تفسير الميزان - السيد الطباطبائي ج 15

تفسير الميزان

السيد الطباطبائي ج 15


[ 1 ]

الميزان في تفسير القرآن 1

[ 3 ]

تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره

[ 4 ]

الميزان في تفسير القران كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره الجزء الخامس العشر منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة

[ 5 ]

بسم الله الرحمن الرحيم سورة المؤمنون مكية، وهي مائة وثماني عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم. قد افلح المؤمنون - 1. الذين هم في صلاتهم خاشعون - 2. والذين هم عن اللغو معرضون - 3. والذين هم للزكوة فاعلون - 4. والذين هم لفروجهم حافظون - 5. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين - 6. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون - 7. والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون - 8. والذين هم على صلواتهم يحافظون - 9. أولئك هم الوارثون - 10. الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون - 11 (بيان) في السورة دعوة إلى الايمان بالله واليوم الآخر وتمييز المؤمنين من الكفار بذكر ما لهؤلاء من جميل صفات العبودية وما لاولئك من رذائل الاخلاق وسفاسف الاعمال، وتعقيب ذلك بالتبشير والانذار، وقد تضمن الانذار ذكر عذاب الآخرة وما غشي

[ 6 ]

. الامم المكذبين للدعوة الحقة من عذاب الاستئصال في مسير الدعوة آخذا من زمن نوح إلى زمن المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام. والسورة مكية، وسياق آياتها يشهد بذلك. قوله تعالى: " قد أفلح المؤمنون " قال الراغب: الفلح - بالفتح فالسكون - الشق، وقيل: الحديد بالحديد يفلح أي يشق، والفلاح الظفر وإدراك بغية وذلك ضربان: دنيوي وأخروي، فالدنيوي الظفر بالسعادات التي تطيب بها الحياة الدنيا وهو البقاء والغني والعز، والاخروي أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل، ولذلك قيل: لا عيش إلا عيش الآخرة. انتهى ملخصا. فتسمية الظفر بالسعادة فلاحا بعناية أن فيه شقا للمانع وكشفا عن وجه المطلوب. والايمان هو الاذعان التصديق بشئ بالالتزام بلوازمه، فالايمان بالله في عرف القرآن التصديق بوحدانيته ورسله واليوم الاخر وبما جاءت به رسله مع الاتباع في الجملة، ولذا نجد القرآن كلما ذكر المؤمنين بوصف جميل أو أجر جزيل شفع الايمان بالعمل الصالح كقوله: " من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة " النحل: 97، وقوله: " الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن ماب " الرعد: 29، إلى غير ذلك من الآيات وهي كثيرة جدا. وليس مجرد الاعتقاد بشئ ايمانا به حتى مع عدم الالتزام بلوازمه وآثاره فإن الايمان علم بالشئ مع السكون والاطمئنان إليه ولا ينفك السكون إلى الشئ من الالتزام بلوازمه لكن العلم ربما ينفك من السكون والالتزام ككثير من المعتادين بالاعمال الشنيعة أو المضرة فإنهم يعترفون بشناعة عملهم أو ضرره لكنهم لا يتركونها معتذرين بالاعتياد وقد قال تعالى: " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم " النمل: 14. والايمان وإن جاز أن يجتمع مع العصيان عن بعض لوازمه في الجملة لصارف من الصوارف النفسانية يصرف عنه لكنه لا يتخلف عن لوازمه بالجملة. قوله تعالى: " الذين هم في صلاتهم خاشعون " الخشوع تأثر خاص من المقهور قبال القاهر بحيث ينقطع عن غيره بالتوجه إليه والظاهر أنه من صفات القلب ثم ينسب إلى الجوارح أو غيرها بنوع من العناية كقوله صلى الله عليه وآله وسلم - على ما روي - فيمن بعبث بلحيته

[ 7 ]

في الصلاة: أما إنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه، وقوله تعالى: " وخشعت الاصوات للرحمان " طه: 108. والخشوع بهذا المعنى جامع لجميع المعاني التي فسربها الخشوع في الاية، كقول بعضهم: هو الخوف وسكون الجوارح، وقول آخرين: غض البصر خفض الجناح، أو تنكيس الرأس، أو عدم الالتفات يمينا وشمالا أو إعظام المقام وجمع الاهتمام، أو التذلل إلى غير ذلك. وهذه الآية إلى تمام ثماني آيات تذكر من أوصاف المؤمنين ما يلازم كون وصف الايمان حيا فعالا يترتب عليه آثاره المطلوبة منه ليترتب عليه الغرض المطلوب منه وهو الفلاح فإن الصلاة توجه ممن ليس له إلا الفقر والذله إلى ساحة العظمة والكبرياء ومنبع العزة والبهاء ولازمه أن يتاثر الانسان الشاعر بالمقام فيستغرق في الذلة والهوان وينتزع قلبه عن كل ما يلهوه ويشغله عما يهمه ويواجهه، فلو كان إيمانه إيمانا صادقا جعل همه حين التوجه إلى ربه هما واحدا وشغله الاشتغال به عن الالتفات إلى غيره فما ذا يفعل الفقير المحض إذا لقي غنى لا يقدر بقدر ؟ والذليل إذا واجه عزة مطلقة لا يشوبها ذلة وهوان ؟ وهذا معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الحارثة بن النعمان المروي في الكافي وغيره: إن لكل حق حقيقة ولكل صواب نورا. الحديث. (كلام في معنى تأثير الايمان) الدين - كما تقدم مرارا - السنة الاجتماعية التي يسير بها الانسان في حياته الدنيوية الاجتماعية، والسنن الاجتماعية متعلقة بالعمل مبنيا على اساس الاعتقاد في حيقة الكون والانسان الذي هو جزء من أجزائه، ومن هنا ما نرى أن السنن الاجتماعية تختلف باختلاف الاعتقادات فيما ذكر. فمن يثبت للكون ربا يبتدئ منه وسيعود إليه وللانسان حياة باقية لا تبطل بموت ولا فناء يسير في الحياة سيرة يراعي في الاعمال الجارية فيها سعادة الحياة الباقية والتنعم في الدار الاخرة الخالدة.

[ 8 ]

ومن يثبت له إلها إو آلهة تدبر الامر بالرضا والسخط من غير معاد إليه يعيش عيشة نظمها على أساس التقرب من الالهة وإرضائها للفوز بأمتعة الحياة والظفر بما يشتهيه من نعم الدنيا. ومن لا يهتم بأمر الربوبية ولا يرى للانسان حياة خالدة كالماديين ومن يحذو حذوهم يبني سنة الحياة والقوانين الموضوعة الجارية في مجتمعه على أساس التمتع من الحياة الدنيا المحدودة بالموت. فالدين سنة عملية مبنية على الاعتقاد في أمر الكون والانسان بما أنه جزء من أجزائه، وليس هذا الاعتقاد هو العلم النظري المتعلق بالكون والانسان فإن العلم النظري لا يستتبع بنفسه عملا وإن توقف عليه العمل بل هو العلم بوجوب الجري على ما يقتضيه هذا النظر وإن شئت فقل: الحكم بوجوب اتباع المعلوم النظري والالتزام به، وهو العلم العملي كقولنا: يجب أن يعبد الانسان الاله تعالى ويراعي في أعماله ما يسعد به في الدنيا والاخرة معا. ومعلوم أن الدعوة الدينية متعلقة بالدين الذي هو السنة العملية المبنية على الاعتقاد، فالايمان الذي يتعلق به الدعوة هو الالتزام بما يقتضيه الاعتقاد الحق في الله سبحانه ورسله واليوم الاخر وما جاءت به رسله وهو علم عملي. والعلوم العملية تشتد وتضعف حسب قوة الدواعي وضعفها فإنا لسنا نعمل عملا قط إلا طمعا في خير أو نفع أو خوفا من شر أو ضرر، وربما رأينا وجوب فعل لداع يدعو إليه ثم صرفنا عنه داع آخر أقوى منه وآثر، كمن يرى وجوب أكل الغذاء لرفع ما به من جوع فيصرفه عن ذلك علمه بأنه مضر له مناف لصحتة، فبالحقيقة يقيد الداعي المانع بما معه من العلم إطلاق العلم الذي مع الداعي الممنوع كأنه يقول مثلا: إن التغذي لرفع الجوع ليس يجب مطلقا بل إنما يجب إذا لم يكن مضرا بالبدن مضادا لصحتة. ومن هنا يظهر أن الايمان بالله إنما يؤثر أثره من الاعمال الصالحة والصفات الجميلة النفسانية كالخشية والخشوع والاخلاص ونحوها إذا لم يغلبه الدواعي الباطلة والتسويلات الشيطانية، وبعبارة أخرى إذا لم يكن إيمانا مقيدا بحال دون حال كما قال تعالى: " ومن الناس من يعبد الله على حرف " الحج: 61.

[ 9 ]

فالمؤمن إنما يكون مؤمنا على الاطلاق إذا جرت أعماله على حاق ما يقتضيه إيمانه من الخشوع في عبادته والاعراض عن اللغو ونحوه. قوله تعالى: " والذين هم عن اللغو معرضون " اللغو من الفعل هو ما لا فائدة فيه ويختلف اختلاف الامور التي تعود عليها الفائدة فرب فعل هو لغو با لنسبة إلى أمر وهو بعينه مفيد مجد بالنسبة إلى أمر آخر. فاللغو من الافعال في نظر الدين الاعمال المباحة التي لا ينتفع بها في الاخرة أو في الدنيا بحيث ينتهي أيضا إلى الاخرة كالاكل والشرب بداعي شهوة التغذي اللذين يتفرع عليهما التقوي على طاعة الله وعبادتة، فإذا كان الفعل لا ينتفع به في آخرة ولا في دنيا تنتهي بنحو إلى آخرة فهو اللغو وبنظر أدق هو ما عدا الواجبات والمستحبات من الافعال. ولم يصف سبحانه المؤمنين بترك اللغو مطلقا فإن الانسان في معرض العثرة ومزلة الخيئة وقد عفا عن السيئات إذا اجتنبت الكبائر كما قال: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما " النساء: 31. بل وصفهم بالاعراض عن اللغو دون مطلق تركه والاعراض يقتضي أمرا بالفعل يدعو إلى الاشتغال به فيتركه الانسان صارفا وجهه عنه إلى غيره لعدم اعتداده به واعتنائه بشأنه، ولازمه ترفع النفس عن الاعمال الخسيسة واعتلاؤها عن الاشتغال بما ينافي الشرف والكرامة وتعلقها بعظائم الامور وجلائل المقاصد. ومن حق الايمان أن يدعو إلى ذلك فإن فيه تعلقا بساحة العظمة والكبرياء ومنبع العزة والمجد والبهاء والمتصف به لا يهتم إلا بحياة سعيدة أبدية خالدة فلا يشتغل إلا بما يستعظمه الحق ولا يستعظم ما يهتم به سفلة الناس وجهلتهم، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، وإذا مروا باللغو مروا كراما. ومن هنا يظهر أن وصفهم بالاعراض عن اللغو كناية عن علو همتهم وكرامة نفوسهم. قوله تعالى: " والذين هم للزكاة فاعلون " ذكر الزكاة مع الصلاة قرينة على كون المراد بها الانفاق المالي دون الزكاة بمعنى تطهير النفس ب بإزالة رذائل الاخلاق عنها ولعل المراد بالزكاة المعنى المصدري وهو تطهير المال بالانفاق منه دون المقدار المخرج من المال

[ 10 ]

فإن السورة مكية وتشريع الزكاة المعهودة في الاسلام إنما كان بالمدينة ثم صار لفظ الزكاة علما بالغلبة للمقدار المعين المخرج من المال. وبهذا يستصح تعلق " للزكاة " بقوله: " فاعلون " والمعنى: الذين هم فاعلون للانفاق المالي، وأما لو كان المراد بالزكاة نفس المال المخرج لم يصح تعلقه به إذ المال المخرج ليس فعلا متعلقا بفاعل، ولذا قدر بعض من حمل الزكاة على هذا المعنى لفظ التأدية فكان التقدير عنده والذين هم لتأدية الزكاة فاعلون، ولذا أيضا فسر بعضهم الزكاة بتطهير النفس عن الاخلاق الرذيلة فرارا من تعلق " للزكاة " بقوله: " فاعلون ". وفي التعبير بقوله: " للزكاة فاعلون " دون أن يقول: للزكاة مؤدون أو ما يؤدي معناه دلالة على عنايتهم بها كقول القائل: إني شارب لمن أمره بشرب الماء فإذا أراد أن يفيد عنايته به قال: إني فاعل. ومن حق الايمان بالله أن يدعو إلى هذا الانفاق المالي فإن الانسان لا ينال كمال سعادته إلا في مجتمع سعيد ينال فيه كل ذي حق حقه ولا سعادة لمجتمع إلا مع تقارب الطبقات في التمتع من مزايا الحياة وأمتعة العيش، والانفاق المالي على الفقراء والمساكين من أقوى ما يدرك به هذه البغية. قوله تعالى: " والذين هم لفروجهم حافظون " إلى آخر الآيات الثلاث، الفروج جمع فرج وهو - على ما قيل - ما يسوء ذكره من الرجال والنساء، وحفظ الفروج كناية عن الاجتناب عن المواقعة سواء كانت زنا أو لواطا أو بإتيان البهائم وغير ذلك. وقوله: " إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين " استثناء من حفظ الفروج، والازواج الحلائل من النساء، وما ملكت أيمانهم الجواري المملوكة فإنهم غير ملومين في مس الازواج الحلائل والجواري المملوكة. وقوله: " فمن إبتغى وراء ذلك فاولئك هم العادون " تفريع على ما تقدم من الاستثناء والمستثنى منه أي إذا كان مقتضى الايمان حفظ الفروج مطلقا إلا عن طائفتين من النساء هما الازواج وما ملكت أيمانهم، فمن طلب وراء ذلك أي مس غير الطائفتين فاولئك هم المتجاوزون عن الحد الذي حده الله تعالى لهم. وقد تقدم كلام ما فيما يستقبه الزنا من فساد النوع في ذيل قوله: " ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا " اسرى: 32 في الجزء الثالث عشر من الكتاب.

[ 11 ]

قوله تعالى: " والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون " الامانة مصر في الاصل. وربما أريد به ما ائتمن عليه من مال ونحوه، وهو المراد في الاية، ولعل جمعه للدلالة على أقسام الامانات الدائرة بين الناس، وربما قيل بعموم الامانات لكل تكليف إلهى اؤتمن عليه الانسان وما اؤتمن عليه من أعضائه وجوارحه وقواه أن يستعملها فيما فيه رضى الله وما ائتمنه عليه الناس من الاموال وغيرها، ولا يخلو من بعد بالنظر إلى ظاهر اللفظ وإن كان صحيحا من جهة تحليل المعنى وتعميمه. والعهد بحسب عرف الشرع ما التزم به بصيغة العهد شقيق النذر واليمين، ويمكن أن يراد به مطلق التكليف المتوجه إلى المؤمن فإن الله سبحانه سمى إيمان المؤمن به عهدا وميثاقا منه على ما توجه إليه من تكاليفه تعالى بقوله: " أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم " البقرة 100، وقوله: " ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار " الاحزاب: 15، ولعل ارادة هذا المعنى هو السبب في إفراد العهد لان جميع التكاليف يجمعها عهد واحد بأيمان واحد. والرعاية الحفظ، وقد قيل: إن أصل الرعي حفظ الحيوان إما بغذائه الحافظ لحياته أو بذب العدو عنه ثم استعمل في الحفظ مطلقا. انتهى. ولعل العكس أقرب إلى الاعتبار. وبالجملة الآية تصف المؤمنين بحفظ الامانات من أن تخان والعهد من أن يقض، ومن حق الايمان أن يدعو إلى ذلك فإن في إيمانه معنى السكون والاستقرار والاطمئنان فإذا آمن أحد في أمانة أودعها عنده أو عهد عاهده وقطع على ذلك استقر عليه ولم يتزلزل بخيانة أو نقض. قوله تعالى: " والذين هم على صلواتهم يحافظون " جمع الصلاة وتعليق المحافظة عليه دليل على أن المراد المحافظة على العددفهم يحافظون على أن لا يفوتهم شئ من الصلوات المفروضة ويراقبونها دائما ومن حق إيمانهم أن يدعوهم إلى ذلك. ولذلك جمعت الصلاة ههنا وأفردت في قوله " في صلاتهم خاشعون " لان الخشوع في جنس الصلاة على حد سواء فلا موجب لجمعها. قوله تعالى: " أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون "

[ 12 ]

الفردوس أعلى الجنان، وقد تقدم معناها وشئ من وصفها في ذيل قوله تعالى: " كانت لهم جنات الفردوس نزلا " الكهف: 107. وقوله: " الذين يرثون " الخ، بيان لقوله: " الوارثون " ووراثتهم الفردوس هو بقاؤها لهم بعد ما كانت في معرض أن يشاركهم فيها غيرهم أو يملكها دونهم لكنهم زالوا عنها فانتقلت إليهم، وقد ورد في الروايات أن لكل أنسان منزلا في الجنة ومنزلا في النار فإذا مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله، وستوافيك إن شاء الله في بحث روائي. (بحث روائي) في تفسير القمى وقوله: " الذين هم في صلاتهم خاشعون " قال: غضك بصرك في صلاتك واقبالك عليها. أقول: وقد تقدم أنه من لوازم الخشوع فهو تعريف بلازم المعنى، ونظيره ما رواه في الدر المنثور عن عدة من أصحاب الجوامع عن على عليه السلام: أن لا تلتفت في صلاتك. وفي الكافي بإسناده عن مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق. أقول: وروى في الدر المنثور عن عدة من أصحاب الجوامع عن أبي الدرداء عنه صلى الله عليه وآله وسلم ما في معناه ولفظه: أستعيذوا بالله من خشوع النفاق. قيل له: وما خشوع النفاق ؟ قال: أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع. وفي المجمع: في الآية روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال: أما إنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه. وفيه روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يرفع بصره إلى السماء في صلاته فلما نزلت الآية طأطأ رأسه ورمى ببصره إلى الارض. أقول: ورواهما في الدر المنثور عن جمع من أصحاب الكتب عنه صلى الله وآله وسلم. وفي معنى الخشوع روايات أخر كثيرة. وفي إرشاد المفيد في كلام لامير المؤمنين عليه السلام: كل قول ليس فيه لله ذكر فهو لغو.

[ 13 ]

وفي المجمع في قوله: " والذين هم عن اللغو معرضون " روي أن أبي عبد الله عليه السلام قال: أن يتقول الرجل عليك بالباطل أو يأتيك بما ليس فيك فتعرض عنه لله وفي رواية أخرى أنه الغناء والملاهي أقول: ما في روايتي المجمع من قبيل ذكر بعض المصاديق وما في رواية الارشاد من التعميم بالتحليل. وفي الخصال عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه ع قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: تحل الفروج بثلاثة وجوه: نكاح بميراث ونكاح بلا ميراث ونكاح بملك يمين. وفي الكافي بإسناده إسحاق بن أبي سارة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عنها يعني المتعة فقال لي: حلال فلا تتزوج إلا عفيفة إن الله عزوجل يقول: " والذين هم لفروجهم حافظون " فلا تضع فرجك حيث لا تأمن على درهمك. أقول: وفيه تعميم لمعنى حفظ الفروج بحيث يشمل ترك نكاح غير العفيفة. الروايتان كما ترى تعدان المتعة نكاحا وازدواجا والامر على ذلك فيما لا يحصى من روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام وعلى ذلك مبنى فقههم. والامر على ذلك في عرف القرآن وفي عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذلك أنه ليس وراء ملك اليمين إلا نوعان: نكاح على الزوجية وزنا وقد حرم الله الزنا وأكد في تحريمه في آيات كثيرة في السور المكية والمدنية كسورتي الفرقان والاسراء وهما مكيتان وسورتي النور والممتحنة وهما مدنيتان. ثم سماه سفاحا وحرمه في سورتي النساء والمائدة ثم سماه فحشاء ومنع عنه وذمه في سور الاعراف والعنكبوت ويوسف وهي مكية وفي سور النحل والبقرة والنور وهي أو الاخيرتان مدنيتان. ثم سماه فاحشة ونهي عنها في سور الاعراف والانعام والاسراء والنمل والعنكبوت والشورى والنجم وهي مكية وفي سور النساء والنور والاحزاب والطلاق وهي مدنية. ونهى عنه أيضا بالتكنية في آية المؤمنون: " فمن ابتغى وراء ذلك فاولئك هم العادون " ونظيره في سورة المعارج وكان من المعروف في أول البعثة من أمر الاسلام

[ 14 ]

أنه يحرم الخمر والزن (1). فلو لا لم يكن التمتع ازدواجا والمتمتع بها زوجا مشمولة لقوله: " إلا على أزواجهم " لكان زنا ومن المعلوم بالضرورة أن التمتع كان معمولا به في مكة قبل الهجرة في الجملة وكذا في المدينة بعد الهجرة في الجملة ولازم ذلك أن يكون زنا أباحه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لضرورة أقتضته لو أغمضنا عن قوله تعالى: " فما إستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن " النساء: - 24 ولازم ذلك أن تكون آية سورة المؤمنون " إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم - إلى قوله - العادون "، ناسخة الاباحة التمتع السابقة ثم يكون تحليل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو تحليل آية سورة النساء ذلك ناسخا لجميع الآيات المكية الناهية عن الزنا وبعض المدنيات مما نزلت قبل التحليل، وخاصة على قول من يقول: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حلله ثم حرمه مرة (2) بعد مرة فإن لازمه نسخ الايات الناهية عن الزنا ثم إحكامها ثم نسخها ثم إحكامها مرات ولم يقل أحد من المسلمين بكونها منسوخة فضلا عن النسخ بعد النسخ وهل هذا إلا لعب بكلام الله تجل عنه ساحة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟. على أن الآيات الناهية عن الزنا آبية بسياقها وما فيه من التعليل آب عن النسخ وكيف يعقل أن يسمى الله سبحانه فعلا من الافعال فاحشة فحشاء وسبيل سوء ويخبر أن من يفعله يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ثم يجيز إتكابه ثم يمنع ثم يجيز. على إن أصل نسخ القرآن بالحديث لا معنى له (3). على أن عدة من المرتكبين لنكاح المتعة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا من معاريف الصحابة وهم على ما هم عليه من حفظ ظواهر الاحكام فكيف إستجازوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الفحشاء ؟ وكيف لم يستخبثوه ؟ وكيف رضوا بالعار والشنار وقد تمتع زبيرمن


(1) على ما رواه ابن هشام في السيرة وقد أوردنا الرواية في بحث روائي في ذيل قوله تعالى: " انما الخمر والميسر " الآية من سورة المائدة ج 6 ص 146 من الكتاب. (2) وقد أوردنا الروايات الدلالة على ذلك في البحث الروايى الموضوع في ذيل قوله تعالى: " فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن " الآية النسأ: 24 ج 4 ص 308. (3) وقد بين ذلك في علم الاصول بما لا مزيد عليه. (*)

[ 15 ]

أسماء بنت أبي بكر فولدت له عبد الله بن زبير وأخاه عروة بن زبير وورثاه بعد قتله وهم جميعا من الصحابة. على أن الروايات الدالة على نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المتعة متهافتة، وما تسلموا عليه من قول عمر بن الخطاب حينما نهى ايام خلافته عن المتعة وما ورد عنه حول القصة يكذب هذه الروايات ويدفع حديث النسخ. وقد مر شطر من الكلام في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: " وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن فريضة " النساء: 24. ومن لطيف الدلالة على كون المتعة نكاحا غير سفاح إقتران جملة " فما استمتعتم " الخ بقوله قبله متصلا به " محصنين غير مسافحين ". فقد تبين بما ذكرنا أن المتعة في الشرع وفي عرف القرآن نكاح وزوجية لا زنا وسفاح سواء قلنا بكونها منسوخة بعد بكتاب أو سنة كما عليه معظم أهل السنة أو لم نقل كما عليه الشيعة تبعا لائمة أهل البيت عليهم السلام. فالنكاح ينقسم إلى نوعين: نكاح دائم له أحكامه من العدد والارث والاحصان والنفقة والفراش والعدة وغير ذلك. ونكاح موقت مبني على التسهيل له من أحكام النكاح الدائم إختصاص المراة بالرجل ولحقوق الاولاد والعدة. وبذلك يظهر فساد ما ذكره جمع منهم أن المتعة ليست بزوجية ولو كانت زوجية لجرت فيها أحكامها من العدد والميراث والنفقة والاحصان وغير ذلك وذلك أن الزوجية تتقسم إلى دائمة لها أحكامها وموقتة مبنية على التسهيل يجري فيها بعض تلك الاحكام كما تقدم. والاشكال بأن تشريع الازدواج إنما هو للتناسل بدوام الزوجية والغرض من المتعة مجرد دفع الشهوة بصب الماء وسفحة فهي سفاح وليست بنكاح. فيه أن التوسل إلى النسل حكمة لا علة يدور مدارها التشريع والا لم يجز نكاح العاقر واليائسة والصبي والصبية. على أن المتعة لا تنافي الاستيلاد ومن الشاهد على ذلك عبد الله وعروة إبنا زبير أولدا له من أسماء بنت أبي بكر من المتعة.

[ 16 ]

وكذا الاشكال بأن المتعة تجعل المرأة ملعبة يلعب بها الرجال كالكرة الدائرة بين الصوالج ذكره صاحب المنار وغيره. فيه أن هذا يرد أول ما يرد على الشارع فإن من الضروري أن المتعة كانت دائرة في صدر الاسلام برهة من الزمان فما أجاب به الشارع كان هو جوابنا. وثانيا أن جميع ما يقصد بالمتعة من لذة أو دفع شهوة أو استيلاد أو استئناس أو غير ذلك مشتركة بين الرجل والمرأة فلا معنى لجعلها ملعبة له دون العكس إلا أن يكابر مكابر. وللكلام تتمة ستوافيك في بحث مستقل إن شاء الله تعالى. وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر وإبن أبي حاتم والحاكم وصححه عن إبن أبي مليكة قال: سألت عائشة عن متعة النساء قالت: بيني وبينكم كتاب الله وقرأت " والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم " فمن ابتغى وراء ما زوجه الله أو ملكه فقد عدا. أقول: وروى نظيره عن القاسم بن محمد، وقد تبين بما قدمنا أن المتمتع بها زوج وأن الآية تجيزها على خلاف ما في الرواية. وفي تفسير القمي: " فمن ابتغى وراء ذلك فاولئك هم العادون " قال: من جاوز ذلك. وفيه: " والذين هم على صلواتهم يحافظون " قال: على أوقاتها وحدودها. وفي الكافي بإسناده عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل: " والذين هم على صلواتهم يحافظون " قال: هي الفريضة قلت: " والذين هم على صلاتهم دائمون " قال: هي النافلة. وفي المجمع روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ما منكم من أحد إلا له منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله. أقول: وروى مثله القمي في تفسيره بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث مفصل وتقدم نظيره في قوله تعالى: " وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الامر " مريم: 39 في الجزء السابق من الكتاب.

[ 17 ]

(بحث حقوقي إجتماعي) لا ريب ان الذي يدعو الانسان ويبعثه نحو الاستنان بالسنن الاجتماعية أو وضع القوانين الجارية في المجتمع البشري، تنبهه لحوائج الحياة وتوسله بوضعها والعمل بها إلى رفعها. وكلما كأنت الحاجة أبسط وإلى الطبيعة الساذجة أقرب كان التوسل إلى رفعها اوجب والاهمال في دفعها إدهى وأضر فما الحاجة إلى أصل التغذي والحياة تدور معه كالحاجة إلى التنعم بألوان الطعام وأنواع الفواكه وهكذا. ومن الحوائج الاولية الانسانية حاجة كل من صنفية الذكور والاناث إلى الآخرين بالنكاح والمباشرة، ولا ريب أن المطلوب بالنظر إلى الصنع والايجاد بذلك بقاء النسل وقد جهز الانسان بغريزة شهوة النكاح للتوسل به إلى ذلك. ولذلك نجد المجتمعات الانسانية التي نشاهدها أو نسمع بأخبارها مستنة بسنة الازدواج وتكوين البيت، وعلى ذلك كانت منذأ قدم عهودها فلم يضمن بقاء النسل إلا الازدواج. ولا يدفع هذا الذي ذكرنا أن المدنية الحديثة وضعت سنة الازدواج على أصل الاشتراك في الحياة دون أصل التناسل أو إرضاء الغريزة فإن هذا البناء على كونه بناء محدثا غير طبيعي لم يبعث حتى الآن شيئا من المجتمعات المستنة بها على شيوع هذه الشركة الحيوية بين الرجال أنفسهم أو النساء أنفسهن وليس إلا لمباينته ما تبعث إليه الطبيعة الانسانية. وبالجملة الازدواج سنة طبيعية لم تزل ولا تزال دائرة في المجتمعات البشرية ولا يزاحم هذه السنة الطبيعية في مسيرها إلا عمل الزنا الذي هو أقوى مانع من تكون البيوت وتحمل كلفة الازدواج وحمل أثقاله بإنصراف غريزة الشهوة إليه المستلزم لانهدام البيت وانقطاع النسل. ولذا كانت المجتمعات الدينية أو الطبيعية الساذجة تستشنعها وتعدها فاحشة منكرة وتتوسل إلى المنع عنه بأي وسيلة ممكنة، والمجتمعات المتمدنة الحديثة وإن لم

[ 18 ]

تسد سبيله بالجملة ولم تمنع عنه ذلك المنع لكنها مع ذلك لا تستحسنه لما ترى من مضادته العميقة لتكون البيوت وازدياد النفوس وبقاء النسل، وتحتال إلى تقليله بلطائف الحيل وتروج سنة الازدواج وتدعوا إلى تكثير الاولاد بجعل الجوائز وترفيع الدرجات وغير ذلك من المشوقات. غير أنه على الرغم من كون سنة الازدواج الدائم سنة قانونية متبعة في جميع المجتمعات الانسانية في العالم وتحريض الدول عليها واحتيالها لتضعيف أمر الزنا وصرف الناس لا سيما الشبان والفتيات عنه لا يزال يوجد في جميع البلاد صغيرتها وكبيرتها معاهد لهذا العمل الهادم لبنية المجتمع علنية أو سرية على اختلاف السنن الجارية فيها. وهذا أوضح حجة على أن سنة الازدواج الدائم لا تفي برفع هذه الحاجة الحيوية للنوع، وأن الانسانية بعد في حاجة إلى تتميم نقيصتها هذه، وأن من الواجب على من بيده زمام التقنين أن يتوسع في أمر الازدواج. ولذلك شفع شارع الاسلام سنة الازدواج الدائم بسنة الازدواج الموقت تسهيلا للامر وشرط فيه شروطا ترتفع بها محاذير الزنا من اختلاط المياه واختلال الانساب والمواريث وانهدام البيوت وانقطاع النسل وعدم لحوق الاولاد وهي اختصاص المرأة بالرجل والعدة إذا افترقا ولحوق الاولاد ثم لها ما اشترطت على زوجها وليس فيه على الرجل شئ من كلفه الازدواج الدائم ومشقته. ولعمر الحق إنها لمن مفاخر الاسلام في شريعته السهلة السمحة نظير الطلاق وتعدد الزوجات كثير من قوانينه ولكن ما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يسمعون يقول القائل: لان أزنى أحب إلي من أن اتمتع أو أمتع. * * * ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين - 12. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين - 13. ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا

[ 19 ]

آخر فتبارك الله أحسن الخالقين - 14. ثم إنكم بعد ذلك لميتون - 15. ثم إنكم يوم القيمة تبعثون - 16. ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين - 17. وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الارض وإنا على ذهاب به لقادرون - 18. فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون - 19. وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين - 20. وإن لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون - 21. وعليها وعلى الفلك تحملون - 22. (بيان) لما ذكر سبحانه فلاح المؤمنين بما عندهم من الاوصاف الجميلة عقبه بشرح خلقهم وخلق ما أنعم عليهم من النعم مقرونا بتدبير أمرهم تدبيرا مخلوطا بالخلق لينكشف به أنه هو رب للانسان ولكل شئ الواجب أن يعبد وحده لا شريك له. قوله تعالى: " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين " قال في المجمع: السلالة إسم لما يسل من الشئ كالكساحة اسم لما يكسح انتهى. وظاهر السياق أن المراد بالانسان هو النوع فيشمل آدم ومن دونه ويكون المراد بالخلق الخلق الابتدائي الذي خلق به آدم من الطين ثم جعل النسل من النطفة، وتكون الآية وما بعدها في معنى قوله: " وبدأ خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة مماء مهين " ألم السجدة: 8.

[ 20 ]

ويؤيده قوله بعد: " ثم جعلناه نطفة " إذ لو كان المراد بالانسان ابن آدم فحسب وكان المراد بخلقه من طين انتهاء النطفة إلى الطين لكان الظاهر أن يقال: ثم خلقناه نطفة كما قيل: ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة الخ. وبذلك يظهر أن قول بعضهم: إن المراد بالانسان جنس بنى آدم، وكذا القول بأن المراد به آدم عليه السلام غير سديد. وأصل الخلق - كما قيل - التقدير يقال: خلقت الثوب إذا قسته لتقطع منه شيئا من اللباس فالمعنى ولقد قدرنا الانسان أولا من سلالة من أجزاء الارض المخلوطة بالماء. قوله تعالى: " ثم جعلناه نطفة في قرار مكين " النطفة القليل من الماء وربما يطلق على مطلق الماء، والقرار مصدر أريد به المقر مبالغة والمراد به الرحم التي تستقر فيها النطفة، والمكين المتمكن وصفت به الرحم لتمكنها في حفظ النطفة من الضيعة والفساد أو لكون النطفة مستقرة متمكنة فيها. والمعنى ثم جعلنا الانسان نطفة في مستقر متمكن هي الرحم كما خلقناه أولا من سلالة من طين أي بدلنا طريق خلقه من هذا إلى ذاك. قوله تعالى: " ثم خلقنا النطفة علقة - إلى قوله - فكسونا العظام لحما " تقدم بيان مفردات الآية في الآية 5 من سورة الحج في الجزء السابق من الكتاب وفي قوله: " فكسونا العظام لحما " استعارة بالكناية لطيفة. قوله تعالى: " ثم أنشأناه خلقا آخر " الانشاء - كما ذكره الراغب - إيجاد الشئ وتربيته كما أن النش ء والنشأة إحداثه وتربيته كما يقال للشاب الحديث السن ناشئ. وقد غير السياق من الخلق إلى الانشاء فقال: " ثم أنشأناه خلقا آخر " دون أن يقال: ثم خلقناه الخ، للدلالة على حدوث أمر حديث ما كان يتضمنه ولا يقارنه ما تقدمه من مادة فإن العلقة مثلا وإن خالفت النطفة في أوصافها وخواصها من لون وطعم وغير ذلك إلا أن في النطفة مكان كل من هذه الاوصاف والخواص ما يجانسه وإن لم يماثله كالبياض مكان الحمرة وهما جميعا لون بخلاف ما أنشأه الله أخيرا وهو الانسان الذي له حياة وعلم وقدرة فإن ما له من جوهر الذات وهو الذي نحكي عنه بأنا لم يسبق من سنخه في المراحل السابقة أعني النطفة والعلقة والمضغة والعظام المكسوة لحما شئ،

[ 21 ]

ولا سبق فيها شئ يناظر ما له من الخواص والاوصاف كالحياة والقدرة والعلم فهو منشأ حادث مسبوق بالعدم. والضمير في " أنشأناه " - على ما يعطيه السياق - للانسان المخلوق عظاما مكسوة باللحم فهو الذي أنشئ وأحدث خلقا آخر أي بدل وهو مادة ميتة جاهلة عاجزة موجودا ذا حياة وعلم وقدرة فقد كان مادة لها صفاتها وخواصها ثم برز وهو يغاير سابقته في الذات والصفات والخواص، فهو تلك المادة السابقة فإنها التي صارت إنسانا، وليس بها إذ لا يشاركها في ذات ولا صفات، وإنما له نوع اتحاد معها وتعلق بها يستعملها في سبيل مقاصدها استعمال ذي الآلة للآلة كالكاتب للقلم. وهذا هو الذي يستفاد من مثل قوله: " وقالوا أئذا ضللنا في الارض إنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم " ألم السجدة: 11، فالمتوفى والمأخوذ عند الموت هو الانسان، والمتلاشي الضال في الارض هو البدن وليس به. واختلف العطف في مفردات الآية بالفاء وثم وقد قيل في وجهه أن ما عطف بثم له بينونة كاملة مع ما عطف عليه كما في قوله: " ثم جعلناه نطفة " " ثم خلقنا النطفة علقة "، " ثم أنشانأه خلقا آخر "، وما لم يكن بتلك البينونة والبعد عطف بالفاء كقوله: " فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ". قوله تعالى: " فتبارك الله أحسن الخالقين " قال الراغب: أصل البرك - بالفتح فالسكون - صدر البعير. قال: وبرك البعير ألقى ركبه واعتبر منه معنى اللم. قال: وسمي محبس الماء بركة - بالكسر فالسكون - والبركة ثبوت الخير الالهي في الشئ قال تعالى: " لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض " وسمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة، والمبارك ما فيه ذلك الخير. قال: ولما كان الخير الالهي يصدر من حيث لا يحس وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة هو مبارك وفيه بركة. انتهى. فالتبارك منه تعالى اختصاصه بالخير الكثير الذي يجود به ويفيضه على خلقه وقد تقدم أن الخلق في أصله بمعنى التقدير فهذا الخير الكثير كله في تقديره وهو إيجاد

[ 22 ]

الاشياء وتركيب أجزائها بحيث تتناسب فيما بين أنفسها وتناسب ما وراءها ومن ذلك ينتشر الخير الكثير. ووصفه تعالى بأحسن الخالقين يدل على عدم اختصاص الخلق به وهو كذلك لما تقدم أن معناه التقدير وقياس الشئ من الشئ لا يختص به تعالى، وفي كلامه تعالى من الخلق المنسوب إلى غيره قوله: " وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير " المائدة: 110 وقوله: " وتخلقون إفكا " العنكبوت: 17. قوله تعالى: " ثم إنكم بعد ذلك لميتون " بيان لتمام التدبير الالهي وأن الموت من المراحل التي من الواجب أن يقطعها الانسان في مسير التقدير، وأنه حق كما تقدم في قوله تعالى: " كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة " الانبياء: 35. قوله تعالى: " ثم إنكم يوم القيامة تبعثون " وهذا تمام التدبير وهو أعني البعث آخر مرحلة في مسير الانسان إذا حل بها لزمها ولا يزال قاطنا بها. قوله تعالى: " ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين "، المراد بالطرائق السبع بقرينة قوله: " فوقكم " السماوات السبع وقد سماها طرائق - جمع طريقة - وهي السبيل المطروقة لانها ممر الامر النازل من عنده تعالى إلى الارض، قال تعالى: " يتنزل الامر بينهن " الطلاق: 12، وقال: " يدبر الامر من السماء إلى الارض يعرج إليه " الم السجدة: 5. والسبل التي تسلكها الاعمال في صعودها إلى الله والملائكة في هبوطهم وعروجهم كما قال: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " فاطر: 10، وقال: " وما نتنزل إلا بأمر ربك " مريم: 64. وبذلك يتضح اتصال ذيل الآية " وما كنا عن الخلق غافلين " بصدرها أي لستم بمنقطعين عنا ولا بمعزل عن مراقبتنا بل هذه الطرائق السبع منصوبة بيننا وبينكم يتطرقها رسل الملائكة بالنزول والصعود وينزل منها أمرنا اليكم وتصعد منها أعمالكم الينا. وبذلك كله يظهر ما في قول بعضهم: إن الطرائق بمعنى الطباق المنضودة بعضها فوق بعض من طرق النعل إذا وضع طاقاتها بعضها فوق بعض، وقول آخرين: إنها بمعنى المبسوطات من طرق الحديد إذا بسطه بالمطرقة. على أن اتصال ذيل الآية بصدرها على القولين غير بين.

[ 23 ]

قوله تعالى: " وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الارض وإنا على ذهاب به لقادرون " المراد بالسماء جهة العلو فإن ما علاك وأظلك فهو سماء، والمراد بالماء النازل منها ماء المطر. وفي قوله: " بقدر " دلالة على أن الذي نزل إنما نزل على حسب ما يقتضيه التدبير التام الالهي الذي يقدره بقدر لا يزيد قطرة على ما قدر ولا ينقص، وفيه تلميح أيضا إلى قوله: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم " الحجر: 21. والمعنى: وأنزلنا من جهة العلو ماء بقدر وهو ماء المطر فأسكناه في الارض وهو الذخائر المدخرة من الماء في الجبال والسهول تتفجر عنه العيون والانهار وتكشف عنه الآبار، وإنا لقادرون على أن نذهب بهذا الماء الذي أسكناه في الارض نوعا من الذهاب لا تهتدون إلى علمه. قوله تعالى: " فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب " إلى آخر الآية، إنشاء الجنات إحداثها وتربيتها، ومعنى الآية ظاهر. قوله تعالى: " إلى شجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين " معطوف على " جنات " أي وأنشأنا لكم به شجرة في طور سيناء، والمراد بها شجرة الزيتون التي تكثر في طورسيناء، وقوله: " تنبت بالدهن " أي تثمر ثمرة فيها الدهن وهو الزيت فهي تنبت بالدهن، وقوله: " وصبغ للآكلين " أي وتنبت بصبغ للآكلين، والصبغ بالكسر فالسكون الادام الذي يؤتدم به، وإنما خص شجرة الزيتون بالذكر لعجيب أمرها، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " وإن لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها " الخ، العبرة الدلالة يستدل بها على أنه تعالى مدبر لامر خلقه حنين بهم رؤف رحيم، والمراد بسقيه تعالى مما في طونها أنه رزقهم من البانها، والمراد بالمنافع الكثيرة ما ينتفعون من صوفها وشعرها ووبرها وجلودها وغير ذلك، ومنها يأكلون. قوله تعالى: " وعليها وعلى الفلك تحملون " ضمير " عليها " للانعام والحمل على الانعام هو الحمل على الابل، وهو حمل في البر ويقابله الحمل في البحر وهو الحمل على الفلك، فالآية في معنى قوله: " وحملناهم في البر والبحر " أسرى: 70، والفلك جمع فلكة وهي السفينة.

[ 24 ]

(بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن علي قال: إذا تمت النطفة أربعة أشهر بعث إليها ملك فنفخ فيها الروح في الظلمات الثلاث، فذلك قوله: " ثم أنشأناه خلقا آخر " يعني نفخ الروح فيه. في الكافي بإسناده عن ابن فضال عن الحسن بن الجهم قال: سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول: قال أبو جعفر عليه السلام: إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوما، ثم تصير علقة أربعين يوما، ثم تصير مضغة أربعين وما، فإذا كمل أربعة أشهر بعث الله ملكين خلاقين فيقولان: يا رب ما نخلق ذكرا أو أنثى ؟ فيؤمران فيقولان: يا رب شقي أو سعيد ؟ فيؤمران فيقولان: يا رب ما أجله وما رزقه وكل شئ من حاله ؟ وعدد من ذلك اشياء، ويكتبان الميثاق بن عينيه. فإذا كمل الاجل بعث الله إليه ملكا فزجره زجرة فيخرج وقد نسي الميثاق، فقال الحسن بن الجهم: أفيجوز أن يدعو الله فيحول الانثى ذكرا أو الذكر أنثى ؟ فقال: إن الله يفعل ما يشاء. أقول: والرواية مروية عن أبي جعفر عليه السلام بطرق أخرى وألفا ظمتقا ربة. وفي تفسير القمي قوله عزوجل: " وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين " قال شجرة الزيتون، وهو مثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومثل أمير المؤمنين عليه السلام فالطور الجبل وسيناء الشجرة. وفي المجمع " تنبت بالدهن وصبغ للآكلين " وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: الزيت شجرة مباركة فائتدموا منه وادهنوا. * * * ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون - 23. فقال الملؤ الذين كفروا من قومه

[ 25 ]

ما هذا إلابشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لانزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الاولين - 24. إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين - 25. قال رب انصرني بما كذبون - 26. فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون - 27. فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين - 28. وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين - 29. إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين - 30. ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين - 31. فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون - 32. وقال الملؤ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحيوة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون - 33. ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون - 34. أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون - 35. هيهات هيهات لما توعدون - 36. إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين - 37. إن هو

[ 26 ]

إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين - 38. قال رب أنصرني بما كذبون - 39. قال عما قليل ليصبحن نادمين - 40. فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين - 41. ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين - 42. ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون - 43. ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون - 44. ثم أرسلنا موسى وأخاه هرون بآياتنا وسلطان مبين - 45. إلى فرعون وملائه فاستكبروا وكانوا قوما علين - 46. فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون - 47. فكذبوهما فكانوا من المهلكين - 48. ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون - 49. وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآوينا هما إلى ربوة ذات قرار ومعين - 50. يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم - 51. وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون - 52. فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون - 53. فذرهم في غمرتهم حتى حين - 54. (بيان) بعد ما عد نعمه العظام على الناس عقبه في هذه الآيات بذكر دعوتهم إلى توحيد

[ 27 ]

عبادته من طريق الرسالة وقص إجمال دعوة الرسل من لدن نوح إلى عيسى بن مريم عليهما السلام، ولم يصرح من أسمائهم إلا باسم نوح وهو أول الناهضين لدعوة التوحيد وإسم موسى وعيسى عليهما السلام وهما في آخرهم، وأبهم أسماء الباقين غير أنه صرح باتصال الدعوة وتواتر الرسل، وأن الناس لم يستجيبوا إلا بالكفر بآيات الله والكفران لنعمه. قوله تعالى: " ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون " قد تقدم في قصص نوح عليه السلام من سورة هود أنه أول أولى العزم من الرسل أصحاب الكتب والشرائع المبعوثين إلى عامة البشر والناهضين للتوحيد ونفي الشرك، فالمراد بقومه أمته وأهل عصره عامة. وقوله: " اعبدوا الله ما لكم من إله غيره " دعوة إلى عبادة الله ورفض عبادة الآلهة من دونه فإن الوثنيين إنما يعبدون غيره من الملائكة والجن والقديسين بدعوى ألوهيتهم أي كونهم معبودين من دونه. قال بعض المفسرين: إن معنى " اعبدوا الله " اعبدوه وحده كما يفصح عنه قوله في سورة هود: " ألا تعبدوا إلا الله " وترك التقييد به للايذان بأنها هي العبادة فقط وأما العبادة مع الاشراك فليست من العبادة في شئ رأسا. انتهى. وفيه غفلة أو ذهول عن أن الوثنيين لا يعبدون الله سبحان أصلا بناء على أن العبادة توجه من العابد إلى المعبود، والله سبحانه أجل من أن يحيط به توجه متوجه أو علم عالم، فالوجه أن يتقرب إلى خاصة خلقه من الملائكة وغيره ليشفعوا عنده ويقربوا منه، والعبادة بإزاء التدبير وأمر التدبير مفوض إليهم منه تعالى فهم الآلهة المعبودون والارباب من دونه. ومن هنا يظهر أنه لو جازت عبادته تعالى عندهم لم يجز إلا عبادته وحده لانهم لا يرتابون في أنه تعالى رب الارباب موجد الكل ولو صحت عبادته لم تجز إلا عبادته وحده ولم تصح عبادة غيره لكنهم لا يرون صحتها بناء على ما زعموه من الوجه المتقدم. فقوله عليه السلام لقومه الوثنيين: " اعبدوا الله " في معنى أن يقال: اعبدوا الله وحده كما ورد في سورة هود " أن لا تعبدوا إلا الله "، وقوله: " ما لكم من إله غيره " في معنى أن يقال: ما لكم من معبود سواه لانه لا رب غيره يدبر أمركم حتى تعبدوه

[ 28 ]

رجاء لرحمته أو خوفا من سخطه، وقوله بالتفريع على ذلك: " أفلا تتقون " أي إذا لم يكن لكم رب يدبر أموركم دونه أفلا تتقون عذابه حيث لا تعبدونه وتكفرون به ؟ قوله تعالى: " قال الملا الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم - إلى قوله - حتى حين " ملا القوم أشرافهم، ووصفهم بقوله: " الذين كفروا من قومه " وصف توضيحي لا احترازي إذ لم يؤمن به من ملا قومه أحد بدليل قولهم على ما حكاه الله: " وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي " هود: 27. والسياق يدل على أن الملا كانوا يخاطبون بمضمون الآيتين عامة الناس لصرف وجهوههم عنه وإغرائهم عليه وتحريضهم على إيذائه وإسكاته، وما حكاة تعالى من أقاويلهم في الآيتين وجوه أربعة أو خمسة من فرية أو مغالطة لفقوها واحتجوا بها على بطلان دعوته. الاول قولهم: " ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم " ومحصله أنه بشر مثلكم فلو كان صادقا فيما يدعيه من الوحي الالهي والاتصال بالغيب كان نظير ما يدعيه متحققا فيكم إذ لا تنقصون منه في شئ من البشرية ولوازمها، ولم يتحقق فهو كاذب وكيف يمكن أن يكون كمال في وسع البشر أن يناله ثم لا يناله إلا واحد منهم فقط ثم يدعيه من غير شاهد يشهد عليه ؟ فلم يبق إلا أنه يريد بهذه الدعوة أن يتفضل عليكم ويترأس فيكم ويؤيده أنه يدعوكم إلى اتباعه وطاعته وهذه الحجة تنحل في الحقيقة إلى حجتين مختلقتين. والثاني قولهم: " ولو شاء الله لانزل ملائكة " ومحصله أن الله سبحانه لو شاء أن يدعونا بدعوة غيبية لاختار لذلك الملائكة الذين هم المقربون عنده والشفاء الروابط بيننا وبينه فأرسلهم الينا لابشرا ممن لا نسبة بينه وبينه. على أن في نزولهم واعترافهم بوجوب العبادة له تعالى وحده وعدم جواز اتخازهم أربابا وآلهة معبودين آية بينة على صحة الدعوة وصدقها. والتعبير أن إرسال الملائكة بإنزالهم إنما هو لكون إرسالهم يتحقق بالانزال والتعبير بلفظا الجمع دون الافراد لعله لكون المراد بهم الآلهة المتخذة منهم وهم كثيرون. والثالث قولهم: " ما سمعنا بهذا في آبائنا الاولين " ومحصله أنه لو كانت دعوته حقة لا تفق لها نظير فيما سلف من تاريخ الانسانية، وآباؤنا كانوا أفضل منا وأعقل ولم

[ 29 ]

يتفق لهم وفي أعصارهم ما يناظر هذه الدعوة فليست إلا بدعة وأحدوثة كاذبة. والرابع قولهم: " إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين "، الجنة إما مصدر أي به جنون أو مفردا لجن أي حل به من الجن من يتكلم على لسانه لانه يدعي ما لا يقبله العقل السليم ويقول ما لا يقوله إلا مصاب في عقله فتربصوا وانتظرو به إلى حين ما لعله يفيق من حالة جنونه أو يموت فنستريح منه. وهذه حجج مختلقة ألقاها ملا قومه إلى عامتهم أو ذكر كلامنها بعضهم وهي وإن كانت حججا جدلية مدخولة لكنهم كانوا ينتفعون بها حينما يلقونها إلى الناس فيصرفون وجوههم عنه ويغرونهم عليه ويمدون في ضلالهم. قوله تعالى: " قال رب انصرني بما كذبون " سؤال منه للنصر والباء في قوله: " بما كذبون " للبدلية والمعنى انصرني بدل تكذيبهم لي أو للآلة وعليه فالمعنى انصرني بالذي كذبوني فيه وهو العذاب فإنهم قالوا: " فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين " هود: 32، ويؤيده قول نوح: " رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا " نوح 26، وفصل الآية لكونها في معنى جواب السؤال. قوله تعالى: " فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا " إلى آخر الآية. متفرع على سؤال النصر، ومعنى صنع الفلك بأعينه صنعة بمرئى منه وهو كناية عن كونه تحت مراقبته تعالى ومحافظته، ومعنى كون الصنع بوحيه كونه بتعليمه الغيبي حالا بعد حال. وقوله: " فإذا جاء أمرنا وفار التنور " المراد بالامر - كما قيل - حكمه الفصل بينه وبين قومه وقضاؤه فيهم بالغرق، والسياق يشهد على كون فوران التنور بالماء أمارة نزول العذاب عليهم وهو أعني فوران الماء من التنور وهو محل النار من عجيب الامر في نفسه. وقوله: " فاسلك فيها من كل زوجين اثنين " القراءة الدائرة " من كل " بالتنوين والقطع عن الاضافة، والتقدير من كل نوع من الحيوان، والسلوك فيها الادخال في الفلك والظاهر أن " من " لابتداء الغاية والمعنى فأدخل في الفلك زوجين اثنين: ذكر وأنثى من كل نوع من الحيوان. وقوله: " وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم " معطوف على قوله: " زوجين "

[ 30 ]

وما قيل: إن عطف " أهلك " على " زوجين " يفسد المعنى المراد لرجوع التقدير حينئذ إلى قولنا: واسلك فيها من كل نوع أهلك فالاولى تقدير " اسلك " ثانيا قبل " أهلك " وعطفه على " فاسلك ". يدفعه أن " من كل " في موضع الحال من " زوجين " فهو متأخر عنه رتبة كما قدمنا تقديره فلا يعود ثانيا على المعطوف. والمراد بالاهل خاصته، والظاهر أنهم أهل بيته والمؤمنون به فقد ذكرهم في سورة هود مع الاهل ولم يذكر ههنا إلا الاهل فقط. والمراد بمن سبق عليه القول منهم امرأته الكافرة على ما فهم نوح عليه السلام وهي وابنه الذي أبي ركوب السفينة وغرق حينما أوى إلى جبل في الحقيقة، وسبق القول هو القضاء المحتوم بالغرق. قوله: " ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون " النهي عن مخاطبته تعالى كناية عن النهي الشديد عن الشفاعة لهم، بدليل تعليق المخاطبة بالذين ظلموا وتعليل النهي بقوله: " إنهم مغرقون " فكأنه قيل: أنهاك عن أصل تكليمي فيهم فضلا أن تشفع لهم فقد شملهم غضبي شمولا لا يدفعه دافع. قوله تعالى: " فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل " إلى آخر الآيتين علمه أن يحمد الله بعد الاستواء على الفلك على تنجيته تعالى من القوم الظالمين وهذا بيان بعد بيان لكونهم هالكين مغرقين حتما، وأن يسأله أن ينجيه من الطوفان وينزله على الارض إنزالا مباركا ذا خير كثير ثابت فإنه خير المنزلين. وفي أمره عليه السلام أن يحمده ويصفه بالجميل دليل على أنه من عباده المخلصين فإنه تعالى مزه عما يصفه غير هم كما قال: " سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصون " الصافات: 160. وقد اكتفى سبحانه في القصة بإخباره عن حكمه بغرقهم وأنهم مغرقون حتما ولم يذكر خبر غرقهم إيماء إلى أنهم آل بهم الامر إلى أن لا خبر عنهم بعد ذلك، واعظاما للقدرة وتهويلا للسخطة وتحقيرا لهم واستهانة بأمرهم، فالسكوت في هذه القصة عن هلاكهم أبلغ من قوله في القصة الآتية: " وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون " من وجوه. قوله تعالى: " إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين " خطاب في آخر القصة للنبي

[ 31 ]

صلى الله عليه وآله وسلم وبيان أن هذه الدعوة مع ما جرى معها كانت ابتلاء أي امتحانا اختبارا إليها. قوله تعالى: " ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين " إلى آخر الآية الثانية. القرن اهل عصر واحد، وقوله: " أن اعبدوا الله " تفسير لارسال الرسول من قبيل تفسير الفعل بنتيجته كقوله تعالى: " تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا " حم السجدة: 30. قوله تعالى: " قال الملا من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا " هؤلاء أشرافهم المتوغلون في الدنيا المخلدون إلى الارض يغرون بقولهم هذا عامتهم على رسولهم. وقد وصفهم الله بصفات ثلاث وهي: الكفر بالله بعبادة غيره، والتكذيب بلقاء الآخرة - أي بلقاء الحياة الاخرة بقرينة مقابلتها لقوله: " في الحياة الدنيا " -، ولكفرهم بالمبدأ والمعاد انقطعوا عما وراء الدنيا فانكبوا عليها ثم لما أترفوا في الحياة الدنيا وتمكنوا من زخارفها وزيناتها الملذه اجتذبتهم الدنيا إلى نفسها فاتبعوا الهوى ونسوا كل حق وحقيقة، ولذلك تفوهوا تارة بنفي التوحيد والرسالة وتارة بإنكار المعاد وتارة ردوا الدعوة بإضرارها دنياهم وحريتهم في اتباع هواهم. فتارة قالوا لعوامهم مشيرين إلى رسولهم إشارة المستحقر المستهين بأمره: " ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون " يريدون به تكذيبه في دعوته ودعواه الرسالة على ما مر من تقرير حجتهم في قصة نوح السابقة. وفي استدلالهم على بشريته ومساواته سائر الناس بأكله وشربه مثل الناس وذلك من خاصة مطلق الحيوان دليل على أنهم ما كانوا يرون للانسان إلا كمال الحيوان ولا فضيلة إلا في الاكل والشرب ولا سعادة إلا في التمكن من التوسع والاسترسال من اللذائذ الحيوانية كما قال تعالى: " أولئك كالانعام " الاعراف: 179، وقال: " والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الانعام " سورة محمد: 12. وتارة قالوا: " ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون " وهو في معنى قولهم في القصة السابقة: " يريد أن يتفضل عليكم " يريدون به أن في اتباعه وإطاعته فيما يأمركم به مع كونه بشرا مثلكم من غير فضل له عليكم خسرانكم وبطلان سعادتكم في

[ 32 ]

الحياة إذ لا حياة إلا الحياة الدنيا ولا سعادة فيها إلا الحرية في التمتع من لذائذها، وفي طاعة من لا فضل له عليكم رقيتكم وزوال حريتكم وهو لخسران. وتارة قالوا: " أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون " أي مبعوثون من قبوركم للحساب والجزاء " هيهات هيهات لما توعدون " وهيهات كلمة استبعاد وفي تكرارة مبالغة في الاستبعاد " إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا " أي يموت قوم منا في الدنيا ويحيا آخرون فيها لانزال كذلك " وما نحن بمبعوثين " للحياة في دار أخرى وراء الدنيا. ويمكن أن يحمل قولهم: " نموت ونحيا " على التناسخ وهو خروج الروح بالموت من بدن وتعلقها ببدن آخر إنساني أو غير إنساني فإن التناسخ مذهب شائع عند الوثنيين وربما عبروا عنه بالولادة بعد الولادة لكنه لا يلائم سياق الآيات كثير ملاءمة. وتارة قالوا: " إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين " يريدون به تكذيب دعواه الرسالة مع ما احتوت عليه دعوته وقد أنكروا التوحيد والمعاد قبل ذلك. ومرادهم بقولهم: " نحن " نفسهم وعامتهم أشركوا أنفسهم عامتهم لئلا يتهمهم العامة فيما يأمرونهم به من الكفر بالرسول، ويمكن ان يكون المراد به أنفسهم خاصة دون العامة وإنما أخبروا بعدم إيمانهم ليقتدوا بهم فيه. وقد نشأت هذه الاقاويل من اجتماع الصفات التي وصفهم الله به في أول الآيات وهي إنكار التوحيد والنبوة والمعاد والاتراف في الحياة الدنيا. واعلم أن في قوله في صدر الآيات: " وقال الملا من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم " قدم قوله: " من قومه " على " الذين كفروا " بخلاف ما في القصة السابقة من قوله: " فقال الملا الذين كفروا من قومه " لانه لو وقع بعد " الذين كفروا " اختل به ترتيب الجمل المتوالية " كفروا " " وكذبوا " " واترفناهم " ولو وقع بعد الجميع طال الفصل. قوله تعالى: " قال رب انصرني " بما كذبون " تقدم تفسيرة في القصة السابقة. قوله تعالى: " قال عما قليل ليصبحن نادمين " استجابة لدعوة الرسول وصيرورتهم نادمين كناية عن حلول عذاب الاستئصال بهم، وقوله: " عما قليل " عن

[ 33 ]

بمعنى بعد و " ما " لتأكيد القلة وضمير الجمع للقوم، والكلام مؤكد بلام القسم ونون التأكيد، والمعنى: أقسم لتأخذنهم الندامة بعد قليل من الزمان مشاهدة حلول العذاب. قوله تعالى: " فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين "، الباء في " بالحق " للمصاحبة وهو متعلق بقوله " فأخذتهم " أي أخذتهم الصيحة أخذا مصاحبا للحق، أو للسببية، والحق وصف أقيم قام موصوفه المحذوف والتقدير فأخذتهم الصيحة بسبب الامر الحق أو القضاء الحق كما قال: " فإذا جاء امر الله قضي بالحق "، المؤمن: 78. والغثاء بضم الغين وربما شددت الثاء: ما يحمله السيل من يابس النبات والورق والعيدان البالية، وقوله: " فبعدا للقوم الظالمين " إبعاد ولعن لهم أو دعاء عليهم. والمعنى: فأنجزنا للرسول ما وعدناه من عذابهم فأخذتهم الصيحة السماوية وهي العذاب فأهلكناهم وجعلناهم كغثاء السيل فليبعد القوم الظالمون بعدا. ولم يصرح باسم هؤلاء القوم الذين أنشأهم بعد قوم نوح ثم أهلكهم ولا باسم رسولهم، وليس من البعيد أن يكونوا هم ثمود قوم صالح عليه السلام فقد ذكر الله سبحانه في قصتهم في مواضع من كلامه أنهم كانوا بعد قوم نوح وقد أهلكوا بالصيحة. قوله تعالى: " ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون " تقدم توضيح مضمون الآيتين كرارا. قوله تعالى: " ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه "، إلى آخر الآية يقال: جاؤا تترى أي فرادى يتبع بعضهم بعضا، ومنه التواتر وهو تتابع الشئ وترا وفرادى، وعن الاصمعي: واترت الخبر أتبعت بعضه بعضا وبين الخبرين هنيهة انتهى. والكلام من تتمة قوله: " ثم أنشأنا من بعدهم قرونا " و " ثم " للتراخي بحسب الذكر دون الزمان، والقصة إجمال منتزع من قصص الرسل وأممهم بين أمة نوح والامة الناشئة بعدها وبين أمة موسى. يقول تعالى: ثم أنشأنا بعد تلك الامة الهالكة بالصيحة بعد أمة نوح قرونا وأمما آخرين وأرسلنا إليهم رسلنا متتابعين يتبع بعضهم بعضا كلما جاء أمة رسولها المبعوث

[ 34 ]

منها إليها كذبوه فأتبعنا بعضهم أي بعض هذه الامم بعضا أي بالعذاب وجعلناهم أحاديث أي صيرناهم قصصا وأخبارا بعد ما كانوا أعيانا ذوات آثار فليبعد قوم لا يؤمنون. والآيات تدل على أنه كان من سنة الله إنشاء قرن بعد قرن وهدايتهم إلى الحق بإرسال رسول بعد رسول وهي سنة الابتلاء والامتحان ومن سنة القرون تكذيب الرسول بعد الرسول ثم من سنة الله ثانيا - وهي سنة المجازاة - تعذيب المكذبين واتباع بعضهم بعضا. وقوله: " وجعلناهم أحاديث " أبلغ كلمة تفصح عن القهر الالهي الذي يغشى أعداء الحق والمكذبين لدعوته حيث يمحو العين ويعفو الاثر ولا يبقى إلا الخبر. قوله تعالى: " ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين " الآيات هي العصا واليد البيضاء وسائر الآيات التي أراها موسى فرعون وقومه، والسلطان المبين الحجة الواضحة، وتفسير بعضهم السلطان بالعصا غير سديد. قوله تعالى: " إلى فرعون وملائه فاستكبروا وكانوا قوما عالين " قيل: إنما ذكر ملا فرعون واكتفى بهم عن ذكر قومه لانهم الاشراف المتبوعون وسائر القوم اتباع يتبعونهم. والمراد بكونهم عالين أنهم كانوا يعلون على غيرهم فيستعبدونهم كما علوا على بني إسرائيل واستعبدوهم فالعلو في الارض كناية عن التطاول على أهلها وقهرهم على الطاعة. قوله تعالى: " فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون " المراد بكونهما بشرين مثلهم نفي أن يكون لهما فضل عليهم، وبكون قومهما لهم عابدين فضلهم عليهما كما فضلوا على قومهما فإذا كان الفضل لهم عليهما كان من الواجب أن يعبداهم كما عبدهم قومهما لا أن يؤمنوا بهما كما قال فرعون لموسى: " لئن اتخذت إلها غيري لاجعلنك من المسجونين " ثم ختم تعالى القصة بذكر هلاكهم فقال: " فكذبوهما فكانوا من المهلكين " ثم قال: " ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون " والمراد بهم بنو إسرائيل لان التوراة إنما نزلت بعد هلاك فرعون وملائه. قوله تعالى: " وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين "

[ 35 ]

تقدم أن الآية هي ولادة عيسى عيه السلام لا لخارقة للعادة وإذ كانت أمرا قائما به وبامه معا عدا جميعا آية واحدة. والايواء من الاوي وأصله الرجوع ثم استعمل في رجوع الانسان إلى مسكنة ومقره، وآواه إلى مكان كذا أي جعله مسكنا له والربوة المكان المرتفع المستوي الواسع، والمعين الماء الجاري. والمعني وجعلنا عيسى بن مريم وأمه مريم آية دالة على ربوبيتنا وأسكناهما في مكان مرتفع مستو وسيع فيه قرار وماء جار. قوله تعالى: " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم " خطاب لعامة الرسل بأكل الطيبات وكأن المراد بالاكل منها الارتزاق بها بالتصرف فيها سواء كان بأكل أو غيره وهو استعمال شائع. والسياق يشهد بأن في قوله: " كلوا من الطيبات " امتنانا منه تعالى عليهم، ففي قوله عقيبه: " واعملوا صالحا " أمر بمقابلة المنة بصالح العمل وهو شكر للنعمة وفي تعليله بقوله: " إني بما تعملون عليم " تحذير لهم من مخالفة أمره وبعث إلى ملازمه التقوى. قوله تعالى: " إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون " تقدم تفسير نظيرة الآية في سورة الانبياء. قوله تعالى: " تقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون " في المجمع أن التقطع والتقطيع بمعنى واحد، والزبر بضمتين جمع زبور وهو الكتاب، والكلام متفرع على ما تقدمه، والمعنى أن الله أرسل إليهم رسله تترى والجميع أمة وواحدة لهم رب واحد دعاهم إلى تقواه لكنهم لم يأتمروا بأمره وقطعوا أمرهم بينهم قطعا وجعلوه كتبا اختص بكل كتاب حزب وكل حزب بما لديهم فرحون. وفي قراة ابن عامر " زبرا " بفتح الباء وهو جمع زبرة وهي الفرقة، والمعنى وتفرقوا في أمرهم جماعات وأحزابا كل حزب بما لديهم فرحون وهي أرجح. قوله تعالى: " فذرهم في غمرتهم حتى حين " قال في المفردات: الغمرة معظم الماء الساترة لمقرها وجعل مثلا للجهالة التي يغمر صاحبها، انتهى. وفي الآية تهديد

[ 36 ]

بالعذاب، وقد تقدمت إشارة إلى أن من سنته تعالى المجازاة بالعذاب بعد تكذيب الرسالة، وفي تنكير " حين " إشارة إلى إتيان العذاب لموعود بغتة. (بحث روائي) في نهج البلاغة: يا أيها الناس إن الله قد أعاذكم من أن يجور عليكم ولم يعذكم من أن يبتليكم وقد قال جل من قائلي: " إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين ". وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " فجعلناهم غثاء " الغثاء اليابس الهامد من نبات الارض. وفيه في قوله تعالى: " إلى ربوة ذات قرار ومعين " قال: الربوة الحيرة وذات قرار ومعين الكوفة. وفي المجمع: " وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين " قيل: حيرة الكوفة وسوادها، والقرار مسجد الكوفة، والمعين الفرات عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام. أقول: وروي في الدر المنثور عن ابن عساكر عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الربوة هي دمشق الشام، وروى أيضا عن ابن عساكر وغيره عن مرة البهزي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنها الرملة، والروايات جميعا لا تخلو من الضعف. وفي المجمع: " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات " روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإنه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات " وقال: " يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ". أقول: ورواه في الدر المنثور عن أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " أمة واحدة " قال: على مذهب واحد. وفيه في قوله: " كل حزب بما لديهم فرحون " قال: كل من اختار لنفسه دينا فهو فرح به.

[ 37 ]

أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين - 55. نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون - 56. إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون - 57. والذين هم بآيات ربهم يؤمنون - 58. والذين هم بربهم لا يشركون - 59. والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون - 60. أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون - 61. ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون - 62. بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون - 63. حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجئرون - 64. لا تجئروا اليوم إنكم منا لا تنصرون - 65. قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون - 66. مستكبرين به سامرا تهجرون - 67. أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الاولين - 68. أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون - 69. أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون - 70. ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والارض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون - 71. أم تسئلهم خرجا فخراج ربك

[ 38 ]

خير وهو خير الرازقين - 72. وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم - 73. وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون - 74. ولو رمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون - 75. ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون - 76. حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون - 77. (بيان) الآيات متصلة بقوله السابق: " فذرهم في غمرتهم حتى حين " فإنه لما عقب قصص الرسل باختلاف الناس في أمر الدين وتحزبهم أحزابا كل حزب بما لديهم فرحون أو عدهم بعذاب مؤجل لا مناص لهم عنه ولا مخلص منه فليتيهوا في غمرتهم ما شاؤا فسيغشاهم العذاب ولا محالة. فنبههم في هذه الآيات أن توهمهم أن ما مدهم الله به من مال وبنين مسارعة لهم في الخيرات خطأ منهم وجهل بحقيقة الحال، ولو كان ذلك من الخير لم يأخذ العذاب مترفيهم بل المسارعة في الخيرات هو ما وفق الله المؤمنين له من الاعمال الصالحة وما يترتب عليها من جزيل الاجر وعظيم الثواب في الدنيا والآخرة فهم يسارعون إليها فيسارع لهم فيها. فالعذاب مدركهم لا محالة والحجة تامة عليهم ولا عذر لهم يعتذرون به كعدم تدبر القول أو كون الدعوة بدعا لا سابقة له أو عدم معرفة الرسول أو كونه مجنونا مختل القول أو سؤاله منهم خرجا بل هم أهل عناد ولجاج لا يؤمنون بالحق حتى يأتيهم عذاب لا مرد له. قوله تعالى: " أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات

[ 39 ]

بل لا يشعرون " " نمدهم " - بضم النون - من الامداد والمد والامداد بمعنى واحد وهو تتميم نقص الشئ وحفظه من أن ينقطع أو ينفد، قال الراغب: وأكثر ما يستعمل الامداد في المحبوب والمد في المكروه، فقوله: " نمدهم " من الامداد المستعمل في المكروه والمسارعة لهم في الخيرات إفاضة الخيرات بسرعة لكرامتهم عليه فيكون الخيرات على ظنهم هي المال والبنون سورع لهم فيها. والمعنى: أيظن هؤلاء أن ما نعطيهم في مدة المهلة من مال وبنين خيرات نسارع لهم فيها لرضانا عنهم أو حبنا لاعمالهم أو كرامتهم علينا ؟ لا، بل لا يشعرون أي إن الامر على خلاف ما يظنون وهم في جهل بحقيقة الامر وهو إن ذلك إملاء منا واستدراج وإنما نمدهم في طغيانهم يعمهون كما قال تعالى: " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين " الاعراف: 183. قوله تعالى: " إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون " إلى آخر الآيات الخمس، يبين تعالى في هذه الآيات الخمس بمعونة ما تقدم أن الذي يظن هؤلاء الكفار أن المال والبنين خيرات نسارع لهم فيها خطأ منهم فليست هي من الخيرات في شئ بل استدراج واملاء وإنما الخيرات التي يسارع فيها هي ما عند المؤمنين بالله ورسله واليوم الآخر الصالحين في أعمالهم. فأفصح تعالى عن وصفهم فقال: " إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون "، قال الراغب: الاشفاق عناية مختلطة بخوف لان المشفق يحب المش فق عليه ويخاف ما يلحقه، قال تعالى: " وهم من الساعة مشفقون " فإذا عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، وإذا عدي بفي فمعنى العناية فيه أظهر، قال: " إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين " " مشفقون منها ". انتهى. والآية تصفهم بأنهم اتخذوا الله سبحانه ربا يملكهم ويدبر أمرهم، ولازم ذلك أن يكون النجاة والهلاك دائرين مدار رضاه وسخطه يخشونه في أمر يحبونه وهو نجاتهم وسعادتهم فهم مشفقون من خشيته وهذا هو الذي يبعثهم إلى الايمان بآياته وعبادته، وقد ظهر بما مرمن المعنى أن الجمع في الآية بين الخشية والاشفاق ليس تكرارا مستدركا. ثم قال: " والذين هم بآيات ربهم يؤمنون " وهي كل ما يدل عليه تعالى بوجه

[ 40 ]

ومن ذلك رسله الحاملون لرسالته وما أيدوا به من كتاب وغيره وما جاؤا به من شريعة لان إشفاقهم من خشية الله يبعثهم إلى تحصيل رضاه ويحملهم على إجابته إلى ما يدعوهم إليه وائتمارهم لما يأمرهم به من طريق الوحي والرسالة. ثم قال: " والذين هم بربهم لا يشركون " والايمان بآياته هو الذي دعاهم إلى نفي الشركاء في العبادة فإن الايمان بها إيمان بالشريعة التي شرعت عبادته تعالى والحجج التي دلت على توحده في ربوبيته وألوهيته. على أن جميع الرسل والانبياء عليهم السلام إنما جاؤا من قبله وإرسال الرسل لهداية الناس إلى الحق الذي فيه سعادتهم من شؤون الربوبية، ولو كان له شريك لارسل رسولا، ومن لطيف كلام علي عليه أفضل السلام قوله: لو كان لربك شريك لاتتك رسله. " ثم قال: " والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون " الوجل الخوف، وقوله: " يؤتون ما آتوا " أي يعطون ما أعطوا من المال بالانفاق في سبيل الله وقيل: المراد بإيتاء ما آتو إتيانهم بكل عمل صالح، وقوله: " وقلوبهم وجلة " حال من فاعل " يؤتون ". والمعنى والذين ينفقون ما أنفقوا أو يأتون بالاعمال الصالحة والحال أن قلوبهم خائفة من أنهم سيرجعون إلى ربهم أي إن الباعث لهم على الانفاق في سبيل الله أو على صالح العمل ذكرهم رجوعهم المحتوم إلى ربهم على وجل منه. وفي الآية دلالة على إيمانهم باليوم الاخر وإتيانهم بصالح العمل وعند ذلك تعينت صفاتهم أنهم الذين يؤمنون بالله وحده لا شريك له وبرسله وباليوم الآخر ويعملون الصالحات. ثم قال: " اولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون " الظاهر أن اللام في " لها " بمعنى " إلى " و " لها " متعلق بسابقون، والمعنى اولئك الذين وصفناهم هم يسارعون في الخيرات من الاعمال وهم سابقون إليها أي يتسابقون فيها لان ذلك لازم كون كل منهم مريدا للسبق إليها. فقد بين في الآيات أن الخيرات هي الاعمال الصالحة المبتنية على الاعتقاد الحق الذي عند هؤلاء المؤمنين وهم يسارعون فيها وليست الخيرات ما عند اولئك الكفار

[ 41 ]

وهم يعدونها بحسبانهم مسارعة من الله سبحانه لهم في الخيرات. قال في التفسير الكبير: وفيه يعني قوله: " اولئك يسارعون في الخيرات " وجهان: أحدهما: أن المراد رغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبا درونها لئلا تفوت عن وقتها ولكيلا تفوتهم دون الاحترام. والثاني: أنهم يتعجلون في الدنيا أنواع النفع ووجوه الاكرام كما قال: " فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة " " وآتيناه في الدنيا أجره وإنه في الآخرة لمن الصالحين " لانهم إذا سورع لهم بها فقد سارعوا في نيلها وتعجلوها وهذا الوجه أحسن طباقا للآية المتقدمة لان فيه إثبات ما نفي عن الكفار للمؤمنين. انتهى. أقول: إن الذي نفي عن الكفار في الآية المتقدمة هو مسارعة الله للكفار في الخيرات والذي أثبت للمؤمنين في هذه الآية هو مسارعة الممنين في الخيرات، والذي وجهه في هذا الوجه أن مسارعتهم في الخيرات مسارعة من الله سبحانه بوجه فيبقى عليه أن يبين الوجه في وضع مسارعتهم في الآية موضع مسارعته تعالى وتبديلها منها، ووجهه بعضهم بأن تغيير الاسلوب للايماء إلى كمال استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسن أعمالهم، وهو كما ترى. والظاهر أن هذا التبديل إنما هو في قوله في الآية المتقدمة: " نسارع لهم في الخيرات " والمراد بيان أنهم يحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين خيرات يتسارعون إليها لكرامتهم وهم كافرون لكن لما كان ذلك بإعطاء من الله تعالى لا بقدرتهم عليها من أنفسهم نسبت المسارعة إليه تعالى ثم نفيت بالاستفهام الانكاري، واثبت ما يقابله على الاصل للمؤمنين. فمحصل هذا النفي والاثبات أن المال والبنين ليست خيرات يتسارعون إليها ولا هم مسارعون إلى الخيرات بل الاعمال الصالحة وآثارها الحسنة هي الخيرات والمؤمنون هم المسارعون إلى الخيرات. قوله تعالى: " ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون " الذي يعطيه السياق أن في الآية ترغيبا وتحضيضا على ما ذكره من صفات المؤمنين ودفعا لما ربما ينصرف الناس بتوهمه عن التلبس بكرامتها من وجهين احدهما

[ 42 ]

أن التلبس بها أمر سهل في وسع النفوس وليس بذاك الصعب الشاق الذي يستوعره المترفون، والثاني أن الله لا يضيع عملهم الصالح ولا ينسى أجرهم الجزيل. فقوله: " ولا نكلف نفسا إلا وسعها " نفي للتكليف الحرجي الخارج عن وسع النفوس أما في الاعتقاد فإنه تعالى نصب حججا ظاهرة وآيات باهرة تدل على ما يريد الايمان به من حقائق المعارف وجهز الانسان بما من شأنه أن يدركها ويصدق بها وهو العقل ثم راعى حال العقول في اختلافها من جهة قوة الادراك وضعفه فأراد من كل ما يناسب مقدار تحمله وطوقه فلم يرد من العامه ما يريده من الخاصة ولم يسأل الابرار عما سأل عنه المقربين ولا ساق المستضعفين بما ساق به المخلصين. وأما في العمل فإنما ندب الانسان منه إلى ما فيه خيره في حياته الفرديه والاجتماعية الدنيوية وسعادته في حياته الاخروية، ومن المعلوم أن خير كل نوع من الانواع ومنها الانسان إنما يكون فيما يتم به حياته وينتفع به في عيشته وهو مجهز بما يقوى على إتيانه وعمله، وما هذا شأنه لا يكون حرجيا خارجا عن الوسع والطاقة. فلا تكليف حرجيا في دين الله بمعنى الحكم الحرجي في تشريعه مبنيا على مصلحة حرجية، وبذلك امتن الله سبحانه على عباده، وطيب نفوسهم ورغبهم إلى ما وصفه من حال المؤمنين. والآية " ولا نكلف نفسا إلا وسها " تدل على ذلك وزيادة فإنها تدل على نفي التكليف المبني على الحرج في أصل تشريعه كتشريع الرهبانية والتقرب بذبح الاولاد مثلا، ونفي التكليف الذي هو في نفسه غير حرجي لكن اتفق أن صار بعض مصاديقه حرجيا لخصوصية في المورد كالقيام في الصلاة للمريض الذي لا يستطيعه فالجميع منفي بالآية وإن كان الامتنان والترغيب المذكوران يتما بنفي القسم الاول. والدليل عليه في الآية تعلق نفي التكليف بقوله: " نفساو هو نكرة في سياق النفي يفيد العموم، وعليه فأي نفس مفروضة في أي حادثة لا تكلف إلا وسعها ولا يتعلق بها حكم حرجي سواء كان حرجيا من أصله أو صار حرجيا في خصوص المورد. وقد ظهر أن في الآية إمضاء لدرجات الاعتقاد بحسب مراتب العقول ورفعا للحرج سواء كان في أصل الحكم أو طارئا عليه. وقوله: " وعندنا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون " ترغيب لهم بتطييب

[ 43 ]

نفوسهم بأن عملهم لا يضيع وأجرهم لا يتخلف والمراد بنطق الكتاب إعرابه عما أثبت فيه إعرابا لا لبس فيه وذلك لان أعمالهم مثبتة في كتاب لا ينطق إلا بما هو حق فهو مصون عن الزيادة والنقيصة والتحريف، والحساب مبني على ما أثبت فيه كما يشير إليه قوله: " ينطق " والجزاء مبني على ما يستنتج من الحساب كما يشير إليه قوله: " وهم لا يظلمون " فهم في أمن من الظلم بنسيان أجرهم أو بترك إعطائه أو بنقصه أو تغييره كما أنهم في أمن من أن لا يحفظ أعمالهم أو تنسى بعد الحفظ أو تتغير بوجه من وجوه التغير. قال الرازي في التفسير الكبير فإن قيل: هؤلاء الذين يعرض عليهم ذلك الكتاب إما أن يكونوا محيلين الكذب على الله تعالى أو مجوزين ذلك عليه فإن أحالوه عليه فإنهم يصدقونه في كل ما يقول سواء وجد الكتاب أو لم يوجد، وإن جوزه عليه لم يثقو بذلك الكتاب لتجويزهم أنه سبحانه كتب فيه خلاف ما حصل فعلى التقديرين لا فائدة في ذلك الكتاب. قلنا: يفعل الله ما يشاء، وعلى أنه لا يبعد أن يكون ذلك مصلحة للمكلفين من الملائكة. انتهى. أقول: والذي أجاب به مبني على مسلكه من نفي الغرض عن فعله تعالى وتجويز الارادة الجزافيه تعالى عن ذلك، والاشكال مطرد في سائر شؤون يوم القيامة التي أخبر الله سبحانه بها كالحشر والجمع وإشهاد الشهود ونشر الكتب والدواوين والصراط والميزان والحساب. والجواب عن ذلك كله: أنه تعالى مثل لنا ما يجري على الانسان يوم القيامة في صورة القضاء والحكم الفصل، ولا غنى للقضاء بما أنه قضاء عن الاستناد إلى الحجج والبينات كالكتب والشهود والامارات والجمع بين المتخاصمين ولا يتم دون ذلك البتة. نعم لو أغمضنا النظر عن ذلك كان ظهور أعمال الانسان له في مراحل رجوعه إلى الله سبحانه بإذنه، فافهمه. قوله تعالى: " بل قلوبهم في غمرة من هذاو لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، المناسب لسياق الآيات أن يكون " هذا " إشارة إلى ما وصفته الآيات السابقة من حال المؤمنين ومسارعتهم في الخيرات، ويمكن أن يكون إشارة إلى القرآن كما يؤيده

[ 44 ]

قوله بعد: " قد كانت آياتي تتلي عليكم " والغمرة الغفلة الشديدة أو الجهل الشديد الذي غمرهم، وقوله: " ولهم أعمال من دون ذلك " الخ، أي من غير ما وصفناه من حال المؤمنين وهو كناية عن أن لهم شاغلا يشغلهم عن هذه الخيرات والاعمال الصالحة وهو الاعمال الرديئة الخبيثة التي هم لها عاملون. والمعنى: بل الكفار في غفلة شديدة أو جهل شديد عن هذا الذي وصفنا به المؤمنين ولهم أعمال رديئة خبيثة من دون ذلك هم لها عاملون في شاغلتهم ومانعتهم. قوله تعالى: " حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون " الجؤار - بضم الجيم - صوت الوحش كالظباء ونحوها عند الفزع كني به عن رفعهم الصوت بالاستغاثة والتضرع، وقيل: المراد به ضجتهم وجزعهم والآيات التالية تؤيد المعنى الاول. وإنما جعل مترفيهم متعلق العذاب لان الكلام فيمن ذكره قبلا بقوله: " أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين " وهم الرؤساء المتنعمون منهم وغيرهم تابعون لهم. قوله تعالى: " لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون " العدول عن سياق الغيبة إلى الخطاب لتشديد التوبيخ والتقريع ولقطع طمعهم في النجاة بسبب الاستغاثة وأي رجاء وأمل لهم فيها فإن إخبار الوسائط أنهم لا ينصرون لدعاء أو شفاعة لا يقطع طمعهم في النصر كما يقطعه إخبار من إليه النصر نفسه. قوله تعالى: " قد كانت آياتي تتلى عليكم - إلى قوله - تهجرون " النكوص: الرجوع القهقري، والسامر من السمر وهو التحديث بالليل، قيل: السامر كالحاضر يطلق على المفرد والجمع، وقرئ " سمرا " - بضم السين وتشديد الميم - جمع سامر وهو أرجح، وقرئ أيضا " سمارا " - بالضم والتشديد - والهجر: الهذيان. والفصل في قوله: " قد كانت آياتي " الخ، لكونه في مقام التعليل، والمعنى: إنكم منا لا تنصرون لانه قد كانت آياتي تتلى وتقرأ عليكم فكنتم تعرضون عنها وترجعون إلى أعقابكم القهقري مستكبرين بنكوصكم تحدثون في أمره في الليل تهجرون وتهذون، وقيل: ضمير " به " عائد إلى البيت أو الحرم وهو كما ترى. قوله تعالى: " أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الاولين " شروع في قطع أعذارهم في الاعراض عن القرآن النازل لهدايتهم وعدم استجابتهم للدعوة الحقة التي قام بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

[ 45 ]

فقوله: " أفلم يدبروا القول " الاستفهام فيه للانكار واللام في " القول " للعهد والمراد بلقرآن المتلو عليهم، والكلام متفرع على ما تقدمه من كونهم في غفلة منه وشغل يشغلهم عنه، والمعنى: هل إذا كانوا على تلك الحال لم يدبروا هذا القول المتلو عليهم حتى يعلموا أنه حق من عند الله فيؤمنوا به. وقوله: " أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الاولين " " أم " فيه وفيما بعده منقطعة في معنى الاضراب، والمعنى: بل أجاءهم شئ لم يأت آباءهم الاولين فيكون بدعا ينكر ويحترز منه. وكون الشئ بدعا محدثا لا يعرفه السابقون وإن لم يستلزم كونه باطلا غير حق على نحو الكلية لكن الرسالة الالهية لما كانت لغرض الهداية لو صحت وجبت في حق الجميع فلو لم يأت الاولين كان ذلك حجة قاطعة على بطلانها. قوله تعالى: " أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون " المراد بمعرفة الرسول معرفته بنسبه وحسبه وبالجملة بسجاياه الروحية وملكاته النفسية من اكتسابية وموروثة حتى يتبين به أنه صادق فيما يقول مؤمن بما يدعو إليه مؤيد من عند الله وقد عرفوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم سوابق حاله قبل البعثة، وقد كان يتيما فاقد اللابوين لم يقرأ ولم يكتب ولم يأخذأد با من مؤدب وتربية من مرب ثم لم يجدوا عنده ما يستقبحه عقل أو يستنكره طبع أو يستهجنه رأي ولا طمعا في ملك أو حرصا على مال أو ولعا بجاه، وهو على ما هو سنين من عمره فإذا هو ينادي للفلاح والسعادة ويندب إلى حقائق معارف تبهر العقول ويدعو إلى شريعة تحير الالباب ويتلو كتابا. فهم قد عرفوا رسولهم صلى الله عليه وآله وسلم بنعوته الخاصة المعجزة لغيره، ولو لم يكونوا يعرفونه لكان لهم عذرا في إعراضهم عن دينه واستنكافهم عن الايمان به لان معنى عدم معرفته كذلك وجدانه على غير بعض هذه النعوت أو عدم إحرازه فيه، ومن المعلوم أن إلقاء الزمام إلى من هذا شأنه مما لا يجوزه العقل. قوله تعالى: " أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون " وهذا عذر آخر لهم تشبثوا به إذ قالوا: " يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون " الحجر: 6 ذكره ورده بلازم قوله: " بل جاءهم بالحق ". فمدلول قوله: " بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون " إضراب عن جملة

[ 46 ]

محذوفة والتقدير إنهم كاذبون في قولهم. " به جنة " وإعتذارهم عن عدم إيمانهم به بذلك بل إنما كرهوا الايمان به لانه جاء بالحق وأكثرهم للحق كارهون. ولازمه رد قولهم بحجة يلوح إليها هذا الاضراب، وهي أن قولهم: " به جنة " لو كان حقا كان كلامه مختل النظم غير مستقيم المعنى مدخولا فيه كما هو مدخول في عقله، غير رام إلى مرمى صحيح، لكن كلامه ليس كذلك فلا يدعو إلا إلى حق، ولا يأتي إلا بحق، وأين ذلك من كلام مجنون لا يدري ما يريد ولا يشعر بما يقول. وإنما نسب الكراهة إلى أكثرهم لان فيهم مستضعفين لا يعبؤ بهم أرادوا أو كرهوا. قوله تعالى: " ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والارض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون " لما ذكر أن أكثرهم للحق كارهون وإنما يكرهون الحق لمخالفته هواهم فهم يريدون من الحق أي الدعوة الحقة أن يتبع أهواءهم وهذا مما لا يكون البتة. إذ لو اتبع الحق أهواءهم فتركوا وما يهوونه من الاعتقاد والعمل فعبدوا الاصنام واتخذوا الارباب ونفوا الرسالة والمعاد واقترفوا ما أرادوه من الفحشاء والمنكر والفساد جاز أن يتبعهم الحق في غير ذلك من الخليقة والنظام الذي يجري فيها بالحق إذ ليس بين الحق والحق فرق فأعطي كل منهم ما يشتهيه من جريان النظام وفيه فساد السماوات والارض ومن فيهن واختلال النظام وانتفاض القوانين الكلية الجارية في الكون فمن البين أن الهوى لا يقف على حد ولا يستقر على قرار. وتقرير آخر أدق وأوفق لما يعطيه القرآن من حقيقة الدين القيم أن الانسان حقيقة كونية مرتبطة في وجودها بالكون العام وله في نوعيته غاية هي سعادته وقد خطله طريق إلى سعادته وكماله ينالها بطي الطريق المنصوب إليها نظير غيره من الانواع الموجودة، وقد جهزة الكون العام وخلقته الخاصة به من القوى والآلات بما يناسب سعادته والطريق المنصوب إليها وهي الاعتقاد والعمل اللذان ينتهيان به إلى سعادته. فالطريق التي تنتهى بالانسان إلى سعادته أعنى الاعتقادات والاعمال الخاصة لمتوسطة بينه وبين سعادته وهي التي تسمى الدين وسنة الحياة متعينة حسب

[ 47 ]

إقتضاء النظام العام الكوني والنظام الخاص الانساني الذي نسميه الفطرة وتابعة لذلك. وهذا هو الذي يشير تعالى إليه بقوله: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " سورة الروم: 30. فسنة الحياة التي تنتهي بسالكها إلى السعادة الانسانية طريقة متعينة يقتضيها النظام بالحق وتكشف عنها تجهيزات وجوده بالحق، وهذا الحق هو القوانين الثابتة غير المتغيرة التي تحكم في النظام الكوني الذي أحد أجزائه النظام الانساني وتدبره وتسوقه إلى غاياته وهو الذي قضي به الله سبحانه فكان حتما مقضيا. فلو اتبع الحق أهواءهم فاقتضى لهم من الشرع ما تجازف به أهواؤهم لم يكن ذلك إلا بتغير أجزاء الكون عما هي عليه وتبدل العلل والاسباب غيرها وتغير الروابط المنتظمة إلى روابط جزافية مختلة متدافعة توافق مقتضياتها مجازفات أهوائهم، وفي ذلك فساد السماوات والارض ومن فيهن في أنفسها والتدبير الجاري فيها لان كينونتها وتدبير هامختلطان غير متمايزين، والخلق والامرمتصلان غير منفصلين. وهذا هو الذي يشير إليه قوله: " ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والارض ومن فيهن. وقوله: " بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون " لا ريب أن المراد بالذكر هو القرآن كما قال: " وهذا ذكر مبارك " الانبياء: 50، وقال: " وإنه لذكر لك ولقومك "، الزخرف: 44 إلى غير ذلك من الآيات، ولعل التعبير عنه بالذكر بعد قوله: " أم يقولون به جنة " نوع مقابله لقولهم: " يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون " الحجر: 6. وكيف كان فقد سمي ذكر الانه يذكرهم بالله أو يذكر لهم دين الله من الاعتقاد الحق والعمل الصالح، والثاني أوفق لصدر الآية بما تقدم من معناه، وإنما أضيف إليهم لان الدين أعني الدعوءة الحقة ختلفة بالنسبة إلى الناس بالاجمال والتفصيل والذي يذكره القرآن آخر مراحل التفصيل لكون شريعته آخر الشرائع. والمعنى: لم يتبع الحق أهواءهم بل جئناهم بكتاب يذكرهم - أو يذكرون به - دينهم الذي يختص بهم ويتفرع عيه أنهم عن دينهم الخاص بهم معرضون. وقال كثير منهم إن إضافة الذكر إليهم للتشريف نظير قوله: " وإنه لذكر

[ 48 ]

لك ولقومك وسوف تسألون " الزخرف: 44، والمعنى: بل أتيناهم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجب عليهم أن يقبلوا عليه أكمل إقبال فهم بما فعلوه من النكوص عن فخرهم وشرفهم أنفسهم معرضون. وفيه أنه لا ريب في أن القرآن الكريم شرف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ أنزل عليه ولاهل بيته إذ نزل في بيتهم، وللعرب إذ نزل بلغتهم وللامة إذ نزل لهدايته غير أن الاضافة في الآية ليست لهذه العناية بل لعناية اختصاص هذا الدين بهذه الامة وهو الاوفق لصدر الآية بالمعنى الذي تقدمت الاشارة إليه. قوله تعالى: " أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين "، قال في مجمع البيان: أصل الخراج والخرج واحد وهو الغلة التي يخرج على سبيل الوظيفة. انتهى. وهذا رابع الاعذار التي ذكرت في هذه الآيات وردت ووبخوا عليها وقد ذكره الله بقوله: " أم تسألهم خرجا " أي مالا يدفعونه اليك على سبيل الرسم والوظيفة ثم ذكر غني النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: " فخراج ربك خير وهو خير الرازقين " أي إن اله هو رازقك ولاحاجه لك إلى خرجهم، وقد تكرر الامر بإعلامهم ذلك في الآيات " قل لا أسألكم عليه أجرا " الانعام: 90 الشورى: 23. وقد تمت بما ذكر في الآية أربعة من الاعذار المردودة إليهم وهي مختلفة فأولها " أفلم يدبروا القول " راجع إلى القرآن والثاني " أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الاولين " إلى الدين الذي إليه الدعوة، والثالث " أم يقولون به جنة " إلى نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم والرابع " أم تسألهم خرجا " إلى سيرته. قوله تعالى: " وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون " النكب والنكوب العدول عن الطريق والميل عن الشئ. قد تقدم في تفسير سورة الفاتحة أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا يختلف ولا يتخلف في حكمه وهو إيصاله سالكيه إلى الغاية المقصودة، وهذه صفة الحق فإن الحق واحد لا يختلف أجزاؤه بالتناقض والتدافع ولا يتخلف في مطلوبه الذي يهدي إليه فالحق صراط مستقيم و، إذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يهدي إلى الحق كان لازمه هذا الذي ذكره أنه يهدي إلى صراط مستقيم.

[ 49 ]

ثم إن الذين كفروا لما كانوا كارهين للحق كما ذكره فهم عادلون عن الصراط أي الصراط المستقيم مائلون إلى غيره. وإنما أورد من أوصافهم عدم إيمانهم بالآخرة واقتصر عليه لان دين الحق مبني على أساس أن للانسان حياة خالدة لا تبطل بالموت وله فيها سعادة يجب أن تقتنى بالاعتقاد الحق والعمل الصالح وشقاوة يجب أن تجتنب، وهؤلاء لنفيهم الحياة الآخرة يعدلون عن الحق والصراط المستقيم. وبتقرير آخر: دين الحق مجموع تكاليف اعتقادية وعمية والتكليف لا يتم إلا بحساب وجزاء، وقد عين لذلك يوم القيامة، وإذ لا يؤمن هؤلاء بالآخرة لغى الدين عندهم فلا يرون من الحياة إلا الحياة الدنيا المادية ولا يبقي من السعادة عندهم إلا نيل اللذائذ المادية وهو التمتع بالبطن فما دونه، ولازم ذلك أن يكون المتبع عندهم الهوى وأفق الحق أو خالفه. فمحصل الآيتين أنهم ليسوا بمؤمنين بك لانك تدعو إلى صراط مستقيم وهم لا هم لهم إلا العدول والميل عنه. قوله تعالى: " ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر " إلى قوله " وما يتضرعون " اللجاج التمادي والعناد في تعاطي الفعل المزجور عنه، والعمه التردد في الامر من التحير، ذكرهما الراغب، وفي المجمع: الاستكانة الخضوع وهو استفعل من الكون، والمعنى ما طلبوا الكون على صفة الخضوع. انتهى. وقوله: " ولو رحمناهم " بيان وتأييد لنكوبهم عن الصراط بأنالو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر لم يرجعوا بمقابلة ذلك الشكر بل أصروا على تمردهم عن الحق وتمادوا يترددون في طغيانهم فلا ينفعهم رحمة بكشف الضر كما لا ينفعهم تخويف بعذاب ونقمة فإنا قد أخذناهم بالعذاب فما خضعوا لربهم وما يتضرعون إليه فهؤلاء لا ينفعهم ولا يركبهم صراط الحق لا رحمة بكشف الضر ولا نقمة وتخويف بالاخذ بالعذاب. والمراد بالعذاب العذاب الخفيف الذي لا ينقطع به الانسان عن عامة الاسباب بقرينة ما في الآية التالية فلا يرد أن الرجوع إلى الله تعالى عند الاضطرار والانقطاع

[ 50 ]

عن الاسباب من غريزيات الانسان كما تكرر ذكره في القرآن الكريم فكيف يمكن أن يأخذهم العذاب ثم لا يستكينوا ولا يتضرعوا ؟ وقوله في الآية الاولى: " ما بهم من ضر " وفي الثانية " ولقد أخذناهم بالعذاب " يدل على أن الكلام ناظر إلى عذاب قد وقع ولما يرتفع حين نزول الآيات، ومن المحتمل أنه الجدب الذي إبتلي به أهل مكة وقد ورد ذكر منه في الروايات. قوله تعالى: " حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون " أي هم على حالهم هذه لا ينفع فيهم رحمة ولا عذاب حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد وهو الموت بما يستتبعه من عذاب الآخرة - على ما يعطيه سياق الآيات وخاصة الآيات الآتية - فيفا جئوهم الابلاس واليأس من كل خير. وقد ختم هذا الفصل من الكلام أعنى قوله: " أفلم يدبروا القول " الخ بنظير ما ختم به الفصل السابق أعني قول: " أيحسبون انما نمدهم به من مال بنين " إلى آخر الآيات وهو ذكر عذاب الآخرة، وسيعود إليه ثانيا. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " والذين هم من خشية ربهم مشفقون - إلى قوله - يؤتون ما آتوا " قال: من العبادة الطاعة. وفي الدر المنثور أخرج الفاريابي وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجة وابن أبي الدنيا في نعت الخائفين وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله قول الله: " والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة " أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله ؟ قال: لا ولكن الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو مع ذلك يخاف الله أن لا يتقبل منه. وفي المجمع في قوله: " وقلوبهم وجلة " قال أبو عبد الله عليه السلام: معناه خائفة أن لا يقبل منهم، وفي رواية أخرى: أتى وهوائف راج. وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة

[ 51 ]

" حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب " قال ذكر لنا أنها نزلت في الذين قتل اليوم بدر. أقول: وروى مثله عن النسائي عن ابن عباس ولفظه قال: هم أهل بدر، وسياق الآيات لا نطبق على مضمون الروايتين. وفيه أخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: جاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد أنشدك الله والرحم فقد أكلنا لعلهز يعني الوبر بالدم فأنزل الله: " ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ". أقول: والروايات في هذا المعنى مختلفة وما أوردناه أعدلها وهي تشير إلى جدب وقع بمكة وحواليها بدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وظاهر أكثرها أنه كان بعد الهجرة، ولا يوافق ذلك الاعتبار. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " ولو اتبع الحق أهواءهم " قال: الحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام. أقول: هو من البطن بالمعنى الذي تقدم في بحث المحكم والمتشابه ونظيره ما أورده في قوله: " وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم " قال: إلى ولاية أمير المؤمنين عليه السلام وكذا ما أورده في قوله: " عن الصراط لناكبون " قال: عن الامام لحادون. وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين " يقول: أم تسألهم أجرا فأجر ربك خير. وفي الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عزوجل: " فما استكانوا لربهم وما يتضرعون " فقال " الاستكانة هي الخضوع، والتضرع رفع اليدين والتضرع بهما. وفي المجمع وروي عن مقاتل بن حيان عن الاصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السسلام قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: رفع الايدي من الاستكانة. قلت: وما الاستكانة ؟ قال: أما تقرأ هذه الآية: " فما استكانوا لربهم وما يتضرعون " ؟ أورده الثعلبي والواحدي في تفسيريهما. وفيه قال أبو عبد الله عليه السلام: الاستكانة الدعاء، والتضرع رفع اليدين في الصلاة. وفي الدر المنثور أخرج العسكري في المواعظ عن علي بن أبي طالب في قوله:

[ 52 ]

" وما استكانوا لربهم وما يتضرعون " أي لم يتواضعوا في الدعاء ولم يخضعوا لو خضعوا لله لاستجاب لهم. وفي المجمع في قوله تعالى: " حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد " قال أبو جعفر عليه السلام هو في الرجعة. * * * وهو الذي أنشأ لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون - 78. وهو الذي ذرأكم في الارض وإليه تحشرون - 79. وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون - 80. بل قالوا مثل ما قال الاولون - 81. قالواء إذا متنا وكنا ترابا وعظاماء إنا لمبعوثون - 82. لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الاولين - 83. قل لمن الارض ومن فيها إن كنتم تعلمون - 84. سيقولون لله قل أفلا تذكرون - 85. قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم - 86. سيقولون لله قل أفلا تتقون - 87. قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون - 88. سيقولون لله قل فأني تسحرون - 89. بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون - 90. ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون - 91. عالم الغيب

[ 53 ]

والشهادة فتعالى عما يشركون - 92. قل رب إما تريني ما يوعدون - 93. رب فلا تجعلني في القوم الظالمين - 94. وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون - 95. إدفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون - 96. وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين - 97. وأعوذ بك رب أن يحضرون - 98. (بيان) لما أوعدهم بعذاب شديد لا مرد له ولا مخلص منه، ورد عليهم كل عذر يمكنهم أن يعتذروا به، وبين أن السبب الوحيد لكفرهم الله واليوم الآخر وهو اتباع الهوى وكراهة اتباع الحق، تمم البيان بإقامة الحجة على توحده في الربوبية وعلى رجوع الخلق إليه بذكر آيات بينة لا سبيل للانكار إليها. وعقب ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يستعيذ به من أن يشمله العذاب الذي أو عدوا به، وأن يعوذ به من همزات الشيطان وأن يحضروه كما فعلوا بهم. قوله تعالى: " وهو الذي أنشأ لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون " إفتتح سبحانه من نعمه التي أنعمها عليهم بذكر إنشاء السمع والبصر وهما نعمتان خص بهما جنس الحيوان خلقتا فيه إنشاء وإبداعا لا عن مثال سابق إذ لا توجدان في الانواع البسيطة التي قبل الحيوان كالنبات والجماد والعناصر. وبحصول هذين الحسين يقف الوجود المجهز بهما موقفا جديدا ويتسع مجال فعاليته بالنسبة إلى ما هو محروم منهما اتساعا لا يتقدر بقدر فيدرك خيره وشره ونافعه وضاره ويعطي معهما الحركة الارادية إلى ما يريده وعما يكرهه، ويستقر في عالم حديث طري فيه مجالي الجمال واللذة والعزة والغلبة والمحة مما لا خبر عنه فيما قبله. وإنما اقتصر من الحواس بالسمع والبصر - قيل - لان الاستدلال يتوقف عليهما ويتم بهما.

[ 54 ]

ثم ذكر سبحانه الفؤاد والمراد به المبدأ الذي يعقل من الانسان وهو نعمة بالانسان من بين سائر الحيوان ومرحلة حصول الفؤاد مرحلة وجودية جديدة هي أرفع درجة وأعلى منزلة وأوسع مجالا من عالم الحيوان الذي هو عالم الحواس فيتسع به أولا شعاع عمل الحواس مما كان عليه في عامة الحيوان بما لا يتقدر بقدر فإذا الانسان يدرك بهما ما غاب وما حضر وما مضى وما غبر من أخبار الاشياء وآثارها وأوصافها بعلاج وغير علاج. ثم يرقي بفؤادة أي بتعقله إلى ما فوق المحسوسات والجزئيات فيتعقل الكليات فيحصل القوانين الكلية، ويغور متفكرا في العلوم النظرية والمعارف الحقيقية، وينفذ بسلطان التدبر في أقطار السماوات والارض. ففي ذلك كله من عجيب التدبير الالهي بإنشاء السمع والابصار والافئدة ما لا يسع الانسان أن يستوفي شكره. وقوله: " قليلا ما تشكرون " فيه بعض العتاب ومعناه تشكرون شكرا قليلا فقوله: " قليلا " وصف للمفعول المطلق قائم مقامه. قوله تعالى: " وهو الذي ذرأكم في الارض واليه تحشرون " قال الراغب: الذرأ إظهار الله تعالى ما أبداه يقال: ذرأ الله الخلق أي أوجد أشخاصهم. وقال: الحشر إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها. انتهى. فالمعني أنه لما جعلكم ذوي حس وعقل أظهر وجودكم في الارض متعلقين بها ثم يجمعكم ويرجعكم إلى لقائه. قوله تعالى: " وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون " معنى الآية ظاهر، وقوله: " وهو الذي يحيي ويميت " مترتب بحسب المعنى على الجملة التي قبله أي لما جعلكم ذوي علم وأظهر وجودكم في الارض إلى حين حتى تحشروا إليه لزمت ذلك سنة الاحياء والاماتة إذ العلم متوقف على الحياة والحشر متوقف على الموت. وقوله: " وله اختلاف الليل والنهار " مترتب على ما قبله فإن الحياة ثم الموت لا تتم إلا بمرور الزمان وورود الليل بعد النهار والنهار بعد الليل حتى ينقضي العمر ويحل الاجل المكتوب هذا لو أريد باختلاف الليل والنهار وورود الواحد منها بعد الواحد، ولو أريد به اختلافهما في الطول والقصر كانت فيه إشارة إلى إيجاد فصول

[ 55 ]

السنة الأربعة المتفرعة على طول الليل والنهار وقصرهما وبذلك يتم أمر أرزاق الحيوان وتدبير معاشها كما قال: " وقدر فيها أقواتها في أربعة ايام سواء للسائلين "، حم السجدة: 10. فمضامين الآيات الثلاث مترتبة مستتبعة بعضها بعضا فإنشاء السمع والبصر والفؤاد وهو الحس والعقل للانسان يستتبع حياة متعلقة بالمادة وسكونا في الارض إلى حين، ثم الرجوع إلى الله، وهو يستتبع حياة وموتا، وذلك يستتبع عمرا متقضيا بإنقضاء الزمان ورزقا يرتزق به. فالآيات الثلاث تتضمن الاشارة إلى دور كامل من تدبير أمر الانسان من حين يخلق إلى أن يرجع إلى ربه، والله سبحانه هو مالك خلقه فهو مالك تدبير أمره لان هذا التدبير تدبير تكويني لا يفارق الخلق والايجاد ولا ينحازعنه، وهو نظام الفعل والانفعال الجاري بين الاشياء بما بينها من الروابط المختلفة المجعولة بالتكوين فالله سبحانه هو ربهم المدبر لامرهم وإليه يحشرون، وقوله: " أفلا تعقلون " توبيخ لهم وحث على التنبه فالايمان. قوله تعالى: " بل قالوا مثل ما قال الاولون " إضراب عن نفي سابق يدل عليه الاستفهام المتقدم أي لم يعقلوا بل قالوا كذا وكذا. وفي تشبيه قولهم بقول الاولين إشارة إلى أن تقليد الآباء منعهم عن اتباع الحق وأوقعهم فيما لا يبقى معه للدين جدوى وهو نفي المعاد، والاخلاص إلى الارض والانغمار في الماديات سنة جارية فيهم في آخريهم وأوليهم. قوله تعالى: " قالوا ءإذا متنا وكنا ترابا وعظاماء إنا لمبعوثون " بيان لقوله: " قالوا " في الآية السابقة والكلام مبني على الاستبعاد. قوله تعالى: " لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الاولين " الاساطير الاباطيل والاحاديث الخرافية وهي جمع أسطورة كأكاذيب جمع أكذوبة وأعاجيب جمع أعجوبة وإطلاق الاساطير وهو جمع على البعث وهو مفرد بعناية أنه مجموع عدات كل واحد منها أسطورة كالاحياء والجمع والحشر والحساب والجنة والنار وغيرها، والاشاره بهذا إلى حديث البعث وقوله: من قبل، متعلق بقوله: " وعدنا " على ما يعطيه سياق الجملة.

[ 56 ]

والمعنى: أن وعد البعث وعد قديم ليس بحديث نقسم لقد وعدناه من قبل نحن وآباؤنا ليس البعث الموعود إلا أحاديث خرافية وضعها ونظمها الاناسي الاولون في صورة إحياء الاموات وحساب الاعمال والجنة والنار والثواب والعقاب. والدليل على كونها أساطير أن الانبياء من قديم الدهر لا يزالون يعدوننا ويخوفوننا بقيام الساعة ولو كان حقا غير خرافي لوقع. ومن هنا يظهر أولا أن قولهم: " من قبل " لتمهيد الحجة على قولهم بعده " إن هذا إلا أساطير الاولين ". وثانيا: أن الكلام مسوق للترقي فالآية السابقة: " ءإذا كنا ترابا وعظاماء إنا لمبعوثون " مبنية على الاستبعاد وهذه الآية متضمنة للانكار مبنيا على حجة واهية. قوله تعالى: " قل لمن الارض ومن فيها إن كنتم تعلمون " لما ذكر استبعادهم للبعث ثم إنكارهم له شرع في الاحتجاج على إمكانه من طريق الملك والربوبية والسلطنة، ووجه الكلام إلى الوثنيين المنكرين للبعث وهم معترفون به تعالى بمعنى أنه الموجد للعالم ورب الارباب والآلهة المعبودون دونه من خلقه، ولذا أخذ وجوده تعالى مسلما في ضمن الحجة. فقوله: " قل لمن الارض ومن فيها " أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسألهم عن مالك الارض ومن فيها من أولى العقل من هو ؟ ومعلوم أن السؤال إنما هو عن الملك الحقيقي الذي هو قيام وجود شئ بشئ بحيث لا يستقل الشئ المملوك عن مالكه بأي وجه فرض دون الملك الاعتباري الذي وضعناه معاشر المجتمعين لمصلحة الاجتماع وهو يقبل الصحة والفساد ويقع مورد اللبيع والشرى، وذلك لان الكلام مسوق لاثبات صحة جميع التصرفات التكوينية وملاكها الملك التكويني الحقيقي دون التشريعي الاعتباري. قوله تعالى: " سيقولون لله قل أفلا تذكرون " إخبار عن جوابهم وهو أن الارض ومن فيها مملوكة لله، ولا مناص لهم عن الاعتراف بكونها لله سبحانه فإن هذا النوع من الملك لا يقوم إلا بالعلة الموجدة لمعلولها حيث يقوم وجود المعلول بها قياما لا يستقل عنها بوجه من الوجوه، والعلة الموجدة للارض ومن فيها هو الله سبحانه وحده لا شريك له حتى بإعتراف الوثنيين. وقوله: " قل أفلا تذكرون " أمر بعد تسجيل الجواب أن يوبخهم على عدم

[ 57 ]

تذكرهم بالحجة الدالة على إمكان البعث، والمعنى قل لهم فإذا كان الله سبحانه مالك الارض ومن فيها لم لا تتذكرون أن له - لمكان مالكيته - أن يتصرف في أهلها بالاحياء بعد الاماتة. قوله تعالى: " قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم " أمره ثانيا أن يسألهم عن رب السماوات السبع ورب العرش العظيم من هو ؟ والمراد بالعرش هو المقام الذي يجتمع فيه أزمة الامور ويصدر عنه كل تدبير، وتكرار لفظ الرب في قوله: " ورب العرش العظيم " للاشارة إلى أهمية أمره ورفعة محله كما وصفه الله بالعظمة، وقد تقدم البحث عنه في تفسير سورة الاعراف في الجزء الثامن من الكتاب. ذكروا أن قولنا: لمن السماوات السبع وقولنا: من رب السماوات السبع بمعنى واحد كما يقال: لمن الدار ومن رب الدار فقوله تعالى: " من رب السماوات السبع ؟ سؤال عن مالكها، ولذا حكي الجواب عنهم بقوله: " سيقولون لله " على المعني ولو أنه أجيب عنه فقيل: " الله " كما في القراءة الاخرى كان جوابا على اللفظ. وفيه أن الذي ثبت في اللغة أن رب الشئ هو مالكه المدبر لامره بالتصرف فيه فيكون الربوبية أخص من الملك، ولو كان الرب مرادفا للمالك لم يستقم ترتب الجواب على السؤال في الآيتين السابقتين " قل لمن الارض ومن فيها - إلى قوله - سيقولون لله " إذ كان معنى السؤال: من رب الارض ومن فيها، ومن المعلوم أنهم كانوا قائلين بربوبية آلهتهم من دون الارض ومن فيها فكان جوابهم إثبات الربوبية لآلهتهم من غير أن يكونوا ملزمين بتصديق ذلك لله سبحانه وهذا بخلاف السؤال عن مالك الارض ومن فيها فإن الجواب عنه تصديقه لله لانهم كانوا يرون الايجاد لله والملك لازم الايجاد فكانوا ملزمين بالاعتراف به. ثم على تقدير كون الرب أخص من المالك يمكن أن يتوهم توجه الاشكال إلى ترتب الجواب على السؤال في الآية المبحوث عنها " قل من رب السماوات السبع - إلى قوله - سيقولون لله " فإن جل الوثنيين من الصابئين وغيرهم يرون للسماوات وما فيها من الشمس والقمر وغيرهما آلهة دون الله فلو أجابوا عن السؤال عن رب السماوات

[ 58 ]

أجابوا بإثبات الربوبية لآلهتهم دون الله فلا يستقيم قوله: " سيقولون لله " إذ لا ملزم يلزمهم على الاعتراف به. والذي يحسم أصل الاشكال أن البحث العميق عن معتقدات القوم يعطي أنهم لم يكونوا يبنون آرائهم في أمر الآلهة على أصل أو أصول منظمة مسلمة عند الجميع فأمثال الصابئين والبرهمائيين والبوذيين كانوا يقسمون أمور العالم إلى أنواع وأقسام كأمر السماء والارض وأنواع الحيوان والنبات والبر والبحر وغير ذلك ويثبتون لكل منها إلها دون الله يعبدونه من دون الله ويعدونه شفيعا مقربا ثم يتخذون له صنما يمثله. وأما عامتهم من الهمجيين كأعراب الجاهلية والقاطنين في أطراف المعمورة فلم يكن معتقداتهم في ذلك مبنية قواعد مضبوطة وربما كانوا يرون للمعمورة من الارض وسكانها آلهة دون الله لها أصنام وربما رأوا نفس الاصنام المصنوعة آلهة، وأما السماوات والسماويات وكذا البحار فكانوا يرونها مربوبة لله سبحانه والله ربها كما يلوح إليه قوله تعالى حكاية عن فرعون: " يا هامان إبن لي صرحا لعلي أبلغ الاسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى " المؤمن: 37، فإن ظاهره أنه كان يرى أن الذي يدعو إليه موسى - وهو الله تعالى - إله السماء وبالجملة السماوات وما فيهن ومن فيهن من الملائكة عندهم مربوبون لله سبحانه ثم الملائكة أرباب لما دون السماوات. وأما الصابئون ومن يحذو حذوهم فإنهم - كما سمعت - يرون للسماوات وما فيهن من النجوم والكواكب آلهة وأربابا من دون الله وهم الملائكة والجن وهم يرون الملائكة والجن موجودات مجردة عن المادة طاهرة عن لوث الطبيعة، وحينما يعدونهم، ساكنين في السماوات فإنما يريدون باطن هذا العالم وهو العالم السماوي العلوي الذي فيه تتقدر الامور ومنه ينزل القضاء وبه تستمد الاسباب الطبيعية، وهو بما فيه من الملائكة وغيرهم مربوب لله سبحانه وإن كان من فيه آلهة للعالم الحسي وأربابا لمن فيه والله رب الارباب. إذا تمهدت هذه المقدمة فنقول: إن كان وجه الكلام في الآية الكريمة إلى مشركي العرب كما هو الظاهر، كان السؤال عن رب السماوات السبع والجواب عنه بإعترافهم أنه الله في محله كما عرفت.

[ 59 ]

وإن كان وجه الكلام إلى غيرهم ممن يري للسماء إلها دون الله كان المراد بالسماء العالم السماوي بسكنته من الملائكة والجن دون السماوات المادية، ويؤيده مقارنته بالسؤال عن رب العرش العظيم فإن العرش مقام صدور الاحكام المتعلقة بمطلق الخلق الذي منهم أربابهم وآلهتهم، ومن المعلوم أن لا رب لمقام هذا شأنه إلا الله إذ لا يفوقه شئ دونه. وهذا العالم العلوي هو عندهم عالم الارباب والآلهة لا رب له إلا الله سبحانه فالسؤال عن ربه والجواب عنه بإعترافهم أنه الله في محله كما أشير إليه. فمعنى الآية - والله أعلم - قل: من رب السماوات السبع التي منها تنزل أقدار الامور وأقضيتها ورب العرش العظيم الذي منه يصدر الاحكام لعامة ما في العالم من الملائكة فمن دونهم ؟ فإنهم وما يملكونهم باعتقادكم مملوكة لله وهو الذي ملكهم ما ملكوه. قوله تعالى: " سيقولون لله قل أفلا تتقون " حكاية لجوابهم بالاعتراف بأن السماوات السبع والعرش العظيم لله سبحانه. والمعني: سيجيبونك بأنها لله قل لهم تبكيتا وتوبيخا: فإذا كان السماوات السبع منها ينزل الامر والعرش العظيم منه يصدر الامر لله سبحانه فلم لا تتقون سخطه إذ تنكرون البعث وتعدونه من أساطير الاولين وتسخرون من أنبيائه الذين وعدوكم به ؟ فإن له تعالى أن يصدر الامر ببعث الاموات وإنشاء النشأة الآخرة للانسان وينزل الامر به من السماء. وملطيف تعبير الآية التعبير بقوله: " لله " فإن الحجة تتم الملك وإن لم يعترفوا بالربوبية. قوله تعالى: " قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون " الملكوت هو الملك بمعنى السلطنة والحكم، ويفيد مبالغة في معناه والفرق بين الملك بالفتح والكسر وبين المالك أن المالك هو الذي يملك المال والملك يملك المالك و ماله، فله ملك في طول ملك وله التصرف بالحكم في المال ومالكه. وقد فسر تعالى ملكوته بقوله: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن

[ 60 ]

فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ " يس: 83، فملكوت كل شئ هو كونه عن أمره تعالى بكلمة كن وبعبارة اخرى وجوده عن إيجاده تعالى. فكون ملكوت كل شئ بيده كناية إستعارية عن اختصاص إيجاد كل ما يصدق عليه الشئ به تعالى كما قال: " الله خالق كل شئ " الزمر: 62، فملكه تعالى محيط بكل شئ ونفوذ أمره ومضي حكمه ثابت على كل شئ. ولما كان من الممكن أن يتوهم أن عموم الملك ونفوذ المأمر لا ينافي إخلال بعض ما أوجده من الاسباب والعلل بأمره فيفعل ببعض خلقه ما لا يريده أو يمنعه عما يريده تمم قوله: " بيده ملكوت كل شئ " بقوله: " وهو يجير ولا يجار عليه " وهو في الحقيقة توضيح لاختصاص الملك بأنه بتمام معنى الكلمة فليس لشئ شئ من الملك في عرض ملكه ولو بالمنع والاخلال والاعتراض فله الملك وله الحكم. وقوله: " وهو يجير ولا يجار عليه " من الجوار، وهو في أصله قرب المسكن ثم جعلوا للجوار حقا وهو حماية الجار لجاره عمن يقصده بسوء لكرامة الجار على الجار بقرب الدار واشتق منه الافعال يقال: إستجاره فأجاره أي سأله الحماية فحماه أي منع عنه من يقصده بسوء. وهذا جاري جميع أفعاله تعالى فما من شئ يخصه الله بعطية حدوثا أو بقاء إلا وهو يحفظه على ما يريد وبمقدار ما يريد من غير أن يمنعه مانع إذ منع المانع - لو فرض - إنما هو بإذن منه ومشية فليس منعا له تعالى بل منعا منه وتحديدا لفعل منه بفعل آخر، وما من سبب من الاسباب يفعل فعلا إلا وله تعالى أن يتصرف فيه بما لا يريده لانه تعالى هو الذي ملكه الفعل بمشيته فله أن يمنعه منه أو من بعضه. فالمراد بقوله: " وهو يجير ولا يجار عليه " أنه يمنع السوء عمن قصد به ولا يمنعه شئ إذا أراد شيئا بسوء عما أراد. ومعنى الآية قل لهؤلاء المنكرين للبعث: من الذي يختص به إيجاد كل شئ بما له من الخواص والآثار وهو يحمي من استجار به ولا يحمي عنه شئ إذا أراد شيئا بسوء ؟ إن كنتم تعلمون. قوله تعالى: " سيقولون لله قل فأني تسحرون " قيل: إن المراد بالسحر أن يخيل الشئ للانسان على خلاف ما هو عليه فهو من الاستعارة أو الكناية.

[ 61 ]

والمعنى: سيجيبونك أن الملكوت لله قل لهم تبكيتا وتوبيخا: فإلى متى يخيل لكم الحق باطلا فإذا كان الملك المطلق لله سبحانه فله أن يوجد النشأة الآخرة ويعيد الاموات للحساب والجزاء بأمر يأمره وهو قوله: " كن ". وأعلم أن الاحتجاجات الثلاثة كما تثبت إمكان البعث كذلك تثبت توحده تعالى في الربوبية فإن الملك الحقيقي لا يتخلف عن جواز التصرفات، والمالك المتصرف هو الرب. قوله تعالى: " بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون " إضراب عن النفي المفهوم من الحجج التي أقيمت في الآيات السابقة، والمعنى فإذا كانت الحجج المبنية تدل على البعث وهم معترفون بصحتها فليس ما وعدهم رسلنا باطلا بل جئناهم بلسا ن الرسل بالحق وإنهم لكاذبون في دعواهم كذبهم ونفيهم للبعث. قوله تعالى: " ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض " الخ، القول بالولد كان شائعا بين الوثنيين يعدون الملائكة أو بعضهم وبعض الجن وبعض القديسين من البشر أولاد الله سبحانه وتبعهم النصاري في قولهم المسيح ابن الله، وهذا النوع من الولادة والبنوة مبني على إشتمال الابن على شئ من حقيقة اللاهوت وجوهره وإنفصاله منه بنوع من الاشتقاق فيكون المسمى بالابن إلها مولودا من إله. وأما البنوة الادعائية بالتبني وهو أخذ ولد الغير ابنا لتشريف أو لغرض آخر فلا يوجب اشتمال الابن على شئ من حقيقة الاب كقول اليهود نحن أبناء الله وأحباؤه، وليس الولد بهذا المعنى مرادا لان الكلام مسوق لنفي تعدد الآلهة، ولا يستلزم هذا النوع من البنوة ألوهية وإن كان التسمي والتسمية بها ممنوعا. فالمراد باتخاذ الولد إيجاد شئ بنحو التبعض والاشتقاق يكون مشتملا بنحو على شئ من حقيقة الموجد لا تسمية شئ موجودا بنا وولدا لغرض من الاغراض كما ذكره بعضهم. والولد - كما عرفت - اخص مصداقا عندهم من الاله فإن بعض آلهتهم ليس بولد عندهم فقوله: " ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله " ترق من نفي الاخص إلى نفي الاعم ولفظة " من " في الجملتين زائدة للتأكيد.

[ 62 ]

وقوله: " إذا لذهب كل إله بما خلق " حجة على نفي التعدد ببيان محذوره إذ لا يتصور تعدد الآلهة إلا ببينونتها بوجه من الوجوه بحيث لا تتحد في معنى ألوهيتها وربوبيتها، ومعنى ربوبية الآله في شطر من الكون ونوع من أنواعه تفويض التدبير فيه إليه بحيث يستقل في أمره من غير أن يحتاج فيه إلى شئ غير نفسه حتى إلى من فوض إليه الامر، ومن البين أيضا أن المتباينين لا يترشح منهما إلا أمر أن متباينان. ولازم ذلك أن يستقل كل من الآلهة بما يرجع إليه من نوع التدبير وتنقطع رابطة الاتحاد والاتصال بين أنواع التدابير الجارية في العالم كالنظام الجاري في العالم الانساني عن الانظمة الجارية في أنواع الحيوان والنبات والبر والبحر والسهل والجبل والارض والسماء وغيرها وكل منها عن كل منها، وفيه فساد السماوات والارض وما فيهن، ووحدة النظام الكوني والتئام أجزائه وإتصال التدبير الجاري فيه يكذبه. وهذا هو المراد بقوله: " إذا لذهب كل إله بما خلق " أي انفصل بعض الآلهة عن بعض بما يترشح منه من التدبير. وقوله: " ولعلا بعضهم على بعض " محذور آخر لازم لتعدد الآلهة تتألف منه حجة اخرى على النفي، بيانه أن التدابير الجارية في الكون مختلفة منها التدابير العرضية كالتدبيرين الجاريين في البر والبحر والتدبيرين الجاريين في الماء والنار، ومنها التدابير الطولية التي تنقسم إلى تدبير عام كلي حاكم وتدبير خاص جزئي محكوم كتدبير العالم الارضي وتدبير النبات الذي فيه، وكتدبير العالم السماوي وتدبير كوكب من الكواكب التي في السماء، وكتدبير العالم المادي برمته وتدبير نوع من الانواع المادية. فبعض التدبير وهو التدبير العام الكلي يعلو بعضا بمعنى أنه بحيث لو أنقطع عنه ما دونه بطل ما دونه لتقومه بما فوقه، كما أنه لو لم يكن هناك عالم أرضي أو التدبير الذي يجري فيه بالعموم لم يكن عالم إنساني ولا التدبير الذي يجري فيه بالخصوص. ولازم ذلك أن يكون الاله الذي يرجع إليه نوع عال من التدبير عاليا بالنسبة إلى الاله الذي فوض إليه من التدبير ما هو دونه وأخص منه وأخس واستعلاء الاله على الاله محال. لا لان الاستعلاء المذكور يستلزم كون الاله مغلوبا لغيره أو ناقصا في قدرته

[ 63 ]

محتاجا في تمامه إلى غيره أو محدودا والمحدودية تفضي إلى التركيب، وكل ذلك من لوازم الامكان المنافي لوجوب وجود الاله فيلزم الخلف - كما قرره المفسرون - فإن الوثنيين لا يرون لآلهتهم من دون الله وجوب الوجود بل هي عندهم موجودات ممكنة عالية فوض إليهم تدبير أمر ما دونها، وهي مربوبة لله سبحانه وأرباب لما دونها والله سبحانه رب الارباب وإله الآلهة وهو الواجب الوجود بالذات وحده. بل استحالة الاستعلاء إنما هو لاستلزامه بلن استقلال المستعلى عليه في تدبيره وتأثيره إذ لا يجامع توقف التدبير على الغير والحاجة إليه الاستقلال فيكون السافل منها مستمدا في تأثيره محتاجا فيه إلى العالي فيكون سببا من الاسباب التي يتوسل بها إلى تدبير ما دونه لا إلها مستقلا بالتأثير دونه فيكون ما فرض إلها غير إله بل سببا يدبر به الامر هذا خلف. هذا ما يعطيه التدبر في الآية، وللمفسرين في تقرير حجة الآية مسالك مختلفة يبتني جميعها على استلزام تعدد الآلهة أمورا تستلزم إمكانها وتنافي كونها واجبة الوجود فيلزم الخلف، والقوم لا يقولون في شئ من آلهتهم من دون الله بوجوب الوجود، وقد أفرط بعضهم فقرر الآية بوجوده مؤلفة من مقدمات لا إشارة في الآية إلى جلها ولا إيهام، وفرط آخرون فصرحوا بأن الملازمة المذكورة في الآية عادية لا عقلية، والدليل إقناعي لا قطعي. ثم لا يشتبهن عليك أمر قوله: " لذهب كل إله بما خلق " حيث نسب الخلقة إليها وقد تقدم أنهم قائلون بإله التدبير دون الايجاد وذلك لان بعض الخلق من التدبير فإن خلق جزئي من الجزئيات مما يتم بوجوده النظام الكلي من التدبير بالنسبة إلى النظام الجاري فالخلق بمعنى الفعل والتدبير مختلطان وقد نسب الخلق إلى أعمالنا كما في قوله: " والله خلقكم وما تعملون " الصافات: 96، وقوله: " وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون " الزخرف: 12. فالقوم يرون أن كلا من الالهة خالق لما دونه أي فاعل له كما يفعل الواحد منا أفعاله، وأما إعطاء الوجود للاشياء فمما يختص بالله سبحانه وحده لا يرتاب فيه موحد ولا وثني إلا بعض من لم يفرق بين الفعل والايجاد من المتكلمين. وقد ختم الآية بالتنزيه بقوله: " سبحان الله عما يصفون ".

[ 64 ]

قوله تعالى: " عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون " صفة لاسم الجلالة في قوله: " سبحان الله عما يصفون " وتأخيرها للدلالة على علمه بتنزهه عن وصفهم إياه بالشركة - على ما يعليه السياق - فيكون في معنى قوله: " قل أتنبؤن الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الارض سبحانه وتعالى عما يشركون " يونس: 18. ويرجع في الحقيقة إلى الاحتجاج على نفي الشركاء بشهادته تعالى أنه لا يعلم لنفسه شريكا كما أن قوله: شهد الله أنه لا إله إلا هو " آل عمران: 18 إحتجاج بالشهادة على نفي أصل الوجود. وقيل إنه برهان آخر راجع إلى إثبات العلو أو لزوم الجهل الذي هو نقص وضد العلو لان المتعددين لا سبيل لهما إلى أن يعلم كل واحد حقيقة الآخر كعلم ذلك الآخر بنفسه بالضرورة وهو نوع جهل وقصورة. انتهى. و فيه أن ذلك كسائر ما قرروه من البراهين ينفي تعدد الاله الواجب الوجود بالذات، واوثنيون لا يلتزمون في آلهتهم من دون الله بذلك. على أن بعض مقدمات ما قرر من الدليل ممنوع. وقوله: " فتعالى عما يشركون " تفريع على جميع ما تقدم من الحجج على نفي الشركاء. قوله تعالى: " قل رب إما تريني ما توعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين " لما فرغ من نقل ما تفوهوا به من الشرك بالله وإنكار البعث والاستهزاء بالرسل وأقام الحجج على إثبات حقيتها رجع إلى ما تقدم من تهديدهم بالعذاب فأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يسأله أن ينجيه من العذاب الذي أوعدهم به إن أراه ذلك العذاب. فقوله: " قل رب إما تريني ما يوعدون " أمر بالدعاء والاستغاثة، وتكرار " رب " لتأكيد التضرع وما في قوله: " إما تريني " زائدة وهي المصححة لدخول نون التأكيد على الشرط وأصله: أن ترني. وفي قوله: " ما يوعدون " دلالة على أن بعض ما تقدم في السورة من الايعاد بالعذاب إيعاد بعذاب دنيوي. وما في قوله: " رب فلا تجعلني في القوم الظالمين " من الكون فيهم كناية عن شمول عذابهم له. قوله تعالى: " وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون " تطييب لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم

[ 65 ]

بقدرة ربه على أن يكشف عنه بإراءته ما يعدهم من العذاب، ولعل المراد به ما عذبهم الله به يوم بدر وقد أراه الله ذلك وأراه المؤمنين وشفي به غليل صدورهم. قوله تعالى: " إدفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون " أي إدفع السيئة التي تتوجه اليك منهم بالحسنة واختر للدفع من الحسنات أحسنها، وهو دفع السيئة بالحسنة التي هي أحسن مثل أنه لو أساؤا إليك بالايذاء أحسن إليهم بغاية ما استطعت من الاحسان ثم ببعض الاحسان في الجملة ولو لم يسعك ذلك فبالصفح عنهم. وقوله: " نحن أعلم بما يصفون " نوع تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يسوءنه ما يلقاه ولا يحزنه ما يشاهد من تجريهم على ربهم فإنه أعلم بما يصفون. قوله تعالى: " وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون "، قال في مجمع البيان: الهمزة شدة الدفع، ومنه الهمزة للحرف الذي يخرج من أقصى الحلق بإعتماد شديد ودفع، وهمزة الشيطان دفعه بالاغواء إلى المعاصي انتهى. وفي تفسير القمي عنه عليه السلام: أنه ما يقع في قلبك من وسوسه الشياطين. وفي الآيتين أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يستعيذ بربه من إغواء الشياطين ومن أن يحضروه، وفيه إيهام إلى أن ما ابتلي به المشركون من الشرك والتكذيب من همزات الشياطين وإحاطتهم بهم بالحضور. * * * حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون - 99. لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنهاكلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون - 100. فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون - 101. فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون - 102. ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا

[ 66 ]

أنفسهم في جهنم خالدون - 103. تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون - 104. ألم تكن آياتي تتلي عليكم فكنتم بها تكذبون - 105. قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين - 106. ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون - 107. قال اخسؤا فيها ولا تكلمون - 108. إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وأرحمنا وأنت خير الراحمين - 109. فأتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون - 110. إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون - 111. قال كم لبثتم في الارض عدد سنين - 112. قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فأسئل العادين - 113. قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون - 114. أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون - 115. فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم - 116. ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون - 117. وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين - 118. (بيان) الآيات تفصل القول في عذاب الآخرة التي أوعدهم الله بها في طي الآيات السابقة وهو من يوم الموت إلى يوم البعث ثم إلى الابد، وتذكر أن الحياة الدنيا التي غرتهم

[ 67 ]

وصرفتهم عن الآخرة قليلة لو كانوا يعلمون. ثم تختم السورة بأمره صلى الله عليه وآله وسلم أن تسأله ما حكاه عن عباده المؤمنين الفائزين في الآخرة " رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين " وقد افتتحت السورة بأنهم مفلحون وارثون للجنة. قوله تعالى: " حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب رجعون " " حتى " متعلق بما تقدم من وصفهم له تعالى بما هو منزه منه وشركهم به، والآيات المتخللة إعتراض في الكلام أي لا يزالون يشركون به ويصفونه بما هو منزه منه وهم مغترون بما نمدهم به من مال وبنين حتى إذا جاء أحدهم الموت. وقوله: " قال رب ارجعون " الظاهر أن الخطاب للملائكة المتصدين لقبض روحه و " رب " استغاثة معترضة بحذف حرف النداء والمعنى قال - وهو يستغيث بربه - ارجعون. وقيل: إن الخطاب للرب تعالى والجمع للتعظيم كقول إمرأة فرعون له على ما حكاه الله: " قرة عين لي ولك لا تقتلوه ". وقيل: هو من جمع الفعل ويفيد تعدد الخطاب، والمعنى رب ارجعني ارجعني ارجعني كما قيل في قوله: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوي بين الدخول فحومل أي قف قف نبك. وفي الوجهين أن الجمع للتعظيم إن صح ثبوته في اللغة العربية فهو شاذ لا يحمل عليه كلامه تعالى، وأشد منه جمع الفعل بالمعني الذي ذكر. قوله تعالى: " لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها " " لعل " للترجي وهو رجاء تعلقوا به بمعاينة العذاب المشرف عليهم كما ربما ذكروا الرجوع بوعد العمل الصالح كقولهم: " فأرجعنا نعمل صالحا " السجدة: 12، وربما ذكروه بلفظ التمني كقولهم: " يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا " الانعام: 27. وقوله: " أعمل صالحا فيما تركت " أي أعمل عملا صالحا فيما تركت من المال بإنفاقه في البر والاحسان وكل ما فيه رضي الله سبحانه. وقيل: المراد بما تركت الدنيا التي تركها بالموت والعمل الصالح أعم من العبادات المالية وغيرها من صلاة وصوم وحج ونحوها، وهو حسن غير أن الاول هو الاظهر.

[ 68 ]

وقوله: " كلا إنها كلمة هو قائلها " أي لا يرجع إلى الدنيا إن هذه الكمة " إرجعوني لعلي أعمل صالحا فيما تركت " كلمة هو قائلها أي لا أثر لها إلا أنها كلمة هو قائلها، فهو كناية عن عدم إجابة مسألته. قوله تعالى: " ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون " البرزخ هو الحاجز بين الشيئين كما في قوله: " بينهما برزخ لا يبغيان " الرحمان: 20، والمراد بكونه وراءهم كونه أمامهم محيطا بهم وسمي وراءهم بعناية أنه يطلبهم كما أن مستقبل الزمان أمام الانسان ويقال: وراءك يوم كذا بعناية أن الزمان يطلب الانسان ليمر عليه وهذا معنى قول بعضهم: إن في " وراء " معنى الاحاطة، قال تعالى: " وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا " الكهف: 79. والمراد بهذا البرزخ عالم القبر وهو عالم المثال الذي يعيش فيه الانسان بعد موته إلى قيام الساعة على ما يعطيه السياق وتدل عليه آيات أخر وتكاثرت فيه الروايات من طرق الشيعة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام وكذا من طرق أهل السنة، وقد تقدم البحث عنه في الجزء الاول من الكتاب. وقيل: المراد بالآية أن بينهم وبين الدنيا حاجزا يمنعهم من الرجوع إليها إلى يوم القيامة ومعلوم أن لا رجوع بعد القيامة ففيه تأكيد لعدم رجوعهم وأيآس لهم من الرجوع إليها من أصله. وفيه أن ظاهر السياق الدلالة على استقرار الحاجز بين الدنيا وبين يوم يبعثون لا بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا، ولو كان المراد أن الموت حاجز بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا لغى التقييد بقوله: " إلى يوم يبعثون " لا لدلالته من طريق المفهوم على رجوعهم بعد البعث إلى الدنيا ولا رجوع بعد البعث بل للغوية أصل التقييد وإن فرض أنهم كانوا يعلمون من الخارج أو من آيات سابقة أن لا رجوع بعد القيامة. على أن قولهم: إنه تأكيد لعدم الرجوع بإيآسهم من الرجوع مطلقا مع قولهم بأن عدم الرجوع بعد القيامة معلوم من خارج كالمتهافتين بل يرجع المعنى إلى تأكيد نفي الرجوع مطلقا المفهوم من " كلا " بنفي الرجوع الموقت المحدود بقوله: " إلى يوم يبعثون " فافهمه. قوله تعالى: " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " المراد به

[ 69 ]

النفخة الثانية التي تحيا فيها الاموات دون النفخة الاولى التي تموت فيها الاحياء كما قاله بعضهم لكون ما يترتب عليها من انتفاء الانساب والتساؤل وثقل الميزان وخفته إلى غير ذلك من آثار النفخة الثانية. وقوله: " فلا أنساب بينهم " نفي لآثار الانساب بنفي أصلها فإن الذي يستوجب حفظ الانساب واعتبارها هي الحوائج الدنيوية التي تدعو الانسان إلى الحياة الاجتماعية التي تبتني على تكون البيت، والمجتمع المنزلي يستعقب التعارف والتعاطف وأقسام التعاون والتعاضد وسائر الاسباب التي تدوم بها العيشة الدنيوية ويوم القيامة ظرف جزاء الاعمال وسقوط الاسباب التي منها الاعمال فلا موطن فيه للاسباب الدنيوية التي منها الانساب بلوازمها وخواصها وآثارها. وقوله: " ولا يتساءلون " ذكر لاظهر آثار الانساب، وهو التساؤل بين المنتسبين بسؤال بعضهم عن حال بعض، للاعانة والاستعانة في الحوائج لجلب المنافع ودفع المضار. ولا ينافي الآية ما وقع في مواضع أخر من قوله تعالى: " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " الصافات: 27، فإنه حكاية تساؤل أهل الجنة بعد دخولها وتساؤل أهل النار بعد دخولها وهذه الآية تنفي التساؤل في ظرف الحساب والقضاء. قوله تعالى: " فمن ثقلت موازينه فاولئك هم المفلحون " إى آخر الآيتين. الموازين جمع الميزان أو جمع الموزون وهو العمل الذي يوزن يومئذ، وقد تقدم الكلام في معنى الميزان وثقله وخفته في تفسير سورة الاعراف. قوله تعالى: " تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون " قال في المجمع: اللفح والنفح بمعنى إلا أن اللفح أشد تأثيرا وأعظم من النفح، وهو ضرب من السموم للوجه والنفح ضرب الريح الوجه، والكلوح تقلص الشفتين عن الاسنان حتى تبدو الاسنان. انتهى. والمعنى: يصيب وجوههم لهب النار حتى تتقلص شفاههم وتنكشف عن أسنانهم كالرؤس المشوية. قوله تعالى: " ألم تكن آياتي تتلى عليكم " الخ أي يقال لهم: ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون.

[ 70 ]

قوله تعالى: " قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين " الشقوة والشقاوة والشقاء خلاف السعادة، وعادة الشئ ما يختص به من الخير، وشقاوته فقد ذلك وإن شئت فقل: ما يختص به من الشر. وقوله: " غلبت علينا شقوتنا " أي قهرنا واستولت علينا شقوتنا، وفي إضافة الشقوة إلى أنفسهم تلويح إلى أن لهم صنعا في شقوتهم من جهة اكتسابهم ذلك بسوء اختيارهم، والدليل عليه قولهم بعد: " ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون " إذ هو وعد منهم بالحسنات ولو لم يكن لها ارتباط باكتسابهم الاختياري لم يكن الوعد معنى لكون حالهم بعد الخروج مساوية لما قبل الخروج. وقد عدوا أنفسهم مغلوبة للشقوة فقد أخذوها ساذجة في ذواتها صالحة للحقوق السعادة والشقاوة غير أن الشقوة غلبت فأشغلت المحل وكانت الشقوة شقوة أنفسهم أي شقوة لازمة لسوء اختيارهم وسيآت أعمالهم لانهم فرضوا أنفسهم خالية عن السعادة والشقوة لذاتها فانتساب الشقوة إلى أنفسهم وارتباطها بها إنما هي من جهة سوء اختيارهم وسيئات أعمالهم. وبالجملة هو اعتراف منهم بتمام الحجة ولحوق الشقوة على ما يشهد به وقوع الآية بعد قوله: " ألم تكن آياتي تتلى عليكم " الخ. ثم عقبوا قولهم: " غلبت علينا شقوتنا " بقولهم: " وكنا قوما ضالين " تأكيدا لاعترافهم، وإنما اعترفوا بالذنب ليتوسلوا به إلى التخلص من العذاب والرجوع إلى الدنيا لكسب السعادة فقد شاهدوا في الدنيا أن اعتراف العاصي المتمرد بذنبه وظلمه توبة منه مطهرة له تنجيه من تبعة الذنب وهم يعلمون أن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل والتوبة والاعتراف بالذنب من الاعمال لكن ذلك من قبيل ظهور الملكات كما أنهم يكذبون يومئذ وينكرون أشياء مع ظهور الحق ومعاينته لاستقرار ملكة الكذب والانكار في نفوسهم، قال تعالى: " يوم يبعثهم الله جميعا يحلفون له كما يحلفون لكم " المجادلة: 18. وقال: " ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا " المؤمن: 74. قوله تعالى: " ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون " سؤال منهم للرجوع إلى الدنيا على ما تدل عليه آيات أخر فهو من قبيل طلب المسبب بطلب سببه،

[ 71 ]

ومرادهم أن يعملوا صالحا بعد ما تابوا بالاعتراف المذكور فيكونوا بذلك ممن تاب وعمل صالحا. قوله تعالى: " قالوا اخسئوا فيها ولا تكلمون " قال الراغب: خسات الكلب فخسأ أي زجرته مستهينا به فانزجر وذلك إذا قلت له: اخسأ انتهى. ففي الكلام استعارة بالكناية، المراد زجرهم بالتباعد وقطع الكلام. قوله تعالى: " إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وانت خير الراحمين " هؤلاء هم المؤمنون في الدنيا وكان إيمانهم توبة ورجوعا إلى الله كما سماه الله في كلامه توبة، وكان سؤالهم شمول الرحمة - وهي الرحمة الخاصة بالمؤمنين البتة سؤالا منهم أن يوفقهم للسعادة فيعملوا صالحا فيدخلوا الجنة، وقد توسلوا إليه بإسمه خير الراحمين. فكان ما قاله المؤمنون في الدنيا معناه التوبة وسؤال الفوز بالسعادة وذلك عين ما قاله هؤلاء مما معناه التوبة وسؤال الفوز بالسعادة وإنما الفرق بينهما من حيث الموقف. قوله تعالى: " فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون ضمائر الخطاب للكفار وضمائر الغيبة للمؤمنين، والسياق يشهد أن المراد من " ذكرى " قول المؤمنين: " ربنا آمنا فاغفر لنا و ارحمنا " الخ، وهو معنى قول الكفار في النار. وقوله: " حتى أنسوكم ذكري " أي أنسى اشتغالكم بسخرية المؤمنين والضحك منهم ذكري، ففي نسبة الانساء إلى المؤمنين دون سخريتهم إشارة إلى أنه لم يكن للمؤمنين عندهم شأن من الشؤون إلا أن يتخذوهم سخريا. قوله تعالى: " إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون " المراد باليوم يوم الجزاء، ومتعلق الصبر معلوم من السياق محذوف للايجاز أي صبروا على ذكري مع سخريتكم منهم لاجله، وقوله: " أنهم هم الفائزون " مسوق للحصر أي هم الفائزون دونكم. وهذه الآيات الاربع " قال اخسئوا - إلى قوله - هم الفائزون " إيآس قطعي للكفار من الفوز بسبب ما تعلقوا به من الاعتراف بالذنب وسؤال الرجوع إلى الدنيا ومحصلها أن اقنطوا مما تطلبونه بهذا القول وهو الاعتراف والسؤال فإنه عمل إنما كان ينفع في دار العمل وهي الدنيا، وقد كان المؤمنون من عبادي يتخذونه وسيلة إلى

[ 72 ]

الفوز وكنتم تسخرون وتضحكون منهم حتى تركتموه وبدلتموه من سخريتهم حتى إذا كان اليوم وهو يوم جزاء لا يوم عمل فازوا بجزاء ما عملوا يوم العمل وبقيتم صفر الاكف تريدون أن تتوسلوا بالعمل اليوم وهو يوم الجزاء دون العمل. قوله تعالى: " قال كم لبثتم في الارض عدد سنين " مما يسأل الله الناس عنه يوم القيامة مدة لبثهم في الارض وقد ذكر في مواضع من كلامه والمراد به السؤال عن مدة لبثهم في القبور كما يدل عليه قوله تعالى: " ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة " الروم: 55، وقوله: " كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار " الاحقاف: 35 وغيرهما من الآيات، فلا محل لقول بعضهم: إن المراد به المكث في الدنيا، واحتمال بعضهم أنه مجموع اللبث في الدنيا والبرزخ. قوله تعالى: " قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فأسال العادين " ظاهر السياق أن المراد باليوم هو الواحد من أيام الدنيا وقد استقلوا اللبث في الارض حينما قايسوه بالبقاء إلابدي الذي يلوح لهم يوم القيامة ويعاينونه. ويؤيده ما وقع في موضع آخر من تقديرهم ذلك بالساعة، وفي موضع آخر بعشية أو ضحاها. وقوله: " فاسأل العادين " أي نحن لا نحسن إحصاءها فاسأل الذين يعدونه وفسر بالملائكة العادين للايام وليس ببعيد. قوله تعالى: " قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون " القائل هو الله سبحانه، وفي الكلام تصديق لهم في استقلالهم المكث في القبور وفيه توطئة لما يلحق به من قوله: " لو أنكم كنتم تعلمون " بما فيه من التمني. والمعنى: قال الله: الامر كما قلتم فما مكثتم إلا قليلا فليتكم كنتم تعلمون في الدنيا أنكم لا تلبثون في قبوركم إلا قليلا ثم تبعثون حتى لا تنكروا البعث ولم تبتلوا بهذا العذاب الخالد، والتمني في كلامه تعالى كالترجي راجع إلى المخاطب أو المقام. وجعل بعضهم " لو " في الآية شرطية والجملة شرطا محذوف الجزاء وتكلف في تصحيح الكلام بما لا يرتضيه الذوق السليم وهو بعيد عن السياق كما هو ظاهر وأبعد منه جعل " لو " وصلية مع أن " لو " الوصلية لا تجئ بغير وأو العطف. قوله تعالى: " أفحسبتم انما خلقناكم عبثا - إلى قوله - رب العرش الكريم -

[ 73 ]

بعد ما بين ما سيستقبلهم من أحوال الموت ثم اللبث في البرزخ ثم البعث بما فيه من الحساب والجزاء وبخهم على حسبانهم أنهم لا يبعثون فإن فيه جرأة على الله بنسبة العبث إليه ثم أشار إلى برهان العبث. فقوله: " أفحسبتم " الخ، معناه فإذا كان الامر على ما أخبرناكم من تحسركم عند معاينة الموت ثم اللبث في القبور ثم البعث فالحساب والجزاء فهل تظنون إنما خلقناكم عبثا تحيون وتموتون من غير غاية باقية في خلقكم وأنكم إلينا لا ترجعون ؟ وقوله: " فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم " إشارة إلى برهان يثبت البعث ويدفع قولهم بالنفي، في صورة التنزيه، فإنه تعالى وصف نفسه في كلمة التنزيه بالاوصاف الاربعة: أنه ملك وأنه حق وأنه لا إله إلا هو وأنه رب العرش الكريم. فله أن يحكم بما شاء من بدء وعود وحياة وموت ورزق نافذا حكمه ماضيا أمره لملكه، وما يصدر عنه من حكم فإنه لا يكون إلا حقا فإنه حق ولا يصدر عن الحق بما هو حق إلا حق دون أن يكون عبثا باطلا ثم لما أمكن أن يتصور أن معه مصدر حكم آخر يحكم بما يبطل به حكمه وصفه بأنه لا إله - أي لا معبود - إلا هو، والاله معبود لربوبيتة فإذا لا إله غيره فهو رب العرش الكريم - عرش العالم - الذي هو مجتمع أزمة الامور ومنه يصدر الاحكام والاوامر الجارية فيه. فتلخص أنه هو الذي يصدر عنه كل حكم ويوجد منه كل شئ ولا يحكم إلا بحق ولا يفعل إلا حقا فللاشياء رجوع إليه وبقاء به وإلا لكانت عبثا باطلة ولا عبث في الخلق ولا باطل في الصنع. والدليل على اتصافه بالاوصاف الاربعة كونه تعالى هو الله الموجود لذاته الموجد لغيره. قوله تعالى: " ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون "، المراد من دعاء إله آخر مع الله دعاؤه مع وجوده تعالى لا دعاؤه تعالى ودعاء إله آخر معا فإن المشركين جلهم أو كلهم لا يدعون الله تعالى وإنما يدعون ما أثبتوه من الشركاء، ويمكن أن يكون المراد بالدعاء الاثبات فإن إثبات إله آخر لا ينفك عن دعائه.

[ 74 ]

وقوله: " لا برهان له به " قيد توضيحي لا له آخر إذ لا إله آخر يكون به برهان بل البرهان قائم على نفي الاله الآخر مطلقا. وقوله: " فإنما حسابه عند ربه " كلمة تهديد وفيه قصر حسابه بكونه عند ربه لا يداخله أحد فيما اقتضاه حسابه من جزاء - وهو النار كما صرحت به الآيات السابقة - فإنه يصيبه لا محالة، ومرجعه إلى نفي الشفعاء والايآس من أسباب النجاة وتممه بقوله: " إنه لا يفلح الكافرون ". قوله تعالى: " وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين " خاتمة السورة وقد أمر فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول ما حكاه عن عباده المؤمنين أنهم يقولونه في الدنيا وأن جزاء ذلك هو الفوز يوم القيامة: " إنه كان فريق من عبادي يقولون " الخ، الآيتان 109 و 111 من السورة. وبذلك يختتم الكلام بما افتتح به في أول السورة: " قد أفلح المؤمنون " وقد تقدم الكلام في معنى الآية. (بحث روائي) في الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام: من منع قيراطا من الزكاة فليس بمؤمن ولا مسلم، وهو قوله تعالى: " رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت ". أقول: وروي هذا المعني بطرق أخر غيرها عنه عليه السلام وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد به انطباق الآية على مانع الزكاة لا نزولها فيه. وفي تفسير القمي: قوله عزوجل: " ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون " قال: البرزخ هو أمر بين أمرين وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة، وهو قول الصادق عليه السلام: والله ما أخاف عليكم إلا البرزخ وأما إذا صار الامر إلينا فنحن أولى بكم. أقول: وروي الذيل في الكافي بإسناده عن عمر بن يزيد عنه عليه السلام. وفيه قال على بن الحسين عليه السلام: إن القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار.

[ 75 ]

وفي الكافي بإسناده عن أبي ولاد الحناط عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: جعلت فداك يروون أن أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش. فقال: لا. المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير لكن في أبدان كابدانهم. وفيه بإسناده عن أبي بصير قال أبو عبد الله عليه السلام: إن أرواح المؤمنين لفي شجرة من الجنة يأكلون من طعامها ويشربون من شرابها ويقولون: ربنا أقم الساعة لنا، وأنجز لنا ما وعدتنا، وألحق آخرنا بأولنا. وفيه بإسناده أيضا عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الارواح في صفة الاجساد في شجرة في الجنة تتعارف وتتسأل فإذا قدمت الروح على الارواح تقول: دعوها فإنها قد أقبلت من هول عظيم ثم يسألونها ما فعل فلان ؟ وما فعل فلان ؟ فإن قالت لهم: تركته حيا ارتجوه، وإن قالت لهم قد هلك، قالوا: قد هوى قد هوى. أقول: أخبار البرزخ وتفاصيل ما يجري على المؤمنين وغيرهم فيه كثيرة متواترة، وقد مر شطر منها في أبحاث متفرقة مما تقدم. في مجمع البيان وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كل حسب ونسب منقطع يوم القيامة إلا حسبي ونسبي. أقول: كأن الرواية من طريق الجماعة، وقد رواها في الدر المنثور عن عدة من أصحاب الجوامع عن المسور بن مخرمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولفظها: أن الانساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري، وعن عدة منهم عن عمر بن الخطاب عنه صلى الله عليه وآله وسلم ولفظها: كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي وعن ابن عساكر عن ابن عمر عنه صلى الله عليه وآله وسلم ولفظها: كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري. وفي المناقب في حديث طاووس عن زين العابدين عليه السلام: خلق الله الجنة لمن أطاع وأحسن ولو كان عبدا حبشيا، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولدا قرشيا أما سمعت قول الله تعالى: " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم ولا يتساءلون " والله لا ينفعك غدا إلا تقديمة تقدمها من عمل صالح.

[ 76 ]

أقول: سياق الآية كالابي عن التخصيص ولعل من آثار نسبه صلى الله عليه وآله وسلم أن يوفق ذريته من صالح العمل بما ينتفع به يوم القيامة. وفي تفسير القمي وقوله عزوجل: " تلفح وجوههم النار قال: تلهب عليهم فتحرقهم وهم فيها كالحون " أي مفتوحي الفم متربدي الوجوه وفي التوحيد بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل: " ربنا غلبت علينا شقوتنا " قال: بأعمالهم شقوا. وفي العلل بإسناده عن مسعدة بن زياد قال: قال رجل لجعفر بن محمد عليه السلام: يا أبا عبد الله إنا خلقنا للعجب. قال: وما ذلك لله أنت ؟ قال: خلقنا للفناء. قال: مه يا إبن أخ خلقنا للبقاء وكيف تفني جنة لا تبيد ونار لا تخمد ؟ ولكن إنما نتحول من دار إلى دار. وفي تفسير القمي قوله تعالى: " قال كم لبثتم - إلى قوله - فاسأل العادين " قال: سل الملائكة الذين يعدون علينا الايام، ويكتبون ساعاتنا وأعمالنا التي اكتسبنا فيها. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن أيفع بن عبد الكلاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال لاهل الجنة كم لبثتم في الارض عدد سنين ؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم. قال: لنعم ما أتجرتم في يوم أو بعض يوم رحمتي ورضواني وجنتي اسكنوا فيها خالدين مخلدين. ثم يقول: يا أهل النار كم لبثتم في الارض عدد سنين ؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم فيقول: بئس ما أتجرتم في يوم أو بعض يوم ناري وسخطي امكثوا فيها خالدين. أقول: وفي انطباق معنى الحديث على الآية بما لها من السياق وبما يشهد به الآيات النظائر خفاء، وقد تقدم البحث عن مدلول الآية مستمدا من الشواهد.

[ 77 ]

(سورة النور مدنية، وهي أربع وستون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون - 1. الزأنية والزأني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين - 2. الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين - 3. - والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون - 4. - إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم - 5. والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين - 6. والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين - 7. ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين - 8. - والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين - 9. ولو لا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم - 10.

[ 78 ]

(بيان) غرض السورة ما ينبئ عنه مفتتحها " سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون " فهي تذكرة نبذة من الاحكام المفروضة المشرعة ثم جملة من المعارف الالهية تناسبها ويتذكر بها المؤمنون. وهي سورة مدنية بلا خلاف وسياق آياتها يشهد بذلك ومن غرر الآيات فيها آية النور. قوله تعالى: " سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون " السورة طائفة من الكلام يجمعها غرض واحد سيقت لاجله ولذا اعتبرت تارة نفس الآيات بما لها من المعاني فقيل: " فرضناها "، وتارة ظرفا لبعض الآيات ظرفية المجموع للبعض فقيل أنزلنا فيها آيات بينات " وهي مما وضعه القرآن وسمي به طائفة خاصة من آياته وتكرر استعمالها في كلامه تعالى، وكأنه مأخوذ من سور البلد وهو الحائط الذي يحيط به سميت به سورة القرآن لاحاطتها بما فيها من الايات أو بالغرض الذي سيقت له. وقال الراغب: الفرض قطع الشئ الصلب والتأثير فيه كفرض الحديد وفرض الزند والقوس. قال: والفرض كالايجاب لكن الايجاب يقال اعتبارا بوقوعه وثباته، والفرض بقطع الحكم فيه، قال تعالى: " سورة أنزلناها وفرضناها " أي أوجبنا العمل بها عليك. قال: وكل موضع ورد " فرض الله عليه " ففي الايجاب الذي أدخله الله فيه، وما ورد " فرض الله له " فهو في أن لا يحظره على نفسه نحو " ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له ". انتهى. فقوله: " سورة أنزلناها وفرضناها " أي هذه سورة أنزلناها وأوجبنا العمل بما فيها من الاحكام فالعمل بالحكم الايجابي هو الاتيان به وبالحكم التحريمي الانتهاء عنه. وقوله: " وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون " المراد بها - بشهادة السياق - آية النور وما يتلوها من الآيات المبينة لحقيقة الايمان والكفر والتوحيد والشرك المذكر لهذه المعارف الالهية. قوله تعالى: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة الآية، الزنا

[ 79 ]

المواقعة من غير عقد أو شبهة عقد أو ملك يمين، والجلد هو الضرب بالسوط والرأفة التحنن والتعطف وقيل: هي رحمة في توجع، والطائفة في الاصل هي الجماعة كانوا يطوفون بالارتحال من مكان إلى مكان قيل: وربما تطلق على الاثنين وعلى الواحد. وقوله: " الزانية والزاني " الخ، أي المرأة والرجل اللذان تحقق منهما الزنا فاضربوا كل واحد منهما مائة سوط، وهو حد الزنا بنص الآية غير أنها مخصصة بصور: منها أن يكونا محصنين ذوي زوج أو يكون أحدهما محصنا فالرجم ومنها أن يكونا غير حرين أو أحدهما رقا فنصف الحد. قيل: وقدمت الزانية في الذكر على الزاني لان الزنا منهن أشنع ولكون الشهوة فيهن أقوى وأكثر والخطاب في الامر بالجلد متوجه إلى عامة المسلمين فيقوم بمن قام بأمرهم من ذوي الولاية من النبي والامام ومن ينوب منا به. وقوله: " ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله " الخ، النهي عن الرأفة من قبيل النهي عن المسبب بالنهي عن سببه إذ الرأفة بمن يستحق نوعا من العذاب توجب التساهل في إذاقته ما يستحقه من العذاب بالتخفيف فيه وربما أدى إلى تركه، ولذا قيده بقوله: " في دين الله " أي حال كون الرأفة أي المساهلة من جهتها في دين الله وشريعته. وقيل: المراد بدين الله حكم الله كما في قوله تعالى: " ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك " يوسف: 76 أي في حكمه أي لا تأخذكم هما رأفة في إنفاذ حكم الله وإقامة حده. وقوله: " إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " أي إن كنتم كذا وكذا فلا تأخذكم بهما رأفة ولا تساهلوا في أمرهما وفيه تأكيد للنهي. وقوله: " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " أي وليحضر ولينظر إلى ذلك جماعة منهم ليعتبروا بذلك فلا يقتربوا الفاحشة. قوله تعالى: " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين " ظاهر الآية وخاصة بالنظر إلى سياق ذيلها المرتبط بصدرها أن الذي تشمل عليه حكم تشريعي تحريمي وإن كان صدرها واردا في صورة الخبر فإن المراد النهي تأكيدا للطلب وهو شائع. والمحصل من معناها بتفسير من السنة من طرق ائمة أهل البيت عليهم السلام أن

[ 80 ]

الزاني إذا اشتهر منه الزنا وأقيم عليه الحد ولم تتبين منه التوبة يحرم عليه نكاح غير الزانية والمشركة، والزانية إذا اشتهر منها الزنا وأقيم عليه الحد ولم تتبين منه التوبة يحرم أن ينكحها إلا زان أو مشرك. فالآية محكمة باقية على إحكامها من غير نسخ ولا تأويل، وتقييدها بإقامة الحد وتبين التوبة مما يمكن أن يستفاد من والسياق فإن وقوع الحكم بتحريم النكاح بعد الامر بإقامة الحد يلوح إلى أن المراد به الزاني والزانية المجلودان، وكذا إطلاق الزاني والزانية على من ابتلي بذلك ثم تاب توبة نصوحا وتبين منه ذلك، بعيد من دأب القرآن وأدبه. وللمفسرين في معنى الآية تشاجرات طويلة وأقوال شتى: منها: أن الكلام مسوق للاخبار عما من شأن مرتكبي هذه الفاحشة أن يقصدوه وذلك أن من خبثت فطرته لا يميل إلا إلى من يشابهه في الخباثة ويجانسه في الفساد والزاني لا يميل إلا إلى الزانية المشاركة لها في الفحشاء ومن هو أفسد منها وهي المشركة، والزانية كذلك لا تميل إلا إلى مثلها وهو الزاني ومن هو أفسد منه وهو المشرك فالحكم وارد مورد الاعم الاغلب كما قيل في قوله تعالى: " الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات " الآية 26 من السورة. ومنها: أن المراد بالآية التقبيح، والمعنى: أن اللائق بحال الزاني أن لا ينكح إلا زانية أو من هي دونها وهي المشركة واللائق بحال الزانية أن لا ينكحها إلا زان أو من هو دونه وهو المشرك، والمراد بالنكاح العقد، وقوله: " وحرم ذلك على المؤمنين " معطوف على أول الآية، والمراد وحرم الزنا على المؤمنين. وفيه وفي سابقه مخالفتهما لسياق الآية وخاصة اتصال ذيلها بصدرها كما تقدمت الاشارة إليه. ومنها: أن الآية منسوخة بقوله تعالى: " وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ". وفيه أن النسبة بين الآيتين نسبة العموم والخصوص والعام الوارد بعد الخاص لا ينسخه خلافا لمن قال به نعم ربما أمكن أن يستفاد النسخ من قوله تعالى: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولامة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك

[ 81 ]

يدعون إلى النار والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه " البقرة: 221، بدعوي أن الآية وإن كانت من العموم بعد الخصوص لكن لسانها آب عن التخصيص فتكون ناسخة بالنسبة إلى جواز النكاح بين المؤمن والمؤمنة والمشرك والمشركة، وقد إدعى بعضهم أن نكاح الكافر للمسلمة كان جائزا إلى سنة ست من الهجرة ثم نزل التحريم فلعل الآية التي نحن فيها نزلت قبل ذلك، ونزلت آية التحريم بعدها وفي الآية أقوال أخر تركنا إيرادها لظهور فسادها. قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات ثم لم ياتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " الخ الرمي معروف ثم استعير لنسبة أمر غير مرضي إلى الانسان كالزنا والسرقة وهو القذف، والسياق يشهد أن المراد به نسبة الزنا إلى المرأة المحصنة لعفيفة، والمراد بالاتيان بأربعة شهداء وهم شهود الزنا إقامة الشهادة لاثبات ما قذف به، وقد أمر الله تعالى بإقامة الحد عليهم إن لم يقيموا الشهادة، وحكم بفسقهم وعدم قبول شهادتهم أبدا. والمعنى: والذين يقذفون المحصنات من النساء بالزنا ثم لم يقيموا أربعة من الشهود على صدقهم في قذفهم فاجلدوهم ثمانين جلدة على قذفهم وهم فاسقون لا تقبلوا شهادتهم على شئ أبدا. والآية كما ترى مطلقة تشمل من القاذف الذكر والانثى والحر والعبد، وبذلك تفسرها روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام. قوله تعالى: " إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " الاستثناء راجع إلى الجملة الاخيرة وهي قوله: " واولئك هم الفاسقون " لكنها لما كانت تفيد معنى التعليل بالنسبة إلى قوله: " ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا " - على ما يعطيه السياق - كان لازم ما تفيده من ارتفاع الحكم بالفسق ارتفاع الحكم بعدم قبول الشهادة أبدا، ولازم ذلك رجوع الاستثناء بحسب المعنى إلى الجملتين معا. والمعنى: إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا أعمالهم فإن الله غفور رحيم يغفر ذنبهم ويرحمهم فيرتفع عنهم الحكم بالفسق والحكم بعدم قبول شهادتهم أبدا. وذكر بعضهم: أن الاستثناء راجع إلى الجملة الاخيرة فحسب فلو تاب القاذف

[ 82 ]

وأصلح بعد أقامة الحد عليه غفر له ذنبه لكن لا تقبل شهادته أبدا خلافا لمن قال برجوع الاستثناء إلى الجملتين معا. والظاهر أن خلافهم هذا مبني على المسألة الاصولية المعنونة بأن الاستثناء الواقع بعد الجمل المتعددة هل يتعلق بالجميع أو بالجملة الاخيرة والحق في المسألة أن الاستثنا في نفسه صالح للامرين جميعا وتعين أحدهما منوطبما تقتضيه قرائن الكلام، والذي يعطيه السياق في الآية التي نحن فيها تعلق الاستثناء بالجملة الاخيرة غير أن إفأدتها للتعليل تستلزم تقيد الجملة السابقة أيضا بمعناه كالاخيرة على ما تقدم. قوله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم - إلى قوله - من الكاذبين " أي لم يكن لهم شهداء يشهدون ما شهدوا فيتحملوا الشهادة ثم يؤدوها إلا أنفسهم، وقوله: " فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله " أي شهادة أحدهم يعني القاذف وهو واحد أربع شهادات متعلقة بالله إنه لمن الصادقين فيما يخبر به من القذف. ومعنى الآيتين: والذين يقذفون أزواجهم ولم يكن لهم أربعة من الشهداء يشهدون ما شهدوا - ومن طبع الامر ذلك على تقدير صدقهم إذ لو ذهبوا يطلبون الشهداء ليحضروهم على الواقعة فيشهدوهم عليها فأت الغرض بتفرقهما - فالشهادة التي: يجب على أحدهم أن يقيمها هي أن يشهد أربع شهادات أي يقول مرة بعد مرة: " أشهد الله على صدقي فيما أقذفه به " أربع مرات وخامستها أن يشهد ويقول: لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين. قوله تعالى: " ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد " إلى آخر الآيتين، الدرء الدفع والمراد بالعذاب حد الزنا، والمعنى أن المرأة إن شهدت خمس شهادات بازاء شهادات الرجل دفع ذلك عنه حد الزنا، وشهاداتها أن تشهد أربع مرات تقول فيها: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين ثم تشهد خامسة فتقول: لعنة الله علي إن كان من الصادقين، وهذا هو اللعان الذي ينفصل به الزوجان. قوله تعالى: " ولو لا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب رحيم " جواب لو لا محذوف يدل عليه ما أخذ في شرطه من القيود إذ معناه لو لا فضل الله ورحمته وتوبته

[ 83 ]

وحكمته لحل بكم ما دفعته عنكم هذه الصفات والافعال فالتقدير على ما يعطيه ما في الشرط من القيود لو لا ما أنعم الله عليكم من نعمة الدين وتوبته لمذنبيكم وتشريعه الشرائع لنظم أمور حياتكم لزمتكم الشقوة، وأهلكتكم المعصية والخطيئة، واختل نظام ياتكم بالجهالة. والله أعلم. (بحث روائي) في الكافي بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: وسورة النور أنزلت بعد سورة النور أنزلت بعد النساء، وتصديق ذلك أن الله عزوجل أنزل عليه في سورة النساء " واللآتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا " والسبيل الذي قال الله عزوجل " سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم آمنتم بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ". وفي تفسير القمي وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " وليشهد عذابهما " يقول: ضربهما " طائفة من المؤمنين " يجمع لهما الناس إذا جلدوا. وفي التهذيب بإسناده عن غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عن أمير المؤمنين عليهم السلام في قول الله عزوجل: " ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله " قال: في إقامة الحدود، وفي قوله تعالى: " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " قال: الطائفة واحد. وفي الكافي بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: وأنزل بالمدينة " الزاني لا ينكح إلا ثانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين " فلم يسم الله الزاني مؤمنا ولا ألزانية مؤمنة، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس يمتري فيه أهل العلم أنه قال لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن فإنه إذا فعل ذلك خلع عنه الايمان كخلع القميص. وفيه بإسناده عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل:

[ 84 ]

" الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة " قال: هن نساء مشهورات ورجال مشهورون الزنا شهروا به وعرفوا به، والناس اليوم بذلك المنزل فمن أقيم عليه حد الزنا أو متهم بالزنا لم ينبغ لاحد أن يناكحه حتى يعرف منه التوبة. أقول وروأه أيضا بإسناده عن أبي الصباح عنه عليه السلام مثله، وبإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام ولفظه: هم رجال ونساء كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشهورين بالزنا فنهي الله عن اولئك الرجال والنساء، والناس اليوم على تلك المنزلة من شهر شيئا من ذلك أقيم عليه الحد فلا تزوجوه حتى تعرفوا توبته. وفيه بإسناده عن حكم بن حكيم عن أبي عبد الله عليه السلام في الآية قال: إنما ذلك في الجهر ثم قال: لو أن انسانا زنى ثم تاب تزوج حيث شاء. وفي الدر المنثور أخرج أحمد وعبد بن حميد والنسائي والحاكم وصححة وإبن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه وأبو داود في ناسخه عن عبد الله بن عمر قال: كانت إمرأة يقال: لها أم مهزول، وكانت تسافح الرجل وتشرط أن تنفق عليه فأراد رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يزوجها فأنزل الله: " الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ". أقول: وروي ما يقرب منه عن عدة من أصحاب الجوامع عن مجاهد. وفيه أخرج إبن أبي حاتم عن مقاتل قال: لما قدم المهاجرون المدينة قدموها وهم بجهد إلا قليل منهم، والمدينة غالية السعر شديدة الجهد، وفي السوق زوان متعالنات من أهل الكتاب، وأما الانصار منهن أمية وليدة عبد الله بن أبي ونسيكة بنت أمية لرجل من الانصار في بغايا من ولائد الانصار قد رفعت كل إمرأة منهن علامة على بابها ليعرف أنها زانية وكن من أخصب أهل المدينة وأكثره خيرا. فرغب أناس من مهاجري المسلمين فيما يكتسبن للذي هم فيه من الجهد فأشار بعضهم على بعض لو تزوجنا بعض هؤلاء الزواني فنصيب من بعض اطعماتهن فقال بعضهم: نستأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتوه فقالوا: يا رسول الله قد شق علينا الجهد ولا نجد ما نأكل، وفي السوق بغايا نساء أهل الكتاب وولائدهن وولائد الانصار يكتسبن لانفسهن فيصلح لنا أن نتزوج منهن فنصيب من فضول ما يكتسبن ؟ فإذا وجدنا عنهن

[ 85 ]

غني تركناهن فأنزل الله: " الزاني لا ينكح " الآية " فحرم على المؤمنين أن يتزوجوا الزواني المسافحات العالنات زناهن ". أقول: والروايتان إنما تذكران سبب نزول قوله: " الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك " دون قوله: " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ". وفي المجمع في قوله تعالى: " إلا الذين تابوا " اختلف في هذا الاستثناء إلى ما ذا يرجع على قولين: أحدهما أنه يرجع إلى الفسق خاصة دون قوله: " ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا " - إلى أن قال - والآخر أن الاستثناء يرجع إلى الامرين فإذا تاب قبلت شهادته حد أم لم يحد عن ابن عباس - إلى أن قال - وقول أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام. وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن سعيد بن المسيب قال: شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة بالزنا ونكل زياد فحد عمر الثلاثة، وقال لهم: توبوا تقبل شهادتكم فتاب رجلان ولم يتب أبو بكرة فكان لا تقبل شهادته، وكان أبو بكرة أخا زياد لامه فلما كان من أمر زياد ما كان حلف أبو بكرة أن لا يكلمه أبدا فلم يكلمه حتى مات. وفي التهذيب بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا قذف العبد الحر جلد ثمانين. وقال: هذا من حقوق الناس. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم - إلى قوله - إن كان من الصادقين " - فإنها نزلت في اللعان فكان سبب ذلك أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة تبوك جاء إليه عويمر بن ساعدة العجلاني وكان من الانصار وقال: يا رسول الله أن إمرأتي زنى بها شريك بن السمحاء وهي منه حامل فأعرض عنه رسول الله ص فأعاد عليه القول فأعرض عنه حتى فعل ذلك أربع مرات. فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منزله فنزلت عليه آية اللعان فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصلى بالناس العصر، وقال لعويمر: أئتني بأهلك فقد أنزل الله عز وجل فيكما قرآنا جاء إليها وقال لها: رسول الله يدعوك وكانت في شرف من قومها فجاء معها جماعة فلما دخلت المسجد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعويمر: تقدم إلى المنبر والتعنا فقال: كيف

[ 86 ]

أصنع ؟ فقال: تقدم وقل: أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميتها به فتقدم وقالها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أعدها فأعادها حتى فعل ذلك أربع مرات فقال له في الخامسة عليك لعنة الله أن كنت من الكاذبين فيما رميتها به فقال في الخامسة إن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن اللعنة موجبة إن كنت كاذبا ثم قال له: تنح فتنحى ثم قال لزوجته: تشهدين كما شهد، وإلا أقمت عليك حد الله فنظرت في وجوه قومها فقالت: لا أسود هذه الوجوه في هذه العشية فتقدمت إلى المنبر وقالت: أشهد بالله إن عويمر بن ساعدة من الكاذبين فيما رماني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أعيديها فأعادتها حتى أعادتها أربع مرات، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العني نفسك في الخامسة إن كان من الصادقين فيما رماك به، فقالت في الخامسة إن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماها به، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ويلك إنها موجبة إن كنت كاذبة. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لزوجها: إذهب فلا تحل لك أبدا. قال: يا رسول الله فما لي الذي أعطيتها. قال: إن كنت كاذبا فهو أبعد لك منه، وإن كنت صادقا فهو لها بما استحللت من فرجها. الحديث. وفي المجمع في رواية عكرمة عن ابن عباس: قال سعد بن عبادة لو أتيت لكاع وقد يفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء فو الله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب، وإن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا معشر الانصار ما تسمعون إلى ما قال سيدكم ؟ فقالوا: لا تلمه فإنه رجل غيور ما تزوج إمرأة قط إلا بكرا، ولا طلق امرأة له فاجتري رجل منا أن يتزوجها، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله بأبي أنت وأمي والله إني لا عرف أنها من الله وأنها حق ولكن عجبت من ذلك لما أخبرتك، فقال: فإن الله يأبي إلا ذلك، فقال: صدق الله ورسوله. فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاء ابن عم له يقال له: هلال بن أمية من حديقة له قد رأى رجلا مع إمرأته فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني جئت أهلي

[ 87 ]

عشاء فوجدت معها رجلا رأيته بعيني وسمعته بإذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى رئي الكراهة في وجهه فقال هلال: إني لا راى الكراهة في وجهك والله يعلم إني لصادق، وإني لارجو أن يجعل الله فرجا فهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بضربه. قال: واجتمعت الانصار وقالوا: ابتلينا بما قال سعد ايجلد هلال ويبطل شهادته ؟ فنزل الوحي وامسكوا عن الكلام حين عرفوا أن الوحي قد نزل فأنزل الله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم " الآيات. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أبشر يا هلال فإن الله تعالى قد جعل فرجا فقال: قد كنت أرجو ذلك من الله تعالى، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أرسلوا إليها فجاءت فلا عن بينهما فلما إنقضى اللعان فرق بينهما وقضي أن الولد لها ولا يدعي لاب ولا يرمي ولدها ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن جاءت به كذا وكذا فهو لزوجها وإن جاءت به كذا وكذا فهو للذي قيل فيه. أقول: ورواه في الدر المنثور عن عدة من أرباب الجوامع عن ابن عباس. * * * إن الذين جاؤا بالافك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الاثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم - 11. لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين - 12. لو لا جاؤا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون - 13. ولو لا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم - 14. إذ تلقونه

[ 88 ]

بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم - 15. ولو لا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم - 16. يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين - 17. ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم - 18. إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون - 19. ولو لا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤف رحيم - 20. يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكى من يشاء والله سميع عليم - 21. ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم - 22. إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم - 23. يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون - 24. يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين - 25. الخبيثات

[ 89 ]

للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرؤن مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم - 26. (بيان) الآيات تشير إلى حديث الافك، وقد روي أهل السنة أن المقذوفة في قصة الافك هي أم المؤمنين عائشة، وروت الشيعة أنها مارية القبطية أم إبراهيم التي أهداها مقوقس ملك مصر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكل من الحديثين لا يخلو عن شئ على ما سيجئ في البحث الروائي الآتي. فالاحرى أن نبحث عن متن الآيات في عزل من الروايتين جميعا غير أن من المسلم أن الافك المذكور فيها كان راجعا إلى بعض أهل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إما زوجه وإما أم ولده وربما لوح إليه قوله تعالى: " وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم " وكذا ما يستفاد من الآيات أن الحديث كان قد شاع بينهم وأفاضوا فيه وسائر ما يومي إليه من الآيات. والمستفاد من الآيات أنهم رموا بعض أهل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالفحشاء، وكان الرامون عصبة من القوم فشاع الحديث بين الناس يتلقاه هذا من ذاك، وكان بعض المنافقين أو الذين في قلوبهم مرض يساعدون على إذاعة الحديث حبا منهم أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا فأنزل الله الآيات ودافع عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: " إن الذين جاؤا بالافك عصبة منكم " الخ، الافك على ما ذكره الراغب الكذب مطلقا والاصل في معناه أنه كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه كالاعتقاد المصروف عن الحق إلى الباطل - والفعل المصروف عن الجميل إلى القبيح، والقول المصروف عن الصدق إلى الكذب، وقد استعمل في كلامه تعالى في جميع هذه المعاني. وذكر أيضا أن العصبة جماعة متعصبة متعاضدة، وقيل: إنها عشرة إلى أربعين. والخطاب في الآية وما يتلوها من الآيات لعامة المؤمنين ممن ظاهره الايمان أعم من المؤمن بحقيقة الايمان والمنافق ومن في قلبه مرض، وأما قول بعضهم: إن المخاطب

[ 90 ]

بالخطابات الاربعة الاول أو الثاني والثالث والرابع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمقذوفة والمقذوف ففيه تفكيك بين الخطابات الواقعة في الآيات العشر الاول وهي نيف وعشرون خطابا أكثرها لعامة المؤمنين بلا ريب. وأسوأ حالا منه قول بعض آخر إن الخطابات الاربعة أو الثلاثة المذكورة لمن ساءه ذلك من المؤمنين فإنه مضافا إلى استلزامه التفكيك بين الخطابات المتوالية مجازفة ظاهرة. والمعنى: إن الذين أتوا بهذا الكذب - واللام في الافك لعهد - جماعة معدودة منكم مرتبط بعضهم ببعض، وفي ذلك إشارة إلى أن هناك تواطؤا منهم على إذاعة هذا الخبر ليطعنوا به في نزاهة بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويفضحوه بين الناس. وهذا هو فائدة الخبر في قوله: " إن الذين جاؤا بالافك عصبة منكم " لا تسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو تسليته وتسلية من ساءه هذا الافك كما كره بعضهم فإن السياق لا يساعد عليه. وقوله: " لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم " مقتضى كون الخطاب لعامة المؤمنين أن يكون المراد بنفي كونه شرا لهم وإثبات كونه خيرا أن المجتمع الصالح من سعادته أن يتميز فيه أهل الزيغ والفساد ليكونوا على بصيرة من أمرهم وينهضوا لا صلاح ما فسد من أعضائهم وخاصة في مجتمع ديني متصل بالوحي ينزل عليهم الوحي عند وقوع أمثال هذه الوقائع فيعظهم ويذكرهم بما هم في غفلة منه أو مساهلة حتى يحتاطوا لدينهم ويتفطنوا لما يهمهم. والدليل على ما ذكرنا قوله بعد: " لكل أمرئ منهم ما اكتسب من الاثم " فإن الاثم هو الاثر السيئ الذي يبقي للانسان عن اقتراف المعصية فظاهر الجملة أن أهل الافك الجائين به يعرفون بإثمه ويتميزون به عندكم فيفتضحون به بدل ما ارادوا أن يفضحوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما قول من قال: إن المراد بكونه خيرا لهم أنهم يثابون بما اتهموهم بالافك كما أن أهل الافك يتأثمون به فمبني على كون الخطاب للمتهمين خاصة وقد عرفت فساده. وقوله: " والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم " فسروا كبره بمعنى معظمه

[ 91 ]

والضمير للافك، والمعنى: والذي تولى معظم الافك وأصر على إذاعته بين الناس من هؤلاء الآفكين له عذاب عظيم. قوله تعالى: " لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين " توبيخ لهم إذ لم يردوا الحديث حينما سمعوه ولم يظنوا بمن رمي به خيرا. وقوله: " ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم " من وضع الظاهر موضع المضمر، والاصل " ظننتم بأنفسكم " والوجه في تبديل الضمير وصفا الدلالة على علة الحكم فإن صفة الايمان رادعة بالطبع تردع المتلبس بها عن الفحشاء والمنكر في القول والفعل فعلي المتلبس بها أن يظن على المتلبسين بها خيرا، وأن يجتنب القول فيهم بغير علم فإنهم جميعا كنفس واحدة في التلبس بالايمان ولوازمه وآثاره. فالمعنى: ولولا إذ سمعتم الافك ظننتم بمن رمي به خيرا فإنكم جميعا مؤمنون بعضكم من بعض والمرمي به من أنفسكم وعلى المؤمن أن يظن بالمؤمن خيرا ولا يصفه بما لا علم له به. وقوله: " قالوا هذا إفك مبين " أي قال المؤمنون والمؤمنات وهم السامعون - أي قلتم - هذا إفك مبين لان الخبر الذي لا علم لمخبره به والدعوي التي لا بينة لمدعيها عليها محكوم شرعا بالكذب سواء كان بحسب الواقع صدقا أو كذبا، والدليل عليه قوله في الآية التالية: " فإذ لم يأتوا بالشهداء فاولئك عند الله هم الكاذبون ". قوله تعالى: " لو لا جاؤا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فاولئك عند الله هم الكاذبون " أي لو كانوا صادقين فيما يقولون ويرمون لا قاموا عليه الشهادة وهي في الزنا بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فهم محكومون شرعا بالكذب لان الدعوي غير بينة كذب وفك. قوله تعالى: " ولو لا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم " إفاضة القوم في الحديث خوضهم فيه. وقوله: " ولو لا فضل الله " الخ، عطف على قوله: " لو لا إذ سمعتموه " الخ، وفيه كرة ثانية على المؤمنين، وفي تقييد الفضل الرحمة بقوله: " في الدنيا والآخرة " دلالة على كون العذاب المذكور ذيلا هو عذاب الدنيا والآخرة.

[ 92 ]

والمعنى: ولو لا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لوصل إليكم بسبب ما خضتم فيه من الافك عذاب عظيم في الدنيا والآخرة. قوله تعالى: " إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم " الخ، الظرف متعلق بقوله: " أفضتم " وتلقي الانسان القول أخذه القول الذي ألقه إليه غيره، وتقييد التلقي بألالسنة للدلالة على أنه كان مجرد إنتقال القول من لسان إلى لسان من غير تثبت وتدبر فيه. وعلى هذا فقوله: " وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم " من قبيل عطف التفسير، وتقييده أيضا بقوله: " بأفواهكم " للاشارة إلى أن القول لم يكن عن تثبت وتبين قلبي ولم يكن له موطن إلا الافواه لا يتعداها. والمعنى: أفضتم وخضتم فيه إذ تأخذونه وتنقلونه لسانا عن لسان وتتلفظون بما لا علم لكم به. قوله: " وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم " أي تظنون التلقي بألسنتكم والقول بأفواهكم من غير علم سهلا وهو عند الله عظيم لانه بهتان وافتراء، على أن الامر مرتبط بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وشيوع إفك هذا شأنه بين الناس يفضحه عندهم ويفسد أمر الدعوة الدينية. قوله تعالى: " ولو لا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم " عطف بعد عطف على قوله: " لو لا إذ سمعتموه " الخ، وفيه كرة ثالثة على المؤمنين بالتوبيخ، وقوله: " سبحانك " اعتراض بالتنزيه لله سبحانه وهو من أدب القرآن أن ينزه الله بالتسبيح عند تنزيه كل منزه. والبهتان الافتراء سمي به لانه يبهت الانسان المفتري عليه وكونه بهتانا عظيما لانه افتراء في عرض وخاصة إذ كان متعلقة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما كان بهتانا لكونه إخبارا من غير علم ودعوي من غير بينة كما تقدم في قوله: " فإذ لم يأتوا بالشهداء فاولئك عند الله هم الكاذبون " ومعنى الآية ظاهر. قوله تعالى: " يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا " إلى آخر الآيتين موعظة بالنهي عن العود لمثله، ومعنى الآيتين ظاهر.

[ 93 ]

قوله تعالى: " إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا " إلى آخر الآية إن كانت الآية نازلة في جملة آيات الافك ومتصله بما تقدمها وموردها الرمي بالزنا بغير بينه كان مضمونها تهديد الرامين المفيضين في الافك لكونه فاحشة وشاعته في المؤمنين حبا منهم لشيوع الفاحشة. فالمراد بالفاحشة مطلق الفحشاء كالزنا والقذف وغير ذلك، وحب شيوعها ومنها القذف في المؤمنين مستوجب عذابا أليما لمحبيه في الدنيا والآخرة. وعلى هذا فلا موجب لحمل العذاب في الدنيا على الحد إذ حب شيوع الفحشاء ليس مما يوجب الحد، نعم لو كان اللام في " الفاحشة " للعهد والمراد بها القذف وكان حب الشيوع كناية عن قصه الشيوع بالافاضة والتلقي بالالسن والنقل أمكن حمل العذاب على الحد لكن السياق لا يساعد عليه. على أن الرمي بمجرد تحققه مرة موجب للحد ولا موجب لتقييده بقصد الشيوع ولا نكتة تستدعي ذلك. وقوله: " والله يعلم وأنتم لا تعلمون " تأكيد وإعظام لما فيه من سخط الله وغضبه وإن جهله الناس. قوله تعالى: " ولو لا فضل الله عليكم ورحمته " تكرارا للامتنان ومعناه ظاهر. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر " تقدم تفسير الآية في الآية 208 من سورة البقرة في الجزء الثاني من الكتاب. قوله تعالى: " ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا " إلى آخر الآية. رجوع بعد رجوع إلى الامتنان بالفضل والرحمة، لا يخلو هذا الاهتمام من تأييد لكون الافك متعلقا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس إلا لكرامته على الله سبحانه. وقد صرح في هذه المرة الثالثة بجواب لو لا وهو قوله: " ما زكى منكم من أحد أبدا " وهذا مما يدل عليه العقل فإن مفيض الخير والسعادة هو الله سبحانه، والتعليم القرآني أيضا يعطيه كما قال تعالى: " بيدك الخير " آل عمران: 26، وقال: " ما أصابك من حسنة فمن الله " النساء: 79. وقوله: " ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم " إضراب عما تسمه فهو تعالى يزكى من يشاء فالامر إلى مشيته، ولا يشاء إلا تزكية من استعد لها وسأله بلسان استعداده

[ 94 ]

ذلك، واليه يشير قوله: " والله سميع عليم " أي سميع لسؤال من سأله التزكية عليم بحال من إستعد لها. قوله تعالى: " ولا يأتل اولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله " الخ، الايتلاء التقصير والترك والحلف، وكل من المعاني الثلاثة لا يخلو من مناسبة، والمعنى لا يقصر أولوا الفضل منكم والسعة يعني الاغنياء في إيتاء اولى القرابة والمساكين والمهاجرين في سبيل الله من مالهم أو لا يترك إيتاءهم أو لا يحلف أن لا يؤتيهم - وليعفوا عنهم وليصفحوا - ثم حرضهم بقوله: " ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ". وفي الآية - على تقدير نزولها في جملة الآيات واتصالها بها - دلالة على أن بعض المؤمنين عزم على أن يقطع ما كان يؤتيه بعض أهل الافك فنهاه الله عن ذلك وحثه على إدامة الايتاء كما سيجئ. قوله تعالى: " إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة و لهم عذاب عظيم " أخذ الصفات الثلاث الاحصان والغفلة والايمان للدلالة على عظم المعصية فإن كلا من لاحصان بمعنى العفة والغفلة والايمان سبب تام في كون الرمي ظلما والرامي ظالما والمرمية مظلومة فإذا جتمعت كان الظلم أعظم ثم أعظم، وجزاؤه اللعن في الدنيا والآخرة والعذاب العظيم، والآية عامة وإن كان سبب نزولها لو نزلت في جملة آيات الافك خاصا. قوله تعالى: " يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون " الظرف متعلق بقوله في الآية السابقة: " ولهم عذاب عظيم ". والمراد بقوله: " بما كانوا يعملون " كما يقتضيه إطلاقه مطلق الاعمال السيئة - كما قيل - لا خصوص الرمي بأن تشهد ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم على رميهم فالمراد بالشهادة شهادة الاعضاء على السيئآت والمعاصي بحسب ما يناسبها فما كان منها من قبيل الاقوال كالقذف والكذب والغيبة ونحوها شهدت عليه الالسنة، وما كان منها من قبيل الافعال كالسرقة والمشي للنميمة والسعاية وغيرهما شهدت عليه بقيه الاعضاء، وإذ كان معظم المعاصي من الافعال للايدي والا رجل اختصتا بالذكر. وبالحقيقة الشاهد على كل فعل هو العضو الذي صدر منه كما يشير إليه قوله تعالى: "

[ 95 ]

شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون " حم السجدة: 20، وقوله: " إن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤلا " أسرى: 36، وقوله: " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " يس: 65، وسيأتي الكلام على شهادة الاعضاء يوم القيامة في بحث مستقل في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون إن الله هو الحق المبين " المراد بالدين الجزاء كما في قوله: " مالك يوم الدين " الحمد: 4، وتوفية الشئ بذله تاما كاملا، والمعنى: يوم القيامة يؤتيهم الله جزاءهم الحق إيتاء تاما كاملا ويعلمون أن الله هو الحق المبين. هذا بالنظر إلى اتصال الآية بما قبلها ووقوعها في سياق ما تقدمها، وأما بالنظر إلى استقلالها في نفسها فمن الممكن أن يراد بالدين ما يرادف الملة وهو سنة الحياة، وهو معنى عال يرجع إلى ظهور الحقائق يوم القيامة للانسان، ويكون أكثر مناسبة لقوله: " ويعلمون أن الله هو الحق المبين ". والآية من غرر الآيات القرآنية تفسر معنى معرفة الله فإن قوله: " ويعلمون أن الله هو الحق المبين " ينبئ أنه تعالى هو الحق لا سترة عليه بوجه من الوجوه ولا على تقدير من التقادير فهو من أبده البديهيات التي لا يتعلق بها جهل لكن البديهي ربما يغفل عنه فالعلم به تعالى هو ارتفاع الغفلة عنه الذي ربما يعبر عنه بالعلم، وهذا هو الذي يبدو لهم يوم القيامة فيعلمون أن الله هو الحق المبين. وإلى مثله يشير قوله تعالى: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " ق: 22. قوله تعالى: " الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات " الخ ذيل الآية " اولئك مبرؤن مما يقولون " دليل على أن المراد بالخبيثات والخبيثين والطيبات والطيبين نساء ورجال متلبسون بالخباثة والطيب فالآية من تمام آيات الافك متصلة بها مشاركة لها في سياقها وهي عامة لا مخصص لها من جهة اللفظ البتة. فالمراد بالطيب الذي يوجب كونهم مبرئين مما يقولون على ما تدل عليه الآيات

[ 96 ]

السابقة هو المعني الذي يقتضيه تلبسهم بالايمان والاحصان فالمؤمنون والمؤمنات مع الاحصان طيبون وطيبات يختص كل من الفريقين بصاحبه، وهم بحكم الايمان والاحصان مصونون مبرؤن شرعا من الرمي بغير بينة محكومون من جهة إيمانهم بأن لهم مغفرة كما قال تعالى: " وآمنوا بيغفر لكم من ذنوبكم " الاحقاف: 31 ولهم رزق كريم، وهو الحياة الطيبة في الدنيا والاجر الحسن في الآخرة كما قال: " من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " النحل: 97. والمراد بالخبث في الخبيثين والخبثات وهم غير المؤمنين هو الحال المستقذرة التي يوجبها لهم تلبسهم بالكفر وقد خصت خبيثاتهم بخبيثهم وخبيثوهم بخبيثاتهم بمقتضي المجانسة والمسانخة وليسوا بمبرئين عن التلبس بالفحشاء - نعم هذا ليس حكما بالتلبس -. فظهر بما تقدم: أولا: أن الآية عامة بحسب اللفظ تصف المؤمنين والمؤمنات بالطيب ولا ينافي ذلك إختصاص سبب نزولها وانطباقها عليه. وثانيا إنها تدل على كونهم جميعا محكومين شرعا بالبراءة عما يرمون به ما لم تقم عليه بينة. وثالثا: أنهم محكومون بالمغفرة والرزق الكريم كل ذلك حكم ظاهري لكرامتهم على الله بإيمانهم، والكفار على خلاف ذلك. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وأحمد والبخاري وعبد بن حميد ومسلم وابن جرير وابن المنذر وبن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يخرج إلى سفر أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معه. قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما نزل الحجاب وأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله ععليه وآله وسلم من غزوته تلك وقفل.

[ 97 ]

فدنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار (1) قد إنقطع فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه علي بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه، وكانت النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم إنما تأكل المرأة العلقة (2) من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل فساروا فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فيممت منزلي الذي كنت به فظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلى فبينانا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت. وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكراني من وراء الجيش فأدلج (3) فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي - والله ما كلمني كلمة واحدة ولا سمعت منه كلمة غير إسترجاعه حتى أناخ راحلته فوطى على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك في من هلك. وكان الذي تولى الافك عبد الله بن أبي بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الافك لا أشعر بشئ من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله ص اللطف الذي كنت أرى منه حين اشتكى إنما يدخل علي فيسلم ثم يقول: كيف تيكم ؟ ثم ينصرف فذاك الذي يريبني


(1) ظفار كقطام بلد باليمين قرب صنعاء، وجزع ظفاري منسوب إليها والجزع الخرز وهو الذي فيه سواد وبياض. (2) العلقة من الطعام ما يمسك به الرمق. (3) أدلج القوم: سارو الليل كله أو في آخره. (*)

[ 98 ]

ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع (1) هي متبرزنا وكنا لا نخرج إ لا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الاول في التبرز قبل الغائط فكنا نتأذي بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا. فانطلقت أنا وأم مسطح فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي قد أشرعنا (2) من ثيابنا فعثرت أم مسطح في مرطها (3) فقالت: تعس مسطح فقلت لها: بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا ؟ قالت: إي هنتاه (4) أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت: وما قال: فأخبرتني بقول أهل الافك فازددت مرضا على مرضي. فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآلله وسلم فسلم ثم قال: كيف تيكم ؟ فقلت: أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ - قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما - قالت: فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجئت لابوي فقلت لامي: يا أمتاه ما يتحدث الناس ؟ قالت يا بنية هو عليك فو الله لقلما كانت أمرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها فقلت: سبحان الله ولقد تحدث الناس بهذا ؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي. ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود فقال: يا رسول الله أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثيرة وإن تسأل الجارية تصدقك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت شيئا يريبك ؟ قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا أغمضه أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن فيأكله.


(1) المناصع: المواضع ينخلي فيها لبول أو حاجة. (2) أي رفعنا ثيابنا. (3) المرط - بالكسر - كساء واسع يؤتزر به وربما تلقيه المرأة على رأسها وتتلفع به. (4) خطاب للمرأة يقال للرجل يا هناه. (*)

[ 99 ]

فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبي فقال وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلى إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي. فقام سعد بن معاذ الانصاري فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الاوس ضربت عنقه وإن من إخواننا من بني الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد: كذبت لعمر الله ما تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبت لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاورا الحيان: الاوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم على المنبر فلم يزل رسول صلى الله عليه وآله وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت. فبكيت يومي ذلك فلا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم فأصبح أبو اي عندي وقد بكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع وأبو اي يظنان أن البكاء فالق كبدي. فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكى فاستأذنت علي إمرأة من الانصار فأذنت لها فجلست تبكي معي فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم جلس ولم يجلس عندي منذ قيل في ما قيل قبلها وقد لبث شهر الا يوحي إليه في شأني بشئ، فتشهد حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرؤك الله، وإن كنت الممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه. فلما قضي رسول الله صلى اللله عليه وآله وسلم مقالته قلص (1) دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لابي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت لامي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.


(1) قلص: اجتمع وانقبض. (*)

[ 100 ]

فقلت وأنا جارية حديثة لا أقرأ كثيرا من القرآن: إني والله لقد علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى إستقر في أنفسكم وصدقتم به فلئن قلت لكم: إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني، والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا قول أبي يوسف: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون. ثم تحولت فاضطجعت على فراشي وأنا حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مبرئي ببرأتي ولكن والله ماكنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا يبرئني الله بها. قالت: فو الله ما رام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق وهو في يوشات من ثقل القول الذي أنزل عليه فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سري عنه وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة أما الله فقد برأك، فقالت أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي، وأنزل الله: " إن الذين جاؤا بالافك عصبة منكم " العشر الآيات كلها. فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله: " ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربي والمساكين - إلى قوله - رحيم " قال أبو بكر: والله إني احب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا. قالت عائشة: فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأل زينب ابنة جحش عن أمري فقال: يا زينب ماذا علمت أو رأيت ؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ما علمت إلا خيرا، قالت: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعصمها الله بالورع، وطفقت اختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الافك.

[ 101 ]

أقول: والرواية مروية بطرق أخرى عن عائشة أيضا وعن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبي اليسر الانصاري وأم رومان أم عائشة وغيرهم وفيها بعض الاختلاف. وفيها أن الذين جاؤا بالافك عبد الله بن أبي بن سلول ومسطح بن أثاثة وكان بدريا من السابقين الاولين من المهاجرين، وحسان بن ثابت، وحمنة أخت زينب زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاهم بعد ما نزلت آيات الافك فحدهم جميعا غير أنه حد عبد الله بن أبي حدين وإنما حده حدين لانه من قذف زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان عليه حدان. وفي الروايات على تقاربها في سرد القصة إشكال من وجوه: أحدها: أن المسلم من سياقها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في ريب من أمر عائشة بعد تحقق الافك كما يدل عليه تغير حاله بالنسبة إليها في المعاملة باللطف أيام شتكائها وبعدها حتي نزلت الآيات، ويدل عليه قولها له حين نزلت الآيات وبشرها به: بحمد الله لا بحمدك، وفي بعض الروايات أنها قالت لابيها وقد أرسله النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليبشرها بنزول العذر: بحمد الله لا بحمد صاحبك الذي أرسلك، تريد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الرواية الاخرى عنها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما وعظها أن تتوب إلى الله إن كان منها شئ وفي الباب إمرأة جالسة قالت له عائشة: أما تستحي من هذه المرأة أن تذكر شيئا، ومن المعلوم أن هذا النوع من الخطاب المبني على الاهانة والازراء ما كان يصدر عنها لو لا أنها وجدت النبي في ريب من أمرها. كل ذلك مضافا إلى التصريح به في رواية عمر ففيها: " فكان في قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما قالوا ". وبالجملة دلالة عامة الروايات على كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ريب من أمرها إلى نزول العذر مما لا ريب فيه، وهذا مما يجل عنه مقامه صلى الله عليه وآله وسلم كيف ؟ وهو سبحانه يقول: " لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين " فيوبخ المؤمنين والمؤمنات على إساءتهم الظن وعدم ردهم ما سمعوه من الافك فمن لوازم الايمان حسن الظن بالمؤمنين، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أحق من يتصف بذلك ويتحرز من سوء الظن الذي من الاثم وله مقام النبوة والعصمة الالهية. على أنه تعالى ينص في كلامه على إتصافه صلى الله عليه وآله وسلم بذلك إذ يقول: " ومنهم الذين

[ 102 ]

يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم " التوبة: 61. على أنا نقول: إن تسرب الفحشاء إلى أهل النبي ينفر القلوب عنه فمن الواجب أن يطهر الله سبحانه ساحة أزواج الانبياء عن لوث الزنا والفحشاء وإلا لغت الدعوة وتثبت بهذه الحجة العقلية عفتهن واقعالا ظاهرا فحسب، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أعرف بهذه الحجة منا فكيف جاز له أن يرتاب في أمر أهله برمي من رام أو شيوع من إفك. وثانيها: أن الذي تدل عليه الروايات أن حديث الافك كان جاريا بين الناس منذ بدأ به اصحاب الافك إلى أن ختم بحدهم أكثر من شهر وقد كان حكم القذف مع عدم قيام الشهادة معلوما وهو جلد القاذف وتبرئة المقذوف شرعا فما معنى توقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حد اصحاب الافك هذه المدة الطويلة وانتظاره الوحى في أمرها حتى يشيع بين الناس وتتلقاه الالسن وتسير به الركبان ويتسع الخرق على الراتق ؟ وما أتى به الوحي من العذر لا يزيد على ما تعينه آية القذف من براءة المقذوف حكما شرعيا ظاهريا. فإن قيل: الذي نزل من العذر براءتها واقعا وطهارة ذيلها في نفس الامر وهذا أمر لا تكفي له آية حد القاذف، ولعل صبره صلى الله عليه وآله وسلم هذه المدة الطويلة إنما كان لاجله. قلت: لا دلالة في شئ من هذه الآيات الست عشرة على ذلك، وإنما تثبت بالحجة العقلية السابقة الدالة على طهارة بيوت الانبياء من لوثة الفحشاء. أما الآيات العشر الاول التي فيها شائبة الاختصاص فاظهرها في الدلالة على براءتها قوله تعالى: " لو لا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فاولئك عند الله هم الكاذبون " وقد استدل فيها على كذبهم بعدم إتيانهم بالشهداء، ومن الواضح أن عدم إقامة الشهادة إنما هو دليل البراءة الظاهرية أعني الحكم الشرعي بالبراءة دون البراءة الواقعية لوضوح عدم الملازمة. وأما الآيات الست الاخيرة فقوله: " الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات " الخ عام من غير مخصص من جهة اللفظ فالذي تثبته من البراءة مشترك فيه بين جميع المقذوفين

[ 103 ]

من غير قيام بينمن المؤمنين والمؤمنات، ومن لواضح أن البراءة المناسبة لهذا المعنى هي البراءة الشرعية. والحق أن لا مناص عن هذا الاشكال إلا بالقول بأن آية القذف لم تكن نازلة قبل حديث الافك وإنما نزلت بعده، وإنما كان سبب توقفه صلى الله عليه وآله وسلم خلو الواقعة عن حكم الله بعد فكان ينتظر في أمر الافك الحكم السماوي. ومن أوضح الدليل عليه ما في الرواية من استعذار النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القاذف في المسجد وقول سعد بن معاذ ما قال ومجادلة سعد بن عبادة إياه واختلاف الاوس والخزرج بمحضر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي رواية عمر بعد ما ذكر اختلاف ابن معاذ وابن عبادة: فقال هذا: يا للاوس وقال هذا: يا للخزرج فاضطربو بالنعال والحجارة فتلاطموا، الحديث فلو كانت آية القذف نازلة قبل ذلك وحكم الحد معلوما لم يجب سعد بن معاذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه يعذره منه بالقتل ولقال هو وسائر لناس: يا رسول الله حكم القذف معلوم ويدك مبسوطة. وثالثها: أنها تصرح بكون أصحاب الافك هم عبد الله بن أبي ومسطحا وحسانا وحمنة ثم تذكر أنه صلى الله عليه وآله وسلم حد عبد الله بن أبي حدين وكلا من مسطح وحسان وحمنة حدا وأحدا، ثم تعلل حدي عبد الله بن أبي بأن من قذف أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعليه حدان، وهذا تناقض صريح فإنهم جميعا كانوا قاذفين بلا فرق بينهم. نعم تذكر الروايات أن عبد الله بن أبي كان هو الذي تولى كبره منهم لكن لم يقل أحد من الامة أن هذا الوصف يوجب حدين. ولا أن المراد بالعذاب العظيم في قوله: " الذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم " هو ثبوت حدين. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " إن الذين جاؤا بالافك عصبة منكم " الآية فإن العامة روت أنها نزلت في عائشة وما رميت به في غزوة بني المصطلق من خزاعة وأما الخاصة فإنهم رووا أنها نزلت في مارية القبطية وما رمتها به عائشة. حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا محمد بن عيسى عن الحسن بن على بن فضال قال: حدثني عبد الله بن بكير عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: لما هلك إبراهيم بن رسول الله صلى الله وآله وسلم حزن عليه حزنا شديدا فقالت عائشة: ما الذي

[ 104 ]

يحزنك عليه ما هو إلا ابن جريح، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام وأمره بقتله. فذهب على عليه السلام ومعه السيف وكان جريح القبطي في حائط فضرب على عليه السلام باب البستان فأقبل جريح له ليفتح الباب فلما رأى عليا عليه السلام عرف في وجهه الغضب فأدبر راجعا ولم يفتح باب البستان فوثب علي عليه السلام على الحائط ونزل إلى البستان واتبعه وولى جريح مدبرا فلما خشي أن يرهقه (1) صعد في نخلة وصعد على عليه السلام في أثره فلما دنا منه رمي بنفسه من فوق النخلة فبدت عورته فإذا ليس له ما للرجال ولا له ما للنساء. فانصرف علي عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: يا رسول الله إذا بعثتني في الامر أكون كالمسمار المحمي في الوبر أم أثبت ؟ قال: لا بل تثبت. قال: والذي بعثك بالحق ما له ما للرجال وما له ما للنساء، فقال: الحمد لله الذي صرف عنا السوء أهل البيت. وفيه في رواية عبيد الله بن موسى عن أحمد بن راشد عن مروان بن مسلم عن عبد الله بن بكير قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتل القبطي وقد علم أنها كذبت عليه أولم يعلم ؟ وقد دفع الله عن القبطي القتل بتثبيت على عليه السلام فقال: بل كان والله علم، ولو كان عزيمة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما انصرف على عليه السلام حتى يقتله، ولكن إنما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لترجع عن ذنبها فما رجعت ولا شتد عليها قتل رجل مسلم. أقول: وهناك روايات أخر تدل على مشاركة غيرها معها في هذا الرمي، وجريح هذا كان خادما خصيا لمارية أهداه معها مقوقس عظيم مصر لرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأرسله معها ليخدمها. وهذه الروايات لا تخلو من نظر: أما أولا: فلان ما فيها من القصة لا يقبل الانطباق على الآيات ولا سيما قوله: " إن


(1) أرهقه: أدركه. (*)

[ 105 ]

الذين جاؤابالافك " الآية وقوله: " لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا " الآية، وقوله: " تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم " الآية، فمحصل الآيات أنه كان هناك جماعة مرتبط بعضهم ببعض يذيعون الحديث ليفضحوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الناس يتداولونه لسانا عن لسان حتى شاع بينهم ومكثوا على ذلك زمانا وهم لا يراعون حرمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكرامته من الله، وأين مضمون هذه الروايات من ذلك. أللهم إلا أن تكون الروايات قاصرة في شرحها للقصة. وأما ثانيا: فقد كان مقتضى القصة وظهور براءتها إجراء الحد ولم يجر، ولا مناص عن هذا الاشكال إلا بالقول بنزول آية القذف بعد قصة الافك بزمان. والذي ينبغي أن يقال بالنظر إلى إشكال الحد الوارد على الصنفين من الروايات جميعا - كما عرفت - أن آيات الافك نزلت قبل آية حد القذف، ولم يشرع بنزول آيات الافك إلا براءة المقذوف مع عدم قيام الشهادة وتحريم القذف. ولو كان حد القاذف مشروعا قبل حديث الافك لم يكن هناك مجوز لتأخيره مدة معتدا بها وإنتظار الوحي، ولا نجا منه قاذف منهم، ولو كان مشروعا مع نزول آيات الافك لاشير فيها إليه، ولا أقل باتصال الآيات بآية القذف، والعارف أساليب الكلام لا يرتاب في أن قوله: " إن الذين جاؤا بالافك " الآيات منقطعة عما قبلها. ولو كان على من قذف أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حدان لاشير إلى ذلك في خلال آيات الافك بما فيها من التشديد واللعن والتهديد بالعذاب على القاذفين. ويتأكد الاشكال على تقدير نزول آية القذف مع نزول آيات الافك فإن لازمه أن يقع الابتلاء بحكم الحدين فينزل حكم الحد الواحد. وفي الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله قال: من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله عزوجل: " إن الذين يحبون - إلى قوله - والآخرة ". أقول: ورواه القمي في تفسيره عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام عنه عليه السلام

[ 106 ]

والصدوق في الامالي بإسناده عن ابن أبي عمير عن محمد بن حمران عنه عليه السلام، والمفيد في الاختصاص عنه عليه السلام مرسلا. وفيه بإسناده عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أذاع فاحشة كان كمبتدئها. وفي المجمع قيل: إن قوله: " ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة " الآية، نزلت في أبي بكر ومسطح بن أثاثة وكان ابن خالة أبي بكر، وكان من المهاجرين ومن جملة البدريين وكان فقيرا، وكان أبو بكر يجري عليه ويقوم بنفقته فلما خاض في الافك قطعها وحلف أن لا ينفعه بنفع أبدا فلما نزلت الآية عاد أبو بكر إلى ما كان، وقال: والله إني لا حب أن يغفر الله لي، والله لا أنزعها عنه أبدا. عن ابن عباس وعائشة وابن زيد. وفيه وقيل: نزلت في جماعة من الصحابة أقسموا على أن لا يتصدقوا على رجل تكلم بشئ من الافك ولا يواسوهم. عن ابن عباس وغيره. أقول ورواه في الدر المنثور عن ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس. وفي تفسير القمي وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر ع في قوله تعالى: " ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى " وهم قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا " يقول: يعفو بعضكم عن بعض، ويصفح بعضكم بعضا فإذا فعلتم كانت رحمة الله لكم، يقول الله عزوجل: " ألا تحبون لان يغفر الله لكم والله غفور رحيم ". في الكافي بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: ونزل بالمدينة " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ". فبراة الله ما كان مقيما على الفرية من أن يسمي بالايمان، قال الله عزوجل: " أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون " وجعله من أولياء إبليس قال: " إلا

[ 107 ]

إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه " وجعله ملعونا فقال: " إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب أليم، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ". وليست تشهد الجوارح على مؤمن إنما تشهد على من حقت عليه كلمة العذاب فأما المؤمن فيعطي كتابه بيمينه، قال الله عزوجل: " فأما من أوتى كتابه بيمينه فاولئك يقرؤن كتابهم ولا يظلمون فتيلا ". وفي المجمع في قوله تعالى: " الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات " الآية، قيل في معناه أقوال - إلى أن قال - الثالث الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء - عن أبي مسلم والجبائي وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام. قالا: هي مثل قوله: " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة " إلا أن أناسا هموا أن يتزوجوا منهن فنها هم الله عن ذلك وكره ذلك لهم. وفي الخصال عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا طاب قلب المرء طاب جسده، وإذا خبث القلب خبث الجسد. وفي الاحتجاج عن الحسن بن على عليه السلام: في حديث له مع معاوية وأصحابه وقد نالوا من علي عليه السلام: " الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات " هم والله يا معاوية أنت وأصحابك هؤلاء وشيعتك " والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات " إلى آخر الآية، هم على بن أبي طالب وأصحابه وشيعته. * * * يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون - 27. فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم

[ 108 ]

إرجعوا فأرجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم - 28. ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون - 29. قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون - 30. وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو ابنائهن أو ابناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الاربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا آية لمؤمنون لعلكم تفلحون - 31. وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم - 32. وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت إيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا

[ 109 ]

عرض الحيوة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم - 33. ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين - 34. (بيان) أحكام وشرائع متناسبة ومناسبة لما تقدم. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها " الخ، الانس بالشئ واليه الالفة وسكون القلب إليه، الاستيناس طلب ذلك بفعل يؤدي إليه كالاستيناس لدخول بيت بذكر الله والتنحنح ونحو ذلك ليتنبه صاحب البيت أن هناك من يريد الدخول عليه فيستعد لذلك فربما كان في حال لا يحب أن يراه عليها أحد أو يطلع عليها مطلع. ومنه يظهر أن مصلحة هذا الحكم هو الستر على عورات الناس والتحفظ على كرامة الايمان فإذا استأنس الداخل عند إرادة الدخول على بيت غير بيته فأخبر باستيناسه صاحب البيت بدخوله ثم دخل فسلم عليه فقد أعانه على ستر عورته، وأعطاه الامن من نفسه. ويؤدي الاستمرار على هذه السيرة الجميلة إلى استحكام الاخوة والالفة والتعاون العام على اظهار الجميل والستر على القبيح واليه الاشارة بقوله: " ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون " إي لعلكم بالاستمرار على هذه السيرة تتذكرون ما يجب عليكم رعايته وإحياؤه من سنة الاخوة وتألف القلوب التي تحتها كل سعادة اجتماعية. وقيل: إن قوله: " لعلكم تذكرون " تعليل لمحذوف والتقدير قيل لكم كذا لعلكم تتذكرون مواعظ الله فتعملوا بموجبها، ولا بأس به. وقيل: إن في قوله: " حتى تستأنسوا وتسلموا " تقديما وتأخيرا والاصل حتى تسلموا وتستأنسوا. وهو كما ترى.

[ 110 ]

قوله تعالى: " فإن لم تجدو فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم ". الخ، أي أن علمتم بعدم وجود أحد فيها - وهو الذي يملك الاذن - فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم من قبل من يملك الاذن، وليس المراد به أن يتطلع على البيت وينظر فيه فإن لم ير فيه أحدا كف عن الدخول فإن السياق يشهد على أن المنع في الحقيقة عن النظر والاطلاع على عورات الناس. وهذه الآية تبين حكم دخول بيت الغير وليس فيه من يملك الاذن، والآية السابقة تبين حكم الدخول وفيه من يملك الاذن ولا يمنع، وأما دخوله وفيه من يملك الاذن ويمنع ولا يأذن فيه فيبين حكمه قوله تعالى: " وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم ". قوله تعالى: " ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم " الخ، ظاهر السياق كون قوله: " فيها متاع لكم " صفة بعد صفة لقوله: " بيوتا " لا جملة مستأنفة معللة لقوله: " ليس عليكم جناح "، والظاهر أن المتاع بمعنى الاستمتاع. ففيه تجويز الدخول في بيوت معدة الانواع الاستمتاع وهي غير مسكونة بالطبع كالخانات والحمامات والارحية ونحوها فإن كونها موضوعة للاستمتاع إذن عام في دخولها. وربما قيل: إن المراد بالمتاع المعنى الاسمي وهو الاثاث والاشياء الموضوعة للبيع والشرى كما في بيوت التجارة والحوانيت فإنها مأذونة في دخولها إذنا عاما ولا يخلو من بعد لقصور اللفظ. قوله تعالى: " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون " الغض إطباق الجفن على الجفن، والابصار جمع بصر وهو العضو الناظر، ومن هنا يظهر أن " من " في " من أبصارهم " لابتداء الغاية لا مزيدة ولا للجنس ولا للتبعيض كما قال بكل قائل، والمعنى يأتوا بالغض آخذا من أبصارهم. فقوله: " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " لما كان " يغضوا " مترتبا على

[ 111 ]

قوله: " قل " ترتب جواب الشرط عليه دل ذلك على كون القول بمعنى الامر والمعنى مرهم يغضوا من أبصارهم والتقدير مرهم بالغض إنك إن تأمرهم به يغضوا، والآية أمر بغض الابصار وإن شئت فقل: نهي عن النظر إلى ما لا يحل النظر إليه من الاجنبي والاجنبية لمكان الاطلاق. وقوله: " ويحفظوا فروجهم " أي ومرهم يحفظوا فروجهم، والفرجة والفرج الشق بين الشيئين، وكنى به عن السوأة، وعلى ذلك جرى استعمال القرآن الملئ أدبا وخلقا ثم كثر استعماله فيها حتى صار كالنص كما ذكره الراغب. والمقابلة بين قوله: " يغضوا من أبصارهم " و " يحفظوا " فروجهم يعطي أن المراد بحفظ الفروج سترها عن النظر لا حفظها عن الزنا واللواطة كما قيل، وقد ورد في الرواية عن الصادق ع أن كل آية في القرآن في حفظ الفروج فهي من الزنا إلا هذه الآية فهي من النظر. وعلى هذا يمكن أن تتقيد أولى الجملتين بثانيتهما ويكون مدلول الآية هو النهي عن النظر إلى الفروج والامر بسترها. ثم أشار إلى وجه المصلحة في الحكم وحثهم على المراقبة في جنبه بقوله: " ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون ". قوله تعالى: " وقل للمؤمنات يغضضن " الخ، الكلام في قوله: " وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن " نظير ما مر في قوله: " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم " فلا يجوز لهن النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه ويجب عليهن ستر العورة عن الاجنبي والاجنبية. وأما قوله: " ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها " فالابداء الاظهار، والمراد بزينتهن مواضع الزينة لان نفس ما يتزين به كالقرط والسوار لا يحرم إبداؤها فالمراد بإبداء الزينة أبداء مواضعها من البدن. وقد استثنى الله سبحانه منها ما ظهر، وقد وردت الرواية أن المراد بما ظهر منها الوجه والكفان والقدمان كما سيجئ إن شاء الله.

[ 112 ]

وقوله: " وليضربن بخمرهن على جيوبهن " الخمر بضمتين جمع خمار وهو ما تغطي به المرأة رأسها وينسدل على صدرها، والجيوب جمع جيب بالفتح فالسكون وهو معروف والمراد بالجيوب الصدور، والمعنى وليلقين بأطراف مقانعهن على صدورهن ليسترنها بها. وقوله: " ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن - إلى قوله - أو بني أخواتهن " البعولة هم أزواجهن، والطوائف السبع الآخر محارمهن من جهة النسب والسبب، وأجداد البعولة حكمهم حكم آبائهم وأبناء أبناء البعولة حكمهم حكم الابناء. وقوله: " أو نسائهن " في الاضافة إشارة إلى أن المراد بهن المؤمنات من النساء فلا يجوز لهن التجرد لغيرهن من النساء وقد وردت به الروايات عن ائمة أهل البيت عليهم السلام. وقوله: " أو ما ملكت أيمانهن " إطلاقه يشمل العبيد والاماء، وقد وردت به الرواية كما سيأتي إن شاء الله، وهذا من موارد استعمال " ما " في أولى العقل. وقوله: " أو التابعين غير أولي الاربة من الرجال " الاربة هي الحاجة، والمراد به الشهوة التي تحوج إلى الازدواج، " من الرجال " بيان للتابعين، والمراد بهم كما تفسره الروايات البله المولى عليهم من الرجال ولا شهوة لهم. وقوله: " أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء " أي جماعة الاطفال - واللام للاستغراق - الذين لم يقووا ولم يظهروا - من الظهور بمعنى الغلبة - على أمور يسوء التصريح بها من النساء، وهو - كما قيل - كناية عن البلوغ. وقوله: " ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن " ذلك بتصوت أسباب الزينة كالخلخال والعقد والقرط والسوار. وقوله: " وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون " المراد بالتوبة - على ما يعطيه السياق - الرجوع إليه تعالى بامتثال أو امره والانتهاء عن نواهيه وبالجملة اتباع سبيله. قوله تعالى: " وانكحوا الايامي منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم " الانكاح

[ 113 ]

التزويج، والايامي جمع أيم بفتح الهمزة وكسر الياء المشددة وهو الذكر الذي لا أنثى معه والانثى التى لا ذكر معها وقد يقال في المرأة أيمة، والمراد بالصالحين الصالحون للتزويج لا الصالحون في الاعمال. وقوله: " إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله " وعد جميل بالغنى وسعة الرزق وقد أكده بقوله: " والله واسع عليم " والرزق يتبع صلاحية المرزوق بمشية من الله سبحانه، وسيوافيك إن شاء الله في تفسير قوله تعالى: " فو رب السماء والارض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون " الذاريات: 23 كلام في معنى سعة الرزق. قوله تعالى: " وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله " الاستعفاف والتعفف قريبا المعنى، والمراد بعدم وجدان النكاح عدم القدرة على المهر والنفقة، ومعنى الآية الامر بالتعفف لمن لا يقدر على النكاح والتحرز عن الوقوع في الزنا حتى يغنيه الله من فضله. قوله تعالى: " والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " الخ المراد بالكتاب المكاتبة، وابتغاء المكاتبة أن يسأل العبد مولاه أن يكاتبه على ايتائه المولى ما لا على أن يعتقه، وفي الآية أمر للموالي بإجابتهم إن علموا فيهم خيرا وهو كناية عن إحراز صلاحيتهم لذلك. وقوله: " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " إشارة إلى إيتائهم مال المكاتبة من الزكاة المفروضة فسهم من سهام الزكاة لهم، كما قال تعالى: " وفي الرقاب " التوبة: 60 أو إسقاطشئ من مال المكاتبة. وفي هذه الآية والآيات السابقة مباحث فقهية جمة ينبغى أن يراجع فيها كتب الفقه. قوله تعالى: " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا " الفتيات الاماء والولائد، والبغاء الزنا وهو مفاعلة من البغى، والتحصن التعفف والازدواج وابتغاء عرض الحياة الدنيا طلب المال، والمعنى ظاهر.

[ 114 ]

وإنما اشترط النهي عن الاكراه بإرادة التحصن لان الاكراه لا يتحقق فيمن لا يريد التحصن، ثم وعدهن المغفرة على تقدير الاكراه بقوله: " ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " ومعناه ظاهر. قوله تعالى: " ولقد أنزلنا اليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين " المثل الصفة، ومن الممكن أن يكون قوله: " ولقد أنزلنا " الخ، حالا من فاعل قوله: " توبوا " في الآية السابقة أو استينافا ووالمعنى وأقسم لقد أنزلنا إليكم آيات تبين لكم من معارف الدين ما تفلحون به، وصفة من السابقين أخيارهم وأشرارهم يتميز بها لكم ما ينبغى أن تأخذوا به مما ينبغى لكم أن تجتنبوا، وموعظة لمتقين منكم. (بحث روائي) في تفسير القمي بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل: " لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها " قال: الاستيناس وقع النعل والتسليم. أقول: ورواه الصدوق في معاني الاخبار عن محمد بن الحسن مرفوعا عن عبد الرحمن عنه عليه السلام. وفي المجمع عن أبي أيوب الانصاري قال: قلنا: يا رسول الله ما الاستيناس ؟ قال يتكلم الرجل بالتسبيحة والتحميدة والتكبيرة ويتنحنح على أهل البيت. وعن سهل بن سعد قال: اطلع رجل في حجرة من حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه مدري (1) يحك رأسه: لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينيك إنما الاستيذان من النظر. وروي أن رجلا قال للنبي ص: أستأذن على أمي ؟ فقال: نعم. قال:


(1) المشط. (*)

[ 115 ]

إنها ليس لها خادم غيري أفأستأذن عليها كلما دخلت ؟ قال: أن تراها عريانة ؟ قال الرجل: لا، قال: فاستأذن عليها. وروي أن رجلا استأذ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتنحنح فقال صلى الله عليه وآله وسلم لامرأة يقال لها: روضة: قومي إلى هذا فعلمية وقولى له: قل: السلام عليكم أأدخل ؟ فسمعها الرجل فقالها فقال: إدخل. أقول: وروي في الدر المنثور عن جمع من أصحاب الجوامع الرواية الاولى عن أبي أيوب، والثانية عن سهل بن سعد والرابعة عن عمرو بن عد الثقفي. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الاستيذان في البيوت فقال: من دخلت عينه قبل أن يستأذن ويسلم - فقد عصى الله ولا إذن له. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم "، قال: معناه وإن لم تجدوا فيها أحدا يأذن لكم فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم. وفيه في قوله تعالى: " ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم " قال الصادق عليه السلام: هي الحمامات والخانات والارحية تدخلها بغير إذن. وفي الكافي بإسناده عن أبي عمر والزبيري عن أبي عبد الله عليه اللسلام في حديث يذكر فيه ما فرض الله على الجوارح. قال: وفرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرم الله عليه، وأن يعرض عما نهي الله عنه مما لا يحل له وهو عمله وهو من الايمان. فقال تبارك وتعالى: " قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم ويحفظوا فروجهم " فنهاهم أن ينظروا إلى عوراتهم وأن ينظر المرء إلى فرج أخيه، ويحفظ فرجه أن ينظر إليه، وقال: " وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن ويحفظن فروجهن " من أن تنظر إحداهن إلى فرج أختها وتحفظ فرجها من أن ينظر إليه. وقال: كل شئ في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلا هذه الآية فهو من النظر.

[ 116 ]

أقول: وروي القمي في تفسيره ذيل الحديث عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عنه عليه السلام، وروي مثله عن أبي العالية وابن زيد. وفي الكافي بإسناده عن سعد الاسكاف عن أبي جعفر عليه السلام قال: استقبل شاب من الانصار إمرأة بالمدينة وكان النساء يتقنعن خلف آذانهن فنظر إليها وهي مقبلة فلما جازت نظر إليها ودخل في زقاق قد سماه ببني فلان، وجعل ينظر خلفها، واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشق وجهه فلما مضت المرأة نظر فإذ الدماء تسيل على ثوبه وصدره فقال: والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا خبرنه. قال: فأتاه فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: ما هذا ؟ فأخبره فهبط جبرئيل بهذه الآية " قل لمؤمنين يغضوا من ابصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون ". أقول: ورواه في الدر المنثور عن ابن مردويه عن على بن أبي طالب مثله، وظاهر الحديث أن المراد بالامر بالغض في الآية النهي عن مطلق النظر إلى الاجنبية كما أن ظاهر بعض الروايات السابقة أنه نهي عن النظر إلى فرج الغير خاصة. وفيه بإسناده عن مروك بن عبيد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: ما يحل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرما ؟ قال: الوجه والكفان والقدمان. أقول: ورواه في الخصال عن بعض أصحابنا عنه عليه السلام ولفظه: الوجه و الكفين والقدمين. وفي قرب الاسناد للحميري عن على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن الرجل ما يصلح له أن ينظر إليه من المرأة التي لا تحل له ؟ قال: الوجه والكف وموضع السوار. وفي الكافي بإسناده عن عباد بن صهيب قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لا بأس بالنظر إلى رؤس أهل تهامة له والاعراب وأهل السواد والعلوج لانهم إذا نهوا لا ينتهون (1).


(1) رعاية التذكير لاعتبار الاهل والقوم في مرجع ضمير، وكان ظاهر أن يقال: لاهن إذا نهين لا ينتهين. (*)

[ 117 ]

قال: والمجنونة والمغلوبة على عقلها، ولا بأس بالنظر إلى شعرها وجسدها ما لم يتعمد ذلك. أقول: كأنه عليه السلام يريد بقوله: ما لم يتعمد ذلك، الريبة. وفي الخصال وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لامير المؤمنين عليه السلام: يا على أول نظرة لك والثانية عليك لا لك. أقول: وروي مثله في الدر المنثور عن عدة من أصحاب الجوامع عن بريدة عنه صلى الله عليه وآله وسلم ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الاولى وليست لك الآخرة وفي جوامع الجامع عن أم سلمة قالت: كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعنده ميمونة فأقبل ابن أم مكتوم وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب فقال: احتجبا، فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا ؟ فقال: أفعميا وان أنتما ؟ ألستما تبصرانه ؟ أقول: ورواه في الدر المنثور عن أبي داود والترمذي والنسائي و البيهقي عنها. وفي الفقيه وروي حفص بن البختري عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا ينبغي للمرأة أن تنكشف بين يدى اليهودية والنصرانية فإنهن يصفن ذلك لازواجهن وفي المجمع في قوله تعالى: " أو ما ملكت إيمانهن " وقيل معناه العبيد والاماء وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام وفي الكافي بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألته عن غير أولى الاربة من الرجال. قال: الاحمق المولى عليه الذي لا يأتي النساء. وفيه بإسناده عن محمد بن جعفر عن أبيه عن آبائه عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من ترك التزويج مخافة العيلة فقد أساء ظنه بالله عزوجل إن الله يقول " إن يكونو فقراء يغنهم الله من فضله ". أقول: وفي المعاني سابقة روايات كثيرة جدا عن أئمة أهل البيت عليه السلام من أرادها فليراجع كتب الحديث. وفي الفقيه روي العلاء عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز

[ 118 ]

وجل: " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " قال: الخير أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويكون بيده عمل يكتسب به أو يكون له حرفه. أقول: وفي معناه روايات اخر. وفي الكافي بإسناده عن العلاء بن فضيل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: في قوله عزوجل: " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " قال: تضع عنه من نجومه التي لم تكن تريد أن تنقصه، ولا تزيد فوق ما في نفسك. فقلت: كم ؟ فقال: وضع أبو جعفر عليه السلام عن مملوك الفا من ستة آلاف. أقول: وروي في مجمع البيان وكذا في الدر المنثور عن علي عليه السلام ربع المال، والمستفاد من ظواهر الاخبار عدم تعين مقدار معين ذي نسبة. وقد تقدمت في ذيل قوله: " وفي الرقاب " التوبة: 60 الجزء التاسع من الكتاب رواية العياشي أن المكاتب يؤتى من سهم الرقاب من الزكاة. وفي التفسير القمي في قوله تعالى: " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا " قال كانت العرب وقريش يشترون الاماء ويضعون عليهن الضريبة الثقيلة ويقولون: اذهبن وازنين واكتسبن فنهاهم الله عن ذلك فقال: " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء - إلى قوله - غفور رحيم " أي لا يؤاخذهن الله تعالى بذلك إذا إكرهن عليه. وفي المجمع في قوله تعالى: " لتبتغوا عرض الحياة الدنيا " قيل: إن عبد الله بن أبي كانت له ست جوار يكرههن على الكسب بالزنا، فلما نزل تحريم الزنا أتين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشكون إليه فنزلت الآية. أقول: أما أنه كان له من الجواري من يكرههن على الزنا فقد وردت فيه روايات رواها في الدر المنثور كما روي هذه الرواية، وأما كون ذلك بعد نزول تحريم الزنا فيضعفة أن الزنا لم يحرم في المدينة بل في مكة قبل الهجرة بل كانت حرمته من ضروريات الاسلام منذ ظهرت الدعوة الحقة وقد تقدم في تفسير سورة الانعام أن حرمة الفواحش ومنها الزنا من الاحكام العامة التي لا تختص بشريعة دون شريعة.

[ 119 ]

* * * الله نور السموات والارض مثل نوره كمشكوة فيها مصباح المصباح في جاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الامثال للناس والله بكل شئ عليم - 35. في بيوت أذن له أن ترفع ويذكر فيها إسمه يسبح له ايها بالغدو والاصال - 36. رجال لا لهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلوة وإيتاء الزكوة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والابصار - 37. ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب - 38. والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب - 39. أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور - 40. ألم ترأن الله يسبح له من في السموات والارض والطير صافات كل قد علم صلوته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون - 41. الله

[ 120 ]

ملك السموات والارض وإلى الله المصير - 42. ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالابصار - 43. يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لاولى الابصار - 44. والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شئ قدير - 45. لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم - 46. (بيان) تتضمن الآيات مقايسة بين المؤمنين بحقيقة الايمان والكفار، تميز المؤمنين منهم بأن المؤمنين مهديون بأعمالهم الصالحة إلى نور من ربهم يفيدهم معرفة الله سبحانه ويسلك بهم إلى أحسن الجزاء والفضل من الله تعالى يوم ينكشف عن قلوبهم وأبصارهم الغطاء، والكفار لا تسلك بهم أعمالهم إلا إلى سراب لا حقيقة له، وهم في ظلمات بعضها فوق بعض ولم يجعل الله لهم نورا فما لهم من نور. وقد بين سبحانه هذه الحقيقة بأن له تعالى نورا عاما تستنير به السماوات والارض فتظهر به في الوجود بعد ما لم تكن ظاهرة فيه، فمن البين أن ظهور شئ بشئ يستدعي كون المظهر ظاهرا بنفسه والظاهر بذاته المظهر لغيره هو النور فهو تعالى نور يظهر السماوات والارض بإشراقه عليها كما أن الانوار الحسية تظهر الاجسام

[ 121 ]

الكثيفة للحس بإشراقها عليها غير أن ظهور الاشياء بالنور الالهي عين وجودها وظهور الاجسام الكثيفة بالانوار الحسية غير أصل وجودها. ونورا خاصا يستنيربه المؤمنون ويهتدون إليه بأعمالهم الصالحة وهو نور المعرفة الذي سيستنيربه قلوبهم وأبصارهم يوم تتقلب فيه القلوب والابصار فيهتدون به إلى سعادتهم الخالدة فيشاهدون فيه شهود عيان ما كان في غيب عنهم في الدنيا، ومثل تعالى هذا النور بمصباح في زجاجة في مشكاة يشتعل من زيت في نهاية الصفاء فتتلالا الزجاجة كأنها كوكب دري فتزيد نورا على نور، والمصباح موضوع في بيوت العبادة التي يسبح الله فيها رجال من المؤمنين لا تلهيهم عن ذكر ربهم وعبادته تجارة ولا بيع. فهذه صفة ما أكرم الله به المؤمنين من نور معرفته المتعقب للسعادة الخالدة، وحرمه على الكافرين وتركهم في ظلمات لا يبصرون، فخص من اشتغل بربه وأعرض عن عرض الحياة الدنيا بنورمن عنده، والله يفعل ما يشاء له الملك واليه المصير يحكم بما أراد ينزل الودق والبرد من سحاب واحد، ويقلب الليل والنهار، ويجعل من الحيوان من يمشي على بطنه ومن يمشي على رجلين ومن يمشي على أربع وقد خلق الكل من ماء. والآيات غير فاقدة للاتصال بما قبلها لما أن بيان الاحكام والشرائع فيما تقدم انتهى إلى مثل قوله: " ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين " والبيان إظهار لحقائق المعارف فهو تنوير إلهي. على أن الآيات قرآن وقد سمى سبحانه القرآن في مواضع من كلامه نورا كقوله: " وأنزلنا إليكم نورا مبينا " النساء: 174. قوله تعالى: " الله نور السماوات والارض " إلى آخر الآية. المشكاة على ما ذكره الراغب وغيره: كوة غير نافذة وهي ما يتخذ في جدار البيت من الكون لوضع بعض الاثاث كالمصباح وغيره عليه وهو غير الفانوس. والدري: من الكواكب العظيم الكثير النور، وهو معدود في السماء، والايقاد: الاشعال، والزيت: الدهن المتخذ من الزيتون.

[ 122 ]

وقوله: " الله نور السماوات والارض " النور معروف وهو الذي يظهر به الاجسام الكثيفة لابصارنا فالاشياء ظاهرة به وهو ظاهر مكشوف لنا بنفس ذاته فهو الظاهر بذاته المظهر لغيره من المحسوسات البصر. هذا أول ما وضع عليه لفظ النور ثم عمم لكل ما ينكشف به شئ من المحسوسات على نحو الاستعارة أو الحقيقة الثانية فعد كل من الحواس نورا أو ذا نور يظهربه محسوساته كالسمع والشم والذوق واللمس. ثم عمم لغير المحسوس فعد العقل نورا يظهر به المعقولات كل ذلك بتحليل معنى النور المبصر إلى الظاهر بذاته المظهر لغيره. وإذ كان وجود الشئ هو الذي يظهر به نفسه لغيره من الاشياء كان مصداقا تاما للنور، ثم لما كانت الاشياء الممكنة الوجود إنما هي موجودة بإيجاد الله تعالى كان هو المصداق الاتم للنور فهناك وجود ونور يتصف به الاشياء وهو وجودها ونورها المستعار المأخوذ منه تعالى ووجود ونور قائم بذاته يوجد ويستنير به الاشياء. فهو سبحانه نور يظهر به السماوات والارض، وهذا هو المراد بقوله: " الله نور السماوات والارض " حيث أضيف النور إلى السماوات والارض ثم حمل على إسم الجلالة، وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول من قال: إن المعنى الله منور السماوات والارض، وعمدة الغرض منه أن ليس المراد بالنور النور المستعار القائم بها وهو الوجود الذي يحمل عليها تعالى الله عن ذلك وتقدس. ومن ذلك يستفاد أنه تعالى غير مجهول لشئ من الاشياء إذ ظهور كل شئ لنفسه أو لغيره إنما هو عن إظهارة تعالى فهو الظاهر بذاته له قبله، وإلى هذه الحقيقة يشير قوله تعالى بعد آيتين: " ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والارض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه " إذ لا معنى للتسبيح والعلم به وبالصلاة مع الجهل بمن يصلون له ويسبحونه فهو نظير قوله: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " أسرى: 44، وسيوافيك البحث عنه إن شاء الله. فقد تحصل أن المراد بالنور في قوله: " الله نور السماوات والارض " نوره تعالى من حيث يشرق منه النور العام الذي يستنير به كل شئ وهو مساو لوجود كل شئ وظهوره في نفسه ولغيره وهي الرحمة العامة.

[ 123 ]

وقوله: " مثل نوره " يصف تعالى نوره، وإضافة النور إلى الضمير الراجع إليه تعالى - وظاهره الاضافة اللامية - دليل على أن المراد ليس هو وصف النور الذي هو الله بل النور المستعار الذي يفيضه، وليس هو النور العام المستعار الذي يظهر به كل شئ وهو الوجود الذي يستفيضه منه الاشياء وتتصف به، والدليل عليه قوله بعد تتميم المثل: " يهدي الله لنوره من يشاء " إذ لو كان هو النور العام لم يختص به شئ دون شئ بل هو نوره الخاص بالمؤمنين بحقيقة الايمان على ما يفيده الكلام. وقد نسب تعالى في سائر كلامه إلى نفسه نورا كما في قوله: " يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم والله متم نوره " الصف: 8، وقوله: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " الانعام: 122 وقوله: " يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به " الحديد: 28، وقوله: " أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه " الزمر: 22، وهذا هو النور الذي يجعله الله لعباده المؤمنين يستضيئون به في طريقهم إلى ربهم وهو نور الايمان والمعرفة. وليس المراد به القرآن كما قاله بعضهم فإن الآية تصف حال عامة المؤمنين قبل نزول القرآن وبعده. على أن هذا النور وصف لهم يتصفون به كما يشير إليه قوله: " لهم أجرهم ونورهم " الحديد: 19 وقوله: " يقولون ربنا أتمم لنا نورنا " التحريم: 8، والقرآن ليس وصفا لهم وإن لو حظ بإعتبار ما يكشف عنه من المعارف رجع إلى ما قلناه. وقوله: " كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة " المشبه به مجموع ما ذكر من قوله مشكاة فيها مصباح المصباح " الخ " لا مجرد المشكاة وإلا فسد المعنى، وهذا كثير في تمثيلات القرآن. وقوله: " الزجاجة كأنها كوكب دري " تشبيه الزجاجة بالكوكب الدري من جهة إزدياد لمعان نور المصباح وشروقه بتركيب الزجاجة على المصباح فتزيد الشعلة بذلك سكونا من غير إضطراب بتموج الاهوية وضرب الرياح فهي كالكوكب الدري في تلالؤ نورها وثبات شروقها.

[ 124 ]

وقوله: " يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار " خبر بعد خبر للمصباح أي المصباح يشتعل آخذا اشتعاله من شجرة مباركة زيتونة أي إنه يشتعل من دهن زيت مأخوذ منها، والمراد بكون الشجرة لا شرقية ولا غربية أنها ليست نابتة في الجانب الشرقي ولا في الجانب الغربي حتى تقع الشمس عليها في أحد طرفي النهار ويفئ الظل عليها في الطرف الآخر فلا تنضج ثمرتها فلا يصفوا الدهن المأخوذ منها فلا تجود الاضاءة بل هي ضاحية تأخذ من الشمس حظها طول النهار فيجود دهنها لكمال نضج ثمرتها. والدليل على هذا المعنى قوله: " يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار، فإن ظاهر السياق أن المراد به صفاء الدهن وكمال استعداده للاشتعال وأن ذلك متفرع على الوصفين: لا شرقية ولا غربية. وأما قول بعضهم: إن المراد بقوله: " لا شرقية ولا غربية " أنها ليست من شجر الدنيا حتى تنبت إما في شرق أو في غرب، وكذا قول آخرين: إن المراد أنها ليست من شجر شرق المعمورة ولا من شجر غربها بل من الشجر الشام الواقع بين الشرق والغرب وزيته أفضل الزيت فغير مفهوم من السياق. وقوله: " نور على نور " خبر لمبتدأ محذوف وهو ضمير راجع إلى نور الزجاجة المفهوم من السياق، والمعنى نور الزجاجة المذكور نور عظيم على نور كذلك أي في كمال التلمع. والمراد من كون النور على النور قيل: هو تضاعف النور لا تعدده فليس المراد به أنه نور معين أو غير معين فوق نور آخر مثله، ولا أنه مجموع نورين اثنين فقط بل أنه نور متضاعف من غير تحديد لتضاعفه وهذا التعبير شائع في الكلام. وهذا معنلا يخلو من جودة وإن كان إرادة التعدد أيضا لا تخلو من لطف ودقة فإن للنور الشارق من المصباح نسبة إليه بالاصالة والحقيقة ونسبة إلى الزجاجة التي عليه بالاستعارة والمجاز، ويتغاير النور بتغاير النسبتين ويتعدد بتعددهما وإن لم يكن بحسب الحقيقة إلا للمصباح والزجاجة صفر الكف منه فللزجاجة بالنظر إلى تعدد النسب نور غير نور المصباح وهو قائم به ومستمد منه.

[ 125 ]

وهذا الاعتبار جار بعينه في الممثل له فإن نور الايمان والمعرفة نور مستعار مشرق على قلوب المؤمنين مقتبس من نوره تعالى قائم به مستمد منه. فقد تحصل أن الممثل له هو نور الله المشرق على قلوب المؤمنين والمثل هو المشبه به النور المشرق من زجاجة على مصباح موقد من زيت جيد صاف وهو موضوع في مشكاة فإن نور المصباح المشرق من الزجاجة والمشكاة تجمعه وتعكسه على المستنيرين به يشرق عليهم في نهاية القوة والجودة. فأخذ المشكاة للدلالة على اجتماع النور في بطن المشكاة وانعكاسه إلى جو البيت، وإعتبار كون الدهن من شجرة زيتونة لا شرقية ولا غربية للدلالة على صفاء الدهن وجودته المؤثر في صفاء النور المشرق عن اشتعاله وجودة الضياء على ما يدل عليه كون زيته يكاد يضئ ولو لم تمسسه نار، وإعتبار كون النور على النور للدلالة على تضاعف النور أو كون الزجاجة مستمدة من نور المصباح في إنارتها. وقوله: " يهدي الله لنوره من يشاء " استئناف يعلل به اختصاص المؤمنين بنور الايمان والمعرفة وحرمان غيرهم، فمن المعلوم من السياق أن المراد بقوله: " من يشاء " القوم الذين ذكرهم بقوله بعد: " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " الخ، فالمراد بمن يشاء المؤمنون بوصف كمال إيمانهم. والمعنى: أن الله إنما هدى المتلبسين بكمال الايمان إلى نوره دون المتلبسين بالكفر - الذين سيذكرهم بعد - لمجرد مشيته، وليس المعنى أن الله يهدي بعض الافراد إلى نوره دون بعض بميته ذلك حتى يحتاج في تتميمه إلى القول بأنه إنما يشاء الهداية إذا إستعد المحل إلى الهداية بحسن السريرة والسيرة، وذلك مما يختص به أهل الايمان دون أهل الكفر فافهمه. والدليل على ذلك ما سيأتي من قوله: " ولله ملك السماوات والارض " إلى آخر الآيات بالبيان الآتي إن شاء الله. وقوله: " ويضرب الله الامثال للناس والله بكل شئ عليم " إشارة إلى أن المثل المضروب تحته طور من العلم، وإنما اختير المثل لكونه أهل الطرق لتبيين الحقائق والدقائق ويشترك فيه العالم والعامي فيأخذ منه كل ما قسم له، قال تعالى:

[ 126 ]

" وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون " العنكبوت: 43. قوله تعالى: " في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها إسمه " الاذن في الشئ هو إعلام إرتفاع المانع عن فعله، والمراد بالرفع رفع القدر والمنزلة وهو التعظيم، وإذ كانت العظمة والعلو لله تعالى لا يشاركه في ذلك غيره إلا أن ينتسب إليه، وبمقدار ما ينتسب إليه فالاذن منه تعالى في أن ترفع هذه البيوت إنما هو لانتساب ما منها إليه. وبذلك يظهر أن السبب لرفعها هو ما عطف عليه من ذكر إسمه فيها، والسياق يدل على الاستمرار أو التهيؤله فيعود المعني إلى مثل قولنا: " أن يذكر فيها اسمه فيرتفع قدرها بذلك ". وقوله: " في بيوت " متعلق بقوله في الآية السابقة: " كمشكاة " أو قوله: " يهدي الله " الخ، والمال واحد، ومن المتيقن من هذه البيوت المساجد فإنها معدة لذكر اسمه فيها ممحضة لذلك، وقد قال تعالى: " ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا " الحج: 40. قوله تعالى: " يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال " إلى آخر الآية. تسبيحه تعالى تنزيهه عن كل ما لا يليق بساحة قدسه، والغدو جمع غداة وهو الصبح والآصال جمع أصيل وهو العصر، والالهاء صرف الانسان عما يعنيه ويهمه، والتجارة على ما قاله الراغب: التصرف في رأس المال طلب للربح. قال: وليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذا اللفظ. والبيع على ما قال: إعطاء المثمن وأخذ الثمن، وقلب الشئ على ما ذكره صرف الشئ من وجه إلى وجه، والتقليب مبالغة فيه والتقلب قبوله فتقلب القلوب والابصار تحول منها من وجه من الادراك إلى وجه آخر. وقوله: " يسبح له فيها بالغدو والآصال " صفة لبيوت أو استئناف لبيان قوله: " ويذكر فيها اسمه "، وكون التسبيح بالغدو والآصال كناية عن استمرار هم فيه لا أن التسبيح مقصور في الوقتين لا يسبح له في غيرهما. والاكتفاء بالتسبيح من غير ذكر التحميد معه لانه تعالى معلوم بجميع صفاته الكمالية لا سترة عليه إذ المفروض أنه نور والنور هو الظاهر بذاته المظهر لغيره وإنما يحتاج خلوص المعرفة إلى نفي النقائص عنه وتنزيهه عما لا يليق به فإذا تم التسبيح لم

[ 127 ]

يبق معه غيره وتمت المعرفة ثم إذا تمت المعرفة وقع الثناء والحمد وبالجملة التوصيف بصفات الكمال موقعه بعد حصول المعرفة كما قال تعالى: " سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين " الصافات: 160، فنزهه عما يصفونه به إلا ما وصفه به من أخلصهم لنفسه من عباده، وقد تقدم في تفسير سورة الحمد كلام في معنى حمده تعالى. وببيان آخر حمده تعالى وهو ثناؤه بصفة الكمال مساوق لحصول نور المعرفة وتسبيحه وهو التنزيه بنفي ما لا يليق به عنه مقدمة لحصوله، والآية في مقام بيان خصالهم التي تستدعي هدايتهم إلى نوره فلا جرم اقتصر فيها بذكر ما هي المقدمة وهو التسبيح، فافهم ذلك. وقوله: " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع " التجارة إذا قوبلت بالبيع كان المفهوم منها بحسب العرف الاستمرار في الاكتساب بالبيع والشراء والبيع هو العمل الاكتسابي الدفعي فالفرق بينهما هو الفرق بين الدفعة والاستمرار فمعنى نفي البيع بعد نفي التجارة مع كونه منفيا بنفيها الدلالة على أنهم لا يلهون عن ربهم في مكاسبهم دائما ولا في وقت من الاوقات، وبعبارة اخري لا تنسيهم ربهم تجارة مستمرة ولا بيع ما من البيوع التي يوقعونها مدة تجارتهم. وقيل: الوجه في نفي البيع بعد نفي إلهاء التجارة أن الربح في البيع ناجز بالفعل بخلاف التجارة التي هي الحرفة، فعدم إلهاء التجارة لا يستلزم عدم إلهاء البيع الرابح بالفعل، ولذلك نفي البيع ثانيا بعد نفي إلهاء التجارة ولذلك كررت لفظة " لا " لتذكير النفي وتأكيده، وهو وجه حسن. وقوله عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة الاقام هو الاقامة بحذف التاء تخفيفا. والمراد بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة الاتيان بجميع الاعمال الصالحة التي كلف الله تعالى عباده بإتيانها في حياتهم الدنيا، وإقامة الصلاة ممثلة لاتيان ما للعبد من وظائف العبودية مع الله سبحانه، وإيتاء الزكاة ممثل لوظائفه مع الخلق وذلك لكون كل منها ركنا في بابه. والمقابلة بين ذكر الله وبين إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهما - وخاصة الصلاة -

[ 128 ]

من ذكر الله يعطي أن يكون المراد بذكر الله الذكر القلبي الذي يقابل النسيان والغفلة وهو ذكر علمي كما أن أمثال الصلاة والزكاة ذكر عملي. فالمقابلة المذكورة تعطي أن المراد بقوله: " عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة " أنهم لا يشتغلون بشئ عن ذكرهم المستمر بقلوبهم لربهم وذكرهم الموقت بأعمالهم من الصلاة والزكاة، وعند ذلك يظهر حسن التقابل بين التجارة والبيع وبين ذكر الله وإقام الصلاة الخ، لرجوع المعنى إلى أنهم لا يلهيهم مله مستمر ولا موقت عن الذكر المستمر والموقت، فافهم ذلك. وقوله: " يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والابصار " هذا هو يوم القيامة، والمراد بالقلوب والابصار ما يعم قلوب المؤمنين والكافرين وابصارهم لكون القلوب والابصار جمعا محلى اللام وهو يفيد العموم. وأما تقلب القلوب والابصار فالآيات الواصفة لشان يوم القيامة تدل على أنه بظهور حقيقة الامر وانكشاف الغطاء كما قال تعالى: " فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " ق: 22، وقال: " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " الزمر: 47، إلى غير ذلك من الآيات. فتنصرف القلوب والابصار يومئذ عن المشاهدة والرؤية الدنيوية الشاغلة عن الله ساترة للحق والحقيقة إلى سنخ آخر من المشاهدة والرؤية وهو الرؤية بنور الايمان والمعرفة فيتبصر المؤمن بنور ربه وهو نور الايمان والمعرفة فينظر إلى كرامة الله، ويعمي الكافر ولا يجد إلا ما يسوؤه قال تعالى: " واشرقت الارض بنور ربها " الزمر: 69 وقال: " يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم " الحديد: 12، وقال: " ومن كان في هذه اعمى فهو في الآخرة اعمى " الاسراء: 72، وقال: " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " القيامة: 23 وقال: " كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " المطففين: 15. وقد تبين بما مر: أولا: وجه اختصاص هذا لصفة أعني تقلب القلوب والابصار من بين أوصاف يوم القيامة بالذكر وذلك أن الكلام مسوق لبيان ما يتوسل به إلى هدا يته تعالى إلى

[ 129 ]

نوره وهو نور الايمان والمعرفة الذي يستضاء به يوم القيامة ويبصر به. وثانيا: أن المراد بالقلوب والابصار النفوس وبصائرها. وثالثا: أن توصيف اليوم بقوله: " تتقلب فيه القلوب والابصار " لبيان سبب الخوف فهم إنما يخافون اليوم لما فيه من تقلب القلوب والابصار، وإنما يخافون هذا التقلب لما في أحد شقيه من الحرمان من نور الله والنظر إلى كرامته وهو الشقاء الدائم والعذاب الخالد وفي الحقيقة يخافون أنفسهم. قوله تعالى: " ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب " الظاهر أن لام " ليجزيهم " للغاية، والذي ذكره الله في خلال الكلام هو أعمالهم الصالحة والاجر الجميل على كل صالح مما ينص عليه كلامه تعالى فقوله: إنه يجزيهم أحسن ما عملوا معناه أنه يجزيهم بإزاء عملهم في كل باب جزاء أحسن عمل في ذلك الباب، ومرجع ذلك إلى أنه تعالى يزكى أعمالهم فلا يناقش فيها بالمؤاخذة في جهات توجب نقصها وانحطاط قدرها فيعد الحسن منها أحسن. ويؤيد هذا المعنى قوله في ذيل الآية: " والله يرزق من يشاء بغير حساب " فإن ظاهره عدم المداقة في حساب الحسنات بالاغماض عن جهات نقصها فيلحق الحسن بالاحسن. وقوله: " ويزيدهم من فضله الفضل " العطاء، وهذا نص في إنه تعالى يعطيهم من فضله ما ليس بإزاء أعمالهم الصالحة، وأوضح منه قوله تعالى في موضع آخر: " لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد " ق: 35، حيث إن ظاهره أن هذا المزيد الموعود أمر وراء ما تتعلق به مشيتهم. وقد دل كلامه سبحانه أن أجرهم أن لهم ما يشاؤن قال تعالى: " اولئك هم المتقون لهم ما يشاؤن عند ربهم ذلك جزاء المحسنين " الزمر: 34، وقال: " أم جنة الخلد التى وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا لهم فيها ما يشاؤن خالدين " الفرقان: 16، وقال: " لهم فيها ما يشاؤن كذلك يجزى الله المتقين " النحل: 31.

[ 130 ]

فهذا المزيد الذي هووراء جزاء الاعمال أمر أعلى وأعظم من أن تتعلق به مشية الانسان أو يوصل إليه سعيه، وهذا أعجب ما يعده القرآن المؤمنين ويبشرهم به فأجد التدبر فيه. وقوله: " والله يرزق من يشاء بغير حساب " استئناف مآله تعليل الجملتين السابقتين بالمشية نظير قوله فيما تقدم: " يهدي الله لنوره من يشاء " على ما مربيانه. ومحصله أنهم عملوا صالحا وكان لهم من الاجر ما يعادل عملهم كما هو ظاهر قوله: " وتوفى كل نفس ما عملت " النحل: 111، وما في معناه من الآيات لكنه تعالى يجزيهم لكل عمل من أعمالهم جزاء أحسن عمل يؤتى به في بابه من غير أن يداق في الحساب فهذه موهبة ثم يرزقهم أمرا هو أعلى وأرفع من أن تتعلق به مشيتهم وهذه أيضا موهبة ورزق بغير حساب، والرزق من الله موهبة محضة من غير أن يملك المرزوقون منه شيئا أو يستحقوه عليه تعالى فله تعالى أن يخص منه ما يشاء لمن يشاء. غير أنه تعالى وعدهم الرزق وأقسم على إنجازه في قوله: " فو رب السماء والارض إنه لحق " الذاريات: 23، فملكهم الاستحقاق لاصله وهو الذي يجزيهم به على قدر أعمالهم وأما الزائد عليه فلم يملكهم ذلك فله أن يختص به من يشاء فلا يعلل ذلك إلا بمشية، وللكلام تتمه ستوافيك إن شاء الله في بحث مستقل. قوله تعالى: " والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمان ماء " إلى آخر الآية. السراب هو ما يلمع في المفازة كالماء ولا حقيقة له، والقيع والقاع هو المستوى من الارض ومفرداهما القيعة والقاعة كالتينة والتمرة، والظمآن هو العطشان. لما ذكرسبحانه المؤمنين ووصفهم بأنهم ذاكرون له في بيوت معظمة لا تلهيهم عنه تجارة ولا بيع، وأن الله الذي هو نور السماوات والارض يهديهم بذلك إلى نوره فيكرمهم بنور معرفته قابل ذلك بذكر الذين كفروا فوصف أعمالهم تارة بأنها لا حقيقة لها كسراب بقيعة فلا غاية لها تنتهي إليها، وتارة بأنها كظلمات بعضها فوق بعض لا نور معها وهي حاجزة عن النور، وهذه الآية هي التي تتضمن الوصف الاول. فقوله: " والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا " شبه أعمالهم - وهي التي يأتون بها من قرابين وإذكار وغيرهما من

[ 131 ]

عباداتهم يتقربون بها إلى آلهتهم - بسراب بقيعة يحسبه الانسان ماء ولا حقيقة له يترتب عليها ما يترتب على الماء من رفع العطش وغير ذلك. وإنما قيل: يحسبه الظلمآن ماء مع أن السراب يتراءى ماء لكل راء لان المطلوب بيان سيره إليه ولا يسير إليه إلا الظلمآن يدفعه إليه ما به من ظماء، ولذلك رتب عليه قوله: " حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، كأنه قيل: كسراب بقيعة يتخيله الظلمآن ماء فيسير إليه ويقبل نحوه ليرتوي ويرفع عطشه به، ولا يزال يسير حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. والتعبير بقوله: " جاءه " دون أن يقال: بلغه أو وصل إليه أو انتهى إليه ونحوها للايماء إلى أن هناك من يريد مجيئه وينتظره انتظارا وهو الله سبحانه، ولذلك أردفه بقوله: " ووجد الله عنده فوفاه حسابه " فأفاد أن هؤلاء يريدون بأعمالهم الظفر بأمر تبعثهم نحو فطرتهم وجبلتهم وهو السعادة التي يريدها كل إنسان بفطرته وجبلته لكن أعمالهم لا توصلهم إليه، ولا أن الآلهة التي يبتغون بأعمالهم جزاء حسنامنهم لهم حقيقة بل الذي ينتهي إليه أعمالهم و يحيط هو بها ويجزيهم هو الله سبحانه فيوفيهم حسابهم، وتوفية الحساب كناية عن الجزاء بما يستوجبه حساب الاعمال وإيصال ما يستحقه صاحب الاعمال. ففي الآية تشبيه أعمالهم بالسراب، وتشبيههم بالظمآن الذي يريد الماء وعنده عذب الماء لكنه يعرض عنه ولا يصغى إلى مولاه الذي ينصحه ويدعوه إلى شربه بل يحسب السراب ماء فيسير إليه ويقبل نحوه، وتشبيه مصيرهم إلى الله سبحانه بحلول الآجال وعند ذلك تمام الاعمال بالظمآن السائر إلى السراب إذا جاءه وعنده مولاه الذي كان ينصحه ويدعوه إلى شرب الماء. فهؤلاء قوم ألهوا عن ذكر ربهم والاعمال الصالحة الهادية إلى نوره وفيه سعادتهم وحسبوا أن سعادتهم عند غيره من الآلهة الذين يدعونهم، والاعمال المقربة إليهم وفيها سعادتهم فأكبوا على تلك الاعمال السرابية استوفوا ما يمكنهم أن يأتوا بها مدة أعمارهم حتى حلت آجالهم وشارفوا الدار الآخرة فلم يجدوا شيئا مما يؤملونه من أعمالهم ولا أثرا من ألوهية آلهتهم فوفاهم الله حسابهم والله سريع الحساب.

[ 132 ]

وقوله: " والله سريع الحساب " إنما هو لا حاطة علمه بالقليل والكثير والحقير والخطير والدقيق والجليل والمتقدم والمتأخر على حد سواء. واعلم أن الآية وإن كان ظاهرها بيان حال الكفار من أهل الملل وخاصة المشركين من الوثنيين لكن البيان جار في غيرهم من منكري الصانع فإن الانسان كائنا من كان يرى لنفسه سعادة في الحياة ولا يرتاب أن الوسيلة إلى نيلها أعماله التي يأتي بها فإن كان ممن يقول بالصانع ويراه المؤثر في سعادته بوجه من الوجوه توسل بأعماله إلى تحصيل رضاه والفوز بالسعادة التي يقدرها له، وإن كان ممن ينكره وينهي التأثير إلى غيره توسل بأعماله إلى توجيه ما يقول به من المؤثر كالدهر والطبيعة والمادة نحو سعادة حياته الدنيا التي لا يقول بماوراءها. فهؤلاء يرون المؤثر الذيده سعادة حياتهم غيره تعالى ولا مؤثر غيره ويرون مساعيهم الدنيوية موصلة لهم إلى سعادتهم وليست إلا سرابا لا حقيقة له ولا يزالون يسعون حتى إذا تم ما قدر لهم من الاعمال بحلول ما سمي لهم من الآجال لم يجدوا عند هاشيئا وعاينوا أن ما كانوا يتمنون منها لم يكن إلا طائف خيال أو حلم نائم، وعند ذلك يوفيهم الله حسابهم والله سريع الحساب. قوله تعالى: " أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب " تشبيه ثان لاعمالهم يظهر به أنها حجب متراكمة على قلوبهم تحجبهم عن نور المعرفة، وقد تكرر في كلامه تعالى أنهم في الظلمات كقوله: " والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات " البقره: 257، وقوله: " كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " الانعام: 122، وقوله: " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " المطففين: 15. وقوله: " أو كظلمات في بحر لجي " معطوف على " سراب " في الآية السابقة، والبحر الجي هو البحر المتردد أمواجه منسوب إلى لجة البحر وهي تردد أمواجه، والمعنى: أعمالهم كظلمات كائنة في بحر لجي. وقوله " يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب " صفة البحر جئ بها لتقرير الظلمات المفروضة فيه فصفتة أنه يغشاه ويحيط به موج كائن من فوقه موج آخر

[ 133 ]

كائن من فوقه سحاب يحجبنه جميعا من الاستضاءة بأضواء الشمس والقمر والنجوم. وقوله: " ظلمات بعضها فوق بعض " تقرير لبيان أن المراد بالظلمات المفروضة الظلمات المتراكمة بعضها على بعض دون المتفرقة، وقد أكد ذلك بقوله: " إذا أخرج يده لم يكد يراها " فإن أقرب ما يشاهده الانسان منه هو نفسه وهو أقدر على رؤية يده منه على سائر أعضائه لانه يقربها تجاه باصرته كيفما أراد فإذا أخرج يده ولم يكد يراها كانت الظلمة بالغة. فهؤلاء وهم سائرون إلى الله وصائرون إليه من جهة أعمالهم كراكب بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب في ظلمات متراكمة كأشد ما يكون ولا نور هناك يستضئ به فيهتدي إلى ساحل النجاة. وقوله: " ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور " نفي للنور عنهم بأن الله لم يجعله لهم، كيف لا ؟ وجاعل النور هو الله الذي هو نور كل شئ، فإذا لم يجعل لشئ نورا لم يكن له نورا إذ لا جاعل غيره تعالى. قوله تعالى: " ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والارض والطير صافات " إلى آخر الآية لما ذكر سبحانه أنه نور تستنير به السماوات والارض وأنه يختص بمزيد نوره المؤمنين من عباده والذين كفروا لا نصيب لهم من ذلك شرع يحتج على ذلك بما في هذه الآية والآيات الاربع التالية لها. فكونه تعالى نور السماوات والارض يدل عليه أن ما في السماوات والارض موجود بوجود ليس من عنده ولا من عند شئ مما فيهما لكونه مثله في الفاقة، فوجود ما فيهما من موجود من الله الذي ينتهي إليه الحاجات. فوجود كل شئ مما فيهما كما يظهر به نفس الوجود يدل على من يظهره بما أفاض عليه من الوجود فهو نور يستنير به الشئ ويدل على منوره بما أشرق عليه من النور وأن هناك نورا يستنير به كل شئ فكل شئ مما فيهما يدل على أن وراءه شيئا منزها من الظلمة التي غشيته، والفاقة التي لزمته، والنقص الذي لا ينفك عنه، وهذا هو تسبيح ما في السماوات والارض له سبحانه، ولازمه نفي الاستقلال عن كل من سواه وسلب أي إله ورب يدبر الامر دونه تعالى.

[ 134 ]

وإلى ذلك يشير قوله: " ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والارض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه " وبه يحتج تعالى على كونه نور السماوات والارض لان النور هو ما يظهر به الشئ المستنير ثم يدل بظهوره على مظهره، وهو تعالى يظهر ويوجد بإظهاره وإيجاده الاشياء ثم يدل على ظهوره ووجوده. وتزيد الآية بالاشارة إلى لطائف يكمل بها البيان: منها: اختصاصهمن في السماوات والارض والطير صافات وهم العقلاء وبعض ذوات الروح بالذكر مع عموم التسبيح لغيرهم لقوله: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده ". ولعل ذلك من باب اختيار أمور من أعاجيب الخلقة للذكر فإن ظهور الموجود العاقل الذي يدل عليه لفظ من في السماوات والارض من عجيب أمر الخلقة الذي يدهش لب ذي اللب، كما أن صفيف الطير الصافات في الجو من أعجب ما يرى من أعمال الحيوان ذي الشعور وأبدعه. ويظهر من بعضهم أن المراد بقوله: " من في السماوات " الخ، جميع الاشياء وإنما عبر بلفظ أولي العقل لكون التسبيح المنسوب إليها من شؤن أولى العقل أو للتنبيه على قوة تلك الدلالة ووضوح تلك الاشارة تنزيلا للسان الحال منزلة المقال. وفيه أنه لا يلائم إسناد العلم إليها في قوله بعد: " كل قد علم صلاته وتسبيحه ". ومنها: تصدير الكلام بقوله: " ألم تر " وفيه دلالة على ظهور تسبيحهم ووضوح دلالتهم على التنزيه بحيث لا يرتاب فيه ذو ريب فكثيراما يعبر عن العلم الجازم بالرؤية كما في قوله تعالى: " ألم تر أن الله خلق السماوات والارض " إبراهيم: 19، والخطاب فيه عام لكل ذي عقل وإن كان خاصا بحسب الفظ. ومن الممكن أن يكون خطابا خاصا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد كان أراه الله تسبيح من في السماوات والارض والطير صافات فيما أراه من ملكوت السماوات والارض وليس ببدع منه صلى الله عليه وآله وسلم وقد أرى الناس تسبيح الحصاة في كفه كما وردت به الاخبار المعتبرة. ومنها: أن الآية تعمم العلم لكل ما ذكر في السماوات والارض والطير، وقد تقدم بعض البحث عنه في تفسير قوله: " وأن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " الاسراء: 44، وستجئ تتمة الكلام فيه في تفسيرة سورة حم السجدة إن شاء الله.

[ 135 ]

وقول بعضهم: إن الضمير في قوله: " قد علم " راجع إليه تعالى، يدفعه عدم ملائمته للسياق وخاصة لقوله بعده: " والله عليم بما يفعلون " ونظيره قول آخرين: إن إسناد العلم إلى مجموع ما تقدم من المجاز بتنزيل غير العالم منزلة العالم لقوة دلالته على تسبيحه وتنزيهه. ومنها: تخصيصها التسبيح بالذكر مع أن الاشياء تشير إلى صفات كماله تعالى وهو التحميد كما تسبحه على ما يدل عليه البرهان ويؤيده قوله: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده " ولعل الوجه فيه كون الآيات مسوقة للتوحيد ونفي الشركاء وذلك بالتنزيه أمس فإن من يدعو من دون الله إلها آخر أو يركن إلى غيره نوعا من الركون إنما يكفر بإثبات خصوصية وجود ذلك الشئ للاله تعالى فنفيه إنما يتأتى بالتنزيه دون التحميد فافهمه. وأما قوله: " كل قد علم صلاته وتسبيحه " فصلاته دعاؤه والدعاء توجيه من الداعي للمدعو إلى حاجته ففيه دلالة على حاجة عند الداعي المدعو في غنى عنها فهو أقرب إلى الدلالة على التنزيه منه على الثناء والتحميد. ومنها: أن الآية تنسب التسبيح والعلم به إلى من في السماوات والارض فيعم المؤمن والكافر، ويظهر بذلك أن هناك نورين: نور عام يعم الاشياء والمؤمن والكافر فيه سواء، وإلى ذلك تشير آيات كآية الذر: " وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " الاعراف: 172، وقوله: " فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " ق: 22، إلى غير ذلك، ونور خاص وهو الذي تذكرة الآيات ويختص بأوليائه من المؤمنين. فالنور الذي ينور تعالى به خلقه كالرحمة التي يرحمهم بها قسمان: عام وخاص وقد قال تعالى: " ورحمتي وسعت كل شئ " الاعراف: 156، وقوله: " فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته " الجاثية: 30 وقد جمع بينهما في قوله: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا " الحديد: 28، وما ذكر فيه من النور هو النور على نور بحذاء الثاني من كفلي الرحمة.

[ 136 ]

وقوله: " والله عليم بما يفعلون " ومن فعلهم تسبيحهم له سبحانه، وهذا التسبيح وإن كان في بعض المراحل هو نفس وجودهم لكن صدق اسم التسبيح يجوز أن يعد فعلا لهم بهذه العناية. وفي ذكر علمه تعالى بما يفعلون عقيب ذكر تسبيحهم ترغيب للمؤمنين وشكر لهم بأن ربهم يعلم ذلك منهم وسيجزيهم جزاء حسنا، وإيذان بتمام الحجة على الكافرين، فإن من مراتب علمه تعالى كتب الاعمال والكتاب المبين التي تثبت فيها أعمالهم فيثبت فيها تسبيحهم بوجودهم ثم إنكارهم بألسنتهم. قوله تعالى: " ولله ملك السماوات والارض وإلى الله المصير " سياق الآية وقد وقعت بين قوله: " ألم تر أن الله سبح له " الخ، وهو احتجاج على شمول نوره العام لكل شئ، وبين قوله: " ألم تر أن الله يزجي: الخ، وما يتعقبه وهو إحتجاج على اختصاص النور الخاص، يعطي أنها كالمتوسط بين القبيلين أعني بين الامرين يحتج بها على كليهما، فملكه تعالى لكل شئ وكونه مصيرا لها هو دليل على تعميمه نوره العام تخصيصه نوره الخاص يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. فقوله: " ولله ملك السماوات والارض " يخص الملك ويقصره فيه تعالى فله أن يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولازم قصر الملك فيه كونه هو المصير لكل شئ وإذ كان لا مليك إلا هو واليه مرجع كل شئ ومصيره فله أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ومن هنا يظهر أن المراد - والله أعلم - بقوله: " وإلى الله المصير " مرجعيته تعالى في الامور دون المعاد نظير قوله: " ألا إلى الله تصير الامور " الشورى: 53. قوله تعالى: " ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله " إلى آخر الآية. الازجاء هو الدفع، والركام المتراكم بعضه على بعض، والودق هو المطر، والخلال جمع الخلل وهو الفرجة بين الشيئين. والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعنوان أنه سامع فيشمل كل سامع، والمعنى: ألم تر أنت وكل من يرى أن الله يدفع بالرياح سحابا متفرقا ثم يؤلف بينه ثم يجعله متراكما بعضه على بعض فترى المطر يخرج من خلله وفرجه فينزل على الارض.

[ 137 ]

وقوله: " وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالابصار " السماء جهة العلو، وقوله: " من جبال فيها " بيان للسماء، والجبال جمع جبل وهو معروف، وقوله: " من برد " بيان للجبال، والبرد قطعات الجمد النازل من السماء، وكونه جبالا فيها كناية عن كثرته وتراكمه، والسنا بالقصر الضوء. والكلام معطوف على قوله: " يزجي "، والمعنى: ألم تر أن الله ينزل من السماء من البرد المتراكم فيها كالجبال فيصيب به من يشاء فيفسد المزارع والبساتين وربما قتل النفوس والمواشي ويصرفه عمن يشاء فلا يتضررون به يقرب ضوء برقه من أن يذهب بالابصار. والآية - على ما يعطيه السياق - مسوقة لتعليل ما تقدم من اختصاصه المؤمنين بنوره، والمعنى: أن الامر في ذلك إلى مشيته تعالى كما ترى أنه إذا شاء نزل من السماء مطرا فيه منافع الناس لنفوسهم ومواشيهم ومزارعهم وبساتينهم، وإذا شاء نزل بردا فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء. قوله تعالى: " يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لاولى الابصار " بيان آخر الرجوع الامر إلى مشيته تعالى فقط. وتقليب الليل والنهار تصريفهما بتبديل أحدهما من الآخر، ومعنى الآية ظاهر. قوله تعالى: " والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع " بيان آخر لرجوع الامر إلى مشيته تعالى محضا حيث يخلق كل دابة من ماء ثم تختلف حالهم في المشى فمنهم من يمشي على بطنه كالحيات والديدان، ومنهم من يمشي على رجلين كالاناسي والطيور ومنهم من يمشي، على أربع كالبهائم والسباع، واقتصر سبحانه على هذه الانواع الثلاثة - وفيهم غير ذلك - إيجازا لحصول الغرض بهذا المقدار. وقوله: " يخلق الله ما يشاء " تعليل لما تقدم من اختلاف الدواب، مع وحدة المادة التي خلقت منها يبين أن الامر إلى مشية الله محضا فله أن يعمم فيضا من فيوضه

[ 138 ]

على جميع خلقه كالنور العام والرحمة العامة، وله أن يختص بفيض من فيوضه بعضا من خلقه دون بعض كالنور الخاص والرحمة الخاصة. وقوله: " إن الله على كل شئ قدير " تعليل لقوله: " يخلق الله ما يشاء " فإن إطلاق القدرة على كل شئ يستوجب أن لا يتوقف شئ من الاشياء في كينونته على أمر وراء مشيته وإلا كانت قدرته عليه مشروطة بحصول ذلك الامر وهذا خلف. وهذا باب من التوحيد دقيق سيتضح بعض الاضاح إن شاء الله بما في البحث الآتي. (بحث فلسفي) إنا لا نشك في أن ما نجده من الموجودات الممكنة معلولة منتهية إلى الواجب تعالى وإن كثيرا منها - وخاصة في الماديات - تتوقف في وجودها على شروط لا تحقق لها بدونها كالانسان الذي هو ابن فإن لوجوده توقفا على وجود الوالدين وعلى شرائط أخرى كثيرة زمانية ومكانية وإذ كان من الضروري كون كل مما يتوقف عليه جزء من علته التامة كان الواجب تعالى على هذا جزء علته التامة لا عله تامة أحدها. نعم هو بالنسبة إلى مجموع العالم علة تامة إذ لا يتوقف على شئ غيره وكذا الصادر الاول الذي تتبعه بقية أجزاء المجموع، وأما سائر أجزاء العالم فإنه تعالى جزء علته التامة ضرورة توقفه على ما هو قبله من العلل وما هو معه من الشرائط والمعدات. هذا إذا اعتبرنا كل واحد من الاجزاء بحياله ثم نسبنا وحده إلى الواجب تعالى. وههنا نظر آخر أدق وهو أن الارتباط الوجودي الذي لا سبيل إلى إنكاره بين كل شئ وبين علله الممكنة وشروطه ومعداته يقضي بنوع من الاتحاد والاتصال بينها فالواحد من الاجزاء ليس مطلقا منفصلا بل هو في وجوده المتعين مقيد بجميع ما يرتبطبه متصل الهوية بغيرها. فالانسان الابن الذي كنا نعتبره في المثال المتقدم بالنظر السابق موجودا مستقلا مطلقا فنجده متوقفا على علل وشروط كثيرة والواجب تعالى أحدها يعود بحسب هذه النظرة هوية مقيدة بجميع ما كان يعتبر توقفه عليه من العلل والشرائط غير الواجب

[ 139 ]

تعالى فحقيقة زيد مثلا هو الانسان ابن فلان وفلانة المتولد في زمان كذا ومكان كذا المتقدم عليه كذا وكذا المقارن لوجوده كذا وكذا من الممكنات. فهذه هو حقيقة زيد مثلا ومن الضروري أن ما حقيقته ذلك لا تتوقف على شئ غير الواجب فالواجب هو علته التامة التي لا توقف له على غيره، ولا حاجة له إلى غير مشيته، وقدرته تعالى بالنسبة إليه مطلقة غير مشروطة ولا مقيدة، وهو قوله تعالى: " يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شئ قدير ". قوله تعالى: " لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " يريد آية النور وما يتلوها المبينة لصفة نوره تعالى والصراط المستقيم سبيله التي لا سبيل للغضب والضلال إلى من اهتدى إليها كما قال: " اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " الحمد: 7، وقد تقدم الكلام فيه في تفسير سورة الحمد. وتذييل الآية بقوله: " والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " هو الموجب لعدم تقييد قوله: " لقد أنزلنا آيات مبينات " بلفظة اليكم بخلاف قوله قبل آيات: " لقد أنزلنا اليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين ". إذ لو قيل: لقد أنزلنا اليكم آيات مبينات والله يهدي. تبادر إلى الذهن أن البيان اللفظي هداية إلى الصراط المستقيم وأن المخاطبين عامة مهديون إلى الصراط المستقيم وفيهم المنافق والذين في قلوبهم مرض والله العالم. (بحث روائي) في التوحيد بإسناده عن العباس بن هلال قال: سألت الرضا عليه السلام عن قول الله عز وجل: " الله نور السماوات والارض " فقال: هاد لاهل السماوات وهاد لاهل الارض. وفي رواية برقي: هدى من في السماوات وهدى من في الارض. أقول: إذ كان المراد بالهداية الهداية الخاصة وهي الهداية إلى السعادة الدينية

[ 140 ]

كان من التفسير بمرتبة من المعنى، وإن كان المراد بها الهداية العامة وهي إيصال كل شئ إلى كماله انطبق على ما تقدم. وفي الكافي بإسناده عن إسحاق بن جرير قال: سألتني إمرأة أن أدخلها على أبي عبد الله عليه السلام فاستأذنت لها فأذن لها فدخلت ومعها مولاة لها فقالت له: يا أبا عبد الله قول الله: " زيتونة لا شرقية ولا غربية " ما عني بهذا ؟ فقال لها: أيتها المرأة إن الله لم يضرب الامثال للشجر إنما ضرب الامثال لبني آدم. وفي تفسير القمي بإسناده عن طلحة بن زيد عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه السلام في هذه الآية " الله نور السماوات والارض " قال: بدء بنور نفسه " مثل نوره " مثل هداه في قلب المؤمن " كمشكاة فيها مصباح " والمصباح جوف المؤمن والقنديل قلبه، والمصباح النور الذي جعله الله في قلبه. " يوقد من شجرة مباركة " قال: الشجرة المؤمن " زيتونة لا شرقية ولا غربية " قال: على سواد الجبل لا غربية أي لا شرق لها، ولا شرقية أي لا غرب لها إذا طلعت الشمس طلعت عليها وإذا غربت غربت عليها " يكاد زيتها يضئ " يكاد النور الذي في قلبه يضئ وإن لم يتكلم. " نور على نور " فريضة على فريضة، وسنة على سنة " يهدي الله لنوره من يشاء " يهدي الله لفرائضه وسننه من يشاء " ويضرب الله الامثال للناس " فهذا مثل ضربه الله للمؤمن. ثم قال: فالمؤمن يتقلب في خمسة من النور: مدخله نور، ومخرجه نور، وعلمه نور، وكلامه نور، ومصيره يوم القيامة إلى الجنة نور. قلت لجعفر عليه السلام: إنهم يقولون: مثل نور الرب. قال: سبحان الله ليس لله مثل، قال الله: " فلا تضربوا لله الامثال ". أقول: الحديث يؤيد ما تقدم في تفسير الآية، وقد اكتفى عليه السلام في تفسير بعض فقرات الآية بذكر بعض المصاديق كالذي ذكره في ذيل قوله: " يكاد زيتها يضئ " وقوله: " نور على نور ". وأما قوله: " سبحان الله ليس لله مثل " فإنما ينفي به أن يكون المثل مثلا للنور

[ 141 ]

الذي وإسمه تعالى المحمول عليه فكونه مثلا له تعالى يؤدي إلى الحلول أو الانقلاب تعالى عن ذلك بل هو مثل لنوره المفاض على السماوات والارض، وأما الضمير في قوله: " مثل نوره " فلا ضير في رجوعه إليه تعالى مع الاحتفاظ على المعنى الصحيح. وفي التوحيد وقد روي عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن قوله الله عزوجل: " الله نور السماوات والارض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح " فقال: هو مثل ضربه الله لنا فالنبي والائمة ص من دلالات الله وآياته التي يهتدي بها إلى التوحيد ومصالح الدين وشرائع الاسلام والسنن والفرائض، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أقول: الرواية من قبيل الاشارة إلى بعض المصاديق وهو من أفضل المصاديق وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم والطاهرون من أهل بيته عليهم السلام وإلا فالآية تعم بظاهرها غيرهم من الانبياء عليه السلام والاوصياء والاولياء. نعم ليست الآية بعامة لجميع المؤمنين لاخذها في وصفهم صفات لا تعم الجميع كقوله: " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " الخ. وقد وردت عدة من الاخبار من طرق الشيعة في تطبيق مفردات الآية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليه السلام وهي من التطبيق دون التفسير، ومن الدليل على ذلك اختلافها في نحو التطبيق كرواية الكليني في روضة الكافي بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام وفيها: أن المشكاة قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمصباح النور الذي فيه العلم، والزجاجة على أو قلبه، والشجرة المباركة الزيتونة التي لا شرقية ولا غربية إبراهيم عليه السلام ما كان يهوديا ولا نصرانيا، وقوله: " يكاد زيتها يضئ " الخ، يكاد أولادهم أن يتكلموا بالنبوة وإن لم ينزل عليهم ملك. وما رواه في التوحيد بإسناده إلى عيسى بن راشد عن الباقر عليه السلام وفيه أن المشكاة نور العلم في صدر النبي صلى اللله عليه وآله وسلم، والزجاجة صدر على " يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار " يكاد العالم من آل محمد يتكلم بالعلم قبل أن يسأل " نور على نور " إمام مؤيد بنور العلم والحكمة في إثر الامام من آل محمد. وما في الكافي بإسناده عن صالح بن سهل الهمداني عن الصادق عليه السلام وفيه أن المشكاة فاطمة عليهما السلام، والمصباح الحسن عليه السلام، والزجاجة الحسين عليه السلام

[ 142 ]

والشجرة المباركة إبراهيم عليه السلام، لا شرقية ولا غربية ما كان يهوديا ولا نصرانيا، ونور على نور إمام بعد إمام ويهدي الله نوره من يشاء يهدي الله للائمة عليهم السلام من يشاء. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردوية عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: " زيتونة لا شرقية ولا غربية " قال قلب إبراهيم لا يهودي ولا نصراني. أقول: وهو من قبيل ذكر بعض المصاديق، وقد ورد مثله من طرق الشيعة عن بعض ائمة أهل البيت عليهم السلام كما تقدم. وفيه أخرج ابن مردويه عن انس بن مالك وبريدة قالا: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية " في بيوت أذن الله أن ترفع " فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله ؟ قال: بيوت الانبياء فقام إليه ابو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها لبيت على وفاطمة ؟ قال: نعم من افاضلها. أقول ورواه في المجمع عنه صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا، وروي هذا المعنى القمي في تفسيره بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام ولفظه: قال: هي بيوت الانبياء وبيت على عليه السلام منها. وهو على أي حال من قبيل ذكر بعض المصاديق على ما تقدم. وفي نهج البلاغة من كلام له عليه السلام عند تلاوته " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " وإن للذكر لاهلا أخذوه من الدنيا بدلا فلم يشغلهم تجارة ولا بيع عنه يقطعون به أيام الحياة، ويهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين، ويأمرون بالقسط ويأتمرون به وينهون عن المنكر وينتهون عنه كأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة وهم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك فكأنما أطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الاقامة فيه، وحققت القيامة عليهم عذابها فكشفوا غطاء ذلك لاهل الدنيا حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس ويسمعون ما لا يسمعون. وفي المجمع في قوله تعالى: " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع " وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام: أنهم قوم إذا حضرت الصلاة تركوا التجارة وانطلقوا إلى الصلاة وهم أعظم أجرا ممن لم يتجر.

[ 143 ]

أقول: أي لم يتجر واشتغل بذكر الله كما في روايات أخر. وفي الدر المنثور عن ابن مردويه وغيره عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: " رجال لا تلهيهم تجارة لا بيع عن ذكر الله " قال: هم الذين يضربون في الارض يبتغون من فضل الله. أقول: كأن الرواية غير تامة وتمامها فيما روي عن ابن عباس قال: كانوا رجالا يبتغون من فضل الله يشترون ويبيعون فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما بأيديهم وقاموا إلى المسجد فصلوا. وفي المجمع في قوله تعالى: " والله سريع الحساب " وسئل امير المؤمنين عليه السلام: كيف يحاسبهم في حالة واحدة ؟ فقال: كما يرزقهم في حالة واحدة. وفي روضة الكافي بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عن أبيه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله عزوجل جعل السحاب غرابيل المطر هي تذيب البرد حتى يصير ماء لكى لا يضر شيئا يصيبه، والذي ترون فيه من البرد والصواعق نقمة من الله عزوجل يصيب بها من يشاء من عباده. وفي تفسيره القمي في قوله تعالى: " فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع " قال: على رجلين الناس، وعلى بطنه الحيات، وعلى أربع البهائم، وقال أبو عبد الله عليه اللسلام: ومنهم من يمشي على أكثر من ذلك * * * يقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين - 47. وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون - 48. وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين - 49. أفي قلوبهم مرض أم أرتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم لظالمون - 50.

[ 144 ]

إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون - 51. ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون - 52. وأقسموا بالله جهد إيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون - 53. قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين - 54. وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون - 55. وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون - 56. لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الارض ومأواهم النار ولبئس المصير - 57. (بيان) تتضمن الآيات افتراض طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأنها لا تفارق طاعة الله تعالى، ووجوب الرجوع إلى حكمه وقضائه وأن الاعراض عنه آيه النفاق، وتختتم بوعد جميل للصالحين من المؤمنين وإيعاد للكافرين.

[ 145 ]

قوله تعالى: " ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك " الخ، بيان حال بعض المنافقين حيث أظهروا الايمان والطاعة أولا ثم تولوا ثانيا فالايمان بالله هو العقد على توحيده وما شرع من الدين، والايمان بالرسول هو العقد على كونه رسولا مبعوثا من عند ربه أمره أمره ونهيه نهيه وحكمه حكمه من غير أن يكون له من الامر شئ، وطاعة الله هي تطبيق العمل بما شرعه، وطاعة الرسول الايتمار والنإتهاء عند أمره ونهيه وقبول ما حكم به وقضى عليه. فالايمان بالله وطاعته موردهما نفس الدين والتشرع به، والايمان بالرسول وطاعته موردهما ما أخبر به الرسول من الدين بما أنه يخبر به وما حكم به وقضى عليه في المنازعات والانقياد له في ذلك كله. فبين الايمانين والطاعتين فرق ما من حيث سعة المورد وضيقه، ويشير إلى ذلك ما في العبارة من نوع من التفصيل حيث قيل: " آمنا بالله وبالرسول " فاشير إلى تعدد الايمان والطاعة ولم يقل: آمنا بالله والرسول بحذف الباء، الايمانان مع ذلك متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، قال تعالى: " ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله " النساء: 150. وفقوله: " ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا " أي عقدنا القلوب على دين الله وتشرعنا به وعلى أن الرسول لا يخبر إلا بالحق. ولا يحكم إلا بالحق قوله: " ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك " أي ثم يعرض طائفة من هؤلاء القائلين: " آمنا بالله وبالرسول وأطعنا " عن مقتضي قولهم من بعد ما قالوا ذلك. وقوله: " وما أولئك بالمؤمنين " أي ليس أولئك القائلون بالمؤمنين، والمشار إليه بإسم الاشارة لقائلون جميعا لا خصوص الفريق المتولين على ما يعطيه السياق لان الكلام مسوق لذم الجميع. قوله تعالى: " وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون " يشهد سياق الآية أن الآيات إنما نزلت في بعض من المنافقين دعوا إلى حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منازعة وقعت بينه وبين غيره فأبي الرجوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي ذلك نزلت الآيات.

[ 146 ]

والنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان يحكم بينهم بحكم الله على ما أراه الله كما قال تعالى: " إنا أنزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله " النساء: 105. للحكم نسبة إليه بالمباشرة ونسبة إلى الله سبحانه من حيث كان الحكم في ضوء شريعته وبنصبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحكم والقضاء. وبذلك يظهر أن المراد بالدعوة إلى الله ليحكم بينهم هي الدعوة إلى المتابعة لما يقتضيه شرعه تعالى في مورد النزاع، وبالدعوة إلى رسوله ليحكم بينهم هي الدعوة إلى متابعة ما يقضي عليه بالمباشرة وأن الظاهر أن ضمير " ليحكم " للرسول، وإنما أفرد الفاعل ولم يثن إشارة إلى أن حكم الرسول حكمه تعالى. والآية بالنسبة إلى الآية السابقة كالخاص بالنسبة إلى العام فهي تقص إعراضنا معينا منهم والاعراض المذكور في الآية السابقة منهم إعراض مطلق. قوله تعالى: " وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين " الاذعان الانقياد، وظاهر السياق وخاصة قوله: " يأتوا إليه " أن المراد بالحق حكم الرسول بدعوي أنه حق لا ينفك عنه، والمعنى وإن يكون الحق الذي هو حكم الرسول لهم لا عليهم يأتوا إلى حكمه منقادين فليسوا بمعرضين عنه إلا لكونه عليهم لا لا لهم، ولازم ذلك أنهم يتبعون الهوى ولا يريدون اتباع الحق. قوله تعالى: " أفى قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله " إلى آخر الآية. الحيف الجور. وظاهر سياق الآيات أن المراد بمرض القلوب ضعف الايمان كما في قوله تعالى: " فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض " الاحزاب: 32، وقوله: " لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض و المرجفون في المدينة لنغرينك بهم " الاحزاب: 60، وغير ذلك من الآيات. وأما كون المراد بمرض القلوب النفاق كما فسر به فيدفعه قوله في صدر الآيات: " وما اولئك بالمؤمنين " فإنه حكم بنفاقهم، ولا معنى مع إثبات النفاق للاستفهام عن النفاق ثم الاضراب عنه بقوله: " بل اولئك هم الظالمون ". و قوله: " أم أرتابوا " ظاهر إطلاق الارتياب وهو الشك أن يكون المراد هو

[ 147 ]

شكهم في دينهم بعد الايمان دون الشك في صلاحية النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحكم أو عدله ونحو ذلك لكونها بحسب الطبع محتاجة إلى بيان بنصب قرينة. وقوله: " أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله " أي أم يعرضون عن ذلك لانهم يخافون أن يجور الله عليهم ورسوله لكون الشريعة الالهية التي يتبعها حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مبنية على الجور وإماتة الحقوق الحقة، أو لكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يراعي الحق في قضائه. وقوله: " بل اولئك هم الظالمون أضراب عن الترديد السابق بشقوقه الثلاثة وذلك أن سبب أعراضهم لو كان مرض قلوبهم أو إرتيابهم لم يأتوا إليه مذعنين على تقدير كون الحق لهم بل كانوا يعرضون كان الحق لهم أو عليهم، وأما الخوف من أن يحيف الله عليهم ورسوله فلا موجب له فالله برئ من الحيف ورسوله فليس إعراضهم عن إجابة الدعوة إلى حكم الله ورسوله إلا لكونهم حق عليهم أنهم ظالمون. والظاهر أن المراد بالظلم التعدي عن طور الايمان مع الاقرار به قولا كما قال آنفا: " وما اولئك بالمؤمنين " أو خصوص التعدي إلى الحقوق غير المالية، ولو كان المراد مطلق الظلم لم يصح الاضراب عن الشقوق الثلاثة السابقة إليه لانها من مطلق الظلم ويدل عليه أيضا الآية التالية. وقد بأن بما تقدم أن الترديد في أسباب الاعراض على تقدير عدم النفاق بين الامور الثلاثة حاصر والاقسام متغايرة فإن محصل المعنى أنهم منافقون غير مؤمنين إذ لو لم يكونوا كذلك كان إعراضهم أما لضعف إيمانهم وإما لزواله بالارتياب وإما للخوف من غير سبب يوجبه فإن الخوف من الرجوع إلى حكم الحاكم إنما يكون إذا احتمل حيفه في حكمه وميله عن الحق إلى الباطل ولا يحتمل ذلك في حكم الله ورسوله. وقد طال البحث في كلامهم عما في الآية من الترديد والاضراب ولعل فيما ذكرناه كفاية، ومن أراد أزيد من ذلك فليراجع المطولات. قوله تعالى: " إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا " إلى آخر الآية سياق قوله: " إنما كان قول المؤمنين " وقد أخذ فيه " كان " ووصف الايمان في " المؤمنين " يدل على أن ذلك من مقتضيات طبيعة

[ 148 ]

الايمان فإن مقتضى الايمان بالله ورسوله وعقد القلب على اتباع ما حكم به الله ورسوله التلبية للدعوة إلى حكم الله ورسوله دون الرد. وعلى هذا فالمراد بقوله: " إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم " دعوة بعض الناس ممن ينازعهم كدعوة بعض المتنازعين المتخاصمين الآخر إلى التحاكم إلى الله ورسوله ليحكم بينهم، ويدل عليه تصدير الجملة بلفظة " إذا " ولو كان المراد به دعوة الله ورسوله بمعنى إيجاب رجوع المؤمنين في منازعاتهم إلى حكم الله ورسوله كان ذلك حكما مؤبدا لا حاجة فيه إلى التقييد بالزمان. وبذلك يظهر ضعف ما قيل: إن فاعل " دعوا " المحذوف هو الله ورسوله، والمعنى: إذا دعاهم الله ورسوله. نعم مرجع الدعوة بأخرة إلى دعوة الله ورسوله. وكيف كان تقصر الآية قول المؤمنين على تقدير الدعوة إلى حكم الله ورسوله في قولهم: سمعنا وأطعنا وهو سمع وطاعة للدعوة الالهية سواء فرض الداعي هو أحد المتناز عين للاخر أو فرض الداعي هو الله ورسوله أو كان المراد هو السمع والطاعة لحكم الله ورسوله وإن كان بعيدا. وانحصار قول المؤمنين عند الدعوة في " سمعنا وأطعنا " يوجب كون الرد للدعوة ليس من قول المؤمنين فيكون تعديا عن طور الايمان، كما يفيده قوله: " بل اولئك هم الظالمون " على ما تقدم، فتكون الآية في مقام التعليل للاضراب في ذيل الآية السابقة. وقد ختمت الآية بقوله: " وأولئك هم المفلحون " وفيه قصر الفلاح فيهم لا قصرهم في الفلاح. قوله تعالى: " ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون " ورود الآية في سياق الآيات السابقة وانضمامها إلى سابقتها يعطي أنها في مقام التعليل - كالكبرى الكلية - للآية السابقة حيث حكمت بفلاح من أجاب الدعوة إلى حكم الله ورسوله بالسمع والطاعة بقيد الايمان كأنه قيل: إنما أفلح من أجاب إلى حكم الله ورسوله وهو مؤمن لانه مطيع لله ولرسوله وهو مؤمن حقا في باطنه خشية الله وفي

[ 149 ]

ظاهره تقواه ومن يطع الله ورسوله فيما قضى عليه ويخش الله ويتقه فاولئك هم الفائزون، والفوز هو الفلاح. وتشمل الآية الداعي إلى حكم الله ورسوله من المتنازعين كما يشمل المدعو منهما إذا أجاب بالسمع والطاعة ففيها زيادة على تعليل حكم الآية السابقة تعميم الوعد الحسن للداعي والمدعو جميعا. قوله تعالى: " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة " إلى آخر الآية، الجهد الطاقة، والتقدير في قوله: " أقسموا بالله جهد أيمانهم " أقسموا بالله مبلغ جهدهم في أيمانهم والمراد أقسموا باغلظ أيمانهم. والظاهر أن المراد بقوله: " ليخرجن " الخروج إلى الجهاد على ما وقع في عدة من الآيات كقوله: " ولو أرادوا الخروج لا عدوا له عدة ولكن كره الله أنبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا " التوبه: 47. وقوله: " قل لا تقسموا " نهي عن الاقسام، وقوله: " طاعة معروفة " خبر لمبتدأ محذوف هو الضمير الراجع إلى الخروج والجملة في مقام التعليل للنهي عن الاقسام ولذا جئ بالفصل، وقوله: " والله خبير بما تعملون " من تمام التعليل. ومعنى الآية: وأقسموا بالله بأغلظ أيمانهم لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن قل لهم: لا تقسموا فالخروج إلى الجهاد طاعة معروفة من الدين - وهو واجب لا حاجة إلى إيجابه بيمين مغلظ - وإن تكونوا تقسمون لاجل أن ترضوا الله ورسوله بذلك فالله خبير بما تعملون لا يغره اغلاظكم في الايمان. وقيل: المراد بالخروج خروجهم من ديارهم وأموالهم لو حكم الرسول بذلك، وقوله: " طاعة معروفة " مبتدا لخبر محذوف، والتقدير طاعة معروفة للنبي خير من إقسامكم، ومعنى الآية: وأقسموا بالله بأغلظ الايمان لئن أمرتهم وحكمت عليهم في منازعاتهم بالخروج من ديارهم وأموالهم ليخرجن منها قل لهم: لا تقسموا لان طاعة حسنة منكم للنبي خير من إقسامكم بالله والله خبيربما تعملون. وفيه أن هذا المعنى وإن كان يؤكد إتصال الآية بما قبلها بخلاف المعنى لسابق لكنه لا يلائم التصريح السابق بردهم الدعوة إلى الله ورسوله ليحكم بينهم لانهم إذ كانوا

[ 150 ]

تولوا وأعرضوا عن حكم الله ورسوله لم يكن يسعهم أن يقسموا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لئن أمرهم في حكمه بالخروج من ديارهم وأموالهم ليخرجن وهو ظاهر، اللهم إلا أن يكون المقسمون فريقا آخر منهم غير الرادين للدعوة المعرضين عن الحكم، وحينئذ كان حمل " ليخرجن " على هذا المعنى لا دليل يدل عليه. قوله تعالى: " قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم " آخر الآية، أمر بطاعة الله فيما أنزل من الدين وأمر بطاعة الرسول فيما يأتيهم به من ربهم ويأمرهم به في أمر دينهم ودنياهم، وتصدير الكلام بقوله: " قل " إشارة إلى أن الطاعة جميعا لله، وقد أكده بقوله: " وأطيعوا الرسول " دون أن يقول: وأطيعوني لان طاعة الرسول بما هوطاعة الرسول طاعة المرسل، وبذلك تتم الحجة. ولذلك عقب الكلام: أولا بقوله: " فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم " أي فإن تتولوا وتعرضوا عن طاعة الرسول لم يضر ذلك الرسول فإنما عليه ما حمل من لتكليف ولا يمسكم منه شئ وعليكم ما حملتم من التكليف ولا يمسه منه شئ فإن الطاعة جميعا لله سبحانه. وثانيا بقوله: " وإن تطيعوه تهتدوا " أي وإن كان لكل منكم ومنه ما حمل لكن إن تطيعوا الرسول تهتدوا لان ما يجئ به اليكم وما يأمركم به من الله وبأمره، والطاعة لله وفيه الهداية. وثالثا بقوله: " وما على الرسول إلا البلاغ المبين " وهو بمنزلة التعليل لما تقدمه أي إن ما حمله الرسول من التكليف هو التبليغ فحسب فلا بأس عليه إن خالفتم ما بلغ، وإذ كان رسولا لم يحتمل إلا التبليغ فطاعته طاعة من أرسله وفي طاعة من أرسله وهو الله سبحانه إهتداؤكم. قوله تعالى: " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم " إلى آخر الآية.

[ 151 ]

ظاهر وقوع الآية موقعها أنها نزلت في ذيل الآيات السابقة من السورة وهي مدينة ولم تنزل بمكة قبل الهجرة على ما يؤيد سياقها وخاصة ذيلها. فالآية - على هذا - وعد جميل للذين آمنوا وعملوا الصالحات أن الله تعالى سيجعل لهم مجتمعا صالحا يخص بهم فيستخلفهم في الارض ويمكن لهم دينهم ويبدلهم من بعد خوفهم آمنا لا يخافون كيد منافق ولا صد كافر يعبدونه لا يشركون به شيئا. فقوله: " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات " من فيه تبعيضية لا بيانية والخطاب لعامة المسلمين وفيهم المنافق والمؤمن وفي المؤمنين منهم من يعمل الصالحات ومن لا يعمل الصالحات، والوعد خاص بالذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات محضا. وقوله: " ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم " إن كان المراد بالاستخلاف إعطاء الخلافة الالهية ما ورد في آدم وداود وسليمان عليه السلام، قال تعالى: " إني جاعل في الارض خليفة " البقرة: 30، وقال: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض " ص: 26، وقال: " وورث سليمان داود " النمل: 16، فالمراد بالذين من قبلهم خلفاء الله من أنبيائه وأوليائه ولا يخلو من بعد كما سيأتي. وإن كان المراد به إيراث الارض وتسليط قوم عليها بعد قوم كما قال: " إن الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " الاعراف: 128، وقال: " أن الارض يرثها عبادي الصالحون " الانبياء: 105، فالمراد بالذين من قبلهم المؤمنون من أمم الانبياء الماضين الذين أهلك الله الكافرين والفاسقين منهم ونجى الخلص من مؤمنيهم كقوم نوح وهود وصالح وشعيب كما أخبر عن جمعهم في قوله تعالى: " وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الارض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد " إبراهيم: 14، فهؤلاء الذين أخلصوا لله فنجاهم فعقدوا مجتمعا صالحا وعاشوا فيه حتى طال عليهم الامد فقست قلوبهم. وأما قول من قال: إن المراد بالذين استخلفوا من قبلهم بنو إسرائيل لما أهلك الله فرعون وجنوده فأورثهم أرض مصر والشام ومكنهم فيها كما قال تعالى فيهم:

[ 152 ]

" ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض وجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الارض " القصص: 6. ففيه أن المجتمع الاسرائيلي المنعقد بعد نجاتهم من فرعون وجنوده لم يصف من الكفر ولنفاق والفسق ولم يخلص للذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا حينا على ما ينص عليه القرآن الكريم في آيات كثيرة، ولا وجه لتشبيه استخلاف الذين آمنوا وعملوا الصالحات باستخلافهم وفيهم الكافر والمنافق والطالح والصالح. ولو كان المراد تشبيه أصل استخلافهم بأصل استخلاف الذين من قبلهم - وهم بنو إسرائيل - كيفما كان لم يجتج إلى إشخاص المجتمع الاسرائيلي للتشبيه به وفي زمن نزول الآية وقبل ذلك أمم أشد قوة وأكثر جمعا منهم كالروم والفارس وكلدة وغيرهم وقد قال تعالى في عاد الاولى وثمود: " إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح " الاعراف: 69، وقال: " إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد " الاعراف: 74، وقد خاطب بذلك الكفار من هذه الامة فقال: " وهو الذي جعلكم خلائف الارض " الانعام: - 165، وقال: " هو الذي جعلكم خلائف في الارض فمن كفر فعليه كفره " فاطر: 39. فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون التشبيه ببني إسرائيل ثم يؤدي حق هذا المجتمع الصالح بما يعقبه من قوله: " وليمكنن لهم دينهم " إلى آخر الوعد ؟ قلت: نعم ولكن لا موجب حينئذ لاختصاص استخلاف بني إسرائيل لان يشبه به وأن يكون المراد بالذين من قبلهم بني إسرائيل فقط كما تقدم. وقوله: " وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم " تمكين الشئ إقراره في مكان وهو كناية عن ثبات الشئ من غير زوال واضطراب وتزلزل بحيث يؤثر أثره من غير مانع ولا حاجز فتمكن الدين هو كونه معمولا به في المجتمع من غير كفر به واستهانة بأمره، ومأخوذا بأصول معارفه من غير اختلاف وتخاصم وقد حكم الله سبحانه في مواضع من كلامه أن الاختلاف في الدين من بغي المختلفين كقوله: " وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم " البقرة: 213. والمراد بدينهم الذي إرتضى لهم دين الاسلام، وأضاف الدين إليهم تشريفا لهم ولكونه من مقتضى فطرتهم.

[ 153 ]

وقوله: " وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا " هو كقوله: " وليمكنن لهم " عطف على قوله: " ليستخلفنهم " وأصل المعنى: وليبدلن خوفهم أمنا فنسبة التبديل إليهم إما على المجاز العقلي أو على حذف مضاف يدل عليه قوله: " من بعد خوفهم " والتقدير وليبدلن خوفهم: أو كون " أمنا " بمعنى: آمين. والمراد بالخوف على أي حال، ما كان يقاسيه المؤمنون في صدر الاسلام من الكفار والمنافقين. وقوله: " يعبدونني لا يشركون بي شيئا " الاوفق بالسياق أن يكون حالا من ضمير " وليبدلنهم " أي وليبدلن خوفهم أمنا في حال يعبدونني لا يشركون بي شيئا. والالتفات في الكلام من الغيبة إلى التكلم، و تأكيد " يعبدونني " بقوله: " لا يشركون بي شيئا " ووقوع النكرة - شيئا - في سياق النفي الدال على نفي الشرك على الاطلاق كل ذلك يقضي بأن المراد عبادتهم لله عبادة خالصة لا يداخلها شرك جلي أو خفي، وبالجملة يبدل الله مجتمعهم مجتمعا أمنا يعبد فيه إلا الله ولا يتخذ فيه رب غيره. وقوله: " ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون " ظاهر السياق كون " ذلك " إشارة إلى الموعود و الانسب على ذلك كون " كفر " من الكفران مقابل الشكر، والمعنى: ومن كفر ولم يشكر الله بعد تحقق هذا الوعد الكفر أو النفاق أو سائر المعاصي الموبقة أولئك هم الفاسقون الكاملون في الفسق وهو الخروج عن زي العبودية. وقد اشتد الخلاف بين المفسرين في الآية. فقيل: انها واردة في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد أنجز الله عده لهم بإستخلافهم في الارض وتمكين دينهم وتبديل خوفهم أمنا بما أعز الاسلام بعد رحلة النبي في أيام الخلفاء الراشدين، والمراد باستخلافهم استخلاف الخلفاء الاربعة بعد النبي صلى اللله عليه وآله وسلم أو الثلاثة الاول منهم، ونسبة الاستخلاف إلى جميعهم مع اختصاصه ببعضهم وهم الاربعة أو الثلاثة من قبيل نسبة أمر البعض إلى الكل كقولهم: قتل بنو فلان وإنما قتل بعضهم. وقيل: هي عامة لامة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد باستخلافهم وتمكين دينهم وتبديل

[ 154 ]

خوفهم أمنا إيراثهم الارض كما أورثها الله الامم الذين كانوا قبلهم أو استخلاف الخلفاء بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم - على اختلاف التقرير - وتمكين الاسلام وإنهزام اعداء الدين وقد أنجز الله وعده بما نصر الاسلام والمسلمين بعد الرحلة ففتحوا الامصار وسخروا الاقطار. وعلى القولين الآية من ملاحم القرآن حيث أخبر بأمر قبل أو ان تحققه ولم يكن مرجوا ذلك يومئذ. وقيل: إنها في المهدي الموعود عليه السلام الذي تواترت الاخبار على أنه سيظهر فيملا الارض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا، وإن المراد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمة من أهل بيته عليهم السلام. والذي يعطيه سياق الآية الكريمة على ما تقدم من البحث بالتحرز عن المسامحات التي ربما يرتكبها المفسرون في تفسير الآيات هو أن الوعد لبعض الامي لا لجميعها ولا لاشخاص خاصة منهم وهم الذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات فالآية في ذلك، ولا قرينة من لفظ أو عقل يدل على كونهم هم الصحابة أو النبي وأئمة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، ولا على أن المراد بالذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات جميع الامة وإنما صرف الوعد إلى طائفة خاصة منهم تشريفا لهم أو لمزيد العناية بهم فهذا كله تحكم من غير وجه. والمراد باستخلافهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم عقد مجتمع مؤمن صالح منهم يرثون الارض كما ورثها الذين من قبلهم من الامم الماضين أولى القوة والشوكة، وهذا الاستخلاف قائم بمجتمعهم الصالح من دون أن يختص به أشخاص منهم كما كان كذلك في الذين من قبلهم، وأما إرادة الخلافة الالهية بمعنى الولاية على المجتمع كما كان لداود وسليمان ويوسف عليهم السلام وهي السلطنة الالهية فمن المستبعد أن يعبر عن أنبيائه الكرام بلفظ " الذين من قبلهم " وقد وقعت هذه اللفظة أو ما بمعناها في أكثر من خمسين موضعا من كلامه تعالى ولم يقصد ولا في واحد منها الانبياء الماضون مع كثرة ورود ذكرهم في القرآن، نعم ذكرهم الله بلفظ " رسل من قبلك " أو " رسل من قبلي " أو نحو هما بالاضافة إلى الضمير الراجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والمراد بتمكين دينهم الذي ارتضى لهم كما مر ثبات الدين على ساقة بحيث لا

[ 155 ]

يزلزله اختلافهم في أصوله، ولا مساهلتهم في إجراء أحكامه، والعمل بفروعه وخلوص المجتمع من وصمه النفاق فيه. والمراد من تبديل خوفهم أمنا إنبساط الامن والسلام على مجتمعهم بحيث لا يخافون عدوا في داخل مجتمعهم أو خارجه متجاهرا أو مستخفيا على دينهم أو دنياهم. وقول بعضهم: إن المراد الخوف من العدو الخارج من مجتمعهم كما كان المسلمون يخافون الكفار والمشركين القاصدين إطفاء نور الله وإبطال الدعوة. تحكم مدفوع بإطلاق اللفظ من غير قرينة معينة للمدعي. على أن الآية في مقام الامتنان وأي امتنان على قوم لا عدو يقصدهم من خارج وقد أحاط بمجتمعهم الفساد وعمته البلية لا أمن لهم في نفس ولا عرض ولا مال، الحرية فيه للقدرة الحاكمة والسبق فيه للفئة الباغية. والمراد بكونهم يعبدون الله لا يشركون به شيئا ما يعطيه حقيقة معنى اللفظ وهو عموم إخلاص العبادة وإنهدام بنيان كل كرامة إلا كرامة التقوى. والمتحصل من ذلك كله أن الله سبحانه يعد الذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات أن سيجعل لهم مجتمعا صالحا خالصا من وصمة الكفر والنفاق والفسق يرث الارض لا يحكم في عقائد أفراده عامة ولا أعمالهم إلا الدين الحق يعيشون آمنين من غير خوف من عدو داخل أو خارج، أحرارا من كيد الكائدين وظلم الظالمين وتحكم المتحكمين. وهذا المجتمع الطيب الطاهر على ما له من صفات الفضيلة والقداسة لم يتحقق ولم ينعقد منذ بعث لنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا، وإن انطبق فلينطبق على زمن ظهور المهدى عليه السلام على ما ورد من صفته في الاخبار المتوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وائمة أهل البيت عليه السلام لكن على أن يكون الخطاب للمجتمع الصالح لا له عليه السلام وحده. فإن قلت: ما معنى الوعد حينئذ للذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات وليس المهدي عليه السلام أحد المخاطبين حين النزول ولا واحد من أهل زمان ظهوره بينهم ؟ قلت: فيه خلط بين الخطابات الفردية والاجتماعية أعني الخطاب متوجه إلى أشخاص القوم بما هم أشخاص بأعيانهم والخطاب المتوجه إليهم بما هم قوم على نعت كذا فالاول لا يتعدي إلى غير أشخاصهم ولا ما تضمنه من وعد أو وعيد أو غير ذلك

[ 156 ]

يسري إلى غيرهم، والثاني يتعدي إلى كل من اتصف بما ذكر فيه من الوصف ويسري إليه ما تضمنه من الحكم، وخطاب الآية من القبيل الثاني على ما تقدم. ومن هذا القبيل أغلب الخطابات القرآنية المتوجهة إلى المؤمنين والكفار، ومنه الخطابات الذامة لاهل الكتاب وخاصة اليهود بما فعله أسلافهم وللمشركين بما صنعه آباؤهم. ومن هذا القبيل خاصة ما ذكر من الوعد في قوله تعالى: " فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم " الاسراء: 7، فإن الموعودين لم يعيشوا إلى زمن إنجاز هذا الوعد، ونظيره الوعد المذكور في قول ذي القرنين على ما حكاه الله: " فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا " الكهف: 98، وكذا وعده تعالى الناس بقيام الساعة وانطواء بساط الحياة الدنيا بنفخ الصور كما قال: " ثقلت في السماوات والارض لا تأتيكم إلا بغتة " الاعراف: 187، فوعد الصالحين من المؤمنين بعنوان أنهم مؤمنون صالحون بوعد لا يدركه أشخاص زمان النزول بأعيانهم ولما يوجد أشخاص المجتمع الذي يدرك إنجاز الوعد مما لا ضير فيه البتة. فالحق أن الآية إن أعطيت حق معناها لم تنطبق إلا على المجتمع الموعود الذي سينعقد بظهور المهدي عليه السلام وإن سومح في تفسير مفرداتها وجملها وكان المراد باستخلاف الذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات استخلاف الامة بنوع من التغليب نحوه، وبتمكين دينهم الذي ارتضاه لهم كونهم معروفين في الدنيا بالامة المسلمة وعدهم الاسلام دينا لهم وإن تفرقوا فيه ثلاثا وسبعين فرقة يكفر بعضهم بعضا ويستبيح بعضهم دماء بعض وأعراضهم وأموالهم، وبتبديل خوفهم أمنا يعبدون الله ولا يشركون به شيئا عزة الامة وشوكتها في الدنيا وانبساطها على معظم المعمورة وظواهر ما يأتون به من صلاة وصوم وحج وإن ارتحل الامن من بينهم أنفسهم وودعهم الحق والحقيقة، فالوجه أن الموعود بهذا الوعد الامة، والمراد باستخلافهم ما رزقهم الله من العزة والشوكة بعد الهجرة إلى ما بعد الرحلة ولا موجب لقصر ذلك في زمن الخلفاء الراشدين بل يجري فيما بعد ذلك إلى زمن انحطاط الخلافة الاسلامية. وأما تطبيق الآية على خلافة الخلفاء الراشدين أو الثلاثه الاول أو خصوص على

[ 157 ]

عليه السلام فلا سبيل إليه البتة. قوله تعالى: " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون " مناسبة مضمون الآية لما سيقت لبيانه الآيات السابقة تعطي أنها من تمامها. فقوله: " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " أمر في الحقيقة بطاعته تعالى فيما شرعه لعباده، وتخصيص الصلاة والزكاة بالذكر كونهما ركنين في التكاليف الراجعة إلى الله تعالى وإلى الخلق، وقوله: " وأطيعوا الرسول " إنفاذ لولايته صلى الله عليه وآله وسلم في القضاء والحكومة. وقوله: " لعلكم ترحمون " تعليل للامر بما في المأمور به من المصلحة، والمعنى - على ما يعطيه السياق أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن في هاتين الطاعتين رجاء أن تشملكم الرحمة الالهية فينجزلكم وعده أو يجعل لكم إنجازه فإن ارتفاع النفاق من بين المسلمين وعموم الصلاح والاتفاق على كلمة الحق مفتاح انعقاد مجتمع صالح يدر عليهم بكل خير. قوله تعالى: " لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الارض ومأواهم النار ولبئس المصير " من تمام الآيات السابقة، وفيها تأكيد ما مر من وعد الاستخلاف في الارض وتمكين الدين وتبديل الخوف أمنا. يخاطب تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بعد الوعد - بخطاب مؤكد - أن لا يظن أن الكفار معجزون لله في الارض فيمنعونه بما عندهم من القوة والشوكة من أن ينجز وعده، وهذا في الحقيقة بشرى خاصة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بما أكرم به أمته وأن أعداءه سينهزمون ويغلبون ولذلك خصه بالخطاب على طريق الالتفات. ولكون النهي المذكور في معنى أن الكفار سينتهون عن معارضة الدين وأهله عطف عليه قوله: " ومأواهم النار " الخ، كأنه قيل: هم مقهورون في الدنيا ومسكنهم النار في الآخرة وبئس المصير. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: " ويقولون آمنا بالله " الآيات قيل: نزلت الآيات في

[ 158 ]

رجل من المنافقين كان بينه بين رجل من اليهود حكومة فدعاه اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعاه المنافق إلى كعب بن الاشرف. وحكي البلخي أنه كانت بين علي وعثمان منازعة في أرض أشتراها من علي فخرجت فيها أحجار و أراد ردهبا لعيب فلم يأخذها فقال: بيني وبينك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال الحكم بن أبي العاص ان حاكمته إلى ابن عمه يحكم له فلا تحاكمه إليه فنزلت الآيات، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام أو قريب منه. أقول وفي تفسير روح المعاني عن الضحاك أن النزاع كان بين علي والمغيرة بن وائل وذكر قريبا من القصة. وفي المجمع في قوله تعالى: " إنما كان قول المؤمنين " الآية: وروي عن أبي جعفر أن المعني بالآية أمير المؤمنين عليه السلام. وفي الدر المنثور في قوله تعالى: " فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم " الآية، أخرج ابن جرير وابن قانع والطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي عن سلمة بن يزيد الجهني قال: قلت: يا رسول الله أرأيت إن كان علينا أمراء من بعدك يأخذونا بالحق الذي علينا ويمنعونا الحق الذي جعله الله لنا نقاتلهم ونبغضهم ؟ فقال النبي ص: عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم. أقول: وفي معناه بعض روايات أخر مروية فيه لكن ينبغي أن لا يرتاب في أن الاسلام بما فيه من روح إحياء الحق وإماتة الباطل يأبى عن إجازة ولاية الظلمة المتظاهرين بالظلم وإباحة السكوت وتحمل الضيم والاضطهاد قبال الطغاة والفجرة لمن يجد إلى إصلاح الامر سبيلا، وقد اتضح بالابحاث الاجتماعية اليوم أن استبداد الولاة برأيهم واتباعهم لاهوائهم في تحكماتهم أعظم خطرا وأخبث أثرا من إثارة الفتن وإقامة الحروب في سبيل إلجائهم إلى الحق والعدل. وفي المجمع في قوله تعالى: " وعد الله الذين آمنوا منكم " الآية: واختلف في الآية والمروي عن أهل البيت عليهم السلام أنها في المهدي من آل محمد. قال: وروى العياشي بإسناده عن علي بن الحسين عليه السلام: أنه قرأ الآية وقال: هم والله شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك بهم على يدي رجل منا وهو مهدي هذه الامة،

[ 159 ]

وهو الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يأتي رجل من عترتي اسمه اسمي يملا الارض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا وروي مثل ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام. أقول: وبذلك وردت الاخبار عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، وقد تقدم بيان انطباق الآية على ذلك. وقال في المجمع بعد نقل الرواية: فعلى هذا يكون المراد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات النبي وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام انتهى. وقد عرفت أن المراد به عام والرواية لا تدل على أزيد من ذلك حيث قال عليه السلام: هم والله شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك بهم على يدي رجل منا الحديث. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن البراء في قوله: " وعد الله الذين آمنوا منكم " الآية قال: فينا نزلت ونحن في خوف شديد. أقول: ظاهره أن المراد بالذين آمنوا الصحابة وقد عرفت أن الآية لا دلالة فيها عليه بوجه بل الدلالة على خلافه. وفيه أخرج ابن المنذر والطبراني في الاوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبي بن كعب قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الانصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون الا فيه فقالوا: أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله فنزلت: " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات " الآية. أقول: هو لا يدل على أزيد من سبب النزول وأما أن المراد بالذين آمنوا من هم ؟ وأن الله متى أنجزأ وينجز هذا الوعد ؟ فلا تعرض له به. ونظيرته روايته الاخرى: لما نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات " الآية قال: بشر هذه الامة بالسناء والرفعة والدين والنصر والتمكين في الارض فمن عمل منكم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب. فإن تبشير الامة بالاستخلاف لا يستلزم كون المراد بالذين آمنوا في الآية جميع الامة أو خصوص الصحابة أو نفرا معدودا منهم.

[ 160 ]

وفي نهج البلاغة في كلام له لعمر لما استشاره لا نطلاقه لقتال أهل الفارس حين تجمعوا للحرب قال عليه السلام: إن هذا الامر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة، وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعزة وأيده حتى بلغ ما بلغ وطلع حيث طلع ونحن على موعود من الله تعالى حيث قال عز اسمه: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض وليمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا. والله تعالى منجز وعده وناصر جنده، ومكان القيم في الاسلام مكان النظام من الخرز فإن انقطع النظام تفرق ورب متفرق لم يجتمع، والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثيرون بالاسلام عزيزون بالاجتماع فكن قطبا واستدر الرحى بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب فإنك إن شخصت من هذه الارض تنقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم اليك مما بين يديك، وكان قد آن للاعاجم أن ينظروا اليك غدا يقولون: هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك. فأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نقاتل فيما مضى بالكثرة وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة. أقول: وقد استدل به في روح المعاني على ما ارتضاه من كون المراد بالاستخلاف في الآية ظهور الاسلام وارتفاع قدره في زمن الخلفاء الراشدين وهو بمعزل عن ذلك بل دليل على خلافه، فإن ظاهر كلامه أن الوعد الالهي لم يتم أمر إنجازه بعد وأنهم يومئذ في طريقه حيث يقول: والله منجز وعده، وأن الدين لم يمكن بعد ولا الخوف بدل أمنا وكيف لا ؟ وهم بين خوفين خوف من تنقض العرب من داخل وخوف من مهاجمة الاعداء من خارج. و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي الشعثا قال: كنت جالسا مع حذيفة و ابن مسعود فقال حذيفة ذهب النفاق إنما كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما هو اليوم الكفر بعد الايمان فضحك ابن مسعود ثم قال: بم تقول ؟ قال: بهذه الآية " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات " إلى آخر الآية.

[ 161 ]

أقول: ليت شعري أين ذهب منافقوا عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ وشواهد الكتاب العزيز والتاريخ تدل على أنهم ما كانوا بأقل من ثلث أهل المدينة ومعظمهم بها أصدقوا الاسلام يوم رحلته صلى الله عليه وآله وسلم أم تغيرت آراؤهم في تربصهم الدوائر وتقليبهم الامور ؟. * * * يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلوة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلوة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم - 58. وإذا بلغ الاطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم - 59. والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم - 60. ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت

[ 162 ]

أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون - 61. إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأدنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم - 62. لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لو إذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم - 63. ألا إن لله ما في السموات والارض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شئ عليم - 64. (بيان) بقية الاحكام المذكورة في السورة وتختتم السورة بآخر الآيات وفيها إشارة إلى أن الله سبحانه إنما يشرع ما يشرع بعلمه وسيظهر وسينكشف لهم حقيقته حين يرجعون إليه.

[ 163 ]

قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم " إلى آخر الآية. وضع الثياب خلعها وهو كناية عن كونهم على حال ربما لا يحبون أن يراهم عليها الاجنبي. والظهيرة وقت الظهر، والعورة السوأة سميت بها لما يلحق الانسان من انكشافها من العار وكأن المراد بها في الآية ما ينبغي ستره. فقوله: " يا أيها الذين آمنوا " الخ، تعقيب لقوله سابقا: " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا " الخ، القاضي بتوقف دخول البيت على الاذن وهو كالاستثناء من عمومه في العبيد والاطفال بأنه يكفيهم الاستيذان ثلاث مرات في اليوم. وقوله: " ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم أي مروهم أن يستأذنوكم للدخول، وظاهر الذين ملكت أيمانكم العبيد دون الاماء وإن كان اللفظ لا يأبى عن العموم بعناية التغليب، وبه وردت الرواية كما سيجئ. وقوله: " والذين لم يبلغوا الحلم منكم " يعني المميزين من الاطفال قبل البلوغ، والدليل على تقيدهم بالتمييز قوله: " بعد ثلاث عورات لكم ". وقوله: " ثلاث مرات " أي كل يوم بدليل تفصيله بقوله: " من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة - أي وقت الظهر - ومن بعد صلاة العشاء "، وقد أشار إلى وجه الحكم بقوله: " ثلاث عورات لكم " أي الاوقات الثلاثة ثلاث عورات لكم لا ينبغي بالطبع أن يطلع عليكم فيها غيركم. وقوله: " ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن " أي لا مانع لكم من أن لا تأمروهم بالاستيذان ولا لهم من أن لا يستأذنوكم في غير هذه الاوقات، وقد أشار إلى جهة نفي الجناح بقوله: " طوافون عليكم بعضكم على بعض " أي هم كثير الطواف عليكم بعضكم يطوف على بعض للخدمة فالاستيذان كلما دخل حرج عادة فليكتفوا فيه بالعورات الثلاث. ثم قال: " كذلك يبين الله لكم الآيات " أي أحكام دينه التي هي آيات دالة عليه " والله عليم " يعلم أحوالكم وما تستدعيه من الحكم " حكيم " يراعي مصالحكم في أحكامه. قوله تعالى: " وإذا بلغ الاطفال منكم الحلم فليستأذنوا " الخ، بيان أن حكم

[ 164 ]

الاستيذان ثلاث مرات في الاطفال مغيى بالبلوغ فإذا بلغ الاطفال منكم الحلم بأن بلغوا فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم وهم البالغون من الرجال والنساء الاحرار " كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم ". قوله تعالى: " والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا " إلى آخر الآية. القواعد جمع قاعدة وهي المرأة التي قعدت عن النكاح فلا ترجوه لعدم الرغبة في مباشرتها لكبرها، فقوله: " اللاتي لا يرجون نكاحا " وصف توضيحي، وقيل: هي التي يئست من الحيض، والوصف إحترازي. وفي المجمع: التبرج إظهار المرأة من محاسنها ما يجب عليها ستره، وأصله الظهور ومنه البرج البناء العالي لظهوره. والآية في معنى الاستثناء من عموم حكم الحجاب، والمعني: والكبائر المسنة من النساء فلا بأس ععليهن أن لا يحتجبن حال كونهن غير متبرجات بزينة. وقوله: " وأن يستعففن خير لهن " كناية عن الاحتجاب أي الاحتجاب خير لهن من وضع الثياب، وقوله: " والله سميع عليم " تعليل لما شرع بالاسمين أي هو تعالى سميع يسمع ما يسألنه بفطرتهن عليم يعلم ما يحتجن إليه من الاحكام. قوله تعالى: " ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم - إلى قوله - أو صديقكم " ظاهر الآية أن فيها جعل حق للمؤمنين أن يأكلوا من بيوت قراباتهم أو التي ائتمنوا عليها أو بيوت أصدقائهم فهم مأذونون في أن يأكلوا منها بمقدار حاجتهم من غير إسراف وإفساد. فقوله: " ليس على الاعمى حرج - إلى قوله - ولا على أنفسكم " في عطف " على أنفسكم " على ما تقدمه دلالة على أن عد المذكورين ليس لاختصاص الحق بهم بل لكونهم أرباب عاهات يشكل عليهم أن يكتسبوا الرزق بعمل أنفسهم أحيانا وإلا فلا فرق بين الاعمى والاعرج والمريض وغيرهم في ذلك. وقوله: " من بيوتكم أو بيوت آبائكم " الخ، في عد " بيوتكم " مع بيوت الاقرباء وغيرهم إشارة إلى نفي الفرق في هذا الدين المبني على كون المؤمنين بعضهم

[ 165 ]

أولياء بعض بين بيوتهم أنفسهم وبيوت أقربائهم وما ملكوا مفاتحه وبيوت أصدقائهم. على أن " بيوتكم " يشمل بيت الابن والزوج كما وردت به الرواية، وقوله: " أو ما ملكتم مفاتحه " المفاتح جمع مفتح وهو المخزن، والمعنى: أو البيت الذي ملكتم أي تسلطتم على مخازنه التي فيها الرزق كما يكون الرجل قيما على بيت أو وكيلا أو سلم إليه مفتاحه. وقوله: " أو صديقكم " معطوف على ما تقدمه بتقدير بيت على ما يعلم من سياقه، والتقدير أو بيت صديقكم. قوله تعالى: " ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا " الاشتات جمع شت وهو مصدر بمعنى التفرق استعمل بمعنى المتفرق مبالغة ثم جمع أو صفة بمعنى المتفرق كالحق، والمعنى: لا إثم عليكم إن تأكلوا مجتمعين وبعضكم مع بعض أو متفرقين، والآية عامة وإن كان نزولها لسبب خاص كما روي. وللمفسرين في هذا الفصل من الآية وفي الفصل الذي قبلها اختلافات شديدة رأينا الصفح عن إيرادها والغور في البحث عنها أولى، وما أوردناه من المعنى في الفصلين هو الذي يعطيه سياقهما. قوله تعالى: " فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة " الخ، لما تقدم ذكر البيوت فرع عليه ذكر أدب الدخول فيها فقال: " فإذا دخلتم بيوتا ". فقوله: " فسلموا على أنفسكم " المراد فسلموا على من كان فيها من أهلها وقد بدل من قوله: " على أنفسكم " للدلالة على أن بعضهم من بعض فإن الجميع إنسان وقد خلقهم الله من ذكر وأنثى على أنهم مؤمنون والايمان يجمعهم ويوحدهم أقوى من الرحم وأي شئ آخر. وليس ببعيد أن يكون المراد بقوله: " فسلموا على أنفسكم " أن يسلم الداخل على أهل البيت ويرد السلام عليه. وقوله: " تحية من عند الله مباركة طيبة " أي حال كون السلام تحية من عند الله شرعها الله وأنزل حكمها ليحيي بها المسلمون وهو مبارك ذو خير كثير باق وطيب

[ 166 ]

يلائم النفس فإن حقيقة هذه التحية بسط الامن والسلامة على المسلم عليه وهو أطيب أمر يشترك فيه المجتمعان. ثم ختم سبحانه الآية بقوله: " كذلك يبين الله لكم الآيات " وقد مر تفسيره " لعلكم تعقلون " أي تعلموا معالم دينكم فتعملوا بها كما قيل. قوله تعالى: " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه " ذكر قوله " الذين آمنوا بالله ورسوله " بيانا للمؤمنين على ظهور معناه للدلالة على اتصافهم بحقيقة المعنى أي إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله بحقيقة الايمان وأيقنوا بتوحده تعالى واطمأنت نفوسهم وتعلقت قلوبهم برسوله. ولذلك عقبه بقوله: " وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه " والامر الجامع هو الذي يجمع الناس للتدبر في أطرافه والتشاور والعزم عليه كالحرب ونحوها. والمعنى: وإذا كانوا مع الرسول بالاجتماع عنده على أمر من الامور العامة لم يذهبوا ولم ينصرفوا من عند الرسول حتى يستأذنوه للذهاب. ولذلك أيضا عقبه بقوله: " إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله " وهو بمنزلة عكس صدر الآية للدلالة على الملازمة وعدم الانفكاك. وقوله: " فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم " تخيير منه تعالى لرسوله في أن يأذن لمن شاء ولا يأذن لمن لم يشأ. وقوله: " واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم " أمر له بالاستغفار لهم تطييبا لنفوسهم ورحمة بهم. قوله تعالى: " لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا " إلى آخر الآية دعاء الرسول هو دعوته الناس إلى أمر من الامور كدعوتهم إلى الايمان والعمل الصالح، ودعوتهم ليشاورهم في أمر جامع، ودعوتهم إلى الصلاة جامعة، وأمرهم بشئ في أمر دنياهم أو أخراهم فكل ذلك دعاء ودعوة منه ص. ويشهد بهذا المعنى قوله ذيلا: " قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لو إذا " وما

[ 167 ]

يتلوه من تهديد مخالفي أمره ص كما لا يخفى. وهو أنسب لسياق الآية السابقة فإنها تمدح الذين يلبون دعوته ويحضرون عنده ولا يفارقونه حتى يستأذنوه وهذه تذم وتهدد الذين يدعوهم فيتسللون عنه لو إذا غير مهتمين بدعائه ولا معتنين. ومن هنا يعلم عدم استقامة ما قيل: إن المراد بدعاء النبي ص خطابه فيجب أن فخم ولا يساوى بينه وبين غيره من الناس فلا يقال له: يا محمد ويا ابن عبد الله، بل: يا رسول الله. وكذا ما قيل: إن المراد بالدعاء دعاؤه عليهم لو أسخطوه فهو نهي عن التعرض لدعائه عليهم بإسخاطه فإن الله تعالى لا يرد دعاءه هذا، وذلك لان ذيل الآية لا يساعد على شئ من الوجهين. وقوله: " قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لو إذا " التسلل: الخروج من البين برفق واحتيال من سل السيف من غمده، واللواذ: الملاوذة وهو أن يلوذ الانسان ويلتجئ إلى غيره فيستتربه، والمعنى: أن الله يعلم منكم الذين يخرجون من بين الناس والحال أنهم يلوذون بغيرهم ويستترون به فينصرفون فلا يهتمون بدعاء الرسول ولا يعتنون به. قوله: " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم " ظاهر سياق الآية بما تقدم من المعنى أن ضمير " عن أمره " للنبي ص وهو دعاؤه، ففي الآية تحذير لمخالفي أمر النبي ص ودعوته من أن تصيبهم فتنة وهي البلية أو يصيبهم عذاب أليم. وقيل: ضمير " عن أمره " راجع إلى الله سبحانه، والآية وإن لم يقع فيها أمر منه تعالى لكن نهيه المذكور بقوله: " لا تجعلوا دعاء الرسول " الخ، في معنى أجيبوا دعاء الرسول، وهو أمر، وأول الوجهين أوجه. قوله تعالى: " ألا إن لله ما في السماوات والارض قد يعلم ما أنتم عليه " اختتام للسورة ناظر إلى قوله في مفتتحها: " سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات " فما في مختتمها كالتعليل لما في مفتتحها. فقوله: " ألا إن لله ما في السماوات والارض " بيان لعموم الملك وأن كل شئ

[ 168 ]

مملوك لله سبحانه قائم به فهي معلومة له بجميع خصوصيات وجودها فيعلم ما تحتاج إليه، والناس من جملة ما يعلم بحقيقة حاله وما يحتاج إليه فالذي يشرعه لهم من الدين مما يحتاجون إليه في حياتهم كما أن ما يرزقهم من المعيشة مما يحتاجون إليه في بقائهم. فقوله: " قد يعلم ما أنتم عليه " - أي من حقيقة الحال المنبئة عن الحاجة - بمنزلة النتيجة المترتبة على الحجة أي ملكه لكم ولكل شئ يستلزم علمه بحالكم وبما تحتاجون إليه من شرائع الدين فيشرعه لكم ويفرضه عليكم. وقوله: " ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شئ عليم " معطوف على قوله: " ما أنتم عليه " أي ويعلم يوما يرجعون إليه وهو يوم القيامة فيخبرهم بحقيقة ما عملوا والله بكل شي عليم. وفي هذا الذيل حث على الطاعة والانقياد لما شرعه وفرضه من الاحكام والعمل به من جهة أنه سيخبرهم بحقيقة ما عملوا به كما أن في الصدر حثا على القبول من جهة أن الله إنما شرعها لعلمه بحاجتهم إليها وأنها التي ترفع بها حاجتهم. (بحث روائي) في الدر المنثور في قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم " الآية، أخرج سعيد منصور وابن أبي شيبة وأبو داود وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: آية لم يؤمن بها أكثر الناس آية الاذن، وإني لآمر جاريتي هذه - لجارية قصيرة قائمه على رأسه - أن يستأذن علي. وفي تفسير القمي في الآية قال: إن الله تبارك وتعالى نهى أن يدخل أحد في هذه الثلاثة الاوقات على أحد لا أب ولا أخت ولا أم ولا خادم إلا بإذن، والاوقات بعد طلوع الفجر ونصف النهار وبعد العشاء الآخرة. ثم أطلق بعد هذه الثلاثة الاوقات فقال: " ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن " يعني بعد هذا الثلاثة الاوقات " طوافون عليكم بعضكم على بعض ". وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي عبد الله ع في قول الله عزوجل:

[ 169 ]

" ملكت أيمانكم " قال: هي خاصة في الرجال دون النساء. قلت: فالنساء يستأذن في هذه الثلاث ساعات ؟ قال: لا ولكن يدخلن ويخرجن " والذين لم يبلغوا الحلم منكم " قال: من أنفسكم، قال عليكم (1) استيذان كاستيذان من قد بلغ في هذه الثلاث ساعات. أقول: وروى فيه روايات أخرى غيرها في كون المراد بالذين ملكت أيمانكم الذكور دون الاناث عن أبي جعفر أبي عبد الله ع. وفي المجمع في الآية: معناه مروا عبيدكم وأماءكم أن يستأذنوا عليك أذا أرادوا الدخول إلى موضع خلواتكم عن ابن عباس وقيل: أراد العبيد خاصة عن ابن عمر وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله ع. أقول: وبهذه الاخبار وبظهور الآية يضعف ما رواه الحاكم عن علي ع في الآية قال: النساء فإن الرجال يستأذنون. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله ص: لا تغلبنكم الاعراب على اسم صلاتكم العشاء فإنما هي في كتاب الله العشاء وإنما يعتم بحلاب الابل. أقول: وروى مثله عن عبد الرحمان بن عوف ولفظه: إن رسول الله ص قال: لا يغلبنكم الاعراب على اسم صلاتكم قال الله: " ومن بعد صلاة العشاء " وإنما العتمة عتمة الابل. وفي الكافي بإسناده عن حريز عن أبي عبد الله ع أنه قرأ " أن يضعن من ثيابهن " قال: الجلباب والخمار إذا كانت المرأة مسنة. أقول وفي معناه أخبارأخر. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك قال: كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبي ص لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا مريض ولا أعرج لان الاعمى لا يبصر طيب الطعام، والمريض لا يستوفي الطعام كما يستوفي الصحيح، والاعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام فنزلت رخصة في مواكلتهم.


(1) عليهم ظ. (*)

[ 170 ]

وفيه أخرج الثعلبي عن ابن عباس قال: خرج الحارث غازيا مع رسول الله ص وخلف على أهله خالد بن زيد فحرج أن يأكل من طعامه وكان مجهودا فنزلت. وفيه أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال: كان هذا الحي من بني كنانة بن خزيمة يرى أحدهم أن عليه مخزاه أن يأكل وحده في الجاهلية حتى أن كان الرجل يسوق الذود الحفل وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه فأنزل الله: " ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا ". أقول: وفي معنى هذه الروايات روايات أخر. وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي عبد الله ع في قول الله عزو جل: " أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم " قال: هؤلاء الذين سمى الله عزوجل في هذه الآية يأكل بغير إذنهم من التمر والمأدوم وكذلك تطعم المرأة من منزل وجها بغير إذنه فأما ما خلا ذلك من الطعام فلا. وفيه بإسناده عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر ع قال: قال رسول الله ص لرجل: أنت ومالك لابيك، ثم قال أبو جعفر ع: وما أحب له أن يأخذ من مال ابنه إلا ما احتاج إليه مما لا بدله منه إن الله لا يحب الفساد. وفيه بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله ع قال: سألته عن رجل لابنه مال فيحتاج الاب قال: يأكل منه فأما الام فلا تأكل منه إلا قرضا على نفسها. وفيه بإسناده عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله ع قال: للمرأة أن تأكل وأن تصدق وللصديق أن يأكل من منزل أخيه ويتصدق. وفيه بإسناده عن ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله ع في قول الله عزوجل: " أو ما ملكتم مفاتحه " قال الرجل يكون له وكيل يقوم في ماله فيأكل بغير إذنه. وفي المجمع في قوله تعالى: " أن تأكلوا من بيوتكم " وقيل: معناه من بيوت أو لادكم ويدل عليه قوله ع: أنت ومالك لابيك. وقوله ع: إن أطيب ما يأكل المن كسبه وإن ولده من كسبه.

[ 171 ]

أقول: وفي هذه المعاني روايات كثيرة أخرى. وفي المعاني بإسناده عن أبي الصباح قال: سألت أبا جعفر ع عن قول الله عز وجل: " فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم الآية فقال: هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثم يردون عليه فهو سلامكم على أنفسكم. أقول: " وقد تقدمت الاشارة إلى هذا المعنى في تفسير الآية. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " إنما المؤمنون الذين - إلى قوله - حتى يستأذنوه " فإنها نزلت في قوم كانوا إذا جمعهم رسول الله ص لامر من الامور في بعث يبعثه أو حرب قد حضرت يتفرقون بغير إذنه فنها هم الله عزوجل عن ذلك. وفيه في قوله تعالى: " فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم، قال: نزلت في حنظلة بن أبي عياش وذلك أنه تزوج في الليلة التي كان في صبيحتها حرب أحد فاستأذن رسول الله ص أن يقيم عند أهله فأنزل الله عزوجل هذه الآية " فأذن لمن شئت منهم " فأقام عند أهله ثم أصبح وهو جنب فحضر القتال فاستشهد، فقال رسول الله ص: رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء المزن في صحائف فضة بين السماء والارض فكان يسمى غسيل الملائكة وفيه في قوله تعالى: " لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا " قال: لا تدعوا رسول الله ص كما يدعو بعضكم بعضا، وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر ع في قوله عزوجل: " لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا "، يقول: لا تقولوا: يا محمد ولا يا أبا القاسم لكن قولوا: يا نبي الله ويا رسول الله. أقول وروي مثله عن ابن عباس، وقد تقدم أن ذيل الآية لا يلائم هذا المعنى تلك الملائمة.

[ 172 ]

(سورة الفرقان مكية، وهي سبع وسبعون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا - 1. الذي له ملك السموات والارض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شئ فقدره تقديرا - 2. واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حيوة ولا نشورا - 3. (بيان) غرض السورة بيان أن دعوة النبي ص دعوة حقة عن رسالة من جانب الله تعالى وكتاب نازل من عنده وفيها عناية بالغة بدفع ما أوردة الكفار على كون النبي ص رسولا من جانب الله وكون كتابه نازلا من عنده ورجوع إليه كرة بعد كرة. وقد استتبع ذلك شيئا من الاحتجاج على التوحيد ونفي الشريك وذكر بعض أوصاف يوم القيامة وذكر نبذة من نعوت المؤمنين الجميلة، والكلام فيها جار على سياق الانذار والتخويف دون التبشير. والسورة مكية على ما يشهد به سياق عامة آياتها نعم ربما استثني منها ثلاث آيات وهي قوله تعالى: " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر - إلى قوله - غفورا رحيما ".

[ 173 ]

ولعل الوجه فيه اشتمالها على تشريع حرمة الزنا لكنك قد عرفت فيما أوردناه من أخبار آية الخمر من سورة المائدة أن الزنا والخمر كانا معروفين بالتحريم في الاسلام من أول ظهور الدعوة الاسلامية. ومن العجيب قول بعضهم: إن السورة مدنية كلها إلا ثلاث آيات من أولها " تبارك الذي - إلى قوله - نشورا ". قوله تعالى: " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا " البركة بفتحتين ثبوت الخير في الشئ كثبوت الماء في البركة بالكسر فالسكون مأخوذ من برك البعير إذا ألقى صدره على الارض واستقر عليها، ومنه التبارك بمعنى ثبوت الخير الكثير وفي صيغته دلالة على المبالغة على ما قيل، وهو كالمختص به تعالى لم يطلق على غيره إلا على سبيل الندرة. والفرقان هو الفرق سمي به القرآن لنزول آياته متفرقة أو لتمييزه الحق من الباطل ويؤيد هذا المعنى إطلاق الفرقان في كلامه تعالى على التوراة أيضا مع نزولها دفعة، قال الراغب في المفردات: والفرقان أبلغ من الفرق لانه يستعمل في الفرق بين الحق والباطل، وتقديره كتقدير رجل قنعان يقنع به في الحكم، وهو اسم لا مصدر فيما قيل، والفرق يستعمل فيه وفي غيره. انتهى. والعالمون جمع عالم ومعناه الخلق قال في الصحاح: العالم الخلق والجمع العوالم، والعالمون أصناف الخلق انتهى. و اللفظة وإن كانت شامة لجميع الخلق من الجماد والنبات والحيوان والانسان والجن والملك لكن سياق الآية - وقد جعل فيها الانذار - غاية لتنزيل القرآن - يدل على كون المراد بها المكلفين من الخلق وهم الثقلان: الانس والجن فيما نعلم. وبذلك يظهر عدم استقامة ما ذكره بعضهم أن الآية تدل على عموم رسالته ص لجميع ما سوى الله فإن فيه غفلة عن وجه التعبير عن الرسالة بالانذار ونظير الآية قوله تعالى: " واصطفاك على نساء العالمين " آل عمران: 42 وقوله: " وفضلناهم على العالمين " الجاثية: 16. والنذير بمعنى المنذر على ما قيل، والانذار قريب المعنى من التخويف.

[ 174 ]

فقوله تعالى: " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده " أي ثبت وتحقق خير كثير فيمن نزل الفرقان على عبده محمد ص، وثبوت الخير الكثير العائد إلى الخلق فيه تعالى كناية عن فيضانه منه على خلقه حيث نزل على عبده كتابا فارقا بين الحق والباطل منقذا للعالمين من الضلال سائقا لهم إلى الهدى. والجمع في الآية بين نزول القرآن من عنده تعالى وكون النبي ص رسولا منه نذير اللعالمين مع تسمية القرآن فرقانا بين الحق والباطل وتوصيف النبي ص بكونه عبدا له نذيرا للعالمين المشعر بكونه مملوكا مأمورا لا يملك من نفسه شيئا كل ذلك تمهيد لما سيحكي - عن المشركين من طعنهم في القرآن بأنه افتراء على الله اختلفه النبي ص وأعانه على ذلك قوم آخرون، ومن طعنهم في النبي ص بأنه يأكل الطعام ويمشي في الاسواق وسائر ما تفوهوا به وما يدفع به مطاعنهم. فالمحصل أنه كتاب يفرق بحجته الباهرة بين الحق والباطل فلا يكون إلا حقا إذ الباطل لا يفرق بين الحق والباطل وإنما يشبه الباطل بالحق ليلبس على الناس، وأن الذي جاء به عبد مطيع لله ينذر به العالمين ويدعوهم إلى الحق فلا يكون إلا على الحق ولو كان مبطلا لم يدع إلى الحق بل حاد عنه وانحرف على أن الله سبحانه يشهد في كلامه المعجز بصدق رسالته وأن الذي جاء به من الكتاب منزل من عنده. ومن هنا يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالفرقان مطلق الكتب السماوية المنزلة، على الانبياء وبعبده عامة الانبياء ع، ولا يخفى بعده من ظاهر اللفظ. وقوله تعالى: " ليكون للعالمين نذيرا " اللام للتعليل وتدل على أن غاية تنزيل الفرقان على عبده أن يكون منذر الجميع العالمين من الانس والجن، والجمع المحلى باللام يفيد الاستغراق، ولا يخلو الاتيان بصيغة الجمع المحلى باللام من إشارة إلى أن للجميع إلها واحدا لا كما يذهب إليه الوثنيون حيث يتخذ كل قوم إلها غير ما يتخذه الآخرون. والاكتفاء بذكر الانذار دون التبشير لان الكلام في السورة مسوق سوق الانذار والتخويف. قوله تعالى: " الذي له ملك السموات والارض " إلى آخر الآية. الملك بكسر

[ 175 ]

الميم وفتحها قيام شئ بشئ بحيث يتصرف فيه كيف شاء سواء كان قيام رقبته به كقيام رقبة المال بمالكه بحيث كان له أنواع التصرف فيه أو قيامه به باستيلائه عليه بالتصرف بالامر والنهي وأنواع الحكم كاستيلاء الملك على الناس من رعيته وما في أيديهم، ويطلق على القسم الثاني الملك بضم الميم. فالملك بكسر الميم أعم من الملك بضمها كما قال الراغب الملك - بفتح الميم وكسر اللام - هو المتصرف بالامر والنهي في الجمهور، وذلك يختص بسياسة الناطقين، ولهذا يقال: ملك الناس ولا يقال: ملك الاشياء - إلى أن قال - فالملك بالضم - ضبط الشئ المتصرف فيه بالحكم، والملك - بالكسر - كالجنس للملك فكل ملك - بالضم - ملك بالكسر - وليس كل ملك - بالكسر - ملكا - بالضم - انتهى. وربما يحض الملك بالكسر بما يتعلق بالرقبة، والملك بالضم بغيره. فقوله تعالى: " الذي له ملك السماوات والارض " واللام للاختصاص - يفيد أن السماوات والارض مملوكة له غير مستقلة بنفسها في جهة جهاتها ولا مستغنية عن التصرف فيها بالحكم وأن الحكم فيها وإدارة رحاها يختص به تعالى فهو المليك المتصرف بالحكم فيها على الاطلاق. وبذلك يظهر ترتب قوله: " ولم يتخذ ولدا " على ما تقدمه فإن الملك على الاطلاق لا يدع حاجة إلى اتخاذ الولد إذ اتخاذ الولد لاحد أمرين إما لكون الشخص لا يقوى على إدارة رحى جميع أموره ولا يملك تدبيرها جميعا فيتخذ الولد ليستعين به على بعض حوائجه والله سبحانه يملك كل شئ ويقوى على ما أراد، وإما لكون الشخص محدود البقاء لا يملك ما يملك إلا في أمد محدود فيتخذ الولد ليخلفه فيقوم على أموره بعده والله سبحانه يملك كل شئ سرمدا ولا يعتريه فناء وزوال فلا حاجة له إلى اتخاذ الولد البتة وفيه رد على المشركين والنصارى. وكذا قوله تعالى بعده: " ولم يكن له شريك في الملك " فإن الحاجة إلى الشريك إنما هي فيما إذا لم يستوعب الملك الامور كلها وملكه تعالى عام لجميع الاشياء محيط بجميع جهاتها لا يشذ منه شاذ، وفيه رد على المشركين.

[ 176 ]

وقوله تعالى: " وخلق كل شئ فقدره تقديرا " بيان لرجوع تدبير عامة الامور إليه تعالى وحده بالخلق والتقدير فهو رب العالمين لا رب سواه. بيان ذلك أن الخلقة لما كانت بتوسيط الاسباب المتقدمة على الشئ والمقارنة له استلزم ذلك ارتباط وجودات الاشياء بعضها ببعض فيتقدر وجود كل شئ وآثار وجوده حسب ما تقدره العلل والعوامل المتقدمة عليه والمقارنة له فالحوادث الجارية في العالم على النظام المشهود مختلطة بالخلقة تابعة للعلل والعوامل المتقدمة والمقارنة وإذ لا خالق غير الله سبحانه فلا مدبر للامر غيره فلا رب يملك الاشياء ويدبر أمرها غيره. فكونه تعالى له ملك السماوات والارض حاكما متصرفا فيها على الاطلاق يستلزم قيام الخلقة به إذ لو قامت بغيره كان الملك لذلك الغير، وقيام الخلقة به يستلزم قيام التقدير به، لكون التقدير متفرعا على الخلقة، وقيام التقدير به يستلزم قيام التدبير به فله الملك والتدبير فهو الرب عز شأنه. وملكه تعالى للسماوات والارض وإن استلزم استناد الخلق والتقدير إليه لكن لما كان الوثنيون مع تسليمهم عموم ملكه يرون أن ملكه للجميع وربوبيته للكل لا ينافي ملك الهتهم وربوبيتهم للبعض بتفويضه تعالى ذلك إليهم فكل من الآلهة مليك في صقع الوهيته رب لمربوبيته والله سبحانه ملك الملوك ورب الارباب وإله الآلهة. فلذلك لم يكف قوله: " الذي له ملك السماوات والارض " لاثبات اختصاص اللربوبية به تعالى قبالهم بل احتج إلى الاتيان بقوله: " وخلق كل شئ فقدره تقديرا ". فكان قائلا يقول: هب أن ملكه للسماوات والارض يغنيه عن اتخاذ الولد والشريك الموجب لسلب ملكه عن بعض الاشياء لكن لم لا يجوز أن يتخذ بعض خلقه شريكا لنفسه بتفويض بعض أمور العالم إليه مع كونه مالكا له ولما فوضه إليه وهذا هو الذي كانت تراه المشركون فقد كانوا يقولون في تلبية الحج: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. فأجيب عنه بأن الخلق له سبحانه والتقدير يلازمه وإذا اجتمع الزمهما التدبير فله سبحانه تدبير كل شئ فليس مع ملكه ملك ولا مع ربوبيتة ربوبية. فقد تحصل أن قوله: " الذي له ملك السماوات والارض ولم يتخذ ولدا ولم يكن

[ 177 ]

له شريك في الملك " مسوق لتوحيد الربوبية ونفي الولد والشريك من طريق إثبات الملك المطلق، وأن قوله: " وخلق كل شئ فقدره تقديرا " تقرير وبيان لمعنى عموم الملك وأنه ملك متقوم بالخلق والتقدير موجب لتصديه تعالى لكل حكم وتدبير من غير أن يفوض شيئا من الامر إلى أحد من الخلق. وفي الآية والتي قبلها لهم أقوال أخر أغمضنا عن إيرادها لخلوها عن الجدوى. قوله تعالى: " واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون " الخ، لما نعت نفسه بأنه خالق كل شئ ومقدره وأن له ملك السماوات والارض وهكذا كان يجب أن يكون الاله المعبود، أشار إلى ضلاله المشركين حيث عبدوا اصناما ليست بخالقة شيئا بل هي مخلوقة مصنوعة لهم ولا مالكة شيئا لانفسهم ولا لغيرهم. وضمير " واتخذوا " للمشركين على ما يفيده السياق وإن لم يسبق لهم ذكر ومثل هذا التعبير يفيد التحقير والاستهانة. وقوله: " من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون " يريد به أصنامهم التي صنعوها بأيديهم بنحت أو نحوه، وتوصيفها بالآلهة مع تعقيبها بمثل قوله: " لا يخلقون شيئا وهم يخلقون " إشارة إلى أن ليس لها من الالوهية ألا اسم سموها به من غير أن تتحقق من حقيقتها بشئ كما قال تعالى: " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم " النجم: 23.. ووضع النكرة في قوله: " لا يخلقون شيئا " في سياق النفي مبالغة في تقريعهم حيث أعرضوا عن الله سبحانه وهو خالق كل شئ وتعلقوا بأصنام لا يخلقون ولا شيئا من الاشياء بل هم أردأ حالا من ذلك حيث إنهم مصنوعون لعبادهم مخلوقون لاوهامهم، ونظير الكلام جار في قوله: " ضرا ولا نفعا " وقوله: " موتا ولا حياه ولا نشورا ". وقوله: " ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا " نفي للملك عنهم وهو ضروري في الاله إذ كان عبادهم إنما يعبدونهم ليدفعوا عنهم الضر ويجلبوا إليهم النفع وإذ كانوا لا يملكون ضرا ولا نفعا حتى لانفسهم لم تكن عبادتهم إلا خبلا وضلالا.

[ 178 ]

وبذلك يظهر أن في وقوع " لانفسهم " في السياق زيادة تقريع والكلام في معنى الترقي أي لا يملكون لانفسهم ضرا حتى يدفعوه ولا نفعا حتى يجلبوه فكيف لغيرهم ؟ وقد قدم الضر على النفع لكون دفع الضرر أهم من جلب النفع. وقوله: " ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا " أي لا يملكون موتا حتى يدفعوه عن عبادهم أو عمن شاؤا ولا حياة حتى يسلبوها عمن شاؤا أو يفيضوها على من شاؤا ولا نشورا حتى يبعثوا الناس فيجازوهم على أعمالهم، وملك هذه الامور من لوازم الالوهية. (بحث روائي) في الكافي بإسناده عن ابن سنان عمن ذكره قال: سألت أبا عبد الله ع عن القرآن والفرقان هما شيئان أو شئ واحد فقال: القرآن جملة الكتاب والفرقان المحكم الواجب العمل به. وفي الاختصاص للمفيد،: في حديث عبد الله بن سلام لرسول الله ص قال: فأخبرني هل أنزل الله عليك كتابا ؟ قال: نعم، قال: وأي كتاب هو، قال: الفرقان: قال ولم سماه ربك فرقانا ؟ قال: لانه متفرق الآيات والسور أنزل في غير الالواح وغيره من الصحف والتوراة والانجيل والزبور أنزلت كلها جملة في الالواح والاوراق. قال: صدقت يا محمد. أقول: كل من الروايتين ناظرة إلى واحد من معنيي الفرقان المتقدمين. * * * وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤا ظلما وزورا - 4. وقالوا أساطير الاولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا - 5. قل أنزله الذي يعلم

[ 179 ]

السر في السموات والارض إنه كان غفورا رحيما - 6. وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا - 7. أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا - 8. أنظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا - 9. تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الانهار ويجعل لك قصورا - 10. بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا - 11. إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا - 12. وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا - 13. لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا - 14. قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا - 15. لهم فيها ما يشاؤن خالدين كان على ربك وعدا مسؤلا - 16. ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول ءأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل - 17. قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا - 18. فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم

[ 180 ]

منكم نذقه عذابا كبيرا - 19. وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الاسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا - 20. (بيان) تحكي الآيات عن المشركين ما طعنوا به في القرآن الكريم في النبي ص وتجيب عنه. قوله تعالى: " قال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون " الخ في التعبير بمثل قوله: " وقال الذين كفروا " من غير أن يقال: وقالوا، مع تقدم ذكر الكفار في قوله: " واتخذوا من دونه آلهة " تلويح إلى أن القائلين بهذا القول هم كفار العرب دون مطلق المشركين. والمشار إليه بقولهم: " إن هذا " القرآن الكريم، وإنما اكتفوا بالاشارة دون أن يذكروه باسمه أو بشئ من أوصافه إزراء به وحطا لقدره. والافك هو الكلام المصروف عن وجهه، ومرادهم بكونه إفكا افتراء كونه كذبا اختلقه النبي ص ونسبه إلى الله سبحانه. والسياق لا يخلو من إيماء إلى أن المراد بالقوم الآخرين بعض أهل الكتاب وقد ورد في بعض الآثار أن القوم الآخرين هم عداس مولى حو يطب بن عبد العزى ويسار مولى العلاء بن الحضرمي وجبر مولى عامر كانوا من أهل الكتاب يقرؤن التوراة أسلموا وكان النبي ص يتعهدهم فقيل ما قيل. وقوله: " فقد جاؤا ظلما وزورا " قال في مجمع البيان: إن جاء وأتى ربما كانا بمعنى فعل فيتعديان مثله فمعنى الآية فقد فعلوا ظلما وكذبا، وقيل: إن ظلما منصوب بنزع الخافض والتقدير فقد جاؤا بظلم، وقيل: حال والتقدير فقد جاؤا ظالمين وهو سخيف.

[ 181 ]

وفيه أيضا: ومتى قيل: كيف اكتفى بهذا القدر في جوابهم ؟ قلنا: لما تقدم التحدي وعجزهم عن الاتيان بمثله اكتفى ههنا بالتنبيه على ذلك. انتهى والظاهر أن الجواب عن قولهم: " إن هذا إلا إفك افتراه " - الخ، وقولهم: " أساطير الاولين اكتتبها " الخ، جميعا هو قوله تعالى: " قل أنزله الذي يعلم السر " الخ، على ما سنبين والجملة أعني قوله: " فقد جاؤا ظلما وزورا " رد مطلق لقولهم وهو في معنى المنع مع السند وسنده الآيات المشتملة على التحدي. وبالجملة معنى الآية: وقال الذين كفروا من العرب ليس هذا القرآن إلا كلاما مصروفا عن وجهه - حيث إنه كلام محمد ص وقد نسبه إلى الله - افترى به على الله وأعانه على هذا الكلام قوم آخرون وهم بعض أهل الكتاب فقد فعل هؤلاء الذين كفروا بقولهم هذا ظلما وكذبا. قوله تعالى: " وقالوا أساطير الاولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا " الاساطير جمع أسطورة بمعنى الخبر المكتوب ويغلب استعماله في الاخبار الخرافية والاكتتاب هو الكتابة ونسبته إليه ص مع كونه اميا لا يكتب إنما هي بنوع من التجوز ككونه مكتوبا باستدعاء منه كما يقول الامير كتبت إلى فلان كذا وكذا وإنما كتبه كاتبه بأمره، والدليل على ذلك قوله بعد: " فهي تملى عليه بكرة وأصيلا " إذ لو كان هو الكاتب لم يكن معنى للاملاء، وقيل: الاكتتاب بمعنى الاستكتاب. والاملاء إلقاء الكلام إلى المخاطب بلفظه ليحفظه ويعيه أو إلى الكاتب ليكتبه والمراد به في الآية هو المعنى الاول على ما يعطيه سياق " اكتتبها فهي تملي عليه " إذ ظاهره تحقق الاكتتاب دفعه والاملاء تدريجا على نحو الاستمرار فهي مكتوبة مجموعة عنده تقرا عليه وقتا بعد وقت وهو يعيها فيقرأ على الناس ما وعاه وحفظه. والبكرة والاصيل الغداة والعشي، وهو كناية عن الوقت بعد الوقت، وقيل المراد أول النهار قبل خروج الناس من منازلهم وآخر النهار بعد دخولهم في منازلهم وهو كناية عن أنها تملى عليه خفية. والآية بمنزلة التفسير للآية السابقة فكأنهم يوضحون قولهم: إنه إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون بأنهم كتبوا له أساطير الاولين ثم يملونها عليه وقتا بعد وقت

[ 182 ]

بقراءة شئ بعد شئ عليه، وهو يقرؤها على الناس وينسبها إلى الله سبحانه. فالآية بتمامها من كلام الذين كفروا، وربما قيل: إن قوله: " اكتتبها فهي تملى عليه " إلى آخر الآية من كلام الله سبحانه لا من تمام كلامهم، وهو استفهام إنكاري لقولهم: أساطير الاولين، والسياق لا يساعد عليه. قوله تعالى: " قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والارض إنه كان غفورا رحيما " أمر للنبي ص برد قولهم وتكذيبهم فيما رموا به القرآن أنه إفك مفترى وأنه أساطير الاولين اكتتبها فهي تملى عليه وقتا بعد وقت. وتوصيفه تعالى بأنه يعلم السر أي خفيات الامور وبواطنها في السماوات والارض للايذان بأن هذا الكتاب الذي أنزله منطو على أسرار مطوية عن عقول البشر، وفيه تعريض بمجازاتهم على جناياتهم التي منها رميهم القرآن بأنه إفك مفترى وأنه من الاساطير وهو مما يعلمه تعالى. وقوله: " إنه كان غفورا رحيما " تعليل لما هو المشاهد من إمهالهم وتأخير عقوبتهم على جناياتهم وتكذيبهم للحق وجراتهم على الله سبحانه. والمعنى: قل إن القرآن ليس إفكا مفترى ولا من الاساطير كما يقولون بل كتاب منزل من عند الله سبحانه ضمنه أسرار خفية لا تصل إلى كنهها عقولكم ولا تحيط بها أحلامكم، ورميكم إياه بالافك والاساطير وتكذيبكم لحقائقه جناية عظيمة تستحقون بها العقوبة غير أن الله سبحانه أمهلكم وأخر عقوبة جنايتكم لانه متصف بالمغفرة والرحمة وذلك يستتبع تأخير العذاب، هذا ملخص ما ذكروه في معنى الآية. وفيه أن السياق لا يساعد عليه فإن محصل معنى الآية على ما فسروه يرجع إلى رد دعوى الكفار كون القرآن إفكا مفترى ومن الاساطير بدعوى أنه منزل من عند الله منطو على أسرار خفية لا سبيل لهم إلى الوقوف عليها لا مساغ في مقام المخاصمة لرد الدعوى بدعوى أخرى مثلها أو هي أخفى منها. على أن التعليل بقوله: " إنه كان غفورا رحيما " إنما يناسب انتفاء العقوبة من أصلها دون الامهال والتأخير وإنما المناسب للامهال و التأخير من الاسماء هو مثل الحليم والعليم والحكيم دون الغفور الرحيم.

[ 183 ]

والاوفق لمقام المخاصمة والدفاع بإبانة الحق والتعليل بالمغفرة والرحمة أن يكون قوله: " إنه كان غفورا رحيما " تعليلا لانزال الكتاب وقد ذكر قبل ذلك أنه أنزله على عبده ليكون للعالمين نذيرا وهذه هي النبوة، ويكون حينئذ وصفه تعالى بعلم السر في السماوات والارض للايماء إلى أن في سرهم ما يستدعي شمول المغفرة والرحمة الاهيتين لحالهم وهو طلبهم بفطرتهم وجبلتهم للسعادة والعاقبة الحسنى التى ليست حقيقتها إلا السعادة الانسانية بشمول المغفرة والرحمة وإن أخطأ كثير منهم في تطبيقها على التمتع بالحياة الدنيا وزينتها الداثرة فيكون حجة برهانية على حقية الدعوة النبوية المشتملة عليها القرآن، وبطلان دعوى كونه إفكا من أساطير الاولين. وتقرير الحجة أن الله سبحانه يعلم السر في السماوات والارض وهو يعلم أن في سركم المستقر في سرائركم المجبولة عليه فطرتكم حبا للسعادة وطلبا وانتزاعا للعاقبة الحسنى وحقيقتها فوز الدنيا والآخرة، وكان سبحانه غفورا رحيما ومقتضى ذلك أن يجيبكم إلى ما تسألونه في سركم وبلسان فطرتكم فيهديكم إلى سبيله التي تضمن لكم السعادة. وهذا كتاب ينطق عليكم بسبيله فليس إفكا مفترى على الله ولا من قبيل الاساطير بل هو كتاب يتضمن ما تسألونه بفطرتكم وتستدعونه في سركم فإن استجبتم لداعيه شملتكم المغفرة والرحمة وإن توليتم حرمتم ذلك فهو كتاب منزل من عند الله ولو لم يكن نازلا من عنده كما يخبر عنه لم يهد إلى حقيقة السعادة ولم يدع إلى محض الحق ولاختلفت بياناته فدعاكم تارة إلى ما فيه خيركم ونفعكم وهو الذي يجلب اليكم المغفرة والرحمة، وتارة إلى ما هو شر لكم وضار وهو الذي يثير عليكم السخط الالهي ويستوجب لكم العقوبة. قوله تعالى: " وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها " هذه حكاية ما طعنوا به في الرسول بعد ما حكى طعنهم في القرآن بقوله: " وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه " الخ. وتعبيرهم عنه ص بقولهم: " هذا الرسول " مع تكذيبهم برسالته مبني على التهكم والاستهزاء.

[ 184 ]

وقولهم: " ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق " استفهام للتعجيب والوجه فيه أن الوثنيين يرون أن البشر لا يسوغ له الاتصال بالغيب وهو متعلق الوجود بالمادة منغمر في ظلماتها، ومتلوث بقذاراتها، ولذا يتوسلون في التوجه إلى اللاهوت بالملائكة فيعبدونهم ليشفعوا لهم عند الله ويقربوهم من الله زلفى فالملائكة هم المقربون عند الله المتصلون بالغيب المتعينون للرسالة لو كانت هناك رسالة، وليس للبشر شئ من ذلك. ومن هنا يظهر معنى قولهم: " ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق " وأن المراد أن الرسالة لا تجامع أكل الطعام والمشي في الاسواق لا كتساب المعاش فإنها اتصال غيبي لا يجامع التعلقات المادية، وليست إلا من شؤن الملائكة ولذا قالوا في غير موضع على ما حكاه الله تعالى: " لو شاء الله لانزل ملائكة " المؤمنون: 24 أو ما في معناه. ومن هنا يظهر أيضا أن قولهم: " لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا " تنزل من المشركين في الاقتراح أي كيف يكون هذا المدعي للرسالة رسولا وهو يأكل الطعام ويمشي في الاسواق والرسول لا يكون إلا ملكا منزها عن هذه الخصال المادية، فإن تنزلنا وسلمنا رسالته وهو بشر فلينزل إليه ملك يكون معه نذيرا ليتصل الانذار وتبليغ الرسالة بالغيب بتوسط الملك. وكذا قولهم: " أو يلقى إليه كنز " تنزل عما قبله من الاقتراح أي إن لم ينزل إليه ملك واستقل بالرسالة وهو بشر فليلق إليه من السماء كنز حتى يصرف منه في وجوه حوائجه المادية ولا يكدح في الاسواق في اكتساب ما يعيش به، ونزول الكنز إليه أسهل من نزول الملك إليه ليعينه في تبليغ الرسالة. وكذا قولهم: " أو تكون له جنة يأكل منها " تنزل عما قبله في الاقتراح، والمعنى: وإن لم يلق إليه كنز فليكن له جنة يأكل منها ولا يحتج إلى كسب المعاش وهذا أسهل من إلقاء الكنز إليه. قوله تعالى: " وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا " المراد بالظالمين هم المقترحون السابقو الذكر - كما قيل - فهو من وضع الظاهر موضع المضمر ووصفهم بالظلم للدلالة على بلوغهم في الظلم والاجتراء على الله ورسوله.

[ 185 ]

وقولهم: " إن تتبعون " الخ، خطاب منهم للمؤمنين تعييرا لهم وإغواء عن طريق الحق، ومرادهم بالرجل المسحور النبي ص يريدون أنه مسحور سحره بعض السحرة فصار يخيل إليه أنه رسول يأتيه ملك الوحي بالرسالة والكتاب. قوله تعالى: " انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " الامثال الاشباه وربما قيل: إن المثل هنا بمعنى الوصف على حد قوله تعالى: " مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن " سورة محمد: 15، والمحصل: انظر كيف وصفوك فضلوا فيك ضلالا لا يرجى معه اهتداؤهم إلى الحق كقولهم إنه يأكل الطعام ويمشي في الاسواق فلا يصلح للرسالة لان الرسول يجب أن يكون شخصا غيبيا لا تعلق له بالمادة ولا أقل من عدم احتياجه إلى الاسباب العادية في تحصيل المعاش، وكقولهم: إنه رجل مسحور. وقوله: " فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " أي تفرع على هذه الامثال التي ضربوها لك أنهم ضلوا ضلالا لا يستطيعون معه أن يردوا سبيل الحق ولا يرجى لهم معه الاهتداء فإن من أخطأ الطريق ربما أخطأها بانحراف يسير يرجى معه ركوبها ثانيا، وربما استدبرها فصار كلما أمعن في مسيره زاد منها بعدا، ومن سمى كتاب الله بالاساطير ووصف رسوله بالمسحور ولم يزل يزيد تعنتا ولجاجا واستهزاء بالحق كيف يرجى اهتداؤه وحاله هذه ؟ قوله تعالى: " تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الانهار ويجعل لك قصورا " الاشارة في قوله: " من ذلك " إلى ما اقترحوه من قولهم: " أو يكون له جنة يأكل منها " أو إلى مجموع ما ذكروه من الكنز والجنة. والقصور جمع قصر وهو البيت المشيد العالي، وتنكير " قصورا " للدلالة على التعظيم والتفخيم. والآية بمنزلة الجواب عن طعنهم بالنبي ص واقتراحهم أن ينزل إليه ملك أو يلقى إليه كنز أو يكون له جنة غير أن فيها التفاتا من التكلم إلى الغيبة فلم يقل: قل إن شاء ربي جعل لي كذا وكذا بل عدل إلى قوله: " تبارك الذي إن شاء جعل لك " الخ.

[ 186 ]

وفيه تلويح إلى أنهم لا يستحقون جوابا ولا يصلحون لان يخاطبوا لانهم على علم بفساد ما اقترحوا به عليه فالنبي ص لم يذكر لهم إلا أنه بشر مثلهم يوحى إليه، ولم يدع أن له قدره غيبية وسلطنة إلهية على كل ما يريد أو يراد منه، كما قال تعالى بعد ما حكى بعض اقتراحاتهم في سورة الاسراء، " قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا " أسرى: 93. فأعرض سبحانه عن مخاطبتهم وعن الجواب عما اقترحوه، وانما ذكر لنبيه ص أن ربه الذي اتخذه رسولا وأنزل عليه الفرقان ليكون للعالمين نذيرا قادر على أعظم مما يقترحونه فإن شاء جعل له خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الانهار، ويجعل له قصورا لا يبلغ وصفها واصف وذلك خير من أن يكون له جنة يأكل منها أو يلقى إليه كنز ليصرفه في حوائجه. وبهذا المقدار يتحصل جوابهم فيما اقترحوه من الكنز والجنة، وأما نزول الملك إليه ليشاركه في الانذار ويعينه على التبليغ فلم يذكر جواب عنه لظهور بطلانه، وقد أجاب تعالى عنه في مواضع من كلامه بأجوبة مختلفة كقوله: " ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون " الانعام: 9، وقوله: " قل لو كان في الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا " أسرى: 95، وقوله: " ما ننزل الملائكة الا بالحق وما كانوا إذا منظرين " الحجر: 8، وقد تقدم تقرير حجة كل من الايات في ضمن تفسيرها. ومن هنا يظهر أن المراد بجعل الجنات والقصور له ص جعله في الدنيا على ما يقتضيه مقام المخاصمة ورد قولهم فإن المحصل من السياق أنهم يقترحون عليك كيت وكيت وهم يريدون تعجيزك وتبكيتك وإن ربك قادر على أعظم من ذلك فإن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الانهار " الخ " وهي لا محالة في الدنيا وإلا لم ينقطع به الخصام. وبذلك يتبين فساد ما نقل عن بعضهم أن المراد جنات الآخرة وقصورها وأفسد منه قول آخرين ان المراد جعل جنات تجري من تحتها الانهار في الدنيا وجعل القصور في الآخرة، وربما استونس لذلك بأن التعبير في الجنات بقوله: " ان شاء جعل " وهو

[ 187 ]

صيغة ماض مفيدة للتحقق مناسبة للدنيا، وفي القصور بقوله: " يجعل " وهو صيغة مستقبل مناسبة للآخرة هذا مع أن الفعل الواقع في حيز الشرط منسلخ عن الزمان، والاختلاف في التعبير تفنن فيه وتجديد لصورة الكلام والله العالم. قوله تعالى: " بل كذبوا بالساعة واعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا "، اضراب عن طعنهم فيه ص واعتراضهم عليه بأكل الطعام والمشي في الاسواق بما يتضمن معنى التكذيب أي ما كذبوك وردوا نبوتك لانك تأكل الطعام وتمشي في الاسواق فإنما هو كلام منهم صوري بل السبب الاصلي في إنكارهم نبوتك وطعنهم فيك أنهم كذبوا بالساعة وأنكروا المعاد، ومن المعلوم أن لا وقع للنبوة مع إنكار الساعة ولا معنى للدين والشريعة لو لا المحاسبة والمجازاة. فالاشارة إلى السبب الاصلي بعد ذكر الاعتراض والاقتراح والجواب ههنا نظير ما وقع في سورة الاسراء بعد ذكر الاقتراحات ثم الجواب من ذكر السبب الاصلي في قوله: " قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا وما منع الناس أن يؤمنوا إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ". وذكر جمع من المفسرين أن قوله: " بل كذبوا بالساعة " حكاية لبعض آخر من أباطيلهم كما حكى بعضا آخر منها متعلقا بالتوحيد والكتاب والرسالة في قوله: " واتخذوا من دونه آلهة " وقوله: " وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك " الخ، وقوله: " وقالوا ما لهذا الرسول يأكل " الخ. ثم تشعبوا في نكتة الاضراب، فذكر بعضهم أن الوجه فيه كون المعاد لا ريب فيه، وقال بعضهم: إن إنكاره أعظم، وقال بعضهم: إنه أعجب إلى غير ذلك. والحق أن السياق لا يساعد عليه فإن السياق المتعرض لطعنهم في الرسول ص والجواب عنه لم يتم بعد بشهادة قوله بعد: " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الاسواق " الخ، وما يتلوه من الآيات فلا معنى لاعتراض حكاية تكذيبهم بالساعة بين الآيات الحاكية لتكذيبهم بالرسول والمجيبة عنه، وهو ظاهر. وقوله تعالى: " وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا " وضع الموصول والصلة مكان

[ 188 ]

الضمير الراجع للدلالة على أن الجزاء بالسعير ثابت في حق كل من كذب بالساعة هم وغيرهم فيه سواء، وعلى أن سبب إعتاد السعير عليه فيهم تكذيبهم بالساعة. ووضع الساعة ثانيا موضع ضميرها ليكون أنص وأصرح فهو المناسب لمقام التهديد، والسعير النار المشتعلة الملتهبة. قوله تعالى: " إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا " في المفردات: الغيظ أشد غضب - إلى أن قال - و التغيظ هو إظهار الغيظ، وقد يكون ذلك مع صوت مسموع كما قال:، سمعوا لها تغيظا وزفيرا " إنتهى، وفيه أيضا: الزفير تردد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه، إنتهى. والآية تمثل حال النار بالنسبة إليهم إذا برزوا لها يوم الجزاء أنها تشتد إذا ظهروا لها كالاسد يزأر إذا رأى فريسته. قوله تعالى: " وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا " " مكانا " منصوب بتقدير في، والثبور الويل والهلاك. والتقرين التصفيد بالاغلال والسلاسل وقيل: هو جعلهم مع قرناء الشياطين وهو بعيد من اللفظ. والمعنى وإذا ألقوا يوم الجزاء في مكان ضيق من النار وهم مصفدون بالاغلال دعوا هنالك ثبورا لا يوصف وهو قولهم: واثبوراه. قوله تعالى: " لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا " الاستغاثة بالويل والثبور نوع احتيال للتخلص من الشدة وإذ كان اليوم يوم الجزاء فحسب لا ينفع فيه عمل ولا يجدي فيه سبب البتة لم ينفعهم الدعاء بالثبور أصلا ولذا قال تعالى: " لا تدعوا اليوم " الخ، فهو كناية عن أن الثبور لا ينفعكم اليوم سواء استقللتم منه أو استكثرتم. فهو في معنى قوله تعالى: " اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم " الطور: 16، وقوله حكاية عنهم: " سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص " إبراهيم: 21. وقيل: المراد أن عذابكم طويل مؤبد لا ينقطع بثبور واحد بل يحتاج إلى ثبورات كثيرة. وهو بعيد. قوله تعالى: " قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون - إلى قوله -

[ 189 ]

مسؤلا " الاشارة إلى السعير بما له من الوصف، أمر نبيه ص أن يسألهم أيهما أرحج السعير أم جنة الخلد ؟ والسؤال سؤال في أمر بديهي لا يتوقف في جوابه عاقل وهو دائر في المناظرة والمخاصمة يردد الخصم بين أمرين أحدهما بديهي الصحة والآخر بديهي البطلان فيكلف ان يختار أحدهما فإن اختار الحق فقد اعترف بما كان ينكره، وان اختار الباطل افتضح. وقوله: " أم جنة الخلد " اضافة الجنة إلى الخلد وهو الدوام للدلالة على كونها في نفسها خالدة لا تفنى كما أن قوله بعد: " خالدين " للدلالة على ان أهلها خالدون فيها لا سبيل للفناء إليهم. وقوله: " وعد المتقون " تقديره وعدها المتقون لان وعد يتعدى لمفعولين والمتقون مفعول ثان ناب مناب الفاعل. وقوله: " كانت لهم جزاء ومصيرا " أي جزاء لتقواهم ومنقلبا ينقلبون إليه بما هم متقون كما قال تعالى: " إن المتقين في جنات وعيون إلى أن قال - وما هم منها بمخرجين " الحجر: 48: وهو من الاقضية التي قضاها يوم خلق آدم وأمر الملائكة وإبليس بالسجود له، ويتعين به جزاء المتقين ومصيرهم كما تقدم في تفسير سورة الحجر. وقوله: " لهم فيها ما يشاؤن خالدين " أي انهم يملكون فيها بتمليك من الله لهم كل ما تتعلق به مشيتهم، ولا تتعلق مشيتهم إلا بما يحبونه ويشتهونه على خلاف أهل النار كما قال تعالى فيهم: " وحيل بينهم وبين ما يشتهون " سبأ: 54، ولا يحبون ولا يشتهون إلا ما من شأنه أن يتعلق به الحب واقعا وهو الذي يحبه الله لهم وهو ما يستحقونه من الخير والسعادة مما يستكملون به ولا يستضرون به لا هم ولا غيرهم فافهم ذلك. وبهذا البيان يظهر أن لهم اطلاق المشية يعطون ما شاؤا وأرادوا غير أنهم لا يشاؤن الا ما فيه رضى ربهم، ويندفع به ما استشكل على الآيات الناطقة بإطلاق المشية كهذه الآية أن لازم اطلاق المشية أن يجوز لهم أن يريدوا بعض المعاصي والقبائح والشنائع واللغو، وأن يريدوا بعض ما يسوء سائر أهل الجنة، وأن يريدوا نجاة بعض المخلدين في النار، وأن يريدوا مقامات الانبياء والمخلصين من الاولياء ممن هم فوقهم درجة إلى غير ذلك.

[ 190 ]

كيف ؟ وقد قال تعالى: " يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي " الفجر: 27 - 30 فهم راضون بما رضي به الله ومرضيون لا يريدون الا ما يرتضيه فلا يريدون معصية ولا قبيحا ولا شنيعا ولا لغوا ولا كذابا، ولا يريدون ما لا يرتضيه غيرهم من أهل الجنة، ولا يريدون ارتفاع العذاب ممن يريد ربهم عذابه، ولا يشاؤن ولا يتمنون مقام من هو أرفع درجة منهم لان الذي خصهم بها هو ربهم وقد رضوا بما فعل وأحبوا ما أحبه. وقوله تعالى: " كان على ربك وعدا مسؤلا " أي كان هذا الوعد الذي وعده المتقون وعدا على ربك يجب عليه أن يفي به، وانما أوجبه هو تعالى على نفسه حيث قضى بذلك أول يوم، وأخبر عن ذلك بمثل قوله: " وأن للمتقين لحسن مآب جنات عدن - إلى أن - قال هذا ما توعدون ليوم الحساب " ص: 53. ووجه اتصاف هذا الوعد بكونه مسؤلا أن المتقين سألوا ربهم ذلك بلسان حالهم واستعدادهم، أو سألوه ذلك في دعائهم، أو الملائكة سألوا ذلك كما فيما يحكيه الله عنهم: " ربنا وأدخلهم جنات عدن " - الخ المؤمن: 8 أو جميع هذه الاسئلة. وذكر الطبرسي " ره " في الآية أن قوله: " كانت لهم جزاء ومصيرا حال من ضمير الجنة المقدر في " وعد المتقون "، وأن قوله: " لهم فيها ما يشاؤن " حال من " المتقون " وهو أقرب إلى الذهن من قول غيره أن الجملتين استينافان في موضع التعليل كالجواب لسؤال مقدر. قوله تعالى: " ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله " إلى آخر الآية ضمائر الجمع الاربعة عائدة إلى الكفار، والمراد بما يعبدون الملائكة والمعبودون من البشر والاصنام ان كان " ما " أعم من غير اولي العقل، والا فالاصنام فقط. والمشار إليهم المعنيون بقوله: " عبادي هؤلاء " الكفار ومعنى الآية ظاهر. قوله تعالى: " قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء " الخ، جواب المعبودين عن قوله: " ءأنتم أضللتم عبادي هؤلاء " الخ، وقد بدؤا بالتسبيح على ما هو من أدب العبودية في موارد يذكر فيها شرك أهل الشرك أو ما يوهم ذلك بوجه.

[ 191 ]

وقوله: " ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء " أي ما صح وما استقام لنا أن نتجاوزك إلى غيرك فنتخذ من دونك من أولياء وهم الذين عبدونا واتخذونا أولياء من دونك، وقوله: " ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا " البور جمع بائر وهو الهالك وقيل: الفاسد. لما نفى المعبودون المسؤولون عن سبب ضلال عبادهم نسبة الاضلال إلى أنفسهم أخذوا في نسبته إلى الكفار أنفسهم مع بيان السبب الذي أضلهم وهو أنهم كانوا قوما هالكين أو فاسدين وقد متعتهم وآباؤهم من أمتعة الحياة الدنيا ونعمها حتى طال عليهم التمتيع امتحانا وابتلاء فتمتعوا منها واشتغلوا بها حتى نسوا الذكر الذي جاءت به الرسل فعدلوا عن التوحيد إلى الشرك. فكونهم قوما هالكين أو فاسدين بسبب انكبابهم على الدنيا وانهماكهم في الشهوات هو السبب في استغراقهم في التمتع وانصراف هممهم إلى الاشتغال بالاسباب وهو السبب لنسيانهم الذكر والعدول عن التوحيد إلى الشرك. فتبين بذلك أن قوله: " وكانوا قوما بورا " من تمام الجواب وأما من جعل الجملة اعتراضا تذييليا مقررا لمضمون ما قبله واستفاد منه أن السبب الاصلي في ضلالهم أنهم كانوا بحسب ذواتهم أشقياء هالكين، وليس ذلك إلا بقضاء حتم منه تعالى في سابق علمه فهو المضل لهم حقيقة، وإنما نسب إلى أنفسهم أدبا. ففيه أولا: إنه إفساد لمعنى الآية إذ لا موجب حينئذ لا يراد الاستدراك بقوله: " ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر " لكونه فضلا لا حاجة إليه. وثانيا: أن نسبة البوار والشقاء إلى ذوات الاشياء ينافي ما أطبق عليه العقلاء بفطرتهم من تأثير التعليم والتربية، والحس والتجربة يؤيدان ذلك، وهو يناقض القول بالاختيار والجبر معا، أما مناقضة القول بالاختيار فظاهر، و أما مناقضة القول بالجبر فلان الجبري يقصر العلية في الواجب تعالى وينفيه عن غيره ويناقضه نسبة الاقتضاء الضروري إلى ذوات الاشياء وماهياتها. وثالثا: أن فيه خلطا في معنى القضاء من حيث متعلقه فكون القضاء حتما لا يوجب خروج الفعل الذي تعلق به من الاختيار إلى الاجبار فإن القضاء إنما تعلق

[ 192 ]

بالفعل بحدوده وهو صدوره عن اختيار الفاعل من حيث إنه صادر عن اختياره فتعلقه يوجب تأكد كونه اختياريا لا أنه يزيل عنه وصف الاختيار. ورابعا: أن قولهم: إن المضل بالحقيقة هو الله وإنما نسبوا الضلال إلى الكفار أنفسهم تأدبا وبمثله صرحوا في نسبة المعاصي والاعمال القبيحة الشنيعة والفجائع الفظيعة إلى فواعلها أنها في عين أنها من أفعاله تعالى إنما تنسب إلى غيره تأدبا كلام متهافت فإن الادب - كما تقدم تفصيل القول فيه في الجزء السادس من الكتاب - هو الهيئة الحسنة التي ينبغي أن يقع عليها فعل ما، وبعبارة اخرى ظرافة الفعل، وإذ كان الحق الصريح في الفعل غير الجميل أنه فعل الله سبحانه ولا يشاركه في فعله غيره بأي وجه فرض كانت نسبته إلى غيره تعالى نسبة باطلة غير حق وكذبا وفرية لا تطابق الواقع فليت شعري أي أدب جميل في إماطة حق صريح وإحياء باطل ؟ وأي ظرافة ولطف في الكذب والفرية بإسناد الفعل إلى غير فاعله ؟ والله سبحانه أجل من أن يعظم بباطل أو بالستر على بعض أفعاله أو بالكذب والفرية بإسناد بعض ما يفعله إلى غيره، وإذ كان جميلا لا يفعل إلا الجميل فما معنى التأدب بنفي بعض أفعاله عنه ؟ قوله تعالى: " فقد كذبوكم بما تقولون فلا تستطيعون صرفا ولا نصرا " إلى آخر الآية، كلام له تعالى يلقيه إلى المشركين بعد براءة المعبودين منهم، وأما كلام المعبودين فقد تم في قوله: " وكانوا قوما بورا ". والمعنى: فقد كذبكم المعبودون بما تقولون في حقهم إنهم آلهة من دون الله يصرفون عن عبدتهم السوء وينصرونهم، وإذ كذبوكم ونفوا عن أنفسهم الالوهيه والولاية فلا تستطيعون أنتم أيها العبدة أن تصرفوا عن أنفسكم العذاب بسبب عبادتهم، ولا تستطيعون نصرا لانفسكم بسببهم. والترديد بين الصرف والنصر كأنه باعتبار استقلال المعبودين في دفع العذاب عنهم وهو الصرف. وعدم استقلالهم بأن يكونوا جزء السبب وهو النصر. وقرأ غير عاصم من طريق حفص " يستطيعون " بالياء المثناة من تحت وهي قراءة حسنة ملائمة لمقتضى السياق، والمعني: فقد كذبكم المعبودون بما تقولون إنهم

[ 193 ]

آلهة يصرفون عنكم السوء أو ينصرونكم ويتفرع على ذلك أنهم لا يستطيعون لكم صرفا ولا نصرا. وقوله: " ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا " المراد بالظلم مطلق الظلم والمعصية وإن كان مورد الآيات السابقة خصوص الظلم الذي هو الشرك، فقوله: " ومن يظلم منكم " الخ، من قبيل وضع القانون العام موضع الحكم الخاص، ولو كان المراد به الحكم الخاص بهم لكان من حق الكلام أن يقال: " ونذيقكم بما ظلمتم عذابا كثيرا لانهم كلهم ظالمون ظلم الشرك ". والنكتة فيه الاشارة إلى أن الحكم الالهي نافذ جار لا مانع منه ولا معقب له كأنه قيل: وإن كذبكم المعبودون وما استطاعوا صرفا ولا نصرا فالحكم العام الالهي " من يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا " على نفوذه وجريانه لا مانع منه ولا معقب له فأنتم ذائقون العذاب البتة. قوله تعالى: " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الاسواق " إلى آخر الآية. أجاب تعالى عن قولهم: " ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق " الخ، أولا بقوله: " تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك " الخ، مع ما يلحقه من قوله: " بل كذبوا بالساعة " الخ، وهذا جواب ثان محصله أن هذا الرسول ليس بأول رسول أرسل إلى الناس بل أرسل الله قبله جما غفيرا من المرسلين وقد كانوا على العادة البشرية الجارية بين الناس يأكلون الطعام ويمشون في الاسواق ولم يخلق لهم جنة يأكلون منها ولا ألقي إليهم كنز ولا أنزل معهم ملك، وهذا الرسول إنما هو كأحدهم ولم يأت بأمر بدع حتى يتوقع منه ما لا يتوقع من غيره. فالآية في معنى قوله: " قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحي إلى " الاحقاف: 9، قريبة المعنى من قوله: " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي " الكهف: 110. فإن قيل: هذا في الحقيقة دفع للاعتراض عنه صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وتوجيهه إلى عامة

[ 194 ]

الرسل فلهم أن يعترضوا على عامة الرسل كما وجهه سابقوهم قد حكى الله عنهم ذلك قال: " قالوا أبشر يهدوننا " التغابن: 6، وقال: " قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا " إبراهيم: 10، وقال: " ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون " المؤمنون: 33. قلنا: الجواب مطابق للاعتراض فإن قولهم: " ما لهذا الرسول يأكل " الخ، يعطي الخصوصية بلا إشكال وأما تعميم الاعتراض لو عمم فيدفعه قوله تعالى: " بل كذبوا بالساعة " الخ، وقوله قبل ذلك: " قل أنزل الذي يعلم السر " الخ، على ما تقدم من التقرير. ومن عجيب القول ما عن بعض المفسرين أن الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كأنه قيل: إن الرسل من قبلك كانوا على الحال التى أنت عليها فلك فيهم أسوة حسنة، وأما كونه جوابا عن تعنتهم فالنظم لا يساعد عليه إذ قد أجيب عنه بقوله: " انظر كيف ضربوا لك الامثال " هذا وهو خطأ. وقوله تعالى: " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون " متمم للجواب السابق بمنزلة التعليل لكون الرسل كسائر الناس في الخواص البشرية من غير أن تتميز حياتهم أو دعوتهم بخواص سماوية ورث القطع بكونهم حاملين للرسالة الالهية كإنزال ملك عليهم أو القاء كنز إليهم أو خلق جنة لهم فكأنه قيل: والسبب في كون الرسل جارين في حياتهم على ما يجري عليه الناس أنا جعلنا بعض الناس لبعض فتنة يمتحنون بها فالرسل فتنة لسائر الناس يمتحنون بهم فيتميز بهم أهل الريب من أهل الايمان والمتبعون للاهواء الذين لا يصبرون على مر الحق من طلاب الحق الصابرين في طاعة الله وسلوك سبيله. وبما مر يتبين أولا: أن المراد بالصبر هو الصبر بأقسامه وهي الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، والصبر عند المصائب. وثانيا: أن قوله: " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة " من وضع الحكم العام موضع الخاص، والمطلوب الاشارة إلى جعل الرسل - وحالهم هذه الحال - فتنة لسائر الناس. وقوله تعالى: " وكان ربك بصيرا " أي عالما بالصواب في الامور فيضع كل أمر

[ 195 ]

في الموضع المناسب له ويجري بذلك أتم النظام فهدف النظام الانساني كمال كل فرد بقطعه طريق السعادة أو الشقاوة على حسب ما يستعد له ويستحقه ولازمه بسط نظام الامتحان بينهم ولازمه ارتفاع التمايز بين الرسل وغيرهم. وفي الجملة التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة، والنكتة فيه نظيرة ما في قوله السابق: " تبارك الذي إن شاء " الخ. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس إن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البختري والاسود بن المطلب وزمعة بن الاسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أمية وأمية ابن خلف والعاصي بن وائل ونبيه بن الحجاج اجتمعوا فقال بعضهم لبعض: إبعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا منه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك. قال: فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له: يا محمد إنا بعثنا اليك لنعذر منك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا، وإن كنت تطلب الشرف فنحن نسودك، وإن كنت تطلب ملكا ملكناك. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مابي مما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب اموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني اليكم رسولا، وأنزل على كتابا، و أمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر لامر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم. قالوا يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئا عرضناه عليك فسل لنفسك وسل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا من ذهب وفضة يغنيك عما تبتغي فإنك تقوم بالاسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم.

[ 196 ]

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنا بفاعل. ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت اليكم بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا. فأنزل الله في قولهم ذلك " وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام - إلى قوله - وجعلنا بعضكم لبعض فتنة. أتصبرون وكان ربك بصيرا " أي جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسولي فلا تخالفوه لفعلت. وفيه أخرج الطبراني وابن مردويه من طريق مكحول عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من كذب على متعمدا فليتبو أمقعدا من بين عيني جهنم. قالوا: يا رسول الله وهل لجهنم من عين ؟ قال: أما سمعتم الله يقول: " إذا رأتهم من مكان بعيد " فهل تراهم إلا بعينين ؟ أقول: ورواه أيضا عن رجل من الصحابة، وفي حجة الخبر خفاء. وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن يحيي بن أبي أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن قول الله: " وإذا القوا منها مكانا ضيقا مقرنين " قال: والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط. * * * وقال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا أنزل علينا الملئكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا - 21. يوم يرون الملئكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا - 22. وقد منا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا - 23. أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا - 24. ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملئكة تنزيلا - 25. الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا - 26. ويوم يعض الظالم على

[ 197 ]

يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا - 27. يا ويلتى ليتني لم اتخذ فلانا خليلا - 28. لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للانسان خذولا - 29. وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا - 30. وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا - 31. (بيان) تحكي الآيات اعتراضا آخر من المشركين على رسالة الرسول يردون به عليه محصله أنه لو جاز أن يكون من البشر بما هو بشر رسول تنزل عليه الملائكة بالوحي من الله سبحانه أو يراه تعالى فيكلمه وحيا لكان الرسول وسائر البشر سواء في هذه الخصيصة فإن كان ما يدعيه من الرسالة حقا لكنا أو كان البعض منا يرى ما يدعي رؤيته ويجد من نفسه ما يجده. وهذا الاعتراض مما سبقهم إليه أمم الانبياء الماضين كما حكاه الله: " قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا " إبراهيم: 10، وقد مر تقريبه مرارا. وهذا مع ما تقدم من إعتراض بقولهم: " ما لهذا الرسول يأكل الطعام " الخ، بمنزلة حجة واحدة تلزم الخصم بأحد محذورين ومحصل تقريره أن الرسالة التى يدعيها هذا الرسول إن كانت موهبة سماوية واتصالا غيبيا لا حظفيها للبشر بما هو بشر فلينزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقي إليه كنز أو يجعل له جنة يأكل منها، وإن كانت خاصة من شأن البشر بما هو بر أن ينالها يتصف بها فما بالنا لا نجدها في أنفسنا ؟ فلولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا. وقد أجاب الله سبحانه عن الشق الاول بما تقدم تقريره، وعن الثاني بأنهم سيرون الملائكة لكن في نشأة غير هذه النشأة الدنيوية، والجواب في معنى قوله: " ما

[ 198 ]

ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين " الحجر: 8 وسيجئ تقريره وفي الآيات إشارة إلى ما بعد الموت ويوم القيامة. قوله تعالى: " وقال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا " قال في مجمع البيان: الرجاء ترقب الخير الذي يقوى في النفس وقوعه ومثله الطمع والامل، واللقاء المصير إلى الشئ من غير حائل، والعتو الخروج إلى أفحش الظلم. انتهى. المراد باللقاء الرجوع إلى الله يوم القيامة سمي به لبروزهم إليه تعالى بحيث لا يبقي في البين حائل جهل أو غفلة لظهور العظمة الالهية كما قال تعالى: " ويعلمون أن الله هو الحق المبين ". فالمراد بعدم رجائهم اللقاء انكارهم للمعاد وتكذيبهم بالساعة ولم يعبر عنه بتكذيب الساعة ونحوه كما عبر في الآيات السابقة المكان ذكرهم مشاهدة الملائكة ورؤية الرب تعالى وتقدس ففيه إشارة إلى أنهم إنما قالوا ما قالوا وطلبوا إنزال الملائكة أو رؤية الرب ليأسهم من اللقاء وزعمهم استحالة ذلك فقد الزموا بما هو مستحيل على زعمهم. فقولهم: " لو لا أنزل الينا الملائكة أو نرى ربنا " إعتراض منهم على رسالة الرسول أوردوه في صورة التحضيض كقولهم في موضع آخر: " لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين " الحجر: 7، وتقرير الحجة كما تقدمت الاشارة إليه أنه لو كانت الرسالة - وهي نزول الملائكة بالوحي أو تكليمه تعالى البشر بالمشافهة - مما يتيسر للبشر نيله ونحن بشر امثال هذا المدعي للرسالة فما بالنا لا ينزل علينا الملائكة ولا نرى ربنا ؟ فهلا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا. ويؤيد ما ذكرناه من التقرير إطلاق إنزال الملائكة ورؤية الرب من غير أن يقولوا: لو لا أنزل علينا الملائكة فيصدقوك أو نرى ربنا فيصدقك. على أنهم ذكروا في اعتراضهم السابق نزول الملك ليكون معه نذيرا وفيه تصديقه. وفي التعبير عنه تعالى بلفظ ربنا نوع تهكم منهم فإن المشركين ما كانوا يرونه تعالى ربا لهم بل كان عندهم أن أربابهم ما كانوا يعبدونهم والله سبحانه رب الارباب

[ 199 ]

فكأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنك ترى أن الله ربك وقد نحن اليك فخصك بالمشافهة والتكليم، وأنه ربنا، فليحن الينا وليشافهنا بالرؤية كما فعل بك. على أنهم إنما عدلوا عن عبادة أرباب الاصنام وهم الملائكة وروحانيات الكواكب ونحوهم إلى عبادة الاصنام والتماثيل لتكون محسوسة غير غائبة عن المشاهدة عند العبادة والتقرب بالقرابين. وقوله تعالى: " لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا " أي أقسم لقد طلبوا الكبر لانفسهم بغير حق وطغوا طغيانا عظيما. قوله تعالى: " يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا " في المفردات: الحجر الممنوع منه بتحريمه قال تعالى: " وقالوا هذه أنعام وحرث حجر " " ويقولون حجرا محجورا " كان الرجل إذا لقي من يخاف يقول ذلك فذكر تعالى أن الكفار إذا رأوا الملائكة قالوا ذلك ظنا أن ذلك ينفعهم. انتهى. وعن الخليل كان الرجل يرى الرجل الذي يخاف منه القتل في الجاهلية في الاشهر الحرم فيقول: حجرا محجورا أي حرام عليك التعرض لي في هذا الشهر فلا يبدؤه بشر وعن أبي عبيدة: هي عوذة للعرب يقولها من يخاف آخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة. فقوله: " يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين " يوم - على ما قيل - ظرف لقوله: " لا بشرى " وقوله: " يومئذ " تأكيد له، والمراد بقوله: " لا بشرى " نفي للجنس، والمراد بالمجرمين كل متصف بالإجرام غير أن مورد الكلام إجرام الشرك والمجرمون هم الذين لا يرجون اللقاء، وقد تقدم ذكرهم والمعنى: يوم يرى هؤلاء الذين لا يرجون لقاءنا الملائكة لا بشرى - على طريق نفي الجنس - يومئذ للمجرمين وهم منهم. وقوله: " ويقولون حجرا محجورا " فاعل يقولون هم المشركون أي يقول المشركون يومئذ للملائكة وهم قاصدوهم بالعذاب: حجرا محجورا أي لنكن في معاذ منكم، وقيل: ضمير الجميع للملائكة، والمعنى: ويقول الملائكة للمشركين حراما محرما عليكم سماع البشرى، أو حراما محرما عليكم أن تدخلوا الجن أو حراما محرما

[ 200 ]

عليكم أن تتعوذوا من العذاب إلى شئ فلا معاذ لكم هذا، والمعنى: الاول أقرب إلى السياق. والآية في موضع الجواب عن قولهم: " لولا أنزل إلينا الملائكة " وقد أعرضت عن جواب قولهم: " أو نرى ربنا " فإن الرؤية التي كانوا يقصدونها بقولهم هي الرؤية البصرية التي تستلزم التجسم والمادية تعالى عن ذلك، وأما الرؤية بعين اليقين وهي الرؤية القلبية فلم يكونوا ممن يفقه ذلك وعلى تقديره ما كانوا يقصدونه. وأما توضيح الجواب عن أمر إنزال الملائكة ورؤيتهم فقد أخذ أصل الرؤية مفروغا منه مسلما أن هناك يوما يرون فيه الملائكة غير أنه وضع الاخبار عن وصفهم يوم الرؤية موضع الاخبار عن أصل رؤيتهم للاشارة إلى أن طلبهم لرؤية الملائكة ليس يجرى على نفعهم فإنهم لا يرون الملائكة إلا يوم يشافهون عذاب النار وذلك بعد تبدل النشأة الدنيوية من النشأة الاخرى كما أشار إليه في موضع آخر بقوله: " ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين " الحجر: 8، فهم في مسألتهم هذه يستعجلون بالعذاب وهم يحسبون أنهم يعجزون الله ورسوله بالحجة. وأما ما هو هذا اليوم الذي أشير إليه بقوله: " يوم يرون الملائكة " فقد ذكر المفسرون أنه يوم القيامة لكن الذي يعطيه السياق مع ما ينضم إليه من الآيات الواصفة ليوم الموت وما بعده كقوله: " ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون " الآية، الانعام: 93، وقوله: " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها " النساء: 97 إلى غير ذلك من الآيات. أن المراد به الموت وهو المسمي في عرف القرآن برزخا فإن في الآيات دلالة قاطعة على أنهم يرون الملائكة ويشافهونهم بعد الموت قبل يوم القيامة، والمتعين - على ما يقتضيه طبع المخاصمة - في جواب من يجحد رؤية الملائكة أن يذكر له أول يوم يراهم بما يسوؤه وهو يوم الموت لا أن يخاصم بذكر رؤيتهم يوم القيامة وقوله لهم: حجرا محجورا، وقد رآهم قبل ذلك وعذب بأيديهم أمدا بعيدا وهو ظاهر.

[ 201 ]

فالظاهر أن الآية والآيتين التاليتين ناظرة إلى حالهم في البرزخ تصف رؤيتهم للملائكة فيه، وإحباط أعمالهم فيه، وحال أهل الجنة التى فيه. قوله تعالى: " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا " قال الراغب في المفردات: العمل كل فعل كون من الحيوان بقصد فهو أخص من الفعل لان الفعل قد ينسب إلى الحيوانات التي يقع منها فعل بغير قصد وقد ينسب إلى الجمادات، والعمل قلما ينسب إلى ذلك، ولم يستعمل العمل في الحيوانات إلا في قولهم البقر العوامل. انتهى. وقال: الهباء دقاق التراب وما انبث في الهواء فلا يبدو إلا في أثناء ضوء الشمس في الكوة. انتهى. والنثر التفريق. والمعنى: وأقبلنا إلكل عمل عملوه - والعمل هو الذي يعيش به الانسان بعد الموت - ففرقناه تفريقا لا ينتفعون به كالهباء المنثور، والكلام مبنى على التمثيل مثل به استيلاء القهر الالهي جميع أعمالهم التى عملوها لسعادة الحياة وإبطالها بحيث لا يؤثر في سعادة حياتهم المؤبدة شيئا بتشبيهه بسلطان غلب عدوه فحل داره بعد ما ظهر عليه فخر بالدار وهدم الآثار وأحرق المتاع والاثاث فأفنى منه كل عين وأثر. ولا منافاة بين ما تدل عليه الآية من حبط الاعمال يومئذ وبين ما تدل عليه آيات أخر أن أعمالهم أحبطت حينما عملوها في الدنيا بكفرهم وإجرامهم فإن معنى الاحباط بعد الموت ظهور الحبطلهم بعد ما كان خفيا في الدنيا عليهم وقد تقدم كلام مشبع في معنى الحبط في الجزء الثاني من الكتاب فراجع. قوله تعالى: " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا " المراد بأصحاب الجنة المتقون فقد تقدم قوله قبل آيات: " قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون "، والمستقر و المقيل اسما مكان من الاستقرار ومعناه ظاهر ومن القيلولة وهي الاستراحة في منتصف النهار سواء كان معها نوم أم لا - على ما قيل - والجنة لا نوم فيه. و كلمتا " خير " و " أحسن " منسلخان عن معنى التفضى كما في قوله تعالى: " وهو أهون عليه " الروم: 27، وقوله: " ما عند الله خير من اللهو " الجمعة: 11 كذا قيل، وليس يبعد أن يقال: إن " أفعل " أو ما هو في معناه كخير بناء على ما

[ 202 ]

رجحنا أنه صفة مشبهة تدل على التفضيل بمادته لا بهيئته في مثل هذه الموارد غير منسلخ عن معنى التفضيل والعناية في ذلك أنهم لما اختاروا الشرك والاجرام واستحسنوا ذلك ولازمه النار في الآخرة فقد اثبتوا لها خيرية وحسنا فقوبلوا بأن الجنة وما فيها خير وأحسن حتى على لازم قولهم فعليهم أن يختاروها على النار وأن يختاروا الايمان على الكفر على أي حال، وقيل: إن التفضيل مبني على التهكم. قوله تعالى: " ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا " الظاهر أن الظرف منصوب بفعل مقدر، والمعنى واذكر يوم كذا وكذا فإنهم يرون الملائكة فيه أيضا وهذا اليوم هو يوم القيامة بدليل قوله بعد: " الملك يومئذ الحق للرحمان "، وقيل في متعلق الظرف وجوه أخر لا فائدة في نقلها. و " تشقق " أصله تتشقق من باب التفعل من الشق بمعنى الخرم والتشقق التفتح، والغمام السحاب سمي به لستره ضوء الشمس مأخوذ من الغم بمعنى الستر. والباء في قوله: " تشقق السماء بالغمام " أما للملابسة والمعنى تتفتح السماء متلبسة بالغمام أي متغيمة، وإما بمعني عن والمعنى تتفتح عن الغمام أي من قبل الغمام أو تشققه. وكيف كان فظاهر الآية أن السماء تنشق يوم القيامة بما عليها من الغمام الساتر لها ونزل منها الملائكة الذين هم سكانها فيشاهدونهم فالآية قريبة المعنى من قوله في موضع آخر: " وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها " الحاقة: 17. وليس من البعيد أن يكون الكلام كناية عن انكشاف غمة الجهل وبروز عالم السماء وهو من الغيب وبروز سكانها وهم الملائكة ونزولهم إلى العالم الارضي موطن الانسان. وقيل: المراد أن السماء يشقها الغمام وهو الذي يذكره في قوله: " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الامر وإلى الله ترجع الامور " البقرة: 210، وقد مر كلام في تفسير الآية. والتعبير عن الواقعة بالتشقق دون التفتح وما يماثله للتهويل، وكذا التنوين في قوله: " تنزيلا " للدلالة على التفخيم. قوله تعالى: " الملك يومئذ الحق للرحمان وكان يوما على الكافرين عسيرا " أي

[ 203 ]

الملك المطلق يومئذ حق ثابت للرحمان وذلك لبطلان الاسباب وزوال ما بينها وبين مسبباتها من الروابط المتنوعة، وقد تقدم غير مرة أن المراد بذلك في يوم القيامة هو ظهور أن الملك والحكم لله والامر إليه وحده، وأن لا إستقلال في شئ من الاسباب على خلاف ما كان يتراءى من ظاهر حالها في نشأة الدنيا قبل قيام الساعة ورجوع كل شي إليه تعالى. وقوله: " وكان يوما على الكافرين عسيرا " الوجه فيه ركونهم إلى ظواهر الاسباب وإخلادهم إلى الحياة الارضية البائدة الداثرة وانقطاعهم عن السبب الحقيقي الذي هو مالك الملك بالحقيقة وعن حياتهم الباقية المؤبدة فيصبحون اليوم ولا ملاذ لهم ولا معاذ. فعلى هذا يكون الملك مبتدأ والحق خبره عرف لافادة الحصر، ويومئذ ظرف لثبوت الخبر للمبتدأ، وفائدة التقييد الدلالة على ظهور حقيقة الامر يومئذ فإن حقيقة الملك لله سبحانه دائما، وإنما يختلف يوم القيامة مع غيره بزوال الملك الصوري عن الاشياء فيه وثبوته لها في غيره. وقال بعضهم: الملك بمعنى المالكية ويومئذ متعلق به والحق خبر الملك، وقيل: يومئذ متعلق بمحذوف هو صفة للحق، وقيل: المراد بيومئذ هو يوم الله، وقيل: يومئذ هو الخبر للملك والحق صفة للمبتدأ، وهذه أقوال ردية لا جدوي لها. قوله تعالى: " ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا " قال الراغب في المفردات: العض ازم بالاسنان، قال تعالى: " عضوا عليكم الانامل " و " ويوم يعض الظالم " وذلك عبارة عن الندم لما جرى به عادة الناس أن يفعلوه عند ذلك. انتهى. ولذلك يتمنى عنده ما فات من واجب العمل كما حكى الله تعالى عنهم قولهم: " يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ". والظاهر أن المراد بالظالم جنسه وهو كل من لم يهتد بهدي الرسول، وكذا المراد بالرسول جنسه وإن انطبق الظالم بحسب المورد على ظالمي هذه الامة والرسول على محمد صلى الله عليه وآله وسلم. والمعنى: واذكر يوم يندم الظالم ندما شديدا قائلا من فرط ندمه يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ما إلى الهدى أي سبيل كانت.

[ 204 ]

قوله تعالى: " يا ويلتي ليتني لم اتخذ فلانا خليلا " تتمة تمني الظالم النادم على ظلمه، وفلان كناية عن العلم المذكر وفلانة عن العلم المؤنث، قال الراغب: فلان وفلانة كنايتان عن الانسان، والفلان والفلانة - باللام - كنايتان عن الحيوانات. انتهى. والمعنى: يا ويلتي - يا هلاكي - ليتني لم اتخذ فلانا - وهو من اتخذه صديقا يشاوره ويسمع منه ويقلده - خليلا. وذكر بعضهم: أن فلانا في الآية كناية عن الشيطان، وكأنه نظرا إلى ما في الآية التالية من حديث خذلان الشيطان للانسان غير أن السياق لا يساعد عليه. ومن لطيف التعبير قوله في الآية السابقة: " ياليتني اتخذت " الخ وفي هذه الآية: " يا ويلتي ليتني لم اتخذ " الخ فإن في ذلك تدرجا لطيفا في النداء والاستغاثة فحذف المنادى في الآية السابقة يلوح إلى أنه يريد أي منج ينجيه مما هو فيه من الشقاء وذكر الويل بعد ذلك - في هذه الآية يدل على أنه بان له أن لا يخلصه من العذاب شئ قط إلا الهلاك والفناء، ولذلك نادى الويل. قوله تعالى: " لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للانسان خذولا " تعليل للتمني السابق، والمراد بالذكر مطلق ما جاءت به الرسل أو خصوص الكتب السماوية وينطبق بحسب المورد على القرآن. وقوله: " وكان الشيطان للانسان خذولا " من كلامه تعالى ويمكن أن يكون تتمة الكلام الظالم ذكره تأسفا وتحسرا. والخذلان بضم الخاء ترك من يظن به أن ينصرنصرته، وخذلانه أنه يعد الانسان أن ينصره على كل مكروه إن تمسك بالاسباب ونسي ربه فلما تقطعت الاسباب ظهور القهر الالهي يوم الموت جزئيا ويوم القيامة كليا خذله وسلمه إلى الشقاء، قال تعالى: " كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك " الحشر: 16، وقال فيما يحكي عن الشيطان يوم القيامة: " ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل " إبراهيم: 22. وفي هذه الآيات الثلاث اشعار بل دلالة على أن السبب العمدة في ضلال أهل الضلال ولاية أهل الاهواء وأولياء الشيطان، و المشاهدة يؤيد ذلك.

[ 205 ]

قوله تعالى: " وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا " المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقرينة ذكر القرآن، وعبر عنه بالرسول تسجيلا لرسالته وإرغاما لاولئك القادحين في رسالته وكتابه والهجر بالفتح فالسكون الترك. وظاهر السياق أن قوله: " وقال الرسول " الخ معطوف على " يعض الظالم " والقول مما يقوله الرسول يوم القيامة لربه على طريق البث والشكوى، وعلى هذا فالتعبير بالماضي بعناية تحقق الوقوع، والمراد بالقوم عامة العرب بل عامة الامة باعتبار كفرتهم وعصاتهم. وأما كونه استئنافا أو عطفا على قوله: " وقال الذين لا يرجون لقاءنا " وكون ما وقع بينهما اعتراضا فبعيد من السياق، وعليه فلفظة قال على ظاهر معناها والمراد بالقوم هم القادحون في رسالته الطاعنون في كتابه. ونظيره في الضعف قول بعضهم: إن المهجور من الهجر بمعنى: الهذيان وهو ظاهر. قوله تعالى: " وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا " أي كما جعلنا جؤلاء المجرمين عدوا لك كذلك جعلنا لكل نبى عدوا منهم أي هذه من سنتنا الجارية في الانبياء وأممهم فلا يسوءنك ما تلقى من عداوتهم ولا يشقن عليك ذلك، ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومعنى: جعل العدومن المجرمين أن الله جازاهم على معاصيهم بالختم على قلوبهم فعاندوا الحق وأبغضوا الداعي إليه وهو النبي فلعداوتهم نسبة إليه تعالى بالمجازاة. وقوله: " وكفى بربك هاديا ونصيرا "، معناه - على ما يعطيه السياق - لا يهولنك أمر عنادهم وعداوتهم ولا تخافنهم على اهتداء الناس ونفوذ دينك فيهم وبينهم فحسبك ربك كفى به هاديا يهدي من استحق من الناس الهداية واستعد له وإن كفر هؤلاء وعتوا فليس اهتداء الناس منوطا بإهتدائهم وكفى به نصيرا ينصرك وينصر دينك الذي بعثك به وإن هجره هؤلاء ولم ينصروك ولا دينك فالجملة مسوقة لاظهار الاستغناء عنهم. فظهر أن صدر الآية مسوق لتسلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذيله للاستغناء عن المجرمين من

[ 206 ]

قومه، وفي قوله: " وكفى بربك " حيث أخذ بصفة الربوبية: مضافة إلى ضمير الخطاب ولم يقل: وكفى بالله تأييد له. (بحث روائي) في تفسير البرهان عن كتاب الجنة والنار بإسناده عن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام في حديث يذكر فيه قبض روح الكافر قال: فإذا بلغت الحلقوم ضربت الملائكة وجهه ودبره وقيل: " أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون " وذلك قوله: " يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا " فيقولون حراما عليكم الجنة محرما (1). وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق والفاريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن على بن أبي طالب قال: الهباء ريح الغبار يسطع ثم يذهب فلا يبقى منه شئ فجعل الله أعمالهم كذلك. فيه أخرج سمويه في فوائدة عن سالم مولى أبي حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليجاء يوم القيامة بقوم معهم حسنات مثال جبال تهامة حتى إذا جئ بهم جعل الله تعالى أعمالهم هباء ثم قذفهم في النار. قال سالم: بأبي وأمي يا رسول الله حل لنا هؤلاء القوم، قال: كانوا يصلون ويصومون ويأخذون سنة من الليل ولكن كانوا إذا عرض عليهم شئ من الحرام وثبوا عليه فأدحض الله تعالى أعمالهم. وفي الكافي بإسناده عن سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل: " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا قال: أما والله لقد كانت أعمالهم أشد بياضا من القباطي ولكن كانوا إذا عرض لهم حرام لم يدعوه.


(1) محرمة ظ. (*)

[ 207 ]

أقول: وهذا المعنى مروي فيه وفي غيره عنه وعن أبيه عليه السلام بغير واحد من الطرق. وفي الكافي أيضا بإسناده عن عبد الاعلى وبإسناد آخر عن سويد بن غفلة قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: في حديث وضع المؤمن في قبره. ثم يفسحان يعنى الملكين في قبره مد بصره ثم يفتحان له بابا إلى الجنة ويقولان له: نم قرير العين نوم الشاب الناعم فإن الله يقول: " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ". أقول: والرواية - كما ترى - تجعل الآية من آيات البرزخ، وتشير بقوله: ويقال له: نم " الخ " إلى نكتة التعبير في الآية بالمقيل فليتنبه. وفي الدر المنثور أخرج أبو نعيم من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان عقبة بن أبي معيط لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما فدعا إليه أهل مكة كلهم وكان يكثر مجالسة النبي صلى الله وعليه واله وسلم ويعجبه حديثه وغلب عليه الشقاء. فقدم ذات يوم من سفر فصنع طعاما ثم دعا رسول الله عليه السلام إلى طعامه فقال: ما أنا بالذي آكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فقال: إطعم يا ابن أخي. قال: ما أنا بالذي أفعل حتى تقول، فشهد بذلك وطعم من طعامه. فبلغ ذلك أبي بن خلف فأتاه فقال: أصبوت يا عقبة ؟ - وكان خليله - فقال: لا والله ما صبوت ولكن دخل علي رجل فأبي أن يطعم من طعامي إلا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم فشهدت له فطعم، فقال: ما أنا بالذي أرضي عنك حتى تأتيه فتبزق في وجهه ففعل عقبة فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فأسر عقبة يوم بدر فقتل صبرا ولم يقتل من الاسارى يومئذ غيره. أقول: وقد ورد في غير واحد من الروايات في قوله تعالى: " يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا "، أن السبيل هو علي عليه السلام وهو من بطن القرآن أو من قبيل الجري وليس من التفسير في شئ.

[ 208 ]

* * * وقال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا - 32. ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا - 33. الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا - 34. ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هرون وزيرا - 35. فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا - 36. وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما - 37. وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا - 38. وكلا ضربنا له الامثال وكلا تبرنا تتبيرا - 39. ولقد أتوا على القرية التى أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا - 40. (بيان) نقل لطعن آخر مما طعنوا به في القرآن وهو أنه لم ينزل جملة واحدة والجواب عنه. قوله تعالى: " وقال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة " المراد بهم مشركون العرب الرادون لدعوة القرآن كما في قدحهم السابق المحكي بقوله: " وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك إفتراه " الخ.

[ 209 ]

وقوله: " لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة " قد تقدم أن الانزال والتنزيل إنما يفترقان في أن الانزال يفيد الدفعة والتنزيل يفيد التدريج لكن ذكر بعضهم أن التنزيل في هذه الآية منسلخ عن معنى التدريج لادائه إلى التدافع إذ يكون المعنى على تقدير إرادة التدريج: لو لا فرق القرآن جملة واحدة والتفريق ينافي الجملية بل المعنى هلا أنزل القرآن عليه دفعه غير مفرق كما أنزل التوراة والانجيل والزبور. لكن ينبغى أن يعلم أن نزول التوراة مثلا كما هو الظاهر المستفاد من القرآن كانت دفعة في كتاب مكتوب في الواح والقرآن إنما كان ينزل عليه صلى الله عليه وآله وسلم بالتلقي من عند الله بتوسط الروح الامين كما يتلقي السامع الكلام من المتكلم، والدفعة في إيتاء كتاب مكتوب وتلقيه تستلزم المعية بين أو له وآخره لكنه إذا كان بقراءة وسماع لم يناف التدريج بين أجزائه وأبعاضه بل من الضروري أن يؤتاه القارئ و يتلقاه السامع آخذا من أوله إلى آخره شيئا فشيئا. وهؤلاء إنما كانوا يقترحون نزول القرآن جملة واحدة على ما كانوا يشاهدون أو يسمعون من كيفية نزول الوحي على النبي صلى الله وعليه وآله وسلم وهو تلقي الآيات بالفاظها من لسان ملك الوحي فكان اقتراحهم أن الذي يتلوه ملك الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم سورة بعد سورة وآية بعد آية ويتلقاه هو كذلك فليقرأ جميع ذلك مرة واحده وليتلقه هو مرة واحدة ولو دامت القراءة ولتلقي مدة من الزمان، وهذا المعني أوفق بالتنزيل الدال على التدريج. وأما كون مرادهم من اقتراح نزوله جملة واحدة أن ينزل كتابا مكتوبا دفعة كما نزلت التوراة وكذا الانجيل والزبور على ما هو المعروف عندهم فلا دلالة في الكلام المنقول عنهم على ذلك. على أنهم ما كانوا مؤمنين بهذه الكتب السماوية حتى يسلموا نزولها دفعة. وكيف كان فقولهم: " لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة إعتراض منهم على القرآن من جهة نحو نزوله، يريدون به أنه ليس بكتاب سماوي نازل من عند الله سبحانه إذ لو كان كتابا سماويا متضمنا لدين سماوي يريده الله من الناس وقد بعث رسولا

[ 210 ]

يبلغه الناس لكان الدين المضمن فيه المراد من الناس دينا تامة أجزاؤه معلومة أصوله وفروعه مجموعة فرائضه وسننه وكان الكتاب المشتمل عليه منظمة أجزاؤه، مركبة بعضه على بعض. وليس كذلك بل هو أقوال متفرقة يأتي بها في وقائع مختلفة وحوادث متشتتة ربما وقع واقع فأتى عند ذلك بشئ من الكلام مرتبط به يسمى جملها المنضودة آيات إلهية ينسبها إلى الله ويدعي أنها قرآن منزل إليه من عند الله سبحانه وليس إلا أنه يتعمل حينا بعد حين عند وقوع وقائع فيختلق قولا يفتريه على الله، وليس إلا رجلا صابئا ضل عن السبيل. هذا تقرير إعتراضهم على ما يستفاد من مجموع الاعتراض والجواب. قوله تعالى: " كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا " الثبات ضد الزوال، والاثبات والتثبيت بمعنى واحد والفرق بينهما بالدفعة والتدريج، والفؤاد القلب والمراد به كما مر غير مرة الامر المدرك من الانسان وهو نفسه، والترتيل - كما قالوا - الترسيل والاتيان بالشئ عقيب الشئ، والتفسير - كما قال الراغب - المبالغة في إظهار المعنى المعقول كما أن الفسر بالفتح فالسكون إظهار المعنى المعقول. وظاهر السياق أن قوله: " كذلك " متعلق بفعل مقدر يعلله قوله: " لنثبت " ويعطف عليه قوله: " ورتلناه " والتقدير نزلناه أي القرآن كذلك أي نجوما متفرقة لا جملة واحدة لنثبت به فؤادك، وقول بعضهم: إن " كذلك " من تمام قول الذين كفروا سخيف جدا. فقوله: " كذلك لنثبت به فؤادك " بيان تام لسبب تنزيل القرآن نجوما متفرقة وبيان ذلك أن تعليم علم من العلوم وخاصة ما كان منها مرتبطا بالعمل بإلقاء المعلم مسائله واحدة بعد واحدة إلى المتعلم حتى تتم فصوله وأبوابه إنما يفيد حصولا ما لصور مسائله عند المتعلم وكونها مذخورة بوجه ما عنده يراجعها عند مسيس الحاجة إليها، وأما استقرارها في النفس بحيث تنمو النفس عليها وتترتب عليها آثارها المطلوبة منها فيحتاج إلى مسيس الحاجة والاشراف على العمل وحضور وقته. ففرق بين بين أن يلقى الطبيب المعلم مثلا مسألة طبية إلى متعلم الطب إلقاء

[ 211 ]

فحسب وبين أن يلقيها إليه وعنده مريض مبتلى بما يبحث عنه من الداء وهو يعالجه فيطابق بين ما يقول وما يفعل. ومن هنا يظهر أن القاء أي نظرة علمية عند مسيس الحاجة وحضور وقت العمل إلى من يراد تعليمه وتربيته أثبت في النفس وأوقع في القلب وأشد إستقرارا وأكمل رسوخا في الذهن وخاصة في المعارف التي تهدي إليها الفطرة فإن الفطرة إنما تستعد للقبول وتتهيأ للاذعان إذا أحست بالحاجة. ثم إن المعارف التى تتضمنها الدعوة الاسلاميه الناطق بها القرآن إنما هي شرائع وأحكام عملية وقوانين فردية واجتماعية تسعد الحياة الانسانية مبنية على الاخلاق الفاضلة المرتبطة بالمعارف الكلية الالهية التى تنتهي بالتحليل إلى التوحيد كما أن التوحيد انتهي بالتركيب إليها ثم إلى الاخلاق والاحكام العملية. فأحسن التعليم وأكمل التربية أن تلقي هذه المعارف العالية بالتدريج موزعة على الحوادث الواقعة المتضمنة لمساس أنواع الحاجات مبينة لما يرتبط بها من الاعتقاد الحق والخلق الفاضل والحكم العملي المشروع مع ما يتعلق بها من أسباب الاعتبار والاتعاظ بين قصص الماضين وعاقبة أمر المسرفين وعتو الطاغين والمستكبرين. وهذه سبيل البيانات القرآنية المودعة في آياته النازلة كما قال تعالى: " وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا " أسرى: 106، وهذا هو المراد بقوله تعالى: " كذلك لنثبت به فؤادك " والله أعلم. نعم يبقى عليه شئ وهو أن تفرق أجزاء التعليم وإلقاءها إلى المتعلم على التمهل والتؤدة يفسد غرض التعليم لانقطاع أثر السابق إلى أن يلحق به اللاحق وسقوط الهمة والعزيمة عن ضبط المطالب ففي اتصال أجزاء العلم الواحد بعضها ببعض إمداد للذهن وتهيئة للفهم على التفقه والضبط لا يحصل بدونه البتة. وقد أجاب تعالى عنه بقوله: " ورتلناه ترتيلا " فمعناه على ما يعطيه السياق أن هذه التعليمات على نزولها نجوما متفرقة عقبنا بعضها ببعض ونزلنا بعضها إثر بعض بحيث لا تبطل الروابط ولا نقطع آثار الابعاض فلا يفسد بذلك غرض التعليم بل هي سور وآيات نازلة بعضها أثر بعض مترتبة مرتلة.

[ 212 ]

على أن هناك أمرا آخر وهو أن القرآن كتاب بيان واحتجاج يحتج على المؤالف والمخالف فيما أشكل عليهم أو استشكلوه على الحق والحقيقة بالتشكيك والاعتراض، ويبين لهم ما التبس عليهم أمره من المعارف والحكم الواقعة في الملل والاديان السابقة وما فسرها به علماؤهم بتحريف الكلم عن مواضعه كما يظهر بقياس ما كان يعتقده الوثنيون في الله تعالى والملائكة والجن وقد يسي البشر وما وقع في العهدين من أخبار الانبياء وما بثوه من معارف المبدء والمعاد، إلى ما بينه القرآن في ذلك. وهذا النوع من الاحتجاج والبيان لا يستوفي حقه إلا بالتنزيل التدريجي على حسب ما كان يبدو من شبههم ويرد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مسائلهم تدريجا، ويورد على المؤمنين أو على قومهم من تسويلاتهم شيئا بعد شئ وحينا بعد حين. وإلى هذا يشير قوله تعالى: " ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا " - والمثل الوصف - أي لا يأتونك بوصف فيك أو في غيرك حادوا به عن الحق أو أساؤا تفسيره إلا جئناك بما هو الحق فيه أو ما هو أحسن الوجوه في تفسيره فإن ما أتوا به إما باطل محض فالحق يدفعه أو حق محرف عن موضعه فالتفسير الاحسن يرده إلى مستواه ويقومه. فتبين بما تقدم أن قوله: " كذلك لنثبت به فؤادك - إلى قوله - وأحسن تفسيرا " جواب عن قولهم: " لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة " بوجهين: أحدهما: بيان السبب الراجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو تثبيت فؤاده بالتنزيل التدريجي. وثانيهما: بيان السبب الراجع إلى الناس وهو بيان الحق فيما يوردون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المثل والوصف الباطل، والتفسير بأحسن الوجوه فيما يوردون عليه من الحق المغير عن وجهه المحرف عن موضعه. ويلحق بهذا الجواب قوله تلوا: " الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا " فهو كالمتمم للجواب على ما سيجئ بيانه. تبين أيضا أن الآيات الثلاث مسوقة جميعا لغرض واحد وهو الجواب عما

[ 213 ]

أو ردوه من القدح في القرآن هذا، والمفسرون فرقوا بين مضامين الآيات الثلاث فجعلوا قوله: " كذلك لنثبت به فؤادك " جوابا عن قولهم: " لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة " وقوله: " ورتلناه ترتيلا " خبرا عن ترسيله في النزول أو في القراءة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير ارتباط بما تقدمه. وجعلوا قوله: " ولا يأتونك بمثل " الخ، كالبيان لقوله: " كذلك لنثبت به فؤادك " وأيضاحا لكيفية تثبيت فؤاده صلى الله عليه وآله وسلم، وجعله بعضهم ناظرا إلى خصوص المثل الذي ضربوه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الله بين الحق فيه وجاء بأحسن التفسير وقيل غير ذلك وجعلوا قوله: " الذين يحشرون " الآية أجنبيا عن غرض الآيتين السابقتين بالكلية. والتأمل فيما قدمناه في توجيه مضمون الآيتين الاوليين وما سيأتي من معنى الآية الثالثة يوضح فساد جميع ذلك، ويظهر أن الآيات الثلاث جميعا ذات غرض واحد وهو الجواب عما أوردوه من الطعن في القرآن من جهة نزوله التدريجي. وذكروا أيضا أن الجواب عن قدحهم وإقتراحهم بقوله: " كذلك لنثبت به فؤادك " جواب بذكر بعض ما لتفريق النزول من الفوائد وأن هناك فوائد أخرى غير ما ذكره الله تعالى، وقد أوردوا فوائد أخرى أضافوها إلى ما وقع في الآية: منها: أن الكتب السماوية السابقة على القرآن إنما أنزلت جملة واحدة لانها أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرؤن فنزلت عليهم جملة واحدة مكتوبة والقرآن إنما نزل على نبي أمي لا يكتب ولا يقرأ ولذلك نزل متفرقا. ومنها: أن الكتب المتقدمة لم يكن شاهد صحتها ودليل كونها من عند الله تعالى إعجازها، وأما القرآن فبينة صحته وآية كونه من عند الله تعالى نظمه المعجز الباقي على مر الدهور المتحقق في كل جزء من أجزائه المقدر بمقدار أقصر السور حسبما وقع به التحدي. ولا ريب أن مدار الاعجاز هو المطابقة لما تقتضيه الاحوال، ومن ضرورة تجددها تجدد ما يطابقها.

[ 214 ]

ومنها: أن في القرآن ناسخا ومنسوخا ولا يتيسر الجمع بينهما لمكان المضادة والمنافاة، وفيه ما هو جواب لمسائل سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها، وفيه ما هو إنكار لبعض ما كان، وفيه ما هو حكاية لبعض ما جرى، وفيه ما فيه إخبار عما سيأتي في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كالاخبار عن فتح مكة ودخول المسجد الحرام، والاخبار عن غلبة الروم على الفرس إلى غير ذلك من الفوائد فاقتضت الحكمة تنزيله متفرقا. وهذه وجوه ضعيفة لا تقتضي امتناع النزول جملة واحدة: أما الوجه الاول: فكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أميا لا يقرأ ولا يكتب لا يمنع النزول جملة واحدة، وقد كان معه من يكتبه ويحفظه. على أن الله سبحانه وعده أن يعصمه من النسيان ويحفظ الذكر النازل عليه كما قال: " سنقرئك فلا تنسى " الاعلى: 6، وقال: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " الحجر: 9، وقال: " إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " حم السجدة: 42، وقدرته تعالى على حفظ كتابه مع نزوله دفعة أو تدريجا سواء. وأما الوجه الثاني: فكما أن الكلام المفرق يقارنه أحوال تقتضي في نظمه أمورا أن اشتمل عليها الكلام كان بليغا وإلا فلا، كذلك الكلام الجملي وإن كان كتابا يقارنه بحسب فصوله وأجزائه أحوال لها اقتضاءات أن طابقها كان بليغا وإلا فلا فالبلاغة غير موقوفة على غير الكتاب النازل دفعة و الكلام المجموع جملة واحدة. وأما الوجه الثالث فالنسخ ليس إبطالا للحكم السابق وإنما هو بيان انتهاء أمده فمن الممكن الجمع بين الحكمين المنسوخ و الناسخ بالاشارة إلى أن الحكم الاول محدود موقت إن اقتضت المصلحة ذلك. ومن الممكن أيضا أن يقدم بيان المسائل التى سيسألون عنها حتى لا يحتاجوا فيها إلى سؤال ولو سألوا عن شئ منها أرجعوا إلى سابق البيان، وكذا من الممكن أن يقدم ذكر ما هو إنكار لما كان أو حكاية لما جرى أو إخبار عن بعض المغيبات فشئ من ذلك لا يمتنع تقديمه كما هو ظاهر. على أن تفريق النزول لبعض هذه الحكم والمصالح من تثبيت الفؤاد فليست هذه الوجوه المذكورة وجوها على حدتها.

[ 215 ]

فالحق أن البيان الواقع في الآية بيان تام جامع لا حاجة معه إلى شئ من هذه الوجوه البتة. قوله تعالى: " الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا " اتصال الآية بما قبلها من الآيات على ما لها من السياق يعطي أن هؤلاء القادحين في القرآن استنتجوا من قدحهم ما لا يليق بمقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكروه واصفين له بسوء المكانة وضلال السبيل فلم يذكره الله تعالى في ضمن ما حكي من قولهم في القرآن صونا لمقام النبوة أن يذكر بسوء، وإنما أشار إلى ذلك في ما أورد في هذه الآية من الرد ليهم بطريق التكنية. فقوله: " الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم " كناية عن الذين كفروا القادحين في القرآن الواصفين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بما وصفوا، والكناية أبلغ من التصريح. فالمراد أن هؤلاء القادحين في القرآن الواصفين لك هم شر مكانا وأضل سبيلا لا أنت فالكلام مبني على قصر القلب، ولفظتا " شر " و " أضل " منسلختان عن معنى التفضيل أو مفيدتان على التهكم ونحوه. وقد كني عنهم بالمحشورين على وجوههم إلى جهنم وهو وصف من أضله الله من المتعنتين المنكرين للمعاد كما قال تعالى: " ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأوا هم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا " الخ، أسرى: 98. ففي هذه التكنية مضافا إلى كونها أبلغ، تهديد لهم بشر المكان وأليم العذاب وأيضا هي في معنى الاحتجاج على ضلالهم إذ لا ضلال أضل من أن يسير الانسان على وجهه وهو لا يشعر بما في قدامه، وهذا الضلال الذي في حشرهم على وجوههم إلى جهنم مثل للضلال الذي كان لهم في الدنيا فكأنه قيل: إن هؤلاء هم الضالون فإنهم محشورون على وجوههم، ولا يبتلى بذلك إلا من كان ضالا في الدنيا. وقد اختلفت كلماتهم في وجه اتصال الآية بما قبلها فسكت عنه بعضهم، وذكر في مجمع البيان أنهم قالوا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين: أنهم شر خلق الله فقال الله تعالى:

[ 216 ]

" أولئك شر مكانا وأضل سبيلا " وذكر بعضهم أنها متصلة بقوله قبل آيات: " أصحاب الجنة يومئذ خير ستقرا وأحسن مقيلا " وقد عرفت ما يلوح من السياق. وقد اختلفوا أيضا في المراد بحشرهم على وجوههم فقيل: وهو على ظاهره وهو الانتقال مكبوبا، وقيل: هو السحب. وقيل: هو الانتقال من مكان إلى مكان منكوسا وهو خلاف المشي على الاستقامة وفيه أن الاولى حينئذ التعبير بالحشر على الرؤوس لا على الوجوه، وقد قال تعالى في موضع آخر وهو كتوصيف ما يجري بهذا الحشر: " يوم يسحبون في النار على وجوههم " القمر: 48. وقيل: المراد به فرط الذلة الهوان والخزي مجازا. وفيه أن المجاز إنما يصار إليه إذا لم يمكن حمل اللفظ على الحقيقة. وقيل: هو من قول العرب: مر فلان على وجهه إذا لم يدر أين ذهب ؟ وفيه أن مرجعه إلى الجهل بالمكان المحشور إليه ولا يناسب ذلك تقييد الحشر في الآية بقوله: " إلى جهنم ". وقيل: الكلام كناية أو استعارة تمثيلية، والمراد أنهم يحشرون وقلوبهم متعلقة بالسفليات من الدنيا وزخارفها متوجهة وجوههم إليها. وأورد عليه أنهم هناك في شغل شاغل عن التوجه إلى الدنيا وتعلق القلوب بها، ولعل المراد به بقاء آثار ذلك فيهم وعليهم. وفيه أن مقتضي آيات تجسم الاعمال كون العذاب ممثلا للتعلق بالدنيا والتوجه نحوها فهم في الحقيقة لا شغل لهم يومئذ إلا ذلك. قوله تعالى: " ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا " استشهاد على رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزول الكتاب عليه قبال تكذيب الكفار به وبكتابه برسالة موسى وإيتائه الكتاب وإشراك هارون في أمره للتخلص إلى ذكر تعذيب آل فرعون وإهلاكهم، ومعنى الآية ظاهر. قوله تعالى: " فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا " قال

[ 217 ]

في مجمع البيان: التدمير الاهلاك الامر عجيب، ومنه التنكيل يقال: دمر على فلان إذا هجم عليه بالمكروه. انتهى. والمراد بالآيات آيات الآفاق والانفس الدالة على التوحيد التى كذبوا بها، وذكر أبو السعود في تفسيره أن الآيات هي المعجزات التسع المفصلات الظاهرة على يدي موسى ع ولم يوصف القوم لهما عند إرسالهما إليهم بهذا الوصف ضرورة تأخر تكذيب الآيات عن إظهارها المتأخر عن ذهابهما المتأخر عن الامر به بل إنما وصفوا بذلك عند الحكاية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيانا لعلة استحقاقهم لما يحكي بعده من التدمير أي فذهبا إليهم فأرياهم آياتنا كلها فكذبوها تكذيبا مستمرا فدمرناهم. نتهى. وهو حسن لو تعين حمل الآيات على آيات موسى عليه السلام. ووجه اتصال الآيتين بما قبلهما هو تهديد القادحين في كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته بتنظير الامر بأمر موسى حيث آتاه الله الكتاب وأرسله مع أخيه إلى قوم فرعون فكذبوه فدمرهم تدميرا. ولهذه النكتة قدم ذكر إيتاء الكتاب على إرسالهما إلى القوم وتدميرهم مع أن التوراة إنما نزلت بعد غرق فرعون وجنوده فلم يكن الغرض من القصة إلا الاشارة إلى إيتاء الكتاب والرسالة موسى وتدمير القوم بالتكذيب. وقيل: الآيتان متصلتان بقوله تعالى قبل: " وكفى بربك هاديا ونصيرا " وهو بعيد. قوله تعالى: " وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما " الظاهر أن قوله: " قوم نوح " منصوب بفعل مقدر يدل عليه قوله: " أغرقناهم ". والمراد بتكذيبهم الرسل تكذيبهم نوحا فإن تكذيب الواحد من رسل الله تكذيب لجميع لا تفاقهم على كلمة الحق. على أن هؤلاء الامم كانوا أقواما وثنيين وهم ينكرون النبوة ويكذبون الرسالة من رأس. وقوله: " وجعلناهم للناس آية " أي لمن بقي بعدهم من ذراريهم، والباقي ظاهر.

[ 218 ]

قوله تعالى: " وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا " قال في مجمع البيان: الرس البئر التى لم تطو ذكروا أنهم كانوا قوما بعد ثمود نازلين على بئر أرسل الله إليهم رسولا فكذبوا به فأهلكهم الله، وقيل هو اسم نهر كانوا على شاطئه وفي روايات الشيعة ما يؤيد ذلك. وقوله: " وعادا " الخ معطوف على " قوم نوح " والتقدير: ودمرنا أو وأهلكنا عادا وثمود وأصحاب الرس " الخ ". وقوله: " وقرونا بين ذلك كثيرا " القرن أهل عصر واحد وربما يطلق على نفس العصر والاشارة بذلك إلى من مر ذكرهم من الاقوام أولهم قوم نوح وآخرهم أصحاب الرس أو قوم فرعون، والمعنى ودمرنا أو وأهلكنا عادا وهم قوم هود، وثمود وهم قوم صالح، وأصحاب الرس، وقرونا كثيرا متخللين بين هؤلاء الذين ذكرناهم وهم قوم نوح فمن بعدهم. قوله تعالى: " وكلا ضربنا له الامثال وكلا تبرنا تتبيرا " كلا منصوب بفعل يدل عليه قوله: " ضربنا له الامثال " فإن ضرب الامثال في معنى التذكير والموعظة والانذار، والتتبير التفتيت، ومعنى الآية. قوله تعالى: " ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا " هذه القرية هي قرية قوم لوط أمطر الله عليهم حجارة من سجيل وقد مر تفصيل قصصهم في السور السابقة. قوله: " أفلم يكونوا يرونها " استفهام توبيخي فإن القرية كانت على طريق أهل الحجاز إلى الشام. وقوله: " بل كانوا لا يرجون نشورا " أي لا يخافون معادا أو كانوا آئسين من المعاد، وهذا كقوله تعالى فيما تقدم: " بل كذبوا بالساعة " والمراد به أن المنشأ الاصيل لتكذيبهم بالكتاب والرسالة وعدم اتعاظهم بهذه المواعظ الشافية وعدم إعتبارهم بما يعتبر به المعتبرون أنهم منكرون للمعاد فلا ينجح فيهم دعوة ولا تقع في قلوبهم حكمة ولا موعظة.

[ 219 ]

(بحث روائي) في العيون بإسناده عن أبي الصلت الهروي عن الرضا عن أمير المؤمنين عليهما السلام حديث طويل يذكر فيه قصة أصحاب الرس، ملخصه أنهم كانوا قوما يعبدون شجرة صنوبرة يقال لها شاه درخت كان يافث بن نوح غرسها بعد الطوفان على شفير عين يقال لها: روشن آب وكان لهم اثنتا عشرة قرية معمورة على شاطئ نهر يقال له الرس يسمين بأسماء: أبان، آذر، دي، بهمن، إسفندار، فروردين، أردي بهشت، خرداد، مرداد، تير، مهر، شهريور، ومنها أشتق العجم أسماء شهور هم. وقد غرسوا في كل قرية منها من طلع تلك الصنوبرة حبة. أجروا عليها نهرا من العين التى عند الصنوبرة، وحرموا شرب مائها على أنفسهم وأنعامهم ومن شرب منه قتلوه ويقولون: إنه حياة الآلهة فلا ينبغي لاحد أن ينقص حياتها. وقد جعلوا في كل شهر من السنة يوما في كل قرية عيدا يخرجون فيه إلى الصنوبرة التى خارج القرية يقربون إليها القرابين ويذبحون الذبائح ثم يحرقونها في نار أضرموها فيسجدون للشجرة عند إرتفاع دخانها سطوعه في السماء ويبكون ويتضرعون والشيطان يكلمهم من الشجرة. وهذا دأبهم في القري حتى إذا كان يوم عيد قريتهم العظمى التى كان يسكنها ملكهم واسمها إسفندار اجتمع إليها أهل القرى جميعا وعيدوا إثنى عشر يوما، وجاؤا بأكثر ما يستطيعونه من القرابين والعبادات للشجرة وكلمهم إبليس وهو يعدهم ويمنيهم أكثر مما كان من الشياطين في سائر الاعياد من سائر الشجر. ولما طال منهم الكفر بالله وعبادة الشجرة بعث الله إليهم رسولا من بني إسرائيل من ولد يهودا فدعاهم إلى عباده الله وترك الشرك برهه فلم يؤمنوا فدعا على الشجرة فيبست فلمار أوا ذلك ساءهم فقال بعضهم: إن هذا الرجل سحر آلهتنا، وقال آخرون: إن آلهتنا غضبت علينا بذلك لما رأت هذا الرجل يدعونا إلى الكفر بها فتركناه وشأنه من غير أن نغضب عليه لآلهتنا. فاجتمعت آراؤهم على قتله فحفروا بئرا عميقا وألقوه فيها وشدوا رأسها فلم

[ 220 ]

يزالوا عليها يسمعون أنينه حتى مات فاتبعهم الله بعذاب شديد أهلكهم عن آخرهم. وفي نهج البلاغة قال عليه السلام: أين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيين وأطفأوا سنن المرسلين وأحيوا سنن الجبارين. وفي الكافي بإسناده عن محمد بن أبي حمزة وهشام وحفص عن أبي عبد الله عليه السلام أنه دخل عليه نسوة فسألته إمرأة منهن عن السحق فقال: حدها حد الزاني فقالت المرأة: ما ذكره الله عزوجل في القرآن، فقال: بلى، فقالت: وأين هو ؟ قال: هن الرس. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي والبيهقي وابن عساكر عن جعفر بن محمد بن على أن إمرأتين سألتاه: هل تجد غشيان المرأة المرأة محرما في كتاب الله ؟ قال: نعم هن اللواتي كن على عهد تبع، وهن صواحب الرس، وكل نهر وبئر رس. قال: يقطع لهن جلباب من نار، ودرع من نار، ونطاق من نار، وتاج من نار وخفان من نار، ومن فوق ذلك ثوب غليظ جاف جاسف منتن من نار. قال جعفر: علموا هذا نساءكم. أقول: وروى القمي عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن جميل عن أبي عبد الله عليه السلام ما في معناه. وفي تفسير القمي بإسناده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: " وكلا تبرنا تتبيرا " يعني " كسرنا تكسيرا " قال: هي لفظة بالنبطية. وفيه وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال: وأما القرية التى أمطرت مطر السوء فهى سدو قرية قوم لوط أمطر الله عليهم حجارة من سجيل يعني من طين. * * * وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا - 41. إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لو لا أن صبرنا عليها

[ 221 ]

وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا - 42. أرأيت من اتخذ إله هواه أفأنت تكون عليه وكيلا - 43. أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا - 44. ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا - 45. ثم قبضناه الينا قبضا يسيرا - 46. وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا - 47. وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا - 48. لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا - 49. ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا - 50. ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا - 51. فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا - 52. وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرأت وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا - 53. وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا - 54. ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا - 55. وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا - 56. قل ما أسئلكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا - 57. وتوكل على الحي

[ 222 ]

الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا - 58. الذي خلق السماوات والارض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فسئل به خبيرا - 59. وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا - 60. تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا - 61. وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا - 62. (بيان) تذكر الآيات بعض صفات أولئك الكفار القادحين في الكتاب والرسالة والمنكرين للتوحيد والمعاد مما يناسب سنخ اعتراضاتهم واقتراحاتهم كاستهزائهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم واتباعهم الهوى وعبادتهم لما لا ينفعهم ولا يضرهم واستكبارهم عن السجود لله سبحانه. قوله تعالى: " وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا " ضمير الجمع للذين كفروا السابق ذكرهم، والهزؤ الاستهزاء والسخرية فالمصدر بمعنى المفعول، والمعنى: وإذا رآك الذين كفروا لا يتخذونك إلا مهزوا به. وقوله: " أهذا الذي بعث الله رسولا " بيان لاستهزائهم أي يقولون كذا استهزاء بك. قوله تعالى: " إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لو لا أن صبرنا عليها " الخ " إن " مخففة من الثقيلة والاضلال كأنه مضمن معنى الصرف ولذا عدي بعن، وجواب لو لا محذوف

[ 223 ]

يدل عليه ما تقدمه، والمعنى أنه قرب أن يصرفنا عن آلهتنا مضلا لنا لو لا أن صبرنا على آلهتنا أي على عبادتها لصرفنا عنها. وقوله: " وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا " توعد وتهديد منه تعالى لهم وتنبيه أنهم على غفلة مما سيستقبلهم من معاينة العذاب واليقين بالضلال والغي. قوله تعالى: " أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا " الهوي ميل النفس إلى الشهوة من غير تعديله بالعقل، والمراد باتخاذ الهوى إلها طاعته واتباعه من دون الله وقد أكثر الله سبحانه في كلامه ذم اتباع الهوى وعد طاعة الشئ عبادة له في قوله: " ألم أعهد اليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن أعبدوني " يس: 61. وقوله: " أفأنت تكون عليه وكيلا " استفهام إنكاري أي لست أنت وكيلا عليه قائما على نفسه وبأموره حتى تهديه إلى سبيل الرشد فليس في مقدرتك ذلك وقد أضله الله وقطع عنه أسباب الهداية وفي معناه قوله: " إنك لا تهدي من أحببت " القصص: 56، وقوله: " وما أنت بمسمع من في القبور " الفاطر: 22، والآية كالاجمال للتفصيل الذي في قوله: " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله " الجاثية: 23. ويظهر مما تقدم من المعنى إن قوله: " اتخذ إلهه هواه " على نظمه الطبيعي أي إن " اتخذ " فعل متعد إلى مفعولين و " إلهه " مفعوله الاول و " هواه " مفعول ثان له فهذا هو الذي يلائم السياق وذلك أن الكلام حول شرك المشركين وعدولهم عن عبادة الله إلى عبادة الاصنام، وإعراضهم عن طاعة الحق التى هي طاعة الله إلى طاعة الهوى الذي يزين لهم الشرك، وهؤلاء يسلمون أن لهم إلها مطاعا وقد أصابوا في ذلك، لكنهم يرون أن هذا المطاع هو الهوى فيتخذونه مطاعا بدلا من أن يتخذوا الحق مطاعا فقد وضعوا الهوى موضع الحق لا أنهم وضعوا المطاع موضع غيره فافهم. ومن هنا يظهر ما في قول عدة من المفسرين أن " هواه " مفعول أول لقوله " اتخذ " و " إلهه " مفعول ثان مقدم، وإنما قدم للاعتناء به من حيث إنه الذي يدور

[ 224 ]

عليه أمر التعجيب في قوله: " أرأيت من اتخذ " الخ، كما قاله بعضهم، أو إنما قدم للحصر على ما قاله آخرون، ولهم في ذلك مباحثات طويلة أغمضنا عن إيرادها وفيما ذكرناه كفاية إن شاء الله. قوله تعالى: " أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا " أم منقطعة، والحسبان بمعنى الظن وضمائر الجمع راجعة إلى الموصول في الآية السابقة باعتبار المعنى. والترديد بين السمع والعقل من جهة أن وسيلة الانسان إلى سعادة الحياة أحد أمرين إما أن يستقل بالتعقل فيعقل الحق فيتبعه أو يرجع إلى قول من يعقله وينصحه فيتبعه أن لم يستقل بالتعقل فالطريق إلى الرشد السمع أو عقل فالآية في معنى قوله: " وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير "، الملك: 10. والمعنى: بل أتظن أن أكثرهم لهم استعداد استماع الحق ليتبعه أو استعداد عقل الحق ليتبعه فترجو إهتداءهم فتبالغ في دعوتهم. وقوله: " إن هم إلا كالانعام " بيان للجملة السابقة فإنه في معنى: أن أكثرهم لا يسمعون ولا يعقلون فتنبه أنهم ليسوا إلا كالانعام والبهائم في أنها لا تعقل ولا تسمع إلا اللفظ دون المعنى. وقوله: " بل هم أضل سبيلا " أي من الانعام وذلك أن الانعام لا تقتحم على ما يضرها وهؤلاء يرجحون ما يضرهم على ما ينفعهم، وأيضا الانعام إن ضلت عن سبيل الحق فإنها لم تجهز في خلقتها بما يهديها إليه وهؤلاء مجهزون وقد ضلوا. واستدل بعضهم بالآية على أن الانعام لا علم لها بربها. وفيه أن الآية لا تنفي عنها ولا عن الكفار أصل العلم بالله وإنما تنفي عن الكفار اتباع الحق الذي يهدي إليه عقل الانسان الفطري لاحتجابه باتباع الهوى، وتشبههم في ذلك بالانعام التى لم تجهز بهذا النوع من الادراك. وأما ما أجاب به بعضهم أن الكلام خارج مخرج الظاهر فقول لا سبيل إلى إثباته بالاستدلال.

[ 225 ]

قوله تعالى: " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه الينا قبضا يسيرا " هاتان الآيتان وما بعدهما إلى تمام تسع آيات في معنى التنظ ير لما تضمنته الآيتان السابقتان بل الآيات الاربع السابقة من أن الله سبحانه جعل رسالة الرسول لهداية الناس إلى سبيل الرشد وإنقاذهم من الضلال فيهتدي بها بعضهم ممن شاء الله وأما غيرهم ممن اتخذ إلهه هواه فصار لا يسمع ولا يعقل فليس في وسع أحد أن يهديهم من بعد الله. فهى تبين أن ليس هذا ببدع من الله سبحانه ففي عجائب صنعه وبينات آياته نظائر لذلك ففعله متشابه وهو على صراط مستقيم، وذلك كمد الظل وجعل الشمس، دليلا عليه تنسخه، وكجعل الليل لباسا والنوم سباتا والنهار نشورا، وكجعل الرياح بشرا وإنزال المطر وإحياء الارض الميتة وإرواء الانعام والاناسي به. ثم ما مثل المؤمن والكافر في اهتداء هذا وضلال ذاك - وهم جميعا عباد الله يعيشون في أرض واحدة - إلا كمثل المائين العذب الفرات والملح الاجاج مرجهما الله تعالى لكن جعل بينهما برزخا وحجرا محجورا، وكالماء خلق الله سبحانه منه بشرا ثم جعله نسبا وصهرا فاختلف بذلك المواليد وكان ربك قديرا. هذا ما يهدي إليه التدبر في مضامين الآيات وخصوصيات نظمها، وبه يظهر وجه إتصالها بما تقدمها، وأما ما ذكروه من أن الآيات مسوقة لبيان بعض أدلة التوحيد إثر بيان جهالة المعرضين عنها وضلالهم فالسياق لا يساعد عليه وسنزيد لك أيضاحا. فقوله: " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا " تنظير - كما تقدمت الاشارة إليه - لشمول الجهل والضلال للناس ورفعه تعالى ذلك بالرسالة والدعوة الحقة كما يشاء ولازم ذلك أن يكون المراد بمد الظل ما يعرض الظل الحادث بعد الزوال من التمدد شيئا فشيئا من المغرب إلى المشرق حسب اقتراب الشمس من الافق حتى إذا غربت كانت فيه نهاية الامتداد وهو الليل، وهو في جميع أحواله متحرك ولو شاء الله لجعله ساكنا. وقوله: " ثم جعلنا الشمس عليه دليلا " والدليل هي الشمس من حيث دلالتها

[ 226 ]

بنورها على أن هناك ظلا وبانبساطه شيئا فشيئا على تمدد الظل شيئا فشيئا ولولاها لم يتنبه لوجود الظل فإن السبب العام لتمييز الانسان بعض المعاني من بعض تحول الاحوال المختلفة عليه من فقدان ووجدان فإذا فقد شيئا كان يجده تنبه لوجود وإذا وجد ما كان يفقده تنبه لعدمه، وأما الامر الثابت الذي لا تتحول عليه الحال فليس إلى تصوره بالتنبه سبيل. وقوله: " ثم قبضناه الينا قبضا يسيرا " أي أزلنا الظل بإشراق الشمس وارتفاعها شيئا فشيئا حتى ينسخ بالكلية، وفي التعبير عن الازالة والنسخ بالقبض، وكونه إليه، وتوصيفه باليسير دلالة على كمال القدرة الالهية وأنها لا يشق عليها فعل، وأن فقدان الاشياء بعد وجودها ليس بالانعدام والبطلان بل بالرجوع إليه تعالى. وما تقدم من تفسير مد الظل بتمديد الفئ بعد زوال الشمس وإن كان معنى لم يذكره المفسرون لكن السياق - على ما أشرنا إليه - لا يلائم غيره مما ذكره المفسرون كقول بعضهم: إن المراد بالظل الممدود ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وقول بعض: ما بين غروب الشمس وطلوعها، وقول بعض: ما يحدث من مقابلة كثيف كجبل أو بناء أو شجر للشمس بعد طلوعها، وقول بعض - وهو أسخف الاقوال - هو ما كان يوم خلق الله السماء وجعلها كالقبة ثم دحا الارض من تحتها فألقت ظلها عليها. وفي الآية أعني قوله: " ألم تر إلى ربك " الخ، التفات من سياق التكلم بالغير في الآيات السابقة إلى الغيبة، والنكتة فيه أن المراد بالآية وما يتلوها من الآيات بيان أن أمر الهداية إلى الله سبحانه وليس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من الامر شئ وهو تعالى لا يريد هدايتهم وأن الرسالة والدعوة الحقة في مقابلتها للضلال المنبسط على أهل الضلال ونسخها متنسخ منه من شعب السنة العامة الالهية في بسط الرحمة على خلقه نظير إطلاع الشمس على الارض ونسخ الظل الممدود فيها بها، ومن المعلوم أن الخطاب المتضمن لهذه الحقيقة مما ينبغي أن يختص به صلى الله عليه وآله وسلم وخاصة من جهة سلب القدرة على الهداية عنه، وأما الكفار المتخذون إلههم هواهم وهم لا يسمعون ولا يعقلون فلا نصيب لهم فيه.

[ 227 ]

وفي قوله: " ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه الينا " رجوع إلى السياق السابق، وفي ذلك مع ذلك من إظهار العظمة والدلالة على الكبرياء ما لا يخفي. والكلام في قوله الآتي: " وهو الذي جعلكم الليل " الخ، وقوله: " وهو الذي أرسل الرياح "، وقوله: " وهو الذي مرج البحرين "، وقوله: " وهو الذي خلق من الماء بشرا " كالكلام في قوله: " ألم تر إلى ربك " والكلام في قوله: " وأنزلنا من السماء ماء " الخ، وقوله: " ولقد صرفناه بينهم "، وقوله: " ولو شئنا لبعثنا "، كالكلام في قوله: " ثم جعلنا الشمس ". قوله تعالى: " وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا " كون الليل لباسا إنما هو ستره الانسان بغشيان الظلمة كما يستر اللباس لابسه. وقوله: " والنوم سباتا " أي قطعا للعمل، وقوله: " وجعل النهار نشورا " أي جعل فيه الانتشار وطلب الرزق على ما ذكره الراغب في معنى اللفظتين. وحال ستره تعالى الناس بلباس الليل وقطعهم به عن العمل والحركة ثم نشرهم للعمل والسعي بإظهار النهار وبسط النور كحال مد الظل ثم جعل الشمس عليه دليلا وقبض الظل بها إليه. قوله تعالى: " وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا " البشر بالضم فالسكون مخفف بشر بضمتين جمع بشور بمعنى مبشر أي هو الذي أرسل الرياح مبشرات بين يدي رحمته وهي المطر. وقوله: " وأنزلنا من السماء ماء طهورا " أي من جهة العلو وهي جو الارض ماء طهورا أي بالغا في طهارته فهو طاهر في نفسه مطهر لغيره يزيل الاوساخ ويذهب بالارجاس والاحداث - فالطهور على ما قيل صيغة مبالغة -. قوله تعالى: " لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا "، البلدة معروفة قيل: وأريد بها المكان كما في قوله: " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه " الاعراف: 58، ولذا اتصف بالميت وهو مذكر والمكان الميت ما لا نبات فيه وإحياؤه إنباته، والاناسي جمع إنسان، ومعنى الآية ظاهر.

[ 228 ]

وحال شمول الموت الارض والحاجة إلى الشرب والري للانعام والاناسي ثم إنزاله تعالى من السماء ماء طهورا ليحيي به بلدة ميتا ويسقيه أنعاما وأناسى كثيرا من خلقه كحال مد الظل ثم الدلالة عليه بالشمس ونسخه بها كما تقدم. قوله تعالى: " ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا " ظاهر إتصال الآية بما قبلها أن ضمير " صرفناه " للماء وتصريفه بينهم صرفه عن قوم إلى غيرهم تارة وعن غيرهم إليهم أخرى فلا يدوم في نزوله على قوم فيهلكوا ولا ينقطع عن قوم دائما فيهلكوا بل يدور بينهم حتى ينال كل نصيبه بحسب المصلحة، وقيل: المراد التصريف التحويل من مكان إلى مكان. وقوله: " ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا " تعليل للتصريف أي وأقسم لقد صرفنا الماء بتقسيمه بينهم ليتذكروا فيشكروا فأبى وامتنع أكثر الناس إلا كفران النعمة. قوله تعالى: " ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا " أي لو أردنا أن نبعث في كل قرية نذيرا ينذرهم ورسولا يبلغهم رسالاتنا لبعثنا ولكن بعثناك إلى القرى كلها نذيرا ورسولا لعظيم منزلتك عندنا. هكذا فسرت الآية ولا تخلو الآية التالية من تأييد لذلك، وهذا المعنى لما وجهنا به اتصال الآيات أنسب. أو أن المراد أنا قادرون على أن نبعث في كل قرية رسولا وإنما اخترناك لمصلحة في اختيارك. قوله تعالى: " فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا " متفرع على معنى الآية السابقة، وضمير " به " للقرآن بشهادة سياق الآيات، والمجاهدة والجهاد بذل الجهد والطاقة في مدافعة العدو وإذ كان بالقرآن فالمراد تلاوته عليهم وبيان حقائقه لهم وإتمام حججه عليهم. فمحصل مضمون الآية أنه إذا كان مثل الرسالة الالهية في رفع حجاب الجهل والغفلة المضروب على قلوب الناس بإظهار الحق لهم وإتمام الحجة عليهم مثل الشمس في الدلالة على الظل الممدود ونسخه بأمر الله، ومثل النهار بالنسبة إلى الليل وسبته، ومثل المطر بالنسبة إلى الارض الميتة والانعام والاناسي الظامئة، وقد بعثناك لتكون

[ 229 ]

نذيرا لاهل القرى فلا تطع الكافرين لان طاعتهم تبطل هذا الناموس العام المضروب للهداية. وابذل مبلغ جهدك ووسعك في تبليغ رسالتك وإتمام حجتك بالقرآن المشتمل على الدعوة الحقة وجاهدهم به مجاهدة كبيرة. قوله تعالى: " وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا " المرج الخلط ومنه أمر مريج أي مختلط، والعذب من الماء ما طاب طعمه، والفرات منه ما كثر عذوبته، والملح هو الماء المتغير طعمه. والاجاج شديد الملوحة، والبرزخ هو الحد الحاجز بين شيئين، وحجرا محجورا أي حراما محرما أن يختلط أحد الماءين بالآخر. وقوله: " وجعل بينهما " الخ قرينة على أن المراد بمرج لبحرين إرسال الماءين متقارنين لا الخلط بمعنى ضرب الاجزاء بعضها ببعض. والكلام معطوف على ما عطف عليه قوله: " وهو الذي أرسل الرياح " الخ، وفيه تنظير لامر الرسالة من حيث تأديتها إلى تمييز المؤمن من الكافر مع كون الفريقين يعيشان على أرض واحدة مختلطين وهما مع ذلك غير متمازجين كما تقدمت الاشارة إليه في أول الآيات التسع. قوله تعالى: " وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا " الصهر على ما نقل عن الخليل الختن وأهل بيت المرأة فالنسب هو التحرم من جهة الرجل والصهر هو التحرم من جهة المرأة - كما قيل - ويؤيده المقابلة بين النسب والصهر. وقد قيل: إن كلا من النسب والصهر بتقدير مضاف والتقدير فجعله ذا نسب وصهر، والضمير للبشر، والمراد بالماء النطفة، وربما احتمل أن يكون المراد به مطلق الماء الذي خلق الله منه الاشياء الحية كما قال: " وجعلنا من الماء كل شئ حي " الانبياء: 30. والمعنى: وهو الذي خلق من النطفة - وهي ماء واحد - بشرا فقسمه قسمين ذا نسب وذا صهر يعني الرجل والمرأة وهذا تنظير آخر يفيد ما تفيده الآية السابقة أن لله سبحانه أن يحفظ الكثرة في عين الوحدة والتفرق في عين الاتحاد وهكذا يحفظ

[ 230 ]

اختلاف النفوس والآراء بالايمان والكفر مع اتحاد المجتمع البشري بما بعث الله الرسل لكشف حجاب الضلال الذي من شأنه غشيانه لو لا الدعوة الحقة. وقوله: " وكان ربك قديرا " في إضافة الرب إلى ضمير الخطاب من النكتة نظير ما تقدم في قوله: " ألم تر إلى ربك ". قوله تعالى: " ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا " معطوف على قوله: " وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا ". والظهير بمعنى المظاهر على ما قيل والمظاهرة المعاونة. والمعنى: ويعبدون - هؤلاء الكفار المشركون - من دون الله ما لا ينفعهم بإيصال الخير على تقدير العبادة ولا يضرهم بإيصال الشر على تقدير ترك العبادة وكان الكافر معاونا للشيطان على ربه. وكون هؤلاء المعبودين وهم الاصنام ظاهرا لا ينفعون ولا يضرون لا ينافي كون عبادتهم مضرة فلا يستلزم نفي الضرر عنهم أنفسهم حيث لا يقدرون على شئ نفي الضرر عن عبادتهم المضرة المؤدية للانسان إلى شقاء لازم وعذاب دائم. قوله تعالى: " وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا " أي لم نجعل لك في رسالتك إلا التبشير والانذار وليس لك وراء ذلك من الامر شئ فلا عليك إن كانوا معاندين لربهم مظاهرين لعدوه عليه فليسوا بمعجزين لله وما يمكرون إلا بأنفسهم، هذا هو الذي يعطيه السياق. وعليه فقوله: " وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا " هذا الفصل من الكلام نظير قوله: " أفأنت تكون عليه وكيلا " في الفصل السابق. ومنه يظهر أن أخذ بعضهم الآية تسلية منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال والمراد ما أرسلناك إلا مبشرا للمؤمنين ونذيرا للكافرين فلا تحزن على عدم إيمانهم. غير سديد. قوله تعالى: " قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا " ضمير " عليه " للقرآن بما أن تلاوته عليهم تبلغ للرسالة كما قال تعالى: " إن هذه

[ 231 ]

تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا " المزمل: 19، الدهر: 29، وقال: " قل ما أسألكم عليه أجرا وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين " ص: 87. وقوله: " إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا " استثناء منقطع في معنى المتصل فإنه في معنى إلا أن يتخذ إلى ربه سبيلا من شاء ذلك على حد قوله تعالى: " يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم " الشعراء: 89، أي إلا أن يأتي الله بقلب سليم من أتاه به. ففيه وضع الفاعل وهو من اتخذ السبيل موضع فعله وهو اتخاذ السبيل شكرا له ففي الكلام عد اتخاذهم سبيلا إلى الله سبحانه باستجابة الدعوة أجرا لنفسه ففيه تلويح إلى نهاية استغنائه عن أجر مالي أو جاهي منهم، وأنه لا يريد منهم وراء استجابتهم للدعوة واتباعهم للحق شيئا آخر من مال أو جاه أو أي أجر مفروض فليطيبوا نفسا ولا يتهموه في نصيحته. وقد علق اتخاذ السبيل على مشيتهم للدلالة على حريتهم الكاملة عن قبله صلى الله عليه وآله وسلم فلا إكراه ولا إجبار إذ لا وظيفة له عن قبل ربه وراء التبشير والانذار وليس عليهم بوكيل بل الامر إلى الله يحكم فيهم ما يشاء. فقوله: " قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ " الخ بعد ما سجل لنبيه ص أن ليس له إلا الرسالة بالتبشير والانذار يأمره أن يبلغهم أن لا بغية له في دعوتهم إلا أن يستجيبوا له ويتخذوا إلى ربهم سبيلا من غير غرض زائد من الاجر أياما كان، وأن لهم الخيرة في أمرهم من غير أي إجبار وإكراه فهم والدعوة إن شاؤا فليؤمنوا وإن شاؤا فليكفروا. هذا ما يرجع إليه صلى الله عليه وآله وسلم وهو تبليغ الرسالة فحسب من غير طمع في أجر ولا تحميل عليهم إكراه أو انتقام منهم بنكال، وأما ما وراء ذلك فهو لله فليرجعه إليه وليتوكل عليه كما أشار إليه في الآية التالية: " وتوكل على الحي الذي لا يموت ". وذكر جمهور المفسرين أن الاستثناء منقطع، والمعنى لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا أي بالانفاق القائم مقام الاجر كالصدقة والانفاق في سبيل الله فليفعل، وهو ضعيف لا دليل عليه لا من جهة لفظ الجملة ولا من جهة السياق.

[ 232 ]

وقال بعضهم: إنه متصل والكلام بحذف مضاف والتقدير إلا فعل من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا بالايمان والطاعة حسبما أدعو اليهما. وفيه أخذ استجابتهم له أجرا لنفسه وقطعا لشائبة الطمع بالكلية وتطييبا لانفسهم، ويرجع هذا الوجه بحسب المعنى إلى ما قدمناه ويمتاز منه بتقدير مضاف والتقدير خلاف الاصل. وقال آخرون: إنه متصل بتقدير مضاف والتقدير لا أسألكم عليه من أجر إلا أجر من شاء " الخ " أي إلا الاجر الحاصل لي من إيمانه فإن الدال على الخير كفاعله. وفيه أن مقتضى هذا المعنى أن يقال: الا من اتخذ إلى ربه سبيلا فلا حاجة إلى تعليق الاتخاذ بالمشية والاجر إنما يترتب على العمل دون مشيته. قوله تعالى: " وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا " لما سجل على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن ليس له من أمرهم شئ إلا الرسالة وأمره أن يبلغهم أن لا بغية له في دعوتهم إلا الاستجابة لها وأنهم علخيرة من أمرهم إن شاؤا آمنوا وإن شاؤا كفروا تمم ذلك بأمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يتخذ تعالى وكيلا في أمرهم فهو تعالى عليهم وعلى كل شئ وكيل وبذنوب عباده خبير. فقوله: " وتوكل على الحي الذي لا يموت " أي اتخذه وكيلا في أمرهم يحكم فيهم ما يشاء ويفعل بهم ما يريد فإنه الوكيل عليهم وعلى كل شئ وقد عدل عن تعليق التوكل بالله إلى تعليقه بالحي الذي لا يموت ليفيد التعليل فإن الحي الذي لا يموت لا يفوته فائت فهو المتعين لان يكون وكيلا. وقوله: " وسبح بحمده " أي نزهه عن العجز والجهل وكل ما لا يليق بساحة قدسه مقارنا ذلك للثناء عليه بالجميل فإن أمهلهم واستدرجهم بنعمه فليس عن عجز فعل بهم ذلك ولا عن جهل بذنوبهم وإن أخذهم بذنوبهم فبحكمة اقتضته وباستحقاق منهم استدعى ذلك فسبحانه وبحمده. وقوله: " وكفى به بذنوب عباده خبيرا " مسوق للدلالة على توحيده في فعله وصفته فهو الوكيل المتصرف في أمور عباده وحده وهو خبير بذنوبهم وحاكم فيهم وحده من غير حاجة إلى من يعينه في علمه أو في حكمه. ومن هنا يظهر أن الآية التالية: " الذي خلق السماوات والارض " متممة لقوله:

[ 233 ]

" وتوكل على الحي الذي لا يموت " الخ، لا شتمالها على توحيده في ملكه وتصرفه كما يشتمل قوله: " وكفى به " الخ على علمه وخبرته وبالحياة والملك والعلم معايتم معنى الوكالة وسنشير إليه. قوله تعالى: " الذي خلق السماوات والارض وفي ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا " ظاهر السياق أن الموصول صفة لقوله في الآية السابقة: " الحي الذي لا يموت " وبهذه الآية يتم البيان في قوله: " وتوكل على الحي الذي لا يموت " فإن الوكالة كما تتوقف على حياة الوكيل تتوقف على العلم، وقد ذكره في قوله: " وكفى به بذنوب عباده خبيرا " وتتوقف على السلطنة على الحكم والتصرف وهو الذي تتضمنه هذه الآية بما فيها من حديث خلق السماوات والارض والاستواء على العرش. وقد تقدم تفسير صدر الآية في مواضع من السور السابقة، وأما قوله: " الرحمن فاسأل به خبيرا " فالذي يعطيه السياق ويهدي إليه النظم أن يكون الرحمن خبرا لمبتدأ محذوف والتقدير هو الرحمن، وقوله: " فاسأل " متفرعا عليه والفاء للتفريع، والباء في قوله: " به " للتعدية مع تضمين السؤال معنى الاعتناء. وقوله: " خبيرا " حال من الضمير. والمعنى: هو الرحمن - الذي استوى على عرش الملك والذي برحمته وإفاضته يقوم الخلق والامر ومنه يبتدي كل شئ واليه يرجع - فاسأله عن حقيقة الحال يخبرك بها فإنه خبير. فقوله: " فاسأل به خبيرا " كناية عن أن الذي أخبر به حقيقة الامر التي لا معدل عنها وهذا كما يقول من سئل عن أمر: سلني أجبك إن كذا وكذا ومن هذا الباب قولهم: على الخبير سقطت. ولهم في قوله: " الرحمن فاسأل به خبيرا " أقوال أخرى كثيرة: فقيل: إن الرحمن مرفوع على القطع للمدح، وقيل: مبتدأ خبره قوله: " فاسأل به "، وقيل: خبر مبتدؤه " الذي " في صدر الآية، وقيل: بدل من الضمير المستكن في " استوى ". وقيل في " فاسأل به " إنه خبر للرحمن كما تقدم والفاء فصيحة، وقيل: جملة

[ 234 ]

مستقلة متفرعة على ما قبلها والفاء للتفريع ثم الباء في " به " للصلة أو بمعنى عن والضمير راجع إليه تعالى أو إلى ما تقدم من الخلق والاستواء. وقيل: " خبيرا " حال عن الضمير وهو راجع إليه تعالى، والمعنى فاسأل الله حال كونه خبيرا وقيل مفعول فاسأل والباء بمعنى عن والمعنى فاسأل عن الرحمن أو عن حديث الخلق والاستواء خبيرا، والمراد بالخبير هو الله سبحانه، وقيل جبريل وقيل: محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قيل: من قرأ الكتب السماوية القديمة ووقف على صفاته وأفعاله تعالى وكيفية الخلق والايجاد، وقيل: كل من كان له وقوف على هذه الحقائق. وهذه الوجوه المتشتتة جلها أو كلها لا تلائم ما يعطيه سياق الآيات الكريمة ولا موجب للتكلم عليها والغور فيها. قوله تعالى: " وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا " هذا فصل آخر من معاملتهم السوء مع الرسول ودعوته الحقة يذكر فيه استكبارهم عن السجود لله سبحانه إذا دعوا إليه ونفورهم منه وللآية اتصال خاص بما قبلها من حيث ذكر الرحمن فيها وقد وصف في الآية السابقة بما وصف ولعل اللام فيه للعهد. فقوله: " وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن " الضمير للكفار، والقائل هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدليل قوله بعد: " أنسجد لما تأمرنا " ولم يذكر اسمه ليتوجه استكبارهم إلى الله سبحانه وحده. وقوله: " قالوا وما الرحمن " سؤال منهم عن هويته ومائيته مبالغة منهم في التجاهل به استكبارا منهم على الله ولو لا ذلك لقالوا: ومن الرحمن، وهذا كقول فرعون لموسى لما دعاه إلى رب العالمين: " وما رب العالمين " الشعراء: 23، وقول إبراهيم لقومه: " ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " الانبياء: 52، ومراد السائل في مثل هذا السؤال أنه لا معرفة له من المسؤل عنه بشئ أزيد من اسمه كقول هود لقومه: " أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم " الاعراف: 71. وقوله حكاية عنهم: " أنسجد لما تأمرنا " في تكرار التعبير عنه تعالى بما إصرار على الاستكبار، والتعبير عن طلبه عنهم السجدة بالامر لا يخلو من تهكم واستهزاء.

[ 235 ]

وقوله: " وزادهم نفورا " معطوف على جواب إذا والمعنى: وإذا قيل لهم اسجدوا استكبروا وزادهم ذلك نفورا ففاعل (زادهم) ضمير راجع إلى القول المفهوم من سابق الكلام. وقول بعضهم: إن الفاعل ضمير راجع إلى السجود بناء على ما رووا أنه صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سجدوا فتباعدوا عنهم مستهزئين ليس بسديد فإن وقوع واقعة ما لا يؤثر في دلالة اللفظ ما لم يتعرض له لفظا. ولا تعرض في الآية لهذه القصة أصلا. قوله تعالى: " تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا " الظاهر أن المراد بالبروج منازل الشمس والقمر من السماء أو الكواكب التي عليها كما تقدم في قوله: " ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظر ين وحفظناها من كل شيطان رجيم " الحجر: 17، وإنما خصت بالذكر في الآية للاشارة إلى الحفظ والرجم المذكورين. والمراد بالسراج الشمس بدليل قوله: " وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا " نوح: 16. وقد قرروا الآية أنها احتجاج بوحدة التدبير العجيب السماوي والارضي على وحدة المدبر فيجب التوجه بالعبادات إليه وصرف الوجه عن غيره. والتدبر في اتصال الآيتين بما قبلهما وسياق الآيات لا يساعد عليه لان مضمون الآية السابقة من استكبارهم على الرحمان إذا أمروا بالسجود له واستهزائهم بالرسول لار نسبة كافية بينه وبين الاحتجاج على توحيد الربوبية حتى يعقب به، وإنما المناسب لهذا المعنى إظهار العزة والغنى وأنهم غير معجزين لله بفعالهم هذا ولا خارجون عن ملكه وسلطانه. والذي يعطيه التدبر أن قوله: " تبارك الذي جعل في السماء بروجا " الخ، مسوق سوق التعزز والاستغناء، وأنهم غير معجزين باستكبارهم على الله واستهزائهم بالرسول بل هؤلاء ممنوعون عن الاقتراب من حضرة قربه والصعود إلى سماء جواره والمعارف الالهية مضيئة مع ذلك لاهله وعباده بما نورها الله سبحانه بنور هدايته وهو نور الرسالة.

[ 236 ]

وعلى هذا فقد أثنى الله سبحانه على نفسه بذكر تباركه بجعل البروج المحفوظة الراجمة للشياطين بالشهب في السماء المحسوسة وجعل الشمس المضيئة والقمر المنير فيها لاضاءة العالم المحسوس، وأشار بذلك إلى ما يناظره في الحقيقة من إضاءة العالم الانساني بنور الهداية من الرسالة ليتبصر به عباده، كما يذكر حالهم بعد هذه الآيات ودفع أولياء الشياطين عن الصعود إليه بماهيا لدفعهم من بروج محفوظة راجمة. هذا ما يعطيه السياق وعلى هذا النمط من البيان سيقت هذه الآيات والتي قبلها كما تقدمت الاشارة إليه في تفسير قوله: " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل " فليس ما ذكرناه من التأويل بمعنى صرف الآيات عن ظاهرها. قوله تعالى: " وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا " الخلفة هي الشئ يسد مسد شئ آخر وبالعكس وكأنه بناء نوع أريد به معنى الوصف فكون الليل والنهار خلفة أن كلا منهما يخلف الآخر، وتقييد الخلفة بقوله: " لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا " للدلالة على نيابة كل منهما عن الآخر في التذكر والشكر. والمقابلة بين التذكر والشكر يعطي أن المراد بالتذكر الرجوع إلى ما يعرفه الانسان بفطرته من الحجج الدالة على توحيد ربه وما يليق به تعالى من الصفات و الاسماء وغايته الايمان بالله، وبالشكور القول أو الفعل الذي ينبئ عن الثناء عليه بجميل ما أنعم، وينطبق على عبادته وما يلحق بها من صالح العمل. وعلى هذا فالآية اعتزاز أو امتنان بجعله تعالى الليل والنهار بحيث يخلف كل صاحبه فمن فاته الايمان به في هذه البرهة من الزمان تداركه في البرهة الاخرى منه، ومن لم يوفق لعبادة أو لاي عمل صالح في شئ منهما أتى به في الآخر. هذا ما تفيده الآية ولها مع ذلك ارتباط بقوله في الآية السابقة: " وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا " ففيه إشارة إلى أن الله سبحانه وإن دفع أولئك المستكبرين عن الصعود إلى ساحة قربه لكنه لم يمنع عباده عن التقرب إليه والاستضاءة بنوره فجعل نهارا ذا شمس طالعة وليلا ذا قمر منير وهما ذوا خلفة من فاته ذكر أو شكر في أحدهما أتى به في الآخر.

[ 237 ]

وفسر بعضهم التذكر بصلاة الفريضة والشكور بالنافلة والآية تقبل الانطباق على ذلك وإن لم يتعين حملها عليه. (بحث روائي) في الدر المنثور في قوله تعالى: " أرأيت من اتخذ إلهه هواه " أخرج الطبراني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون الله أعظم عند الله من هوى متبع. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل " فقال: الظل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. وفي المجمع في قوله تعالى: " وهو الذي خلق من الماء " الآية، قال ابن سيرين: نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب زوج فاطمة عليا فهو ابن عمه وزوج ابنته فكان نسبا وصهرا. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن مردوديه عن ابن عباس في قوله: " وكان الكافر على ربه ظهيرا " يعني أبا الحكم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا جهل بن هشام. أقول: والروايتان بالجري والتطبيق أشبه. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تبارك وتعالى: " تبارك الذي جعل في السماء بروجا " فالبروج الكواكب والبروج التي للربيع والصيف الحمل والثور والجوزاء والسرطان والاسد والسنبلة، وبروج الخريف والشتاء: الميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت - وهي اثنا عشر برجا. وفي الفقيه قال الصادق عليه السلام: كلمفاتك بالليل فاقضه بالنهار قال الله تبارك وتعالى: " وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا " يعني أن يقضي الرجل ما فاتبا لليل بالنهار وما فاته بالنهار بالليل

[ 238 ]

* * * وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما - 63. والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما - 64. والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم أن عذابها كان غراما - 65. إنها ساعت مستقرا ومقاما - 66. والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا وكان بين ذلك قواما - 67. والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما - 68. يضاعف له العذاب يوم القيمة ويخلد فيه مهانا - 69. إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما - 70. ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا - 71. والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما - 72. والذين إذا ذكروا بايآت ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا - 73. والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما - 74. أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما - 75. خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما - 76.

[ 239 ]

قل ما يعبؤا بكم ربي لو لا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما - 77. (بيان) تذكر الآيات من محاسن خصال المؤمنين ما يقابل ما وصف من صفات الكفار السيئة ويجمعها أنهم يدعون ربهم ويصدقون رسوله والكتاب النازل عليه قبال تكذيب الكفار لذلك وإعراضهم عنه إلى اتباع الهوى، ولذلك تختتم الآيات بقوله: " قل ما يعبؤا بكم ربي لو لا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما " وبه تختتم السورة. قوله تعالى: " وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " لما ذكر في الآية السابقة استكبارهم على الله سبحانه وإهانتهم بالاسم الكريم: الرحمن، قابله في هذه الآية بذكر ما يقابل ذلك للمؤمنين وسماهم عبادا وأضافهم إلى نفسه متسميا باسم الرحمن الذي كان يحيد عنه الكفار وينفرون. وقد وصفتهم الآية بوصفين من صفاتهم: أحدهما: ما اشتمل عليه قوله: " الذين يمشون على الارض هونا " والهون على ما ذكره الراغب التذلل، والاشبه حينئذ أن يكون المشي على الارض كناية عن عيشتهم بمخالطة الناس ومعاشرتهم فهم في أنفسهم متذللون لربهم ومتواضعون للناس لما أنهم عباد الله غير مستكبرين على الله ولا مستعلين على غيرهم بغير حق، وأما التذلل لاعداء الله إبتغاء ما عندهم من العزة الوهمية فحاشاهم وإن كان الهون بمعنى الرفق واللين فالمراد أنهم يمشون من غير تكبر وتبختر. وثانيهما: ما اشتمل عليه قوله: " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " أي إذا خاطبهم الجاهلون خطابا ناشئا عن جهلهم مما يكرهون أن يخاطبوا به أو يثقل عليهم كما يستفاد من تعلق الفعل بالوصف أجابوهم بما هو سالم من القول وقالوا لهم قولا سلاما خاليا عن اللغو والاثم، قال تعالى: " لا يسمعون فيها لغوا ولا تاثيما إلا قيلا سلاما سلاما " الواقعة: 26، ويرجع إلى عدم مقابلتهم الجهل بالجهل.

[ 240 ]

وهذه - كما قيل - صفة نهارهم إذا انتشروا في الناس وأما صفة ليلهم فهي التي تصفها الآية التالية. قوله تعالى: " والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما " البيتوتة إدراك الليل سواء نام أم لا، و " لربهم " متعلق بقوله: " سجدا " والسجدو القيام جمعا ساجد وقائم، والمراد عبادتهم له تعالى بالخرور على الارض والقيام على السوق، ومن مصاديقه الصلاة. والمعنى: وهم الذين يدركون الليل حال كونهم ساجدين فيه لربهم وقائمين يتراوحون سجودا وقياما، ويمكن أن يراد به التهجد بنوافل الليل. قوله تعالى: " والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما " الغرام ما ينوب الانسان من شدة أو مصيبة فيلزمه لا يفارقه والباقي ظاهر. قوله تعالى: " إنها ساءت مستقرا ومقاما " الضمير لجهنم والمستقر والمقام إسما مكان من الاستقرار والاقامة، والباقي ظاهر. قوله تعالى: " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما "، الانفاق بذل المال وصرفه في رفع حوائج نفسه أو غيره، والاسراف الخروج عن الحد ولا يكون إلا في جانب الزيادة، وهو في الانفاق التعدي عما ينبغي الوقوف عليه في بذل المال، والقتر بالفتح فالسكون التقليل في الانفاق وهو بإزاء الاسراف على ما ذكره الراغب، والقتر والاقتار والتقتير بمعنى. والقوام بالفتح الواسط العدل، وبالكسر ما يقوم به الشئ وقوله: " بين ذلك " متعلق بالقوام، والمعنى: وكان إنفاقهم وسطا عدلا بين ما ذكر من الاسراف والقتر فقوله: " وكان بين ذلك قواما " تنصيص على ما يستفاد من قوله: " إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا "، فصدر الآية ينفي طرفي الافراط والتفريط في الانفاق، وذيلها يثبت الوسط. قوله تعالى: " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر " إلى آخر الآية هذا هو الشرك وأصول الوثنية لا تجيز دعاءه تعالى وعبادته أصلا لا وحده ولا مع آلهتهم وإنما توجب دعاء آلهتهم وعبادتهم ليقربوهم إلى الله زلفى ويشفعوا لهم عنده.

[ 241 ]

فالمراد بدعائهم مع الله إلها آخر إما التلويح إلى أنه تعالى إله مدعو بالفطرة على كل حال فدعاء غيره دعاء لاله آخر معه وإن لم يذكر الله. أو أنه تعالى ثابت في نفسه سواء دعي غيره أم لا فالمراد بدعاء غيره دعاء إله آخر مع وجوده وبعبارة أخرى تعديه إلى غيره. أو إشارة إلى ما كان يفعله جهلة مشركي العرب فإنهم كانوا يرون أن دعاء آلهتهم إنما ينفعهم في البر وأما البحر فإنه لله لا يشاركه فيه أحد فالمراد دعاؤه تعالى في مورد كما عند شدائد البحر من طوفان ونحوه ودعاء غيره معه في مورد وهو البر، وأحسن الوجوه أوسطها. و قوله: " ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق " أي لا يقتلون النفس الانسانية التي حرم الله قتلها في حال من الاحوال إلا حال تلبس القتل بالحق كقتلها قصاصا وحدا. وقوله تعالى: " ولا يزنون " أي لا يطؤون الفرج الحرام وقد كان شائعا بين العرب في الجاهلية، وكان الاسلام معروفا بتحريم الزنا والخمر من أول ما ظهرت دعوته. وقوله: " ومن يفعل ذلك يلق أثاما " الاشارة بذلك إلى ما تقدم ذكره وهو الشرك وقتل النفس المحترمة بغير حق والزنا، والاثام الاثم وهو وبال الخطيئة وهو الجزاء بالعذاب الذي سيلقاه يوم القيامة المذكور في الآية التالية. قوله تعالى: " يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا " بيان للقاء الاثام، وقوله: " ويخلد فيه مهانا " أي يخلد في العذاب وقد وقعت عليه الاهانة. والخلود في العذاب في الشرك لا ريب فيه، وأما الخلود فيه عند قتل النفس المحترمة والزنا وهما من الكبائر وقد صرح القرآن بذلك فيهما وكذا في أكل الربا فيمكن أن يحمل على اقتضاء طبع المعصية ذلك كما ربما استفيد من ظاهر قوله: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ".

[ 242 ]

أو يحمل الخلود على المكث الطويل أعم من المنقطع والمؤبد أو يحمل قوله: " ومن يفعل ذلك " على فعل جميع الثلاثة لان الآيات في الحقيقة تنزه المؤمنين عما كان الكفار مبتلين به وهو الجميع دون البعض. قوله تعالى: " إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فاولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما " استثناء من لقى الاثام والخلود فيه، وقد أخذ في المستثنى التوبة والايمان وإتيان العمل الصالح، أما التوبة وهي الرجوع عن المعصية وأقل مراتبها الندم فلو لم يتحقق لم ينتزع العبد عن المعصية ولم يزل مقيما عليها، وأما إتيان العمل الصالح فهو مما تستقر به التوبة وبه تكون نصوحا. وأما أخذ الايمان فيدل على أن الاستثناء إنما هو من الشرك فتختص الآية بمن أشرك وقتل وزنا أو بمن أشرك سواء أتى معه بشئ من القتل المذكور والزنا أو لم يأت، وأما من أتى بشئ من القتل والزنا من غير شرك فالمتكفل لبيان حكم توبته الآية التالية. وقوله: " فاولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " تفريع على التوبة والايمان والعمل الصالح يصف ما يترتب على ذلك من جميل الاثر وهو أن الله يبدل سيئاتهم حسنات. وقد قيل في معنى ذلك أن الله يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة ويثبت مكانها لو احق طاعاتهم فيبدل الكفر إيمانا والقتل بغير حق جهادا وقتلا بالحق والزنا عفة وإحصانا. وقيل: المراد بالسيئات والحسنات ملكاتهما لا نفسهما فيبدل ملكة السيئة ملكة الحسنة. وقيل: المراد بهما العقاب والثواب عليهما لا نفسهما فيبدل عقاب القتل والزنا مثلا ثواب القتل بالحق والاحصان. وأنت خبير بأن هذه الوجوه من صرف الكلام عن ظاهره بغير دليل يدل عليه. والذي يفيد ظاهر قوله: " يبدل الله سيئاتهم حسنات " وقد ذيله بقوله: " وكان الله غفورا رحيما " أن كل سيئة منهم نفسها تتبدل حسنة، وليست السيئة هي متن

[ 243 ]

الفعل الصادر من فاعله وهو حركات خاصة مشتركة بين السيئة والحسنة كعمل المواقعة مثلا المشترك بين الزنا والنكاح، والاكل المشترك بين أكل المال غصبا وبإذن من مالكه بل صفة الفعل من حيث موافقته لامر الله ومخالفته له مثلا من حيث إنه يتأثر به الانسان ويحفظ عليه دون الفعل الذي هو مجموع حركات متصرمة متقضية فانية وكذا عنوانه القائم به الفاني بفنائه. وهذه الآثار السيئة التي يتبعها العقاب أعني السيئات لازمة للانسان حتى يؤخذ بها يوم تبلى السرائر. ولو لا شوب من الشقوة والمساءة فالذات لم يصدر عنها عمل سئ إذ الذات السعيدة الطاهرة من كل وجه لا يصدر عنها سيئة قذرة فالاعمال السيئة إنما تلحق ذاتا شقية خبيثة بذاتها أو ذاتا فيها شوب من شقاء خباثة. ولازم ذلك إذا تطهرت بالتوبة وطابت بالايمان والعمل الصالح فتبدلت ذاتا سعيدة ما فيها شوب من قذارة الشقاء أن تتبدل آثارها اللازمة التي كانت سيئات قبل ذلك فتناسب الآثار للذات بمغفرة من الله ورحمة وكان الله غفورا رحيما. وإلى مثل هذا يمكن أن تكون الاشارة بقوله: " فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ". قوله تعالى: " ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا " المتاب مصدر ميمي للتوبة، وسياق الآية يعطي أنها مسوقة لرفع استغراب تبدل السيئات حسنات بتعظيم أمر التوبة وأنها رجوع خاص إلى الله سبحانه فلا بدع في أن يبدل السيئات حسنات وهو الله يفعل ما يشاء. وفي الآية مع ذلك شمول للتوبة من جميع المعاصي سواء قارنت الشرك أم فارقته، والآية السابقة كما تقدمت الاشارة إليه - كانت خفية الدلالة إلى حال المعاصي إذا تجردت من الشرك. قوله تعالى: " والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما " قال في مجمع البيان: أصل الزور تمويه الباطل بما يوهم أنه حق. انتهى. فيشمل الكذب وكل

[ 244 ]

لهو باطل كالغناء والفحش والخناء بوجه، وقال أيضا: يقال: تكرم فلا عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه منه انتهى. فقوله: " والذين لا يشهدون الزور " إن كان المراد بالزور الكذب فهو قائم مقام المفعول المطلق والتقدير لا يشهدون شهادة الزور، وإن كان المراد اللهو الباطل كالغناء ونحوه كان مفعولا به والمعنى لا يحضرون مجالس الباطل، وذيل الآية يناسب ثاني المعنيين. وقوله: " وإذا مروا باللغو مروا كراما " اللغو ما لا يعتد به من الافعال والاقوال لعدم اشتماله على غرض عقلائي ويعم - كما قيل - جميع المعاصي، والمراد بالمرور باللغو المرور بأهل اللغو وهم مشتغلون به. والمعنى: وإذا مروا بأهل اللغو وهم يلغون مروا معرضين عنهم منزهين أنفسهم عن الدخول فيهم والاختلاط بهم ومجالستهم. قوله تعالى: " والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا " الخرور على الارض السقوط عليها وكأنها في الآية كناية لزوم الشئ والانكباب عليه. والمعنى: والذين إذا ذكروا بآيات ربهم من حكمة أو موعظة حسنة من قرآن أو وحى لم يسقطوا عليه وهم صم لا يسمعون وعميان لا يبصرون بل تفكروا فيها وتعقلوها فأخذ وا بها عن بصيرة فآمنوا بحكمتها واتعظوا بموعظتها وكانوا على بصيرة من أمر هم وبينه من ربهم. قوله تعالى: " والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما " قال الراغب في المفردات: قرت عينه تقر سرت قال، تعالى: " كى تقر عينها " وقيل لمن يسر به قرة عين قال: " قرة عين لي ولك " وقوله تعالى: " هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين " قيل: أصله من القرأي البرد فقرت عينه قيل: معناه بردت فصحت، وقيل: بل لان للسرور دمعة باردة قارة ولحزن دمعة حارة ولذلك يقال فيمن يدعي عليه: أسخن الله عينه، وقيل: هو من القرار والمعنى أعطاه الله ما يسكن به عينه فلا تطمح إلى غيره انتهى.

[ 245 ]

ومرادهم بكون أزواجهم وذرياتهم قرة أعين لهم أن يسروهم بطاعة الله والتجنب عن معصيته فلا حاجة لهم في غير ذلك ولا إربة وهم أهل حق لا يتبعون الهوى. وقوله: " واجعلنا للمتقين إماما " أي متسابقين إلى الخيرات سابقين إلى رحمتك فيتبعنا غيرنا من المتقين كما قال تعالى: " فاستبقوا الخيرات " البقرة: 148، وقال: " سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة " الحديد: 21، وقال: " والسابقون السابقون أولئك المقربون " الواقعة: 11. وكأن المراد أن يكونوا صفا واحدا متقدما على غيرهم من المتقين ولذا جئ بالامام بلفظ الافراد. وقال بعضهم: إن الامام مما يطلق على الواحد والجمع، وقيل: إن إمام جمع آم بمعنى القاصد كصيام جمع صائم، والمعنى: اجعلنا قاصدين للمتقين متقيدين بهم، وفي قراءة أهل البيت " واجعل لنا من المتقين إماما ". قوله تعالى: " اولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما " الغرفة - كما قيل - البناء فوق البناء فهو الدرجة العالية من البيت، وهي كناية عن الدرجة العالية في الجنة، والمراد بالصبر الصبر على طاعة الله وعن معصيته فهذان القسمان من الصبر هما المذكوران في الآيات السابقة لكن لا ينفك ذلك عن الصبر عند النوائب والشدائد. والمعنى: اولئك الموصوفون بما وصفوا يجزون الدرجة الرفيعة من الجنة يلقون فيها أي يتلقاهم الملائكة بالتحية وهو ما يقدم للانسان مما يسره وبالسلام وهو كل ما ليس فيه ما يخافه ويحذره، وفي تنكير التحية والسلام دلالة على التفخيم والتعظيم، والباقي ظاهر. قوله تعالى: " قل ما يعبؤبكم ربي لو لا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما " قال في المفردات: ما عبأت به أي لم أبال به، وأصله من العب ء أي الثقل كأنه قال: ما أرى له وزنا وقدرا، قال تعالى: " قل ما يعبؤبكم ربي لو لا دعاؤكم " وقيل: من عبأت الطيب كأنه قيل: ما يبقيكم لو لا دعاؤكم. انتهى. قيل: " دعاؤكم من إضافة المصدر إلى المفعول وفاعله ضمير راجع إلى " ربي "

[ 246 ]

وعلى هذا فقوله: " فقد كذبتم " من تفريع السبب على المسبب بمعنى انكشافه بمسببه، وقوله: " فسوف يكون لزاما " أي سوف يكون تكذيبكم ملازما لكم أشد الملازمة فتجزون بشقاء لازم وعذاب دائم. والمعنى: قل لا قدر ولا منزلة لكم عند ربي فوجودكم وعدمكم عنده سواء لانكم كذبتم فلا خير يرجي فيكم فسوف يكون هذا التكذيب ملازما لكم أشد الملازمة، إلا أن الله يدعوكم ليتم الحجة عليكم أو يدعوكم لعلكم ترجعون عن تكذيبكم. وهذا معنى حسن. وقيل: " دعاؤكم " من إضافة المصدر إلى الفاعل، والمراد به عبادتهم لله سبحانه والمعنى: ما يبالي بكم ربي أو ما يبقيكم ربي لو لا عبادتكم له. وفيه أن هذا المعنى لا يلائم تفرع قوله: " فقد كذبتم " عليه وكان عليه من حق الكلام أن يقال: وقد كذبتم ! على أن المصدر المضاف إلى فاعله يدل على تحقق الفعل منه وتلبسه به وهم غير متلبسين بدعائه وعبادته تعالى فكان من حق الكلام على هذا التقدير أن يقال لو لا أن تدعوه فافهم. والآية خاتمة السورة وتنعطف إلى غرض السورة ومحصل القول فيه وهو الكلام على اعتراض المشركين على الرسول وعلى القرآن النازل عليه وتكذيبهما. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: " الذين يمشون على الارض هونا " قال أبو عبد الله عليه السلام: هو الرجل يمشي بسجيته التي جبل عليها لا يتكلف ولا يتبختر. وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: " إن عذابها كان غراما " قال: الدائم. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " إن عذابها كان غراما " يقول: ملازما لا ينفك. وقوله عزوجل: " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا " الاسراف الانفاق في المعصية في غير حق " ولم يقتروا " لم يبخلوا

[ 247 ]

في حق الله عزوجل " وكان بين ذلك قواما " القوام العدل والانفاق فيما أمر الله به. وفي الكافي: أحمد بن محمد بن علي عن محمد بن سنان عن أبي الحسن عليه السلام في قول الله عزوجل: " وكان بين ذلك قواما " قال: القوام هو المعروف على الموسع قدره وعلى المقتر قدره على قدر عياله ومؤنتهم التي هي صلاح له ولهم لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها. وفي المجمع روي عن معاذ أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه السلام عن ذلك فقال: من أعطى في غير حق فقد أسرف، ومن منع من حق فقد قتر. أقول: والاخبار في هذه المعاني كثيرة جدا. وفي الدر المنثور أخرج الفاريابي وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن ابن مسعود قال: سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أي الذنب أكبر ؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قلت: ثم أي ؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي ؟ قال: أن تزاني حليلة جارك فأنزل الله تصديق ذلك " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ". أقول: لعل المراد الانطباق دون سبب النزول. وفيه أخرج عبد بن حميد عن علي بن الحسين " يبدل الله سيئاتهم حسنات " قال: في الآخرة، وقال الحسن: في الدنيا. وفيه أخرج أحمد وهناد ومسلم والترمذي وابن جرير والبيهقي في الاسماء والصفات عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه فتعرض عليه صغارها وينحى عنه كبارها فيقال: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وهو مقر ليس ينكر وهو مشفق من الكبار أن تجئ فيقال: أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة. أقول: هو من أخبارت بديل السيئات حسنات يوم القيامة وهي كثيرة مستفيضة من طرق أهل السنة والشيعة مروية عن النبي والباقر والصادق والرضا عليه وعليهم الصلاة والسلام.

[ 248 ]

وفي روضة الواعظين قال ص: ما جلس قوم يذكرون الله إلا نادى بهم مناد من السماء قوموا فقد بدل الله سيئاتكم حسنات وغفر لكم جميعا. وفي الكافي بإسناده عن أبي الصباح عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله عزوجل: " لا يشهدون الزور " قال: الغناء. أقول: وفي المجمع أنه مروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام ورواه القمي مسندا ومرسلا. وفي العيون بإسناده إلى محمد بن أبي عباد وكان مشتهرا بالسماع ويشرب النبيذ قال: سألت الرضا علليه السلام عن السماع فقال: لاهل الحجاز رأى فيه وهو في حيز الباطل واللهو أما سمعت الله عزوجل يقول: " وأذا مروا باللغو مروا كراما ". وفي روضة الكافي بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل: " والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا " قال: مستبصرين ليسوا بشكاك. وفي جوامع الجامع عن الصادق عليه السلام في قوله: " واجعلنا للمتقين إماما " قال: إيانا عني. أقول: وهناك عدة روايات في هذا المعنى وأخرى تتضمن قراءتهم عليهم السلام: " واجعلنا من المتقين إماما ". وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن أبي جعفر في قوله: " أولئك يجزون الغرفة بما صبروا " قال: على الفقر في الدنيا. وفي المجمع روى العياشي بإسناده عن بريد بن معاوية العجلي قال: قلت لابي جعفر عليه السلام: كثرة القراءة أفضل أو كثرة الدعاء ؟ قال: كثرة الدعاء أفضل وقرأ هذه الآية. أقول: وفي انطباق الآية على ما في الرواية إبهام. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله عزوجل: " قل ما يعبؤبكم ربي لو لا دعاؤكم " يقول: ما يفعل ربي بكم فقد كذبتم فسوف يكون الزاما.

[ 249 ]

(سورة الشعراء مكية، وهي مائتان وسبع وعشرون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. طسم - 1. تلك آيات الكتاب المبين - 2. لك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين - 3. إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين - 4. وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنها معرضين - 5. فقد كذبوا فسيأتيهم أنبؤ ما كانوا به يستهزؤن - 6. أو لم يروا إلى الارض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم - 7. إن في ذلك الآية وما كان أكثرهم مؤمنين - 8. وإن ربك لهو العزيز الرحيم - 9. (بيان) غرض السورة تسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبال ما كذبه قومه وكذبوا بكتابه النازل عليه من ربه - على ما يلوح إليه صدر السورة: تلك آيات الكتاب المبين - وقد رموه تارة بأنه مجنون وأخرى بأنه شاعر، وفيها تهديدهم مشفعا ذلك بإيراد قصص جمع من الانبياء وهم موسى وإبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب ع وما انتهت إليه عاقبة تكذيبهم لتتسلى به نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يحزن بتكذيب أكثر قومه وليعتبر المكذبون.

[ 250 ]

والسورة من عتائق السورة المكية وأوائلها نزولا واشتملت على قوله تعالى: " وأنذر عشيرتك الاقربين ". وربما أمكن أن يستفاد من وقوع هذه الآية في هذه السورة ووقوع قوله: " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين " في سورة الحجر وقياس مضمونيهما كل مع الاخرى أن هذه السورة أقدم نزولا من سورة الحجر وظاهر سياق آيات السورة أنها جميعا مكية واستثنى بعضهم الآيات الخمس التي في آخرها، وبعض آخر قوله: " أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل " وسيجئ الكلام فيهما. قوله تعالى: " طسم تلك آيات الكتاب المبين " الاشارة بتلك إلى آيات الكتاب مما سينزل بنزول السورة ومنزل قبل، وتخصيصها بالاشارة البعيدة للدلالة على علو قدرها ورفعة مكانتها، والمبين من أبان بمعنى ظهر وانجلى. والمعنى: تلك الآيات العالية قدرا الرفيعة مكانا آيات الكتاب الظاهر الجلي كونه من عند الله سبحانه بما فيه من سمة الاعجاز وإن كذب به هؤلاء المشركون المعاندون ورموه تارة بأنه من إلقاء شياطين الجن وأخرى بأنه من الشعر. قوله تعالى: " لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين " البخوع هو إهلاك النفس عن وجد، وقوله: " ألا يكونوا مؤمنين " تعليل للبخوع، والمعنى: يرجي منك أن تهلك نفسك بسبب عدم إيمانهم بآيات هذا الكتاب النازل عليك. والكلام مسوق سوق الانكار والغرض منه تسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: " إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين " تعلق المشية محذوف لدلالة الجزاء عليه، وقولة " فظلت " الخ، ظل فعل ناقص اسمه " أعناقهم " وخبره " خاضعين " ونسب الخضوع إلى أعناقهم وهو وصفهم أنفسهم لان الخضوع أول ما يظهر في عنق الانسان حيث يطأطئ رأسه تخضعافهو من المجاز العقلي. والمعنى: إن نشأ أن ننزل عليهم آية تخضعهم وتلجئهم إلى القبول وتضطرهم إلى الايمان ننزل عليهم آية كذلك فظلوا خاضعين لها خضوعا بينا بانحناء أعناقهم. وقيل: المراد بالاعناق الجماعات وقيل: الرؤساء والمقدمون منهم، وقيل:

[ 251 ]

هو على تقدير مضاف والتقدير فضلت أصحاب أعناقهم خاضعين ها. وهو أسخف الوجوه. قوله تعالى: " وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين " بيان لاستمرارهم على تكذيب آيات الله وتمكن الاعراض عن ذكر الله في نفوسهم بحيث كلما تجدد عليهم ذكر من الرحمن ودعوا إليه دفعه بالاعراض. فالغرض بيان استمرارهم على الاعراض عن كل ذكر أتاهم لا أنهم يعرضون عن محدث الذكر ويقبلون إلى قديمه وفي ذكر صفة الرحمن إشارة إلى أن الذكر الذي يأتيهم إنما ينشأ عن صفة الرحمة العامة التي بها صلاح دنياهم وأخراهم. وقد تقدم في تفسير أول سورة الانبياء كلام في معنى الذكر المحدث فراجع. قوله تعالى: " فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن " تفريع على ما تقدم من استمرار إعراضهم، وقوله: " فسيأتيهم " الخ تفريع على التفريع والانباء جمع نبأ وهو الخبر الخطير، والمعنى لما استمر منهم الاعراض عن كل ذكر يأتيهم تحقق منهم وثبت عليهم أنهم كذبوا، وإذ تحقق منهم التكذيب فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن من آيات الله، وتلك الانباء العقوبات العاجلة والآجلة التي ستحيق بهم. قوله تعالى: " أو لم يروا إلى الارض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم " الاستفهام للانكار التوبيخي والجملة معطوف على مقدر يدل عليه المقام والتقدير أصروا واستمروا على الاعراض وكذبوا بالآيات ولم ينظروا إلى هذه الازواج الكريمة من النباتات التي أنبتناها في الارض. فالرؤية في قوله: " أو لم يروا " مضمنة معنى النظر ولذا عديت بإلى، والظاهر أن المراد بالزوج الكريم. وهو الحسن على ما قيل: النوع من النبات وقد خلق الله سبحانه أنواعه أزواجا، وقيل: المراد بالزوج الكريم الذي أنبته الله يعم الحيوان وخاصة الانسان بدليل قوله: " والله أنبتكم من الارض نباتا ". قوله تعالى: " إن في ذلك الآية وما كان أكثرهم مؤمنين " الاشارة بذلك إلى ما ذكر في الآية السابقة من إنبات كل زوج كريم حيث أن فيه إيجادا لكل زوج منه وتتميم نقائص كل من الزوجين بالآخر وسوقهما إلى الغاية المقصودة من وجودهما

[ 252 ]

وفيه هداية كل إلى سعادته الاخيرة ومن كانت هذه سنته فكيف يهمل أمر الانسان ولا يهديه إلى سعادته ولا يدعوه إلى ما فيه خير دنياه وآخرته. هذا ما تدل عليه آية النبات. وقوله: " وما كان أكثرهم مؤمنين " أي لم يكن المترقب من حال أكثرهم بما عندهم من ملكة الاعراض وبطلان الاستعداد أن يؤمنوا فظاهر الآية نظير ظاهر قوله: " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل " يونس: 74. وتعليل الكفر والفسوق برسوخ الملكات الرذيله واستحكام الفساد في السريرة من قبل في كلامه تعالى أكثر من أن تحصي. ومن هنا يظهر أن قول بعضهم: إن المراد ما كان في علم الله أن لا يؤمنوا غير سديد لانه مضافا إلى كونه خلاف المتبادر من الجملة، مما لا دليل على أنه المراد من اللفظ بل الدليل على خلافه السبق الدلالة على أن ملكة الاعراض راسخة لم تزل في نفوسهم. وعن سيبويه أن " كان " في قوله: " وما كان أكثرهم مؤمنين " صلة زائدة والمعنى: وما أكثرهم مؤمنين. وفيه أنه معنى صحيح في نفسه لكن المقام بما تقدم من المعنى أوفق. قوله تعالى: " وإن ربك لهو العزيز الرحيم " فهو تعالى لكونه عزيزا غير مغلوب يأخذ المعرضين عن ذكره المكذبين الآياته المستهزئين بها ويجازيهم بالعقوبات العاجلة والآجلة، ولكونه رحيما ينزل عليهم الذكر ليهديهم ويغفر للمؤمنين به ويمهل الكافرين. (بحث عقلي متعلق بالعلم) قال في روح المعاني في قوله تعالى: " وما كان أكثرهم مؤمنين " قيل: أي وما كان في علم الله تعالى ذلك، واعترض - بناء على أنه يفهم من السياق العليم بأن علمه تعالى ليس علة لعدم إيمانهم لان العلم تابع للمعلوم لا بالعكس.

[ 253 ]

ورد بأن معنى كون علمه تعالى تابعا للمعلوم أن علمه سبحانه في الازل بمعلوم معين حادث تابع لماهيته بمعنى أن خصوصية العلم وامتيازه عن سائر العلوم باعتبار أنه علم بهذه الماهية، وأما وجود الماهية فيما لا يزال فتابع لعلمه تعالى الازلي التابع الماهيته بمعنى أنه تعالى لما علمها في الازل على هذه الخصوصية لزم أن يتحقق ويوجد فيما لا يزال كذلك فنفس موتهم على الكفر وعدم إيمانهم متبوع لعلم الازلي ووقوعه تابع له. انتهى. وهذه حجة كثيرة الورود في كلام المجبرة وخاصة الامام الرازي في تفسيره الكبير يستدلون بها على إثبات الجبرو نفي الاختيار ومحصلها أن الحوادث ومنها أفعال الانسان معلومة لله سبحانه في الازل فهي ضرورية الوقوع وإلا كان علمه جهلا - تعالى عن ذلك - فالانسان مجبر عليها غير مختار. واعترض عليه بأن العلم تابع للمعلوم لا بالعكس وأجيب بما ذكره من أن علمه في الازل تابع الماهية المعلوم لكن المعلوم تابع في وجوده للعلم. والحجة مضافا إلى فساد مقدماتها بناء ومبنى مغالطة بينة. ففيها أولا أن فرض ثبوت ما للماهية في الازل ووجودها فيها لا يزال يقضي بتقدم الماهية على الوجود وأني للماهية هذه الاصالة والتقدم ؟ وثانيا: أن مبنى الحجة وكذا الاعتراض والجواب على كون علمه تعالى بالاشياء علما حصوليا نظير علومنا الحصولية المتعلقة بالمفاهيم وقد أقيم البرهان في محله على بطلانه وأن الاشياء معلومة له تعالى علما حضوريا وعلمه علمان: علم حضوري بالاشياء قبل الايجاد وهو عين الذات وعلم حضوري بها بعد الايجاد وهو عين وجود الاشياء. وتفصيل الكلام في محله. وثالثا: أن العلم الازلي بمعلومه فيما لا يزال إنما يكون علما بحقيقة معنى العلم إذا تعلق به على ما هو عليه أي بجميع قيوده ومشخصته وخصوصياته الوجودية، ومن خصوصيات وجود الفعل أنه حركات خاصة إرادية إختيارية صادرة عن فاعله الخاص مخالفة لسائر الحركات الاضطرارية القائمة بوجوده. وإذا كان كذلك كانت الضرورة اللاحقة للفعل من جهة تعلق العلم به صفة

[ 254 ]

للفعل الخاص الاختياري بما هو فعل خاص اختياري لا صفة للفعل المطلق إذ لا وجود له أي كان من الواجب أن يصدر الفعل عن إرادة فاعله واختياره وإلا تخلف المعلوم عن العلم لا أن يتعلق العلم بالفعل الاختياري ثم يدفع صفة الاختيار عن متعلقه ويقيم مقامها صفة الضرورة والاجبار. فقد وضع في الحجة الفعل المطلق مكان الفعل الخاص فعد ضروريا مع أن الضروري تحقق الفعل بوصف الاختيار نظير الممكن بالذات الواجب بالغير ففي الحجة مغالطة بالخلط بين الفعل المطلق والفعل المقيد بالاختيار. ومن هنا يتبين عدم استقامة تعليل ضرورة عدم إيمانهم بتعلق العلم الازلي به فإن تعلق العلم الازلي بفعل إنما يوجب ضرورة وقوعه بالوصف الذي هو عليه فإن كان اختياريا وجب تحققه اختياريا وإن كان غير اختياري وجب تحققه كذلك. على أنه لو كان معنى قوله: " وما كان أكثرهم مؤمنين " امتناع إيمانهم التعلق العلم الازلي بعدمه لا تخذوه حجة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدوه عذرا لانفسهم في استنكافهم عن الايمان كما اعترف به بعض المجبرة. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين " حدثني أبي ابن أبي عمير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: تخضع رقابهم يعني بنى أمية - وهي الصيحة من السماء باسم صاحب الامر. أقول: وهذا المعنى رواه الكليني في روضة الكافي والصدوق في كمال الدين والمفيد في الارشاد والشيخ في الغيبة، والظاهر أنه من قبيل الجري دون التفسير لعدم مساعدة سياق الآية عليه. * * * وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين - 10. قوم

[ 255 ]

فرعون ألا يتقون - 11. قال رب إني أخاف أن يكذبون - 12. ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هرون - 13. ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون - 14. قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون - 15. فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين - 16. أن أرسل معنا بني إسرائيل - 17. قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين - 18. وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين - 19. قال فعلتها إذا وأنا من الضالين - 20. ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين - 21. وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل - 22. قال فرعون وما رب العالمين - 23. قال رب السموات والارض وما بينهما إن كنتم موقنين - 24. قال لمن حوله ألا تستمعون - 25. قال ربكم ورب آبائكم الاولين - 26. قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون - 27. قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون - 28. قال لئن اتخذت إلها غيري لا جعلنك من المسجونين - 29. قال أو لو جئتك بشئ مبين - 30. قال فأت به إن كنت من الصادقين - 31. فألقى عصاه فإذا هي ثعبان بين - 32. ونزع يده فإذا هي بيضاء

[ 256 ]

للناظرين - 33. قال للملا حوله إن هذا لساحر عليم - 34. يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون - 35. قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين - 36. يأتوك بكل سحار عليم - 37. فجمع السحرة لميقات يوم معلوم - 38. وقيل للناس هل أنتم مجتمعون - 39. لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين - 40. فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لاجرا إن كنا نحن الغالبين - 41. قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين - 42. قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون - 43. فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون - 44. فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون - 45. فألقي السحرة ساجدين - 46. قالوا آمنا برب العالمين - 47. رب موسى وهرون - 48. قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولا صلبنكم أجمعين - 49. قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون - 50. إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين - 51. وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون - 52. فأرسل فرعون في المدائن حاشرين - 53. - إن هؤلاء لشرذمة قليلون - 54. وإنهم لنا

[ 257 ]

لغائظون - 55. وإنا لجميع حاذرون - 56. فأخرجناهم من جنات وعيون - 57. وكنوز ومقام كريم - 58. كذلك وأورثناها بني إسرائيل - 59. فأتبعوهم مشرقين - 60. فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون - 61. قال كلا إن معي ربي سيهدين - 62. فأوحينا إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم - 63. وأزلفنا ثم الآخرين - 64. وأنجينا موسى ومن معه أجمعين - 65. ثم أغرقنا الآخرين - 66. إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين - 67. وإن ربك لهو العزيز الرحيم - 68. (بيان) شروع في ذكر قصص عدة من أقوام الانبياء الماضين موسى وهارون وإبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام ليظهر أن قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم سائرون مسيرهم وسيردون موردهم، لا يؤمن أكثرهم فيؤاخذهم الله تعالى بعقوبة العاجل والآجل، والدليل على ذلك ختم كل واحدة من القصص بقوله: " وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم " كما ختم به الكلام الحاكي لاعراض قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أول السورة، وليس ذلك إلا لتطبيق القصة على القصة. كل ذلك ليتسلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يضيق صدره ويعلم أنه ليس بدعا من الرسل ولا المتوقع من قومه غير ما عامل به الامم الماضون رسلهم، وفيه تهديد ضمني لقومه

[ 258 ]

ويؤيده تصدير قصة إبراهيم عليه السلام بقوله: " واتل عليهم نبأ إبراهيم ". قوله تعالى: " وإذ نادي ربك موسى - إلى قوله - ألا يتقون " أي واذكر وقتا نادى فيه ربك موسى وبعثه الرسالة إلى قوم فرعون لانجاء بني إسرائيل على ما فصله في سورة طه وغيرها. وقوله: " أن ائت القوم الظالمين " نوع تفسير للنداء، وتوصيفهم أولا بالظالمين ثم بيانه ثانيا بقوم فرعون للاشارة إلى حكمة الارسال وهي ظلمهم بالشرك وتعذيب بني إسرائيل كما في سورة طه من قوله: " إذهبا إلى فرعون إنه طغى - إلى أن قال - فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم " طه: 47. وقوله: " ألا يتقون " بصيغة الغيبة، وهو توبيخ غيابي منه تعالى لهم وإيراده في مقام عقد الرسالة لموسى عليه السلام في معنى قولنا: قل لهم إن ربي يوبخكم على ترك التقوى ويقول: ألا تتقون. قوله تعالى: " قال رب إني أخاف أن يكذبون - إلى قوله - فأرسل إلى هارون "، قال في مجمع البيان: الخوف انزعاج النفس بتوقع الضر ونقيضه الامن وهو سكون النفس إلى خلوص النفع، انتهى. وأكثر ما يطلق الخوف على إحساس الشر بحيث يؤدي إلى الاتقاء عملا وإن لم تضطرب النفس، والخشية على تأثر النفس من توقع الشر بحيث يورث الاضطراب والقلق، ولذا نفى الله الخشية من غيره عن أنبيائه وربما أثبت الخوف فقال: " ولا يخشون أحدا إلا الله " الاحزاب: 39، وقال: " وإما تخافن منهم خيانة " الانفال: 58. وقوله: " إني أخاف أن يكذبون " أي ينسبني قوم فرعون إلى الكذب، وقوله: " ويضيق صدري ولا ينطلق لساني " الفعلان مرفوعان وهما معطوفان على قوله: " أخاف " فالذي اعتل به أمور ثلاثة: خوف التكذيب وضيق الصدر وعدم انطلاق اللسان، وفي قراءة يعقوب وغيره يضيق وينطلق بالنصب عطفا على " يكذبون " وهو أوفق بطبع المعنى، وعليه فالعلة واحدة وهي خوف التكذيب الذي يترتب عليه ضيق الصدر وعدم انطلاق اللسان. ويطابق ما سيجئ من آية القصص من ذكر علة واحدة هي خوف التكذيب

[ 259 ]

وقوله: " فأرسل إلى هارون " أي أرسل ملك الوحي إلى هارون ليكون معينا لى على تبليغ الرسالة يقال لمن نزلت به نائبة أو أشكل عليه أمر: أرسل إلى فلان أي استمد منه واتخذه عونا لك. فالجملة أعني قوله: " فأرسل إلى هارون " متفرعة على قوله: " إني أخاف " الخ، وذكر خوف التكذيب مع ما معه من ضيق الصدرو عدم انطلاق اللسان توطئة وتقدمة لذكرها وسؤال موهبة الرسالة لهارون. وإنما اعتل بما اعتل به وسأل الرسالة لاخيه ليكون شريكا له في أمره، معينا مصدقا له في التبليع لا فرارا عن تحمل أعباء الرسالة، واستعفاء منها، قال في روح المعاني: ومن الدليل على أن المعنى على ذلك لا أنه تعلل وقوع " فأرسل " بين الاوائل وبين الرابعة أعني قوله: " ولهم علي ذنب " الخ، فآذن بتعلقه بها ولو كان تعللا لآخر، انتهى. وهو حسن وأوضح منه قوله تعالى في سورة القصص في القصة: " قال رب إني تلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون، وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون " القصص: 34. قوله تعالى: " ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون " قال الراغب في المفردات: الذنب في الاصل الاخذ بذنب الشئ يقال: ذنبته أصبت ذنبه، ويستعمل في كل فعل يستوخم عقباه اعتبارا لما يحصل من عاقبته. انتهى. وفي الآية إشارة إلى قصة قتله عليه السلام، وكونه ذنبا لهم عليه إنما هو بالبناء على اعتقادهم أو الاعتبار بمعناه اللغوي المذكور آنفا، وأما كونه ذنبا بمعنى معصية الله تعالى فلا دليل عليه وسيوافيك فيه كلام عند تفسير سورة القصص إن شاء لله تعالى. قوله تعالى: " قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون " كلا للردع وهو متعلق بما ذكره من خوف القتل، ففيه تأمين له وتطييب لنفسه أنهم لا يصلون إليه، وأما سؤاله الارسال إلى هارون فلم يذكر ما أجيب به عنه، غير أن قوله: " فاذهبا بآياتنا " دليل على إجابة مسؤله. وقوله: " فاذهبا بآياتنا " متفرع على الردع فيفيد أن اذهبا إليه بآياتنا ولا تخافا،

[ 260 ]

وقد علل ذلك بقوله: " إنا معكم مستمعون " والمراد بضمير الجمع موسى وهارون والقوم الذين أرسلا إليهم، ولا يعبؤ بقول من قال: إن المراد به موسى وهارون بناء على كون أقل الجمع اثنين فإنه مع فساده في أصله لا تساعد عليه ضمائر التثنية قبله وبعده كما قيل. والاستماع هو الاصغاء إلى الكلام والحديث وهو كناية عن الحضور وكمال العناية بما يجري بينهما وبين فرعون وقومه عند تبليغ الرسالة كما قال في القصة من سورة طه: " لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى " طه: 46. ومحصل المعنى: كلا لا يقدرون على قتلك فاذهبا إليهم بآياتنا ولا تخافا إنا حاضرون عند كم شاهدون عليكم معتنون بما يجري بينكم. قوله تعالى: " فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل " بيان لقوله في الآية السابقة: " فاذهبا إليهم بآياتنا ". وقوله: " فقولا إنا رسول رب العالمين " تفريع على إتيان فرعون، والتعبير بالرسول بلفظ المفرد إما بإعتبار كل واحد منهما أو باعتبار كون رسالتا واحدة وهي قولهما: " أن أرسل " الخ، أو بإعتبار أن الرسول مصدر في الاصل فالاصل أن يستوي فيه الواحد والجمع، والتقدير إنا ذوا رسول رب العالمين أي ذوا رسالته كما قيل. وقوله: " أن أرسل معنا بني إسرائيل " تفسير للرسالة المفهومة من السياق والمراد بإرسالهم إطلاقهم لكن لما كان المطلوب أن يعودوا إلى الارض المقدسة التي كتب الله لهم وهي أرض آبائهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب ع سمي إطلاقهم ليعودوا إليها إرسالا منه لهم إليها. قوله تعالى: " قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين " الاستفهام للانكار التوبيخي، و " نربك " من التربية، والوليد الصبي. لما أقبل فرعون على موسى وهارون وسمع كلامهما عرف موسى وخصه بالخطاب قائلا ألم نربك الخ، ومراده الاعتراض عليه أولا من جهة دعواه الرسالة يقول: أنت الذي ربيناك وأنت وليدو لبثت فينا من عمرك سنين عديدة نعرفك باسمك ونعتك ولم ننس شيئا من أحوالك فمن أين لك هذه الرسالة وأنت من نعرفك ولا نجهل أصلك ؟

[ 261 ]

قوله تعالى: " وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين " الفعلة بفتح الفاء بناء مرة من الفعل، وتوصيف الفعلة بقوله: " التي فعلت " للدلالة على عظم خطره وكثرة شناعته وفظاعته نظير ما في قوله: " فغشيهم من اليم ما غشيهم " طه: 78، ومراده بهذه الفعلة قتله عليه السلام القبطي. وقوله: " وأنت من الكافرين " ظاهر السياق على ما سيأتي الاشارة إليه أن مراده بالكفر كفران النعمة وأن قتله القبطي وفساده في أرضه كفران لنعمته عليه بالخصوص بما له عنده من الصنيعة حيث كف عن قتله كسائر المواليد من بني إسرائيل ورباه في بيته بل لانه من بني إسرائيل وهو يراهم عبيدا لنفسه ويرى نفسه ربا منعما عليهم فقتل الواحد منهم رجلا من قومه وإفساده في الارض خروج من طور العبودية وكفر بنعمته. فمحصل اعتراضه المشار إليه في الآيتين أنك الذي ربيناك صبيا صغيرا ولبثت فينا من عمرك سنين، وأفسدت في الارض بقتل النفس فكفرت بنعمتي وأنت من عبيدي الاسرائيليين فمن أين جاءتك هذه الرسالة ؟ وكيف تكون رسولا وأنت هذا الذي نعرفك ؟. وبذلك يظهر عدم إستقامة تفسير بعضهم الكفر بالكفر المقابل للايمان، وأن المعنى وأنت من الكافرين بالوهيتي أو أنت من الكافرين بالله على زعمك حيث خالطتنا سنين وأنت في ملتنا، وكذا قول بعضهم: إن المراد وأنت من الكافرين بنعمتي عليك خاصة. قوله تعالى: " قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بني إسرائيل " ضمير " فعلتها " راجع إلى الفعلة، والظاهر أن " إذا " مقطوع عن الجواب والجزاء ويفيد معنى حينئذ كما قيل، وعبده تعبيدا وأعبده إعبادا إذا اتخذه عبد النفسه. والآيات الثلاث جواب موسى عليه السلام عما اعترض به فرعون، والتطبيق بين جوابه ع وما اعتراض به فرعون يعطي أنه عليه السلام حلل كلام فرعون إلى القدح في دعواه الرسالة من ثلاثة أوجه: أحدها استغراب رسالته واستبعادها وهو الذي يعلم حاله

[ 262 ]

وقد أشار إليه بقوله: " ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين " والثاني استقباح فعلته ورميه بالافساد والجرم بقوله: " وفعلت فعلتك التي فعلت " والثالث المن عليه بأنه من عبيده ويستفاد ذلك من قوله: " وأنت من الكافرين " وقد اقتضى طبع ما يذكره في الجواب أن يغير الترتيب في الجواب فيجيب أولا عن اعتراضه الثاني ثم عن الاول ثم عن الثالث. فقوله: " فعلتها إذا وأنا من الضالين " جواب عن اعتراضه بقتل القبطي وقد استعظمه حيث لم يصرح باسمه بل كنى عنه بالفعلة التي فعلت صونا للاسماع أن تقرع باسمه فتتألم. والتدبر في متن الجواب ومقابلته الاعتراض يعطي أن قوله: " ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما " من تمام الجواب عن القتل فيتقابل الحكم والضلال ويتضح حينئذ أن المراد بالضلال الجهل المقابل للحكم والحكم إصابة النظر في حقيقة الامر وإتقان الرأي في تطبيق العمل عليه فيرجع معناه إلى القضاء الحق في حسن الفعل وقبحه وتطبيق العمل عليه، وهذا هو الذي كان يؤتاه الانبياء، قال تعالى: " وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ". فالمراد أني فعلتها حينئذ والحال أني في ضلال من الجهل بجهة المصلحة فيه والحق الذي يجب أن يتبع هناك فأقدمت على الدفاع عمن استنصرني ولم أعلم أنه يؤدي إلى قتل الرجل ويؤدي ذلك إلى عاقبة وخيمة تحوجني إلى خروجي من مصر وفراري إلى مدين ولتغرب عن الوطن سنين. ومن هنا يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالضلال الجهل بمعنى الاقدام على الفعل من غير مبالاة العواقب كما في قوله: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا وكذا قول بعض آخر: إن المراد بالضلال المحبة كما فسر به قول بني يعقوب لابيهم: " تالله إنك في ضلالك القديم " أي في محبتك القديمة ليوسف، فالمعنى: فعلتها حينئذ وأنا من المحبين لله لا ألوي عن محبته إلى شئ. أما الوجه الاول ففيه أنه اعتراف بالجرم والمعصية، وآيات سورة القصص ناصة

[ 263 ]

على أن الله سبحانه آتاه حكما علما قبل واقعة القتل وهذا لا يجامع الضلال بهذا المعنى من الجهل. وأما الوجه الثاني ففيه مضافا إلى عدم مساعدة السياق: أن من الممتنع من أدب القرآن أن يسمي محبة الله سبحانه ضلالا. وأما قول: القائل إن المراد بالضلال الجهل بمعنى عدم التعمد وأنه إنما فعل ذلك جاهلا به غير متعمد إياه فإنه عليه السلام إنما تعمد وكز القبطي للتأديب فأدي إلى ما أدي. وكذا قول القائل: إن المراد بالضلال الجهل بالشرائع كما فسر به بعضهم قوله: " ووجدك ضالا فهدى ". وكذا قول القائل: إن المراد بالضلال النسيان كما فسر به قوله تعالى: " أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى " البقرة: 282. وأن المعنى فعلتها ناسيا حرمتها أو ناسيا أن الوكز مما يفضي إلى القتل عادة. فوجوه يمكن أن يوجه كل منها بما يرجع به إلى ما قدمناه. وقوله: " ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما " متفرع على قصة القتل، والسبب في خوفه وفراره ما أخبر الله به في سورة القصص بقوله: " وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب " القصص: 21. وأما الحكم فالمراد به - كما استظهرناه - إصابة النظر في حقيقة الامر وإتقان الرأي في العمل به. فإن قلت: صريح الآية أن موهبة الحكم كانت بعد واقعة القتل ومفاد آيات سورة القصص أنه عليه السلام أعطي الحكم قبلها، قال تعالى: " ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين، ودخل المدينة " الخ، القصص: 15، ثم ساق القصة وذكر القتل والفرار. قلت: إنما ورد لفظ الحكم ههنا وفي سورة القصص منكرا وهو مشعر بمغايرة كل منهما الآخر وقد ورد في خصوص التوراة أنها متضمنة للحكم، قال تعالى:

[ 264 ]

" وعندهم التوراة فيها حكم الله " المائدة: 43، وقد نزلت التوراة بعد غرق فرعون وإنجاء بني إسرائيل. فمن الممكن أن يقال: إن موسى عليه السلام أعطي مراتب من الحكم بعضها فوق بعض قبل قتل القبطي وبعد الفرار قبل العود إلى مصر وبعد غرق فرعون، وقد خصه الله في كل مرة بمرتبة من الحكم حتى تمت له الحكمة بنزول التوراة، وهذا بحسب التمثيل نظير ما يرزق بعض الناس أو ان صباه سلامة في فطرته قلما يميل معها طبعه إلى الشر والفساد ثم إذا نشأ يعطي اعتدالا في التعقل وجودة في التدبير فينبعث إلى اكتساب الفضائل فيرزق ملكة التقوى والصفات الثلاث في الحقيقة سنخ واحد ينمو ويزيد حالا بعد حال. ويظهر بما تقدم عدم استقامة تفسير بعضهم الحكم بالنبوة لعدم دليل عليه من جهة اللفظ ولا المقام. على أن الله سبحانه ذكر الحكم والنبوة في مواضع من كلامه وفرق بينهما كقوله: " أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة " آل عمران: 79، وقوله: " أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة " الانعام: 89، وقوله: " ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة " الجاثية: 16 إلى غير ذلك. وقوله: " وجعلني من المرسلين " جواب عن الاعتراض الاول وهو استغراب رسالته واستبعادها وهم يعرفونه، وقد شاهدوا أحواله حينما كانوا يربونه فيهم وليدا ولبث فيهم من عمره سنين، وتقريره أن استغرابهم واستبعادهم رسالته استنادا إلى سابق معرفتهم بحاله إنما يستقيم لو كانت الرسالة أمرا اكتسابيا يمكن أن يحدس به أو يتوقع حصوله بحصول مقدماته الا ختيارية، وليس الامر كذلك بل هي أمر وهبي لا تأثير للاسباب العادية فيها وقد جعله الله من المرسلين كما وهب له الحكم بغير اكتساب هذا ما يعطيه التدبر في السياق. وأما ما ذكروه من أن قوله: " ألم نربك فينا وليدا " الخ، مسوق للمن على موسى عليه السلام دون الاستغراب والاستبعاد كما ذكرناه، فالآية في نفسها وإن لم تأب الحمل على ذلك لكن سياق مجموع الجواب لا يساعد عليه، وذلك أن فيه إفساد السياق

[ 265 ]

من حيث يتعين أن يجعل قوله: " وتلك نعمة تمنها علي " الخ، جوابا عن المن وهو لا ينطبق عليه، ويجعل قوله: " فعلتها إذا " الخ، جوابا عن الاعتراض بالقتل، ويبقى قوله: " وجعلني من المرسلين " فضلا لا حاجة إليه فافهم ذلك. وقوله: " وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل " جواب عن منه عليه وتقريعه بأنه من عبيده وقد كفر نعمته وتقرير الجواب أن هذا الذي تعده نعمة وتقرعني بكفرانها سلطة ظلم وتغلب إذ عبدت بني إسرائيل والتعبيد ظلما وتغلبا ليس من النعمة في شئ. فالجملة استفهامية مسوقة للانكار و " أن عبدت بني إسرائيل " بيان لما أشير إليه بقوله: " تلك " والمحصل أن الذي تشير إليه بقولك: " وأنت من الكافرين " من أن لك على نعمة كفرتها إذ كنت ولي نعمتي وسائر بني إسرائيل - أو إذ كنت ولي نعمتنا معشر بني إسرائيل - ليس بحق إذ كونك وليا منعما ليس إلا استنادا إلى التعبيد، والعبيد ظلم والولاية المستندة إليه أيضا ظلم وحاشا أن يكون الظالم وليا منعما له على من عبده نعمة وإلا كان التعبيد نعمة وليس نعمة، ففي قوله: " أن عبدت بني إسرائيل " وضع السبب موضع المسبب. والقوم حللوا كلام فرعون: " ألم نربك " الخ، إلى اعتراضين - كما أشرنا إليه - المن عليه بتربيته وليدا وكفرانه النعمة وإفساده في الارض بقتل القبطي فأشكل عليهم الامر من جهتين - كما أشرنا إليه. إحداهما صيرورة قوله: " وجعلني من المرسلين " فضلا لا حاجة إليه في سوق الجواب. والثانية: عدم صلاحية قوله: " وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل " جوابا عن منه على موسى عليه السلام بتربيته في بيته وليدا. وقد ذكروا في توجيهه وجوها: منها: أنه مسوق للاعتراف بأن تربيته لموسى كانت نعمة عليه وإنكار أن يكون ترك استعباده نعمة وهمزة الانكار مقدرة فكأنه يقول: أو تلك نعمة تمنها علي أن

[ 266 ]

عبدت بني إسرائيل ولم تعبدني هذا، وأنت ترى أن فيه تقديرا لما لا دليل عليه من جهة اللفظ ولا إشارة. ومنها: أنه إنكار لاصل النعمة عليه لمكان تعبيده بني إسرائيل كأنه يقول: إن تربيتك لي ليست نعمة يمن بها علي لانك عبدت قومي فأحبطت به عملك فقوله: " أن عبدت " الخ في مقام التعليل للانكار هذا، وهذا الوجه وإن كان أقرب إلى الذهن من سابقة لكن هذا الجواب غير تام معنى فإن تعبيده لبني إسرائيل لا يغير حقيقة ما له من الصنيعة عند موسى في تربيته وليدا. ومنها: أن المعني أن هذه النعمة التي تمن بها علي من التربية إنما سببه ظلمك بني إسرائيل بتعبيدهم فاضطرت أمي لذلك أن ألقتني في أليم فأخذتني فربيتني فإذ كانت هذه التربية مسببة عن ظلمك بالتعبيد فليست بنعمة هذا والشأن في إستفادة هذا المعنى من لفظ الآية. ومنها: أن الذي رباني أمي وغيرها من بني إسرائيل حيث استعبدتهم فأمرتهم فربوني فليست هذه التربية نعمة منك تمنها علي لانتهائها إلى التعبيد ظلما هذا، وهذا الوجه أبعد من سابقة من لفظ الآية. ومنها: أن ذلك اعتراف منه عليه السلام بنعمة فرعون عليه والمعنى وتلك التربية نعمة منك تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل وتركت تعبيدي هذا وأنت خبير بأن لا دليل على ما قدره من قوله: وتركت تعبيدي. قوله تعالى: " قال فرعون وما رب العالمين - إلى قوله - من المسجونين " لما كلم فرعون موسى عليه السلام في معني رسالته قادحا فيها فتلقى الجواب بما كان فيه إفحامه أخذ يكلمه في خصوص مرسله وقد أخبره أن الذي أرسله هو رب العالمين فراجعه فيه واستوضحه بقوله: " وما رب العالمين " ؟ إلى تمام سبع آيات. واتضاح المراد منها يتوقف على تذكر أصول مذاهب الوثنية في أمر الربوبية وقد تقدمت الاشارة إليها في خلال الابحاث السابقة من هذا الكتاب كرارا. فهؤلاء يرون أن وجود الاشياء ينتهي إلى موجد واجب الوجود هو واحد لا شريك له في وجوب وجوده هو أجل من أن يحده حد في وجوده وأعظم من يحيط

[ 267 ]

به فهم أو يناله إدراك، ولذلك لا يجوز عبادته لان العبادة نوع توجه إلى المعبود والتوجه إدراك. ولذلك بعينه عدلوا عن عبادته والتقرب إليه إلى التقرب إلى أشياء من خلقه ذوي وجودات شريفة نورية أو نارية، هي مقربة إليه فانية فيه من الملائكة والجن والقديسين من البشر المتخلصين من ألواث المادة الفانين في اللاهوت الباقين بها ومنهم الملوك العظام أو بعضهم عند قدماء الوثنية وكان من جملتهم فرعون وموسى وبالجملة كانوا يعبدونهم بعبادة أصنامهم ليقربوهم إلى الله زلفي ويشفعوا لهم بمعني أن يفيضوا إليهم من الخير الذي يفيض عنهم كما في الملائكة أولا يصيبوهم بالشر الذي يترشح عنهم كما في الجن فإن كلا من هؤلاء المعبودين يرجع إليه تدبير أمر من أمور العالم الكلية كالحب والبغض والسلم والجرب والرفاهية وغيرها أو صقع من أصقاعه كالسماء والارض والانسان ونحوها. فهناك أرباب وآلهة يتصرف كل منهم في العالم الذي يرجع إليه تدبيره كإله عالم الارض وإله عالم السماء وهؤلاء هم الملائكة والجن وقديسون البشر، وإله عالم الآلهة وهو الله سبحانه فهو إله الآلهة ورب الارباب. إذا عرفت ما ذكرناه بان لك أن لا معنى صحيحا لقولنا: رب العالمين عند الوثنيين نظرا إلى أصولهم إذلو أريد به بعض هذه الموجودات الشريفة لممكنة بأعيانهم فهو رب عالم من عوالم الخلقة وهو العالم الذي يباشر التصرف فيه كعالم السماء وعالم الارض مثلا ولو أريد به الله سبحانه فهو رب عالم الارباب وإله عالم آلهة فقط دون جميع العالمين ولو اريد غير الطائفتين من الرب الواجب الوجود والارباب الممكنة الوجود فلا مصداق له معقولا. فقوله: " قال فرعون وما رب العالمين " سؤال منه عن حقيقة رب العالمين بيانه أن فرعون كان وثنيا يعبد الاصنام وهو مع ذلك يدعي الالوهية، أما عبادته الاصنام فلقوله تعالى: " ويذرك وآلهتك " الاعراف: 127، وأما دعواه الالوهية فللآية المذكورة ولقوله تعالى: " فقال أنا ربكم الاعلى " النازعات: 24. ولا منافاة عند الوثنية بين كون الشئ إلها ربا وبين كونه مربوب الرب آخر لان

[ 268 ]

الربوبية هو الاستقلال في تدبير شئ من العالم وهو لا ينافي الامكان والمربوبية لشئ آخر وكل رب عندهم مربوب الآخر إلا الله سبحانه فهو رب الارباب لا رب فوقه وإله الآلهة لا إله له. وكان الملك عند الوثنية ظهورا من اللاهوت في بعض النفوس البشرية بالسلطة ونفوذ الحكم فكان يعبد الملوك كما يعبد أرباب الاصنام وكذلك رؤساء البيوت في بيوتهم، وكان فرعون وثنيا يعبد الآلهة وهو ملك القبط يعبده قومه كسائر الآلهة. فلما سمع من موسى وهارون قولهما: " إنا رسول رب العالمين " تعجب منه إذ لم يعقل له معنى محصلا إذ لو أريد به الواجب وهو الله سبحانه فهو عنده رب عالم الارباب دون جميع العالمين ولو أريد به بعض الممكنات الشريفة من الآلهة كبعض الملائكة وغيرهم فهو أيضا عنده رب عالم من عوالم الخلقة دون جميع العالمين فما معنى رب العالمين. ولذلك قال: " وما رب العالمين " فسأل عن حقيقة الموصوف بهذه الصفة بما هو موصوف بهذه الصفة لم يسأل عن حقيقة لله سبحانه فإنه لوثنيتة كان معتقدا بوجوده مذعنا له وهو يرى كسائر الوثنيين أنه لا سبيل إلى إدراك حقيقتة كيف ؟ وهو أساس مذهبهم الذي يبنون عليه عبادة سائر الآلهة والارباب كما سمعت. وقوله: " قال رب السماوات والارض وما بينهما إن كنتم موقنين " جواب موسى عليه السلام عن سؤاله: " وما رب العالمين " وهو خبر لمبتدأ محذوف، ومحصل المعنى على ما يعطيه المطابقة بين السؤال والجواب: هو رب السماوات والارض وما بينهما التي تدل بوجود التدبير فيها وكونه تدبيرا واحد متصلا مرتبطا على أن لها مدبرا - ربا - واحدا على ما يراه الموقنون السالكون سبيل اليقين من البرهان والوجدان. وبتعبير آخر مرادى بالعالمين السماوات والارض وما بينهما التي تدل بالتدبير الواحد الذي فيها على أن لها ربا مدبرا واحدا، ومرادي برب العالمين ذلك الرب الواحد الذي تدل عليه وهذه دلالة يقينيه يجدها أهل اليقين الذين يتعاطون البرهان والوجدان. فإن قلت: لم يطلب فرعون من موسى عليه السلام إلا أن يعرفه ما هذا الذي يسميه

[ 269 ]

رب العالمين ؟ وما حقيقته ؟ لكونه غير معقول عنده فلم يسأل إلا التصور فما معنى قوله: " إن كنتم موقنين " واليقين علم تصديقي لا توقف للتصور عليه أصلا. على أنه عليه السلام لم يأت في جواب فرعون بشئ غير أنه وضع لفظ السماوات والارض وما بينهما موضع لفظ العالمين فكان تفسيرا للفظ الجمع بأسماء آحاده كتفسير الرجال بزيد وعمرو وبكر فلم يفد بالآخرة إلا التصور الاول ولا تأثير لليقين في ذلك. قلت: كون فرعون يسأله أن يصور له " رب العالمين " تصويرا مسلم لا شك فيه لكن موسى بدل القول بوضع " السماوات والارض وما بينهما " مكان العالمين وهو يدل على إرتباط بعض الاجزاء ببعض والاتصال بينها بحيث يؤدي إلى وحدة التدبير الواقع فيها والنظام الجاري عليها ثم قيده بقوله: " إن كنتم موقنين " ليدل على أن أهل اليقين يصدقون من ذلك بوجود مدبر واحد لجميع العالمين. فكأنه قيل له: ما تريد برب العالمين ؟ فقال: أريد به ما يريده أهل اليقين إذ يستدلون بإرتباط التدبير وإتصاله في عوالم السماوات والارض وما بينهما على أن لجميع هذه العوالم مدبرا واحدا وربا لا شريك له في ربوبيته لها وإذ كانوا يصدقون بوجود رب واحد للعالمين فهم يتصورونه بوجه تصورا إذ لا معنى للتصديق بلا تصور. وبعبارة موجزة: رب العالمين هو الذي يوقن الموقنون بربوبيته لجميع السماوات والارض وما بينهما إذا نظروا إليها وشاهدوا وحدة التدبير الذي فيها. والاحتجاج بتحقق التصديق على تحقق التصور قبله أقوى ما يمكن أن يحتج به على أنه تعالى مدرك بوجه ومتصور تصورا صحيحا وإن استحال أن يدرك بكنهه ولا يحيطون به علما. ود ظهر بذلك كله أولا: أن الجواب إنما هو بإحالته في مسؤله إلى ما يتصوره منه الموقنون إذ يصدقون بوجوده. وثانيا: أن الذي أشير إليه من الحجة في الآية هو البرهان على توحيد الربوبية المأخوذ من وحدة التدبير إذ هو الذي يمسه الحاجة قبال الوثنية المدعين للشركاء في الربوبية. وبذلك يظهر فساد ما ذكروا أن العلم بحقيقة الذات لما كان ممتنعا عدل موسى

[ 270 ]

عليه السلام عن تعريف الحقيقة بالحد إلى تعريفه تعالى بصفاته فقال رب السماوات والارض وما بينهما وأشار بقوله: إن كنتم موقنين " إلى دلالتها بحدوثها على أن محدثها ذات واحدة واجبة الوجود لا يشاركها في وجوب وجودها شئ غيرها. وجه الفساد ما عرفت أن الوثنية قائلون باستحالة العلم بحقيقة الذات وكنهها، وأن الموجد ذات واجبة الوجود لا يشاركها في وجوب وجودها غيره، وأن الآلهة من دون الله موجودات ممكنة الوجود كل منها مدبر لجهة من جهات العالم وهي جميعا مخلوقة لله فما قرروه في معنى الآية لا يجدي في مقام المخاصمة معهم شيئا. وقوله: " قال لمن حوله ألا تستمعون " أي ألا تصغون إلى ما يقول موسى ؟ والاستفهام للتعجيب يريد أن يصغوا إليه تعجبوا من قوله حيث يدعي رسالة رب العالمين وإذ اسئل ما رب العالمين ؟ أعاد الكلمة ثانيا ولم يزد على ما بدأ به شيئا. وهذا تمويه منه عليهم يريد به الستر على الحق الذي لاح من كلام موسى عليه السلام فإنه إنما قال: إن جميع العالمين تدل بوحدة التدبير الذي يشاهده أهل اليقين فيها علي أن لها ربا مدبرا واحدا هو الذي تسألني عنه، وهو يفسر كلامه أنه يقول: أنا رسول رب العالمين، فإذا سألته ما رب العالمين ؟ يجيبني بأنه رب العالمين. وبما تقدم بان عدم سداد قولهم في تفسير هذا التعجيب إن مراده أني سألته عن الذات فأجاب بالصفة وذلك أن السؤال إنما هو عن الذات من حيث صفته على ما تقدم بيانه، ولم يفسر موسى الذات بالوصف بل غير قوله: رب العالمين إلى قوله: " رب السماوات والارض " فوضع ثانيا قوله: " السماوات والارض " مكان قوله أولا: " العالمين " كأنه يومي إلى أن فرعون لم يفهم معنى العالمين. وقوله: " قال ربكم ورب آبائكم الاولين " جواب موسى عليه السلام ثانيا فإنه لما رأي تمويه فرعون على من قوله وقد كان أجاب عن سؤاله " وما رب العالمين " بتفسير العالمين من العالم الكبير كالسماوات والارض وما بينهما عدل ثانيا إلى ما يكون أصرح في المقصود فذكر ربوبيته تعالى لعالمي الانسانية فإن العالم الجماعة من الناس أو الاشياء فعالموا الانسان هو الجماعات من الحاضرين والماضين ولذلك قال: " ربكم ورب آبائكم الاولين ".

[ 271 ]

فإن فرعون ما كان يدافع في الحقيقة إلا عن نفسه لما كان يدعي الالوهية فكان يحتال في أن يبطل تعلق ربوبية الرب به في ضمن تعلقه بالعالمين الستلزام ذلك بطلان ربوبية الارباب وهو من جملتهم وإن كان يرى أنه أعلاهم وأهمهم كما حكي الله تعالى عنه: " فقال أنا ربكم الاعلى " النازعات: 24. " وقال فرعون يا أيها الملا ما علمت لكم من إله غيري " القصص: 38. فكأنه كان يقول: إن أردت برب العالمين الله تعالى فهو رب الارباب لا غير وإن أردت غيره من الآلهة فكل منهم رب عالم خاص فما معنى رب العالمين ؟ فأجاب موسى بما حاصله أن ليس في الوجود إلا رب واحد فيكون رب العالمين فهو ربكم وقد أرسلني اليكم. وكان محصل تمويه فرعون أن موسى لم يجبه بشئ إذ كرر اللفظ فأجابه موسى ثانيا بالتصريح على أن رب العالمين هو رب عالمي الانسانية من الحاضرين والماضين وبذلك تنقطع حيلته. وقوله: " قال إن رسولكم الذي أرسل اليكم لمجنون " قول فرعون ثانيا وقد سمي موسى رسولا تهكما واستهزاء وأضافه إلى من حوله ترفعا من أن يكون رسولا إليه، وقد رماه بالجنون مستندا إلى قوله عليه السلام: " ربكم ورب آبائكم " الخ. كأنه يقول: إنه لمجنون لما في كلامه من الاختلال الكاشف عن الاختلال في تعقله يدع رسالة رب العالمين فأساله ما رب العالمين ؟ فيكرر اللفظ تقريبا أولا ثم يفسره بأنه ربكم ورب آبائكم الاولين. وقوله: " قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون " ظاهر السياق أن المراد بالمشرق جهة شروق الشمس وسائر الاجرام النيرة السماوية وطلوعها و بالمغرب الجهة التي تغرب فيها بحسب الحس، وبما بينهما ما بين الجهتين فيشمل العالم المشهود ويساوي السماوات والارض وما بينهما. فيكون إعادة المعنى الجواب الاول بتقرير آخر وهو مشتمل على ما اشتمل عليه من نكتة إتصال التدبير واتحاده فإن للشروق إرتباطا بالغروب والمشرق والمغرب يتحققان طرفين لوسط بينهما، كما أن للسماء أرضا ولهما أمر بينهما وهذا النوع من الاتحاد

[ 272 ]

لا يقبل إلا تدبيرا متصلا واحدا، وكما أن كل أمة حاضرة لها ارتباط وجودي بالامم الماضية ارتباط الاخلاف بالاسلاف فالنوع واحد والتدبير واحد فالمدبر واحد. وقد بدل قوله في الجواب الاول: " إن كنتم موقنين " من قوله ههنا: " إن كنتم تعقلون " تعريضا له حيث قال لمن حوله: " ألا تستمعون " استهزاء به وإهانة له، ثم رماه ثانيا بالجنون واختلال الكلام فأشار عليه السلام بقوله: " إن كنتم تعقلون " إلى أنهم هم المحرومون من نعمة التعقل والتفقه ولو كانوا يعقلون لفهموا أن جوابه الاول ليس بتكرار غير مفيد ولكفاهم حجة على توحيدا لرب وأن القائم بتدبير جميع العالمين من السماوات والارض وما بينهما مدبر واحد لا مدبر سواه ولا رب غيره. وقد تبين بما ذكر أن الآية أعني قوله: " رب المشرق " الخ، تقرير آخر لقوله في الجواب الاول: " رب السماوات والارض وما بينهما " وأنه برهان على وحدة المدبر من طريق وحدة التدبير وفي ذلك تعريف لرب العالمين بأنه المدبر الواحد الذي يدل عليه التدبير الواحد في جميع العالمين، نعم البيان الذي يشير إليه هذه الآية أوضح لاشتماله على معنى الشروق والغروب وكونهما من التدبير ظاهر. وقد ذكروا أن الحجج المودعة في الآيات حجج على وحدانية ذات الواجب بالذات ونفي الشريك في وجوب الوجود وقد تقدم عدم استقامته البتة. وقوله: " قال لئن اتخذت إلها غيري لا جعلنك من المسجونين " تهديد منه لموسى عليه السلام لو دام على ما يقول به من ربوبية رب العالمين مدعيا أنه رسول منه وهذا دأب الجاهل المعاند إذا انقطعن الحجة أخذ في التهديد وتشبث بالوعيد. واتخاذ إله غيره كناية عن القول بربوبية رب العالمين الذي يدعو إليه موسى وإنما لم يذكره صونا للسانه عن التفوه باسمه، ولم يعبأ بسائر الآلهة التي كانوا يعبدونها استكبارا وعلوا، وكأن السجن كان جزاء المعرضين عنه المنكرين لالوهيته. والظاهر أن اللام في المسجونين للعهد، والمعنى: لودمت على ما تقول لا جعلنك في زمرة الذين في سجني على ما تعلم من سوء حالهم وشدة عذابهم، ولهذا لم يعدل عن هذا التعبير إلى مثل قولنا: لا سجننك مع اختصاره. قوله تعالى: " قال أولو جئتك بشئ مبين " القائل هو موسى عليه السلام والمراد

[ 273 ]

بشئ مبين شئ يبين ويظهر صحة دعواه وهو آية الرسالة التي تدل على صحة دعوى الرسالة من مدعية فإن الآية المعجزة إنما تدل على صدق الرسول في دعواه الرسالة وأما المعارف الالهية التي يدعو إليها كالتوحيد والمعاد وما يتعلق بهما فالسبيل إلى إثباته الحجة البرهانية وعلى ذلك كانت تجري سيرة الانبياء في دعوتهم وقد تقدم كلام فيه في الجزء الاول من الكتاب. والمعنى: قال موسى: أتجعلني من المسجونين ولو أتيتك بشئ يوضح صدقي فيما ادعيت من الرسالة. قوله تعالى: " قال فأت به إن كنت من الصادقين " القائل فرعون وقد فرع أمره بإتيانه على استفهام موسى المشعر بأنه يدعي أن عنده شيئا مبينا ولذا قيد الامر بالاتيان بقوله: " إن كنت من الصادقين " أي إن كنت صادقا في أن عندك شيئا كذلك. قوله تعالى: " فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين " هاتان الآيتان اللتان أوتيهما موسى ليلة الطور، والثعبان: الحية العظيمة وكونه مبينا ظهور واقعيته بحيث لا يرتاب فيه، والمراد بنزع يده نزعه من جيبه بعد وضعها فيه كما في سورتي: النمل الآية 12 والقصص الآية 32. قوله تعالى: " قال للملا حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون " القائل فرعون وقد قال لموسى: " فأت به إن كنت من الصادقين " رجاء أن يأتي بأمر فيه موضع معارضة ومناقشة فلما أتى بما لا مغمض فيه لم يجد بدا دون أن يبهت بأنه ساحر عليم. ولذا اتبع رميه بالسحر بقوله: " يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره " إغراء لهم عليه وحثا لهم على أن يتفقوا معه على دفعه بأي وسيلة ممكنة. وقوله: " فماذا تأمرون " لعل المراد بالامر الاشارة عليه لما أن المشير يشير على من يستشيره بلفظ الامر فالمعنى إذا كان الشأن هذا فماذا تشيرون علي أن أعامله به حتى أعمل به وذلك أنه كان يرى نفسه ربهم الاعلى ويراهم عبيده ولا يناسب ذلك حمل الامر على معناه المتعارف.

[ 274 ]

ويؤيد هذا المعنى أنه تعالى حكى في موضع آخر هذا الكلام عن الملا أنفسهم إذ قال: " قال الملا من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون " الاعراف: 110. وظاهر أن المراد بأمرهم إشارتهم على فرعون أن افعل بهما كذا. وقيل: إن سلطان المعجزة بهره وأدهشه فضل عن عجبه وتكبره وغشيته المسكنة فلم ماذا يقول ؟ ولا كيف يتكلم ؟ قوله تعالى: " قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم " القائلون هم الملا حوله وهم أشراف قومه، وقوله: " أرجه " بسكون الهاء على القراءة الدائرة وهو أمر من الارجاء بمعنى التأخير أي أخر موسى وأخاه وأمهلهما ولا تعجل اليهما بسياسة أو سجن ونحوه حتى تعارض سحرهما بسحر مثله. وقرئ " أرجه " بكسر الهاء و " أرجئه " بالهمزة وضم الهاء وهما أفصح من القراءة الدائرة، والمعنى واحد على أي حال. وقوله: " وابعث في المدائن حاشرين " المدائن جمع مدينة وهي البلدة والحاشر من الحشر وهو إخراج إلى مكان بإزعاج أي ابعث في البلاد عدة من شرطائك وجنودك يحشرون كل سحار عليم فيها ويأتوك بهم لتعارضهما بسحرهم. والتعبير بالسحارون الساحر للاشارة إلى أن هناك من هو أعلم منه بفنون السحر وأكثر عملا. قوله تعالى: " فجمع السحرة لميقات يوم معلوم "، هو يوم الزينة الذي اتفق موسى وفرعون على جعله ميقاتا للمعارضة كما في سورة طه ففي الكلام إيجاز وتلخيص. قوله تعالى: " وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين " الاستفهام لحث الناس وترغيبهم على الاجتماع. قال في الكشاف ما حاصله أن المراد باتباع السحرة اتباعهم في دينهم - وكانوا متظاهرين بعبادة فرعون كما يظهر من سياق الآيات التالية - وليس مرادهم بذلك إلا أن لا يتبعوا موسى لا اتباع السحرة، وإنما ساقوا كلامهم مساق الكناية ليحملوا به السحرة على الاهتمام والجد في المغالبة.

[ 275 ]

قوله تعالى: " فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لاجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين " الاستفهام في معنى الطلب، وقد قالوا: " إن كنا " ولم يقولوا، إذا كنا نحن الغالبين ليفيد القطع بالغلبة كما يفيده قولهم بعد: " بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون " بل ألقوه في صورة الشك ليكون أدعى لفرعون إلى جعل الاجر. وقد أثر ذلك أثره حيث جعل لهم أجرا وزاد عليه الوعد بجعلهم من المقربين. قوله تعالى: " قال لهم موسى ألقوا - إلى قوله - تلقف ما يأفكون " الحبال جمع حبل، والعصي جمع عصى، واللقف الابتلاع بسرعة، وما يأفكون من الافك بمعنى صرف الشئ عن وجهه سمي السحر إفكا لان فيه صرف الشئ عن صورته الواقعية إلى صورة خيالية، ومعنى الآيات ظاهر. قوله تعالى: " فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون " يريد أن السحرة لما رأوا ما رأوا من الآيات الباهرة بهرهم وأدهشهم ذلك فلم يتمالكوا أنفسهم دون أن خروا على الارض ساجدين لله سبحانه فاستعير الالقاء لخرورهم على الارض للدلالة على عدم تمالك أنفسهم كأنهم قد طرحوا على الارض طرحا. وقوله: " قالوا آمنا برب العالمين " فيه إيمان بالله سبحانه إيمان توحيد لما تقدم أن الاعتراف بكونه تعالى رب العالمين لا يتم إلا مع التوحيد ونفي الآلهة من دونه. وقوله: " رب موسى وهارون " فيه إشارة إلى الايمان بالرسالة مضافا إلى التوحيد. قوله تعالى: " قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون " إلى آخر الآية، القائل فرعون، والمراد بقوله: " آمنتم لله قبل أن آذن لكم " آمنتم من دون إذن مني كما في قوله تعالى: " لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي " وليس مفاده أن الاذن كان ممكنا أو متوقعا منه كما قيل. وقوله: " إنه لكبيركم الذي علمكم السحر " بهتان آخر يبهت به موسى عليه السلام ليصرف به قلوب قومه وخاصة ملاهم عنه.

[ 276 ]

وقوله: " فلسوف تعلمون " تهديد لهم في سياق الابهام للدلالة على أنه في غني عن ذكره وأما هم فسوف يعلمونه. وقوله: " لاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولا صلبنكم أجمعين " القطع من خلاف أن تقطع اليد اليمني مع الرجل اليسرى أو بالعكس والتصليب جعل المجرم على الصليب، وقد تقدم نظير الآية في سورتي الاعراف وطه. قوله تعالى: " قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون " الضير هو الضرر، وقوله: " إنا إلى ربنا منقلبون " تعليل لقولهم: لا ضيرأي إنا لا نستضر بهذا العذاب الذي توعدنا به لانا نصبر ونرجع بذلك إلى ربنا وما أكرمه من رجوع !. قوله تعالى: " إنا نطمع أن يغفرلنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين " تعليل لما يستفاد من كلامهم السابق أنهم لا يخافون الموت والقتل بل يشتاقون إلى لقاء ربهم يقولون: لا نخاف من عذابك شيئا لانا نرجع به إلى ربنا ولا نخاف الرجوع لانا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا بسبب كوننا أول المؤمنين بموسى وهارون رسولي ربنا. وفتح الباب في كل خير له أثر من الخير لا يرتاب فيه العقل السليم فلو أن الله سبحانه أكرم مؤمنا لايمانة بالمغفرة والرحمة لم تطفر مغفرته ورحمته أول الفاتحين لهذا الباب والواردين هذا المورد. قوله تعالى: " وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون " شروع في سرد الشطر الثاني من القصة وهو وصف عذاب آل فرعون بسبب ردهم دعوة موسى وهارون عليه السلام، وقد كان الشطر الاول رسالة موسى وهارون إليهم ودعوتهم إلى التوحيد، والاسراء والسري السير بالليل، والمراد بعبادي بنو إسرائيل وفي هذا التعبير نوع إكرام لهم. وقوله: " إنكم متبعون " تعليل للامر أي سر بهم ليلا ليتبعكم آل فرعون وفيه دلالة على أن لله في أتباعهم أمرا وأن فيه فرج بني إسرائيل وقد صرح بذلك في قوله: " فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون وأترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون "، الدخان: 24. قوله تعالى: " فأرسل فرعون في المدائن حاشرين - إلى قوله - ثم أغرقنا

[ 277 ]

الآخرين " قصة غرق آل فرعون وإنجاء بني إسرائيل في أربع عشرة آية وقد أوجز في الكلام بحذف بعض فصول القصة لظهوره من سياقها كخروج موسى وبني إسرائيل ليلا من مصر لدلالة قوله: " أن أسر بعبادي " عليه وعلى هذا القياس. فقال تعالى: " فأرسل فرعون " أي فأسري موسى بعبادي فلما علم فرعون بذلك أرسل " في المدائن " التي تحت سلطانه رجالا " حاشرين " يحشرون الناس ويجمعون الجموع قائلين للناس " إن هؤلاء " بني إسرائيل " لشرذمة قليلون " والشرذمة من كل شئ بقيته القليلة فتوصيفها بالقلة تأكيد " وإنهم لنا لغائظون " يأتون من الاعمال ما يغيظوننا به " وإنا لجميع " مجموع متفق فيما نعزم عليه " حاذرون " نحذر العدو أن يغتالنا أو يمكر بنا وإن كان ضيعفا قليلا، والمطلوب بقولهم هذا وهو لا محالة بلاغ من فرعون لحث الناس عليهم. " فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم " فيه قصورهم المشيدة وبيوتهم الرفيعة ولما كان خروجهم عن مكر إلهي بسبب داعية الاستعلاء والاستكبار التي فيهم نسب إلى نفسه أنه أخرجهم " كذلك " أي الامر كذلك " وأورثناها " أي تلك الجنات والعيون والكنوز والمقام الكريم " بني إسرائيل " حيث أهلكنا فرعون وجنوده وأبقينا بني إسرائيل بعدهم فكانوا هم الوارثين. " فأتبعوهم " أي لحقوا ببني إسرائيل " مشرقين " أي داخلين في وقت شروق الشمس وطلوعها " فلما تراءى الجمعان " أي دنا بعضهم من بعض فرأي كل من الجمعين جمع فرعون وجمع موسى الآخر، " قال أصحاب موسى " من بني إسرائيل خائفين فزعين " إنا لمدركون " يدركنا جنود فرعون. " قال موسى كلا " لن يدركونا " إن معي ربي سيهدين " والمراد بهذه المعية معية الحفظ والنصرة وهي التي وعدها له ربه أول ما بعثه وأخاه إلى فرعون: " إنني معكما " وأما معية الايجاد والتدبير فالله سبحانه مع موسى وفرعون على نسب سواء، وقوله: " سيهدين " أي سيدلني على طريق لا يدركني فرعون معها. " فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فأنفلق " والانفلاق إنشقاق الشئ وبينونة بعضه من بعض " فكان كل فرق " أي قطعة منفصلة من الماء " كالطود " وهو

[ 278 ]

القطعة من الجبل " العظيم " فدخلها موسى ومن معه من بني إسرائيل. " وأزلفنا ثم " أي وقربنا هناك " الآخرين " وهم فرعون وجنوده " وأنجينا موسى ومن معه أجمعين " بحفظ البحر على حاله وهيئته حتى قطعوه وخرجوا منه، " ثم أغرقنا الآخرين " بإطباق البحر عليهم وهم في فلقه. قوله تعالى: " إن في ذلك الآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم " ظاهر السياق - ويؤيده سياق القصص الآتية - أن المشار إليه مجموع ما ذكر في قصة موسى من بعثه ودعوته فرعون وقومه وإنجاء بني إسرائيل وغرق فرعون وجنوده، ففي ذلك كله آية تدل على توحيده تعالى بالربوبية وصدق الرسالة لمن تدبر فيها. وقوله: " وما كان أكثرهم مؤمنين " أي وما كان أكثر هؤلاء الذين ذكرنا قصتهم مؤمنين مع ظهور ما دل عليه من الآية وعلى هذا فقوله بعد كل من القصص الموردة في السورة: " وما كان أكثرهم مؤمنين " بمنزلة أخذ النتيجة وتطبيق الشاهد على المستشهد له كأنه يقال بعد إيراد كل واحدة من القصص: هذه قصتهم المتضمنة لآيتة تعالى وما كان أكثرهم مؤمنين كمالم يؤمن أكثر قومك فلا تحزن عليهم فهذا دأب كل من الامم التي بعثنا إليهم رسولا فدعاهم إلى توحيد الربوبية. وقيل: إن الضمير في " أكثرهم " راجع إلى قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعنى: أن في هذه القصة آية وما كان أكثر قومك مؤمنين بها ولا يخلو من بعد. وقوله: " وإن ربك لهو العزيز الرحيم " تقدم تفسيره في أول السورة. * * * واتل عليهم نبأ إبراهيم - 69. إذ قال لابيه وقومه ما تعبدون - 70. قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين - 71. قال هل يسمعونكم إذ تدعون - 72. أو ينفعونكم أو يضرون - 73.

[ 279 ]

قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون - 74. قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون - 75. أنتم وآباؤكم الاقدمون - 76. فإنهم عدو لي إلا رب العالمين - 77. الذي خلقني فهو يهدين - 78. والذي هو يطعمني ويسقين - 79. وإذا مرضت فهو يشفين - 80. والذي يميتني ثم يحيين - 81. والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين - 82. رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين - 83. واجعل لي لسان صدق في الآخرين - 84. واجعلني من ورثة جنة النعيم - 85. واغفر لابي إنه كان من الضالين - 86. ولا تخزني يوم يبعثون - 87. يوم لا ينفع مال ولا بنون - 88. إلا من أتى الله بقلب سليم - 89. وأزلفت الجنة للمتقين - 90. وبرزت الجحيم للغاوين - 91. وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون - 92. من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون - 93. فكبكبوا فيها هم والغاون - 94. وجنود إبليس أجمعون - 95. قالوا وهم فيها يختصمون - 96. تالله إن كنا لفي ضلال مبين - 97. إذ نسويكم برب العالمين - 98. وما أضلنا إلا المجرمون - 99. فما لنا من شافعين - 100. ولا صديق حميم - 101. فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين - 102. إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين - 103. وإن ربك لهو العزيز الرحيم - 104.

[ 280 ]

(بيان) تشير آيات بعد الفراغ عن قصة موسى إلى نبأ إبراهيم عليه السلام وهو خبره الخطير إذ انتهض لتوحيد الله سبحانه بفطرته الزاكية الطاهرة من بين قومه المطبقين على عبادة الاصنام فتبر أمنهم ودافع عن الحق ثم كان من أمره ما قد كان ففي ذلك آية ولم يؤمن به أكثر قومه كما سيشير إلى ذلك في آخر الآيات. قوله تعالى: " واتل عليهم نبأ إبراهيم " غير السياق عما كان عليه أول القصة " وإذ نادي ربك موسى " الخ، لمكان قوله: " عليهم " فإن المطلوب تلاوته على مشركي العرب وعمدتهم قريش وإبراهيم هذا أبوهم وقد قام لنشر التوحيد وإقامة الدين الحق ولم يكن بينهم يومئذ من يقول: لا إله إلا الله، فنصر الله ونصره حتى ثبتت كلمة التوحيد في الارض المقدسة وفي الحجاز. فلم يكن ذلك كله إلا عن دعوة من الفطرة وبعث من الله سبحانه ففي ذلك آية لله فليعتبروا به وليتبرؤا من دين الوثنية كما تبرأ منه ومن أبيه وقومه المنتحلين به أبوهم إبراهيم عليه السلام. قوله تعالى: " إذ قال لابيه وقومه ما تعبدون " مخاصمته ومنا ظرته عليه السلام مع أبيه غير مخاصمته مع قومه واحتجاجه عليهم كما حكاه الله تعالى في سورة الانعام وغيرها لكن البناء ههنا على الايجاز والاختصار ولذا جمع بين المحاجتين وسبكهما محاجة واحدة أورد فيها ما هو القدر المشترك بينهما. وقوله: " ما تعبدون " سؤال عن الحقيقة بوضع نفسه موضع من لا يعرف شيئا من حقيقتها وسائر شؤنها وهذا من طرق المناظرة سبيل من يريد أن يبين الخصم حقيقة مدعاه وسائر شؤنه حتى يأخذه بما سمع من إعترافه. على أن هذه المحاجة كانت من إبراهيم أول ما خرج من كهفه ودخل في مجتمع أبيه وقومه ولم يكن شهد شيئا من ذلك قبل اليوم فحاجهم عن فطرة ساذجة طاهرة كما تقدم تفصيل القول فيه في تفسير سورة الانعام. قوله تعالى: " قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين " ظل بمعني دام، والعكوف

[ 281 ]

على الشئ ملازمته والاقامة عنده، واللام في " لها " للتعليل أي ندوم عاكفين عليها لاجلها وهو تفريع على عبادة الا صنام. والصنم جثة مأخوذة من فلز أو خشب أو غير ذلك على هيئة خاصة يمثل بها ما في المعبود من الصفات، وهؤلاء كانوا يعبدون الملائكة والجن وهم يرون أنها روحانيات خارجة عن عالم الاجسام منزهة عن وخواص المادة وآثارها، ولما كان من الصعب عليهم التوجه العبادي إلى هذه الروحانيات باستحضارها للادراك توسلوا إلى ذلك باتخاذ صور وتماثيل جسمانية تمثل بأشكالها وهيئاتها ما هناك من المعنويات. وكذلك الحال في عبادة عباد الكواكب لها فإن المعبود الاصلي هناك روحانيات الكواكب ثم اتخذ أجرام الكواكب أصناما لروحانيانها ثم لما اختلفت أحوال الكواكب بالحضور والغيبة والطلوع والغروب اتخذوا لها أصناما تمثل ما للكواكب من القوى الفعالة فيما دونها من عالم العناصر كالقوة الفاعلة للطرب والسرور والنشاط في الزهرة فيصورونها في صورة فتاة، ولسفك الدماء في المريخ، وللعلم والمعرفة في عطارد وعلى هذا القياس الامر في أصنام القديسين من الانسان. فالاصنام إنما اتخذت ليكون الواحد منها مرآة لرب الصنم من ملك أو جن أو إنسان غير أنهم يعبدون الصنم نفسه بتوجيه العبادة إليه والتقرب منه ولو تعدوا عن الصنم إلى ربه عبدوه دون الله سبحانه. وهذا هو الذي يكذب قول القائل منهم: إن الصنم إنما هي قبلة لم تتخذ إلا جهة للتوجه العبادي لا مقصودة بالذات كالكعبة عند المسلمين وذلك أن القبلة هي ما يستقبل في العبادة ولا يستقبل بالعبادة وهم يستقبلون الصنم في العبادة وبالعبادة، وبعبارة أخرى التوجه إلى القبلة والعبادة لرب القبلة وهو الله عز اسمه وأما الصنم فالتوجه إليه والعبادة له لا لربه ولو فرض أن العبادة لربه وهو شئ من الروحانيات كانت له لا لله فالله سبحانه غير معبود في ذلك على أي حال. وبالجملة فجوابهم عن سؤال إبراهيم: " ما تعبدون " بقولهم: " نعبد أصناما " إبانة أن هذه الاجسام المعبودة ممثلات مقصودة لغيرها لا لنفسها، وقد أخذ إبراهيم قولهم: " نعبد " وخاصمهم به فإن استقلال الاصنام بالمعبودية لا يجامع كونها أصناما

[ 282 ]

ممثلة للغير فإذ كانت مقصودة بالعبادة فمن الواجب أن يشتمل على ما هو الغرض المقصود منها من جلب نفع أو دفع ضر بالتوجه العبادي والدعاء والمسألة والاصنام بمعزل من أن تعلم بمسأله أو تجيب مضطرا بإيصال نفع أو صرف ضر ولذلك سألهم إبراهيم بقوله: " هل يسمعونكم " الخ. قوله تعالى: " قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون " إعترض عليه السلام عليهم في عبادتهم الاصنام من جهتين: إحداهما: أن العبادة تمثيل لذلة العابد وحاجته إلى المعبود فلا يخلو من دعاء من العابد للمعبود، ولدعاء يتوقف على علم المعبود بذلك وسمعه ما يدعوه به، و الاصنام أجسام جمادية لا سمع لها فلا معنى لعبادتها. والثانية: أن الناس إنما يعبدون الاله أما طمعا في خيره ونفعه وإما اتقاء من شره وضره والاصنام جمادات لا قدرة لها على إيصال نفع أو دفع ضرر. فكل من الآيتين يتضمن جهة من جهتي الاعتراض، وقد أوردهما في صورة الاستفهام ليضطرهم على الاعتراف. قوله تعالى: " قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون " كان مقتضى المقام أن يجيبوا عن سؤاله عليه السلام بالنفي لكنه لما كان ينتج خلاف ما هم عليه من الانتحال بالوثنية أضربوا عنه إلى التشبث بذيل التقليد فذكروا أنهم لا مستند لهم في عبادتها إلا تقليد الآباء محضا. وقوله: " وجدنا آباءنا كذلك يفعلون " أي ففعلنا كما كانوا يفعلون وعبدناهم كما كانوا يعبدون، ولم يعدل عن قوله: " كذلك يفعلون " إلى مثل قولنا: يعبدونها ليكون أصرح في التقليد كأنهم لا يفهمون من هذه العبادات إلا أنها أفعال كأفعال آبائهم من غير أن يفقهوا منها شيئا أزيد من أشكالها وصورها. قوله تعالى: " قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الاقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين " لما انتهت محاجته مع أبيه وقومه إلى أن لا حجة لهم في عبادتهم الاصنام إلا تقليد آباءهم محضا تبرأ عليه السلام من آلهتم ومن أنفسهم وآبائهم بقوله: " أفرأيتم " الخ. فقوله: " أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الاقدمون " تفريع على ما ظهر مما

[ 283 ]

تقدم من عدم الدليل على عبادة الاصنام إلا التقليد بل بطلانها من أصلها أي فإذا كانت باطلة لا حجة لكم عليها إلا تقليد آبائكم فهذه الاصنام التي رأيتموها أي هذه بأعيانها التي تعبدونها أنتم وآباؤكم الاقدمون فإنها عدو لي لان عبادتها ضارة لديني مهلكة لنفسي فليست إلا عدوا لي. وذكر آبائهم الاقدمين للدلالة على أنه لا يأخذ بالتقليد كما أخذوا وأن لا وقع عنده ع لتقدم العهد، ولا أثر عليه السلام للسبق الزماني في إبطال حق أو إحقاق باطل، وإرجاع ضمير أولي العقل إلى الاصام المكان نسبة العبادة إليها وهي تستلزم الشعور والعقل، وهو كثير الوقوع في القرآن. وقوله: " إلا رب العالمين " استثناء منقطع من قوله: " فإنهم عدو لي " أي لكن رب العالمين ليس كذلك. قوله تعالى: " الذي خلقني فهو يهدين - إلى قوله - يوم الدين " لما استثنى رب العالمين جل اسمه وصفه بأوصاف تتم بها الحجة على أنه تعالى ليس عدوا له بل رب رحيم ذو عناية بحاله منعم عليه بكل خير دافع عنه كل شر فقال: " الذي خلقني " " الخ " وأما قول القائل: إن قوله: " الذي خلقني " الخ استيناف من الكلام لا يعبأ به. فقوله: " الذي خلقني " فهو يهدين بدأ بالخلق لان المطلوب بيان استناد تدبير أمره إليه تعالى بطريق إعطاء الحكم بالدليل، والبرهان على قيام التدبير به تعالى قيام الخلق والايجاد به لوضوح أن الخلق والتدبير لا ينفكان في هذه الموجودات الجسمانية التدريجية الوجود التي تستكمل الوجود على التدريج فليس من المعقول أن يقوم الخلق بشئ والتدبير بشئ وإذ كان الخلق والايجاد لله سبحانه فالتدبير له أيضا. ولهذا عطف الهداية على الخلق بفاء التفريع فدل على أنه تعالى هو الهادي لانه هو الخالق. وظاهر قوله: " فهو يهديني " - وهو مطلق - أن المراد به مطلق الهداية إلى المنافع دنيوية كانت أو أخرويه والتعبير بلفظ المضارع لافادة الاستمرار فالمعنى أنه الذي خلقني ولا يزال يهديني إلى ما فيه سعادة حياتي منذ خلقني ولن يزال كذلك. فيكون الآية في معنى ما حكاه الله عن موسى إذ قال لفرعون: " ربنا الذي أعطى

[ 284 ]

كل شئ خلقه ثم هدى " طه: 50، أي هداه إلى منافعه وهي الهداية العامة. وهذا هو الذي أشير إليه في أول السورة بقوله: " أولم يروا إلى الارض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم إن في ذلك لآية " وقد مر تقرير الحجة فيه. وعلى هذا فما سيأتي في قوله: " والذي هو يطعمني " الخ من الصفات المعدودة من قبيل ذكر الخاص بعد العام فإنها جميعا من مصاديق الهداية العامة بعضها هداية إلى منافع دنيوية وبعضها هداية إلى ما يرجع إلى الآخرة. ولو كان المراد بالهداية الهداية الخاصة الدينية فالصفات المعدودة على رسلها وذكر الهداية بعد الخلقه، وقديمها على سائر النعم والمواهب لكونها أفضل النعم بعد الوجود. وقوله: " والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين " هو كالكناية عن جملة النعم المادية التي يرزقه الله إياها لتتميم النواقص ورفع الحوائج الدنيوية، وقد خص بالذكر منها ما هو أهمها وهو الاطعام والسقي والشفاء إذا مرض. ومن هنا يظهر أن قوله: " وإذا مرضت " توطئة وتمهيد لذكر الشفاء، فالكلام في معنى يطعمني ويسقيني ويشفين، ولذا نسب المرض إلى نفسه لئلا يختل المراد بذكر ما هو سلب النعمة بين النعم، وأما قول القائل: إنه إنما نسب المرض إلى نفسه مع كونه من الله للتأدب فليس بذاك. وإنما أعاد الموصول فقال: " الذي هو يطعمني " الخ، ولم يعطف الصفات على ما في قوله: " الذي خلقني فهو يهدين " للدلالة على أن كلا من الصفات المذكورة في هذه الجمل المترتبة كان في إثبات كونه تعالى هو الرب المدبر لامره والقائم على نفسه المجيب لدعوته. وقوله: " والذي هو يميتني ثم يحيين " يريد الموت المقضي لكل نفس المدلول عليه بقوله: " كل نفس ذائقة الموت " الانبياء: 35، وليس بانعدام وفناء بل انتقال من دار إلى دار من جملة التدبير العام الجاري والمراد بالاحياء أفاضة الحياة بعد الموت. وقوله: " والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين " أي يوم الجزاء وهو يوم القيامة، ولم يقطع بالمغفرة كما قطع في الامور المذكورة قبلها لان المغفرة ليست

[ 285 ]

بالاستحقاق بل هي فضل من الله فليس يستحق أحد على الله سبحانه شيئا لكنه سبحانه قضي على نفسه الهداية و الرزق والاماتة والاحياء لكل ذي نفس ولم يقض المغفرة لكل ذي خطيئة فقال: " فو رب السماء والارض أنه لحق " الذاريات " 23، وقال: " كل نفس ذائقة الموت " الانبياء: 35، وقال: " إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا " يونس: 4، وقال في المغفرة: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " النساء: 48. ونسبة الخطيئة إلى نفسه وهو عليه السلام نبي معصوم من المعصية دليل على أن المراد بالخطيئة غير المعصية بمعني مخالفة الامر المولوي فإن للخطيئة والذنب مراتب تتقدر حسب حال العبد في عبوديته كما قيل: حسنات الابرار سيئات المقربين، وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: " واستغفر لذنبك ". فالخطيئة من مثل إبراهيم عليه السلام اشتغاله عن ذكر الله محضا بما تقتضيه ضروريات الحياة كالنوم والاكل والشرب ونحوها وإن كانت بنظر آخر طاعة منه عليه السلام كيف ؟ وقد نص تعالى على كونه عليه السلام مخلصا لله لا يشاركه تعالى فيه شئ إذ قال: " إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار " ص: 46، وقد قدمنا كلاما له تعلق بهذا المقام في آخر الجزء السادس وفي قصص إبراهيم في الجزء السابع من الكتاب. قوله تعالى: " رب هب لي حكما والحقني بالصالحين " لما ذكر عليه السلام نعم ربه المستمرة المتوالية المتراكمة عليه منذ خلق إلى ما لا نهاية له من أمد البقاء وصور بذلك شمول اللطف والحنان الالهي أخذته جاذبة الرحمة الملتئمة بالفقر العبودي فدعته إلى إظهار الحاجة وبث المسأله فالتفت من الغيبة إلى الخطاب فسأل ما سأل. فقوله: " رب " أضاف الرب إلى نفسه بعد ما كان يصفه بما أنه رب العالمين إثارة للرحمة الالهية وتهييجا للعناية الربانية لاستجابة دعائه ومسألته. وقوله: " هب لي حكما " يريد بالحكم ما تقدم في قول موسى عليه السلام: " فوهب لي ربي حكما " الآية 21 من السورة وهو - كما تقدم - صابة النظر والرأي في المعارف الاعتقادية والعملية الكلية وتطبيق العمل عليها كما يشير إليه قوله تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " الانبياء: 25، وهو

[ 286 ]

وحي المعارف الاعتقادية والعملية التي يجمعها التوحيد والتقوى، وقوله تعالى: " وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين " الانبياء: 73، وهو وحي التسديد والهداية إلى الصلاح في مقام العمل، وتنكير الحكم لتفخيم أمره. وقوله: " والحقني بالصالحين " الصلاح - على ما ذكره الراغب - يقابل الفساد الذي هو تغير الشئ عن مقتضي طبعه الاصلي فصلاحه كونه على مقتضى الطبع الاصلي فيترتب عليه من الخير والنفع ما من شأنه أن يترتب عليه من غير أن يفسد فيحرم من آثاره الحسنة. وإذ كان " الصالحين " غير مقيد بالعمل ونحوه فالمراد به الصالحون ذاتا لا عملا فحسب وإن كان صلاح الذات لا ينفك عنه صلاح العمل، قال تعالى: " البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه " الاعراف: 58. فصلاح الذات كونها تامة الاستعداد لقبول الرحمة الالهية وإفاضة كل خير وسعادة من شأنها أن تتلبس به من غير أن يقارنها ما يفسدها من اعتقاد باطل أو عمل سيئ وبذلك يتبين أن الصلاح الذاتي من لوازم موهبة الحكم بالمعني الذي تقدم وإن كان الحكم أخص موردا من الصلاح وهو ظاهر. فمسألته الالحاق بالصالحين من لوازم مسألة موهبة الحكم وفروعها المترتبة عليها فيعود معنى قوله: " رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين " إلى مثل قولنا: رب هب لي حكما وتمم أثره في وهو الصلاح الذاتي. وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: " وإنه في الآخرة لمن الصالحين " البقرة: 130 في الجزء الاول من الكتاب كلام له تعلق بهذا المقام. قوله تعالى: " واجعل لي لسان صدق في الآخرين " إضافة اللسان إلى الصدق لامية تفيد اختصاصة بالصدق بحيث لا يتكلم إلا به، وظاهر جعل هذا اللسان له أن يكون مختصا به كلسانه لا يتكلم إلا بما في ضميره مما يتكلم هو به فيؤل المعنى إلى مسألة أن يبعث الله في الآخرين من يقوم بدعوته ويدعوا الناس إلى ملته وهي دين التوحيد. فتكون الآية في معنى قوله في سورة الصافات بعد ذكر إبراهيم عليه السلام: " وتركنا

[ 287 ]

عليه في الآخرين " الصافات: 108، وقد ذكر هذه الجملة بعد ذكر عدة من الانبياء غيره كنوح وموسى وهارون وإلياس، وكذا قال تعالى في سورة مريم بعد ذكر زكريا ويحيى وعيسى وإبراهيم وموسى وهارون: " وجعلنا لهم لسان صدق عليا " مريم: 50 فالمراد على أي حال إبقاء دعوتهم بعدهم ببعث رسل أمثالهم. وقيل: المراد به بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد روي عنه أنه قال: أنا دعوة أبي إبراهيم، ويؤيده تسمية دينه في مواضع من القرآن ملة إبراهيم، ويرجع معنى الآية حينئذ إلى معنى قوله حكاية عن إبراهيم وإسماعيل حين بناء الكعبة: " ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك - إلى أن قال - ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم " البقرة: 129. وقيل: المراد به أن يجعل الله له ذكرا جميلا وثناء حسنا بعده إلى يوم القيامة وقد استجاب الله دعاءه فأهل الاديان يثنون عليه ويذكرونه بالجميل. وفي صدق لسان الصدق على الذكر الجميل خفاء، وكذا كون هذا الدعاء والمحكي في سورة البقرة دعاء واحدا لا يخلو من خفاء. قوله تعالى: " واجعلني من ورثة جنة النعيم " تقدم معنى وراثة الجنة في تفسير قوله تعالى: " أولئك هم الوارثون " المؤمنون: 10. قوله تعالى: " واغفر لابي إنه كان من الضالين " استغفار لابيه حسب ما وعده في قوله: " سلام عليك سأستغفر لك ربي " مريم: 47، وليس ببعيد أن يستفاد من قوله تعالى: " وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه " التوبة: 114، أنه دعا لابيه بهذا الدعاء وهو حي بعد، وعلى هذا فمعني قوله: " إنه كان من الضالين " أنه كان قبل الدعاء بزمان من أهل الضلال. قوله تعالى: " ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم " الخزي عدم النصر، ممن يؤمل منه النصر والضمير في " يبعثون " للناس ولا يضره عدم سبق الذكر لكونه معلوما من خارج. ويعلم من سؤاله عدم الاخزاء يوم القيامة أن الانسان في حاجة إلى النصر الالهي

[ 288 ]

يومئذ فهذه البنية الضعيفة لا تقوم دون الاهوال التي تواجهها يوم القيامة إلا بنصر وتأييد منه تعالى. وقوله: " يوم لا ينفع مال ولا بنون " الظرف بدل من قوله: " يوم يبعثون " وبه يندفع قول من قال: إن قول إبراهيم قد انقطع في " يبعثون " والآية إلى تمام خمسة عشر آية من كلام الله تعالى. والآية تنفي نفع المال والبنين يوم القيامة وذلك أن رابطة المال والبنين التي هي المناط في التناصر والتعاضد في الدنيا هي رابطة وهمية اجتماعية لا تؤثر أثرا في الخارج من ظرف الاجتماع المدني ويوم القيامة يوم انكشاف الحقائق وتقطع الاسباب فلا ينفع فيه مال بماليته ولا بنون بنسبة بنوتهم وقرابتهم، قال تعالى: " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم " الانعام: 94، وقال: " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " المؤمنون: 101. فالمراد بنفي نفع المال والبنين يوم القيامة نفي سببيتهما الوضعية الاعتبارية في المجتمع الانساني في الدنيا فإن المال نعم السبب والوسيلة في المجتمع للظفر بالمقاصد الحيوية، وكذا البنون نعمت الوسيلة للقوة والعزة والغلبة والشوكة، المال والبنون عمدة ما يركن اليهما ويتعلق بهما الانسان في الحياة الدنيا فنفي نفعهما يوم القيامة كالكناية عن نفي نفع كل سبب وضعي إعتباري في المجتمع الانساني يتوسل به إلى جلب المنافع المادية كالعلم والصنعة والجمال وغيرها. وبعبارة أخرى نفي نفعهما في معنى الاخبار عن بطلان الاجتماع المدني بما يعمل فيه من الاسباب الوضعية الاعتبارية كما يشير إليه قوله تعالى: " ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون ". وقوله: " إلا من أتى الله بقلب سليم " قال الراغب: السلم والسلامة التعري من الآفات الظاهرة والباطنة. انتهى. والسياق يعطي أنه عليه السلام في مقام ذكر معنى جامع يتميز به اليوم من غيره وقد سأل ربه أولا أن ينصره ولا يخزيه يوم لا ينفعه ما كان ينفعه في الدنيا من المال والبنين، ومقتضي هذه التوطئة أن يكون المطلوب بقوله: " إلا من أتى الله بقلب سليم " بيان ما هو النافع يومئذ وقد ذكر فيه الاتيان بالقلب السليم.

[ 289 ]

فالاستثناء منقطع، والمعنى: لكن من أتى الله بقلب سليم فإنه ينتفع به، والمحصل أن مدار السعادة يومئذ على سلامة القلب سواء كان صاحبه ذا مال وبنين في الدنيا أو لم يكن. وقيل: الاستثناء متصل والمستثنى منه مفعول ينفع المحذوف والتقدير يوم لا ينفع مال ولا بنون أحدا إلا من أتى الله بقلب سليم. وقيل: الاستثناء متصل والكلام بتقدير مضاف، والتقدير لا ينفع مال ولا بنون إلا مال وبنو من أتى " الخ ". وقيل: المال والبنون في معنى الغنى والاستثناء منه بحذف مضاف من نوعه والتقدير يوم لا ينفع غني إلا غني من أتى الله بقلب سليم، وسلامة القلب من الغني فالاستثناء متصل ادعاء لا حقيقة. وقيل: الاستثناء منقطع وهناك مضاف محذوف، والتقدير لا ينفع مال ولا بنون إلا حال من أتى " الخ ". والاقوال الثلاثة الاول توجب اختصاص تميز اليوم بمن له مال وبنون فقط فإن الكلام عليها في معني قولنا: يوم لا ينفع المال والبنون أصحابهما إلا ذا القلب السليم منهم وأما من لا مال له ولا ولد فمسكوت عنه والسياق لا يساعده، وأما القول الرابع فمبنى على تقدير لا حاجة إليه. والآية قريبة المعنى من قوله تعالي: " المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا " الكهف: 46، غير أنها تسند النفع إلى القلب السليم وهو النفس السالمة من وصمه الظلم وهو الشرك والمعصية كما قال تعالى في وصف اليوم: " وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما " طه: 111. قال بعضهم: وفي الآيتين تأييد لكون استغفاره عليه السلام لابيه طلبا لهدايته إلى الايمان لاستحالة طلب مغفرته بعد موته كافرا مع علمه بعدم نفعه لانه من باب الشفاعة. انتهى. وهذا على تقدير أخذ الاستثناء متصلا كما ذهب إليه هذا القائل مبني على كون

[ 290 ]

إبراهيم عليه السلام ابن آزر لصلبه وقد تقدم في قصته عليه السلام من سورة الانعام فساد القول به وأن الآيات ناصة على خلافه. وأما إذا أخذ الاستثناء منقطعا فقوله: " إلا من أتى الله بقلب سليم " بضميمة قوله تعالى: " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " الانبياء: 28. دليل على كون الاستغفار قبل موته كما لا يخفى. قوله تعالى: " وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين " الازلاف التقريب والتبريز الاظهار، وفي المقابلة بين المتقين والغاوين واختيار هذين الوصفين لهاتين الطائفتين إشارة إلى ما قضي به الله سبحانه يوم رجم إبليس عند إبائه أن يسجد لآدم كما ذكر في سورة الحجر " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعودهم أجمعين - إلى أن قال - إن المتقين في جنات وعيون " الحجر: 45. قوله تعالى: " وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله ينصرونكم أو ينتصرون " أي هل يدفعون الشقاء والعذاب عنكم أو عن أنفسهم، والمحصل أنه يتببن لهم أنهم ضلوا في عبادتهم غير الله. قوله تعالى: " فكبكبوا فيها هم والغاون وجنود إبليس أجمعون " يقال: كبه فانكب أي ألقاه على وجهه وكبكبه أي ألقاه على وجهه مرة بعد اخرى فهو يفيد تكرار الكب كدب ودبدب وذب وذبذب وزل وزلزل ودك ودكدك. وضمير الجمع في قوله: " فكبكبوا فيها هم " للاصنام كما يدل عليه قوله: " انكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " الانبياء: 98 وهؤلاء إحدي الطوائف الثلاث التي تذكر الآية أنها تكبكب في جهنم " يوم القيامة، والطائفة الثانية الغاون المقضي عليهم ذلك كما في آية الحجر المنقولة آنفا، والطائفة الثالثة جنود إبليس وهم قرناء الشياطين الذين يذكر القرآن أنهم لا يفارقون أهل الغواية حتى يدخلوا النار، قال تعالى: " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين - إلى أن قال - ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون " الزخرف: 39. قوله تعالى: " قالوا وهم فيها يختسمون - إلى قوله - إلى المجرمون " الظاهر أن القائلين هم الغاون، والاختصام واقع بينهم يخاصمون أنفسهم والشياطين على ما

[ 291 ]

ذكره الله سبحانه في مواضع من كلامه. وقوله: " تالله إن كنالفي ضلال مبين " اعتراف منهم بالضلال، والخطاب في قوله: " إذ نسويكم برب العالمين " للآلهة من الاصنام وهم معهم في النار، أو لهم وللشياطين أو لهما وللمتبوعين والرؤساء من الغاوين وخير الوجوه أو لها. وقوله: " وما أضلنا إلا المجرمون " الظاهر أن كلا من القائلين يريد بالمجرمين غيره من إمام ضلال اقتدى به في الدنيا وداع دعاه إلى الشرك فاتبعه وآباء مشركين قلدهم فيه وخليل تشبه به، والمجرمون على ما يستفاد من آيات القيامة هم الذين ثبت فيهم الاجرام وقضي عليهم بدخول النار قال تعالى: " وامتازوا اليوم أيها المجرمون " يس: 56. قوله تعالى: " فما لنا من شافعين ولا صديق حميم " الحميم على ما ذكره الراغب القريب المشفق. وهذا الكلام تحسر منهم على حرمانهم من شفاعه الشافعين وإغاثة الاصدقاء وفي التعبير بقوله: " فما لنا من شافعين " إشارة إلى وجود شافعين هناك يشفعون بعض المذنبين، ولو لا ذلك لكان من حق الكلام أن يقال: فما لنا من شافع إذ لا نكتة تقتضي الجمع، وقد روي أنهم يقولون ذلك لما يرون الملائكة والانبياء والمؤمنين يشفعون. قوله تعالى: " فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين " تمن منهم أن يرجعوا إلى الدنيا فيكونوا من المؤمنين حتى ينالوا ما ناله المؤمنون من السعادة. قوله تعالى: " إن في ذلك لآية " إلى آخر الآيتين أي في قصة إبراهيم عليه السلام ولزومه عن فطرته الساذجة دين التوحيد وتوجيه وجهه نحو رب العالمين وتبريه من الاصنام واحتجاجه على الوثنيين وعبد الاصنام آية لمن تدبر فيها على أن في سائر قصصه من محنه وابتلآته التي لم تذكر ههنا كإلقائه في النار ونزول الضيف من الملائكة عليه وقصة إسكانه إسماعيل وأمه بوادي مكة وبناء الكعبة وذبح إسماعيل آيات لاولي الالباب. وقوله: " وما كان أكثرهم مؤمنين " أي وما كان أكثر قوم إبراهيم مؤمنين والباقي ظاهر مما تقدم.

[ 292 ]

(بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " واجعل لي لسان صدق في الآخرين " قال: هو امير المؤمنين عليه السلام. أقول: يحتمل التفسير والجري. وفي الكافي بإسناده عن يحيى عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال امير المؤمنين عليه السلام: ولسان الصدق للمرء يجعله الله في الناس خير من المال يأكله ويورثه. الحديث. وفي الدر المنثور في قوله تعالى: " واغفر لابي " أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: " ولا تخزني يوم يبعثون " قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ليجيئن رجل يوم القيامة من المؤمنين آخذا بيد أب له مشرك حتى يقطعه النار ويرجو أن يدخله الجنة فيناديه مناد إنه لا يدخل الجنة مشرك، فيقول: ربي أبي ووعدت أن لا تخزيني. قال: فما يزال متشبثا به حتى يحوله الله في صورة سيئة وريح منتنة في صورة ضبعان فإذا رآه كذلك تبرأ منه وقال: لست بأبي. قال: فكنا نرى أنه يعني إبراهيم وما سمي به يومئذ. وفيه أخرج البخاري والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة يقول له إبراهيم: ألم أقل لك: لا تعصني ؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي الابعد ؟ فيقول الله: إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال: يا إبراهيم ما تحت رجليك ؟ فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار. أقول: الخبر ان من أخبار بنوة إبراهيم لآزر لصلبه وقد مر في قصص إبراهيم من سورة الانعام أنها مخالفة للكتاب وكلامه تعالى نص في خلافه. وفي الكافي بإسناده عن سفيان بن عيينة قال: سألته عن قول الله عزوجل: " إلا من أتى الله بقلب سليم " قال: السليم الذي يلقى ربه وليس فيه أحد سواه.

[ 293 ]

قال: وكل قلب فيه شرك أو شك فهو ساقط وإنما أرادوا بالزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم إلى الآخرة. وفي المجمع وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال: هو القلب الذي سلم من حب الدنيا. ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: حب الدنيا رأس كل خطيئة. وفي الكافي بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام في حديث " وجنود إبليس أجمعون " جنود إبليس ذريته من الشياطين. قال: وفقولهم: " وما أضلنا إلا المجرمون " إذ دعونا إلى سبيلهم ذلك قول الله عزوجل فيهم إذ جمعهم إلى النار: وقالت أولاهم لاخراهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار " وقوله: " كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا " برئ بعضهم من بعض ولعن بعضهم بعضا يريد بعضهم أن يحج بعضا رجاء الفلج فيفلتوا جميعا من عظيم ما نزل بهم وليس بأوان بلوى ولا اختبار ولا قبول معذرة ولا حين نجاة. وفي الكافي أيضا بسندين عن أبي بصير عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل: " فكبكبوا فيها هم والغاون " هم قوم وصفوا عدلا بألسنتهم ثم خالفوه إلى غيره. أقول: وروي هذا المعنى القمي في تفسيره والبرقي في المحاسن عن أبي عبد الله عليه السلام، والظاهر أن الرواية كانت واردة في ذيل قوله تعالى: " والشعراء يتبعهم الغاون " لما بعده من قوله تعالى: " وأنهم يقولون ما لا يفعلون " وقد وقع الخطأ في إيرادها في ذيل قوله: " وكبكبوا فيها " الخ، وهو ظاهر للمتأمل. وفي المجمع وفي الخبر المأثور عن جابر بن عبد الله قال سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن الرجل يقول في الجنة: ما فعل صديقي ؟ وصديقه في الجحيم. فيقول الله: أخرجوا له صديقه إلى الجنة فيقول من بقي في النار: " فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ". وروي بالاسناد عن حمران بن اعين عن أبي عبد لله عليه السلام قال: والله لنشفعن لشيعتنا ثلاث مرات حتى يقول الناس: " فما لنا من شافعين ولا صديق حميم - إلى قوله - فنكون من المؤمنين " وفي رواية أخرى حتى يقول عدونا.

[ 294 ]

وفي تفسير القمي " فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين " قال: من المهتدين قال: لان الايمان قد لزمهم بالاقرار. أقول: مراده أنهم يؤمنون يومئذ إيمان إيقان لكنهم يرون أن الايمان يومئذ لا ينفعهم بل الايمان النافع هو الايمان في الدنيا فيتمنون أن يرجعوا إلى الدنيا ليكون ما عنده من الايمان من إيمان المهتدين وهم المؤمنون حقا المهتدون بإيمانهم يوم القيامة وهذا معنى لطيف، واليه يشير قوله تعالى: " ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون " سجده: 13، فلم يقولوا فارجعنا نؤمن ونعمل صالحا بل قالوا فارجعنا نعمل صالحا فافهم ذلك. * * * كذبت قوم نوح المرسلين - 105. إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون - 106. إني لكم رسول أمين - 107. فاتقوا الله وأطيعون - 108. وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين - 109. فاتقوا الله وأطيعون - 110. قالوا أنؤمن لك واتبعك الارذلون - 111. قال وما علمي بما كانوا يعملون - 112. إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون - 113. وما أنا بطارد المؤمنين - 114. إن أنا إلا نذير مبين - 115. قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين - 116. قال رب إن قومي كذبون - 117. فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين - 118. فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون - 119. ثم

[ 295 ]

أغرقنا بعد الباقين - 120. إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مومنين - 121. وإن ربك لهو العزيز الرحيم - 12. (بيان) تشير الآيات بعد الفراغ عن قصتي موسى وإبراهيم عليهما السلام وهما من أولي العزم إلى قصة نوح عليه السلام وهو أول أولي العزم سادة الانبياء، وإجمال ما جرى بينه وبين قومه فلم يؤمن به أكثرهم فاغرقهم الله وأنجي نوحا ومن معه من المؤمنين. قوله تعالى: " كذبت قوم نوح المرسلين " قال في المفردات: القوم جماعة الرجال في الاصل دون النساء، ولذلك قال: " لا يسخر قوم من قوم " الآية، قال الشاعر: أقوم آل حصن أم نساء، وفي عامة القرآن أريدوا به والنساء جميعا. انتهى. ولفظ القوم قيل: مذكر وتأيث الفعل المسند إليه بتأويل الجماعة وقيل: مؤنث وقال في المصباح: يذكر ويؤنث. وعدا القوم مكذبين للمرسلين مع أنهم لم يكذبوا إلا واحدا منهم وهو نوح علليه السلام إنما هو من جهة أن دعوتهم واحدة وكلمتهم متفقة على التوحيد فيكون المكذب للواحد منهم مكذبا للجميع ولذا عد الله سبحانه الايمان ببعض رسله دو بعض كفرا بالجميع قال تعالى: " إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا اولئك هم الكافرون حقا " النساء: 151. وقيل: هو من قبيل قولهم: فلان يركب الدواب ويلبس البرود وليس له إلا دابة واحدة وبردة واحدة فيكون الجمع كناية عن الجنس، والاول أوجه ونظير الوجهين جار في قوله الآتي: " كذبت عاد المرسلين " " كذبت ثمود المرسلين " وغيرهما. قوله تعالى: " إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون " المراد بالاخ النسيب كقولهم: اخو تميم واخو كليب والاستفهام للتوبيخ.

[ 296 ]

قوله تعالى: " إني لكم رسول أمين " أي رسول من الله سبحانه أمين على ما حملته من الرسالة لا أبلغكم إلا ما أمرني ربي وأراده منكم، ولذا فرع عليه قوله: " فاتقوا الله وأطيعون " فأمرهم بطاعته لان طاعته طاعة الله. قوله تعالى: " وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين " مسوق لنفي الطمع الدنيوي بنفي سؤال الاجر فيثبت بذلك أنه ناصح لهم فيما يدعوهم إليه لا يخونهم ولا يغشهم فعليهم أن يطيعوه فيما يأمرهم، ولذا فرع عليه ثانيا قوله: " فاتقوا الله وأطيعون ". والعدول في قوله: " إن أجري إلا على رب العالمين " عن إسم الجلالة إلى " رب العالمين " للدلالة على صريح التوحيد فإنهم كانوا يرون انه تعالى إله عالم الالهة وكانوا يرون لكل عالم إلها آخر يعبدونه من دون الله فإثباته تعالى رب اللعالمين جميعا تصريح بتوحيد لعبادة ونفي الآلهة من دون الله مطلقا. قوله تعالى: " فاتقوا الله وأطيعون " قد تقدم وجه تكرار الآية فهو يفيد أن كلا من الامانة وعدم سؤال الاجر سبب مستقل إيجاب طاعته عليهم. قوله تعالى: " قالوا انؤمن لك واتبعك الارذلون " الارذلون جمع أرذل على الصحة وهو اسم تفضيل من الرذالة والرذالة الخسة والدناءة، ومرادهم بكون متبعيه أراذل انهم ذوو أعمال رذيلة ومشاغل خسيسة ولذا أجاب عليه السلام عنه بمثل قوله: " وما علمي بما كانوا يعملون ".. والظاهر انهم كانوا يرون الشرف والكرامة في الاموال والجموع من البنين والاتباع كما يستفاد من دعاء نوح عليه السلام إذ يقول: " رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا "، نوح: 21. فمرادهم بالارذلين من يعدهم الاشراف والمترفون سفلة تجنبون معاشرتهم من العبيد والفقراء وأرباب الحرف الدنية. قوله تعالى: " قال وما علمي بما كانوا يعملون " الضمير لنوح عليه السلام، و " ما " استفهامية وقيل: نافية وعليه فالخبر محذوف لدلالة السياق عليه، والمراد على اي حال نفي علمه بأعمالهم قبل إيمانهم به لمكان قوله: " كانوا يعملون ". قوله تعالى: " إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون " المراد بقوله: " ربي " رب

[ 297 ]

العالمين فإنه الذي كان يختص نوح بالدعوة إليه من بينهم، وقوله: " تشعرون " مقطوع عن العمل أي لو كان لكم شعور، وقيل: المعنى لو تشعرون بشئ لعلمتم ذلك وهو كما ترى. والمعنى: بالنظر إلى الحصر الذي في صدر الآية انه لا علم لي بسابق أعمالهم وليس علي حسابهم حتى أتجسس وأبحث عن أعمالهم وإنما حسابهم على ربي " لو تشعرون " فيجازيهم حسب أعمالهم. قوله تعالى: " وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين "، الآية الثانية بمنزلة التعليل للاولى والمجموع متمم للبيان السابق والمعنى: لا شأن لي إلا الانذار والدعوة فلست أطرد من أقبل علي وآمن بي ولست أتفحص عن سابق أعمالهم لا حاسبهم عليها فحسابهم على ربي وهو رب العالمين لا علي. قوله تعالى: " قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين " المراد بالانتهاء ترك الدعوة، والرجم هو الرمي بالحجارة، وقيل: المراد به الشتم وهو بعيد، وهذا مما قالوه في آخر العهد من دعوتهم يهددونه عليه السلام بقول جازم كما يشهد به ما في الكلام من وجوه التأكيد. قوله تعالى: " قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا " الخ، هذا استفتاح منه عليه السلام وقد قدم له قوله: " رب إن قومي كذبون " على سبيل التوطئة أي تحقق منهم التكذيب المطلق الذي لا مطمع في تصديقهم بعده كما يستفاد من دعائه عليهم إذ يقول: " رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا " نوح: 27. وقوله: " فافتح بيني وبينهم فتحا " كناية عن القضاء بينه وبين قومه كما قال تعالى: " ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون " يونس: 47. وأصله من الاستعارة بالكناية كأنه وأتباعه والكفار من قومه اختلطوا واجتمعوا من غير تميز فسأل ربه أن يفتح بينهم بإيجاد فسحة بينه وبين قومه يبتعد بذلك أحد القبيلين من الآخر وذلك كناية عن نزول العذاب وليس يهلك إلا القوم الفاسقين والدليل عليه قوله بعد: " ونجني ومن معي من المؤمنين ".

[ 298 ]

وقيل: الفتح بمعنى الحكم والقضاء من الفتاحة بمعنى الحكومة. قوله تعالى: " فأجيناه ومن معه في الفلك المشحون " أي المملوء منهم ومن كل زوجين اثنين كما ذكره في سوره هود. قوله تعالى: " ثم أغرقنا بعد الباقين " أي أغرقنا بعد إنجائهم الباقين من قومه. قوله تعالى: " إن في ذلك لآية - إلى قوله - العزيز الرحيم " تقدم الكلام في معني الآيتين. (بحث روائي) في كتاب كمال الدين وروضة الكافي مسندا عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام في حديث: فمكث نوح ألف سنة إلا خمسين عاما لم يشاركه في نبوته أحد ولكنه قدم على قوم مكذبين للانبياء الذين كانوا بينه وبين آدم وذلك قوله عزوجل: " كذبت قوم نوح المرسلين " يعني من كان بينه وبين آدم إلى أن انتهى إلى قوله: " وإن ربك لهو العزيز الرحيم ". وقال فيه أيضا: فكان بينه وبين آدم عشرة آباء كلهم أنبياء، وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " واتبعك الارذلون " قال: الفقراء. وفيه وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " الفلك المشحون " المجهز الذي قد فرغ منه ولم يبق إلا دفعه. * * * كذبت عاد المرسلين - 123. إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون - 124. إني لكم رسول أمين - 125. فاتقوا الله وأطيعون - 126. وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين - 127.

[ 299 ]

أتبنون بكل ريع آية تعبثون - 128. وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون - 129. وإذا بطشتم بطشتم جبارين - 130. فاتقوا الله وأطيعون - 131. واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون - 132. أمدكم بأنعام وبنين - 133. وجنات وعيون - 134. إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم - 135. قالوا سواء علينا أو عظت أم لم تكن من الواعظين - 136. إن هذا إلا خلق الاولين - 137. وما نحن بمعذبين - 138. فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين - 139. وإن ربك لهو العزيز الرحيم - 140. (بيان) تشير الآيات إلى قصة هود عليه السلام وقومه وهو قوم عاد. قوله تعالى: " كذبت عاد المرسلين " قوم عاد من العرب العاربة الاولى كانوا يسكنون الاحقاف من جزيرة العرب لهم مدنية راقية وأراض خصبة وديار معمورة فكذبوا الرسل وكفروا بأنعم الله وأطغوا فأهلكهم الله بالريح العقيم وخرب ديارهم وعفا آثارهم. وعاد فيما يقال اسم أبيهم فتسميتهم بعاد من قبيل تسمية القوم باسم أبيهم كما يقال تميم وبكر وتغلب ويراد بنو تميم وبنو بكر وبنو تغلب. وقد تقدم في نظير الآية من قصة نوح وجه عد القوم مكذبين للمرسلين ولم يكذبوا ظاهرا إلا واحدا منهم. قوله تعالى: " إني لكم رسول أمين - إلى قوله - رب العالمين " تقدم الكلام فيها في نظائرها من قصة نوح عليه السلام.

[ 300 ]

وذكر بعض المفسرين أن تصدير هذه القصص الخمس بذكر أمانة الرسل وعدم سؤالهم أعلى رسالتهم وأمرهم الناس بالتقوى والطاعة للتنبيه على ان مبنى البعثة هو الدعاء إلى معرفة الحق والطاعة فيما يقرب المدعو من الثواب ويبعده من العقاب وإن الانبياء ع مجتمعون على ذلك وإن اختلفوا في بعض فروع الشرائع المختلفة بإختلاف الازمنة الاعصار، وانهم منزهون عن المطامع الدنيوية بالكلية انتهى. ونظيره الكلام في ختم جميع القصص السبع الموردة في السورة بقوله: " إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم "، ففيه دلالة على أن اكثر الامم والاقوام معرضون عن آيات الله، وان الله سبحانه عزيز يجازيهم على تكذيبهم رحيم ينجي المؤمنين برحمته، وقد تقدمت الاشارة إلى ذلك في الكلام على غرض السورة. قوله تعالى: " اتبنون بكل ريع آية تعبثون " الريع هو المرتفع من الارض والآية العلامة، والعبث الفعل الذي لا غاية له، وكأنهم كانوا يبنون على قلل الجبال وكل مرتفع من الارض ابنيه كالاعلام يتنزهون فيها ويفاخرون بها من غير ضرورة تدعوهم إلى ذلك بل لهوا واتباعا للهوى فوبخهم عليه. وقد ذكر للآية معان أخر لا دليل عليها من جهة اللفظ ولا ملاءمة للسياق اضربنا عنها. قوله تعالى: " وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون "، المصانع على ما قيل: الحصون المنيعة والقصور المشيدة والابنية العالية واحدها مصنع. وقوله: " لعلكم تخلدون " في مقام التعليل لما قبله أي تتخذون هذه المصانع بسبب أنكم ترجون الخلود ولو لا رجاء الخلود ما عملتم مثل هذه الاعمال التي من طبعها أن تدوم دهرا طويلا لا يفي به أطول الاعمار الانسانية، وقيل في معنى الآية ومفرداتها وجوه أخرى أغمضنا عنها. قوله تعالى: " وإذا بطشتم بطشتم جبارين " قال في المجمع: البطش العسف قتلا بالسيف وضربا بالسوط، والجبار العالي على غيره بعظيم سلطانه. وهو في صفة الله سبحانه مدح وفي صفة غيره ذم لان معناه في العبد أنه يتكلف الجبرية. انتهى.

[ 301 ]

فالمعنى: وإذا أظهرتم شدة في العمل وبأسا بالغتم في ذلك كما يبالغ الجبابرة في الشدة. ومحصل الآيات الثلاث أنكم مسرفون في جانبي الشهوة والغضب متعدون حد الاعتدال خارجون عن طور العبودية. قوله تعالى: " فاتقوا الله وأطيعون " تفريع على إسرافهم في جانبي الشهوة والغضب وخروجهم عن طور العبودية فليتقوا الله وليطيعوه فيما يأمرهم به من ترك الاتراف والاستكبار. قوله تعالى: " واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون - إلى قوله - وعيون " قال الراغب: أصل المد الجر، قال: وأددت الجيش بمدود والانسان بطعام قال: وأكثر ما جاء الامداد في المحبوب والمد في المكروه، قال تعالى: " وأمددنا هم بفاكهة " " ونمد له من العذاب مدا " انتهى ملخصا. وقوله: " واتقوا الذي أمدكم " الخ، في معنى تعليق الحكم بالوصف المشعر بالعلية أي اتقوا الله الذي يمدكم بنعمه لانه يمدكم بها فيجب عليكم أن تشكروه بوضع نعمه في موضعها من غير إتراف واستكبار فإن كفران النعمة يستعقب السخط والعذاب قال تعالى: " لئن شكرتم لا زيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد " إبراهيم: 7. وقد ذكر النعم إجمالا بقوله أولا: " أمدكم بما تعلمون " ثم فصلها بقوله ثانيا: " أمدكم بأموال وبنين وجنات وعيون ". وفي قوله: " أمدكم بما تعلمون " نكتة أخرى هي أنكم تعلمون أن هذه النعم من إمداده تعالى وصنعه لا يشاركه في إيجادها والامداد بها غيره فهو الذي يجب لكم أن تتقوه بالشكر والعبادة دون الاوثان والاصنام فالكلام متضمن للحجة. قوله تعالى: " إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " تعليل للامر بالتقوى أي إني آمركم بالتقوى شكرا لاني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم إن تكفروا ولم تشكروا، والظاهر أن المراد باليوم العظيم يوم القيامة وإن جوز بعضهم أن يكون المراد به يوم عذاب الاستئصال.

[ 302 ]

قوله تعالى: " قالوا سواء علينا أو عظت أم لم تكن من الواعظين " نفي لاثر كلامه وإيآس له من إيمانهم بالكلية. قيل: الكلام لا يخلو من مبالغة فقد كان مقتضى الترديد أن يقال: أو عظت أم لم تعظ ففي العدول عنه إلى قوله: " أم لم تكن من الواعظين " النافي لاصل كونه واعظا ما لا يخفى من المبالغة. قوله تعالى: " إن هذا إلا خلق الاولين " الخلق بضم الخاء واللام أو سكونها قال الراغب: الخلق والخلق - أي بفتح الخاء وضمها - في الاصل واحد كالشرب والشرب والصرم والصرم لكن خص الخلق - بفتح الخاء - بالهيئات والاشكال والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق - بضم الخاء - بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة، قال تعالى: " إنك لعلى خلق عظيم " وقرئ " إن هذا إلا خلق الاولين " انتهى. والاشارة بهذا إلى ما جاء به هود وقد سموه وعظا والمعنى: ليس ما تلبست به من الدعوة إلى التوحيد والموعظة إلا عادة البشر الاولين الماضين من أهل الاساطير والخرافات، وهذا كقولهم: إن هذا إلا أساطير الاولين. ويمكن أن تكون الاشارة بهذا إلى ما هم فيه من الشرك وعبادة الآلهة من دون الله اقتداء بآبائهم الاولين كقولهم: " وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ". واحتمل بعضهم أن يكون المراد ما خلقنا هذا إلا خلق الاولين نحيا كما حيوا ونموت كما ماتوا ولا بعث ولا حساب ولا عذاب. وهو بعيد من السياق. قوله تعالى: " وما نحن بمعذبين " إنكار للمعاد بناء على كون المراد باليوم العظيم في كلام هود عليه السلام يوم القيامة. قوله تعالى: " فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية - إلى قوله - الرحيم " معناه ظاهر مما تقدم. (بحث روائي) في كتاب كمال الدين وروضة الكافي مسندا عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر محمد

[ 303 ]

بن علي الباقر عليه السلام في حديث: وقال نوح إن الله تبارك وتعالى باعث نبيا يقال له هود وانه يدعو قومه إلى الله عز وجل فيكذبونه وان الله عزوجل يهلكهم بالريح فمن أدركه منكم فليؤمن به وليتبعه فإن الله تبارك وتعالى ينجيه من عذاب الريح. وأمر نوح ابنه سام ان يتعاهد هذه الوصية عند رأس كل سنة ويكون يوم عيد لهم فيتعاهدون فيه بعث هود وزمانه الذي يخرج فيه. فلما بعث الله تبارك وتعالى هودا نظروا فيما عندهم من العلم والايمان وميراث العلم والاسم الاكبر وآثار علم النبوة فوجدوا هودا نبيا وقد بشرهم أبوهم نوح به فآمنوا به وصدقوه واتبعوه فنجوا من عذاب الريح، وهو قول الله عزوجل: " وإلى عاد أخاهم هودا " وقوله: " كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون ". وفي المجمع في قوله تعالى: " آية تعبثون " أي ما لا تحتاجون إليه لسكناكم وإنما تريدون العبث بذلك واللعب وللهو كأنه جعل بناهم ما يستغنون عنه عبثا منهم عن ابن عباس في رواية عطاء، ويؤيده الخبر المأثور عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج فرأى قبة فقال: ما هذه ؟ فقالوا له أصحابه: هذا الرجل من الانصار فمكث حتى إذا جاء صاحبها فسلم في الناس أعرض عنه صنع ذلك مرارا حتى عرف الرجل الغضب به والاعراض عنه. فشكى ذلك إلى أصحابه و قال: والله إني لانكر نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أدري ما حدث في وما صنعت ؟ قالوا خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرأى قبتك فقال: لمن هذه ؟ فأخبرناه فرجع إلى قبته فسواها بالارض فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم فلم ير القبة فقال: ما فعلت القبة التي كانت ههنا ؟ قالوا: شكى الينا صاحبها إعراضك عنه فأخبرناه فهدمها. فقال: إن كل ما يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة إلا ما لا بد منه. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وإذا بطشتم بطشتم جبارين " قال: تقتلون بالغضب من غير استحقاق.

[ 304 ]

* * * كذبت ثمود المرسلين - 141. إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون - 142. إني لكم رسول أمين - 143. فاتقوا الله وأطيعون - 144. وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين - 145. أتتركون فيما ههنا آمنين - 146. في جنات وعيون - 147. وزروع ونخل طلعها هضيم - 148. وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين - 149. فاتقوا الله وأطيعون - 150. ولا تطيعوا أمر المسرفين - 151. الذين يفسدون في الارض ولا يصلحون - 152. قالوا إنما أنت من المسحرين - 153. ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين - 154. قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم - 155. ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم - 156. فعقروها فأصبحوا نادمين - 157. فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين - 158. وإن ربك لهو العزيز الرحيم - 159. (بيان) تشير الآيات إلى إجمال قصة صالح عليه السلام وقومه وهو من أنبياء العرب ويذكر في القرآن بعد هود عليه السلام. قوله تعالى: " كذبت ثمود المرسلين - إلى قوله - على رب العالمين " قد اتضح معناها مما تقدم.

[ 305 ]

قوله تعالى: " أتتركون فيما ههنا آمنين " الظاهر أن الاستفهام للانكار و " ما " موصولة والمراد بها النعم التي يفصلها بعد قوله: " في جنات وعيون " الخ، و " ههنا " إشارة إلى المكان الحاضر القريب وهو أرض ثمود و " آمنين " حال من نائب فاعل " تتركون ". والمعنى: لا تتركون في هذه النعم التي أحاطت بكم في أرضكم هذه وأنتم مطلقو العنان لا تسألون عما تفعلون آمنون من أي مؤاخذة إلهية. قوله تعالى: " في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم " بيان تفصيلي لقوله: " فيما ههنا "، وقد خص النخل بالذكر مع دخوله في الجنات لاهتمامهم به، والطلع في النخل كالنور في سائر الاشجار والهضيم - على ما قيل - المتداخل المنضم بعضه إلى بعض. قوله تعالى: " وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين " قال الراغب: الفره - بالفتح فالكسر صفة مشبهة - الاشر، وقوله تعالى: " وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين " أي حاذقين وقيل: معناه أشرين. انتهى ملخصا، وعلى ما اختاره تكون الآية من بيان النعمة، وعلى المعنى الآخر تكون مسوقة لانكار أشرهم وبطرهم. والآية على أي حال في حيز الاستفهام. قوله تعالى: " فاتقوا الله وأطيعون " تفريع على ما تقدم من الانكار الذي في معنى المنفي. قوله تعالى: " ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الارض ولا يصلحون " الظاهر أن المراد بالامر ما يقابل النهي بقرينة النهي عن طاعته وإن جوز بعضهم كون الامر بمعنى الشأن وعليه يكون المراد بطاعة أمرهم تقليد العامة واتباعهم لهم في أعمالهم وسلوكهم السبل التي يستحبون لهم سلوكها. والمراد بالمسرفين على أي حال أشراف القوم وعظماؤهم المتبوعون والخطاب للعامة التابعين لهم وأما السادة الاشراف فقد كانوا مأيوسا من إيمانهم واتباعهم للحق.

[ 306 ]

ويمكن أن يكون الخطاب للجميع من جهة أن الاشراف منهم أيضا كانوا يقلدون آباءهم ويطيعون أمرهم كما قالوا لصالح عليه السلام: " أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا " هود: 62، فقد كانوا جميعا يطيعون أمر المسرفين فنهوا عنه. وقد فسر المسرفين وهم المتعدون عن الحق الخارجون عن حد الاعتدال بتوصيفهم بقوله: " الذين يفسدون في الارض ولا يصلحون " إشارة إلى علة الحكم الحقيقية فالمعنى اتقوا الله ولا تطيعوا أمر المسرفين لانهم مفسدون في الارض غير مصلحين والافساد لا يؤمن معه العذاب الالهي وهو عزيز ذو انتقام. وذلك أن الكون على ما بين أجزائه من التضاد والتزاحم مؤلف تأليفا خاصا يتلاءم معه أجزاؤه بعضها مع بعض في النتائج والآثار كالامر في كفتي الميزان فإنهما على اضطرابها واختلافها الشديد بالارتفاع والانخفاض متوافقتان في تعيين وزن المتاع الموزون وهو الغاية العالم الانساني الذي هو جزء من الكون كذلك ثم الفرد من الانسان بما له من القوى والادوات المختلفة المتضادة مفطور على تعديل أفعاله وأعماله بحيث تنال كل قوة من قواه حظها المقدر لها وقد جهز بعقل يميز بين الخير والشر ويعطي كل ذي حق حقه. فالكون يسير بالنظام الجاري فيه إلى غايات صالحة مقصودة وهو بما بين أجزائه من الارتباط التام يخط لكل من أجزائه سبيلا خاصا يسير فيها بأعمال خاصة من غير أن يميل عن حاق وسطها إلى يمين أو يسار أو ينحرف بإفراط أو تفريط فإن في الميل والانحراف إفسادا للنظام المرسوم، ويتبعه إفساد غايته وغاية الكل، ومن الضروري أن خروج بعض الاجزاء عن خطه المخطوط له وإفساد النظم المفروض له ولغيره يستعقب منازعة بقية الاجزاء له فإن استطاعت أن تقيمه وترده إلى وسط الاعتدال فهو وإلا أفنته وعفت آثاره حفظا لصلاح الكون واستبقاء لقوامه. والانسان الذي هو أحد أجزاء الكون غير مستثنى من هذه الكلية فإن جرى على ما يهديه إليه الفطرة فاز بالسعادة المقدرة له وإن تعدي حدود فطرته وأفسد في الارض أخذه الله سبحانه بالسنين والمثلات وأنواع النكال والنقمة لعله يرجع إلى الصلاح والسداد قال تعالى: " ظهر الفساد فالبر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم

[ 307 ]

بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون " الروم: 41. وإن أقاموا مع ذلك على الفساد لرسوخه في نفوسهم أخذهم الله بعذاب الاستئصال وطهر الارض من قذارة فسادهم قال تعالى: " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون " الاعراف: 96. وقال: " وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون " هود: 117، وقال: " إن الارض يرثها عبادي الصالحون " الانبياء: 105، وذلك أنهم إذا صلحوا صلحت أعمالهم وإذا صلحت أعمالهم وافقت النظام العام وصلحت بها الارض لحياتهم الارضية. فقد تبين بما مر أولا: أن حقيقة دعوة النبوة هي إصلاح الحياة الانسانية الارضية قال تعالى حكاية عن شعيب: " إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت " هود: 88. وثانيا: أن قوله: " ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون الخ " على سذاجة بيانه معتمد على حجة برهانية. ولعل في قوله: " ولا يصلحون " بعد قوله: " الذين يفسدون في الارض " إشارة إلى أنه كان المتوقع منهم بما أنهم بشر ذوو فطرة إنسانية أن يصلحوا في الارض لكنهم انحرفوا عن الفطرة وبدلوا الاصلاح إفسادا. قوله تعالى: " قالوا إنما أنت من المسحرين " أي ممن سحر مرة بعد مرة حتى غلب على عقله، وقيل: إن السحر أعلى البطن والمسحر من له جوف فيكون كناية عن أنك بشر مثلنا تأكل وتشرب فيكون قوله بعده: " وما أنت إلا بشر مثلنا " تأكيدا له، وقيل: المسحر من لسحر أي رئة كأن مرادهم أنك متنفس بشر مثلنا. قوله تعالى: " وما أنت إلا بشر مثلنا - إلى قوله - عذاب يوم عظيم " الشرب بكسر الشين النصيب من الماء، والباقي ظاهر وقد تقدمت تفصيل القصة في سورة هود. قوله تعالى: " فعقروها فأصبحوا نادمين " نسبة العقر إلى الجميع - ولم يعقرها إلا واحد منهم - لرضاهم بفعله، وفي نهج البلاغة: أيها الناس إنما يجمع الناس الرضى والسخط وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضا فقال سبحانه: " فعقروها فأصبحوا نادمين ".

[ 308 ]

وقوله: " فأصبحوا نادمين " لعل ندمهم إنما كان عند مشاهدتهم ظهور آثار العذاب وإن قالوا له بعد العقر تعجيزا واستهزاء: " يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين " الاعراف: 77. قوله تعالى: " فأخذهم العذاب - إلى قوله - العزيز الرحيم " اللام للعهد أي أخذهم العذاب الموعود فإن صالحا وعدهم نزول العذاب بعد ثلاثة أيام كما في سورة هود، والباقي ظاهر. * * * كذبت قوم لوط المرسلين - 160. إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون - 161. إني لكم رسول أمين - 162. فاتقوا الله وأطيعون - 163. وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين - 164. أتأتون الذكران من العالمين - 165. وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون - 166. قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين - 167. قال إني لعملكم من القالين - 168. رب نجني وأهلي مما يعملون - 169. فنجيناه وأهله أجمعين - 170. إلا عجوزا في الغابرين - 171. ثم دمرنا الآخرين - 172. وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين - 173. إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين - 174. وإن ربك لهو العزيز الرحيم - 175.

[ 309 ]

(بيان) تشير الآيات إلى قصة لوط النبي عليه السلام وهو بعد صالح عليه السلام. قوله تعالى: " كذبت قوم لوط المرسلين - إلى قوله - رب العالمين "، تقد تفسيره. قوله تعالى: " أتأتون الذكران من العالمين " الاستفهام للانكار والتوبيخ والذكران جمع ذكر مقابل الانثى وإتيانهم كناية عن اللواط وقد كان شاع فيما بينهم، والعالمين جمع عالم وهو الجماعة من الناس. وقوله: " من العالمين " يمكن أن يكون متصلا بضمير الفاعل في " تأتون " والمراد أتأتون أنتم من بين العالمين هذا العمل الشنيع ؟ فيكون في معنى قوله في موضع آخر: " ما سبقكم بها من أحد من العالمين " الاعراف: 80، العنكبوت: 28. ويمكن ان يكون متصلا بقوله: " الذكران " والمعنى على هذا أتنكحون من بين العالمين - على كثرتهم واشتمالهم على النساء - الرجال فقط ؟. قوله تعالى: " وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم " الخ " تذرون " بمعنى تتركون ولا ماضي له من مادته. والمتأمل في خلق الانسان وانقسام أفراده إلى صنفي الذكر والانثى وما جهز به كل من الصنفين من الاعضاء والادوات وما يختص به من الخلقة لا يرتاب في ان غرض الصنع والايجاد من هذا التصوير المختلف وإلقاء غريزة الشهوة في القبيلين وتفريق أمرهما بالفعل والانفعال أن يجمع بينهما بالنكاح ليتوسل بذلك إلى التناسل الحافظ لبقاء النوع حتى حين. فالرجل من الانسان بما هو رجل مخلوق للمرأة منه لا لرجل مثله والمرأة من الانسان بما هي امرأة مخلوقة للرجل منه لا لامرأة مثلها وما يختص به الرجل في خلقته للمرأة وما تختص به المرأة في خلقتها للرجل وهذه هي الزوجية الطبيعية التي عقدها الصنع والايجاد بين الرجل والمرأة من الانسان فجعلهما زوجين.

[ 310 ]

ثم الاغراض والغايات الاجتماعية أو الدينية سنت بين الناس سنة النكاح الاجتماعي الاعتباري الذي فيه نوع من الاختصاص بين الزوجين وقسم من التحديد للزوجية الطبيعية المذكورة فالفطرة الانسانية والخلقة الخاصة تهديه إلى ازدواج الرجال بالنساء دون الرجال وازدواج النساء بالرجال دون النساء، وأن الازدواج مبني على أصل التوالد والتناسل دون الاشتراك في مطلق الحياة. ومن هنا يظهر أن الاقرب ان يكون المراد بقوله: " ما خلق لكم ربكم " العضو المباح للرجال من النساء بالازدواج واللام لملك الطبيعي، وان من في قوله: " من أزواجكم " للتبعيض والزوجية هي الزوجية الطبيعية وإن أمكن ان يراد بها الزوجية الاجتماعية الاعتبارية بوجه. وأما تجويز بعضهم ان يراد بلفظة " ما " النساء ويكون قوله: " من أزواجكم " بيانا له فبعيد. وقوله: " بل أنتم قوم عادون " أي متجاوزون خارجون عن الحد الذي خطته لكم الفطرة والخلقة فهو في معنى قوله: " إنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل " العنكبوت: 29. وقد ظهر من جميع ما مر أن كلامه عليه السلام مبني على حجة برهانية أشير إليها. قوله تعالى: " قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين " أي المبعدين المنفيين من قريتنا كما نقل عنهم في موضع آخر: " أخرجوا آل لوط من قريتكم ". قوله تعالى: " قال إني لعملكم من القالين " المراد بعملهم - على ما يعطيه السياق - إتيان الذكران وترك الاناث. ولقالي المبغض، ومقابلة تهديدهم بالنفي بمثل هذا الكلام من غير تعرض للجواب عن تهديدهم يفيد من المعنى أني لا أخاف الخروج من قريتكم ولا أكترث به بل مبغض لعملكم راغب في النجاة من وباله النازل بكم لا محالة، ولذا أتبعه بقوله: " رب نجني وأهلي مما يعملون ". قوله تعالى: " رب نجنى وأهلي مما يعملون " أي من أصل عملهم الذي يأتون به بمرئى ومسمع منه فهو منزجر منه أو من وبال عملهم والعذاب الذي سيتبعه لا محالة. وإنما لم يذكر إلا نفسه وأهله إذ لم يكن آمن به من أهل القرية أحد، قال تعالى

[ 311 ]

في ذلك: " فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين " الذاريات: 36. قوله تعالى: " فنجيناه وأهله أجمعين - إلى قوله - الآخرين " الغابر كما قيل الباقي بعد ذهاب من كان معه، والتدمير الاهلاك، والباقي ظاهر. قوله تعالى: " وأمطرنا عليهم مطرا " الخ، وهو السجيل كما قال تعالى: " وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل " الحجر: 74. قوله تعالى: " إن في ذلك لآية - إلى قوله - العزيز الرحيم " تقدم تفسيره. * * * كذب أصحاب الايكة المرسلين - 176. إذ قال لهم شعيب ألا تتقون - 177. إني لكم رسول أمين - 178. فاتقوا الله وأطيعون - 179. وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين - 180. أفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين - 181. وزنوا بالقسطاس المستقيم - 182. ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الارض مفسدين - 183. واتقوا الذي خلقكم والجبلة الاولين - 184. قالوا إنما أنت من المسحرين - 185. وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين - 186. فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين - 187. قال ربي أعلم بما تعملون - 188. فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم - 189. إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين - 190. وإن ربك لهو العزيز الرحيم - 191.

[ 312 ]

(بيان) إجمال قصة شعيب عليه السلام وهو من أنبياء العرب، وهي آخر القصص السبع الموردة في السورة. قوله تعالى: " كذب أصحاب الئيكة المرسلين - إلى قوله - رب العالمين " الايكة الغيضة الملتف شجرها. قيل: إنها كانت غيضة بقرب مدين يسكنها طائفة وكانوا ممن بعث إليهم شعيب عليه السلام، وكان أجنبيا منهم ولذلك قيل: " إذ قال لهم شعيب " ولم يقل: أخوهم شعيب بخلاف هود وصالح فقد كانا نسيبين إلى قومهما وكذا لوط فقد كان نسيبا إلى قومه بالمصاهرة ولذا عبر عنهم بقوله: " أخوهم هود " " أخوهم صالح " " أخوهم لوط ". وقد تقدم تفسير باقي الآيات. قوله تعالى: " أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم " الكيل ما يقدر به المتاع من جهة حجمه وإيفاؤه أن لا ينقص الحجم، والقسطاس الميزان الذي يقدر به من جهة وزنه واستقامته أن يزن بالعدل، والآيتان تأمران بالعدل في الاخذ والاعطاء بالكيل والوزن. قوله تعالى: " ولا تبخسوا الناس أشياء هم ولا تعثوا في الارض مفسدين " البخس النقص في الوزن والتقدير كما أن الاخسار النقص في رأس المال. وظاهر السياق أن قوله: " ولا تبخسوا الناس أشياءهم " أي سلعهم وأمتعتهم قيد متمم لقوله: " وزنوا بالقسطاس المستقيم " كما أن قوله: " ولا تكونوا من المخسرين " قيد متمم لقوله " أوفوا الكيل " وقوله: " ولا تعثوا " في الارض مفسدين " تأكيد للنهيين جميعا أعني قوله: " لا تخسروا " وقوله: " لا تبخسوا " وبيان لتبعة التطفيف السيئة المشومة. وقوله: " ولا تعثوا في الارض مفسدين " العثي والعيث الافساد، فقوله: " مفسدين " حال مؤكد وقد تقدم في قصة شعيب من سورة هود وفي قوله: " وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا " الآية 35 من سورة الاسراء كلام في كيفية

[ 313 ]

إفساد التطفيف المجتمع الانساني، فراجع. قوله تعالى: " واتقوا الذي خلقكم والجبلة الاولين " قال في المجمع: الجبلة الخليقة التي طبع عليها الشئ. انتهى. فالمراد بالجبلة ذوو الجبلة أي اتقوا الله الذي خلقكم وآبائكم الاولين الذين فطرهم وقررفي جبلتهم تقبيح الفساد والاعتراف بشؤمه. ولعل هذا الذي أشرنا إليه من المعنى هو الموجب لتخصيص الجبلة بالذكر، وفي الآية على أي حال دعوة إلى توحيد العبادة فإنهم لم يكونوا يتقون الخالق الذي هو رب العالمين. قوله تعالى: " قالوا إنما أنت من المسحرين - إلى قوله - وإن نظنك لمن الكاذبين " تقدم تفسير الصدر، و " إن " في قوله: " إن نظنك " مخففة من الثقيلة. قوله تعالى: " فأسقط علينا كسفا من السماء " الخ، الكسف بالكسر فالفتح - على ما قيل - جمع كسفة وهي القطعة، والامر مبني على التعجيز والاستهزاء. قوله تعالى: " قال ربي أعلم بما تعملون " جواب شعيب عن قولهم واقتراحهم منه إتيان العذاب، وهو كناية عن أنه ليس له من الامر شئ وإنما الامر إلى الله لانه أعلم بما يعملون وأن عملهم هل يستوجب عذابا ؟ وما هو العذاب الذي يستوجبه إذا استوجب ؟ فهو كقول هود لقومه: " إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به " الاحقاف: 23. قوله تعالى: " فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة " الخ، يوم الظلة يوم عذب فيه قوم شعيب بظلة من الغمام، وقد تقدم تفصيل قصتهم في سورة هود. قوله تعالى: " إن في ذلك لآية - إلى قوله - العزيز الرحيم " تقدم تفسيره. (بحث روائي) في جوامع الجامع في قوله تعالى: " إذ قال لهم شعيب " وفي الحديث أن شعيبا أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الايكة. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " واتقوا الذي خلقكم والجبلة الاولين " قال:

[ 314 ]

الخلق الاولين، وقوله: " فكذبوه " قال: قوم شعيب " فأخذهم عذاب يوم الظلة " قال: يوم حر وسمائم. * * * وإنه لتنزيل رب العالمين - 192. نزل به الروح الامين - 193. على قلبك لتكون من المنذرين - 194. بلسان عربي مبين - 195. وإنه لفي زبر الاولين - 196. أولم يكن لهم آية أن يعلمه علمؤا بني إسرائيل - 197. ولو نزلناه على بعض الاعجمين - 198. فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين - 199. كذلك سلكناه في قلوب المجرمين - 200. لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الاليم - 201. فيأتهيم بغتة وهم لا يشعرون - 202. فيقولوا هل نحن منظرون - 203. أفبعذابنا يستعجلون - 204. وأفرأيت إن متعنا هم سنين - 205. ثم جاءهم ما كانوا يوعدون - 206. ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون - 207. وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون - 208. ذكرى وما كنا ظالمين - 209. وما تنزلت به الشياطين - 210. وما ينبغي لهم وما يستطيعون - 211. إنهم عن السمع لمعزولون - 212. فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين - 213. وأنذر عشيرتك الاقربين - 214. واخفض جناحك لمن اتبعك من

[ 315 ]

المؤمنين - 215. فإن عصوك فقل إني برئ مما تعملون - 216. وتوكل على العزيز الرحيم - 217. الذي يريك حين تقوم - 218. وتقلبك في الساجدين - 219. إنه هو السميع العليم - 220. هل أنبئكم على من تنزل الشياطين - 221. تنزل على كل أفاك أثيم - 222. يلقون السمع وأكثرهم كاذبون - 223. والشعراء يتبعهم الغاون - 224. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون - 225. وأنهم يقولون ما لا يفعلون - 226. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون - 227. (بيان) تشير الآيات إلى ما هو كالنتيجة المستخرجة من القصص السبع السابقة ويتضمن التوبيخ والتهديد لكفار الامة. وفيها دفاع عن نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاحتجاج عليه بذكره في زبر الاولين وعلم علماء بني إسرائيل به، ودفاع عن كتابه بالاحتجاج على أنه ليس من إلقاءات الشياطين ولا من أقاويل الشعراء. قوله تعالى: " وإنه لتنزيل رب العالمين " الضمير للقرآن، وفيه رجوع إلى ما في صدر السورة من قوله: " تلك آيات الكتاب المبين " وتعقيب لحديث كفرهم به كما في قوله بعد ذلك: " وما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث إلا كانوا عنه معرضين، فقد كذبوا به " الآية.

[ 316 ]

والتنزيل الانزال بمعنى واحد، غير أن الغالب على باب الافعال الدفعة وعلى باب التفعيل التدريج، وأصل النزول في الاجسام انتقال الجسم من مكان عال إلى ما هو دونه وفي غير الاجسام بما يناسبه. وتنزيله تعالى إخراجه الشئ من عنده إلى موطن الخلق والتقدير وقد سمى نفسه بالعلي العظيم والكبير المتعال ورفيع الدرجات والقاهر فوق عباده فيكون خروج الشئ بإيجاده من عنده إلى عالم الخلق والتقدير - وإن شئت فقل: إخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة - تنزيلا منه تعالى له. وقد استعمل الانزال والتنزيل في كلامه تعالى في أشياء بهذه العناية كقوله تعالى: " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم " الاعراف: 26، وقوله: " وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج " الزمر: 6، وقوله: " وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد " الحديد: 25، وقوله: " ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم " البقرة: 105، وقد أطلق القول في قوله: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " الحجر: 21. ومن الآيات الدالة على اعتبار هذا المعنى في خصوص القرآن قوله تعالى: " إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم " الزخرف: 4. وقد أضيف التنزيل إلى رب العالمين للدلالة على توحيد الرب تعالى لما تكرر مرارا أن المشركين إنما كانوا يعترفون به تعالى بما أنه رب الارباب ولا يرون أنه رب العالمين. قوله تعالى: " نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين " المراد بالروح الامين هو جبريل ملك الوحي بدليل قوله: " من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله " البقرة: 97، وقد سماه في موضع آخر بروح القدس: " قل نزله روح القدس من ربك بالحق " النحل: 102، وقد تقدم في تفسير سورتي النحل والاسراء ما يتعلق بمعنى الروح من الكلام. وقد وصف الروح بالامين للدلالة على أنه مأمون في رسالته منه تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم لا يغير شيئا من كلامه تعالى بتبديل أو تحريف بعمد أو سهو أو نسيان كما أن

[ 317 ]

توصيفه في آية أخرى بالقدس يشير إلى ذلك. وقوله: " نزل به الروح " الباء للتعدية أي نزله الروح الامين، وأما قول من قال: إن الباء للمصاحبة والمعنى نزل معه الروح فلا يلتفت إليه لان العناية في المقام بنزول القرآن لا بنزول الروح مع القرآن. والضمير في " نزل به " للقرآن بما أنه كلام مؤلف من ألفاظ لها معانيها الحقة فإن الفاظ القرآن نازلة من عنده تعالى كما أن معانيها نازلة من عنده على ما هو ظاهر قوله: " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " القيامة: 18، وقوله: " تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق " آل عمران: 108، الجاثية: 6، إلى غير ذلك. فلا يعبؤ بقول من قال: إن الذي نزل به الروح الامين إنما هو معاني القرآن الكريم ثم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعبر عنها بما يطابقها ويحكيها من الالفاظ بلسان عربي. وأسخف منه قول من قال: إن القرآن بلفظه ومعناه من منشآت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألقته مرتبة من نفسه الشريفة تسمى الروح الامين إلى مرتبة منها تسمى القلب. والمراد بالقلب المنسوب إليه الادراك والشعور في كلامه تعالى هو النفس الانسانية التي لها الادراك واليها تنتهي أنواع الشعور والارادة دون اللحم الصنوبري المعلق عن يسار الصدر الذي هو أحد الاعضاء الرئيسة كما يستفاد من مواضع في كلامه تعالى، كقوله: " وبلغت القلوب الحناجر " الاحزاب: 10، أي الارواح، وقوله: " فإنه آثم قلبه " البقرة: 283، أي نفسه إذ لا معنى لنسبة الاثم إلى العضو الخاص. ولعل الوجه في قوله: " نزل به الروح الامين على قلبك " دون أن يقول: عليك هو الاشارة إلى كيفية تلقيه صلى الله عليه وآله وسلم القرآن النازل عليه، وأن الذي كان يتلقاه من الروح هو نفسه ان شريفة من غير مشاركة الحواس الظاهرة التي هي الادوات المستعملة في إدراك الامور الجزئية. فكان صلى الله عليه وآله وسلم يرى ويسمع حينما كان يوحي إليه من غير أن يستعمل حاستي البصر والسمع كما روي أنه كان يأخذه شبه إغماء يسمي برجاء الوحي. فكان صلى الله عليه وآله وسلم يرى الشخص ويسمع الصوت مثل ما نرى الشخص ونسمع الصوت غير أنه ما كان يستخدم حاستي بصره وسمعه الماديتين في ذلك كما نستخدمهما.

[ 318 ]

ولو كان رؤيته وسمعه بالبصر والسمع الماديين لكان ما يجده مشتركا بينه وبين غيره فكان سائر الناس يرون ما يراه ويسمعون ما يسمعه، والنقل القطعي يكذب ذلك فكثيرا ما كان يأخذه برجاء الوحي وهو بين الناس فيوحى إليه ومن حوله لا يشعرون بشئ ولا يشاهدون شخصا يكلمه ولا كلا ميلقى إليه. والقول بأن من الجائز أن يصرف الله تعالى حواس غيره صلى الله عليه وآله وسلم من الناس عن بعض ما كانت تناله حواسه وهي الامور الغيبية المستورة عنا. هدم لبنيان التصديق العلمي إذ لو جاز مثل هذا الخطأ العظيم على الحواس وهي مفتاح العلوم الضرورية والتصديقات البديهية وغيرها لم يبق وثوق على شئ من العلوم والتصديقات. على أن هذا الكلام مبني على أصالة الحس وأن لا وجود إلا لمحسوس وهو من أفحش الخطأ وقد تقدم في تفسير سورة مريم كلام في معنى تمثل الملك نافع في المقام. وربما قيل في وجه تخصيص القلب بالانزال أنه لكونه هو المدرك المكلف دون الجسد وإن كان يتلقى الوحي بتوسيط الادوات البدنية من السمع والبصر، وقد عرفت ما فيه. وربما قيل: لما كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم جهتان: جهة ملكية يستفيض بها، وجهة بشرية يفيض بها، جعل الانزال على روحه لانها المتصفة بالصفات الملكية التي يستفيض بها من الروح الامين، وللاشارة إلى ذلك قيل: " على قلبك " ولم يقل: عليك مع كونه أخصر. انتهى. وهذا أيضا مبني على مشاركة الحواس والقوى البدنية في تلقي الوحي فيرد عليه ما قدمناه. وذكر جمع من المفسرين أن المراد بالقلب هو العضو الخاص البدني وأن الادراك كيفما كان من خواصه. فمنهم من قال: إن جعل القلب متعلق الانزال مبني على التوسع لان الله تعالى يسمع القرآن جبريل بخلق الصوت فيحفظه وينزل به على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويقرؤه عليه فيعيه ويحفظه بقلبه فكأنه نزل به لى قلبه.

[ 319 ]

ومنهم من قال: إن تخصيص القلب بالانزال لان المعاني الروحانية تنزل أولا على الروح ثم تنتقل منها إلى القلب لما بينهما من التعلق ثم تنتقل منه إلى الدماغ فينتقش بها لوح المتخيلة. ومنهم من قال: إن تخصيصه به للاشارة إلى كمال تعقله صلى الله عليه وآله وسلم حيث لم يعتبر الوسائط من سمع وبصر وغيرهما. ومنهم من قال: إن ذلك للاشارة إلى صلاح قلبه صلى الله عليه وآله وسلم وتقدسه حيث كان منزلا لكلامه تعالى ليعلم به صلاح سائر أجزائه وأعضائه فإن القلب رئيس سائر الاعضاء وملكها وإذا صلح الملك صلحت رعيته. ومنهم من قال: إن ذلك لان الله تعالى جعل لقلب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم سمعا وبصرا مخصوصين يسمع ويبصر بهما تمييزا لشأنه من غيره كما يشعر به قوله تعالى: " ما كذب الفؤاد ما رأى " النجم: 11. وهذه الوجوه مضافا على اشتمال أكثرها على المجازفة مبنية على قياس هذه الامور الغيبية على ما عندنا من الحوادث المادية وإجراء حكمها فيها وقد بلغ من تعسف بعضهم أن قال: إن معنى إنزال الملك القرآن أن الله ألهمه كلامه وهو في السماء وعلمه قراءته ثم الملك أداه في الارض وهو يهبط في المكان وفي ذلك طريقتان: إحداهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انخلغ من صورة البشرية إلى صورة الملكية فأخذه من الملك، وثانيتهما أن الملك انخلع إلى صورة البشرية حتى يأخذه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاولى أصعب الحالين. انتهى. وليت شعري ما الذي تصوره من انخلاع الانسان من صورته إلى صورة الملكية وصيرورته ملكا ثم عوده إنسانا ومن انخلاع الملك إلى صورة الانسانية وقد فرض لكل منهما هوية مغايرة للآخر لا رابطة بين أحدهما والآخر ذاتا وأثرا وفي كلامه مواضع أخرى للنظر غير خفية على من تأمل فيه. وللبحث تتمة لعل الله سبحانه يوفقنا لاستيفائه بإيراد كلام جامع في الملك وآخر في الوحي. وقوله: " لتكون من المنذرين " أي من الداعين إلى الله سبحانه التخويف من عذابه وهو المراد بالانذار في عرف القرآن دون النبي أو الرسول بالخصوص، قال

[ 320 ]

تعالى في مؤمني الجن: " وإذ صرفنا اليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين " الاحقاف: 29، وقال في المتفقهين من المؤمنين: " ليتفقهوا في الدين لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم " براءة: 122. وإنما ذكر إنذاره صلى الله عليه وآله وسلم غاية لانزال القرآن دون نبوته أو رسالته لان سياق آيات السورة سياق التخويف والتهديد. وقوله " بلسان عربي مبين " أي ظاهر في عربيته أو مبين للمقاصد تمام البيان والجار والمجرور متعلق بنزل أي أنزله بلسان عربي مبين. وجوز بعضهم ان يكون متعلقا بقوله: " منذرين " والمعنى أنزله على قلبك لتدخل في زمرة الانبياء من العرب وقد ذكر منهم في القرآن هود وصالح وإسماعيل وشعيب عليهم السلام وأول الوجهين أحسنهما. قوله تعالى: " وإنه لفي زبر الاولين " الضمير للقرآن أو نزوله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والزبر جمع زبور وهو الكتاب والمعنى وإن خبر القرآن أو خبر نزوله عليك في كتب الماضين من الانبياء. وقيل: الضمير لما في القرآن من المعارف الكلية اي إن المعارف القرآنية موجودة مذكورة في كتب الانبياء الماضين. وفيه أولا: ان المشركين ما كانوا يؤمنون بالانبياء وكتبهم حتى يحتج عليهم بما فيها من التوحيد والمعاد وغيرهما، وهذا بخلاف ذكر خبر القرآن ونزوله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتب الاولين فإنه حينئذ يكون ملحمة تضطر النفوس إلى قبولها. وثانيا: أنه لا يلائم الاية التالية. قوله تعالى: " أو لم يكن لهم آية ان يعلمه علماء بني إسرائيل " ضمير " أن يعلمه " لخبر القرآن أو خبر نزوله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي أو لم يكن علم علماء بني إسرائيل بخبر القرآن أو نزوله عليك على سبيل البشارة في كتب الانبياء الماضين آية للمشركين على صحة نبوتك وكانت اليهود تبشر بذلك وتستفتح على العرب به كما مر في قوله تعالى: " وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا " البقرة: 89. وقد أسلم عدة من علماء اليهود في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم واعترفوا بأنه مبشر به في

[ 321 ]

كتبهم، والسورة من أوائل السور المكية النازلة قبل الهجرة ولم تبلغ عداوة اليهود للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مبلغها بعد الهجرة وكان من المرجو أن ينطقوا ببعض ما عندهم من الحق ولو بوجه كلي. قوله تعالى: " ولو نزلناه على بعض الاعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين " قال في المفردات: العجمة خلاف الابانة والاعجام الابهام - إلى أن قال - والعجم خلاف العرب والعجمي منسوب إليهم، والاعجم من في لسانه عجمة عربيا كان أو غير عربي اعتبارا بقلة فهمهم عن العجم، ومنه قيل للبهيمة عجماء والاعجمي منسوب إليه قوله تعالى: " ولو نزلناه على بعض الاعجمين " على حذف الياءات انتهى. ومقتضى ما ذكره - كما ترى - ان أصل الاعجمين الاعجميين ثم حذفت ياء النسبة وبه صرح بعض آخر، وذكر بعضهم ان الوجه ان أعجم مؤنثه عجماء وأفعل فعلاء لا يجمع جمع السلامة لكن الكوفيين من النحاة يجوزون ذلك وظاهر اللفظ يؤيد قولهم فلا موجب للقول بالحذف. وكيف كان فظاهر السياق اتصال الآيتين بقوله: " بلسان عربي مبين "، فتكونان في مقام التعليل له ويكون المعنى: نزلناه عليك بلسان عربي ظاهر العربية واضح الدلالة ليؤمنوا به ولا يتعللوا بعدم فهمهم مقاصده ولو نزلناه على بعض الاعجمين بلسان أعجمي ما كانوا به مؤمنين وردوه بعدم فهم مقاصده. فيكون المراد بنزوله على بعض الاعجمين نزوله أعجميا وبلسانه، والآيتان والتي بعدهما في معنى قوله تعالى: " ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لو لا فصلت آياته ءأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى " حم السجدة: 44. وقال بعضهم: إن المعنى ولو نزلناه قرآنا عربيا كما هو بنظمه الرائق المعجز على بعض الاعجمين الذين لا يقدرون على التكلم بالعربية فقرأه عليهم قراءة صحيحة خارقة للعادات ما كانوا به مؤمنين مع انضمام إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء لفرط عنادهم وشدة شكيمتهم في المكابرة.

[ 322 ]

قال: وأما قول بعضهم: إن المعنى ولو نزلناه على بعض الاعجمين بلغة العجم فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين فليس بذاك فإنه بمعزل من المناسبة لمقام بيان تماديهم في المكابرة والعناد. انتهى ملخصا. وفيه أن إتصال الآيتين بقوله: " بلسان عربي مبين " أقرب اليهما من اتصالهما بسياق تمادي الكفار في كفرهم وجحودهم وقد عرفت توضيحه. ويمكن أن يورد على الوجه السابق أن الضمير في قوله: " ولو نزلناه على بعض الاعجمين " راجع إلى هذا القرآن الذي هو عربي فلو كان المراد تنزيله بلسان أعجمي لكان المعنى ولو نزلنا العربي غير عربي ولا محصل له. ويرده أنه من قبيل قوله تعالى: " إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون " الزخرف: 3، ولا معنى لقولنا: إنا جعلنا العربي عربيا فالمراد بالقرآن على أي حال الكتاب المقروء. قوله تعالى: " كذلك سلكناه في قلوب المجرمين " الاشارة بقوله: " كذلك " إلى الحال التي عليها القرآن عند المشركين وقد ذكرت في الآيات السابقة وهي أنهم معرضون عنه لا يؤمنون به وإن كان تنزيلا من رب العالمين وكان عربيا مبينا غير أعجمي وكان مذكورا في زبر الاولين يعلمه علماء بني إسرائيل. والسلوك الادخال في الطريق والامرار، والمراد بالمجرمين هم الكفار والمشركون وذكرهم بوصف الاجرام للاشارة إلى علة الحكم وهو سلوكه في قلوبهم على هذه الحال المبغوضة والمنفورة وأن ذلك مجازاة إلهية جازاهم بها عن إجرامهم وليعم الحكم بعموم العلة. والمعنى على هذه الحال - وهي أن يكون بحيث يعرض عنه ولا يؤمن به - ندخل القرآن في قلوب هؤلاء المشركين ونمره في نفوسهم جزاء لاجرامهم وكذلك كل مجرم. وقيل: الاشارة إلى ما ذكر من أوصاف القرآن الكريمة والمعنى: ندخل القرآن ونمره في قلوب المجرمين بمثل ما بينا له الاوصاف فيرون أنه كتاب سماوي ذو نظم معجز خارج عن طوق البشر وأنه مبشربه في زبر الاولين يعلمه علماء بني إسرائيل وتتم الحجة به عليهم. وهو بعيد من السياق.

[ 323 ]

وقيل: الضمير في " نسلكه " للتكذيب بالقرآن والكفر به المدلول عليه بقوله: " ما كانوا به مؤمنين " هذا وهو قريب من الوجه الاول لكن الوجه الاول ألطف وأدق، وقد ذكره في الكشاف. وقد تبين بما تقدم أن المراد بالمجرمين مشركو مكة غير أن عموم وصف الاجرام يعمم الحكم، وقال بعضهم: إن المراد بالمجرمين غير مشركي مكة من معاصريهم ومن يأتي بعدهم، والمعنى: كما سلكناه في قلوب مشركي مكة نسلكه في قلوب غيرهم من المجرمين. ولعل الذي دعاه إلى اختيار هذا الوجه إشكال اتحاد المشبه والمشبه به على الوجه الاول مع لزوم المغايرة بينهما فاعتبر المشار إليه بقوله: " كذلك " السلوك في قلوب مشركي مكة وهو المشبه به وجعل المشبه غيرهم من المجرمين وفيه أن تشبيه الكلي ببعض أفراده للدلالة على سراية حكمه في جميع الافراد طريقة شائعة. ومن هنا يظهر أن هناك وجها آخر وهو أن يكون المراد بالمجرمين ما يعم مشركي مكة وغيرهم بجعل اللام فيه لغير العهد ولعل الوجه الاول أقرب من السياق. قوله تعالى: " لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الاليم - إلى قوله - منظرون " تفسيرو بيان لقوله: " كذلك نسلكه " الخ هذا على الوجه الاول والثالث من الوجوه المذكورة في الآية السابقة وأما على الوجه الثاني فهو استئناف غير مرتبطبما قبله. وقوله: " حتى يروا العذاب الاليم " أي حتى يشاهدوا العذاب الاليم فيلجئهم إلى الايمان الاضطراري الذي لا ينفعهم، والظاهر أن المراد بالعذاب الاليم ما يشاهدونه عند الموت واحتمل بعضهم ان يكون المراد به ما أصابهم يوم بدر من القتل، لكن عموم الحكم في الآية السابقة لمشركي مكة وغيرهم لا يلائم ذلك. وقوله: " فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون " كالتفسير لقوله: " حتى يروا العذاب الاليم " إذ لو لم يأتهم بغتة وعلموا به قبل موعده لاستعدوا له وآمنوا باختيار منهم غير ملجئين إليه. وقوله: " فيقولوا هل نحن منظرون " كلمة تحسر منهم. قوله تعالى: " أفبعذابنا يستعجلون " توبيخ وتهديد.

[ 324 ]

قوله تعالى: " أفرأيت إن متعناهم سنين - إلى قوله - يمتعون " متصل بقوله: " فيقولوا هل نحن منظرون " ومحصل المعنى أن تمني الامهال والانظار تمني أمر لا ينفعهم لو وقع على ما يتمنونه ولم يغن عنهم شيئا لو أجيبوا إلى ما سألوه فإن تمتيعهم أمدا محدودا طال أو قصر لا يرفع العذاب الخالد الذي قضي في حقهم. وهو قوله: " أفرأيت إن متعناهم سنين " معدودة ستنقضي " ثم جاءهم ما كانوا يوعدون " من العذاب بعد انقضاء سني الانظار والامهال " ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون " أي تمتيعهم أمدا محدودا. قوله تعالى: " وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ذكري " الخ، الاقرب أن يكون قوله: " لها منذرون " حالا من " قرية " وقوله: " ذكرى " حالا من ضمير الجمع في " منذرون " أو مفعولا مطلقا عامله " منذرون " لكونه في معنى مذكرون والمعنى ظاهر، قيل غير ذلك مما لا جدوى في ذكره وإطالة البحث عنه. وقوله: " وما كنا ظالمين " ورود النفي على الكون دون ان يقال: وما ظلمناهم ونحو ذلك يفيد نفي الشأنية أي وما كان من شأننا ولا المترقب منا ان نظلمهم. والجملة في مقام التعليل للحصر السابق والمعنى: ما أهلكنا من قرية إلا في حال لها منذرون مذكرون تتم بهم الحجة عليهم لانا لو أهلكناهم في غير هذه الحال لكنا ظالمين لهم وليس من شأننا أن نظلم أحدا فالآية في معنى قوله تعالى: " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " أسرى: 15. (كلام في معنى نفى الظلم عنه تعالى) من لوازم معنى الظلم المتساوية له فعل الفاعل وتصرفه ما لا يملكه من الفعل والتصرف، ويقابله العدل ولازمه أنه فعل الفاعل وتصرفه ما يملكه. ومن هنا يظهر ان أفعال الفواعل التكوينية من حيث هي مملوكة لها تكوينا لا يتحقق فيها معنى الظلم لان فرض صدور الفعل عن فاعله تكوينا مساوق لكونه مملوكا له بمعنى قيام وجوده به قياما لا يستقل دونه.

[ 325 ]

ولله سبحانه ملك مطلق منبسط على الاشياء من جميع جهات وجودها لقيامها به تعالى من غير غنى عنه واستقلال دونه فأي تصرف تصرف به فيها مما يسرها أو يسوؤها أو ينفعها أو يضرها ليس من الظلم في شئ وإن شئت فقل: عدل بمعنى ما ليس بظلم فله ان يفعل ما يشاء وله ان يحكم ما يريد كل ذلك بحسب التكوين. فله تعالى ملك مطلق بذاته، ولغيره من الفواعل التكوينية ملك تكويني بالنسبة إلى فعله حسب الاعطاء والموهبة الالهية وهو ملك في طول ملكه تعالى وهو المالك لما ملكها والمهيمن على ما عليه سلطها. ومن جملة هذه الفواعل النوع الانساني بالنسبة إلى أفعاله وخاصة ما نسميها بالافعال الاختيارية والاختيار الذي يتعين به هذه الافعال، فالواحد منا يجد من نفسه عيانا أنه يملك الاختيار بمعنى إمكان الفعل والترك معا، فإن شاء فعل وإن لم يشأ ترك فهو يرى نفسه حرا يملك الفعل والترك، أي فعل وترك كانا، بمعنى إمكان صدور كل منهما عنه. ثم إن اضطرار الانسان إلى الحياة الاجتماعية المدنية اضطر العقل أن يغمض عن بعض ما للانسان من حرية العمل ويرفع اليد عن بعض الافعال التي كان يرى أنه يملكها وهي التي يختل بإتيانها أمر المجتمع فيختل نظم حياته نفسه وهذه هي المحرمات والمعاصي التي تنهى عنها القوانين المدنية أو السنن القومية أو الاحكام الملوكية الدائرة في المجتمعات. ومن الضروري لتحكيم هذه القوانين والسنن أن يجعل نوع من الجزاء السيئ على المتخلف عنها - بشرط العلم وتمام الحجة لانه شرط تحقق التكليف - من ذم أو عقاب، ونوع من الاجر الجميل للمطيع الذي يحترمها من مدح أو ثواب. ومن الضرورى أن ينتصب على المجتمع والقوانين الجارية فيها من يجريها على ما هي عليه وهو مسؤل عما نصب له وخاصة بالنسبة إلى أحكام الجزاء، فلو لم يكن مسؤلا وجاز له أن يجازي وأن لا يجازي ويأخذ المحسن ويترك المسئ لغى وضع القوانين والسنن من رأس. هذه اصول عقلائية جارية في الجملة في المجتمعات الانسانية منذ استقر هذا النوع على الارض منبعثة عن فطرتهم الانسانية.

[ 326 ]

وقد دلت البراهين العقلية وأيدها تواتر الانبياء والرسل من قبله تعالى على أن القوانين الاجتماعية وسنن الحياة يجب أن تكون من عنده تعالى وهي أحكام ووظائف انسانية تهدي إليها الفطرة الانسانية وتضمن سعادة حياته وتحفظ مصالح مجتمعه. وهذه الشريعة السماوية الفطرية واضعها هو الله سبحانه ومجريها من حيث الثواب والعقاب - وموطنهما موطن الرجوع إليه تعالى - هو الله سبحانه. ومقتضى تشريعه تعالى هذه الشرائع السماوية واعتباره نفسه مجريا لها أنه أوجب على نفسه إيجابا تشريعيا - وليس بالتكويني - أن لا يناقض نفسه ولا يتخلف بإهمال أو إلغاء جزاء يستوجبه خلاف أو إعمال جزاء لا يستحقه عمل كتعذيب الغافل الجاهل بعذاب المتعمد المعاند، وأخذ المظلوم بإثم الظالم وإلا كان ظلما منه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. ولعل هذا معنى ما يقال: إن الظلم مقدور له تعال لكنه ليس بواقع البته لانه نقص كمال يتنزه تعالى عنه ففرض الظلم منه تعالى من فرض المحال وليس بفرض محال، وهو المستفاد من ظاهر قوله تعالى: " وما كنا ظالمين " الآية 209 من السورة، وقوله: " إن الله لا يظلم الناس شيئا " يونس: 44، وقوله: " وما ربك بظلام للعبيد " فصلت: 46، وقوله: " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " النساء: 165، فظاهرها أنها ليست من قبيل السالبة بانتفاع الموضوع كما يومي إليه تفسير من فسرها بأن المعنى أن الله لا يفعل فعلا لو فعله غيره لكان ظالما. فإن قلت: ما ذكر من وجوب إجراء الجزاء ثوابا أو عقابا يخالف ما هو المسلم عندهم أن ترك عقاب العاصي جائز لانه من حق المعاقب ومن الجائز على صاحب الحق تركه وعدم المطالبة به بخلاف ثواب المطيع لانه من حق الغير وهو المطيع فلا يجوز تركه وإبطاله. على أنه قيل: إن الاثابة على الطاعات من الفضل دون الاستحقاق لان العبد وعمله لمولاه فلا يملك شيئا حتى يعاوضه بشئ. قلت: ترك عقاب العاصي في الجملة مما لا كلام فيه لانه من الفضل وأما بالجملة فلا لاستلزامه لغوية التشريع والتقنين وترتيب الجزاء على العمل.

[ 327 ]

وأما كون ثواب الاعمال من الفضل بالنظر إلى كون عمل العبد كنفسه لله فلا ينافي فضلا آخر منه تعالى على عبده باعتبار عمله ملكا له، ثم جعل ما يثيبه عليه أجرا لعمله، والقرآن ملئ بحديث الاجر على الاعمال الصالحة، وقد قال تعالى: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " براءة: 111. قوله تعالى: " وما تنزلت به الشياطين - إلى قوله - لمعزولون " شروع في الجواب عن قول المشركين: إن لمحمد جنا يأتيه بهذا الكلام، وقولهم: إنه شاعر، وقدم الجواب عن الاول وقد وجه الكلام أولا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبين له أن القرآن ليس من تنزيل الشياطين وطيب بذلك نفسه ثم وجه القول إلى القوم فبينه لهم بما في وسعهم أن يفقهوه. فقوله: " وما تنزلت به الشياطين " أي ما نزلته والآية متصلة بقوله: " وإنه لتنزيل رب العالمين " ووجه الكلام كما سمعت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدليل قوله تلوا: " فلا تدع مع الله إلها آخر " إلى آخر الخطابات المختصة به صلى الله عليه وآله وسلم المتفرعة على قوله: " وما تنزلت به " الخ، على ما سيجئ بيانه. وإنما وجه الكلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون القوم لانه معلل بما لا يقبلونه بكفرهم أعني قوله: " إنهم عن السمع لمعزولون " والشيطان الشرير وجمعه الياطين والمراد بهم أشرار الجن. وقوله: " وما ينبغي لهم " أي للشياطين. قال في مجمع البيان: ومعنى قول العرب: ينبغي لك أن تفعل كذا أنه يطلب منك فعله في مقتضى العقل من البغية التي هي الطلب. انتهى. والوجه في أنه لا ينبغي لهم أن يتنزلوا به أنهم خلق شرير لا هم لهم إلا الشر والفساد والاخذ بالباطل وتصويره في صورة الحق ليضلوا به عن سبيل الله، والقرآن كلام حق لا سبيل للباطل إليه فلا يناسب جبلتهم الشيطانية أن يلقوه إلى أحد. وقوله: " وما يستطيعون " أي وما يقدرون على التنزل به لانه كلام سماوي تتلقاه الملائكة من رب العزة فينزلونه بأمره في حفظ وحراسة منه تعالى كما قال: " فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط

[ 328 ]

بما لديهم " الجن: 28، وإلى ذلك يشير قوله: " إنهم عن السمع " الخ. قوله: " إنهم عن السمع لمعزولون " أي إن الشياطين عن سمع الاخبار السماوية والاطلاع على ما يجري في المأ الاعلى معزولون حيث يقذفون بالشهب الثاقبة لو تتسمعوا كما ذكره الله في مواضع من كلامه. قوله تعالى: " فلا تدع مع الله ألها آخر فتكون من المعذبين " خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهاه عن الشرك بالله متفرع على قوله: " وما تنزلت به الشياطين " الخ، أي إذا كان هذا القرآن تنزيلا من رب العالمين ولم تنزل به الشياطين وهو ينهى عن الشرك ويوعد عليه العذاب فلا تشرك بالله فينالك العذاب الموعود عليه وتدخل في زمرة المعذبين. وكونه صلى الله عليه وآله وسلم معصوما بعصمة إلهية يستحيل معها صدور المعصية منه لا ينافي نهيه عن الشرك فإن العصمة لا توجب بطلان تعلق الامر والنهي بالمعصوم وارتفاع التكليف عنه بما أنه بشر مختار في الفعل والترك متصور في حقه الطاعة والمعصية بالنظر إلى نفسه، وقد تكاثرت الآيات في تكليف الانبياء عليهم السلام في القرآن الكريم كقوله في الانبياء عليهم السلام: " ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون " الانعام: 88، وقوله في النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " لئن أشركت ليحبطن عملك " الزمر: 65، والآيتان في معنى النهي. وقول بعضهم: إن التكليف للتكميل فيرتفع عند حصول الكمال وتحققه لاستحالة تحصيل الحاصل خطأ فإن الاعمال الصالحة التي يتعلق بها التكاليف من آثار الكمال المطلوب والكمال النفساني كما يجب أن يكتسب بالاتيان بآثاره ومزاولة الاعمال التي تناسبه والارتياض بها كذلك يجب أن يستبقى بذلك فما دام الانسان بشرا له تعلق بالحياة الارضية لا مناص له عن تحمل أعباء التكليف، وقد تقدم كلام في هذا المعنى في بعض الابحاث. قوله تعالى: " وأنذر عشيرتك الاقربين " في مجمع البيان: عشيرة الرجل قرابته سموا بذلك لانه يعاشرهم وهم يعاشرونه انتهى. وخص عشيرته وقرابته الاقربين بالذكر بعد نهي نفسه عن الشرك وإنذاره تنبيها على أنه لا استثناء في الدعوة الدينية

[ 329 ]

ولا مداهنة ولا مساهلة كما هو معهود في السنن الملوكية فلا فرق في تعلق الانذار بين النبي وامته " ولا بين الاقارب والاجانب، فالجميع عبيد والله مولاهم. قوله تعالى: " واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " أي اشتغل بالمؤمنين بك واجمعهم وضمهم اليك بالرأفة والرحمة كما يجمع الطير أفراخه إليه بخفض جناحه لها، وهذا من الاستعارة بالكناية تقدم نظيره في قوله: " واخفض جناحك للمؤمنين " الحجر: 88. والمراد بالاتباع الطاعة بقرينة قوله في الآية التالية: فإن عصوك فقل إني برئ مما تعملون " فملخص معنى الآيتين: إن آمنوا بك واتبعوك فاجمعهم اليك بالرأفة واشتغل بهم بالتربية وإن عصوك فتبرء من عملهم. قوله تعالى: " وتوكل على العزيز الرحيم " أي ليس لك من أمر طاعتهم ومعصيتهم شئ وراء ما كلفناك فكل ما وراء ذلك إلى الله سبحانه فإنه لعزته سيعذب العاصين وبرحمته سينجي المؤمنين المتبعين. وفي اختصاص اسمي العزيز والرحيم لفات للذهن إلى ما تقدم من القصص ختمت واحدة بعد واحدة بالاسمين الكريمين. فهو في معنى أن يقال: توكل في أمر المتبعين والعاصين جميعا إلى الله فهو العزيز الرحيم الذي فعل بقوم نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وقوم فرعون ما فعل مما قصصناه فسنته أخذ العاصين وإنجاء المؤمنين. قوله تعالى: " الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين " ظاهر الآتتين - على ما يسبق إلى الذهن - أن المراد بالساجدين الساجدون في الصلاة من المؤمنين وفيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته بهم جماعة، والمراد بقرينة المقابلة القيام في الصلاة فيكون المعنى: الذي يراك وأنت بعينه في حالتي قيامك وسجودك متقلبا في الساجدين وأنت تصلي مع المؤمنين. وفي معنى الآية روايات من طرق الشيعة وأهل السنة سنتعرض لها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله. قوله تعالى: " إنه هو السميع العليم " تعليل لقوله: " وتوكل على العزيز الرحيم "

[ 330 ]

وفي الآيات - على ما تقدم من معناها - تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبشرى للمؤمنين بالنجاة وإيعاد للكفار بالعذاب. قوله تعالى: " هل أنبئكم على من تنزل الشياطين - إلى قوله - كاذبون "، تعريف لمن تتنزل عليه الشياطين بما يخصه من الصفة ليعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس منهم ولا أن القرآن من إلقاء الشياطين، والخطاب متوجه إلى المشركين. فقوله: " هل أنبئكم على من تنزل الشياطين " في معنى هل أعرفكم الذين تتنزل عليهم شياطين الجن بالاخبار ؟ وقوله: " تنزل على كل أفاك أثيم " قال في مجمع البيان: الافاك الكذاب وأصل الافك القلب والافاك الكثير القلب للخبر عن جهة الصدق إلى جهة الكذب، والاثيم الفاعل للقبيح يقال: أثم يأثم إثما إذا ارتكب القبيح وتأثم إذا ترك الاثم انتهى. وذلك أن الشياطين لا شأن لهم إلا إظهار الباطل في صورة الحق وتزيين القبيح في زي الحسن فلا يتنزلون إلا على أفاك أثيم. وقوله: " يلقون السمع وأكثرهم كاذبون " الظاهر أن ضميري الجمع في " يلقون " و " أكثرهم " معا للشياطين، والسمع مصدر بمعنى المسموع والمراد به ما سمعه الشياطين من أخبار السماء ولو ناقصا فإنهم ممنوعون من الاستماع مرميون بالشهب فما استرقوه لا يكون إلا ناقصا غير تام ولا كامل ولذا يتسرب إليه الكذب كثيرا. وقوله: " وأكثرهم كاذبون " أي أكثر الشياطين كاذبون لا يخبرون بصدق أصلا وهذا هو الكثرة بحسب الافراد ويمكن أن يكون المراد الكثرة من حيث التنزل أي أكثر المتنزلين منهم كاذبون أي أكثر أخبارهم كاذبة. ومحصل حجة الآيات الثلاث أن الشياطين لابتناء جبلتهم على الشر لا يتنزلون إلا على كل كذاب فاجر وأكثرهم كاذبون في أخبارهم والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس بأفاك أثيم ولا ما يوحى إليه من الكلام كذبا مختلقا فليس ممن تتنزل عليه الشياطين ولا الذي يتنزل عليه شيطانا، ولا القرآن النازل عليه من إلقاء الشياطين. قوله تعالى: " والشعراء يتبعهم الغاون - إلى قوله - لا يفعلون " جواب عن رمي المشركين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه شاعر، نبه عليه بعد الجواب عن قولهم إن له شيطانا يوحي إليه القرآن.

[ 331 ]

وهذان أعني قولهم: إن من الجن من يأتيه، وقولهم: إنه شاعر، مما كانوا يكررونه في ألسنتهم بمكة قبل الهجرة يدفعون به الدعوة الحقة، وهذا مما يؤيد نزول هذه الآيات بمكة خلافا لما قيل إنها نزلت بالمدينة. على أن الآيات مشتملة على ختام السورة أعني قوله: " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " ولا معنى لبقاء سورة هي من أقدم السور المكية سنين على نعت النقص ثم تمامها بالمدينة، ولا دلالة في الاستثناء على أن المستثنين هم شعراء المؤمنين بعد الهجرة. وكيف كان فالغي خلاف الرشد الذي هو إصابة الواقع فالرشيد هو الذي لا يهتم إلا بما هو حق واقع، والغوي هو السالك سبيل الباطل والمخطئ طريق الحق، والغواية مما يختص به صناعة الشعر المبنية على التخييل وتصوير غير الواقع في صورة الواقع ولذلك لا يهتم به إلا الغوي لمشعوف بالتزيينات الخيالية والتصويرات الوهمية الملهية عن الحق الصارفة عن الرشد، ولا يتبع الشعراء الذين يبتني صناعتهم على الغي والغواية إلا الغاون وذلك قوله تعالى: " والشعراء يتبعهم الغاون ". و قوله: " ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون " يقال: هام يهيم هيمانا إذا ذهب على وجهه والمراد بهيمانهم في كل واد استرسالهم في القول من غير أن يقفوا على حد فربما مدحوا الباطل المذموم كما يمدح الحق المحمود و ربما هجوا الجميل كما يهجي القبيح الدميم وربما دعوا إلى الباطل وصرفوا عن الحق وفي ذلك انحراف عن سبيل الفطرة الانسانية المبنية على الرشد الداعية إلى الحق، وكذا قولهم ما لا يفعلون من العدول عن صراط الفطرة. وملخص حجة الآيات الثلاث أنه صلى الله عليه وآله وسلم ليس بشاعر لان الشعراء يتبعهم الغاون لابتناء صناعتهم على الغواية وخلاف الرشد لكن الذين يتبعونه إنما يتبعونه ابتغاء للرشد وإصابة الواقع وطلبا للحق لابتناء ما عنده من الكلام المشتمل على الدعوة على الحق والرشد دون الباطل والغي. قوله تعالى: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا " الخ، استثناء من الشعراء المذمومين، والمستثنون هم شعراء المؤمنين فإن الايمان وصالحات الاعمال تردع الانسان بالطبع عن ترك الحق واتباع الباطل ثم الذكر الكثير لله سبحانه

[ 332 ]

يجعل الانسان على ذكر منه تعالى مقبلا إلى الحق الذي يرتضيه مدبرا عن الباطل الذي لا يحب الاشتغال به فلا يعرض لهؤلاء ما كان يعرض لاولئك. وبهذا البيان يظهر وجه تقييد المستثنى بالايمان وعمل الصالحات ثم عطف قوله: " وذكروا الله كثيرا " على ذلك. وقوله: " وانتصروا من بعد ما ظلموا " الانتصار الانتقام، قيل: المراد به رد الشعراء من المؤمنين على المشركين أشعارهم التي هجوا بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو طعنوا فيها في الدين وقدحوا في الاسلام والمسلمين، وهو حسن يؤيده المقام. وقوله: " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " المنقلب اسم مكان أو مصدر ميمي، والمعنى: وسيعلم الذين ظلموا - وهم المشركون على ما يعطيه السياق - إلى أي مرجع ومنصرف يرجعون وينصرفون وهو النار أو ينقلبون أي انقلاب. وفيه تهديد للمشركين ورجوع مختتم السورة إلى مفتتحها وقد وقع في أولها قوله: " فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن ". (بحث روائي) في الكافي بإسناده عن الحجال عمن ذكره عن أحدهما ع قال: سألته عن قول الله عزوجل: " بلسان عربي مبين " قال: يبين الالسن ولا تبينه الالسن. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " ولو نزلناه على بعض الاعجمين " الخ، قال الصادق عليه السلام: لو نزلنا القرآن على العجم ما آمنت به العرب وقد نزل على العرب فآمنت به العجم فهذه فضيلة العجم. وفي الكافي بإسناده عن على بن عيسى القماط عن عمة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في منامه بني أمية يصعدون على منبره من بعده ويضلون الناس عن الصراط القهقرى فأصبح كئيبا حزينا. قال: فهبط جبرائيل فقال: يا رسول الله ما لي أراك كئيبا حزينا ؟ قال

[ 333 ]

يا جبرائيل إني رأيت بني أمية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي يضلون الناس عن الصراط القهقرى، فقال: والذي بعثك بالحق نبيا إني ما اطلعت عليه فعرج إلى السماء فلم يلبث أن نزل عليه بآي من القرآن يؤنسه بها. قال: " أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون " وأنزل عليه: " إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر " جعل الله ليلة القدر لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم خيرا من ألف شهر ملك بني أمية. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جهضم قال: رؤي النبي صلى الله عليه وآله وسلم كأنه متحير فسألوه عن ذلك فقال: ولم ورأيت عدوي يلون أمرأمتي من بعدي فنزلت " أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون " فطابت نفسه. أقول: وقوله: ولم ورأيت الخ، فيه حذف والتقدير ولم لا أكون كذلك وقد رأيت " الخ ". وفيه أخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان وفي الدلائل عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية " وأنذر عشيرتك الاقربين " دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريشا وعم وخص فقال: يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا. يا معشر بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار فأني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا. يا معشر بني قصي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا. يا معشر بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا. يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا. يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك ضرا ولا نفعا. ألا إن لكم رحما وسأبلها ببلالها. وفيه أخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت " وأنذر عشيرتك الاقربين " جعل يدعوهم قبائل قبائل. وفيه أخرج سعيد بن منصور والبخاري وابن مردويه وابن جرير وابن المنذر

[ 334 ]

وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما نزلت " وأنذر عشيرتك الاقربين ورهطك منهم المخلصين " خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى صعد على الصفا فنادي يا صباحاه فقالوا: من هذا الذي يهتف ؟ قالوا: محمد، فاجتمعوا إليه فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو ؟ فجاء أبو لهب وقريش فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا ؟ فنزلت: " تبت يدا أبي لهب وتب ". وفيه أخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أمامة قال: لما نزلت " وأنذر عشيرتك الاقربين " جمع رسول الله بني هاشم فأجلسهم على الباب وجمع نساءه وأهله فأجلسهم في البيت ثم اطلع عليهم فقال: يا بني هاشم اشتروا أنفسكم من النار واسعوا في فكاك رقابكم وافتكوها بأنفسكم من الله فإني لا أملك لكم من الله شيئا. ثم أقبل على أهل بيته فقال: يا عائشة بنت أبي بكرو يا حفصة بنت عمر ويا أم سلمة ويا فاطمة بنت محمد ويا أم الزبير عمة رسول الله اشتروا (1) أنفسكم من الله واسعوا في فكاك رقابكم فإني لا أملك لكم من الله شيئا ولا أغني، الحديث. أقول: وفي معنى هذه الروايات بعض روايات أخر وفي بعضها أنه صلى الله عليه وآله وسلم خص بني عبد مناف بالانذار فيشمل بني أمية وبني هاشم جميعا. والروايات الثلاث الاول لا تنطبق عليها الآية فانها تعمم الانذار قريشا عامة والآية تصرح بالعشيرة الاقربين وهم إما بنو عبد المطلب أو بنو هاشم وأبعد ما يكون من الآية لرواية الثانية حيث تقول: جعل يدعوهم قبائل قبائل. على أن ما تقدم من معنى الآية وهو نفي أن تكون قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تغنيهم من تقوى الله وفي الروايات إشارة إلى ذلك - حيث تقول: لا اغني عنكم من الله


(1) كذا. (*)

[ 335 ]

شيئا - لا يناسب عمومه لغير الخاصة من قرابته صلى الله عليه وآله وسلم. وأما الرواية الرابعة فقوله تعالى: " أنذر عشيرتك الاقربين " آية مكية في سورة مكية ولم يقل أحد بنزول الآية بالمدينة وأين كانت يوم نزولها عائشة وحفصة وأم سلمة ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهن إلا في المدينة ؟ فالمعتمد من الروايات ما يدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم خص بالانذار يوم نزول الآية بني هاشم أو بني عبد المطلب، ومن عجيب الكلام قول الآلوسي بعد نقل الروايات: وإذا صح الكل فطريق الجمع أن يقال بتعدد الانذار. وفي المجمع عن تفسير الثعلبي بإسناده عن براء بن عازب قال: لما نزلت هذه الآية جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا الرجل منهم يأكل المسنة ويشرب العس فأمر عليا برجل شاة فأدمها ثم قال: ادنوا بسم الله فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتى صدروا. ثم دعا بعقب من لبن فجرع منه جرعا ثم قال لهم: اشربوا بسم الله فشربوا حتى رووا فبدرهم أبو لهب فقال: هذا ما سحركم به الرجل فسكت صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ ولم يتكلم. ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشراب ثم أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا بني عبد المطلب إني أنا النذير اليكم من الله عزوجل فأسلموا وأطيعوني تهتدوا. ثم قال: من يواخيني ويوازرني ويكون وليي ووصيي بعدي وخليفتي في أهلي ويقضي ديني ؟ فسكت القوم فأعادها ثلاثا كل ذلك يسكت القوم ويقول علي أنا فقال في المرة الثالثة: أنت فقام القوم وهم يقولون لابي طالب: أطع ابنك فقد أمر عليك. قال الطبرسي: وروي عن أبي رافع هذه القصة وأنه جمعهم في الشعب فصنع لهم رجل شاة فأكلوا حتى تضلعوا وسقاهم عسا فشربوا كلهم حتى رووا. ثم قال: إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي ورهطي، وإن الله لم يبعث نبيا إلا جعل له من أهله أخا ووزيرا ووارثا ووصيا وخليفة في أهله فأيكم يقوم فيبا يعني على أنه أخي ووارثي ووزيري ووصيي ويكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ فقال علي: أنا فقال: ادن مني ففتح فاه ومج في فيه من ريقه وتفل بين كتفيه وثدييه فقال أبو لهب: بئس ما

[ 336 ]

حبوت به ابن عمك أن أجابك فملات فاه ووجهه بزاقا فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ملاته حكمة وعلما. أقول: وروي السيوطي في الدر المنثور ما في معنى حديث البراء عن ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي في الدلائل من طرق عن علي رضي الله عنه وفيه: ثم تكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم أحدا في العرب جاء قومه با فضل مما جئتكم به إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على أمري هذا ؟ فقلت وأنا أحدثهم سنا: إنه أنا، فقام القوم يضحكون وفي علل الشرائع بإسناده عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: لما نزلت " وأنذر عشيرتك الاقربين " أي رهطك المخلصين دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني عبد المطلب وهم إذ ذاك أربعون رجلا يزيدون ر جلا وينقصون رجلا فقال: أيكم يكون أخي ووارثي ووزيري ووصيي وخليفتي فيكم بعدي، فعرض عليهم ذلك رجلا رجلا كلهم يأبي ذلك حتى أتى علي فقلت: أنا يا رسول الله. فقال: يا بني عبد المطلب هذا وارثي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي فقام القوم يضحك بعضهم إلى بعض ويقولون لابي طالب: قد أمرك أن تسمعع وتطيع لهذا الغلام. أقول: ومن الممكن أن يستفاد من قوله عليه السلام: أي رهطك المخلصين أن ما نسب إلى قراءة أهل البيت " وأنذر شيرتك الاقربين رهطك منهم المخلصين " ونسب أيضا إلى قرآن ابي بن كعب كان من قبيل التفسير. وفي المجمع في قوله تعالى: " وتقلبك في الساجدين " قيل: معناه وتقلبك في الساجدين الموحدين من نبي لى نبي حتى أخرجك نبيا. عن ابن عباس في رواية عطاء وعكرمة وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام قالا: أصلاب النبيين نبي بعد نبي حتى أخرجه من صلب أبيه عن نكاح غير سفاح من لدن آدم. أقول: ورواه غيره من رواة الشيعة، ورواه في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم وغيرهم عن ابن عباس وغيرهم. وفي المجمع روي جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا

[ 337 ]

ترفعوا قبلي تضعوا قبلي فاني أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي ثم تلي هذه الآية. أقول: يريد صلى الله عليه وآله وسلم وضع الجبهة على الارض ورفعها في السجدة، ورواه في الدر المنثور عن ابن عباس وغيره. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن أبي سعيد قال: بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ عرض شاعر ينشد فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لان يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا. أقول: وهو مروي من طرق الشيعة أيضا عن الصادق عليه السلام عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وفي تفسير القمي قال: يعظون الناس ولا يتعظون وينهون عن المنكرو لا ينتهون ويأمرون بالمعروف ولا يعملون وهم الذين قال الله فيهم: " ألم تر أنهم في كل واد يهيمون " أي في كل مذهب يذهبون " وأنهم يقولون ما لا يفعلون " وهم الذين غصبوا آل محمد حقهم. وفي اعتقادات الصدوق سئل الصادق عليه السلام عن قول الله عزوجل: " والشعراء يتبعهم الغاون " قال: هم القصاص. أقول: هم من المصاديق والمعنى الجامع ما تقدم في ذيل الآية. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن من الشعر حكما وإن من البيان سحرا. أقول: وروي الجملة الاولى أيضا عنه عن بريدة وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأيضا عن ابن مردويه عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم ولفظه إن من الشعر حكمة، والممدوح من الشعر ما فيه نصرة الحق ولا تشمله الآية. وفي المجمع عن الزهري قال: حدثني عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن كعب ابن مالك قال: يا رسول الله ما ذا تقول في الشعراء ؟ قال: إن المؤمن مجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأنما تنضخونهم بالنبل. قال الطبرسي وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحسان بن ثابت: اهجهم أوهاجهم وروح

[ 338 ]

القدس معك رواه البخاري ومسلم في الصحيحين. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي الحسن سالم البراد قال: لما نزلت " والشعراء " الآية جاء عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وحسان بن ثابت وهم يبكون فقالوا: يا رسول الله لقد أنزل الله هذه الآية وهو يعلم أنا شعراء أهلكنا ؟ فأنزل الله " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " فدعاهم رسول الله فتلاها عليهم. أقول: هذه الرواية وما في معناها هي التي دعا بعضهم إلى القول بكون الآيات الخمس من آخر السورة مدنيات وقد عرفت الكلام في ذلك عند تفسير الآيات. وفي الكافي بإسناده عن أبي عبيدة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أشد ما فرض الله على خلقه ذكر الله كثيرا. ثم قال: لا أعني سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وإن كان منه ولكن ذكر الله عند ما أحل وحرم فإن كان طاعة عمل بها وإن كان معصية تركها. أقول: فيه تأييد لما تقدم في تفسير الآية.

[ 339 ]

(سورة النمل مكية، وهي ثلاث وتسعون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين - 1. هدى وبشرى للمؤمنين - 2. الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة وهم بالآخرة هم يوقنون - 3. إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون - 4. أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الاخسرون - 5. وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم - 6. (بيان) غرض السورة - على ما تدل عليه آيات صدرها والآيات الخمس الخاتمة لها - التبشير والانذار وقد استشهد لذلك بطرف من قصص موسى وداود وسليمان وصالح ولوط عليهم السلام ثم عقبها ببيان نبذة من أصول المعارف كوحدانيته تعالى في الربوبية والمعاد وغير ذلك. قوله تعالى: " تلك آيات الكتاب وقرآن مبين " الاشارة بتلك - كما مر في أول سورة الشعراء - إلى آيات السورة مما ستنزل بعد وما نزلت قبل، والتعبير باللفظ الخاص بالبعيد للدلالة على رفعة قدرها وبعد منالها. والقرآن إسم للكتاب باعتبار كونه مقروا، والمبين من الابانة بمعنى الاظهار، وتنكير " قرآن " للتفخيم أي تلك الآيات الرفيعة القدر التي ننزلها آيات الكتاب وآيات كتاب مقرو عظيم الشأن مبين لمقاصده من غير إبهام ولا تعقيد.

[ 340 ]

قال في مجمع البيان: وصفه بالصفتين يعني الكتاب والقرآن ليفيد أنه مما يظهر بالقراءة ويظهر بالكتابة وهو بمنزلة الناطق بما فيه من الامرين جميعا، ووصفه بأنه مبين تشبيه له بالناطق بكذا. انتهى. قوله تعالى: " هدى وبشرى للمؤمنين " المصدر ان أعني " هدى وبشرى " بمعنى اسم الفاعل أو المراد بهما المعنى المصدري للمبالغة. قوله تعالى: " الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة " الخ، المراد إتيان الاعمال الصالحة وإنما اقتصر على الصلاة والزكاة لكون كل منها ركنا في بابه فالصلاة فيما يرجع إلى الله تعالى والزكاة فيما يرجع إلى الناس وبنظر آخر الصلاة في الاعمال البدنية والزكاة في الاعمال المالية. وقوله: " وهم بالآخرة هم يوقنون " وصف آخر للمؤمنين معطوف على ما قبله جئ به للاشارة إلى أن هذه الاعمال الصالحة إنما تقع موقعها وتصيب غرضها مع الايقان بالآخرة فإن العمل يحبط مع تكذيب الآخرة، قال تعالى: " والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم " الاعراف: 147. وتكرار الضمير في قوله: " وهم بالآخرة " الخ للدلالة على أن هذا الايقان من شأنهم وهم أهله المترقب منهم ذلك. قوله تعالى: " إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون " العمه التحير في الامر ومعنى تزيين العمل جعله بحيث ينجذب إليه الانسان والذين لا يؤمنون بالآخرة لما أنكروها وهي غاية مسيرهم يبقوا في الدنيا وهي سبيل لا غاية فتعلقوا بأعمالهم فيها وكانوا متحيرين في الطريق لا غاية لهم يقصدونها. قوله تعالى: " أولئك لهم سوء العذاب " الخ إيعاد بمطلق العذاب من دنيوي وأخروي بدليل ما في قوله: " وهم في الآخرة هم الاخسرون " ولعل وجه كونهم أخسر الناس أن سائر العصاة لهم صحائف أعمال مثبتة فيها سيئاتهم وحسناتهم يجازون بها وأما هؤلاء فسيئاتهم محفوظة عليهم يجازون بها وحسناتهم حابطة. قوله تعالى: " وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم " التلقية قريبة المعنى من التلقين، وتنكير " حكيم عليم " للتعظيم، والتصريع بكون هذا القرآن من عنده

[ 341 ]

تعالى ليكون ذلك حجة على الرسالة وتأييدا لما تقدم من المعارف ولصحة ما سيذكره من قصص الانبياء عليهم السلام. وتخصيص الاسمين الكريمين للدلالة على نزوله من ينبوع الحكمة فلا ينقضه ناقض ولا يوهنه موهن، ومنبع العلم فلا يكذب في خبر لا يخطئ في قضائه. * * * إذ قال موسى لاهله إني آنست نارا سأتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون - 7. فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومحولها وسبحان الله رب العالمين - 8. يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم - 9. وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون - 10. إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء إني غفور رحيم - 11. وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين - 12. فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين - 13. وجحدوا بها واستيقنتهم أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين - 14. (بيان) أول القصص الخمس التي أشير إليها في السورة استشهادا لما في صدرها من التبشير و الانذار والوعد والوعيد وتغلب في الثلاث الاول منها وهي قصص موسى وداود

[ 342 ]

وسليمان جهة الوعد على الوعيد وفي الاخيرتين بالعكس. قوله تعالى " إذ قال موسى لاهله " الخ المراد بأهله إمرأته وهي بنت شعيب على ما ذكره الله تعالى في سورة القص قال في المجمع: إن خطابها بقوله: " آتيكم " بصيغة الجمع لاقامتها مقام الجماعة في الانس بها في الامكنة الموحشة. انتهى ومن المحتمل أنه كان معها غيرها من خادم أو مكار أو غيرهما. وفي المجمع: الايناس الابصار، وقيل: آنست أي أحسست بالشئ من جهة يؤنس بها وما آنست به فقد أحسست به مع سكون نفسك إليه. انتهى والشهاب على ما في المجمع نور كالعمود من النار وكل نور يمتد كالعمود يسمى شهابا والمراد الشعلة من النار، وفي المفردات: الشهاب الشعلة الساطعة من النار الموقدة ومن العارض في الجو وفي المفردات أيضا: القبس المتناول من الشعلة، والاصطلاء بالنار الاستدفاء بها. وسياق الآية يشهد ويؤيده ما وقع من القصة في سور أخرى أنه كان حينذاك يسير بأهله وقد ضل الطريق وأصابه وأهله البرد في ليلة داجية فأبصر نارا من بعيد فأراد أن يذهب إليها فإن وجد عندها إنسانا استخبره أو يأخذ قبسا يأتي به إلى أهله فيوقدوا نارا يصطلون بها. فقال لاهله امكثوا إني أحسست وأبصرت نارا فالزموا مكانكم سأتيكم منها أي من عندها بخبر نهتدي به أو آتيكم بشعلة متناولة من النار لعلكم توقدون بها نارا تصطلون وتستدفؤن بها. ويظهر من السياق أيضا أن النار إنما ظهرت له عليه السلام ولم يشاهدها غيره وإلا عبر عنها بالاشارة دون التنكير. ولعل اختلاف الاتيان بالخبر والاتيان بالنار نوعا هو الموجب لتكرارلفظ الاتيان حيث قال: " سأتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس ". قوله تعالى: " فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين " أي فلما أتى النار وحضر عندها نودي أن بورك " الخ ". والمراد بالمباركة إعطاء الخير الكثير يقال: باركه وبارك عليه وبارك فيه أي البسه الخير الكثير وحباه به، وقد وقع في سورة طه في هذا الموضع من القصة قوله: " فلما أتاه نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى وأنا

[ 343 ]

اخترتك فاستمع لما يوحى " طه: 13. ويستأنس منه أن المراد بمن حول النار موسى أو هو ممن حول النار، ومباركته اختياره بعد تقديسه. وأما المراد بمن في النار فقد قيل: إن معناه من ظهر سلطانه وقدرته في النار فإن التكليم كان من الشجرة - على ما في سورة القصص - وقد أحاطت بها النار، وعلى هذا فالمعنى: تبارك من تجلى لك بكلامه من النار وبارك فيك، ويكون قوله: " وسبحان الله رب العالمين " تنزيها له سبحانه من أن يكون جسما أو جسمانيا يحيط به المكان أو يجاوره الحدثان لا لتعجيب موسى كما قيل. وقيل: المراد بمن في النار الملائكة الحاضرون فيها كما أن المراد بمن حولها موسى عليه السلام. و قيل: المراد به موسى عليه السلام وبمن حولها الملائكة. وقيل: في الكلام تقدير والاصل بورك من في المكان الذي فيه النار - وهو البقعة المباركة التي كانت فيها الشجرة كما في سورة القصص ومن فيها هو موسى وحولها هي الارض المقدسة التي هي الشامات، ومن حولها هم الانبياء القاطنون فيها من آل إبراهيم وبني إسرائيل. وقيل: المراد بمن في النار نور الله تعالى وبمن حولها موسى. وقيل: المراد بمن في النار الشجرة فإنها كانت محاطة بالنار بمن حولها الملائكة المسبحون. وأكثر هذه الوجوه لا يخلو من تحكم ظاهر. قوله تعالى: " يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم " تعرف منه تعالى لموسى عليه السلام ليعلم أن الذي يشافهه بالكلام ربه تعالى فهذه الآية في هذه السورة تحاذى قوله من سورة طه " نودي أن يا موسى إني أنا ربك فاخلع " الخ، فارجع إلى سورة طه وتدبر في الآيات. قوله تعالى: " وألق عصاك فلمارآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب " الخ، الاهتزاز التحرك الشديد، والجان الحية الصغيرة السريعة الحركة، والادبار خلاف الاقبال، والتعقيب الكر بعد الفر من عقب المقاتل إذا كربعد فراره.

[ 344 ]

وفي الآية حذف وإيجاز تفصح عنه الفاء الفصيحة في قوله: " فلمارآها تهتز " والتقدير وألق عصاك فلما ألقاها إذا هي ثعبان مبين يهتز كأنه جان ولما رآها تهتز الخ. ولا منافاة بين يرورة العصا ثعبانا مبينا كما وقع في قصته عليه السلام من سورتي الاعراف والشعراء - والثعبان الحية العظيمة الجثة وبين تشبيهها في هذه السورة بالجان فإن التشبيه إنما وقع في الاهتزاز وسرعة الحركة والاضطراب حيث شاهد العصا وقد تبدلت ثعبانا عظيم الجثة هائل المنظر يهتز ويتحرك بسرعة اهتزاز الجان وتحركه بسرعة وليس تشبيها لنفس العصا أو الثعبان بنفس الجان. وقيل: إن آية العصا كانت مختلفة الظهور فقد ظهرت العصا لاول مرة في صورة الجان كما وقع في سورة طه: " فألقاها فإذا هي حية تسعى " آية 20 من السورة ثم ظهرت لما ألقاها عند فرعون في صورة ثعبان مبين كما في سورتي الاعراف والشعراء. وفيه أن هذا الوجه وإن كان لا يخلو بالنظر إلى سياق الآيات عن وجاهة لكنه لا يندفع به إشكال تشبيه الشئ بنفسه أو عدم تبدلها حية فالمعول في دفع الاشكال على ما تقدم. قوله تعالى: " يموسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون " حكاية نفس الخطاب الصادر هناك وهو في معنى قال الله يا موسى لا تخف " الخ ". وقوله: " لا تخف " نهي مطلق يؤمنه عن كل ما يسوء مما يخاف منه ما دام في حضرة القرب والمشافهة سواء كان المخوف منه عصا أو غيرها ولذا علل النهي بقوله: " إني لا يخاف لدي المرسلون فإن تقييد النفي بقوله: " لدي " يفيد أن مقام القرب والحضور يلازم الامن ولا يجامع مكروها يخاف منه، ويؤيده تبديل هذه الجملة في القصة من سورة القصص من قوله: " إنك من الآمنين " فيتحصل المعنى: لا تخف من شئ إنك مرسل والمرسلون - وهم لدي في مقام القرب - في مقام الامن ولا خوف مع الامن. وأما فرار موسى عليه السلام من العصا وقد تصورت بتلك الصورة الهائله وهي تهتز كأنها جان فقد كان جريا منه على ما جبل الله الطبيعة الانسانية عليه إذا فاجأه من المخاطر ما لا سبيل له إلى دفعه عن نفسه إلا الفرار وقد كان أعزل لا سلاح معه إلا

[ 345 ]

عصاه وهي التي يخافها على نفسه ولم يرد عليه من جانبه تعالى أمر سابق يلزم مكانه أو نهي عن الفرار مما يخافه على نفسه إلا قوله تعالى: " وألق عصاك " وقد امتثله، وليس الفرار من المخاطر العظيمة التي لا دافع لها إلا الفرار، من الجبن المذموم حتى يذم عليه. وأما أن الانبياء والمرسلين لا يخافون شيئا وهم عند ربهم - على ما يدل عليه قوله: " إني لا يخاف لدي المرسلون " - فهم لا يملكون هذه الكرامة من عند أنفسهم بل إنما ذلك بتعليم من الله وتأديب وإذ كان موقف ليلة الطور أول موقف من موسى قربه الله إليه فيه وخصه بالتكليم وحباه بالرسالة والكرامة فقوله: " لا تخف إنك من الآمنين " وقوله: " لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون " تعليم وتأديب إلهى له عليه السلام. فتبين بذلك أن قوله: " لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون " تأديب وتربية إلهية لموسى عليه السلام وليس من التوبيخ والتأنيب في شئ قوله تعالى: " إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم " الذي ينبغي أن يقال - والله أعلم - أن الآية السابقة لما أخبرت عن أن المرسلين آمنون لا يخافون فهم منه أن غيرهم من أهل الظلم غير آمنين لهم أن يخافوا استدرك في هذه الآية حال أهل التوبة من جملة أهل الظلم فبين أنهم لتوبتهم وتبديلهم ظلمهم - وهو السوء - حسنا بعد سوء مغفور لهم مرحومون فلا يخافون أيضا. فالاستثناء من المرسلين وهو استثناء منقطع والمراد بالظلم مطلق المعصية وبالحسن بعد السوء التوبة بعد المعصية أو العمل الصالح بعد السئ، والمعنى: لكن من ظلم باقتراف المعصية ثم بدل ذلك حسنا بعد سوء وتوبة بعد معصية أو عملا صالحا بعد سئ فإني غفور رحيم اغفر ظلمه وارحمه فلا يخافن بعد ذلك شيئا. قوله تعالى: " وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء الخ، فسر السوء بالبر ص وقد تقدم، وقوله: " في تسع آيات إلى فرعون وقومه " يمكن أن يستظهر من السياق أولا أن " في تسع " حال من الآيتين جميعا، والمعنى: آتيتك هاتين الآيتين - العصا واليد - حال كونهما في تسع آيات. وثانيا: أن الآيتين من جملة الآيات التسع، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى:

[ 346 ]

" ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات " أسرى: 101، كلام في تفصيل الآيات التسع، والباقي ظاهر. قوله تعالى: " فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين " المبصرة بمعنى الواضحة الجلية، وفي قولهم: " هذا سحر مبين " إزراء وإهانة بالآيات حيث أهملوا الدلالة على خصوصيات الآيات حتى العدد فلم يعبؤا بها إلا بمقدار أنها أمر ما. قوله تعالى: " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا " الخ، قال الراغب: الجحد نفي ما في القلب إثباته وإثبات ما في القلب نفيه. انتهى. والاستيقان والايقان بمعنى. * * * ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين - 15. وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ إن هذا لهو الفضل المبين - 16. وحشر لسليمان جنوده من الجن والانس والطير فهم يوزعون - 17. حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلو امساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون - 18. فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن شكرنعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين - 19. وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين - 20. لا عذبنه عذابا شديدا

[ 347 ]

أو لا ذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين - 21. فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين - 22. إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم - 23. وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون - 24. ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبأ في السموات والارض ويعلم ما تخفون وما تعلنون - 25. ألله لا إله إلا هو رب العرش العظيم - 26. قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين - 27. إذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون - 28. قالت يا أيها الملؤ إني ألقي إلي كتاب كريم - 29. إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم - 30. ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين - 31. قالت يا أيها الملؤ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون - 32. قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والامر اليك فانظري ماذا تأمرين - 33. قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون - 34. وإني مرسلة إليهم بهدية فناظره بم يرجع المرسلون - 35. فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون - 36.

[ 348 ]

إرجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ونخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون - 37. قال يا أيها الملؤ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين - 38. قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين - 39. قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلونئ أشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم - 40. قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون - 41. فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين - 42. وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين - 43. قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين - 44. (بيان) نبذة من قصص داود وسليمان عليهما السلام وفيها شئ من عجائب أخبار سليمان بما آتاه الله من الملك.

[ 349 ]

قوله تعالى: " ولقد آتينا داود وسليمان علما " الخ، في تنكير العلم إلى تفخيم أمره ومما أشير فيه إلى علم داود من كلامه تعالى قوله: " وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب " ص: 20. ومما أشير فيه إلى علم سليمان قوله: " ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما " الانبياء: 79، وذيل الآية، يشملهما جميعا وقوله: " وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين " المراد بالتفضيل إما التفضيل بالعلم على ما ربما يؤيده سياق الآية وإما التفضيل بمطلق ما خصهما الله به من المواهب كتسخير الجبال والطير لداود وتليين الحديد له وإيتائه الملك، وتسخير الجن والوحش والطير وكذا الريح لسليمان وتعليمه منطق الطير وإيتائه الملك على ما يستدعيه إطلاق التفضيل. والآية أعني قوله: " وقالا الحمد لله " الخ، على أي حال بمنزلة حكاية اعترافهما على التفضيل الالهي فيكون كالشاهد على المدعى الذي تشير إليه بشارة صدر السورة أن الله سبحانه سيخص المؤمنين بما تقربه عيونهم ومثلها ما سيأتي من إعترافات سليمان في مواضع من كلامه. قوله تعالى: " وورث سليمان داود " الخ، أي ورثه ماله وملكه، وأما قول بعضهم: المراد به وراثة النبوة والعلم ففيه أن النبوة لا تقبل الوراثة لعدم قبولها الانتقال، والعلم وإن قبل الانتقال بنوع من العناية غير أنه إنما يصح في العلم الفكري الاكتسابي والعلم الذي يختص به الانبياء والرسل كرامة من الله لهم وهبي ليس مما يكتسب بالفكر فغير النبي يرث العلم من النبي لكن النبي لا يرث علمه من نبي آخر ولا من غير نبي. وقوله: " وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير " ظاهر السياق أنه عليه السلام يباهي عن نفسه وأبيه وهو منه عليه السلام تحديث بنعمة الله كما قال تعالى: " وأما بنعمة ربك فحدث " الضحى: 11، وأما إصرار بعض المفسرين على أن الضمير في قوله: " علمنا " و " أوتينا " لنفسه لا له ولابيه على ما هو عادة الملوك والعظماء في الاخبار عن أنفسهم - فإنهم يخبرون عنهم وعن خدمهم وأعوانهم رعاية لسياسة الملك - فالسياق السابق لا يساعد عليه كل المساعدة.

[ 350 ]

والمراد بالناس ظاهر معناه وهو عامة المجتمعين من غير تميز لبعضهم من بعض وقول بعضهم إن المراد بهم عظماء أهل مملكته أو علماؤهم غير سديد. والمنطق والنطق على ما نتعارفه هو الصوت أو الاصوات المؤلفة الدالة بالوضع على معان مقصودة للناطق المسماة كلاما ولا يكاد يقال - على ما ذكره الراغب - إلا للانسان لكن القرآن الكريم يستعمله في معنى أوسع من ذلك وهو دلالة الشئ على معنى مقصود لنفسه، قال تعالى: " وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ " حم السجدة: 21، وهو إما من باب تحليل المعنى كما يستعمله القرآن في أغلب المعاني والمفاهيم المقصورة في الاستعمالات على المصاديق الجسمانية المادية كالرؤية والنظر والسمع واللوح القلم والعرش والكرسي وغيرها، وإما لان للفظ معنى أعم وإختصاصه بالانسان من باب الانصراف لكثرة الاستعمال. وكيف كان فمنطق الطير هو ما تدل به الطير بعضها على مقاصدها، والذي نجده عند التأمل في أحوالها الحيوية هو أن لكل صنف أو نوع منها أصواتا ساذجة خاصة في حالاتها الخاصة الاجتماعية حسب تنوع اجتماعاتها كحال الهياج للسفاد وحال المغالبة والغلبة وحال الوحشة والفزع وحال التضرع أو الاستغاثة إلى غير ذلك ونظير الطير في ذلك سائر الحيوان. لكن لا ينبغي الارتياب في أن المراد بمنطق الطير في الآية معنى أدق وأوسع من ذلك. أما أولا: فلشهادة سياق الآية على أنه صلى الله عليه وآله وسلم يتحدث عن أمر اختصاصي ليس في وسع عامة الناس أن ينالوه وإنما ناله بعناية خاصة إلهية، وهذا المقدار المذكور من منطق الطير مما يسع لكل أحد أن يطلع عليه ويعرفه. وأما ثانيا: فلان ما حكاه الله تعالى في الآيات التالية من محاورة سليمان والهدهد يتظمن معارف عالية متنوعة لا يسع لما نجده عند الهدهد من الاصوات المعدودة أن تدل عليها بتميز بعضها من بعض نفي كلام الهدهد ذكر الله سبحانه ووحدانيته وقدرته وعلمه وربوبيته وعرشه العظيم وذكر الشيطان وتزيينه الاعمال والهدى والضلال وغير ذلك، وفيه ذكر الملك والعرش والمرأة وقومها وسجدتهم للشمس، وفي كلام

[ 351 ]

سليمان أمره بالذهاب بالكتاب وإلقائه إليهم ثم النظر فيما يرجعون، وهذه كما لا يخفي على الباحث في أمر المعاني المتعمق فيها معارف جمة لها أصول عريقة يتوقف الوقوف عليها على ألوف وألوف من المعلومات، وأني تفي على إفادة تفصيلها أصوات ساذجة معدودة. على أنه لا دليل على أن كل ما يأتي بها الحيوان في نطقه من الاصوات أو خصوصيات الصوت يفي حسنا بإدراكه أو تمييزه، ويؤيده ما نقل من قول النملة في الآيات التالية وهو من منطق الحيوان قطعا ولا صوت للنملة يناله سمعنا ويؤيده أيضا ما يراه علماء الطبيعة اليوم أن الذي يناله سمع الانسان من الصوت عدد خاص من الارتعاش المادي وهو ما بين ستة عشر ألفا إلى اثنين وثلاثين ألفا في الثانية، وأن الخارج من ذلك في جانبي القلة والكثرة لا يقوى عليه سمع الانسان وربما ناله سائر الحيوان أو بعضها. وقد عثر العلماء الباحثون عن الحيوان من عجيب الفهم ولطيف الادراك عند أنواع من الحيوان كالفرس والكلب والقرد والدب والزنبور والنملة وغيرها على أمور لا يكاد يعثر على نظائرها عند أكثر أفراد الانسان. وقد تبين بما مر أن ظاهر السياق أن للطير منطقا علمه الله سليمان، وظهر به فساد قول من قال إن نطق الطير كان معجزة لسليمان وأما هي في نفسها فليس لها نطق هذا. وقوله: " وأوتينا من كل شئ " أي أعطينا من كل شئ، " وكل شئ " وإن كان شاملا لجميع ما يفرض موجودا - لان مفهوم شئ من أعم المفاهيم وقد دخل عليه كلمة الاستغراق - لكن لما كان المقم مقام التحديث بالنعمة ولا كل نعمة بل النعم التي يمكن أن يؤتاها الانسان فيتنعم بها تقيد به معنى كل شئ وكان معني الجملة: وأعطانا الله من كل نعمة يمكن أن يعطاها الانسان فيتنعم بها مقدارا معتدا به كالعلم والنبوة والملك والحكم وسائر النعم المعنوية والمادية. وقوله: " ذلك هو الفضل المبين " شكر وتأكيد للتحديث بالنعمة من غير عجب ولا كبر واختيال لاسناده الجميع إلى الله بقوله: " علمنا " و " أوتينا "،

[ 352 ]

واحتمل بعضهم أن تكون الجملة من كلام الله سبحانه لا من كلام سليمان والسياق يأباه. قوله تعالى: " وحشر لسليمان جنوده من الجن والانس والطير فهم يوزعون " الحشر هو جمع الناس وإخراجهم لامر بإزعاج والوزع المنع وقيل الحبس، والمعنى كما قيل: وجمع لسليمان جنوده من الجن والانس والطير فهم يمنعون من التفرق واختلاط كل جمع بآخر برد أولهم إلى آخرهم وحبس كل في مكانه. ويستفاد من الآية أنه كان له جنود من الجن والطير يسيرون معه كجنوده من الانس. وكلمة الحشر ووصف المحشورين بأنهم جنود، وسياق الآيات التالية كل ذلك دليل على أن جنوده كانوا طوائف خاصة من الجن والانس والطير سواء كانت " من " في الآية لتبعيض أو للبيان. وقد أغرب في التفسير الكبير فزعم أن الآية تدل على أن جميع الجن والانس والطير كانوا جنوده وقد ملك الارض كلها وأن لله تعالى جعل الطير في زمانه عقلاء مكلفيثم عادت بعد زمانه على ما كانت عليه قبله وقال بمثله في النملة التي تكلمت، قال في تفسير الاية: والمعنى إنه جعل الله تعالى كل هذه الاصناف جنوده، ولا يكون كذلك إلا بأن يتصرف على مراده، ولا يكون كذلك إلا مع العقل الذي يصح معه التكليف أو يكون بمنزلة المراهق الذي قد قارب حد التكليف، فلذلك قلنا: إن الله تعالى جعل الطير في أيامه مما له عقل وليس كذلك حال الطيور في أيامنا وإن كان فيها ما قد ألهمه الله تعالى الدقائق التي خصت بالحاجة إليها أو خصها الله بها لمنافع العباد كالنحل وغيره. انتهى. ووجوه التحكم فيه غنية عن البيان. وتقديم الجن في الذكر على الانس والطير لكون تسخيرهم ودخولهم تحت الطاعة عجيبا، وذكر الانس بعده دون الطير مع كون تسخيرها أيضا عجيبا، رعاية لامر المقابلة بين الجن والانس. قوله تعالى: " حتى إذا أتوا على وادي النمل " الآية، " حتى " اية لما يفهم من الآية السابقة، وضمير الجمع لسليمان وجنوده، وتعدية الاتيان بعلي قيل: لكون

[ 353 ]

الاتيان من فوق، ووادي النمل واد بالشام على ما قيل، وقيل: في أرض الطائف، وقيل: في أقصى اليمن، والحطم الكسر. والمعنى: فلما سار سليمان وجنوده حتى أعلى وادي النمل قالت نملة مخاطبة لسائر النمل: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم يكسرنكم سليمان وجنوده أي لا يطأنكم بأقدامهم وهم لا يشعرون. وفيه دليل على أنهم كانوا يسيرون على الارض. قوله تعالى: " فتبسم ضاحكا من قولها " إلى آخر الآية، قيل: التبسم دون الضحك، وعلى هذا فالمراد بالضحك هو الاشراف عليه مجازا. ولا منافاة بين قوله عليه السلام: " علمنا منطق الطير " وبين فهمه كلام النملة إذ لم ينف فهمه كلام سائر الحيوان أو كلام بعضها كالنملة. وقد تسلم جمع منهم دلالة قوله: " علمنا منطق الطير " على نفي ما عداه فتكلفوا في توجيه فهمه عليه السلام قول النملة تارة بأنه كانت قضية في واقعة، وأخرى بتقدير أنها كانت نملة ذات جناحين وهي من الطير، وثالثة بأن كلامها كان من معجزات سليمان عليه السلام، ورابعة بأنه عيه السلام لم يسمع منها صوتا قط وإنما لهم ما في نفس النملة إلهاما من الله تعالى هذا. وما تقدم من معنى منطق الحيوان يزاح به هذه الاوهام. على أن سياق الآيات وحده كاف في دفعها. وقوله: " وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه " الايزاع الالهام. تبسم عليه السلام مبتهجا مسرورا بما أنعم الله عليه حتى أوقفه هذا الموقف وهي النبوة والعلم بمنطق الحيوان والملك والجنود من الجن والانس والطير فسأل الله أن يلهمه شكر نعمته وأن يعمل بما فيه رضاه سبحانه. وقد جعل الشكر للنعمة التي أنعم الله تعالى بها على نفسه مختصة به، وللنعمة التي أنعم بها على والديه فإن الانعام على والديه إنعام عليه بوجه لكونه منهما وقد أنعم الله تعالى على أبيه داود بالنبوة والملك والحكمة وفصل الخطاب وغيرها وأنعم على أمه حيث زوجها من داود النبي ورزقها سليمان النبي وجعلها من أهل بيت النبوة.

[ 354 ]

وفي كلامه هذا دليل على أن والدته من أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليم (1) وهم احدى الطوائف الاربع المذكورين في قوله تعالى: " الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين " النساء: 69. وقوله: " وأن أعمل صالحا ترضاه " عطف على قوله: " أن أشكر نعمتك " ومسألته هذه: " أوزعني أن أعمل " الخ، أمر أرفع قدرا وأعلى منزلة من سؤال التوفيق للعمل الصالح فإن التوفيق يعمل في الاسباب الخارجية بترتيبها بحيث توافق سعادة الانسان ولايزاع الذي سأله دعوة باطنية في الانسان إلى السعادة، وعلى هذا فليس من البعيد أن يكون المراد به الوحي الذي أكرم الله به إبراهيم وآله فيما يخبر عنه بقوله: " وأوحينا إليهم فعل الخيرات " الآية الانبياء: 73، وهو التأييد بروح القدس على ما مر في تفسير الآية. وقوله: " وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين " أي اجعلني منهم، وهذا الصلاح لما لم يتقيد بالعمل كان هو صلاح الذات وهو صلاح النفس في جوهرها الذي يستعد به لقبول أي كرامة إلهية. ومن المعلوم أن صلاح الذات أرفع قدرا من صلاح العمل ففي قوله: " وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين " تدرج في المسأله من الادنى إلى الاعلى وقد كان صلاح العمل منسوبا إلى صنعه واختياره بوجه دون صلاح الذات ولذا سأل صلاح الذات من ربه ولم يسأل نفس صلاح العمل بل أن يوزعه أن يعمل. وفي تبديله سؤال صلاح الذات من سؤال أن يدخله في عباده الصالحين إيذان بسؤاله ما خصهم الله به من المواهب وأغزرها العبودية وقد وصفه الله بها في قوله: " نعم العبد إنه أواب " ص: 30. قوله تعالى: " وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين " قال الراغب: التفقد التعهد لكن حقيقة التفقد تعرف فقدان الشئ والتعه تعرف العهد


(1) وفيه تبرئة ساحتها عما في التوراة الدائرة ففي التوراة أنها كانت امرأة اوريا فجر بها داود ثم كاد في قتل اوريا فقتل في بعض الحروب فأدخلها في أزواجه فولدت له سليمان. (*)

[ 355 ]

المتقدم قال تعالى: " وتفقد الطير ". انتهى. استفهم أولا متعجبا من حال نفسه إذ لا يرى الهدهد بين الطير كأنه لم يكن من المظنون في حقه أن يغيب عن موكبه ويستنكف عن امتثال أمره ثم أضرب عن ذلك بالاستفهام عن غيبته. والمعنى: ما بالي لا أرى الهدهد بين الطيور الملازمة لموكبي بل أكان من الغائبين. قوله تعالى: " لا عذبنه عذابا شديدا أو لا ذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين " اللامات للقسم والسلطان المبين البرهان الواضح، يقضي عليه السلام على الهدهد أحد ثلاث خصال: العذاب الشديد والذبح وفيهما شقاؤه، والاتيان بحجة واضحة وفيه خلاصه ونجاته. قوله تعالى: " فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين " ضمير " فمكث " لسليمان ويحتمل أن يكون للهدهد ويؤيد الاول سابق السياق والثاني لا حقه، والمراد بالاحاطة العلم الكامل، وقوله: " وجئتك " الخ، بمنزلة عطف التفسير لقوله: " أحطت " الخ، وسبأ بلدة باليمن كانت عاصمته يومئذ والنبأ الخبر الذي له أهمية، واليقين ما لا شك فيه. والمعني: فمكث سليمان - أو فمكث الهدهد - زمانا غير بعيد - ثم حضر فسأله سليمان عن غيبته وعاتبه - فقال أحطت من العلم بما لم تحط به وجئتك من سبإ بخبر مهم لا شك فيه. ومنه يظهر أن في الآية حذفا وإيجازا، وقد قيل: إن في قول الهدهد: " أحطت بما لم تحط به " كسرا لسورة سليمان عليه السلام فيما شدد عليه. قوله تعالى: " إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم " الضمير في " تملكهم " لاهل سبإ وما يتبعها وقوله: " وأوتيت من كل شئ " وصف لسعة ملكها وعظمته وهو القرينة على أن المراد بكل شئ في الآية كل شئ هو من لوازم الملك العظيم من حزم وعزم وسطوة ومملكة عريضة وكنوز وجنود مجندة ورعية مطيعة، وخص بالذكر من بينها عرشها العظيم. قوله تعالى: " وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله " الخ، أي إنهم

[ 356 ]

من عبدة الشمس من الوثنيين. وقوله: " وزين لهم الشيطان أعمالهم " بمنزلة عطف التفسير لما سبقه وهو مع ذلك توطئة لقوله بعد: " فصدهم عن السبيل " لان تزيين الشيطان لهم أعمالهم التي هي سجدتهم وسائر تقرباتهم هو الذي صرفهم ومنعهم عن سبيل الله وهي عبادته وحده. وفي إطلاق السبيل من غير إضافتها إليه تعالى إشارة إلى أنها السبيل المتعينة للسبيلية بنفسها للانسان بالنظر إلى فطرته بل لكل شئ بالنظر إلى الخلقة العامة. وقوله: " فهم لا يهتدون " تفريع على صدهم عن السبيل إذ لا سبيل مع الصد عن السبيل فلا اهتداء، فافهمه. قوله تعالى: " ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخب ء في السماوات والارض ويعلم ما تخفون وما تعلنون " القراءة الدائرة " ألا " - بتشديد اللام - مؤلف من " أن ولا " وهو عطف بيان من " أعمالهم "، والمعنى: زين لهم الشيطان أن لا يسجدوا لله وقيل: بتقدير لام التعليل، والمعنى: زين لهم الشيطان ضلالتهم لئلا يسجدوا لله. والخب ء على ما في مجمع البيان المخبوء وهو ما أحاط به غيره حتى منع من إدراكه وهو مصدر وصف به يقال: خبأته أخبئه خبأ وما يوجده الله تعالى فيخرجه من العدم إلى الوجود يكون بهذه المنزلة. انتهى. ففي قوله: " يخرج الخب ء في السماوات والارض " استعارة كأن الاشياء مخبوءة مستورة تحت أطباق العدم فيخرجها الله تعالى إلى الوجود واحد بعد آخر فيكون تسمية الايجاد بعد العدم إخراجا للخب ء قريبا من تسميته بالفطر وتوصيفه تعالى بأنه فاطر السماوات والارض والفطر هو الشق كأنه يشق العدم فيخرج الاشياء. ويمكن حمل الجملة على الحقيقة من غير استعارة لكنه مفتقر إلى بيان موضعه غير هذا الموضع. وقيل: المراد بالخب ء الغيب وإخراجه العلم به وهو كما ترى. وقوله: " ويعلم ما تخفون وما تعلنون " بالتاء على الخطاب أي يعلم سركم وعلانيتكم، وقرأ الاكثرون بالياء على الغيبة وهو أرجح. وملخص الحجة: إنهم إنما يسجدون للشمس دون الله تعظيما لها على ما أودع الله سبحانه في طباعها من الآثار الحسنة والتدبير العام للعالم الارضي وغيره، والله الذي

[ 357 ]

أخرج جميع الاشياء من العدم إلى الوجود ومن الغيب إلى الشهادة فترتب على ذلك نظام التدبير من أصله - ومن جملتها الشمس وتدبيرها - أولى بالتعظيم وأحق يسجد له، مع انه لا معنى لعبادة ما لا شعور له بها ولا شعور لشمس بسجدتهم والله سبحانه يعلم ما يخفون وما يعلنون فالله سبحانه هو المتعين للسجدة والتعظيم لا غير. وبهذا البيان تبين وجه اتصال قوله تلوا: " الله لا إله إلا هو " الخ. قوله تعالى: " لله لا إله إلا هو رب العرش العظيم " من تمام كلام الهدهد وهو بمنزلة التصريح بنتيجة البيان الضمني السابق وإظهار الحق قبال باطلهم ولذا أتى أولا بالتهليل الدال على توحيد العبادة ثم ضم إليه قوله: " رب العرش العظيم " الدال على انتهاء تدبير الامر إليه فإن العرش الملكي هو المقام الذي تجتمع عنده ازمة الامور وتصدر منه الاحكام الجارية في الملك. وفي قوله: " رب العرش العظيم " مناسبة محاذاة اخرى مع قوله في وصف ملكة سبأ: " ولها عرش عظيم " ولعل قول الهدهد هذا هو الذي دعا - أو هو من جملة ما دعا - سليمان عليه السلام ان يأمران يأتوا بعرشها إليه ليخضع لعظمة ربه كل عظمة. قوله تعالى: " قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين " الضمير لسليمان عليه السلام. أحال القضاء في أمر الهدهد إلى المستقبل فلم يصدقه في قوله لعدم بينه عليه بعد ولم يكذبه لعدم الدليل على كذبه بل وعده ان يجرب ويتأمل. قوله تعالى: " اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون " حكاية قول سليمان خطابا للهدهد كأنه قيل: فكتب سليمان كتابا ثم قال للهدهد: اذهب بكتابي هذا إليهم أي إلى ملكة سبأ وملاها فألقه إليهم ثم تول عنهم أي تنح عنهم وقع في مكان تراهم فانظر ماذا يرجعون أي ماذا يرد بعضهم من الجواب على بعض إذا تكلموا فيه. وقوله: " فألقه " بسكون الهاء وصلا ووقفا في جميع القراءات وهي هاء السكت، ومما قيل في الآية: أن قوله " ثم تول عنهم فانظر " الخ، من قبيل التقديم والتأخير والاصل فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم. وهو كما ترى. قوله تعالى: " قالت يا أيها الملؤ إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه

[ 358 ]

بسم الله الرحمن الرحيم " في الكلام حذف وإيجاز والتقدير فأخذ الهدهد الكتاب وحمله إلى ملكة سبأ حتى إذا أتاها ألقاه إليها فأخذتها ولما قرأتها قالت لملاها وأشراف قومها يا أيها الملؤ " الخ ". فقوله: " قالت يا أيها الملؤ إني ألقي إلي كتاب كريم " حكاية ذكرها لمإها أمر الكتاب وكيفية وصوله إليها ومضمونه، وقد عظمته إذ وصفته بالكرم. وقوله: " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم " ظاهره أنه تعليل لكون الكتاب كريما أي والسبب فيه أنه من سليمان ولم يكد يخفى عليها جبروت سليمان وما أوتيه من الملك العظيم والشوكة العجيبة كما اعترفت بذلك في قولها على ما حكاه الله بعد: " وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين ". وإنه بسم الله الرحمن الرحيم: أي الكتاب باسمه تعالى فهو كريم لذلك والوثنيون جميعا قائلون بالله سبحانه يرونه رب الارباب وإن لم يعبدوه، وعبدة الشمس منهم وهم من شعب الصابئين يعظمونه ويعظمون صفاته وإن كانوا يفسرون الصفات بنفي النقائص والاعدام فيفسرون العلم والقدرة والحياة والرحمة مثلا بانتفاء الجهل والعجز والموت والقسوة فكون الكتاب باسم الله الرحمن الرحيم يستدعي كونه كريما، كما أن كونه من سليمان العظيم يستدعي كونه كريما، وعلى هذا فالكتاب أي مضمونه هو قوله: " أن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين " وأن مفسرة. ومن العجيب ما عن جمع من المفسرين أن قوله: " إنه من سليمان " استئناف وقع جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل: ممن الكتاب وماذا فيه فقالت: إنه من سليمان الخ، وعلى هذا يكون قوله: وإنه بسم الله بيانا للكتاب أي لمتنه وأن الكتاب هو " بسم الله الرحمن الرحيم أي لا تعلوا علي وأتوني مسلمين ". ويتوجه عليهم أولا: وقوع لفظه أن زائدة لا فايدة لها ولذا قال بعضهم: إنها مصدرية و " لا " نافية لا ناهية وهو وجه سخيف كما سيأتي. وثانيا: بيان الوجه في كون الكتاب كريما فقيل: وجه كرامته أنه كان مختوما ففي الحديث: إكرام الكتاب ختمه حتى ادعى بعضهم أن معنى كرامة الكتاب ختمه، يقال: أكرمت الكتاب فهو كريم إذا ختمته، وقيل: إنها سمته كريما لجودة

[ 359 ]

خطه وحسن بيانه، وقيل: لوصوله إليها على منهاج غير عادي، وقيل: لظنها بسبب إلقاء الطير أنه كتاب سماوي إلى غير ذلك من الوجوه. وأنت خبير بأنها تحكمات غير مقنعة، والظاهر أن الذي أوقعهم فيما وقعوا حملهم قوله: " وإنه بسم الله - إلى قوله - مسلمين " على حكاية متن الكتاب وذلك ينافي حمل قوله: " وإنه من سليمان وإنه بسم الله " الخ، على تعليل كرامة الكتاب ويدفعه أن ظاهر أن المفسرة في قوله: " أن لا تعلوا علي " الخ، أنه نقل لمعنى الكتاب ومضمونه لا حكاية متنه فمحصل الآيتين أن الكتاب كان مبدوا بسم الله الرحمن الرحيم وأن مضمونه النهي عن العلو عليه والامر بأن يأتوه مسلمين فلا محذور أصلا. قوله تعالى: " أن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين " أن مفسرة تفسر مضمون كتاب سليمان كما تقدمت الاشارة إليه. وقول بعضهم: إنها مصدرية و " لا " نافية أي عدم علوكم علي، سخيف لا سلتزمه أولا: تقدير مبتدأ أو خبر محذوف من غير موجب، وثانيا: عطف الانشاء وهو قوله: " وأتوني " على الاخبار. والمراد بعلوهم عليه استكبارهم عليه، وبقوله: " وأتوني مسلمين " إسلامهم بمعنى الانقياد على ما يؤيده قوله: " أن لا تعلوا علي " دون الاسلام بالمعنى المصطلح وهو الايمان بالله سبحانه وإن كان أتيانهم منقادين له يستلزم إيمانهم بالله على ما يستفاد من سياق قول الهدهد وسياق الآيات الآتية، ولو كان المراد بالايمان المعنى المصطلح كان المناسب أن يقال: أن لا تعلوا على الله. وكون سليمان عليه السلام نبيا شأنه الدعوة إلى الاسلام لا ينافي ذلك فإنه كان ملكا رسولا وكانت دعوته إلى الانقياد المطلق تستلزم ذلك كما تقدم وقد انتهت إلى إسلامها لله كما حكى الله تعالى عنها " وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ". قوله تعالى: " قالت يا أيها الملؤ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون " الافتاء إظهار الفتوى وهى الرأي، وقطع الامر القضاء به والعزم عليه الشهادة الحضور وهذا استشارة منها لهم تقول: أشيروا علي في هذا الامر الذي واجهته - وهو الذي يشير إليه كتاب سليمان - وإنما أستشير كم فيه لاني لم أكن حتى اليوم

[ 360 ]

استبدبر أيي فيه الامور بل أقضي وأعزم عن إشارة وحضور منكم. فالآية تشير إلى فصل ثان من كلامها مع ملاها بعد الفصل الاول الذي اخبرتهم فيه بكتاب سليمان عليه السلام وكيفيه وصوله وما في. قوله تعالى: " قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والامر اليك فانظري ماذا تأمرين القوة ما يتقوى به على المطلوب وهي ههنا الجند الذي يتقوى به على دفع العدو وقتاله، والبأس الشدة في العمل والمراد به النجدة والشجاعة. والآية تتضمن جواب الملا لها يسمعونها أولا ما يطيب له نفسها ويسكن به قلقها ثم يرجعون إليها الامر يقولون: طيبي نفسا ولا تحزني فإن لنا من القوة والشدة ما لا نهاب به عدوا وإن كان هو سليمان ثم الامر اليك مري بما شئت فنحن مطيعوك. قوله تعالى: " قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون " إفساد القرى تخريبها وإحراقها وهدم أبنيتها، وإذلال أعزة أهلها هو بالقتل والاسر والسبي والاجلاء والتحكم. كان رأيها على ما يستفاد من هاتين الآيتين - زيادة التبصر في أمر سليمان عليه السلام بأن ترسل إليه من يختبر حاله ويشاهد مظاهر نبوته وملكة فيخبر الملكة بما رأى حتى تصمم هي العزم على أحد الامرين: الحرب أو السلم وكان الظاهر من كلام الملاء حيث بدؤا في الكلام معها بقولهم نحن أولوا قوة وأولو بأس شديد، أنهم يميلون إلى القتال لذلك أخذت أولا تذم الحرب ثم نصت على ما هو رأيها فقالت: " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها " الخ، أي إن الحرب لا تنتهي إلا إلى غلبة أحد المتحاربين وفيها فساد القرى وذلة أعزتها فليس من الحزم الاقدام عليها مع قوة العدو وشوكته مهما كانت إلى السلم والصلح سبيل إلا لضرورة ورأيي الذي أراه أن أرسل إليهم بهدية ثم أنظر بماذا يرجع المرسلون من الخبر وعند ذلك أقطع بأحد الامرين الحرب أو السلم. فقوله: " إن الملوك إذا دخلوا " الخ، توطئة لقوله بعد: " وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة " الخ. وقوله: " وجعلوا أعزة أهلها أذلة " أبلغ وآكد من قولنا مثلا: استذلوا أعزتها لانه مع الدلالة على تحقق الذلة يدل على تلبسهم بصفة الذلة.

[ 361 ]

وقوله: " وكذلك يفعلون " مسوق للدلالة على الاستمرار بعد دلالة قوله: " أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة " على اصل الوقوع، وقيل: إن الجملة من كلام الله سبحانه لا من تمام كلام ملكة سبأ، وليس بسديد إذ لا اقتضاء في المقام لمثل هذا التصديق. قوله تعالى: " وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون " أي مرسلة إلى سليمان وهذا نوع من التجبر والاعتزاز الملوكي تصون لسانها عن اسمه وتنسب الامر إليه وإلى من معه جميعا وايضا تشير به إلى انه يفعل ما يفعل بأيدي اعضاده وجنوده وإمداد رعيته. وقوله: " فناظرة بم يرجع المرسلون " أي حتى اعمل عند ذلك بما تقتضيه الحال وهذا - كما تقدم - هو رأي ملكة سبأ، ويعلم من قوله: " المرسلون " أن الحامل للهدية كان جمعا من قومها كما يستفاد من قول سليمان بعد: " ارجع إليهم " انه كان للقوم المرسلين رئيس يرأسهم. قوله تعالى: " فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون " ضمير جاء للمال الذي أهدى إليه أو للرسول الذي جاء بالهدية. والاستفهام في قوله: " أتمدونن بمال " للتوبيخ والخطاب للرسول والمرسل بتغليب الحاضر على الغائب، وتوبيخ القوم من غير تعيين الملكة من بينهم نظير قولها فيما تقدم: " وإني مرسلة إليهم بهدية " كما أشرنا إليه. وجوز أن يكون الخطاب للمرسلين وكانوا جماعة وهو خطأ فإن الامداد لم يكن من المرسلين بل ممن أرسلهم فلا معنى لتوجيه التوبيخ إليهم خاصة، وتنكير المال للتحقير، والمراد بما آتاني الله الملك والنبوة. والمعنى: أتمدونني بمال حقير لا قدر له عندي في جنب ما آتاني الله فما آتاني الله من النبوة والملك والثروة خير مما آتاكم. وقوله: " بل أنتم بهديتكم تفرحون " إضراب عن التوبيخ بإمداده بالمال إلى التوبيخ بفرحهم بهديتهم أي إن إمدادكم إياي بمال لا قدر له عندي في جنب ما آتاني الله قبيح وفرحكم بهديتكم لاستعظامكم لها وإعجابكم بها أقبح. وقيل: المراد بهديتكم الهدية التي تهدي إليكم، والمعنى: بل أنتم تفرحون بما

[ 362 ]

يهدي اليكم من الهدية لحبكم زيادة المال وأما أنا فلا أعتد بمال الدنيا هذا. وبعده ظاهر. قوله تعالى: " ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون " الخطاب لرئيس المرسلين، وضمائر الجمع راجعة إلى ملكة سبأ وقومها، والقبل الطاقة، وضمير " بها " لسبأ، وقوله: " وهم صاغرون " تأيد لما قبله، واللام في " فلنأتينهم " و " لنخرجنهم " للقسم. لما كان ظاهر تبديلهم امتثال أمره - وهو قوله: " وأتوني مسلمين " - من إرسال الهدية هو الاستنكاف عن الاسلام قدر بحسب المقام انهم غير مسلمين له فهددهم بإرسال جنود لا قبل لهم بها ولذلك فرع إتيانهم بالجنود على رجوع الرسول من غير أن يشترطه بعدم إتيانهم مسلمين فقال: " ارجع إليهم فلنأتينهم " الخ، ولم يقل: ارجع فإن لم يأتوني مسلمين فلنأتينهم الخ، وإن كان مرجع المعنى إليه فإن إرسال الجنود وإخراجهم من سبأ على حال الذلة كان مشروطا به على أي حال. و السياق يشهد أنه عليه السلام رد إليهم هديتهم ولم يقبلها منهم. قوله تعالى: " قال يا أيها الملؤ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين " كلام تكلم به بعد الهدية وإرجاع الرسل، وفيه إخباره أنهم سيأتونه مسلمين وإنما أراد الاتيان بعرشها قبل حضورها وقومها عنده ليكون دلالة ظاهرة على بلوغ قدرته الموهوبة من ربه ومعجزة باهرة لنبوته حتى يسلموا لله كما يسلمون له ويستفاد ذلك من الآيات التالية. قوله تعالى: " قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين " العفريت - على ما قيل - المارد الخبيث، وقوله: " آتيك به " اسم فاعل أو فعل مضارع من الاتيان، والاول أنسب للسياق لدلالته على التلبس بالفعل وكونه أنسب لعطف قوله: " وإني عليه " الخ، وهو جملة اسمية عليه. كذا قيل. وقوله: " وإني عليه لقوي أمين " الضمير للاتيان أي أنا لاتيان بعرشها لقوي لا يثقل علي حمله ولا يجهدني نقله، أمين لا أخونك في هذا الامر. قوله تعالى: " قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك " مقابلته لمن قبله دليل

[ 363 ]

على أنه كان من الانس، وقد وردت الروايات عن ائمة أهل البيت عليهم السلام انه كان آصف بن برخيا وزير سليمان ووصيه، وقيل: هو الخضر، وقيل: رجل كان عنده اسم الله الاعظم الذي إذا سئل به أجاب، وقيل: جبريل، وقيل: هو سليمان نفسه، وهي وجوه لا دليل على شئ منها. وأيا ما كان وأي من كان ففصل الكلام مما قبله من غير أن يعطف عليه للاعتناء بشأن هذا العالم الذي أتى بعرشها إليه في أقل من طرفة العين، وقد اعتنى بشأن علمه أيضا إذ نكر فقيل: علم من الكتاب أي علم لا يحتمل اللفظ وصفه. والمراد بالكتاب الذي هو مبدأ هذا العلم العجيب إما جنس الكتب السماوية أو اللوح المحفوظ، والعلم الذي أخذه هذا العالم منه كان علما يسهل له الوصول إلى هذه البغية وقد ذكر المفسرون أنه كان يعلم اسم الله الاعظم الذي إذا سئل به أجاب، وربما ذكر بعضهم أن ذلك الاسم هو الحي القيوم، وقيل: ذو الجلال والاكرام، وقيل: الله الرحمان، وقيل: هو بالعبرانية آهيا شراهيا، وقيل: إنه دعا بقوله: يا إلهنا وإله كل شئ إلها واحدا لا إله إلا أنت إيتني بعرشها. إلى غير ذلك مما قيل. وقد تقدم في البحث عن الاسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب أن من المحال أن يكون الاسم الاعظم الذي له التصرف في كل شئ من قبيل الالفاظ ولا المفاهيم التي تدل عليها وتكشف عنها الالفاظ بل إن كان هناك اسم له هذا الشأن أو بعض هذا الشأن فهو حقيقة الاسم الخارجية التي ينطبق عليها مفهوم اللفظ نوعا من الانطباق وهي الاسم حقيقة واللفظ الدال عليها اسم الاسم. ولم يرد في لفظ الآية نبأ من هذا الاسم الذي ذكروه بل الذي تتضمنه الآية أنه كان عنده علم من الكتاب، وأنه قال: أنا آتيك به، ومن المعلوم مع ذلك أن الفعل فعل الله حقيقة، وبذلك كله يتحصل أنه كان له من العلم بالله والارتباط به ما إذا سأل ربه شيئا بالتوجه إليه لم يتخلف عن الاستجابة وإن شئت فقل: إذا شاءه الله سبحانه. ويتبين مما تقدم أيضا أن هذا العلم لم يكن من سنخ العلوم الفكرية التي تقبل الاكتساب والتعلم. وقوله: " أنا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك " الطرف - على ما قيل -

[ 364 ]

اللحظ والنظر وارتداد الطرف وصول المنظور إليه إلى النفس وعلم الانسان به، فالمراد أنا آتيك به في أقل من الفاصلة الزمانيه بين النظر إلى الشئ والعلم به. وقيل: الطرف تحريك الاجفان وفتحها للنظر، وارتداده هو انضمامها ولكونه أمرا طبيعيا غير منوط بالقصد أوثر الارتداد على الرد فقيل: قبل أن يرتد اليك طرفك ولم يقل: قبل أن يرد. هذا. وقد أخطأفا لطرف كالتنفس من أفعال الانسان الاختيارية غير أن الذي يبعث إليه هو الطبيعة كما في التنفس ولذلك لا يحتاج في صدوره إلى ترو سابق كما يحتاج إليه في أمثال الاكل والشرب، فالفعل الاختياري ما يرتبط إلى إرادة الانسان وهو أعم مما يسبقه التروي، والذي أوقع هذا القائل فيما وقع ظنه التساوي بين الفعل الصادر عن اختيار والصادر عن ترو، ولعل النكتة في إيثار الارتداد على الرد هي أن الفعل لعدم توقفه على التروي كأنه يقع بنفسه لا عن مشية من اللاحظ. والخطاب في قوله: " أنا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك " لسليمان عليه السلام فهو الذي يريد الاتيان به إليه وهو الذي يراد الاتيان به إليه. وقيل: الخطاب للعفريت القائل: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك والمراد بالذي عنده علم من الكتاب عند هذا القائل هو سليمان، وإنما قاله له إظهارا لفضل النبوة وان الذي أقدره الله عليه بتعليمه علما من الكتاب أعظم مما يتبجح به العفريت من القدرة، فالمعنى: قال سليمان للعفريت لما قال ما قال: أنا آتيك بالعرش قبل ارتداد طرفك. وقد أصر في التفسير الكبير على هذا القول وأورد لتأييده وجوها وهي وجوه ردية وأصل القول لا يلائم السياق كما أو مأنا إليه. قوله تعالى: " فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي " إلى آخر الآية، أي لما رأى سليمان العرش مستقرا عنده قال هذا، أي حضور العرش واستقراره عندي في أقل من طرفة العين من فضل ربي من غير استحقاق مني ليبلوني أي يمتحنني أأشكر نعمته أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه أي يعود نفعه إليه لا إلى ربي ومن كفر فلم يشكر فإن ربي غني كريم - وفي ذيل الكلام تأكيد لما في صدره من حديث الفضل -.

[ 365 ]

وقيل: المشار إليه بقوله: " هذا " هو التمكن من إحضاره بالواسطة أو بالذات. وفيه أن ظاهر قوله: " فلما رآه مستقرا عنده قال " الخ، أن هذا الثناء مرتبط بحال الرؤية والذي في حال الرؤية هو حضور العرش عنده دون التمكن من الاحضار الذي كان متحققا منذ زمان. وفي الكلام حذف وإيجاز، والتقدير فأذن له سليمان في الاتيان به كذلك فأتى به كما قال: " فلما رآه مستقرا عنده " وفي حذف ما حذف دلالة بالغة على سرعة العمل كأنه لم يكن بين دعواه الاتيان به كذلك وبين رؤيته مستقرا عنده فصل أصلا. قوله تعالى: " قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون "، قال في المفردات: تنكير الشئ من حيث المعنى جعله بحيث لا يعرف، قال تعالى: " قال نكروا لها عرشها " وتعريفه جعله بحيث يعرف. انتهى. والسياق يدل على أن سليمان عليه السلام إنما قاله حينما قصدته ملكه سبأ وملاها لما دخلوا عليه، وإنما أراد بذلك اختبار عقلها كما أنه أراد بأصل الاتيان به إظهار آية باهرة من آيات نبوته لها، ولذا أمر بتنكير العرش ثم رتب عليه قوله: " ننظر أتهتدي " الخ، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين " أي فلما جاءت الملكة سليمان عليه السلام قيل له من جانب سليمان: " أهكذا عرشك " وهو كلمة اختبار. ولم يقل: أهذا عرشك بل زيد في التنكير فقيل: أهكذا عرشك ؟ فأستفهم عن مشابهة عرشها لهذا العرش المشار إليه في هيئته وصفاته، وفي نفس هذه الجملة نوع من التنكير. وقوله: " قالت كأنه هو " المراد به أنه هو وإنما عبرت بلفظ التشبيه تحرزا من الطيش والمبادرة إلى التصديق من غير تثبت، ويكني عن الاعتقادات الابتدائية التي لم يتثبت عليها غالبا بالتشبيه. وقوله: " وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين " ضمير " قبلها " لهذه الاية أي الاتيان بالعرش أو لهذه الحالة أي رؤيتها له بعد ما جاءت، وظاهر السياق أنها تتمة

[ 366 ]

كلام الملكة فهي لما رأت العرش وسئلت عن امره احست أن ذلك منهم تلويح إلى ما آتى الله سليمان من القدرة الخارقة للعادة فأجابت بقولها: " وأوتينا العلم من قبلها " الخ، أي لا حاجة إلى هذا التلويح والتذكير فقد علمنا بقدرته قبل هذه الآية أو هذه الحالة وكنا مسلمين لسليمان طائعين له. وقيل: قوله: " وأوتينا العلم " الخ، من كلام سليمان، وقيل: من كلام قوم سليمان، وقيل من كلام الملكة لكن المعنى وأوتينا العلم بإتيان العرش قبل هذه الحال - وهي جميعا وجوه ردية -. قوله تعالى: " وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين " الصد: المنع والصرف، ومتعلق الصد الاسلام لله وهو الذي ستشهد به حين تؤمر بدخول الصرح فتقول: أسلمت مع سليمان لله رب العالمين، وأما قولها في الآية السابقة: " وكنا مسلمين " فهو إسلامها وانقيادها لسليمان عليه السلام. هذا ما عطيه سياق الآيات وللقوم وجوه أخر في معنى الآية أضربنا عنها. وقوله: " إنها كانت من قوم كافرين " في مقام التعليل للصد، والمعنى: ومنعها عن الاسلام لله ما كانت تعبد من دون الله وهي الشمس على ما تقدم في نبأ الهدهد والسبب فيه أنها كانت من قوم كافرين فاتبعتهم في كفرهم. قوله تعالى: " قيل لها ادخلي الصرح " إلى آخر الآية، الصرح هو القصر وكل بناء مشرف والصرح الموضع المنبسط المنكشف من غيرسقف، واللجة المعظم من الماء والممرد اسم مفعول من التمريد وهو التمليس، والقوارير الزجاج. وقوله: " قيل لها ادخلي الصرح " كأن القائل بعض خدم سليمان مع حضور من سليمان ممن كان يهديها إلى الدخول عليه على ما هو الدأب في وفود الملوك والعظماء على أمثالهم. وقوله: " فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها " أي لما رأت الصرح ظنت أنه لجة لما كان عليه الزجاج من الصفاء كالماء وكشفت عن ساقيها بجمع ثيابها لئلا تبتل بالماء أذيالها. وقوله: " قال إنه صرح ممرد من قوارير " القائل هو سليمان نبهها انه ليس بلجة

[ 367 ]

بل صرح مملس من زجاج فلما رأت ما رأت من عظمة ملك سليمان وقد كانت رأت سابقا ما رأت من أمر هدهد ورد الهدية والاتيان بعرشها لم تشك أن ذلك من آيات نبوته من غير أن يؤتى بحزم أو تدبير وقالت عند ذلك: رب إني ظلمت نفسي الخ. وقوله: " وقالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين "، استغاثت أولا بربها بالاعتراف بالظلم إذ لم تعبد الله من بدء أو من حين رأت هذه الآيات ثم شهدت بالاسلام لله مع سليمان. وفي قوله: " وأسلمت مع سليمان لله " التفات بالنسبة إليه تعالى من الخطاب إلى الغيبة ووجهة الانتقال من أجمال الايمان بالله إذ قالت: رب إني ظلمت نفسي إلى التوحيد الصريح فإنها تشهد ان إسلامها لله مع سليمان فهو على نهج إسلام سليمان وهو التوحيد ثم تؤكد التصريح بتوصيفه تعالى برب العالمين فلا رب غيره تعالى لشئ من العالمين وهو توحيد الربوبية المستلزم لتوحيد العبادة الذي لا يقول به مشرك. (كلام في قصة سليمان عليه السلام) 1 - ما ورد من قصصه في القرآن: لم يرد من قصصه عليه السلام في القرآن الكريم إلا نبذة يسيرة غير ان التدبر فيها يهدي إلى عامة قصصه ومظاهر شخصيته الشريفة. منها: وراثته لابيه داود قال تعالى: " ووهبنا لداود سليمان " ص: 30، وقال " وورث سليمان داود " النمل: 16. ومنها: إيتاؤه الملك العظيم وتسخير الجن والطير والريح له وتعليمه منطق الطير وقد تكرر ذكر هذه النعم في كلامه تعالى كما في سورة البقرة الآية 102 والانبياء الآية 81، والنمل الآية 16 - 18، وسبأ الآية 12 - 13 وص الآية 35 - 39. ومنها: الاشارة إلى قصة إلقاء جسد على كرسيه كما في سورة ص الآية 33. ومنها: الاشارة إلى عرض الصافنات الجياد عليه كما في سورة ص الآية 31 - 33. ومنها: الاشارة إلى تفهيمه الحكم في الغنم التي نفشت في الحرث كما في سورة الانبياء الآية 78 - 79. ومنها: الاشارة إلى حديث النملة كما في سورة النمل الآية 18 - 19.

[ 368 ]

ومنها: قصة الهدهد وما يتبعها من قصته عليه السلام مع ملكة سبأ سورة النمل الآية 20 - 44. ومنها: الاشارة إلى كيفية موته عليه السلام كما في سورة سبأ الآية 14. وقد أوردنا ما يخص بكل من هذه القصص من الكلام في ذيل الآيات المشيرة إليها الموضوعة في هذا الكتاب. 2 - الثناء عليه في القرآن: ورد اسمه عليه السلام في بضعة عشر موضعا من كلامه تعالى وقد أكثر الثناء عليه فسماه عبدا أو أبا قال تعالى: " نعم العبد انه أواب " ص: 30، ووصفه بالعلم والحكم قال تعالى: " ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما " الانبياء: 79 وقال " ولقد آتينا داود وسليمان علما " النمل: 15 وقال: " وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير " النمل: 16، وعده من النبيين المهديين قال تعالى: " وأيوب ويونس وهارون وسليمان " النساء: 163 وقال: " ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان " الانعام: 84. 3 - ذكره عليه السلام في العهد العتيق: قعت قصته في كتاب الملوك الاول وقد أطيل فيه في حشمته وجلالة أمره وسعة ملكه ووفور ثرويه وبلوغ حكمته غير انه لم يذكر فيه شئ من قصصه المشار إليها في القرآن إلا ما ذكر أن ملكة سباء لما سمعت خبر سليمان وبناءه وبيت الرب باور شليم وما اوتيه من الحكمة أتت إليه ومعها هدايا كثيرة فلاقتها وسألتها عن مسائل تمتحنه بها فأجاب عنها ثم رجعت (1). قد أساء العهد العتيق القول فيه عليه السلام فذكر (2) انه عليه السلام انحرف في آخر عمره عن عبادة الله إلى عبادة الاصنام فسجد لاوثان كانت تعبدها بعض أزواجه. وذكر أن والدته كانت زوج أوريا الحتي فعشقها داود عليه السلام ففجر بها فحبلت منه فاحتال في قتل زوجها أوريا حتى قتل في بعض الحروب فضمها إلى ازواجه فحبلت منه ثانيا وولدت له سليمان.


(1) الاصحاح العاشر من الملوك الاول. (2) الاصحاح الحادي عشر والثاني عشر من كتاب صموئيل الثاني. (*)

[ 369 ]

والقرآن الكريم ينزه ساحته عليه السلام عن أول الرميتين بما ينزه به ساحة جميع الانبياء بالنص على هدايتهم وعصمتهم وقال فيه خاصة: " وما كفر سليمان " البقرة: 102. وعن الثانية بما يحكيه من دعائه عليه السلام لما سمع قول النملة: " رب أوزعني ان أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي " النمل: 19، فقد بينا في تفسيره ان فيه دلالة على ان والدته كانت من أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. 4 - الروايات الواردة في قصصه علليه السلام: الاخبار المروية في قصصه وخاصة في قصة الهدهد وما يتبعها من اخباره مع ملكة سبأ يتضمن أكثرها امورا غريبة قلما يوجد نظائرها في الاساطير الخرافية يأباها العقل السليم ويكذبها التاريخ القطعي وأكثرها مبالغة ما روي عن امثال كعب ووهب. وقد بلغوا من المبالغة أن ما رووا انه عليه السلام ملك جميع الارض، وكان ملكه سبعمائة سنة، وأن جميع الانس والجن والوحش والطير كانوا جنوده، وأنه كان يوضع في مجلسه حول عرشه ستمائة ألف كرسي يجلس عليها ألوف من النبيين ومئات الالوف من أمراء الانس والجن. وأن ملكة سبأ كانت أمها من الجن، وكانت قدمها كحافر الحمارة وكانت تستر قدميها عن أعين النظار حتى كشفت عن ساقيها حينما أرادت دخول الصرح فبان أمرها، وقد بلغ من شوكتها انه كان تحت يدها أربعمائة ملك كل ملك على كورة تحت يد كل ملك أربعمائة ألف مقاتل ولها ثلاثمائة وزير يدبرون ملكها ولها إثنا عشر ألف قائد تحت يد كل قائد إثنا عشر ألف مقاتل إلى غير ذلك من أعاجيب الاخبار التي لا يسعنا إلا ان نعدها من الاسرائيليات ونصفح عنها (1).


(1) وعلى من يريد الوقوف عليها أن يراجع جوامع الاخبار كالدر المنثور والعرائس والبحار ومطولات التفاسير. (*)

[ 370 ]

(بحث روائي) في الاحتجاج روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه عليهم السلام انه لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة عليها السلام فدك وبلغها ذلك جاءت إليه وقالت له: يا ابن أبي قحافة أفي كتاب الله ان ترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئا فريا أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول: وورث سليمان داود. الحديث. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله عزوجل: " فهم يوزعون " قال: يحبس أولهم على آخرهم. وفي الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث قال والناظرة في بعض اللغة هي المنتظرة ألم تسمع إلى قوله: " فناظرة بم يرجع المرسلون ". وفي البصائر بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن إسم الله الاعظم على ثلاث وسبعين حرفا وإنما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالارض ما بينه وبين سرير بلقيس ثم تناول السرير بيده ثم عادت الارض كما كانت أسرع من طرفة عين، وعندنا نحن من الاسم اثنان وسبعون حرفا، وحرف عند الله استأثر به في علم الغيب عنده ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أقول: وروي هذا المعنى أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام، ورواه في الكافي عن جابر عن أبي جعفر وعن النوفلي عن أبي الحسن صاحب العسكر عليهما السلام. وقوله: " إن الاسم الاعظم كذا حرفا وكان عند آصف حرف تكلم به " لا ينافي ما قدمنا أن هذا الاسم ليس من قبيل الالفاظ فإن نفس هذا السياق يدل على أن المراد بالحرف غير الحرف اللفظي والتعبير به من جهة أن المعهود عند الناس من الاسم الاسم اللفظي المؤلف من الحروف الملفوظة. وفي المجمع في قوله تعالى: " قبل ان يرتد اليك طرفك ذكر في ذلك وجوه - إلى أن قال - والخامس أن الارض طويت له وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. أقول: وما رواه من الطي لا يغاير ما تقدمت روايته من الخسف.

[ 371 ]

والذي نقله من الوجوه الاخر خمسة أحدها: إن الملائكة حملته إليه. الثاني: ان الريح حملته. الثالث: ان الله خلق فيه حركات متوالية. الرابع: انه انخرق مكانه حيث هو هناك ثم نبع بين يدي سليمان. الخامس: ان الله أعدمه في موضعه وأعاده في مجلس سليمان. وهناك وجه آخر ذكره بعضهم وهو ان الوجود بتجدد الامثال بإيجاده وقد أفاض الله الوجود لعرشها في سبإ ثم في الآن التالي عند سليمان. وهذه الوجوه بين ممتنع كالخامس وبين ما لا دليل عليه كالباقي. وفيه وروى العياشي في تفسيره بالاسناد قال: التقي موسى بن محمد بن علي بن موسى ويحيى بن أكثم فسأله. قال: فدخلت على أخي علي بن محمد عليه السلام إذ دار بيني وبينه من المواعظ حتى انتهيت إلى طاعته فقلت له: جعلت فداك إن ابن أكثم سألني عن مسائل أفتيه فيها فضحك ثم قال: هل أفتيته فيها قلت: لا. قال: ولم ؟ قلت: لم أعرفها قال: ما هي ؟ قلت: قال: أخبرني عن سليمان أكان محتاجا إلى علم آصف بن برخيا ؟ ثم ذكرت المسائل الاخر: قال: اكتب يا أخي بسم الله الرحمن الرحيم سألت عن قول الله تعالى في كتابه: " قال الذي عنده علم من الكتاب " فهو آصف بن برخيا ولم يعجز سليمان عن معرفة ما عرف آصف لكنه أحب أن تعرف أمته من الجن والانس أنه الحجة من بعده وذلك من علم سليمان أودعه آصف بأمر الله ففهمه الله ذلك لئلا يختلف في إمامته ودلالته كما فهم سليمان في حياة داود ليعرف إمامته ونبوته من بعده لتأكيد الحجة على الخلق. أقول: وأورد الرواية في روح المعاني عن المجمع ثم قال: وهو كما ترى انتهى ولا ترى لاعتراضه هذا وجها غير أنه رأى حديث الامامة فيها فلم يعجبه. وفي نور الثقلين عن الكافي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجوا - إلى ان قال - وخرجت ملكة سبأ فأسلمت مع سليمان عليه السلام. * * * ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم

[ 372 ]

فريقان يختصمون - 45. قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لو لا تستغفرون الله لعلكم ترحمون - 46. قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون - 47. وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون - 48. قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون - 49. ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون - 50. فانظر كيف كان عاقبه مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين - 51. فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون - 52. وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون - 53. (بيان) اجمال من قصة صالح النبي عليه السلام وقومه، وجانب الانذار في الآيات يغلب على جانب التبشير كما تقدمت الاشارة إليه. قوله تعالى: " ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا - إلى قوله - يختصمون " الاختصام والتخاصم التنازع وتوصيف التثنية بالجمع أعني قوله: " فريقان " بقوله: " يختصمون " لكون المراد بالفريقين مجموع الامة و " إذا " فجائية. والمعنى: وأقسم لقد أرسلنا إلى قوم ثمود أخاهم ونسيبهم صالحا وكان المرجوان يجتمعوا على الايمان لكن فأجاهم أن تفرقوا فريقين مؤمن وكافر يختصمون ويتنازعون في الحق كل يقول: الحق معي، ولعل المراد باختصامهم ما حكاه الله عنهم في موضع آخر بقوله: " قال الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون

[ 373 ]

ان صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون " الاعراف: 76. ومن هنا يظهر ان أحد الفريقين جمع من المستضعفين آمنوا به والآخر المستكبرون وباقي المستضعفين ممن اتبعوا كبارهم. قوله تعالى: " قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة " الخ الاستعجال بالسيئة قبل الحسنة المبادرة إلى سؤال العذاب قبل الرحمة التي سببها الايمان والاستغفار. وبه يظهر أن صالحا عليه السلام إنما وبخهم بقوله هذا بعد ما عقروا الناقة وقالوا له: يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فيكون قوله: " لو لا تستغفرون الله لعلكم ترحمون " تحضيضا إلى الايمان والتوبة لعل الله يرحمهم فيرفع عنهم ما وعدهم من العذاب وعدا غير مكذوب. قوله تعالى: " قالوا أطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله " الخ التطير هو التشأم، وكانوا يتشأمون كثيرا بالطير ولذا سموا التشأم تطيرا ونصيب الانسان من الشر طائرا كما قيل. فقولهم خطابا لصالح: " أطيرنا بك وبمن معك " أي تشأمنا بك وبمن معك ممن آمن بك ولزمك لما ان قيامك بالدعوة وإيمانهم بك قارن ما ابتلينا به من المحن والبلايا فلسنا نؤمن بك. وقوله خطابا للقوم: " طائركم عند الله " أي نصيبكم من الشر وهو الذي تستوجبه أعمالكم من العذاب عند الله سبحانه. ولذا أضرب عن قوله: " طائركم عند الله " بقوله: " بل أنتم قوم تفتنون " أي تختبرون بالخير والشر ليمتاز مؤمنكم من كافركم ومطيعكم من عاصيكم. ومعنى الآية: قال القوم: تطيرنا بك يا صالح وبمن معك فلن نؤمن ولن نستغفر قال صالح: طائركم الذي فيه نصيبكم من الشر عند الله وهو كتاب أعمالكم ولست أنا ومن معي ذوي أثر فيكم حتى نسوق اليكم هذه الابتلاءات بل أنتم قوم تختبرون وتمتحنون بهذه الامور ليمتاز مؤمنكم من كافركم ومطيعكم من عاصيكم. وربما قيل: إن الطائر هو السبب الذي منه يصيب الانسان ما يصيبه من الخير

[ 374 ]

والشر، فإنهم كما كانوا يتشأمون بالطير كانوا أيضا يتيمنون به والطائر عندهم الامر الذي يستقبل الانسان بالخير والشر كما في قوله تعالى: " وكل إنسان الزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا " أسرى: 13، وإذ كان ما يستقبل الانسان من خير أو شر هو بقضاء من الله سبحانه مكتوب في كتاب فالطائر هو الكتاب المحفوظ فيه ما قدر للانسان. وفيه ان ظاهر ذيل آية الاسراء أن المراد بالطائر هو كتاب الاعمال دون كتاب القضاء كما يدل عليه قوله: " اقرء كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ". وقيل: معنى " بل أنتم قوم تفتنون " اي تعذبون، وما ذكرناه أولا أنسب. قوله تعالى: " وكان في المدينة تسعة رهط " الخ قال الراغب: الرهط العصابة دون العشرة وقيل إلى الاربعين انتهى، وقيل: الفرق بين الرهط والنفر ان الرهط من الثلاثة أو السبعة إلى العشرة والنفر من الثلاثة إلى التسعة انتهى. قيل: المراد بالرهط الاشخاص ولذا وقع تمييزا للتسعة لكونه في معنى الجمع فقد كان المتقاسمون تسعة رجال. قوله تعالى: " قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون " التقاسم المشاركة في القسم، والتبييت القصد بالسوء ليلا، وأهل الرجل من يجمعه وإياهم بيت أو نسب أو دين، ولعل المراد بأهله زوجه وولده بقرينة قوله بعد: " ثم لنقولن لوليه ما شهدنا "، وقوله: " وإنا لصادقون " معطوف على قوله: " ما شهدنا " فيكون من مقول القول. والمعنى: قال الرهط المفسدون وقد تقاسموا بالله: لنقتلنه وأهله بالليل ثم نقول لوليه إذا عقبنا وطلب الثار: ما شهدنا هلاك أهله وإنا لصادقون في هذا القول، ونفي مشاهدة مهلك أهله نفي لمشاهدة مهلك نفسه بالملازمة أو الاولوية، على ما قيل. وربما قيل: إن قوله: " وإنا لصادقون " حال من فاعل نقول اي نقول لوليه كذا والحال أنا صادقون في هذا القول لانا شهدنا مهلكه وأهله جميعا لا مهلك أهله فقط. ولا يخفي ما فيه من التكلف وقد وجه بوجوه أخر أشد تكلفا منه ولا ملزم لاصل الحالية.

[ 375 ]

قوله تعالى: " ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون " أما مكرهم فهو التواطي على تبييته وأهله والتقاسم بشهادة السياق السابق وأما مكره تعالى فهو تقديره هلاكهم جميعا بشهادة السياق اللاحق. قوله تعالى: " فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم اجمعين " التدمير الاهلاك، وضمائر الجمع للرهط، وكون عاقبة مكرهم هو إهلاكهم وقومهم من جهة أن مكرهم استدعى المكر الالهي على سبيل المجازاة، واستوجب ذلك إهلاكهم وقومهم. قوله تعالى: " فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا " الخ، الخاوية الخالية من الخواء بعمنى الخلاء، والباقي ظاهر. قوله تعالى: " وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون " فيه تبشير للمؤمنين بالانجاء، وقد أردفه بقوله: " وكانوا يتقون " إذ التقوى كالمجن للايمان وقد قال تعالى: " والعاقبة للمتقين " الاعراف: 128، وقال: " والعاقبة للتقوى " طه: 133. * * * ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون - 54. أئنكم لتأتون الشهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون - 55. فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون - 56. فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين - 57. وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين - 58.

[ 376 ]

(بيان) إجمال قصة لوط عليه السلام وهي كسابقتها في غلبة جانب الانذار على جانب التبشير. قوله تعالى: " ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون " معطوف على موضع " أرسلنا " في القصة السابقة بفعل مضمر والتقدير ولقد أرسلنا لوطا. كذا قيل، ويمكن أن يكون معطوفا على أصل القصة بتقدير اذكر والفاحشة هي الخصلة البالغة في الشناعة والمراد بها اللواط. وقوله: " وأنتم تبصرون " اي وأنتم في حال يرى بعضكم بعضا وينظر بعضكم إلى بعض حين الفحشاء فهو على حد قوله في موضع آخر: " وتأتون في ناديكم المنكر العنكبوت: 29، وقيل: المراد أبصار القلب ومحصله العلم بالشناعة وهو بعيد. قوله تعالى: " أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون " الاستفهام للانكار، ودخول أداتي التأكيد - إن واللام - على الجملة الاستفهامية للدلالة على أن مضمون الجملة من الاستبعاد بحيث لا يصدقه أحد والجملة على أي حال في محل التفسير للفحشاء. وقوله: " بل أنتم قوم تجهلون " أي مستمرون على الجهل لا فائدة في توبيخكم والانكار عليكم فلستم بمرتدعين، ووضع " تجهلون " بصيغة الخطاب موضع " يجهلون " من وضع المسبب موضع السبب كأنه قيل: " بل أنتم قوم يجهلون فأنتم تجهلون ". قوله تعالى: " فما كان جواب قومه إلا ان قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون " أي يتنزهون عن هذا العمل وهو وارد مورد الاستهزاء. قوله تعالى: " فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين " المراد بأهله أهل بيته لقوله تعالى: " فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين " الذاريات: 36، وقوله: " قدرناها من الغابرين " أي جعلناها من الباقين في العذاب. قوله تعالى: " وامطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين " المراد بالمطر الحجارة من سجيل لقوله تعالى: " وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل " الحجر: 74، فقوله: " مطرا " يدل بتنكيره على النوعية أي أنزلنا عليهم مطرا له نبأ عظيم.

[ 377 ]

قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفئ آلله خير أما يشركون - 59. أمن خلق السموات والارض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون - 60. أمن جعل الارض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون - 61. أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الارض أإله مع الله قليلا ما تذكرون - 62. أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون - 63. أمن يبدؤا الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والارض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين - 64. قل لا يعلم من في السموات والارض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون - 65. بل أدارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون - 66. وقال الذين كفرواءإذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون - 67. لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الاولين - 68. قل سيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة

[ 378 ]

المجرمين - 69. ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون - 70. ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين - 71. قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون - 72. وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون - 73. وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون - 74. وما من غائبة في السماء والارض إلا في كتاب مبين - 75. إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون - 76. وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين - 77. إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم - 78. فتوكل على الله إنك على الحق المبين - 79. إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين - 80. وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون - 81. (بيان) انتقال من القصص التي قصتها سبحانه وهي نماذج من سنته الجارية في النوع الانساني من حيث هدايته وإراءته لهم طريق سعادتهم في الحياة وإكرامه من اهتدى منهم إلى الصراط المستقيم بالاصطفاء وعظيم الآلاء وأخذه من أشرك به وأعرض عن ذكره ومكر به بعذاب الاستئصال وأليم النكال. إلى حمده والسلام على عباده المصطفين وتقرير انه هو المستحق للعبودية دون غيره مما يشركون ثم سرد الحديث في التوحيد وإثبات المعاد وما يناسب ذلك من

[ 379 ]

متفرقات المعارف الحقة فسياق آيات السورة شبيه بما في سورة مريم من السياق على ما مر. قوله تعالى: " قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أم ما يشركون " لما قص من قصص الانبياء وأممهم ما قص وفيها بيان سنته الجارية في الامم الماضين وما فعل بالمؤمنين منهم من الاصطفاء ومزيد الاحسان كما في الانبياء منهم وما فعل بالكافرين من العذاب والتدمير - ولم يفعل إلا الخير الجميل ولا جرت سنته إلا على الحكمة البالغة - انتقل منها إلى أمر نبيه بأن يحمده ويثني عليه وأن يسلم على المصطفين من عباده وقررانه تعالى هو المتعين للعبادة. فهو انتقال من القصص إلى التحميد والتسليم والتوحيد وليس باستنتاج وإن كان في حكمه وإلا قيل: فقل الحمد لله " الخ " أو فالله خير " الخ ". فقوله: " قل الحمد لله " أمر بتحميده وفيه إرجاع كل حمد إليه تعالى لما تقرر بالآيات السابقة ان مرجع كل خلق وتدبير إليه وهو المفيض كل خير بحكمته والفاعل لكل جميل بقدرته. وقوله: " وسلام على عباده الذين اصطفى " معطوف على ما قبله من مقول القول وفي التسليم لاولئك العباد المصطفين نفي كل ما في نفس المسلم من جهات التمانع والتضاد لما عندهم من الهداية الالهية وآثارها الجميلة - على ما يقتضيه معنى السلام - ففي الامر بالسلام أمر ضمني بالتهيؤ لقبول ما عندهم من الهدى وآثاره فهو بوجه في معنى قوله تعالى: " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " الانعام: 90، فافهمه. وقوله: " ءآلله خير أما يشركون " من تمام الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والاستفهام للتقرير ومحصل المراد انه إذا كان الثناء كله لله وهو المصطفى لعباده المصطفين فهو خير من آلهتهم الذين يعبدونهم ولا خلق ولا تدبير لهم يحمدون عليه ولا خير بأيديهم يفيضونه على عبادهم. قوله تعالى: " أمن خلق السماوات والارض وأنزل لكم من السماء ماء " إلى آخر الآية الحدائق جمع حديقة وهي البستان المحدود المحوط بالحيطان وذات بهجة صفة حدائق، قال في مجمع البيان: ذات بهجة أي ذات منظر حسن يبتهج به من رآه ولم يقل: ذوات بهجة لانه أراد تأنيث الجماعة ولو أراد تأنيث الاعيان لقال:

[ 380 ]

ذوات. انتهى. وأم في الآية منقطعة تفيد معنى الاضراب، " من " مبتدأ خبره محذوف وكذا الشق الآخر من الترديد والاستفهام للتقرير وحملهم على الاقرار بالحق والتقدير على ما يدل عليه السياق بل أمن خلق السماوات والارض " الخ " خير أم ما يشركون. والامر على هذا القياس في الآيات الاربع التالية. ومعنى الآية: بل أمن خلق السماوات والارض وأنزل لكم اي لنفعكم من السماء وهي جهة العلو ماء وهو المطر فأنبتنا به اي بذلك الماء بساتين ذات بهجة ونضارة ما كان لكم اي لا تملكون وليس في قدرتكم ان تنبتوا شجرها أإله آخر مع الله سبحانه - وهو إنكار وتوبيخ. وفي الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب بالنسبة إلى المشركين والنكتة فيه تشديد التوبيخ بتبديل الغيبة حضورا فإن مقام الآيات السابقة على هذه الآية مقام التكلم ممن يخاطب أحد خواصه بحضرة من عبيده المتمردين المعرضين عن عبوديته يبث إليه الشكوى وهو يسمعهم حتى إذا تمت الحجة وقامت البينة كما في قوله: " ءآلله خير أما يشركون " هاج به الوجد والاسف فتوجه إليهم بعد الاعراض فأخذ في حملهم على الاقرار بالحق بذكر آية بعد آية وإنكار شركهم وتوبيخهم عليه بعدولهم عنه إلى غيره وعدم علم أكثرهم وقلة تذكرهم مع تعاليه عن شركهم وعدم برهان منهم على ما يدعون. وقوله: " بل هم قوم يعدلون " اي عن الحق إلى الباطل وعن الله سبحانه إلى غيره وقيل: اي يعدلون بالله غيره ويساوون بينهما. وفي الجملة التفات من الخطاب إلى الغيبة بالنسبة إلى المشركين ورجوع إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاضراب فيه لبيان ان لا جدوى للسير في حملهم على الحق فإنهم عادلون عنه. قوله تعالى: " أمن جعل الارض قرارا " إلى آخر الآية، القرار مصدر بمعنى اسم الفاعل أي القار المستقر، والخلال جمع خلل بفتحتين وهو الفرجة بين الشيئين، والرواسي جمع راسية وهي الثابتة والمراد بها الجبال الثابتات، والحاجز هو المانع

[ 381 ]

المتخلل بين الشيئين. والمعنى: بل أمن جعل الارض مستقرة لا تيمد بكم وجعل في فرجها التي في جوفها أنهارا وجعل لها جبالا ثابتة وجعل بين البحرين مانعا من اختلاطهما وامتزاجهما هو خير أم ما يشركون ؟ والكلام في قوله: " أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون " كالكلام في نظيره من الآية السابقة. قوله تعالى: " أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الارض أإله مع الله قليلا ما تذكرون " المراد بإجابة المضطر إذا دعاه استجابة دعاء الداعين وقضاء حوائجهم وإنما أخذ وصف الاضطرار ليتحقق بذلك من الداعي حقيقة الدعاء والمسألة إذ ما لم يقع الانسان في مضيقة الاضطرار وكان في مندوحة من المطلوب لم يتمحض منه الطلب وهو ظاهر. ثم قيده بقوله: " إذا دعاه " للدلالة على أن المدعو يجب أن يكون هو الله سبحانه وإنما يكون ذلك عند ما ينقطع الداعي عن عامة الاسباب الظاهرية ويتعلق قلبه بربه وحده وأما من تعلق قلبه بالاسباب الظاهرية فقط أو بالمجموع من ربه ومنها فليس يدعو ربه وإنما يدعو غيره. فإذا صدق في الدعاء وكان مدعوه ربه وحده فإنه تعالى يجيبه ويكشف السوء الذي اضطره إلى المسألة كما قال تعالى: " ادعوني أستجب لكم " المؤمن: 60، فلم يشترط للاستجابة إلا أن يكون هناك دعاء حقيقة وأن يكون ذلك الدعاء متعلقا به وحده، وقال أيضا: " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان " البقره: 186، وقد فصلنا القول في معنى الدعاء في الجزء الثاني من الكتاب في ذيل الآية. وبما مر من البيان يظهر فساد قول بعضهم: إن اللام في " المضطر " للجنس دون الاستغراق فكم من مضطر يدعو فلا يجاب فالمراد إجابة دعاء المضطر في الجملة لا بالجملة. وجه الفساد أن مثل قوله: " ادعوني أستجب لكم " وقوله: " فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان " يأبي تخلف الدعاء عن الاستجابة، وقوله: كم من مضطر يدعو

[ 382 ]

فلا يجاب، غير مسلم إذا كان دعاء حقيقة لله سبحانه وحده كما تقدم بيانه. على أن هناك آيات كثيرة تدل على أن الانسان يتوجه عند الاضطرار كركوب السفينة نحو ربه فيدعوه بالاخلاص فيستجاب له كقوله تعالى: " وإذا مس الانسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما " الآية، يونس: 12، وقوله: " حتى إذا كنتم في الفلك - إلى قوله - وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين " يونس: 22، وكيف يتصور تعلق النفس بتوجهها الغريزي الفطري بأمر لا اطمئنان لها به فما قضاء الفطرة في ذلك إلا كقضائها عند إدراك حاجتها الوجودية إلى من يوجدها ويدبر أمرها أن هناك أمرا يرفع حاجتها وهو الله سبحانه. فإن قلت: نحن كثيرا ما نتوسل في حوائجنا من الاسباب الظاهرية بما لا نقطع بفعلية تأثيره في رفع حاجتنا وإنما نتعلق به رجاء أن ينفعنا إن نفع. قلت: هذا توسل فكري مبدؤه الطمع والرجاء وهو غير التوسل الغريزي الفطري نعم في ضمنه نوع من التوجه الغريزي الفطري وهو التسبب بمطلق السبب ومطلق السبب لا يتخلف، فافهم. وظهر أيضا فساد قول من قال: المراد بالمضطر إذا دعاه المذنب إذا استغفره فإن الله يغفر له وهو إجابته. وفيه أن إشكال الاستغراق بحاله فما كل استغفار يستتبع المغفرة ولا كل مستغفر يغفر له. على أنه لا دليل على تقييد إطلاق المضطر بالمذنب العاصي. وذكر بعضهم: ان الاستغراق بحاله لكن ينبغي تقييد الاجابة بالمشية كما وقع ذلك في قوله تعالى: " فيكشف ما تدعون إليه إن شاء " الانعام: 41. وفيه أن الآية واقعة في سياق لا تصلح معه لتقييد الاجابة في آية المضطر وهو قوله تعالى: " قل أرأيتم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء " فالساعة من القضاء المحتوم لا يتعلق بكشفها طلب حقيقي، وأما العذاب الالهي فإن طلب كشفه بتوبة وإيمان حقيقي فإن الله يكشفه كما كشف عن قوم يونس وإن لم يكن كذلك بل احتيالا للنجاة منه فلا لعدم كونه طلبا حقيقيا بل مكرا في صورة الطلب كما حكاه الله عن فرعون لما

[ 383 ]

أدركه الغرق " قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين " يونس: 91، وحكى عن أقوام آخرين أخذهم بالعذاب: " قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين " الانبياء: 15. وبالجملة فمورد قوله: " فيكشف ما تدعون إليه إن شاء " لما كان مما يمكن ان يكون الطلب فيه حقيقيا أو غير حقيقي كان من اللازم تقييد الكشف والاجابة فيه بالمشية فيكشف الله عنهم إن شاء وذلك في مورد حقيقة الطلب والايمان ولا يكشف إن لم يشأ وهذا غير مورد آية المضطر وسائر آيات إجابة الدعوة الذي يتضمن حقيقة الدعاء من الله سبحانه وحده. وقوله: " ويجعلكم خلفاء الارض " الذي يعطيه السياق أن يكون المراد بالخلافة الخلافة الارضية التي جعلها الله للانسان يتصرف بها في الارض وما فيها من الخليقة كيف يشاء كما قال تعالى: " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة " البقرة: 30. وذلك أن تصرفاته التي تصرف بها في الارض وما فيها بخلافته امور مرتبطة بحياته متعلقة بمعاشه فالسوء الذي يوقعه موقع الاضطرار ويسأل الله كشفه لا محالة شئ من الاشياء التي تمنعه التصرف أو بعض التصرف فيها وتغلق عليه باب الحياة والبقاء وما يتعلق بذلك أو بعض أبو ابها ففي كشف السوء عنه تتميم لخلافته. ويتضح هذا المعنى مزيد اتضاح لو حمل الدعاء والمسألة في قوله: " إذا دعاه " على الاعم من الدعاء اللساني كما هو الظاهر من قوله تعالى: " وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " إبراهيم: 34، وقوله: " يسأله من في السماوات والارض " الرحمن: 29، إذ يكون على هذا جميع ما أوتي الانسان ورزقه من التصرفات من مصاديق كشف السوء عن المضطر المحتاج إثر دعائه فجعله خليفة يتبع إجابة دعائه وكشف السوء الذي اضطره عنه. وقيل: المعنى ويجعلكم خلفاء من قبلكم من الامم في الارض تسكنون مساكنهم وتتصرفون فيها بعدهم هذا. وما قدمناه من المعنى أنسب منه للسياق.

[ 384 ]

وقيل: المعنى: ويجعلكم خلفاء من الكفار بنزول بلادهم وطاعة الله تعالى بعد شركهم وعنادهم. وفيه أن الخطاب في الآية كسائر الآيات الخمس التي قبلها للكفار لا للمؤمنين كما عليه بناء الوجه. وقوله: " قليلا ما تذكرون " خطاب توبيخي للكفار، وقرئ " يذكرون " بالياء للغيبة وهو أرجح لموافقته ما في ذيل سائر الآيات الخمس كقوله: " بل هم قوم يعدلون " " بل أكثرهم لا يعلمون " وغيرهما، فإن الخطاب فيها جميعا للنبي ص بطريق الالتفات كما مر بيانه. قوله تعالى: " أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته " الخ، والمراد بظلمات البر والبحر ظلمات الليالي في البر والبحر ففيه مجاز عقلي، والمراد بإرسال الرياح بشرا إرسالها مبشرات بالمطر قبيل نزوله، والرحمة المطر، والباقي ظاهر. قوله تعالى: " أمن يبدء الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والارض " الخ، بدء الخلق إيجاده ابتداء لاول مرة وإعادته إرجاعه إليه بالبعث وتبكيت المشركين بالبدء والاعادة مع إنكارهم البعث كما سيذكره بقوله: " وقال الذين كفروا " الخ، بناء على ثبوت المعاد بالادلة القاطعة في كلامه فأخذ كالمسلم ثم استدرك إنكارهم له أو شكهم فيه في الآيات التالية. وقيل: المراد ببدء الخلق ثم إعادته إيجاد الواحد من نوعه ثم إهلاكه وإيجاد نظيره بعده وبالجملة إيجاد المثل بعد المثل فلا يرد ان المشركين منكرون للمعاد فكيف يحتج به عليهم. هذا وهو بعيد من ظاهر الآية. وما يتضمنه الآية من لطائف الحائق القرآنية يفيد ان لا بطلان في الوجود مطلقا بل ما أوجده الله تعالى بالبدء سيرجع إليه بالاعادة وما نشاهده من الهلاك فيها فقدان منا له بعد وجدانه. وأما ما أجمع عليه المتكلمون من امتناع إعادة المعدوم في بعض الموجودات كالاعراض واختلفوا في جواز إعادة بعض آخر كالجواهر، لا ارتباط له بمسألة البعث على ما تقرره لآية، فإن البعث ليس من باب إعادة المعدوم حتى يمتنع بامتناع إعادته

[ 385 ]

لو امتنعت بل البعث عود الخلق ورجوعه وهو خلق من غير بطلان إلى ربه المبدئ له. وقوله: " ومن يرزقكم من السماء والارض " إشارة إلى ما وقع من تدبيره لامرهم بين البدء والعود وهو رزقهم بأسباب سماوية كالامطار وأسبابها والارضية كعامة ما يتغذى به الانسان من الارضيات. وقوله: " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " لما ذكر سبحانه فصولا مشتملة على عامة الخلق والتدبير مع الاشارة إلى ارتباط التدبير بعضه ببعض وارتباط الجميع إلى الخلق وعاد الخلق والتدبير بذلك أمرا واحدا منتسبا إليه قائما به تعالى وثبت بذلك انه تعالى هو رب كل شئ وحده لا شريك له وكان لازم ذلك إبطال الوهية الآلهة التي يدعونها من دون الله -. - وذلك ان الالوهيه وهي استحقاق العبادة تتبع الربوبية التي هي تدبير عن ملك فالعبادة على ما يتداولونها إما لتكون شكرا للنعمة أو اتقاء للنقمة وعلى أي حال ترتبط بالتدبير الذي هو من شؤون الربوبية -. - وكان إبطال الوهية الآلهة من دون الله هو الغرض من الفصول الموردة في هذه الآيات كما يدل على ذلك قوله بعد إيراد كل واحد من الفصول: " أإله مع الله ". أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: " قل هاتوا برهانكم " أن يطالبهم بالبرهان على ما يدعونه من ألوهية آلهتهم ليظهر بانقطاعهم أنهم مجازفون في دعواهم إذ لو استدلوا على ألوهيتها بشئ كان من الواجب أن ينسبوا إليها شيئا من تدبير العالم والحال أن جميع الخلق والتدبيرله تعالى وحده. قوله تعالى: " قل لا يعلم من في السماوات والارض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون " لما أمره صلى الله عليه وآله وسلم بعد إبطال ألوهية آلهتهم بانتساب الخلق والتدبير إليه تعالى وحده أن يطالبهم بالبرهان على ما يدعونه أمره ثانيا أن يواجههم ببرهان آخر على بطلان ألوهية آلهتهم وهو عدم علمهم بالغيب وعدم شعورهم بالساعة وأنهم أيان يبعثون مع أنه لا يعلم أحد ممن في السماوات والارض - ومنهم آلهتهم الذين هم الملائكة

[ 386 ]

والجن وقديسوا البشر - الغيب وما يشعرون أيان يبعثون، ولو كانوا آلهة لهم تدبير أمر الخلق - ومن التدبير الجزاء يوم البعث - لعلموا بالساعة. وقد ظهر بهذا البيان أن قوله: " لا يعلم من في السماوات والارض الغيب إلا الله " برهان مستقل على بطلان ألوهية آلهتهم واختصاص الالوهية به تعالى وحده وأن قوله: " وما يشعرون أيان يبعثون " من عطف أوضح أفراد الغيب عليه وأهمها علما بالنسبة إلى أمر التدبير. وظهر أيضا ان ضميري الجمع في " وما يشعرون أيان يبعثون " لمن في السماوات لعدم تمام البيان بدونه. فقول بعضهم: إن الضمير للمشركين وان كان عدم الشعور بما ذكر عاما لئلا يلزم التفكيك بينه وبين الضمائر الآتية الراجعة إليهم قطعا. فيه أنه ينافي ما سيقت له الآية الكريمة من البيان كما قدمنا الاشارة إليه والتفكيك بين الضمائر مع وجود القرينة لا بأس به. قوله تعالى: " بل أدارك علمهم في الاخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون " ادارك في الاصل تدارك والتدارك تتابع أجزاء الشئ بعضها بعد بعض حتى تنقطع ولا يبقى منها شئ، ومعنى تدارك علمهم في الآخرة أنهم صرفوا ما عندهم من العلم في غيرها حتى نفد علمهم فلم يبق منه شئ يدركون به أمر الآخرة على حد قوله تعالى: " فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم " النجم: 30 و " عمون " جمع عمي. لما انتهى احتجاجه تعالى إلى ذكر عدم شعور أحد غيره تعالى بوقت البعث وتبكيت المشركين بذلك رجع إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وذكره انهم في معزل عن الخطاب بذلك إذ لا خبر لهم عن شئ عن امور الآخرة فضلا عن وقت قيام الساعة وذلك أنهم صرفوا ما عندهم من العلم في جهات الحياة الدنيا فهم في جهل مطلق بالنسبة إلى امور الآخرة بل هم في شك من الآخرة يرتابون في أمرها كما يظهر من احتجاجاتهم على نفيها المبنية على الاستبعاد بل هم منها عمون والله أعمى قلوبهم عن التصديق بها والاعتقاد بوجودها.

[ 387 ]

وقد ظهر بهذا البيان أن تكرر كلمة الاضراب لبيان مراتب الحرمان من العلم بالآخرة وأنهم في أعلاها، فقوله: " بل ادارك علمهم في الآخرة " أي لا علم لهم بها كأنها لم تقرع سمعهم، وقوله: " بل هم في شك منها " أي انه قرع سمعهم خبرها وورد قلوبهم لكنهم ارتابوا ولم يصدقوا بها، وقوله: " بل هم منها عمون " أي إنهم لم ينقطعوا عن الاعتقاد بها من عند أنفسهم وباختيار منهم بل الله سبحانه أعمى أبصار قلوبهم فصاروا عمين فهيهات أن يدركوا من أمرها شيئا. وقيل: المراد بتدارك علمهم تكامله وبلوغه حد اليقين لتكامل الحجج الدالة على حقية البعث والجملة مسوقة للتهكم، وفيه أنه لا يلائم ما يتبعه من الاضراب بالشك والعمى. قوله تعالى: " وقال الذين كفروا ءإذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون - إلى قوله - الاولين " حكاية حجة منهم لنفي البعث مبنية على الاستبعاد أي كيف يمكن أن نخرج من الارض بشرا تأمين كما نحن اليوم وقد متنا وكنا ترابا نحن وآباؤنا كذلك ؟ وقوله: " لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل " حجة أخرى منهم مبنية على الاستبعاد أي لقد وعدنا هذا وهو البعث بعد الموت نحن وآباؤنا وعدوه قبل أن يعدنا هذا النبي والذين وعدوا قبلا هم الانبياء الماضون فهو وعد قديم لم نزل نوعد به ولو كان خبرا صادقا ووعدا حقا لوقع إلى هذا اليوم وإذ لم يقع فهو من الخرافات التي اختلقها الاولون وكانوا مولعين باختلاق الاوهام والخرافات والاصغاء إليها. قوله تعالى: " قل سيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين " إنذار وتخويف لهم على إنكار هم وعد الانبياء بالبعث بأمرهم أن يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة المجرمين المكذبين للانبياء المنذرين لهم بالبعث فإن في النظر إلى عاقبة أمرهم على ما تدل عليه مساكنهم الخربة وديارهم الخالية كفاية للمعتبرين من أولي الابصار، وفي التعبير عن المكذبين بالمجرمين لطف بالمؤمنين في ترك الجرائم. كذا قيل. ويمكن أن تقرر الآية حجة تدل على المعاد وتقريبها أن انتهاء عاقبة أمر المجرمين

[ 388 ]

إلى عذاب الاستئصال دليل على أن الاجرام والظلم من شأنه أن يؤاخذ عليه وأن العمل إحسانا كان أو إجراما محفوظ على عامله سيحاسب عليه وإذ لم تقع عامة هذا الحساب والجزاء - وخاصة على الاعمال الصالحة - في الدنيا فذلك لا محالة في نشأة اخرى وهي الدار الآخرة. فتكون الآية في معنى قوله تعالى: " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار " ص: 28، ويؤيد هذا التقرير قوله: " عاقبة المجرمين " ولو كان المراد تهديد مكذبي الرسل وتخويفهم كان الانسب أن يقال: عاقبة المكذبين، كما تقدمت الاشارة إليه. قوله تعالى: " ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون " أي لا يحزنك إصرارهم على الكفر والجحود ولا يضق صدرك من مكرهم لابطال دعوتك وصدهم الناس عن سبيل الله فإنهم بعين الله وليسوا بمعجزيه ويجزيهم بأعمالهم. فالآية مسوقة لتطييب نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقوله: " ولا تكن في ضيق " الخ، معطوف على ما قبله عطف التفسير. قوله تعالى: " ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين " الظاهر أن المراد بالوعد الوعد بعذاب المجازاة أعم من الدنيا والآخرة، والسياق يؤيد ذلك والباقي ظاهر. قوله تعالى: " قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون " قالوا: إن اللام في " ردف لكم " مزيدة للتأكيد، كالباء في قوله: " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكه " البقرة: 198، والمعنى تبعكم ولحق بكم، وقيل: إن ردف مضمن معنى فعل يعدى باللام. والمراد ببعض الذي يستعجلونه هو عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة فإنهم كانوا يستعجلون إنجاز ما وعدهم الله من الحكم الفصل، وهو ملازم لعذابهم، وعذابهم في الدنيا بعض العذاب الذي يستعجلونه باستنجاز الوعد، ولعل مراد الآية به عذاب يوم بدر كما قيل. قالوا: إن " عسى ولعل " من الله تعالى واجب لان حقيقة الترجي مبنية على

[ 389 ]

الجهل ولا يجوز عليه تعالى ذلك فمعنى قوله: " عسى أن يكون ردف لكم " سيردفكم ويأتيكم العذاب محققا. وفيه أن معنى الترجي والتمني ونحوهما كما جاز أن يقوم بنفس المتكلم يجوز أن يقوم بالمقام أو بالسامع أو غيرهما وهو في كلامه تعالى قائم بغير المتكلم من المقام وغيره وما في الآية من الجواب لما أرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان الرجاء المدلول عليه بكلمة عسى قائما بنفسه الشريفة والمعنى: قل أرجو ان يكون ردف لكم العذاب. وفي تفسير أبي السعود: وعسى ولعل وسوف في مواعيد الملوك بمنزلة الجزم بها، وإنما يطلقونها إظهارا للوقار، وإشعارا بأن الرمز من امثالهم كالتصريح ممن عداهم وعلى ذلك مجرى وعد الله تعالى ووعيده انتهى وهو وجه وجيه. ومعنى الآية: قل لهؤلاء السائلين عن وقت الوعد: أرجو أن يكون تبعكم بعض الوعد الذي تستعجلونه وهو عذاب الدنيا الذي يقربكم من عذاب الآخرة ويؤديكم إليه، وفي التعبير بقوله: " ردف لكم " إيماء إلى قربه. قوله تعالى: " وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون " معنى الآية في نفسها ظاهر ووقوعها في سياق التهديد والتخويف يفيد ان تأخيره تعالى العذاب عنهم مع استحقاقهم ذلك إنما هو فضل منه عليهم يجب عليهم شكره عليه لكنهم لا يشكرونه ويسألون تعجيله. قوله تعالى: " وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون " أي إن تأخير العذاب ليس عن جهل منه تعالى بحالهم وما يستحقونه بالكفر والجحود فإنه يعلم ما تستره وتخفيه صدورهم وما يظهرونه. ثم أكد ذلك بأن كل غائبة - وهي ما من شأنه ان يغيب ويخفي في أي جهة من جهات العالم كان - مكتوب محفوظ عنده تعالى وهو قوله: " وما من غائبة في السماء والارض إلا في كتاب مبين ". قوله تعالى: " إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل - إلى قوله - العزيز العليم " تطييب لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتمهيد لما سيذكره من حقية دعوته وتقوية لايمان المؤمنين به، و بهذا الوجه يتصل بقوله قبلا: " ولا تحزن عليهم " الخ المشعر بحقية دعوته.

[ 390 ]

فقوله: " إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون " يشير إلى ما يقصه القرآن من قصص الانبياء ويبين الحق فيما اختلفوا فيه من أمرهم ومنه أمر المسيح ع ويبين الحق فيما اختلفوا فيه من المعارف والاحكام. وقوله: " وإنه لهد ورحمة للمؤمنين " يشير إلى أنه يهدي المؤمنين بما قصه على بني إسرائيل إلى الحق وأنه رحمة لهم تطمئن به قلوبهم ويثبت الايمان بذلك في نفوسهم. وقوله: " إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم " إشارة إلى أن القضاء بينهم إلى الله فهور به العزيز الذي لا يغلب في أمره العليم لا يجهل ولا يخطئ في حكمه فهو القاضي بينهم بحكمه فلترض نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بربه العزيز العليم قاضيا حكما ولترجع الامر إليه كما ينبغي أن تفعل مثل ذلك في حق المشركين ولا تحزن عليهم ولا تكون في ضيق مما يمكرون. قوله تعالى: " فتوكل على الله إنك على الحق المبين " تفريع على مجموع ما أمر به قبال كفر المشركين واختلاف بني إسرائيل أي إن أمرهم جميعا إلى الله لا اليك فاتخذه وكيلا فهو كافيك ولا تخافن شيئا إنك في أمن من الحق. قوله تعالى: " إنك لا تسمع الموتى - إلى قوله - فهم مسلمون " تعليل للامر بالتوكل أي إنما أمرناك بالتوكل على الله في أمر إيمانهم وكفرهم لانهم موتى وليس في وسعك أن تسمع الموتى دعوتك وإنهم صم لا يسمعون وعمي ضالون لا تقدر على إسماع الصم إذا ولوا مدبرين - ولعله قيد عدم إسماع الصم بقوله: " إذا ولوا مدبرين " لانهم لو لم يكونوا مدبرين لامكن تفهيمهم بنوع من الاشارة - ولا على هداية العمي عن ضلالتهم، وإنما الذي تقدر عليه هو أن تسمع من يؤمن بآياتنا الدالة علينا وتهديهم فإنهم لاذعانهم بتلك الحجج الحقة مسلمون لنا مصدقون بما تدل عليه. وقد تبين بهذا البيان أولا: أن المراد بالاسماع الهداية. وثانيا: أن المراد بالآيات الحجج الدالة على التوحيد وما يتبعه من المعارف الحقة. وثالثا: أن من تعقل الحجج الحقة من آيات الآفاق والانفس بسلامة من العقل. ثم استسلم لها بالايمان والانقياد ليس هو من الموتى ولا ممن ختم الله على سمعه وبصره.

[ 391 ]

(بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " وسلام على عباده الذين اصطفى " قال: هم آل محمد ع. أقول: ورواه أيضا في جمع الجوامع عنهم مرسلا مضمرا، وقد عرفت فيما تقدم من البيان في ذيل الآية أن الذي يعطيه السياق أن المراد بهم بحسب مورد الآية الانبياء المنعمون بنعمة الاصطفاء وقد قص الله قصص جمع منهم فقوله عليه السلام - لو صحت الرواية - هم آل محمد عليهم السلام من قبيل الجري والانطباق. ونظيره اما رواه في الدر المنثور عن عدة من أصحاب الكتب عن ابن عباس في الآية قال: هم أصحاب محمد فهو - لو صحت الرواية - إجراء منه وتطبيق. ومنه يظهر ما فيما رواه أيضا عن عبد بن حميد وابن جرير عن سفيان الثوري في الآية قال: نزلت في أصحاب محمد خاصة، فلا نزول ولا اختصاص. وفي تفسير القمي أيضا في قوله تعالى: " بل هم قوم يعدلون " قال: عن الحق. وفيه في قوله تعالى: " أمن يجيب المضطر إذا دعاه " الآية، حدثني أبي عن الحسن بن علي بن فضال عن صالح بن عقبة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: نزلت في القائم من آل محمد عليهم السلام هو والله المضطر إذا صلى في المقام ركعتين ودعا إلى الله عز وجل فأجابه ويكشف السوء ويجعله خليفة في الارض. أقول: والرواية أيضا من الجري والآية عامة. وفي الدر المنثور أخرج الطبراني عن سعد بن جنادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من فارق الجماعة فهو في النار على وجهه لان الله تعالى يقول: " أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الارض " فالخلافة من الله عزوجل فإن كان خيرا فهو يذهب به وإن كان شرا فهو يؤخذ به، عليك أنت بالطاعة فيما أمر الله به. أقول: الرواية لا تخلو من شئ فقد تقدم أن المراد بالخلافة في الآية - على ما يشهد به السياق - الخلافة الارضية المقدرة لكل إنسان وهو السلطة على ما في الارض بأنواع التصرف دون الخلافة بمعنى الحكومة على الامة بإدارة رحي مجتمعهم.

[ 392 ]

ومع الغض عن ذلك فمتن الرواية لا يخلو عن تدافع فإن كان المراد بكون الخلافة من الله تعالى أن سلطانه على الناس بتقدير من الله وبعبارة أخرى انتسابها التكويني إلى الله سبحانه كما ورد في ملك نمرود من قوله تعالى: " أن آتاه الله الملك " البقرة: 258، وقوله حكاية عن فرعون: " أليس لي ملك مصر " الزخرف: 51، فمن البين أن الخلافة بهذا المعنى لا تستتبع وجوب الطاعة وحرمة المخالفة وإلا كان نقضا لاصل الدعوة الدينية وإيجابا لطاعة أمثال نمرود وفرعون وكم لها من نظير، وإن كان المراد به الجعل الوضعي الديني وبعبارة أخرى انتسابها التشريعي إلى الله تعالى ثم وجبت طاعته فيما يأمر به وإن كان معصية كان ذلك نقضا صريحا للاحكام، وإن كان الواجب طاعته في غير معصية الله لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " جازت مفارقة الجماعة في الجملة وهو يناقض صدر الرواية. ونظير الاشكال يجري في قوله ذيلا: " عليك أنت بالطاعة فيما أمر الله به " فلو كان المراد مما أمر الله به طاعته مقام الخلافة وإن كان في معصية كان نقضا صريحا لتشريع الاحكام وإن كان المراد به طاعة الله وإن استلزم معصية مقام الخلافة كان ناقضا لصدر الرواية. وقد اتضح اليوم بالابحاث الاجتماعية أن إمضاء حكومة من لا يحترم القوانين المقدسة الجارية لا يرضي به مجتمع عاقل رشيد فمن الواجب تنزيه ساحة مشرع الدين عن ذلك، والقول بأن مصلحة حفظ وحدة الكلمة وإتفاق الامة أهم من حفظ بعض الاحكام بالمفارقة معناه جواز هدم حقيقة الدين لحفظ اسمه. وفي الدر النثور أيضا أخرج الطيالسي وسعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الاسماء والصفات عن مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة فقالت عائشة: ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية. قلت: وما هن ؟ قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية قال: وكنت متكئا فجلست وقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجلي علي ألم يقل الله: " ولقد رآه في الافق المبين " " ولقد رآه نزلة أخرى " ؟

[ 393 ]

فقالت: أنا أول هذه الامة سأل هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: جبريل. لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الارض. قالت: ألم تسمع الله عزوجل يقول: " لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير " ؟ أولم تسمع الله يقول: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا - إلى قوله - علي حكيم ". ومن زعم أن محمدا كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية والله جل ذكره يقول: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ". قالت: ومن زعم أنه يخبر الناس بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية والله تعالى يقول: " قل لا يعلم من في السماوات والارض الغيب إلا الله ". أقول: وفي متن الرواية شئ أما آيات الرؤية فإنما تنفي رؤية الحس دون رؤية القلب وهي من الرؤية وراء الايمان الذي هو الاعتقاد وقد أشبعنا الكلام فيها في الموارد المناسبة له. وأما قوله تعالى: " يا أيها الرسول بلغ " الآية فقد أوضحنا في تفسير الآية أنها خاصة غير عامة ولو فرضت عامة فإنما تدل على أن كل ما أنزل إليه مما فيه رسالة وجب عليه تبليغه ومن الجائز أن ينزل إليه ما يختص علمه به صلى الله عليه وآله وسلم فيكتمه عن غيره. وأما قوله: " قل لا يعلم من في السماوات والارض الغيب إلا الله " فلا يدل إلا على اختصاص علم الغيب بالذات به تعالى كسائر آيات اختصاص الغيب به، ولا ينفي علم الغير به بتعليم منه تعالى كما يشير إليه قوله: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول " الجن: 27، وقد حكى الله سبحانه نحوا من هذا الاخبار عن المسيح عليه السلام إذ قال: " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون " آل عمران: 49، ومن المعلوم أن القائل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخبر الناس بما يكون في غد لا ينفي كون ذلك بتعليم من الله له. وقد تواترت الاخبار على تفرقها وتنوعها من طرق الفريقين على إخباره صلى الله عليه وآله وسلم بكثير من الحوادث المستقبلة.

[ 394 ]

* * * وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الارض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون - 82. ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون - 83. حتى إذا جاؤا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أما ذا كنتم تعملون - 84. ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون - 85. ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون - 86. ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الارض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين - 87. وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شئ إنه خبير بما تفعلون - 88. ومن جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون - 89. ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون - 90. إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شئ وأمرت أن أكون من المسلمين - 91. وأن أتلوا القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين - 92. وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون - 93.

[ 395 ]

(بيان) هي من تمام الفصل السابق من الآيات تشير إلى البعث وبعض ما يلحق به من الامور الواقعة فيه وبعض أشراطه وتختم السورة بما يرجع إلى مفتتحها من الانذار والتبشير. قوله تعالى: " وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الارض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون " مقتضى السياق - بما أن الآية متصلة بما قبلها من الآيات الباحثة عن أمر المشركين المعاصرين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو خصوص أهل مكة من قريش وقد كانوا أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته - أن ضمائر " عليهم " و " لهم " و " تكلمهم " للمشركين المحدث عنهم لكن لا لخصوصهم بل بما أنهم ناس معنيون بالدعوة فالمراد بالحقيقة عامة الناس من هذه الامة من حيث وحدتهم فيلحق بأولهم من الحكم ما يلحق بآخرهم وهذا النوع من العناية كثير الورود في كلامه تعالى. والمراد بوقوع القول عليهم تحقق مصداق القول فيهم وتعينهم لصدقه عليهم كما في الآية التالية: " ووقع القول عليهم بما ظلموا " أي حق عليهم العذاب، فالجملة في معنى " حق عليهم القول " وقد كثر وروده في كلامه تعالى، والفرق بين التعبيرين أن العناية في " وقع القول عليهم " بتعينهم مصداقا للقول وفي " حق عليهم القول " باستقرار القول وثبوته فيهم بحيث لا يزول. وأما ما هو هذا القول الواقع عليهم فالذي يصلح من كلامه تعالى لان يفسر به قوله: " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " حم السجدة: 53، فإن المراد بهذه الآيات التي سيريهم غير الآيات السماوية والارضية التي هي بمرآهم ومسمعهم دائما قطعا بل بعض آيات خارقة للعادة تخضع لها وتضطر للايمان بها أنفسهم في حين لا يوقنون بشئ من آيات السماء والارض التي هي تجاة أعينهم وتحت مشاهدتهم. وبهذا يظهر أن قوله: (أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون) تعليل لوقوع القول عليهم والتقدير لان الناس، وقوله: (كانوا) لافادة استقرار عدم الايقان فيهم والمراد بالآيات الآيات المشهودة من السماء والارض غير الآيات الخارقة وقرئ (إن) بكسر

[ 396 ]

الهمزة وهي أرجح من قراءة الفتح فيؤيد ما ذكرناه وتكون الجملة بلفظها تعليلا من دون تقدير اللام. وقوله: (أخرجنا لهم دابة من الارض تكلمهم) بيان لآية خارقة من الآيات الموعودة في قوله: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) وفي كونه وصفا لامر خارق للعادة دلالة على أن المراد بالاخراج من الارض إما الاحياء والبعث بعد الموت وإما أمر يقرب منه، وأما كونها دابة تكلمهم فالدابة ما يدب في الارض من ذوات الحياة إنسانا كان أو حيوانا غيره فإن كان إنسانا كان تكليمه الناس على العادة وإن كان حيوانا أعجم كان تكليمه كخروجه من الارض خرقا للعادة. ولا نجد في كلامه تعالى ما يصلح لتفسير هذه الآية وأن هذه الدابة التي سيخرجها لهم من الارض فتكلمهم ما هي ؟ وما صفتها ؟ وكيف تخرج ؟ وماذا تتكلم به ؟ بل سياق الآية نعم الدليل على أن القصد إلى الابهام فهو كلام مرموز فيه. ومحصل المعنى: إنه إذا آل أمر الناس - وسوف يؤل - إلى أن كانوا لا يوقنون بآياتنا المشهودة لهم وبطل استعدادهم للايمان بنا بالتعقل والاعتبار آن وقت أن نريهم ما وعدنا إراءته لهم من الآيات الخارقة للعادة المبينة لهم الحق بحيث يضطرون إلى الاعتراف بالحق فأخرجنا لهم دابة من الارض تكلمهم. هذا ما يعطيه السياق ويهدي إليه التدبر في الآية من معناها، وقد أغرب المفسرون حيث أمعنوا في الاختلاف في معاني مفردات الآية وجملها والمحصل منها وفي حقيقة هذه الدابة وصفتها ومعنى تكليمها وكيفية خروجها وزمان خروجها وعدد خروجها والمكان الذي تخرج منه في أقوال كثيرة لا معول فيها إلا على التحكم، ولذا أضربنا عن نقلها والبحث عنها، ومن أراد الوقوف عليها فعليه بالمطولات. قوله تعالى: (ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون) الفوج - كما ذكره الراغب - الجماعة المارة المسرعة، والايزاع إيقاف القوم وحبسهم بحيث يرد أولهم على آخرهم. وقوله: (ويوم نحشر) منصوب على الظرفية لمقدر والتقدير واذكر يوم نحشر والمراد بالحشر هو الجمع بعد الموت لان المحشورين فوج من كل أمة ولا اجتماع لجميع

[ 397 ]

الامم في زمان واحد وهم أحياء، و (من) في قوله: (من كل أمة) للتبعيض، وفي قوله: (ممن يكذب) للتبيين أو للتبعيض. والمراد بالآيات في قوله: (يكذب بآياتنا) مطلق الآيات الدالة على المبدء والمعاد ومنها الانبياء والائمة والكتب السماوية دون الساعة وما يقع فيها وعند قيامها ودون الآيات القرآنية فقط لان الحشر ليس مقصورا على الامة الاسلامية بل أفواج من امم شتى. ومن العجيب إصرار بعضهم على أن الكلام نص في أن المراد بالآيات ههنا وفي الآية التالية هي الآيات القرآنية قال: لانها هي المنطوية على دلائل الصدق التي لم يحيطوا بها مع وجوب أن يتأملوا ويتدبروا فيها لا مثل الساعة وما فيها انتهى. وفساده ظاهر لان عدم كون أمثال الساعة وما فيها مرادة لا يستلزم إرادة الآيات القرآنية مع ظهور أن المحشورين أفواج من جميع الامم وليس القرآن إلا كتابا لفوج واحد منهم. وظاهر الآية أن هذا الحشر في غير يوم القيامة لانه حشر للبعض من كل امة لا لجميعهم وقد قال الله تعالى في صفة الحشر يوم القيامة: (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا) الكهف: 47. وقيل: المراد بهذا الحشر هو الحشر للعذاب بعد الحشر الكلي الشامل لجميع الخلق فهو حشر بعد حشر. وفيه أنه لو كان المراد الحشر إلى العذاب لزم ذكر هذه الغاية دفعا للابهام كما في قوله تعالى: (ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاؤها) حم السجدة: 20، مع أنه لم يذكر فيما بعد هذه الآية إلا العتاب والحكم الفصل دون العذاب والآية كما ترى مطلقه لم يشر فيها إلى شئ يلوح إلى هذا الحشر الخاص المذكور ويزيدها إطلاقا قوله بعدها: (حتى إذا جاؤا) فلم يقل: حتى إذا جاؤا العذاب أو النار أو غيرها. ويؤيد ذلك أيضا وقوع الآية الآيتين بعدها بعد نبأ دابة الارض وهي من أشراط الساعة وقبل قوله: (ويوم ينفخ في الصور) إلى آخر الآيات الواصفة لوقائع يوم القيامة، ولا معنى لتقديم ذكر واقعة من وقائع يوم القيامة على ذكر شروعه ووقوع عامة ما يقع فيه فإن الترتيب الوقوعي يقتضي ذكر حشر فوج من كل امة لو كان من وقائع يوم القيامة بعد ذكر نفخ الصور وإتيانهم إليه داخرين.

[ 398 ]

وقد تنبه لهذا الاشكال بعض من حمل الآية على الحشر يوم القيامة فقال: لعل تقديم ذكر هذه الواقعة على نفخ الصور ووقوع الواقعة للايذان بأن كلا مما تضمنه هذا وذاك من الاحوال طامة كبرى وداهية دهياء حقيقة بالتذكير على حيالها ولو روعي الترتيب الوقوعي لربما توهم أن الكل داهية واحدة. وأنت خبير بأنه وجه مختلق غير مقنع، ولو كان كما ذكر لكان دفع توهم كون الحشر المذكور في الآية في غير يوم القيامة بوضع الآية بعد آية نفخ الصور مع ذكر ما يرتفع به الابهام المذكور أولى بالرعاية من دفع هذا التوهم الذي توهمه. فقد بأن أن الآية ظاهرة في كون هذا الحشر المذكور فيها قبل يوم القيامة وإن لم تكن نصا لا يقبل التأويل. قوله تعالى: (حتى إذا جاؤا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون) المراد بالمجئ - بإعانة من السياق - هو الحضور في موطن الخطاب المدلول عليه بقوله: (قال أكذبتم) الخ والمراد بالآيات - كما تقدم في الآية السابقة - مطلق الآيات الدالة على الحق، وقوله: (ولم تحيطوا بها علما) جملة حالية أي كذبتم بها حال كونكم لا علم لكم بها لاعراضكم عنها فكيف كذبتم بما لا تعلمون أي رميتموها بالكذب وعدم الدلالة من غير علم، وقوله: (أم ماذا كنتم تعملون) أي غير التكذيب. والمعنى: حتى إذا حضروا في موطن الخطاب قال الله سبحانه لهم: أكذبتم بآياتي حال كونكم لم تحيطوا بها علما أم أي شئ كنتم تعملون غير التكذيب، وفي ذلك عتابهم بإنهم لم يشتغلوا بشئ غير تكذيبهم بآيات الله من غير أن يشغلهم عنه شاغل معذر. قوله تعالى: (ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون) الباء في (بما ظلموا) للسببية و (ما) مصدريه أي وقع القول عليهم بسبب كونهم ظالمين، وقوله: (فهم لا ينطقون) تفريع على وقوع القول عليهم. وبذلك يتأيد أن المراد بالقول الذي يقع عليهم قوله تعالى: (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) الانعام: 144، والمعنى: ولكونهم ظالمين في تكذيبهم بالآيات لم يهتدوا إلى ما يعتذرون به فانقطعوا عن الكلام فهم لا ينطقون. وربما فسر وقوع القول عليهم بوجوب العذاب عليهم والانسب على هذا أن يكون المراد بالقول الواقع عليهم قضاؤه تعالى بالعذاب في حق الظالمين في مثل قوله:

[ 399 ]

(ألا الضالمين في عذاب مقيم) الشورى: 45، والمعني: ولكونهم ظالمين قضي فيهم بالعذاب فلم يكن عندهم ما ينطقون به، والوجه السابق أوجه. وأما تفسير وقوع القول بحلول العذاب ودخول النار فبعيد من السياق لعدم ملاءمته التفريع في قوله: (فهم لا ينطقون). قوله تعالى: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) لما وصف في الآيات السابقة أن كثيرا من الناس في صمم وعمي من استماع كلمة الحق والنظر في آيات الله والاعتبار بهما، ثم ذكر دابة الارض وأنه سيخرجها آية خارقة للعادة تكلمهم، ثم ذكر أنه سيحشر فوجا من كل امة من المكذبين فيعاتبهم فتتم عليهم الحجة بقولهم بغير علم بالآيات لاعراضهم عنها وبخهم في هذه الآية ولامهم على تكذيبها بالآيات مع الجهل أنهم كانوا يرون الليل الذي يسكنون فيه بالطبع وأن هناك نهارا مبصرا يظهر لهم بها آيات السماء والارض فلم لم يتبصروا ؟. وقوله: (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) أي في جعل الليل سكنا يسكنون فيه والنهار مبصرا يبصرون فيه آيات السماء والارض آيات لقوم فيهم خاصة الاذعان والتصديق للحق اللائح لهم. والمراد بالآيات العلامات والجهات الدالة فيهما على التوحيد وما يتبعه من حقائق المعارف، ومن جملة ذلك دلالتهما على أن الانسان عليه أن يسكن فيما من شأنه أن يسكن فيه، وهو الليل الذي يضرب بحجاب ظلمته على الابصار، ويتحرك فيما من شأنه أن يتحرك فيه وهو النهار المبصر الذي يظهر به الاشياء التي تتضمن منافع الحياة للابصار. فعلي الانسان أن يسكت عما حجبته عنه ظلمة الجهل ولا يقول بغير علم ولا يكذب بما لا يحيط به علما وأن يقول ويؤمن بما تجليه له بينات الايات التي هي كالنهر المبصرة. قوله تعالى: (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن الارض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين) النفخ في الصور كناية عن إعلام الجماعة الكثيرين كالعسكر بما يجب عليهم أن يعملوا به جمعا كالحضور والارتحال وغير ذلك، والفزع كما قال الراغب انقباض نفار يعتري الانسان من الشئ المخيف وهو من جنس الجزع، والدخور الذلة والصغار.

[ 400 ]

قيل: المراد بهذا النفخ النفخة الثانية للصور التي بها تنفخ الحياة في الاجساد فيبعثون لفصل القضاء، ويؤيده قوله في ذيل الآية: (وكل أتوه داخرين) والمراد به حضورهم عند الله سبحانه، ويؤيده أيضا استثناؤه (من شاء الله) من حكم الفزع ثم قوله فيمن جاء بالحسنة: (وهم من فزع يومئذ آمنون) حيث يدل على أن الفزع المذكور هو الفزع في النفخة الثانية. وقيل: المراد به النفخة الاولى التي يموت بها الاحياء بدليل قوله: (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الارض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) الزمر: 68، فإن الصعقة من الفزع وقد رتب على النفخة الاولى وعلى هذا يكون المراد بقوله: (وكل أتوه داخرين) رجوعهم إلى الله سبحانه بالموت. ولا يبعد أن يكون المراد بالنفخ في الصور يومئذ مطلق النفخ أعم مما يميت أو يحيي فإن النفخ كيفما كان من مختصات الساعة، ويكون ما ذكر من فزع بعضهم وأمن بعضهم من الفزع وسير الجبال من خواص النفخة الاولى وما ذكر من إتيانهم داخرين من خواص النفخة الثانية ويندفع بذلك ما يورد على كل واحد من الوجهين السابقين. وقد استثنى سبحانه جمعا من عباده من حكم الفزع العام الشامل لمن في السماوات والارض، وسيجئ كلام في معنى هذا الاستثناء في الكلام على قوله الآتي: (وهم من فزع يومئذ آمنون). والظاهر أن المراد بقوله: (وكل أتوه داخرين) رجوع جميع من في السماوات والارض حتى المستثنين من حكم الفزع وحضورهم عنده تعالى، وأما قوله: (فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين) الصافات: 127، فالظاهر أن المراد نفي إحضارهم في الجمع للحساب والسؤال لا نفي بعثهم ورجوعهم إلى الله وحضورهم عنده فآيات القيامة ناصة على عموم البعث لجميع الخلائق بحيث لا يشذ منهم شاذ. ونسبة الدخور والذلة إلى أوليائه تعالى لا تنافي ما لهم من العزة عند الله فإن عزة العبد عند الله ذلته عنده وغناه بالله فقره إليه نعم ذلة أعدائه بما يرون لانفسهم من العزة الكاذبة ذلة هوان. قوله تعالى: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي

[ 401 ]

أتقن كل شئ إنه خبير بما تفعلون " الآية بما أنها واقعة في سياق آيات القيامة محفوفة بها تصف بعض ما يقع يومئذ من الآيات وهو سير الجبال وقد قال تعالى في هذا المعنى أيضا: (وسيرت الجبال فكانت سرابا) النبأ: 20، إلى غير ذلك. فقوله: (وترى الجبال) الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد به تمثيل الواقعة، كما في قوله: (وترى الناس سكارى) الحج: 2، أي هذا حالها المشهودة في هذا اليوم تشاهدها كنت مشاهدا، وقوله: (تحسبها جامدة) أي تظنها الآن ولم تقم القيامة بعد جامدة غير متحركة، والجملة معترضة أو حالية. وقوله: (وهي تمر مر السحاب) حال من الجبال وعاملها (ترى) أي تراها إذا نفخ في الصور حال كونها تسير سير السحاب في السماء. وقوله: (صنع الله الذي أتقن كل شئ) مفعول مطلق لمقدر أي صنعه صنعا وفي الجملة تلويح إلى أن هذا الصنع والفعل منه تعالى تخريب للدنيا وهدم للعالم، لكنه في الحقيقة تكميل لها وإتقان لنظامها لما يترتب عليه من إنهاء كل شئ إلى غايته وإيصاله إلى وجهته التي هو موليها من سعادة أو شقاوة لان ذلك صنع الله الذي أتقن كل شئ فهو سبحانه لا يسلب الاتقان عما أتقنه ولا يسلط الفساد على ما أصلحه ففي تخريب الدنيا تعمير الآخرة. وقوله: (إنه خبير بما تفعلون) قيل: إنه تعليل لكون ما ذكر من النفخ في الصور وما بعده صنعا محكما له تعالى فإن علمه بظواهر أفعال المكلفين وبواطنها مما يستدعي إظهارها وبيان كيفياتها على ما هي عليه من الحسن والسوء وترتيب آثارها من الثواب والعقاب عليها بعد البعث والحشر وتسيير الجبال. وأنت ترى ما فيه من التكلف وأن السياق بعد ذلك كله لا يقبله. وقيل: إن قوله: (إنه خبير بما تفعلون) استئناف في حكم الجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا يكون بعد هذه القوارع ؟ فقيل: إن الله خبير بعمل العاملين فيجازيهم على أعمالهم وفصل بقوله: (من جاء بالحسنة فله خير منها) إلى آخر الآيتين. وههنا وجه آخر مستفاد من الامعان في سياق الآيات السابقة فإن الله سبحانه أمر فيها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يتوكل عليه ويرجع أمر المشركين وبني إسرائيل إليه فإنه إنما

[ 402 ]

يستطيع هداية المؤمنين بآياته المستسلمين للحق وأما المشركون في جحودهم وبنو إسرائيل في اختلافهم فإنهم موتى لا يسمعون وصم عمي لا يسمعون ولا يهتدون إلى الحق بالنظر في آيات السماء والارض والاعتبار بها باختيار منهم. ثم ذكر ما سيواجههم به - وحالهم هذه الحال لا يؤثر فيهم الآيات - وأنه سيخرج لهم دابة من الارض تكلمهم وهي آية خارقة تضطرهم إلى قبول الحق وأنه يحشر من كل امة فوجا من المكذبين فيتم عليهم الحجة، وبالآخرة هو خبير بأفعالهم سيجزي من جاء بحسنة أو سيئة بعمله يوم ينفخ في الصور ففزعوا وأتوه داخرين. وبالتأمل في هذا السياق يظهر أن الانسب كون (يوم ينفخ) ظرفا لقوله: (إنه خبير بما يفعلون) وقراءة (يفعلون) بياء الغيبة أرجح من القراءة المتداولة على الخطاب. والمعنى: وإنه تعالى خبير بما يفعله أهل السماوات والارض يوم ينفخ في الصور ويأتونه داخرين يجزي من جاء بالحسنة بخير منها ومن جاء بالسيئة بكب وجوههم في النار كل مجزي بعمله، وعلى هذا تكون الآية في معنى قوله تعالى: (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور إن ربهم بهم يومئذ لخبير) العاديات: 11، وقوله: (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ) المؤمن: 16، ويكون قوله: (من جاء بالحسنة الخ، تفصيلا لقوله: (إنه خبير بما يفعلون) من حيث لازم الخبرة وهو الجزاء بما فعل وعمل كما أشار إليه ذيلا بقوله: (هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) والالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: (هل تجزون) الخ، لتشديد التقريع والتأنيب. وفي الآية أعني قوله: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) الخ، قولان آخران: أحدهما: حملها على الحركة الجوهرية وأن الاشياء كالجبال تتحرك بجوهرها إلى غاية وجودها وهي حشرها ورجوعها إلى الله سبحانه. وهذا المعنى أنسب بالنظر إلى ما في قوله: (تحسبها جامدة) من التلويح إلى أنها اليوم متحركة ولما تقم القيامة، وأما جعل يوم القيامة ظرفا لحسبان الجمود وللمرور كالسحاب جميعا فمما لا يلتفت إليه. وثانيهما: حملها على حركة الارض الانتقالية وهو بالنظر إلى الآية في نفسها معنى

[ 403 ]

جيد إلا أنه أولا: يوجب انقطاع الآية عما قبلها وما بعدها من آيات القيامة وثانيا: ينقطع بذلك اتصال قوله: (إنه خبير بما يفعلون) بما قبله. قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون) هذه الآية وما بعدها - كما تقدمت الاشارة إليه - تفصيل لقوله: (إنه خبير بما يفعلون) من حيث أثره الذي هو الجزاء، والمراد بقوله: (من جاء بالحسنة فله خير منها) أن له جزاء هو خير مما جاء به من الحسنة وذلك لان العمل أيا ما كان مقدمة للجزاء مقصود لاجله والغرض والغاية على أي حال أفضل من المقدمة. وقوله: (وهم من فزع يومئذ آمنون) ظاهر السياق أن هذا الفزع هو الفزع بعد نفخ الصور الثاني دون الاول فيكون في معنى قوله: (لا يحزنهم الفزع الاكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون) الانبياء: 103. قوله تعالى: (ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) يقال: كبه على وجهه فانكب أي ألقاه على وجهه فوقع عليه فنسبة الكب إلى وجوههم من المجاز العقلي والاصل فكبوا على وجوههم. وقوله: (هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) الاستفهام للانكار، والمعنى: ليس جزاؤكم هذا إلا نفس العمل الذي عملتموه ظهر لكم فلزمكم فلا ظلم في الجزاء ولا جور في الحكم. والآيتان في مقام بيان ما في طبع الحسنة والسيئة من الجزاء ففيهما حكم من جاء بالحسنة فقط ومن أحاطت به الخطيئة واستغرقته السيئة وأما من حمل حسنة وسيئة فيعلم بذلك حكمه إجمالا وأما التفصيل ففي غير هذا الموضع. قوله تعالى: (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شئ) الآيات الثلاث - من هنا إلى آخر السورة ختام السورة يبين فيها أن هذه الدعوة الحقة تبشير وإنذار فيه إتمام للحجة من غير أن يرجع إليه صلى الله عليه وآله وسلم من أمرهم شئ وإنما الامر إلى الله وسيريهم آياته فيعرفونها ليس بغافل عن أعمالهم. وفي قوله: (إنما أمرت) الخ، تكلم عن لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو في معنى: قل إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة، والمشار إليها بهذه الاشارة مكة المشرفة، وفي الكلام تشريفها من وجهين: إضافة الرب إليها، وتوصيفها بالحرمة حيث قال:

[ 404 ]

رب هذه البلدة الذي حرمها. وفيه تعريض لهم حيث كفروا بهذه النعمة نعمة حرمة بلدتهم ولم يشكروا الله بعبادته بل عدلوا إلى عبادة الاصنام. وقوله: (وله كل شئ) إشارة إلى سعة ملكه تعالى دفعا لما يمكن أن يتوهم أنه إنما يملك مكة التي هو ربها فيكون حاله حال سائر الاصنام يملك الواحد منها على عقيدتهم جزءا من أجزاء العالم كالسماء والارض وبلدة كذا وقوم كذا وأسرة كذا، فيكون تعالى معبودا كأحد الآلهة واقعا في صفهم وفي عرضهم. وقوله: (وأمرت أن أكون من المسلمين) أي من الذين أسلموا له فيما أراد ولا يريد إلا ما يهدي إليه الخلقة ويهتف به الفطرة وهو الدين الحنيف الفطري الذي هوملة إبراهيم. قوله تعالى: (وأن أتلوا القرآن فمن اهتدي فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين) معطوف على قوله: (أن أعبد) أي أمرت أن أقرأ القرآن والمراد تلاوته عليهم بدليل تفريع قوله: (فمن اهتدى) الخ، عليه. وقوله: (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه) أي فمن اهتدى بهذا القرآن فالذي ينتفع به هو نفسه ولا يعود نفعه إلي. وقوله: (ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين) أي ومن لم يهتد به بالاعراض عن ذكر ربه وهو الضلال فعليه ضلاله ووبال كفره لا علي لاني لست إلا منذرا مأمورا بذلك ولست عليه وكيلا والله هو الوكيل عليه. فالعدول عن مثل قولنا: ومن ضل فإنما أنا من المنذرين وهو الذي كان يقتضيه الظاهر إلى قوله: (فقل إنما أنا من المنذرين) لتذكيره صلى الله عليه وآله وسلم بما تقدم من العهد إليه أنه ليس إلا منذرا وليس إليه من أمرهم شئ فعليه أن يتوكل على ربه ويرجع أمرهم إليه كما قال: (فتوكل على الله إنك على الحق المبين إنك لا تسمع الموتى) الخ، فكأنه قيل: ومن ضل فقل له قد سمعت أن ربي لم يجعل علي إلا الانذار فلست بمسؤول عن ضلال من ضل. قوله تعالى: (وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون) معطوف على قوله: (فقل إنما أنا من المنذرين) وفيه انعطاف إلى ما ذكره بعد أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالتوكل عليه في أمرهم من أنه سيجعل للمشركين عاقبة سوء

[ 405 ]

ويقضي بين بني إسرائيل فيما اختلفوا فيه ويريهم من آياته ما يضطرون إلى تصديقه ثم يجزيهم بأعمالهم. ومحصل المعنى: وقل الثناء الجميل لله تعالى فيما يجريه في ملكه حيث دعى الناس إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم وهدى الذين آمنوا بآياته وأسلموا له وأما المكذبون فأمات قلوبهم وأصم آذانهم وأعمى أبصارهم فضلوا وكذبوا بآياته. وقوله: (سيريكم آياته فتعرفونها) إشارة إلى ما تقدم من قوله: (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الارض) وما بعده، وظهور قوله: (آياته) في العموم دليل على شموله لجميع الآيات التي تضطرهم إلى قبول الحق مما يظهر لهم قبل قيام الساعة وبعده. وقوله: (وما ربك بغافل عما تعملون) الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمنزلة التعليل لما تقدمه أي إن أعمالكم معاشر العباد بعين ربك فلا يفوته شي مما تقتضيه الحكمة قبال أعمالكم من الدعوة والهداية والاضلال وإراءة الآيات ثجزاء المحسنين منكم والمسيئين يوم القيامة. وقرئ (عما يعملون) بياء الغيبة ولعلها أرجح ومفادها تهديد المكذبين وفي قوله: (ربك) بإضافة الرب إلى الكاف تطييب لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقويه لجانبه. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: (وإذا وقع القول عليهم) الآية حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أمير المؤمنين عليه السلام وهو نائم في المسجد قد جمع رملا ووضع رأسه عليه فحركه برجله ثم قال: قم يا دابة الارض فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله أيسمي بعضنا بعضا بهذا الاسم ؟ فقال: لا والله ما هو إلا له خاصة وهو الدابة الذي ذكره الله في كتابه فقال: (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الارض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون). ثم قال: يا علي إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة ومعك ميسم تسم به أعداءك.

[ 406 ]

فقال رجل لابي عبد الله عليه السلام: إن العامة يقولون: إن هذه الآية إنما (تكلمهم) فقال أبو عبد الله عليه السلام: كلمهم الله في نار جهنم إنما هو تكلمهم من الكلام. أقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة من طرق الشيعة. وفي المجمع وروى محمد بن كعب القرطي قال: سئل علي عن الدابة فقال: أما والله ما لها ذنب وإن لها للحية. أقول: وهناك روايات كثيرة تصف خلقتها تتضمن عجائب وهي مع ذلك متعارضة متدافعة من أرادها فليراجع جوامع الحديث كالدر المنثور أو مطولات التفاسير كروح المعاني. وفي تفسير القمي حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن حماد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما يقول الناس في هذه الآية (يوم نحشر من كل امة فوجا) ؟ قلت: يقولون إنه في القيامة. قال: ليس كما يقولون إنها في الرجعة أيحشر الله في القيامة من كل امة فوجا ويدع الباقين ؟ إنما آية القيامة (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا). أقول: وأخبار الرجعة من طرق الشيعة كثيرة جدا. وفي المجمع في قوله تعالى: (ونفخ في الصور): واختلف في معنى الصور - إلى أن قال - وقيل: هو قرن ينفخ فيه شبه البوق وقد ورد ذلك في الحديث. وفيه في قوله تعالى: (إلا من شاء الله) قيل: يعني الشهداء فإنهم لا يفزعون في ذلك اليوم وروي ذلك في خبر مرفوع. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (صنع الله الذي أتقن كل شئ) قال: فعل الله الذي أحكم كل شئ وفيه في قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار) قال: الحسنة والله ولاية أمير المؤمنين عليه السلام والسيئة والله عداوته. أقول: وهو من الجري وليس بتفسير وهناك روايات كثيرة في هذا المضمون ربما أمكن حملها على ما سيأتي. وفي الخصال عن يونس بن ظبيان قال: قال الصادق جعفر بن محمد عليه السلام: إن الناس يعبدون الله على ثلاثة أوجه: فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء

[ 407 ]

وهو الطمع، وآخرون يعبدونه فرقا من النار فتلك عبادة العبيد وهي الرهبة، ولكني أعبده حبا له فتلك عبادة الكرام وهو الامن لقوله تعالى: (وهم من فزع يومئذ آمنون)، ولقوله: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) فمن أحب الله أحبه الله ومن أحبه الله كان الآمنين أقول: لازم ما فيه من الاستدلال تفسير الحسنة في الآية بالولاية التي هي عبادته تعالى من طريق المحبة الموجبة لفناء إرادة العبد في إرادته وتوليه تعالى بنفسه أمر عبده وتصرفه فيه وهذا أحد معنيي ولاية علي عليه السلام فهو عليه السلام صاحب الولاية وأول فاتح لهذا الباب من الامة وبه يمكن أن يفسر أكثر الروايات الواردة في أن المراد بالحسنة في الآية ولاية على عليه السلام. وفي الدر المنثور أخرج أبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قول الله: (من جاء بالحسنة فله خير منها) يعني بها شهادة أن لا إله إلا الله، ومن جاء بالسيئة يعني بها الشرك يقال: هذه تنجي وهذه تردي. أقول: وهذا المعنى مروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم بألفاظ مختلفة من طرق شتى وينبغي تقييد تفسير الحسنة بلا إله إلا الله بسائر الاحكام الشرعية التي هي من لوازم التوحيد وإلا لغى تشريعها وهو ظاهر. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (إنما امرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها) قال: مكة. وفيه عن أبيه عن حماد بن عيسى عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة يوم افتتحها فتح باب الكعبة فأمر بصور في الكعبة فطمست فأخذ بعضادتي الباب فقال: ألا أن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والارض فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة لا ينفر صيدها ويعضد شجرها ولا يختلي خلالها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد. فقال العباس: يا رسول الله الا الاذخر فإنه للقبر والبيوت فقال رسول الله إلا الاذخر. أقول: وهو مروي من طرق أهل السنة أيضا. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما كان في أقول: لازم ما فيه من الاستدلال تفسير الحسنة في الآية بالولاية التي هي عبادته تعالى من طريق المحبة الموجبة لفناء إرادة العبد في إرادته وتوليه تعالى بنفسه أمر عبده وتصرفه فيه وهذا أحد معنيي ولاية علي عليه السلام فهو عليه السلام صاحب الولاية وأول فاتح لهذا الباب من الامة وبه يمكن أن يفسر أكثر الروايات الواردة في أن المراد بالحسنة في الآية ولاية على عليه السلام. وفي الدر المنثور أخرج أبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قول الله: (من جاء بالحسنة فله خير منها) يعني بها شهادة أن لا إله إلا الله، ومن جاء بالسيئة يعني بها الشرك يقال: هذه تنجي وهذه تردي. أقول: وهذا المعنى مروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم بألفاظ مختلفة من طرق شتى وينبغي تقييد تفسير الحسنة بلا إله إلا الله بسائر الاحكام الشرعية التي هي من لوازم التوحيد وإلا لغى تشريعها وهو ظاهر. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (إنما امرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها) قال: مكة. وفيه عن أبيه عن حماد بن عيسى عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة يوم افتتحها فتح باب الكعبة فأمر بصور في الكعبة فطمست فأخذ بعضادتي الباب فقال: ألا أن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والارض فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة لا ينفر صيدها ويعضد شجرها ولا يختلي خلالها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد. فقال العباس: يا رسول الله الا الاذخر فإنه للقبر والبيوت فقال رسول الله إلا الاذخر. أقول: وهو مروي من طرق أهل السنة أيضا. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما كان في القرآن (وما الله بغافل عما تعملون) بالتاء، وما كان (وما ربك بغافل عما يعملون) بالياء. تم والحمد لله

مكتبة مكتبة شبكة أمل