا يقبلون العظة ولا يعقلون الحجة. قوله تعالى: " ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه " الخ تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن جحود قومه وكفرهم بكتابه. وقوله: " ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم " الكلمة هي قوله: " ولكم في الارض مستقر و متاع إلى حين " الاعراف: 24. وقوله: " وإنهم لفي شك منه مريب " أي في شك مريب من كتاب موسى عليه السلام. بيان حال قومه ليتسلى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرى من قومه.

[ 401 ]

قوله تعالى: " من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها " الخ أي إن العمل قائم بصاحبه ناعت له فلو كان صالحا نافعا انتفعت به نفسه وإن كان سيئا ضارا تضررت به نفسه فليس في إيصاله تعالى نفع العمل الصالح إلى صاحبه وهو الثواب ولا في إيصال ضرر العمل السيئ إلى صاحبه وهو العقاب ظلم ووضع للشئ في غير موضعه. ولو كان ذلك ظلما كان تعالى في إثابته وتعذيبه من لا يحصى من العباد في ما لا يحصى من الاعمال ظلاما للعبيد لكنه ليس بظلم ولا أنه تعالى ظلام لعبيده وبذلك يظهر وجه التعبير باسم المبالغة في قوله: " وما ربك بظلام للعبيد " ولم يقل: وما ربك بظالم. قوله تعالى: " إليه يرد علم الساعة - إلى قوله - إلا بعلمه " ارتداد علم الساعة إليه اختصاصه به فلا يعلمها إلا هو، وقد تكرر ذلك في كلامه تعالى. وقوله: " وما تخرج من ثمرات من أكمامها " " ثمرات " فاعل " تخرج " و " من " زائدة للتأكيد كقوله: " وكفى بالله شهيدا " النساء: 79، وأكمام جمع كم وهو وعاء الثمرة و " ما " مبتدء خبره " إلا بعلمه " والمعنى وليس تخرج ثمرات من أوعيتها ولا تحمل أنثى ولا تضع حملها إلا مصاحبا لعلمه أي هو تعالى يعلم جزئيات حالات كل شئ. فهو تعالى على كونه خالقا للاشياء محولا لاحوالها عالم بها وبجزئيات حالاتها مراقب لها، وهذا هو أحسن التدبير فهو الرب وحده، ففي الاية إشارة إلى توحده تعالى في الربوبية والالوهية، ولذا ذيل هذا الصدر بقوله: " ويوم يناديهم أين شركائي " الخ. قوله تعالى: " ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد - إلى قوله - من محيص " الظرف متعلق بقوله: " قالوا " وقيل: ظرف لمضمر مؤخر قد ترك إيذانا بقصور البيان عنه كما في قوله تعالى: " ويوم يجمع الله الرسل "، وقيل: متعلق بمحذوف نحو اذكر، ولعل الوجه الاول أنسب لصدر الاية بالمعنى الذي ذكرناه فتكون الاية مسوقة لنفي الشركاء ببيان قيام التدبير به تعالى واعتراف المشركين بذلك يوم القيامة. والايذان الاعلام، والمراد بالشهادة الشهادة القولية أو الشهادة بمعنى الرؤية الحضورية وعلى الثاني فقوله: " وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل " عطف تفسير يبين به سبب انتفاء الشهادة.

[ 402 ]

وقوله: " وظنوا ما لهم من محيص " الظن - على ما قيل - بمعنى اليقين، والمحيص المهرب والمفر، والمعنى: ويوم ينادي الله المشركين: أين شركائي ؟ - على زعمكم - قالوا: أعلمناك ما منا من يشهد عليك بالشركاء - أو ما منا من يشاهد الشركاء وغاب عنهم ما كانوا يدعون من دون الله في الدنيا، وأيقنوا أن ليس لهم مهرب من العذاب. قوله تعالى: " لا يسأم الانسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيؤس قنوط " السأمة الملال، واليأس والقنوط بمعنى وهو انقطاع الرجاء، والدعاء الطلب. شروع في ختم الكلام في السورة ببيان ما هو السبب في جحودهم ودفعهم الحق الصريح، وهو أن الانسان مغتر بنفسه فإذا مسه شر يعجز عن دفعه يئس من الخير وتعلق بذيل الدعاء والمسألة وتوجه إلى ربه، وإذا مسه خير اشتغل به وأعجب بنفسه وأنساه ذلك كل حق وحقيقة. والمعنى: لا يمل الانسان من طلب الخير وهو ما يراه نافعا لحياته ومعيشته وإن مسه الشر فكثير اليأس والقنوط لما يرى من سقوط الاسباب التي كان يستند إليها، وهذا لا ينافي تعلق رجائه إذ ذاك بالله سبحانه كما سيأتي. قوله تعالى: " ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي " الخ الاصل بالنظر إلى مضمون الاية السابقة أن يقال: وإن ذاق خيرا قال: هذا لي لكن بدل ذاق من " أذقناه " و " خيرا " من قوله: " رحمة منا " ليدل على أن الخير الذي ذاقه هو رحمة من الله أذاقه إياها وليس بمصيبة برأسه ولا هو يملكه ولو كان يملكه لم ينفك عنه ولم يمسسه الضراء، ولذا قيد قوله: " ولئن أذقناه " الخ بقوله: " من بعد ضراء مسته ". وقوله: " ليقولن هذا لي " أي أنا أملكه فلي أن أفعل فيه ما أشاء وأتصرف فيه كيف أريد، فليس لاحد أن يمنعني من شئ منه أو يحاسبني على فعل، ولهذا المعنى عقبه بقوله: " وما أظن الساعة قائمة " فإن الساعة هي يوم الحساب. وقوله: " ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى " أي للمثوبة الحسنى أو للعاقبة الحسنى، وهذا مبني على ما يراه لنفسه من الكرامة واستحقاق الخير كأنه يقول: ما ملكته من الخير لو كان من الله فإنما هو لكرامة نفسي عليه وعلى هذا فإن قامت الساعة ورجعت إلى ربي كانت لي عنده العاقبة الحسنى.

[ 403 ]

فالمعنى: وأقسم لئن أذقنا الانسان رحمة هي منا ولا يستحقها ولا يملكها فأذقناها من بعد ضراء مسته وذلك يدله على أنه لا يملك ما أذيقه نسي ما كان من قبل وقال: هذا لي - يشير إلى شخص النعمة ولا يسميها رحمة - وليس لاحد أن يمنعني عما أفعل فيه ويحاسبني عليه وما أظن الساعة - وهي يوم الحساب - قائمة، وأقسم لئن رجعت إلى ربي وقامت ساعة كانت لي عنده العاقبة الحسنى لكرامتي عليه كما أنعم علي من النعمة. والاية نظيرة قوله في قصة صاحب الجنة: " ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لاجدن خيرا منها منقلبا " الكهف: 36. وقد تقدم بعض الكلام فيه. وقوله: " فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ " تهديد ووعيد. قوله تعالى: " وإذا أنعمنا على الانسان أعرض ونآ بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض " النأي الابتعاد، والمراد بالجانب الجارحة وهي الجنب أو المراد الجهة والمكان فقوله: " نآى بجانبه " كناية عن الابتعاد بنفسه وهو كناية عن التكبر والخيلاء، والمراد بالعريض الوسيع، والدعاء العريض كالدعاء الطويل كناية عما استمر وأصر عليه الداعي، والاية في مقام ذم الانسان وتوبيخه أنه إذا أنعم الله عليه أعرض عنه وتكبر وإذا سلب النعمة ذكر الله وأقبل عليه بالدعاء مستمرا مصرا. قوله تعالى: " قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد " " أرأيتم " أي أخبروني، والشقاق والمشاقة الخلاف، والشقاق البعيد الخلاف الذي لا يقارب الوفاق وهو شديده، وقوله: " ممن هو في شقاق بعيد " كناية عن المشركين ولم يقل: منكم بل أتى بالموصول والصلة وذلك في معنى الصفة ليدل على علة الحكم وهو الشقاق البعيد من الحق. والمعنى: قل للمشركين أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله ثم كفرتم به من أضل منكم ؟ أي لا أضل منكم لانكم في خلاف بعيد من حق ما فوقه حق. فمفاد الاية أن القرآن يدعوكم إلى الله ناطقا بأنه من عند الله فلا أقل من احتمال صدقه في دعواه وهذا يكفي في وجوب النظر في أمره دفعا للضرر المحتمل وأي ضرر أقوى من الهلاك الابدي فلا معنى لاعراضكم عنه بالكلية.

[ 404 ]

قوله تعالى: " سنريهم آياتنا في الافاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " الخ، الافاق جمع أفق وهو الناحية، والشهيد بمعنى الشاهد أو بمعنى المشهود وهو المناسب لسياق الاية. وضمير " إنه " للقرآن على ما يعطيه سياق الاية ويؤيده الاية السابقة التي تذكر كفرهم بالقرآن، وعلى هذا فالاية تعد إراءة آيات في الافاق وفي أنفسهم حتى يتبين بها كون القرآن حقا، والايات التي شأنها إثبات حقية القرآن هي الحوادث والمواعيد التي أخبر القرآن أنها ستقع كإخباره بأن الله سينصر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ويمكن لهم في الارض ويظهر دينهم على الدين كله وينتقم من مشركي قريش إلى غير ذلك. فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة إلى المدينة وقد اشتد الامر عليه وعلى من آمن به غايتها فلا سماء تظلهم ولا أرض تقلهم ثم قتل صناديد قريش في بدر ولم يزل يرفع ذكره ويفتح على يديه حتى فتح مكة ودانت له جزيرة العرب ثم فتح بعد رحلته للمسلمين معظم المعمورة فأرى سبحانه المشركين آياته في الافاق وهي النواحي التي فتحها للمسلمين ونشر فيها دينهم، وفي أنفسهم وهو قتلهم الذريع في بدر. وليست هذه آيات في أنفسها فكم من فتح وغلبة يذكره التاريخ ومقاتل ذريعة يقصها لكنها آيات بما أن الله سبحانه وعد بها والقرآن الكريم أخبر بها قبل وقوعها ثم وقعت على ما أخبر بها. ويمكن أن يكون المراد بإراءة الايات وتبين الحق بذلك ما يستفاد من آيات أخرى أن الله سيظهر دينه بتمام معنى الظهور على الدين كله فلا يعبد على الارض إلا الله وحده وتظل السعادة على النوع الانساني وهي الغاية لخلقتهم، وقد تقدم استفادة ذلك من قوله تعالى: " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض " الاية النور: 55 وغيره وأيدناه بالدليل العقلي. والفرق بين الوجهين أن وجه الكلام على الاول إلى مشركي مكة ومن يتبعهم خاصة وعلى الثاني إلى مشركي الامة عامة والخطاب على أي حال اجتماعي، ويمكن الجمع بين الوجهين. ويمكن أن يكون المراد ما يشاهده الانسان في آخر لحظة من لحظات حياته الدنيا حيث تطير عنه الاوهام وتضل عنه الدعاوي وتبطل الاسباب ولا يبقى إلا الله عز اسمه

[ 405 ]

ويؤيده ذيل الاية والاية التالية، وضمير " أنه الحق " على هذا لله سبحانه. ولهم في الاية أقوال أخرى أغمضنا عن إيرادها. وقوله: " أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد " فاعل " لم يكف " هو " بربك " والباء زائدة، و " أنه على كل شئ شهيد " بدل من الفاعل، والاستفهام للانكار، والمعنى أو لم يكف في تبين الحق كون ربك مشهودا على كل شئ إذ ما من شئ إلا وهو فقير من جميع جهاته إليه متعلق به وهو تعالى قائم به قاهر فوقه فهو تعالى معلوم لكل شئ وإن لم يعرفه بعض الاشياء. واتصال الجملة أعني قوله: " أو لم يكف بربك " الخ بقوله: " سنريهم " الخ على الوجه الاخير من الوجوه الثلاثة الماضية ظاهر، وأما على الوجهين الاولين فلعل الوجه فيه أن المشركين إنما كفروا بالقرآن لدعوته إلى التوحيد فانتقل من الدلالة على حقية القرآن للدلالة على حقية ما يدعو إليه إلى الدلالة على حقية ما يدعو إليه مستقيما من غير واسطة كأنه قيل: سنريهم آياتنا ليتبين لهم أن القرآن الذي يخبرهم بها حق فيتبين أن ربك واحد لا شريك له ثم قيل: وهذا طريق بعيد هناك ما هو أقرب منه أو لم يكفهم أن ربك مشهود على كل شئ ؟ قوله تعالى: " ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم " الخ الذي يفيده السياق أن في الاية تنبيها على أنهم لا ينتفعون بالاحتجاج على وحدانيته تعالى بكونه شهيدا على كل شئ وهو أقوى براهين التوحيد وأوضحها لمن تعقل لانهم في مرية وشك من لقاء ربهم وهو كونه تعالى غير محجوب بصفاته وأفعاله عن شئ من خلقه. ثم نبه بقوله: " ألا إنه بكل شئ محيط " على ما ترتفع به هذه المرية وتنبت من أصلها وهو إحاطته تعالى بكل شئ على ما يليق بساحة قدسه وكبريائه فلا يخلو عنه مكان وليس في مكان ولا يفقده شئ وليس في شئ. وللمفسرين في الاية أقوال لو راجعتها لرأيت عجبا. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن عساكر عن عكرمة في قوله: " أفمن يلقى في النار

[ 406 ]

خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة " نزلت في عمار بن ياسر وفي أبي جهل. أقول: ورواه أيضا عن عدة من الكتب عن بشر بن تميم، وروى أيضا عن ابن مردويه عن ابن عباس " أفمن يلقى في النار " قال: أبو جهل بن هشام، و " أم من يأتي آمنا يوم القيامة " قال: أبو بكر الصديق، والروايات من التطبيق. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم " يعني القرآن " لا يأتيه الباطل من بين يديه " قال: لا يأتيه الباطل من قبل التوراة ولا من قبل الانجيل والزبور " ولا من خلفه " قال: لا يأتيه من بعده كتاب يبطله. وفي المجمع في الاية قيل فيه أقوال - إلى أن قال - وثالثها معناه أنه ليس في مردويه عن ابن عباس " أفمن يلقى في النار " قال: أبو جهل بن هشام، و " أم من يأتي آمنا يوم القيامة " قال: أبو بكر الصديق، والروايات من التطبيق. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم " يعني القرآن " لا يأتيه الباطل من بين يديه " قال: لا يأتيه الباطل من قبل التوراة ولا من قبل الانجيل والزبور " ولا من خلفه " قال: لا يأتيه من بعده كتاب يبطله. وفي المجمع في الاية قيل فيه أقوال - إلى أن قال - وثالثها معناه أنه ليس في إخباره عما مضى باطل ولا في إخباره عما يكون في المستقبل باطل بل أخباره كلها موافقة لمخبراتها، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " أعجمي وعربي " قال: لو كان هذا القرآن أعجميا لقالوا: كيف نتعلمه ولساننا عربي وأتيتنا بقرآن أعجمي فأحب الله أن ينزله بلسانهم وقد قال الله عزوجل: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ". وفي روضة الكافي بإسناده عن الطيار عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل: " سنريهم آياتنا في الافاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " قال: خسف ومسخ وقذف. قال: قلت: " حتى يتبين لهم " قال: دع ذا ذاك قيام القائم. وفي إرشاد المفيد عن علي بن أبي حمزة عن أبي الحسن موسى عليه السلام في الاية قال: الفتن في آفاق الارض والمسخ في أعداء الحق. وفي روضة الكافي بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام في الاية قال: يريهم في أنفسهم المسخ، ويريهم في الافاق انتقاض الافاق عليهم فيرون قدرة الله عزوجل في أنفسهم وفي الافاق. قلت له: حتى يتبين لهم أنه الحق ؟ قال: خروج القائم هو الحق عند الله عزوجل يراه الخلق. تم والحمد لله

مكتبة مكتبة شبكة أمل