تفسير الميزان - السيد الطباطبائي ج 13

تفسير الميزان

السيد الطباطبائي ج 13


[ 1 ]

الميزان في تفسير القرآن 13

[ 3 ]

تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره

[ 4 ]

الميزان في تفسير القران كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره الجزء الثالث العشر منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة بسم الله الرحمن الرحيم سورة الاسراء مكية وهى مائة واحدى عشرة آية المجلد:

[ 5 ]

بسم الله الرحمن الرحيم سبحان الذى اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذى باركنا حوله لنريه من آياتنا انه هو السميع البصير - 1. (بيان) السورة تتعرض لامر توحيده تعالى عن الشريك مطلقا ومع ذلك يغلب فيها جانب التسبيح على جانب التحميد كما بدئت به فقيل: (سبحان الذى اسرى بعبده) الاية، وكرر ذلك فيها مرة بعد مرة كقوله: (سبحانه وتعالى عما يقولون) الاية 43 وقولة: (قل سبحان ربى) الاية 93، وقوله: (ويقولون سبحان ربنا) الاية 108 حتى ان الاية الخاتمة للسورة: (قل الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيرا) تحمد الله على تنزهه عن الشريك والولئ واتخاذ الولد. والسورة مكية لشهادة مضامين آياتها بذلك، وعن بعضهم كما في روح المعاني استثناء آيتين منها وهما قوله: (وان كادوا ليفتنونك) الاية وقوله: (وان كادوا ليستفزونك) الاية، وعن بعضهم الا اربع آيات وهى الايتان المذكورتان وقوله: (واذ قلنا لك ان ربك احاط بالناس) الاية، وقوله: (وقل رب ادخلني مدخل صدق) الاية.

[ 6 ]

وعن الحسن انها مكية الا خمس آيات منها وپهى قوله: (ولا تقتلوا النفس) الاية (ولا تقربوا الزنا) الاية اولئك الذين يدعون (اقم الصلاة) (وآت ذا القربى) الاية. وعن مقاتل: مكية الا خمس: (وان كادوا ليفتنونك) الاية (وان كادوا ليستفزونك) الاية واذ قلنا لك) الاية (وقل رب ادخلني) الاية (ان الذين اوتوا العلم من قبله) الاية. وعن قتادة والمعدل عن ابن عباس مكيه الا ثمانى آيات وهى قوله: (وان كادوا ليفتنونك) الاية إلى قوله: (وقل رب ادخلني مدخل صدق) الاية. ولا دلالة في مضامين الايات على كونها مدنية ولا الاحكام المذكورة فيها مما يختص نزولا بالمدينة وقد نزلت نظائرها في السور المكية كالانعام والاعراف. وقد افتتحت السورة فيما ترومه من التسبيح بالاشارة إلى معراج النبي (صلى الله عليه وآله وصلم) فذكر اسراؤه (صلى الله عليه وآله وصلم) من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى وهو بيت المقدس والهيكل الذى بناه داود وسليمان عليه اسلام وقدسه الله لبنى اسرائيل. ثم سبق الكلام بالمناسبة إلى ما قدره الله لمجتمع بنى اسرائيل من الرقى والانحطاط والعزة والذلة فكلما اطاعوا رفعهم الله وكلما عصوا خفضهم الله، وقد انزل عليهم الكتاب وامرهم بالتوحيد ونفى الشريك. ثم عطف فيها الكلام على حال هذه الامة وما انزل عليهم من الكتاب بما يشاكل حال بنى اسرائيل وانهم ان اطاعوا اثيبوا وان عصوا عوقبوا فانما هي الاعمال يعامل الانسان بما عمل منها وعلى ذلك جرت السنة الالهية في الامم الماضين. ثم ذكرت فيها حقائق جمة من المعارف الراجعة إلى المبدا والمعاد والشرائع العامة من الاوامر والنواهي وغير ذلك. ومن غرر الايات فيها قوله تعالى: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان اياما تدعوا فله الاسماء الحسنى) الاية 110 من السورة، وقوله: (وكلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا) الايه 20 منها وقوله: (وان من قرية الانحن مهلكوها) الايه 58 منها وغير ذلك.

[ 7 ]

قوله تعالى: (سبحان الذى اسرى بعبده ليلا) إلى آخر الاية. سبحان اسم مصدر للتسبيح بمعنى التنزيه ويستعمل مضافا وهو مفعول مطلق قائم مقام فعله فتقدير (سبحان الله) سبحت الله تسبيحا أي نزهته عن كل ما لا يليق بساحة قدسه وكثيرا ما يستعمل للتعجب لكن سياق الايات انما يلائم التنزيه لكونه الغرض من البيان وان اصر بعضهم على كونه للتعجب. والاسراء والسرى السير بالليل يقال: سرى واسري أي سار ليلا وسرى واسري به أي سار به ليلا، والسير يختص بالنهار أو يعمه والليل. وقوله: (ليلا) مفعول فيه ويفيد من الفائدة ان هذا الاسراء تم له بالليل فكان الرواح والمجئ في ليلة واحدة قبل ان يطلع فجرها. وقوله: (إلى المسجد الاقصى) هو بيت المقدس بقرينة قوله: (الذى باركنا حوله. والقصى البعد وقد سمى المسجد الاقصى لكونه ابعد مسجد بالنسبه إلى مكان النبي (صلى الله عليه وآله وصلم) ومن معه من المخاطبين وهو مكة التى فيها المسجد الحرام. وقوله: (لنريه من آياتنا) بيان غاية الاسراء وهى اراءه بعض الايات الالهية - لمكان - من وفي السياق دلاله على عظمة هذه الايات التى اراها الله سبحانه كما صرح به في موضع آخر من كلامه يذكر فيه حديث المعراج بقوله: (لقد راى من آيات ربه الكبرى) النجم: 18. وقوله: (انه هو السميع البصير) تعليل لاسرائه به لاراءة آياته أي انه سميع لاقوال عباده بصير بافعالهم وقد سمع من مقال عبده وراى من حاله ما استدعى ان يكرمه هذا الاكرام فيسرى به ليلا ويريه من آياتة الكبرى. وفي الاية التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير في قوله: (باركنا حوله لنريه من آياتنا) ثم رجوع إلى الغيبة السابقة والوجه فيه الاشارة إلى ان الاسراء وما ترتب عليه من اراءه الايات انما صدر عن ساحة العظمة والكبرياء وموطن العزة والجبروت فعملت فيه السلطنة العظمى وتجلى الله له باياته الكبرى، ولو قيل: ليريه من آياته أو غير ذلك لفاتت النكتة. والمعنى: لينزه تنزيها من اسرى بعظمته وكبريائه وبالغ قدرته وسلطانه بعبده محمد في جوف ليلة واحدة من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى وهو بيت المقدس الذى بارك

[ 8 ]

حوله ليريه بعظمتة وكبريائه آياتة الكبرى، وانما فعل به ذلك لانه سميع بصير علم بما سمع من مقاله وراى من حاله انه خليق ان يكرم هذه التكرمة. (بحث روائي) في تفسير القمى عن ابيه عن ابن ابى عمير عن هشام بن سالم عن ابى عبد الله عليه السلام قال: جاء جبرئيل وميكائيل واسرافيل بالبراق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاخذ واحد باللجام وواحد بالركاب - وسوى الاخر عليه ثيابه فتضعضعت البراق فلطمها جبرائيل ثم قال لها: اسكني يا براق فما ركبك نبى قبله ولا يركبك بعده مثله قال: فرفت به ورفعته ارتفاعا ليس بالكثير ومعه جبرئيل يريه الايات من السماء والارض. قال: فبينا انا في مسيرى إذ نادى مناد عن يمينى: يا محمد فلم اجبه ولم التفت إليه ثم نادى مناد عن يسارى: يا محمد فلم اجبه ولم التفت إليه ثم استقبلتني امراة كاشفه عن ذراعيها عليها من كل زينة الدنيا فقالت: يا محمد انظرني حتى اكلمك فلم التفت إليها ثم سرت فسمعت صوتا افزعني فجاوزت فنزل بى جبرئيل فقال: صل فصليت فقال: تدرى اين صليت ؟ قلت: لا، فقال: صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسى تكليما ثم ركبت فمضينا ما شاء الله ثم قال لى: انزل فصل فنزلت وصليت فقال لى: تدرى اين صليت ؟ فقلت: لا، قال: صليت في بيت لحم، وبيت لحم بناحية بيت المقدس حيث ولد عيسى بن مريم. ثم ركبت فمضينا حتى انتهينا إلى بيت المقدس فربطت البراق بالحلقة التى كانت الانبياء تربط بها فدخلت المسجد ومعى جبرئيل إلى جنبى فوجدنا ابراهيم وموسى وعيسى فيمن شاء الله من انبياء الله عليهم السلام فقد جمعوا إلى واقيمت الصلاة ولا اشك الا وجبرئيل سيتقد منا فلما استووا اخذ جبرئيل بعضدي فقد منى واممتهم ولا فخر. ثم اتانى الخازن بثلاثة اوانى اناء فيه لبن واناء فيه ماء واناء فيه خمر، وسمعت قائلا يقول: ان اخذ الماء غرق وغرقت امته، وان اخذ الخمر غوى وغويت امته

[ 9 ]

وان اخذ اللبن هدى وهديت امته قال: فاخذت اللبن وشربت منه فقال لى جبرئيل هديت وهديت امتك. ثم قال لى: ما ذا رايت في مسيرك ؟ فقلت: نادانى مناد عن يمينى فقال: اواجبته فقلت: لا ولم التفت إليه فقال: داعى اليهود لواجبته لتهودت امتك من بعدك ثم قال: ما ذا رايت ؟ فقلت نادانى مناد عن يسارى فقال لى: أو اجبته ؟ فقلت لا ولم التفت إليه فقال: ذاك داعى النصارى ولو اجبته لتنصرت امتك من بعدك. ثم قال: ماذا استقبلك ؟ فقلت ؟ لقيت امراة كاشفة عن ذراعيها عليها من كل زينة الدنيا فقالت: يا محمد انظرني حتى اكلمك. فقال أو كلمتها ؟ فقلت: لم اكلمها ولم التفت إليها فقال: تلك الدنيا ولو كلمتها لاختارت امتك الدنيا على الاخرة. ثم سمعت صوتا افزعني فقال لى جبرئيل: اتسمع يا محمد ؟ قلت: نعم قال: هذه صخرة قذفتها عن شفير جهنم منذ سبعين عاما فهذا حين استقرت قالوا: فما ضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى قبض قال: وصعد جبرئيل وصعدت معه إلى السماء الدنيا وعليها ملك يقال له: اسماعيل وهو صاحب الخطفة التى قال الله عزوجل: (الا من خطف الخطفة فاتبعه شهاب ثاقب) وتحته سبعون الف ملك تحت كل ملك سبعون الف ملك فقال: يا جبرئيل من هذا الذى معك ؟ فقال محمد رسول الله قال: وقد بعث ؟ قال: نعم ففتح الباب فسلمت عليه وسلم على واستغفرت له واستغفر لى وقال: مرحبا بالاخ الصالح والنبى الصالح، وتلقتنى الملائكه حتى دخلت السماء الدنيا فما لقيني ملك الا ضاحكا مستبشرا حتى لقيني ملك من الملائكه لم ار اعظم خلقا منه كريه المنظر ظاهر الغضب فقال لى مثل ما قالوا من الدعاء الا انه لم يضحك ولم ار فيه من الاستبشار ما رايت من ضحك الملائكة فقلت: من هذا يا جبرئيل فانى قد فزعت منه ؟ فقال: يجوز ان يفزع منه فكلنا نفزع منه ان هذا مالك خازن النار لم يضحك قط، ولم يزل منذ ان ولاه الله جهنم يزداد كل يوم غضبا وغيظا على اعداء الله واهل معصيته فينتقم الله به منهم ولو ضحك إلى احد قبلك أو كان ضاحكا إلى احد بعدك لضحك اليك فسلمت عليه فرد السلام على وبشرني بالجنه. فقلت لجبرئيل وجبرئيل بالمكان الذى وصفه الله (مطاع ثم امين): الا تأمره

[ 10 ]

ان يرينى النار ؟ فقال له جبرئيل: يا مالك ار محمدا النار فكشف عنها غطاءها وفتح بابا منها فخرج منها لهب ساطع في السماء وفارت وارتفعت حتى ظننت ليتناولنى مما رايت فقلت: يا جبرئيل ! قل له فليرد عليها غطاءها فأمره فقال لها: ارجعي فرجعت إلى مكانها الذى خرجت منه. ثم مضيت فرايت رجلا آدما جسيما فقلت: من هذا يا جبرئيل ؟ فقال هذا ابوك آدم فإذا هو يعرض عليه ذريته فيقول: روح طيبة وريح طيبة من جسد طيب ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سوره المطففين على راس سبع عشره آية (كلا ان كتاب الابرار لفى عليين وما ادراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون) إلى آخرها قال: فسلمت على ابى آدم وسلم على واستغفرت له واستغفر لى، وقال: مرحبا بالابن الصالح والنبى الصالح المبعوث في الزمن الصالح. قال: ثم مررت بملك من الملائكه جالس على مجلس وإذا جميع الدنيا بين ركبتيه وإذا بيده لوح من نور ينظر فيه مكتوب فيه كتاب ينظر فيه لا يلتفت يمينا ولا شمالا، مقبلا عليه كهيئه الحزين فقلت: من هذا يا جبرئيل ؟ قال هذا ملك الموت دائب في قبض الارواح فقلت: يا جبرئيل ادننى منه حتى اكلمه فادنانى منه فسلمت عليه وقال له جبرئيل: هذا محمد نبى الرحمه الذى ارسله الله إلى العباد فرحب بى وحياني بالسلام وقال: ابشر يا محمد فانى ارى الخير كله في امتك فقلت: الحمد لله المنان ذى النعم على عباده ذلك من فضل ربى ورحمته على فقال جبرئيل: هو اشد الملائكه عملا فقلت: اكل من مات أو هو ميت فيما بعد هذا. تقبض روحه ؟ فقال نعم. قلت: وتراهم حيث كانوا وتشهدهم بنفسك ؟ فقال: نعم. فقال ملك الموت: ما الدنيا كلها عندي فيما سخره الله لى ومكننى عليها الا كالدرهم في كف الرجل يقلبه كيف يشاء، وما من دار الا وانا اتصفحه كل يوم خمس مرات، واقول إذا بكى اهل الميت على ميتهم: لا تبكوا عليه فان لى فيكم عودة وعودة حتى لا يبقى منكم احد فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كفى بالموت طامه يا جبرئيل فقال جبرئيل: ان ما بعد الموت اطم واطم من الموت قال: ثم مضيت فإذا انا بقوم بين ايديهم موائد من لحم طيب ولحم خبيث ياكلون اللحم الخبيث ويدعون الطيب فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل ؟ فقال: هؤلاء الذين

[ 11 ]

ياكلون الحرام ويدعون الحلال وهم من امتك يا محمد. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم رايت ملكا من الملائكة جعل الله امره عجيبا نصف جسده النار والنصف الاخر ثلج فلا النار تذيب الثلج ولا الثلج تطفئ النار وهو ينادى بصوت رفيع ويقول: سبحان الذى كف حر هذه النار فلا تذيب الثلج وكف برد هذا الثلج فلا يطفئ حر هذه النار اللهم يا مؤلف بين الثلج والنار الف بين قلوب عبادك المؤمنين فقلت: من هذا يا جبرئيل ؟ فقال: هذا ملك وكله الله باكناف السماء واطراف الارضين وهو انصح ملائكة الله لاهل الارض من عباده المؤمنين يدعو لهم بما تسمع منذ خلق. ورايت ملكين يناديان في السماء احدهما يقول: اللهم اعط كل منفق خلفا والاخر يقول: اللهم اعط كل ممسك تلفا. ثم مضيت فإذا انا باقوام لهم مشافر كمشافر الابل يقرض اللحم من جنوبهم ويلقى في افواههم فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل ؟ فقال: هؤلاء الهمازون اللمازون. ثم مضيت فإذا انا باقوام ترضخ رؤسهم بالصخر فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل ؟ فقال: هؤلاء الذين ينامون عن صلاة العشاء. ثم مضيت فإذا انا باقوام تقذف النار في افواههم وتخرج من ادبارهم فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل ؟ قال: هؤلاء الذين ياكلون اموال اليتامى ظلما انما ياكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا. ثم مضيت فإذا انا باقوام يريد احدهم ان يقوم فلا يدر من عظم بطنه فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل ؟ قال: هؤلاء الذين ياكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان من المس. وإذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا يقولون ربنا متى تقوم الساعه ؟. قال: ثم مضيت فإذا انا بنسوان معلقات بثديهن فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل فقال: هؤلاء اللواتى يورثن اموال ازواجهن اولاد غيرهم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اشتد غضب الله على امراة ادخلت على قوم في نسبهم من ليس منهم فاطلع على عوراتهم واكل خزائنهم. ثم قال: مررنا بملائكه من ملائكه الله عزوجل خلقهم الله كيف شاء ووضع

[ 12 ]

وجوههم كيف شاء، ليس شئ من اطباق اجسادهم الا وهو يسبح الله ويحمده من كل ناحية باصوات مختلفة اصواتهم مرتفعة بالتحميد والبكاء من خشية الله فسالت جبرئيل عنهم فقال: كما ترى خلقوا ان الملك منهم إلى جنب صاحبه ما كلمهم كلمة قط ولا رفعوا رؤسهم إلى ما فوقهاو لا خفضوهاالى ما تحتها خوفا من الله وخشوعا فسلمت عليهم فردوا على ايماء برؤوسهم لا ينظرون إلى من الخشوع فقال لهم جبرئيل: هذا محمد نبى الرحمة ارسله الله إلى العباد رسولا ونبيا. وهو خاتم النبيين وسيد هم افلا تكلمونه ؟ قال: فلما سمعوا ذلك من جبرئيل اقبلوا على بالسلام واكرموني وبشرونى بالخير لى ولامتى. قال: ثم صعدنا إلى السماء الثانية فإذا فيها رجلان متشابهان فقلت: من هذان يا جبرئيل ؟ فقال لى: ابنا الخالة يحيى وعيسى عليهما السلام فسلمت عليهما وسلما على واستغفرت لهما واستغفرا لى وقالا: مرحبا بالاخ الصالح والنبى الصالح وإذا فيها من الملائكة وعليهم الخشوع قد وضع الله وجوههم كيف شاء ليس منهم ملك الا يسبح الله بحمده باصوات مختلفة. ثم صعدنا إلى السماء الثالثة فإذا فيها رجل فضل حسنه على سائر الخلق كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم فقلت: من هذا يا جبرئيل ؟ فقال: هذا اخوك يوسف فسلمت عليه وسلم على واستغفرت له واستغفر لى، وقال: مرحبا بالنبي الصالح والاخ الصالح والمبعوث في الزمن الصالح، وإذا فيها ملائكه عليهم من الخشوع مثل ما وصفت في السماء الاولى والثانية، وقال لهم جبرئيل في امرى ما قال للاخرين وصنعوا في مثل ما صنع الاخرون. ثم صعدنا إلى السماء الرابعة وإذا فيها رجل فقلت: من هذا يا جبرئيل ؟ فقال هذا ادريس رفعه الله مكانا عليا فسلمت عليه وسلم على واستغفرت له واستغفر لى، وإذا فيها من الملائكه الخشوع مثل ما في السموات التى عبرناها فبشروني بالخير لى ولامتى، ثم رايت ملكا جالسا على سرير تحت يديه سبعون الف ملك تحت كل ملك سبعون الف ملك فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه هو فصاح به جبرئيل فقال: قم فهو قائم إلى يوم القيامة.

[ 13 ]

ثم صعدنا إلى السماء الخامسة فإذا فيها رجل كهل عظيم العين لم اركهلا اعظم منه حوله ثلة من امته فاعجبني كثرتهم فقلت: من هذا يا جبرئيل ؟ فقال: هذا المحبب في قومه هارون بن عمران فسلمت عليه وسلم على واستغفرت له واستغفر لى وإذا فيها من الملائكه الخشوع مثل ما في السماوات. ثم صعدنا إلى السماء السادسة وإذا فيها رجل آدم طويل كانه من شنوة ولو ان له قميصين لنفذ شعره فيهما وسمعته يقول: يزعم بنو اسرائيل انى اكرم ولد آدم على الله وهذا رجل اكرم على الله منى فقلت: من هذا يا جبرئيل ؟ فقال: هذا اخوك موسى بن عمران فسلمت عليه وسلم على واستغفرت له واستغفر لى، وإذا فيها من الملائكه الخشوع مثل ما في السماوات. قال: ثم صعدنا إلى السماء السابعة فما مررت بملك من الملائكة الا قالوا: يا محمد احتجم وامر امتك بالحجامة، وإذا فيها رجل اشمط الراس واللحية جالس على كرسى فقلت: يا جبرئيل من هذا الذى في السماء السابعة على باب البيت المعمور في جوار الله ؟ فقال: هذا يا محمد ابوك ابراهيم وهذا محلك ومحل من اتقى من امتك ثم قرء رسول الله: (ان اولى الناس بابراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولى المؤمنين) فسلمت عليه وسلم على وقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح والمبعوث في الزمن الصالح وإذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السموات فبشروني بالخير لى ولامتى. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ورايت في السماء السابعة بحارا من نور تتلألأ تلالؤها يخطف بالابصار، وفيها بحار من ظلمة وبحار من ثلج ترعد فكلما فزعت ورايت هولا سالت جبرئيل فقال: ابشر يا محمد واشكر كرامة ربك واشكر الله بما صنع اليك قال: فثبتني الله بقوته وعونه حتى كثر قولى لجبرئيل وتعجبي. فقال جبرئيل: يا محمد تعظم ما ترى ؟ انما هذا خلق من خلق ربك فكيف بالخالق الذى خلق ما ترى وما لا ترى اعظم من هذا من خلق ربك ان بين الله وبين خلقه سبعين الف حجاب واقرب الخلق إلى الله انا واسرافيل وبيننا وبينه اربعة حجب حجاب من نور وحجاب من الظلمه وحجاب من الغمامة وحجاب من الماء.

[ 14 ]

قال: ورايت من العجائب التى خلق الله وسخر على ما اراده ديكا رجلاه في تخوم الارضين السابعة وراسه عند العرش وهو ملك من ملائكة الله تعالى خلقه الله كما اراد رجلاه في تخوم الارضين السابعة ثم اقبل مصعدا حتى خرج في الهواء إلى السماء السابعة وانتهى فيها مصعدا حتى انتهى قرنه إلى قرب العرش وهو يقول: سبحان ربى حيثما كنت لا تدرى اين ربك من عظم شانه، و له جناحان في منكبه إذا نشرهما جاوزا المشرق والمغرب فإذا كان في السحر نشر جناحيه وخفق بهما وصرخ بالتسبيح يقول: سبحان الله الملك القدوس، سبحان الله الكبير المتعال لا اله الا الله الحى القيوم وإذا قال ذلك سبحت ديوك الارض كلها وخفقت باجنحتها واخذت بالصراخ فإذا سكت ذلك الديك في السماء سكت ديوك الارض كلها، ولذلك الديك زغب اخضر وريش ابيض كاشد بياض ما رايته قط، وله زغب اخضر ايضا تحت ريشه الابيض كاشد خضره ما رايتها قط. قال: ثم مضيت مع جبرئيل فدخلت البيت المعمور فصليت فيه ركعتين ومعى اناس من اصحابي عليهم ثياب جدد وآخرين عليهم ثياب خلقان فدخل اصحاب الجدد وجلس اصحاب الخلقان. ثم خرجت فانقاد لى نهران نهر يسمى الكوثر ونهر يسمى الرحمة فشربت من الكوثر واغتسلت من الرحمة ثم انقادا لى جميعا حتى دخلت الجنة وإذا على حافتيها بيوتي وبيوت اهلي وإذا ترابها كالمسك، وإذا جاريه تنغمس في انهار الجنة فقلت: لمن انت يا جارية ؟ فقالت: لزيد بن حارثة فبشرته بها حين اصبحت، وإذا بطيرها كالبخت، وإذا رمانها مثل الدلى العظام، وإذا شجرة لو ارسل طائر في اصلها ما دارها سبعمائة سنة، وليس في الجنة منزل الا وفيه غصن منها فقلت: ما هذه يا جبرئيل ؟ فقال: هذه شجرة طوبى قال الله (طوبى لهم وحسن ماب). قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فلما دخلت الجنة رجعت إلى نفسي فسالت جبرئيل عن تلك البحار وهولها واعاجيبها فقال: هي سرادقات الحجب التى احتجب الله تبارك وتعالى بها ولو لا تلك الحجب لهتك نور العرش كل شئ فيه. وانتهيت إلى سدرة المنتهى فإذا الورقة منها تظل امة من الامم فكنت منها كما

[ 15 ]

قال الله تعالى (قاب قوسين أو ادنى) فناداني (آمن الرسول بما انزل إليه من ربه) فقلت انا مجيبا عنى وعن امتى: (والمؤمنون كل آمن بالله وكتبه ورسله لا نفرق بين احد من رسله وقالوا سمعناو اطعنا غفرانك ربنا واليك المصير) فقال الله (لا يكلف الله نفسا الا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) فقلت: (ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو اخطانا) فقال الله لا اؤاخذك، فقلت (ربنا ولا تحمل علينا اصرا كما حملته على الذين من قبلنا) فقال الله: لا احملك فقلت: (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا انت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) فقال الله تبارك وتعالى: قد اعطيتك ذلك لك ولامتك، فقال الصادق عليه السلام ما وفد إلى الله تعالى احد اكرم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين سال لامته هذه الخصال. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رب اعطيت انبياءك فضائل فاعطني فقال الله: قد اعطيتك فيما اعطيتك كلمتين من تحت عرشى: لا حول ولا قوة الا بالله، ولا منجا منك الا اليك. قال: وعلمتني الملائكة قولا اقوله إذا اصبحت وامسيت: اللهم ان ظلمي اصبح مستجيرا بعفوك، وذنبي اصبح مستجيرا بمغفرتك وذلى اصبح مستجيرا بعزتك، وفقرى اصبح مستجيرا بغناك ووجهى الفاني اصبح مستجيرا بوجهك الباقي الذى لا يفنى، واقول ذلك إذا امسيت. ثم سمعت الاذان فإذا ملك يؤذن لم ير في السماء قبل تلك الليلة فقال: الله اكبر الله اكبر فقال الله: صدق عبدى انا اكبر من كل شئ فقال: (اشهد ان لا اله الا الله اشهد ان لا اله الا الله) فقال الله: صدق عبدى انا الله لا اله الا انا ولا اله غيرى فقال: (اشهد ان محمدا رسول الله اشهد ان محمدا رسول الله) فقال الله: صدق عبدى ان محمدا عبدى ورسولي انا بعثته وانتجبته فقال: (حى على الصلاة حى على الصلاة) فقال: صدق عبدى دعا إلى فريضتي فمن مشى إليها راغبا فيها محتسبا كانت له كفارة لما مضى من ذنوبه فقال: (حى على الفلاح حى على الفلاح) فقال الله: هي الصلاح والنجاح والفلاح. ثم اممت الملائكة في السماء كما اممت الانبياء في بيت المقدس. قال: ثم غشيتني ضبابة فخررت ساجدا فناداني ربى انى قد فرضت على كل نبى

[ 16 ]

كان قبلك خمسين صلاة وفرضتها عليك وعلى امتك فقم بها انت في امتك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فانحدرت حتى مررت على ابراهيم فلم يسالنى عن شئ حتى انتهيت إلى موسى فقال: ما صنعت يا محمد ؟ فقلت: قال ربى: فرضت على كل نبى كان قبلك خمسين صلاة وفرضتها عليك وعلى امتك: فقال موسى: يا محمد ان امتك آخرالامم واضعفها وان ربك لا يزيده شئ وان امتك لا تستطيع ان تقوم بها فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لامتك. فرجعت إلى ربى حتى انتهيت إلى سدرة المنتهى فخررت ساجدا ثم قلت: فرضت على وعلى امتى خمسين صلاة ولا اطيق ذلك ولا امتى فخفف عنى فوضع عنى عشرا فرجعت إلى موسى فاخبرته فقال: ارجع لا تطيق فرجعت إلى ربى فوضع عنى عشرا فرجعت إلى موسى فاخبرته فقال ارجع وفي كل رجعة ارجع إليه اخر ساجدا حتى رجع إلى عشر صلوات فرجعت إلى موسى واخبرته فقال: لا تطيق فرجعت إلى ربى فوضع عنى خمسا فرجعت إلى موسى واخبرته فقال: لا تطيق فقلت: قد استحيت من ربى ولكن اصبر عليها فناداني مناد: كما صبرت عليها فهذه الخمس بخمسين كل صلاة بعشر، ومن هم من امتك بحسنة يعملها فعملها كتبت له عشرا وان لم يعمل كتبت له واحدة، ومن هم من امتك بسيئة فعملها كتبت عليه واحدة وان لم يعملها لم اكتب عليه. فقال الصادق عليه السلام: جزى الله موسى عن هذه الامة خيرا فهذا تفسير قول الله: (سبحان الذى اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذى باركنا حوله لنريه من آياتنا انه هو السميع البصير). اقول: وقد ورد ما يقرب مما قصته هذه الرواية في روايات كثيرة جدا من طرق الشيعة واهل السنة، وقوله في الرواية (رجلا آدما) يقال: رجل آدم أي اسمر اللون، والطامة هي الامر الشديد الذى يغلب ما سواه، ولذلك سميت القيامة بالطامة، والاكتاف جمع كتف والمراد الاطراف والنواحى، وقوله: (فوقع في نفس رسول الله انه هو) أي انه الملك الذى يدبر امر العالم وينتهى إليه كل امر. وقوله: شنوة بالشين والنون والواو وربما يهمز قبيلة كانوا معروفين بطول القامة،

[ 17 ]

وقوله: (اشمط الراس واللحية) الشمط بياض الشعر يخالطه سواد، والزغب اول ما يبدو من الشعر والريش وصغارهما، والبخت الابل الخراساني والدلى بضم الدال وكسر اللام وتشديد الياء جمع دلو على فعول، والصبابه بفتح الصاد المهملة والباء الموحدة الشوق والهوى الرقيق وبالمعجمة مضمومة الغيم الرقيق. وفي امالي الصدوق عن ابيه عن على عن ابيه عن ابن ابى عمير عن ابان بن عثمان عن ابى عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال: لما اسرى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت المقدس حمله جبرئيل على البراق فاتيا بيت المقدس وعرض عليه محاريب الانبياء وصلى بها ورده فمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رجوعه بعير لقريش وإذا لهم ماء في آنية وقد اضلوا بعيرا لهم وكانوا يطلبونه فشرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك الماء واهرق باقيه. فلما اصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لقريش: ان الله جل جلاله قد اسرى بى الى بيت المقدس واراني آثار الانبياء ومنازلهم، وانى مررت بعير لقريش في موضع كذا وكذا وقد اضلوا بعيرا لهم فشربت من مائهم واهرقت باقى ذلك فقال أبو جهل: قد امكنتكم الفرصة منه فاسألوه كم الاساطين فيها والقناديل ؟ فقالوا: يا محمد ان هاهنا من قد دخل بيت المقدس فصف لنا كم اساطينه وقناديله ومحاريبه ؟ فجاء جبرئيل فعلق صورة بيت المقدس تجاه وجهه فجعل يخبرهم بما يسالونه عنه فلما اخبرهم، قالو: حتى يجئ العير ونسالهم عما قلت، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تصديق ذلك ان العير يطلع عليكم مع طلوع الشمس يقدمها جمل اورق. فلما كان من الغد اقبلوا ينظرون إلى العقبة ويقولون هذه الشمس تطلع الساعة فبينما هم كذلك إذ طلعت عليهم العير حين طلع القرص يقدمها جمل اورق فسألوهم عما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: لقد كان هذا: ضل جمل لنافى موضع كذا وكذا، ووضعنا ماء فاصبحنا وقد اهريق الماء فلم يزدهم ذلك الا عتوا. اقول: وفى معناها روايات اخرى من طرق الفريقين. وفيه باسناده عن عبد الله بن عباس قال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما اسرى به إلى السماء انتهى به جبرئيل إلى نهر يقال له النور وهو قوله عزوجل: (جعل الظلمات

[ 18 ]

والنور) فلما انتهى به إلى ذلك قال له جبرئيل: يا محمد اعبر على بركة الله فقد نور الله لك بصرك ومر لك امامك فان هذا نهر لم يعبره احد لا ملك مقرب ولا نبى مرسل غير ان لى في كل يوم اغتماسة فيه ثم اخرج منه فانفض اجنحتي فليس من قطرة تقطر من اجنحتي الا خلق الله تبارك وتعالى منها ملكا مقربا له عشرون الف وجه واربعون الف لسان كل لسان يلفظ بلغة لا يفقهها اللسان الاخر. فعبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتهى إلى الحجب والحجب خمس مائة حجاب من الحجاب إلى الحجاب مسيرة خمسمائة عام ثم قال: تقدم يا محمد فقال له: يا جبرئيل ولم لا تكون معى ؟ قال: ليس لى ان اجوز هذا المكان فتقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما شاء الله ان يتقدم حتى سمع ما قال الرب تبارك وتعالى: انا المحمود وانت محمد شققت اسمك من اسمى فمن وصلك وصلته ومن قطعك بتكته انزل إلى عبادي فاخبرهم بكرامتي اياك وانى لم ابعث نبيا الا جعلت له وزيرا وانك رسولي وان عليا وزيرك. وفي المناقب عن ابن عباس في خبر: وسمع يعنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صوتا (آمنا برب العالمين) قال يعنى جبرئيل: هؤلاء سحرة فرعون، وسمع لبيك اللهم لبيك قال: هؤلاء الحجاج، وسمع التكبير قال: هؤلاء الغزاة، وسمع التسبيح قال: هؤلاء الانبياء. فلما بلغ إلى سدرة المنتهى وانتهى إلى الحجب، قال جبرئيل: تقدم يا رسول الله ليس لى ان اجوز هذا المكان ولو دنوت انملة لاحترقت. وفي الاحتجاج عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما احتج على اليهود: حملت على جناح جبرئيل حتى انتهيت إلى السماء السابعة فجاوزت سدرة المنتهى عندها جنة الماوى حتى تعلقت بساق العرش فنوديت من ساق العرش: انى انا الله لا اله الا انا السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الرؤف الرحيم فرأيته بقلبي وما رايته بعينى. الخبر. وفي الكافي باسناده عن ابى الربيع قال: حججنا مع ابى جعفر عليه السلام في السنة التى كان حج فيها هشام بن عبد الملك وكان معه نافع مولى عمر بن الخطاب فنظر نافع إلى ابى جعفر عليه السلام في ركن البيت وقد اجتمع إليه الناس فقال نافع: يا امير المؤمنين من هذا الذى قد تداك عليه الناس ؟ فقال: هذا نبى اهل الكوفة هذا محمد بن على

[ 19 ]

فقال: اشهد لاتينه فلا سالنه من مسائل لا يجيبنى فيها الا نبى أو وصى أو ابن نبى. قال: فاذهب إليه واساله لعلك تخجله. فجاء نافع حتى اتكى على الناس ثم اشرف على ابى جعفر عليه السلام وقال: يا محمد بن على انى قرات التوراة والانجيل والزبور والفرقان وقد عرفت حلالها وحرامها، وقد جئت اسالك عن مسائل لا يجيب فيها الا نبى أو وصى نبى أو ابن نبى. قال: فرفع أبو جعفر عليه السلام راسه وقال: سل عما بدا لك. فقال: اخبرني كم بين عيسى وبين محمد من سنة ؟ قال: اخبرك بقولى أو بقولك قال: اخبرني بالقولين جميعا قال: اما في قولى فخمسمائة سنة، واما في قولك فستمائة سنة، قال فاخبرني عن قول الله عزوجل: (واسال من ارسلنا من قبلك من رسلنا ا جعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون) من الذى ساله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكان بينه وبين عيسى عليه السلام خمسمائة سنة ؟. قال: فتلا أبو جعفر عليه السلام هذه الاية: (سبحان الذى اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذى باركنا حوله لنريه من آياتنا) فكان من الايات التى اراها الله تبارك وتعالى محمدا صلى الله عليه وآله وسلم حيث اسرى به إلى البيت المقدس ان حشر الله الاولين والاخرين من النبيين المرسلين ثم امر جبرئيل فاذن شفعا واقام شفعا، وقال في اذانه حى على خير العمل ثم تقدم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فصلى بالقوم. فلما انصرف قال لهم: على ما تشهدون ؟ ما كنتم تعبدون ؟ قالوا نشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له وانك رسول الله اخذ على ذلك عهودنا ومواثيقنا. فقال: نافع: صدقت يا ابا جعفر. وفي العلل باسناد عن ثابت بن دينار قال: سالت زين العابدين على بن الحسين عليه السلام عن الله جل جلاله هل يوصف بمكان ؟ فقال: تعالى الله عن ذلك. قلت: فلم اسرى بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء ؟ قال: ليريه ملكوت السماوات وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه. قلت: فقول الله عزوجل: (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو ادنى) قال: ذاك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دنا من حجب النور فراى ملكوت السماوات ثم تدلى فنظر من

[ 20 ]

تحته إلى ملكوت الارض حتى ظن انه في القرب من الارض كقاب قوسين أو ادنى. وفي تفسير القمى باسناده عن اسماعيل الجعفي قال: كنت في المسجد الحرام قاعدا وابو جعفر عليه السلام في ناحية فرفع راسه فنظر إلى السماء مرة وإلى الكعبة مرة ثم قال: (سبحان الذى اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى) وكرر ذلك ثلاث مرات ثم التفت إلى فقال: أي شئ يقولون اهل العراق في هذه الاية يا عراقى ؟ قلت: يقولون اسرى به من المسجد الحرام إلى البيت المقدس. فقال: ليس هو كما يقولون ولكنه اسرى به من هذه إلى هذه واشار بيده إلى السماء وقال: ما بينهما حرم. قال: فلما انتهى به إلى سدرة المنتهى تخلف عنه جبرئيل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبرئيل افي مثل هذا الموضع تخذلني ؟ فقال: تقدم امامك فو الله لقد بلغت مبلغا لم يبلغه خلق من خلق الله قبلك فرايت ربى وحال بينى وبينه السبحة قلت: وما السبحة جعلت فداك ؟ فاوما بوجهه إلى الارض واو ما بيده إلى السماء وهو يقول: جلال ربى جلال ربى، ثلاث مرات. قال: يا محمد قلت: لبيك يا رب قال: فيم اختصم الملا الاعلى ؟ قلت سبحانك لا علم لى الا ما علمتني. قال فوضع يده بين ثديى فوجدت بردها بين كتفي. قال: فلم يسالنى عما مضى ولا عما بقى الا علمته فقال: يا محمد فيم اختصم الملا الاعلى ؟ قال: قلت: في الدرجات والكفارات والحسنات فقال: يا محمد انه قد انقضت نبوتك وانقطع اكلك فمن وصيك ؟ فقلت: يا رب انى قد بلوت خلقك فلم ار فيهم من خلقك احدا اطوع لى من على فقال: ولى يا محمد فقلت: يا رب انى قد بلوت خلقك فلم ار من خلقك احدا اشد حبا لى من على بن ابى طالب قال: ولى يا محمد فبشره بانه آية الهدى وامام اوليائي ونور لمن اطاعني والكلمة الباقية التى الزمتها المتقين من احبه احبني ومن ابغضه ابغضنى معما انى اخصه بما لم اخص به احدا فقلت: يا رب اخى وصاحبى ووزيرى ووارثى فقال: انه امر قد سبق انه مبتلى ومبتلى به معما انى قد نحلته ونحلته ونحلته ونحلته اربعة اشياء عقدها بيده ولا يفصح بما عقدها. اقول: قوله عليه السلام: (ولكنه اسرى به من هذه إلى هذه) أي من الكعبة إلى البيت المعمور، وليس المراد به نفى الاسراء إلى بيت المقدس ولا تفسير المسجد

[ 21 ]

الاقصى في الاية بالبيت المعمور بل المراد نفى ان ينتهى الاسراء إلى بيت المقدس ولا يتجاوزه فقد استفاضت الروايات بتفسير المسجد الاقصى ببيت المقدس. وقوله: صلى الله عليه وآله وسلم: (فرايت ربى) أي شاهدته بعين قلبى كما تقدم في بعض الروايات السابقة ويؤيده تفسير الرؤية بذلك في روايات اخر. وقوله: (وحالت بينى وبينه السبحة) أي بلغت من القرب والزلفى مبلغا لم يبق بينى وبينه الا جلاله وقوله: فوضع يده بين ثديى (الخ) كناية عن الرحمة الالهية، ومحصله نزول العلم من لدنه تعالى على قلبه بحيث يزيل كل ريب وشك. وفي الدر المنثور اخرج ابن ابى شيبة ومسلم وابن مردويه من طريق ثابت عن انس ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: اتيت بالبراق وهو دابة ابيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه فركبته حتى اتيت بيت المقدس فربطته بالحلقه التى يربط بها الانبياء ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين. ثم خرجت فجاءني جبريل باناء من خمر واناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل: اخترت الفطرة، ثم عرج بنا إلى سماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل: من انت ؟ قال: جبريل قيل: ومن معك ؟ قال: محمد قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا انا بادم فرحب بى ودعا لى بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل: من انت ؟ قال جبريل قيل: ومن معك ؟ قال: محمد قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا انا بابنى الخالة عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا فرحبا بى ودعوا لى بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل: من انت ؟ قال: جبريل قيل: ومن معك ؟ قال محمد، قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا انا بيوسف وإذا هو قد اعطى شطرالحسن فرحب بى ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا ؟ قال: جبريل قيل: ومن معك ؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه: قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا انا بادريس فرحب بى ودعا لى بخير.

[ 22 ]

ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا ؟ قال: جبريل قيل ومن معك، قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا انا بهارون فرحب بى ودعا لى بخير. ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا ؟ قال: جبريل قيل: ومن معك ؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا انا بموسى فرحب بى ودعا لى بخير. ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا ؟ قال: جبريل قيل: ومن معك ؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا انا بابراهيم مسند ظهره إلى البيت المعمور وإذا يدخله كل يوم سبعون الف ملك لا يعودون إليه. ثم ذهب بى إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها فيها كاذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال فلما غشيها من امر الله ما غشى تغيرت فما احد من خلق الله يستطيع ان ينعتا من حسنها فأوحى إلى ما اوحى وفرض على خمسين صلاة في كل يوم وليلة فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فقال: ما فرض ربك على امتك ؟ قلت: خمسين صلاة قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فان امتك لا تطيق ذلك فانى قد بلوت بنى اسرائيل وخبرتهم. فرجعت إلى ربى فقلت: يا رب خفف عن امتى فحط عنى خمسا فرجعت إلى موسى فقلت: حط عنى خمسا فقال: ان امتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف قال: فلم ازل ارجع بين ربى وموسى حتى قال: يا محمد انهن خمس صلوات لكل يوم وليلة لكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة، ومن هم بحسنه فلم يعملها كتبت له حسنة فان عملها كتبت له عشرا، ومن هم بسيئه فلم يعملها لم يكتب شيئا فان عملها كتبت سيئة واحدة فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فاخبرته فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فقلت: قد رجعت إلى ربى حتى استحيت منه. اقول: وقد روى الخبر عن انس بطرق مختلفة منها ما عن البخاري ومسلم وابن جرير وابن مردويه من طريق شريك بن عبد الله بن ابى نمر عن انس قال: ليلة اسرى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مسجد الكعبة جاءه ثلاثة نفر قبل ان يوحى إليه وهو نائم في

[ 23 ]

المسجد الحرام فقال اولهم: ايهم هو ؟ فقال اوسطهم: هو خيرهم فقال احدهم خذوا خيرهم فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى اتوه ليلة اخرى فيما يرى قلبه وتنام عيناه ولا ينام قلبه وكذلك الانبياء تنام اعينهم ولا ينام قلوبهم فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم فتولاه منهم جبريل فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى انقى جوفه ثم اتى بطست من ذهب محشوا ايمانا وحكمة فحشا به صدره ولغا ديده يعنى عروق حلقه ثم اطبقه ثم عرج به إلى سماء الدنيا ثم ساق الحديث نحوا مما تقدم. والذى وقع فيه من شق بطن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغسله وانقائه ثم حشوه ايمانا وحكمة حال مثالية شاهدها وليس بالامر المادى كما ربما يزعم، ويشهد به حشوه ايمانا وحكمة واخبار المعراج مملوءة من المشاهدات المثالية والتمثلات الروحية وقد ورد هذا المعنى في عدة من اخبار المعراج المروية من طرق القوم ولا ضير فيه كما لا يخفى. وظاهر الرواية ان معراجه صلى الله عليه وآله وسلم كان قبل البعثة وانه كان في المنام اما كونه قبل البعثة فيدفعه معظم الروايات الواردة في الاسراء وهى اكثر من ان تحصى وقد اتفق على ذلك علماء هذا الشان. على ان الحديث نفسه يدفع كون الاسراء قبل البعثة وقد اشتمل على فرض الصلوات وكونها اولا خمسين ثم سؤال التخفيف باشارة من موسى عليه السلام ولا معنى للفرض قبل النبوة فمن الحرى ان يحمل صدر الحديث على ان الملائكة اتوه اولا قبل ان يوحى إليه ثم تركوه ثم جاؤه ليلة اخرى بعد بعثته وقد ورد في بعض رواياتنا ان الذين كانوا نائمين معه في المسجد ليلة اسرى به هم حمزة بن عبد المطلب وجعفر وعلى ابنا ابى طالب. واما ما وقع فيه من كون ذلك في المنام فيمكن - على بعد - ان يكون ناظرا إلى ما ذكر فيه من حديث الشق والغسل لكن الاظهر ان المراد به وقوع الاسراء بجملته في المنام كما يدل عليه ما ياتي من الروايات. وفي الدر المنثور ايضا اخرج ابن اسحاق وابن جرير عن معاوية بن ابى سفيان انه كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كانت رؤيا من الله صادقه.

[ 24 ]

اقول: وظاهر الاية الكريمة (سبحان الذى اسرى بعبده - إلى قوله - لنريه من آياتنا) يرده، وكذا آيات صدر سورة النجم وفيها مثل قوله: (ما زاغ البصر وما طغى لقد راى من آيات ربه الكبرى) على ان الايات في سياق الامتنان وفيها ثناء على الله سبحانه بذكر بديع رحمته وعجيب قدرته، ومن الضرورى ان ذلك لا يتم برؤيا يراها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والرؤيا يراها الصالح والطالح وربما يرى الفاسق الفاجر ما هو ابدع مما يراه المؤمن المتقى والرؤيا لا تعد عند عامة الناس الا نوعا من التخيل لا يستدل به على شئ من القدرة والسلطنة بل غاية ما فيها ان يتفاءل بها فيرجى خيرها أو يتطير بها فيخاف شرها. وفيه اخرج ابن اسحاق وابن جرير عن عائشة قالت: ما فقدت جسد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الله اسرى بروحه. اقول: ويرد عليه ما ورد على سابقه على انه يكفى في سقوط الرواية اتفاق كلمة الرواة وارباب السير على ان الاسراء كان قبل الهجرة بزمان وانه صلى الله عليه وآله وسلم بنى بعائشة في المدينة بعد الهجرة بزمان لم يختلف في ذلك اثنان والاية ايضا صريحة في اسرائه صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد الحرام. وفيه اخرج الترمذي وحسنه والطبراني وابن مردويه عن ابن مسعود: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لقيت ابراهيم ليلة اسرى بى فقال: يا محمد اقرا امتك منى السلام واخبرهم ان الجنة طيبة التربة عذبة الماء وانها قيعان وان غراسها سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر ولا حول ولا قوة الا بالله. وفيه اخرج الطبراني عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما اسرى بى إلى السماء ادخلت الجنة فوقعت على شجرة من اشجار الجنة لم ار في الجنة احسن منها ولا ابيض ورقا ولا اطيب ثمرة فتناولت ثمرة من ثمرها فاكلتها فصارت نطفة في صلبى فلما هبطت إلى الارض واقعت خديجة فحملت بفاطمة فإذا انا اشتقت إلى ريح الجنة شممت ريح فاطمة وفي تفسير القمى عن ابيه عن ابن محبوب عن ابن رئاب عن ابى عبيدة عن الصادق عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر تقبيل فاطمة فانكرت ذلك عائشة فقال

[ 25 ]

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عائشة انى لما اسرى بى الى السماء دخلت الجنة فادنانى جبرئيل من شجرة طوبى وناولني من ثمارها فاكلته فحول الله ذلك ماء في ظهرى فلما هبطت إلى الارض واقعت خديجة فحملت بفاطمة فما قبلتها قط الا وجدت رائحة شجرة طوبى منها. وفي الدر المنثور اخرج الطبراني في الاوسط عن ابن عمران النبي صلى الله عليه وسلم لما اسرى به إلى السماء اوحى إليه بالاذان فنزل به فعلمه جبريل. وفيه اخرج ابن مردويه عن على ان النبي صلى الله عليه وسلم علم الاذان ليلة اسرى به وفرضت عليه الصلاة. وفي العلل باسناده عن اسحاق بن عمار قال: سالت ابا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام كيف صارت الصلاة ركعة وسجدتين ؟ وكيف إذا صارت سجدتين لم تكن ركعتين ؟ فقال: إذا سالت عن شئ ففرغ قلبك لتفهم. ان اول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انما صلاها في السماء بين يدى الله تبارك وتعالى قدام عرشه جل جلاله. وذلك انه لما اسرى به وصار عند عرشه تبارك وتعالى قال: يا محمد ادن من صاد فاغسل مساجدك وطهرها وصل لربك فدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حيث امره الله تبارك وتعالى فتوضأ فاسبغ وضوءه ثم استقبل الجبار تبارك وتعالى قائما فأمره بافتتاح الصلاة ففعل. فقال: يا محمد اقرا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين إلى آخرها ففعل ذلك ثم امره ان يقرا نسبة ربه تبارك وتعالى بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله احد الله الصمد ثم امسك عنه القول فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قل هو الله احد الله الصمد فقال: قل: لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد فامسك عنه القول فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كذلك الله ربى كذلك الله ربى. فلما قال ذلك قال: اركع يا محمد لربك فركع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له وهو راكع: قل سبحان ربى العظيم وبحمده ففعل ذلك ثلاثا ثم قال: ارفع راسك يا محمد ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام منتصبا بين يدى الله فقال: اسجد يا محمد لربك

[ 26 ]

فخر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساجدا فقال: قل: سبحان ربى الاعلى وبحمده ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثا فقال: استو جالسا يا محمد ففعل فلما استوى جالسا ذكر جلال ربه جل جلاله فخر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساجدا من تلقاء نفسه لا لامر امره ربه عزوجل فسبح ايضا ثلاثا فقال: انتصب قائما ففعل فلم يرى ما كان راى من عظمة ربه جل جلاله. فقال له: اقرء يا محمد وافعل كما فعلت في الركعة الاولى ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم سجد سجدة واحدة فلما رفع راسه ذكر جلال ربه تبارك وتعالى فخر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساجدا من تلقاء نفسه لا لامر امره ربه عزوجل فسبح ايضا ثم قال له: ارفع راسك ثبتك الله واشهد ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله وان الساعة آتية لا ريب فيها وان الله يبعث من في القبور اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت وباركت وترحمت على ابراهيم وآل ابراهيم انك حميد مجيد اللهم تقبل شفاعته في امته وارفع درجته ففعل. فقال: يا محمد واستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه تبارك وتعالى وجهه مطرقا فقال: السلام عليك فاجابه الجبار جل جلاله فقال: وعليك السلام يا محمد بنعمتي قويتك على طاعتي وبعصمتي اتخذتك نبيا وحبيبا. ثم قال أبو الحسن: عليه السلام وانما كانت الصلاة التى امر بها ركعتين وسجدتين وهو صلى الله عليه وآله وسلم انما سجد سجدتين في كل ركعة كما اخبرتك من تذكره لعظمة ربه تبارك وتعالى فجعله الله عزوجل فرضا. قلت: جعلت فداك وما صاد الذى امر ان يغتسل منه ؟ فقال: عين تنفجر من ركن من اركان العرش يقال له: ماء الحياة وهو ما قال الله عزوجل: (ص والقرآن ذى الذكر) انما امره ان يتوضا و يقرء ويصلى. اقول: وفي معناه روايات اخر. وفي الكافي باسناده عن على بن ابى حمزة قال: سال أبو بصير ابا عبد الله عليه السلام وانا حاضر فقال: جعلت فداك كم عرج برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقال: مرتين فاوقفه جبرئيل موقفا فقال له: مكانك يا محمد فلقد وقفت موقفا ما وقفه ملك قط ولا نبى

[ 27 ]

ان ربك يصلى فقال: يا جبرئيل وكيف يصلى ؟ فقال: يقول: سبوح قدوس انا رب الملائكة والروح سبقت رحمتى غضبى فقال: اللهم عفوك عفوك. قال: وكان كما قال الله: قاب قوسين أو ادنى فقال له أبو بصير: جعلت فداك وما قاب قوسين أو ادنى ؟ قال: ما بين سيتها إلى راسها فقال: بينهما حجاب يتلالا ولا اعلمه الا وقد قال: من زبرجد فنظر في مثل سم الابرة إلى ما شاء الله من نور العظمة. الحديث. اقول وآيات صدر سوره النجم تؤيد ما في الرواية من وقوع المعراج مرتين ثم الاعتبار يساعد على ما في الرواية من صلاته تعالى فان الاصل في معنى الصلاة الميل والانعطاف، وهو من الله سبحانه الرحمة ومن العبد الدعاء كما قيل، واشتمال ما اخبر به جبرئيل من صلاته تعالى على قوله: (سبقت رحمتى غضبى) يؤيد ما ذكرناه ولذلك ايضا اوقفه جبرئيل في الموقف الذى اوقفه وذكر له انه موطا ما وطئه احد قبله وذلك ان لازم ما وصفه بهذا الوصف ان يكون الموقف هو الحد الفاصل بين الخلق والخالق وآخر ما ينتهى إليه الانسان من الكمال فهو الحد الذى يظهر فيه الرحمة الالهية وتفاض على ما دونه ولهذا اوقف صلى الله عليه وآله وسلم لمشاهدته. وفي المجمع - وهو ملخص من الروايات - ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اتانى جبرائيل وانا بمكه فقال: قم يا محمد فقمت معه وخرجت إلى الباب فإذا جبرائيل ومعه ميكائيل واسرافيل فاتى جبرائيل بالبراق وكان فوق الحمار ودون البغل خده كخد الانسان وذنبه كذنب البقر وعرفه كعرف الفرس وقوائمه كقوائم الابل عليه رحل من الجنة وله جناحان من فخذيه خطوه منتهى طرفه فقال: اركب فركبت ومضيت حتى انتهيت إلى بيت المقدس ثم ساق الحديث إلى ان قال: فلما انتهيت إلى بيت المقدس إذا ملائكه نزلت من السماء بالبشارة والكرامة من عند رب العزة وصليت في بيت المقدس، وفي بعضها - بشر لى ابراهيم - في رهط من الانبياء ثم وصف موسى وعيسى ثم اخذ جبرائيل بيدى إلى الصخرة فاقعدني عليها فإذا معراج إلى السماء لم ار مثلها حسنا وجمالا. فصعدت إلى السماء الدنيا ورايت عجائبها وملكوتها وملائكتها يسلمون على ثم صعد بى جبرائيل إلى السماء الثانية فرايت فيها عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا. ثم

[ 28 ]

صعد بى إلى السماء الثالثة فرايت فيها يوسف. ثم صعد بى إلى السماء الرابعة فرايت فيها ادريس. ثم صعد بى إلى السماء الخامسة فرايت فيها هارون ثم صعد بى إلى السماء السادسة فإذا فيها خلق كثير يموج بعضهم في بعض وفيها الكروبيون ثم صعد بى إلى السماء السابعة فابصرت فيها خلقا وملائكة - وفي حديث ابى هريره رايت في السماء السادسة موسى، ورايت في السماء السابعة ابراهيم. قال: ثم جاوزناها متصاعدين إلى اعلى عليين - ووصف ذلك إلى ان قال - ثم كلمني ربى وكلمته، ورايت الجنة والنار، ورايت العرش وسدرة المنتهى ثم رجعت إلى مكة فلما اصبحت حدثت به الناس فكذبني أبو جهل والمشركون وقال مطعم بن عدى: اتزعم انك سرت مسيرة شهرين في ساعة ؟ اشهد انك كاذب. قالوا: ثم قالت قريش، اخبرنا عما رايت فقال: مررت بعير بنى فلان وقد اضلوا بعيرا لهم وهم في طلبه وفي رحلهم قعب (1) مملوء من ماء فشربت الماء ثم غطيته فاسألوهم هل وجدوا الماء في القدح ؟ قالوا: هذه آية واحدة. قال: ومررت بعير بنى فلان فنفرت بكرة فلان فانكسرت يدها فاسألوهم عن ذلك فقالوا: هذه آية اخرى قالوا: فاخبرنا عن عيرنا قال: مررت بها بالتنعيم وبين لهم احمالها وهياتها وقال: يقدمها جمل اورق عليه فزارتان محيطتان وتطلع عليكم عند طلوع الشمس قالوا: هذه آية اخرى. ثم خرجوا يشتدون نحو التيه وهم يقولون: لقد قضى محمد بيننا وبينه قضاء بينا، وجلسوا ينتظرون متى تطلع الشمس فيكذبوه ؟ فقال قائل: والله ان الشمس قد طلعت، وقال آخر: والله هذه الابل قد طلعت يقدمها بعير اورق فبهتوا ولم يؤمنوا. وفي تفسير العياشي عن هشام بن الحكم عن ابى عبد الله عليه السلام قال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى العشاء الاخرة وصلى الفجر في الليلة التى اسرى به بمكة. اقول: وفي بعض الاخبار انه صلى الله عليه وآله وسلم صلى المغرب بالمسجد الحرام ثم اسرى به ولا منافاة بين الروايتين وكذا لا منافاة بين كونه صلى المغرب أو العشاء الاخرة والفجر

[ 29 ]

بمكة وبين كون الصلوات الخمس فرضت عليه في السماء ليلة الاسراء فان فرض اصل الصلاة كان قبل ذلك، واما انها كم ركعة كانت فغير معلوم غير ان الاثار تدل على انه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقيم الصلاة منذ بعثه الله نبيا وفى سورة العلق: (ارايت الذى ينهى عبدا إذا صلى) وقد روى انه صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلى بعلى وخديجة عليه السلام بالمسجد الحرام قبل ان يعلن دعوتة بمدة. وفى الكافي عن العامري عن ابى جعفر عليه السلام قال: لما عرج برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نزل بالصلاة عشر ركعات ركعتين ركعتين فلما ولد الحسن والحسين عليه السلام زاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبع ركعات شكرا لله فاجاز الله له ذلك وترك الفجر لم يزد فيها لانه يحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار فلما امر الله بالتقصير في السفر وضع عن امته ست ركعات وترك المغرب لم ينقص منه شيئا، وانما يجب السهو فيما زاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمن شك في اصل الفرض في الركعتين الاوليين استقبل صلاته. وروى الصدوق في الفقيه باسناده عن سعيد بن المسيب انه سال على بن الحسين عليه السلام فقال: متى فرضت الصلاة على المسلمين على ما هي اليوم عليه ؟ فقال: بالمدينة حين ظهرت الدعوة وقوى الاسلام وكتب الله على المسلمين الجهاد زاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة سبع ركعات في الظهر ركعتين وفي العصر ركعتين وفي المغرب ركعة وفي العشاء الاخرة ركعتين، واقر الفجر على ما فرضت بمكة. الحديث. وفي الدر المنثور اخرج احمد والنسائي والبزاز والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما اسرى بى مرت بى رائحة طيبة فقلت: يا جبرئيل ما هذه الرائحة الطيبة ؟ قال: ما شطة بيت فرعون واولادها كانت تمشطها فسقط المشط من يدها فقالت: بسم الله فقالت ابنة فرعون: ابى ؟ قالت: بلى ربى وربك ورب ابيك قالت: اولك رب غير ابى ؟ قالت: نعم قالت: فاخبر بذلك ابى ؟ قالت: نعم. فاخبرته فدعاها فقال: الك رب غيرى ؟ قالت: نعم ربى وربك الله الذى في السماء فامر ببقرة من محاس فاحميت ثم امر بها لتلقى فيها واولادها. قالت: ان لى اليك حاجة قال: وما هي ؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدى فتدفنه جميعا. قال:

[ 30 ]

ذلك لك لما لك علينا من حق فالقوا واحدا واحدا حتى بلغ رضيعا فيهم قال: نعى يا امه ولا تقاعسي فانك على الحق فالقيت هي وولدها. قال ابن عباس: وتكلم اربعة وهم صغار: هذا وشاهد يوسف وصاحب جريح وعيسى بن مريم. اقول: وروى من وجه آخر عن ابن عباس عن ابى بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه اخرج ابن مردويه عن انس ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ليلة اسرى بى مررت بناس يقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت عادت كما كانت فقلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء خطباء امتك الذين يقولون ما لا يفعلون اقول: وهذا النوع من التمثلات البرزخية التى تصور الاعمال بنتائجها والعذابات المعدة لها كثيرة الورود في اخبار الاسراء وقد تقدم شطر منها في ضمن الروايات. واعلم ان ما اوردناه من اخبار الاسراء نبذة يسيرة منها وهى كثيرة بالغة حد التواتر رواها جم غفير من الصحابة كانس بن مالك وشداد بن الاوس وعلى بن ابى طالب عليه السلام وابو سعيد الخدرى وابو هريرة وعبد الله بن مسعود وعمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وابى بن كعب وسمرة بن جندب وبريدة وصهيب بن سنان وحذيفة بن اليمان وسهل بن سعد وابو ايوب الانصاري وجابر بن عبد الله وابو الحمراء وابو الدرداء وعروة وام هاني وام سلمة وعائشة واسماء بنت ابى بكر كلهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وروتها جماعة كثيرة من رواة الشيعة عن ائمة اهل البيت عليه السلام. وقد اتفقت اقوال من يعتنى بقوله من علماء الاسلام على ان الاسراء كان بمكة قبل الهجرة كما يستفاد من قوله تعالى: (سبحان الذى اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام) الاية، ويدل عليه ما اشتملت عليه كثير من الروايات من اخباره صلى الله عليه وآله وسلم قريشا بذلك صبيحة ليلته وانكارهم ذلك عليه واخباره اياهم باساطين المسجد الاقصى وما لقيه في الطريق من العير وغير ذلك. ثم اختلفوا في السنة التى اسرى به صلى الله عليه وآله وسلم فيها فقيل: في السنة الثانية من البعثة كما

[ 31 ]

عن ابن عباس، وقيل في السنة الثالثة منها كما في الخرائج عن على عليه السلام. وقيل في السنة الخامسة أو السادسة، وقيل بعد البعثة بعشر سنين وثلاثة اشهر، وقيل في السنة الثانية عشرة منها، وقيل: قبل الهجرة بسنة وخمسة اشهر، وقيل: قبلها بسنة وثلاثة اشهر، وقيل: قبلها بستة اشهر. ولا يهمنا الغور في البحث عن ذلك ولا عن الشهر واليوم الذى وقع فيه الاسراء ولا مستند يصح التعويل عليه لكن ينبغى ان يتنبه ان من الروايات المأثورة عن ائمة اهل البيت عليه السلام ما يصرح بوقوع الاسراء مرتين وهو المستفاد من آيات سورة النجم حيث يقول سبحانه: (ولقد رآه نزلة اخرى) الايات على ما سيوافيك ان شاء الله من تفسيره. وعلى هذا فمن الجائز ان يكون ما وصفه صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الروايات من عجيب ما شاهده راجعا إلى ما شاهده في الاسراء الاول وبعض ما وصفه في بعض آخر راجعا إلى الاسراء الثاني، وبعضه مما شاهده في الاسراءين معا. ثم اختلفوا في المكان الذى اسرى به صلى الله عليه وآله وسلم منه فقيل: اسرى به من شعب ابى طالب وقيل: اسرى به من بيت ام هاني وفي بعض الروايات دلالة على ذلك وقد اولوا قوله تعالى: (اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام) إلى ان المراد بالمسجد الحرام الحرم كله مجازا فيشمل مكة، وقيل: اسرى به من نفس المسجد الحرام لظهور الاية الكريمة فيه ولا دليل على التأويل. ومن الجائز بالنظر إلى ما نبهنا به من كون الاسراء مرتين ان يكون احد الاسراءين من المسجد الحرام والاخر من بيت ام هاني، واما كونه من الشعب فما ذكر فيما ذكر فيه من الروايات ان ابا طالب كان يطلبه طول ليلته وانه اجتمع هو وبنو هاشم في المسجد الحرام ثم سل سيفه وهدد قريشا ان لم يحصل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم نزوله من السماء ومجيئه إليهم واخباره قريشا بما راى كل ذلك لا يلائم ما كان هو صلى الله عليه واله وسلم وبنو هاشم جميعا عليه من الشدة والبلية ايام كانوا في الشعب. وعلى أي حال فالاسراء الذى تعطيه الايه: (سبحان الذى اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى) وهو الاسراء الذى كان إلى بيت المقدس كان مبدؤه

[ 32 ]

المسجد الحرام لكمال ظهور الاية ولا موجب للتأويل. ثم اختلفوا في كيفية الاسراء فقيل: كان اسراؤه عليه السلام بروحه وجسده من المسجد الحرام إلى بيت المقدس ثم منه إلى السماوات وعليه الاكثر وقيل: كان بروحه وجسده من مكة إلى بيت المقدس ثم بروحه من بيت المقدس إلى السماوات وعليه جمع، وقيل: كان بروحه عليه السلام وهو رؤيا صادقة اراها الله نبيه ونسب إلى بعضهم. قال في المناقب: اختلف الناس في المعراج فالخوارج ينكرونه، وقالت الجهميه: عرج بروحه دون جسمه على طريق الرؤيا، وقالت الامامية والزيدية والمعتزلة: بل عرج بروحه وبجسمه إلى البيت المقدس لقوله تعالى: (إلى المسجد الاقصى) وقال آخرون: بل عرج بروحه وبجسمه إلى السماوات روى ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وجابر وحذيفة وانس وعائشة وام هاني. ونحن لا ننكر ذلك إذا قامت الدلالة وقد جعل الله معراج موسى إلى الطور (وما كنت بجانب الطور) ولابراهيم إلى السماء الدنيا (وكذلك نرى ابراهيم) ولعيسى إلى الرابعة (بل رفعه الله إليه) ولادريس إلى الجنة (ورفعناه مكانا عليا) ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم (فكان قاب قوسين) وذلك لعلو همته. انتهى. والذى ينبغى ان يقال ان اصل الاسراء مما لا سبيل إلى انكاره فقد نص عليه القرآن وتواترت عليه الاخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمه من اهل بيته عليه السلام. واما كيفية الاسراء فظاهر الاية والروايات بما يحتف بها من القرائن ظهورا لا يقبل الدفع انه اسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى بروحه وجسده جميعا واما العروج إلى السماوات فظاهر آيات سورة النجم كما سيأتي ان شاء الله في تفسيرها وصريح الروايات على كثرتها البالغة وقوعه، ولا سبيل إلى انكاره من اصله غير انه من الجائز ان يقال بكونه بروحه لكن لا على النحو الذى يراه القائلون به من كون ذلك من قبيل الاحلام ومن نوع ما يراه النائم من الرؤى، ولو كان كذلك لم يكن لما يدل عليه الايات بسياقها من اظهار المقدرة والكرامة معنى، ولا لذاك الانكار الشديد الذى اظهرته قريش عند ما قص عليه السلام لهم القصة وجه، ولا لما اخبرهم به من حوادث الطريق مفهوم معقول.

[ 33 ]

بل ذلك - ان كان - بعروجه صلى الله عليه وآله وسلم بروحه الشريفة إلى ما وراء هذا العالم المادى مما يسكنه الملائكة المكرمون وينتهى إليه الاعمال ويصدر منه الاقدار وراى عند ذلك من آيات ربه الكبرى وتمثلت له حقائق الاشياء ونتائج الاعمال وشاهد ارواح الانبياء العظام وفاوضهم ولقى الملائكة الكرام وسامرهم، وراى من الايات الالهية ما لا يوصف الا بالامثال كالعرش والحجب والسرادقات. والقوم لذهابهم إلى اصالة الوجود المادى وقصر الوجود غير المادى فيه تعالى لما وجدوا الكتاب والسنة يصفان امورا غير محسوسة بتمثيلها في خواص الاجسام المحسوسة كالملائكة الكرام والعرش والكرسي واللوح والقلم والحجب والسرادقات حملوا ذلك على كونها اجساما مادية لا يتعلق بها الحس ولا يجرى فيها احكام المادة، وحملوا ايضا ما ورد من التمثيلات في مقامات الصالحين ومعارج القرب وبواطن صور المعاصي ونتائج الاعمال وما يناظر ذلك إلى نوع من التشبيه والاستعارة فوقعوا في ورطة السفسطة بتغليط الحس واثبات الروابط الجزافية بين الاعمال ونتائجها وغبر ذلك من المحاذير. ولذلك ايضا لما نفى النافون منهم كون عروجه صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماوات بجسمه المادى اضطروا إلى القول بكونه في المنام وهو عندهم خاصة مادية للروح المادى واضطروا لذلك إلى تأويل الايات والروايات بما لا تلائمه ولا واحدة منها. بحث آخر: قال في مجمع البيان: فاما الموضع الذى اسرى إليه اين كان ؟ فان الاسراء إلى بيت المقدس، وقد نص به القرآن ولا يدفعه مسلم، وما قاله بعضهم: ان ذلك كان في النوم فظاهر البطلان إذ لا معجز يكون فيه ولا برهان. وقد وردت روايات كثيرة في قصة المعراج في عروج نبينا صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء ورواها كثير من الصحابة مثل ابن عباس وابن مسعود وانس وجابر بن عبد الله وحذيفة وعائشة وام هاني وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزاد بعضهم ونقص بعض وتنقسم جملتها إلى اربعه اوجه:

[ 34 ]

احدها: ما يقطع على صحتها لتواتر الاخبار به واحاطة العلم بصحته. وثانيها: ما ورد في ذلك مما يجوزه العقول ولا ياباه الاصول فنحن نجوزه ثم نقطع على ان ذلك كان في يقظته دون منامه. وثالثها: ما يكون ظاهره مخالفا لبعض الاصول الا انه يمكن تأويلها على وجه يوافق المعقول فالاولى تأويله على وجه يوافق الحق والدليل. ورابعها: ما لا يصح ظاهره ولا يمكن تأويله الا على التعسف البعيد فالاولى ان لا نقبله. فاما الاول المقطوع به فهو انه اسرى به على الجملة، واما الثاني فمنه ما روى انه طاف في السماوات وراى الانبياء والعرش وسدرة المنتهى والجنة والنار ونحو ذلك. واما الثالث فنحو ما روى انه راى قوما في الجنة يتنعمون فيها وقوما في النار يعذبون فيها فيحمل على انه راى صفتهم أو اسمائهم، واما الرابع فنحو ما روى انه صلى الله عليه وآله وسلم كلم الله جهرة ورآه وقعد معه على سريره ونحو ذلك مما يوجب ظاهره التشبيه، والله سبحانه متقدس عن ذلك، وكذلك ما روى انه شق بطنه وغسله لانه صلى الله عليه وآله وسلم كان طاهرا مطهرا من كل سوء وعيب وكيف يطهر القلب وما فيه من الاعتقاد بالماء. انتهى. وما ذكره من التقسيم في محله غير ان غالب ما اورده من الامثلة للاقسام منظور فيه فما ذكره من الطواف ورؤية الانبياء ونحو ذلك تمثلات برزخية أو روحية وكذا ما ذكره من حديث شق البطن والغسل تمثل برزخى لا ضير فيه واحاديث الاسراء مملوءة من ذكر هذا النوع من التمثل كتمثل الدنيا في هيئة مراة عليها من كل زينة الدنيا، وتمثل دعوة اليهودية والنصرانية وما شاهده من انواع النعيم والعذاب لاهل الجنة والنار وغير ذلك. ومما يؤيد هذا الذى ذكرناه ما في السنة هذه الاخبار من الاختلاف في بيان حقيقة واحدة كما في بعضها من صعوده صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء بالبراق وفي آخر على جناح جبريل وفي آخر بمعراج منصوب على صخرة بيت المقدس إلى السماء إلى غير ذلك مما يعثر عليه الباحث المتدبر في خلال هذه الروايات. فهذه وامثالها ترشد إلى ان هذه البيانات موضوعة على التمثيل أو التمثل الروحي، ووقوع هذه التمثيلات في ظواهر الكتاب والسنة مما لا سبيل إلى انكاره البتة.

[ 35 ]

وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبنى اسرائيل الا تتخذوا من دوني وكيلا (2). ذريه من حملنا مع نوح انه كان عبدا شكورا (3). وقضينا إلى بنى اسرائيل في الكتاب لتفسدن في الارض مرتين ولتعلن علوا كبيرا (4). فإذا جاء وعد اوليهما بعثنا عليكم عبادا لنا اولى باس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا (5). ثم رددنا لكم الكرة عليهم وامددناكم باموال وبنين وجعلناكم اكثر نفيرا (6). ان احسنتم احسنتم لانفسكم وان اساتم فلها فإذا جاء وعد الاخرة ليسوؤا وجوهكم و ليدخلوا المسجد كما دخلوه اول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا (7). عسى ربكم ان يرحمكم وان عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا (8). (بيان) الظاهر من سياق آيات صدر السورة انها مسوقة لبيان ان السنة الالهية في الامم الانسانية جرت على هدايتهم إلى طريق العبودية وسبيل التوحيد وامكنهم من الوصول إلى ذلك باختيارهم فأتاهم من نعم الدنيا والاخرة، وامدهم باسباب الطاعة والمعصية فان اطاعوا واحسنوا اثابهم بسعادة الدنيا والاخرة، وان اساؤا وعصوا جازاهم بنكال الدنيا وعذاب الاخرة. وعلى هذا فهذه الايات السبع كالمثال يمثل به ما جرى من هذه السنة العامة في بنى اسرائيل انزل الله على نبيهم الكتاب وجعله لهم هدى يهتدون به وقضى إليهم فيه انهم سيعلون ويطغون ويفسقون فينتقم الله منهم باستيلاء عدوهم عليهم بالاذلال والقتل

[ 36 ]

والاسر ثم يعودون إلى الطاعة فيعود تعالى إلى النعمة والرحمة ثم يستعلون ويطغون ثانيا فينتقم الله منهم ثانيا باشد مما في المرة الاولى ثم من المرجو ان يرحمهم ربهم وان يعودوا يعد. ومن ذلك يستنتج ان الايات السبع كالتوطئة لما سيذكر بعدها من جريان هذه السنة العامة في هذه الامة، والايات السبع كالمعترضة بين الاية الاولى والتاسعة. قوله تعالى: (وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبنى اسرائيل الا تتخذوا من دوني وكيلا) الكتاب كثيرا ما يطلق في كلامه تعالى على مجموع الشرائع المكتوبة على الناس القاضية بينهم فيما اختلفوا فيه من الاعتقاد والعمل ففيه دلالة على اشتماله على الوظائف الاعتقادية والعملية التى عليهم ان ياخذوها ويتلبسوا بها، ولعله لذلك قيل: (وآتينا موسى الكتاب) ولم يقل التوراة ليدل به على اشتماله على شرائع مفترضة عليهم. وبذلك يظهر ان قوله: (وجعلناه هدى لبنى اسرائيل) بمنزلة التفسير لايتائه الكتاب. وكونه هدى أي هاديا لهم هو بيانه لهم شرائع ربهم التى لو اخذوها وعملوا بها لاهتدوا إلى الحق ونالوا سعادة الدارين. وقوله: (الا تتخذوا من دوني وكيلا) ان: فيه للتفسير ومدخولها محصل ما يشتمل عليه الكتاب الذى جعل هدى لهم فيؤل المعنى إلى ان محصل ما كان الكتاب يبينه لهم ويهديهم إليه هو نهيه اياهم ان يشركوا بالله شيئا ويتخذوا من دونه وكيلا فقوله: (لا تتخذوا من دوني وكيلا) تفسيرا لقوله: (وجعلناه هدى لبنى اسرائيل) ان كان ضمير (لا تتخذوا) عائدا إليهم كما هو الظاهر، وتفسير لجميع ما تقدمه ان احتمل رجوعه إلى موسى وبنى اسرائيل جميعا. وفي الجملة التفات من التكلم مع الغير إلى التكلم وحده ووجهه بيان كون التكلم مع الغير لغرض التعظيم وجريان السياق على ما كان عليه من التكلم مع الغير كان يقال: (ان لا تتخذوا من دوننا وكلاء) لا يناسب معنى التوحيد الذى سيقت له الجملة، ولذلك عدل فيها إلى سياق التكلم وحده ثم لما ارتفعت الحاجة رجع الكلام إلى سياقه السابق فقيل: (ذرية من حملنا مع نوح). ورجوع اتخاذ الوكيل من دون الله إلى الشرك انما هو من جهة ان الوكيل هو الذى

[ 37 ]

يكفل اصلاح الشؤون الضرورية لموكله ويقدم على رفع حوائجه وهو الله سبحانه فاتخاذ غيره ربا هو اتخاذ وكيل من دونه. قوله تعالى: (ذرية من حملنا مع نوح انه كان عبدا شكورا) تطلق الذرية على الاولاد بعناية كونهم صغارا ملحقين بابائهم، وهى - على ما يهدى إليه السياق - منصوبة على الاختصاص ويفيد الاختصاص عناية خاصة من المتكلم به في حكمه فهو. بمنزلة التعليل كقوله تعالى: (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت) الاحزاب 33 أي ليفعل بكم ذلك لانكم اهل بيت النبوة ه. فقوله: (ذرية من حملنا مع نوح) يفيد فائدة التعليل بالنسبة إلى ما تقدمه كما ان قوله: (انه كان عبدا شكورا) يفيد فائدة التعليل بالنسبة إليه. اما الاول فلان الظاهر ان تعلق العناية بهم انما هو من جهة ما سبق من الله سبحانه لاهل سفينة نوح من الوعد الجميل حين نجاهم من الطوفان وامر نوحا بالهبوط بقوله: (يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى امم ممن معك وامم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب اليم) هود: 48 ففى انزاله الكتاب لموسى وجعله هدى لبنى اسرائيل انجاز للوعد الحسن الذى سبق لابائهم من اهل السفينة وجرى على السنة الالهية الجارية في الامم فكأنه قيل: انزلنا على موسى الكتاب وجعلناه هدى لبنى اسرائيل لانهم ذرية من حملنا مع نوح وقد وعدناهم السلام والبركات والتمتيع. واما الثاني فلان هذه السنة اعني سنة الهداية والارشاد وطريقة الدعوة إلى التوحيد هي بعينها السنة التى كان نوح عليه السلام اول من قام بها في العالم البشرى فشكر بذلك نعمة الله واخلص له في العبودية - وقد تقدم مرارا ان الشكر بحقيقته يلازم الاخلاص في العبودية - فشكر الله له، وجعل سنته باقية ببقاء الدنيا، وسلم عليه في العالمين، واثابه بكل كلمة طيبة وعمل صالح إلى يوم القيامة كما قال تعالى: (وجعلنا ذريته هم الباقين وتركنا عليه في الاخرين سلام على نوح في العالمين انا كذلك نجزى المحسنين) الصافات: 80. فيتلخص معنى الايتين في مثل قولنا: انا جزينا نوحا بما كان عبدا شكورا لنا انا ابقينا دعوتة واجرينا سنته وطريقته في ذرية من حملناهم معه في السفينة ومن ذلك انا انزلنا على موسى الكتاب وجعلناه هدى لبنى اسرائيل.

[ 38 ]

ويظهر من قوله في الاية: (ذرية من حملنا مع نوح) ومن قوله: (وجعلنا ذريته هم الباقين) ان الناس ذرية نوح عليه السلام من جهة الابن والبنت معا، ولو كانت الذرية منتهية إلى ابنائه فقط وكان المراد بقوله: (من حملنا مع نوح) ابناؤه فقط كان الاحسن بل المتعين ان يقال: ذرية نوح وهو ظاهر. وللقوم في اعراب الاية وجوه اخرى كثيرة كقول من قال: ان (ذرية) منصوب على النداء بحذف حرفه، والتقدير يا ذرية من حملنا، وقيل: مفعول اول لقوله: تتخذوا ومفعوله الثاني قوله: (وكيلا) والتقدير ان لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح وكيلا من دوني، وقيل: بدل من موسى في الاية السابقة وهى وجوه ظاهرة السخافة. ويتلوها في ذلك قول من قال: ان ضمير (انه) عائد إلى موسى دون نوح والجملة تعليل لايتائه الكتاب أو لجعله عليه السلام هدى لبنى اسرائيل بناء على رجوع ضمير (وجعلناه) إلى موسى دون الكتاب. قوله تعالى: (وقضينا إلى بنى اسرائيل في الكتاب لتفسدن في الارض مرتين ولتعلن علوا كبيرا) قال الراغب في المفردات: القضاء فصل الامر قولا كان ذلك أو فعلا، وكل واحد منهما على وجهين: الهى وبشرى فمن القول الالهى قوله: (وقضى ربك الا تعبدوا الا اياه) أي امر بذلك، وقال: (وقضينا إلى بنى اسرائيل في الكتاب) فهذا قضاء بالاعلام والفصل في الحكم أي اعلمناهم واوحينا إليهم وحيا جزما وعلى هذا (وقضينا إليه ذلك الامر ان دابر هؤلاء مقطوع). ومن الفعل الالهى قوله: (والله يقضى بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشئ) وقوله: (فقضاهن سبع سماوات في يومين) اشارة إلى ايجاده الابداعي والفراغ منه نحو: (بديع السماوات والارض). قال: ومن القول البشرى نحو قضى الحاكم بكذا فان حكم الحاكم يكون بالقول، ومن الفعل البشرى (فإذا قضيتم مناسككم) (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم) انتهى موضع الحاجه. والعلو هو الارتفاع وهو في الاية كناية عن الطغيان بالظلم والتعدى ويشهد بذلك عطفه على الافساد عطف التفسير، وفي هذا المعنى قوله: ان فرعون علا في الارض وجعل اهلها شيعا).

[ 39 ]

ومعنى الاية واخبرنا واعلمنا بنى اسرائيل اخبارا قاطعا في الكتاب وهو التوراة: اقسم واحق هذا القول انكم شعب اسرائيل ستفسدون في الارض وهى ارض فلسطين وما يتبعها مرتين مرة بعد مرة وتعلون علوا كبيرا وتطغون طغيانا عظيما. قوله تعالى: (فإذا جاء وعد اولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا) الخ قال الراغب: البؤس والباس والباساء الشدة والمكروه الا ان البؤس في الفقر والحرب اكثر والباس والباساء في النكاية نحو والله اشد باسا واشد تنكيلا. انتهى موضع الحاجة. وفي: المجمع الجوس التخلل في الديار يقال: تركت فلان يجوس بنى فلان ويجوسهم ويدوسهم أي يطؤهم، قال أبو عبيد: كل موضع خالطته ووطاته فقد حسته وجسته قال: وقيل: الجوس طلب الشئ باستقصاء. انتهى. وقوله: (فإذا جاء وعد اولاهما) تفريع على قوله: (لتفسدن) الخ، وضمير التثنية راجع إلى المرتين وهما الافسادتان فالمراد بها الافسادة الاولى، والمراد بوعد اولاهما ما وعدهم الله من النكال والنقمة على افسادهم فالوعد بمعنى الموعود، ومجئ الوعد كناية عن وقت انجازه، ويدل ذلك على انه وعدهم على افسادهم مرتين وعدين ولم يذكرا انجازا فكأنه قيل: لتفسدن في الارض مرتين ونحن نعدكم الانتقام على كل منهما فإذا جاء وعد المرة الاولى (الخ) كل ذلك معونة السياق. وقوله: (بعثنا عليكم عبادا لنا اولى باس شديد) أي انهضناهم وارسلناهم اليكم ليذلوكم وينتقموا منكم، والدليل على كون البعث للانتقام والاذلال قوله: اولى باس شديد) الخ. ولا ضير في عد مجيئهم إلى بنى اسرائيل مع ما كان فيه من القتل الذريع والاسر والسبي والنهب والتخريب بعثا الهيا لانه كان على سبيل المجازاة على افسادهم في الارض وعلوهم وبغيهم بغير الحق، فما ظلمهم الله ببعث اعدائهم وتاييدهم عليهم ولكن كانوا هم الظالمين لانفسهم. وبذلك يظهر ان لا دليل من الكلام يدل على قول من قال: ان المراد بقوله: (بعثنا عليكم (الخ) امرنا قوما مؤمنين بقتالكم وجهادكم لاقتضاء ظاهر قوله: (بعثنا) وقوله (عبادا) ذلك، وذلك لما عرفت ان عد ذلك بعثا الهيا لا مانع فيه بعد ما كان

[ 40 ]

على سبيل المجازاة، وكذا لا مانع من عد الكفار عبادا لله مع ما تعقبه من قوله: (اولى باس شديد). ونظيره قول من قال: يجوز ان يكون هؤلاء المبعوثون مؤمنين امرهم الله بجهاد هؤلاء، ويجوز ان يكونوا كفارا فتالفهم نبى من الانبياء لحرب هؤلاء وسلطهم على امثالهم من الكفار والفساق، ويرد عليه نظير ما يرد على سابقه. وقوله: (وكان وعدا مفعولا) تأكيد لكون القضاء حتما لازما والمعنى فإذا جاء وقت الوعد الذى وعدناه على المرة الاولى من افسادكم مرتين بعثنا وانهضنا عليكم من الناس عبادا لنا اولى باس وشدة شديدة فدخلوا بالقهر والغلبة ارضكم وتوسطوا في دياركم فاذلوكم واذهبوا استقلالكم وعلوكم وسؤددكم وكان وعدا مفعولا لا محيص عنه. قوله تعالى: (ثم رددنا لكم الكرة عليهم وامددناكم باموال وبنين وجعلناكم اكثر نفيرا) قال في المجمع: الكرة معناه الرجعة والدولة، والنفير العدد من الرجال قال الزجاج: ويجوز ان يكون جمع نفر كما قيل: العبيد والضئين والمعيز والكليب، ونفر الانسان ونفره ونفيره ونافرته رهطه الذين ينصرونه وينفرون معه انتهى. ومعنى الاية ظاهر، وظاهرها ان بنى اسرائيل ستعود الدولة لهم على اعدائهم بعد وعد المرة الاولى فيغلبونهم ويقهرونهم ويتخلصون من استعبادهم واسترقاقهم وان هذه الدولة سترجع إليهم تدريجا في برهة معتد بها من الزمان كما هو لازم امدادهم باموال وبنين وجعلهم اكثر نفيرا. وفي قوله في الاية التالية: (ان احسنتم احسنتم لانفسكم وان اساتم فلها) اشعار بل دلالة بمعونة السياق ان هذه الواقعة وهى رد الكرة لبنى اسرائيل على اعدائهم انما كانت لرجوعهم إلى الاحسان بعد ما ذاقوا وبال اساءتهم قبل ذلك كما ان انجاز وعد الاخرة انما كان لرجوعهم ثانيا إلى الاساءة بعد رجوعهم هذا إلى الاحسان. قوله تعالى: (ان احسنتم احسنتم لانفسكم وان اساتم فلها) اللام في (لانفسكم) و (فلها) للاختصاص أي ان كلا من احسانكم واساءتكم يختص بانفسكم دون ان يلحق غيركم، وهى سنة الله الجارية ان العمل يعود اثره وتبعته إلى صاحبه ان خيرا وان شرا فهو كقوله: (تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم) البقره - 141.

[ 41 ]

فالمقام مقام بيان ان اثر العمل لصاحبه خيرا كان أو شرا، وليس مقام بيان ان الاحسان ينفع صاحبه والاساءة تضره حتى يقال: وان اساتم فعليها كما قيل: (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) البقره: 286. فلا حاجة إلى ما تكلفه بعضهم ان اللام في قوله: (وان اساتم فلها) بمعنى على، وقول آخرين: انها بمعنى إلى لان الاساءة تتعدى بها يقال: اساء إلى فلان ويسئ إليه اساءة، وقول آخرين: انها للاستحقاق كقوله: (ولهم عذاب اليم). وربما اورد على كون اللام للاختصاص بان الواقع على خلافه فكثيرا ما يتعدى اثر الاحسان إلى غير محسنه واثر الاساءة إلى غير فاعلها وهو ظاهر. والجواب عنه ان فيه غفلة عما يراه القرآن الكريم في آثار الاعمال اما آثار الاعمال الاخروية فانها لا تتعدى صاحبها البتة قال تعالى: (من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلانفسهم يمهدون) الروم: 44، واما الاثار الدنيوية فان الاعمال لا تؤثر اثرا في غير فاعلها الا ان يشاء الله من ذلك شيئا على سبيل النعمة على الغير أو النقمة أو الابتلاء والامتحان فليس في مقدرة الفاعل ان يوصل اثر فعله إلى الغير دائما الا احيانا يريده الله لكن الفاعل يلحقه اثر فعله الحسن أو السئ دائما من غير تخلف. فللمحسن نصيب من احسانه وللمسئ نصيب من اساءته، قال تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) الزلزال: 8 فاثر الفعل لا يفارق فاعله إلى غيره، وهذا معنى ما روى عن على عليه السلام انه قال: ما احسنتم إلى احد ولا اسات إليه وتلا الاية قوله تعالى: (فإذا جاء وعد الاخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه اول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا) التتبير الا هلاك من التبار بمعنى الهلاك والدمار. وقوله: (ليسوؤا وجوهكم) من المساءة يقال: ساء زيد فلانا إذا احزنه وهو على ما قيل متعلق بفعل مقدر محذوف للايجاز، واللام للغاية والتقدير بعثناهم ليسوؤا وجوهكم بظهور الحزن والكابة فيها وبدو آثار الذلة والمسكنة وصغار الاستعباد عليها بما يرتكبونه فيكم من القتل الذريع والسبي والنهب. وقوله: (وليدخلوا المسجد كما دخلوه اول مرة) المراد بالمسجد هو المسجد الاقصى

[ 42 ]

- بيت المقدس - ولا يعبؤ بما ذكره بعضهم ان المراد به جميع الارض المقدسة مجازا، وفي الكلام دلالة اولا انهم في وعد المرة الاولى ايضا دخلوا المسجد عنوة وانما لم يذكر قبلا للايجاز، وثانيا ان دخولهم المسجد انما كان للهتك والتخريب، وثالثا يشعر الكلام بان هؤلاء المهاجمين المبعوثين لمجازاة بنى اسرائيل والانتقام منهم هم الذين بعثوا عليهم اولا. وقوله: (وليتبروا ما علوا تتبيرا) أي ليهلكوا الذى غلبوا عليه اهلاكا فيقتلوا النفوس ويحرقوا الاموال ويهدموا الابنية ويخربوا البلاد، واحتمل ان يكون ما مصدرية بحذف مضاف وتقدير الكلام: وليتبروا مدة علوهم تتبيرا، والمعنى الاول اقرب إلى الفهم واوفق بالسياق. والمقايسة بين الوعدين اعني قوله: (بعثنا عليكم عبادا لنا) الخ وقولة: (ليسوؤا وجوهكم) الخ يعطى ان الثاني كان اشد على بنى اسرائيل وامر وقد كادوا ان يفنوا ويبيدوا فيه عن آخرهم وكفى في ذلك قوله تعالى: (وليتبروا ما علوا تتبيرا). والمعنى فإذا جاء وعد المرة الاخرة وهى الثانية من الافسادتين بعثناهم ليسوؤا وجوهكم بظهور الحزن والكابة وبدو الذلة والمسكنة وليدخلوا المسجد الاقصى كما دخلوه اول مرة وليهلكوا الذى غلبوا عليه ويفنوا الذى مروا عليه اهلاكا وافناء. قوله تعالى: (عسى ربكم ان يرحمكم وان عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) الحصير من الحصر و - هو على ما ذكروه - التضييق والحبس قال تعالى: (واحصروهم) التوبه: 5 أي ضيقوا عليهم. وقوله: (عسى ربكم ان يرحمكم) أي بعد البعث الثاني على ما يفيده السياق وهو ترج للرحمة ه على تقدير ان يتوبوا ويرجعوا إلى الطاعة والاحسان بدليل قوله: (وان تعودوا نعد) أي وان تعودوا إلى الافساد والعلو، بعد ما رجعتم عنه ورحمكم ربكم نعد إلى العقوبة والنكال، وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ومكانا حابسا لا يستطيعون منه خروجا. وفي قوله: (عسى ربكم ان يرحمكم) التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة وكان الوجه فيه الاشارة إلى ان الاصل الذى يقتضيه ربوبيته تعالى ان يرحم عباده ان

[ 43 ]

جروا على ما يقتضيه خلقتهم ويرشد إليه فطرتهم الا ان ينحرفوا عن خط الخلقة ويخرجوا عن صراط الفطرة، والايماء إلى هذه النكتة يوجب ذكر وصف الرب فاحتاج السياق ان يتغير عن التكلم مع الغير إلى الغيبة ثم لما استوفيت النكتة بقوله: (عسى ربكم ان يرحمكم) عاد الكلام إلى ما كان عليه. بحث روائي في تفسير البرهان عن ابن بابويه باسناده عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السلام قال: ان نوحا انما سمى عبدا شكورا لانه كان يقول إذا امسى واصبح: اللهم انى اشهدك انه ما امسى واصبح بى من نعمة أو عافية في دين أو دنيا فمنك وحدك لا شريك لك، لك الحمد ولك الشكر بها على حتى ترضى وبعد الرضا. اقول: وروى هذا المعنى بتفاوت يسير بعدة طرق في الكافي وتفسيري القمى والعياشي. وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن ابى فاطمة ان النبي صلى االله وسلم قال: كان نوح عليه السلام لا يحمل شيئا صغيرا ولا كبيرا الا قال: بسم الله والحمد لله فسماه الله عبدا شكورا. اقول: والروايات لا تنافى ما تقدم من تفسير الشكر بالاخلاص فمن المعلوم ان دعاءه لم يكن الا عن تحققه بحقيقة ما دعا به ولا ينفك ذلك عن الاخلاص في العبودية. وفي تفسير البرهان عن ابن قولويه باسناده عن صالح بن سهل عن ابى عبد الله عليه السلام: في قول الله عزوجل: (وقضينا إلى بنى اسرائيل في الكتاب لتفسدن في الارض مرتين) قال: قتل امير المؤمنين وطعن الحسن بن على عليه السلام (ولتعلن علوا كبيرا) قال: قتل الحسين عليه السلام (فإذا جاء وعد اولاهما) قال: إذا جاء نصر الحسين (بعثنا عليكم عبادا لنا اولى باس شديد فجاسوا خلال الديار) قوم يبعثهم الله قبل قيام القائم لا يدعون لال محمد وترا الا اخذوه (وكان وعدا مفعولا). اقول: وفي معناها روايات اخرى وهى مسوقة لتطبيق ما يجرى في هذه الامة من الحوادث على ما جرى منها في بنى اسرائيل تصديقا لما تواتر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان

[ 44 ]

هذه الامة ستركب ما ركبته بنو اسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخله هؤلاء، وليست الروايات واردة في تفسير الايات، ومن شواهد ذلك اختلاف ما فيها من التطبيق. واما اصل القصة التى تتضمنها الايات الكريمة فقد اختلفت الروايات فيها اختلافا عجيبا يسلب عنها التعويل، ولذلك تركنا ايرادها ههنا من ارادها فليراجع جوامع الحديث من العامة والخاصة. وقد نزل على بنى اسرائيل منذ استقلوا بالملك والسؤدد نوازل هامة كثيرة فوق اثنتين - على ما يضبطه تاريخهم - يمكن ان ينطبق ما تضمنته هذه الايات على اثنتين منها لكن الذى هو كالمسلم عندهم ان احدى هاتين النكايتين اللتين تشير اليهما الايات هي ما جرى عليهم بيد بخت نصر (نبوكد نصر) من ملوك بابل قبل الميلاد بستة قرون تقريبا. وكان ملكا ذا قوة وشوكة من جبابرة عهده، وكان يحمى بنى اسرائيل فعصوه وتمردوا عليه فسار إليهم بجيوش لا قبل لهم بها وحاصر بلادهم ثم فتحها عنوة فخرب البلاد وهدم المسجد الاقصى واحرق التوراة وكتب الانبياء واباد النفوس بالقتل العام ولم يبق منهم الا شرذمة قليلة من النساء والذراري وضعفاء الرجال فاسرهم وسيرهم معه إلى بابل فلم يزالوا هناك لا يحميهم حام ولا يدفع عنهم دافع طول زمن حياة بخت نصر وبعده زمانا طويلا حتى قصد الكسرى كورش احد ملوك الفرس العظام بابل وفتحه تلطف على الاسرى من بنى اسرائيل واذن لهم في الرجوع إلى الارض المقدسة، واعانهم على تعمير الهيكل - المسجد الاقصى - وتجديد الابنية واجاز لعزراء احد كهنتهم ان يكتب لهم التوراة وذلك في نيف وخمسين واربعمائة سنة قبل الميلاد. والذى يظهر من تاريخ اليهود ان المبعوث اولا لتخريب بيت المقدس هو بخت نصر وبقى خرابا سبعين سنة، والمبعوث ثانيا هو قيصر الروم اسبيانوس سيراليهم وزيره طوطوز فخرب البيت واذل القوم قبل الميلاد بقرن تقريبا. وليس من البعيد ان يكون الحادثتان هما المرادتان في الايات فان الحوادث الاخرى لم تفن جمعهم ولم تذهب بملكهم واستقلالهم بالمرة لكن نازلة بخت نصر ذهب بجميعهم

[ 45 ]

وسؤددهم إلى زمن كورش ثم اجتمع شملهم بعده برهة ثم غلب عليهم الروم واذهبت بقوتهم و شوكتهم فلم يزالوا على ذلك إلى زمن ظهور الاسلام. ولا يبعده الا ما تقدمت الاشارة إليه في تفسير الايات ان فيها اشعارا بان المبعوث إلى بنى اسرائيل في المرة الا ولى والثانية قوم باعيانهم وان قوله: (ثم رددنا لكم الكرة عليهم) مشعر بان الكرة من بنى اسرائيل على القوم المبعوثين عليهم اولا، وان قوله: (فإذا كان وعد الاخرة ليسوؤا وجوهكم) مشعر برجوع ضمير الجمع إلى ما تقدم من قوله: (عبادا لنا). لكنه اشعار من غير دلالة ظاهرة لجواز ان يكون المرادكرة من غير بنى اسرائيل على اعدائهم وهم ينتفعون بها وان يكون ضمير الجمع عائدا إلى ما يدل عليه الكلام بسياقة من غير ايجاب السياق ان يكون المبعوثون ثانيا هم المبعوثين اولا. ان هذا القرآن يهدى للتى هي اقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ان لهم اجرا كبيرا - 9. وان الذين لا يؤمنون بالاخرة اعتدنا لهم عذابا اليما - 10. ويدع الانسان بالشر دعاءه بالخير وكان الانسان عجولا - 11. وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شئ فصلناه تفصيلا - 12. وكل انسان الزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقيه منشورا - 13. اقرء كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا - 14. من اهتدى فانما يهتدى لنفسه ومن ضل فانما يضل عليها ولا تزر وازره وزر اخرى وما كنا

[ 46 ]

معذبين حتى نبعث رسولا - 15. وإذا اردنا ان نهلك قرية امرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا - 16. وكم اهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا - 17. من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصليها مذموما مدحورا - 18. ومن اراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فاولئك كان سعيهم مشكورا - 19. كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا - 20. انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللاخرة اكبر درجات واكبر تفضيلا - 21. لا تجعل مع الله الها آخر فتقعد مذموما مخذولا - 22. (بيان) كان القبيل السابق من الايات يذكر كيفية جريان السنة الالهية في هداية الانسان إلى سبيل الحق ودين التوحيد ثم اسعاد من استجاب الدعوة الحقة في الدنيا والاخرة وعقاب من كفر بالحق وفسق عن الامر في دنياه وعقباه، وكان ذكر نزول التوراة وما جرى بعد ذلك على بنى اسرائيل كالمثال الذى يورد في الكلام لتطبيق الحكم الكلى على افراده ومصاديقه، وهذا القبيل من الايات يذكر جريان السنة المذكورة في هذه الامة كما جرت في امة موسى، وقد استنتج من الايات لزوم التجنب عن الشرك ووجوب التزام طريق التوحيد حيث قيل: (لا تجعل مع الله الها آخر فتقعد مذموما مخذولا) قوله تعالى: (ان هذا القرآن يهدى للتى هي اقوم) أي للملة التى هي اقوم كما قال تعالى: (قل اننى هداني ربى إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة ابراهيم حنيفا) الانعام: 161.

[ 47 ]

والاقوم افعل تفضيل والاصل في الباب القيام ضد القعود الذى هو احد احوال الانسان واوضاعه، وهو اعدل حالاته يتسلط به على ما يريده من العمل بخلاف القعود والاستلقاء والانبطاح ونحوها ثم كنى به عن حسن تصديه للامور إذا قوى عليها من غير عجز وعى واحسن ادارتها للغاية يقال: قام بامر كذا إذا تولاه وقام على امر كذا أي راقبه وحفظه وراعى حاله بما يناسبه. وقد وصف الله سبحانه هذه الملة الحنيفية بالقيام كما قال: (فاقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) الروم: 30، وقال: (فاقم وجهك للدين القيم) الروم: 43. وذلك لكون هذا الدين مهيمنا على ما فيه خير دنياهم وآخرتهم قيما على اصلاح حالهم في معاشهم ومعادهم، وليس الا لكونه موافقا لما تقتضيه الفطرة الانسانية والخلقه التى سواه الله سبحانه عليها وجهزه بحسبها بما يهديه إلى غايتة التى اريدت له، وسعادته التى هيئت لاجله. وعلى هذا فوصف هذه الملة في قوله: (للتى هي اقوم) بانها اقوم ان كان بقياسها إلى سائر الملل انما هو من جهة ان كلا من تلك الملل سنة حيوية اتخذها ناس لينتفعوا بها في شئ من امور حياتهم لكنها ان كان تنفعهم في بعضها فهى تضرهم في بعض آخر وان كانت تحرز لهم شطرا مما فيه هواهم فهى تفوت عليهم شطرا عظيما مما فيه خيرهم وانما ذلك الاسلام يقوم على حياتهم وبجميع ما يهمهم في الدنيا والاخرة من غير ان يفوته فائت فالملة الحنيفية اقوم من غيرها على حياة الانسان. وان كان بالقياس إلى سائر الشرائع الالهية السابقة كشريعة نوح وموسى وعيسى عليه السلام كما هو ظاهر جعلها مما يهدى إليها القرآن قبال ما تقدم من ذكر التوراة وجعلها هدى لبنى اسرائيل فانما هو من جهة ان هذه الملة الحنيفية اكمل من الملل السابقة التى تتضمنها كتب الانبياء السابقين فهى تشتمل من المعارف الالهية على آخر ما تتحمله البنية الانسانية ومن الشرائع على ما لا يشذ منه شاذ من اعمال الانسان الفردية والاجتماعية، وقد قال تعالى: (وانزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه) المائدة: 48 فما يهدى إليه القرآن اقوم مما يهدى إليه غيره من الكتب.

[ 48 ]

قوله تعالى: (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ان لهم اجرا كبيرا) الصالحات صفة محذوف موصوفها اختصارا والتقدير وعملوا الاعمال الصالحات. وفي الاية جعل حق للمؤمنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات على الله سبحانه كما يؤيده تسمية ذلك اجرا ويؤيده ايضا قوله في موضع آخر: (ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم اجر غير ممنون) حم السجدة: 8 ولا محذور في ان يكون لهم على الله حق إذا كان الله سبحانه هو الجاعل له، ونظيره قوله: (ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين) يونس: 103. والعناية في الاية ببيان الوعد المنجز كما ان الاية التالية تعنى ببيان الوعيد المنجز وهو العذاب لمن يكفر بالاخرة، واما من آمن ولم يعمل الصالحات فليس ممن له على الله اجر منجز وحق ثابت بل امره مراعى بتوبة أو شفاعة حتى يلحق بذلك على معشر الصالحين من المؤمنين قال تعالى: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله ان يتوب عليهم) التوبه: 102 وقال: وآخرون مرجون لامر الله اما يعذبهم واما يتوب عليهم) التوبه: 106. نعم لهم ثبات على الحق بايمانهم كما قال تعالى: (وبشر الذين آمنوا ان لهم قدم صدق عند ربهم) يونس: 2 وقال: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة) ابراهيم: 27. قوله تعالى: (وان الذين لا يؤمنون بالاخرة اعتدنا لهم عذابا اليما) الاعتاد الاعداد والتهيئة من العتاد بالفتح وهو على ما ذكره الراغب ادخار الشئ قبل الحاجة إليه كالاعداد. وظاهر السياق انه عطف على قوله في الاية السابقة: (ان لهم) الخ فيكون التقدير ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ان الذين لا يؤمنون (الخ) وكون ذلك بشارة للمؤمنين من حيث انه انتقام الهى من اعدائهم في الدين. وانما خص بالذكر من اوصاف هؤلاء عدم ايمانهم بالاخرة مع جواز ان يكفروا بغيرها كالتوحيد والنبوة لان الكلام مسوق لبيان الاثر الذى يعقبه الدين القيم، ولا موقع للدين ولا فائدة له مع انكار المعاد وان اعترف بوحدانية الرب تعالى وغيرها

[ 49 ]

من المعارف، ولذلك عد سبحانه نسيان يوم الحساب اصلا لكل ضلال في قوله: (ان الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) ص: 26. قوله تعالى: (ويدع الانسان بالشر دعاءه بالخير وكان الانسان عجولا) المراد بالدعاء على ما يستفاد من السياق مطلق الطلب سواء كان بلفظ الدعاء كقوله: اللهم ارزقني مالا وولدا وغير ذلك أو من غير دعاء لفظي بل بطلب وسعى فان ذلك كله دعاء وسؤال من الله سواء اعتقد به الانسان وتنبه له ام لا إذ لا معطى ولا مانع في الحقيقة الا الله سبحانه، قال تعالى: (يساله من في السماوات والارض) الرحمن: 29 وقال: (وآتاكم من كل ما سالتموه) ابراهيم: 34 فالدعاء مطلق الطلب والباء في قوله: (بالشر) و (بالخير) للصلة والمراد ان الانسان يدعو الشر ويساله دعاء كدعائه الخير وسؤاله وطلبه. وعلى هذا فالمراد بكون الانسان عجولا انه لا ياخذ بالاناة إذا اراد شيئا حتى يتروى ويتفكر في جهات صلاحه وفساده حتى يتبين له وجه الخير فيما يريده من الامر فيطلبه ويسعى إليه بل يستعجل في طلبه بمجرد ما ذكره وتعلق به هواه فربما كان شرا فتضرر به وربما كان خيرا فانتفع به. والاية وما يتلوها من الايات في سياق التوبيخ واللوم متفرعة على ما تقدم من حديث المن الالهى بالهداية إلى التى هي اقوم كانه قيل: انا انزلنا كتابا يهدى إلى ملة هي اقوم تسوق الاخذين بها إلى السعادة والجنة وتؤديهم إلى اجر كبير، وترشدهم إلى الخير كله لكن جنس الانسان عجول لا يفرق لعجلته بين الخير والشر بل يطلب كل ما لاح له ويسال كل ما بدا له فتعلق به هواه من غير تمييز بين الخير والشر والحق والباطل فيرد الشر كما يرد الخير ويهجم على الباطل كما يهجم على الحق. وليس ينبغى له ان يستعجل ويطلب كل ما يهواه ويشتهيه ولا يحق له ان يرتكب كل ما له استطاعة ارتكابه، ويقترف كل ما اقدره الله عليه ومكنه منه مستندا إلى انه من التيسير الالهى ولو شاء لمنعه فهذان الليل والنهار وآيتان الهيتان وليستا على نمط واحد بل آية الليل ممحوة تسكن فيها الحركات وتهدا فيها العيون، وآية النهار مبصرة تنتبه فيها القوى ويبتغى فيها الناس من فضل ربهم ويعلمون بها عدد السنين والحساب.

[ 50 ]

كذلك اعمال الشر والخير جميعا كائنة في الوجود باذن الله مقدورة للانسان باقداره سبحانه لكن ذلك لا يكون دليلا على جواز ارتكاب الانسان الشر والخير جميعا وان يستعجل فيطلب كل ما بدا له فيرد الشر كما يرد الخير ويقترف المعصية كما يقترف الطاعة بل يجب عليه ان ياخذ عمل الشر ممحوا فلا يقترفه وعمل الخير مبصرا فيأتي به ويبتغى بذلك فضل ربه من سعادة الاخرة والرزق الكريم فان عمل الانسان هو طائره الذى يدله على سعادته وشقائه، وهو لازم له غير مفارقة فما عمله من خير أو شر فهو لا يفارقه إلى غيره ولا يستدل به سواه. هذا ما يعطيه السياق من معنى الاية ويتبين به: اولا: ان الاية وما يتلوها من الايات مسوقة لغرض التوبيخ واللوم، وهو وجه اتصالها وما بعدها بما تقدمها من قوله: (ان هذا القرآن يهدى للتى هي اقوم) الاية كما اشرنا إليه آنفا فهو سبحانه يلوم الانسان انه لما به من قريحة الاستعجال لا يقدر نعمة الهداية الالهية حق قدرها ولا يفرق بين الملة التى هي اقوم وبين غيرها فيدعو بالشر دعاءه بالخير ويقصد الشقاء كما يقصد السعادة. وثانيا: ان المراد بالانسان هو الجنس دون افراد معينة منه كالكفار والمشركين كما قيل، وبالدعاء مطلق الطلب لا الدعاء المصطلح كما قيل، وبالخير والشر ما فيه سعادة حياته أو شقاؤه بحسب الحقيقة دون مطلق ما يضر وينفع كدعاء الانسان على من رضى عنه بالنجاح والفلاح وعلى من غضب عليه بالخيبة والخسران وغير ذلك. وبالعجلة حب الانسان ان يسرع ما يهواه إلى التحقق دون اللج والتمادى على طلب العذاب والمكروه. وللمفسرين اختلاف عجيب في مفردات الاية، وكلمات مضطربة في بيان وجه اتصال الاية وكذا الايات التالية بما قبلها تركنا ايرادها والغور فيها لعدم جدوى في التعرض لها من ارادها فليراجع كتبهم. قوله تعالى: (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة) إلى آخر الاية، قال في المجمع: مبصرة أي مضيئة منيرة نيرة قال أبو عمرو: اراد يبصر بها كما يقال: ليل نائم وسر كاتم، وقال الكسائي: العرب تقول: ابصر النهار إذا اضاء. انتهى موضع الحاجة.

[ 51 ]

الليل والنهار هما النور والظلمة المتعاقبان على الارض من جهة مواجهة الشمس بالطلوع وزوالها بالغروب وهما كسائر ما في الكون من اعيان الاشياء واحوالها آيتان لله سبحانه تدلان بذاتهما على توحده بالربوبية. ومن هنا يظهر ان المراد بجعلهما آيتين هو خلقهما كذلك لا خلقهما وليستا آيتين ثم جعلهما آيتين والباسهما لباس الدلالة فالاشياء كلها آيات له تعالى من جهة اصل وجودها وكينونتها الدالة على مكونها لا لوصف طار يطرء عليها. ومن هنا يظهر ايضا ان المراد باية الليل كاية النهار نفس الليل كنفس النهار - على ان تكون الاضافة بيانية لا لامية - والمراد بمحو الليل اظلامه واخفاؤه عن الابصار على خلاف النهار. فما ذكره بعضهم ان المراد باية الليل القمر ومحوها ما يرى في وجهه من الكلف كما ان المراد باية النهار الشمس وجعلها مبصرة خلو قرصها عن المحو والسواد. ليس بسديد فان الكلام في الايتين لا آيتى الايتين. على ان ما فرع على ذلك من قوله: (لتبتغوا فضلا من ربكم) الخ متفرع على ضوء النهار وظلمة الليل لا على ما يرى من الكلف في وجه القمر وخلو قرص الشمس من ذلك. ونظيره في السقوط قول بعضهم: ان المراد باية الليل ظلمته وباية النهار ضوءه والمراد بمحو آية الليل امحاء ظلمته بضوء النهار ونظيره امحاء ضوء النهار بظلمة الليل وانما اكتفى بذكر احدهما لدلالته على الاخر. ولا يخفى عليك وجه سقوطه بتذكر ما اشرنا إليه سابقا فان الغرض بيان وجود الفرق بين الايتين مع كونهما مشتركتين في الائية والدلالة، وما ذكره من المعنى يبطل الفرق. وقوله: (لتبتغوا فضلا من ربكم) متفرع على قوله: (وجعلنا آية النهار مبصرة) أي جعلناها مضيئة لتطلبوا فيه رزقا من ربكم فان الرزق فضله وعطاؤه تعالى. وذكر بعضهم ان التقدير: لتسكنوا بالليل ولتبتغوا فضلا من ربكم بالنهار الا انه حذف (لتسكنوا بالليل) لما ذكره في مواضع اخر وفيه ان التقدير ينافى كون الكلام مسوقا لبيان ترتب الاثار على احدى الايتين دون الاخرى مع كونهما معا آيتين. وقوله: (ولتعلموا عدد السنين والحساب) أي لتعلموا بمحو الليل وابصار النهار عدد السنين بجعل عدد من الايام واحدا يعقد عليه، وتعلموا بذلك حساب الاوقات

[ 52 ]

والاجال، وظاهر السياق ان علم السنين والحساب متفرع على جعل النهار مبصرا نظير تفرع ما تقدمه من ابتغاء الرزق على ذلك وذلك انا انما نتنبه للاعدام والفقدانات من ناحية الوجودات لا بالعكس والظلمة فقدان النور ولو لا النور لم ننتقل لا إلى نور ولا إلى ظلمة، ونحن وان كنا نستمد في الحساب بالليل والنهار معا ونميز كلا منهما بالاخر ظاهرا لكن ما هو الوجودى منهما اعني النهار هو الذى يتعلق به احساسنا اولا ثم نتنبه لما هو العدمي منها اعني الليل بنوع من القياس، وكذلك الحال في كل وجودي وعدمي مقيس إليه. وذكر الرازي في تفسيره ان الاولى ان يكون المراد بمحو آية الليل على القول بانها القمر هو ما يعرض القمر من اختلاف النور من المحاق إلى المحاق بالزيادة والنقيصة ليلة فليلة لما فيه من الاثار العظيمة في البحار والصحارى وامزجة الناس. ولازم ذلك - كما اشار إليه - ان يكون قوله: (لتبتغوا فضلا من ربكم) وقوله: (ولتعلموا عدد السنين والحساب) متفرعين على محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة جميعا، والمعنى انا جعلنا ذلك كذلك لتبتغوا باضاءة الشمس واختلاف نور القمر ارزاقكم، ولتعلموا بذلك ايضا السنين والحساب فان الشمس هي التى تميز النهار من الليل والقمر باختلاف تشكلاته يرسم الشهور القمرية والشهور ترسم السنين فاللام في الجملتين اعني (لتبتغوا) (ولتعلموا) متعلق بالفعلين (محونا) و (وجعلنا) جميعا. وفيه ان الاية في سياق لا يلائمه جعل ما ذكر فيها من الغرض غرضا مترتبا على الايتين معا اعني الاية الممحوة والاية المثبتة فقد عرفت ان الايات في سياق التوبيخ واللوم، والاية اعني قوله: (وجعلنا الليل والنهار آيتين) كالجواب عما قدر ان الانسان يحتج به في دعائه بالشر كدعائه بالخير. وملخصه: ان الانسان لمكان عجلته لا يعتنى بما انزله الله من كتاب وهداه إليه من الملة التى هي اقوم بل يقتحم الشر ويطلبه كما يطلب الخير من غير ان يتروى في عمله ويتامل وجه الصلاح والفساد فيه بل يقتحمه بمجرد ما تعلق به هواه ويسرته قدرته، وهو يعتمد في ذلك على حريته الطبيعية في العمل كانه يحتج فيه بان الله اقدره على ذلك ولم يمنع عنه كما نقله الله من قول المشركين، (لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آبائنا) النحل: 35.

[ 53 ]

فاجيب عنه بعد ما اورد في سياق التوبيخ واللوم بان مجرد تعلق القدرة وصحة الفعل لا يستلزم جواز العمل ولا ان اقداره على الخير والشر معا يدل على جواز اقتحام الشر كالخير فالليل والنهار آيتان من آيات الله يعيش فيهما الانسان لكن الله سبحانه محى آية الليل وقدر فيها السكون والخمود، وجعل آية النهار مبصرة مدركة يطلب فيها الرزق ويعلم بها عدد السنين والحساب. فكما ان كون الليل والنهار مشتركين في الائية لا يوجب اشتراكهما في الحركات والتقلبات بل هي للنهار خاصة كذلك اشتراك اعمال الخير والشر في انها جميعا تتحقق باذن الله سبحانه وهى مما اقدر الله الانسان عليه سواء لا يستلزم جواز ارتكابه لهما واتيانه بهما على حد سواء بل جواز الاتيان والارتكاب من خواص عمل الخير دون عمل الشر فليس للانسان ان يسلك كل ما بدا له من سبيل ولا ان ياتي بكل ما اشتهاه وتعلق به هواه معتمدا في ذلك على ما اعطى من الحرية الطبيعية والاقدار الالهى. ومما تقدم يظهر فساد ما ذكره بعضهم ان الاية مسوقة للاحتجاج على التوحيد فان الليل والنهار وما يعرضهما من الاختلاف وما يترتب على ذلك من البركات من اوضح آيات التوحيد. وفيه ان دلالتهما على التوحيد لا توجب ان يكون الغرض افادته والاحتجاج بهما على ذلك في أي سياق وقعا. وقوله في ذيل الاية: (وكل شئ فصلناه تفصيلا) اشارة إلى تمييز الاشياء وان الخلقة لا تتضمن ابهامها ولا اجمالها. قوله تعالى: (وكل انسان الزمناه طائره في عنقه) قال في المجمع: الطائر هنا عمل الانسان شبه بالطائر الذى يسنح ويتبرك به والطائر الذى يبرح فيتشام به، والسانح الذى يجعل ميامنه إلى مياسرك، والبارح الذى يجعل مياسره إلى ميامنك، والاصل في هذا انه إذا كان سانحا امكن الرامى وإذا كان بارحا لم يمكنه قال أبو زيد: كل ما يجرى من طائر أو ظبى أو غيره فهو عندهم طائر. انتهى. وفي الكشاف: انهم كانوا يتفالون بالطير ويسمونه زجرا فإذا سافروا ومر بهم طير زجروه فان مر بهم سانحا بان مر من جهة اليسار إلى اليمين تيمنوا وان مر بارحا بان

[ 54 ]

مر من جهة اليمين إلى الشمال تشاموا ولذا سمى تطيرا. انتهى. وقال في المفردات: تطير فلان واطير اصله التفاؤل بالطير ثم يستعمل في كل ما يتفاءل به ويتشاءم (قالوا انا تطيرنا بكم) ولذلك قيل: لا طير الا طيرك وقال: (ان تصبهم سيئة يطيروا) أي يتشاءموا به (الا انما طائرهم عند الله) أي شؤمهم ما قد اعد الله لهم بسوء اعمالهم، وعلى ذلك قوله: (قالوا اطيرنا بك وبمن معك) (قال طائركم عند الله) (قالوا طائركم معكم) (وكل انسان الزمناه طائره في عنقه) أي عمله الذى طار عنه من خير وشر ويقال: تطايروا إذا اسرعوا ويقال إذا تفرقوا. انتهى. وبالجملة سياق ما قبل الاية وما بعدها وخاصة قوله: (من اهتدى فانما يهتدى لنفسه) الخ، يعطى ان المراد بالطائر ما يستدل به على الميمنة والمشامة ويكشف عن حسن العاقبة وسوءها فلكل انسان شئ يرتبط بعاقبة حاله يعلم به كيفيتها من خير أو شر. والزام الطائر جعله لازما له لا يفارقه، وانما جعل الالزام في العنق لانه العضو الذى لا يمكن ان يفارقه الانسان أو يفارق هو الانسان بخلاف الاطراف كاليد والرجل، وهو العضو الذى يوصل الراس بالصدر فيشاهد ما يعلق عليه من قلادة أو طوق أو غل اول ما يواجه الانسان. فالمراد بقوله: (وكل انسان الزمناه طائره في عنقه) ان الذى يستعقب لكل انسان سعادته أو شقاءه هو معه لا يفارقه بقضاء من الله سبحانه فهو الذى الزمه اياه، وهذا هو العمل الذى يعمله الانسان لقوله تعالى: (وان ليس للانسان الا ما سعى وان سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الاوفى) النجم: 41. فالطائر الذى الزمه الله الانسان في عنقه هو عمله، ومعنى الزامه اياه ان الله قضى ان يقوم كل عمل بعامله ويعود إليه خيره وشره ونفعه وضره من غير ان يفارقه إلى غيره، وقد استفيد من قوله تعالى: (وان جهنم لموعدهم اجمعين... ان المتقين في جنات وعيون) الايات الحجر: 45 ان من القضاء المحتوم ان حسن العاقبة للايمان والتقوى وسوء العاقبة للكفر والمعصية.

[ 55 ]

ولازم ذلك ان يكون مع كل انسان من عمله ما يعين له حاله في عاقبة امره معية لازمة لا يتركه وتعيينا قطعيا لا يخطئ ولا يغلط لما قضى به ان كل عمل فهو لصاحبه ليس له الا هو وان مصير الطاعة إلى الجنة ومصير المعصية إلى النار. وبما تقدم يظهر ان الاية انما تثبت لزوم السعادة والشقاء للانسان من جهة اعماله الحسنة والسيئة المكتسبة من طريق الاختيار من دون ان يبطل تأثير العمل في السعادة والشقاء باثبات قضاء ازلى يحتم للانسان سعادة أو شقاء سواء عمل ام لم يعمل وسواء اطاع ام عصى كما توهمه بعضهم. قوله تعالى: (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) يوضح حال هذا الكتاب قوله بعده: (اقرء كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) حيث يدل اولا على ان الكتاب الذى يخرج له هو كتابه نفسه لا يتعلق بغيره، وثانيا ان الكتاب متضمن لحقائق اعماله التى عملها في الدنيا من غير ان يفقد منها شيئا كما في قوله: (يقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا احصاها) الكهف: 49، وثالثا ان الاعمال التى احصاها بادية فيها بحقائقها من سعادة أو شقاء ظاهرة بنتائجها من خير أو شر ظهورا لا يستتر بستر ولا يقطع بعذر، قال تعالى: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) ق: 22. ويظهر من قوله تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء) آل عمران: 30 ان الكتاب يتضمن نفس الاعمال بحقائقها دون الرسوم المخطوطة على حد الكتب المعمولة فيما بيننا في الدنيا فهو نفس الاعمال يطلع الله الانسان عليها عيانا، ولا حجه كالعيان. وبذلك يظهر ان المراد بالطائر والكتاب في الاية امر واحد وهو العمل الذى يعمله الانسان غير انه سبحانه قال: (ونخرج له يوم القيامة كتابا) ففرق الكتاب عن الطائر ولم يقل: (ونخرجه) لئلا يوهم ان العمل انما يصير كتابا يوم القيامة وهو قبل ذلك طائر وليس بكتاب أو يوهم ان الطائر خفى مستور غير خارج قبل يوم القيامة فلا يلائم كونه ملزما له في عنقه. وبالجملة في قوله: (ونخرج) له اشارة إلى ان كتاب الاعمال بحقائقها مستور عن

[ 56 ]

ادراك الانسان محجوب وراء حجاب الغفلة وانما يخرجه الله سبحانه للانسان يوم القيامة فيطلعه على تفاصيله، وهو المعنى بقوله: (يلقاه منشورا). وفي ذلك دلالة على ان ذلك امر مهيا له غير مغفول عنه فيكون تأكيدا لقوله: (وكل انسان الزمناه طائره في عنقه) لان المحصل ان الانسان ستناله تبعة عمله لا محالة اما اولا فلانه لازم له لا يفارقه. واما ثانيا فلانه مكتوب كتابا سيظهر له فيلقاه منشورا. قوله تعالى: (اقرء كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) أي يقال له: اقرا كتابك (الخ). وقوله: (كفى بنفسك) الباء فيه زائدة للتأكيد واصله كفت نفسك وانما لم يؤنث الفعل لان الفاعل مؤنث مجازى يجوز معه التذكير والتانيث، وربما قيل: انه اسم فعل بمعنى اكتف والباء غير زائدة، وربما وجه بغير ذلك. وفي الاية دلالة على ان حجة للكتاب قاطعة بحيث لا يرتاب فيها قارئه ولو كان هو المجرم نفسه وكيف لا ؟ وفيه معاينة نفس العمل وبه الجزاء، قال تعالى: (لا تعتذروا اليوم انما تجزون ما كنتم تعملون) التحريم: 7 وقد اتضح مما اوردناه في وجه اتصال قوله: (ويدع الانسان بالشر) الاية بما قبله وجه اتصال هاتين الايتين اعني قوله: (وكل انسان الزمناه طائره - إلى قوله - حسيبا) فمحصل معنى الايات والسياق سياق التوبيخ واللوم ان الله سبحانه انزل القرآن وجعله هاديا إلى ملة هي اقوم جريا على السنة الالهية في هداية الناس إلى التوحيد والعبودية واسعاد من اهتدى منهم واشقاء من ضل لكن الانسان لا يميز الخير من الشر ولا يفرق بين النافع والضار بل يستعجل كل ما يهواه فيطلب الشر كما يطلب الخير. والحال ان العمل سواء كان خيرا أو شرا لازم لصاحبه لا يفارقه وهو ايضا محفوظ عليه في كتاب سيخرج له يوم القيامة وينشر بين يديه ويحاسب عليه، وإذا كان كذلك كان من الواجب على الانسان ان لا يبادر إلى اقتحام كل ما يهواه ويشتهيه

[ 57 ]

ولا يستعجل ارتكابه بل يتوقف في الامور ويتروى حتى يميز بينها ويفرق خيرها من شرها فيأخذ بالخير ويتحرز الشر. قوله تعالى: (من اهتدى فانما يهتدى لنفسه ومن ضل فانما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر اخرى) قال في المفردات: الوزر الثقل تشبيها بوزر الجبل، ويعبر بذلك عن الاثم كما يعبر عنه بالثقل قال تعالى: (ليحملوا اوزارهم كاملة) الاية كقوله: (وليحملن اثقالهم واثقالا مع اثقالهم) قال: وقوله: (ولا تزر وازرة وزر اخرى) أي لا تحمل وزره من حيث يتعرى المحمول عنه. انتهى. والاية في موضع النتيجة لقوله: (وكل انسان الزمناه طائره) الخ والجملة الثالثة (ولا تزر وازرة وزر اخرى) تأكيد للجملة الثانية (ومن ضل فانما يضل عليها). والمعنى إذا كان العمل خيرا كان أو شرا يلزم صاحبه ولا يفارقه وهو محفوظ على صاحبه سيشاهده عند الحساب فمن اهتدى فانما يهتدى لنفسه وينتفع به نفسه من غير ان يتبع غيره. ومن ضل عن السبيل فانما يضل على نفسه ويتضرر به نفسه من دون ان يفارقه فيلحق غيره، ولا تتحمل نفس حامله حمل نفس اخرى لا كما ربما يخيل لاتباع الضلال انهم ان ضلوا فوبال ضلالهم على ائمتهم الذين اضلوهم وكما يتوهم المقلدون لابائهم واسلافهم ان آثامهم واوزارهم لابائهم واسلافهم لا لهم. نعم لائمة الضلال مثل اوزار متبعيهم، ولمن سن سنة سيئة اوزار من عمل بها ولمن قال: اتبعونا لنحمل خطاياكم آثام خطاياهم لكن ذلك كله وزر الامامة وجعل السنة وتحمل الخطايا لا عين ما للعامل من الوزر بحيث يفارق العمل عامله ويلحق المتبوع بل ان كان عينه فمعناه ان يعذب بعمل واحد اثنان. قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) ظاهر السياق الجارى في الاية وما يتلوها من الايات بل هي والايات السابقة ان يكون المراد بالتعذيب التعذيب الدنيوي بعقوبة الاستئصال، ويؤيده خصوص سياق النفى (وما كنا معذبين) حيث لم يقل: ولسنا معذبين ولا نعذب ولن نعذب بل قال: (وما كنا معذبين) الدال على استمرار النفى في الماضي الظاهر في انه كانت السنة الالهية في الامم الخالية الهالكة جارية على ان لا يعذبهم الا بعد ان يبعث إليهم رسولا ينذرهم بعذاب الله.

[ 58 ]

ويؤيده ايضا انه تعالى عبر عن هذا المبعوث بالرسول دون النبي فلم يقل حتى نبعث نبيا، وقد تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب في الفرق بين النبوة والرسالة ان الرسالة منصب خاص الهى يستعقب الحكم الفصل في الامة اما بعذاب الاستئصال واما بالتمتع من الحياة إلى اجل مسمى، قال تعالى: (ولكل امة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) يونس: 47 وقال: (قالت رسلهم ا في الله شك فاطر السماوات والارض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى اجل مسمى) ابراهيم: 10. فالتعبير بالرسول لافادة ان المراد نفى التعذيب الدنيوي دون التعذيب الاخروي أو مطلق التعذيب. فقوله: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) كالدفع لما يمكن ان يتوهم من سابق الايات المنبئة عن لحوق اثر الاعمال بصاحبها وبشارة الصالحين بالاجر الكبير والطالحين بالعذاب الاليم فيوهم ان تبعات السيئات اعم من العذاب الدنيوي والاخروي سيترتب عليها فيغشى صاحبها من غير قيد وشرط. فاجيب ان الله سبحانه برحمته الواسعة وعنايتة الكاملة لا يعذب الناس بعذاب الاستئصال وهو عذاب الدنيا الا بعد ان يبعث رسولا ينذرهم به وان كان له ان يعذبهم به لكنه برحمته ورافته يبالغ في الموعظة ويتم الحجة بعد الحجة ثم ينزل العقوبة فقوله: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) نفى لوقوع العذاب لا لجوازه. فالاية - كما ترى - ليست مسوقة لامضاء حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بل هي تكشف عن اقتضاء العناية الالهية ان لا يعذب قوما بعذاب الاستئصال الا بعد ان يبعث إليهم رسولا فيؤكد لهم الحجة ويقرعهم بالبيان بعد البيان. واما النبوة التى يبلغ بها التكاليف ونبين بها الشرائع فهى التى تستقر بها المؤاخذة الالهية والمغفرة، ويثبت بها الثواب والعقاب الاخرويان فيما لا يتبين فيه الحق والباطل الا من طريق النبوة كالتكاليف الفرعية، واما الاصول التى يستقل العقل بادراكها كالتوحيد والنبوة والمعاد فانما تلحق آثار قبولها وتبعات ردها الانسان بالثبوت العقلي من غير توقف على نبوة أو رسالة

[ 59 ]

وبالجملة اصول الدين وهى التى يستقل العقل ببيانها ويتفرع عليها قبول الفروع التى تتضمنها الدعوة النبوية، تستقر المؤاخذة الالهية على ردها بمجرد قيام الحجة القاطعة العقلية من غير توقف على بيان النبي والرسول لان صحة بيان النبي والرسول متوقفة عليها فلو توقف هي عليها لدارت. وتستقر المؤاخذة الاخروية على الفروع بالبيان النبوى ولا تتم الحجة فيها بمجرد حكم العقل، وقد فصلنا القول فيه في مباحث النبوة في الجزء الثاني وفي قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب، وفي غيرهما. والمؤاخذة الدنيوية بعذاب الاستئصال يتوقف على بعث الرسول بعناية من الله سبحانه لا لحكم عقلي يحيل هذا النوع من المؤاخذة قبل بعث الرسول كما عرفت. وللمفسرين في الاية مشاجرات طويلة تركنا التعرض لها لخروج اكثرها عن غرض البحث التفسيرى، ولعل الذى اوردناه من البحث لا يوافق ما اوردوه لكن الحق احق بالاتباع. قوله تعالى: (وإذا اردنا ان نهلك قرية امرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) قال الراغب: الترفة التوسع في النعمة يقال: اترف فلان فهو مترف - إلى ان قال في قوله: امرنا مترفيها - هم الموصوفون بقوله سبحانه: (فاما الانسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه) انتهى. وقال في المجمع: الترفة النعمة، قال ابن عرفة: المترف المتروك يصنع ما يشاء ولا يمنع منه، وقال: التدمير الاهلاك والدمار الهلاك. انتهى. وقوله: (إذا اردنا ان نهلك قرية) أي إذا دنا وقت هلاكهم من قبيل قولهم: إذا اراد العليل ان يموت كان كذا، وإذا ارادت السماء ان يمطر كان كذا، أي إذا دنا وقت موته وإذا دنا وقت امطارها فان من المعلوم انه لا يريد الموت بحقيقه معنى الارادة وانها لا تريد الامطار كذلك، وفي القرآن: (فوجدا جدارا يريد ان ينقض) الاية. ويمكن ان يراد به الارادة الفعلية وحقيقتها توافق الاسباب المقتضية للشئ

[ 60 ]

وتعاضدها على وقوعه، وهو قريب من المعنى الاول وحقيقته تحقق ما لهلاكهم من الاسباب وهو كفران النعمة والطغيان بالمعصية كما قال سبحانه: (لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي لشديد) ابراهيم: 7، وقال: (الذين طغوا في البلاد فاكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب ان ربك لبالمرصاد) الفجر: 14. وقوله: (امرنا مترفيها ففسقوا فيها) من المعلوم من كلامه تعالى انه لا يامر بالمعصية امرا تشريعيا فهو القائل: (قل ان الله لا يامر بالفحشاء) الاعراف: 28 واما الامر التكويني فعدم تعلقه بالمعصية من حيث انها معصية اوضح لجعله الفعل ضروريا يبطل معه تعلقه باختيار الانسان ولا معصية مع عدم الاختيار قال تعالى: (انما امره إذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون) يس: 82. فمتعلق الامر في قوله: (امرنا) ان كان هو الطاعة كان الامر بحقيقة معناه وهو الامر التشريعي وكان هو الامر الذى توجه إليهم بلسان الرسول الذى يبلغهم امر ربهم وينذرهم بعذابه لو خالفوا وهو الشان الذى يختص بالرسول كما تقدمت الاشارة إليه فإذا خالفوا وفسقوا عن امر ربهم حق عليهم القول وهو انهم معذبون ان خالفوا فاهلكوا ودمروا تدميرا. وان كان متعلق الامر هو الفسق والمعصية كان الامر مرادا به الاكثار من افاضة النعم عليهم وتوفيرها على سبيل الاملاء والاستدراج وتقريبهم بذلك من الفسق حتى يفسقوا فيحق عليهم القول وينزل عليهم العذاب. وهذان وجهان في معنى قوله: (امرنا مترفيها ففسقوا فيها) يجوز توجيهه بكل منهما لكن يبعد اول الوجهين اولا ان قولنا: امرته ففعل وامرته ففسق ظاهره تعلق الامر بعين ما فرع عليه، وثانيا عدم ظهور وجه لتعلق الامر بالمترفين مع كون الفسق لجميع اهل القرية والا لم يهلكوا. قال في الكشاف: والامر مجاز لان حقيقة امرهم بالفسق ان يقول لهم: افسقوا، وهذا لا يكون فبقى ان يكون مجازا، ووجه المجاز انه صب عليهم النعمة صبا

[ 61 ]

فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات فكأنهم مامورون بذلك لتسبب ايلاء النعمة فيه، وانما خولهم اياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الاحسان والبر كما خلقهم اصحاء اقوياء واقدرهم على الخير والشر وطلب منهم ايثار الطاعة على المعصية فاثروا الفسوق فلما فسقوا حق عليهم القول وهو كلمة العذاب فدمرهم. فان قلت: هلا زعمت ان معناه امرناهم بالطاعة ففسقوا ؟ قلت لان حذف ما لا دليل عليه غير جائز فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه ؟ وذلك ان المأمور به انما حذف لان فسقوا يدل عليه وهو كلام مستفيض يقال: امرته فقام وامرته فقرا لا يفهم منه الا ان المأمور به قيام أو قراءة ولو ذهبت تقدر غيره لزمت من مخاطبك علم الغيب. ولا يلزم على هذا قولهم: امرته فعصاني أو فلم يمتثل امرى لان ذلك مناف للامر مناقض له، ولا يكون ما يناقض الامر مامورا به فكان محالا ان يقصد اصلا حتى يجعل دالا على المأمور به فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوى لان من يتكلم بهذا الكلام فانه لا ينوى لامره مامورا به كانه يقول: كان منى امر فلم يكن منه طاعة كما ان من يقول: فلان يعطى ويمنع ويامر وينهى غير قاصد إلى مفعول. فان قلت: هلا كان ثبوت العلم بان الله لا يامر بالفحشاء وانما يامر بالقصد والخير دليلا على ان المراد امرناهم بالخير ففسقوا ؟ قلت: لا يصح ذلك لان قوله: ففسقوا يدافعه فكانك اظهرت شيئا وانت تدعى اضمار خلافه فكان صرف اللفظ إلى المجاز هو الوجه. انتهى. وهو كلام حسن في تقريب ظهور قوله: (امرنا مترفيها ففسقوا فيها) في كون المأمور به هو الفسق واما كونه صريحا فيه بحيث لا يحتمل الا ذلك كما يدعيه فلا، فلم لا يجوز ان تكون الاية من قبيل قولنا: امرته فعصاني حيث تكون المعصية وهى منافية للامر قرينة على كون المأمور به هو الطاعة والفسق والمعصية واحد فان الفسق هو الخروج عن زى العبودية والطاعة فهو المعصية ويكون المعنى حينئذ: امرنا

[ 62 ]

مترفيها بالطاعة ففسقوا عن امرنا وعصوه، أو يكون الامر في الاية مستعملا استعمال اللازم، والمعنى توجه امرنا إلى مترفيها ففسقوا فيها عنه. فالحق ان الوجهين لا باس بكل منهما وان كان الثاني لا يخلو من ظهور، وقد اجيب عن اختصاص الامر بالمترفين بانهم الرؤساء السادة والائمة المتبوعون وغيرهم اتباعهم وحكم التابع تابع لحكم المتبوع ولا يخلو من سقم. وذكر بعضهم في توجيه الاية ان قوله: (امرنا مترفيها) الخ صفة لقرية وليس جوابا لاذا وجواب إذا محذوف على حد قوله: حتى إذا جاؤها وفتحت ابوابها وقال لهم خزنتها إلى آخر الاية للاستغناء عنه بدلالة الكلام. وذكر آخرون ان في الاية تقديما وتاخيرا والتقدير وإذا امرنا مترفى قرية ففسقوا فيها اردنا ان نهلكها، وذلك انه لا معنى لارادة الهلاك قبل تحقق سببه وهو الفسق، وهو وجه سخيف كسابقه. هذا كله على القراءة المعروفة (امرنا) بفتح الهمزة ثم الميم مخففة من الامر بمعنى الطلب، وربما اخذ من الامر بمعنى الاكثار أي اكثرنا مترفيها مالا وولدا ففسقوا فيها. وقرئ (آمرنا) بالمد ونسب إلى على عليه السلام والى عاصم وابن كثير ونافع وغيرهم وهو من الايمان بمعنى اكثار المال والنسل أو بمعنى تكليف انشاء فعل، وقرئ ايضا (امرنا) بتشديد الميم من التامير بمعنى تولية الامارة ونسب ذلك إلى على والحسن والباقر عليه السلام وإلى ابن عباس وزيد بن على وغيرهم. قوله تعالى: (وكم اهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا) قال في المفردات: القرن القوم المقترنون في زمن واحد وجمعه قرون قال: (ولقد اهلكنا القرون من قبلكم) (وكم اهلكنا من القرون) انتهى ومعنى الاية ظاهر، وفيها تثبيت ما ذكر في الاية السابقة من سنة الله الجارية في اهلاك القرى بالاشارة إلى القرون الماضية الهالكة. والاية لا تخلو من اشعار بان سنة الا هلاك انما شرعت في القرون الانسانية بعد نوح

[ 63 ]

عليه السلام وهو كذلك، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: (كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين) البقره: 213 في الجزء الثاني من الكتاب ان المجتمع الانساني قبل زمن نوح عليه السلام كانوا على سذاجة الفطرة ثم اختلفوا بعد ذلك. قوله تعالى: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا) العاجلة صفة محذوفة الموصوف ولعل موصوفها الحياة بقرينة مقابلتها للاخرة في الاية التالية وهى الحياة الاخرة وقيل: المراد النعم العاجلة وقيل: الاعراض الدنيوية العاجلة. وفي المفردات: اصل الصلى لا يقاد النار. قال: وقال الخليل: صلى الكافر النار قاسى حرها (يصلونها فبئس المصير) وقيل: صلى النار دخل فيها، واصلاها غيره قال: (فسوف نصليه نارا) انتهى. وفي المجمع: الدحر الابعاد والمدحور المبعد المطرود يقال: اللهم ادحر عنا الشيطان أي ابعده انتهى. لما ذكر سبحانه سنته في التعذيب الدنيوي اثر دعوة الرسالة وانه يهدى الامم الانسانية إلى الايمان والعمل الصالح حتى إذا فسدوا وافسدوا بعث إليهم رسولا فإذا طغوا وفسقوا عذبهم عذاب الاستئصال، عاد إلى بيان سنته في التعذيب الاخروي والاثابة فيها في هذه الاية والايتين بعدها يذكر في آية ملاك عذاب الاخرة، وفي آية ملاك ثوابها، وفي آية محصل القول والاصل الكلى في ذلك. فقوله: (من كان يريد العاجلة) أي الذى يريد الحياة العاجلة وهى الحياة الدنيا، وارادة الحياة الدنيا انما هي طلب ما فيها من المتاع الذى تلتذ به النفس ويتعلق به القلب، والتعلق بالعاجلة وطلبها انما يعد طلبا لها إذا كانت مقصودة بالاستقلال لا لاجل التوسل بها إلى سعادة الاخرى والا كانت ارادة للاخرة فان الاخرة لا يسلك إليها الا من طريق الدنيا فلا يكون الانسان مريدا للدنيا الا إذا اعرض عن الاخرة ونسيها فتمحضت ارادته في الدنيا، ويدل عليه ايضا خصوص التعبير في الاية (من كان يريد) حيث يدل على استمرار الارادة. وهذا هو الذى لا يرى لنفسه الا هذه الحياة المادية الدنيوية وينكر الحياة الاخرة،

[ 64 ]

ويلغو بذلك القول بالنبوة والتوحيد إذ لا اثر للايمان بالله ورسله والتدين بالدين لو لا الاعتقاد بالمعاد، قال تعالى: (فاعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد الا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله) النجم: 30. وقوله: (عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) أي اسرعنا في اعطائه ما يريده في الدنيا لكن لا باعطائه ما يريده بل باعطائه ما نريده فالامر الينا لا إليه والاثر لارادتنا لا لارادته، ولا باعطاء ما نعطيه لكل من يريد بل لمن نريد فليس يحكم فينا ارادة الاشخاص بل ارادتنا هي التى تحكم فيهم. وارادته سبحانه الفعلية لشئ هو اجتماع الاسباب على كينونته وتحقق العلة التامة لظهوره فالاية تدل على ان الانسان وهو يريد الدنيا يرزق منها على حسب ما يسمح له الاسباب والعوامل التى اجراها الله في الكون وقدر لها من الاثار فهو ينال شيئا مما يريده ويساله بلسان تكوينه لكن ليس له الا ما يهدى إليه الاسباب والله من ورائهم محيط. وقد ذكر الله سبحانه هذه الحقيقة بلسان آخر في قوله: (ولو لا ان يكون الناس امة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم ابوابا وسررا عليها يتكؤن وزخرفا وان كل ذلك لما متاع الحيوة الدنيا) الزخرف: 35 أي لو لا ان الناس جميعا يعيشون على نسق واحد تحت قانون الاسباب والعلل، ولا فرق بين الكافر والمؤمن قبال العلل الكونية بل من صادفته اسباب الغنى والثروة اثرته واغنته مؤمنا كان ام كافرا، ومن كان بالخلاف فبالخلاف، خصصنا الكفار بمزيد النعم الدنيوية إذ ليس لها عندنا قدر ولا في سوق الاخرة من قيمة. وذكر بعضهم: ان المراد بارادة العاجلة ارادتها بعمله وهو ان يريد بعمله الدنيا دون الاخرة فهو محروم من الاخرة، وهو تقييد من غير مقيد، ولعله اخذه من قوله تعالى: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم اعمالهم فيها و هم فيها لا يبخسون اولئك الذين ليس لهم في الاخرة الا النار) هود: 16 لكن الايتين مختلفتان غرضا فالغرض فيما نحن فيه بيان ان مريد الدنيا لا ينال الا منها، والغرض من آية سورة

[ 65 ]

هود ان الانسان لا ينال الا عمله فإذا كان مريدا للدنيا وفى إليه عمله فيها، وبين الغرضين فرق واضح فافهم ذلك. وقوله: (ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا) أي وجعلنا جزاءه في الاخرة جهنم يقاسى حرها وهو مذموم مبعد من الرحمة، والقيدان يفيدان انه مخصوص بجهنم محروم من المغفرة والرحمة. والاية وان كانت تبين حال من تعلق بالدنيا ونسى الاخرة وانكرها غير ان الطلب والانكار مختلفان بالمراتب فمن ذلك ما هو كذلك قولا وفعلا ومنه ما هو كذلك فعلا مع الاعتراف به قولا، وتصديق ذلك قوله تعالى فيما سيأتي: (وللاخرة اكبر درجات) الاية. قوله تعالى: (ومن اراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فاولئك كان سعيهم مشكورا) قال الراغب: السعي المشى السريع وهو دون العدو، ويستعمل للجد في الامر خيرا كان أو شرا، انتهى موضع الحاجة. وقوله: (من اراد الاخرة) أي الحياة الاخرة نظير ما تقدم من قوله: (من كان يريد العاجلة) والكلام في قول من قال: يعنى من اراد بعمله الاخرة نظير الكلام في مثله في الاية السابقة. وقوله (وسعى لها سعيها) اللام للاختصاص وكذا اضافة السعي إلى ضمير الاخرة، والمعنى وسعى وجد للاخرة السعي الذى يختص بها، ويستفاد منه ان سعيه لها يجب ان يكون سعيا يليق بها ويحق لها كان يكون يبذل كمال الجهد في حسن العمل واخذه من عقل قطعي أو حجة شرعية. وقوله: (وهو مؤمن) أي مؤمن بالله ويستلزم ذلك توحيده والاذعان بالنبوة والمعاد فان من لا يعترف باحدى الخصال الثلاث لا يعده الله سبحانه في كلامه مؤمنا به وقد تكاثرت الايات فيه. على ان نفس التقييد بقوله: (وهو مؤمن) يكفى في التقييد المذكور فان من

[ 66 ]

اراد الاخرة وسعى لها سعيها فهو مؤمن بالله وبنشاة وراء هذه النشاة الدنيوية قطعا فلو لا ان التقييد بالايمان لافادة وجوب كون الايمان صحيحا ومن صحته ان يصاحب التوحيد والاذعان بالنبوة لم يكن للتقييد وجه فمجرد التقييد بالايمان يكفى مؤونة الاستعانة بايات اخر. وقوله: (فاولئك كان سعيهم مشكورا) أي يشكره الله بحسن قبوله والثناء على ساعيه، وشكره تعالى على عمل العبد تفضل منه على تفضل فان اصل اثابته العبد على عمله تفضل لان من وظيفة العبد ان يعبد مولاه من غير وجوب الجزاء عليه فالاثابة تفضل، والثناء عليه بعد الاثابة تفضل على تفضل والله ذو الفضل العظيم. وفي الايتين دلالة على ان الاسباب الاخروية وهى الاعمال لا تتخلف عن غاياتها بخلاف الاسباب الدنيوية فانه سبحانه يقول فيمن عمل للاخرة: (فاولئك كان سعيهم مشكورا) ويقول فيمن عمل للدنيا: (عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد). قوله تعالى: (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا) قال في المفردات اصل المد الجر ومنه المدة للوقت الممتد ومدة الجرح ومد النهر و مده نهر آخر ومددت عينى إلى كذا قال تعالى: (ولا تمدن عينيك) الاية ومددته في غيه... وامددت الجيش بمدد والانسان بطعام قال: واكثر ما جاء الامداد في المحبوب والمد في المكروه نحو (وامددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون) (ونمد له من العذاب مدا) (ونمدهم في طغيانهم) (واخوانهم يمدونهم في الغى) انتهى بتلخيص منا. فامداد الشئ ومده ان يضاف إليه من نوعه مثلا ما يمتد به بقاؤه ويدوم به وجوده ولو لا ذلك لانقطع كالعين من الماء التى تستمد من المنبع ويضاف إليها منه الماء حينا بعد حين ويمتد بذلك جريانها. والله سبحانه يمد الانسان في اعماله سواء كان ممن يريد العاجلة أو الاخرة فان جميع ما يتوقف عليه العمل في تحققه من العلم والارادة والادوات البدنية والقوى العمالة و المواد الخارجية التى يقع عليها العمل ويتصرف فيها العامل والاسباب والشرائط

[ 67 ]

المربوطة بها كل ذلك امور تكوينية لا صنع للانسان فيها ولو فقد كلها أو بعضها لم يكن العمل، والله سبحانه هو الذى يفيضها بفضله ويمد الانسان بها بعطائه، ولو انقطع منه العطاء انقطع من العامل عمله. فاهل الدنيا في دنياهم واهل الاخرة في آخرتهم يستمدون من عطائه تعالى ولا يعود إليه سبحانه في عطائه الا الحمد لان الذى يعطيه نعمة على الانسان ان يستعمله استعمالا حسنا في موضع يرتضيه ربه، واما إذا فسق بعدم استعماله فيه وحرف الكلمة عن موضعها فلا يلومن الا نفسه وعلى الله الثناء على جميل صنعه وله الحجة البالغة. فقوله: (كلا نمد) أي كلا من الفريقين المعجل لهم والمشكور سعيهم نمد، وانما قدم المفعول على فعله لتعلق العناية به في الكلام فان المقصود بيان عموم الامداد للفريقين جميعا. وقوله: (هؤلاء وهؤلاء) أي هؤلاء المعجل لهم وهؤلاء المشكور سعيهم بما ان لكل منهما نعته الخاص به، ويؤل المعنى إلى ان كلا من الفريقين تحت التربية الالهية يفيض عليهم من عطائه من غير فرق غير ان احدهما يستعمل النعمة الالهية لابتغاء الاخرة فيشكر الله سعيه، والاخر يستعملها لابتغاء العاجلة وينسى الاخرة فلا يبقى له فيها الا الشقاء والخيبة. وقوله: (من عطاء ربك) فان جميع ما يستفيدون منه في اعمالهم كما تقدم لا صنع لهم ولا لغيرهم من المخلوقين فيه بل الله سبحانه هو الموجد لها ومالكها فهى من عطائه. ويستفاد من هذا القيد وجه ما ذكر لكل من الفريقين من الجزاء فان اعمالهم لما كانت بامداده تعالى من خالص عطائه فحقيق على من يستعمل نعمته في الكفر والفسوق ان يصلى النار مذموما مدحورا، وعلى من يستعملها في الايمان به وطاعته ان يشكر سعيه. وفي قوله: (ربك) التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة وقد كرر ذلك مرتين والظاهر ان النكتة فيه الاشارة إلى ان امدادهم من شؤون صفة الربوبية والله سبحانه هو الرب لا رب غيره غير ان الوثنيين يتخذون من دونه اربابا ولذلك نسب ربوبيته إلى نبيه فقال: (ربك).

[ 68 ]

وقوله: (وما كان عطاء ربك محظورا) أي ممنوعا - والحظر المنع - فاهل الدنيا واهل الاخرة مستمدون من عطائه منعمون بنعمته ممنونون بمنته. وفي الاية دلالة على ان العطاء الالهى مطلق غير محدود بحد لمكان اطلاق العطاء ونفى الحظر في الاية فما يوجد من التحديد والتقدير والمنع باختلاف الموارد فانما هو من ناحية المستفيض وخصوص استعداده للاستفاضة أو فقدانه من راس لا من ناحية المفيض. ومن عجيب ما قيل في الاية ما نسب إلى الحسن وقتادة ان المراد بالعطاء العطاء الدنيوي فهو المشترك بين المؤمن والكافر واما العطاء الاخروي فللمؤمنين خاصة، والمعنى كما قيل: كل الفريقين نمد بالعطايا العاجلة لا الفريق الاول المريد للعاجلة فقط وما كان عطاؤه الدنيوي محظورا من احد. وفيه انه تقييد من غير مقيد مع صلاحية المورد للاطلاق واما ما ذكر من اختصاص العطاء الاخروي بالمؤمنين من غير مشاركة الكفار لهم فيه فخارج من مصب الكلام في الاية فان الكلام في الامداد الذى يمد به الاعمال المنتهية إلى الجزاء لا في الجزاء، وعطايا المؤمنين في الاخرة من الجزاء لا من قبيل الاعمال، ونفس ما يمد به اعمال الفريقين عطايا دنيوية واخروية على ان العطايا الاخروية ايضا مشتركة غير محظورة والحظر فيها من قبل الكافرين كما ان الامر في العطايا الدنيوية ايضا كذلك فربما يمنع لكن لا من قبل محدودية العطاء بل من قبل عدم صلاحية القابل. وقال في روح المعاني: ان التقسيم الذى تضمنته الاية غير حاصر وذلك غير مضر، والتقسيم الحاصر ان كل فاعل اما ان يريد بفعله العاجلة فقط أو يريد الاخرة فقط أو يريدهما معا أو لم يرد شيئا والقسمان الاولان قد علم حكمهما من الاية، والقسم الثالث ينقسم إلى ثلاثة اقسام لانه اما ان تكون ارادة الاخرة ارجح أو تكون مرجوحة أو تكون الارادتان متعادلتين. ثم اطال البحث فيما تكون فيه ارادة الاخرة ارجح ونقل اختلاف العلماء في قبول هذا النوع من العمل، ونقل اتفاقهم على عدم قبول ما يترجح فيه باعث الدنيا أو كان

[ 69 ]

الباعثان فيه متساويين. قال: واما القسم الرابع عند القائلين بان صدور الفعل من القادر يتوقف على حصول الداعي فهو ممتنع الحصول والذين قالوا: انه لا يتوقف، قالوا ذلك الفعل لا اثر له في الباطن وهو محرم في الظاهر. انتهى وقد سبقه إلى هذا التقسيم والبحث غيره. وانت خبير بان الايات الكريمة ليست في مقام بيان حكم الرد والقبول بالنسبة إلى كل عمل عمل صدر عن عامل بل هي تأخذ غاية الانسان وتعينها بحسب نشاة حياته مرة متعلقة بالحياة العاجلة و لازمه ان لا يريد باعماله الا مزايا الحياة الدنيوية المادية ويعرض عن الاخرى، و مرة متعلقة بالحياة الاخرة ولازمه ان يرى لنفسه حياة خالدة دائمة، بعضها وهى الحياة الدنيا مقدمة للبعض الاخر وهى الحياة بعد الموت واعماله في الدنيا مقصودة بها سعادة الاخرى. ومعلوم ان هذا التقسيم لا ينتج الا قسمين نعم احد القسمين ينقسم إلى اقسام لم يستوف احكامها في الايات لعدم تعلق الغرض بها و ذلك ان من اراد الاخرة ربما سعى لها سعيها وربما لم يسع لها سعيها كالفساق و اهل البدع، وعلى كلا الوجهين ربما كان مؤمنا وربما لم يكن مؤمنا، ولم يذكر في كلامه تعالى الا حكم طائفة خاصة وهى من اراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن لان الغرض تمييز ملاك السعادة من ملاك الشقاء لا بيان تفصيل الاحوال. قوله تعالى: (انطر كيف فضلنا بعضهم على بعض والاخرة اكبر درجات اكبر تفضيلا) اشارة الا تفاوت الدرجات بتفاوت المساعى حتى لا يتوهم ان قليل العمل وكثيره على حد سواء ويسير السعي والسعى البالغ لا فرق بينهما فان تسوية القليل والكثير والجيد والردى في الشكر والقبول رد في الحقيقة لما يزيد به الافضل على غيره. وقوله: (انطر كيف فضلنا بعضهم على بعض) أي بعض الناس على بعض في الدنيا، والقرينة على هذا التقييد قوله بعد: (والاخرة اكبر) والتفضيل في الدنيا هو ما يزيد به بعض اهلها على بعض من اعراضها وامتعتها كالمال والجاه والولد والقوة

[ 70 ]

والصيت والرئاسة والسؤدد والقبول عند الناس. وقوله: (وللاخرة اكبر درجات واكبر تفضيلا) أي هي اكبر من الدنيا في الدرجات والتفضيل فلا يتو همن متوهمن ان اهل الاخرة في عيشة سواء ولا ان التفاوت بين معايشهم كتفاوت اهل الدنيا في دنياهم بل الدار اوسع من الدنيا بما لا يقاس وذلك ان سبب التفضيل في الدنيا هي اختلاف الاسباب الكونية وهى محدودة والدار دار التزاحم وسبب التفضيل واختلاف الدرجات في الاخرة هو اختلاف النفوس في الايمان والاخلاص وهى من احوال القلوب، واختلاف احوالها اوسع من اختلاف احوال الاجسام بما لا يقاس قال تعالى: (ان تبدوا ما في انفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) البقرة: 284 وقال: (يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم) الشعراء: 89. ففى الاية امره صلى الله عليه وآله وسلم ان ينظر إلى ما بين اهل الدنيا من التفاضل والاعتبار ليجعل ذلك ذريعة إلى فهم ما بين اهل الاخرة من تفاوت الدرجات والتفاضل في المقامات فان اختلاف الاحوال في الدنيا يؤدى إلى اختلاف الادراكات الباطنة والنيات والاعمال التى يتيسر للانسان ان ياتي بها واختلاف ذلك يؤدى إلى اختلاف الدرجات في الاخرة. قوله تعالى: (لا تجعل مع الله الها آخر فتقعد ملوما مخذولا) قال في المفردات: الخذلان ترك من يظن به ان ينصر نصرته انتهى. والاية بمنزلة النتيجة للايات السابقة التى ذكرت سنة الله في عباده وختمت في ان من اراد منهم العاجلة انتهى به ذلك إلى ان يصلى جهنم مذموما مدحورا، ومن اراد منهم الاخرة شكر الله سعيه الجميل، والمعنى لا تشرك بالله سبحانه حتى يؤديك ذلك إلى ان تقعد وتحتبس عن السير إلى درجات القرب وانت مذموم لا ينصرك الله ولا ناصر دونه وقيل: القعود كناية عن المذلة والعجز.

[ 71 ]

بحث روانى في الكافي باسناده عن ابى عمرو الزبيري عن ابى عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: (ان هذا القرآن يهدى للتى هي اقوم) قال: أي يدعو. وفي تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار عن ابى جعفر عليه السلام:) ان هذا القرآن يهدى للتى هي اقوم) قال: يهدى إلى الولاية. اقول: وهى من الجرى ويمكن ان يراد به ما عند الامام من كمال معارف الدين ولعله المراد مما في بعض الروايات من قوله: يهدى إلى الامام. وعنه: وفي رواية ابى الجارود عن ابى جعفر عليه السلام في قوله: (وكل انسان الزمناه طائره في عنقه) يقول: خيره وشره معه حيث كان لا يستطيع فراقه حتى يعطى كتابه بما عمل. وفيه عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن ابى جعفر وابى عبد الله عليهما السلام عن الاية قال: قدره الذى قدر عليه. وفيه عن خالد بن يحيى عن ابى عبد الله عليه السلام في قوله: (اقرا كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) قال يذكر العبد جميع ما عمل وما كتب عليه حتى كانه فعله تلك الساعة فلذلك قالوا: يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا احصاها. وفيه عن حمران عن ابى جعفر عليه السلام في قوله: (امرنا مترفيها) مشددة منصوبة تفسيرها: كثرنا، وقال: لا قراتها مخففة. اقول: وفي حديث آخر عن حمران عنه: تفسيرها امرنا اكابرها. وقد روى في قوله تعالى: (ويدع الانسان بالشر) الاية وقوله: (وجعلنا الليل والنهار آيتين) الاية وقوله: (وكل انسان الزمناه طائره) الاية من طرق الفريقين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى عليه السلام وسلمان وغيره روايات تركنا ايرادها لعدم تايدها بكتاب أو سنة أو حجة عقلية قاطعة مع ما فيها من ضعف الاسناد.

[ 72 ]

كلام في القضاء في فصول 1 - في تحصيل معناه وتحديده. انا نجد الحوادث الخارجية والامور الكونيه بالقياس إلى عللها والاسباب المقتضية لها على احدى حالتين فانها قبل ان تتم عللها الموجبة لها والشرائط وارتفاع الموانع التى يتوقف عليها حدوثها وتحققها لا يتعين لها التحقق والثبوت ولا عدمه بل يتردد امرها بين ان تتحقق وان لا تتحقق من راس. فإذا تمت عللها الموجبة لها وكملت ما تتوقف عليه من الشرائط وارتفاع الموانع ولم يبق لها الا ان تتحقق خرجت من التردد والابهام وتعين لها احد الطرفين وهو التحقق، أو عدم التحقق، ان فرض انعدام شئ مما يتوقف عليه وجودها. ولا يفارق تعين التحقق نفس التحقق. والاعتباران جاريان في افعالنا الخارجية فما لم نشرف على ايقاع فعل من الافعال كان مترددا بين ان يقع أو لا يقع فإذا اجتمعت الاسباب والاوضاع المتقضية واتممناها بالارادة والاجماع بحيث لم يبق له الا الوقوع والصدور عينا له احد الجانبين فتعين له الوقوع. وكذا يجرى نظير الاعتبارين في اعمالنا الوضعية الاعتبارية كما إذا تنازع اثنان في عين يدعيه كل منهما لنفسه كان امر مملوكيته مرددا بين ان يكون لهذا أو لذاك فإذا رجعا إلى حكم يحكم بينهما فحكم لاحدهما دون الاخر كان فيه فصل الامر عن الابهام والتردد وتعيين احد الجانبين بقطع رابطته مع الاخر. ثم توسع فيه ثانيا فجعل الفصل والتعيين بحسب القول كالفصل والتعيين بحسب الفعل فقول الحكم: ان المال لاحد المتنازعين فصل للخصومة وتعيين لاحد الجانبين بعد التردد بينهما، وقول المخبر ان كذا كذا، فصل وتعيين، وهذا المعنى هو الذى نسميه القضاء. ولما كانت الحوادث في وجودها وتحققها مستندة إليه سبحانه وهى فعله جرى

[ 73 ]

فيها الاعتبار ان بعينهما فهى ما لم يرد الله تحققها ولم يتم لها العلل والشرائط الموجبة لوجودها باقية على حال التردد بين الوقوع واللاوقوع فإذا شاء الله وقوعها واراد تحققها فتم لها عللها وعامة شرائطها ولم يبق لها الا ان توجد كان ذلك تعيينا منه تعالى وفصلا لها من الجانب الاخر وقطعا للابهام، ويسمى قضاء من الله. ونظير الاعتبارين جار في مرحلة التشريع وحكمه القاطع بامر وفصله القول فيه قضاء منه. وعلى ذلك جرى كلامه تعالى فيما اشار فيه إلى هذه الحقيقة، قال تعالى: (وإذا قضى امرا فانما يقول له كن فيكون) البقرة: 117، وقال: (فقضاهن سبع سماوات في يومين) حم السجدة: 12، وقال: (قضى الامر الذى فيه تستفتيان) يوسف: 41، وقال: (وقضينا إلى بنى اسرائيل في الكتاب لتفسدن في الارض مرتين) اسراء: 4 إلى غير ذلك من الايات المتعرضة للقضاء التكويني. ومن الايات المتعرضة للقضاء التشريعي قوله: (وقضى ربك الا تعبدوا الا اياه وبالوالدين احسانا) اسراء: 23، وقوله: (ان ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) يونس: 93، وقوله: (وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) الزمر: 75، وما في الاية وما قبلها من القضاء بمعنى فصل الخصومة تشريعي بوجه وتكوينى باخر. فالايات الكريمة - كما ترى - تمضى صحة هذين الاعتبارين العقليين في الاشياء الكونية من جهة انها افعاله تعالى، وكذا في التشريع الالهى من جهة انه فعله التشريعي، وكذا فيما ينسب إليه تعالى من الحكم الفصل. وربما عبر عنه بالحكم والقول بعناية اخرى قال تعالى: (الا له الحكم) الانعام: 62، وقال: (والله يحكم لا معقب لحكمه) الرعد: 41، وقال: (ما يبدل القول لدى) ق: 29، وقال: (والحق اقول) ص: 84. 2 - نظرة فلسفية في معنى القضاء. لا ريب ان قانون العلية والمعلولية ثابت وان الموجود الممكن معلول له سبحانه اما بلا واسطة معها، وان المعلول إذا نسب

[ 74 ]

إلى علته التامة كان له منها الضرورة والوجوب إذ ما لم يجب لم يوجد، وإذا لم ينسب إليها كان له الامكان سواء اخذ في نفسه ولم ينسب إلى شئ كالماهية الممكنة في ذاتها أو نسب إلى بعض اجزاء علته التامة فانه لو اوجب ضرورته ووجوبه كان علة له تامة والمفروض خلافه. ولما كانت الضرورة هي تعين احد الطرفين وخروج الشئ عن الابهام كانت الضرورة المنبسطة على سلسلة الممكنات من حيث انتسابها إلى الواجب تعالى الموجب لكل منها في ظرفه الذى يخصه قضاء عاما منه تعالى كما ان الضرورة الخاصة بكل واحد منها قضاء خاص به منه، إذ لا نعنى بالقضاء الا فصل الامر وتعيينه عن الابهام والتردد. ومن هنا يظهر ان القضاء من صفاته الفعلية وهو منتزع من الفعل من جهة نسبته إلى علته التامة الموجبة له. 3 - والروايات في تأييد ما تقدم كثيرة جدا: ففى المحاسن عن ابيه عن ابن ابى عمير عن هشام بن سالم قال: قال أبو عبد الله عليه السلام ان الله إذا اراد شيئا قدره فإذا قدره قضاه فإذا قضاه امضاه. وفيه عن ابيه عن ابن ابى عمير عن محمد بن اسحاق قال قال: أبو الحسن عليه السلام ليونس مولى على بن يقطين: يا يونس لا تتكلم بالقدر قال: انى لا اتكلم بالقدر ولكن اقول: لا يكون الا ما اراد الله وشاء وقضى وقدر فقال ليس هكذا اقول ولكن اقول: لا يكون الا ما شاء الله واراد وقدر وقضى. ثم قال: اتدرى ما المشية ؟ فقال: لا فقال: همه بالشئ أو تدرى ما اراد ؟ قال: لا، قال: اتمامه على المشية فقال: أو تدرى ما قدر ؟ قال: لا، قال: هو الهندسة من الطول والعرض والبقاء ثم قال ان الله إذا شاء شيئا اراده وإذا اراد قدره وإذا قدره قضاه وإذا قضاه امضاه الحديث. وفي رواية اخرى عن يونس عنه عليه السلام قال: لا يكون الا ما شاء الله واراد وقدر وقضى. قلت فما معنى شاء ؟ قال: ابتداء الفعل. قلت: فما معنى اراد ؟ قال: الثبوت عليه. قلت: فما معنى قدر ؟ قال: تقدير الشئ من طوله وعرضه. قلت:

[ 75 ]

فما معنى قضى ؟ قال: إذا قضى امضى فذلك الذى لا مرد له. وفي التوحيد عن الدقاق عن الكليني عن ابن عامر عن المعلى قال: سئل العالم عليه السلام كيف علم الله ؟ قال: علم وشاء واراد وقدر وقضى وامضى فامضى ما قضى وقضى ما قدر وقدر ما اراد فبعلمه كانت المشية وبمشيته كانت الارادة وبارادته كان التقدير وبتقديره كان القضاء وبقضائه كان الامضاء فالعلم متقدم على المشية والمشية ثانية والارادة ثالثة والتقدير واقع على القضاء بالامضاء. فلله تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء وفيما اراد لتقدير الاشياء فإذا وقع القضاء بالامضاء فلا بداء. الحديث. والذى ذكره عليه السلام من ترتب المشية على العلم والارادة على المشية وهكذا ترتب عقلي بحسب صحة الانتزاع. وفيه باسناده عن ابن نباتة قال: ان امير المؤمنين عليه السلام عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له: يا امير المؤمنين تفر من قضاء الله ؟ قال: افر من قضاء الله إلى قدر الله عزوجل. اقول: وذلك ان القدر لا يحتم المقدر فمن المرجو ان لا يقع ما قدر اما إذا كان القضاء فلا مدفع له، والروايات في المعاني المتقدمة كثيرة من طرق ائمة اهل البيت عليهم السلام. بحث فلسفي في ان الفيض مطلق غير محدود على ما يفيده قوله تعالى: (وما كان عطاء ربك محظورا). اطبقت البراهين على ان وجود الواجب تعالى بما انه واجب لذاته مطلق غير محدود بحد ولا مقيد بقيد ولا مشروط بشرط والا انعدم فيما وراء حده وبطل على تقدير عدم قيده أو شرطه وقد فرض واجبا لذاته فهو واحد وحدة لا يتصور لها ثان ومطلق

[ 76 ]

اطلاقا لا يتحمل تقييدا. وقد ثبت ايضا ان وجود ما سواه اثر مجعول له وان الفعل ضروري المسانخة لفاعله فالاثر الصادر منه واحد بوحدة حقة ظلية مطلق غير محدود والا تركبت ذاته من حد ومحدود وتالفت من وجود وعدم وسرت هذه المناقضة الذاتية إلى ذات فاعله لمكان المسانخة بين الفاعل وفعله، وقد فرض انه واحد مطلق فالوجود الذى هو فعله، واثره المجعول واحد غير كثير ومطلق غير محدود وهو المطلوب. فما يتراءى في الممكنات من جهات الاختلاف التى تقضى بالتحديد من النقص والكمال والوجدان والفقدان عائدة إلى انفسها دون جاعلها. وهى ان كانت في اصل وجودها النوعى أو لوازمها النوعية فمنشاها ما هياتها القابلة للوجود بامكانها الذاتي كالانسان والفرس المختلفين في نوعيهما ولوازم نوعيهما وان كانت في كمالاتها الثانية المختلفة باختلاف افراد النوع من فاقد للكمال محروم منه وواجد له والواجد للكمال التام أو الناقص فمنشاها اختلاف الاستعدادات المادية باختلاف العلل المعدة المهياة للاستفاضة من العلة المفيضة. فالذي تفيضه العلة المفيضة من الاثر واحد مطلق، لكن القوابل المختلفة تكثره باختلاف قابليتها فمن راد له متلبس بخلافه ومن قابل يقبله تاما ومن قابل يقبله ناقصا ويحوله إلى ما يشاء كل خصوصية ما فيه من الاستعداد كالشمس التى تفيض نورا واحدا متشابه الاجزاء لكن الاجسام القابلة لنورها تتصرف فيه على حسب ما عندها من القوة والاستعداد. فان قلت لا ريب في ان هذه الاختلافات امور واقعية فان كان ما عد منشا لها من الماهيات والاستعدادات امورا وهمية غير واقعية لم يكن لاسناد هذه الامور الواقية إليها معنى ورجع الامر إلى الوجود الذى هو اثر الجاعل الحق وهو الخلاف ما ادعيتموه من اطلاق الفيض، وان كانت امورا واقعية غير وهمية كانت من سنخ الوجود لاختصاص الاصالة به وكان الاستناد ايضا إلى فعله تعالى وثبت خلاف المدعى. قلت: هذا النظر يعيد الجميع إلى سنخ الوجود الواحد ولا يبغى معه من الاختلاف

[ 77 ]

اثر بل يگون هناك وجود واحد ظلى قائم بوجود واحد اصلى ولا يبغى لهذا البحث على هذا محل اصلا. وبعبارة اخرى تقسيم الموجود المطلق إلى ماهية ووجود وكذا تقسيمه إلى ما بالقوة وما بالفعل هو الذى اظهر السلوب في نفس الامر وقسم الاشياء إلى واجد وفاقد ومستكمل ومحروم وقابل ومقبول م منشاؤه وتحليل العقل الاشياء إلى ماهية قابلة للوجود ووجود مقبول للماهية، وكذا إلى قوة فاقدة للفعلية وفعلية تقابلها اما إذا رجع الجميع إلى الوجود الذى هو حقيقة واحدة مطلقة لم يبق للبحث عن سبب الاختلاف محل وعاد اثر الجاعل وهو الفيض واحدا مطلقا لاكثرة فيه ولا حد معه فافهم ذلك. * * * وقضى ربك الا تعبدوا الا اياه وبالوالدين احسانا اما يبلغن عندك الكبر احدهما أو كلاهما فلا تقل لهما اف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما - 23. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا - 24. ربكم اعلم بما في نفوسكم ان تكونوا صالحين فانه كان للاوابين غفورا - 25. وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا - 26. ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا - 27. واما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا - 28. ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها

[ 78 ]

كل البسط فتقعد ملوما محسورا - 29. ان ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر انه كان بعباده خبيرا بصيرا - 30. ولا تقتلوا اولادكم خشيه املاق نحن نرزقهم واياكم ان قتلهم كان خطئا كبيرا - 31. ولا تقربوا الزنى انه كان فاحشة وساء سبيلا - 32. ولا تقتلوا النفس التى حرم الله الا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل انه كان منصورا - 33. ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتى هي احسن حتى يبلغ اشده واوفوا بالعهد ان العهد كان مسؤلا - 34. - واوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير واحسن تأويلا - 35. ولا تقف ما ليس لك به علم ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤلا - 36. ولا تمش في الارض مرحا انك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا - 37. كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها - 38. ذلك مما اوحى اليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله الها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا - 39. بيان عدة من كليات الدين يذكرها الله سبحانه وهى تتبع قوله قبل آيات (ان هذا القرآن يهدى للتى هي اقوم) الاية.

[ 79 ]

قوله تعالى: (وقضى ربك الا تعبدوا الا اياه) (لا تعبدوا) الخ، نفى واستثناء و (ان) مصدرية وجوز ان يكون نهيا واستثناء وان مصدرية أو مفسرة، وعلى أي حال ينحل مجموع المستثنى والمستثنى منه إلى جملتين كقولنا: تعبدونه ولا تعبدون غيره وترجع الجملتان بوجه آخر إلى حكم واحد وهو الحكم بعبادته عن اخلاص. والقول سواء كان منحلا إلى جملتين أو عائدا إلى جملة واحدة متعلق القضاء وهو القضاء التشريعي المتعلق بالاحكام والقضايا التشريعية، ويفيد معنى الفصل والحكم القاطع المولوي، وهو كما يتعلق بالامر يتعلق بالنهي وكما يبرم الاحكام المثبتة يبرم الاحكام المنفية، ولو كان بلفظ الامر فقيل: وامر ربك ان لا تعبدوا الا اياه، لم يصح الا بنوع من التأويل والتجوز. والامر باخلاص العبادة لله سبحانه اعظم الاوامر الدينية والاخلاص بالعبادة اوجب الواجبات كما ان معصيته وهو الشرك بالله سبحانه اكبر الكبائر الموبقة، قال تعالى: (ان الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النساء: 48. واليه يعود جميع المعاصي بحسب التحليل إذ لولا طاعة غير الله من شياطين الجن والانس وهوى النفس والجهل لم يقدم الانسان على معصية ربه فيما امره به أو نهاه عنه والطاعة عبادة قال تعالى: (الم اعهد اليكم يا بنى آدم ان لا تعبدوا الشيطان) يس: 60، وقال: (افرايت من اتخذ الهه هواه) الجاثية: 23، حتى ان الكافر المنكر للصانع مشرك بالقائه زمام تدبير العالم إلى المادة أو الطبيعة أو الدهر أو غير ذلك وهو مقر بسذاجة فطرته بالصانع تعالى. ولعظم امر هذا الحكم قدمه على سائر ما عد من الاحكام الخطيرة شانا كعقوق الوالدين ومنع الحقوق المالية والتبذير وقتل الاولاد والزنا وقتل النفس المحترمة واكل مال اليتيم ونقض العهد والتطفيف في الوزن واتباع غير العلم والكبير ثم ختمها بالنهي ثانيا عن الشرك. قوله تعالى: (وبالوالدين احسانا) عطف على سابقه أي وقضى ربك بان تحسنوا بالوالدين احسانا أو ان احسنوا بالوالدين احسانا والاحسان في الفعل يقابل الاساءة وهذا بعد التوحيد لله من اوجب الواجبات كما ان عقوقهما اكبر الكبائر بعد الشرك

[ 80 ]

بالله، ولذلك ذكره بعد حكم التوحيد وقدمه على سائر الاحكام المذكورة المعدودة وكذلك فعل في عدة مواضع من كلامه. وقد تقدم في نظير الاية من سورة الانعام - الاية 151 من السورة - ان الرابطة العاطفية المتوسطة بين الاب والام من جانب والولد من جانب آخر من اعظم ما يقوم به المجتمع الانساني على ساقه، وهى الوسيلة الطبيعية التى تمسك الزوجين على حال الاجتماع فمن الواجب بالنظر إلى السنة الاجتماعية الفطرية ان يحترم الانسان والديه باكرامهما والاحسان اليهما، ولو لم يجر هذا الحكم وهجر المجتمع الانساني بطلت العاطفة والرابطة للاولاد بالابوين وانحل به عقد الاجتماع. قوله تعالى: (اما يبلغن عندك الكبر احدهما أو كلاهما فلا تقل لهما اف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما) (اما) مركب من (ان) الشرطية و (ما) الزائدة وهى المصححة لدخول نون التأكيد على فعل الشرط، والكبر هو الكبر في السن واف كلمة تفيد الضجر والانزجار، والنهر هو الزجر بالصياح ورفع الصوت والاغلاظ في القول. وتخصيص حالة الكبر بالذكر لكونها اشق الحالات التى تمر على الوالدين فيحسان فيها الحاجة إلى اعانه الاولاد لهما وقيامهم بواجبات حياتيهما التى يعجزان عن القيام بها، وذلك من آمال الوالدين التى ياملانها من الاولاد حين يقومان بحضانتهم وتربيتهم في حال الصغر وفى وقت لا قدرة لهم على شئ من لوازم الحياة وواجباتها. فالاية تدل على وجوب اكرامهما ورعاية الادب التام في معاشرتهما ومحاورتهما في جميع الاوقات وخاصة في وقت يشتد حاجتهما إلى ذلك وهو وقت بلوغ الكبر من احدهما أو كليهما عند الولد ومعنى الاية ظاهر. قوله تعالى: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) خفض الجناح كناية عن المبالغة في التواضع والخضوع قولا وفعلا ماخوذ من خفض فرخ الطائر جناحه ليستعطف امه لتغذيته، ولذا قيده بالذل فهو داب افراخ الطيور إذا ارادت الغذاء من امهاتها، فالمعنى واجههما في معاشرتك ومحاورتك مواجهة يلوج منها تواضعك وخضوعك لهما وتذللك قبالهما رحمة بهما.

[ 81 ]

هذا ان كان الذل بمعنى المسكنة وان كان بمعنى المطاوعة فهو ماخوذ من خفض الطائر جناحه ليجمع تحته افراخه رحمة بها وحفظا لها. وقوله: (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) أي اذكر تربيتهما لك صغيرا فادع الله سبحانه ان يرحمهما كما رحماك وربياك صغيرا. قال في المجمع: وفي هذا دلالة على ان دعاء الولد لوالده الميت مسموع والا لم يكن للامر به معنى. انتهى. والذى يدل عليه كون هذا الدعاء في مظنة الاجابة وهو ادب دينى ينتفع به الولد وان فرض عدم انتفاع والديه به على ان وجه تخصيص استجابة الدعاء بالوالد الميت غير ظاهر والاية مطلقة. قوله تعالى: (ربكم اعلم بما في نفوسكم ان تكونوا صالحين فانه كان للاوابين غفورا) السياق يعطى ان تكون الاية متعلقة بما تقدمها من ايجاب احسان الوالدين وتحريم عقوقهما، وعلى هذا فهى متعرضة لما إذا بدرت من الولد بادرة في حق الوالدين من قول أو فعل يتاذيان به، وانما لم يصرح به للاشارة إلى ان ذلك مما لا ينبغى ان يذكر كما لا ينبغى ان يقع. فقوله: (ربكم اعلم بما في نفوسكم) أي اعلم منكم به، وهو تمهيد لما يتلوه من قوله: (ان تكونوا صالحين) فيفيد تحقيق معنى الصلاح أي ان تكونوا صالحين وعلم الله من نفوسكم ذلك فانه كان الخ، وقوله: (فانه كان للاوابين غفورا) أي للراجعين إليه عند كل معصية وهو من وضع البيان العام موضع الخاص. والمعنى: ان تكونوا صالحين وعلم الله من نفوسكم ورجعتم وتبتم إليه في بادرة ظهرت منكم على والديكم غفر الله لكم ذلك انه كان للاوابين غفورا. قوله تعالى: (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل) تقدم الكلام فيه في نظائره، وبالاية يظهر ان ايتاء ذى القربى والمسكين وابن السبيل مما شرع قبل الهجرة لانها آية مكية من سورة مكية. قوله تعالى: (ولا تبذر تبذيرا ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين وكان الشيطان

[ 82 ]

لربه كفورا) قال في المجمع: التبذير التفريق بالاسراف، واصله ان يفرق كما يفرق البذر الا انه يختص بما يكون على سبيل الافساد، وما كان على وجه الاصلاح لا يسمى تبذيرا وان كثر. انتهى. وقوله: (ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين) تعليل للنهى عن التبذير، والمعنى لا تبذر انك ان تبذر كنت من المبذرين والمبذرون اخوان الشياطين، وكان وجه المواخاة بينهم ان الواحد منهم يصير ملازما لشيطانه وبالعكس كالاخوين الذين هما شقيقان متلازمان في اصلهما الواحد كما يشير إليه قوله تعالى: (وقيضنا لهم قرناء) حم السجدة: 25، وقوله: (احشروا الذين ظلموا وازواجهم) الصافات: 22 أي قرناءهم: وقوله: (واخوانهم يمدونهم في الغى ثم لا يقصرون) الاعراف: 202. ومن هنا يظهر ان تفسير من فسر الاية بانهم قرناء الشياطين احسن من قول من قال: المعنى انهم اتباع الشياطين سالكون سبيلهم. واما قوله: (وكان الشيطان لربه كفورا) فالمراد بالشيطان فيه هو ابليس الذى هو ابوالشياطين وهم ذريته وقبيله واللام حينئذ للعهد الذهنى ويمكن ان يكون السلام للجنس والمراد به جنس الشيطان وعلى أي حال كونه كفورا لربه من جهة كفرانه بنعم الله حيث انه يصرف ما آتاه من قوة وقدرة واستطاعة في سبيل اغواء الناس وحملهم على المعصية ودعوتهم إلى الخطيئة وكفران النعمة. وقد ظهرت مما تقدم النكتة في جمع الشيطان اولا وافراده ثانيا فان الاعتبار اولا بان كل مبذر اخو شيطانه الخاص فالجميع اخوان للشياطين والاعتبار ثانيا بابليس الذى هو أبو الشياطين أو بجنس الشيطان. قوله تعالى: (واما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا) اصله ان تعرض عنهم و (ما) زائدة للتأكيد والنون للتأكيد. والسياق يشهد بان الكلام في انفاق الاموال فالمراد بقوله: (واما تعرضن عنهم) الاعراض عمن ساله شيئا من المال ينفقه له ويسد به خلته، وليس المراد به كل اعراض كيف اتفق بل الاعراض عند ما ليس عنده شئ من المال يبذله له وليس بايس من

[ 83 ]

وجدانه بدليل قوله: ابتغاء رحمة من ربك ترجوها) أي كنت تعرض عنهم لا لكونك مليئا بالمال شحيحا به، ولا لانك فاقد له آيس من حصوله بل لانك فاقد له مبتغ وطالب لرحمة من ربك ترجوها يعنى الرزق. وقوله: (فقل لهم قولا ميسورا) أي سهلا لينا أي لا تغلظ في القول ولا تجف في الرد كما قال تعالى: (واما السائل فلا تنهر) الضحى: 10 بل رده بقول سهل لين. قال في الكشاف: وقوله: (ابتغاء رحمة من ربك) اما ان يتعلق بجواب الشرط مقدما عليه أي فقل لهم قولا سهلا لينا وعدهم وعدا جميلا رحمة لهم وتطييبا لقلوبهم ابتغاء رحمة من ربك أي ابتغ رحمة الله التى ترجوها برحمتك عليهم، واما ان يتعلق بالشرط أي وان اعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو ان يفتح لك - فسمى الرزق رحمة - فردهم ردا جميلا فوضع الابتغاء موضع الفقد لان فاقد الرزق مبتغ له فكان لفقد سبب الابتغاء والابتغاء مسببا عنه فوضع المسبب موضع السبب. انتهى. قوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) جعل اليد مغلولة إلى العنق كناية عن الامساك كمن لا يعطى ولا يهب شيئا لبخله وشح نفسه، وبسط اليد كل البسط كناية عن انفاق الانسان كل ما في وجده بحيث لا يبقى شيئا كمن يبسط يده كل البسط بحيث لا يستقر عليها شئ ففى الكلام نهى بالغ عن التفريط والافراط في الانفاق. وقوله: (فتقعد ملوما محسورا) متفرع على قوله: (ولا تبسطها) الخ والحسر هو الانقطاع أو العرى أي ولا تبسط يدك كل البسط حتى يتعقب ذلك ان تقعد ملوما لنفسك وغيرك منقطعا عن واجبات المعاش أو عريانا لا تقدر على ان تظهر للناس وتعاشرهم وتراودهم. وقيل: ان قوله: (فتقعد ملوما محسورا) متفرع على الجملتين لا على الجملة الاخيرة فحسب والمعنى ان امسكت قعدت ملوما مذموما وان اسرفت بقيت متحسرا مغموما. وفيه ان كون قوله: (ولا تبسطها كل البسط) ظاهرا في النهى عن التبذير والاسراف غير معلوم وكذا كون انفاق جميع المال في سبيل الله اسرافا وتبذيرا غير ظاهر وان كان منهيا عنه بهذه الاية كيف ومن المأخوذ في مفهوم التبذير ان يكون على

[ 84 ]

وجه الافساد، ووضع المال ولو كان كثيرا أو جميعه في سبيل الله و انفاقه على من يستحقه ليس بافساد له، ولا وجه للتحسر والغم على ما لم يفسد ولا افسد. قوله تعالى: (ان ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر انه كان بعباده خبيرا بصيرا ظاهر السياق ان الاية في مقام التعليل لما تقدم في الاية السابقة من النهى عن الافراط والتفريط في انفاق المال وبذله. والمعنى: ان هذا داب ربك وسنته الجارية يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر لمن يشاء فلا يبسطه كل البسط ولا يمسك عنه كل الامساك رعاية لمصلحة العباد انه كان بعباده خبيرا بصيرا وينبغى لك ان تتخلق بخلق الله وتتخذ طريق الاعتدال وتتجنب الافراط والتفريط. وقيل: انها تعليل على معنى ان ربك يبسط ويقبض، وذلك من الشؤون الالهية المختصة به تعالى، وليس لك ان تتصف به والذى عليك ان تقتصد من غير ان تعدل عنه إلى افراط أو تفريط، وقيل في معنى التعليل غير ذلك، وهى وجوه بعيدة. قوله تعالى: (ولا تقتلوا اولادكم خشية املاق نحن نرزقهم واياكم ان قتلهم كان خطا كبيرا) الاملاق الفاقة والفقر، وقال في المفردات: الخطا العدول عن الجهة وذلك اضرب: احدها ان تريد غير ما تحسن ارادته وفعله، وهذا هو الخطا التام المأخوذ به الانسان يقال: خطئ يخطا وخطاة، قال تعالى: (ان قتلهم كان خطا كبيرا) وقال: (وان كنا لخاطئين) والثانى ان يريد ما يحسن فعله ولكن يقع منه خلاف ما يريد فيقال: اخطا اخطاء فهو مخطئ وهذا قد اصاب في الارادة واخطا في الفعل، وهذا المعنى بقوله: (ومن قتل مؤمنا خطا فتحرير رقبة)، والثالث ان يريد ما لا يحسن فعله ويتفق منه خلافه فهذا مخطئ في الارادة مصيب في الفعل فهو مذموم بقصده غير محمود على فعله. وجملة الامر ان من اراد شيئا فاتفق منه غيره يقال: اخطا، وان وقع منه كما اراده يقال: اصاب، وقد يقال لمن فعل فعلا لا يحسن أو اراد ارادة لا يجمل: انه اخطا، ولذا يقال: اصاب الخطا واخطا الصواب واصاب الصواب واخطا الخطا

[ 85 ]

وهذه اللفظة مشتركة كما ترى مترددة بين معان يجب لمن يتحرى الحقائق ان يتاملها انتهى بتلخيص. وفي الاية نهى شديد عن قتل الاولاد خوفا من الفقر والحاجة وقوله (نحن نرزقهم واياكم) تعليل للنهى وتمهيد لقوله بعده: (ان قتلهم كان خطا كبيرا). والمعنى ولا تقتلوا اولادكم خوفا من ان تبتلوا بالفقر والحاجة فيؤديهم ذلك إلى ذل السؤال أو ازدواج بناتكم من غير الاكفاء أو غير ذلك مما يذهب بكرامتكم فانكم لستم ترزقونهم حتى تفقدوا الرزق عند فقركم واعساركم بل نحن نرزقهم واياكم ان قتلهم كان خطا كبيرا. وقد تكرر في كلامه تعالى النهى عن قتل الاولاد خوفا من الفقر وخشيد من الاملاق، وهو مع كونه من قتل النفس المحترمة التى يبالغ كلامه تعالى في النهى عنه انما افرد بالذكر واختص بنهي خاص لكونه من اقبح الشقوة واشد القسوة، ولانهم - كما قيل - كانوا يعيشون في اراضى يكثر فيها السنة ويسرع إليها الجدب فكانوا إذا لاحت لوائح الفاقة والاعسار يجدب وغيره بادروا إلى قتل الاولاد خوفا من ذهاب الكرامة والعزة. وفي الكشاف: قتلهم اولادهم هو وادهم بناتهم كانوا يئدونهن خشية الفاقة وهى الاملاق فنهاهم الله وضمن لهم ارزاقهم انتهى، والظاهر خلاف ما ذكره وان الايات المتعرضة لواد البنات آيات خاصة تصرح به وبحرمته كقوله تعالى: (وإذا الموؤدة سئلت باى ذنب قتلت) التكوير: 9، وقوله: (وإذا بشر احدهم بالانثى ظل وجهه مسودا فهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ايمسكه على هون ام يدسه في التراب الا ساء ما يحكمون) النحل: 59. واما الاية التى نحن فيها واترابها فانها تنهى عن قتل الاولاد خشية املاق، ولا موجب لحمل الاولاد على البنات مع كونه اعم، ولا حمل الهون على خوف الفقر مع كونهما متغايرين فالحق ان الاية تكشف عن سنة سيئة اخرى غير واد البنات دفعا للهون وهى قتل الاولاد من ذكر وانثى خوفا من الفقر والفاقة والايات تنهى عنه. قوله تعالى: (ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشه وساء سبيلا) نهى عن الزنا وقد

[ 86 ]

بالغ في تحريمه حيث نهاهم عن ان يقربوه، وعلله بقوله: (انه كان فاحشة) فافاد ان الفحش صفة لازمة له لا يفارقه، وقوله: (وساء سبيلا) فافاد انه سبيل سئ يؤدى إلى فساد المجتمع في جميع شؤنه حتى ينحل عقده ويختل نظامه وفيه هلاك الانسانية وقد بالغ سبحانه في وعيد من اتى به حيث قال في صفات المؤمنين: (ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق اثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا الا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا) الفرقان: 70. (كلام في حرمه الزنا) وهو بحث قرآني اجتماعي. من المشهود ان في كل من الزوجين من الانسان اعني الذكر والانثى إذا ادرك وصحت بنيته ميلا غريزيا إلى الاخر وليس ذلك مما يختص بالانسان بل ما نجده من عامة الحيوان ايضا على هذه الغريزة الطبيعية. وقد جهز بحسب الاعضاء والقوى بما يدعوه إلى هذا الاقتراب والتمايل والتامل في نوع تجهيز الصنفين لا يدع ريبا في ان هذه الشهوة الطبيعية وسيلة تكوينية إلى التوالد والتناسل الذى هو ذريعة إلى بقاء النوع، وقد جهز بامور اخرى متممة لهذه البغية الطبيعية كحب الولد و تجهيز الانثى من الحيوان ذى الثدى باللبن لتغذى طفلها حتى يستطيع التقام الغذاء الخشن ومضغه وهضمه فكل ذلك تسخير الهى يتوسل به إلى بقاء النوع. ولذلك نرى ان الحيوان مع عدم افتقاره إلى الاجتماع والمدنية لسذاجة حياته وقلة حاجته يهتدى حينا بعد حين بحسب غريزته إلى الاجتماع الزوجي - السفاد - ثم يلتزم الزوجان أو الانثى منهما الطفل أو الفرخ ويتكفلان أو تتكفل الانثى تغذيته وتربيته حتى يدرك ويستقل بادارة رحى حياته. ولذلك ايضا لم يزل الناس منذ ضبط التاريخ سيرهم وسننهم تجرى فيهم سنة الازدواج التى فيها نوع من الاختصاص و الملازمة بين الرجل والمراة لتجاب به داعية

[ 87 ]

الغريزة ويتوسل به إلى انسال الذرية، وهو اصل طبيعي لانعقاد المجتمع الانساني فان من الضرورى ان الشعوب المختلفة البشرية على ما لها من السعة والكثرة تنتهى إلى مجتمعات صغيرة منزلية انعقدت في سالف الدهور. وما مر من ان في سنة الازدواج شئ من معنى الاختصاص هو المنشا لما كان الرجال يعدون اهلهم اعراضا لانفسهم ويرون الذب عن الاهل وصونها من تعرض غيرهم فريضة على انفسهم كالذب عن انفسهم أو اشد، والغريزة الهائجة إذ ذاك هي المسماة بالغيرة وليست بالحسد والشح. ولذلك ايضا لم يزالوا على مر القرون والاجيال يمدحون النكاح ويعدونه سنة حسنة ممدوحه، ويستقبحون الزنا وهو المواقعة من غير علقه النكاح ويستشنعونه في الجملة ويعدونه اثما اجتماعيا وفاحشة أي فعلا شنيعا لا يجهر به وان كان ربما وجد بين بعض الاقوام الهمجية في بعض الاحيان وعلى شرائط خاصة بين الحرائر والشبان أو بين الفتيات من الجوارى على ما ذكر في تواريخ الامم والاقوام. وانما استفحشوه وانكروه لما يستتبعه من فساد الانساب وقطع النسل وظهور الامراض التناسلية ودعوته إلى كثير من الجنايات الاجتماعية من قتل وجرح وسرقة وخيانة وغير ذلك وذهاب العفة والحياء والغيرة والمودة والرحمة. غيران المدنية الغربية الحديثة لابتنائها على التمتع التام من مزايا الحياة المادية وحرية الافراد في غير ما تعتني به القوانين المدنية سواء فيه السنن القومية والشرائع الدينية والاخلاق الانسانية اباحته إذا وقع من غير كره كيفما كان، وربما اضيف إلى ذلك بعض شرائط جزئية اخرى في موارد خاصة، ولم تبال بما يستتبعه من وجوه الفساد عناية بحرية الافراد فيما يهوونه ويرتضونه والقوانين الاجتماعية تراعى راى الاكثرين. فشاعت الفاحشة بين الرجال والنساء حتى عمت المحصنين والمحصنات والمحارم حتى كاد ان لا يوجد من لم يبتل به وكثر مواليدها كثرة كاد ان تثقل كفة الميزان واخذت تضعف الاخلاق الكريمة التى كانت تتصف بها الانسانية الطبيعية وترتضيها لنفسه بتسنين سنة الازدواج من العفة والغيرة والحياء يوما فيوما حتى صار بعض هذه الفضائل اضحوكة وسخرية ولو لا ان في ذكر الشنائع بعض الشناعة ثم في خلال الابحاث القرآنية

[ 88 ]

خاصة لاوردنا بعض ما نشرته المنشورات من الاحصاءات في هذا الباب. والشرائع السماوية على ما يذكره القرآن الكريم - وقد مرت الاشارة إلى ذلك في تفسير الايات 151 - 153 من سورة الانعام - تنهى عن الزنا اشد النهى وقد كان محرما في ملة اليهود ويستفاد من الاناجيل حرمته. وقد نهى عنه في الاسلام وعد من المعاصي الكبيرة واغلظ في التحريم في المحارم كالام والبنت والاخت والعمة والخالة، وفي التحريم في الزنا، مع الاحصان وهو زنا الرجل وله زوجة والمراة ذات البعل، وقد اغلظ فيما شرع له من الحد وهو الجلد مائة جلدة والقتل في المرة الثالثة أو الرابعة لو اقيم الحد مرتين أو ثلاثا والرجم في الزنا مع الاحصان. وقد اشار سبحانه إلى حكمة التحريم فيما نهى عنه بقوله: (ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة وساء سبيلا) حيث عده اولا فاحشة ثم وصفه ثانيا بقوله: (وساء سبيلا) والمراد - والله اعلم - سبيل البقاء كما يستفاد من قوله: (ائنكم لتاتون الرجال وتقطعون السبيل) العنكبوت: 29، أي وتتركون اتيان النساء الذى هو السبيل فتنقطع بذلك وليس الا سبيلا للبقاء من جهة تسببه إلى تولد المواليد وبقاء النسل بذلك، ومن جهة ان الازدواج وعقد المجتمع المنزلى هو اقوى وسيلة يضمن بقاء المجتمع المدنى بعد انعقاده. فمع انفتاح باب الزنا لا تزال الرغبات تنقطع عن النكاح والازدواج إذ لا يبقى له الا محنة النفقة ومشقة حمل الاولاد وتربيتها ومقاساة الشدائد في حفظها والقيام بواجب حياتها والغريزة تقنع من سبيل آخر من غير كد وتعب، وهو مشهود من حال الشبان والفتيات في هذه البلاد، وقد قيل لبعضهم: لم لا تتزوج ؟ فقال: وما اصنع بالازدواج وكل نساء البلد نسائى، ولا يبقى حينئذ للازدواج والنكاح الا شركة الزوجين في مساعي الحياة الجزئية غير التناسل كالشركة في تجارة أو عمل ويسرع اليهما الافتراق لادنى عذر، وهذا كله مشهود اليوم في المجتمعات الغربية. ومن هنا انهم يعدون الازدواج شركة في الحياة منعقدة بين الزوجين الرجل والمراة وجعلوها هي الغاية المطلوبة بالذات من الازدواج دون الانسال وتهيئة الاولاد ولا اجابة

[ 89 ]

غريزة الميل الطبيعي بل عدوا ذلك من الاثار المترتبة عليه ان توافقا على ذلك وهذا انحراف عن سبيل الفطرة والتامل في حال الحيوان على اختلاف انواعه يهدى إلى ان الغاية المطلوبة منه عندها هو ارضاء الغريزة الهائجة وانسال الذرية وكذا الامعان في حال الانسان اول ما يميل إلى ذلك يعطى ان الغاية القريبة الداعية إليه عنده هو ارضاء الغريزة ويعقبه طلب الولد. ولو كانت الغريزة الانسانية التى تدفعه إلى هذه السنة الطبيعية انما تطلب الشركة في الحياة والتعاون على واجب الماكل والمشرب والملبس والمسكن وما هذا شانه يمكن ان يتحقق بين رجلين أو بين امراتين لظهر اثره في المجتمع البشرى واستن عليه ولا اقل في بعض المجتمعات في طول تاريخ الانسان وتزوج رجل برجل احيانا أو امراة بامراة ولم تجر سنة الازدواج على وتيرة واحدة دائما ولم تقم هذه الرابطة بين طرفين احدهما من الرجال والاخر من النساء ابدا. ومن جهة اخرى اخذ مواليد الزنا في الازدياد يوما فيوما يقطع منابت المودة والرحمة وتعلق قلوب الاولاد بالاباء ويستوجب ذلك انقطاع المودة والرحمة من ناحية الاباء بالنسبة إلى الاولاد وهجر المودة و الرحمة بين الطبقتين الاباء والاولاد يقضى بهجر سنة الازدواج للمجتمع وفيه انقراضهم وهذا كله ايضا مما يلوح من المجتمعات الغربية. ومن التصور الباطل ان يتصور ان البشر سيوفق يوما ان يدير رحى مجتمعه باصول فنية وطرق علمية من غير حاجة إلى الاستعانة بالغرائز الطبيعية فيهيا يومئذ طبقة المواليد مع الاستغناء عن غريزة حب الاولاد بوضع جوائز تسوقهم إلى التوليد والانسال أو بغير ذلك كما هو معمول بعض الممالك اليوم فان السنن القومية والقوانين المدنية تستمد في حياتها بما جهز به الانسان من القوى والغرائز الطبيعية فلو بطلت أو ابطلت انفصم بذلك عقد مجتمعه، وهيئة المجتمع قائمة بافراده وسننه مبنية على اجابتهم لها ورضاهم بها وكيف تجرى في مجتمع سنة لا ترتضيها قرائحهم ولا تستجيبها نفوسهم ثم يدوم الامر عليه. فهجر الغرائز الطبيعية وذهول المجتمع البشرى عن غاياته الاصلية يهدد الانسانية بهلاك سيغشاها ويهتف بان امامهم يوما سيتسع فيه الخرق على الراقع وان كان اليوم لا

[ 90 ]

يحس به كل الاحساس لعدم تمام نمائه بعد. ثم ان لهذه الفاحشة اثرا آخر سيئا في نظر التشريع الاسلامي وهو افساده للانساب وقد بنى المناكح والمواريث في الاسلام عليها. قوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التى حرم الله الا بالحق) إلى آخر الاية نهى عن قتل النفس المحترمة الا بالحق أي الا ان يكون قتلا بالحق بان يستحق ذلك لقود أو ردة أو لغير ذلك من الاسباب الشرعية، ولعل في توصيف النفس بقوله: (حرم الله) من غير تقييد اشارة إلى حرمة قتل النفس في جميع الشرائع السماوية فيكون من الشرائع العامة كما تقدمت الاشارة إليه في ذيل الايات 151 - 153 من سورة الانعام. وقوله: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل انه كان منصورا) المراد بجعل السلطان لوليه تسليطه شرعا على قتل قاتل وليه قصاصا والضميران في (فلا يسرف) و (انه) للولى، والمراد بكونه منصورا هو التسليط الشرعي المذكور. والمعنى: ومن قتل مظلوما فقد جعلنا بحسب التشريع لوليه وهو ولى دمه سلطنة على القصاص واخذ الدية والعفو فلا يسرف الولى في القتل بان يقتل غير القاتل أو يقتل اكثر من الواحد انه كان منصورا أي فلا يسرف فيه لانه كان منصورا فلا يفوته القاتل بسبب انا نصرناه أو فلا يسرف اعتمادا على انا نصرناه. وربما احتمل بعضهم رجوع الضمير في قوله: (فلا يسرف) إلى القاتل المدلول عليه بالسياق، وفي قوله: (انه) إلى (من) والمعنى قد جعلنا لولى المقتول ظلما سلطنة فلا يسرف القاتل الاول باقدامه على القتل ظلما فان المقتول ظلما منصور من ناحيتنا لما جعلنا لوليه من السلطنة، وهو معنى بعيد من السياق ودونه ارجاع ضمير (انه) فقط إلى المقتول. وقد تقدم كلام في معنى القصاص في ذيل قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة) البقره: 179 في الجزء الاول من الكتاب. قوله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتى هي احسن حتى يبلغ اشده) نهى

[ 91 ]

عن اكل مال اليتيم وهو من الكبائر التى اوعد الله عليها النار قال تعالى: (ان الذين ياكلون اموال اليتامى ظلما انما ياكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) النساء: 10. وفي النهى عن الاقتراب مبالغة لافادة اشتداد الحرمة. وقوله: (الا بالتى هي احسن) أي بالطريقة التى هي احسن وفيه مصلحة انماء ماله، وقوله: (حتى يبلغ اشده) هو أو ان البلوغ والرشد وعند ذلك يرتفع عنه اليتم فالتحديد بهذه الجملة لكون النهى عن القرب في معنى الامر بالصيانة والحفظ كانه قيل: احتفظوا على ماله حتى يبلغ اشده فتردوه إليه، وبعبارة اخرى الكلام في معنى قولنا: لا تقربوا مال اليتيم ما دام يتيما، وقد تقدم بعض ما يناسب المقام في سورة الانعام آية 152. قوله تعالى: (واوفوا بالعهد ان العهد كان مسؤلا) أي مسؤل عنه وهو من الحذف والايصال السائغ في الكلام، وقيل: المراد السؤال عن نفس العهد فان من الجائز ان تتمثل الاعمال يوم القيامة فتشهد للانسان أو عليه وتشفع له أو تخاصمه. قوله تعالى: (واوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير واحسن تأويلا) القسطاس بكسر القاف وضمها هو الميزان قيل: رومى معرب وقيل: عربي، وقيل مركب في الاصل من القسط وهو العدل وطاس وهو كفة الميزان والقسطاس المستقيم هو الميزان العادل لا يخسر في وزنه. وقوله: (ذلك خير واحسن تأويلا) الخير هو الذى يجب ان يختاره الانسان إذا تردد الامر بينه وبين غيره، والتاويل هو الحقيقة التى ينتهى إليها الامر، وكون ايفاء الكيل والوزن بالقسطاس المستقيم خيرا لما فيه من الاتقاء من استراق اموال الناس واختلاسها من حيث لا يشعرون وجلب وثوقهم. وكونهما احسن تأويلا لما فيهما من رعاية الرشد والاستقامة في تقدير الناس معيشتهم فان معايشهم تقوم في التمتع بامتعة الحياة على اصلين اكتساب الامتعة الصالحة للتمتع والمبادلة على الزائد على قدر حاجتهم فهم يقدرون معيشتهم على قدر ما يسعهم ان يبذلوه من المال عينا أو قيمة، وعلى قدر ما يحتاجون إليه من الامتعة المشتراة فإذا

[ 92 ]

خسروا بالتطفيف ونقص الكيل والوزن فقد اختلت عليهم الحياة من الجهتين جميعا، وارتفع الامن العام من بينهم. واما إذا اقيم الوزن بالقسط فقد اطل عليهم الرشد واستقامت اوضاعهم الاقتصادية باصابة الصواب فيما قدروا عليه معيشتهم واجتلب وثوقهم إلى اهل السوق واستقر بينهم الامن العام. قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤلا) القراءة المشهورة (لا تقف) بسكون القاف وضم الفاء من قفا يقفو قفوا إذا اتبعه ومنه قافية الشعر لكونها في آخر المصراع تابعة لما تقدمها، وقرئ (لا تقف) بضم القاف وسكون الفاء من قاف بمعنى قفا، ولذلك نقل عن بعض اهل اللغة ان قاف مقلوب قفا مثل جبذ مقلوب جذب، ومنه القيافة بمعنى اتباع اثر الاقدام. والاية تنهى عن اتباع ما لا علم به، وهى لاطلاقها تشمل الاتباع اعتقادا وعملا، وتتحصل في مثل قولنا: لا تعتقد ما لا علم لك به ولا تقل ما لا علم لك به ولا تفعل ما لا علم لك به لان في ذلك كله اتباعا. وفي ذلك امضاء لما تقضى به الفطرة الانسانية وهو وجوب اتباع العلم والمنع عن اتباع غيره فان الانسان بفطرته الموهوبة لا يريد في مسير حياته باعتقاده أو عمله الا اصابة الواقع والحصول على ما في متن الخارج والمعلوم هو الذى يصح له ان يقول: انه هو، واما المظنون والمشكوك والموهوم فلا يصح فيها اطلاق القول بانه هو فافهم ذلك. والانسان بفطرته السليمة يتبع في اعتقاده ما يراه حقا ويجده واقعا في الخارج، ويتبع في عمله ما يرى نفسه مصيبا في تشخيصه، وذلك فيما تيسر له ان يحصل العلم به، واما فيما لا يتيسر له العلم به كالفروع الاعتقادية بالنسبة إلى بعض الناس وغالب الاعمال بالنسبة إلى غالب الناس فان الفطرة السليمة تدفعه إلى اتباع علم من له علم بذلك وخبرة باعتبار علمه وخبرته علما لنفسه فيؤل اتباعه في ذلك بالحقيقة اتباعا لعلمه بان له علما

[ 93 ]

وخبرة كما يرجع السالك وهو لا يعرف الطريق إلى الدليل لكن مع علمه بخبرته ومعرفته، ويرجع المريض إلى الطبيب ومثله ارباب الحوائج إلى مختلف الصناعات المتعلقة بحوائجهم إلى اصاب تلك الصناعات. ويتحصل من ذلك انه لا يتخطى العلم في مسير حياته بحسب ما تهدى إليه فطرته غير انه يعد ما يثق به نفسه ويطمئن إليه قلبه علما وان لم يكن ذاك اليقين الذى يسمى علما في صناعة البرهان من المنطق. فله في كل مسالة ترد عليه اما علم بنفس المسالة واما دليل علمي بوجوب العمل بما يؤديه ويدل عليه، وعلى هذا ينبغى ان ينزل قوله سبحانه (ولا تقف ما ليس لك به علم) فاتباع الظن عن دليل علمي بوجوب اتباعه اتباع للعلم كاتباع العلم في مورد العلم. فيؤل المعنى إلى انه يحرم الاقتحام على اعتقاد أو عمل يمكن تحصيل العلم به الا بعد تحصيل العلم، والاقتحام على ما لا يمكن فيه ذلك الا بعد الاعتماد على دليل علمي يجوز الاقتحام والورود وذلك كاخذ الاحكام عن النبي واتباعه واطاعته فيما يامر به وينهى عنه عن قبل ربه وتناول المريض ما يامر به الطبيب والرجوع إلى اصحاب الصنائع فيما يرجع إلى صناعتهم فان الدليل العلمي على عصمة النبي دليل علمي على مطابقة ما يخبر به أو ما يامر به وينهى عنه الواقع واصابة من اتبعه الصواب، والحجة العلمية على خبرة الطبيب في طبه واصحاب الصناعات في صناعاتهم حجة علمية على اصابة من يرجع إليهم فيما يعمل به. ولو لا كون الاقتحام على العمل عن حجة علمية على وجوب الاقتحام اقتحاما علميا لكانت الاية قاصرة عن الدلالة على مدلولها من راس فان الطريق إلى فهم مدلول الاية هو ظهورها اللفظى فيه، والظهور اللفظى من الادلة الظنية غير انه حجة عن دليل علمي وهو بناء العقلاء على حجيته فلو كان غير ما تعلق العلم به بعينه مما لا علم به مطلقا لكان اتباع الظهور ومنه ظهور نفس الاية منهيا عنه بالاية وكانت الاية ناهية عن اتباع نفسه فكانت ناقضة لنفسها. ومن هنا يظهر اندفاع ما اورده بعضهم في المقام كما عن الرازي في تفسيره ان العمل بالظن كثير في الفروع فالتمسك بالاية تمسك بعام مخصوص وهو لا يفيد الا الظن

[ 94 ]

فلو دلت على ان التمسك بالظن غير جائز لدلت على ان التمسك بها غير جائز فالقول بحجيتها يقضى إلى نفيه وهو غير جائز. وفيه ان الاية تدل على عدم جواز اتباع غير العلم بلا ريب غير ان موارد العمل بالظن شرعا موارد قامت عليها حجة علمية فالعمل فيها بالحقيقة انما هو عمل بتلك الحجج العلمية والاية باقية على عمومها من غير تخصص، ولو سلم فالعمل بالعام المخصص فيما بقى من الافراد سالمة عن التخصيص عمل بحجة عقلائية نظير العمل بالعام غير المخصص من غير فرق بينهما البتة. ونظيره الاستشكال فيها بان الطريق إلى فهم المراد من الاية هو ظهورها، والظهور طريق ظنى فلو دلت الاية على حرمة اتباع غير العلم لدلت على حرمة الاخذ بظهور نفسها، ولازمها حرمة العمل بنفسها. ويرده ما تقدمت الاشارة إليه ان اتباع الظهور اتباع لحجة علمية عقلائية وهى بناء العقلاء على حجيته فليس اتباعه من اتباع غير العلم بشئ. وقوله: (ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤلا) تعليل للنهى السابق في قوله: (ولا تقف ما ليس لك به علم). والظاهر المتبادر إلى الذهن، ان الضميرين في (كان عنه) راجعان إلى (كل) فيكون (عنه) نائب فاعل لقوله: (مسؤلا) مقدما عليه كما ذكره الزمخشري في الكشاف أو مغنيا عن نائب الفاعل، وقوله: (اولئك) اشارة إلى السمع والبصر والفؤاد، وانما عبر عنها باولئك المختص بالعقلاء لان كون كل منها مسؤلا عنه يجريه مجرى العقلاء وهو كثير النظير في كلامه تعالى. وربما منع بعضهم كون (اولئك) مختصا بالعقلاء استنادا إلى قول جرير: ذم المنازل بعد منزله اللوى والعيش بعد اولئك الايام وعلى ذلك فالمسؤل هو كل من السمع والبصر والفؤاد يسال عن نفسه فيشهد للانسان أو عليه كما قال تعالى: (وتكلمنا ايديهم وتشهد ارجلهم بما كانوا يكسبون) يس: 65.

[ 95 ]

واختار بعضهم رجوع ضمير (عنه) إلى (كل) وعود باقى الضمائر إلى القافى المدلول عليه في الكلام فيكون المسؤول هو القافى يسال عن سمعه وبصره وفؤاده كيف استعملها ؟ وفيما استعملها ؟ وعليه ففى الكلام التفات عن الخطاب إلى الغيبة وكان الاصل ان يقال: كنت عنه مسؤلا. وهو بعيد. والمعنى: لا تتبع ما ليس لك به علم لان الله سبحانه سيسال عن السمع والبصر والفؤاد وهى الوسائل التى يستعملها الانسان لتحصيل العلم، والمحصل من التعليل بحسب انطباقه على المورد ان السمع والبصر والفؤاد انما هي نعم آتاها الله الانسان ليشخص بها الحق ويحصل بها على الواقع فيعتقد به ويبنى عليه عمله وسيسال عن كل منها هل ادرك ما استعمل فيه ادراكا علميا ؟ وهل اتبع الانسان ما حصلته تلك الوسيلة من العلم ؟ فيسأل السمع هل كان ما سمعه معلوما مقطوعا به ؟ وعن البصر هل كان ما رآه ظاهرا بينا ؟ وعن الفؤاد هل كان ما فكره وقضى به يقينيا لا شك فيه ؟ وهى لا محالة تجيب بالحق وتشهد على ما هو الواقع فمن الواجب على الانسان ان يتحرز عن اتباع ما ليس له به علم فان الاعضاء ووسائل العلم التى معه ستسال فتشهد عليه فيما اتبعه مما حصلته ولم يكن له به علم ولا يقبل حينئذ له عذر. وماله إلى نحو من قولنا: لا تقف ما ليس لك به علم فانه محفوظ عليك في سمعك وبصرك وفؤادك، والله سائلها عن عملك لا محالة، فتكون الاية في معنى قوله تعالى: (حتى إذا ما جاؤها شهد عليهم سمعهم وابصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون - إلى ان قال - وما كنتم تستترون ان يشهد عليكم سمعكم ولا ابصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم ان الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذى ظننتم بربكم ارداكم فاصبحتم من الخاسرين) حم السجدة 20 - 23 وغيرها من آيات شهادة الاعضاء. غير ان الاية تزيد عليها بعد الفؤاد من الشهداء على الانسان وهو الذى به يشعر الانسان ما يشعر ويدرك ما يدرك، وهو من اعجب ما يستفاد من آيات الحشر ان يوقف الله النفس الانسانية فيسألها عما ادركت فتشهد على الانسان نفسه.

[ 96 ]

وقد تبين ان الاية تنهى عن الاقدام على امر مع الجهل به سواء كان اعتقادا مع الجهل أو عملا مع الجهل بجوازه ووجه الصواب فيه أو ترتيب اثر لامر مع الجهل به وذيلها يعلل ذلك بسؤاله تعالى السمع والبصر والفؤاد، ولا ضير في كون العلة اعم مما عللتها فان الاعضاء مسؤلة حتى عما إذا اقدم الانسان مع العلم بعدم جواز الاقدام قال تعالى: (اليوم نختم على افواههم وتكلمنا ايديهم وتشهد ارجلهم) الاية. قال في المجمع في معنى قوله: (ولا تقف ما ليس لك به علم): معناه لا تقل: سمعت ولم تسمع ولا رايت ولم تر ولا علمت ولم تعلم عن ابن عباس وقتادة، وقيل: معناه لا تقل في قفا غيرك كلاما أي إذا مر بك فلا تغتبه عن الحسن، وقيل: هو شهادة الزور عن محمد بن الحنفية. والاصل انه عام في كل قول أو فعل أو عزم يكون على غير علم فكأنه سبحانه قال: لا تقل الا ما تعلم انه يجوز ان يقال، ولا تفعل الا ما تعلم انه يجوز ان يفعل ولا تعتقد الا ما تعلم انه مما يجوز ان يعتقد انتهى. وفيه ان الذى ذكره اعم مما تفيده الاية فانها تنهى عن اقتفاء ما لا علم به لا عن الاقتفاء الا مع العلم والثانى اعم من الاول فانه يشمل النهى عن الاقتفاء مع العلم بعدم الجواز لكن الاول انما يشمل النهى عن الاقتفاء مع الجهل بوجه الاعتقاد أو العمل: واما ما نقله من الوجوه في اول كلامه فالاحرى بها ان يذكر في تفسير التعليل بعنوان الاشارة إلى بعض المصاديق دون المعلل. قوله تعالى: (ولا تمش في الارض مرحا انك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا) المرح شدة الفرح بالباطل - كما قيل - ولعل التقييد بالباطل للدلالة على خروجه عن حد الاعتدال فان الفرح الحق هو ما يكون ابتهاجا بنعمة من نعم الله شكرا له وهو لا يتعدى حد الاعتدال، واما إذا فرح واشتد منه ذلك حتى خف عقله وظهر آثاره في افعاله واقواله وقيامه وقعوده وخاصة في مشيه فهو من الباطل. وقوله: (ولا تمش في الارض مرحا) نهى عن استعظام الانسان نفسه باكثر مما هو عليه لمثل البطر والاشر والكبر والخيلاء، وانما ذكر المشى في الارض مرحا لظهور ذلك فيه.

[ 97 ]

وقوله: (انك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا) كناية عن ان فعالك هذا وانت تريد به اظهار القدرة والقوة والعظمة انما هو وهم تتوهمه فان هناك ما هو اقوى منك لا يخترق بقدميك وهى الارض وما هو اطول منك وهى الجبال فاعترف بذلك انك وضيع مهين فلا شئ مما يبتغيه الانسان ويتنافس فيه في هذه النشاة من ملك وعزة وسلطنة وقدرة وسؤدد ومال وغيرها الا امور وهمية لا حقيقة لها وراء الادراك الانساني سخر الله النفوس للتصديق بها والاعتماد في العمل عليها لتعمير النشاة وتمام الكلمة، ولو لا هذه الاوهام لم يعش الانسان في الدنيا ولا تمت كلمته تعالى: (ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين) البقرة: 36. قوله تعالى: (كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها) الاشارة بذلك إلى ما تقدم من الواجبات والمحرمات - كما قيل - والضمير في (سيئه) يرجع إلى ذلك، والمعنى كل ما تقدم كان سيئه - وهو ما نهى عنه وكان معصية من بين المذكورات - عند ربك مكروها لا يريده الله تعالى. وفي غير القراءة المعروفة (سيئة) بفتح الهمزة والتاء في آخرها وهى على هذه القراءة خبر كان والمعنى واضح. قوله تعالى: (ذلك مما اوحى اليك ربك من الحكمة) ذلك اشارة إلى ما تقدم من تفصيل التكاليف وفي الاية اطلاق الحكمة على الاحكام الفرعية ويمكن ان يكون لما تشتمل عليه من المصالح المستفادة اجمالا من سابق الكلام. قوله تعالى: (ولا تجعل مع الله الها آخر فتلقى في جهنم مذموما مدحورا) كرر سبحانه النهى عن الشرك وقد نهى عنه سابقا اعتناء بشان التوحيد وتفخيما لامره، وهو كالوصلة يتصل به لا حق الكلام بسابقه، ومعنى الاية ظاهر. بحث روائي في الاحتجاج عن بريد بن عمير بن معاوية الشامي عن الرضا عليه السلام في حديث يذكر فيه الجبر و التفويض والامر بين امرين قال: قلت له: وهل لله مشية وارادة في ذلك

[ 98 ]

يعنى فعل العبد فقال: اما الطاعات فارادة الله ومشيته فيها الامر بها والرضا لها والمعاونة لها ومشيته في المعاصي النهى عنها والسخط بها والخذلان عليها الحديث. وفي تفسير العياشي عن ابى ولاد الحناط قال: سالت ابا عبد الله عليه السلام عن قول الله: (وبالوالدين احسانا) فقال: الاحسان ان تحسن صحبتهما ولا تكلفهما ان يسالاك شيئا مما يحتاجان إليه وان كانا مستغنيين اليس الله يقول: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) ؟ ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: اما قوله: (اما يبلغن عندك الكبر احدهما أو كلاهما فلا تقل لهما اف) قال: ان اضجراك فلا تقل لهما اف ولا تنهرهما ان ضرباك، وقال (وقل لهما قولا كريما) قال: تقول لهما: غفر الله لكما فذلك منك قول كريم، وقال: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة قال: لا تملا عينيك من النظر اليهما الا برحمة ورقة ولا ترفع صوتك فوق اصواتهماو لا يديك فوق ايديهما، ولا تتقدم قدامهما. اقول: ورواه الكليني في الكافي باسناده عن ابى ولاد الحناط عنه عليه السلام. وفي الكافي باسناده عن حديد بن حكيم عن ابى عبد الله عليه السلام قال: ادنى العقوق اف، ولو علم الله عزوجل شيئا اهون منه لنهى عنه. اقول: ورواه عنه ايضا بسند آخر وروى هذا المعنى ايضا باسناده عن ابى البلاد عنه عليه السلام ورواه العياشي في تفسيره عن حريز عنه عليه السلام، والطبرسي في مجمع البيان عن الرضا عن ابيه عنه عليه السلام. والروايات في وجوب بر الوالدين وحرمة عقوقهما في حياتهما وبعد مماتهما من طرق العامة والخاصة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وائمة اهل بيته عليهم السلام اكثر من ان تحصى. وفي المجمع عن ابى عبد الله عليه السلام الاواب التواب المتعبد الراجع عن ذنبه. وفي تفسير العياشي عن ابى بصير عن ابى عبد الله عليه السلام قال: يا با محمد عليكم بالورع والاجتهاد واداء الامانة وصدق الحديث وحسن الصحبة لمن صحبكم وطول السجود، وكان ذلك من سنن التوابين الاوابين. قال أبو بصير: الاوابون التوابون. اقول: وروى ايضا عن ابى بصير عنه عليه السلام في معنى الاية هم التوابون المتعبدون.

[ 99 ]

و في الدر المنثور اخرج ابن ابى شيبة وهناد عن على بن ابى طالب قال: إذا مالت الافياء وراحت الارواح فاطلبوا الحوائج إلى الله فانها ساعة الاوابين وقرء (فانه كان للاوابين غفورا) وفيه اخرج ابن حريز عن على بن الحسين رضى الله عنه انه قال لرجل من اهل الشام: اقرات القرآن ؟ قال: نعم قال: افما قرات في بنى اسرائيل: (وآت ذا القربى حقه) قال: وانكم للقرابة الذى امر الله ان يؤتى حقه ؟ قال: نعم. اقول ورواه في البرهان عن الصدوق باسناده عنه عليه السلام وعن الثعلبي في تفسيره عن السدى عن ابن الديلمى عنه عليه السلام. وفي تفسير العياشي عن عبد الرحمان بن الحجاج قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله: (ولا تبذر تبذيرا) قال: من انفق شيئا في غير طاعة الله فهو مبذر، ومن انفق في سبيل الخير فهو مقتصد. وفيه عن ابى بصير عنه عليه السلام في الاية قال: بذل الرجل ماله ويقعد ليس له مال قلت: فيكون تبذير في حلال ؟ قال: نعم. وفي تفسير القمى قال قال: الصادق عليه السلام: المحسور العريان. وفي الكافي باسناده عن عجلان قال: كنت عند ابى عبد الله عليه السلام فجاء سائل فقام إلى مكتل فيه تمر فملا يده فناوله ثم جاء آخر فسأله فقام فاخذ بيده فناوله ثم آخر فقال: الله رازقنا واياك. ثم قال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يساله احد من الدنيا شيئا الا اعطاه فارسلت إليه امراة ابنا لها فقالت: فاسأله فان قال: ليس عندنا شئ فقل: اعطني قميصك قال: فاخذ قميصه فرماه إليه - وفي نسخة اخرى: واعطاه - فادبه الله تبارك وتعالى على القصد فقال: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) قال: الاحسار الفاقة. اقول: ورواه العياشي في تفسيره عن عجلان عنه عليه السلام، وروى قصة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القمى في تفسيره، ورواها في الدر المنثور عن ابن ابى حاتم عن المنهال بن عمرو وعن

[ 100 ]

ابن جرير الطبري عن ابن مسعود. وفي الكافي باسناده عن مسعدة بن صدقة عن ابى عبد الله عليه السلام قال: قال: علم الله عز اسمه نبيه كيف ينفق ؟ وذلك انه كانت عنده اوقية من الذهب فكره ان يبيت عنده فتصدق بها فاصبح وليس عنده شئ وجاء من يساله فلم يكن عنده ما يعطيه فلامه السائل واغتم هو حيثما لم يكن عنده شئ وكان رحيما رقيقا فادب الله عزوجل نبيه بامره فقال: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) يقول: ان الناس قد يسالونك ولا يعذرونك فإذا اعطيت جميع ما عندك من المال قد كنت حسرت من المال. وفي تفسير العياشي عن ابن سنان عن ابى عبد الله عليه السلام في قوله: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) قال: فضم يده وقال: هكذا فقال: (ولا تبسطها كل البسط) فبسط راحته وقال: هكذا. وفي تفسير القمى عن اسحاق بن عمار عن ابى عبد الله عليه السلام في حديث قال: قلت: وما الاملاق ؟ قال: الافلاس. وفي الدر المنثور اخرج ابن ابى حاتم عن قتادة في قوله: (ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة) قال قتادة عن الحسن ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا يزنى العبد حين يزنى وهو مؤمن، ولا يبهت حين يبهت وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يغل حين يغل وهو مؤمن قيل: يا رسول الله والله ان كنا لنرى انه ياتي ذلك وهو مؤمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا فعل شيئا من ذلك نزع الايمان من قلبه فان تاب تاب الله. اقول: والحديث مروى بطرق اخرى عن عائشة وابى هريرة وقد ورد من طرق اهل البيت عليهم السلام ان روح الايمان يفارقه إذ ذاك. وفى الكافي باسناده عن اسحاق بن عمار قال: قلت لابي الحسن عليه السلام: ان الله عزوجل يقول في كتابه: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل انه كان منصورا) فما هذا الاسراف الذى نهى الله عنه ؟ قال: نهى ان يقتل

[ 101 ]

غير قاتله أو يمثل بالقاتل. قلت: فما معنى (انه كان منصورا) قال: واى نصرة اعظم من ان يدفع القاتل إلى اولياء المقتول فيقتله ولا تبعه يلزمه في قتله في دين ولا دنيا. وفي تفسير العياشي عن ابى العباس قال: سالت ابا عبد الله عليه السلام عن رجلين قتلا رجلا فقال: يخير وليه ان يقتل ايهما شاء ويغرم الباقي نصف الدية اعني دية المقتول فيرد على ذريته، وكذلك ان قتل رجل امراة ان قبلوا دية المراة فذاك وان ابى اولياؤها الا قتل قاتلها غرموا نصف دية الرجل وقتلوه وهو قول الله: (فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل). اقول: وفي معنى هاتين الروايتين غيرهما، وقد روى في الدر المنثور عن البيهقى في سننه عن زيد بن اسلم ان الناس في الجاهلية كانوا إذا قتل الرجل من القوم رجلا لم يرضوا حتى يقتلوا به رجلا شريفا إذا كان قاتلهم غير شريف لم يقتلوا قاتلهم وقتلوا غيره فوعظوا في ذلك بقول الله: (ولا تقتلوا - إلى قوله - فلا يسرف في القتل). وفي تفسير القمى في قوله تعالى: (وزنوا بالقسطاس المستقيم) وفي رواية ابى الجارود عن ابى جعفر عليه السلام، قال: القسطاس المستقيم هو الميزان الذى له لسان. اقول: وذكر اللسان للدلالة على الاستقامة فان الميزان ذا الكفتين كذلك. وفي تفسير العياشي عن ابى عمرو الزبيري عن ابى عبد الله عليه السلام قال: ان الله تبارك وتعالى فرض الايمان على جوارح بنى آدم وقسمه عليها فليس من جوارحه جارحة الا وقد وكلت من الايمان بغير ما وكلت به اختها فمنها عيناه اللتان ينظر بهما ورجلاه اللتان يمشى بهما. ففرض على العين ان لا تنظر إلى ما حرم الله عليه وان تغض عما نهاه الله عنه مما لا يحل و هو عمله وهو من الايمان، قال الله تبارك وتعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤلا) فهذا ما فرض من غض البصر عما حرم الله وهو عمله وهو من الايمان. وفرض الله على الرجلين ان لا يمشى بهما إلى شئ من معاصي الله والله فرض عليهما المشى فيما فرض الله فقال: (ولا تمش في الارض مرحا انك لن تخرق الارض ولن تبلغ

[ 102 ]

الجبال طولا) قال: (واقصد في مشيك واغضض من صوتك ان انكر الاصوات لصوت الحمير). اقول: ورواه في الكافي باسناده عن ابى عمرو الزبيري عنه عليه السلام في حديث مفصل. وفيه عن ابى جعفر قال: كنت عند ابى عبد الله عليه السلام فقال له رجل: بابى انت وامى انى ادخل كنيفا لى ولى جيران وعندهم جوار يغنين ويضربن بالعود فربما اطيل الجلوس استماعا منى لهن فقال: لا تفعل فقال الرجل والله ما اتيتهن انما هو سماع اسمعه باذنى. فقال له: اما سمعت الله يقول: (ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤلا) قال: بلى والله فكانى لم اسمع هذه الاية قط من كتاب الله من عجمى ولا عربي لا جرم انى لا اعود ان شاء الله وانى استغفر الله. فقال: قم واغتسل وصل ما بدا لك فانك كنت مقيما على امر عظيم ما كان اسوا حالك لو مت على ذلك احمد الله واساله التوبة من كل ما يكره فانه لا يكره الا كل قبيح، والقبيح دعه لاهله فان لكل اهلا. اقول: ورواه الشيخ في التهذيب عنه عليه السلام والكليني في الكافي عن مسعدة بن زياد عنه عليه السلام. وفيه عن الحسين بن هارون عن ابى عبد الله عليه السلام في قول الله: (ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤلا) قال: يسال السمع عما يسمع والبصر عما يطرف والفؤاد عما يعقد عليه. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) الاية قال: قال: لا تؤم احدا مما ليس لك به علم. قال: قال رسول الله عليه السلام: من بهت مؤمنا أو مؤمنة اقيم في طينة خبال أو يخرج مما قال. اقول: وفسرت طينة خبال في رواية ابن ابى يعفور عن الصادق عليه السلام - على ما في الكافي - بانها صديد يخرج من فروج المومسات وروى من طرق اهل السنة ما يقرب منها عن ابى ذر وانس عنه صلى الله عليه وآله وسلم.

[ 103 ]

والروايات - كما ترى - بعضها مبنى على خصوص مورد الاية وبعضها على عموم التعليل كما اشير إليه في البيان المتقدم. * * * افاصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملئكه اناثا انكم لتقولون قولا عظيما - 40. ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم الا نفورا - 41. قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا - 42. سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا - 43. تسبح له السموات السبع والارض ومن فيهن وان من شئ الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم انه كان حليما غفورا - 44. وإذا قرات القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالاخرة حجابا مستورا - 45. وجعلنا على قلوبهم اكنة ان يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على ادبارهم نفورا - 46. نحن اعلم بما يستمعون به إذ يستمعون اليك واذ هم نجوى إذ يقول الظالمون ان تتبعون الا رجلا مسحورا - 47. انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا - 48. وقالوا ءاذا كنا عظاما ورفاتا ءانا لمبعوثون خلقا جديدا - 49. قل كونوا حجارة أو حديدا - 50. أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذى

[ 104 ]

فطركم اول مرة فسينغضون اليك رؤسهم ويقولون متى هو قل عسى ان يكون قريبا - 51. يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون ان لبثتم الا قليلا - 52. وقل لعبادي يقولوا التى هي احسن ان الشيطان ينزغ بينهم ان الشيطان كان للانسان عدوا مبينا - 53. ربكم اعلم بكم ان يشا يرحمكم أو ان يشا يعذبكم وما ارسلنا عليهم وكيلا - 54. وربك اعلم بمن في السموات والارض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا - 55. بيان في الايات تعقيب مسالة التوحيد وتوبيخ المشركين على اتخاذهم الالهة ونسبة الملائكة الكرام إلى الانوثية، وانهم لا يتذكرون بما يلقى إليهم القرآن من حجج الوحدانية، ولا يفقهون الايات بل يستهزؤن بالرسول وبما يلقى إليهم من امر البعث ويسيؤون القول في امر الله وغير ذلك. قوله تعالى: (افاصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة اناثا انكم لتقولون قولا عظيما) الاصفاء الاخلاص قال في المجمع: تقول: اصفيت فلانا بالشئ إذا آثرته به. انتهى. خطاب لمن يقول منهم: ان الملائكة بنات الله أو بعضهم بنات الله والاستفهام للانكار، ولعله بدل البنات من الاناث لكونهم يعدون الانوثة من صفات الخسة. والمعنى إذا كان سبحانه ربكم لا رب غيره وهو الذى يتولى امر كل شئ فهل تقولون انه آثركم بكرامة لم يتكرم به هو نفسه وهو انه خصكم بالبنين ولم يتخذ لنفسه من الولد الا الاناث وهم الملائكة الكرام الذين تزعمون انهم اناث انكم لتقولون

[ 105 ]

قولا عظيما من حيث استتباعه التبعه السيئه. قوله تعالى ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم الا نفورا قال في المفردات الصرف رد الشئ من حالة إلى حال ء أو ابداله بغيره قال: والتصريف كالصرف الا في التكثير واكثر ما يقال في صرف الشئ من حالة إلى حاله ومن امر إلى امر وتصريف الرياح هو صرفها من حال إلى حال قال تعالى وصرفنا الايات وصرفنا فيه من الوعيد ومنه تصريف الكلام وتصريف الدراهم. انتهى. وقال النفر الانزعاج من الشئ وإلى الشئ كالفزع إلى الشئ وعن الشئ يقال نفر عن الشئ نفورا قال تعالى ما زادهم الا نفورا وما يزيدهم الا نفورا انتهى. فقوله: " ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا " معناه بشهادة السياق واقسم لقد رددنا الكلام معهم في امر التوحيد ونفى الشريك من وجه إلى وجه وحولناه من لحن إلى لحن في هذا القرآن فاوردناه بمختلف العبارات وبيناه باقسام البيانات ليتذكروا ويتبين لهم الحق. وقوله: " فما يزيدهم الا نفورا " أي ما يزيدهم التصريف الا انزعاجا كلما استؤنف جئ ببيان جديد اورثهم نفره جديده. وفي الايه التفات من الخطاب إلى الغيبه تنبيها على انهم غير صالحين للخطاب والتكليم بعد ما كان حالهم هذا الحال. قال في المجمع: فان قيل إذا كان المعلوم انهم يزدادون النفور عند انزال القرآن فما المعنى في إنزاله ؟ وما وجه الحكمه فيه ؟ قيل الحكمه فيه الزام الحجه وقطع المعذرة في اظهار الدلائل التى تحسن التكليف، وانه يصلح عند انزاله جماعه ما كانوا يصلحون عند عدم انزاله ولو لم ينزل لكان هؤلاء الذين ينفرون عن الايمان يفسدون بفساد أعظم من هذا النفور فالحكمه اقتضت انزاله لهذه المعاني وانما ازدادوا نفورا عند مشاهده الايات والدلائل لاعتقادهم انها شبه وحيل وقله تفكرهم فيها انتهى. وقوله انه لو لم ينزل لكانوا يفسدون بفساد أعظم من النفور لا يخلو من شئ فان

[ 106 ]

ازدياد النفور يبلغ بهم إلى الجحود ومعانده الحق والصد عنه ولا فساد اعظم منه في باب الدعوه. لكن ينبغى أن يعلم أن الكفر والجحود والنفور عن الحق والعناد معه كما كانت تضر اصحابها ويوردهم مورد الهلاك فهى تنفع أرباب الايمان والرضا بالحق والتسليم له إذ لو لم يتحقق لهذه الخصال الحسنه والصفات الجميله مقابلات لم تتحقق لها كينونة فافهم ذلك. فمن الواجب في الحكمة أن تتم الحجه ثم تزيد في تمامها حتى يظهر من الشقى كل ما في وسعه من الشقاء، ويتخذ السعداء بمختلف مساعيهم من الدرجات ما يحاذي دركات الاشقياء وقد قال تعالى " كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا: الايه 20 من السوره. قوله تعالى: " قل لو كان معه آلهه كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا " اعرض عن مخاطبتهم فصرف الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمره أن يكلمهم في أمر التوحيد ونفى الشريك والذى يقولون به أن هناك آلهه دون الله يتولون جهات التدبير في العالم على اختلاف مراتبهم والواحد منهم رب لما يدبره كإله السماء وإله الارض وإله الحرب وإله قريش. وإذ كانوا شركاء من جهه التدبير لكل واحد منهم الملك على حسب ربوبيته والملك من توابع الخلق الذى يختص به سبحانه حتى على معتقدهم (1) كان الملك مما يقبل في نفسه ان يقوم به غيره تعالى وحب الملك والسلطنه ضروري لكل موجود كانوا بالضرورة طالبين ان ينازعوه في ملكه وينتزعوه من يده حتى ينفرد الواحد منهم بالملك والسلطنه، ويتعين بالعزه والهيمنة تعالى الله عن ذلك. فملخص الحجه انه لو كان معه آلهه كما يقولون وكان يمكن أن ينال غيره تعالى شيئا من ملكه الذى هو من لوازم ذاته الفياضه لكل شئ وحب الملك والسلطنه مغروز


(1) كما نقل انهم كانوا يقولون في التلبية: لبيك لا شريك لك الا شريكا هو لك تملكه وما ملك والكتب المقدسة البرهمنية والبوذية مملوءة ان الملك كله لله سبحانه. (*)

[ 107 ]

في كل موجود بالضرورة لطلب اولئك الالهة أن ينالوا ملكه فيعزلوه عن عرشه ويزدادوا ملكا على ملك لحبهم ذلك ضروره لكن لا سبيل لاحد إليه تعالى عن ذلك. فقوله: " إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا " أي طلبوا سبيلا إليه ليغلبوه على ما له من الملك، والتعبير عنه تعالى بذى العرش وهو من الصفات الخاصة بالملك للدلاله على أن ابتغاءهم السبيل إليه انما هو لكونه ذا العرش وهو ابتغاء سبيل إلى عرشه ليستقروا عليه. ومن هنا يظهر أن قول بعضهم ان الحجه في الايه هي في معنى الحجه التى في قوله تعالى: " لو كان فيهما آلهه الا الله لفسدتا " الايه: الانبياء 22 في غير محله. وذلك ان الحجتين مختلفتان في مقدماتهما فالحجة التى في الايه التى نحن فيها تسلك إلى نفى الشريك من جهه ابتغاء الالهه السبيل إلى ذى العرش وطلبهم الغلبة عليه بانتزاع الملك منه، والتى في آيه الانبياء تسلك من جهه أن اختلاف الالهه في ذواتهم يؤدى إلى اختلافهم في التدبير وذلك يؤدى إلى فساد النظام فالحق أن الحجه التى فيما نحن فيه غير الحجه التى في آيه الانبياء والتى تقرب من حجه آيه الانبياء ما في قوله: " إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض: المؤمنون 91. وكذا ما نقل عن بعض قدماء المفسرين: أن المراد من ابتغائهم سبيلا إلى ذى العرش طلبهم التقرب والزلفى منه لعلوه عليهم، وتقريب الحجه انه لو كان معه آلهه كما يقولون لطلبوا التقرب منه تعالى والزلفى لديه لعلمهم بعلوه وعظمته، والذى كان حاله هذا الحال لا يكون الها فليسوا بالهه. في غير محله لشهادة السياق على خلافه كوصفه تعالى بذى العرش وقوله بعد " سبحانه وتعالى عما يقولون " الخ فإنه ظاهر في أن لما قدروه من ثبوت الالهة المستلزم لابتغائهم سبيلا إلى الله محذورا عظيما لا تحتمله ساحه العظمة والكبرياء مثل كون ملكه في معرض ابتغاء سبيل إليه وتهاجم غيره عليه وكونه لا يابى بحسب طبعه أن يبتز وينتقل إلى من دونه. قوله تعالى: " سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا " التعالى هو العلو البالغ ولهذا

[ 108 ]

وصف المفعول المطلق أعنى " علوا " بقوله: " كبيرا " فالكلام في معنى تعالى تعاليا: والايه تنزيه له تعالى عما يقولونه من ثبوت الالهه وكون ملكه وربوبيته مما يمكن أن يناله غيره. قوله تعالى: " تسبح له السموات السبع والارض ومن فيهن وان من شئ الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " الخ الايه وما قبلها وان كانت واقعه موقع التعظيم كقوله: " وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه " لكنها تفيد بوجه في الحجه المتقدمة فإنها بمنزلة المقدمة المتممة لقوله: " لو كان معه آلهة كما يقولون " الخ فان الحجة بالحقيقة قياس استثنائي والذى بمنزلة الاستثناء هو ما في الايه من تسبيح الاشياء له سبحانه كأنه قيل: لو كان معه آلهه لكان ملكه في معرض المنازعة والمهاجمة لكن الملك من السماوات والارض ومن فيهن ينزهه عن ذلك ويشهد ان لا شريك له في الملك فإنها لم تبتدء الا منه ولا تنتهى الا إليه ولا تقوم الا به ولا تخضع سجدا الا له فلا يتلبس بالملك ولا يصلح له الا هو فلا رب غيره. ومن الممكن ان تكون الايتان أعنى قوله: " سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا. تسبح له السموات " الخ جميعا في معنى الاستثناء والتقدير لو كان معه آلهة لطلبوا مغالبته وعزله من ملكه لكنه سبحانه ينزه ذاته عن ذلك بذاته الفياضة التى يقوم به كل شئ وتلزمه الربوبيه من غير أن يفارقه أو ينتقل إلى غيره، وكذلك ملكه وهو عالم السماوات والارض ومن فيهن ينزهنه سبحانه بذواتها المسبحه له حيث انها قائمة الذات به لو انقطعت أو حجبت عنه طرفة عين فنت وانعدمت فليس معه آلهة ولا أن ملكه وربوبيته مما يمكن ان يبتغيه غيره فتأمل فيه. وكيف كان فقوله " تسبح له السموات السبع والارض ومن فيهن " يثبت لاجزاء العالم المشهود التسبيح وأنها تسبح الله وتنزهه عما يقولون من الشريك و ينسبون إليه. والتسبيح تنزيه قولى كلامي وحقيقه الكلام الكشف عما في الضمير بنوع من الاشاره إليه والدلاله عليه غير أن الانسان لما لم يجد إلى اراده كل ما يريد الاشاره إليه من طريق التكوين طريقا التجأ إلى استعمال الالفاظ وهى الاصوات الموضوعة للمعانى

[ 109 ]

ودل بها على ما في ضميره وجرت على ذلك سنه التفهيم والتفهم وربما استعان على بعض مقاصده بالاشاره بيده أو راسه أو غيرهما وربما استعان على ذلك بكتابه أو نصب علامه. وبالجملة فالذي يكشف به عن معنى مقصود قول وكلام وقيام الشئ بهذا الكشف قول منه وتكليم وان لم يكن بصوت مقروع ولفظ موضوع ومن الدليل عليه ما ينسبه القرآن إليه تعالى من الكلام والقول والامر والوحى ونحو ذلك مما فيه معنى الكشف عن المقاصد وليس من قبيل القول والكلام المعهود عندنا معشر المتلسنين باللغات وقد سماه الله سبحانه قولا وكلاما. وعند هذه الموجودات المشهودة من السماء والارض ومن فيهما ما يكشف كشفا صريحا عن وحدانية ربها في ربوبيته وينزهه تعالى عن كل نقص وشين فهى تسبح الله سبحانه. وذلك أنها ليست لها في أنفسها إلا محض الحاجه وصرف الفاقة إليه في ذاتها وصفاتها وأحوالها والحاجة أقوى كاشف عما إليه الحاجه لا يستقل المحتاج دونه ولا ينفك عنه فكل من هذه الموجودات يكشف بحاجته في وجوده ونقصه في ذاته عن موجده الغنى في وجوده التام الكامل في ذاته وبارتباطه بسائر الموجودات التى يستعين بها على تكميل وجوده ورفع نقائصه في ذاته أن موجده هو ربه المتصرف في كل شئ المدبر لامره. ثم النظام العام الجارى في الاشياء الجامع لشتاتها الرابط بينها يكشف عن وحدة موجدها، وأنه الذى إليه بوحدته يرجع الاشياء وبه بوحدته ترتفع الحوائج والنقائص فلا يخلو من دونه من الحاجة ولا يتعرى ما سواه من النقيصة وهو الرب لا رب غيره والغنى الذى لا فقر عنده والكمال الذى لا نقص فيه. فكل واحد من هذه الموجودات يكشف بحاجته ونقصه عن تنزه ربه عن الحاجة وبراءته من النقص حتى أن الجاهل المثبت لربه شركاء من دونه أو الناسب إليه شيئا من النقص والشين تعالى وتقدس يثبت بذلك تنزهه من الشريك وينسب بذلك إليه البراءه من النقص فإن المعنى الذى تصور في ضمير هذا الانسان واللفظ الذى يلفظه لسانه وجميع ما استخدمه في تأدية هذا المقصود كل ذلك أمور موجوده تكشف بحاجتها الوجودية

[ 110 ]

عن رب واحد لا شريك له ولا نقص فيه. فمثل هذا الانسان الجاحد في كون جحوده اعترافا مثل ما لو ادعى إنسان أن لا إنسان متكلما في الدنيا وشهد على ذلك قولا فإن شهادته أقوى حجة على خلاف ما ادعاه وشهد عليه وكلما تكررت الشهادة على هذا النمط وكثر الشهود تأكدت الحجة من طريق الشهادة على خلافها. فإن قلت: مجرد الكشف عن التنزه لا يسمى تسبيحا حتى يقارن القصد والقصد مما يتوقف على الحياه وأغلب هذه الموجودات عادمة للحياه كالارض والسماء وأنواع الجمادات فلا مخلص من حمل التسبيح على المجاز فتسبيحها دلالتها بحسب وجودها على تنزه ربها. قلت: كلامه تعالى مشعر بأن العلم سار في الموجودات مع سريان الخلقه فلكل منها حظ من العلم على مقدار حظه من الوجود، وليس لازم ذلك أن يتساوى الجميع من حيث العلم أو يتحد من حيث جنسه ونوعه أو يكون عند كل ما عند الانسان من ذلك أو أن يفقه الانسان بما عندها من العلم قال تعالى حكاية عن أعضاء الانسان: " قالوا أنطقنا الله الذى أنطق كل شئ " حم السجدة: 21 وقال " فقال لها للارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " حم السجدة 11 والايات في هذا المعنى كثيرة، وسيوافيك كلام مستقل في ذلك إن شاء الله تعالى. وإذا كان كذلك فما من موجود مخلوق إلا وهو يشعر بنفسه بعض الشعور وهو يريد بوجوده إظهار نفسه المحتاجة الناقصة التى يحيط بها غنى ربه وكماله لا رب غيره فهو يسبح ربه وينزهه عن الشريك وعن كل نقص ينسب إليه. وبذلك يظهر أن لا وجه لحمل التسبيح في الايه على مطلق الدلاله مجازا فالمجاز لا يصار إليه إلا مع امتناع الحمل على الحقيقة ونظيره قول بعضهم: إن تسبيح بعض هذه الموجودات قالى حقيقي كتسبيح الملائكه والمؤمنين من الانسان وتسبيح بعضها حالى مجازى كدلاله الجمادات بوجودها عليه تعالى ولفظ التسبيح مستعمل في في الايه على سبيل عموم المجاز، وقد عرفت ضعفه آنفا. والحق أن التسبيح في الجميع حقيقي قالى غير أن كونه قاليا لا يستلزم أن يكون

[ 111 ]

بألفاظ موضوعة وأصوات مقروعة كما تقدمت الاشارة إليه وقد تقدم في آخر الجزء الثاني من الكتاب كلام في الكلام نافع في المقام. فقوله تعالى: " تسبح له السموات السبع والارض ومن فيهن " يثبت لها تسبيحا حقيقيا وهو تكلمها بوجودها وما له من الارتباط بسائر الموجودات الكائنة وبيانها تنزه ربها عما ينسب إليه المشركون من الشركاء وجهات النقص. وقوله: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده " تعميم التسبيح لكل شئ وقد كانت الجمله السابقة عدت السماوات السبع والارض ومن فيهن، وتزيد عليها بذكر الحمد مع التسبيح فتفيد أن كل شئ كما يسبحه تعالى كذلك يحمده بالثناء عليه بجميل صفاته وأفعاله. وذلك أنه كما أن عند كل من هذه الاشياء شيئا من الحاجة والنقص عائدا إلى نفسه كذلك عنده من جميل صنعه ونعمته تعالى شئ راجع إليه تعالى موهوب من لدنه، وكما أن إظهار هذه الاشياء لنفسها في الوجود إظهار لحاجتها ونقصها وكشف عن تنزه ربها عن الحاجه والنقص، وهو تسبيحها كذلك ابرازها لنفسها ابراز لما عندها من جميل فعل ربها الذى وراءه جميل صفاته تعالى فهو حمدها فليس الحمد إلا الثناء على الجميل الاختياري فهى تحمد ربها كما تسبحه وهو قوله: " وإن من شئ الا يسبح بحمده ". وبلفظ آخر إذا لوحظ الاشياء من جهه كشفها عما عند ربها بابرازها ما عند من الحاجه والنقص مع ما لها من الشعور بذلك كان ذلك تسبيحا منها، وإذا لو حظت من جهه كشفها ما لربها باظهارها ما عندها من نعمه الوجود وسائر جهات الكمال فهو حمد منها لربها وإذا لوحظ كشفها ما عند الله سبحانه من صفه جمال أو جلال مع قطع النظر عن علمها وشعورها بما تكشف عنه كان ذلك دلالة منها عليه تعالى وهى آياته. وهذا نعم الشاهد على أن المراد بالتسبيح في الايه ليس مجرد دلالتها عليه تعالى بنفى الشريك وجهات النقص فإن الخطاب في قوله: " ولكن لا تفقهون تسبيحهم " إما للمشركين وإما للناس أعم من المؤمن والمشرك وهم على أي حال يفقهون دلالة الاشياء

[ 112 ]

على صانعها مع أن الايه تنفى عنهم الفقه. ولا يصغى إلى قول من قال: إن الخطاب للمشركين وهم لعدم تدبرهم فيها وقلة انتفاعهم بها كان فهمهم بمنزله العدم ولا إلى دعوى من يدعى أنهم لعدم فهمهم بعض المراد من التسبيح جعلوا ممن لا يفقه الجميع تغليبا. وذلك لان تنزيل الفهم منزله العدم أو جعل البعض كالجميع لا يلائم مقام الاحتجاج وهو سبحانه يخاطبهم في سابق الايه بالحجة على التنزيه على أن هذا النوع من المسامحة بالتغليب ونحوه لا يحتمله كلامه تعالى. وأما ما وقع في قوله بعد هذه الايه: " وإذا قرأت القرآن " إلى آخر الايات من نفى الفقه عن المشركين فليس يؤيد ما ذكروه فإن الايات تنفى عنهم فقه القرآن وهو غير نفى فقه دلالة الاشياء على تنزهه تعالى إذ بها تتم الحجة عليهم. فالحق أن التسبيح الذى تثبته الايه لكل شئ هو التسبيح بمعناه الحقيقي وقد تكرر في كلامه تعالى إثباته للسموات والارض ومن فيهن وما فيهن وفيها موارد لا تحتمل إلا الحقيقة كقوله تعالى وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير " الانبياء: 79، وقوله " إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والاشراق " ص: 18 ويقرب منه قوله يا جبال أوبى معه والطير: سبا: 10 فلا معنى لحملها على التسبيح بلسان الحال. وقد استفاضت الروايات من طرق الشيعة وأهل السنة أن للاشياء تسبيحا ومنها روايات تسبيح الحصى في كف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيوافيك بعضها في البحث الروائي الاتى إن شاء الله تعالى. وقوله: " انه كان حليما غفورا " أي يمهل فلا يعاجل بالعقوبة ويغفر من تاب و رجع إليه وفى الوصفين دلاله على تنزهه تعالى عن كل نقص فإن لازم الحلم أن لا يخاف الفوت، ولازم المغفره أن لا يتضرر بالمغفرة ولا بإفاضه الرحمة فملكه وربوبيته لا يقبل نقصا ولا زوالا. وقد قيل في وجه هذا التذييل أنه إشاره إلى أن الانسان في قصوره عن فهم هذا

[ 113 ]

التسبيح الذى لا يزال كل شئ مشتغلا به حتى نفسه بجميع أركان وجوده بأبلغ بيان، مخطئ من حقه أن يؤاخذ به لكن الله سبحانه بحلمه ومغفرته لا يعاجله ويعفو عن ذلك إن شاء. وهو وجه حسن ولازمه أن يكون الانسان في وسعه أن يفقه هذا التسبيح من نفسه ومن غيره، ولعلنا نوفق لبيانه إن شاء الله في موضع يليق به. قوله تعالى: " وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا " ظاهر توصيف الحجاب بالمستور أنه حجاب مستور عن الحواس على خلاف الحجابات المتداولة بين الناس المعمولة لستر شئ عن شئ فهو حجاب معنوى مضروب بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما أنه قار للقرآن حامل له وبين المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة يحجبه عنهم فلا يستطيعون يفقهوا حقيقة ما عنده من معارف القرآن ويؤمنوا به ولا أن يذعنوا بأنه رسول من الله جاءهم بالحق، ولذلك تولوا عنه إذا ذكر الله وحده وبالغوا في إنكار المعاد ورموه بأنه رجل مسحور، والايات التاليه تؤيد هذا المعنى. وإنما وصف المشركين بقوله: " الذين لا يؤمنون بالآخرة " لان إنكار الاخرة يلغو معه الايمان بالله وحده وبالرساله فالكفر بالمعاد يستلزم الكفر بجميع اصول الدين، وليكون تمهيدا لما سيذكر من إنكارهم البعث. والمعنى: إذا قرأت القرآن وتلوته عليهم جعلنا بينك وبين المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة - وفى توصيفهم بذلك ذم لهم - حجابا معنويا محجوبا عن فهمهم فلا يسعهم أن يسمعوا ذكره تعالى وحده، ولا أن يعرفوك بالرسالة الحقة ولا أن يؤمنوا بالمعاد ويفقهوا حقيقته. وللقوم في قوله: " حجابا مستورا أقوال أخر فعن بعضهم أن " مفعول " فيه للنسب أي حجابا ذا ستر نظير قولهم رجل مرطوب ومكان مهول وجارية مغنوجة أي ذو رطوبة وذو هول وذات غنج، ومنه قوله تعالى وعده مأتيا " أي ذا إتيان والاكثر في ذلك أن يجئ على فاعل كلابن وتامر.

[ 114 ]

وعن الاخفش أن " مفعول " ربما ورد بمعنى فاعل كميمون ومشؤم بمعنى يامن وشائم كما أن " فاعل " ربما ورد بمعنى مفعول كماء دافق أي مدفوق فمستور بمعنى ساتر. وعن بعضهم أن ذلك من الاسناد المجازى والمستور بحسب الحقيقة هو ما وراء الحجاب لا نفسه. وعن بعضهم أنه من قبيل الحذف والايصال وأصله حجابا مستورا به الرسول صلى الله عليه وآله عنهم. وقيل: المعنى حجابا مستورا بحجاب آخر أي بحجب متعدده وقيل المعنى حجابا مستورا كونه حجابا بمعنى أنهم لا يدرون انهم لا يدرون والثلاثه الاخيرة أسخف الوجوه. قوله تعالى: " وجعلنا على قلوبهم أكنه أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا " الاكنه جمع كن بالكسر وهو على ما ذكره الراغب ما يحفظ فيه الشئ ويستر به عن غيره، والوقر الثقل في السمع وفي المجمع النفور جمع نافر، وهذا الجمع قياس في كل فاعل اشتق من فعل مصدره على فعول مثل ركوع وسجود وشهود. انتهى. وقوله: " وجعلنا على قلوبهم أكنة " الخ كالبيان للحجاب المذكور سابقا أي أغشينا قلوبهم بأغشيه وحجب حذار أن يفقهوا القرآن وجعلنا في آذانهم وقرا وثقلا أن يسمعوه فهم لا يسمعون القرآن سمع قبول ولا يفقهونه فقه إيمان وتصديق كل ذلك مجازاه لهم بما كفروا وفسقوا. وقوله: " وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده " أي على نعت التوحيد ونفى الشريك ولوا على ادبارهم نافرين وأعرضوا عنه مستدبرين. قوله تعالى: " نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون اليك " إلى آخر الايه النجوى مصدر ولذا يوصف به الواحد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث وهو لا يتغير في لفظه. والايه بمنزله الحجه على ما ذكر في الايه السابقة أنه جعل على قلوبهم أكنه أن يفقهوه وفى آذانهم وقرأ فقوله: " نحن اعلم بما يستمعون به " الخ ناظر إلى جعل الوقر

[ 115 ]

وقوله: " واذ هم نجوى " الخ ناظر إلى جعل الاكنه. يقول تعالى: نحن أعلم بآذانهم التى يستمعون بها اليك وبقلوبهم التى ينظرون بها في أمرك - وكيف لا ؟ وهو تعالى خالقها ومدبر أمرها فإخباره أنه جعل على قلوبهم أكنه وفى آذانهم وقرا أصدق واحق بالقبول - فنحن أعلم بما يستمعون به وهو آذانهم في وقت يستمعون اليك، ونحن أعلم أي بقلوبهم إذ هم نجوى إذ يناجى بعضهم بعضا متحرزين عن الاجهار ورفع الصوت وهم يرون الرأى إذ يقول الظالمون أي يقول القائلون منهم وهم ظالمون في قولهم - إن تتبعون إلا رجلا مسحورا وهذا تصديق أنهم لم يفقهوا الحق. وفى الايه إشعار بل دلاله على أنهم كانوا لا يأتونه صلى الله عليه وآله وسلم لاستماع القرآن علنا حذرا من اللائمه وإنما ياتونه متسترين مستخفين حتى إذا رأى بعضهم بعضا على هذا الحال تلاوموا بالنجوى خوفا أن يحس النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون بموقفهم فقال بعضهم لبعض إن تتبعون إلا رجلا مسحورا، وبهذا يتأيد ما ورد في أسباب النزول بهذا المعنى، وسنورده إن شاء الله في البحث الروائي الاتى. قوله تعالى: " انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " المثل بمعنى الوصف، وضرب الامثال التوصيف بالصفات ومعنى الايه ظاهر، وهى تفيد أنهم لا مطمع في إيمانهم كما قال تعالى: " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " يس: 10. قوله تعالى: وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا " قال في المجمع: الرفات ما تكسر وبلى من كل شئ، ويكثر بناء فعال في كل ما يحطم ويرضض يقال حطام ودقاق وتراب وقال المبرد: كل شئ مدقوق مبالغ في دقه حتى انسحق فهو رفات انتهى. في الايه مضى في بيان عدم فقههم بمعارف القرآن حيث استبعدوا البعث وهو من أهم ما يثبته القرآن وأوضح ما قامت عليه الحجج من طريق الوحى والعقل حتى وصفه الله في مواضع من كلامه بأنه " لا ريب فيه " وليس لهم حجة على نفيه غير أنهم استبعدوه استبعادا.

[ 116 ]

ومن أعظم ما يزين في قلوبهم هذا الاستبعاد زعمهم أن الموت فناء للانسان ومن المستبعد أن يتكون الشئ عن عدم بحت كما قالوا: أإذا كنا عظاما ورفاتا بفساد أبداننا عن الموت حتى إذا لم يبق منها إلا العظام ثم رمت العظام وصارت رفاتا أإنا لفى خلق جديد نعود أناسى كما كنا ؟ ذلك رجع بعيد ولذلك رده سبحانه إليهم بتذكيرهم القدرة المطلقة والخلق الاول كما سيأتي. قوله تعالى: " قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم " جواب عن استبعادهم، وقد عبروا في كلامهم بقولهم: " أإذا كنا " فأمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يامرهم أمر تسخير أن يكونوا حجارة أو حديدا " الخ " مما تبديله إلى الانسان أبعد وأصعب عندهم من تبديل العظام الرفات إليه. فيكون إشاره إلى أن القدره المطلقة الالهية لا يشقها شئ تريد تجديد خلقه سواء أكان عظاما ورفاتا أو حجاره أو حديدا أو غير ذلك. والمعنى: قل لهم ليكونوا شيئا أشد من العظام والرفات حجارة أو حديدا أو مخلوقا آخر من الاشياء التى تكبر في صدورهم ويبالغون في استبعاد أن يخلق منه الانسان - فليكونوا ما شاءوا فإن الله سيعيد إليهم خلقهم الاول ويبعثهم. قوله تعالى: " فسيقولون من يعيدنا قل الذى فطركم أول مره " أي فإذا أجبت عن استبعادهم بأنهم مبعوثون أياما كانوا وإلى أي حال وصفة تحولوا سيسألونك ويقولون من يعيدنا إلى ما كنا عليه من الخلقة الانسانية ؟ فاذكر لهم الله سبحانه وذكرهم من وصفه بما لا يبقى معه لاستبعادهم محل وهو فطره إياهم أول مره ولم يكونوا شيئا وقل: يعيدكم الذى خلقكم اول مره. ففى تبديل لفظ الجلالة من قوله: " الذى خلقكم أول مرة " إثبات الامكان ورفع الاستبعاد باراءه المثل. قوله تعالى: " فسينغضون اليك رؤسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا " قال الراغب: الانغاض تحريك الرأس نحو الغير كالمتعجب منه. انتهى. والمعنى: فإذا قرعتهم بالحجه وذكرتهم بقدرة الله على كل شئ وفطره إياهم أول

[ 117 ]

مرة وجدتهم يحركون اليك رؤسهم تحريك المستهزئ المستخف بك المستهين له ويقولون متى هو ؟ قل عسى أن يكون قريبا فإنه لا سبيل إلى العلم به وهو من الغيب الذى لا يعلمه إلا الله لكن وصف اليوم معلوم باعلامه تعالى ولذا وصفه لهم واضعا الصفه مكان الوقت فقال: يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده، الايه. قوله تعالى: " يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا " " يوم " منصوب بفعل مضمر أي تبعثون يوم كذا وكذا والدعوة هي أمره تعالى لهم أن يقوموا ليوم الجزاء واستجابتهم هي قبولهم الدعوه الالهيه، وقوله " بحمده " حال من فاعل تستجيبون والتقدير تستجيبون متلبسين بحمده أي حامدين له تعدون البعث والاعاده منه فعلا جميلا يحمد فاعله ويثنى عليه لان الحقائق تنكشف لكم اليوم فيتبين لكم أن من الواجب في الحكمه الالهية أن يبعث الناس للجزاء وان تكون بعد الاولى اخرى. وقوله " وتظنون إن لبثتم الا قليلا " أي تزعمون يوم البعث أنكم لم تلبثوا في القبور بعد الموت الا زمانا قليلا وترون أن اليوم كان قريبا منكم جدا. وقد صدقهم الله في هذه المزعمه وان خطاهم فيما ضربوا له من المدة قال تعالى " قال ان لبثتم الا قليلا لو انكم كنتم تعلمون: المؤمنون، 114، وقال ويوم تقوم الساعه يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعه كذلك كانوا يؤفكون قال الذين اوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث " الروم: 56 إلى غير ذلك من الايات. وفى التعرض لقوله " وتظنون ان لبثتم الا قليلا " تعريض لهم في استبطائهم اليوم واستهزائهم به وتأييد لما مر من رجاء قربه في قوله قل عسى أن يكون قريبا أي وانكم ستعدونه قريبا وكذا في قوله: " فتستجيبون بحمده تعريض لهم في استهزائهم به وتعجبهم منه أي وانكم ستحمدونه يوم البعث وانتم اليوم تستبعدونه وتستهزؤن بأمره. قوله تعالى: " قل لعبادي يقولوا التى هي أحسن ان الشيطان ينزغ بينهم " الخ يلوح من السياق أن المراد بعبادي هم المؤمنون فالاضافة للتشريف، وقوله: " قل

[ 118 ]

لعبادي يقولوا " الخ أي مرهم أن يقولوا فهو أمر وجواب أمر مجزوم، وقوله: " التى هي أحسن " أي الكلمه التى هي أحسن، وهو اشتمالها على الادب الجميل وتعريها عن الخشونة والشتم وسوء الامر. الايه وما بعدها من الايتين ذات سياق واحد وخلاصه مضمونها الامر باحسان القول ولزوم الادب الجميل في الكلام تحرزا عن نزغ الشيطان وليعلموا ان الامر إلى مشية الله لا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يرفع القلم عن كل من آمن به وانتسب إليه ويتاهل للسعاده، فله ما يقول، وله أن يحرم غيره كل خير ويسئ القول فيه فما للانسان الا حسن سريرته وكمال أدبه وقد فضل الله بذلك بعض الانبياء على بعض وخص داود بإيتاء الزبور الذى فيه أحسن القول وجميل الثناء على الله سبحانه. ومن هنا يظهر ان المؤمنين قبل الهجره ربما كانوا يحاورون المشركين فيغلظون لهم في القول ويخاشنونهم بالكلام وربما جبهوهم بأنهم أهل النار، وانهم معشر المؤمنين أهل الجنه ببركة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان ذلك يهيج المشركين عليهم ويزيد في عداوتهم ويبعثهم إلى المبالغة في فتنتهم وتعذيبهم وايذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعناد مع الحق. فأمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمرهم يقول التى هي أحسن والمقام مناسب لذلك فقد تقدم آنفا حكاية إساءة الادب من المشركين إلى النبي وتسميتهم إياه رجلا مسحورا واستهزائهم بالقرآن وبما فيه من معارف المبدء والمعاد، وهذا هو وجه اتصال الايات الثلاث بما قبلها واتصال بعض الثلاث ببعض فافهم ذلك. فقوله: " وقل لعبادي يقولوا التى هي أحسن " أمر بالامر والمامور به قول الكلمه التى هي أحسن فهو نظير قوله: " وجادلهم بالتى هي أحسن: " النحل: 125 وقوله: إن الشيطان ينزغ بينهم " تعليل للامر، وقوله: " ان الشيطان كان للانسان عدوا مبينا " تعليل لنزغ الشيطان بينهم. وربما قيل: إن المراد بقول التى هي أحسن الكف عن قتال المشركين ومعاملتهم بالسلم والخطاب للمؤمنين بمكه قبل الهجرة فالاية نظيرة قوله: " وقولوا للناس حسنا " البقره: 83 على ما ورد في أسباب النزول، وأنت خبير بأن سياق التعليل في الايه لا يلائمه.

[ 119 ]

قوله تعالى: " ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو أن يشا يعذبكم وما جعلناك عليهم وكيلا " قد تقدم أن الايه وما بعدها تتمة السياق السابق وعلى ذلك فصدر الايه من تمام كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذى أمر بإلقائه على المؤمنين بقوله: " قل لعبادي يقولوا " الخ وذيل الايه خطاب للنبى خاصه فلا التفات في الكلام. ويمكن أن يكون الخطاب في صدر الاية للنبى صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين جميعا بتغليب جانب خطابه على غيبتهم، وهذا أنسب بسياق الايه السابقة وتلاحق الكلام والكلام لله جميعا. وكيف كان فقوله: " ربكم أعلم بكم ان يشا يرحمكم أو ان يشا يعذبكم " في مقام تعليل الامر السابق ثانيا، ويفيد أنه يجب على المؤمنين أن يتحرزوا من اغلاظ القول على غيرهم والقضاء بما الله أعلم به من سعاده أو شقاء كأن يقولوا: فلان سعيد بمتابعة النبي وفلان شقى وفلان من أهل الجنة وفلان من أهل النار وعليهم أن يرجعوا الامر ويفوضوه إلى ربهم فربكم - والخطاب للنبى وغيره - أعلم بكم وهو يقضى فيكم على ما علم من استحقاق الرحمة أو العذاب إن يشأ يرحمكم ولا يشاء ذلك الا مع الايمان والعمل الصالح على ما بينه في كلامه أو ان يشأ يعذبكم ولا يشاء ذلك الا مع الكفر والفسوق، وما جعلناك أيها النبي عليهم وكيلا مفوضا إليه أمرهم حتى تختار لمن تشاء ما تشاء فتعطى هذا وتحرم ذاك. ومن ذلك يظهر أن الترديد في قوله: " ان يشأ يرحمكم أو ان يشأ يعذبكم، باعتبار المشيه المختلفة باختلاف الموارد بالايمان والكفر والعمل الصالح والطالح وأن قوله: " وما أرسلناك عليهم وكيلا " لردع المؤمنين عن أن يعتمدوا في نجاتهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والانتساب إلى قبول دينه نظير قوله ليس: بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به: النساء: 123 وقوله: " إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم " البقره: 62 وآيات اخرى في هذا المعنى. وفى الايه اقوال أخر تركنا التعرض لها لعدم الجدوى. قوله تعالى: " وربك أعلم بمن في السموات والارض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا " صدر الايه توسعة في معنى التعليل السابق كأنه قيل:

[ 120 ]

وكيف لا يكون أعلم بكم وهو أعلم بكم وهو أعلم بمن في السماوات والارض وانتم منهم. وقوله " ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض " كأنه تمهيد لقوله: " وآتينا داود زبورا " والجملة تذكر فضل داود عليه السلام بكتابه الذى هو زبور وفيه أحسن الكلمات في تسبيحه وحمده تعالى، وفيه تحريض للمؤمنين أن يرغبوا في احسن القول ويتأدبوا بالادب الجميل في المحاورة والكلام. ولهم في تفسير الايه أقوال اخرى تركنا التعرض لها ومن أرادها فليراجع المطولات. بحث روائي في تفسير القمى في قوله تعالى: " لو كان معه آلهه كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا " قال: قال لو كانت الاصنام آلهه كما تزعمون لصعدوا إلى العرش اقول: أي لاستولوا على ملكه تعالى واخذوا بأزمه الامور واما العرش بمعنى الفلك المحدد للجهات أو جسم نوراني عظيم فوق العالم الجسماني كما ذكره بعضهم فلا دليل عليه من الكتاب، وعلى تقدير ثبوته لا ملازمة بين الربوبيه والصعود على هذا الجسم. وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن مردويه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ان نوحا لما حضرته الوفاه قال لابنيه: آمركما بسبحان الله وبحمده فإنها صلاه كل شئ، وبها يرزق كل شئ. اقول: قد ظهر مما قدمناه في معنى تسبيح الاشياء الارتباط المشار إليه في الرواية بين تسبيح كل شئ وبين رزقه فإن الرزق يقدر بالحاجه والسؤال وكل شئ انما يسبح الله تعالى بالاشاره باظهار حاجته ونقصه إلى تنزهه تعالى من ذلك. وفي تفسير العياشي عن أبى الصباح عن أبى عبد الله عليه السلام قال: قلت: له قول الله: " وإن من شئ الا يسبح بحمده " قال: كل شئ يسبح بحمده، وإنا لنرى أن تنقض الجدر هو تسبيحها.

[ 121 ]

اقول: ورواه أيضا عن الحسين بن سعيد عنه عليه السلام. وفيه عن النوفلي عن السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يوسم البهائم وأن يضرب وجهها فإنها تسبح بحمد ربها:. اقول: وروى النهى عن ضربها على وجوهها الكليني في الكافي باسناده عن محمد بن مسلم عن أبى عبد الله عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: وفى حديث آخر: لا تسمها في وجوهها وفيه عن اسحاق بن عمار عن أبى عبد الله عليه السلام قال: ما من طير يصاد في بر أو بحر ولا شئ يصاد من الوحش إلا بتضييعه التسبيح. اقول: وهذا المعنى رواه أهل السنة بطرق كثيرة عن ابن مسعود وأبى الدرداء وأبى هريره وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه عن مسعده بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام أنه دخل عليه رجل فقال: فداك أبى وامى - انى أجد الله يقول في كتابه: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " فقال له: هو كما قال الله تبارك وتعالى. قال: أتسبح الشجرة اليابسة ؟ فقال: نعم أما سمعت خشب البيت كيف ينقصف ؟ وذلك تسبيحه فسبحان الله على كل حال. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابي هريره ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن النمل يسبحن. وفيه أخرج النسائي وابو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر قال: نهى رسول الله عن قتل الضفدع وقال: نعيقها تسبيح وفيه أخرج الخطيب عن ابي حمزه قال: كنا مع على بن الحسين فمر بنا عصافير يصحن فقال أتدرون ما تقول هذه العصافير ؟ فقلنا: لا فقال: أما إنى ما أقول إنا نعلم الغيب ولكني سمعت أبى يقول - سمعت على بن أبى طالب أمير المؤمنين يقول: إن الطير إذا أصبحت سبحت ربها وسألته قوت يومها - وإن هذه تسبح ربها وتسأل قوت يومها.

[ 122 ]

اقول وروى أيضا مثله عن أبي الشيخ وابي نعيم في الحلية عن ابي حمزة الثمالي عن محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام ولفظه قال محمد بن على بن الحسين وسمع عصافير يصحن قال: تدرى ما يقلن ؟ قلت: لا قال: يسبحن ربهن عزوجل ويسألن قوت يومهن. وفيه أخرج الخطيب في تاريخه عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لي: يا عائشة اغسلي هذين البردين فقلت: يا رسول الله بالامس غسلتهما فقال لى: أما علمت أن الثوب يسبح فإذا اتسخ انقطع تسبيحه. وفيه أخرج العقيلى في الضعفاء وأبو الشيخ والديلمي عن انس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: آجال البهائم كلها وخشاش الارض والنمل والبراغيث والجراد والخيل والبغال والدواب كلها وغير ذلك آجالها في التسبيح فإذا انقضى تسبيحها قبض الله أرواحها، وليس إلى ملك الموت منها شئ. اقول: ولعل المراد من قوله: وليس إلى ملك الموت منها شئ، أنه لا يتصدى بنفسه قبض ارواحها وإنما يباشرها بعض الملائكة والاعوان، والملائكة اسباب متوسطة على اي حال. وفيه اخرج احمد عن معاذ بن انس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انه مر على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل فقال لهم: اركبوها سالمة ودعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لاحاديثكم في الطرق والاسواق فرب مركوبة خير من راكبها واكثر ذكرا لله منه. وفي الكافي باسناده عن السكوني عن ابي عبد الله عليه السلام قال: للدابة على صاحبها ستة حقوق: لا يحملها فوق طاقتها، ولا يتخذ ظهرها مجلسا يتحدث عليها، ويبدء بعلفها إذا نزل، ولا يسمها في وجهها، ولا يضربها فإنها تسبح، ويعرض عليها الماء إذا مر بها. وفي مناقب ابن شهر آشوب علقمة وابن مسعود: كنا نجلس مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونسمع الطعام يسبح ورسول الله يأكل، واتاه مكرز العامري وسأله آية فدعا بتسع

[ 123 ]

حصيات فسبحن في يده، وفي حديث ابي ذر: فوضعهن على الارض فلم يسبحن وسكتن ثم عاد واخذهن فسبحن. ابن عباس قال: قدم ملوك حضرموت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا كيف نعلم انك رسول الله ؟ فأخذ كفا من حصى فقال: هذا يشهد انى رسول الله فسبح الحصاه في يده وشهد أنه رسول الله. وفيه ابو هريرة وجابر الانصاري وابن عباس وابي بن كعب وزين العابدين: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخطب بالمدينة إلى بعض الاجذاع فلما كثر الناس واتخذوا له منبرا وتحول إليه حن كما يحن الناقة - فلما جاء إليه واكرمه كان يئن انين الصبي الذي يسكت. اقول: والروايات في تسبيح الاشياء على اختلاف انواعها كثيرة جدا، وربما اشتبه امرها على بعضهم فزعم ان هذا التسبيح العام من قبيل الاصوات، وان لعامة الاشياء لغة أو لغات ذات كلمات موضوعة لمعان نظير ما للانسان مستعملة للكشف عما في الضمير غير ان حواسنا مصروفة عنها وهو كما ترى. والذى تحصل من البحث المتقدم في ذيل الاية الكريمة ان لها تسبيحا هو كلام بحقيقة معنى الكلام وهو اظهارها تنزه ربها باظهارها نقص ذاتها وصفاتها وافعالها عن علم منها بذلك، وهو الكلام فما روى من سماعهم تسبيح الحصى في كف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو سماع تسبيح الجبال والطير إذا سبح داود عليه السلام أو ما يشبه ذلك انما كان بادراكهم تسبيحها الواقعي بحقيقة معناه من طريق الباطن ثم محاكاة الحس ذلك بما يناظره ويناسبه من الالفاظ والكلمات الموضوعة لما يفيد ما ادركوه من المعنى. نظير ذلك ما تقدم من ظهور المعاني المجردة عن الصورة في الرؤيا فيما يناسبه من الصور المألوفة كظهور حقيقة يعقوب واهله وبنيه ليوسف عليهما السلام في رؤياة في صورة الشمس والقمر والكواكب ونظير سائر الرؤي التي حكاها الله سبحانه في سورة يوسف وقد تقدم البحث عنها. فالذي يناله من ينكشف له تسبيح الاشياء أو حمدها أو شهادتها أو ما يشابه ذلك حقيقة المعنى اولا ثم يحاكيه الحس الباطن في صورة الفاظ مسموعة تؤدي ما ناله من المعنى. والله أعلم. وفي الدر المنثور: اخرج ابو يعلى وابن ابي حاتم وصححه وابن مردويه وابو نعيم

[ 124 ]

والبيهقة معا في الدلائل عن اسماء بنت ابي بكر قالت: لما نزلت " يدا ابي لهب " اقبلت العوراء ام جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهى تقول: مذمما أبينا * * ودينه قلينا * * وأمره عصينا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس وأبو بكر إلى جنبه فقال أبو بكر: لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك فقال: إنها لن تراني وقرء قرآنا اعتصم به كما قال تعالى: " وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالاخرة حجابا مستورا " فجاءت حتى قامت على أبي بكر فلم تر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا أبا بكر بلغني أن صاحبك هجاني فقال أبو بكر: لا ورب هذا البيت ما هجاك فانصرفت وهي تقول: قد علمت قريش إني بنت سيدها أقول: وروى أيضا بطريق آخر عن أسماء وعن أبى بكر وابن عباس مختصرا ورواه أيضا في البحار عن قرب الاسناد عن الحسن بن ظريف عن معمر عن الرضا عن أبيه عن جده عليه السلام في حديث يذكر فيه جوامع معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي تفسير العياشي عن زرارة عن أحدهما عليه السلام قال: في " بسم الله الرحمن الرحيم " قال: هو أحق ما جهر به، وهي الاية التي قال الله: " وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده - بسم الله الرحمن الرحيم ولوا على أدبارهم نفورا " كان المشركون يستمعون إلى قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا قرء " بسم الله الرحمن الرحيم " نفروا وذهبوا فإذا فرغ منه عادوا وتسمعوا. أقول: وروي هذا المعنى أيضا عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه السلام ورواه القمي في تفسيره مضمرا. وفي الدر المنثور أخرج البخاري في تاريخه عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: لم كتمتم " بسم الله الرحمن الرحيم " فنعم الاسم والله كتموا فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا دخل منزله اجتمعت عليه قريش فيجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ويرفع صوته بها فتولى قريش فرارا فأنزل الله: " وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده: ولوا على أدبارهم نفورا ". وفيه أخرج ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن الزهري قال: حدثت أن أبا

[ 125 ]

جهل وأبا سفيان والاخنس بن شريق خرجوا ليله يستمعون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلى بالليل في بيته - فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فتلاوموا فقال بعضهم لبعض: لا تعودوا - فلو رأكم بعض سفهائكم لاوقعتم في نفسه شيئا. ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا. فلما أصبح الاخنس أتي أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني عن رأيك فيما سمعت من محمد قال: والله سمعت اشياء اعرفها واعرف ما يراد بها وسمعت اشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الاخنس: وأنا والذي حلفت به. ثم خرج من عنده حتى أتا ابا جهل فقال: ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال: ماذا سمعت ؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف في الشرف اطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا واعطوا فأعطينا - حتى إذا تجانبنا على الركب وكنا كفرسي الرهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى تدرك هذه ؟ لا والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه فقام عنه الاخنس وتركه. وفي المجمع: كان المشركون يؤذون اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة فيقولون: يا رسول الله ائذن لنا في قتالهم فيقول لهم: أني لم اؤمر فيهم بشئ فأنزل الله سبحانه: " قل لعبادي " الاية عن الكلبي. اقول: قد اشرنا في تفسير الاية انه لا يلائم سياقها. والله اعلم.

[ 126 ]

قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا (56). أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا (57). وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيمة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا (58). وما منعنا أن نرسل بالايات إلا أن كذب بها الاولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالايات إلا تخويفا (59). وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنه للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا (60). وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا (61). قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا (62). قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا (63) واستفزز من استطعت منهم بصوتك واجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الاموال والاولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا (64). إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا (65).

[ 127 ]

" بيان " احتجاج من وجه آخر على التوحيد ونفى ربوبية الالهة الذين يدعون من دون الله وأنهم لا يستطيعون كشف الضر ولا تحويله عن عبادهم بل هم أمثالهم في الحاجة إلى الله سبحانه يبتغون إليه الوسيلة يرجون رحمته ويخافون عذابه. وأن الضر والهلاك والعذاب بيد الله، وقد كتب في الكتاب على كل قرية أن يهلكها قبل يوم القيامة أو يعذبها عذابا شديدا وقد كانت الاولون يرسل إليهم الايات الالهية لكن لما كفروا وكذبوا بها وتعقب ذلك عذاب الاستئصال لم يرسلها الله إلى الاخرين فإنه شاء أن لا يعاجلهم بالهلاك غير أن أصل الفساد سينمو بينهم والشيطان سيضلهم فيحق عليهم القول فيأخذهم الله وكان أمرا مفعولا. قوله تعالى: " قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا " الزعم بتثليث الزاي مطلق الاعتقاد ثم غلب استعماله في الاعتقاد الباطل، ولذا نقل عن ابن عباس أن ما كان في القرآن من الزعم فهو كذب. والدعاء والنداء واحد غير أن النداء إنما هو فيما إذا كان معه صوت والدعاء ربما يطلق على ما كان باشارة أو غيرها، وذكر بعضهم في الفرق بينهما أن النداء قد يقال إذا قيل: يا أو أيا أو نحوهما من غير أن يضم إليه الاسم والدعاء لا يكاد يقال إلا إذا كان معه الاسم نحو يا فلان. انتهى. والاية تحتج على نفي الوهيه آلهتهم من دون الله بأن الرب المستحق للعبادة يجب أن يكون قادرا على إيصال النفع ودفع الضر إذ هو لازم ربوبية الرب على أن المشركين مسلمون لذلك وإنما اتخذوا الالهة وعبدوهم طمعا في نفعهم وخوفا من ضررهم لكن الذين يدعونهم من دون الله لا يستطيعون ذلك فليسوا بآلهة، والشاهد على ذلك أن يدعوهم هؤلاء الذين يعبدونهم لكشف ضر مسهم أو تحويله عنهم إلى غيرهم فإنهم لا يملكون كشفا ولا تحويلا.

[ 128 ]

وكيف يملكون من عند أنفسهم كشف ضر أو تحويله ويستقلون بقضاء حاجة ورفع فاقة وهم في أنفسهم مخلوقون لله يبتغون إليه الوسيلة يرجون رحمته ويخافون عذابه باعتراف من المشركين. فقد بان أولا أن المراد بقوله: " الذين زعمتم من دونه " هم الذين كانوا يعبدونهم من الملائكة والجن والانس فإنهم إنما يقصدون بعبادة الاصنام التقرب إليهم وكذا بعبادة الشمس والقمر والكواكب التقرب إلى روحانيتهم من الملائكة. على أن الاصنام بما هي أصنام ليست بأشياء حقيقية كما قال تعالى: " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ". وأما ما صنعت منه من خشب أو فلز فليس إلا جمادا حاله حال الجماد في التقرب إليه والسجود له وتسبيحه، وليست من تلك الجهة بأصنام. وثانيا: أن المراد بنفي قدرتهم نفي استقلالهم بالقدرة من دون استعانة بالله واستمداد من إذنه والدليل عليه قوله سبحانه في الاية التالية: " اولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة الخ. وقال بعض المفسرين: وكأن المراد من نفي ملكهم ذلك نفى قدرتهم التامة الكاملة عليه، وكون قدره الالهة الباطلة مفاضة منه تعالى مسلم عند الكفرة لانهم لا ينكرون أنها مخلوقة لله تعالى بجميع صفاتها وأن الله سبحانه أقوى وأكمل صفة منها. وبهذا يتم الدليل ويحصل الافحام وإلا فنفي قدرة نحو الجن والملائكة الذين عبدوا من دون الله تعالى مطلقا على كشف الضر مما لا يظهر دليله فإنه إن قيل هو أن الكفره يتضرعون إليهم ولا يحصل لهم الاجابة عورض بأنا نرى أيضا المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى ولا يحصل لهم الاجابة. وقد يقال: المراد نفي قدرتهم على ذلك أصلا ويحتج له بدليل الاشعري على استناد جميع الممكنات إليه عزوجل ابتداء انتهى. قلت: هو سبحانه يثبت في كلامه أنواعا من القدرة للملائكة والجن والانس في آيات كثيرة لا تقبل التأويل البتة غير انه يخص حقيقه القدرة بنفسه في مثل قوله

[ 129 ]

" أن القوة لله جميعا " البقره: 165 ويظهر به ان غيره إنما يقدر على ما يقدر باقداره ويملك ما يملك بتمليكه تعالى إياه فلا أحد مستقلا بالقدرة والملك الا هو، وما عند غيره تعالى من القدرة والملك مستعار منوط في تأثيره بإلاذن والمشية. وعلى هذا فلا سبيل إلى تنزيل الحجة في الاية على نفي قدرة آلهتهم من الملائكة والجن والانس من أصلها بل الحجة مبتنية على ان اولئك المدعوين غير مستقلين بالملك والقدرة، وأنهم فيما عندهم من ذلك كالداعين محتاجون إلى الله مبتغون إليه الوسيلة والدعاء انما يتعلق بالقدرة المستقلة بالتأثير والدعاء والمسألة ممن هو قادر بقدرة غيره مالك بتمليكه مع قيام القدرة والملك بصاحبهما الاصلي فهو في الحقيقة دعاء ومسألة ممن قام بهما حقيقة واستقلالا دون من هو مملك بتمليكه. واما ما ذكره ان نفي قدرتهم مطلقا غير ظاهر الدليل فإنه أن قيل: ان الكفرة يتضرعون إليهم ولا يحصل لهم الاجابة، عورض بأنا نرى أيضا المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى ولا يحصل لهم الاجابة، فقد اجاب الله سبحانه في كلامه عن مثل هذه المعارضة. توضيح ذلك: انه تعالى قال وقوله الحق: " أجيب دعوة الداع إذا دعان " البقرة: 186 وقال: " ادعوني استجب لكم ": المؤمن: 60 فأطلق الكلام وافاد ان العبد إذا جد بالدعاء ولم يلعب به ولم يتعلق قلبه في دعائه الجدي الا به تعالى بأن انقطع عن غيره والتجأ إليه فإنه يستجاب له البتة ثم ذكر هذا الانقطاع في الدعاء والسؤال في ذيل هذه الايات الذي كالمتمم لما في هذه الحجة بقوله: " وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون الا اياه فلما نجاكم إلى البر اعرضتم " الاية 67 من السورة فأفاد انكم عند مس الضر في البحر تنقطعون عن كل شئ إليه فتدعونه بهداية من فطرتكم فيستجيب لكم وينجيكم إلى البر. ويتحصل من الجميع ان الله سبحانه إذا انقطع العبد عن كل شئ ودعاه عن قلب فارغ سليم فإنه يستجيب له وأن غيره إذا انقطع داعيه عن الله وسأله مخلصا فإنه لا يملك الاستجابة. وعلى هذا فلا محل للمعارضة من قبل المشركين فإنهم لا يستجاب لهم إذا دعوا آلهتهم وهم أنفسهم يرون أنهم إذا مسهم الضر في البحر وانقطعوا إلى الله وسألوه

[ 130 ]

النجاة نجاهم إلى البر وهم معترفون بذلك، ولئن دعاه المسلمون على هذا النمط عن جد في الدعاء وانقطاع إليه كان حالهم في البر حال غيرهم وهم في البحر ولم يخيبوا ولا ردوا. ولم يقابل سبحانه في كلامه بين دعائهم آلهتهم ودعاء المسلمين لالههم حتى يعارض باشتراك الدعاءين في الرد وعدم الاستجابة وإنما قابل بين دعاء المشركين لالهتهم وبين دعائهم أنفسهم له سبحانه في البحر عند انقطاع الاسباب وضلال كل مدعو من دون الله. ومن لطيف النكتة في الكلام إلقاؤه سبحانه الحجة إليهم بواسطة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال: قل " ادعوا الذين زعمتم من دونه " ولو ناقشه المشركون بمثل هذه المعارضة لدعا ربه عن انقطاع وإخلاص فاستجيب له. قوله تعالى: " اولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب " إلى آخر الاية " اولئك " مبتدء و " الذين " صفة له و " يدعون " صلته ضميره عائد إلى المشركين، و " يبتغون " خبر " اولئك " وضميره وسائر ضمائر الجمع إلى آخر الاية راجعة إلى " اولئك " وقوله: " أيهم أقرب " بيان لابتغاء الوسيلة لكون الابتغاء فحصا وسؤالا في المعنى هذا ما يعطيه السياق. والوسيلة على ما فسروه هي التوصل والتقرب، وربما استعملت بمعنى ما به التوصل والتقرب ولعله هو الانسب بالسياق بالنظر إلى تعقيبه بقوله: " أيهم أقرب ". والمعنى - الله أعلم - اولئك الذين يدعوهم المشركون من الملائكة والجن والانس يطلبون ما يتقربون به إلى ربهم يستعلمون أيهم أقرب: حتى يسلكوا سبيله ويقتدوا بأعماله ليتقربوا إليه تعالى كتقربه ويرجون رحمته من كل ما يستمدون به في وجودهم ويخافون عذابه فيطيعونه ولا يعصونه ان عذاب ربك كان محذورا يجب التحرز منه. والتوسل إلى الله ببعض المقربين إليه - على ما في الاية الكريمة قريب منه قوله " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة: المائدة: " - غير ما يرومه المشركون من الوثنيين فإنهم يتوسلون إلى الله ويتقربون بالملائكة الكرام والجن والاولياء

[ 131 ]

من الانس فيتركون عبادته تعالى ولا يرجونه ولا يخافونه، وانما يعبدون الوسيلة ويرجون رحمته ويخافون سخطه ثم يتوسلون إلى هؤلاء الارباب والالهة بالاصنام والتماثيل فيتركونهم ويعبدون الاصنام ويتقربون إليهم بالقرابين والذبائح. وبالجملة يدعون التقرب إلى الله ببعض عباده أو اصنام خلقه ثم لا يعبدون الا الوسيلة مستقلة بذلك ويرجونها ويخافونها مستقلة بذلك من دون الله فيشركون باعطاء الاستقلال لها في الربوبية والعبادة. والمراد باولئك الذين يدعون إن كان هو الملائكة الكرام والصلحاء المقربون من الجن والانبياء والاولياء من الانس كان المراد من ابتغائهم الوسيلة ورجاء الرحمة وخوف العذاب ظاهره المتبادر، وان كان المراد بهم أعم من ذلك حتى يشمل من كانوا يعبدونه من مردة الشياطين وفسقة الانسان كفرعون ونمرود وغيرهما كان المراد بابتغائهم الوسيلة إليه تعالى ما ذكر من خضوعهم وسجودهم وتسبيحهم التكويني وكذا المراد من رجائهم وخوفهم ما لذواتهم. وذكر بعضهم: ان ضمائر الجمع في الاية جميعا راجعة إلى اولئك والمعنى اولئك الانبياء الذين يعبدونهم من دون الله يدعون الناس إلى الحق أو يدعون الله ويتضرعون إليه يبتغون إلى ربهم التقرب، وهو كما ترى. وقال في الكشاف في معنى الاية: يعنى أن آلهتهم اولئك يبتغون الوسيلة وهي القربة إلى الله تعالى، و " ايهم " بدل من واو " يبتغون " واي موصولة اي يبتغي من هو أقرب منهم وأزلف الوسيلة إلى الله فكيف بغير الاقرب ؟ أو ضمن " يبتغون الوسيلة معنى يحرصون فكأنه قيل: يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح ويرجون ويخافون كما غيرهم من عباد الله فكيف يزعمون أنهم آلهة. انتهى. والمعنيان لا بأس بهما لو لا أن السياق لا يلائمهما كل الملاءمة وثانيهما أقرب إليه من أولهما. وقيل: إن معنى الاية اولئك الذين يدعونهم ويعبدونهم ويعتقدون أنهم آلهة يبتغون الوسيلة والقربة إلى الله تعالى بعبادتهم ويجتهد كل منهم ليكون أقرب من رحمته.

[ 132 ]

انتهى. وهو معنى لا ينطبق على لفظ الاية البتة. قوله تعالى: " وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا " ذكروا أن المراد بالعذاب الشديد عذاب الاستئصال فيبقى للاهلاك المقابل له الاماتة بحتف الانف فالمعنى ما من قرية إلا نحن نميت أهلها قبل يوم القيامة أو نعذبهم عذاب الاستئصال قبل يوم القيامة إذ لا قرية بعد طي بساط الدنيا بقيام الساعة وقد قال تعالى: " وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا " الكهف: 8 ولذا قال بعضهم: إن الا هلاك للقرى الصالحة والتعذيب للقرى الطالحة. وقد ذكروا في وجه اتصال الاية أنها موعظة، وقال بعضهم: كأنه تعالى بعد ما ذكر من شأن البعث والتوحيد ما ذكر، ذكر بعض ما يكون قبل يوم البعث مما يدل على عظمته سبحانه وفيه تأييد لما ذكر قبله. والظاهر ان في الاية عطفا على ما تقدم من قوله قبل آيات: " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا " فإن آيات السورة لا تزال ينعطف بعضها على بعض، والغرض العام بيان سنة الله تعالى الجارية بدعوتهم إلى الحق ثم إسعاد من سعد منهم بالسمع والطاعة وعقوبة من خالف منهم وطغى بالاستكبار. وعلى هذا فالمراد بالاهلاك التدمير بعذاب الاستئصال كما نقل عن أبي مسلم المفسر والمراد بالعذاب الشديد ما دون ذلك من العذاب كقحط أو غلاء ينجر إلى جلاء أهلها وخراب عمارتها أو غير ذلك من البلايا والمحن. فتكون في الاية إشارة إلى ان هذه القرى سيخرب كل منها بفساد أهلها وفسق مترفيها، وأن ذلك بقضاء من الله سبحانه كما يشير إليه ذيل الاية وبذلك يتضح اتصال الاية التالية " وما منعنا " الخ بهذه الاية فإن المعنى أنهم مستعدون للفساد مهيؤن لتكذيب الايات الالهية وهي تتعقب بالهلاك والفناء على من يردها ويكذب بها وقد أرسلناها إلى الاولين فكذبوا بها واستؤصلوا فلو انا أرسلنا إلى هؤلاء شيئا من جنس تلك الايات المخوفة لحق بهم الاهلاك والتدمير وانطوى بساط الدنيا فأمهلناهم حتى حين وسيلحق بهم ولا يتخطاهم - كما اشير إليه في قوله: " ولكل أمة رسول "

[ 133 ]

الايات يونس: 47. وذكر بعضهم: أن المراد بالقرى في الاية القرى الكافرة وأن تعميم القرى لا يساعد عليه السياق انتهى. وهو دعوى لا دليل عليها. وقوله: " كان ذلك في الكتاب مسطورا " أي اهلاك القرى أو تعذيبها عذابا شديدا كان في الكتاب مسطورا وقضاء محتوما، وبذلك يظهر أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ الذي يذكر القرآن أن الله كتب فيه كل شئ كقوله: " وكل شئ أحصيناه في امام مبين " يس: 12، وقوله: " وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الارض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر الا في كتاب مبين: يونس: 61. ومن غريب الكلام ما ذكره بعضهم: وذكر غير واحد أنه ما من شئ الا بين فيه أي في اللوح المحفوظ والكتاب المسطور بكيفياته وأسبابه الموجبة له ووقته المضروب له، واستشكل العموم بأنه يقتضي عدم تناهي الابعاد، وقد قامت البراهين النقلية والعقلية على خلاف ذلك فلا بد أن يقال بالتخصيص بأن يحمل الشئ على ما يتعلق بهذه النشأه أو نحو ذلك. وقال بعضهم: بالعموم إلا انه التزم كون البيان على نحو يجتمع مع التناهي فاللوح المحفوظ في بيانه جميع الاشياء الدنيوية والاخروية وما كان وما يكون نظير الجفر الجامع في بيانه لما يبينه. انتهى. والكلام مبني على كونه لوحا جسمانيا موضوعا في بعض أقطار العالم مكتوبا فيه أسماء الاشياء وأوصافها وأحوالها وما يجري عليها في الانظمة الخاصة بكل منها والنظام العام الجاري عليها من جميع الجهات، ولو كان كما يقولون لوحا ماديا جسمانيا لم يسع كتابة أسماء أجزائه التي تألف منها جسمه وتفصيل صفاتها وحالاتها فضلا عن غيره من الموجودات التي لا يحصيها ولا يحيط بتفاصيل صفاتها وأحوالها وما يحدث عليها والنسب التي بينها الا الله سبحانه، وليس ينفع في ذلك التخصيص بما في هذه النشأة أو بما دون ذلك وهو ظاهر. وما التزم به البعض أنه من قبيل انطواء غير المتناهي في المتناهي نظير اشتمال

[ 134 ]

الحروف المقطعة جميع الكلام مع عدم تناهي التأليفات الكلامية التزام بوجود صور الحوادث فيه بالقوة والامكان أو الاجمال وكلامه سبحانه فيما يصف فيه هذا اللوح كالصريح أو هو صريح في اشتماله على الاشياء والحوادث مما كان أو يكون أو هو كائن بالفعل وعلى نحو التفصيل وبسمة الوجوب الذي لا سبيل للتغير إليه، ولو كان كذلك لكفى فيه كتابة حروف التهجة في دائرة على لوح. على ان الجمع بين جسمية اللوح وماديته التي من خاصتها قبول التغير وبين كونه محفوظا من اي تغير وتحول مفروض مما يحتاج إلى دليل اجلى من هذه التصويرات، وفي الكلام مواقع اخرى للنظر. فالحق ان الكتاب المبين هو متن (1) الاعيان بما فيه من الحوادث من جهة ضرورة ترتب المعلولات على عللها، وهو القضاء الذي لا يرد ولا يبدل لا من جهة امكان المادة وقوتها والتعبير عنه بالكتاب واللوح لتقريب الافهام إلى حقيقة المعنى بالتمثيل، وسنستوفي الكلام في هذا البحث ان شاء الله في موضع يناسبه. قوله تعالى: " وما منعنا أن نرسل بالايات الا ان كذب بها الاولون " إلى آخر الاية قد تقدم وجه اتصال الاية بما قبلها ومحصله ان الاية السابقة افادت ان الناس - وآخروهم كأوليهم - مستحقون بما فيهم من غريزة الفساد والفسق لحلول الهلاك وسائر انواع العذاب الشديد، وقد قضى الله على القرى ان تهلك أو تعذب عذابا شديدا وهذا هو الذي منعنا ان نرسل بالايات التي يقترحونها فإن السابقين منهم اقترحوها فأرسلناها إليهم فكذبوا بها فأهلكناهم، وهؤلاء اللاحقون في خلق سابقيهم فلو ارسلنا بالايات حسب اقتراحهم لكذبوا بها فحل الهلاك بهم لا محالة كما حل بسابقيهم، وما يريد الله سبحانه ان يعاجلهم بالعقوبة. وبهذا يظهر ان للايتين ارتباطا بما سيحكيه من اقتراحهم الايات بقوله: " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا: الايه 90 من السورة إلى آخر الايات، وظاهر آيات السورة انها نزلت دفعة واحدة.


(1) بما لها من الثبوت في مرتبة عللها لا في مرتبة انفسها " منه ". (*)

[ 135 ]

فقوله: " وما منعنا ان نرسل بالايات " المنع هو قسر الغير عما يريد ان يفعله وكفه عنه، والله سبحانه يحكم ولا معقب لحكمه وهو الغالب القاهر إذا اراد شيئا قال له كن فيكون، فكون تكذيب الاولين لاياته مانعا له من ارسال الايات المقترحة بعد ذلك كون الفعل بالنظر إلى ما ارتكز فيهم من خلق التكذيب خاليا عن المصلحة بالنسبه إلى امة اراد الله ان لا يعاجلهم بالعقوبة والهلاك أو خاليا عن المصلحة مطلقا للعلم بأن عامتهم لا يؤمنون بالايات المقترحة. وان شئت فقل: ان المنافاة بين ارسال الايات المقترحة مع تكذيب الاولين وكون الاخرين سالكين سبيلهم المستتبع للاستئصال وبين تعلق المشية بامهال هذه الامة عبر عنها في الاية بالمنع استعارة. وكأنه للاشعار بذلك عبر عن ايتاء الايات بالارسال كأنها تتعاضد وتتداعى للنزول لكن التكذيب وتعرق الفساد في فطر الناس يمنع من ذلك. وقوله: " الا ان كذب بها الاولون " التعبير عن الامم الهالكة بالاولين المضايف للاخرين فيه ايماء إلى ان هؤلاء آخر اولئك الاولين فهم في الحقيقة امه واحدة لاخرها من الخلق والغريزه ما لاولها، ولذيلها من الحكم ما لصدرها ولذلك كانوا يقولون: " ما سمعنا بهذا في آبائنا الاولين " المؤمنون: 24 ويكررون ذكر هذه الكلمة. وكيف كان فمعنى الاية انا لم نرسل الايات التي يقترحونها - والمقترحون هم قريش - لانا لو ارسلناها لم يؤمنوا وكذبوا بها فيستحقوا عذاب الاستئصال كما انا ارسلناها إلى الاولين بعد اقتراحهم اياها فكذبوا بها فأهلكناهم لكنا قضينا على هذه الامة أن لا نعذبهم الا بعد مهلة ونظرة كما يظهر من مواضع من كلامه تعالى. وذكروا في معنى الاية الكريمة وجهين آخرين: أحدهما: أنا لا نرسل الايات لعلمنا بأنهم لا يؤمنون عندها فيكون إنزالها عبثا لا فائدة فيه كما أن من قبلهم لم يؤمنوا عند إنزال الايات وهذا إنما يتم في الايات المقترحة وأما الايات التي يتوقف عليها ثبوت النبوة فإن الله يؤتيها رسوله لا محالة وكذا الايات التى في نزولها لطف منه سبحانه فإن الله يظهرها أيضا لطفا منه، وأما غير هذين

[ 136 ]

النوعين فلا فائدة في إنزالها. وثانيهما: أن المعنى أنا لا نرسل الايات لان آباءكم وأسلافكم سألوا مثلها ولم يؤمنوا به عند ما نزل وأنتم على آثار أسلافكم مقتدون فكما لم يؤمنوا هم لا تؤمنون أنتم. والمعنى الثاني منقول عن أبى مسلم وتمييزه من المعنيين السابقين من غير ان ينطبق على أحدهما لا يخلو من صعوبة. وقوله: " وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها " ثمود هم قوم صالح ولقد آتاهم الناقه آية والمبصرة الظاهرة البينة على حد ما في قوله تعالى: " وجعلنا آية النهار مبصرة: اسرى 12، وهي صفة الناقة أو صفة لمحذوف والتقدير آية مبصرة والمعنى وآتينا قوم ثمود الناقة حالكونها ظاهرة بينة أو حالكونها آية ظاهرة بينة فظلموا أنفسهم بسببها أو ظلموا مكذبين بها. وقوله: " وما نرسل بالايات الا تخويفا " اي ان الحكمة في الارسال بالايات التخويف والانذار فإن كانت من الايات التي تستتبع عذاب الاستئصال ففيها تخويف بالهلاك في الدنيا وعذاب النار في الآخرة، وإن كانت من غيرها ففيها تخويف وإنذار بعقوبة العقبى. وليس من البعيد ان يكون المراد بالتخويف إيجاد الخوف والوحشة بارسال ما دون عذاب الاستئصال على حد ما في قوله تعالى: " أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤف رحيم " النحل: 47 فيرجع محصل معنى الاية انا لا نرسل بالايات المقترحة لانا لا نريد ان نعذبهم بعذاب الاستئصال وإنما نرسل ما نرسل من الايات تخويفا ليحذروا بمشاهدتها عما هو اشد منها وافظع ونسب الوجه إلى بعضهم. قوله تعالى: " واذ قلنا لك ان ربك احاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي اريناك الا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم الا طغيانا كبيرا " فقرات الآية وهة اربع واضحة المعاني لكنها بحسب ما بينها من الاتصال وارتباط بعضها ببعض لا تخلد من إجمال والسبب الاصلي في ذلك إجمال الفقرتين الوسطيين الثانية والثالثة.

[ 137 ]

فلم يبين سبحانه ما هذه الرؤيا التي أراها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقع في سائر كلامه ما يصلح لان يفسر به هذه الرؤيا، والذي ذكره من رؤياه في مثل قوله: " إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم " الانفال، 43 وقوله " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام الفتح 27 من الحوادث الواقعة بعد الهجرة وهذه الاية مكية نازلة قبل الهجرة. ولا يدري ما هذه الشجرة الملعونة في القرآن التي جعلها فتنة للناس، ولا توجد في القرآن شجرة يذكرها الله ثم يلعنها نعم ذكر سبحانه شجرة الزقوم ووصفها بأنها فتنة كما في قوله " أم شجرة الزقوم انا جعلناها فتنة للظالمين الصافات 63 لكنه سبحانه لم يلعنها في شئ من المواضع التي ذكرها، ولو كان مجرد كونها شجرة تخرج في اصل الجحيم وسببا من أسباب عذاب الظالمين موجبا للعنها لكانت النار وكل ما أعد الله فيها للعذاب ملعونة ولكانت ملائكة العذاب وهم الذين قال تعالى فيهم: " وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا " المدثر: 31 ملعونين وقد أثنى الله عليهم ذاك الثناء البالغ في قوله: " عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون: التحريم: 6 وقد عد سبحانه أيدي المؤمنين من أسباب عذاب الكفار إذ قال: " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم " التوبة: 14 وليست بملعونة. وبهذا يتأيد أنه لم يكن المراد بالاية الكشف عن قناع الفقرتين وإيضاح قصة الرؤيا والشجرة الملعونة في القرآن المجعولتين فتنة للناس بل إنما أريدت الاشارة إلى إجمالهما والتذكير بما يقتضيانه بحكم السياق. نعم ربما يلوح السياق إلى بعض شأن الامرين: الرؤيا والشجرة الملعونة فإن الايات السابقة كانت تصف الناس أن آخريهم كأوليهم وذيلهم كصدرهم في عدم الاعتناء بآيات الله سبحانه وتكذيبها، وأن المجتمعات الانسانية ذائقون عذاب الله قرية بعد قرية وجيلا بعد جيل بإهلاك أو بعذاب مخوف دون ذلك، والايات اللاحقة " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم " الخ المشتملة على قصة إبليس وعجيب تسلطه على إغواء بنى آدم تجري على سياق الايات السابقة.

[ 138 ]

وبذلك يظهر أن الرؤيا والشجرة المشار اليهما في الاية أمران سيظهران على الناس أو هما ظاهر ان يفتتن بهما الناس فيشيع بهما فيهم الفساد ويتعرق فيهم الطغيان والاستكبار وذيل الاية ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا " يشير إلى ذلك ويؤيده بل وصدر الاية " وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس. أضف إلى ذلك أنه تعالى وصف هذه الشجرة التى ذكرها بأنها ملعونه في القرآن، وبذلك يظهر أن القرآن مشتمل على لعنها وأن لعنها بين اللعنات الموجودة في القرآن كما هو ظاهر قوله: " والشجرة الملعونة في القرآن " وقد لعن في القرآن إبليس ولعن فيه اليهود ولعن فيه المشركون ولعن فيه المنافقون ولعن فيه اناس بعناوين أخر كالذين يموتون وهم كفار والذين يكتمون ما أنزل الله والذين يؤذون الله ورسوله إلى غير ذلك. وقد جعل الموصوف بهذه اللعنة شجرة والشجرة كما تطلق على ذي الساق من النبات كذلك تستعمل في الاصل الذي تطلع منه وتنشأ عليه فروع بالنسب أو بالاتباع على أصل اعتقادي، قال في لسان العرب: ويقال: فلان من شجرة مباركة أي من أصل مبارك. انتهى. وقد ورد ذلك في لسانه صلى الله عليه وآله وسلم كثيرا كقوله: أنا وعلى من شجرة واحدة، ومن هذا الباب قوله في حديث العباس: عم الرجل صنو أبيه. (1) وبالتأمل في ذلك يتضح للباحث المتدبر أن هذه الشجرة الملعونة قوم من هؤلاء الملعونين في كلامه لهم صفة الشجرة في النشوء والنمو وتفرع الفروع على أصل له حظ من البقاء والاثمار وهم فتنة تفتتن بها هذه الامة وليس يصلح لهذه الصفة إلا طوائف ثلاث من المعدودين وهم أهل الكتاب والمشركون والمنافقون ولبثهم في الناس وبقاؤهم على الولاء إما بالتناسل والتوالد كأهل بيت من الطوائف المذكورة يعيشون بين الناس ويفسدون على الناس دينهم ودنياهم ويفتتن بهم الناس وإما بطلوع عقيدة فاسدة ثم اتباعها على الولاء من خلف بعد سلف. ولم يظهر من المشركين وأهل الكتاب في زمن الرسول قبل الهجرة وبعدها قوم بهذا النعت، وقد آمن الله الناس من شرهم مستقلين بذلك بمثل قوله النازل في أواخر


(1) الصنوان: النخلتان تطلعان من عرق واحد. (*)

[ 139 ]

عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشوني: المائدة: 3 وقد استوفينا البحث عن معنى الاية فيما تقدم. فالذي يهدي إليه الامعان في البحث أن المراد بالشجرة الملعونة قوم من المنافقين المتظاهرين بالاسلام يتعرقون بين المسلمين إما بالنسل وإما بالعقيدة والمسلك هم فتنة للناس، ولا ينبغي أن يرتاب في أن في سياق الاية تلويحا بالارتباط بين الفقرتين أعنى قوله: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة " وخاصة بعد الامعان في تقدم قوله: " وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وتذييل الفقرات جميعا بقوله ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا " فإن ارتباط الفقرات بعضها ببعض ظاهر في أن الايه بصدد الاشارة إلى أمر واحد هو سبحانه محيط به ولا ينفع فيه عظة وتخويف إلا زيادة في الطغيان. ويستفاد من ذلك أن الشأن هو أن الله سبحانه أرى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في الرؤيا هذه الشجرة الملعونة وبعض أعمالهم في الاسلام ثم بين لرسوله أن ذلك فتنة. فقوله: " وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس مقتضى السياق أن المراد بالاحاطة الاحاطة العلمية والظرف متعلق بمحذوف والتقدير واذكر إذ قلنا لك كذا وكذا والمعنى واذكر للتثبت فيما ذكرنا لك في هذه الايات أن شيمة الناس الاستمرار في الفساد والفسوق واقتداء أخلافهم بأسلافهم في الاعراض عن ذكر الله وعدم الاعتناء بآيات الله، وقتا قلنا لك ان ربك أحاط بالناس علما وعلم أن هذه السنة ستجري بينهم كما كانت تجري. وقوله: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك الا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن " محصل معناه على ما تقدم أنه لم نجعل الشجرة الملعونة في القرآن التي تعرفها بتعريفنا، ومأ أريناك في المنام من أمرهم الا فتنه للناس وامتحانا وبلاء نمتحنهم ونبلوهم به وقد أحطنا بهم. وقوله: " ونخوفهم فما يزيدهم الا طغيانا كبيرا ضميرا الجمع للناس ظاهرا والمراد بالتخويف اما التخويف بالموعظة والبيان أو بالايات المخوفة التي هي دون الايات الملكهة المبيدة، والمعنى ونخوف الناس فما يزيدهم التخويف الا طغيانا ولا أي طغيان كان بل

[ 140 ]

طغيانا كبيرا أي انهم لا يخافون من تخويفنا حتى ينتهوا عما هم عليه بل يجيبوننا بالطغيان الكبير فهم يبالغون في طغيانهم ويفرطون في عنادهم مع الحق. وسياق الاية سياق التسلية فالله سبحانه يعزى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فيها بأن الذي أراه من الامر، وعرفه من الفتن، وقد جرت سنته تعالى على امتحان عباده بالمحن والفتن، وقد اعترف بذلك غير واحد من المفسرين. ويؤيد جميع ما تقدم ما ورد من طرق أهل السنة واتفقت عليه أحاديث أئمه أهل البيت عليهم السلام أن المراد بالرؤيا في الاية هي رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بني اميه والشجرة شجرتهم وسيوافيك الروايات في البحث الروائي الاتي ان شاء الله تعالى. وقد ذكر جمع من المفسرين استنادا إلى ما نقل عن ابن عباس أن المراد بالرؤيا التى أراها الله نبيه هو الاسراء، والمراد بالشجرة الملعونة في القرآن شجرة الزقوم، وذكروا أن النبي صلى الله عليه واله وسلم لما رجع من الاسراء وأصبح أخبر المشركين بذلك فكذبوه واستهزؤا، به وكذلك لما سمع المشركون آيات ذكر الله فيها الزقوم كذبوه وسخروا منه فأنزل الله في هذه الاية أن الرؤيا التى أريناك وهي الاسراء وشجرة الزقوم ما جعلناهما الا فتنة للناس. ثم لما ورد عليهم أن الرؤيا على ما صرح به أهل اللغة هي ما يراه النائم في منامه والاسراء كان في اليقظه اعتذروا عنه تاره بأن الرؤيا كالرؤية مصدر رآى ولا اختصاص لها بالمنام، وتارة بأن الرؤيا ما يراه الانسان بالليل سواء فيه النوم واليقظة، وتارة بأنها مشاكلة لتسمية المشركين له رؤيا، وتاره بأنه جار على زعمهم كما سموا أصنامهم آلهة فقد روي أن بعضهم قال للنبى صلى الله عليه وآله وسلم لما قص عليهم اسراءه: لعله شئ رأيته في منامك فسماه الله رؤيا على زعمهم كما قال في الاصنام " آلهتهم " وتارة بأنه سمى رؤيا تشبيها له بالمنام لما فيها من العجائب أو لوقوعه ليلا أو لسرعته. وقد أجاب عن ذلك بعضهم أن الاسراء كان في المنام كما روي عن عائشة ومعاوية. ولما ورد عليهم أيضا أن لا معنى لتسميه الزقوم شجرة ملعونة ولا ذنب للشجرة اعتذروا عنه تارة بأن المراد من لعنها لعن طاعميها على نحو المجاز في الاسناد للدلالة على المبالغة في لعنهم كما قيل، وتاره بأن اللعنة بمعنى البعد وهي في أبعد مكان من الرحمة

[ 141 ]

لكونها تنبت في أصل الجحيم، وتأرة بأنها جعلت ملعونة لان طلعها يشبه رؤس الشياطين والشياطين ملعونون وتارة بان العرب تسمي كل غذاء مكروه ضار ملعونا. أما ما ذكروه في معنى الرؤيا فما قيل: ان الرؤيا مصدر مرادف للرؤية أو انها بمعنى الرؤية ليلا يرده عدم الثبوت لغة ولم يستندوا في ذلك إلى شئ من كلامهم من نظم أو نثر الا إلى مجرد الدعوى. وأما قولهم: ان ذلك مشاكلة لتسمية المشركين الاسراء رؤيا اوجرى على زعمهم أنه رؤيا فيجب تنزيه كلامه سبحانه من ذلك البتة فما هي القرينه الدالة على هذه العناية وأنه ليس فيه اعتراف بكونها رؤيا حقيقة ؟ ولم يطلق تعالى على أصنامهم " آلهه " و " شركاء " وانما أطلق " آلهتهم " و " شركائهم " فأضافها إليهم والاضافة نعمت القرينه على عدم التسليم، ونظير الكلام جار في اعتذارهم بأنه من تشبيه الاسراء بالرؤيا فالاستعارة كسائر المجازات لا تصح الا مع قرينة، ولو كانت هناك قرينة لم يستدل كل من قال بكون الاسراء مناميا بوقوع لفظة الرؤيا في الاية بناء على كون الايه ناظرة إلى الاسراء. وأما قول القائل: ان الاسراء كان في المنام فقد اتضح بطلانه في أول السورة في تفسير آية الاسراء. وأما المعاذير التي ذكروها تفصيا عن جعل الشجرة ملعونة في القرآن فقولهم: إن حقيقة لعنها لعن طاعميها على طريق المجاز في الاسناد للمبالغة في لعنهم فهو وإن كان كثير النظير في محاورات العامة لكنه مما يجب أن ينزه عنه ساحة كلامه تعالى وإنما هو من دأب جهلة الناس وسفلتهم تراهم إذا أرادوا أن يسبوا أحدا لعنوه بلعن أبيه وامه وعشيرته مبالغه في سبه، وإذا شتموا رجلا أساؤا ذكر زوجته وبنته وسبوا السماء التي تظله والارض التي تقله والدار التي يسكنها والقوم الذين يعاشرهم وأدب القرآن يمنعه ان يبالغ في لعن أصحاب النار بلعن الشجره التى يعذبهم الله بأكل ثمارها. وقولهم: " إن اللعن مطلق الابعاد مما لم يثبت لغة والذي ذكروه ويشهد به ما ورد من استعماله في القرآن أن معناه الابعاد من الرحمة والكرامة وما قيل: إنها كما قال الله " شجرة تنبت في أصل الجحيم " فهي في أبعد مكان من الرحمة إن اريدت بالرحمة الجنة

[ 142 ]

فهو قول من غير دليل وإن أريدت به الرحمة المقابلة للعذاب كان لازمه كون الشجرة ملعونة بمعنى الابعاد من الرحمة والكرامة ومقتضاه كون جهنم ومأ أعد الله فيها من العذاب وملائكة النار وخزنتها ملعونين مغضوبين مبعدين من الرحمة، وليس شئ منها ملعونا وإنما اللعن والغضب والبعد للمعذبين فيها من الانس والجن. وقولهم: " إنها جعلت ملعونة لان طلعها يشبه رؤس الشياطين والشياطين ملعونون فهو مجاز في الاسناد بعيد من الفهم يرد عليه ما أوردناه على الوجه الاول. وقولهم: إن العرب تسمي كل غذاء مكروه ضار ملعونا فيه استعمال الشجرة وإرادة الثمرة مجازا ثم جعلها ملعونة لكونها مكروهة ضارة أو نسبة اللعن وهو وصف الثمرة إلى الشجرة مجازا، وعلى أي حال كونها معنى من معاني اللعن غير ثابت بل الظاهر أنهم يصفونه باللعن بمعناه المعروف والعامة يلعنون كل ما لا يرتضونه من طعام وشراب وغيرهما. وأما انتساب القول إلى ابن عباس فعلى تقدير ثبوته لا حجية فيه وخاصة مع معارضته لما في حديث عائشة الاتية وغيرها وهو يتضمن تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يعارضه قول غيره. وقال في الكشاف في قوله تعالى: " وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس " واذكر إذ أوحينا اليك أن ربك أحاط بقريش يعني بشرناك بوقعة بدر وبالنصرة عليهم وذلك قوله: " سيهزم الجمع ويولون الدبر " " قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون " وغير ذلك فجعله كأن قد كان ووجد فقال: " أحاط بالناس " على عادته في إخباره. وحين تزاحف الفريقان يوم بدر والنبى صلى الله عليه وآله وسلم في العريش مع أبي بكر كان يدعو ويقول: اللهم إني أسألك عهدك ووعدك ثم خرج وعليه الدرع يحرض الناس ويقول: " سيهزم الجمع ويولون الدبر ". ولعل الله تعالى أراه مصارعهم في منامه فقد كان يقول حين ورد ماء بدر: والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يومئ إلى الارض ويقول: هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان فتسامعت قريش بما أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أمر يوم بدر وما أري

[ 143 ]

في منامه من مصارعهم فكانوا يضحكون ويستسخرون ويستعجلون به استهزاء. وحين سمعوا بقوله: " إن شجرة الزقوم طعام الاثيم " جعلوها سخرية وقالوا: إن محمدا يزعم أن الجحيم تحرق الحجارة ثم يقول ينبت فيها الشجر - إلى أن قال - والمعنى أن الايات إنما يرسل بها تخويفا للعباد، وهؤلاء قد خوفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر. انتهى ثم ذكر تفسير الرؤيا في الاية بالاسراء ناسبا له إلى قيل. وهو ظاهر في أنه لم يرتض تفسير الرؤيا في الاية بالاسراء وإن نسب إلى الرواية فعدل عنه إلى تفسيرها برؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقعة بدر قبل وقوعها وتسامع قريش بذلك واستهزاءهم به. وهو وإن تقصى به عما يلزم تفسيرهم الرؤيا بالاسراء من المحذور لكنه وقع فيما ليس بأهون منه إن لم يكن أشد وهو تفسير الرؤيا بما رجى أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرى في منامه وقعة بدر ومصارع القوم فيها قبل وقوعها ويسخر قريش منه فيجعل فتنة لهم فلا حجة له على ما فسر إلا قوله: " ولعل الله أراه مصارعهم في منامه " وكيف يجترئ على تفسير كلامه تعالى بتوهم أمر لا مستند له ولا حجة عليه من أثر يعول عليه أو دليل من خلال الايات يرجع إليه. وذكر بعضهم: أن المراد بالرؤيا رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه يدخل مكة والمسجد الحرام وهي التي ذكرها الله سبحانه بقوله: " لقد صدق الله رسوله الرؤيا الاية. وفيه أن هذه الرؤيا إنما رآها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة قبل صلح الحديبيه والاية مكية وسنستوفي البحث عن هذه الرؤيا إن شاء الله تعالى. وذكر بعضهم: أن المراد بالشجرة الملعونة في القرآن هم اليهود ونسب إلى أبي مسلم المفسر. وقد تقدم ما يمكن أن يوجه به هذا القول مع ما يرد عليه. قوله تعالى: " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس قال ء أسجد لمن خلقت طينا " قال في المجمع: قال الزجاج: طينا منصوب على الحال بمعنى أنك أنشاته في حال كونه من طين ويجوز أن يكون تقديره من طين فحذف " من "

[ 144 ]

فوصل الفعل، ومثله قوله: " أن تسترضعوا أولادكم أي لاولادكم وقيل: إنه منصوب على التميز. انتهى. وجوز في الكشاف كونه حالا من الموصول لا من المفعول " خلقت " كما قاله الزجاج، وقيل ان الحالية على أي حال خلاف الظاهر لكون " طينا " جامدا. وفي الاية تذكير آخر للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بقصة ابليس وما جرى بينه وبين الله سبحانه من المحاورة عند ما عصى أمر السجدة ليتثبت فيما اخبره الله من حال الناس انهم لم يزالوا على الاستهانة بأمر الله والاستكبار عن الحق وعدم الاعتناء بآيات الله ولن يزالوا على ذلك فليذكر قصة ابليس وما عقد عليه ان يحتنك ذرية آدم وسلطه الله يومئذ على من أطاعه من بنى آدم واتبع دعوته ودعوة خيله ورجله ولم يستثن في عقده الا عباده المخلصين. فالمعنى: واذكر إذ قال ربك للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا الا ابليس - فكأنه قيل: " فماذا صنع ؟ أو فماذا قال ؟ إذ لم يسجد فقيل: انه انكر الامر بالسجدة وقال أأسجد - والاستفهام للانكار - لمن خلقته من طين وقد خلقتني من نار وهي اشرف من الطين. وفي القصة اختصار بحذف بعض فقراتها، والوجه فيه أن السياق اقتضى ذلك فإن الغرض بيان العلل والعوامل المقتضية لاستمرار بني آدم على الظلم والفسوق فقد ذكر أولا أن الاولين منهم لم يؤمنوا بالايات المقترحة والاخرون بانون على الاقتداء بهم ثم ذكره صلى الله عليه وآله وسلم أن هناك من الفتن ما سيفتنون به ثم ذكره بما قصه عليه من قصة آدم وابليس وفيها عقد ابليس أن يغوي ذرية آدم وسؤاله أن يسلطه الله عليهم واجابته تعالى اياه على ذلك في الغاوين فليس بمستبعد أن يميل أكثر الناس إلى سبيل الضلال وينكبوا على الظلم والطغيان والاعراض عن آيات الله وقد أحاطت بهم الفتنه الالهية من جانب والشيطان بخيله ورجله من جانب. قوله تعالى: " قال أرأيتك هذا الذي كرمت على لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته الا قليلا " الكاف في " أرأيتك " زائدة لا محل لها من الاعراب وانما

[ 145 ]

تفيد معنى الخطاب كما في أسماء الاشارة، والمراد بقوله: " هذا الذي كرمت علي " آدم عليه السلام وتكريمه على ابليس تفضيله عليه بأمره بالسجدة ورجمه حيث أبى. ومن هنا يظهر أنه فهم التفضيل من أمر السجدة كما أنه اجترى على ارادة اغواء ذريته مما جرى في محاورته تعالى الملائكة من قولهم: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " البقرة 30، وقد تقدم في تفسير الاية ما ينفع هيهنا. والاحتناك - على ما في المجمع الاقتطاع من الاصل، يقال: احتنك فلان ما عند فلان من مال أو علم إذا استقصاه فأخذه كله واحتنك الجراد المزرع إذا أكله كله، وقيل: انه من قولهم حنك الدابة بحبلها إذا جعل في حنكها الاسفل حبلا يقودها به والظاهر أن المعنى الاخير هو الاصل في الباب، والاحتناك الالجام. والمعنى: قال ابليس بعد ما عصى وأخذه الغضب الالهي رب أرأيت هذا الذي فضلته بأمري بسجدته ورجمى بمعصيته اقسم لئن اخرتني إلى يوم القيامة وهو مدة مكث بنى آدم في الارض لالجمن ذريته الا قليلا منهم وهم المخلصون. قوله تعالى: " قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا " قيل: الامر بالذهاب ليس على حقيقته وإنما هو كناية عن تخليته ونفسه كما تقول لمن يخالفك: افعل ما تريد، وقيل: الامر على حقيقته وهو تعبير آخر لقوله في موضع آخر: " أخرج منها فانك رجيم " والموفور المكمل فالجزاء الموفور الجزاء الذى يوفى كله ولا يدخر منه شئ ومعنى الاية واضح. قوله تعالى: " واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك " إلى آخر الاية الاستفزاز الازعاج والاستنهاض بخفة وإسراع، والاجلاب كما في المجمع السوق بجلبة من السائق والجلبه شدة الصوت، وفي المفردات: أصل الجلب سوق الشئ يقال جلبت جلبا قال الشاعر: " وقد يجلب الشئ البعيد الجواب وأجلبت عليه صحت عليه بقهر، قال الله عزوجل: " وأجلب عليهم بخيلك ورجلك " انتهى. والخيل - على ما قيل - الافراس حقيقة ولا واحد له من لفظه ويطلق على الفرسان

[ 146 ]

مجازا، والرجل بالفتح فالكسر هو الراجل كحذر وحاذر وكمل وكامل وهو خلاف الراكب، وظاهر مقابلته بالخيل أن يكون المراد به الرجالة وهم غير الفرسان من الجيش. فقوله: " واستفزز من استطعت منهم بصوتك ": أي استنهض للمعصية من استطعت أن تستنهضه من ذرية آدم - وهم الذين يتولونه منهم ويتبعونه كما ذكره في سورة الحجر - بصوتك، وكان الاستفزاز بالصوت كناية عن استخفافهم بالوسوسة الباطلة من غير حقيقة، وتمثيل بما يساق الغنم وغيره بالنعيق والزجر وهو صوت لا معنى له. وقوله: " واجلب عليهم بخيلك ورجلك " أي وصح عليهم لسوقهم إلى معصية الله بأعوانك وجيوشك فرسانهم ورجالتهم وكأنه اشارة إلى أن قبيله وأعوانه منهم من يعمل ما يعمل بسرعة كما هو شأن الفرسان في معركة الحرب ومنهم من يستعمل في غير موارد الحملات السريعة كالرجالة، فالخيل والرجل كناية عن المسرعين في العمل والمبطئين فيه وفيه تمثيل نحو عملهم. وقوله: " وشاركهم في الاموال والاولاد " الشركة إنما يتصور في الملك والاختصاص ولازمه كون الشريك سهيما لشريكه في الانتفاع الذي هو الغرض من اتخاذ المال والولد فإن المال عين خارجي منفصل من الانسان وكذا الولد شخص إنساني مستقل عن والديه، ولو لا غرض الانتفاع لم يعتبر الانسان مالية لمال ولا اختصاصا بولد. فمشاركة الشيطان للانسان في ماله أو ولده مساهمته له في الاختصاص والانتفاع كأن يحصل المال الذي جعله الله رافعا لحاجه الانسان الطبيعية من غير حله فينتفع به الشيطان لغرضه والانسان لغرضه الطبيعي، أو يحصله من طريق الحل لكن يستعمله في غير طاعة الله فينتفعان به معا وهو صفر الكف من رحمة الله وكان يولد الانسان من غير طريق حله أو يولد من طريق حله ثم يربيه تربية غير صالحة ويؤدبه بغير أدب الله فيجعل للشيطان سهما ولنفسه سهما، وعلى هذا القياس. وهذا وجه مستقيم لمعنى الاية وجامع لما ذكره المفسرون في معنى الاية من الوجوه المختلفة كقول بعضهم: الاموال والاولاد التي يشارك فيها الشيطان كل مال أصيب من حرام وأخذ من غير حقه وكل ولد زنا كما ابن عباس وغيره.

[ 147 ]

وقول آخر: " إن مشاركته في الاموال أنه أمرهم أن يجعلوها سائبة وبحيرة وغير ذلك وفي الاولاد أنهم هو دوهم ونصروهم ومجسوهم كما عن قتادة. وقول آخر: إن كل مال حرام وفرج حرام فله فيه شرك كما عن الكلبي وقول آخر " إن المراد بالاولاد تسميتهم عبد شمس وعبد الحارث ونحوهما، وقول آخر: هو قتل الموؤدة من أولادهم كما عن ابن عباس أيضا، وقول آخر: إن المشاركة في الاموال الذبح للالهة كما عن الضحاك إلى غير ذلك مما روى عن قدماء المفسرين. وقوله وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا " أي ما يعدهم إلا وعدا غارا بإظهار الخطأ في صورة الصواب والباطل على هيئة الحق فالغرور مصدر بمعنى اسم الفاعل للمبالغة. قوله تعالى ": إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا " المراد بعبادي أعم من المخلصين الذين استثناهم إبليس بقوله: " إلا قليلا " بل غير الغاوين من أتباع أبليس كما قال في موضع آخر: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين: الحجر 42 والاضافة للتشريف. وقوله: " وكفي بربك وكيلا " أي قائما على نفوسهم وأعمالهم حافظا لمنافعهم متوليا لامورهم فإن الوكيل هو الكافل لامور الغير القائم مقامه في تدبيرها وإدارة رحاها، وبذلك يظهر أن المراد به وكالته الخاصة لغير الغاوين من عباده كما مر في سورة الحجر. وقد تقدمت أبحاث مختلفة حول قصة سجدة آدم نافعة في هذا المقام في مواضع متفرقة من كلامه تعالى كسورة البقرة وسورة الاعراف وسورة الحجر. بحث روائي في تفسير العياشي عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام: في قوله: " وإن من فرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة " قال: هو الفناء بالموت أو غيره، وفي

[ 148 ]

رواية أخرى عنه عليه السلام: " وإن من قريه إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة " قال: بالقتل والموت أو غيره. اقول: ولعله تفسير لجميع الاية. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وما منعنا أن نرسل بالايات " الاية قال: نزلت في قريش. قال: وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام: في الاية: وذلك أن محمدا سأل قومه أن يأتيهم فنزل جبرئيل فقال: إن الله عزوجل يقول: وما منعنا أن نرسل بالايات الا أن كذب بها الاولون، وكنا إذا أرسلنا إلى قريش آية فلم يؤمنوا بها اهلكناهم فلذلك أخرنا عن قومك الايات. وفي الدر المنثور أخرج أحمد والنسائي والبزار وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: سأل أهل مكه النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعون فقيل له: إن شئت أن نتأني بهم وإن شئت أن نؤتيهم الذى سألوا فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم من الامم قال: لا بل أستأني بهم فأنزل الله: " وما منعنا أن نرسل بالايات الا أن كذب بها الاولون ". اقول: وروي ما يقرب منه بغير واحد من الطرق. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن سهل بن سعد قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى فلان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتى مات فأنزل الله: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنه للناس ". وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر أن النبي قال: رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة وأنزل الله في ذلك: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة " يعني الحكم وولده. وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أريت بني امية على منابر الارض وسيتملكونكم فتجدونهم أرباب سوء، واهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك فأنزل الله: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ".

[ 149 ]

وفيه أخرج ابن مردوية عن الحسين بن على: أن رسول الله أصبح وهو مهموم فقيل: مالك يا رسول الله ؟ فقال: إني أريت في المنام كأن بني امية يتعاورون منبرى هذا فقيل: يا رسول الله لا تهتم فإنها دنيا تنالهم فأنزل الله: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ". وفيه أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن سعيد ابن المسيب قال: رآى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أميه على المنابر فساءه ذلك فأوحى الله إليه إنما هي دنيا أعطوها فقرت عينه، وهي قوله: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنه للناس " يعنى بلاء للناس. اقول: ورواه في تفسير البرهان عن الثعلبي في تفسيره يرفعه إلى سعيد بن المسيب. وفي تفسير البرهان عن كتاب فضيلة الحسين يرفعه إلى أبي هريرة قال قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رأيت في النوم بني الحكم أو بني العاص ينزون على منبري كما تنزو القردة فأصبح كالمتغيظ فما رؤي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستجمعا ضاحكا بعد ذلك حتى مات. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن عائشة: أنها قالت لمروان بن الحكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لابيك وجدك: إنكم الشجرة الملعونة في القرآن. وفي مجمع البيان: رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن قرودا تصعد منبره وتنزل وساءء ذلك واغتم: رواه سهل بن سعيد عن أبيه. ثم قال. وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام، وقالوا: على هذا التأويل الشجرة الملعونة في القرآن هو بنو اميه. اقول: وليس من التأويل في شئ بل هو تنزيل كما تقدم بيانه، إلا أن التأويل ربما اطلق في كلامهم على مطلق توجيه المقصود. وروى هذا المعنى العياشي في تفسيره عن عدة من الثقات كزرارة وحمران ومحمد ابن مسلم ومعروف بن خربوذ وسلام الجعفي والقاسم بن سليمان ويونس بن عبد الرحمان الاشل وعبد الرحيم القصير عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام ورواه القمي في تفسيره مضمرا، ورواه العياشي أيضا عن أبي الطفيل عن علي عليه السلام.

[ 150 ]

وفى بعض هذه الروايات أن مع بنى أمية غيرهم وقد تقدم ما يهدي إليه البحث في معنى الاية، وقد مر أيضا الروايات في ذيل قوله تعالى: " ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة " الاية إبراهيم: 26 أن الشجرة الخبيثة هي الافجران من قريش. وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وأحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس: " في قوله - وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس " قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة اسري به إلى بيت المقدس وليست برؤيا منام " والشجرة الملعونة في القرآن " قال " هي شجره الزقوم: اقول: وروى هذا المعنى أيضا عن ابن سعد وأبي يعلى وابن عساكر عن ام هاني، وقد عرفت حال الرواية في الكلام على تفسير الاية. وفيه أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك " الاية قال: إن رسول الله اري أنه دخل مكة هو وأصحابه وهو يومئذ بالمدينة فسار إلى مكه قبل الاجل فرده المشركون فقال اناس: قد رد وقد كان حدثنا أنه سيدخلها فكانت رجعته فتنتهم اقول: وقد تقدم ما على الرواية في تفسير الاية على أنها تعارض ما تقدمها. وفي تفسير البرهان عن الحسين بن سعيد في كتاب الزهد عن عثمان بن عيسى عن عمر بن اذينة عن سليمان بن قيس قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله حرم الجنة علي كل فحاش بذئ قليل الحياء لا يبالي ما قال وما قيل له فإنك أن فتشته لم تجده إلا لغيه أو شرك شيطان. فقال رجل. يا رسول الله وفي الناس شرك شيطان ؟ فقال: أو ما تقرء قول الله عزوجل: " وشاركهم في الاموال والاولاد " ؟ فقال: من لا يبالي ما قال وما قيل له ؟ فقال: نعم من تعرض للناس فقال فيهم وهو يعلم أنهم لا يتركونه فذلك الذي لا يبالي ما قال وما قيل له. وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن شرك

[ 151 ]

الشيطان: قوله: " وشاركهم في الاموال والاولاد " قال: ما كان من مال حرام فهو شرك الشيطان. قال ويكون مع الرجل حتى يجامع فيكون من نطفته ونطفة الرجل إذا كان حراما. اقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة، وهي من قبيل ذكر المصاديق، وقد تقدم المعنى الجامع لها. وما ذكر فيها على مشاركته الرجل في الوقاع والنطفة وغير ذلك كناية عن ان له نصيبا في جميع ذلك فهو من التمثيل بما يتبين به المعنى المقصود، ونظائرة كثيرة في الروايات. * * * ربكم الذى يزجى لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما (66). وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الانسان كفورا (67). أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا (68). أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا (69). ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (70). يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتى كتابه بيمينه فأولئك يقرؤن كتابهم ولا يظلمون فتيلا (71). ومن كان في هذه أعمى فهو في الاخرة أعمى وأضل سبيلا (72).

[ 152 ]

بيان الايات كالمكملة للايات السابقة تثبت لله سبحانه من استجابة الدعوه وكشف الضر ما نفاه القبيل السابق عن أصنامهم وأوثانهم فإن الايات السابقة تبتدي بقوله تعالى: " قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا " وهذه الايات تفتتح بقوله: " ربكم الذى يزجى لكم الفلك في البحر " الخ. وإنما قلنا: هي كالمكملة لبيان الايات السابقة مع أن ما تحتويه كل من القبلين حجة تامة في مدلولها تبطل إحداهما الوهية آلهتهم وتثبت الاخرى ألوهية الله سبحانه لافتتاح القبيل الاول بقوله: " قل " دون الثاني وظاهره كون مجموع القبيلين واحدا من الاحتجاج أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإلقائه إلى المشركين لالزامهم بالتوحيد. ويؤيده السياق السابق المبدو بقوله: " قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا " وقد لحقه قوله ثانيا: " وقالوا أإذا متنا - أن قال - قل كونوا حجارة أو حديدا. وقد ختم الايات بقوله: " يوم ندعوا كل اناس بإمامهم " الخ فأشار به إلى أن هذا الذى يذكر من الهدى والضلالة في الدنيا يلازم الانسان في الاخرة فالنشأة الاخرى على طبق النشأه الاولى فمن أبصر في الدنيا أبصر في الاخرة ومن كان في هذه أعمى فهو من الاخرة أعمى وأضل سبيلا. قوله تعالى: " ربكم الذى يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما " الازجاء على ما في مجمع البيان سوق الشئ حالا بعد حال فالمراد به إجراء السفن في البحر بإرسال الرياح ونحوه وجعل الماء رطبا مائعا يقبل الجري والخرق، والفلك جمع الفلكة وهي السفينة. وابتغاء الفضل طلب الرزق فإن الجواد إنما يجود غالبا بما زاد على مقدار حاجة نفسه وفضل الشئ ما زاد وبقي منه ومن ابتدائيي، وربما قيل: إنها للتبعيض وذيل

[ 153 ]

الاية تعليل للحكم بالرحمة والمعنى ظاهر. والايه تمهيد لتاليها. قوله تعالى: " وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه " إلى آخر الاية الضر الشدة، ومس الضر في البحر هو خوف الغرق بالاشراف عليه بعصف الرياح وتقاذف الامواج ونحو ذلك. وقوله: " ضل من تدعون إلا إياه " المراد بالضلال - على ما ذكروا - الذهاب عن الخواطر دون الخروج عن الطريق وقيل: هو بمعنى الضياع من قولهم ضل عن فلان كذا أي ضاع عنه ويعود على أي حال إلي معنى النسيان. والمراد بالدعاء دعاء المسألة دون دعاء العبادة فيعم قوله: " من تدعون الاله الحق والالهة الباطلة التى يدعوها المشركون، والاستثناء متصل، والمعنى وإذا اشتد عليكم الامر في البحر بالاشراف على الغرق نسيتم كل إله تدعونه وتسألونه حوائجكم إلا الله. وقيل: المراد دعاء العبادة دون المسألة فيختص بمن يعبدونه من دون الله والاستثناء منقطع، والمعنى إذا مسكم الضر في البحر ذهب عن خواطركم الالهة الذين تعبدونهم لكن الله سبحانه لا يغيب عنكم ولا ينسى. والظاهر أن المراد بالضلال معناه المعروف وهو خلاف الهدى والكلام مبني على تمثيل لطيف كأن الانسان إذا مسه الضر في البحر ووقع في قلبه أن يدعو لكشف ضره قصده آلهته الذين كان يدعوهم ويستمر في دعائهم قبل ذلك وأخذوا يسعون نحوه ويتسابقون في قطع الطريق إلى ذكره ليذكرهم ويدعوهم ويستغيث بهم لكنهم جميعا يضلون الطريق ولا ينتهون إلى ذكره فينساهم والله سبحانه مشهود لقلبه حاضر في ذكره يذكره الانسان عند ذلك فيدعوه وقد كان معرضا عنه فيجيبه وينجيه إلى البر. وبذلك يظهر أن المراد بالضلال معناه المعروف، وبمن تدعون آلهتهم من دون الله فحسب وأن الاستثناء منقطع والوجه في جعل الاستثناء منقطعا أن الذى يبتني عليه الكلام من معنى التشبيه لا يناسب ساحة قدسه تعالى لتنزهه من السعي والوقوع في الطريق وقطعه ونحو ذلك. مضافا إلى أن قوله: " فلما نجاكم إلى البر أعرضتم " ظاهر في أن المراد بالدعوة

[ 154 ]

دعاء المسألة وأنهم في البر أي في حالهم العادى غير حال الضر معرضون عنه تعالى لا يدعونه فقوله: " من تدعون " الظاهر في استمرار الدعوة المراد به آلهتهم الذين كانوا يدعونهم فاستثناؤه تعالى استثناء منقطع. وقوله: " فلما نجاكم إلى البر أعرضتم " أي فلما نجاكم من الغرق وكشف عنكم الضر رادا لكم إلى البر اعرضتم عنه أو عن دعائه وفيه دلالة على أنه تعالى غير مغفول عنه للانسان في حال وأن فطرته تهديه إلى دعائه في الضراء والسراء والشدة والرخاء جميعا فإن الاعراض إنما يتحقق عن أمر ثابت موجود فقوله: إن الانسان يدعوه في الضر ويعرض عنه بعد كشفه في معنى أنه مهدي إليه بالفطرة دائما. وقوله، " وكان الانسان كفورا: أي إن الكفران من دأب الانسان من حيث ان له الطبيعة الانسانية فإنه يتعلق بالاسباب الظاهرية فينسى مسبب الاسباب فلا يشكره تعالى وهو يتقلب في نعمه الظاهره والباطنة. وفى تذييل الكلام بهذه الجملة تنبيه على أن إعراض الانسان عن ربه في غير حال الضر ليس بحال غريزي فطري له حتى يستدل بنسيانه ربه على نفي الربوبية بل هو دأب سئ من الانسان يوقعه فيه كفران النعمة. وفى الاية حجة على توحده تعالى في ربوبيته ومحصله ان الانسان إذا انقطع عن جميع الاسباب الظاهرية وأيس منها لم ينقطع عن التعلق بالسبب من اصله ولم يبطل منه رجاء النجاة من رأس بل رجى النجاة وتعلق قلبه بسبب ما يقدر على ما لا يقدر عليه سائر الاسباب، ولا معنى لهذا التعلق الفطري لو لا أن هناك سببا فوق الاسباب إليه يرجع الامر كله وهو الله سبحانه، وليس يصرف الانسان عنه الا الاشتغال بزخارف الحياة الدنيا والتعلق بالاسباب الظاهرية والغفلة عما وراءها. قوله تعالى: " أفأمنتم ان يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا " خسوف القمر استتار قرصه بالظلمة والظل وخسف الله به الارض أي ستره فيها، والحاصب - كما في المجمع - الريح التى ترمي بالحصباء والحصا الصغار وقيل: الحاصب الريح المهلكة في البر والقاصف الريح المهلكة في البحر.

[ 155 ]

والاستفهام للتوبيخ يوبخهم الله تعالى على إعراضهم عن دعائه في البر فإنهم لا مؤمن لهم من مهلكات الحوادث في البر كما لا مؤمن لهم حال مس الضر في البحر إذ لا علم لهم بما سيحدث لهم وعليهم فمن الجائز أن يخسف الله بهم جانب البر أو يرسل عليهم ريحا حاصبا فيهلكهم بذلك ثم لا يجدوا لانفسهم وكيلا يدفع عنهم الشدة والبلاء ويعيد إليهم الامن والسلام. قوله تعالى: " أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى: إلى آخر الايه القصف الكسر بشدة وقاصف الريح هي التي تكسر السفن والابنية وقيل: القاصف الريح المهلكة في البحر والتبيع هو التابع يتبع الشئ وضمير " فيه للبحر وضمير " به " للغرق أو للارسال أو لهما معا باعتبار ما وقع ولكل قائل، والاية من تمام التوبيخ. والمعنى أم هل أمنتم بنجاتكم إلى البر أن يعيدكم الله في البحر تارة اخرى فيرسل عليكم ريحا كاسرة للسفن أو مهلكة فيغرقكم بسبب كفركم ثم لا تجدوا بسبب الاغراق أحدا يتبع الله لكم عليه فيسأله لم فعل هذا بكم ؟ ويؤاخذه على ما فعل. وفي قوله: " ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا " التفات من الغيبة إلى التكلم بالغير وكأن النكتة فيه الظهور على الخصم بالعظمة والكبرياء. وهو المناسب في المقام، وليكون مع ذلك توطئة لما في الايات التالية من سياق التكلم بالغير. قوله تعالى: " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " الاية مسوقة للامتنان مشوبا بالعتاب كأنه تعالى لما ذكر وفور نعمه وتواتر فضله ورحمته على الانسان، وحمله في البحر ابتغاء فضله ورزقه، ورفاه حاله في البر ثم نسيانه لربه واعراضه عن دعائه إذا نجاه وكشف ضره كفرانا مع أنه متقلب دائما بين نعمة التى لا تحصى نبه على جملة تكريمه وتفضيله ليعلم بذلك مزيد عنايته بالانسان وكفران الانسان لنعمه على كثرتها وبلوغها. وبذلك يظهر أن المراد بالاية بيان حال لعامة البشر مع الغض عما يختص به بعضهم من الكرامة الخاصة الالهية والقرب والفضيلة الروحية المحضة فالكلام يعم المشركين والكفار والفساق والا لم يتم معنى الامتنان والعتاب.

[ 156 ]

فقوله: " ولقد كرمنا بني آدم " المراد بالتكريم تخصيص الشئ بالعناية وتشريفه بما يختص به ولا يوجد في غيره، وبذلك يفترق عن التفضيل فإن التكريم معنى نفسي وهو جعله شريفا ذا كرامة في نفسه، والتفضيل معنى إضافي وهو تخصيصه بزيادة العطاء بالنسبة إلى غيره مع اشتراكهما في أصل العطية والانسان يختص من بين الموجودات الكونية بالعقل ويزيد على غيره في جميع الصفات والاحوال التى توجد بينها والاعمال التي يأتي بها. وينجلي ذلك بقياس ما يتفنن الانسان به في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه ومنكحه ويأتى به من النظم والتدبير في مجتمعه، ويتوسل إليه من مقاصده باستخدام سائر الموجودات الكونية وقياس ذلك مما لسائر الحيوان والنبات وغيرهما من ذلك فليس عندها من ذلك إلا وجوه من التصرف ساذجة بسيطة أو قريب من البساطة وهي واقفة في موقفها المحفوظ لها يوم خلقت من غير تغير أو تحول محسوس وقد سار الانسان في جميع وجوه حياته الكمالية إلى غايات بعيدة ولا يزال يسعى ويرقي. وبالجملة بنو آدم مكرمون بما خصهم الله به من بين سائر الموجودات الكونية وهو الذى يمتازون به من غيرهم وهو العقل الذي يعرفون به الحق من الباطل والخير من الشر والنافع من الضار. وأما ما ذكره المفسرون أو وردت به الرواية أن الذي كرمهم الله به النطق أو تعديل القامة وامتدادها أو الاصابع يفعلون بها ما يشاؤن أو الاكل باليد أو الخط أو حسن الصورة أو التسلط على سائر الخلق وتسخيرهم له أو أن الله خلق أباهم آدم بيده أو أنه جعل محمدا صلى الله عليه وآله وسلم منهم أو جميع ذلك، وما ذكر منها فإنما ذكر على سبيل التمثيل. فبعضها مما يتفرع على العقل كالخط والنطق والتسلط على غيره من الخلق وبعضها من مصاديق التفضيل دون التكريم وقد تقدم الفرق بينهما، وبعضها خارج عن مدلول الاية كالتكريم بخلق أبيهم آدم عليه السلام بيده وجعل محمد صلى الله عليه وآله وسلم منهم فإن ذلك من التكريم الاخروي والتشريف المعنوي الخارج عن مدلول الاية كما تقدم. وبذلك يظهر ما في قول بعضهم: إن التكريم بجميع ذلك وقد أخطأ صاحب

[ 157 ]

روح المعاني حيث قال بعد ذكر الاقوال: والكل في الحقيقة على سبيل التمثيل ومن ادعى الحصر في واحد كابن عطية حيث قال: إنما التكريم بالعقل لا غيره فقد ادعى غلطا ورام شططا وخالف صريح العقل وصحيح النقل. انتهى. ووجه خطأه ظاهر مما تقدم. وقوله: " وحملناهم في البر والبحر " أي حملناهم على السفن والدواب وغير ذلك يركبونها إلى مقاصدهم وابتغاء فضل ربهم ورزقه، وهذا أحد مظاهر تكريمهم. وقوله: " ورزقناهم من الطيبات " أي من الاشياء التي يستطيبونها من أقسام النعم من الفواكه والثمار وسائر ما يتنعمون به ويستلذونه مما يصدق عليه الرزق، وهذا أيضا أحد مظاهر التكريم فمثل الانسان في هذا التكريم الالهي مثل من يدعى إلى الضيافة وهي تكريم ثم يرسل إليه مركوب يركبه للحضور لها وهو تكريم ثم يقدم عليه أنواع الاغذية والاطعمه الطيبة اللذيذة وهو تكريم. وبذلك يظهر أن عطف قوله: " وحملناهم " الخ وقوله " ورزقناهم " الخ على التكريم من قبيل عطف المصاديق المترتبة على العنوان الكلي المنتزع منها. وقوله: " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " لا يبعد أن يكون المراد بمن لقناهم أنواع الحيوان ذوات الشعور والجن الذي يثبته القرآن فإن الله سبحانه يعد أنواع الحيوان امما أرضيه كالامة الانسانية ويجريها مجرى اولي العقل كما قال: " وما من دابة في الارض ولا طائر يطير بجناحيه إلا امم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون. وهذا هو الانسب بمعنى الاية وقد عرفت أن الغرض منها بيان ما كرم الله به بني آدم وفضلهم على سائر الموجودات الكونية وهي - فيما نعلم - الحيوان والجن وأما الملائكة فليسوا من الموجودات الكونية الواقعة تحت تأثير النظام المادى الحاكم في عالم المادة. فالمعنى: وفضلنا بني آدم على كثير مما خلقنا وهم الحيوان والجن واما غير

[ 158 ]

الكثير وهم الملائكة فهم خارجون عن محل الكلام لانهم موجودات نورية غير كونية ولا داخلة في مجرى النظام الكوني، والايه إنما تتكلم في الانسان من جهة أنه أحد الموجودات الكونية وقد انعم عليه بنعم نفسية وإضافيه. وقد تبين مما تقدم: أولا: أن كلا من التكريم والتفضيل في الاية ناظر إلى نوع من الموهبة الالهية التي اوتيها الانسان، أما تكريمه فيما يختص بنوعه من الموهبة لا يتعداه إلى غيره وهو العقل الذى يميز به الخير من الشر والنافع من الضار والحسن من القبيح ويتفرع عليه مواهب اخرى كالتسلط على غيره واستخدامه في سبيل مقاصده والنطق والخط وغيره. وأما تفضيله فبما يزيد به على غيره في الامور المشتركة بينه وبين غيره كما أن الحيوان يتغذى بما وجده من لحم أو فاكهة أو حب أو عشب ونحو ذلك على وجه ساذج والانسان يتغذى بذلك ويزيد عليه بما يبدعه من ألوان الغذاء المطبوخ وغير المطبوخ على أنحاء مختلفة وفنون مبتكرة وطعوم مستطابة لذيذه لا تكاد تحصى ولا تزال تزداد نوعا وصنفا، وقس على ذلك الحال في مشربه وملبسه ومسكنه ونكاحه و اجتماعه المنزلي والمدني وغير ذلك. وقال في مجمع البيان: ومتى قيل: إذا كان معنى التكريم والتفضيل واحدا فما معنى التكرار ؟ فجوابه أن قوله " كرمنا " ينبئ عن الانعام ولا ينبئ عن التفضل فجاء بلفظ التفضيل ليدل عليه، وقيل: ان التكريم يتناول نعم الدنيا والتفضيل يتناول نعم الاخرة وقيل: إن التكريم بالنعم التى يصح بها التكليف، والتفضل بالتكليف الذي عرضهم به للمنازل العالية. انتهى. أما ما ذكره أن التفضيل يدل علي نكتة زائده على مدلول التكريم وهو كونه تفضلا وإعطاء لا عن استحقاق ففيه أنه ممنوع والتفضيل كما يصح لا عن استحقاق من المفضل كذلك يصح عن استحقاق منه لذلك، وأما ما نقله عن غيره فدعوى من غير دليل. وقال الرازي في تفسيره في الفرق بينهما: أن الاقرب في ذلك أن يقال: إنه تعالى فضل الانسان على سائر الحيوانات بامور خلقية طبيعية ذاتية مثل العقل والنطق والخط

[ 159 ]

والصوره الحسنة والقامة المديدة ثم إنه عزوجل عرضه بواسطة العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة والاخلاق الفاضلة فالاول هو التكريم والثاني هو التفضيل فكأنه قيل: فضلناهم بالتعريض لاكتساب ما فيه النجاة والزلفى بواسطة ما كرمناهم به من مبادى ذلك فعليهم أن يشكروا ويصرفوا ما خلق لهم لما خلق له فيوحدوا الله تعالى ولا يشركوا به شيئا ويرفضوا ما هم عليه من عبادة غيره. انتهى. ومحصله الفرق بين التكريم والتفضيل بأن الاول إنما هو في الامور الذاتية أو ما يلحق بها من الغريزيات والثاني في الامور الاكتسابية، وأنت خبير بأن الانسان وإن وجد فيه من المواهب الالهية والكمالات الوجودية امور ذاتية وامور اكتسابيه على ما ذكره لكن اختصاص التكريم بالنوع الاول والتفضيل بالنوع الثاني لا يساعد عليه لغة ولا عرف فالوجه ما قدمناه. وثانيا: أن الاية ناظرة إلى الكمال الانساني من حيث وجوده الكوني وتكريمه وتفضيله بالقياس إلى سائر الموجودات الكونية الواقعة تحت النظام الكوني فالملائكة الخارجون عن النظام الكوني خارجون عن محل الكلام، والمراد بتفضيل الانسان على كثير ممن خلق تفضيله على غير الملائكة من الموجودات الكونية، وأما الملائكة فوجودهم غير هذا الوجود فلا تعرض لهم في ذلك بوجه. وبذلك يظهر فساد ما استدل بعضهم بالاية على كون الملائكة أفضل من الانسان حتى الانبياء عليهم السلام قال: لان قوله تعالى: " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا " يدل على أن هاهنا من لم يفضلهم عليه، وليس إلا الملائكه لان بني آدم أفضل من كل حيوان سوى الملائكة بالاتفاق. وجه الفساد: أن الذي تعرضت له الاية إنما هو التفضيل من حيث الوجود الكوني الدنيوي والملائكة غير موجودين بهذا النحو من الوجود، وإلى هذا يرجع ما أجاب به بعضهم أن التفضيل في الاية لم يرد به الثواب لان الثواب لا يجوز التفضيل به ابتداء، وإنما المراد بذلك ما فضلهم الله به من فنون النعم التي اوتيها في الدنيا. وأما ما أجابوا عنه بأن المراد بالكثير في الاية الجميع ومن بيانية، والمعنى وفضلناهم على من خلقنا وهم كثير.

[ 160 ]

ففيه أنه وجه سخيف لا يساعد عليه كلامهم ولا سياق الايه، وما قيل: أنه من قبيل قولهم: بذلت له العريض من جاهي وأبحته المنيع من حريمي ولا يراد به أني بذلت له عريض جاهي ومنعته ما ليس بعريض وابحته منيع حريمي ولم أبحه ما ليس بمنيع بل المراد بذلت له جاهي الذى من صفته أنه عريض وأبحته حريمي الذى هو منيع، يرده أنه إن اريد بما فسر به المثالان أن العناية في الكلام مصروفة إلى أخذ كل الجاه عريضا وكل الحريم منيعا لم ينقسم الجاه والحريم حينئذ إلى عريض وغير عريض ومنيع وغير منيع ولم ينطبق على مورد الاية المدعى أنه اطلق فيها البعض واريد به الكل، وإن اريد به أن المعنى بذلت له عريض جاهي فكيف بغير العريض وأبحته المنيع من حريمي فكيف بغير المنيع كان شمول حكم البعض للكل بالاولوية ولم يجز في مورد الاية قطعا. وربما اجيب عن ذلك بأنا أن سلمنا أن المراد بالكثير غير الملائكة ولفظة من للتبعيض فغايه ما في الباب أن تكون الاية ساكتة عن تفضيل بني آدم على الملائكة وهو أعم من تفضيل الملك على الانسان لجواز التساوى، ولو سلم أنها تدل على التفضيل فغايته أن تدل على تفضيل جنس الملائكة على جنس بني آدم وهذا لا ينافى أن يكون بعض بني آدم أفضل من الملائكة كالانبياء عليهم السلام. والحق كما عرفت أن الاية غير متعرضة للتفضيل من جهة الثواب والفضل الاخروي وبعبارة أخرى هي متعرضة للتفضيل من جهة الوجود الكونة والمراد بكثير ممن خلقنا غير الملائكة ومن تبعيضية والمراد بمن خلقنا الملائكة وغيرهم من الانسان والحيوان والجن. والانسان مفضل بحسب وجوده الكوني على الحيوان والجن هذا، وسيوافيك كلام في معنى تفضيل الانسان على الملك إن شاء الله. كلام في الفضل بين الانسان والملك اختلف المسلمون في أن الانسان والملك أيهما أفضل فالمعروف المنسوب إلى الا شاعره أن الانسان أفضل والمراد به أفضلية المؤمنين منهم إذ لا يختلف اثنان في أن من الانسان من هو أضل من الانعام وهو أهل الجحود منهم فكيف يمكن أن

[ 161 ]

يفضل على الملائكه المقربين ؟ وقد استدل عليه بالاية الكريمة: " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " على أن يكون الكثير بمعنى الجميع كما أومانا إليه في تفسير الاية وبما ورد من طريق الرواية أن المؤمن أكرم على الله من الملائكة. وهو المعروف أيضا من مذهب الشيعة وربما استدلوا عليه بأن الملك مطبوع على الطاعة من غير أن يتاتى منه المعصية لكن الانسان من جهة اختياره تتساوى نسبته إلى الطاعة والمعصية وقد ركب من قوى رحمانية وشيطانية وتألف من عقل وشهوة وغضب فالانسان المؤمن المطيع يطيعه وهو غير ممنوع من المعصية بخلاف الملك فهو أفضل من الملك. ومع ذلك فالقول بأفضليه الانسان بالمعنى الذي تقدم ليس باتفاقي بينهم فمن الاشاعرة من قال بأفضلية الملك مطلقا كالزجاج ونسب إلى ابن عباس. ومنهم من قال بأفضليه الرسل من البشر، مطلقا ثم الرسل من الملائكة على من سواهم من البشر والملائكة ثم عامه الملائكة على عامة البشر. ومنهم من قال بأفضلية الكروبيين من الملائكة مطلقا ثم الرسل من البشر ثم الكمل منهم ثم عموم الملائكة من عموم البشر، كما يقول به الامام الرازي ونسب إلى الغزالي. وذهبت المعتزلة إلى أفضلية الملائكة من البشر واستدلوا على ذلك بظاهر قوله تعالى: " ولقد كرمنا بني آدم. إلى قوله - وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " وقد مر تقرير حجتهم في تفسير الاية. وقد بالغ الزمخشري في التشنيع على القائلين بأفضلية الانسان من الملك ممن فسر الكثير في الاية بالجميع فقال في الكشاف في ذيل قوله تعالى: " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا " هو ما سوى الملائكة وحسب بني آدم تفضيلا أن ترفع عليهم الملائكة وهم هم ومنزلتهم عند الله منزلتهم. والعجب من المجبرة كيف عكسوا في كل شئ وكابروا حتى جسرتهم عادة المكابرة

[ 162 ]

على العظيمة التي هي تفضيل الانسان الملك، وذلك بعد ما سمعوا تفخيم الله أمرهم وتكثيره مع التعظيم ذكرهم وعلموا أين أسكنهم ؟ وأني قربهم ؟ وكيف نزلهم من انبيائه منزلة انبيائه من اممهم ؟ ثم جرهم فرط التعصب عليهم إلى أن لفقوا أقوالا واخبارا منها: قالت الملائكة ربنا إنك أعطيت بنى آدم الدنيا يأكلون منها ويتمتعون ولم تعطنا ذلك فأعطناه في الاخرة فقال: وعزتي وجلالي لا اجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت: له كن فكان، ورووا عن ابي هريره انه قال المؤمن اكرم على الله من الملائكة الذين عنده ومن ارتكابهم انهم فسروا كثيرا بمعنى جميع في هذه الاية وخذلوا حتى سلبوا الذوق فلم يحسوا ببشاعة قولهم: وفضلناهم على جميع ممن خلقنا على ان معنى قولهم: على جميع ممن خلقنا اشجى لحلوقهم واقذى لعيونهم ولكنهم لا يشعرون فانظر في تمحلهم وتشبثهم بالتأويلات البعيدة في عداوة الملا الاعلى كأن جبريل عليه السلام غاظهم حين اهلك مدائن قوم لوط فتلك السخيمة لا تنحل عن قلوبهم انتهى. وما أشار إليه من رواية سؤال الملائكة أن يجعل لهم الاخرة كما جعل لبني آدم الدنيا رويت عن ابن عمر وأنس بن مالك وزيد بن أسلم وجابر بن عبد الله الانصاري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولفظ الاخير قال لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة: يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون الخيل فاجعل لهم الدنيا ولنا الاخرة فقال الله تعالى: لا أجعل من خلقته بيدي كمن قلت له: كن فكان. ومتن الرواية لا يخلو عن شئ فان الاكل والشرب والنكاح ونحوها في الانسان استكمالات مادية إنما يلتذ الانسان بها لما أنه يعالج البقاء لشخصه أو لنوعه بما جهز الله به بنيته المادية والملائكة واجدون في أصل وجودهم كمال ما يتوسل إلى بعضه الانسان بقواه المادية وأعماله المملة المتعبة منزهون عن مطاوعه النظام المادي الجاري في الكون فمن المحال أن يسألوا ذلك فليسوا بمحرومين حتى يحرصوا على ذلك فيرجوه أو يتمنوه. ونظير هذا وارد على ما تقدم من استدلالهم على أفضلية الانسان من الملك بأن وجود الانسان مركب من القوى الداعية إلى الطاعة والقوى الداعية إلى المعصية فإذا

[ 163 ]

اختار الطاعة على المعصية وانتزع إلى الاسلام والعبودية كانت طاعته أفضل من طاعة الملائكه المفطورين على الطاعة المجبولين على ترك المعصية فهو أكثر قربا وزلفى وأعظم ثوابا وأجرا. وهذا مبني على أصل عقلائي معتبر في المجتمع الانساني وهو أن الطاعة التي هي امتثال الخطاب المولوي من امر ونهى ولها الفضل والشرف على المعصية وبها يستحق الاجر والثواب لو استحق إنما يترتب عليها أثرها إذا كان الانسان المتوجة إليه الخطاب في موقف يجوز له فيه الفعل والترك متساوي النسبة إلى الجانبين، وكلما كان أقرب إلى المعصية منه إلى الطاعه قوي الاثر والعكس بالعكس فليس يستوى في امتثال النهى عن الزنا مثلا العنين والشيخ الهرم ومن يصعب عليه تحصيل مقدماته والشاب القوي البنية الذى ارتفع عنه غالب موانعه من لا مانع له عنه أصلا إلا تقوى الله فبعض هذه التروك لا يعد طاعة وبعضها طاعة وبعضها افضل الطاعة على هذا القياس. ولما كانت الملائكة لا سبيل لهم إلى المعصية لفقدهم غرائز الشهوة والغضب ونزاهتهم عن هوى النفس كان امتثالهم للخطابات المولوية الالهية أشبه بامتثال العنين والشيخ الهرم لنهي الزنا وكان الفضل للانسان في طاعتة عليهم. وفيه أنه لو تم ذلك لم يكن لطاعة الملائكة فضل أصلا إذ لا سبيل لهم إلى المعصية ولا لهم مقام استواء النسبة ولم يكن لهم شرف ذاتي وقيمة جوهريه إذ لا شرف على هذا إلا بالطاعة التي تقابلها معصية وتسميه المطاوعة الذاتية التى لا تتخلف عن الذات طاعة مجاز، ولو كان كذلك لم يكن لقربهم من ربهم موجب ولا لاعمالهم منزلة. لكن الله سبحانه أقامهم مقام القرب والزلفى وأسكنهم في حظائر القدس ومنازل الانس، وجعلهم خزان سره وحملة أمره ووسائط بينه وبين خلقه وهل هذا كله لارادة منه جزافية من غير صلاحية منهم واستحقاق من ذواتهم ؟ وقد أثنى الله عليهم أجزل الثناء إذ قال فيهم: " بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " الانبياء: 27 وقال: " لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " التحريم 6 فوصف ذواتهم بالاكرام من غير تقييده بقيد ومدح طاعتهم واستنكافهم عن المعصية.

[ 164 ]

وقال مادحا لعبادتهم وتذللهم لربهم وهم من خشيته مشفقون: الانبياء 28 وقال: " فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسامون: حم السجدة 38 وقال: " واذكر ربك في نفسك - إلى أن قال - ولا تكن من الغافلين إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون " الاعراف: 206 فأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان يذكره كذكرهم ويعبده كعبادتهم. وحق الامر أن كون العمل جائز الفعل والترك ووقوف الانسان في موقف استواء النسبة ليس في نفسه ملاك أفضليه طاعته بل بما يكشف ذلك عن صفاء طينته وحسن سريرته والدليل على ذلك أن لا قيمه للطاعه مع العلم بخباثة نفس المطيع وقبح سريرته وإن بلغ في تصفية العمل وبذل المجهود فيه ما بلغ كطاعة المنافق ومريض القلب الحابط عمله عند الله الممحوة حسنته عن ديوان الاعمال فصفاء نفس المطيع وجمال ذاته وخلوصه في عبوديته الذي يكشف عنه انتزاعه من المعصية إلى الطاعة وتحمله المشاق في ذلك هو الموجب لنفاسة عمله وفضل طاعته. وعلى هذا فذوات الملائكة ولا قوام لها إلا الطهارة والكرامة ولا يحكم في أعمالهم إلا ذل العبودية وخلوص النية أفضل من ذات الانسان المتكدرة بالهوى المشوبة بالغضب والشهوه وأعماله التي قلما تخلو عن خفايا الشرك وشامة النفس ودخل الطبع. فالقوام الملكي أفضل من القوام الانساني والاعمال الملكية الخالصة لوجه الله أفضل من أعمال الانسان وفيها لون قوامه وشوب من ذاته، والكمال الذي يتوخاه الانسان لذاته في طاعته وهو الثواب اوتيه الملك في أول وجوده كما تقدمت الاشاره إليه. نعم لما كان الانسان إنما ينال الكمال الذاتي تدريجا بما يحصل لذاته من الاستعداد سريعا أو بطيئا كان من المحتمل أن ينال عن استعداده مقاما من القرب وموطنا من الكمال فوق ما قد ناله الملك ببهاء ذاته في أول وجوده، وظاهر كلامه تعالى يحقق هذا الاحتمال. كيف وهو سبحانه يذكر في قصة جعل الانسان خليفة في الارض فضل الانسان واحتماله لما لا يحتمله الملائكة من العلم بالاسماء كلها، وأنه مقام من الكمال لا يتداركه

[ 165 ]

تسبيحهم بحمده وتقديسهم له، ويطهره مما سيظهر منه من الفساد في الارض وسفك الدماء كما قال: " وإذ قال ربك للملائكة إلي جاعل في الارض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون " إلى آخر الايات البقرة: 30 - 33 وقد فصلنا القول في ذلك في ذيل الايات في الجزء الاول من الكتاب. ثم ذكر سبحانه أمر الملائكة بالسجود لادم ثم سجدودهم له جميعا فقال: " فسجد الملائكة كلهم أجمعون " الحجر: 30 وقد أوضحنا في تفسير الايات في القصة في سورة الاعراف أن السجدة إنما كان خضوعا منهم لمقام الكمال الانساني ولم يكن آدم عليه السلام إلا قبلة لهم ممثلا للانسانية قبال الملائكة. فهذا ما يفيده ظاهر كلامه تعالى، وفي الاخبار ما يؤيده، وللبحث جهة عقلية يرجع فيها إلى مظانه. قوله تعالى: " يوم ندعو كل اناس بإمامهم " اليوم يوم القيامة والظرف متعلق بقدر أي اذكر يوم كذا، والامام المقتدى وقد سمى الله سبحانه بهذا الاسم أفرادا من البشر يهدون الناس بأمر الله كما في قوله: " قال إني جاعلك للناس إماما " البقرة: 124 وقوله: " وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا " الانبياء: 73 وأفرادا آخرين يقتدي بهم في الضلال كما في قوله: " فقالوا أئمة الكفر " التوبة: 12. وسمى به أيضا التوراة كما في قوله: " ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة " هود: 17، وربما استفيد منه أن الكتب السماوية المشتملة على الشريعه ككتاب نوح وابراهيم وعيسى ومحمد عليه السلام جميعا أئمه. وسمى به أيضا اللوح المحفوظ كما هو ظاهر قوله تعالى: " وكل شئ أحصيناه في إمام مبين " يس: 12. ولما كان ظاهر الاية أن لكل طائفة من الناس إماما غير ما لغيرها فإنه المستفاد من إضافة الامام إلى الضمير الراجع إلى كل اناس لم يصلح أن يكون المراد بالامام في الاية اللوح لكونه واحدا لا اختصاص له باناس دون أناس. وأيضا ظاهر الاية أن هذه الدعوة تعم الناس جميعا من الاولين والاخرين وقد

[ 166 ]

تقدم في تفسير قوله تعالى: " كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب " البقرة: 213 أن أول الكتب السماوية المشتملة على الشريعة هو كتاب نوح عليه السلام ولا كتاب قبله في هذا الشأن، وبذلك يظهر عدم صلاحية كون الامام في الاية مرادا به الكتاب وإلا خرج من قبل نوح من شمول الدعوة في الاية. فالمتعين أن يكون المراد بإمام كل اناس من يأتمون به في سبيلى الحق والباطل كما تقدم أن القرآن يسميهما إمامين أو إمام الحق خاصة وهو الذي يجتبيه الله سبحانه في كل زمان لهداية أهله بأمره نبيا كان كابراهيم ومحمد عليهما السلام أو غير نبى، وقد تقدم تفصيل الكلام فيه في تفسير قوله: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " البقرة: 124. لكن المستفاد من مثل قوله في فرعون وهو من أئمة الضلال: " يقدم قومه يوم القيامة فاوردهم النار " هود: 98، وقوله: " ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم ": الانفال: 37 وغيرهما من الايات وهي، كثيرة أن أهل الضلال لا يفارقون أولياءهم المتبوعين يوم القيامة، ولازم ذلك أن يصاحبوهم في الدعوة والاحضار. على أن قوله: " بإمامهم مطلق لم يقيد بالامام الحق الذي جعله الله إماما هاديا بأمره، وقد سمى مقتدى الضلال إماما كما سمى مقتدى الهدى إماما وسياق ذيل الاية والاية الثانية أيضا مشعر بأن الامام المدعو به هو الذي اتخذه الناس إماما واقتدوا به في الدنيا لا من اجتباه الله للامامة ونصبه للهداية بأمره سواء اتبعه الناس أو رفضوه. فالظاهر أن المراد بإمام كل أناس في الاية من ائتموا به سواء كان إمام حق أو إمام باطل، وليس كما يظن أنهم ينادون بأسماء أئمتهم فيقال يا أمة إبراهيم ويا أمة محمد ويا آل فرعون ويا آل فلان فإنه لا يلائمه ما في الاية من التفريع أعنة قوله: " فمن أوتي كتابه بيمينه " " ومن كان في هذه أعمى " الخ إذ لا تفرع بين الدعوة بالامام بهذا المعنى وبين إعطاء الكتاب باليمين أو العمى. بل المراد بالدعوة - على ما يعطيه سياق الذيل - هو الاحضار فهم محضرون

[ 167 ]

بإمامهم ثم يأخذ من اقتدى بامام حق كتابه بيمينه ويظهر عمى من عمي عن معرفة الامام الحق في الدنيا واتباعه، هذا ما يعطيه التدبر في الاية. وللمفسرين في تفسير الامام في الاية مذاهب شتى مختلفة: منها: أن المراد بالامام الكتاب الذي يؤتم به كالتوراة والانجيل والقرآن فينادي يوم القيامة يا أهل التوراة ويا أهل الانجيل ويا أهل القرآن، وقد تقدم بيانه وبيان ما يرد عليه. ومنها: أن المراد بالامام النبي لمن كان على الحق والشيطان وإمام الضلال لمبتغي الباطل فيقال: هاتوا متبعي ابراهيم هاتوا متبعي موسى هاتوا متبعي محمد فيقوم أهل الحق الذين اتبعوهم فيعطون كتب أعمالهم بأيمانهم ثم يقال: هاتوا متبعي الشيطان هاتوا متبعي رؤساء الضلال. وفيه أنه مبني على أخذ الامام في الاية بمعناه العرفي وهو من يؤتم به من العقلاء، ولا سبيل إليه مع وجود معنى خاص له في عرف القرآن وهو الذي يهدي بأمر الله والمؤتم به في الضلال. ومنها: أن المراد كتاب أعمالهم فيقال: يا أصحاب كتاب الخير ويا أصحاب كتاب الشر ووجه كونه إماما بأنهم متبعون لما يحكم به من جنة أو نار. وفيه أنه لا معنى لتسمية كتاب الاعمال إماما وهو يتبع عمل الانسان من خير أو شر فان يسمى تابعا أولى به من أن يسمى متبوعا، وأما ما وجه به أخيرا ففيه أن المتبع من الحكم ما يقضي به الله سبحانه بعد نشر الصحف والسؤال والوزن والشهادة وأما الكتاب فإنما يشتمل على متون أعمال الخير والشر من غير فصل القضاء. ومنه يظهر أن ليس المراد بالامام اللوح المحفوظ ولا صحيفة عمل الامة وهي التي يشير إليها قوله: " كل امة تدعى إلى كتابها " الجاثية: 28 لعدم ملائمته قوله ذيلا: " فمن اوتي كتابه بيمينه " الظاهر في الفرد دون الجماعة. ومنها: أن المراد به الامهات - بجعل إمام جمعا لام - فيقال: يا ابن فلان ولا يقال يا ابن فلان، وقد رووا فيه رواية.

[ 168 ]

وفيه أنه لا يلائم لفظ الاية فقد قيل: " ندعوا كل اناس بامامهم ولم يقل ندعو الناس بامامهم أو ندعو كل انسان بامه ولو كان كما قيل لتعين أحد التعبيرين الاخيرين وما اشير إليه من الرواية على تقدير صحتها وقبولها رواية مستقله غير واردة في تفسير الاية. على أن جمع الام بالامام لغه نادرة لا يحمل على مثلها كلامه تعالى وقد عد في الكشاف هذا القول من بدع التفاسير. ومنها: أن المراد به المقتدى به والمتبع عاقلا كان أو غيره حقا كان أو باطلا كالنبي والولي والشيطان ورؤساء الضلال والاديان الحقة والباطلة والكتب السماوية وكتب الضلال والسنن الحسنة والسيئة، ولعل دعوة كل اناس بامامهم على هذا الوجه كناية عن ملازمة كل تابع يوم القيامة، لمتبوعه، والباء للمصاحبة. وفيه ما أوردناه على القول بأن المراد به الانبياء ورؤساء الضلال فالحمل على المعنى اللغوي إنما يحسن فيما لم يكن للقرآن فيه عرف، وقد عرفت أن الامام في عرف القرآن هو الذي يهدي بأمر الله أو المقتدي في الضلال ومن الممكن أن يكون الباء في " بامامهم " للالة فافهم ذلك. على أن هداية الكتاب والسنة والدين وغير ذلك بالحقيقة ترجع إلى هداية الامام وكذا النبي إنما يهدي بما أنه إمام يهدي بأمر الله، وأما من حيث إنبائه عن معارف الغيب أو تبليغه ما ارسل به فإنما هو نبي أو رسول وليس بامام، وكذا إضلال المذاهب الباطلة وكتب الضلال والسنن المبتدعة بالحقيقة إضلال مؤسسيها والمبتدعين بها. قوله تعالى: " فمن اوتي كتابه بيمينه فاولئك يقرؤن كتابهم ولا يظلمون فتيلا " الفتيل هو المفتول الذي في شق النواة، وقيل: الفتيل هو الذي في بطن النواة والنقير في ظهرها والقطمير شق النواة. وتفريع التفصيل على دعوتهم بامامهم دليل على أن ائتمامهم هو الموجب لانقسامهم إلى قسمين وتفرقهم فريقين: من اوتى كتابه بيمينه ومن كان أعمى وأضل سبيلا فالامام إمامان: امام هدى وإمام، ضلال وهذا هو الذي قدمناه أن تفريع التفصيل يشهد بكون المراد بالامام أعم من إمام الهدى.

[ 169 ]

ويشهد به أيضا تبديل إيتاء الكتاب بالشمال أو من وراء الظهر كما وقع في غير هذا الموضع من قوله " ومن كان في هذه أعمى فهو في الاخرة أعمى " الخ. والمعنى - باعانه من السياق - فيتفرقون حينئذ فريقين فالذين أعطوا صحيفة أعمالهم بأيمانهم فاولئك يقرؤن كتابهم فرحين مستبشرين مسرورين بالسعادة ولا يظلمون مقدار فتيل بل يوفون اجورهم تامة كاملة. قوله تعالى: " ومن كان في هذه أعمى فهو في الاخرة أعمى وأضل سبيلا " المقابلة بين قوليه: " في هذه " و " في الاخرة " دليل على أن الاشارة بهذه إلى الدنيا كما أن كون الاية مسوقة لبيان التطابق بين الحياة الدنيا والاخرة دليل على أن المراد بعمى الاخرة عمى البصيرة كما أن المراد بعمى الدنيا ذلك قال تعالى: " إنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " ويؤيد ذلك أيضا تعقيب عمى الاخرة بقوله " وأضل سبيلا ". و المعني: ومن كان في هذه الحياه الدنيا لا يعرف الامام الحق ولا يسلك سبيل الحق فهو في الحياة الاخرة لا يجد السعادة والفلاح ولا يهتدي إلى المغفره والرحمة. وبما تقدم يتبين ما في قول بعضهم: إن الاشاره بقوله: " في هذه إلى النعم المذكورة والمعنى ومن كان في هذه النعم التي رزقها أعمى لا يعرفها ولا يشكر الله على ما أنعمها فهو في الاخرة أعمى. وكذا ما ذكره بعضهم أن المراد بعمي الدنيا عمى البصيرة وبعمي الاخرة عمى البصر، وقد تقدم وجه الفساد على أن عمى البصر في الاخرة ربما رجع إلى عمى البصيرة لقوله تعالى: " يوم تبلى ". السرائر وظاهر بعض المفسرين أن الاعمى الثاني في الاية تفيد معنى التفضيل حيث فسره أنه في الاخرة أشد عمى وأضل سبيلا والسياق يساعده على ذلك. بحث روائي في أمالى الشيخ بإسناده عن زيد بن على عن أبيه عليه السلام في قوله: " ولقد كرمنا

[ 170 ]

بنى آدم " يقول: فضلنا بني آدم على سائر الخلق " وحملناهم في البر والبحر " يقول: على الرطب واليابس " ورزقناهم من الطيبات " يقول: من طيبات الثمار كلها " وفضلناهم " يقول: ليس من دابة ولا طائر إلا هي تأكل وتشرب بفيها لا ترفع يدها إلى فيها طعاما ولا شرابا غير ابن آدم فإنه يرفع إلى فيه بيده طعامه فهذا من التفضيل. وفي تفسير العياشي عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " قال: خلق كل شئ منكبا غير الانسان خلق منتصبا. أقول: وما في الروايتين من قبيل ذكر بعض المصاديق والدليل عليه قوله في آخر الرواية الاولى: فهذا من التفضيل. وفيه عن الفضيل قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله: " يوم ندعوا كل اناس بإمامهم قال: يجئ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قومه وعلي عليه السلام في قومه والحسن في قومه والحسين في قومه وكل من مات بين ظهرانى إمام جاء معه. وفى تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب عن الصادق عليه السلام ألا تحمدون الله ؟ إنه إذا كان يوم القيامة يدعى كل قوم إلى من يتولونه، وفزعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفزعتم أنتم الينا. أقول: ورواه في المجمع عنه عليه السلام وفيه دلالة على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إمام الائمة كما أنه شهيد الشهداء وأن حكم الدعوة بالامام جار بين الائمة أنفسهم. وفي مجمع البيان روى الخاص والعام عن علي بن موسى الرضا عليه السلام بالاسانيد الصحيحة أنه روى عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال فيه: يدعى كل اناس بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم. اقول: ورواه في تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب عنه عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلفظه وقد أسنده أيضا إلى رواية الخاص والعام. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " يوم ندعوا كل اناس بإمامهم " قال: يدعى كل قوم بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم. وفي تفسير العياشي عن عمار الساباطي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا يترك الارض

[ 171 ]

بغير امام يحل حلال الله ويحرم حرامه، وهو قول الله: " يوم ندعوا كل اناس بامامهم " ثم قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية. الحديث. اقول: ووجه الاحتجاج بالاية عموم الدعوة فيها لجميع الناس. وفيه عن اسماعيل بن همام عن أبى عبد الله عليه السلام: في قول الله: " يوم ندعوا كل اناس بإمامهم " قال: إذا كان يوم القيامة قال الله: أليس العدل من ربكم أن يولوا كل قوم من تولوا - قالوا بلى قال فيقول تميزوا فيتميزون. اقول وفيه تأييد لما قدمنا أن المراد بالدعوه بالامام احضارهم معه دون النداء بالاسم والروايات في المعاني السابقة كثيرة. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " ولا يظلمون فتيلا " قال: قال الجلدة التي في ظهر النواة. وفي تفسير العياشي عن المثنى عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سأله أبو بصير وأنا أسمع فقال له: رجل له مائة الف فقال: العام أحج العام أحج حتى يجيئه الموت فحجبه البلاء ولم يحج حج الاسلام فقال يا با بصير أو ما سمعت قول الله: " من كان في هذه أعمى فهو في الاخرة أعمى وأضل سبيلا " عمي عن فريضة من فرائض الله. * * * وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لا تخذوك خليلا (73). ولو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا (74). إذا لاذقناك ضعف الحيوة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا (75). وإن كادوا ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا (76). سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا (77). أقم الصلوة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان

[ 172 ]

مشهودا (78). ومن الليل فتهجد به نافله لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا (79). وقل رب ادخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا (80). وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا (81): بيان تذكر الايات بعض مكر المشركين بالقرآن وبالنبى صلى الله عليه وآله وسلم - بعد ما ذمتهم على تماديهم في إنكار التوحيد والمعاد واحتجت عليهم في ذلك - حيث أرادوا أن يفتنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بعض ما أوحي إليه ليداهنهم فيه بعض المداهنة وأرادوا أن يخرجوه من مكة. وقد أوعد الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشد الوعيد إن مال إلى الركون إليهم بعض الميل، وأوعدهم إن أخرجوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالهلاك. وفي الايات إيصاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصلوات والالتجاء بربه في مدخله ومخرجه وإعلام ظهور الحق. قوله تعالى: " وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا " إن مخففة بدليل اللام في " ليفتنونك " والفتنة الازلال والصرف، والخليل من الخلة بمعنى الصداقة وربما قيل: هو من الخلة بمعنى الحاجة وهو بعيد. وظاهر السياق أن المراد بالذى أوحينا إليك القرآن بما يشتمل عليه من التوحيد ونفى الشريك والسيرة الصالحة وهذا يؤيد ما ورد في بعض أسباب النزول أن المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكف عن ذكر آلهتهم بسوء ويبعد عن نفسه عبيدهم المؤمنين به والسقاط حتى يجالسوه ويسمعوا منه فنزلت الايات.

[ 173 ]

والمعنى: وإن المشركين اقتربوا أن يزلوك ويصرفوك عما أوحينا إليك لتتخذ من السيرة والعمل ما يخالفه فيكون في ذلك افتراء علينا لانتسابه بعملك إلينا وإذا لاتخذوك صديقا. قوله تعالى: " ولو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا " التثبيت - كما يفيده السياق هو العصمة الالهية وجعل جواب لو لا قوله: " لقد كدت تركن " دون نفس الركون والركون هو الميل أو أدنى الميل كما قيل دليل على أنه صلى الله عليه وآله لم يركن ولم يكد، ويؤكده إضافه الركون إليهم دون إجابتهم إلى ما سألوه. والمعنى: " ولو لا أن ثبتناك بعصمتنا دنوت من أن تميل إليهم قليلا لكنا ثبتناك فلم تدن من أدنى الميل إليهم فضلا من أن تجيبهم إلى ما سألوا فهو صلى الله عليه وآله وسلم لم يجبهم إلى ما سألوا ولا مال إليهم شيئا قليلا ولا كاد أن يميل. قوله تعالى: " إذا لاذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا " سياق الاية سياق توعد فالمراد بضعف الحياة والممات المضاعف من عذاب الحياة والممات، والمعنى لو قارنت أن تميل إليهم بعض الميل لاذقناك الضعف من العذاب الذي نعذب به المجرمين في حياتهم والضعف مما نعذبهم به في مماتهم أي ضعف عذاب الدنيا والاخرة. ونقل في المجمع عن أبان بن تغلب أن المراد بالضعف العذاب المضاعف ألمه والمعنى لاذقناك عذاب الدنيا وعذاب الاخرة وأنشد قول الشاعر: لمقتل مالك إذ بان منى * * أبيت الليل في ضعف أليم أي في عذاب اليم. وما في ذيل الاية من قوله: " ثم لا تجد لك علينا نصيرا " تشديد في الايعاد أي إن العذاب واقع حينئذ لا مخلص منه. قوله تعالى وأن كادوا ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا " الاستفزاز الازعاج والتحريك بخفة وسهولة، واللام في

[ 174 ]

الارض للعهد والمراد بها مكة، والخلاف بمعنى بعد والمراد بالقليل اليسير من الزمان. والمعنى وإن المشركين قاربوا أن يزعجوك من إرض مكة لاخراجك منها ولو كان منهم وخرجت منها لم يمكثوا بعدك فيها إلا قليلا فهم هالكون لا محالة. وقيل: هؤلاء الذين كادوا يستفزونه هم اليهود أرادوا أن يخرجوه من المدينة وقيل: المراد المشركون واليهود أرادوا جميعا أن يخرجوه من أرض العرب. ويبعد ذلك أن السورة مكية والايات ذات سياق واحد وابتلاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم باليهود إنما كان بالمدينة بعد الهجرة. قوله تعالى: " سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا " التحويل نقل الشئ من حال إلى حال وقوله: " سنه " أي كسنة من قد أرسلنا وهو متعلق بقوله: " لا يلبثون " أي لا يلبثون بعدك إلا قليلا كسنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا. و هذه السنة وهي إهلاك المشركين الذين أخرجوا رسولهم من بلادهم وطردوه من بينهم سنة لله سبحانه، وإنما نسبها إلى رسله لانها مسنونة لاجلهم بدليل قوله بعد: " ولن تجد لسنتنا تحويلا " وقد قال تعالى: " وقال الذين كفروا لرسلهم ليخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين: إبراهيم: 13. والمعنى وإذا نهلكهم لسنتنا التي سنناها لاجل من قد أرسلنا قبلك من رسلنا وأجريناها ولست تجد لسنتنا تحويلا وتبديلا. قوله تعالى: " أقم الصلاه لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا: " قال في مجمع البيان: الدلوك الزوال، وقال المبرد: دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها وقيل: هو الغروب واصله من الدلك فسمي الزوال دلوكا لان الناظر إليها يدلك عينيه لشده شعاعها وسمي الغروب دلوكا لان الناظر يدلك عينيه ليثبتها انتهى. وقال فيه غسق الليل ظهور ظلامه يقال غسقت القرحة إذا انفجرت فظهر

[ 175 ]

ما فيها انتهى، وفي المفردات غسق الليل شده ظلمته. انتهى. وقد اختلف المفسرون في تفسير صدر الاية والمروى عن أئمه أهل البيت عليهم السلام من طرق الشيعة تفسير دلوك الشمس بزوالها وغسق الليل بمنتصفه وسيجئ الاشاره إلى الروايات في البحث الروائي الاتى ان شاء الله. وعليه فالاية تشمل من الوقت ما بين زوال الشمس ومنتصف الليل، والواقع في هذا المقدار من الوقت من الفرائض اليومية أربع صلاه الظهر والعصر والمغرب والعشاء الاخرة. وبانضمام صلاه الصبح المدلول عليها بقوله: " وقرآن الفجر " الخ إليها تتم الصلوات الخمس اليومية. وقوله: " وقرآن الفجر معطوف " على الصلاه أي وأقم قرآن الفجر والمراد به صلاة الصبح لما تشتمل عليه من القرائة وقد اتفقت الروايات على ان صلاه الصبح هي المراد بقرآن الفجر. وكذا اتفقت الروايات من طرق الفريقين على تفسير قوله ذيلا " إن قرآن الفجر كان مشهودا " بأنه يشهده ملائكة الليل وملائكه النهار وسنشير إلى بعض هذه الروايات عن قريب ان شاء الله. قوله تعالى: " ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا التهجد من الهجود وهو النوم في الاصل ومعنى التهجد التيقظ والسهر بعد النوم على ما ذكره غير واحد منهم، والضمير في " به " للقرآن أو للبعض المفهوم من قوله ومن الليل " والنافلة من النفل وهو الزيادة، وربما قيل: " إن قوله: " ومن الليل " من قبيل الاغراء نظير قولنا: عليك بالليل، والفاء في قوله: " فتهجد به " نظير قوله: " فإياي فارهبون: النحل: 51. والمعنى: واسهر بعض الليل بعد نومتك بالقرآن - وهو الصلاة حال كونها صلاة زائده لك على الفريضة. وقوله: " عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " من الممكن أن يكون المقام مصدرا ميميا وهو البعث فيكون مفعولا مطلقا ليبعثك من غير لفظه، والمعنى عسى أن يبعثك ربك بعثا محمودا، ومن الممكن أن يكون اسم مكان والبعث بمعنى الاقامة أو مضمنا معنى الاعطاء ونحوه، والمعنى عسى أن يقيمك ربك في مقام محمود أو يبعثك معطيا لك مقاما محمودا أو يعطيك باعثا مقاما محمودا.

[ 176 ]

وقد وصف سبحانه مقامه بأنه محمود وأطلق القول من غير تقييد وهو يفيد أنه مقام يحمده الكل ولا يثني عليه الكل إلا إذا استحسنه الكل وانتفع به الجميع ولذا فسروا المقام المحمود بأنه المقام الذى يحمده عليه جميع الخلائق وهو مقام الشفاعة الكبرى له صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة وقد اتفقت على هذا التفسير الروايات من طرق الفريقين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام. قوله تعالى: " وقل رب ادخلني مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا " المدخل بضم الميم وفتح الخاء مصدر ميمي بمعنى الادخال ونظيره المخرج بمعنى الاخراج والعناية في إضافة الادخال والاخراج إلى الصدق أن يكون الدخول والخروج في كل أمر منعوتا بالصدق جاريا على الحقيقة من غير أن يخالف ظاهره باطنه أاو يضاد بعض أجزائه بعضا كأن يدعو الانسان بلسانه إلى الله وهو يريد بقلبه أن يسود الناس أو يخلص في بعض دعوته لله ويشرك في بعضها غيره. وبالجملة هو أن يرى الصدق في كل مدخل منه ومخرج ويستوعب وجوده فيقول ما يفعل ويفعل ما يقول ولا يقول ولا يفعل إلا ما يراه ويعتقد به، وهذا مقام الصديقين. ويرجع المعنى إلى نحو قولنا: اللهم تول أمري كما تتولى أمر الصديقين. وقوله: " وجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا " اي سلطنة بنصرتي على ما أهم به من الامور وأشتغل به من الاعمال فلا أغلب في دعوتي بحجة باطلة، ولا أفتتن بفتنة أو مكر يمكرنى به أعداؤك ولا أضل بنزغ شيطان ووسوسته. والاية - كما ترى - مطلقه تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسأل ربه أن يتولى أمره في كل مدخل ومخرج بالصدق ويجعل له سلطانا من عنده ينصره فلا يزيغ في حق ولا يظهر بباطل فلا وجه لما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالدخول والخروج دخول المدينة بالهجرة والخروج منها إلى مكة للفتح أو أن المراد بهما دخول القبر بالموت والخروج منه بالبعث. نعم لما كانت الاية بعد قوله: " وان كادوا ليفتنونك " " وان كادوا ليستفزونك " وفي سياقهما، لوحت إلى أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن لتجئ إلى ربه في كل أمريهم به أو يشتغل

[ 177 ]

به من امور الدعوة وفى الدخول والخروج في كل مكان يسكنه أو يدخله أو يخرج منه وهو ظاهر. قوله تعالى: " وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا " قال في المجمع " الزهوق هو الهلاك والبطلان يقال: زهقت نفسه إذا خرجت فكأنها قد خرجت إلى الهلاك. انتهى والمعنى ظاهر. وفي الاية أمره صلى الله عليه وآله وسلم بإعلام ظهور الحق وهو لوقوع الايه في سياق ما مر من قوله: " وان كادوا ليفتنونك " إلى آخر الايات امر بإيآس المشركين من نفسه وتنبيههم أن يوقنوا أن لا مطمع لهم صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الاية دلالة على أن الباطل لا دوام له كما قال تعالى في موضع آخر: " ومثل كلمه خبيثة كشجرة خبيثه اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار " إبراهيم: 26. " بحث روائي " في المجمع في سبب نزول قوله تعالى: " وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك " الايات أنهم قالوا له: كف عن شتم آلهتنا وتسفيه أحلامنا واطرد هؤلاء العبيد والسقاط الذين رائحتهم رائحة الصنان - حتى نجالسك ونسمع منك فطمع في إسلامهم فنزلت الاية. اقول: وروى في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن سعيد بن نفير ما يقرب منه. وأما ما روي عن ابن عباس أن أمية بن خلف وأبا جهل بن هشام ورجالا من قريش أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: تعال فاستلم آلهتنا وندخل معك في دينك وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه فراق قومه ويحب إسلامهم فرق لهم فأنزل الله: " وإن كادوا ليفتنونك - إلى قوله - نصيرا " فلا يلائم ظاهر الايات حيث تنفي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقارب الركون فضلا عن الركون.

[ 178 ]

وكذا ما رواه الطبري وابن مردويه عن أبن عباس أن ثقيفا قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: أجلنا سنة حتى يهدى لالهتنا فإذا قبضنا الذي يهدي للالهة أحرزناه ثم أسلمنا وكسرنا الالهة فهم أن يؤجلهم فنزلت: " وإن كادوا ليفتنونك الاية. وكذا ما في تفسير العياشي عن أبي يعقوب عن أبي عبد الله عليه السلام في الاية قال: لما كان يوم الفتح أخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصناما من المسجد وكان منها صنم على المروة فطلبت إليه قريش أن يتركه وكان مستحيا ثم أمر بكسره فنزلت هذه الاية. ونظيرهما أخبار أخر تقرب منها معنى فهذه روايات لا تلائم ظاهر الكتاب وحاشا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يهم بمثل هذه البدع والله سبحانه ينفى عنه المقارنة من الركون والميل اليسير فضلا أن يهم بالعمل. على أن هذه القضايا من الحوادث الواقعة بعد الهجرة والسورة مكيه. وفي العيون باسناده عن علي بن محمد بن الجهم عن أبي الحسن الرضا عليه السلام مما سأله المأمون فقال له: أخبرني عن قول الله: " عفى الله عنك لم أذنت لهم " قال الرضا عليه السلام هذا مما نزل باياك أعنى واسمعي يا جارة خاطب الله بذلك نبيه وأراد به امته، وكذلك قوله: " لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين " وقوله تعالى: " ولو لا ان ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا " قال: صدقت يابن رسول الله. وفي المجمع عن ابن عباس في قوله تعالى: " إذا لاذقناك " الاية " قال: إنه لما نزلت هذه الايه قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا. وفي تفسير العياشي عن سعيد بن المسيب عن علي بن الحسين عليه السلام قال: قلت له: متى فرضت الصلاة على المسلمين على ما هم اليوم عليه ؟ قال: بالمدينة حين ظهرت الدعوة وقوي الاسلام - فكتب الله على المسلمين الجهاد، وزاد في الصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبع ركعات في الظهر ركعتين - وفى العصر ركعتين، وفي المغرب ركعة وفي العشاء ركعتين، وأقر الفجر على ما فرضت عليه بمكة لتعجيل نزول ملائكة النهار إلى الارض وتعجيل عروج ملائكة الليل إلى السماء فكان ملائكة الليل وملائكة النهار يشهدون مع رسول الله الفجر فلذلك قال الله: " وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا " يشهد المسلمون ويشهد ملائكة الليل والنهار.

[ 179 ]

وفي المجمع في قوله تعالى: " أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر " قال: ففى الاية بيان وجوب الصلوات الخمس وبيان أوقاتها ويؤيد ذلك ما رواه العياشي بالاسناد عن عبيده بن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام في هذه الاية. قال: إن الله افترض أربع صلوات أول وقتها من زوال الشمس إلى انتصاف الليل منها صلاتان أول وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروبها إلا أن هذه قبل هذه، ومنها صلاتان أول وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلا أن هذه قبل هذه. وفي الدر المنثور أخرج بن جرير عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت - فصلى بي الظهر. وفيه أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الاصول وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قرء رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن قرآن الفجر كان مشهودا " قال " يشهده الله وملائكة الليل وملائكة النهار. اقول تفسير كون قرآن الفجر مشهودا في روايات الفريقين بشهادة ملائكة الليل وملائكه النهار يكاد يبلغ حد التواتر، وقد اضيف إلى ذلك في بعضها شهاده الله كما في هذه الرواية وفي بعضها شهاده المسلمين كما فيما تقدم. وفي تفسير العياشي عن عبيد بن زرارة قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن المؤمن هل له شفاعة ؟ قال نعم: فقال له رجل من القوم: هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال نعم للمؤمنين خطايا وذنوب وما من أحد إلا ويحتاج إلى شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ. قال: وسأله رجل عن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا سيد ولد آدم ولا فخر قال: نعم يأخذ حلقة من باب الجنة فيفتحها فيخر ساجدا فيقول الله: ارفع رأسك اشفع تشفع اطلب تعط فيرفع رأسه - ثم يخر ساجدا فيقول الله: ارفع رأسك اشفع تشفع واطلب تعط ثم يرفع رأسه فيشفع يشفع (فيشفع) ظ ويطلب فيعطى. وفيه عن سماعة بن مهران عن أبي إبراهيم عليه السلام في قول الله " عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " قال: يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين يوما وتؤمر الشمس

[ 180 ]

فنزلت على رؤس العباد ويلجم العرق وتؤمر الارض لا تقبل من عرقهم شيئا فيأتون آدم فيشفعون له فيدلهم على نوح، ويدلهم نوح على إبراهيم، ويدلهم ابراهيم على موسى ويدلهم موسى على عيسى، ويدلهم عيسى على محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: عليكم بمحمد خاتم النبيين، فيقول محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أنا لها. فينطلق حتى يأتي باب الجنة فيدق فيقال له: من هذا ؟ والله أعلم فيقول محمد: افتحوا فإذا فتح الباب استقبل ربه فخر ساجدا فلا يرفع رأسه حتى يقال له تكلم وسل تعط واشفع تشفع فيرفع رأسه فيستقبل ربه فيخر ساجدا فيقال له مثلها فيرفع رأسه حتى أنه ليشفع من قد أحرق بالنار فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الامم أوجه من محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو قول الله تعالى: " عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ". اقول: وقوله: " حتى أنه ليشفع من قد احرق بالنار " أي بعض من أدخل النار وفي معنى هذه الرواية عدة روايات من طرق أهل السنة عن النبي صلى الله عليه واله وسلم. وفي الدر المنثور أخرج البخاري وابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الاذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم عليه السلام فيقول: لست بصاحب ذلك ثم موسى عليه السلام فيقول مثل ذلك ثم محمد صلى الله عليه وسلم فيشفع فيقضى الله بين الخلائق فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنه فيومئذ يبعثه الله مقاما. وفيه اخرج ابن جرير والبيهقي في شعب الايمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: المقام المحمود الشفاعة. وفيه أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي الوقاص قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المقام المحمود فقال: هو الشفاعة. اقول: والروايات في المضامين السابقة كثيره. وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا (82). وإذا أنعمنا على الانسان اعرض ونآ

[ 181 ]

بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤسا - (83). قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا (84). ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (85). ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا (86). إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا (87). قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88). ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا (89). وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا (90). أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الانهار خلالها تفجيرا (91). أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا (92). أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا (93). وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جائهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا (94). قل لو كان في الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا (95). قل كفى بالله شهيدا بينى وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا (96). ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم

[ 182 ]

جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا (97). ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا (98). أ ولم يروا أن الله الذى خلق السموات والارض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا (99). قل لو أنتم تملكون خزائن رحة ربي إذا لامسكتم خشية الانفاق وكان الانسان قتورا (100). بيان رجوع بعد رجوع إلى حديث القرآن وكونه آيه للنبوة وما يصحبه من الرحمة والبركة وقد افتتح الكلام فيه بقوله فيما تقدم: " إن هذا القرآن يهدي للتى هي أقوم " ثم رجع إليه بقوله: " ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا " الخ وقوله " وإذا قرأت القرآن " الخ وقوله: " وما منعنا أن نرسل بالايات " الخ. فبين في هذه الايات أن القرآن شفاء ورحمة وبعبارة اخرى مصلح لمن صلحت نفسه ومخسر للظالمين وأنه آية معجزه للنبوة ثم ذكر ما كانوا يقترحونه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الايات والجواب عنه وما يلحق بذلك من الكلام. وفي الايات ذكر سؤالهم عن الروح والجواب عنه. قوله تعالى: " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين الا خسارا: من بيانية تبين الموصول أعني قوله: " ما هو شفاء " الخ أي وننزل ما هو شفاء ورحمة وهو القرآن. وعد القرآن شفاء والشفاء انما يكون عن مرض دليل على أن للقلوب أحوالا نسبة القرآن إليها نسبة الدواء الشافي إلى المرض، وهو المستفاد من كلامه سبحانه حيث ذكر

[ 183 ]

أن الدين الحق فطرى للانسان فكما أن للبنية الانسانية التي سويت على الخلقة الاصلية قبل أن يلحق بها أحوال منافية وآثار مغايرة للتسوية الاولية استقامة طبيعية تجري عليها في أطوار الحياة كذلك لها بحسب الخلقة الاصلية عقائد حقة في المبدء والمعاد وما يتفرع عليهما من اصول المعارف، وأخلاق فاضلة زاكية تلائمها ويترتب عليها من الاحوال والاعمال ما يناسبها. فللانسان صحة واستقامة روحية معنوية كما أن له صحة واستقامه جسمية صورية، وله أمراض وأدواء روحية باختلال أمر الصحة الروحية كما أن له أمراضا وأدواء جسميه باختلال أمر الصحة الجسمية ولكل داء دواء ولكل مرض شفاء. وقد ذكر الله سبحانه في اناس من المؤمنين أن في قلوبهم مرضا وهو غير الكفر والنفاق الصريحين كما يدل عليه قوله: لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم " الاحزاب: 60 وقوله: " وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ما ذا أراد الله بهذا مثلا " المدثر " 31. وليس هذا المسمى مرضا إلا ما يختل به ثبات القلب واستقامة النفس من أنواع الشك والريب الموجبة لاضطراب الباطن وتزلزل السر والميل إلى الباطل واتباع الهوى مما يجامع ايمان عامه المؤمنين من أهل أدنى مراتب الايمان ومما هو معدود نقصا وشركا بالاضافة إلى مراتب الايمان العالية، وقد قال تعالى: " وما يؤمن أكثرهم بالله الا وهم مشركون " يوسف 106 وقال: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما النساء: 65. والقرآن الكريم يزيل بحججه القاطعة وبراهينه الساطعة أنواع الشكوك والشبهات المعترضة في طريق العقائد الحقة والمعارف الحقيقية ويدفع بمواعظه الشافيه وما فيه من القصص والعبر والامثال والوعد والوعيد والانذار والتبشير والاحكام والشرائع عاهات الافئدة وأفاتها فالقرآن شفاء للمؤمنين. وأما كونه رحمة للمؤمنين - والرحمه افاضه ما يتم به النقص ويرتفع به الحاجة - فلان القرآن ينور القلوب بنور العلم واليقين بعد ما يزيل عنها ظلمات الجهل والعمى والشك والريب، ويحليها بالملكات الفاضلة والحالات الشريفة الزاكية بعد ما يغسل عنها أوساخ

[ 184 ]

الهيآت الردية والصفات الخسيسة. فهو بما انه شفاء يزيل عنها انواع الامراض والادواء وبما انه رحمة يعيد إليها ما افتقدته من الصحة والاستقامة الاصلية الفطرية فهو بكونه شفاء يطهر المحل من الموانع المضادة للسعادة ويهيئها لقبولها، وبكونه رحمة يلبسه لباس السعادة وينعم عليه بنعمة الاستقامة. فالقرآن شفاء ورحمة للقلوب المريضة كما انه هدى ورحمة للنفوس غير الامنة من الضلال، وبذلك يظهر النكتة في ترتب الرحمة على الشفاء في قوله: ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين " فهو كقوله: " هدى ورحمة لقوم يؤمنون: يوسف: 111 وقوله: " ومغفرة ورحمة " النساء: 96. فمعنى قوله: " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين " وننزل اليك امرا يشفى امراض القلوب ويزيلها ويعيد إليها حالة الصحة والاستقامة فتتمتع من نعمة السعادة والكرامة. وقوله: " ولا يزيد الظالمين الا خسارا " السياق دال على ان المراد به بيان ما للقرآن من الاثر في غير المؤمنين قبال ما له من الاثر الجميل في المؤمنين فالمراد بالظالمين غير المؤمنين وهم الكفار دون المشركين خاصة كما يظهر من بعض المفسرين وانما علق الحكم بالوصف اعني الظلم ليشعر بالتعليل اي ان القرآن انما يزيدهم خسارا لمكان ظلمهم بالكفر. والخسار هو النقص في رأس المال فللكفار رأس مال بحسب الاصل وهو الدين الفطري تلهم به نفوسهم الساذجة ثم إنهم بكفرهم بالله وآياتة خسروا فيه ونقصوا. ثم إن كفرهم بالقرآن وإعراضهم عنه بظلمهم يزيدهم خسارا على خسار ونقصا على نقص إن كانت عندهم بقية من موهبة الفطرة، وإلى هذه النكتة يشير سياق النفي والاستثناء حيث قيل: " ولا يزيد الظالمين الا خسارا " ولم يقل ويزيد الظالمين خسارا. وبه يظهر أن محصل معنى الاية أن القرآن يزيد المؤمنين صحة واستقامة على صحتهم واستقامتهم بالايمان وسعاده على سعادتهم وإن زاد الكافرين شيئا فإنما يزيدهم نقصا وخسارا.

[ 185 ]

وللمفسرين في معنى صدر الاية وذيلها وجوه أخر أغمضنا عنها من أراد الوقوف عليها فليراجع مسفوراتهم. ومما ذكروه فيها أن المراد بالشفاء في الاية أعم من أشفاء الامراض الروحية من الجهل والشبهة والريب والملكات النفسانية الرذيلة وشفاء الامراض الجسميه بالتبرك بآياته الكريمة قراءة وكتابة هذا. ولا بأس به لكن لو صح التعميم فليصح في الصدر والذيل جميعا فإنه كما يستعان به على دفع الامراض والعاهات بقراءة وكتابة كذلك. يستعان به على دفع الاعداء ورفع ظلم الظالمين وإبطال كيد الكافرين فيزيد بذلك الظالمين خسارا كما يفيد المؤمنين شفاء هذا، ونسبة زيادة خسارهم إلى القرآن مع أنها مستندة بالحقيقة إلى سوء اختيارهم وشقاء أنفسهم إنما هي بنوع من المجاز. قوله تعالى: " وإذا أنعمنا على الانسان أعرض ونآ بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤسا " قال في المفردات: العرض خلاف الطول وأصله أن يقال في الاجسام ثم يستعمل في غيرها - إلى أن قال - وأعرض أظهر عرضه أي ناحيته فإذا قيل " أعرض لي كذا أي بدا عرضه فأمكن تناوله، وإذا قيل: " أعرض عني فمعناه ولى مبديا عرضه، انتهى موضع الحاجة. والنأي البعد ونآى بجانبه أي اتخذ لنفسه جهة بعيدة منا، ومجموع قوله: " أعرض ونآى بجانبه " يمثل حال الانسان في تباعده وانقطاعه من ربه عند ما ينعم عليه. كمن يحول وجهه عن صاحبه ويتخذ لنفسه موقفا بعيدا منه، وربما ذكر بعض المفسرين أن قوله: " نآى بجانبه كناية عن الاستكبار والاستعلاء. وقوله: " وإذا مسه الشر كان يؤسا " أي وإذا أصابه الشر إصابه خفيفة كالمس كان آيسا منقطع الرجاء عن الخير وهو النعمة، ولم ينسب الشر إليه تعالى كما نسب النعمة تنزيها له تعالى من أن يسند إليه الشر، ولان وجود الشر أمر نسبي لا نفسي فما يتحقق من الشر في العالم كالموت والمرض والفقر والنقص وغير ذلك أنما هو شر بالنسبة إلى مورده، واما بالنسبة إلى غيره وخاصة النظام العام الجارى في الكون فهو من الخير الذي لا مناص عنه في التدبير الكلي فما كان من الخير فهو مما تعلقت به بعينه

[ 186 ]

العناية الالهية وهو مراد بالذات، وما كان من الشر فهو مما تعلقت به العناية لغيره وهو مقتضي بالعرض. فالمعني إنا إذا أنعمنا على الانسان هذا الموجود الواقع في مجرى الاسباب اشتغل بظواهر الاسباب واخلد إليها فنسينا فلم يذكرنا ولم يشكرنا، وإذا ناله شئ يسير من الشر فسلب منه الخير وزالت عنه أسبابه ورأى ذلك كان شديد اليأس من الخير لكونه متعلقا بأسبابه وهو يرى بطلان أسبابه ولا يرى لربه في ذلك صنعا. والاية تصف حال الانسان العادي الواقع في المجتمع الحيوى الذى يحكم فيه العرف والعاده فهو إذا توالت عليه النعم الالهية من المال والجاه والبنين وغيرها ووافقته على ذلك الاسباب الظاهرية اشتغل بها وتعلق قلبه بها فلم تدع له فراغا يشتغل فيه بذكر ربه وشكره بما أنعم عليه، وإذا مسه الشر وسلب عنه بعض النعم الموهوبة أيس من الخير ولم يتسل بالرجاء لانه لا يرى للخير إلا الاسباب الظاهرية التي لا يجد وقتئذ شيئا منها في الوجود. وهذه الحال غير حال الانسان الفطري غير المشوب ذهنه بالرسوم والاداب ولا الحاكم فيه العرف والعادة إما بتأييد إلهي يلازمه ويسدده وإما بعروض اضطرار ينسيه الاسباب الظاهرية فيرجع إلى سذاجة فطرته ويدعو ربه ويسأله كشف ضره فللانسان حالان حال فطرية تهديه إلى الرجوع إلى ربه عند مس الضر ونزول الشر وحال عاديه تحول فيها الاسباب بينه وبين ربه فتشغله وتصرفه عن الرجوع إليه بالذكر والشكر، والاية تصف حاله الثانية دون الاولى. ومن هنا يظهر أن لا منافاة بين هذه الاية والايات الدالة على أن الانسان إذا مسه الضر رجع إلى ربه كقوله تعالى فيما تقدم: " وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه الاية وقوله: " وإذا مس الانسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما " الاية يونس: 12 إلى غير ذلك. ويظهر أيضا وجه اتصال الاية بما قبلها وأنها متصلة بالاية السابقة من جهة ذيلها أعني قوله: " ولا يزيد الظالمين إلا خسارا والمحصل أن هذا الخسار غير بعيد منهم

[ 187 ]

فإن من حال الانسان أن يشغله الاسباب الظاهرية عند نزول النعم الالهية فينصرف عن ربه ويعرض وينآى، بجانبه وييأس عند مس الشر. " بحث فلسفي " ذكروا أن الشرور داخلة في القضاء الالهي بالعرض، وقد أوردوا في بيانه ما يأتي: نقل عن أفلاطون أن الشر عدم وقد بين ذلك بالامثلة فإن في القتل بالسيف مثلا شرا أو ليس هو في قدرة الضارب على مباشرة الضرب ولا في شجاعته ولا في قوة عضلات يده فإن ذلك كله كمال له، ليس من الشر في شئ وليس هو في حدة السيف ودقة ذبابه وكونه قطاعا فإن ذلك من كماله وحسنه وليس هو في انفعال رقبة المقتول عن الالة القطاعه فإن من كماله أن يكون كذلك فلا يبقي للشر إلا زهاق روح المقتول وبطلان حياته وهو عدمي وعلى هذا سائر الامثلة فالشر عدم. ثم إن الشرور التي في العالم لما كانت مرتبطة بالحوادث الواقعة مكتنفة بها كانت أعداما مضافة لا عدما مطلقا فلها حظ من الوجود والوقوع كأنواع الفقد والنقص والموت والفساد الواقعة في الخارج الداخله في النظام العام الكوني، ولذلك كان لها مساس بالقضاء الالهي الحاكم في الكون لكنها داخلة في القضاء بالعرض لا بالذات. وذلك أن الذى تتصوره من العدم اما عدم مطلق وهو عدم النقيض للوجود وإما مضاف إلى ملكة وهو عدم كمال الوجود عما من شأنه ذلك كالعمى الذي هو عدم البصر مما من شأنه أن يكون بصيرا. والقسم الاول إما عدم شئ مأخوذ بالنسبه إلى ماهيته كعدم زيد مثلا مأخوذا بالنسبه إلى ماهية نفسه، وهذا اعتبار عقلي ليس من وقوع الشر في شئ إذ لا موضوع مشترك بين النقيضين، نعم ربما يقيد العدم فيقاس إلى الشئ فيكون من الشر كعدم زيد بعد وجوده، وهو راجع في الحقيقي إلى العدم المضاف إلى الملكه الاتى حكمه. واما عدم شئ ماخوذ بالنسبه إلى شئ آخر كفقدان الماهيات الامكانيه كمال الوجود الواجبى وكفقدان كل ماهيه وجود الماهيه الاخرى الخاص بها مثل فقدان

[ 188 ]

النبات وجود الحيوان وفقدان البقر وجود الفرس، وهذا النوع من العدم من لوازم الماهيات وهي اعتبارية غير مجعولة. والقسم الثاني وهو العدم المضاف إلى الملكة فقدان أمر ما شيئا من كمال وجوده الذى من شأنه أن يوجد له ويتصف به كأنواع الفساد العارضة للاشياء والنواقص والعيوب والعاهات والامراض والاسقام والالام الطارئة عليها، وهذا القسم من الشرور إنما يتحقق في الامور المادية ويستند إلى قصور الاستعدادات على اختلاف مراتبها لا إلى افاضة مبدء الوجود فإن علة العدم عدم كما أن علة الوجود وجود. فالذي تعلقت به كلمة الايجاد والارادة الالهية وشمله القضاء بالذات في الامور التي يقارنها شئ من الشر إنما هو القدر الذى تلبس به من الوجود حسب استعداده ومقدار قابليته وأما العدم الذى يقارنه فليس إلا مستندا إلى عدم قابليته وقصور استعداده نعم ينسب إليه الجعل والافاضة بالعرض لمكان نوع من الاتحاد بينه وبين الوجود الذي يقارنه هذا. وببيان آخر الامور على خمسة أقسام: ما هو خير محض، وما خيره أكثر من شره، وما يتساوى خيره وشره، وما شره أكثر من خيره وما هو شر محض، ولا يوجد شئ من الثلاثة الاخيرة لاستلزامه الترجيح من غير مرجح أو ترجيح المرجوح على الراجح، ومن الواجب بالنظر إلى الحكمه الالهية المنبعثة عن القدرة والعلم الواجبيين والجود الذي لا يخالطه بخل أن يفيض ما هو الاصلح في النظام الاتم وأن يوجد ما هو خير محض وما خيره أكثر من شره لان في ترك الاول شرا محضا وفي ترك الثاني شرا كثيرا. فما يوجد من الشر نادر قليل بالنسبة إلى ما يوجد من الخير وإنما وجد الشر القليل بتبع الخير الكثير. وعن الامام الرازي أنه لا محل لهذا البحث منهم بناء على ما ذهبوا إليه من كونه تعالى علة تامة للعالم واستحالة انفكاك العلة التامة عن معلولها فهو موجب في فعله لا مختار فعليه أن يوجد ما هو علة له من خير أو شر من غير خيرة في الترجيح. وقد خفي عليه أن هذا الوجوب إنما هو قائم بالمعلول تلقاه من قبل العله مثل ما

[ 189 ]

يتلقى وجوده من قبله، ومن المحال أن يعود ما يفيضه العلة فيقهر العلة فيضطرها على الفعل ويغلبها بتحديده. ولقد أنصف صاحب روح المعاني حيث أشار أولا إلى نظير ما تقدم من البحث فقال: ولا يخفى أن هذا إنما يتم على القول بأنه تعالى لا يمكن أن تكون إرادته متساوية النسبة إلى الشئ ومقابله بلا داع ومصلحة كما هو مذهب الاشاعرة وإلا فقد يقال: إن الفاعل للكل إذا كان مختارا فله أن يختار أيما شاء من الخيرات والشرور لكن الحكماء وأساطين الاسلام قالوا: إن اختياره تعالى أرفع من هذا النمط، وامور العالم منوطة بقوانين كلية، وأفعاله تعالى مربوطة بحكم ومصالح جلية وخفية. ثم قال: وقول الامام: " إن الفلاسفة لما قالوا بالايجاب والجبر في الافعال فخوضهم في هذا المبحث من جملة الفضول والضلال لان السؤال بلم عن صدورها غير وارد كصدور الاحراق من النار لانه يصدر عنها لذاتها ". ناش من التعصب لان محققيهم يثبتون الاختيار، وليس صدور الافعال من الله تعالى عندهم صدور الاحراق من النار، وبعد فرض التسليم بحثهم عن كيفية وقوع الشر في هذا العالم لاجل أن الباري تبارك اسمه خير محض بسيط عندهم ولا يجوزون الشر عمالا جهة شرية فيه أصلا فيلزم عليهم في بادئ النظر ما افترته الثنوية من مبدئين خيري وشري فتخلصوا عن ذلك البحث فهو فضل لا فضول. انتهى. قوله تعالى: " قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا " المشاكلة - على ما في المفردات - من الشكل وهو تقييد الدابة، ويسمى ما يقيد به شكالا بكسر الشين، والشاكلة هي السجية سمي بها لتقييدها الانسان أن يجرى على ما يناسبها وتقتضيه. وفي المجمع الشاكلة الطريقة والمذهب يقال: هذا طريق ذو شواكل أي ينشعب منه طرق جماعة انتهى. وكأن تسميتهما بها لما فيها من تقييد العابرين والمنتحلين بالتزامهما وعدم التخلف عنهما وقيل: الشاكلة من الشكل بفتح الشين بمعنى المثل وقيل: إنها من الشكل بكسر الشين بمعنى الهيئة. وكيف كان فالاية الكريمة ترتب عمل الانسان على شاكلتة بمعنى أن العمل يناسبها

[ 190 ]

ويوافقها، فهي بالنسبه إلى العمل كالروح السارية في البدن الذى يمثل بأعضائه وأعماله هيآت الروح المعنوية وقد تحقق بالتجارب والبحث العلمي أن بين الملكات والاحوال النفسانية وبين الاعمال رابطة خاصة فليس يتساوى عمل الشجاع الباسل والجبان إذا حضرا موقفا هائلا، ولا عمل الجواد الكريم والبخيل اللئيم في موارد الانفاق وهكذا، وأن بين الصفات النفسانية ونوع تركيب البنية الانسانية رابطة خاصة فمن الامزجة ما يسرع إليه الغضب وحب الانتقام بالطبع ومنها ما تغلى وتفور فيه شهوة الطعام أو النكاح أو غير ذلك بحيث تتوق نفسه بأدنى سبب يدعوه ويحركه، ومنها غير ذلك فيختلف انعقاد الملكات بحسب ما يناسب المورد سرعة وبطءا. ومع ذلك كله فليس يخرج دعوة المزاج المناسب لملكة من الملكات أو عمل من الاعمال من حد الاقتضاء إلى حد العلية التامة بحيث يخرج الفعل المخالف لمقتضى الطبع عن الامكان إلى الاستحالة ويبطل الاختيار فالفعل باق على اختياريته وإن كان في بعض الموارد صعبا غاية الصعوبة. وكلامه سبحانه يؤيد ما تقدم على ما يعطيه التدبر فهو سبحانه القائل: " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذى خبث لا يخرج إلا نكدا " الاعراف: 58 وانضمام الاية إلى الايات الدالة على عموم الدعوة كقوله: " لانذركم به ومن بلغ " الانعام: 19 يفيد أن تأثير البنى الانسانية في الصفات والاعمال على نحو الاقتضاء دون العلية التامة كما هو ظاهر. كيف وهو تعالى يعد الدين فطريا تهتف به الخلقة التي لا تبديل لها ولا تغيير قال: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " الروم: 30 وقال: " ثم السبيل يسره " عبس: 20 ولا تجامع دعوة الفطرة إلى الدين الحق والسنة المعتدلة دعوة الخلقة إلى الشر والفساد والانحراف عن الاعتدال بنحو العلية التامة. وقول القائل: إن السعادة والشقاوة ذاتيتان لا تتخلفان عن ملزومهما كزوجية الاربعة وفردية الثلاثة أو مقضيتان بقضاء أزلي لازم، وأن الدعوة لاتمام الحجة لا لامكان التغيير ورجاء التحول من حال إلى حال فالامر مفروغ عنه قال تعالى:

[ 191 ]

" ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حتى ؟ ؟ عن بينة. مدفوع بأن صحة إقامة الحجة بعينها حجة على عدم كون سعادة السعيد وشقاوة الشقى لازمة ضرورية فإن السعادة والشقاوة لو كانتا من لوازم الذوات لم تحتاجا في لحوقهما إلى حجة إذ لا حجة في الذاتيات فتلغو الحجة، وكذا لو كانتا لازمتين للذوات بقضاء لازم أزلى لا لاقتضاء ذاتي من الذوات كانت الحجة للناس على الله سبحانه فتلغو الحجة منه تعالى فصحة إقامة الحجة من قبله سبحانه تكشف عن عدم ضرورية شئ من السعادة والشقاوة بالنظر إلى ذات الانسان مع قطع النظر عن أعماله الحسنة والسيئة واعتقاداته الحقة والباطلة. على أن توسل الانسان بالفطرة إلى مقاصد الحياة بمثل التعليم والتربية والانذار والتبشير والوعد والوعيد والامر والنهى وغير ذلك أوضح دليل على أن الانسان في نفسه على ملتقى خطين ومنشعب طريقين: السعادة والشقاوة وفي إمكانه أن يختار أيا منهما شاء وأن يسلك أيا منهما أراد ولكل سعي جزاء يناسبه قال تعالى: " وأن ليس للانسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الاوفى " النجم: 41. فهذا نوع من الارتباط مستقر بين الاعمال والملكات وبين الذوات، وهناك نوع آخر من الارتباط مستقر بين الاعمال والملكات وبين الاوضاع والاحوال والعوامل الخارجة عن الذات الانسانية المستقرة في ظرف الحياة وجو العيش كالاداب والسنن والرسوم والعادات التقليدية فإنها تدعو الانسان إلى ما يوافقها وتزجره عن مخالفتها ولا تلبث دون أن تصوره صورة جديدة ثانية تنطبق أعمالة على الاوضاع والاحوال المحيطة به المجتمعة المؤتلفة في ظرف حياته. وهذه الرابطة على نحو الاقتضاء غالبا غير أنها ربما يستقر استقرارا لا مطمع في زوالها من جهة رسوخ الملكات الرذيلة أو الفاضلة في نفس الانسان وفي كلامه تعالى ما يشير إلى ذلك كقوله: " إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة " البقرة: 7 إلى غير ذلك. ولا يضر ذلك صحة إقامة الحجة عليهم بالدعوة والانذار والتبشير لان امتناع تأثير الدعوة فيهم مستند إلى سوء اختيارهم والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

[ 192 ]

فقد تبين بما قدمناه على طوله أن للانسان شاكلة بعد شاكلة فشاكلة يهيؤها نوع خلقته وخصوصية تركيب بنيته، وهي شخصية خلقية متحصلة من تفاعل جهازاته البدنية بعضها مع بعض كالمزاج الذي هو كيفية متوسطة حاصلة من تفاعل الكيفيات المتضادة بعضها في بعض. وشاكلة أخرى ثانية وهي شخصية خلقية متحصلة من وجوه تأثير العوامل الخارجية في النفس الانسانية على ما فيها من الشاكلة الاولى إن كانت. والانسان على أي شاكلة متحصلة وعلى أي نعت نفساني وفعليه داخلية روحية كان فإن عمله يجرى عليها وأفعاله تمثلها وتحكيها كما أن المتكبر المختال يلوح حاله في تكلمه وسكوته وقيامه وقعوده وحركته وسكونه، والذليل المسكين ظاهر الذلة والمسكنة في جميع أعماله وكذا الشجاع والجبان والسخي والبخيل والصبور والوقور والعجول وهكذا وكيف لا والفعل يمثل فاعله والظاهر عنوان الباطن والصورة دليل المعنى. وكلامه سبحانه يصدق ذلك ويبني عليه حججه في موارد كثيرة كقوله تعالى: " وما يستوى الاعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوى الاحياء ولا الاموات " فاطر: 22 وقوله: " الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات: النور: 36 إلى غير ذلك من الايات الكثيرة. وقوله تعالى: " كل يعمل على شاكلته محكم في معناه على أي معنى حملنا الشاكلة غير أن اتصال الايه بقوله: " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " ووقوعها في سياق أن الله سبحانه يربح المؤمنين ويشفيهم بالقرآن الكريم والدعوة الحقة ويخسر به الظالمين لظلمهم يقرب كون المراد بالشاكلة الشاكلة بالمعنى الثاني وهي الشخصيه الخلقية الحاصلة للانسان من مجموع غرائزه والعوامل الخارجية الفاعلة فيه. كأنه تعالى لما ذكر استفادة المؤمنين من كلامه الشفاء والرحمة وحرمان الظالمين من ذلك وزيادتهم في خسارهم اعترضه معترض في هذه التفرقة وأنه لو سوى بين

[ 193 ]

الفريقين في الشفاء والرحمة كان ذلك أو في لغرض الرسالة وأنفع لحال الدعوة فأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيبهم في ذلك. فقال: قل: كل يعمل على شاكلته أي إن أعمالكم تصدر على طبق ما عندكم من الشاكلة والفعلية الموجودة فمن كانت عنده شاكلة عادلة سهل اهتداؤه إلى كلمه الحق والعمل الصالح وانتفع بالدعوة الحقة، ومن كانت عنده شاكلة ظالمة صعب عليه التلبس بالقول الحق والعمل الصالح ولم يزد من استماع الدعوة الحقة إلا خسارا والله الذي هو ربكم العليم بسرائركم المدبر لامركم أعلم بمن عنده شاكلة عادلة وهو أهدى سبيلا وأقرب إلى الانتفاع بكلمة الحق والذي علمه وأخبر به أن المؤمنين اهدى سبيلا فيختص بهم الشفاء والرحمة بالقرآن الذى ينزله ولا يبقى للكافرين أهل الظلم إلا مزيد الخسار إلا أن ينتزعوا عن ظلمهم فينتفعوا به. ومن هنا يظهر النكتة في التعبير بصيغة التفضيل في قوله: " أهدى سبيلا " وذلك لما تقدم أن الشاكلة غير ملزمة في الدعوة إلى ما يلائمها فالشاكلة الظالمة وإن كانت مضلة داعية إلى العمل الطالح غير أنها لا تحتم الضلال ففيها أثر من الهدى وإن كان ضعيفا والشاكلة العادلة أهدى منها فافهم. وذكر الامام الرازي في تفسيره ما ملخصه: أن الاية تدل على كون النفوس الناطقة الانسانية مختلفه بالماهية وذلك أنه تعالى بين في الايه المتقدمه أن القرآن بالنسبة إلى بعض النفوس يفيد الشفاء والرحمة وبالنسبة إلى بعض آخر يفيد الخسار والخزى ثم أتبعه بقوله: " قل كل يعمل على شاكلته ومعناه أن اللائق بتلك النفوس الطاهرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الذكاء والكمال وبتلك النفوس الكدرة أن يظهر فيها منه آثار الخزي والضلال كما أن الشمس تعقد الملح وتلين الدهن وتبيض ثوب القصار ويسود وجهه. وهذا إنما يتم إذا كانت الارواح والنفوس مختلفه بماهياتها فبعضها مشرقة صافيه يظهر فيها من القرآن نور على نور، وبعضها كدرة ظلمانيه يظهر فيها منه ضلال على ضلال ونكال على نكال. انتهى. وفيه أنه لو أقام الحجة على اختلاف ماهيات النفوس بعد رسوخ ملكاتها وتصورها

[ 194 ]

بصورها لكان له وجه، وأما النفوس الساذجة قبل رسوخ الملكات فلا تختلف بالاثار اختلافا ضروريا حتى تجري فيها الحجة وقد عرفت أن الاية انما تتعرض لحال الانسان بعد حصول شاكلته وشخصيته الخلقية الحاصلة من مجموع غرائزه والعوامل الخارجية الفاعلة فيه الداعية إلى نوع من العمل دعوة على نحو الاقتضاء فتبصر. " بحث فلسفي " ذكر الحكماء أن بين الفعل وفاعله ويعنون به المعلول وعلته الفاعلة سنخية وجودية ورابطة ذاتية يصير بها وجود الفعل كأنه مرتبة نازلة من وجود فاعله ووجود الفاعل كأنه مرتبة عالية من وجود فعله بل الامر على ذلك بناء على أصاله الوجود وتشكيكه. وبينوا ذلك بأنه لو لم يكن بين الفعل المعلول وعلته الفاعلة له مناسبة ذاتية وخصوصية واقعية بها يختص أحدهما بالاخر كانت نسبة الفاعل إلى فعله كنسبته إلى غيره كما كانت نسبة الفعل إلى فاعله كنسبته إلى غيره فلم يكن لاستناد صدور الفعل إلى فاعله معنى، ونظير البرهان يجري في المعلول بالنسبة إلى سائر العلل ويثبت الرابطة بينه وبينها غير أن العلة الفاعلة لما كانت هي المقتضية لوجود المعلول ومعطي الشئ غير فاقده كانت العلة الفاعلة واجدة لكمال وجود المعلول والمعلول ممثلا لوجودها في مرتبة نازلة. وقد بين ذلك صدر المتألهين بوجه أدق وألطف وهو أن المعلول مفتقر في وجوده إلى العلة الفاعلة متعلق الذات بها، وليس من الجائز أن يتأخر هذا الفقر والتعلق عن مرتبة ذاته ويكون هناك ذات ثم فقر وتعلق والا استغنى بحسب ذاته عن العلة واستقل بنفسه عنها فلم يكن معلولا هف فذاته عين الفقر والتعلق فليس له من الوجود الا الرابط غير المستقل وما يتراءى فيه من استقلال الوجود المفروض معه أولا إنما هو استقلال علته فوجود المعلول يحاكي وجود علته ويمثله في مرتبته التي له من الوجود. (تعقيب البحث السابق من جهة القرآن) التدبر في الايات القرآنية لا يدع ريبا في أن القرآن الكريم يعد الاشياء على

[ 195 ]

اختلاف وجوهها وتشتت أنواعها آيات له تعالى دالة على أسمائه وصفاته فما من شئ إلا وهو آية في وجوده وفي أي جهة مفروضة في وجوده له تعالى مشيرة إلى ساحة عظمته وكبريائه، والاية وهي العلامة الدالة من حيث إنها آية وجودها مرآتى فان في ذى الاية الذي هو مدلولها غير مستقله دونه إذ لو استقلت في وجوده أو في جهة من جهات وجوده لم تكن من تلك الجهة مشيرة إليه دالة عليه آية له هف. فالاشياء بما هي مخلوقة له تعالى أفعاله وهي تحاكي بوجودها وصفات وجودها وجوده سبحانه وكرائم صفاته وهو المراد بمسانخة الفعل لفاعله لا أن الفعل واجد لهوية الفاعل مماثل لحقيقة ذاته فإن الضرورة تدفعه. قوله تعالى: " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " الروح على ما يعرف في اللغة هو مبدء الحياة الذي به يقوى الحيوان على الاحساس والحركة الارادية ولفظه يذكر ويؤنث وربما يتجوز فيطلق على الامور التي يظهر بها آثار حسنه مطلوبة كما يعد العلم حياة للنفوس قال تعالى: " أو من كان ميتا فاحييناه " الانعام: 122 أي بالهداية إلى الايمان وعلى هذا المعنى حمل جماعة مثل قوله: " ينزل الملائكة بالروح من أمره " النحل: 2 أي بالوحي وقوله: " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا " الشورى: 52 أي القرآن الذي هو وحي فذكروا أنه تعالى سمى الوحي أو القرآن روحا لان به حياة النفوس الميتة كما أن الروح المعروف به حياة الاجساد الميتة. وكيف كان فقد تكرر في كلامه تعالى ذكر الروح في آيات كثيرة مكية ومدنية، ولم يرد في جميعها المعنى الذى نجده في الحيوان وهو مبدء الحياة الذي يتفرع عليه الاحساس والحركة الارادية كما في قوله: " يوم يقوم الروح والملائكة صفا " النبأ: 38، وقوله تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر " القدر: 4 ولا ريب أن المراد به في الاية غير الروح الحيواني وغير الملائكة وقد تقدم الحديث عن على عليه السلام أنه احتج بقوله تعالى: " ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده " النحل: " 2 على أن الروح غير الملائكة وقد وصفه تارة بالقدس وتارة بالامانة كما سيأتي لطهارته

[ 196 ]

عن الخيانة وسائر القذارات المعنوية والعيوب والعاهات التي لا تخلو عنها الارواح الانسية. وهو وإن كان غير الملائكة غير أنه يصاحبهم في الوحي والتبليغ كما يظهر من قوله: " ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده " الاية فقد قال تعالى: " من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك باذن الله " البقرة: 97 فنسب تنزيل القرآن على قلبه صلى الله عليه وآله وسلم إلى جبريل ثم قال: " نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين " الشعراء: 195 وقال: " قل نزله روح القدس من ربك " النحل: 102 فوضع الروح وهو غير الملائكة بوجه مكان جبريل وهو من الملائكة فجبريل ينزل بالروح والروح يحمل هذا القرآن المقر والمتلو. وبذلك تنحل العقدة في قوله تعالى: " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا " الشورى: 52 ويظهر أن المراد من وحى الروح في الاية هو إنزال روح القدس إليه صلى الله عليه وآله وسلم وإنزاله إليه هو الوحي القرآن إليه لكونه يحمله على ما تبين فلا موجب لما ذكره بعضهم على ما نقلناه آنفا أن المراد بالروح في الاية هو القرآن. وأما نسبة الوحى وهو الكلام الخفي إلى الروح بهذا المعنى وهو من الموجودات العينية والاعيان الخارجية فلا ضير فيه فإن هذه الموجودات الطاهرة كما أنها موجودات مقدسة من خلقه تعالى كذلك هي كلمات منه تعالى كما قال في عيسى بن مريم عليه السلام " وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه " النساء: 171. فعد الروح كلمة دالة على المراد فمن الجائز أن يعد الروح وحيا كما عد كلمة وإنما سماه كلمة منه لانة إنما كان عن كلمة الايجاد من غير أن يتوسط فيه السبب العادي في كينونة الناس بدليل قوله: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " آل عمران: 59. وقد زاد سبحانه في إيضاح حقيقة الروح حيث قال قل الروح من امر ربي " وظاهر " من " أنها لتبيين الجنس كما في نظائرها من الايات " يلقى الروح من أمره ": المؤمن: 15 " ينزل الملائكة بالروح من امره " " أوحينا إليك روحا من أمرنا " تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر " فالروح من سنخ الامر.

[ 197 ]

ثم عرف امره في قوله: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ " يس: 84 فبين أولا أن أمره هو قوله للشئ: " كن " وهو كلمة الايجاد التي هي الايجاد والايجاد هو وجود الشئ لكن لا من كل جهة بل من جهة استناده إليه تعالى وقيامه به فقوله فعله. ومن الدليل على أن وجود الاشياء قول له تعالى من جهة نسبته إليه مع الغاء الاسباب الوجودية الاخر قوله تعالى: " وما امرنا الا واحدة كلمح بالبصر " القمر: 50 حيث شبه أمره بعد عده واحدة بلمح بالبصر وهذا النوع من التشبيه لنفي التدريج وبه يعلم أن في الاشياء المكونة تدريجا الحاصلة بتوسط الاسباب الكونية المنطبقة على الزمان والمكان جهة معراة عن التدريج خارجة عن حيطة الزمان والمكان هي من تلك الجهة أمره وقوله وكلمته وأما الجهة التي هي بها تدريجية مرتبطة بالاسباب الكونية منطبقة على الزمان والمكان فهي بها من الخلق قال تعالى: " ألا له الخلق والامر " الاعراف: 54 فالامر هو وجود الشئ من جهة استناده إليه تعالى وحده والخلق هو ذلك من جهة استناده إليه مع توسط الاسباب الكونية فيه. ويستفاد ذلك أيضا من قوله: " ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون: الاية حيث ذكر أولا خلق آدم وذكر تعلقه بالتراب وهو من الاسباب ثم ذكر وجوده ولم يعلقه بشئ الا بقوله: " كن " فافهم ذلك ونظيره قوله: " ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة إلى أن قال - ثم أنشأناه خلقا آخر " المؤمنون: 14 فعد ايجاده المنسوب إلى نفسه من غير تخلل الاسباب الكونية انشاء خلق آخر. فظهر بذلك كله أن الامر هو كلمة الايجاد السماوية وفعله تعالى المختص به الذي لا تتوسط فيه الاسباب، ولا يتقدر بزمان أو مكان وغير ذلك. ثم بين ثانيا أن امره في كل شئ هو ملكوت ذلك الشئ - والملكوت أبلغ من الملك - فلكل شئ ملكوت كما أن له امرا قال تعالى: أو لم ينظروا في ملكوت السموات والارض " الاعراف 185 وقال: " وكذلك نرى ابراهيم ملكوت السموات والارض " الانعام 75، وقال: " تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر الاية: القدر: 4

[ 198 ]

بيان فقد بان بما مر أن الامر هو كلمة الايجاد وهو فعله تعالى الخاص به الذى لا يتوسط فيه الاسباب الكونية بتأثيراتها التدريجية وهو الوجود الا رفع من نشأه المادة وظرف الزمان، وأن الروح بحسب وجوده من سنخ الامر من الملكوت. وقد وصف تعالى أمر الروح في كلامه وصفا مختلفا فأفرده بالذكر في مثل قوله: " يوم يقوم الروح والملائكة صفا " النبأ: 38، وقوله: " تعرج الملائكة والروح إليه " الاية المعارج: 4. ويظهر من كلامه أن منه ما هو مع الملائكة كقوله في الايات المنقولة آنفا: " من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك نزل به الروح الامين على قلبك " " قل نزله روح القدس وقوله: فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا " مريم: 17. ومنه ما هو منفوخ في الانسان عامة قال تعالى: ثم سواه ونفخ فيه من روحه " الم السجدة: 9 وقال: " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي " الحجر: 29 ص: 72 ومنه ما هو مع المؤمنين كما يدل عليه قوله تعالى: " اولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه " المجادلة: 22 ويشعر به بل يدل عليه أيضا قوله: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس " الانعام: 122 فإن المذكور في الاية حياة جديدة والحياة فرع الروح. ومنه ما نزل إلى الانبياء عليه السلام كما يدل عليه قوله: " ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا " الاية النحل: " 2 وقوله: " وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس: البقرة: 87 وقوله: " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا " الشورى: 52 إلى غير ذلك. ومن الروح ما تشعر به الايات التي تذكر أن في غير الانسان من الحيوان حياة وأن في النبات حياة، والحياة متفرعة على الروح ظاهرا. فقد تبين بما قدمناه على طوله معنى قوله تعالى: " يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وأن السؤال إنما هو عن حقيقة مطلق الروح الوارد في كلامه سبحانه، وأن الجواب مشتمل على بيان حقيقة الروح وأنه من سنخ الامر بالمعنى الذي تقدم،

[ 199 ]

وأما قوله: " وما اوتيتم من العلم إلا قليلا " أي ما عندكم من العلم بالروح الذى آتاكم الله ذلك قليل من كثير فإن له موقعا من الوجود وخواص وآثارا في الكون عجيبة بديعه أنتم عنها في حجاب. وللمفسرين في المراد من الروح المسئول عنه والحجاب عنه أقوال فقال: بعضهم: إن المراد بالروح المسؤل عنه هو الروح الذي يذكره الله في قوله " يوم يقوم الروح والملائكة صفا " وقوله: " تعرج الملائكة والروح إليه " الاية، ولا دليل لهم على ذلك. وقال بعضهم: إن المراد به جبريل فإن الله سماه روحا في قوله: نزل به الروح الامين على قلبك " وفيه أن مجرد تسميته روحا في بعض كلامه لا يستلزم كونه هو المراد بعينه أينما ذكر على أن لهذه التسمية معنى خاصا أومانا إليه في سابق الكلام، ولو لا ذلك لكان عيسى وجبريل واحدا لان الله سمى كلا منهما روحا. وقال بعضهم: إن المراد به القرآن لان الله سماه روحا في قوله: " وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا " الاية فيكون محصل السؤال والجواب أنهم يسألونك عن القرآن أهو من الله أو من عندك ؟ فأجبهم أنه من أمر ربى لا يقدر على الاتيان بمثله غيره فهو آية معجزه دالة على صحة رسالتي وما اوتيتم من العلم به إلا قليلا من غير أن تحيطوا به فتقدروا على الاتيان بمثله قالوا: والاية التالية: " ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا اليك " يؤيد هذا المعنى. وفيه أن تسميته في بعض كلامه روحا لا تستلزم كونه هو المراد كلما اطلق كما تقدم آنفا. على أنك قد عرفت ما في دعوى هذه التسمية. على أن الاية التالية لا تتعين تأييدا لهذا الوجه بل تلائم بعض الوجوه الاخر أيضا. وقال بعضهم: إن المراد به الروح الانساني فهو المتبادر من إطلاقه وقوله: " قل الروح من أمر ربي " ترك للبيان ونهي عن التوغل في فهم حقيقة الروح فإنه من أمر الله الذي استأثر بعلمه ولم يطلع على حقيقته أحدا ثم اختلفوا في حقيقته بين قائل بأنه جسم هوائي متردد في مخارق البدن، وقائل بأنه جسم هوائي في هيئة البدن حال فيه

[ 200 ]

وخروجه موته، وقائل بأنه أجزاء أصلية في القلب، وقائل بأنه عرض في البدن، وقائل بأنه نفس البدن إلى غير ذلك. وفيه أن التبادر في كلامه تعالى ممنوع، والتدبر في الايات المتعرضة لامر الروح كما قدمناه يدفع جميع ما ذكروه. وقال بعضهم: إن المراد به مطلق الروح الواقع في كلامه والسؤال إنما هو عن كونه قديما أو محدثا فاجيب بأنه يحدث عن أمره وفعله تعالى، وفعله محدث لا قديم. وفيه أن تعميم الروح لجميع ما وقع منه في كلامه تعالى وإن كان في محله لكن إرجاع السؤال إلى حدوث الروح وقدمه وتوجيه الجواب بما يناسبه دعوى لا دليل عليها من جهة اللفظ. ثم إن لهم اختلافا في معنى قوله: " الروح من أمر ربي " أهو جواب مثبت أو ترك للجواب وصرف عن السؤال على قولين والوجوه المتقدمة في معنى الروح مختلفة في المناسبة مع هذين القولين فالمتعين في بعضها القول الاول وفي بعضها الثاني وقد أشرنا إلى ذلك في ضمن الاقوال. ثم إن لهم اختلافا آخر في المخاطبين بقوله: " وما اوتيتم من العلم إلا قليلا " أهم اليهود أو قريش لو كانوا هم السائلين بتعليم من اليهود أو هم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغير النبي من الناس ؟ والانسب بالسياق أن يكون الخطاب متوجها إلى السائلين والكلام من تمام قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن السائلين هم اليهود لانهم كانوا معروفين يومئذ بالعلم وفي الكلام إثبات علم ما لهم دون قريش وكفار العرب وقد عبر تعالى عنهم في بعض كلامه (1) بالذين لا يعلمون. قوله تعالى: " ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا اليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا " الكلام متصل بما قبله فإن الاية السابقة وإن كانت متعرضة لامر مطلق الروح وهو ذو مراتب مختلفة إلا أن الذي ينطبق عليه منه بحسب سياق الايات السابقة المسوقة في أمر القرآن هو الروح السماوي النازل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الملقي إليه القرآن.


(1) سورگ البقرة 118. (*)

[ 201 ]

فالمعنى - والله أعلم - الروح النازل عليك الملقى بالقرآن اليك من أمرنا غير خارج من قدرتنا، وأقسم لئن شئنا لنذهبن بهذا الروح الذى هو كلمتنا الملقاة إليك ثم لا تجد أحدا يكون وكيلا به لك علينا يدافع عنك ويطالبنا به ويجبرنا على ردما أذهبنا به. وبذلك يظهر أولا ان المراد بالذى اوحينا إليك الروح الالهي الذى هي كلمة ملقاة من الله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حد قوله: " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا: الشورى: " 54. وثانيا: " أن المراد بالوكيل للمطالبة والرد لما أذهبه الله دون الوكيل في حفظ القرآن وتلاوته على ما فسره بعض المفسرين وهو مبني على تفسير قوله: " الذى أوحينا إليك " بالقرآن دون الروح النازل به كما قدمنا. قوله تعالى: " إلا رحمة من ربك أن فضله كان عليك كبيرا استثناء من محذوف يدل عليه السياق والتقدير فما اختصصت بما اختصصت به ولا اعطيت ما اعطيت من نزول الروح وملازمته إياك إلا رحمة من ربك: ثم علله بقوله: " إن فضله كان عليك كبيرا " وهو وارد مورد الامتنان. قوله تعالى: " قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " الظهير هو المعين مأخوذ من الظهر كالرئيس من الرأس وقوله: " بمثله " من وضع الظاهر موضع المضمر وضميره عائد إلى القرآن. وفي الاية تحد ظاهر وهي ظاهرة في أن التحدي بجميع ما للقرآن من صفات الكمال الراجعة إلى لفظه ومعناه لا بفصاحته وبلاغته وحدها فإن انضمام غير أهل اللسان إليهم لا ينفع في معارضه البلاغه شيئا وقد اعتنت الاية باجتماع الثقلين وإعانه بعضهم لبعض. على أن الاية ظاهرة في دوام التحدي وقد انقرضت العرب العرباء أعلام الفصاحة والبلاغه اليوم فلا أثر منهم والقرآن باق على إعجازه متحد بنفسه كما كان. قوله تعالى: " ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا

[ 202 ]

كفورا " تصريف الامثال ردها وتكرارها وتحويلها من بيان إلى بيان ومن اسلوب إلى اسلوب، والمثل هو وصف المقصود بما يمثله ويقربه من ذهن السامع و " من " في قوله: " من كل مثل " لابتداء الغاية والمراد من كل مثل يوضح لهم سبيل الحق ويمهد لهم طريق الايمان والشكر بقرينة قوله: " فأبى أكثر الناس إلا كفورا " والكلام مسوق للتوبيخ والملامة. وفى قوله: " أكثر الناس " وضع الظاهر موضع المضمر والاصل أكثرهم ولعل الوجه فيه الاشارة إلى أن ذلك مقتضى كونهم ناسا كما مر في قوله: " وكان الانسان كفورا " أسرى: 67. والمعنى واقسم لقد كررنا للناس في هذا القرآن من كل مثل يوضح لهم الحق ويدعوهم إلى الايمان بنا والشكر لنعمنا فأبى اكثر الناس إلا ان يكفروا ولا يشكروا. قوله تعالى: " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا - إلى قوله - كتابا نقرؤه " الفجر الفتح والشق وكذلك التفجير إلا انه يفيد المبالغة والتكثير، والينبوع العين التى لا ينضب ماؤها وخلال الشئ وسطه واثناؤه، والكسف جمع كسفة كقطع جمع قطعه وزنا ومعنى، والقبيل هو المقابل كالعشير والمعاشر والزخرف الذهب، والرقي الصعود والارتقاء. والايات تحكى الايات المعجزة التي اقترحتها قريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلقوا إيمانهم به عليها مستهينة بالقرآن الذي هو معجزة خالده. والمعنى " وقالوا " اي قالت قريش " لن نؤمن لك " يا محمد " حتى تفجر وتشق " لنا من الارض " ارض مكة لقلة مائها " ينبوعا " عينا لا ينضب ماؤها " أو تكون " بالاعجاز " لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الانهار " اي تشقها أو تجريها " خلالها " اي وسط تلك الجنة واثناءها " تفجيرا " " أو تسقط السماء كما زعمت اي مماثلا لما زعمت يشيرون (1) به إلى قوله تعالى: " أو نسقط عليهم كسفا من السماء: السبأ " 9 " علينا كسفا " وقطعا " أو تأتي بالله والملائكة قبيلا " مقابلا نعاينهم ونشاهدهم


(1) فالاية لا تخلو من دلالة على تقدم سورة سبأ على هذه السورة نزولا. (*)

[ 203 ]

" أو يكون لك بيت من زخرف " وذهب " أو ترقى " وتصعد " في السماء ولن نؤمن لرقيك " وصعودك " حتى تنزل علينا منها " كتابا نقرؤه " ونتلوه. قوله تعالى: " قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا " فيه امره صلى الله عليه وآله وسلم ان يجيب عما اقترحوه عليه وينبههم على جهلهم ومكابرتهم فيما لا يخفى على ذي نظر فإنهم سألوه امورا عظاما لا يقوى على اكثرها إلا القدرة الغيبية الالهية وفيها ما هو مستحيل بالذات كالاتيان بالله والملائكة قبيلا، ولم يرضوا بهذا المقدار ولم يقنعوا به دون ان جعلوه هو المسؤل المتصدي لذلك المجيب لما سألوه فلم يقولوا لن نؤمن لك حتى تسأل ربك ان يفعل كذا وكذا بل قالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر " الخ " أو تكون لك الخ " أو تسقط السماء " الخ " أو تأتي بالله " الخ " أو يكون لك " الخ " أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ". فإن أرادوا منه ذلك بما أنه بشر فأين البشر من هذه القدرة المطلقة غير المتناهية المحيطة حتى بالمحال الذاتي، وإن أرادوا منه ذلك بما أنه يدعى الرسالة فالرسالة لا تقتضي إلا حمل ما حمله الله من أمره وبعثه لتبليغه بالانذار والتبشير لا تفويض القدرة الغيبية إليه وإقداره أن يخلق كل ما يريد، ويوجد كل ما شاؤا، وهو صلى الله عليه وآله وسلم لا يدعي لنفسه ذلك فاقتراحهم ما اقترحوه مع ظهور الامر من عجيب الاقتراح. ولذلك أمره صلى الله عليه واله وسلم أن يبادر في جوابهم أولا إلى تنزيه ربه مما يلوح إليه اقتراحهم هذا من المجازفة وتفويض القدرة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يبعد أن يستفاد منه التعجب فالمقام صالح لذلك. وثانيا: " إلى الجواب قوله في صورة الاستفهام: " هل كنت إلا بشرا رسولا وهو يؤيد كون قوله: " سبحان ربي " واقعا موقع التعجب أي إن كنتم اقترحتم على هذه الامور وطلبتموها مني بما أنا محمد فإنما أنا بشر ولا قدره للبشر على شئ من هذه الامور، وإن كنتم اقترحتموها لاني رسول أدعي الرسالة فلا شأن للرسول إلا حمل الرسالة وتبليغها لا تقلد القدرة الغيبيه المطلقة. وقد ظهر بهذا البيان أن كلا من قوله: " بشرا " و " رسولا " دخيل في استقامة الجواب عن اقتراحهم أما قوله: " بشرا " فليرد به اقتراحهم عليه أن يأتي بهذه

[ 204 ]

الايات عن قدرته في نفسه وأما قوله: " رسولا " فليرد به اقتراح ايتائها عن قدرة مكتسبة من ربه. وذكر بعضهم ما محصله أن معتمد الكلام هو قوله: " رسولا " وقوله: " بشرا " توطئة له ردا لما أنكروه من جواز كون الرسول بشرا، ودلالة على أن من قبله من الرسل كانوا كذلك، والمعنى على هذا هل كنت الا بشرا رسولا كسائر الرسل وكانوا لا يأتون الا بما أجراه على أيديهم من غير أن يفوض إليهم أو يتحكموا على ربهم بشئ. قال: وجعل " بشرا " و " رسولا " كليهما معتمدين مخالف لما يظهر من الاثار أولا فإن الذي ورد في الاثار أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسال ربه أن يفعل كذا وكذا، ولم يسألوه أن يأتيهم بشئ من قبل نفسه حتى يشار إلى رده بإثبات بشريته، ومستلزم لكون رسولا خبرا بعد خبر وكونهما خبرين لكان يأباه الذوق السليم. انتهى محصلا. وفيه أولا: أن أخذ قوله: " بشرا " ردا على زعمهم عدم جواز كون الرسول بشرا مع عدم اشتمال الايات على مزعمتهم هذه لا تصريحا ولا تلويحا تحميل من غير دليل. وثانيا: " أن الذي ذكره في معنى الاية " هل كنت الا بشرا رسولا كسائر الرسل وكانوا لا يأتون إلا كذا وكذا معتمد الكلام فيه هو التشبيه الذى في قوله: " كسائر الرسل " لا قوله " رسولا " وفي حذف معتمد الكلام إفساد السياق فافهم ذلك. وثالثا: أن اشتمال الاثار على أنهم انما سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسأل ربه الاتيان بتلك الايات من غير أن يسألوه نفسه أن يأتي بها، لا يعارض نص الكتاب بخلافه، والذى حكاه الله عنهم أنهم قالوا: لن نؤمن لك حتي تفجر لنا " الخ " فتفجر الانهار " الخ " أو تسقط السماء " الخ " وهذا من عجيب المغالاة في حق الاثار وتحكيمها على كتاب الله وتقديمها عليه حتى في صورة المخالفة. ورابعا: أن اباء الذوق السليم عن تجويز كون " رسولا " خبرا بعد خبر لا يظهر له وجه. قوله تعالى: " وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جائهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا "

[ 205 ]

الاستفهام في قوله: " أبعث الله بشرا رسولا " للانكار، وجملة " قالوا أبعث الله " الخ " حكاية حالهم بحسب الاعتقاد وان لم يتكلموا بهذه الكلمة بعينها. وانكار النبوة والرسالة مع اثبات الاله من عقائد الوثنية وهذه قرينة على أن المراد بالناس الوثنيون والمراد بالايمان الذي منعوه هو الايمان بالرسول. فمعنى الاية وما منع الوثنيين - وكانت قريش وعامة العرب يومئذ منهم - أن يؤمنوا بالرسالة أو - برسالتك - إلا إنكارهم لرسالة البشر، ولذلك كانوا يردون على رسلهم دعوتهم - كما حكاه الله - بمثل قولهم: " لو شاء ربنا لانزل ملائكة فإنا بما ارسلتم به كافرون: حم السجدة: 14. قوله تعالى: " قل لو كان في الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا " أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرد عليهم قولهم وإنكارهم لرسالة البشر ونزول الوحي بأن العناية الالهية قد تعلقت بهداية أهل الارض ولا يكون ذلك إلا بوحي سماوي لا من عند أنفسهم فالبشر القاطنون في الارض لا غنى لهم عن وحي سماوي بنزول ملك رسول إليهم ويختص بذلك نبيهم. وهذه خاصة الحياة الارضية والعيشة المادية المفتقرة إلى هداية إلهية لا سبيل إليها إلا بنزول الوحي من السماء حتى لو أن طائفة من الملائكة سكنوا الارض وأخذوا يعيشون عيشة أرضية مادية لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا كما ننزل على البشر ملكا رسولا. والعناية في الاية الكريمة. كما ترى - متعلقة بجهتين إحداهما كون الحيأه أرضية مادية والاخرى كون الهداية الواجبة بالعناية الالهية بوحي نازل من السماء برسالة ملك من الملائكة. والامر على ذلك، فهاتان الجهتان أعني كون حياة النوع أرضية مادية ووجوب هدايتهم بواسطة سماوية وملك علوي هما المقدمتان الاصليتان في البرهان على وجود الرسالة ولزومها. وأما ما أصر عليه المفسرون من تقييد معنى الاية بوجوب كون الرسول من جنس

[ 206 ]

المرسل إليهم ومن أنفسهم كالانسان للانسان والملك للملك فليس بتلك الاهمية ولذلك لم يصرح به في الاية الكريمة. وذلك أن كون الرسول إلى البشر وهو الذى يعلمهم ويربيهم من أنفسهم من لوازم كون حياتهم أرضية وكون الوحي النازل عليهم بواسطة الملك السماوي فإن اختلاف أفراد النوع المادية بالسعادة والشقاء والكمال والنقص وطهارة الباطن وقذارته ضروري والملك الملقي للوحي وما تحمله منه طاهر زكي لا يمسه الا المطهرون، فالملك النازل بالوحي وان نزل على النوع لكن لا يمسه الا آحاد منهم مطهرون من قذارات المادة وألواثها مقدسون من مس الشيطان وهم الرسل صلى الله عليه وآله وسلم. وتوضيح المقام: أن مقتضى العناية الالهية هداية كل نوع من أنواع الخليقة إلى كماله وسعادته، والانسان الذي هو أحد هذه الانواع غير مستثنى من هذه الكلية، ولا تتم سعادته في الحياة إلا بأن يعيش عيشة اجتماعية تحكم فيها قوانين وسنن تضمن سعادة حياته في الدنيا وبعدها وترفع الاختلافات الضرورية الناشئة بين الافراد، وإذ كانت حياته حياة شعورية فلا بد أن يجهز بما يتلقى به هذه القوانين والسنن ولا يكفي في ذلك ما جهز به من العقل المميز بين خيره وشره فإن العقل بعينه يهديه إلى الاختلاف فلا بد أن يجهز بشعور آخر يتلقى به ما يفيضه الله من المعارف والقوانين الرافعة للاختلاف الضامنة لسعادته وكماله وهو شعور الوحي والانسان المتلبس به هو النبي. وهذا برهان عقلي تام مأخوذ من كلامه وقد أوردناه وفصلنا القول فيه في مباحث النبوة من الجزء الثاني وفي ضمن قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب. وأما الاية التي نحن فيها أعني قوله: " قل لو كان في الارض ملائكة " الخ فإنها تزيد على مر من معنى البرهان بشئ وهو أن القاء الوحي إلى البشر يجب أن يكون بنزول ملك من السماء إليهم. وذلك أن محصل مضمون الاية وما قبلها هو أن الذي يمنع الناس أن يؤمنوا برسالتك أنهم يحيلون رسالة البشر من جانب الله سبحانه. وقد أخطئوا في ذلك

[ 207 ]

فإن مقتضى الحياة الارضية وعناية الله بهداية عبادة إن ينزل إلى بعضهم ملكا من السماء رسولا حتى أن الملائكة لو كانوا كالانسان عائشين في الارض لنزل الله إلى بعضهم وهو رسولهم ملكا من السماء رسولا حاملا لوحيه. وهذا كما ترى يعطي أولا: معنى الرسالة البشرية وهو أن الرسول انسان ينزل عليه ملك من السماء بدين الله ثم هو يبلغه الناس بأمر الله. ويشير ثانيا: إلى برهان الرسالة أن حياة الانسان الارضية والعناية الربانية متعلقة بهداية عباده وإيصالهم إلى غاياتهم لا غنى لها عن نزول دين سماوي عليهم، والملائكة وسائط نزول البركات السماوية إلى الارض فلا محالة ينزل الدين على الناس بوساطة الملك وهو رسالته، والذي يشاهده ويتلقى ما ينزل به - ولا يكون إلا بعض الناس لا جميعهم لحاجته إلى طهارة باطنية وروح من أمر الله - هو الرسول البشرى. وكان المترقب من السياق أن يقال: " لبعث الله فيهم ملكا رسولا " بحذاء قولهم المحكي في الاية السابقة: " أبعث الله بشرا رسولا " لكنه عدل إلى مثل قوله: لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا " ليكون أولا أحسم للشبهة وأقطع للتوهم فإن عامة الوثنيين من البرهمانية والبوذية والصابئة كما يشهد به ما في كتبهم المقدسة لا يتحاشون ذاك التحاشي عن النبوة بمعنى انبعاث بشر كامل لتكميل الناس ويعبرون عنه بظهور المنجي أو المصلح ونزول الاله إلى الارض وظهوره على أهلها في صورة موجود أرضي وكان بوذه ويوذاسف - على ما يقال - منهم والمعبود عندهم على أي حال هو الملك أو الجن أو الانسان المستغرق فيه دون الله سبحانه. وإنما يمتنعون كل الامتناع عن رسالة الملك وهو من الالهة المعبودين عندهم إلى البشر بدين يعبد فيه الله وحده وهو اله غير معبود عندهم ففي التصريح برسالة الملك السماوي إلى البشر الارضي من عند الله النص على كمال المخالفة لهم. وليكون ثانيا اشارة إلى أن رسالة الملك بالحقيقة إلى عامة الانسان غير أن الذى يصلح لتلقى الوحى منه هو الرسول منهم، وأما غيره فهم محرومون عن ذلك لعدم استعدادهم لذلك فالفيض عام وان كان المستفيض خاصا قال تعالى: " وما كان عطاء ربك محظورا " أسرى: 20 وقال: قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما اوتى

[ 208 ]

رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته " الانعام: 124. والاية بما تعطي من معنى الرسالة يؤيد ما ورد عن أئمه أهل البيت عليه السلام في الفرق بين الرسول والنبى أن الرسول هو الذى يرى الملك ويسمع منه، والنبى يرى المنام ولا يعاين، وقد أوردنا بعض هذه الاخبار في خلال ابحاث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب. ومن ألطف التعبير في الاية وأوجزه تعبيره عن الحياة الارضية بقوله " في الارض ملائكه يمشون مطمئنين " فإن الانتقال المكاني على الارض مع الوقوع تحت الجاذبة الارضية من أوضح خواص الحياة المادية الارضية. قوله تعالى: " قل كفى بالله شهيدا بينى وبينكم انه كان بعباده خبيرا بصيرا لما احتج عليهم بما احتج وبين لهم ما بين في أمر معجزة رسالته وهي القرآن الذي تحدى به وهم على عنادهم وجحودهم وعنتهم لا يعتنون به ويقترحون عليه بامور جزافية اخرى ولا يحترمون لحق ولا ينقطعون عن باطل أمر أن يرجع الامر إلى شهادة الله فهو شهيد بما وقع منه ومنهم فقد بلغ ما ارسل به ودعا واحتج وأعذر وقد سمعوا وتمت عليهم الحجة واستكبروا وعتوا فالكلام في معنى اعلام قطع المحاجة وترك المخاصمة ورد الامر إلى مالك الامر فليقض ما هو قاض. وقيل المراد بالاية الاستشهاد بالله سبحانه على حقية الدعوة وصحة الرسالة كأنه يقول: كفانى حجة أن الله شهيد على رسالتي فهذا كلامه يصرح بذلك فإن قلتم: ليس بكلامه بل مما افتريته فأتوا بمثله ولن تأتوا بمثله ولو كان الثقلان أعوانا لكم وأعضادا يمدونكم. وهذا في نفسه جيد غير أن ذيل الاية كما قيل لا يلائمه أعني قوله: " بينى وبينكم " وقوله: " إنه كان بعباده خبيرا بصيرا " بل كان الاقرب أن يقال شهيدا لي عليكم أو على رسالتي أو نحو ذلك. وهذه الاية والايتان قبلها مسجعة بقوله: " رسولا " وهو المورد الوحيد في القرآن الذي اتفقت فيه ثلاث آيات متوالية في سجع واحد على ما نذكر.

[ 209 ]

قوله تعالى: " ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه " الخ هو - على ما يشعر به السياق - من تتمة الخطاب الاخير للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: " قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم " فهو كناية عن أنه تمت عليهم الحجة وحقت عليهم الضلالة فلا مطمع في هدايتهم. ومحصل المعنى: خاطبهم باعلام قطع المحاجة فإن الهداية لله تعالى لا يشاركه فيها أحد فمن هداه فهو المهتدي لا غير ومن أضله ولم يهده فلن تجد يا محمد له أولياء من دونه يهدونه والله لا يهدي هؤلاء فانقطع عنهم ولا تكلف نفسك في دعوتهم رجاء أن يؤمنوا. ومن هنا يظهر أن قول بعضهم: أن الاية كلام مبتدء غير داخل في حيز " قل " في غير محله. وإنما أتى بأولياء بصيغة الجمع مع كون المفرد أبلغ وأشمل إشارة إلى أنه لو كان له ولي من دون الله لكان ذلك إما آلهتهم وهي كثيرة واما سائر الاسباب الكونية وهي أيضا كثيرة. وفي قوله: " ومن يهد الله فهو المهتد " الخ التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة فقد كان السياق سياق التكلم بالغير ولعل الوجه فيه أنه لو قيل: ومن نهد ومن نضلل على التكلم بالغير أو هم تشريك الملائكة في أمر الهداية والاضلال فأوهم التناقض في قوله: " فلن تجد له أولياء من دونه " فإن الاولياء عندهم الملائكة وهم يتخذونهم آلهة ويعبدونهم. قوله: " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم " إلى آخر الايتين العمي والبكم والصم جمع أعمى وأبكم وأصم وخبو النار وخبوها سكون لهبها، والسعير لهب النار، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والارض قادر على أن يخلق مثلهم إلى آخر الاية، الكفور الجحود احتجاج منه تعالى على البعث بعد الموت فقد كان قولهم " ءاذا كنا عظاما ورفاتا ءإنا لمبعوثون خلقا جديدا استبعادا مبنيا على إحالة أن يعود هذا البدن الدنيوي بعد تلاشيه وصيرورته عظاما ورفاتا إلى ما كان

[ 210 ]

عليه بخلق جديد فاحتج عليهم بأن خلق البدن أولا يثبت القدرة عليه وعلى مثله الذي هو الخلق الجديد للبعث فحكم الامثال واحد. فالمماثلة إنما هي من جهة مقايسة البدن الجديد من البدن الاول مع قطع النظر عن النفس التي هي الحافظة لوحدة الانسان وشخصيته ولا ينافي ذلك كون الانسان الاخروي عين الانسان الدنيوي لا مثله لان ملاك الوحدة والشخصية هي النفس الانسانية وهي محفوظة عند الله سبحانه غير باطلة ولا معدومة، وإذا تعلقت بالبدن المخلوق جديدا كان هو الانسان الدنيوي كما أن الانسان في الدنيا واحد شخصي باق على وحدته الشخصية مع تغير البدن بجميع أجزائه حينا بعد حين. والدليل على أن النفس التي هي حقيقة الانسان محفوظة عند الله مع تفرق أجزاء البدن وفساد صورته قوله تعالى: " وقالوا ءإذا ضللنا في الارض ءإنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم " الم السجدة: 11 حيث استشكلوا في المعاد بأنه تجديد للخلق بعد فناء الانسان بتفرق أجزاء بدنه فاجيب عنه بأن ملك الموت يتوفى الانسان ويأخذه تاما كاملا فلا يضل ولا يتلاشى وإنما الضال بدنه ولا ضير في ذلك فإن الله يجدده. والدليل على أن الانسان المبعوث هو عين الانسان الدنيوي لا مثله جميع آيات القيامة الدالة على رجوع الانسان إليه تعالى وبعثه وسؤاله وحسابه ومجازاته بما عمل. فهذا كله يشهد على أن المراد بالمماثلة ما ذكرناه، وإنما تعرض لامر البدن حتى ينجر إلى ذكر المماثلة محاذاة لمتن ما استشكلوا به من قولهم: " ءإذا كنا عظاما ورفاتا ءإنا لمبعوثون خلقا جديدا " فلم يضمنوا قولهم إلا شؤون البدن لا النفس المتوفاة منه، وإذا قطع النظر عن النفس كان البدن مماثلا للبدن، وإن كان مع اعتبارها عينا. وذكر بعضهم: أن المراد بمثلهم نفسهم فهو من قبيل قولهم مثلك لا يفعل هذا أي أنت لا تفعله. وللمناقشة إليه سبيل والظاهر أن العناية في هذا التركيب أن مثلك لاشتماله على مثل ما فيك من الصفة لا يفعل هذا فأنت لا تفعله لمكان صفتك ففيه نفي الفعل بنفي سببه على سبيل الكناية، وهو آكد من قولنا: أنت لا تفعله. وقوله: " وجعل لهم أجلا لا ريب فيه الظاهر أن المراد بالاجل هو زمان الموت

[ 211 ]

فإن الاجل إما مجموع مدة الحياة الدنيا وهي محدودة بالموت وإما آخر زمان الحياة ويقارنه الموت وكيف كان فالتذكير بالموت الذي لا ريب فيه ليعتبروا به ويكفوا عن الجرأة على الله وتكذيب آياته فهو قادر على بعثهم والانتقام منهم بما صنعوا. فقوله: " وجعل لهم أجلا لا ريب فيه " ناظر إلى قوله في صدر الاية السابقة: " ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا فهو نظير قوله: " والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يشعرون - إلى أن قال أو لم ينظروا في ملكوت السموات والارض - إلى أن قال - وان عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون " الاعراف: 185. وجوز بعضهم أن يكون المراد بالاجل هو يوم القيامة وهو لا يلائم السياق فإن سابق الكلام يحكي إنكارهم للبعث ثم يحتج عليهم بالقدرة فلا يناسبه أخذ البعث مسلما لا ريب فيه. ونظيره تقرير بعضهم قوله: " وجعل لهم أجلا لا ريب فيه " حجة أخرى مسوقة لاثبات يوم القيامة على كل من تقديري كون المراد بالاجل هو يوم الموت أو يوم القيامة وهو تكلف لا يعود إلى جدوى البتة فلا موجب للاشتغال به. قوله تعالى: " قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لامسكتم خشية الانفاق وكان الانسان قتورا " فسر القتور بالبخيل المبالغ في الامساك وقال في المجمع: القتر التضييق والقتور فعول منه للمبالغة ويقال: قتر يقتر وتقتر وأقتر وقتر إذا قدر في النفقة. انتهى. وهذا توبيخ لهم على منعهم رسالة البشر المنقول عنهم سابقا بقوله: " وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله ملكا رسولا " ومعنى الاية ظاهر. بحث روائي في تفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنما الشفاء في علم

[ 212 ]

القرآن لقوله: " ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين الحديث. وفي الكافي بإسناده عن سفيان بن عيينة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال: النية أفضل من العمل إلا وإن النية هي العمل ثم قرء قوله عزوجل: " قل كل يعمل على شاكلته " يعنى على نيته. أقول: وقوله: إن النية هي العمل يشير إلى اتحادهما اتحاد العنوان ومعنونه. وفيه بإسناده عن أبي هاشم قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إنما خلد أهل النار في النار لان نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا، وإنما خلد أهل الجنة في الجنة لان نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء. ثم تلا قوله تعالى: " قل كل يعمل على شاكلته قال: على نيته. اقول: إشارة إلى رسوخ الملكات بحيث يبطل في النفس استعداد ما يقابلها وروي الرواية العياشي أيضا في تفسيره عن أبى هاشم عنه عليه السلام. وفي الدر المنثور ": في قوله تعالى: " يسألونك عن الروح " الاية أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن المنذر وابن حبان وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل فقالوا: سلوه عن الروح فسألوه فنزلت: " يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما اوتيتم من العلم إلا قليلا " قالوا: أوتينا علما كثيرا اوتينا التوراة ومن اوتي التوراة فقد اوتي خيرا كثيرا فأنزل الله: " قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى ولو جئنا بمثله مددا ". اقول: وروى بطرق أخرى عن عبد الله بن مسعود وعن عبد الرحمان بن عبد الله ابن ام الحكم أن السؤال إنما كان من اليهود بالمدينة وبها نزلت الاية وكون السورة مكية واتحاد سياق آياتها لا يلائم ذلك. وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن الانباري في كتاب الاضداد وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الاسماء والصفات عن علي بن أبي طالب في قوله:

[ 213 ]

" ويسألونك عن الروح " قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه منها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها يخلق الله تعالى من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة اقول: كون الروح من الملائكة لا يوافق ظاهر عدة من آيات الكتاب كقوله: " ينزل الملائكة بالروح من أمره " النحل: وغيره من الايات، وقد تقدم في ذيل قوله تعالى: " ينزل الملائكة بالروح من أمره " من سورة النحل حديث على عليه السلام وفيه إنكاره أن يكون الروح ملكا واحتجاجه على ذلك بالاية فالعبرة في أمر الروح بما يأتي. وفي الكافي بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل: يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى " قال: خلق أعظم من جبرائيل وميكائيل كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مع الائمة وهو من الملكوت. اقول: وفي معناه روايات أخر، والرواية توافق ما تقدم توضيحه من مدلول الايات. وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران عن أبى جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام عن قوله " يسألونك عن الروح قال: إن الله تبارك وتعالى أحد صمد والصمد الشئ الذى ليس له جوف فإنما الروح خلق من خلقه له بصر وقوة وتأييد يجعله في قلوب الرسل والمؤمنين. اقول: وإنما تعرض في صدر الرواية بما تعرض دفعا لما يتوهم من مثل قوله تعالى: " ونفخت فيه من روحي " أن هناك جوفا ونفسا منفوخا. وفيه عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته عن قوله: " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي " ما الروح ؟ قال: التي في الدواب والناس قلت: وما هي ؟ قال: من الملكوت من القدرة. أقول: وهذه الروايات تؤيد ما تقدم في بيان الاية أن الروح المسؤول عنه حقيقة وسيعة ذات مراتب مختلفة، وأيضا ظاهر هذه الرواية كون الروح الحيواني مجردا من الملكوت.

[ 214 ]

وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وإبن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ورجلا من بنى عبد الدار وأبا البحترى أخا بني أسد والاسود بن المطلب وربيعة بن الاسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي امية وامية بن خلف والعاص بن وائل ونبيها ومنبها ابني الحجاج السهميين أجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه. فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سريعا وهو يظن أنهم قد بدا لهم في أمره بدء، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم. فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذرك وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الابآء، وعبت الدين، وسفهت الاحلام وشتمت الالهة وفرقت الجماعة فما بقي من قبيح الا وقد جئت فيما بيننا وبينك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من اموالنا حتى تكون اكثرنا مالا، وإن كنت تطلب الشرف فينا سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي - فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه ونعذر فيك فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا فيئكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا. وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فان تقبلوا منى ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والاخرة وان تردوه علي أصبر لامر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم. فقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا ولا أقل مالا ولا أشد عيشا منا فأسأل ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من قد مضى من آبائنا وليكن فيمن

[ 215 ]

يبعث لنا منهم قصى بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل ؟ فإن صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله وأنه بعثك رسولا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به فقد بلغتكم ما ارسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والاخرة، وإن تردوه على أصبر لامر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم. قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا فخر لنفسك فاسأل ربك أن يبعث ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وتسأله أن يجعل لك جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة ويغنيك بها عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالاسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت اليكم بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والاخرة وان تردوه علي أصبر لامر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم. قالوا: فاسقط السماء كما زعمت أن ربك ان شاء فعل فإنا لن نؤمن لك الا أن تفعل فقال رسول الله ذلك إلى الله ان شاء فعل بكم ذلك. قالوا: يا محمد قد علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب فيتقدم اليك ويعلمك ما تراجعنا به ويخبرك بما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمان وإنا والله لن نؤمن بالرحمان أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمد أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا، وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا. فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهم وقام معهم عبد الله بن أبي امية فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لانفسهم امورا ليعرفوا بها منزلتك عند الله فلم تفعل ذلك ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب فو الله ما

[ 216 ]

اؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتى معك بنسخة منشورة معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لا اصدقك. ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهله حزينا أسفا لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه ولما رآى من متابعتهم إياه وأنزل عليه فيما قال له عبد الله بن أبي أميه: " وقالوا لن نؤمن لك - إلى قوله - بشرا رسولا الحديث. أقول: وألذي ذكر في الروايي من محاورتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسؤالاتهم لا ينطبق على ظاهر الايات ولا ما فيها من الجواب على ظاهر ما فيها من الجواب. وقد تقدمت الاشارة إلى ذلك في بيان الايات. وقد تكررت الرواية من طرق الشيعة وأهل السنة أن الذي القى إليه صلى الله عليه وآله وسلم القول من بين القوم وسأله هذه المسائل هو عبد الله بن أبي أمية المخزومى أخو ام سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفى الدر المنثور: في قوله تعالى: " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم " أخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وأبو نعيم في المعرفة وابن مردويه والبيهقي في الاسماء والصفات عن انس قال: قيل: يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم ؟ قال: الذى أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيه على وجوههم أقول: وفي معناه روايات أخر. * * * ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فسئل بني اسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لا ظنك يا موسى مسحورا (101).

[ 217 ]

قال لقد علمت ما أنزل هولاء إلا رب السموات والارض بصائر وإنى لا ظنك يا فرعون مثبورا (102). فأراد أن يستفزهم من الارض فأغرقناه ومن معه جميعا (103). وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الارض فإذا جاء وعد الاخرة جئنا بكم لفيفا (104). وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك الا مبشرا ونذيرا (105). وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا (106). قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للاذقان سجدا (107). ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا (108). ويخرون للاذقان يبكون ويزيدهم خشوعا (109). قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الاسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا (110). وقل الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا (111). بيان في الايات تنظير ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من معجزة النبوة وهو القرآن وإعراض المشركين عنه واقتراحهم آيات اخرى جزافيه بما جاء به موسى عليه السلام من آيات النبوة وإعراض فرعون عنها ورميه إياه بأنه مسحور ثم عود إلى وصف القرآن والسبب في نزوله مفرقة أجزاؤه وما يلحق بها من المعارف.

[ 218 ]

قوله تعالى: " ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فسئل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إنى لا ظنك يا موسى مسحورا " الذي اوتي موسى عليه السلام من الايات على ما يقصه القرآن أكثر من تسع غير أن الايات التى أتى بها لدعوة فرعون فيما يذكره القرآن تسع وهي: العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفدع والدم والسنون ونقص من الثمرات فالظاهر أنها هي المرادة بالايات التسع المذكورة في الاية وخاصة مع ما فيها من محكى قول موسى لفرعون: " لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والارض بصائر " وأما غير هذه الايات كالبحر والحجر وإحياء المقتول بالبقرة وإحياء من أخذته الصاعقة من قومه ونتق الجبل فوقهم وغير ذلك فهي خارجة عن هذه التسع المذكورة في الاية. ولا ينافي ذلك كون الايات إنما ظهرت تدريجا فإن هذه المحاورة مستخرجة من مجموع ما تخاصم به موسى وفرعون طول دعوته. فلا عبرة بما ذكره بعض المفسرين مخالفا لما عددناه لعدم شاهد عليه وفي التوراة أن التسع هي العصا والدم والضفادع والقمل وموت البهائم وبرد كنار أنزل مع نار مضطرمة أهلكت ما مرت به من نبات وحيوان والجراد والظلمة وموت عم كبار الادميين وجميع الحيوانات. ولعل مخالفة التوراة لظاهر القرآن في الايات التسع هي الموجبة لترك تفصيل الايات التسع في الاية ليستقيم الامر بالسؤال من اليهود لانهم مع صريح المخالفة لم يكونوا ليصدقوا القرآن بل كانوا يبادرون إلى التكذيب قبل التصديق. وقوله: " إنى لا ظنك يا موسى مسحورا " أي سحرت فاختل عقلك وهذا في معنى قوله المنقول في موضع آخر: " إن رسولكم الذى أرسل إليكم لمجنون " الشعراء: 27 وقيل المراد بالمسحور الساحر نظير الميمون والمشؤم بمعنى اليامن والشائم وأصله استعمال وزن الفاعل في النسبة ومعنى الاية ظاهر. قوله تعالى: " قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والارض بصائر وإني لا ظنك يا فرعون مثبورا " المثبور الهالك وهو من الثبور بمعنى الهلاك والمعنى قال موسى مخاطبا لفرعون: لقد علمت يا فرعون ما أنزل هؤلاء الايات البينات إلا رب

[ 219 ]

السموات والارض أنزلها بصائر يتبصر بها لتمييز الحق من الباطل وإني لا ظنك يا فرعون هالكا بالاخرة لعنادك وجحودك. وإنما أخذ الظن دون اليقين لان الحكم لله وليوافق ما في كلام فرعون: " وإنى لاظنك يا موسى " الخ ومن الظن ما يستعمل في مورد اليقين. قوله تعالى: " فأراد أن يستفزهم من الارض فأغرقناه ومن معه جميعا " الاستفزاز الازعاج والاخراج بعنف، ومعنى الاية ظاهر. قوله تعالى وقلنا من بعده لبنى اسرائيل اسكنوا الارض فإذا جاء وعد الاخرة جئنا بكم لفيفا " المراد بالارض التي أمروا أن يسكنوها هي الارض المقدسة التي كتبها الله لهم بشهادة قوله: ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم " المائدة: 21، وغير ذلك كما أن المراد بالارض في الاية السابقة مطلق الارض أو أرض مصر بشهادة السياق. وقوله: " فإذا جاء وعد الاخرة أي وعد الكرة الاخرة أو الحياة الاخرة والمراد به على ما ذكره المفسرون يوم القيامة، وقوله: " جئنا بكم لفيفا " أي مجموعا ملفوفا بعضكم ببعض. والمعنى: وقلنا من بعد غرق فرعون لبني إسرائيل اسكنوا الارض المقدسة - وكان فرعون يريد أن يستفزهم من الارض - فإذا كان يوم القيامة جئنا بكم ملتفين مجتمعين للحساب وفصل القضاء. وليس ببعيد أن يكون المراد بوعد الاخرة ما ذكره الله سبحانه في أول السورة فيما قضى إلى بنى إسرائيل بقوله: فإذا جاء وعد الاخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا " وإان لم يذكره جمهور المفسرين فينعطف بذلك ذيل الكلام في السورة إلى صدره، ويكون المراد أنا أمرناهم بعد غرق فرعون ان اسكنوا الارض المقدسة التي كان يمنعكم منها فرعون والبثوا فيها حتى إذا جاء وعد الاخرة التى يلتف بكم فيها البلاء بالقتل والاسر والجلاء جمعناكم منها وجئنابكم لفيفا، وذلك أسارتهم وإجلاؤهم إلى بابل.

[ 220 ]

ويتضح على هذا الوجه نكتة تفرع قوله: " فإذا جاء وعد الاخرة " الخ على قوله: " وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الارض " على خلاف الوجه السابق الذي لا يترتب فيه على التفريع نكتة ظاهرة. قوله تعالى: " وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا " لما فرغ من التنظير رجع إلى ما كان عليه من بيان حال القرآن وذكر أوصافه فذكر أنه أنزله انزالا مصاحبا للحق وقد نزل هو من عنده نزولا مصاحبا للحق فهو مصون من الباطل من جهة من أنزله فليس من لغو القول وهذره ولا داخله شئ يمكن أن يفسده يوما ولا شاركه فيه أحد حتى ينسخه في وقت من الاوقات وليس النبي صلى الله عليه وآله وسلم الا رسولا منه تعالى يبشر به وينذر وليس له أن يتصرف فيه بزيادة أو نقيصة أو يتركه كلا أو بعضا باقتراح من الناس أو هوى من نفسه أو يعرض عنه فيسأل الله آية أخرى فيها هواه أو هوى الناس أو يداهنهم فيه أو يسامحهم في شئ من معارفه وأحكامه كل ذلك لانه حق صادر عن مصدر حق، وماذا بعد الحق الا الضلال. فقوله: " وما أرسلناك " الخ متمم للكلام السابق، ومحصله أن القرآن آية حقة ليس لاحد أن يتصرف فيه شيئا من التصرف والنبي وغيره في ذلك سواء. قوله تعالى: وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا " معطوف على ما قبله أي أنزلناه بالحق وفرقناه قرآنا، قال في المجمع: معنى فرقناه فصلناه ونزلناه آية آية وسورة سورة ويدل عليه قوله: " على مكث " والمكث - بضم الميم - والمكث - بفتحها - لغتان. انتهى. فاللفظ بحسب نفسه يعم نزول المعارف القرآنية التي هي عند الله في قالب الالفاظ والعبارات التي لا تتلقى الا بالتدريج ولا تتعاطى الا بالمكث والتؤدة ليسهل على الناس تعقله وحفظه على حد قوله " انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وانه في أم الكتاب لدينا لعلى حكيم " الزخرف: 4. ونزول الايات القرآنية نجوما مفرقة سورة سورة وآية آية بحسب بلوغ الناس فة استعداد تلقي المعارف الاصلية للاعتقاد والاحكام الفرعية للعمل واقتضاء المصالح ذلك ليقارن العلم العمل ولا يجمح عنه طباع الناس بأخذ معارفه وأحكامه واحدا بعد

[ 221 ]

واحد كما لو نزل دفعة وقد نزلت التوراة دفعة فلم يتلقها اليهود بالقبول الا بعد نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة. لكن الاوفق بسياق الايات السابقة وفيها مثل قولهم المحكي: " حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه " الظاهر في اقتراح نزول القرآن دفعة هو أن يكون المراد بتفريق القرآن انزاله سورة سورة وآية آية حسب تحقق أسباب النزول تدريجا وقد تكرر من الناس اقتراح أن ينزل القرآن جملة واحدة كما في: " وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة " الفرقان " 32، وقوله حكاية عن أهل الكتاب: " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء " النساء: 153. ويؤيده تذييل الاية بقوله: " ونزلناه تنزيلا " فإن التنزيل وهو انزال الشئ تدريجا أمس بالاعتبار الثاني منه بالاول. ومع ذلك فالاعتبار الثاني وهو تفصيل القرآن وتفريقه بحسب النزول بانزال بعضه بعد بعض من دون أن ينزل جملة واحدة يستلزم الاعتبار الاول وهو تفصيله وتفريقه إلى معارف وأحكام متبوعة مختلفه بعدما كان الجميع مندمجة في حقيقة واحده منطوية مجتمعة الاعراق في أصل واحد فارد. ولذلك فصل الله سبحانه كتابه سورا وآيات بعدما البسه لباس اللفظ العربي ليسهل على الناس فهمه كما قال: " لعلكم تعقلون " ثم نوعها انواعا ورتبها ترتيبا فنزلها واحدة بعد واحدة عند قيام الحاجة إلى ذلك وعلى حسب حصول استعدادات الناس المختلفة وتمام قابليتهم بكل واحد منها وذلك في تمام ثلاث وعشرين سنة ليشفع التعليم بالتربية ويقرن العلم بالعمل. وسنعود إلى البحث عن بعض ما يتعلق بالاية والسورة في كلام مستقل ان شاء الله تعالى. قوله تعالى: " قل آمنوا به أو لا تؤمنوا " إلى آخر الايات الثلاث، المراد بالذين اوتوا العلم من قبله هم الذين تحققوا بالعلم بالله وآياته من قبل نزول القرآن سواء كانوا من اليهود أو النصارى أو غيرهم فلا موجب للتخصيص اللهم الا ان يقال: ان السياق

[ 222 ]

يفيد كون هؤلاء من اهل الحق والدين غير المنسوخ يومئذ هو دين المسيح عليه السلام فهم أهل الحق من علماء النصرانية الذين لم يزيغوا ولم يبدلوا. وعلى أي حال المراد من كونهم اوتوا العلم من قبله أنهم استعدوا لفهم كلمه الحق وقبولها لتجهزهم بالعلم بحقيقة معناه وايراثه اياهم وصف الخشوع فيزيدهم القرآن المتلو عليهم خشوعا. وقوله: " يخرون للاذقان سجدا الاذقان جمع ذقن وهو مجمع اللحيين من الوجه، والخرور للاذقان السقوط على الارض على أذقانهم للسجدة كما يبينه قوله: " سجدا " وانما اعتبرت الاذقان لان الذقن أقرب أجزاء الوجه من الارض عند الخرور عليها للسجدة، وربما قيل: المراد بالاذقان الوجوه اطلاقا للجزء على الكل مجازا. وقوله: " ويقولون سبحان ربنا ان كان وعد ربنا لمفعولا: اي ينزهونه تعالى عن كل نقص وعن خلف الوعد خاصة ويعطي سياق الايات السابقة أن المراد بالوعد وعده سبحانه بالبعث وهذا في قبال اصرار المشركين على نفى البعث وانكار المعاد كما تكرر في الايات السابقة. وقوله: " ويخرون للاذقان يبكون ويزيدهم خشوعا " تكرار الخرور للاذقان واضافته إلى البكاء لافادة معنى الخضوع وهو التذلل الذى يكون بالبدن كما أن الجملة الثانية لافادة معنى الخشوع وهو التذلل الذي يكون بالقلب فمحصل الاية أنهم يخضعون ويخشعون. وفي الاية اثبات خاصة المؤمنين لهم وهي التى أشير إليها بقوله سابقا: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) كما أن في الاية نفي خاصة المشركين عنهم وهي انكار البعث. وفي هذه الايات الثلاث بيان أن القرآن في غنى عن إيمانهم لا لان إيمان الذين اوتوا العلم من قبله يرفع حاجة له إلى إيمان غيرهم بل لان إيمانهم به يكشف عن أنه كتاب حق أنزل بالحق لا حاجة له في حقيته ولا افتقار في كماله إلى إيمان مؤمن وتصديق مصدق فإن آمنوا به فلا نفسهم وإن كفروا به فعليها لا له ولا عليه.

[ 223 ]

فقد ذكر سبحانه إعراضهم عن القرآن وكفرهم به وعدم اعتنائهم بكونه آية واقتراحهم آيات اخرى ثم بين له من نعوت الكمال ودلائل الاعجاز في لفظه ومعناه وغزاره الاثر في النفوس وكيفية نزوله ما استبان به انه حق لا يعتريه بطلان ولا فساد أصلا ثم بين في هذه الايات أنه في غنى عن إيمانهم فهم وما يختارونه من الايمان والكفر. قوله تعالى: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أياما تدعوا فله الاسماء الحسنى " لفظة أو للتسوبة ؟ ؟ والاباحه فالمراد بقوله " الله " و " الرحمان " الاسمان الدالان على المسمى دون المسمى، والمعنى ادعوا باسم الله أو باسم الرحمان فالدعاء. دعاؤه. وقوله: " أيا ما تدعوا شرط وما صلة للتأكيد نظير قوله: فبما رحمة من الله " آل عمران 159. وقوله: " عما قليل ليصبحن نادمين " المؤمنون 40 و " أيا " شرطية وهى مفعول " تدعوا ". وقوله: " فله الاسماء الحسنى " جواب الشرط، وهو من وضع السبب موضع المسبب والمعنى أي اسم من الاسمين تدعوه فهو اسم أحسن له لان الاسماء الحسنى كلها له فالاسماء الدالة على المسميات منها حسنة تدل على ما فيه حسن ومنها قبيحة بخلافها ولا سبيل للقبيح إليه تعالى، والاسماء الحسنة منها ما هو أحسن لاشوب نقص وقبح فيه كالغنى الذي لا فقر معه والحياة التي لاموت معها والعزة التي لا ذلة دونها ومنها ما هو حسن يغلب عليه الحسن من غير محوضة ولله سبحانه الاسماء الحسنى، وهي كل اسم هو أحسن الاسماء في معناه كما يدل عليه قول أئمه الدين: ان الله تعالى غني لا كالاغنياء حي لا كالاحياء، عزيز لا كالاعزة عليم لا كالعلماء وهكذا أي له من كل كمال صرفه ومحضه الذي لا يشوبه خلافه. والضمير في قوله: " أيا ما تدعوا فله الاسماء الحسنى " عائد إلى الذات المتعالية من كل اسم ورسم، وليس براجع إلى شئ من الاسمين الله والرحمان لان المراد بهما كما - تقدم - الاسمان دون الذات المتعالية التي هي مسماة بهما ولا معنى لان يقال: أيا من الاسمين تدعوا فان لذلك الاسم جميع الاسماء الحسنى أو باقي الاسماء الحسنى بل المعنى أيا من اسمائه تدعوا فلا مانع منه لانها جميعا اسماؤه لانها اسماء حسنى وله

[ 224 ]

الاسماء الحسنى فهى طرق دعوته ودعوتها دعوته فإنها اسماؤه والاسم مرآة المسمى وعنوانه فافهم ذلك. والاية من غرر الايات القرآنية تنير حقيقة ما يراه القرآن الكريم من توحيد الذات وتوحيد العبادة قبال ما يراه الوثنية من توحيد الذات وتشريك العبادة. فإن الوثنية - على ما تقدم جملة من آرائهم في الجزء العاشر من الكتاب ترى انه سبحانه ذات متعالية من كل حد ونعت ثم تعينت بأسماء اسما بعد اسم وتسمي ذلك تولدا، وترى الملائكة والجن مظاهر عالية لاسمائه فهم ابناؤه المتصرفون في الكون، وترى أن عبادة العابدين وتوجه المتوجهين لا يتعدى طور الاسماء ولا يتجاوز مرتبة الابناء الذين هم مظاهر اسمائه فإنا انما نعبد فيما نعبد الاله أو الخالق أو الرازق أو المحيي أو المميت إلى غير ذلك، وهذه كلها اسماء مظاهرها الابناء من الملائكة والجن: وأما الذات المتعالية فهي أرفع من أن يناله حس أو وهم أو عقل، وأعلى من أن يتعلق به توجه أو طلب أو عبادة أو نسك. فعندهم دعوة كل اسم هي عبادة ذلك الاسم أي الملك أو الجن الذي هو مظهر ذلك الاسم وهو الاله المعبود بتلك العبادة فيتكثر الالهة بتكثر أنواع الدعوات بأنواع الحاجات ولذلك لما سمع بعض المشركين دعاءه صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته: يا الله يا رحمان قال: انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهين. والايه الكريمة ترد عليهم ذلك وتكشف عن وجه الخطأ في رأيهم بأن هذه الاسماء أسماء حسنى له تعالى فهي مملوكة له محضا لا تستقل دونه بنعت ولا تنحاز عنه في ذات أو صفة تملكه وتقوم به فليس لها إلا الطريقيه المحضة، ويكون دعاؤها دعاءه والتوجه بها توجها إليه، وكيف يستقيم أن يحجب الاسم المسمى وليس إلا طريقا دالا عليه هاديا إليه ووجها له يتجلى به لغيره، فدعاء الاسماء الكثيرة لا ينافي توحيد عبادة الذات كما يمتنع أن تقف العبادة على الاسم ولا يتعداه. ويتفرع على هذا البيان ظهور الخطأ في عد الاسماء أو مظاهرها من الملائكة والجن

[ 225 ]

أبناء له تعالى فان إطلاق الولد والابن سواء كان على وجه الحقيقة أو التشريف يقتضى نوع مسانخة واشتراك بين الولد الوالد - أو الابن والاب - في حقيقة الذات أو كمال من كمالاته وساحة كبريائه منزهة من أن يشاركه شئ غيره في ذات أو كمال فإن الذي له هو لنفسه، والذى لغيره هو له لا لانفسهم. وكذا ظهور الخطأ في نسبه التصرف في الكون بأنواعه إليهم فإن هؤلاء الملائكه وكذا الاسماء التي هم مظاهر لها عندهم لا يملكون لانفسهم شيئا ولا يستقلون دونه بشئ بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، وكذا الجن فيما يعملون وبالجملة ما من سبب من الاسباب الفعالة في الكون إلا وهو تعالى الذي ملكه القدرة على ما يعمله، وهو المالك لما ملكه والقادر على ما عليه أقدره. وهذا هو الذي تفيده الاية التالية " وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولى من الذل " وسنكرر الاشارة إليه إن شاء الله. وفي الاية دلالة على أن لفظة الجلالة من الاسماء الحسنى فهو في أصله - الاله - وصف يفيد معني المعبودية وإن عرضت عليه العلمية بكثرة الاستعمال كما يدل عليه صحة إجراء الصفات عليه يقال: الله الرحمن الرحيم ولا يقال الرحمن الله الرحيم وفي كلامه تعالى: " بسم الله الرحمن الرحيم ". قوله تعالى: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا " الجهر والاخفات وصفان متضائفان، يتصف بهما الاصوات، وربما يعتبر بينهما خصلة ثالثة هي بالنسبة إلى الجهر إخفات وبالنسبة إلى الاخفات جهر فيكون الجهر هو المبالغة في رفع الصوت، والاخفات هو المبالغة في خفضه وما بينهما هو الاعتدال فيكون معنى الاية لا تبالغ في صلاتك في الجهر ولا في الاخفات بل اسلك فيما بينهما سبيلا وهو الاعتدال وتسميته سبيلا لانه سنة يستن بها هو ومن يقتدي به من امته المؤمنين به. هذا لو كان المراد بالصلاة في قوله: " بصلاتك " للاستغراق والمراد به كل صلاة

[ 226 ]

صلاة وأما لو اريد المجموع ولعله الاظهر كان المعنى لا تجهر في صلواتك كلها ولا تخافت فيها كلها بل اتخذ سبيلا وسطا تجهر في بعض وتخافت في بعض، وهذا المعنى أنسب بالنظر إلى ما ثبت في السنة من الجهر في بعض الفرائض اليومية كالصبح والمغرب والعشاء والاخفات في غيرها. ولعل هذا الوجه أوفق بالنظر إلى اتصال ذيل الاية بصدرها فالجهر بالصلاة يناسب كونه تعالى عليا متعاليا والاخفاف يناسب كونه قريبا أقرب من حبل الوريد فاتخاذ الخصلتين جميعا في الصلوات أداء لحق أسمائه جميعا. قوله تعالى: " وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا " معطوف على قوله في الايه السابقة: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان " ويرجع محصل الكلام إلى أن قل لهم إن ما تدعونها من الاسماء وتزعمون أنها آلهة معبودون غيره إنما هي أسماؤه وهي مملوكه له لا تملك أنفسها ولا شيئا لانفسها فدعاؤها دعاؤه فهو المعبود على كل حال. ثم أحمده واثن عليه بما يتفرع على إطلاق ملكه فإنه لا يماثله شئ في ذات ولا صفة حتى يكون ولدا له إن اشتق عنه في ذات أو صفة كما تقوله الوثنية وأهل الكتاب من النصارى واليهود وقدماء المجوس في الملائكة أو الجن أو المسيح أو عزير والاحبار، أو يكون شريكا إن شاركه في الملك من غير اشتقاق كما تقوله الوثنيون والثنويون وغيرهم من عبدة الشيطان أو يكون وليا له إن شاركه في الملك وفاق عليه فأصلح من ملكه بعض ما لم يقدر هو على إصلاحه. وبوجه آخر لا يجانسه شئ حتى يكون ولدا إن كان دونه أو شريكا له إن كان مساويا له في مرتبته أو وليا له إن كان فائقا عليه في الملك. والاية في الحقيقة ثناء عليه تعالى بما له من إطلاق الملك الذى يتفرع عليه نفى الولد والشريك والولي ولذلك أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالتحميد دون التسبيح مع أن المذكور فيها من نفي الولد والشريك والولي صفات سلبية والذي يناسبها التسبيح دون التحميد فافهم ذلك.

[ 227 ]

وختم سبحانه الاية بقوله: " وكبره تكبيرا وقد اطلق إطلاقا بعد التوصيف والتنزيه فهو تكبير من كل وصف، ولذا فسر " الله أكبر " بأنه أكبر من أن يوصف على ما ورد عن الصادق عليه السلام، ولو كان المعنى أنه أكبر من كل شئ لم يخل من إشراك الاشياء به تعالى في معنى الكبر وهو أعز ساحة أن يشاركه شئ في أمر. ومن لطيف الصنعة في السورة افتتاح أول آية منها بالتسبيح واختتام آخر آية منها بالتكبير مع افتتاحها بالتحميد. بحث روائي في الدر المنثور أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن على أنه كان يقرء: لقد علمت يعنى بالرفع قال علي والله ما علم عدو الله ولكن موسى هو الذي علم. اقول: وهي قراءه منسوبة إليه عليه السلام. وفي الكافي عن علي بن محمد باسناده قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عمن بجبهته علة لا يقدر على السجود عليها قال: يضع ذقنه على الارض إن الله عزوجل يقول " ويخرون للاذقان سجدا ". أقول: وفي معناه غيره. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ذات يوم فدعا الله فقال في دعائه: يا الله يا رحمان فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو إلهين فأنزل الله: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان الاية. أقول: وفي سبب نزول الاية روايات اخر تخالف هذه الرواية وتذكر أشياء غير ما ذكرته غير أن هذه الرواية أقربها انطباقا على مفاد الاية. وفي التوحيد مسندا وفي الاحتجاج مرسلا عن هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أسماء الله عز ذكره واشتقاقها فقلت الله مما هو مشتق ؟ قال يا

[ 228 ]

هشام الله مشتق من أله وإله يقتضى مألوها، والاسم غير المسمى فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ومن عبد الاسم والمعنى فقد كفر وعبد اثنين، ومن عبد المعنى دون الاسم فذلك التوحيد أفهمت يا هشام ؟ قال: فقلت زدنى فقال: إن لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسما فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها إلها - ولكن الله معنى يدل عليه بهذه الاسماء وكلها غيره يا هشام الخبز اسم المأكول والماء اسم المشروب والثوب اسم الملبوس والنار اسم المحرق. الحديث. وفى التوحيد بإسناده عن ابن رئاب عن غير واحد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من عبد الله بالتوهم فقد كفر، ومن عبد الاسم ولم يعبد المعنى فقد كفر ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك، ومن عبد المعنى بإيقاع الاسماء عليه بصفاته التي يصف بها نفسه فعقد عليه قلبه ونطق به لسانه في سرائره وعلانيته فاولئك أصحاب أمير المؤمنين وفي حديث آخر: اولئك هم المؤمنون حقا. وفي توحيد البحار في باب المغايرة بين الاسم والمعنى عن التوحيد بإسناده عن إبراهيم بن عمر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى خلق اسما بالحروف غير منعوت، وباللفظ غير منطق، وبالشخص غير مجسد، وبالتشبية غير موصوف وباللون غير مصبوغ، منفي عنه الاقطار، مبعد عنه الحدود، محجوب عنه حس كل متوهم، مستتر غير مستور فجعله كلمة تامة على أربعة أجزاء معا ليس منها واحد قبل الاخر فأظهر منها ثلاثة أشياء لفاقة الخلق إليها، وحجب واحدا منها وهو الاسم المكنون المخزون بهذه الاسماء الثلاثة التي أظهرت. فالظاهر هو الله وتبارك وسبحان - لكل اسم من هذه أربعة أركان فذلك اثنا عشر ركنا ثم خلق لكل ركن منها ثلاثين اسما وفعلا منسوبا إليها فهو الرحمان الرحيم الملك القدوس الخالق البارئ المصور الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم العليم الخبير السميع البصير الحكيم العزيز الجبار المتكبر العلي العظيم المقتدر القادر السلام المؤمن المهيمن البارئ المنشئ البديع الرفيع الجليل الكريم الرازق المحيي المميت الباعث الوارث فهذه الاسماء وما كان من الاسماء الحسنى حتى تتم ثلاث مائه وستين اسما فهي نسبة لهذه الاسماء الثلاثة، وهذه الاسماء الثلاثة أركان وحجب للاسم الواحد المكنون

[ 229 ]

المخزون بهذه الاسماء الثلاثة وذلك قوله عزوجل: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الاسماء الحسني ". أقول والحديث مروي في الكافي أيضا عنه عليه السلام. وقد تقدم في بحث الاسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب أن هذه الالفاظ المسماة بأسماء الله إنما هي أسماء الاسماء وأن ما تدل عليه وتشير إليه من المصداق أعني الذات مأخوذه بوصف ما هو الاسم بحسب الحقيقة وعلى هذا فبعض الاسماء الحسنى عين الذات وهو المشتمل على صفة ثبوتية كمالية كالحي والعليم والقدير وبعضها زائد على الذات خارج منها وهو المشتمل على صفة سلبية أو فعلية كالخالق والرازق لا تأخذه سنة ولا نوم، هذا في الاسماء وأما أسماء الاسماء وهي الالفاظ الدالة على الذات المأخوذة مع وصف من أوصافها فلا ريب في كونها غير الذات: وأنها ألفاظ حادثة قائمة بمن يتلفظ بها. إلا أن ههنا خلافا من جهتين: إحداهما: أن بعض الجهلة من متكلمي السلف خلطوا بين الاسماء وأسماء الاسماء فحسبوا أن المراد من عينية الاسماء مع الذات عينية أسماء الاسماء معها فذهبوا إلى أن الاسم هو المسمى ويكون على هذا عباده الاسم ودعوته هو عين عبادة المسمى، وقد كان هذا القول سائغا في أوائل عصر العباسيين، والروايتان السابقتان أعني روايتي التوحيد في الرد عليه. والثانية ما عليه الوثنية وهو أن الله سبحانه لا يتعلق به التوجه العبادي وانما يتعلق بالاسماء فالاسماء أو مظاهرها من الملائكة والجن والكمل من الانس هم المدعوون وهم الالهة المعبودون دون الله، وقد عرفت في البيان المتقدم أن قوله تعالى: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان " الخ رد عليه. والرواية الاخيرة أيضا تكشف عن وجه انتشاء الاسماء عن الذات المتعالية التي هي أرفع من أن يحيط به علم أو يقيده وصف ونعت أو يحده اسم أو رسم، وهي بما في صدره وذيله من البيان صريح في أن المراد بالاسماء فيها هي الاسماء دون اسماء الاسماء،

[ 230 ]

وقد شرحناها بعض الشرح في ذيل البحث عن الاسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب فراجعه إن شئت. وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام: في قوله تعالى: " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان بمكة جهر بصوته فيعلم بمكانه المشركون فكانوا يؤذونه فانزلت هذه الاية عند ذلك. أقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن مردويه عن ابن عباس، وروى أيضا عن عائشة أنها نزلت في الدعاء، ولا بأس به لعدم معارضته، وروى عنها أيضا أنها نزلت في التشهد. وفي الكافي باسناده عن سماعة قال: سألته عن قول الله تعالى: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها " قال: المخافتة ما دون سمعك والجهر أن ترفع صوتك شديدا. اقول: فيه تأييد المعنى الاول المتقدم في تفسير الاية. وفيه باسناده عن عبد الله بن سنان قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: على الامام أن يسمع من خلفه وإن كثروا - فقال ليقرء وسطا يقول الله تبارك وتعالى: " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ". وفي الدر المنثور أخرج أحمد والطبراني عن معاذ بن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آية العز " وقل الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا " الاية كلها. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " ولم يكن له ولي من الذل " قال: قال: لم يذل فيحتاج إلى ولى ينصره " بحث آخر روائي وقرآنى " متعلق بقوله تعالى: " وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث " ثلاثة فصول " 1 - ان للقرآن الكريم أجزاء يعرف بها كالجزء والحزب والعشر وغير ذلك والذي

[ 231 ]

ينتهي اعتباره إلى عناية من نفس الكتاب العزيز أثنان منها وهما السورة والاية فقد كرر الله سبحانه ذكرهما في كلامه كقوله: " سورة أنزلناها " النور: 1 وقوله: " قل فاتوا بسورة مثله " يونس: 38 وغير ذلك. وقد كثر استعماله في لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والائمة كثرة لا تدع ريبا في أن لها حقيقة في القرآن الكريم وهي مجموعة من الكلام الالهي مبدوة بالبسملة مسوقة لبيان غرض، وهو معرف للسورة مطرد غير منقوض إلا ببراءة وقد ورد (1) عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أنها آيات من سورة الانفال، وإلا بما ورد (2) عنهم عليهم السلام أن الضحى وألم نشرح سورة واحدة وأن الفيل والايلاف سورة واحدة. ونظيره القول في الاية فقد تكرر في كلامه تعالى إطلاق الايه على قطعة من الكلام كقوله: " وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا " الانفال: 2، وقوله: " كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا " حم السجدة: 3، وقد روى عن ام سلمة أن البنى صلى الله عليه وآله وسلم كان يقف على رؤس الاي وصح أن سورة الحمد سبع آيات، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: أن سورة الملك ثلاثون آية إلى غير ذلك مما يدل على وقوع العدد على الايات في كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآله. والذي يعطيه التأمل في انقسام الكلام العربي إلى قطع وفصول بالطبع وخاصة فيما كان من الكلام مسجعا ثم التدبر فيما ورد عن النبي وآله صلى الله عليه وآله وسلم في أعداد الايات أن الاية من القرآن هي قطعة من الكلام من حقها أن تعتمد عليها التلاوة بفصلها عما قبلها وعما بعدها. ويختلف ذلك باختلاف السياقات وخاصة في السياقات المسجعة فربما كانت كلمة واحدة كقوله: " مدهامتان " الرحمن: 64 وربما كانت كلمتين فصاعدا كلاما أو غير كلام كقوله: " الرحمان علم القرآن خلق الانسان علمه البيان الرحمان 1 - 4


(1) تقدم بعض ما يدل عليه من الرواية في ذيل قوله: " انا نحن نزلنا الذكر " الاية الحجر: 8 في الجزء الثاني عشر من الكتاب. (2) رواه الشيخ في التهذيب باسناده عن الشحام عن الصادق عليه السلام ونسبه المحقق في الشرائع والطبرسي في مجمع البيان إلى رواية اصحابنا. (*)

[ 232 ]

وقوله: " الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة " الحاقة 1 - 3 وربما طالت كآية الدين من سورة البقرة آية: 282. 2 - أما عدد السور القرآنية فهي مائة وأربع عشره سورة على ما جرى عليه الرسم في المصحف الدائر بيننا وهو مطابق للمصحف العثماني وقد تقدم كلام أئمه أهل البيت عليهم السلام فيه، وأنهم لا يعدون براءه سورة مستقلة ويعدون الضحى وألم نشرح سورة واحدة ويعدون الفيل والايلاف سورة واحدة. وأما عدد الاي فلم يرد فيه نص متواتر يعرف الاي ويميز كل آية من غيرها ولا شئ من الاحاد يعتمد عليه، ومن أوضح الدليل على ذلك اختلاف أهل العدد فيما بينهم وهم المكيون والمدنيون والشاميون والبصريون والكوفيون. فقد قال بعضهم: إن مجموع القرآن ستة آلاف آية، وقال بعضهم ستة آلاف ومأتان وأربع آيات، وقيل: واربع عشرة وقيل: وتسع عشرة وقيل: وخمس وعشرون، وقيل: وست وثلاثون. وقد روى المكيون عددهم عن عبد الله بن كثير عن مجاهد عن ابن عباس عن ابي ابن كعب، وللمدنيين عددان ينتهى أحدهما إلى أبي جعفر مرثد بن القعقاع وشيبة بن نصاح، والاخر إلى اسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الانصاري وروى أهل الشام عددهم عن أبي الدرداء، وينتهي عدد أهل البصرة إلى عاصم بن العجاج الجحدري، ويضاف عدد أهل الكوفة إلى حمزة والكسائي وخلف قال حمزة أخبرنا بهذا العدد ابن أبي ليلى عن أبي عبد الرحمان السلمي عن علي بن أبي طالب. وبالجملة لما كانت الاعداد لا تنتهي إلى نص متواتر أو واحد يعبؤ به ويجوز الركون إليه ويتميز به كل آية عن اختها لا ملزم للاخذ بشئ منها فما كان منها بينا ظاهر الامر فهو والا فللباحث المتدبر أن يختار ما أدى إليه نظره. والذى روي عن علي عليه السلام من عدد الكوفيين معارض بأن البسملة غير معدودة في شئ من السور ما خلا فاتحة الكتاب من آياتها مع أن المروي عنه عليه السلام وعن غيره من أئمة أهل البيت عليهم السلام أن البسمله آية من القرآن وهي جزء من كل سورة

[ 233 ]

افتتحت بها ولازم ذلك زيادة العدد بعدد البسملات. وهذا هو الذي صرفنا عن إيراد تفاصيل ما ذكروه من العدد ههنا، وذكر ما اتفقوا على عدده من السور القرآنية وهى أربعون سورة وما اختلفوه في عدده أو في رؤس آية من السور وهي أربع وسبعون سورة وكذا ما اتفقوا على كونه آية تامة أو على عدم كونه آية مثل " الرآ " أينما وقع من القرآن وما اختلف فيه وعلى من أراد الاطلاع على تفصيل ذلك أن يراجع مظانه. 3 - في ترتيب السور نزولا: نقل في الاتقان عن ابن الضريس في فضائل القرآن قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي جعفر الرازي أنبأنا عمرو بن هارون، حدثنا عثمان بن عطاء الخرساني عن أبيه عن ابن عباس قال: كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ثم يزيد الله فيها ما شاء. وكان أول ما أنزل، من القرآن اقرء باسم ربك، ثم ن، ثم يا أيها المزمل، ثم يا أيها المدثر، ثم تبت يدا أبؤ لهم، ثم إذا الشمس كورت، ثم سبح اسم ربك الاعلى، ثم والليل إذا يغشى، ثم والفجر، ثم والضحى، ثم ألم نشرح، ثم والعصر، ثم والعاديات ثم إنا أعطيناك، ثم ألهاكم التكاثر، ثم أرأيت الذي يكذب، ثم قل يا أيها الكافرون، ثم ألم تر كيف فعل ربك، ثم قل أعوذ برب الفلق، ثم قل أعوذ برب الناس، ثم قل هو الله أحد، ثم والنجم، ثم عبس، ثم إنا أنزلناه في ليلة القدر، ثم والشمس وضحاها، ثم والسماء ذات البروج، ثم التين، ثم لايلاف قريش، ثم القارعة، ثم لا اقسم بيوم القيامة، ثم ويل لكل همزة، ثم والمرسلات، ثم ق، ثم لا اقسم بهذا البلد، ثم والسماء والطارق، ثم اقتربت الساعة، ثم ص، ثم الاعراف، ثم قل اوحي ثم يس، ثم الفرقان، ثم الملائكة، ثم كهيعص، صم طه، ثم الواقعة، ثم طسم الشعراء، ثم طس، ثم القصص، ثم بني إسرائيل، ثم يونس، ثم هود، ثم يوسف، ثم الحجر، ثم الانعام، ثم الصافات، ثم لقمان، ثم سبأ، ثم الزمر، ثم حم المؤمن، ثم حم السجدة، ثم حمعسق، ثم حم الزخرف، ثم الدخان، ثم الجاثية، ثم الاحقاف ثم الذاريات، ثم الغاشية، ثم الكهف، ثم النحل، ثم إنا أرسلنا نوحا، ثم سورة إبراهيم، ثم الانبياء، ثم المؤمنين، ثم تنزيل السجدة، ثم الطور، ثم تبارك الملك،

[ 234 ]

ثم الحاقة، ثم سأل، ثم عم يتساءلون، ثم النازعات، ثم إذا السماء انفطرت، ثم إذا السماء انشقت، ثم الروم، ثم العنكبوت، ثم ويل للمطففين فهذا ما أنزل الله بمكة. ثم أنزل الله بالمدينة سورة البقرة ثم الانفال، ثم آل عمران، ثم الاحزاب، ثم الممتحنة، ثم النساء، ثم إذا زلزلت، ثم الحديد، ثم القتال، ثم الرعد، ثم الرحمان، ثم الانسان، ثم الطلاق، ثم لم يكن، ثم الحشر، ثم إذا جاء نصر الله، ثم النور، ثم الحج، ثم المنافقون، ثم المجادلة، ثم الحجرات ثم التحريم، ثم الجمعة ثم التغابن، ثم الصف، ثم الفتح، ثم المائدة، ثم براءة. وقد سقطت من الرواية سورة فاتحة الكتاب وربما قيل: إنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة. ونقل فيه عن البيهقى في دلائل النبوة أنه روى باسناده عن عكرمة والحسين بن أبي الحسن قالا: أنزل الله من القرآن بمكة اقرء باسم ربك وساقا الحديث نحو حديث عطاء السابق عن ابن عباس إلا أنه قد سقط منه الفاتحة والاعراف وكهيعص مما نزل بمكة. وأيضا ذكر فيه حم الدخان قبل حم السجدة ثم إذا السماء انشقت قبل إذا السماء انفطرت ثم ويل للمطففين قبل البقرة مما نزل بالمدينة ثم آل عمران قبل الانفال ثم المائدة قبل الممتحنة. ثم روى البيهقي باسناده عن مجاهد عن ابن عباس إنه قال: إن أول ما أنزل الله على نبيه من القرآن اقرء باسم ربك الحديث. وهو مطابق لحديث عكرمة في الترتيب وقد ذكرت فيه السور التي سقطت من حديث عكرمة فيما نزل بمكة. وفيه عن كتاب الناسخ والمنسوخ لابن حصار " أن المدني باتفاق عشرون سورة، والمختلف فيه اثنا عشرة سورة وما عدا ذلك مكي باتفاق انتهى. والذى اتفقوا عليه من المدنيات البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والانفال والتوبة والنور والاحزاب وسورة محمد والفتح والحجرات والحديد والمجادلة والحشر والممتحنة والمنافقون والجمعة والطلاق والتحريم والنصر.

[ 235 ]

وما اختلفوا في مكيته ومدنيته سورة الرعد والرحمن والجن والصف والتغابن والمطففين والقدر والبينة والزلزال والتوحيد والمعوذتان. وللعلم بمكية السور ومدنيتها ثم ترتيب نزولها أثر هام في الابحاث المتعلقة بالدعوة النبوية وسيرها الروحي والسياسى والمدني في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم وتحليل سيرته الشريفة، والروايات - كما ترى - لا تصلح أن تنهض حجة معتمدا عليها في إثبات شئ من ذلك على أن فيما بينها من التعارض ما يسقطها عن الاعتبار. فالطريق المتعين لهذا الغرض هو التدبر في سياق الايات والاستمداد بما يتحصل من القرائن والامارات الداخلية والخارجية، وعلى ذلك نجري في هذا الكتاب والله المستعان. * * * سورة الكهف مكية وهي مائة وعشر آيات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا (1). قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا (2). ماكثين فيه أبدا (3). وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا (4). ما لهم به من علم ولا لابائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم أن يقولون إلا كذبا (5). فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا (6). إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا (7). وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا (8).

[ 236 ]

بيان السورة تتضمن الدعوة إلى الاعتقاد الحق والعمل الصالح بالانذار والتبشير كما يلوح إليه ما افتتحت به من الايتين وما اختتمت به من قوله تعالى: " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ". وفيها مع ذلك عناية بالغة بنفي الولد كما يدل على ذلك تخصيص إنذار القائلين بالولد بالذكر ثانيا بعد ذكر مطلق الانذار أولا أعني وقوع قوله: " وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا بعد قوله: " لينذر باسا شديدا من لدنه ". فوجه الكلام فيها إلى الوثنيين القائلين ببنوة الملائكة والجن والمصلحين من البشر والنصارى القائلين ببنوة المسيح عليه السلام ولعل اليهود يشاركونهم فيه حيث يذكر القرآن عنهم أنهم قالوا: عزير ابن الله. وغير بعيد أن يقال إن الغرض من نزول السورة ذكر القصص الثلاث العجيبة التي لم تذكر في القرآن الكريم إلا في هذه السورة وهي قصة أصحاب الكهف وقصة موسى وفتاه في مسيرهما إلى مجمع البحرين وقصة ذي القرنين ثم استفيد منها ما استفرغ في السورة من الكلام في نفي الشريك والحث على تقوى الله سبحانه. والسورة مكية على ما يستفاد من سياق آياتها وقد استثنى منها قوله: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم " الاية وسيجئ ما فيه من الكلام. قوله تعالى: " الحمد لله الذي نزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما " العوج بفتح العين وكسرها الانحراف، قال في المجمع: العوج بالفتح فيما يرى كالقناة والخشبة وبالكسر فيما لا يرى شخصا قائما كالدين والكلام. انتهى. ولعل المراد بما يرى وما لا يرى ما يسهل رؤيته وما يشكل كما ذكره الراغب في المفردات بقوله: العوج - بالفتح - يقال فيما يدرك بالبصر سهلا كالخشب المنتصب ونحوه والعوج - بالكسر - يقال فيما يدرك بالفكر والبصيرة كما يكون في أرض بسيط يعرف تفاوته بالبصيرة وكالدين والمعاش انتهى. فلا يرد عليه ما في قوله تعالى: " لا ترى فيها عوجا - بكسر العين - ولا أمتا: طه: 107 فافهم.

[ 237 ]

وقد افتتح تعالى الكلام في السورة بالثناء على نفسه بما نزل على عبده قرآنا لا انحراف فيه عن الحق بوجه وهو قيم على مصالح عباده في حياتهم الدنيا والاخرة فله كل الحمد فيما يترتب على نزوله من الخيرات والبركات من يوم نزل إلى يوم القيامة فلا ينبغي أن يرتاب الباحث الناقد أن ما في المجتمع البشري من الصلاح والسداد من بركات ما بثه الانبياء الكرام من الدعوة إلى القول الحق والخلق الحسن والعمل الصالح وأن ما يمتاز به عصر القرآن في قرونه الاربعة عشر عما تقدمه من الاعصار من رقي المجتمع البشري وتقدمه في علم نافع أو عمل صالح للقرآن فيه أثره الخاص وللدعوة النبويه فيه أياديها الجميلة فلله في ذلك الحمد كله. ومن هنا يظهر أن قول بعضهم في تفسير الاية: يعني قولوا الحمد لله الذي نزل " الخ " ليس على ما ينبغي. وقوله: " ولم يجعل له عوجا " الضمير للكتاب والجملة حال عن الكتاب وقوله: " قيما " حال بعد حال على ما يفيده السياق فإنه تعالى في مقام حمد نفسه من جهة تنزيله كتابا موصوفا بأنه لا عوج له وأنه قيم على مصالح المجتمع البشرى فالعناية متعلقة بالوصفين موزعة بينهما على السواء وهو مفاد كونهما حالين من الكتاب. وقيل إن جملة " ولم يجعل له عوجا " معطوفة على الصلة و " قيما " حال من ضمير " له " والمعنى والذي لم يجعل للكتاب حال كونه قيما عوجا أو أن " قيما " منصوب بمقدر، والمعنى: والذي لم يجعل له عوجا وجعله قيما، ولازم الوجهين انقسام العناية بين أصل النزول وبين كون الكتاب قيما لا عوج له. وقد عرفت أنه خلاف ما يستفاد من السياق. وقيل: إن في الاية تقديما وتأخيرا، والتقدير نزل الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا وهو أردء الوجوه. وقد قدم نفي العوج على إثبات القيمومة لان الاول كما الكتاب في نفسه والثاني تكميله لغيره والكمال مقدم طبعا على التكميل. ووقوع " عوجا " وهو نكرة في سياق النفي يفيد العموم فالقرآن مستقيم في جميع جهاته فصيح في لفظه، بليغ في معناه، مصيب في هدايته، حي في حججه وبراهينه، ناصح في أمره ونهيه، صادق فيما يقصه من قصصه وأخباره، فاصل فيما يقضى به،

[ 238 ]

محفوظ من مخالطة الشياطين لا اختلاف فيه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والقيم هو الذى يقوم بمصلحة الشئ وتدبير أمره كقيم الدار وهو القائم بمصالحها ويرجع إليه في امورها، والكتاب إنما يكون قيما بما يشتمل عليه من المعاني، والذي يتضمنه القرآن هو الاعتقاد الحق والعمل الصالح كما قال تعالى: " يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم " الاحقاف: 30، وهذا هو الدين وقد وصف تعالى دينه في مواضع من كتابه بأنه قيم قال: " فأقم وجهك للدين القيم " الروم: 43 وعلى هذا فتوصيف الكتاب بالقيم لما يتضمنه من الدين القيم على مصالح العالم الانساني في دنياهم واخراهم. وربما عكس الامر فاخذ القيمومة وصفا للكتاب ثم للدين من جهته كما في قوله تعالى: " وذلك دين القيمة: البينة: 5 فالظاهر أن معناه دين الكتب القيمة وهو نوع تجوز. وقيل: المراد بالقيم المستقيم المعتدل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، وقيل: القيم المدبر لسائر الكتب السماوية يصدقها ويحفظها وينسخ شرائعها وتعقيب الكلمة بقوله: " لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين " الخ يؤيد ما قدمناه. قوله تعالى: لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات " الاية أي لينذر الكافرين عذابا شديدا صادرا من عند الله كذا قيل والظاهر بقرينة تقييد المؤمنين المبشرين بقوله: " الذين يعملون الصالحات " أن التقدير لينذر الذين لا يعملون الصالحات أعم ممن لا يؤمن أصلا أو يؤمن ويفسق في عمله. والجملة على أي حال بيان لتنزيله الكتاب على عبده مستقيما قيما إذ لو لا استقامته في نفسه وقيمومته على غيره لم يستقم إنذار ولا تبشير وهو ظاهر. والمراد بالاجر الحسن الجنة بقرينة قوله في الاية التالية: " ماكثين فيه أبدا " والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا " وهم عامة الوثنيين القائلين بأن الملائكة أبناء أو بنات له وربما قالوا بذلك في الجن والمصلحين من البشر والنصارى

[ 239 ]

القائلين بأن المسيح ابن الله وقد نسب القرآن إلى اليهود أنهم قالوا عزير ابن الله. وذكر إنذارهم خاصة ثانيا بعد ذكره على وجه العموم أولا بقوله: " لينذر بأسا شديدا من لدنه " لمزيد الاهتمام بشأنهم. قوله تعالى: " ما لهم به من علم ولا لابائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم " الخ كانت عامتهم يريدون بقولهم: اتخذ الله ولدا حقيقة التوليد كما يدل عليه قوله: " أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شئ " الانعام: 101. وقد رد سبحانه قولهم عليهم أولا بأنه قول منهم جهلا بغير علم وثانيا بقوله في آخر الاية: إن يقولون إلا كذبا ". وكان قوله: " ما لهم به من علم شاملا لهم جميعا من آباء وأبناء لكنهم لما كانوا يحيلون العلم به إلى آبائهم قائلين إن هذه ملة آبائنا وهم أعلم منا وليس لنا إلا أن نتبعهم ونقتدي بهم فرق تعالى بينهم وبين آبائهم فنفى العلم عنهم أولا وعن آبائهم الذين كانوا يركون إليهم ثانيا ليكون إبطالا لقولهم ولحجتهم جميعا. وقوله: " كبرت كلمة تخرج من أفواههم ذم " لهم وإعظام لقولهم: " اتخذ الله ولدا لما فيه من عظيم الاجتراء على الله سبحانه بنسبة الشريك والتجسم والتركب والحاجة إلى المعين والخليفه إليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وربما وقع في كلام أوائلهم إطلاق الابن على بعض خلقه بعناية التشريف للدلالة على قربه منه واختصاصه به نظير قول اليهود فيما حكاه القرآن: عزير ابن الله، وقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وكذا وقع في كلام عدة من قدمائهم إطلاق الابن على بعض الخلق الاول بعناية صدوره منه كما يصدر الابن عن الاب وإطلاق الزوج والصاحبة على وسائط الصدور والايجاد كما أن زوج الرجل واسطة لصدور الولد منه فاطلق على بعض الملائكة من الخلق الاول الزوج وعلى بعض آخر منهم الابن أو البنت. وهذان الاطلاقان وإن لم يشتملا على مثل ما اشتمل عليه الاطلاق الاول لكونهما من التجوز بعناية التشريف ونحوه لكنهما ممنوعان شرعا، وكفى ملاكا لحرمتهما سوقهما وسوق أمثالهما عامة الناس إلى الشقاء الدائم والهلاك الخالد. قوله تعالى: " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا

[ 240 ]

البخوع والبخع القتل والاهلاك والاثار علائم أقدام المارة على الارض، والاسف شدة الحزن والمراد بهذا الحديث القرآن. والاية واللتان بعدها في مقام تعزية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتسليته وتطييب نفسه والفاء لتفريع الكلام على كفرهم وجحدهم بآيات الله المفهوم من الايات السابقة والمعنى يرجى منك أن تهلك نفسك بعد إعراضهم عن القرآن وانصرافهم عنك من شدة الحزن، وقد دل على إعراضهم وتوليهم بقوله: على آثارهم وهو من الاستعارة. قوله تعالى: " إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا " إلى آخر الايتين. الزينة الامر الجميل الذي ينضم إلى الشئ فيفيده جمالا يرغب إليه لاجله والصعيد ظهر الارض والجرز على ما في المجمع - الارض التي لا تنبت كأنها تأكل النبت أكلا. ولقد أتى في الايتين ببيان عجيب في حقيقة حياة الانسان الارضية وهو أن النفوس الانسانية - وهي في أصل جوهرها علوية شريفة - ما كانت لتميل إلى الارض والحياة عليها وقد قدر الله أن يكون كمالها وسعادتها الخالدة بالاعتقاد الحق والعمل الصالح فاحتالت العناية الالهية إلى توقيفها موقف الاعتقاد والعمل وإيصالها إلى محك التصفية والتطهير وإسكانها الارض إلى أجل معلوم بالقاء التعلق والارتباط بينها وبين ما على الارض من أمتعه الحياة من مال وولد وجاه وتحبيبه إلى قلوبهم فكان ما على الارض وهو جميل عندهم محبوب في أنفسهم زينة للارض وحليه تتحلى بها لكونه عليها فتعلقت نفوسهم على الارض بسببه واطمأنت إليها. فإذا انقضى الاجل الذي أجله الله تعالى لمكثهم في الارض بتحقق ما أراده من البلاء والامتحان سلب الله ما بينهم وبين ما على الارض من التعلق ومحى ما له من الجمال والزينة وصار كالصعيد الجرز الذي لا نبت فيه ولا نضارة عليه ونودي فيهم بالرحيل وهم فرادى كما خلقهم الله تعالى أول مرة. وهذه سنة الله تعالى في خلق الانسان واسكانه الارض وتزيينه ما عليها له ليمتحنه بذلك ويتميز به أهل السعادة من غيرهم فيأتي سبحانه بالجيل بعد الجيل والفرد بعد الفرد فيزين له ما على وجه الارض من أمتعة الحياة ثم يخليه واختياره ليختبرهم بذلك

[ 241 ]

ثم إذا تم الاختبار قطع ما بينه وبين زخارف الدنيا المزينة ونقله من دار العمل إلى دار الجزاء قال تعالى: " ولو تري إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم - إلى أن قال: ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون " الانعام: 94. فمحصل معنى الاية لا تتحرج ولا تأسف عليهم إذا عرضوا عن دعوتك بالانذار والتبشير واشتغلوا بالتمتع من أمتعة الحياة فما هم بسابقين ولا معجزين وإنما حقيقة حياتهم هذه نوع تسخير إلهي أسكناهم الارض ثم جعلنا ما على الارض زينة يفتتن الناظر إليها لتتعلق به نفوسهم فنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون هذا الذي زين لهم بعينه كالصعيد الجرز الذي ليس فيه نبت ولا شئ مما يرغب فيه النفس فالله سبحانه لم يشأ منهم الايمان جميعا حتى يكون مغلوبا بكفرهم بالكتاب وتماديهم في الضلال وتبخع أنت نفسك على آثارهم أسفا وإنما أراد بهم الابتلاء والامتحان وهو سبحانه الغالب فيما شاء وأراد. وقد ظهر بما تقدم أن قوله: " وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا " من الاستعارة بالكناية، والمراد به قطع رابطة التعلق بين الانسان وبين أمتعة الحياة الدنيا مما على الارض. وربما قيل: إن المراد به حقيقة معنى الصعيد الجرز، والمعنى أنا سنعيد ما على الارض من زينة ترابا مستويا بالارض، ونجعله صعيدا أملس لا نبات فيه ولا شئ عليه. وقوله: " ما عليها " من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر وكان من طبع الكلام أن يقال: وإنا لجاعلوه، ولعل النكتة مزيد العناية بوصف كونه على الارض. " بحث روائي في تفسير العياشي عن البرقي رفعه عن أبى بصير عن أبي جعفر عليه السلام: لينذر بأسا شديدا من لدنه " قال البأس الشديد علي عليه السلام وهو من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاتل معه عدوه فذلك قوله: " لينذر بأسا شديدا من لدنه ".

[ 242 ]

أقول: ورواه ابن شهر آشوب عن الباقر والصادق عليهما السلام وهو من التطبيق وليس بتفسير. وفي تفسير القمي في حديث أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " فلعلك باخع نفسك يقول: قاتل نفسك على آثارهم وأما أسفا يقول حزنا. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في التاريخ عن ابن عمر قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الاية " لنبلوهم أيهم أحسن عملا " فقلت ما معنى ذلك يا رسول الله ؟ قال ليبلوكم أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرعكم في طاعي الله. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " صعيدا جرزا " قال: لا نبات فيها. * * * أم حسبت أن اصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا (9). إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهئ لنا من أمرنا رشدا (10). فضر بنا على آذانهم في الكهف سنين عددا (11). ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا (12). نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتيي آمنوا بربهم وزدناهم هدى (13). وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والارض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا (14). هؤلاء قومنا

[ 243 ]

اتخذوا من دونه آلهة لو لا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن أفترى على الله كذبا (15). وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأوا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهئ لكم من أمركم مرفقا (16). وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا (17). وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا (18). وكذلك بعثناهم ليتسآءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا (19). إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا ابدا (20). وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا (21). سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم

[ 244 ]

كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراءا ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا (22). ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا (23). إلا أن يشاء الله وأذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لاقرب من هذا رشدا (24). ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا (25). قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والارض أبصر به واسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا (26). " بيان " الايات تذكر قصة أصحاب الكهف وهي أحد الامور الثلاثة التي أشارت اليهود على قريش أن تسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها وتختبر بها صدقه في دعوى النبوة قصة أصحاب الكهف وقصة موسى وفتاه وقصة ذي القرنين على ما وردت به الرواية غير أن هذه القصة لم تصدر بما يدل على تعلق السؤال بها كما صدرت به قصه ذي القرنين: " يسألونك عن ذي القرنين " الاية وإن كان في آخرها بعض ما يشعر بذلك كقوله: " ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا " على ما سيجئ. وسياق الايات الثلاث التي افتتحت بها القصة مشعر بأن قصة الكهف كانت معلومة إجمالا قبل نزول الوحى بذكر القصة وخاصة سياق قوله: " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا " وأن الذي كشف عنه الوحي تفصيل قصتهم الاخذ من قوله: " نحن نقص عليك نبأهم بالحق إلى آخر الايات.

[ 245 ]

ووجه اتصال آيات القصه بما تقدم أنه يشير بذكر قصتهم ونفى كونهم عجبا من آيات الله أن أمر جعله تعالى ما على الارض زينة لها يتعلق بها الانسان ويطمئن إليها مكبا عليها منصرفا غافلا عن غيرها لغرض البلاء والامتحان ثم جعل ما عليها بعد أيام قلائل صعيدا جرزا لا يظهر للانسان إلا سدى وسرابا ليس ذلك كله إلا آية الهية هي نظيرة ما جرى على أصحاب الكهف حين سلط الله عليهم النوم في فجوة من الكهف ثلاث مائة سنين شمسية ثم لما بعثهم لم يحسبوا مكثهم ذلك إلا مكث يوم أو بعض يوم. فمكث كل إنسان في الدنيا واشتغاله بزخارفها وزيناتها وتولهه إليها ذاهلا عما سواها آية تضاهي في معناها آية أصحاب الكهف وسيبعث الله الناس من هذه الرقدة فيسألهم " كم لبثتم في الارض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم " المؤمنون: 113 " كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار " الاحقاف: 35 فما آية أصحاب الكهف ببدع عجيب من بين الايات بل هي متكررة جارية ما جرت الايام والليالي على الانسان. فكأنه تعالى لما قال: " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا " إلى تمام ثلاث آيات قال مخاطبا لنبيه: فكأنك ما تنبهت أن اشتغالهم بالدنيا وعدم إيمانهم بهذا الحديث عن تعلقهم بزينة الارض آية إلهية تشابه آية مكث أصحاب الكهف في كهفهم ثم انبعاثهم ولذلك حزنت وكدت تقتل نفسك أسفا بل حسبت أن أصحاب الكهف كانوا من آياتنا بدعا عجبا من النوادر في هذا الباب. وإنما لم يصرح بهذا المعنى صونا لمقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن نسبة الغفلة والذهول إليه ولان الكناية أبلغ من التصريح. هذا ما يعطيه التدبر في وجه اتصال القصه وعلى هذا النمط يجري السياق في اتصال ما يتلو هذه القصة من مثل رجلين لاحدهما جنتان وقصة موسى وفتاه وسيجئ بيانه وقد ذكر في اتصال القصة وجوه أخر غير وجيهة لا جدوى في نقلها. قوله تعالى: " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا " الحسبان هو الظن والكهف هو المغارة في الجبل إلا أنه أوسع منها فإذا صغر سمي غارا والرقيم من الرقم وهو الكتابة والخط فهو في الاصل فعيل بمعنى المفعول كالجريح

[ 246 ]

والقتيل بمعنى المجروح والمقتول، والعجب مصدر بمعنى التعجب أريد به معني الوصف مبالغة. وظاهر سياق القصة أن أصحاب الكهف والرقيم جماعة بأعيانهم والقصه قصتهم جميعا فهم المسمون أصحاب الكهف وأصحاب الرقيم أما تسميتهم أصحاب الكهف فلدخولهم الكهف ووقوع ما جرى عليهم فيه. وأما تسميتهم أصحاب الرقيم فقد قيل: إن قصتهم كانت منقوشة في لوح منصوب هناك أو محفوظ في خزانة الملوك فبذلك سموا أصحاب الرقيم، وقيل: إن الرقيم اسم الجبل الذي فيه الكهف، أو الوادي الذي فيه الجبل أو البلد الذي خرجوا منه إلى الكهف أو الكلب الذي كان معهم أقوال خمسة، وسيأتي في الكلام على قصتهم ما يؤيد القول الاول. وقيل: إن أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف وقصتهم غير قصتهم ذكرهم الله مع أصحاب الكهف ولم يذكر قصتهم وقد رووا لهم قصة سنشير إليها في البحث الروائي الاتى. وهو بعيد جدا فما كان الله ليشير في بليغ كلامه إلى قصة طائفتين ثم يفصل القول في أحدى القصتين ولا يتعرض للاخرى لا إجمالا ولا تفصيلا على أن ما أوردوه من قصة أصحاب الرقيم لا يلائم السياق السابق المستدعى لذكر قصة أصحاب الكهف. وقد تبين مما تقدم في وجه اتصال القصة أن معنى الاية بل ظننت أن أصحاب الكهف والرقيم - وقد أنامهم الله مئات من السنين ثم أيقظهم فحسبوا أنهم لبثوا يوما أو بعض يوم - كانوا من آياتنا آية عجيبة كل العجب ؟ لا وليسوا بعجب وما يجري على عامة الانسان من افتتانه بزينة الارض و غفلته عن أمر المعاد ثم بعثه وهو يستقل اللبث في الدنيا آية جارية تضاهي آية الكهف. وظاهر السياق - كما تقدمت الاشارة إليه - أن القصة كانت معلومة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إجمالا عند نزول القصة وإنما العناية متعلقة بالاخبار عن تفصيلها ويؤيد ذلك تعقيب الايه بالايات الثلاث المتضمنة لاجمال القصة حيث إنها تذكر إجمال القصة المؤدي إلى عدهم آية عجيبة نادرة في بابها.

[ 247 ]

قوله تعالى: " إذ أوى الفتية إلى الكهف " إلى آخر الاية الاوي الرجوع ولا كل رجوع بل رجوع الانسان أو الحيوان إلى محل يستقر فيه أو ليستقر فيه والفتية جمع سماعي لفتي والفتى الشاب ولا تخلو الكلمة من شائبة مدح. والتهيئة الاعداد قال البيضاوى وأصل التهيئة إحداث هيأة الشئ، انتهى والرشد بفتحتين أو الضم فالسكون الاهتداء إلى المطلوب، قال الراغب: الرشد والرشد خلاف الغى يستعمل استعمال الهداية. انتهى. وقوله: " فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة " تفريع لدعائهم على أويهم كأنهم اضطروا لفقد القوة وانقطاع الحيلة إلى المبادرة إلى المسألة ويؤيده قولهم: " من لدنك " فلو لا أن المذاهب أعيتهم والاسباب تقطعت بهم واليأس أحاط بهم ما قيدوا الرحمة المسؤلة أن تكون من لدنه تعالى بل قالوا: آتنا رحمة كقول غيرهم " ربنا آتنا في الدنيا حسنة: البقرة: 201 " ربنا آتنا ما وعدتنا على رسلك " آل عمران: 194 فالمراد بالرحمة المسؤلة التأييد الالهي إذ لا مؤيد غيره. ويمكن أن يكون المراد بالرحمة المسؤلة من لدنه بعض المواهب والنعم المختصة به تعالى كالهداية التي يصرح في مواضع من كلامه بأنها منه خاصة، ويشعر به التقييد بقوله " من لدنك "، ويؤيده ورود نظيره في دعاء الراسخين في العلم المنقول في قوله " ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة " آل عمران: 8 فما سألوا إلا الهداية. وقوله: " وهيئ لنا من أمرنا رشدا " المراد من أمرهم الشأن الذي يخصهم وهم عليه وقد هربوا من قوم يتتبعون المؤمنين ويسفكون دماءهم ويكرهونهم على عبادة غير الله، والتجأوا إلى كهف وهم لا يدرون ماذا سيجري عليهم ؟ ولا يهتدون أي سبيل للنجاة يسلكون ؟ ومن هنا يظهر أن المراد بالرشد الاهتداء إلى ما فيه نجاتهم. فالجملة أعني قوله: " وهيئ لنا من امرنا رشدا على أول الاحتمالين السابقين في معنى الرحمة عطف تفسير على قوله: " آتنا من لدنك رحمة وعلى ثانيهما مسألة بعد مسألة. قوله تعالى: " فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا " قال في الكشاف أي

[ 248 ]

ضربنا عليها حجابا من أن تسمع يعني أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الاصوات كما ترى المستثقل في نومه يصاح به فلا يسمع ولا يستنبه فحذف المفعول الذي هو الحجاب كما يقال: بنى على امرأته يريدون بنى عليها القبة. انتهى. وقال في المجمع: ومعنى ضربنا على آذانهم سلطنا عليهم النوم، وهو من الكلام البالغ في الفصاحة يقال: ضربه الله بالفالج إذا ابتلاه الله به، قال قطرب: هو كقول العرب: ضرب الامير على يد فلان إذا منعه من التصرف، قال الاسود بن يعفر وقد كان ضريرا: ومن الحوادث لا أبالك أنني * * ضربت على الارض بالاسداد وقال: هذا من فصيح لغات القرآن التى لا يمكن أن يترجم بمعنى يوافق اللفظ انتهى، وما ذكره من المعنى أبلغ مما ذكره الزمخشري. وهنا معنى ثالث وإن لم يذكروه: وهو أن يكون إشارة إلى ما تصنعه النساء عند إنامه الصبي غالبا من الضرب على اذنه بدق الاكف أو الانامل عليها دقا نعيما لتتجمع حاسته عليه فيأخذه النوم بذلك فالجملة كناية عن إنامتهم سنين معدوده بشفقة وحنان كما تفعل الام المرضع بطفلها الرضيع. وقوله: " سنين عددا ظرف للضرب والعدد مصدر كالعد بمعنى المعدود فالمعنى سنين معدودة وقيل بحذف المضاف والتقدير ذوات عدد. وقد قال في الكشاف إن توصيف السنين بالعدد يحتمل أن يراد به التكثير أو التقليل لان الكثير قليل عنده كقوله لم: يلبثوا إلا ساعة من نهار، وقال الزجاج إن الشئ إذا قل فهم مقدار عدده فلم يحتج أن يعد وإذا كثر احتاج إلى أن يعد. انتهى ملخصا. وربما كانت العناية في التوصيف بالعدد هي أن الشئ إذا بلغ في الكثرة عسر عده فلم يعد عادة وكان التوصيف بالعدد أمارة كونه قليلا يقبل العد بسهولة، قال تعالى: " وشروه بثمن بخس دراهم معدودة: يوسف -: 20 اي قليلة. وكون الغرض من التوصيف بالعدد هو التقليل هو الملائم للسياق على ما مر فإن الكلام مسرود لنفى كون قصتهم عجبا وإنما يناسبه تقليل سنى لبثهم لا تكثيرها -

[ 249 ]

ومعنى الاية ظاهر وقد دل فيها على كونهم نائمين في الكهف طول المدة لا ميتين. قوله تعالى: " ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين احصى لما لبثوا امدا المراد بالبعث هو الايقاظ دون الاحياء بقرينة الاية السابقة، وقال الراغب: الحزب جماعة فيها غلظ. انتهى. وقال: الامد والابد يتقاربان لكن الابد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود ولا يتقيد لا يقال: أبد كذا، والامد مدة لها حد مجهول إذا اطلق، وقد ينحصر نحو أن يقال: أمد كذا كما يقال: زمان كذا. والفرق بين الامد والزمان أن الامد يقال باعتبار الغاية والزمان عام في المبدء والغاية ولذلك قال بعضهم: المدى والامد يتقاربان. انتهى. والمراد بالعلم، العلم الفعلي وهو ظهور الشئ وحضوره بوجوده الخاص عند الله، وقد كثر ورود العلم بهذا المعنى في القرآن كقوله: " ليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب " الحديد: 25: وقوله: " ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم: الجن: 28 وإليه يرجع قول بعضهم في تفسيره " أن المعنى ليظهر معلومنا على ما علمناه. وقوله: " لنعلم أي الحزبين أحصى " الخ تعليل للبعث واللام للغاية والمراد بالحزبين الطائفتان من أصحاب الكهف حين سأل بعضهم بعضا بعد البعث: قائلا كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم على ما يفيده قوله تعالى في الايات التالية: " وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم الخ. وأما قول القائل: إن المراد بالحزبين الطائفتان من قومهم المؤمنون والكافرون كأنهم اختلفوا في أمد لبثهم في الكهف بين مصيب في إحصائه ومخطئ فبعثهم الله تعالى ليبين ذلك ويظهر والمعنى أيقظناهم ليظهر أي الطائفتين المختلفتين من المؤمنين والكافرين في أمد لبثهم مصيبة في قولها، فبعيد. وقوله: " أحصى لما لبثوا أمدا " فعل ماض من الاحصاء، و " أمدا " مفعوله والظاهر أن " لما لبثوا " قيد لقوله " أمدا " وما مصدرية أي أي الحزبين عد أمد لبثهم وقيل: أحصى اسم تفضيل من الاحصاء بحذف الزوائد كقولهم: هو أحصى للمال وأفلس من ابن المذلق (1)، وأمدا منصوب بفعل يدل عليه " أحصى " ولا يخلو من


(1) مثل. (*)

[ 250 ]

تكلف، وقيل غير ذلك. ومعنى الايات الثلاث أعني قوله: " إذ أوى الفتية " إلى قوله: " أمدا " إذ رجع الشبان إلى الكهف فسألوا عند ذلك ربهم قائلين: ربنا هب لنا من لدنك ما ننجو به مما يهددنا بالتخيير بين عبادة غيرك وبين القتل وأعد لنا من أمرنا هدى نهتدي به إلى النجاة فأنمناهم في الكهف سنين معدودة ثم أيقظناهم ليتبين أي الحزبين عد أمدا للبثهم. والايات الثلاث - كما ترى - تذكر إجمال قصتهم تشير بذلك إلى جهة كونهم من آيات الله وغرابة أمرهم، تشير الاية الاولى إلى دخولهم الكهف ومسألتهم للنجاة والثانية إلى نومهم فيه سنين عددا، والثالثة إلى تيقظهم وانتباههم واختلافهم في تقدير زمان لبثهم. فلاجمال القصة أركان ثلاثة تتضمن كل واحدة من الايات الثلاث واحدا منها وعلى هذا النمط تجري الايات التالية المتضمنة لتفصيل القصة غير أنها تضيف إلى ذلك بعض ما جرى بعد ظهور أمرهم وتبين حالهم للناس وهو الذى يشير إليه قوله: " وكذلك أعثرنا عليهم " إلى آخر آيات القصة. قوله تعالى: " نحن نقص عليك نبأهم بالحق " إلى آخر الاية. شروع في ذكر ما يهم من خصوصيات قصتهم تفصيلا، وقوله: " إنهم فتية آمنوا بربهم " أي آمنوا إيمانا مرضيا لربهم ولو لا ذلك لم ينسبه إليهم قطعا. وقوله: " وزدناهم هدى " الهدى بعد أصل الايمان ملازم لارتقاء درجة الايمان الذي فيه اهتداء الانسان إلى كل ما ينتهى إلى رضوان الله قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به " الحديد: 28. قوله تعالى: " وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا " إلى آخر الايات الثلاث الربط هو الشد، والربط على القلوب كناية عن سلب القلق والاضطراب عنها. والشطط الخروج عن الحد والتجاوز عن الحق والسلطان الحجة والبرهان.

[ 251 ]

والايات الثلاث تحكي الشطر الاول من محاورتهم حين انتهضوا لمخالفة الوثنية ومخاصمتهم إذ " قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والارض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لو لا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا. وقد أتوا بكلام مملوء حكمة وفهما راموا به إبطال ربوبية أرباب الاصنام من الملائكه والجن و المصلحين من البشر الذين رامت الفلسفة الوثنية إثبات الوهيتهم وربوبيتهم دون نفس الاصنام التي هي تماثيل وصور لاولئك الارباب تدعوها عامتهم آلهة وأربابا، ومن الشاهد على ذلك قوله: " عليهم " حيث أرجع إليهم ضمير " هم " المختص بأولي العقل. فبدؤا بإثبات توحيده بقولهم: " ربنا رب السماوات والارض " فأسندوا ربوبية الكل إلى واحد لا شريك له، والوثنية تثبت لكل نوع من أنواع الخلقية إلها وربا كرب السماء ورب الارض ورب الانسان. ثم أكدوا ذلك بقولهم: " لن ندعوا من دونه إلها " ومن فائدته نفى الالهة الذين تثبتهم الوثنية فوق أرباب الانواع كالعقول الكلية التي تعبده الصابئة وبرهما وسيوا ووشنو الذين تعبدهم البراهمة والبوذية وأكدوه ثانيا بقولهم: " لقد قلنا إذا شططا " فدلوا على أن دعوة غيرة من التجاوز عن الحد بالغلو في حق المخلوق برفعه إلى درجة الخالق. ثم كروا على القوم في عبادتهم غير الله سبحانه باتخاذهم آلهة فقالوا: هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لو لا يأتون عليهم بسلطان بين فردوا قولهم بأنهم لا برهان لهم على ما يدعونه يدل عليه دلالة بينة. وما استدلوا به من قولهم: إن الله سبحانه أجل من أن يحيط به إدراك خلقه فلا يمكن التوجه إليه بالعبادة ولا التقرب إليه بالعبودية فلا يبقى لنا إلا أن نعبد بعض الموجودات الشريفة من عباده المقربين ليقربونا إليه زلفى ! مردود إليهم أما عدم إحاطة الادراك به تعالى فهو مشترك بيننا معاشر البشر وبين من يعبدونه من

[ 252 ]

العباد المقربين، والجميع منا ومنهم يعرفونه بأسمائه وصفاته وآثاره كل على قدر طاقته فله أن يتوجه إليه بالعبادة على قدر معرفته. على أن جميع الصفات الموجبة لاستحقاق العبادة من الخلق والرزق والملك والتدبير له وحده ولا يملك غيره شيئا من ذلك فله أن يعبد وليس لغيره ذلك. ثم اردفوا قولهم: " لو لا يأتون عليهم بسلطان بين " بقولهم " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا " وهو من تمام الحجة الرادة لقولهم، ومعناه أن عليهم أن يقيموا برهانا قاطعا على قولهم فلو لم يقيموه كان قولهم من القول بغير علم في الله وهو افتراء الكذب عليه تعالى، والافتراء ظلم والظلم على الله أعظم الظلم. هذا فقد دلوا بكلامهم هذا أنهم كانوا علماء بالله اولي بصيرة في دينهم، وصدقوا قوله تعالى " وزدناهم هدى " وفي الكلام على ما به من الايجاز قيود تكشف عن تفصيل نهضتهم في بادئها فقوله تعالى: " وربطنا على قلوبهم " يدل على أن قولهم: ربنا رب السماوات والارض " الخ لم يكن بإسرار النجوى وفي خلا من عبدة الاوثان بل كان بإعلان القول والاجهار به في ظرف تذوب منه القلوب وترتاع النفوس وتقشعر الجلود في ملاء معاند يسفك الدماء ويعذب ويفتن. وقوله: " لن ندعوا من دونه إلها " بعد قوله " ربنا رب السماوات والارض. - وهو جحد وإنكار - فيه إشعار وتلويح إلى أنه كان هناك تكليف إجباري بعبادة الاوثان ودعاء غير الله. وقوله: " إذ قاموا فقالوا " إلخ يشير إلى أنهم في بادئ قولهم كانوا في مجلس يصدر عنه الامر بعبادة الاوثان والاجبار عليها والنهي عن عبادة الله والسياسه المنتحلية بالقتل والعذاب كمجلس الملك أو ملاه أو ملا عام كذلك فقاموا وأعلنوا مخالفتهم وخرجوا واعتزلوا القوم وهم في خطر عظيم يهددهم ويهجم عليهم من كل جانب كما يدل عليه قولهم: " وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون من دون الله فأووا إلى الكهف. هذا يؤيد ما وردت به الرواية - وسيجئ الخبر أن ستة منهم كانوا من خواص الملك يستشيرهم في اموره فقاموا من مجلس وأعلنوا التوحيد ونفي الشريك عنه تعالى.

[ 253 ]

ولا ينافي ذلك ما سيأتي من الروايات أنهم كانوا يسرون إيمانهم ويعملون بالتقية لجواز أن يكونوا سائرين عليها ثم يفاجؤوا القوم بإعلان الايمان ثم يعتزلوهم من غير مهل فلم تكن تسعهم إدامة التظاهر بالايمان وإلا قتلوا بلا شك. وربما احتمل أن يكون المراد بقيامهم قيامهم لله نصرة منهم للحق وقولهم: " ربنا رب السماوات والارض " الخ قولا منهم في أنفسهم وقولهم: وإذ اعتزلتموهم " الخ قولا منهم بعد ما خرجوا من المدينة، أو يكون المراد قيامهم لله " وجميع ما نقل من أقوالهم إنما قالوها فيما بين أنفسهم بعد ما خرجوا من المدينة وتنحوا عن القوم وعلى الوجهين يكون المراد بالربط على قلوبهم أنهم لم يخافوا عاقبة الخروج والهرب من المدينة وهجرة القوم لكن الاظهر هو الوجه الاول. قوله تعالى: " وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف " إلى آخر الاية الاعتزال والتعزل التنحي عن أمر والنشر البسط والمرفق بكسر الميم وفتح الفاء وبالعكس وبفتحهما المعاملة بلطف. هذا هو الشطر الثاني من محاورتهم جرت بينهم بعد خروجهم من بين الناس واعتزالهم إياهم وما يعبدون من دون الله وتنحيهم عن الجميع يشير به بعضهم عليهم أن يدخلوا الكهف ويتستروا فيه من أعداء الدين. وقد تفرسوا بهدي إلهي أنهم لو فعلوا ذلك عاملهم الله من لطفه ورحمته بما فيه نجاتهم من تحكم القوم وظلمهم والدليل على ذلك قولهم بالجزم: " فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته " الخ ولم يقولوا: عسى أن ينشر أو لعل. وهذان اللذان تفرسوا بهما من نشر الرحمة وتهيئة المرفق هما اللذان سألوهما بعد دخول الكهف إذ قالوا - كما حكى الله " ربنا آتنا من لدنك رحمة وهئ لنا من أمرنا رشدا ". والاستثناء في قوله: وما يعبدون إلا الله " استثناء منقطع فإن الوثنيين لم يكونوا يعبدون الله مع سائر آلهتهم حتى يفيد الاستثناء إخراج بعض ما دخل أولا في المستثنى منه فيكون متصلا فقول بعضهم: إنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون

[ 254 ]

الاصنام كسائر المشركين. وكذا قول بعض آخر يجوز: إنه كان فيهم من يعبد الله مع عبادة الاصنام فيكون الاستثناء متصلا في غير محله، إذ لم يعهد من الوثنيين عبادة الله سبحانه مع عبادة الاصنام، وفلسفتهم لا تجيز ذلك، وقد أشرنا إلى حجتهم في ذلك آنفا. قوله تعالى: " وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال " إلى آخر الايتين التزاور هو التمايل مأخوذ من الزور بمعنى الميل والقرض القطع والفجوة المتسع من الارض وساحة الدار والمراد بذات اليمين وذات الشمال الجهة التي تلي اليمين أو الشمال أو الجهة ذات اسم اليمين أو الشمال وهما جهتا اليمين والشمال. وهاتان الايتان تمثلان الكهف ومستقرهم منه ومنظرهم وما يتقلب عليهم من الحال أيام لبثهم فيه وهم رقود والخطاب للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بما أنه سامع لا بما أنه هو، وهذا شائع في الكلام، والخطاب على هذا النمط يعم كل سامع من غير أن يختص بمخاطب خاص. فقوله وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه " يصف موقع الكهف وموقعهم فيه وهم نائمون وأما إنامتهم فيه بعد الاوي إليه ومدة لبثهم فيه فقد اكتفى في ذلك بما أشير إليه في الايات السابقة من إنامتهم ولبثهم وما سيأتي من قوله: " ولبثوا في كهفهم " " الخ " إيثارا للايجاز. والمعنى: وترى أنت وكل راء يفرض اطلاعه عليهم وهم في الكهف يرى الشمس إذا طلعت تتزاور وتتمايل عن كهفهم جانب اليمين فيقع نورها عليه، وإذا غربت تقطع جانب الشمال فيقع شعاعها عليه وهم في متسع من الكهف لا تناله الشمس. وقد أشار سبحانه بذلك إلى أن الكهف لم يكن شرقيا ولا غربيا لا يقع عليه شعاع الشمس إلا في أحد الوقتين بل كان قطبيا يحاذي ببابه القطب فيقع شعاع الشمس على أحد جانبيه من داخل طلوعا وغروبا، ولا يقع عليهم لانهم كانوا في متسع منه فوقاهم الله بذلك من أن يؤذيهم حر الشمس أو يغير ألوانهم أو يبلي ثيابهم بل كانوا

[ 255 ]

مرتاحين في نومتهم مستفيدين من روح الهواء المتحول عليهم بالشروق والغروب وهم في فجوة منه، ولعل تنكير فجوة للدلالة على وصف محذوف والتقدير وهم في فجوة منه لا يصيبهم فيه شعاعها. وقد ذكر المفسرون أن الكهف كان بابه مقابلا للقطب الشمالي يسامت بنات النعش، والجانب الايمن منه ما يلي المغرب ويقع عليه شعاع الشمس عند طلوعها والجانب الايسر منه ما يلي المشرق وتناله الشمس عند غروبها، وهذا مبني على أخذ جهتي اليمين والشمال للكهف باعتبار الداخل فيه، وكأن ذلك منهم تعويلا على ما هو المشهور أن هذا الكهف واقع في بلدة إفسوس من بلاد الروم الشرقي فإن الكهف الذي هناك قطبي يقابل بابه القطب الشمالي متمايلا قليلا إلى المشرق على ما يقال. والمعمول في اعتبار اليمين واليسار لمثل الكهف والبيت والفسطاط وكل ما له باب أن يؤخذا باعتبار الخارج منه دون الداخل فيه فإن الانسان أول ما أحس الحاجة إلى اعتبار الجهات أخذها لنفسه فسمى ما يلي رأسه وقدمه علوا وسفلا وفوق وتحت وسمى ما يلى وجهه قدام وما يقابله خلف، وسمى الجانب القوى منه وهو الذى فيه يده القوية يمينا، والذى يخالفه شمالا ويسارا ثم إذا مست الحاجة إلى اعتبار الجهات في شئ فرض الانسان نفسه مكانه فما كان من أطراف ذلك الشئ ينطبق عليه الوجه وهو الطرف الذي يستقبل به الشئ غيره تعين به قدامه وبما يقاطره خلفه وبما ينطبق عليه يمين الانسان من أطرافه يمينه وكذا بيسار الانسان يساره. وإذ كان الوجه في مثل البيت والدار والفسطاط وكل ما له باب طرفه الذي فيه الباب كان تعين يمينه ويساره باعتبار الخارج من الباب دون الداخل منه، وعلى هذا يكون الكهف الذي وصفته الاية بما وصفت جنوبيا يقابل بابه القطب الجنوبى لا كما ذكروه، وللكلام تتمة ستوافيك إنشاء الله. وعلى أي حال كان وضعهم هذا من عناية الله ولطفه بهم ليستبقيهم بذلك حتى يبلغ الكتاب أجله، واليه الاشارة بقوله عقيبه: " ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا. وقوله: " وتحسبهم أيقاظا وهم رقود " الايقاظ جمع يقظ ويقظان والرقود جمع

[ 256 ]

راقد وهو النائم، وفي الكلام تلويح إلى أنهم كانوا مفتوحي الاعين حال نومهم كالايقاظ. وقوله: " ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال " أي ونقلبهم جهة اليمين وجهة الشمال، والمراد نقلبهم تارة من اليمين إلى الشمال وتارة من الشمال إلى اليمين لئلا تأكلهم الارض، ولا تبلى ثيابهم ولا تبطل قواهم البدنية بالركود والخمود طول المكث. وقوله: " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " الوصيد فناء البيت وقيل: عتبه الدار والمعنى كانوا على ما وصف من الحال والحال أن كلبهم مفترش بذراعيه باسط لهما بفناء الكهف وفيه إخبار بأنهم كان لهم كلب يلازمهم وكان ماكثا معهم طول مكثهم في الكهف. وقوله: " لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا " بيان أنهم وحالهم هذا الحال كان لهم منظر موحش هائل لو أشرف عليهم الانسان فر منهم خوفا من خطرهم تبعدا من المكروه المتوقع من ناحيتهم وملا قلبه الروع والفزع رعبا وسرى إلى جميع الجوارح فملا الجميع رعبا، والكلام في الخطاب الذي في قوله " لوليت " وقوله: " ولملئت " كالكلام في الخطاب الذي في قوله: " وترى الشمس ". وقد بان بما تقدم من التوضيح أولا: الوجه في قوله: ولملئت منهم رعبا " ولم يقل ولملئ قلبك رعبا. وثانيا: الوجه في ترتيب الجملتين: " لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا " وذلك أن الفرار وهو التبعد من المكروه معلول لتوقع وصول المكروه تحذرا منه، وليس بمعلول للرعب الذي هو الخشية وتأثر القلب، والمكروه المترقب يجب أن يتحذر منه سواء كان هناك رعب أو لم يكن. فتقديم الفرار على الرعب ليس من قبيل تقديم المسبب على سببه بل من تقديم حكم الخوف على الرعب وهما حالان متغايران قلبيان، ولو كان بدل الخوف من الرعب لكان من حق الكلام تقديم الجملة الثانية وتأخير الاولى وأما بناء على ما ذكرناه فتقديم حكم الخوف على حصول الرعب وهما جميعا أثران للاطلاع على منظرهم الهائل الموحش أحسن وأبلغ لان الفرار أظهر دلالة على ذلك من الامتلاء بالرعب.

[ 257 ]

قوله تعالى: " وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم " إلى آخر الايتين التساؤل سؤال بعض القوم بعضا، والورق بالفتح فالكسر: الدراهم، وقيل هو الفضة مضروبة كانت أو غيرها، وقوله: إن يظهروا عليكم أي إن يطلعوا عليكم أو أن يظفروا بكم. والاشارة بقوله: " وكذلك بعثناهم " إلى إنامتهم بالصورة التى مثلتها الايات السابقة أي كما أنمناهم في الكهف دهرا طويلا على هذا الوضع العجيب المدهش الذي كان آية من آياتنا كذلك بعثناهم وأيقظناهم ليتساءلوا بينهم. وهذا التشبيه وجعل التساؤل غاية للبعث مع ما تقدم من دعائهم لدى ورود الكهف وإنامتهم إثر ذلك يدل على أنهم إنما بعثوا من نومتهم ليتساءلوا فيظهر لهم حقيقة الامر، وإنما انيموا ولبثوا في نومتهم دهرا ليبعثوا، وقد نومهم الله إثر دعائهم ومسألتهم رحمة من عند الله واهتداء مهيأ من أمرهم فقد كان أزعجهم استيلاء الكفر على مجتمعهم وظهور الباطل وإحاطة القهر والجبر وهجم عليهم اليأس والقنوط من ظهور كلمة الحق وحرية أهل الدين في دينهم فاستطالوا لبث الباطل في الارض وظهوره على الحق كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه. وبالجملة لما غلبت عليهم هذه المزعمة واستياسوا من زوال غلبة الباطل أنامهم الله سنين عددا ثم بعثهم ليتساءلوا فيجيبوا بيوم أو بعض يوم ثم ينكشف لهم تحول الاحوال ومرور مآت من السنين عند غيرهم وهي بنظرة أخرى كيوم أو بعض يوم فيعلموا أن طول الزمان وقصره ليس بذاك الذي يميت حقا أو يحيى باطلا، وإنما هو الله سبحانه جعل ما على الارض زينة لها وجذب إليها الانسان وأجرى فيها الدهور والايام ليبلوهم أيهم أحسن عملا، وليس للدنيا إلا أن تغر بزينتها طالبيها ممن أخلد إلى الارض واتبع هواه. وهذه حقيقة لا تزال لائحة للانسان كلما انعطف على ما مرت عليه من أيامه السالفة وما جرت عليه من الحوادث حلوها ومرها وجدها كطائف في نومة أو سنة في مثل يوم غير أن سكر الهوى والتلهي بلهو الدنيا لا يدعه أن ينتبه للحق فيتبعه لكن لله سبحانه على الانسان يوم لا يشغله عن مشاهدة هذه الحقيقة شاغل من زينة الدنيا

[ 258 ]

وزخرفها وهو يوم الموت كما عن على عليه السلام: " الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا " ويوم آخر وهو يوم يطوى فيه بساط الدنيا وزينتها ويقضى على العالم الانساني بالبيد والانقراض. وقد ظهر بما تقدم أن قوله: " تعالى ليتساءلوا بينهم غاية لبعنهم ؟ واللام لتعليل الغاية وتنطبق على ما مر من الغاية في قوله: " ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا. " وذكر بعضهم: أنه بعض الغاية وضع موضعها لاستتباعه لسائر آثار البعث كأنه قيل ليتساءلوا بينهم وينجر ذلك إلى ظهور أمرهم وانكشاف الاية وظهور القدرة وهذا مع عدم شاهد عليه من جهة اللفظ تكلف ظاهر. وذكر آخرون: أن اللام في قوله: " ليتساءلوا " للعاقبة دون الغاية استبعادا لان يكون التساؤل وهو أمر هين غاية للبعث وهو آية عظيمة وفيه أن جعل اللام للعاقبة لا يجدي نفعا في دفع ما استبعده إذ كما لا ينبغى أن يجعل أمر هين للغاية مطلوبة لامر خطير وآية عظيمة كذلك لا يحسن ذكر شئ يسير عاقبة لامر ذي بال وآية عجيبة مدهشة على أنك عرفت صحة كون التساؤل علة غائية للبعث آنفا. وقوله: " قال قائل منهم كم لبثتم " دليل على أن السائل عن لبثهم كان واحدا منهم خاطب الباقين وسألهم عن مدة لبثهم في الكهف نائمين وكأن السائل استشعر طولا في لبثهم مما وجده من لوثة النوم الثقيل بعد التيقظ فقال: كم لبثتم ؟ وقوله: " قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم " ترددوا في جوابهم بين اليوم وبعض اليوم وكأنهم بنوا الجواب على ما شاهدوا من تغير محل وقوع الشمس كأن أخذوا في النوم أوائل النهار وانتبهوا في أواسطه أو أواخره ثم شكوا في مرور الليل عليهم فيكون مكثهم يوما وعدم مروره فيكون بعض يوم فأجابوا بالترديد بين يوم وبعض يوم وهو على أي حال جواب واحد. وقول بعضهم: إن الترديد على هذا يجب أن يكون بين بعض يوم ويوم وبعض لا بين يوم وبعض يوم فالوجه أن يكون " أو " للتفصيل لا للترديد، والمعنى قال بعضهم:

[ 259 ]

لبثنا يوم وقال بعض آخر: لبثنا بعض يوم. لا يلتفت إليه أما أولا فلان هذا المعنى لا يتلقى من سياق مثل قوله: " لبثنا يوما أو بعض يوم البتة وقد أجاب بمثله شخص واحد بعينه قال تعالى: " قال كم لبثت قال: لبثت يوما أو بعض يوم " البقرة: 259. وأما ثانيا فلان: " قولهم: " لبثنا يوما " إنما أخذوه عما استدلوا به من الامور المشهودة لهم لجلالة قدرهم عن التحكم والتهوس والمجازفة والامور الخارجيه التي يستدل بها الانسان وخاصة من نام ثم انتبه من شمس وظل ونور وظلمة ونحو ذلك لا تشخص مقدار اليوم التام من غير زيادة ونقيصة سواء في ذلك الترديد والتفصيل فالمراد باليوم على أي حال ما يزيد على ليلة بنهارها بعض الزيادة وهو استعمال شائع. وقوله تعالى: " قالوا ربكم أعلم بما لبثتم " أي قال بعض آخر منهم ردا علي القائلين: لبثنا يوما أو بعض يوم ": " ربكم أعلم بما لبثتم ولو لم يكن ردا لقالوا ربنا أعلم بما لبثنا. وبذلك يظهر أن إحاله العلم إلى الله تعالى في قولهم: " ربكم أعلم " ليس لمجرد مراعاة حسن الادب كما قيل بل لبيان حقيقة من حقائق معارف التوحيد وهي أن العلم بحقيقة معنى الكلمة ليس إلا لله سبحانه فإن الانسان محجوب عما وراء نفسه لا يملك باذن الله إلا نفسه ولا يحيط إلا بها وإنما يحصل له من العلم بما هو خارج عن نفسه ما دلت عليه الامارات الخارجية وبمقدار ما ينكشف بها وأما الاحاطة بعين الاشياء ونفس الحوادث وهو العلم حقيقة فإنما هو لله سبحانه المحيط بكل شئ الشهيد على كل شئ والايات الدالة على هذه الحقيقي لا تحصى. فليس للموحد العارف بمقام ربه إلا أن يسلم الامر له وينسب العلم إليه ولا يسند إلى نفسه شيئا من الكمال كالعلم والقدرة إلا ما اضطر إليه فيبدء بربه فينسب إليه حقيقة الكمال ثم لنفسه ما ملكه الله إياه واذن له فيه كما قال: " علم الانسان ما لم يعلم " العلق " 5 وقال: " قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا " البقره: 32 إلى آيات اخرى كثيره.

[ 260 ]

ويظهر بذلك أن القائلين منهم: " ربكم أعلم بما لبثتم " كانوا أعلى كعبا في مقام المعرفة من القائلين: لبثنا يوما أو بعض يوم ولم يريدوا بقولهم هذا مجرد إظهار الادب وإلا لقالوا: " ربنا أعلم بما لبثنا ولم يكونوا أحد الحزبين اللذين أشار سبحانه إليهما بقوله فيما سبق ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا " فإن إظهار الادب لا يسمى قولا وإحصاء ولا الاتي به ذا قول وإحصاء. والظاهر أن القائلين منهم: " ربكم أعلم بما لبثتم " غير القائلين: " لبثنا يوما أو بعض يوم " فان السياق سياق المحاورة والمجاوبة كما قيل ولازمه كون المتكلمين ثانيا غير المتكلمين أولا ولو كانوا هم الاولين بأعيانهم لكان من حق الكلام أن يقال: ثم قالوا ربنا أعلم بما لبثنا بدل قوله: " ربكم أعلم " الخ. ومن هنا يستفاد أن القوم كانوا سبعة أو أزيد إذ قد وقع في حكاية محاورتهم " قال " مرة و " قالوا " مرتين وأقل الجمع ثلاثة فقد كانوا لا يقل عددهم من سبعة. وقوله تعالى: " فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه " من تتمة المحاورة وفيه أمر أو عرض لهم أن يرسلوا رسولا منهم إلى المدينة ليشترى لهم طعاما يتغذون به والضمير في " أيها " راجع إلى المدينة والمراد بها أهلها من الكسبة استخداما. وزكاء الطعام كونه طيبا وقيل: كونه حلالا وقيل: كونه طاهرا ووروده بصيغة أفعل التفضيل " أزكى طعاما لا يخلو من إشعار بالمعنى الاول. والضمير " في " منه للطعام المفهوم من الكلام وقيل: للازكى طعاما و " من " للابتداء أو التبعيض أي ليأتكم من ذلك الطعام الا زكى برزق ترتزقون به، وقيل: الضمير للورق و " من " للبداية وهو بعيد لا حواجه إلى تقدير ضمير آخر يرجع إلى الجملة السابقة وكونه ضمير التذكير وقد اشير إلى الورق بلفظ التأنيث من قبل. وقوله تعالى: " وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا " التلطف إعمال اللطف والرفق وإظهاره فقوله: ولا يشعرن بكم أحدا عطف تفسيرى له والمراد على ما يعطيه السياق ليتكلف اللطف مع أهل المدينة في ذهابه ومجيئه ومعاملته لهم كي لا يقع خصومة أو منازعة لتؤدي إلى معرفتهم بحالكم وإشعارهم بكم، وقيل

[ 261 ]

المعنى ليتكلف اللطف في المعاملة وإطلاق الكلام يدفعه. وقوله تعالى: " إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا " تعليل للامر بالتلطف وبيان لمصلحته. ظهر على الشئ بمعنى اطلع عليه وعلم به وبمعنى ظفر به وقد فسرت الاية بكل من المعنيين والكلمة على ما ذكره الراغب مأخوذة من الظهر بمعنى الجارحة مقابل البطن فكان هو الاصل ثم استعير للارض فقيل: ظهر الارض مقابل بطنها ثم اخذ منه الظهور بمعنى الانكشاف مقابل البطون للملازمه بين الكون على وجه الارض وبين الرؤية والاطلاع وكذا بينه وبين الظفر وكذا بينه وبين الغلبة عادة فقيل: ظهر عليه أي اطلع عليه وعلم بمكانه أو ظفر به أو غلبه ثم اتسعوا في الاشتقاق فقالوا: أظهر وظاهر وتظاهر واستظهر إلى غير ذلك. وظاهر السياق أن يكون " يظهروا عليكم " بمعنى يطلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم فانه أجمع المعاني لان القوم كانوا ذوى أيد وقوة وقد هربوا واستخفوا منهم فلو اطلعوا عليهم ظفروا بهم وغلبوهم على ما أرادوا. وقوله: " يرجموكم " أي يقتلوكم بالحجارة وهو شر القتل ويتضمن معنى النفرة والطرد، وفي اختيار الرجم على غيره من أصناف القتل إشعار بأن أهل المدينة عامة كانوا يعادونهم لدينهم فلو ظهروا عليهم بادروا إليهم وتشاركوا في قتلهم والقتل الذي هذا شأنه يكون بالرجم عادة. وقوله: " أو يعيدوكم في ملتهم " الظاهر أن الاعادة مضمن معنى الادخال ولذا عدي بفي دون إلى. وكان لازم دخولهم في ملتهم عادة وقد تجاهروا برفضها وسموها شططا من القول وافتراء على الله بالكذب - أن لا يقنع القوم بمجرد اعترافهم بحقية الملة صورة دون أن يثقوا بصدقهم في الاعتراف ويراقبوهم في أعمالهم فيشاركوا الناس في عبادة الاوثان والاتيان بجميع الوظائف الدينية التي لهم والحرمان عن العمل بشئ من شرائع الدين الالهي والتفوه بكلمة الحق.

[ 262 ]

وهذا كله لا بأس به على من اضطر على الاقامة في بلاد الكفر والانحصار بين أهله كالاسير المستضعف بحكم العقل والنقل وقد قال تعالى: " إلا من أكره وقلبه مطمئن " بالايمان " النحل: 106 وقال تعالى: " إلا أن تتقوا منهم تقاة " آل عمران: 28 فله أن يؤمن بقلبه وينكره بلسانه وأما من كان بنجوة منهم وهو حر في اعتقاده وعمله ثم ألقى بنفسه في مهلكة الضلال وتسبب إلى الانحصار في مجتمع الكفر فلم يستطع التفوة بكلمة الحق وحرم التلبس بالوظائف الدينية الانسانية فقد حرم على نفسه السعادة ولن يفلح أبدا قال تعالى: " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فاولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا " النساء: 97. وبهذا يظهر وجه ترتب قوله: " ولن تفلحوا إذا أبدا " على قوله: " أو يعيدوكم في ملتهم " ويندفع ما قيل: إن إظهار الكفر بالاكراه مع إبطان الايمان معفو عنه في جميع الازمان فكيف رتب على العود في ملتهم عدم الفلاح أبدا مع أن الظاهر من حالهم الكره هذا فانهم لو عرضوا بأنفسهم عليهم أو دلوهم بوجه على مكانهم فأعادوهم في ملتهم ولو على كره كان ذلك منهم تسببا اختياريا إلى ذلك ولم يعذروا البتة. وقد أجابوا عن الاشكال بوجوه اخر غير مقنعة: منها: أن الاكراه على الكفر قد يكون سببا لاستدراج الشيطان إلى استحسانه والاستمرار عليه وفيه أن لازم هذا الوجه أن يقال: ويخاف عليكم أن لا تفلحوا أبدا الا أن يقضى بعدم الفلاح قطعا. ومنها: أنه يجوز أن يكون أراد يعيدوكم إلى دينهم بالاستدعاء دون الاكراه وأنت خبير بأن سياق القصة لا يساعد عليه. ومنها: أنه يجوز أن يكون في ذلك الوقت كان لا يجوز التقية بإظهار الكفر مطلقا وفيه عدم الدليل على ذلك. وسياق ما حكى من محاورتهم أعني قوله: " لبثتم " إلى تمام الايتين سياق عجيب دال على كمال تحابهم في الله ومواخاتهم في الدين وأخذهم بالمساواة بين أنفسهم ونصح

[ 263 ]

بعضهم لبعض وإشفاق بعضهم على بعض فقد تقدم أن قول القائلين: " ربكم أعلم بما لبثتم " تنبيه ودلالة على موقع من التوحيد أعلى وأرفع درجي مما يدل عليه قول الاخرين " لبثنا يوما أو بعض يوم ". ثم قول القائل: " فابعثوا " حيث عرض بعث الرسول على الجميع ولم يستبد بقول: ليذهب أحدكم وقوله: " أحدكم ولم يقل اذهب يا فلان أو ابعثوا فلانا وقوله: " بورقكم هذه " فأضاف الورق إلى الجميع كل ذلك دليل المواخاة والمساواة. ثم قوله: " فلينظر أيها أزكى طعاما " الخ وقوله: " وليتلطف " الخ نصح وقوله " إنهم إن يظهروا عليكم " الخ نصح لهم وإشفاق على نفوسهم بما هم مؤمنون على دينهم. وقوله تعالى: " بورقكم هذه " على ما فيه من الاضافة والاشارة المعينة لشخص الورق مشعر بعناية خاصة بذكرها فإن سياق استدعاء أن يبعثوا أحدا لاشتراء طعام لهم لا يستوجب بالطبع ذكر الورق التي يشترى بها الطعام والاشاره إليها بشخصها ولعلها إنما ذكرت في الاية مع خصوصيه الاشاره لانها كانت هي السبب لظهور أمرهم وانكشاف حالهم لانها حين أخرجها رسومها ليدفعها ثمنا للطعام كانت من مسكوكات عهد مرت عليها ثلاثة قرون وليس في آيات القصة ما يشعر بسبب ظهور أمرهم وانكشاف حالهم إلا هذه اللفظة. قوله تعالى: " وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم " قال في المفردات: عثر الرجل يعثر عثرا وعثورا إذا سقط ويتجوز به فيمن يطلع على أمر من غير طلبه قال تعالى: فإن عثر على أنهما استحقا إثما. يقال عثرت على كذا قال: " وكذلك أعثرنا عليهم " أي وقفناهم عليهم من غير أن طلبوا. انتهى. والتشبيه في قوله: " وكذلك أعثرنا عليهم " كنظيره في قوله: " وكذلك بعثناهم " أي وكما أنساهم دهرا ثم بعثناهم لكذا وكذا كذلك أعثرنا عليهم ومفعول أعثرنا هو الناس المدلول عليه بالسياق كما يشهد به ذيل الاية وقوله: " ليعلموا أن وعد الله حق

[ 264 ]

ضمير الجمع للناس والمراد بوعد الله على ما يعطيه السياق البعث ويكون قوله: " وأن الساعة لا ريب فيها " عطفا تفسيريا لسابقه. وقوله: " إذ يتنازعون بينهم أمرهم " ظرف لقوله: " أعثرنا " أو لقوله " ليعلموا " والتنازع التخاصم قيل: أصل التنازع التجاذب ويعبر به عن التخاصم وهو باعتبار اصل معناه يتعدى بنفسه، وباعتبار التخاصم يتعدى بفي كقوله تعالى: " فإن تنازعتم في شئ انتهى. والمراد بتنازع الناس بينهم أمرهم تنازعهم في أمر البعث وإنما إضيف إليهم إشعارا باهتمامهم واعتنائهم بشأنه فهذه حال الاية من جهة مفرداتها بشهادة بعضها على بعض. والمعنى على ما مر: وكما أنمناهم ثم بعثناهم لكذا وكذا أطلعنا الناس عليهم في زمان يتنازعون أي الناس بينهم في أمر البعث ليعلموا أن وعد الله بالبعث حق وأن الساعة لا ريب فيها. أو المعنى أعثرنا عليهم ليعلم الناس مقارنا لزمان يتنازعون فيه بينهم في أمر البعث أن وعد الله بالبعث حق. وأما دلالة بعثهم عن النوم على أن البعث يوم القيامة حق فانما هو من جهة أن انتزاع أرواحهم عن أجسادهم ذاك الدهر الطويل وتعطيل شعورهم وركود حواسهم عن أعمالها وسقوط آثار القوى البدنية كالنشو والنماء ونبات الشعر والظفر وتغير الشكل وظهور الشيب وغير ذلك وسلامة ظاهر أبدانهم وثيابهم عن الدثور والبلى ثم رجوعهم إلى حالهم يوم دخلوا الكهف بعينها يماثل انتزاع الارواح عن الاجساد بالموت ثم رجوعها إلى ما كانت عليها، وهما معا من خوارق العادة لا يدفعهما إلا الاستبعاد من غير دليل. وقد حدث هذا الامر في زمان ظهر التنازع بين طائفتين من الناس موحد يرى مفارقة الارواح الاجساد عند الموت ثم رجوعها إليها في البعث ومشرك (1) يرى


(1) وهذا مذهب عامة الوثنيين فهم لا يرون بطلان الانسان بالموت وانما يرون نفي البعث واثبات التناسخ. (*)

[ 265 ]

مغايرة الروح البدن ومفارقتها له عند الموت لكنه لا يرى البعث وربما رأى التناسخ. فحدوث مثل هذه الحادثة في مثل تلك الحال لا يدع ريبا لاولئك الناس أنها آية إلهية قصد بها إزالة الشك عن قلوبهم في أمر البعث بالدلالة بالمماثل على المماثل ورفع الاستبعاد بالوقوع. ويقوى هذا الحدس منهم ويشتد بموتهم بعيد الانبعاث فلم يعيشوا بعده إلا سويعات لم تسع أزيد من اطلاع الناس على حالهم واجتماعهم عليهم واستخبارهم عن قصتهم وإخبارهم بها. ومن هنا يظهر وجه آخر لقوله تعالى: " إذ يتنازعون بينهم أمرهم " وهو رجوع الضميرين الاولين إلى الناس والثالث إلى أصحاب الكهف وكون " إذ " ظرفا لقوله " ليعلموا " ويؤيده قوله بعده: " ربهم أعلم: بهم " على ما سيجئ. والاعتراض على هذا الوجه أولا: بأنه يستدعي كون التنازع بعد الاعثار وليس كذلك، وثانيا بأن التنازع كان قبل العلم وارتفع به فكيف يكون وقته وقته، مدفوع بأن التنازع على هذا الوجه في الاية هو تنازع الناس في أمر أصحاب الكهف وقد كان بعد الاعثار ومقارنا للعلم زمانا، والذي كان قبل الاعثار وقبل العلم هو تنازعهم في أمر البعث وليس بمراد على هذا الوجه. وقوله تعالى: " فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم " القائلون هم المشركون " من القوم بدليل قوله بعده: " قال الذين غلبوا على أمرهم " والمراد ببناء البنيان " عليهم على ما قيل أن يضرب عليهم ما يجعلون به وراءه ويسترون عن الناس فلا يطلع عليهم مطلع منهم كما يقال: بنى عليه جدارا إذا حوطه وجعله وراءه. وهذا الشطر من الكلام بانضمامه إلى ما قبله من قوله: " وكذلك بعثناهم " " وكذلك أعثرنا عليهم " يلوح إلى تمام القصة كأنه قيل: ولما أن جاء رسولهم إلى المدينة وقد تغيرت الاحوال وتبدلت الاوضاع بمرور ثلاثة قرون على دخولهم في الكهف وانقضت سلطة الشرك وألقي زمام المجتمع إلى التوحيد وهو لا يدري لم يلبث دون أن ظهر أمره وشاع خبره فاجتمع عليه الناس ثم هجموا وازدحموا على باب الكهف فاستنبؤوهم قصتهم

[ 266 ]

وحصلت الدلالة الالهية ثم إن الله قبضهم إليه فلم يلبثوا أحياء بعد انبعاثهم إلا سويعات أرتفعت بها عن الناس شبهتهم في أمر البعث وعندئذ قال المشركون ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم. وفي قوله: " ربهم أعلم بهم " إشارة إلى وقوع خلاف بين الناس المجتمعين عليهم أمرهم، فإنه كلام آيس من العلم بهم واستكشاف حقيقة أمرهم يلوح منه أن القوم تنازعوا في شئ مما يرجع إليهم فتبصر فيه بعضهم ولم يسكن الاخرون إلى شئ ولم يرتضوا رأي مخالفيهم فقالوا: ابنوا لهم بنيانا ربهم أعلم بهم. فمعنى الجملة أعني قوله: " ربهم أعلم بهم " يتفاوت بالنظر إلى الوجهين المتقدمين في قوله: " إذ يتنازعون بينهم أمرهم " إذ للجملة على أي حال نوع تفرع على تنازع بينهم كما عرفت آنفا فإن كان التنازع المدلول عليه بقوله: " إذ يتنازعون بينهم أمرهم " هو التنازع في أمر البعث بالاقرار والانكار لكون ضمير " أمرهم " للناس كان المعنى انهم تنازعوا في أمر البعث فأعثرناهم عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها لكن المشركين لم ينتهوا بما ظهرت لهم من الاية فقالوا أبنوا على أصحاب الكهف بنيانا واتركوهم على حالهم ينقطع عنهم الناس فلم يظهر لنا من أمرهم شئ ولم نظفر فيهم على يقين ربهم أعلم، بهم وقال الموحدون أمرهم ظاهر وآيتهم بينة ولنتخذن عليهم مسجدا يعبد فيه الله ويبقى ببقائه ذكرهم. وان كان التنازع هو التنازع في أصحاب الكهف وضمير " أمرهم " راجعا إليهم كان المعنى أنا أعثرنا الناس عليهم بعد بعثهم عن نومتهم ليعلم الناس أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها عند ما توفاهم الله بعد اعثار الناس عليهم وحصول الغرض وهم أي الناس يتنازعون بينهم في أمرهم أي أمر أصحاب الكهف كأنهم اختلفوا: أنيام القوم أم أموات ؟ وهل من الواجب أن يدفنوا ويقبروا أو يتركوا على هيئتهم في فجوة الكهف فقال المشركون: ابنوا عليهم بنيانا واتركوهم على حالهم ربهم أعلم بهم أنيام أم أموات ؟ قال الموحدون: " لنتخذن عليهم مسجدا ". لكن السياق يؤيد المعنى الاول لان ظاهره كون قول الموحدين: " لنتخذن عليهم مسجدا " ردا منهم لقول المشركين: " ابنوا عليهم بنيانا الخ " والقولان من الطائفتين

[ 267 ]

إنما يتنافيان على المعنى الاول، وكذا قولهم: " ربهم أعلم بهم " وخاصة حيث قالوا: " ربهم " ولم يقولوا: ربنا أنسب بالمعنى الاول. وقوله: " قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا " هؤلاء القائلون هم الموحدون ومن الشاهد عليه التعبير عما اتخذوه بالمسجد دون المعبد فإن المسجد في عرف القرآن هو المحل المتخذ لذكر الله والسجود له قال تعالى: " ومساجد يذكر فيها اسم الله " الحج: 40. وقد جاء الكلام بالفصل من غير عطف لكونه بمنزله جواب عن سؤال مقدر كأن قائلا يقول فماذا قال غير المشركين ؟ فقيل: قال الذين غلبوا الخ، وأما المراد بغلبتهم على أمرهم فإن كان المراد بأمرهم هو الامر المذكور في قوله: " إذ يتنازعون بينهم أمرهم " والضمير للناس فالمراد بالغلبة غلبه الموحدين بنجاحهم بالاية التي قامت على حقية البعث، وان كان الضمير للفتية فالغلبة من حيث التصدي لامرهم والغالبون هم الموحدون وقيل الملك وأعوانه، وقيل أولياؤهم من أقاربهم وهو أسخف الاقوال. وإن كان المراد بأمرهم غير الامر السابق والضمير للناس فالغلبة أخذ زمام امور المجتمع بالملك وولاية الامور، والغالبون هم الموحدون أو الملك وأعوانه وان كان الضمير عائدا إلى الموصول فالغالبون هم الولاة والمراد بغلبتهم على امورهم أنهم غالبون على ما أرادوه من الامور قادرون هذا، وأحسن الوجوه أولها. والايه من معارك آراء المفسرين ولهم في مفرداتها وفى ضمائر الجمع التي فيها وفي جملها اختلاف عجيب والاحتمالات التي ابدوها في معاني مفرداتها ومراجع ضمائرها واحوال جملها إذا ضربت بعضها في بعض بلغت الالوف، وقد أشرنا منها إلى ما يلائم السياق وعلى الطالب لازيد من ذلك أن يراجع المطولات. قوله تعالى: " سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم - إلى قوله - وثامنهم كلبهم " يذكر تعالى اختلاف الناس في عدد اصحاب الكهف واقوالهم فيه، وهي على ما ذكره تعالى - وقوله الحق - ثلاثة مترتبة متصاعدة احدها انهم ثلاثة رابعهم كلبهم والثاني أنهم خمسة وسادسهم كلبهم وقد عقبه بقوله: " رجما بالغيب أي قولا بغير علم. وهذا التوصيف راجع إلى القولين جميعا: ولو اختص بالثاني فقط كان من حق

[ 268 ]

الكلام أن يقدم القول الثاني ويؤخر الاول ويذكر مع الثالث الذي لم يذكر معه ما يدل على عدم ارتضائه. والقول الثالث أنهم سبعة وثامنهم كلبهم، وقد ذكره الله سبحانه ولم يعقبه بشئ يدل على تزييفه، ولا يخلو ذلك من اشعار بأنه القول الحق وقد تقدم في الكلام على محاورتهم المحكية بقوله تعالى: " قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم " أنه مشعر بل دال على أن عددهم لم يكن بأقل من سبعة. ومن لطيف صنع الاية في عد الاقوال نظمها العدد من ثلاثة إلى ثمانية نظما متواليا ففيها ثلاثة رابعها خمسة سادسها سبعة وثأمنها. وأما قوله: " رجما بالغيب " تمييز يصف القولين بأنهما من القول بغير علم والرجم هو الرمي بالحجارة وكأن المراد بالغيب الغائب وهو القول الذي معناه غائب عن العلم لا يدري قائله أهو صدق أم كذب ؟ فشبه الذى يلقي كلاما ما هذا شأنه بمن يريد الرجم بالحجارة فيرمي ما لا يدري أحجر هو يصيب غرضه أم لا ؟ ولعله المراد بقول بعضهم: رجما بالغيب أي قذفا بالظن لان المظنون غائب عن الظان لا علم له به. وقيل معنى " رجما بالغيب " ظنا بالغيب وهو بعيد. وقد قال تعالى: " ثلاثه رابعهم كلبهم " وقال: " خمسة سادسهم كلبهم " فلم يأت بواو ثم قال: " سبعة وثامنهم كلبهم " فأتى بواو قال في الكشاف: وثلاثة خبر مبتدء محذوف أي هم ثلاثة، وكذلك خمسة وسبعة، رابعهم كلبهم جملة من مبتدء وخبر واقعة صفة لثلاثة، وكذلك سادسهم كلبهم وثامنهم كلبهم. فان قلت: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة ؟ ولم دخلت عليها دون الاوليين ؟ قلت: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالا عن المعرفة في نحو قولك: جاءني رجل ومعه آخر ومررت بزيد وبيده سيف، ومنه قوله تعالى: " وما أهلكنا من قرية الا ولها كتاب معلوم " وفائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر. وهذه الواو هي التي آذنت بأن الذين قالوا: سبعة وثامنهم كلبهم قالوه عن ثبات

[ 269 ]

علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما غيرهم، والدليل عليه أن الله سبحانه أتبع القولين الاولين قوله رجما بالغيب، وأتبع القول الثالث قوله: ما يعلمهم الا قليل، وقال ابن عباس: حين وقعت الواو انقطعت العدة أي لم يبق بعدها عدة عاد يلتفت إليها وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والثبات انتهى. وقال في المجمع في ذيل ما لخص به كلام أبي على الفارسي: وأما من قال: هذه الواو واو الثمانية واستدل بقوله: " حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها " لان للجنة ثمانية أبواب فشئ لا يعرفه النحويون انتهى. قوله تعالى: " قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم الا قليل " إلى آخر الاية أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقضي في عدتهم حق القضاء وهو أن الله أعلم بها وقد لوح في كلامه السابق إلى القول وهذا نظير ما حكى عن الفتية في محاورتهم وارتضاء إذ قال قائل منهم كم لبثتم ؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم. قالوا: ربكم أعلم بما لبثتم. ومع ذلك ففي الكلام دلالة على أن بعض المخاطبين بخطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم " ربي أعلم بعدتهم " الخ كان على علم من ذلك فإن قوله: " ما يعلمهم ولم يقل: لا يعلمهم يفيد نفى الحال فالاستثناء منه بقوله: " الا قليل " يفيد الاثبات في الحال واللائح منه على الذهن أنهم من أهل الكتاب. وبالجملة مفاد الكلام أن الاقوال الثلاثة كانت محققة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى هذا فقوله: " سيقولون ثلاثة " الخ المفيد للاستقبال، وكذا قوله: " ويقولون خمسة " الخ، وقوله: " ويقولون سبعة " الخ ان كانا معطوفين على مدخول السين في " سيقولون " تفيد الاستقبال القريب بالنسبة إلى زمن نزول الايات أو زمن وقوع الحادثة فافهم ذلك. وقوله تعالى: " فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا قال الراغب: المرية التردد في الامر وهو أخص من الشك، قال: والامتراء والمماراة المحاجة فيما فيه مرية قال: وأصله من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب. انتهى. فتسمية الجدال مماراة لما فيه من اصرار المماري بالبحث ليفرغ خصمه كل ما عنده من الكلام فينتهى عنه. والمراد بكون المراء ظاهرا أن لا يتعمق فيه بالاقتصار على ما قصه القرآن من غير تجهيل لهم ولا رد كما قيل، وقيل: المراء الظاهر ما يذهب بحجة الخصم يقال ظهر:

[ 270 ]

إذا ذهب، قال الشاعر. وتلك شكاة ظاهر عنك عارها. والمعنى: وإذا كان ربك أعلم وقد أنبأك نبأهم فلا تحاجهم في الفتية إلا محاجة ظاهرة غير متعمق فيها - أو محاجه ذاهبة لحجتهم - ولا تطلب الفتيا في الفتية من أحد منهم فربك حسبك. قوله تعالى: " ولا تقولن لشئ اني فاعل ذلك غدا الا أن يشاء الله الاية الكريمة سواء كان الخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة أو له ولغيره متعرضة للامر الذي يراه الانسان فعلا لنفسه ويخبر بوقوعه منه في مستقبل الزمان. والذي يراه القرآن في تعليمه الالهي أن ما في الوجود من شئ ذاتا كان أو فعلا واثرا فإنما هو مملوك لله وحده له ان يفعل فيه ما يشاء ويحكم فيه ما يريد لا معقب لحكمه، وليس لغيره أن يملك شيئا الا ما ملكه الله تعالى منه واقدره عليه وهو المالك لما ملكه والقادر على ما عليه اقدره والايات القرآنية الدالة على هذه الحقيقة كثيرة جدا لا حاجة إلى ايرادها. فما في الكون من شئ له فعل أو اثر - وهذه هي التي نسميها فواعل واسبابا وعللا فعالة - غير مستقل في سببيته ولا مستغن عنه تعالى في فعله وتأثيره لا يفعل ولا يؤثر الا ما شاء الله ان يفعله ويؤثره اي اقدره عليه ولم يسلب عنه القدرة عليه باراده خلافة. وبتعبير آخر كل سبب من الاسباب الكونية ليس سببا من تلقاء نفسه وباقتضاء من ذاته بل باقداره تعالى على الفعل والتأثير وعدم ارادته خلافه، وإن شئت فقل: بتسهيله تعالى له سبيل الوصول إليه، وإن شئت فقل باذنه تعالى فالاذن هو الاقدار ورفع المانع وقد تكاثرت الايات الدالة على ان كل عمل من كل عامل موقوف على اذنه تعالى قال تعالى: " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على اصولها فبإذن الله " الحشر 5 وقال: " ما اصاب من مصيبة الا باذن الله التغابن: 11 وقال والبلد الطيب يخرج نباته باذن ربه: الاعراف: 58 وقال: " وما كان لنفس ان تموت الا باذن

[ 271 ]

الله " آل عمران: 145 وقال: " وما كان لنفس ان تؤمن الا باذن الله " يونس: 100 وقال: وما ارسلنا من رسول الا ليطاع باذن الله " النساء: 64 إلى غير ذلك من الايات الكثيرة. فعلى الانسان العارف بمقام ربه المسلم له ان لا يرى نفسه سببا مستقلا لفعله مستغنيا فيه عن غيره بل مالكا له بتمليك الله قادرا عليه باقداره وأن القوة لله جميعا وإذا عزم على فعل ان يعزم متوكلا على الله قال تعالى: " فإذا عزمت فتوكل على الله " وإذا وعد بشئ أو أخبر عما سيفعله أن يقيده باذن الله أو بعدم مشيته خلافه. وهذا المعنى هو الذي يسبق إلى الذهن المسبوق بهذه الحقيقة القرآنية إذا قرع بابه قوله تعالى: " ولا تقولن لشئ اني فاعل ذلك غدا الا ان يشاء الله " وخاصة بعدما تقدم في آيات القصة من بيان توحده تعالى في الوهيته وربوبيته وما تقدم قبل آيات القصة من كون ما على الارض زينة لها سيجعله الله صعيدا جرزا ومن جملة ما على الارض افعال الانسان التي هي زينة جالبة للانسان يمتحن بها وهو يراها مملوكة لنفسه. وذلك ان قوله: " ولا تقولن لشئ اني فاعل ذلك غدا " نهى عن نسبته فعله إلى نفسه، ولا بأس بهذه النسبة قطعا فانه سبحانه كثيرا ما ينسب في كلامه الافعال الي نبيه والى غيره من الناس وربما يأمره أن ينسب افعالا إلى نفسه قال تعالى: " فقل لي عملي ولكم عملكم " يونس: 41، وقال: " لنا اعمالنا ولكم اعمالكم " الشورى: 15. فأصل نسبة الفعل إلى فاعله مما لا ينكره القرآن الكريم وإنما ينكر دعوى الاستقلال في الفعل والاستغناء عن مشيته واذنه تعالى فهو الذي يصلحه الاستثناء أعني قوله: " الا ان يشاء الله ". ومن هنا يظهر أن الكلام على تقدير باء الملابسة وهو استثناء مفرغ عن جميع الاحوال أو جميع الازمان، وتقديره: ولا تقولن لشئ - اي لاجل شئ تعزم عليه - اني فاعل ذلك غدا في حال من الاحوال أو زمان من الازمنة الا في حال أو في زمان يلابس قولك المشية بأن تقول: اني فاعل ذلك غدا ان شاء الله أن أفعله أو الا ان يشاء الله ان لا افعله، والمعنى على أي حال: ان أذن الله في فعله. هذا ما يعطيه التدبر في معنى الاية ويؤيده ذيلها وللمفسرين فيها توجيهات اخرى.

[ 272 ]

منها ان المعنى هو المعنى السابق الا ان الكلام بتقدير القول في الاستثناء وتقدير الكلام: الا ان تقول ان شاء الله، ولما حذف " تقول " نقل " ان شاء الله " إلى لفظ الاستقبال، فيكون هذا تأديبا من الله للعباد وتعليما لهم أن يعلقوا ما يخبرون به بهذه اللفظة حتى يخرج عن حد القطع فلا يلزمهم كذب أو حنث إذا لم يفعلوه لمانع والوجه منسوب إلى الاخفش. وفيه أنه تكلف من غير موجب. على أن التبديل المذكور يغير المعنى وهو ظاهر. ومنها ان الكلام على ظاهره غير أن المصدر المؤل إليه " أن يشاء الله " بمعنى المفعول، والمعنى لا تقولن لشئ اني فاعل ذلك غدا الا ما يشاؤه الله ويريده، واذ كان الله لا يشاء الا الطاعات فكأنه قيل: ولا تقولن في شئ اني سأفعله الا الطاعات، والنهي للتنزيه لا للتحريم حتى يعترض عليه بجواز العزم على المباحات والاخبار عنه. وفيه أنه مبنى على حمل المشيه على الارادة التشريعية ولا دليل عليه ولم يستعمل المشية في كلامه تعالى بهذا المعنى قط، وقد استعمل استثناء المشية التكوينية في مواضع من كلامه كما حكى من قول موسى لخضر: " ستجدنة ان شاء الله صابرا " الكهف: 69، وقول شعيب لموسى: " ستجدني ان شاء الله من الصالحين " القصص، 27 وقول اسماعيل لابيه: " ستجدني أن شاء الله من الصابرين " الصافات: 102 وقوله تعالى: لتدخلن المسجد الحرام ان شاء الله آمنين " الفتح: 27 إلى غير ذلك من الايات. والوجه مبني على اصول الاعتزال وعند المعتزلة ان لا مشية لله سبحانه في أعمال العباد الا الارادة التشريعية المتعلقة بالطاعات، وهو مدفوع بالعقل والنقل. ومنها ان الاستثناء من الفعل دون القول من غير حاجة إلى تقدير، والمعنى ولا تقولن لشئ هكذا وهو ان تقول اني فاعل ذلك غدا باستقلالي الا ان يشاء الله خلافه بابداء مانع على ما تقوله المعتزلة ان العبد فاعل مستقل للفعل الا ان يبدئ الله مانعا دونه أقوى منه، ومآل المعنى أن لا تقل في الفعل بقول المعتزلة. وفيه أن تعلق الاستثناء بالفعل دون القول بما مر من البيان أتم فلا وجه للنهي عن تعليق الاستثناء على الفعل، وقد وقع تعليقه على الفعل في مواضع من كلامه من غير ان

[ 273 ]

يرده كقوله حكاية عن ابراهيم: " ولا أخاف ما تشركون به الا ان يشاء ربي شيئا " الانعام: 80 وقوله حكاية عن شعيب: " وما يكون لنا أن نعود فيها الا ان يشاء الله " الاعراف: 89، وقوله: " وما كانوا ليؤمنوا الا ان يشاء الله " الانعام: 111 إلى غير ذلك من الايات. فلتحمل الايه التي نحن فيها على ما يوافقها. ومنها: ان الاستثناء من أعم الاوقات الا أن مفعول " يشاء " هو القول والمعنى ولا تقولن ذلك الا أن يشاء الله أن تقوله، والمراد بالمشية الاذن أي لا تقل ذلك الا أن يؤذن لك فيه بالاعلام. وفيه أنه مبني على تقدير شئ لا دليل عليه من جهة اللفظ وهو الاعلام ولو لم يقدر لكان تكليفا بالمجهول. ومنها: أن الاستثناء للتأبيد نظير قوله: " خالدين فيها ما دامت السماوات والارض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ " هود: 108 والمعنى: لا تقولن ذلك أبدا. وفيه أنه مناف للايات الكثيرة المنقولة آنفا التي تنسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإلى سائر الناس أعمالهم ماضية ومستقبلة بل تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينسب أعماله إلى نفسه كقوله " فقل لي عملي ولكم عملكم " يونس: 41، وقوله: " قل سأتلوا عليكم منه ذكرا " الكهف: 83. قوله تعالى: " واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربى لاقرب من هذا رشدا " اتصال الاية واشتراكها مع ما قبلها في سياق التكليف يقضي أن يكون المراد من النسيان نسيان الاستثناء، وعليه يكون المراد من ذكر ربه ذكره بمقامه الذي كان الالتفات إليه هو الموجب للاستثناء وهو أنه القائم على كل نفس بما كسبت الذي ملكه الفعل وأقدره عليه وهو المالك لما ملكه والقادر على ما عليه أقدره. والمعنى: إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت أنك نسيته فاذكر ربك متى كان ذلك بما لو كنت ذاكرا لذكرته به وهو تسليم الملك والقدرة إليه وتقييد الافعال بإذنه ومشيته. وإذ كان الامر بالذكر مطلقا لم يتعين في لفظ خاص فالمندوب إليه هو ذكره

[ 274 ]

تعالى بشأنه الخاص سواء كان بلفظ الاستثناء بأن يلحقه بالكلام، إن ذكره ولما يتم الكلام أو يعيد الكلام ويستثني أو يضمر الكلام ثم يستثنى إن كان فصل قصير أو طويل كما ورد في بعض (1) الروايات أنه لما نزلت الايات قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان شاء الله أو كان الذكر باستغفار ونحوه. ويظهر مما مر أن ما ذكره بعضهم أن الاية مستقلة عما قبلها وأن المراد بالنسيان نسيانه تعالى أو مطلق النسيان والمعنى: واذكر ربك إذا نسيته ثم ذكرته أو واذكر ربك إذا نسيت شيئا من الاشياء وكذا ما ذكره بعضهم بناء على الوجه السابق أن المراد بذكره تعالى خصوص الاستثناء وإن طال الفصل أو خصوص الاستغفار أو الندم على التفريط، كل ذلك وجوه غير سديده. وقوله: " وقل عسى أن يهدين ربى لاقرب من هذا رشدا " حديث الاتصال والاشتراك في سياق التكليف بين جمل الاية يقضي هنا أيضا أن تكون الاشارة بقوله: " هذا " إلى الذكر بعد النسيان، والمعنى وارج أن يهديك ربك إلى أمر هو أقرب رشدا من النسيان ثم الذكر وهو الذكر الدائم من غير نسيان فيكون من قبيل الايات الداعية له صلى الله عليه وآله وسلم إلى دوام الذكر كقوله تعالى: " واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفه ودون الجهر من القول بالغدو والاصال ولا تكن من الغافلين " الاعراف: 205 وذكر الشئ كلما نسي ثم ذكر والتحفظ عليه كرة بعد كرة من أسباب دوام ذكره. ومن العجيب أن المفسرين أخذوا قوله: " هذا " في الاية إشارة إلى نبأ أصحاب الكهف وذكروا أن معنى الاية: قل عسى أن يعطيني ربي من الايات الدالة على نبوتي ما هو أقرب إرشادا للناس من نبأ أصحاب الكهف، وهو كما ترى. وأعجب منه ما عن بعض أن هذا إشارة إلى المنسي وأن معنى الاية: ادع الله إذا نسيت شيئا أن يذكرك إياه وقل إن لم يذكرك ما نسيته: عسى أن يهدينى ربي لشئ هو


(1) رواه السيوطي في الدر المنثور عن ابن المنذر عن مجاهد. (*)

[ 275 ]

أقرب خيرا ومنفعة من المنسي. وأعجب منه ما عن بعض آخر أن قوله: " وقل عسى أن يهدين " الخ عطف تفسيرى لقوله: " واذكر ربك إذا نسيت " والمعنى إذا وقع منك النسيان فتب إلى ربك وتوبتك أن تقول: عسى أن يهدين ربي لاقرب من هذا رشدا، ويمكن أن يجعل الوجهان الثاني والثالث وجها واحدا وبناؤهما على أي حال على كون المراد بقوله: " إذا نسيت " مطلق النسيان، وقد عرفت ما فيه. قوله تعالى: " ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا " بيان لمدة لبثهم في الكهف على حال النوم فإن هذا اللبث هو متعلق العناية في آيات القصة وقد اشير إلى إجمال مدة اللبث بقوله في أول الايات: " فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ". ويؤيده تعقيبه بقوله في الاية التالية قل الله أعلم بما لبثوا " ثم قوله: " واتل ما اوحي اليك " الخ ثم قوله: " وقل الحق من ربكم " ولم يذكر عددا غير هذا فقوله: " قل الله أعلم بما لبثوا " بعد ذكر مدة اللبث كقوله: قل ربي أعلم بعدتهم " يلوح إلى صحة العدد المذكور. فلا يصغى إلى قول القائل إن قوله: " ولبثوا في كهفهم الخ محكي قول أهل الكتاب وقوله: " قل الله أعلم بما لبثوا " رد له، وكذا قول القائل إن قوله: " ولبثوا " الخ قول الله تعالى وقوله: " وازدادوا تسعا " إشارة إلى قول أهل الكتاب والضمير لهم والمعنى أن أهل الكتاب زادوا على العدد الواقعي تسع سنين ثم قوله: " قل الله أعلم بما لبثوا " رد له. على أن المنقول عنهم أنهم قالوا بلبثهم مائتي سنة أو أقل لا ثلاثمائة. وتسعة ولا ثلاثمائة. وقوله " سنين " ليس بمميز للعدد وإلا لقيل: ثلاثمائة سنة بل هو بدل من ثلاثمائة كما قالوا، وفي الكلام مضاهاة لقوله فيما أجمل في صدر الايات: " سنين عددا ". ولعل النكتة في تبديل " سنة " من " سنين " استكثار مدة اللبث، وعلى هذا فقوله وازدادوا تسعا " لا يخلو من معنى الاضراب كأنه قيل: ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة هذه السنين المتمادية والدهر الطويل بل ازدادوا تسعا، ولا ينافي هذا ما تقدم في قوله: " سنين عددا " أن هذا لاستقلال عدد السنين واستحقاره لان المقامين

[ 276 ]

مختلفان بحسب الغرض فإن الغرض هناك كان متعلقا بنفي العجب من آية الكهف بقياسها إلى آية جعل ما على الارض زينة لها فالانسب به استحقار المدة والغرض هيهنا بيان كون اللبث آية من آياته وحجة على منكري البعث والانسب به استكثار المدة والمدة بالنسبتين تحتمل الوصفين فهي بالنسبة إليه تعالي شئ هين وبالنسبة الينا دهر طويل. وإضافة تسع سنين إلى ثلاثمائة سنة مدة اللبث تعطي أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنه شمسية فإن التفاوت في ثلاثمائة سنه إذا أخذت تارة شمسيه واخرى قمرية بالغ هذا المقدار تقريبا ولا ينبغى الارتياب في أن المراد بالسنين في الاية السنون القمرية لان السنة في عرف القرآن هي القمرية المؤلفة من الشهور الهلالية وهي المعتبرة في الشريعة الاسلامية. وفي التفسير الكبير شدد النكير على ذلك لعدم تطابق العددين تحقيقا وناقش في ما روي عن علي عليه السلام ع في هذا المعنى مع أن الفرق بين العددين الثلاث مائة شمسية والثلاث مائه وتسع سنين قمرية أقل من ثلاثه أشهر والتقريب في أمثال هذه النسب ذائع في الكلام بلا كلام. قوله تعالى: " قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والارض " إلى آخر الاية مضي في حديث أصحاب الكهف بالاشارة إلى خلاف الناس في ذلك وأن ما قصه الله تعالى من قصتهم هو الحق الذي لا ريب فيه. فقوله: قل الله أعلم بما لبثوا " مشعر بأن مدة لبثهم المذكورة في الاية السابقة لم تكن مسلمة عند الناس فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحتج في ذلك بعلم الله وأنه أعلم بهم من غيره. وقوله: " له غيب السماوات والارض " تعليل لكونه تعالى أعلم بما لبثوا " واللام للاختصاص الملكي والمراد أنه تعالى وحده يملك ما في السماوات والارض من غيب غير مشهود فلا يفوته شئ وإن فات السماوات والارض، وإذ كان مالكا للغيب بحقيقي معنى الملك وله كمال البصر والسمع فهو أعلم بلبثهم الذي هو من الغيب. وعلى هذا فقوله: " أبصر به واسمع " - وهما من صيغ التعجب معناهما كمال

[ 277 ]

بصره وسمعه - لتتميم التعليل كأنه قيل: وكيف لا يكون أعلم بلبثهم وهو يملكهم على كونهم من الغيب وقد رأى حالهم وسمع مقالهم. ومن هنا يظهر أن قول بعضهم: إن اللام في " له غيب " الخ للاختصاص العلمي أي له تعالى ذلك علما، ويلزم منه ثبوت علمه لسائر المخلوقات لان من علم الخفي علم غيره بطريق أولى. انتهى. غير سديد لان ظاهر قوله: " أبصر به واسمع " أنه للتأسيس دون التأكيد، وكذا ظاهر اللام مطلق الملك دون الملك العلمي. وقوله: " ما لهم من دونه من ولي " الخ المراد بالجملة الاولى منه نفي ولاية غير الله لهم مستقلا بالولاية دون الله، وبالثانية نفى ولاية غيره بمشاركته إياه فيها أي ليس لهم ولى غير الله لا مستقلا بالولاية ولا غير مستقل. ولا يبعد أن يستفاد من النظم - بالنظر إلى التعبير في الجملة الثانية " ولا يشرك في حكمه أحدا " بالفعل دون الوصف وتعليق نفى الاشراك بالحكم دون الولاية - أن الجملة الاولى تنفي ولاية غيره تعالى لهم سواء كانت بالاستقلال فيستقل بتدبير أمرهم دون الله أو بالشركة بأن يلي بعض امورهم دون الله، والجملة الثانيه تنفي شركة غيره تعالى في الحكم والقضاء في الحكم بأن تكون ولايتهم لله تعالى لكنه وكل عليهم غيره وفوض إليه أمرهم والحكم فيهم كما يفعله الولاة في نصب الحكام والعمال في الشعب المختلفة من امورهم فيباشر الحكام والعمال من الاحكام ما لا علم به من الولاة. ويؤول المعنى إلى أنه كيف لا يكون تعالى أعلم بلبثهم وهو تعالى وحده وليهم المباشر للحكم الجاري فيهم وعليهم. والضمير في قوله: " لهم " لاصحاب الكهف أو لجميع ما في السماوات والارض المفهوم من الجملة السابقة بتغليب جانب اولي العقل أو لمن في السماوات والارض والوجوه الثلاثة مترتبة جودة وأجودها أولها. وعليه فالاية تتضمن حجتين على أن الله أعلم بما لبثوا إحداهما: حجة عامة لهم ولغيرهم وهي قوله: " له غيب السماوات والارض أبصر به وأسمع " فهو أعلم بجميع الاشياء ومنها لبث أصحاب الكهف، وثانيتهما حجة خاصة بهم وهي قوله: " ما لهم "

[ 278 ]

إلى اخر الاية فهو تعالى وليهم المباشر للقضاء الجارى عليهم فكيف لا يكون أعلم بهم من غيره ؟ ولمكان العلية في الجملتين جئ بهما مفصولتين من غير عطف. بحث روائي. في تفسير القمى في قوله تعالى: " أم حسبت أن أصحاب الكهف " الاية قال: يقول: قد اتيناك من الايات ما هو أعجب منه، وهم فتية كانوا في الفترة بين عيسى بن مريم ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأما الرقيم فهما لوحان من نحان مرقوم أي مكتوب فيهما أمر الفتية وأمر إسلامهم وما أراد منهم دقيانوس الملك وكيف كان أمرهم وحالهم. وفيه حدثنا أبي عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان سبب نزول سورة الكهف أن قريشا بعثوا ثلاثة نفر إلى نجران: النضر بن الحارث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط والعاص بن وائل السهمي ليتعلموا من اليهود مسائل يسألونها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فخرجوا إلى نجران إلى اليهود فسألوهم فقالوا: اسألوه عن ثلاث مسائل فإن أجابكم فيها على ما عندنا فهو صادق ثم اسألوا عن مسألة واحدة فإن ادعى علمها فهو كذب. قالوا: وما هذه المسائل ؟ قالوا: سلوه عن فتية كانوا في الزمن الاول فخرجوا وغابوا وناموا، كم بقوا في نومهم حتى انتهبوا ؟ وكم كان عددهم ؟ وأي شئ كان معهم من غيرهم ؟ وما كان قصتهم ؟ وسلوه عن موسى حين أمره الله أن يتبع العالم ويتعلم منه من هو ؟ وكيف تبعه ؟ وما كان قصته معه ؟ وسلوه عن طائف طاف مغرب الشمس ومطلعها حتى بلغ سد يأجوج ومأجوج من هو ؟ وكيف كان قصته ؟ ثم أملؤوا عليهم أخبار هذه المسائل الثلاث وقالوا لهم: إن أجابكم بما قد أملينا عليكم فهو صادق، وإن أخبركم بخلاف ذلك فلا تصدقوه. قالوا: فما المسألة الرابعة ؟ قالوا: سلوه متى تقوم الساعة ! فإن ادعى علمها فهو كاذب فإن قيام الساعة لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى.

[ 279 ]

فرجعوا إلى مكة واجتمعوا إلى أبى طالب فقالوا: يا أبا طالب إن أبن أخيك يزعم أن خبر السماء يأتيه ونحن نسأله عن مسائل فإن أجابنا عنها علمنا أنه صادق وإن لم يخبرنا علمنا أنه كاذب فقال أبو طالب: سلوه عما بدا لكم فسألوه عن الثلاث المسائل. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غدا اخبركم ولم يستثن، فاحتبس الوحي عنه أربعين يوما حتى اغتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشك أصحابه الذين كانوا آمنوا به، وفرحت قريش واستهزؤا وآذوا، وحزن أبو طالب. فلما كان بعد أربعين يوما نزل عليه سورة الكهف فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا جبرئيل لقد أبطأت فقال: أنا لا نقدر أن ننزل إلا بإذن الله فأنزل الله تعالى: أم حسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ثم قص قصتهم فقال: إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهئ لنا من أمرنا رشدا. قال: فقال الصادق عليه السلام: إن أصحاب الكهف والرقيم كانوا في زمن ملك جبار عات، وكان يدعو أهل مملكته إلى عبادة الاصنام فمن لم يجبه قتله، وكان هؤلاء قوما مؤمنين يعبدون الله عزوجل، ووكل الملك بباب المدينة ولم يدع أحدا يخرج حتى يسجد للاصنام فخرجوا هؤلاء بعلة الصيد وذلك أنهم مروا براع في طريقهم فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم وكان مع الراعي كلب فأجابهم الكلب وخرج معهم. قال عليه السلام: فخرج أصحاب الكهف من المدينة بعلة الصيد هربا من دين ذلك الملك فلما أمسوا دخلوا إلى ذلك الكهف والكلب معهم فألقى الله عليهم النعاس كما قال الله: " فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا " فناموا حتى أهلك الله ذلك الملك وأهل المدينة وذهب ذلك الزمان وجاء زمان آخر وقوم آخرون. ثم انتبهوا فقال بعضهم لبعض: كم نمنا ههنا ؟ فنظروا إلى الشمس قد أرتفعت فقالوا: نمنا يوما أو بعض يوم ثم قالوا لواحد منهم: خذ هذه الورق وادخل المدينة متنكرا لا يعرفونك فاشتر لنا طعاما فإنهم إن علموا بنا وعرفونا قتلونا أو ردونا في دينهم. فجاء ذلك الرجل فرأى مدينة بخلاف التى عهدها ورأى قوما بخلاف أولئك لم

[ 280 ]

يعرفهم ولم يعرفوا لغتة ولم يعرف لغتهم فقالوا له: من أنت، ومن أين جئت ؟ فأخبرهم فخرج ملك تلك المدينة مع أصحابه والرجل معهم حتى وقفوا على باب الكهف وأقبلوا يتطلعون فيه فقال بعضهم: هؤلاء ثلاثة رابعهم كلبهم، وقال بعضهم: خمسة سادسهم كلبهم، وقال بعضهم سبعة وثامنهم كلبهم. وحجبهم الله بحجاب من الرعب فلم يكن يقدم بالدخول عليهم غير صاحبهم فإنه لما دخل عليهم وجدهم خائفين أن يكونوا أصحاب دقيانوس شعروابهم فأخبرهم صاحبهم أنهم كانوا نائمين هذا الزمن الطويل، وأنهم آيه للناس فبكوا وسألوا الله أن يعيدهم إلى مضاجعهم نائمين كما كانوا. ثم قال الملك: ينبغى أن نبني ههنا مسجدا نزوره فإن هؤلاء قوم مؤمنون. فلهم في كل سنة تقلبان ينامون ستة أشهر على جنوبهم (1) اليمنى وستة أشهر على جنوبهم (2) اليسرى والكلب معهم باسط ذراعيه بفناء الكهف وذلك قوله تعالى: " نحن نقص عليك نبأهم بالحق " إلى آخر الايات. اقول: والرواية من أوضح روايات القصة متنا وأسلمها من التشوش وهي مع ذلك تتضمن أن الذين اختلفوا في عددهم فقالوا: ثلاثة أو خمسة أو سبعة هم أهل المدينة الذين اجتمعوا على باب الكهف بعد انتباه الفتية وهو خلاف ظاهر الاية، وتتضمن أن أصحاب الكهف لم يموتوا ثانيا بل عادوا إلى نومتهم وكذلك كلبهم باسطا ذراعيه بالوصيد وان لهم في كل سنه تقلبين من اليمين إلى اليسار وبالعكس وأنهم بعد على هيئتهم. ولا كهف معهودا على وجه الارض وفيه قوم نيام على هذه الصفة. على أن في ذيل هذه الرواية. وقد تركنا نقله ههنا لاحتمال أن يكون من كلام القمى أو رواية اخرى - أن قوله تعالى: " ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعا " من كلام أهل الكتاب، وأن قوله بعده: " قل الله أعلم بما لبثوا " رد له، وقد عرفت في البيان المتقدم أن السياق يدفعه والنظم البليغ لا يقبله.


(1) جنبهم الايمن خ. (2) جنبهم الايسر خ.

[ 281 ]

وقد تكاثرت الروايات في بيان القصة من طرق الفريقين لكنها متهافتة مختلفة لا يكاد يوجد منها خبران متوافقا المضمون من جميع الجهات. فمن الاختلاف ما في بعض الروايات كالرواية المتقدمة أن سؤالهم كان عن أربعة نباء أصحاب الكهف ونبا موسى والعالم ونباء ذى القرنين وعن الساعة متى تقوم ؟ وفي بعضها أن السؤال كان عن خبر أصحاب الكهف وذي القرنين وعن الروح وقد ذكروا أن آية صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يجيب آخر الاسؤلة فأجاب عن نبأ أحصاب الكهف ونبأ ذي القرنين، ونزل " قل الروح من أمر ربي " الاية فلم يجب عنها، وقد عرفت في بيان آية الروح أن الكلام مسوق سوق الجواب وليس بتجاف. ومن ذلك ما في أكثر الروايات أنهم جماعة واحدة سموا أصحاب الكهف والرقيم، وفي بعضها أن أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف، وأن الله سبحانه أشار في كلامه إليهما معا لكنه قص قصة أصحاب الكهف وأعرض عن قصة أصحاب الرقيم، وذكروا لهم قصة وهي أن قوما وهم ثلاثة خرجوا يرتادون لاهلهم فأخذتهم السماء فأووا إلى كهف وانحطت صخرة من أعلى الجبل وسدت بابه. فقال بعضهم لبعض ليذكر كل منا شيئا من عمله الصالح وليدع الله به لعله يفرج عنا فذكر واحد منهم منه عمله لوجه الله ودعا الله به فتنحت الصخرة قدر ما دخل عليهم الضوء ثم الثاني فتنحت حتى تعارفوا ثم الثالث ففرج الله عنهم فخرجوا ؟ رواه (1) النعمان بن بشير مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والمستأنس باسلوب الذكر الحكيم يأبى أن يظن به أن يشير في دعوته إلى قصتين ثم يفصل القول في إحداهما وينسى الاخرى من أصلها. ومن ذلك ما تذكره الروايات أن الملك الذي هرب منه الفتية هو دقيانون (ديوكليس 285 م - 305 م) ملك الروم وفي بعضها كان يدعي الالوهية، وفي بعض أنه كان دقيوس (دسيوس 249 - 254 م) ملك الروم وبينهما عشرات من السنين وكان الملك يدعو إلى عبادة الاصنام ويقتل أهل التوحيد، وفي بعض الروايات


(1) الدو المنثور. (*)

[ 282 ]

كان مجوسيا يدعو إلى دين المجوس ولم يذكر التاريخ شيوع المجوسية هذا الشيوع في بلاد الروم، وفي بعض الروايات انهم كانوا قبل عيسى عليه السلام. ومن ذلك أن بعض الروايات تذكر أن الرقيم اسم البلد الذى خرجوا منه وفي بعضها اسم الوادي وفي بعضها اسم الجبل الذى فيه الكهف، وفي بعضها اسم كلبهم، وفي بعضها هو لوح من حجر، وفى بعضها من رصاص وفى بعضها من نحاس وفي بعضها من ذهب رقم فيه أسماؤهم وأسماء آبائهم وقصتهم ووضع على باب الكهف وفي بعضها داخله، وفي بعضها كان معلقا على باب المدينة وفي بعضها في بعض خزائن الملوك وفي بعضها هما لوحان. ومن ذلك ما في بعض الروايات أن الفتية كانوا من أولاد الملوك، وفى بعضها من أولاد الاشراف، وفى بعضها من أولاد العلماء، وفي بعضها أنهم سبعة سابعهم كان راعي غنم لحق بهم هو وكلبه في الطريق، وفي حديث (1) وهب بن منبه أنهم كانوا حماميين يعملون في بعض حمامات المدينة وساق لهم قصة دعوة الملك إلى عبادة الاصنام وفي بعضها أنهم كانوا من وزراء الملك يستشيرهم في اموره. ومن ذلك ما في بعض الروايات أنهم أظهروا المخالفة وعلم بها الملك قبل الخروج وفي بعضها أنه لم يعلم إلا بعد خروجهم وفي بعضها أنهم تواطؤوا على الخروج فخرجوا وفي بعضها أنهم خرجوا على غير معرفة من بعضهم لحال بعض وعلى غير ميعاد ثم تعارفوا واتفقوا في الصحراء وفي بعضها أن راعي غنم لحق بهم وهو سابعهم وفي بعضها أنه لم يتبعهم وتبعهم كلبه وسار معهم. ومن ذلك ما في بعض الروايات أنهم لما هربوا واطلع الملك على أمرهم افتقدهم ولم يحصل منهم على أثر، وفي بعضها أنه فحص عنهم فوجدهم نياما في كهفهم فأمر أن يبنى على باب الكهف بنيان ليحتبسوا فيموتوا جوعا وعطشا جزاء لعصيانهم فبقوا على هذه الحال حتى إذا أراد الله أن ينبههم بعث راعي غنم فخرب البنيان ليتخذ حظيرة لغنمه وعند ذلك بعثهم الله أيقاظا وكان من أمرهم ما قصه الله. ومن ذلك ما في بعض الروايات أنه لما ظهر أمرهم أتاهم الملك ومعه الناس فدخل


(1) الدر المنثور وقد أي رده ابن الاثير في الكامل. (*)

[ 283 ]

عليهم الكهف فكلمهم فبينا هو يكلمهم ويكلمونه إذ ودعوه وسلموا عليه وقضوا نحبهم، وفي بعضها أنهم ماتوا أو ناموا قبل أن يدخل الملك عليهم وسد باب الكهف وغاب عن أبصارهم فلم يهتدوا للدخول فبنوا هناك مسجدا يصلون فيه. ومن ذلك ما في بعض الروايات أنهم قبضت أرواحهم، وفي بعضها أن الله أرقدهم ثانيا فهم نيام إلى يوم القيامة ويقلبهم كل عام مرتين من اليمين إلى الشمال وبالعكس. ومن ذلك اختلاف الروايات في مده لبثهم ففي أكثرها أن الثلاث مائة وتسع سنين المذكور في الاية قول الله تعالى، وفي بعضها أنه محكي قول أهل الكتاب، وقوله تعالى: " قل الله أعلم بما لبثوا " رد له، وفي بعضها أن الثلاثمائة قوله سبحانه وزيادة التسع قول أهل الكتاب. إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف بين الروايات، وقد جمعت أكثرها من طرق أهل السنه في الدر المنثور، ومن طرق الشيعة في البحار وتفسيري البرهان ونور - الثقلين من أراد الاطلاع عليها فليراجعها، والذي يمكن أن تعد الروايات متفقه أو كالمتفقة عليه أنهم كانوا قوما موحدين هربوا من ملك جبار كان يجبر الناس على الشرك فأووا إلى الكهف فناموا إلى آخر ما قصه الله تعالى. وفي تفسير العياشي عن سليمان بن جعفر الهمداني قال: قال لي جعفر بن محمد عليه السلام يا سليمان من الفتى ؟ فقلت له ؟ جعلت فداك الفتى عندنا الشاب. قال لي: أما علمت أن أصحاب الكهف كانوا كلهم كهولا فسماهم الله فتية بإيمانهم يا سليمان من آمن بالله واتقى فهو الفتى اقول: وروى ما في معناه في الكافي عن القمي مرفوعا عن الصادق عليه السلام وقد روى عن (1) ابن عباس أنهم كانوا شبانا. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر قال: كان أصحاب الكهف صيارفة.


(1) الدر المنثور في قوله تعالى، " نحن نقص عليك نبأهم " الاية. (*)

[ 284 ]

اقول: وروى القمي أيضا باسناده عن سدير الصيرفى عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان أصحاب الكهف صيارفة: لكن في تفسير العياشي عن درست عن أبي عبد الله عليه السلام: أنه ذكر أصحاب الكهف فقال: كانوا صيارفة كلام ولم يكونوا صيارفة دراهم. وفى تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ان أصحاب الكهف أسروا الايمان وأظهروا الكفر فآجرهم الله مرتين. اقول: وروى في الكافي ما في معناه عن هشام بن سالم عنه عليه السلام وروى ما في معناه العياشي عن الكاهلى عنه عليه السلام، وعن درست في خبرين عنه عليه السلام وفي أحد الخبرين: أنهم كانوا ليشدون الزنانير ويشهدون الاعياد. ولا يرد عليه أن ظاهر قوله تعالى حكاية عنهم: " إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والارض لن ندعو من دونه إلها " الاية أنهم كانوا لا يرون التقية كما احتمله المفسرون في تفسير قوله تعالى حكاية عنهم: " أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا " الاية وقد تقدم. وذلك لانك عرفت أن خروجهم من المدينة كان هجره من دار الشرك التي كانت تحرمهم إظهار كلمة الحق والتدين بدين التوحيد غير أن تواطيهم على الخروج وهم ستة من المعاريف وأهل الشرف وإعراضهم عن الاهل والمال والوطن لم يكن لذلك عنوان إلا المخالفة لدين الوثنية فقد كانوا على خطر عظيم لو ظهر عليهم القوم ولم ينته أمرهم إلا إلى أحد أمرين الرجم أو الدخول في ملة القوم. وبذلك يظهر أن قيامهم أول مرة وقولهم: " ربنا رب السماوات والارض لن ندعوا من دونه إلها " لم يكن بتظاهر منهم على المخالفة وتجاهر على ذم ملة القوم ورمي طريقتهم فما كانت الاوضاع العامة تجيز لهم ذلك، وإنما كان ذلك منهم قياما لله وتصميما على الثبات على كلمة التوحيد ولو سلم دلالة قوله: " إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والارض " على التظاهر ورفض التقية فقد كان في آخر أيام مكثهم بين القوم وكانوا قبل ذلك سائرين على التقية لا محاله، فقد بان أن سياق شئ من الايتين لا ينافى كون الفتية سائرين على التقية ما داموا بين القوم وفي المدينة.

[ 285 ]

وفى تفسير العياشي أيضا عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: خرج أصحاب الكهف على غير معرفة ولا ميعاد فلما صاروا في الصحراء أخذ بعضهم على بعض العهود والمواثيق - فأخذ هذا على هذا وهذا على هذا ثم قالوا أظهروا أمركم فأظهروه فإذا هم على أمر واحد. اقول: وفي معناه ما عن ابن عباس في الخبر الاتي. في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: غزونا مع معاوية غزوه المضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف الذى ذكر الله في القرآن فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال له ابن عباس: ليس ذلك لك قد منع الله ذلك عمن هو خير منك فقال: " لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا " فقال معاوية لا أنتهي حتى أعلم علمهم فبعث رجالا فقال: اذهبوا فادخلوا الكهف فانظروا فذهبوا فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحا فأخرجتهم فبلغ ذلك ابن عباس فأنشا يحدث عنهم. فقال: إنهم كانوا في مملكة ملك من الجبابرة فجعلوا يعبدون حتى عبدوا الاوثان وهؤلاء الفتية في المدينة فلما رأوا ذلك خرجوا من تلك المدينة - فجمعهم الله على غير ميعاد فجعل بعضهم يقول لبعض: أين تريدون ؟ أين تذهبون ؟ فجعل بعضهم يخفي على بعض لانه لا يدري هذا على ما خرج هذا ولا يدري هذا فأخذوا العهود والمواثيق أن يخبر بعضهم بعضا فإن اجتمعوا على شئ وإلا كتم بعضهم بعضا فاجتمعوا على كلمة واحدة فقالوا: " ربنا رب السماوات والارض - إلى قوله - مرفقا ". قال فقعدوا فجاء أهلهم يطلبونهم لا يدرون أين ذهبوا ؟ فرفع امرهم إلى الملك فقال: ليكونن لهؤلاء القوم بعد اليوم شأن، ناس خرجوا لا يدري اين ذهبوا في غير خيانة ولا شئ يعرف، فدعا بلوح من رصاص فكتب فيه اسماءهم ثم طرح في خزانته فذلك قول الله: " ام حسبت ان اصحاب الكهف والرقيم " والرقيم هو اللوح الذي كتبوا، فانطلقوا حتى دخلوا الكهف فضرب الله على آذانهم فناموا فلو ان الشمس تطلع عليهم لاحرقتهم، ولولا انهم يقلبون لاكلتهم الارض، وذلك قول الله: " وترى الشمس الاية.

[ 286 ]

قال ثم ان ذلك الملك ذهب وجاء ملك آخر فعبد الله وترك تلك الاوثان وعدل في الناس فبعثهم الله لما يريد فقال قائل منهم كم لبثتم ؟ فقال بعضهم: يوما وقال بعضهم: يومين وقال بعضهم: أكثر من ذلك فقال كبيرهم: لا تختلفوا فإنه لم يختلف قوم قط إلا هلكوا فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة. فرأى شارة (1) أنكرها ورأى بنيانا أنكره ثم دنا إلى خباز فرمى إليه بدرهم وكانت دراهمهم كخفاف الربع يعني ولد الناقة فأنكر الخباز الدرهم فقال: من أين لك هذا الدرهم ؟ لقد وجدت كنزا لتدلني عليه أو لارفعنك إلى الامير فقال: أو تخوفني بالامير ؟ وأتى الدهقان الامير قال: من أبوك ؟ قال: فلان فلم يعرفه قال: فمن الملك ؟ قال: فلان فلم يعرفه فاجتمع عليهم الناس فرفع إلى عالمهم فسأله فأخبره فقال - علي باللوح فجئ به فسمى أصحابه فلانا وفلانا وهم مكتوبون في اللوح فقال للناس: إن الله قد دلكم على إخوانكم. وانطلقوا وركبوا حتى أتوا إلى الكهف فلما دنوا من الكهف قال الفتى: مكانكم أنتم حتى أدخل أنا على أصحابي، ولا تهجموا فيفزعون منكم وهم لا يعلمون أن الله قد أقبل بكم وتاب عليكم فقالوا: لتخرجن علينا ؟ قال: نعم إن شاء الله فدخل فلم يدروا أين ذهب ؟ وعمي عليهم فطلبوا وحرضوا فلم يقدروا على الدخول عليهم فقالوا: لنتخذن عليهم مسجدا فاتخذوا عليهم مسجدا يصلون عليهم ويستغفرون لهم. اقول: والرواية مشهورة أوردها المفسرون في تفاسيرهم وتلقوها بالقبول وهي بعد غير خالية عن أشياء منها أن ظاهرها أنهم بعد على هيئة النيام لا يمكن الاطلاع عليهم بصرف إلهي والكهف الذي في المضيق وهو كهف إفسوس المعروف اليوم ليس على هذا النعت. والاية التي تمسك بها ابن عباس إنما تمثل حالهم وهم رقود قبل البعث لا بعده وقد وردت عن ابن عباس رواية اخرى تخالف هذه الرواية وهي ما في الدر المنثور عن عبد الرزاق وأبن أبي حاتم عن عكرمة وقد ذكرت فيها القصه وفي آخرها: فركب


(1) الشارة الهيئة والزينة والمنظر واللباس. (*)

[ 287 ]

الملك وركب معه الناس حتى انتهى إلى الكهف فقال الفتي: دعوني أدخل إلى أصحابي فلما أبصروه وأبصرهم ضرب على آذانهم فلما استبطؤوه دخل الملك ودخل الناس معه فإذا أجساد لا يبلى منها شئ غير أنها لا أرواح فيها فقال الملك: هذه آية بعثها الله لكم. فغزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة فمروا بالكهف فإذا فيه عظام فقال رجل: هذه عظام أهل الكهف فقال ابن عباس ذهبت عظامهم أكثر من ثلاثمائة سنه الحديث. وتزيد هذه الرواية إشكالا أن قوله: ذهبت عظامهم " الخ " يؤدي إلى وقوع القصة في أوائل التاريخ الميلادى أو قبله فتخالف حينئذ عامة الروايات إلا ما تقول إنهم كانوا قبل المسيح. ومنها ما في قوله: " فقال بعضهم: يوما وقال بعضهم: يومين الخ والذى وقع في القرآن قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم وهو المعقول الموافق للاعتبار من قوم ناموا ثم انتبهوا وتكلموا في مده لبثهم أخذا بشواهد الحال وأما احتمال اليومين وأزيد فمما لا سبيل إليه ولا شاهد يشهد عليه عادة على أن اختلافهم في تشخيص مده اللبث لم يكن من الاختلاف المذموم الذي هو الاختلاف في العمل في شئ حتى يؤدي إلى الهلاك فينهى عنه وإنما هو اختلاف في النظر ولا مناص. ومنها ما في آخرها أنه دخل فلم يدروا أين ذهب ؟ وعمى عليهم " الخ " كأن المراد به ما في بعض الروايات أن باب الكهف غاب عن أنظارهم بأن مسحه الله وعفاه، ولا يلائم ذلك ما في صدر الرواية أنه كان ظاهرا معروفا في تلك الديار فهل مسحه الله لذلك الملك وأصحابه ثم أظهره للناس ؟ وما في صدر الرواية من قول ابن عباس " إن الرقيم لوح من رصاص مكتوب فيه أسماؤهم " روى ما في معناه العياشي في تفسيره عن أحمد بن علي عن أبي عبد الله عليه السلام وقد روي في روايات اخرى عن ابن عباس إنكاره كما في الدر المنثور عن سعيد بن منصور وعبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم والزجاجى في أمالية وابن مردويه عن ابن عباس قال: لا أدري ما الرقيم ؟ وسألت كعبا فقال: اسم القرية التي خرجوا منها.

[ 288 ]

وفيه أيضا عن عبد الرزاق عن ابن عباس قال: كل القرآن أعلمه إلا أربعا: غسلين (1) وحنانا وأواه ورقيم. وفى تفسير القمى: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا " يعنى جورا على الله إن قلنا له شريك. وفي تفسير العياشي عن محمد بن سنان عن البطيخي عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله: " لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا " قال: إن ذلك لم يعن به النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما عني به المؤمنون بعضهم لبعض لكنه حالهم التي هم عليها. وفى تفسير روح المعاني أسماؤهم على ما صح عن ابن عباس: مكسلمينا ويمليخا ومرطولس وثبيونس ودر دونس وكفاشيطيطوس ومنطنواسيس وهو الراعي والكلب اسمه قطير. قال: وروي عن علي كرم الله وجهه أن أسماءهم: يمليخا ومكسلينيا ومسلينيا وهؤلاء أصحاب يمين الملك، ومرنوش ودبرنوش وشاذنوش، وهؤلاء أصحاب يساره، وكان يستشير الستة والسابع الراعي ولم يذكر في هذه الرواية اسمه وذكر فيها أن اسم كلبهم قطير. قال: وفي صحة نسبة هذه الرواية لعلي كرم الله وجهه مقال وذكر العلامة السيوطي في حواشي البيضاوي أن الطبراني روى ذلك عن ابن عباس في معجمه الاوسط بإسناد صحيح، والذي في الدر المنثور، رواية الطبراني في الاوسط بإسناد صحيح ما قدمناه عن ابن عباس. قال: وقد سموا في بعض الروايات بغير هذه الاسماء، وذكر الحافظ ابن حجر في شرح البخاري أن في النطق بأسمائهم اختلافا كثيرا ولا يقع الوثوق من ضبطها، وفي البحر أن أسماء أصحاب الكهف أعجمية لا تنضبط بشكل ولا نقط والسند في معرفتها ضعيف انتهى كلامه (2).


1 - اختلاف اعراب الكلمات من جهة حكاية لفظ القرآن. 2 - الروايات في قصة اصحاب الكهف - على ما لخصه بعض علماء الغرب - اربع وهى = (*)

[ 289 ]

والرواية التي نسبها إلى علي عليه السلام هي التي رواها الثعلبي في العرائس والديلمي في كتابه مرفوعة وفيها أعاجيب.


مشتركة في اصل القصة مختلفة في خصوصياتها:. 1 - الرواية السريانية واقدم ما يوجد منها ما ذكره Jrmes of sarug المتوفى سنة 521). 2 - الرواية الاتينية وهي مأخوذة من السريانية عن Symeon Meta Phrastos 4 - الرواية الاسلامية وتنتهي الي السريانية. وهناك روايات واردة في المتون القبطية والحبشية والارمنية وتنتهي جميعا إلى السريانية. واسماء اصحاب الكهف في الروايات الاسلامية مأخوذة من روايات غيرهم، وقد ذكر Gregory ان بعض هذه الاسماء كانت اسماءهم قبل التنصر والتعميد وهذه اسماميهم باليونانية والسريانية. مكس منيانوس 1 - Maximilianos امليخوس - مليخا 2 - Iamblichos مرتيانوس - مرطلوس - مرطولس. (3 - Martinos -) Martelos ذوانيوس - دوانيوانس - دنياسيوس. 4 - Dionysios ينيوس - يوانيس - نواسيس. 5 - Joannes اكساكدثودنيانوسنن - كسقسططيونس - اكسقوسطط كشفوطط. 6 - Exakoustodianos انطونس (افطونس) - اندونيوس - انطينوس. 7 - Antonios قطمير. واسماؤهم باللاتينية:. Koimeterion مكس ميانوس. 1 - Maximianus امليخوس. 2 - Malchus مرتيانوس. 4 - Dionysius ذيووانيوس. 5 - Johannes ينيوس. 6 - Constantinu قسطنطيوس. 3 - Martinianus ساريبوس - ساريبون. 7 - Serapion وذكر Gregory ان اسماءهم قبل التنصر هي: ارشليدس - ارخليدس. 1 - achilles ديوماديوس. 2 - Diomedes اوخانيوس. 3 - Eugenius استفانوس - اساطونس. 4 - Stephanus ابروفاديوس. 5 - Probatius صامنديوس. 6 - Sabbatius كيوياكوس. 7 - Kyriakos ويرى بعضهم ان الاسماء الاعربية مأخوذة عن القبطية المأخوذة عن السريانية.

[ 290 ]

وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصحاب الكهف أعوان المهدي. وفى البرهان عن ابن الفارسى قال الصادق عليه السلام: يخرج للقائم عليه السلام من ظهر الكعبة سبعة وعشرون رجلا من قوم موسى الذين كانوا يهدون بالحق وبه يعدلون وسبعة من أهل الكهف، ويوشع بن نون، وأبو دجانة الانصاري، ومقداد بن الاسود ومالك الاشتر فيكونون بين يديه انصارا وحكاما.، وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن ميمون عن أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه علي بن أبي طالب عليه السلام قال: إذا حلف رجل بالله فله ثنياها إلى أربعين يوما وذلك أن قوما من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن شئ فقال: ائتونى غدا - ولم يستثن - حتى أخبركم فاحتبس عنه جبرئيل أربعين يوما ثم أتاه وقال: " ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت ". اقول: الثنيا بالضم فالسكون مقصورا اسم الاستثناء وفي هذا المعنى روايات أخر عن الصادقين عليه السلام والظاهر من بعضها أن المراد بالحلف بت الكلام وتأكيده كما يلوح إليه استشهاده عليه السلام في هذه الرواية بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأما البحث في تقييد اليمين به بعد انعقاده ووقوع الحنث معه وعدمه فموكول إلى الفقه. " كلام حول قصه أصحاب الكهف في فصول " 1 - وردت قصة الكهف مفصلة كاملة في عدة روايات عن الصحابة والتابعين وأئمه أهل البيت عليهم السلام كرواية القمي ورواية ابن عباس ورواية عكرمة ورواية مجاهد وقد أوردها في الدر المنثور ورواية ابن اسحاق في العرائس وقد أوردها في البرهان ورواية وهب بن منبه وقد أوردها في الدر المنثور وفي الكامل من غير نسبة ورواية النعمان بن بشير في أصحاب الرقيم وقد أوردها في الدر المنثور. وهذه الروايات - وقد أوردنا في البحث الروائي السابق بعضها وأشرنا إلى بعضها

[ 291 ]

الاخر - من الاختلاف في متونها بحيث لا تكاد تتفق في جهة بارزه من جهات القصة، وأما الروايات الواردة في بعض جهات القصة كالمتعرضة لزمان قيامهم والملك الذي قاموا في عهده ونسبهم وسمتهم وأسمائهم ووجه تسميتهم بأصحاب الرقيم إلى غير ذلك من جزئيات القصة فالاختلاف فيها أشد والحصول فيها على ما تطمئن إليه النفس أصعب. والسبب العمدة في اختلاف هذه الاحاديث مضافا إلى ما تطرق إلى أمثال هذه الروايات من الوضع والدس أمران. أحدهما: أن القصة مما اعتنت به أهل الكتاب كما يستفاد من رواياتها أن قريشا تلقتها عنهم وسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها بل يستفاد من التماثيل وقد ذكرها أهل التاريخ عن النصارى ومن الصور الموجودة في كهوف شتى في بقاع الارض المختلفة من آسيا واوربا وافريقيا أن القصة اكتسبت بعد شهرة عالمية ومن شأن القصص التي كذلك أن تتجلى لكل قوم في صورة تلائم ما عندهم من الاراء والعقائد وتختلف رواياتها. ثم إن المسلمين بالغوا في أخذ الرواية وضبطها وتوسعوا فيه وأخذوا ما عند غيرهم كما أخذوا ما عند أنفسهم وخاصة وقد اختلط بهم قوم من علماء أهل الكتاب دخلوا في الاسلام كوهب بن منبه وكعب الاحبار وأخذ عنهم الصحابة والتابعون كثيرا من أخبار السابقين ثم اخذ الخلف عن السلف وعاملوا مع رواياتهم معاملة الاخبار الموقوفة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكانت بلوى. وثانيهما: ان دأب كلامه تعالى فيما يورده من القصص أن يقتصر على مختارات من نكاتها المهمة المؤثرة في إيفاء الغرض من غير أن يبسط القول بذكر متنها بالاستيفاء والتعرض لجميع جهاتها والاوضاع والاحوال المقارنة لها فما كتاب الله بكتاب تاريخ وإنما هو كتاب هدى. وهذا من أوضح ما يعثر عليه المتدبر في القصص المذكورة في كلامه تعالى كالذي ورد فيه من قصة أصحاب الكهف والرقيم فقد أورد أولا شطرا من محاورتهم يشير إلى معنى قيامهم لله وثباتهم على كلمة الحق واعتزالهم الناس إثر ذلك ودخولهم الكهف ورقودهم فيه وكلبهم معهم دهرا طويلا ثم يذكر بعثهم من الرقدة ومحاوره ثانية لهم هي المؤدية

[ 292 ]

إلى انكشاف حالهم وظهور أمرهم للناس. ثم يذكر إعثار الناس عليهم بما يشير إلى توفيهم ثانيا بعد حصول الغرض الالهى وما صنع بعد ذلك من اتخاذ مسجد عليهم هذا هو الذي جرى عليه كلامه تعالى. وقد أضرب عن ذكر أسمائهم وأنسابهم وموالدهم وكيفية نشأتهم وما اتخذوه لانفسهم من المشاغل وموقعهم من مجتمعهم وزمان قيامهم واعتزالهم واسم الملك الذي هربوا منه والمدينة التي خرجوا منها والقوم الذين كانوا فيهم واسم الكلب الذي لازمهم وهل كان كلب صيد لهم أو كلب غنم للراعي ؟ وما لونه ؟ - وقد أمعن فيه الروايات - إلى غير ذلك من الامور التي لا يتوقف غرض الهداية على العلم بشئ منها كما يتوقف عليه غرض البحث التاريخي. ثم إن المفسرين من السلف لما أخذوا في البحث عن آيات القصص راموا بيان اتصال الايات بضم المتروك من أطراف القصص إلى المختار المأخوذ منها لتصاغ بذلك قصة كاملة الاجزاء مستوفاة الاطراف فأدى اختلاف أنظارهم إلى اختلاف يشابه اختلاف النقل فآل الامر إلى ما نشاهده. 2 - قصة اصحاب الكهف في القرآن: وقد قال تعالى مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم " ولا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا " كانت أصحاب الكهف والرقيم فتية نشأوا في مجتمع مشرك لا يرى إلا عبادة الاوثان فتسرب في المجتمع دين التوحيد فآمن بالله قوم منهم فأنكروا عليهم ذلك وقابلوهم بالتشديد والتضييق والفتنة والعذاب، وأجبروهم على عبادة الاوثان ورفض دين التوحيد فمن عاد إلى ملتهم تركوه ومن أصر على المخالفة قتلوه شر قتلة. وكانت الفتية ممن آمن بالله إيمانا على بصيرة فزادهم الله هدى على هداهم وأفاض عليهم المعرفة والحكمة وكشف بما آتاهم من النور عما يهمهم من الامر وربط على قلوبهم فلم يخشوا إلا الله ولا أوحشهم ما يستقبلهم من الحوادث والمكاره فعلموا أنهم لو أداموا المكث في مجتمعهم الجاهل المتحكم لم يسعهم دون أن يسيروا بسيرتهم فلا يتفوهوا بكلمه الحق ولا يتشرعوا بشريعة الحق، وعلموا أن سبيلهم أن يقوموا على التوحيد ورفض الشرك ثم اعتزال القوم وعلموا أن لو اعتزلوهم ودخلوا الكهف أنجاهم الله مما هم فيه من البلاء.

[ 293 ]

فقاموا وقالوا ردا على القوم في اقتراحهم وتحكمهم: ربنا رب السماوات والارض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لو لا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا. ثم قالوا: وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهئ لكم من أمركم مرفقا. ثم دخلوا الكهف واستقروا على فجوة منه وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد فدعوا ربهم بما تفرسوا من قبل أنه سيفعل بهم ذلك فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهئ لنا من أمرنا رشدا فضرب الله على آذانهم في الكهف سنين ولبثوا في كهفهم وكلبهم معهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ويقلبهم الله ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا. ثم إن الله بعثهم بعد هذا الدهر الطويل وهو ثلاثمائة وتسع سنين من يوم دخلوا الكهف ليريهم كيف نجاهم من قومهم فاستيقظوا جميعا ووجدوا أن الشمس تغير موقعها وفيهم شئ من لوثة نومهم الثقيل قال قائل منهم: كم لبثتم ؟ قال قوم منهم: لبثنا يوما أو بعض يوم لما وجدوا من تغير موقع الشعاع وترددوا هل مرت عليهم ليله أو لا ؟ وقال آخرون منهم: بل ربكم أعلم بما لبثتم ثم قال: فابعثوا بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه فإنكم جياع وليتلطف الذاهب منكم إلى المدينة في مسيره إليها وشرائه الطعام ولا يشعرن بكم أحدا إنهم إن علموا بمكانكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا. وهذا أو ان أن يعثر الله سبحانه الناس عليهم فإن القوم الذين اعتزلوهم وفارقوهم يوم دخلوا الكهف قد انقرضوا وذهب الله بهم وبملكهم وملتهم وجاء بقوم آخرين الغلبة فيهم لاهل التوحيد والسلطان وقد اختلفوا أعني أهل التوحيد وغيرهم في أمر المعاد فأراد الله سبحانه أن يظهر لهم آية في ذلك فأعثرهم على أصحاب الكهف.

[ 294 ]

فخرج المبعوث من الفتية وأتى المدينة وهو يظن أنها التي فارقها البارحة لكنه وجد المدينة قد تغيرت بما لا يعهد مثله في يوم ولا في عمر والناس غير الناس والاوضاع والاحوال غير ما كان يشاهده بالامس فلم يزل على حيرة من الامر حتى أراد أن يشتري طعاما بما عنده من الورق وهي يومئذ من الورق الرائجة قبل ثلاثه قرون فأخذت المشاجرة فيها ولم تلبث دون أن كشفت عن أمر عجيب وهو أن الفتى ممن كانوا يعيشون هناك قبل ذلك بثلاثة قرون، وهو أحد الفتية كانوا في مجتمع مشرك ظالم فهجروا الوطن واعتزلوا الناس صونا لايمانهم ودخلوا الكهف فأنامهم الله هذا الدهر الطويل ثم بعثهم وها هم الان في الكهف في انتظار هذا الذي بعثوه إلى المدينة ليشتري لهم طعاما يتغذون به. فشاع الخبر في المدينة لساعته واجتمع جم غفير من أهلها فساروا إلى الكهف ومعهم الفتى المبعوث من أصحاب الكهف فشاهدوا ما فيه تصديق الفتى فيما أخبرهم من نبأ رفقته وظهرت لهم الايه الالهية في أمر المعاد. ولم يلبث أصحاب الكهف بعد بعثهم كثيرا دون أن توفاهم الله سبحانه وعند ذلك اختلف المجتمعون على باب الكهف من أهل المدينة ثانيا فقال المشركون منهم: ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم وهم الموحدون لنتخذن عليهم مسجدا. 3 - القصة عند غير المسلمين: معظم أهل الرواية والتاريخ على أن القصة وقعت في الفتره بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين المسيح عليه السلام ولذلك لم يرد ذكرها في كتب العهدين ولم يعتوره اليهود وإن اشتملت عده من الروايات على أن قريشا تلقت القصة من اليهود، وإنما اهتم بها النصارى واعتوروها قديما وحديثا، وما نقل عنهم في القصة قريب مما أورده ابن اسحاق في العرائس عن ابن عباس غير أنهم يختلف رواياتهم عن روايات المسلمين في امور. أحدها: أن المصادر السريانية تذكر عدد أصحاب الكهف ثمانية في حين يذكره المسلمون وكذا المصادر اليونانية والغربيه سبعة. ثانيها: أن قصتهم خالية من ذكر كلب أصحاب الكهف.

[ 295 ]

ثالثها: أنهم ذكروا أن مدة لبث أصحاب الكهف فيه مائتا سنة أو أقل والمسلمون يذكر معظمهم أنه ثلاثمائة وتسع سنين على ما هو ظاهر القرآن الكريم والسبب في تحديدهم ذلك أنهم ذكروا أن الطاغية الذي كان يجبر الناس على عبادة الاصنام وقد هرب منه الفتية هو دقيوس الملك 449 - 451 وقد استيقظ أهل الكهف على ما ذكروا سنة 425 م أو سنه 437 م أو سنة 439 م فلا يبقى للبثهم في الكهف إلا مائتا سنة أو اقل واول من ذكره من مؤرخبهم على ما يذكر هو " جيمس " الساروغي السرياني الذي ولد سنه 451 م ومات سنه 521 م ثم أخذ عنه الاخرون وللكلام تتمة ستوافيك. 4 - اين كهف اصحاب الكهف: عثر في مختلف بقاع الارض على عدة من الكهوف والغيران وعلى جدرانها تماثيل رجال ثلاثة أو خمسة أو سبعة ومعهم كلب وفي بعضها بين أيديهم قربان يقربونه، ويتمثل عند الانسان المطلع عليها قصص أصحاب الكهف ويقرب من الظن أن هذه النقوش والتماثيل إشاره إلى قصة الفتية وأنها انتشرت وذاعت بعد وقوعها في الاقطار فأخذت ذكرى يتذكر بها الرهبان والمتجردون للعبادة في هذه الكهوف. وأما الكهف الذى التجأ إليه واستخفى فيه أهل الكهف فجرى عليهم ما جرى فالناس فيه في اختلاف وقد ادعي ذلك في عدة مواضع: احدها: كهف إفسوس وإفسوس (1) هذا مدينة خربة أثرية واقعة في تركيا على مسافة 73 كيلو مترا من بلدة إزمير، والكهف على مساحة كيلو متر واحد أو أقل من إفسوس بقرب قرية " اياصولوك " بسفح جبل " ينايرداغ ". وهو كهف وسيع فيه - على ما يقال مآت من القبور مبنية من الطوب وهو في سفح الجبل وبابه متجه نحو الجهة الشمالية الشرقية وليس عنده أثر من مسجد أو صومعة أو كنيسة، وهذا الكهف هو الاعرف عند النصارى، وقد ورد ذكره في عدة من روايات المسلمين. وهذا الكهف - على الرغم من شهرته البالغة - لا ينطبق عليه ما ورد في الكتاب


(1) بكسر الهمزة والفاء وقد ضبطه في مراصد الاطلاع بالضم فالسكون ولعله سهو. (*)

[ 296 ]

العزيز من المشخصات. أما أولا: فقد قال تعالى: " وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقضرضهم ذات الشمال " وهو صريح في أن الشمس يقع شعاعها عند الطلوع على جهة اليمين من الكهف وعند الغروب على الجانب الشمالي منه، ويلزمه أن يواجه باب الكهف جهة الجنوب، وباب الكهف الذي في إفسوس متجه نحو الشمال الشرقي. وهذا الامر أعني كون باب كهف إفسوس متجها نحو الشمال وما ورد من مشخص إصابة الشمس منه طلوعا وغروبا هو الذي دعا المفسرين إلى أن يعتبروا يمين الكهف ويساره بالنسبة إلى الداخل فيه لا الخارج منه مع أنه المعروف المعمول - كما تقدم في تفسير الاية - قال البيضاوي في تفسيره: إن باب الكهف في مقابلة بنات النعش، وأقرب المشارق والمغارب إلى محاذاته مشرق رأس السرطان ومغربه والشمس إذا كان مدارها ماره تطلع مائلة عنه مقابلة لجانبه الايمن وهو الذي يلي المغرب، وتغرب محاذية لجانبه الايسر فيقع شعاعها على جانبه ويحلل عفونته ويعدل هواءه ولا يقع عليهم فيؤذي أجسادهم وييلي ثيابهم. انتهى ونحو منه ما ذكره غيره. على أن مقابلة الباب للشمال الشرقي لا للقطب الشمالي وبنات النعش كما ذكروه تستلزم عدم انطباق الوصف حتى على الاعتبار الذي اعتبروه فإن شعاع الشمس حينئذ يقع على الجانب الغربي الذي يلي الباب عند طلوعها وأما عند الغروب فالباب وما حوله مغمور تحت الظلل وقد زال الشعاع بعيد زوال الشمس وانبسط الظل. اللهم إلا أن يدعى أن المراد بقوله: " وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال " عدم وقوع الشعاع أو وقوعه خلفهم لا على يسارهم هذا. وأما ثانيا: فلان قوله تعالى: " وهم في فجوة منه " أي في مرتفع منه ولا فجوة في كهف إفسوس - على ما يقال - وهذا مبني على كون الفجوة بمعنى المرتفع وهو غير مسلم وقد تقدم أنها بمعنى الساحة. وأما ثالثا فلان قوله تعالى: " قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا " ظاهر في أنهم بنوا على الكهف مسجدا، ولا أثر عند كهف إفسوس من مسجد أو

[ 297 ]

صومعة أو نحوهما، وأقرب ما هناك كنيسة على مسافة ثلاث كيلو مترات تقريبا ولا جهة تربطها بالكهف أصلا. على أنه ليس هناك شئ من رقيم أو كتابة أو أمر آخر يشهد ولو بعض الشهادة على كون بعض هاتيك القبور وهي مآت هي قبور أصحاب الكهف أو انهم لبثوا هناك صفه من الدهر راقدين ثم بعثهم الله ثم توفاهم. الكهف الثاني: كهف رجيب وهذا الكهف واقع على مسافة ثمانية كيلو مترات من مدينه عمان عاصمة الاردن بالقرب من قرية تسمى رجيب والكهف في جبل محفورا على الصخرة في السفح الجنوبي منه، واطرافه من الجانبين الشرقي والغربي مفتوحة يقع عليه شعاع الشمس منها، وباب الكهف يقابل جهة الجنوب وفي داخل الكهف صفة صغيرة تقرب من ثلاثة امتار في مترين ونصف على جانب من سطح الكهف المعادل لثلاثة في ثلاثه تقريبا وفى الغار عدة قبور على هيئة النواويس البيزنطية كأنها ثمانية أو سبعة. وعلى الجدران نقوش وخطوط باليوناني القديم والثمودي منمحية لا تقرء وايضا صورة كلب مصبوغة بالحمرة وزخارف وتزويقات اخرى. وفوق الغار آثار صومعة بيزنطيه تدل النقود والاثار الاخرى المكتشفة فيها على كونها مبنية في زمان الملك جوستينوس الاول 418 - 427 وآثار اخرى على ان الصومعة بدلت ثانيا بعد استيلاء المسلمين على الارض مسجدا اسلاميا مشتملا على المحراب و المأذنة والميضاة وفي الساحة المقابلة لباب الكهف آثار مسجد آخر بناه المسلمون في صدر الاسلام ثم عمروها وشيدوها مرة بعد مرة، وهو مبني على أنقاض كنيسة بيزنطية كما أن المسجد الذي فوق الكهف كذلك. وكان هذا الكهف - على الرغم من اهتمام الناس بشأنه وعنايتهم بأمره كما يكشف عنه الاثار - متروكا منسيا وبمرور الزمان خربة ورد ما متهدما حتى اهتمت دائرة الاثار الاردنية اخيرا (1) بالحفر والتنقيب فيه فاكتشفته فظهر ثانيا بعد خفائه قرونا،


(1) وقد وقع هذا الحفر والاكتشاف سنة 1963 م المطابقة 1342 ه‍ ش والف في ذلك متصديه. = (*)

[ 298 ]

وقامت عدة من الامارات والشواهد الاثرية على كونه هو كهف اصحاب الكهف المذكورين في القرآن.


= الاثري الفاضل " رفيق وفا الدجاني " كتابا سماه " اكتشاف كهف اهل الكهف " نشره سنة 1964 م يفصل القول فيه في مساعي الدائرة وما عاناه في البحنث والتنقيب، ويصف فيه خصوصيات حصل عليها في هذا الكهف، والاثار التي اكتشفت مما يؤيد كون هذا الكهف هو كهف اصحاب الكهف الذي ورد ذكره في الكتاب العزيز، ويذكر انطباق الامارات المذكورة فيه وسائر العلائم التي وجدت هناك على هذا الكهف دون كهف افسوس والذي في دمشق أو البتراء أو اسكاندنافيه. وقد استقرب فيه ان الطاغية الذي هرب سنه اصحاب الكهف فدخلوا الكهف هو " طراجان الملك 98 - 117 م " لادقيوس الملك 249 - 251 م الذي ذكره المسيحيون وبعض المسلمين ولا دقيانوس الملك 285 - 305 الذي ذكره بعض اخر من المسلمين في رواياتهم. واستدل عليه بأن الملك الصالح الذي بعث الله اصحاب الكهف في زمانه هو ثئودوسيوس الملك 408 - 450 باجماع مؤرخي المسيحيين والمسلمين وإذا طرحنا زمان الفترة الذي ذكره القرآن لنوم اهل الكهف وهي 309 سنين من متوسط حكم هذا الملك الصالح وهو 421 بقي 112 سنة وصادف زمان حكم طراجان الملك وقد اصدر طراجان في هذه السنة مرسوما يقضي ان كل عيسوي يرفض عبادة الالهة يحاكم كخائن للدولة ويعرض للموت. وبهذا الوجه يندفع اعتراض بعض مؤرخي المسيحيين كجيبون في كتاب " انحطاط وسقوط الامبراطورية الرومية " على زمان لبث الفتية 309 سنين المذكورة في القرآن بأنه لا يوافق ما ضبطه واثبته التاريخ انهم بعثوا في زمن حكم الملك الصالح ثئودسيوس 408 - 451 م وقد دخلوا الكهف في زمن حكم دقيوس 249 - 251 م والفصل بين الحكمين مائتا سنة أو اقل وهذا منه شكر الله سعيه استدلال وجيه بيد انه يتوجه عليه امور: منها: طرحه 309 سنين المذكورة في القرآن وهي سنون قمرية على الظاهر وكان ينبغي ان يعتبرها 300 سنة لتكون شمسية فيطرحها من 430 متوسط سني حكم الملك الصالح. ومنها: انه ذكر اجماع المؤرخين من المسلمين والمسيحيين على ظهور امر الفتية في زمن حكم ثئودوسيوس ولا اجماع هناك مع سكوت اكثر رواياتهم عن تسمية هذا الملك الصالح ولم يذكره باسمه الا قليل منهم ولعلهم اخذوا ذلك من مؤرخي المسيحيين ولعل ذلك حدس منهم عما ينسب إلى جيمس الساروغي 452 - 521 م انه ذكر القصة في كتاب له الفه سنة 474 فطبقوا الملك على ثئودوسيوس على ان مثل هذا الاجماع اجماعهم المركب على ان طاغيتهم اما دقيوس أو دقيانوس فانه ينفي على اي حال كونه هو " طراجان ". ومنها: انه ذكر ان الصومعة التي على الكهف تدل البينات الاثرية على كونها مبنية في زنم جستينوس الاول 518 - 527 م ولازم ذلك ان يكون بناؤها بعد مائة سنة تقريبا من ظهور امر الفتية، وظاهر الكتاب العزيز ان بناءها مقارن لزمان اعثار الناس عليهم، وعلى هذا ينبغي ان يعتقد ان بنائها بناء مجدد ما هو بالبناء الاولي عند ظهور امرهم. وبعد هذا كله فالمشخصات التي وردت في القرآن الكريم للكهف اوضح انطباقا على كهف الرجيب من غيره. (*)

[ 299 ]

وقد ورد كون كهف أصحاب الكهف بعمان في بعض روايات المسلمين كما أشرنا إليه فيما تقدم وذكره الياقوت في معجم البلدان وأن الرقيم اسم قرية بالقرب من عمان كان فيها قصر ليزيد بن عبد الملك وقصر آخر في قرية اخرى قريبة منها تسمى الموقر واليهما يشير الشاعر بقوله: يزرن على تنانيه يزيدا * * بأكناف الموقر والرقيم. وبلدة عمان أيضا مبنية في موضع مدينة " فيلادلفيا " التي كانت من أشهر مدن عصرها وأجملها قبل ظهور الدعوة الاسلامية وكانت هي وما والاها تحت استيلاء الروم منذ أوائل القرن الثاني الميلادي حتى فتح المسلمون الارض المقدسة. والحق أن مشخصات كهف أهل الكهف أوضح انطباقا على هذا الكهف من غيره. والكهف الثالث: كهف بجبل قاسيون بالقرب من الصالحية بدمشق الشام ينسب إلى أصحاب الكهف. والكهف الرابع: كهف بالبتراء من بلاد فلسطين ينسبونه إلى اصحاب الكهف. والكهف الخامس: كهف اكتشف - على ما قيل - في شبه جزيرة اسكاندنافية من الاوربة الشمالية عثروا فيه على سبع جثث غير بالية على هيئة الرومانيين يظن أنهم الفتية أصحاب الكهف. وربما يذكر بعض كهوف أخر منسوب إلى اصحاب الكهف كما يذكر أن بالقرب من بلدة نخجوان من بلاد قفقاز كهفا يعتقد أهل تلك النواحي أنه كهف أصحاب الكهف وكان الناس يقصدونه ويزورونه. ولا شاهد يشهد على كون شئ من هذه الكهوف هو الكهف المذكور في القرآن الكريم. على أن المصادر التاريخية تكذب الاخيرين إذ القصة على أي حال قصة رومانية، وسلطتهم حتى في أيام مجدهم وسؤددهم لم تبلغ هذه النواحي نواحي أوربة الشمالية وقفقاز

[ 300 ]

وأتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا - 27. واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهة ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحيوة الدنيا ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكأن أمره فرطا - 28. وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا - 29. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا - 30. أولئك لهم جنات عدن تجرى من تحتهم الانهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس واستبرق متكئين فيها على الارائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا - 31. بيان رجوع وانعطاف على ما انتهى إليه الكلام قبل القصة من بلوغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم حزنا وأسفا على عدم إيمانهم بالكتاب النازل عليه وردهم دعوته الحقة ثم تسليته بأن الدار دار البلاء والامتحان وما عليها زينة لها سيجعله الله صعيدا جرزا فليس ينبغى له صلى الله عليه وآله وسلم أن يتحرج لاجلهم إن لم يستجيبوا دعوته ولم يؤمنوا بكتابه. بل الذي عليه أن يصبر نفسه مع اولئك الفقراء من المؤمنين الذين لا يزالون يدعون ربهم ولا يلتفت إلى هؤلاء الكفار المترفين الذين يباهون بما عندهم من زينة الحياة الدنيا

[ 301 ]

التي ستعود صعيدا جرزا بل يدعوهم إلى ربهم ولا يزيد على ذلك فمن شاء منهم آمن به ومن شاء كفر ولا عليه شئ، وأما الذي يجب أن يواجهوا به إن كفروا أو آمنوا فليس هو أن يتاسف أو يسر، بل ما أعده الله للفريقين من عقاب أو ثواب. قوله تعالى: " واتل ما اوحي إليك " إلى آخر الاية في المجمع: لحد إليه والتحد أي مال انتهى فالملتحد اسم مكان من الالتحاد بمعنى الميل والمراد بكتاب ربك القرآن أو اللوح المحفوظ، وكأن الثاني أنسب بقوله: " لا مبدل لكلماته ". وفي الكلام على ما عرفت آنفا رجوع إلى ما قبل القصه وعليه فالانسب أن يكون قوله: " واتل " الخ عطفا على قوله: " إنا جعلنا ما على الارض " الخ والمعنى لا تهلك نفسك على آثارهم أسفا واتل ما اوحى اليك من كتاب ربك لانه لا مغير لكلماته فهي حقة ثابتة ولانك لا تجد من دونه ملتحدا تميل إليه. وبذلك ظهر أن كلا من قوله: " لا مبدل لكلماته " وقوله " لن تجد من دونه ملتحدا " في مقام التعليل فهما حجتان على الامر في قوله: " واتل " ولعله لذلك خص الخطاب في قوله: " ولن تجد " الخ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أن الحكم عام ولن يوجد من دونه ملتحد لاحد. ويمكن أن يكون المراد ولن تجد أنت ملتحدا من دونه لانك رسول ولا ملجأ للرسول من حيث إنه رسول إلا مرسله، والانسب على هذا أن يكون قوله: " لا مبدل لكلماته " حجة واحدة مفادها واتل عليهم هذه الايات المشتملة على الامر الالهي بالتبليغ لانه كلمة إلهية ولا تتغير كلماته وأنت رسول ليس لك إلا أن تميل إلى مرسلك وتؤدي رسالته، ويؤيد هذا المعنى قوله في موضع آخر: " قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من رسالاته " الجن: 23. قوله تعالى: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه " إلى آخر الاية قال الراغب: الصبر الامساك في ضيق يقال: صبرت الدابة حبستها بلا علف، وصبرت فلانا خلفته خلفة لا خروج له منها، والصبر حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع أو عما يقتضيان حبسها عنه. انتهى مورد الحاجه.

[ 302 ]

ووجه الشئ ما يواجهك ويستقبلك به والاصل في معناه الوجه بمعنى الجارحة، ووجهه تعالى أسماؤه الحسنى وصفاته العليا التي بها يتوجه إليه المتوجهون ويدعوه الداعون ويعبده العابدون قال تعالى: " ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها " الاعراف 180، واما الذات المتعالية فلا سبيل إليها، وإنما يقصده القاصدون ويريده المريدون لانه إله رب علي عظيم ذو رحمة ورضوان إلى غير ذلك من اسمائه وصفاته. والداعي لله المريد وجهه إن أراد صفاته تعالى الفعلية كرحمته ورضاه وإنعامه وفضله فإنما يريد أن تشمله وتغمره فيتلبس بها نوع تلبس فيكون مرحوما ومرضيا عنه ومنعما بنعمته وإن اراد صفاته غير الفعلية كعلمه وقدرته وكبريائه وعظمته فإنما يريد أن يتقرب إليه تعالى بهذه الصفات العليا، وإن شئت فقل: يريد ان يضع نفسه موضعا تقتضيه الصفة الالهية كان يقف موقف الذلة والحقارة قبال عزته وكبريائه وعظمته تعالى، ويقف موقف الجاهل العاجز الضعيف تجاه علمه وقدرته وقوته تعالى وهكذا فافهم ذلك. وبذلك يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالوجه هو الرضى والطاعة المرضية مجازا لان من رضى عن شخص اقبل عليه ومن غضب يعرض عنه، وكذا قول بعضهم: المراد بالوجه الذات والكلام على حذف مضاف، وكذا قول بعضهم: المراد بالوجه التوجه والمعنى يريدون التوجه إليه والزلفى لديه هذا. والمراد بدعائهم ربهم بالغداة والعشي الاستمرار على الدعاء والجرى عليه دائما لان الدوام يتحقق بتكرر غداه بعد عشي وعشي بعد غداة على الحس فالكلام جار على الكناية. وقيل: المراد بدعاء الغداة والعشي صلاة طرفي النهار وقيل: الفرائض اليومية وهو كما ترى. وقوله تعالى: " ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا " اصل معنى العدو كما صرح به الراغب التجاوز وهو المعنى الساري في جميع مشتقاته وموارد استعمالاته قال في القاموس: يقال: عدا الامر وعنه جاوزه وتركه انتهى فمعنى " لا تعد عيناك عنهم " لاتجاوزهم ولا تتركهم عيناك والحال انك تريد زينة الحياة الدنيا. لكن ذكر بعضهم ان المجاوزه لا تتعدى بعن إلا إذا كان بمعنى العفو، ولذا قال

[ 303 ]

لزمخشري في الكشاف: ان قوله: " لا تعد عيناك عنهم " بتضمين عدا معنى نبا وعلا في قولك: نبت عنه عينه وعلت عنه عينه إذا اقتحمته ولم تعلق به، ولو لا ذلك لكان من الواجب ان يقال: ولا تعدهم عيناك. وقوله تعالى: " ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا " المراد باغفال قلبه تسليط الغفلة عليه وإنسائه ذكر الله سبحانه على سبيل المجازاة حيث انهم عاندوا الحق فأضلهم الله باغفالهم عن ذكره فإن كلامه تعالى في قوم هذه حالهم نظير ما سيأتي في ذيل الايات من قوله: " إنا جعلنا على قلوبهم اكنة ان يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا ابدا. فلا مساغ لقول من قال: إن الاية من أدلة جبره تعالى على الكفر والمعصية وذلك لان الالجاء مجازاة لا ينافي الاختيار والذي ينافيه هو الالجاء ابتداء ومورد الاية من القبيل الاول. ولا حاجة إلى تكلف التأويل كقول من قال: إن المراد بقوله: " أغفلنا قلبه " عرضناه للغفلة أو ان المعنى صادفناه غافلا أو اريد به نسبناه إلى الغفلة أو ان الاغفال بمعنى جعله غفلا لا سمة له ولا علامة والمراد جعلنا قلبه غفلا لم نسمه بسمة قلوب المؤمنين ولم نعلم فيه علامة المؤمنين لتعرفه الملائكه بتلك السمة. فالجميع كما ترى. وقوله تعالى: " واتبع هواه وكان أمره فرطا " قال في المجمع: الفرط التجاوز للحق والخروج عنه من قولهم " افرط إفراطا إذا اسرف انتهى، واتباع الهوى والافراط من آثار غفلة القلب، ولذلك كان عطف الجملتين على قوله: " اغفلنا " بمنزلة عطف التفسير. قوله تعالى: " وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " عطف على ما عطف عليه قوله " واتل ما اوحي اليك " وقوله: " واصبر نفسك " فالسياق سياق تعداد وظائف النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبال كفرهم بما انزل إليه وإصرارهم عليه والمعنى لا تأسف عليهم واتل ما اوحي اليك واصبر نفسك مع هؤلاء المؤمنين من الفقراء، وقل للكفار: الحق من ربكم ولا تزد على ذلك فمن شاء منهم أن يؤمن فليؤمن ومن شاء

[ 304 ]

منهم ان يكفر فليكفر فليس بنفعنا إيمانهم ولا يضرنا كفرهم بل ما في ذلك من نفع أو ضرر وثواب أو تبعة عذاب عائد إليهم انفسهم فليختاروا ما شاؤا فقد اعتدنا للظالمين كذا وكذا وللصالحين من المؤمنين كذا. ومن هنا يظهر ان قوله: " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " من كلامه تعالى يخاطب به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وليس داخلا في مقول القول فلا يعبأ بما ذكر بعضهم ان الجملة من تمام القول المأمور به. ويظهر ايضا ان قول: " إنا اعتدنا للظالمين نارا " الخ في مقام التعليل لتخييرهم بين الايمان والكفر الذى هو تخيير صوره وتهديد معنى، والمعنى أنا إنما نهيناك عن الاسف وأمرناك ان تكتفي بالتبليغ فقط وتقنع بقولك: " الحق من ربكم " فحسب ولم نتوسل إلى إصرار والحاح لانا هيأنا لهم تبعات هذه الدعوة ردا وقبولا وكفى بما هيأناه محرضا ورادعا ولا حاجة إلى ازيد من ذلك وعليهم ان يختاروا لانفسهم أي المنزلتين شاؤا. قوله تعالى: " إنا اعتدنا للظالمين نارا " إلى آخر الاية، قال في المجمع: السرادق الفسطاط المحيط بما فيه، ويقال السرادق: ثوب يدار حول الفسطاط، وقال: المهل خثارة الزيت، وقيل: هو النحاس الذائب، وقال المرتفق المتكأ من المرفق يقال: ارتفق إذا اتكأ على مرفقه انتهى والشئ النضج يقال: شوى يشوي شيأ إذا نضج. وفي تبديل الكفر من الظلم في قوله: " إنا اعتدنا للظالمين " دون ان يقول: للكافرين دلالة على ان التبعة المذكورة إنما هي للظالمين بما هم ظالمون: وقد عرفهم في قوله: " الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالاخرة كافرون " الاعراف: 45 والباقي ظاهر. قوله تعالى: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع اجر من احسن عملا " بيان لجزاء المؤمنين على إيمانهم وعملهم الصالح وإنما قال: " إنا لا نضيع " الخ ولم يقل: واعتدنا لهؤلاء كذا وكذا ليكون دالا على العناية بهم والشكر لهم. وقوله: " إنا لا نضيع " الخ في موضع خبر إن وهو في الحقيقة من وضع السبب

[ 305 ]

موضع المسبب والتقدير إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سنوفيهم أجرهم فإنهم محسنون وإنا لا نضيع أجر من أحسن عملا. وإذ عد في الاية العقاب أثرا للظلم ثم عد الثواب في مقابله أجرا للايمان والعمل الصالح استفدنا منه أن لا ثواب للايمان المجرد من صالح العمل بل ربما أشعرت الاية بأنه من الظلم. قوله تعالى: " اولئك لهم جنات عدن تجرى من تحتهم الانهار " إلى آخر الاية. العدن هو الاقامة وجنات عدن جنات إقامه والاساور قيل جمع أسوره وهي جمع سوار بكسر السين وهي حلية المعصم، وذكر الراغب أنه فارسي معرب وأصله دستواره، والسندس ما رق من الديباج. والاستبرق ما غلظ منه، والارائك جمع أريكه وهي السرير، ومعنى الاية ظاهر. " بحث روائي " في الدر المنثور أخرج ابن مردويه من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس ": في قوله: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا - قال: نزلت في أميه بن خلف وذلك أنه دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمر كرهه الله من طرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة فأنزل الله: " ولا تطع من أغفلنا قلبه " يعني من ختمنا على قلبه " عن ذكرنا " يعني التوحيد " واتبع هواه " يعنى الشرك " وكان أمره فرطا " يعني فرطا في أمر الله وجهاله بالله. وفيه أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الايمان عن سلمان قال: جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن بدر والاقرع بن حابس فقالوا: يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس وتغيبت عن هؤلاء وأرواح جبابهم - يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين وكانت عليهم جباب الصوف - جالسناك أو حادثناك وأخذنا عنك فأنزل الله: " واتل ما اوحي اليك من كتاب ربك - إلى قوله - اعتدنا للظالمين نارا " يهددهم بالنار.

[ 306 ]

اقول: وروى مثله القمي في تفسيره لكنه ذكر عيينة بن الحصين بن الحذيفه بن بدر الفزاري فقط، ولازم الرواية كون الايتين مدنيتين وعليه روايات أخر تتضمن نظيرة القصة لكن سياق الايات لا يساعد عليه. وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام في قوله: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي " قالا: إنما عنى بها الصلاه. وفيه عن عاصم الكوزى عن أبي عبد الله عليه السلام عليه السلام قال: سمعته يقول في قول الله: " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " قال: وعيد. وفي الكافي وتفسير العياشي وغيره عن ابي حمزه عن أبي جعفر: في قوله: " وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " في ولاية على عليه السلام. أقول: وهو من الجري: وفي الدر المنثور أخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: في قوله: " بماء كالمهل " قال: كعكر الزيت - فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه. وفي تفسير القمى: في قوله: " بماء كالمهل " قال: قال عليه السلام - المهل الذي يبقى في أصل الزيت. وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام: قال: ابن آدم خلق أجوف لا بد له من الطعام والشراب قال تعالى: " وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه ". واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لاحدهما جنتين من اعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا - 32. كلتا الجنتين آتت

[ 307 ]

أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا - 33. وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا - 34. ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا - 35. وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لاجدن خيرا منها منقلبا - 36. قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا - 37. لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا - 38. ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله ان ترن أنا أقل منك مالاو ولدا - 39. فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا - 40. أو يصبح ماوها غورا فلن تستطيع له طلبا - 41. وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتنى لم أشرك بربي أحدا - 42. ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا - 43. هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا - 44. واضرب لهم مثل الحيوة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شئ مقتدرا - 45. - المال والبنون زينة الحيوة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا - 46.

[ 308 ]

بيان الايات تتضمن مثلين يبينان حقيقة ما يملكه الانسان في حياته الدنيا من الاموال والاولاد وهي زخارف الحياة وزيناتها الغارة السريعة الزوال والفناء التي تتزين بها للانسان فتلهيه عن ذكر ربه وتجذب وهمه إلى أن يخلد إليها ويعتمد عليها فيخيل إليه أنه يملكها ويقدر عليها حتى إذا طاف عليها طائف من الله سبحانه فنت وبادت ولم يبق للانسان منها إلا كحلمة نائم وأمنية كاذبة. فالايات ترجع الكلام إلى توضيح ما أشار سبحانه إليه في قوله: " إنا جعلنا ما على الارض زينة لها - إلى قوله - صعيدا جرزا " من الحقيقة. قوله تعالى: " واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لاحدهما جنتين من أعناب " الخ أي واضرب لهؤلاء المتولهين بزينة الحياة الدنيا المعرضين عن ذكر الله مثلا ليتبين لهم أنهم لم يتعلقوا في ذلك إلا بسراب وهمي لا واقع له. وقد ذكر بعض المفسرين أن الذى يتضمنه المثل قصة مقدرة مفروضة فليس من الواجب أن يتحقق مضمون المثل خارجا، وذكر آخرون أنه قصة واقعة، وقد رووا في ذلك قصصا كثيرة مختلفة لا معول عليها غير أن التدبر في سياق القصة بما فيها من كونهما جنتين اثنتين وانحصار أشجارهما في الكرم والنخل ووقوع الزرع بينهما وغير ذلك يؤيد كونها قصة واقعة. وقوله: " جنتين من أعناب " أي من كروم فالثمرة كثيرا ما يطلق على شجرتها وقوله: " وحففناهما بنخل " أو جعلنا النخل محيطة بهما حافة من حولهما وقوله: " وجعلنا بينهما زرعا " أي بين الجنتين ووسطهما، وبذلك تواصلت العمارة وتمت واجتمعت له الاقوات والفواكه. قوله تعالى كلتا الجنتين آتت أكلها " الايه الاكل بضمتين المأكول، والمراد بايتائهما الاكل إثمار أشجارهما من الاعناب والنخيل. وقوله: " ولم تظلم منه شيئا " الظلم النقص، والضمير للاكل أي ولم تنقص من أكله

[ 309 ]

شيئا بل أثمرت ما في وسعها من ذلك وقوله: " وفجرنا خلالهما نهرا أي شققنا " وسطهما نهرا من الماء يسقيهما ويرفع حاجتهما إلى الشرب بأفرب وسيله من غير كلفة. قوله تعالى: " وكان له ثمر " الضمير للرجل والثمر أنواع المال كما في الصحاح وعن القاموس، وقيل الضمير للنخل والثمر ثمره وقيل المراد كان للرجل ثمر ملكه من غير جنته. وأول الوجوه اوجهها ثم الثاني ويمكن ان يكون المراد من إيتاء الجنتين اكلها من غير ظلم بلوغ أشجارهما في الرشد مبلغ الاثمار وأوانه، ومن قوله: " وكان له ثمر " وجود الثمر على اشجارهما بالفعل كما في الصيف وهو وجه خال عن التكلف. قوله تعالى: " فقال: " لصاحبه وهو يحاوره أنا اكثر منك مالا واعز نفرا المحاورة المخاطبة والمراجعه في الكلام، والنفر الاشخاص يلازمون الانسان نوع ملازمة سموا نفرا لانهم ينفرون معه ولذلك فسره بعضهم بالخدم والولد، وآخرون بالرهط والعشيرة، والاول اوفق بما سيحكيه الله تعالى من قول صاحبه له: " إن ترن انا اقل منك مالا وولدا " حيث بدل النفر من الولد، والمعنى فقال الذي جعلنا له الجنتين لصاحبه والحال انه يحاوره: " انا اكثر منك مالا واعز نفرا أي ولدا وخدما. وهذا الذي قاله لصاحبه يحكى عن مزعمة خاصه عندة منحرفة عن الحق فإنه نظر إلى نفسه وهو مطلق التصرف فيما خوله الله من مال وولد لا يزاحم فيما يريده في ذلك فاعتقد انه مالكه وهذا حق لكنه نسى ان الله سبحانه هو الذى ملكه وهو المالك لما ملكه والذي سخره الله له وسلطه عليه من زينة الحياة الدنيا التي هي فتنة وبلاء يمتحن بها الانسان ليميز الله الخبيث من الطيب بل اجتذبت الزينة نفسه إليها فحسب انه منقطع عن ربه مستقل بنفسه فيما يملكه، وان التأثير كله عند الاسباب الظاهرية التي سخرت له. فنسي الله سبحانه وركن إلى الاسباب وهذا هو الشرك ثم التفت إلى نفسه فرآى أنه يتصرف في الاسباب مهيمنا عليها فظن ذلك كرامه لنفسه وأخذه الكبر فاستكبر على صاحبه، وإلى ذلك يرجع اختلاف الوصفين أعنى وصفه تعالى لملكه إذ قال: " جعلنا لاحدهما جنتين " الخ ولم يقل: كان لاحدهما جنتان، ووصف الرجل نفسه

[ 310 ]

إذ قال لصاحبه: " إنا أكثر منك ما لا وأعز نفرا " فلم ير إلا نفسه ونسي أن ربه هو الذى سلطه على ما عنده من المال وأعزه بمن عنده من النفر فجرى قوله لصاحبه " أنا أكثر منك ما لا وأعز نفرا " مجرى قول قارون لمن نصحه أن لا يفرح ويحسن بما آتاه الله من المال: " إنما اوتيته على علم " القصص: 78. وهذا الذى يكشف عنه قوله: " أنا أكثر منك ما لا " الخ أعني دعوى الكرامة النفسية والاستحقاق الذاتي ثم الشرك بالله بالغفلة عنه والركون إلى الاسباب الظاهرية هو الذى أظهره حين دخل جنته فقال كما حكاه الله: " ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة الخ. قوله تعالى: " ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال " إلى آخر الايتين. الضمائر الاربع راجعة إلى الرجل، والمراد بالجنه جنسها ولذا لم تثن، وقيل: لان الدخول لا يتحقق في الجنتين معا في وقت واحد، وإنما يكون في الواحدة بعد الواحدة. وقال في الكشاف: فإن قلت: فلم أفرد الجنة بعد التثنية ؟ قلت: معناه ودخل ما هو جنته ما له جنة غيرها يعنى أنه لا نصيب له في الجنه التي وعد المؤمنون فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير، ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما. انتهى وهو وجه لطيف. وقوله: " وهو ظالم لنفسه " وإنما كان ظالما لانه تكبر على صاحبه إذ قال: " أنا اكثر منك ما لا " الخ وهو يكشف عن إعجابه بنفسه وشركه بالله بنسيانه والركون إلى الاسباب الظاهرية، وكل ذلك من الرذائل المهلكة. وقوله: " قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا البيد والبيدودة الهلاك والفناء والاشاره بهذه إلى الجنه، وفصل الجملة لكونها في معنى جواب سؤال مقدر كأنه لما قيل: ودخل جنته قيل: فما فعل ؟ فقيل: قال: ما أظن أن تبيد الخ. وقد عبر عن بقاء جنته بقوله: " ما أظن أن تبيد " الخ ونفي الظن بأمر كناية عن كونه فرضا وتقديرا لا يلتفت إليه حتى يظن به ويمال إليه فمعنى ما أظن أن تبيد هذه أن بقاءه ودوامه مما تطمئن إليه النفس ولا تتردد فيه حتى تتفكر في بيده وتظن أنه سيفنى.

[ 311 ]

وهذا حال الانسان فان نفسه لا تتعلق بالشئ الفاني من جهه أنه متغير يسرع إليه الزوال وإنما يتعلق القلب عليه بما يشاهد فيه من سمة البقاء كيفما كان فينجذب إليه ولا يلوي عنه إلى شئ من تقادير فنائه، فتراه إذا أقبلت عليه الدنيا اطمأن إليها وأخذ في التمتع بزينتها والانقطاع إليها واعتورته اهواؤه وطالت آماله كأنه لا يرى لنفسه فناء، ولا لما بيده من النعمة زوالا ولا لما ساعدته عليه من الاسباب انقطاعا، وتراه إذا أدبرت عنه الدنيا اخذه اليأس والقنوط فأنساه كل رجاء للفرج وسجل عليه انه سيدوم ويدوم عليه الشقاء وسوء الحال. والسبب في ذلك كله ما أودعه الله في فطرته من التعلق بهذه الزينة الفانية فتنة وامتحانا فإذا أعرض عن ذكر ربه انقطع إلى نفسه والزينة الدنيوية التي بين يديه والاسباب الظاهرية التى أحاطت به وتعلق على حاضر الوضع الذي يشاهده، ودعته جاذبة الزينات والزخارف أن يجمد عليها ولا يلتفت إلى فنائها وهو القول بالبقاء وكلما قرعته قارعة العقل الفطري أن الدهر سيغدر به، والاسباب ستخذله، وأمتعة الحياه ستودعه وحياته المؤجلة ستبلغ أجلها، منعه اتباع الاهواء وطول الامال الاصغاء لها والالتفات إليها. وهذا شأن أهل الدنيا لا يزالون على تناقض من الرأى يعملون ما يصدقونه بأهوائهم ويكذبونه بعقولهم لكنهم يطمئنون إلى رأي الهوى فيمنعهم عن الالتفات إلى قضاء العقل. وهذا معنى قولهم بدوام الاسباب الظاهرية وبقاء زينة الحياة الدنيا ولهذا قال فيما حكاه الله: " ما أظن أن تبيد هذه أبدا " ولم يقل: هذه لا تبيد أبدا. وقوله: " وما أظن الساعة قائمة " هو مبني على ما مر من التأبيد في قوله: " ما اظن ان تبيد هذه ابدا " فإنه يورث استبعاد تغير الوضع الحاضر بقيام الساعة، وكل ما حكاه الله سبحانه من حجج المشركين على نفى المعاد مبنى على الاستبعاد كقولهم: من " يحيى العظام وهي رميم " يس: 78، وقولهم: " إذا ضللنا في الارض ءإنا لفي خلق جديد " ألم السجدة: 10. وقوله: " ولئن رددت إلى ربى لا جدن خيرا منها منقلبا مبني على ما تقدم من دعوى كرامه النفس واستحقاق الخير، ويورث ذلك في الانسان رجاء كاذبا بكل

[ 312 ]

خير وسعادة من غير عمل يستدعيه يقول: من المستبعد أن تقوم الساعة ولئن قامت ورددت إلى ربى لاجدن بكرامة نفسي - ولا يقول: يؤتيني ربى - خيرا من هذه الجنة منقلبا أنقلب إليه. وقد خدعت هذا القائل نفسه فيما ادعت من الكرامة حتى أقسم على ما قال كما يدل عليه لام القسم في قوله: " ولئن رددت " ولام التأكيد ونونها في قوله: " لاجدن " وقال: " رددت " ولم يقل: ردني ربي إليه، وقال: " لاجدن " ولم يقل: آتانى الله. والايتان كقوله تعالى: " ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي ومأ أظن الساعة قائمه ولئن رجعت إلى ربي ان لي عنده للحسنى " حم السجدة: 50. قوله تعالى قال: " له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذى خلقك من تراب ثم من نطفه ثم سواك رجلا " الاية وما بعدها إلى تمام أربع آيات رد من صاحب الرجل يرد به قوله: " أنا اكثر منك مالا واعز نفرا " ثم قوله إذ دخل جنته " ما اظن ان تبيد هذه أبدا " وقد حلل الكلام من حيث غرض المتكلم ألى جهتين: إحداهما استعلاؤه على الله سبحانه بدعوى استقلاله في نفسه وفيما يملكه من مال ونفر واستثناؤه بما عنده من القدرة والقوة والثانية استعلاؤه على صاحبه واستهانته به بالقلة والذلة ثم رد كلا من الدعويين بما يحسم مادتها ويقطعها من اصلها فقوله: " أكفرت بالذي خلقك - إلى قوله - إلا بالله " رد لاولى الدعويين، وقوله " إن ترن انا اقل - إلى قوله - طلبا " رد للثانية. فقوله: " قال له صاحبه وهو يحاوره " في إعادة جملة " وهو يحاوره " إشارة إلى أنه لم ينقلب عما كان عليه من سكينة الايمان ووقاره باستماع ما استمعه من الرجل بل جرى على محاورته حافظا آدابه ومن أدبه إرفاقه به في الكلام وعدم خشونته بذكر ما يعد دعاء عليه يسوؤه عادة فلم يذكر ولده بسوء كما ذكر جنته بل اكتفى فيه بما يرمز إليه ما ذكره في جنته من إمكان صيرورتها صعيدا زلقا وغور مائها. وقوله: " أكفرت بالذي خلقك " الخ الاستفهام للانكار ينكر عليه ما اشتمل عليه كلامه من الشرك بالله سبحانه بدعوى الاستقلال لنفسه وللاسباب والمسببات كما

[ 313 ]

تقدمت الاشاره إليه ومن فروع شركه استبعاده قيام الساعة وتردده فيه. وأما ما ذكره في الكشاف أنه جعله كافرا بالله جاحدا لا نعمه لشكه في البعث كما يكون المكذب بالرسول كافرا فغير سديد كيف ؟ وهو يذكر في استدراكه نفي الشرك عن نفسه، ولو كان كما قال لذكر فيه الايمان بالمعاد. فإن قلت: الايات صريحة في شرك الرجل والمشركون ينكرون المعاد. قلت لم يكن الرجل من المشركين بمعنى عبدة الاصنام وقد اعترف في خلال كلامه بما لا تجيزه اصول الوثنية فقد عبر عنه سبحانه بقوله: " ربي " ولا يراه الوثنيون ربا للانسان ولا إلها معبودا وإنما هو عندهم رب الارباب وإله الالهة، ولم ينف المعاد من اصله كما تقدمت الاشاره إليه بل تردد فيه واستبعده بالاعراض عن التفكر فيه ولو نفاه لقال: ولو رددت ولم يقل: ولئن رددت إلى ربي. فما يذكر لامره من الاثر السئ في الاية إنما هو لشركه بمعنى نسيانه ربه ودعواه الاستقلال لنفسه وللاسباب الظاهرية ففيه عزله تعالى عن الربوبية والقاء زمام الملك والتدبير إلى غيره فهذا هو اصل الفساد الذي عليه ينشأ كل فرع فاسد سواء اعترف معه بلسانه بالتوحيد أو انكره واثبت الالهة، قال الزمخشري في قوله تعالى قال: " ما أظن ان تبيد هذه ابدا " ونعم ما قال: وترى اكثر الاغنياء من المسلمين وان لم يطلقوا بنحو هذا ألسنتهم فإن السنة أحوالهم ناطقة به منادية عليه. انتهى. وقد ابطل هذا المؤمن دعوى صاحبه الكافر بقوله: " أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا " بإلفات نظره إلى اصله وهو التراب ثم النطفة فإن ذلك هو اصل الانسان فما زاد على ذلك حتى يصير الانسان انسانا سويا ذا صفات وآثار من موهبة الله محضا لا يملك اصله شيأ من ذلك، ولا غيره من الاسباب الظاهرية الكونية فإنها أمثال الانسان لا تملك شيأ من نفسها وآثار نفسها الا بموهبة من الله سبحانه. فما عند الانسان وهو رجل سوي من الانسانية وآثارها من علم وحياة وقدرة وتدبير يسخر بها الاسباب الكونيه في سبيل الوصول إلى مقاصده ومآربه كل ذلك مملوكه لله محضا، آتاها الانسان وملكه اياها ولم يخرج بذلك عن ملك الله ولا انقطع

[ 314 ]

عنه بل تلبس الانسان منها بما تلبس فانتسب إليه بمشيته ولو لم يشأ لم يملك الانسان شيئا من ذلك فليس للانسان ان يستقل عنه تعالى في شئ من نفسه وآثار نفسه ولا لشئ من الاسباب الكونية ذلك. يقول: انك ذاك التراب ثم المني الذي ما كان يملك من الانسانية والرجولية وآثار ذلك شيأ والله سبحانه هو الذي آتاكها بمشيته وملكها اياك وهو المالك لما ملكك فما لك تكفر به وتستر ربوبيته ؟ واين انت والاستقلال ؟ قوله تعالى: " لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا القراءة المشهورة " لكن " بفتح النون المشددة من غير الف في الوصل واثباتها وقفا، واصله على ما ذكروه " لكن أنا " حذفت الهمزة بعد نقل فتحتها إلى النون وأدغمت النون في النون فالوصل بنون مشددة مفتوحة من غير الف والوقف بالالف كما في " أنا " ضمير التكلم. وقد كرر في الاية لفظ " ربى " والثاني من وضع الظاهر موضع المضمر وحق السياق " ولا أشرك به أحدا " وذلك للاشارة إلى علة الحكم بتعليقه بالوصف كأنه قال: ولا أشرك به أحدا لانه ربي ولا يجوز الاشراك به لربوبيته. وهذا بيان حال من المؤمن قبال ما ادعاه الكافر لنفسه والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " ولو لا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله " من تتمة قول المؤمن لصاحبه الكافر، وهو تحضيض وتوبيخ لصاحبه إذ قال لما دخل جنته: " ما أظن أن تبيد هذه أبدا " وكان عليه أن يبدله من قوله: " ما شاء الله لا قوه إلا بالله " فينسب الامر كله إلى مشية الله ويقصر القوة فيه تعالى مبنيا على ما بينه له أن كل نعمة بمشية الله ولا قوة إلا به. وقوله: " ما شاء الله " إما على تقدير: الامر ما شاءه الله، أو على تقدير: ما شاءه الله كائن، وما على التقديرين موصولة ويمكن أن تكون شرطية والتقدير ما شاءه الله كان، والاوفق بسياق الكلام هو أول التقادير لان الغرض بيان رجوع الامور إلى مشية الله تعالى قبال من يدعي الاستقلال والاستغناء. وقوله: " لا قوة إلا بالله " يفيد قيام القوة بالله وحصر كل قوة فيه بمعنى أن ما

[ 315 ]

ظهر في مخلوقاته تعالى من القوة القائمة بها فهو بعينه قائم به من غير أن ينقطع ما أعطاه منه فيستقل به الخلق قال تعالى: " أن القوة لله جميعا " البقرة: 165. وقد تم بذلك الجواب عما قاله الكافر لصاحبه وما قاله عند ما دخل جنته. قوله تعالى: " إن ترن انا اقل منك ما لا وولدا فعسى " إلى آخر الايتين قال في المجمع: أصل الحسبان السهام التي ترمي لتجرى في طلق واحد وكان ذلك من رمي الاساورة وأصل الباب الحساب، وإنما يقال لما يرمي به: حسبان لانه يكثر كثرة الحساب. قال: والزلق الارض الملساء المستوية لا نبات فيها ولا شئ وأصل الزلق ما تزلق عنه الاقدام فلا تثبت عليه. انتهى. وقد تقدم أن الصعيد هو سطح الارض مستويا لا نبات عليه: والمراد بصيرورة الماء غورا صيرورته غائرا ذاهبا في باطن الارض. والايتان كما تقدمت الاشارة إليه رد من المؤمن لصاحبه الكافر من جهة ما استعلى عليه بأنه اكثر منه مالا وأعز نفرا، وما أورده من الرد مستخرج من بيانه السابق ومحصله أنه لما كانت الامور بمشيه الله وقوته وقد جعلك أكثر مني مالا وأعز نفرا فالامر في ذلك إليه لا اليك حتى تتبجح وتستعلي على فمن الممكن المرجو أن يعطيني خيرا من جنتك ويخرب جنتك فيديرنى إلى حال أحسن من حالك اليوم ويديرك إلى حال أسوء من حالي اليوم فيجعلني أغنى منك بالنسبة الي ويجعلك أفقر مني بالنسبه اليك. والظاهر أن تكون " ترن " في قوله: " ان ترن أنا أقل " الخ من الرأي بمعنى الاعتقاد فيكون من أفعال القلوب، و " أنا " ضمير فصل متخلل بين مفعوليه اللذين هما في الاصل مبتدأ وخبر، ويمكن أن يكون من الرؤية بمعنى الابصار فأنا ضمير رفع أكد به مفعول " ترن " المحذوف من اللفظ. ومعنى الاية ان ترنى أنا أقل منك مالا وولدا فلا بأس والامر في ذلك إلى ربي فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها أي على جنتك مرامي من عذابه السماوي كبرد أو ريح سموم أو صاعقة أو نحو ذلك فتصبح أرضا خالية ملساء لا شجر عليها ولا زرع، أو يصبح ماؤها غائرا فلن تستطيع أن تطلبه لا معانه في الغور.

[ 316 ]

قوله تعالى: " واحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه " إلى آخر الاية الاحاطة بالشئ كناية عن هلاكه، وهي مأخوذه من احاطة العدو واستدارته به من جميع جوانبه بحيث ينقطع عن كل معين وناصر وهو الهلاك، قال تعالى: " وظنوا أنهم أحيط بهم " يونس 22. وقوله: " فأصبح يقلب كفيه " كناية عن الندامة فإن النادم كثيرا ما يقلب كفيه ظهرا لبطن وقوله: " وهي خاوية على عروشها " كناية عن كمال الخراب كما قيل فإن البيوت الخربة المنهدمة تسقط أولا عروشها وهي سقوفها على الارض ثم تسقط جدرانها على عروشها الساقطة والخوي السقوط وقيل: الاصل في معناه الخلو. وقوله: " ويقول يا ليتني لم اشرك بربي أحدا " أي يا ليتني لم أتعلق بما تعلقت به ولم أركن ولم أطمئن إلى هذه الاسباب التي كنت أحسب أن لها استقلالا في التأثير وكنت أرجع الامر كله إلى ربي فقد ضل سعيي وهلكت نفسي. والمعنى: وأهلكت أنواع ماله أو فسد ثمر جنته فأصبح نادما على المال الذي أنفق والجنة خربة ويقول يا ليتنى لم اشرك بربي أحدا ولم أسكن إلى ما سكنت إليه واغتررت به من نفسي وسائر الاسباب التي لم تنفعني شيئا. قوله تعالى: " ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا " الفئة الجماعة، والمنتصر الممتنع. وكما كانت الايات الخمس الاولى أعني قوله: " قال له صاحبه - إلى قوله طلبا " بيانا قوليا لخطأ الرجل في كفره وشركه كذلك هاتان الايتان أعني قوله: " واحيط بثمره - إلى قوله - وما كان منتصرا " بيان فعلي له أما تعلقه بدوام الدنيا واستمرار زينتها في قوله: " ما أظن أن تبيد هذه أبدا " فقد جلى له الخطأ فيه حين احيط بثمره فأصبحت جنته خاوية على عروشها، وأما سكونه إلى الاسباب وركونه إليها وقد قال لصاحبه " أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا " فبين خطاؤه فيه بقوله تعالى: " ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله " وأما دعوى استقلاله بنفسه وتبجحه بها فقد أشير إلى جهة بطلانها بقوله تعالى: " وما كان منتصرا.

[ 317 ]

قوله تعالى: " هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا " القراءة المشهورة " الولاية " بفتح الواو وقرئ بكسرها والمعنى واحد، وذكر بعضهم أنها بفتح الواو بمعنى النصرة وبكسرها بمعنى السلطان، ولم يثبت وكذا " الحق " بالجر، والثواب مطلق التبعة والاجر وغلب في الاجر الحسن الجميل، والعقب بالضم فالسكون وبضمتين العاقبة. ذكر المفسرون أن الاشارة بقوله: " هنالك " إلى معنى قوله: " أحيط بثمره " أي في ذلك الموضع أو في ذلك الوقت وهو موضع الاهلاك ووقته الولاية لله، وأن الولاية بمعنى النصرة أي إن الله سبحانه هو الناصر للانسان حين يحيط به البلاء وينقطع عن كافة الاسباب لا ناصر غيره. وهذا معنى حق في نفسه لكنه لا يناسب الغرض المسوق له الايات وهو بيان أن الامر كله لله سبحانه وهو الخالق لكل شئ المدبر لكل أمر وليس لغيره إلا سراب الوهم وتزيين الحياة لغرض الابتلاء والامتحان، ولو كان كما ذكروه لكان الانسب توصيفه تعالى في قوله: " لله الحق " بالقوة والعزة والقدرة والغلبة ونحوها لا بمثل الحق الذي يقابل الباطل، وأيضا لم يكن لقوله: " هو خير ثوابا وخير عقبا " وجه ظاهر وموقع جميل. والحق والله أعلم أن الولاية بمعنى مالكية التدبير وهو المعنى السارى في جميع اشتقاقاتها كما مر في الكلام على قوله تعالى: " إنما وليكم الله ورسوله " المائدة: 55 أي عند إحاطة الهلاك وسقوط الاسباب عن التأثير وتبين عجز الانسان الذي كان يرى لنفسه الاستقلال والاستغناء ولاية أمر الانسان وكل شئ وملك تدبيره لله لانه إله حق له التدبير والتأثير بحسب واقع الامر وغيره من الاسباب الظاهرية المدعوة شركاء له في التدبير والتأثير باطل في نفسه لا يملك شيئا من الاثر إلا ما أذن الله له وملكه إياه، وليس له من الاستقلال إلا اسمه بحسب ما توهمه الانسان فهو باطل في نفسه حق بالله سبحانه والله هو الحق بذاته المستقل الغني في نفسه. وإذا اخذ بالقياس بينه - تعالى عن القياس - وبين غيره من الاسباب المدعوة شركاء في التأثير كان الله سبحانه خيرا منها ثوابا فانه يثيب من دان له ثوابا حقا وهي

[ 318 ]

تثيب من دان لها وتعلق بها ثوابا باطلا زائلا لا يدوم وهو مع ذلك من الله وبإذنه، وكان الله سبحانه خيرا منها عاقبه لانه سبحانه هو الحق الثابت الذي لا يفنى ولا يزول ولا يتغير عما هو عليه من الجلال والاكرام، وهى امور فانية متغيرة جعلها الله زينة للحياة الدنيا يتوله إليها الانسان وتتعلق بها قلبه حتى يبلغ الكتاب أجله وإن الله لجاعلها صعيدا جرزا. وإذا كان الانسان لا غنى له عن التعلق بشئ ينسب إليه التدبير ويتوقع منه إصلاح شأنه فربه خير له من غيره لانه خير ثوابا وخير عقبا. وذكر بعضهم أن الاشارة بقوله: " هنالك " إلى يوم القيامة فيكون المراد بالثواب والعقب ما في ذلك اليوم. والسياق كما تعلم لا يساعد على شئ من ذلك. قوله تعالى: " واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء الخ هذا هو المثل الثاني ضرب لتمثيل الحياه الدنيا بما يقارنها من الزينة السريعة الزوال. والهشيم فعيل بمعنى مفعول من الهشم، وهو على ما قال الراغب كسر الشئ الرخو كالنبات، وذرا يذرو ذروا أي فرق، وقيل: أي جاء به وذهب، وقوله: " فاختلط به نبات الارض " ولم يقل: اختلط بنبات الارض إشارة إلى غلبته في تكوين النبات على سائر أجزائه، ولم يذكر مع ماء السماء غيره من مياه العيون والانهار لان مبدء الجميع ماء المطر، وقوله: " فأصبح هشيما " أصبح فيه - كما قيل - بمعنى صار فلا يفيد تقييد الخبر بالصباح. والمعني: واضرب لهؤلاء المتولهين بزينة الدنيا المعرضين عن ذكر ربهم مثل الحياة الدنيا كماء انزلناه من السماء وهو المطر فاختلط به نبات الارض فرف نضارة وبهجة وظهر بأجمل حليه فصار بعد ذلك هشيما مكسرا متقطعا تعبث به الرياح تفرقه وتجئ به وتذهب وكان الله على كل شئ مقتدرا. قوله تعالى: " المال والبنون زينة الحياة الدنيا " إلى آخر الاية. الاية بمنزله النتيجة للمثل السابق وهي أن المال والبنين وإن تعلقت بها القلوب وتاقت إليها النفوس تتوقع منها الانتفاع وتحف بها الامال لكنها زينة سريعة الزوال غارة لا يسعها أن تثيبه

[ 319 ]

وتنفعه في كل ما أراده منها ولا أن تصدقه في جميع ما يأمله ويتمناه بل ولا في أكثره ففى الاية - كما ترى - انعطاف إلى بدء الكلام أعني قوله: " إنا جعلنا ما على الارض زينة لها " الايتين. وقوله: " والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا " المراد بالباقيات الصالحات الاعمال الصالحة فإن أعمال الانسان محفوظة له عند الله بنص القرآن فهي باقية وإذا كانت صالحة فهي باقيات صالحات، وهى عند الله خير ثوابا لان الله يجازي الانسان الجائي بها خير الجزاء، وخير أملا لان ما يؤمل بها من رحمة الله وكرامته ميسور للانسان فهي أصدق أملا من زينات الدنيا وزخارفها التي لا تفى للانسان في أكثر ما تعد، والامال المتعلقة بها كاذبة على الاغلب وما صدق منها غار خدوع. وقد ورد من طرق الشيعة وأهل السنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن طرق الشيعة عن أئمه أهل البيت عليهم السلام عدة من الروايات: أن الباقيات الصالحات التسبيحات الاربع: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وفي أخرى انها الصلاة وفي اخرى مودة اهل البيت وهي جميعا من قبيل الجري والانطباق على المصداق ي * * * ويوم نسير الجبال وترى الارض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا (47). وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا (48). ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا (49). وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن

[ 320 ]

ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا (50). ما أشهدتهم خلق السموات والارض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا (51). ويوم يقول نادوا شركاءي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا (52). ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا (53). ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الانسان أكثر شئ جدلا (54). وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الاولين أو يأتيهم العذاب قبلا (55). وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما انذروا هزوا (56). ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرآ وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا (57). وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا (58). وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا (59).

[ 321 ]

بيان الايات متصلة بما قبلها تسير مسيرها في تعقيب بيان أن هذه الاسباب الظاهرية وزخارف الدنيا الغارة زينة الحياة سيسرع إليها الزوال ويتبين للانسان أنها لا تملك له نفعا ولا ضرا وإنما يبقى للانسان أو عليه عمله فيجازى به. وقد ذكرت الايات أولا قيام الساعة ومجئ الانسان فردا ليس معه إلا عمله ثم تذكر إبليس وإباءه عن السجدة لادم وفسقه عن أمر ربه وهم يتخذونه وذريته أولياء من دون الله وهم لهم عدو ثم تذكر يوم القيامة وإحضارهم وشركاءهم وظهور انقطاع الرابطة بينهم وتعقب ذلك آيات اخر في الوعد والوعيد، والجميع بحسب الغرض متصل بما تقدم. قوله تعالى: " يوم نسير الجبال وترى الارض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا " الظرف متعلق بمقدر والتقدير " واذكر يوم نسير " وتسيير الجبال بزوالها عن مستقرها وقد عبر سبحانه عنه بتعبيرات مختلفة كقوله: " وكانت الجبال كثيبا مهيلا: المزمل: 14 وقوله: " وتكون الجبال كالعهن المنفوش " القارعة: 5 وقوله: " فكانت هباء منبثا " الواقعة: " 6، وقوله: " وسيرت الجبال فكانت سرابا " النبا: 20. والمستفاد من السياق أن بروز الارض مترتب على تسيير الجبال فإذا زالت الجبال والتلال ترى الارض بارزه لا تغيب ناحية منها عن أخرى بحائل حاجز ولا يستتر صقع منها عن صقع بساتر، وربما احتمل أن تشير إلى ما في قوله: " وأشرقت الارض بنور ربها " الزمر: 69. وقوله: " وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا " أي لم نترك منهم أحدا فالحشر عام للجميع. قوله تعالى وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة الخ السياق يشهد على أن ضمير الجمع في قوله: " عرضوا " وكذا ضميرا الجمع في الاية السابقة

[ 322 ]

للمشركين وهم الذين اطمأنوا إلى أنفسهم والاسباب الظاهرية التي ترتبط بها حياتهم، وتعلقوا بزينة الحياة كالمتعلق بأمر دائم باق فكان ذلك انقطاعا منهم عن ربهم، وإنكارا للرجوع إليه، وعدم مبالاة بما يأتون به من الاعمال أرضى الله أم أسخطه. وهذه حالهم ما دام أساس الامتحان الالهي والزينة المعجلة بين أيديهم والاسباب الظاهرية حولهم ولما يقض الامر أجله ثم إذا حان الحين وتقطعت الاسباب وطاحت الامال وجعل الله ما عليها من زينة صعيدا جرزا لم يبق إذ ذاك لهم إلا ربهم وأنفسهم وصحيفة أعمالهم المحفوظة عليهم، وعرضوا على ربهم - وليسوا يرونه ربا لهم وإلا لعبدوه - صفا واحدا لا تفاضل بينهم بنسب أو مال أو جاه دنيوى لفصل القضاء تبين لهم عند ذلك أن الله هو الحق المبين وأن ما يدعونه من دونه وتعلقت به قلوبهم من زينة الحياة واستقلال أنفسهم والاسباب المسخرة لهم ما كانت إلا أو هاما لا تغني عنهم من الله شيئا وقد أخطأوا إذ تعلقوا بها وأعرضوا عن سبيل ربهم ولم يجروا على ما أراده منهم بل كان ذلك منهم لانهم توهموا أن لا موقف هناك يوقفون فيه فيحاسبون عليه. وبهذا البيان يظهر أن هذه الجمل الاربع: " وعرضوا " الخ " لقد جئتمونا " الخ " بل ظننتم " الخ " ووضع الكتاب " الخ نكت أساسية مختارة من تفصيل ما يجري يومئذ بينهم وبين ربهم من حين يحشرون إلى أن يحاسبوا، وأكتفي بها إيجازا في الكلام لحصول الغرض بها. فقوله: " وعرضوا على ربك صفا " اشارة أولا إلى أنهم ملجؤون إلى الرجوع إلى ربهم ولقائه فيعرضون عليه عرضا من غير أن يختاروه لانفسهم، وثانيا أن لا كرامة لهم في هذا اللقاء ويشعر به قوله: " على ربك " ولو أكرموا لقيل: ربهم كما قال: " جزاؤهم عند ربهم جنات عدن " البينة: 8 وقال: " إنهم ملاقوا ربهم " هود: 29 " أو قيل: عرضوا علينا جريا على سياق التكلم السابق، وثالثا أن أنواع التفاضل والكرامات الدنيوية التى اختلقتها لهم الاوهام الدنيوية من نسب ومال وجاه قد طاحت عنهم فصفوا صفا واحدا لا تميز فيه لعال من دان ولا لغني من فقير ولا لمولى من عبد، وإنما الميز اليوم بالعمل وعند ذلك يتبين لهم أنهم أخطأوا الصواب في حياتهم

[ 323 ]

الدنيا وضلوا السبيل فيخاطبون بمثل قوله: " لقد جئتمونا " الخ. وقوله " لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة " مقول القول والتقدير وقال لهم أو قلنا لهم: لقد جئتمونا الخ، وفي هذا بيان خطاهم وضلالهم في الدنيا إذ تعلقوا بزينتها وزخرفها فشغلهم ذلك عن سلوك سبيل الله والاخذ بدينه. وقوله " بل ظننتم أن لن نجعل لكم موعدا " في معنى قوله " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم الينا لا ترجعون " المؤمنون: 115 والجملة إن كانت إضرابا عن الجمله السابقة على ظاهر السياق فالتقدير ما في معنى قولنا: شغلتكم زينه الدنيا وتعلقكم بأنفسكم وبظاهر الاسباب عن عبادتنا وسلوك سبيلنا بل ظننتم أن لن نجعل لكم موعدا تلقوننا فيه فتحاسبوا وبتعبير آخر: أن اشتغالكم بالدنيا وتعلقكم بزينتها وأن كان سببا في الاعراض عن ذكرنا واقتراف الخطيئات لكن كان هناك سبب هو أقدم منه وهو الاصل وهو أنكم ظننتم أن لن نجعل لكم موعدا فنسيان المعاد هو الاصل في ترك الطريق وفساد العمل قال تعالى: " إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " ص: 26. والوجه في نسبة الظن بنفي المعاد إليهم أن انقطاعهم إلى الدنيا وتعلقهم بزينتها ومن يدعونه من دون الله فعل من ظن أنها دائمة باقية لهم وانهم لا يرجعون إلى الله فهو ظن حالى عملي منهم ويمكن أن يكون كناية عن عدم اعتنائهم بأمر الله واستهانتهم بما انذروا به نظير قوله تعالى: " ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون " حم السجدة: 22. ومن الجائز ان يكون قوله: " بل ظننتم أن لن نجعل لكم موعدا " اضرابا عن اعتذار لهم مقدر بالجهل ونحوه والله اعلم. قوله تعالى: " ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا " إلى آخر الاية وضع الكتاب نصبه ليحكم عليه، ومشفقين من الشفقة واصلها الرقة، قال الراغب في المفردات: الاشفاق عناية مختلطة بخوف لان المشفق يحب المشفق عليه ويخاف ما يلحقه قال تعالى: " وهم من الساعة مشفقون " فإذا عدي بمن فمعنى

[ 324 ]

الخوف فيه أظهر، وإذا عدي بفي فمعنى العناية فيه اظهر، قال تعالى: " انا كنا قبل في اهلنا مشفقين " " مشفقون منها " انتهى. والويل الهلاك، ونداؤه عند المصيبة - كما قيل - كناية عن كون المصيبة أشد من الهلاك فيستغاث بالهلاك لينجى من المصيبة كما ربما يتمنى الموت عند المصيبة قال تعالى: " يا ليتنى مت قبل هذا " مريم: 23. وقوله: " ووضع الكتاب " ظاهر السياق أنه كتاب واحد يوضع لحساب أعمال الجميع ولا ينافى ذلك وضع كتاب خاص بكل انسان والايات القرآنية دالة على أن لكل انسان كتابا ولكل امة كتابا وللكل كتابا قال تعالى: " وكل انسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا " الاية: اسرى: 13 وقد تقدم الكلام فيها، وقال: " كل امه تدعى إلى كتابها " الجاثية: 28 وقال: " هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق " الجاثية: 29 وسيجئ الكلام في الايتين ان شاء الله تعالى. وقيل: المراد بالكتاب كتب الاعمال واللام للاستغراق، والسياق لا يساعد عليه. وقوله: " فترى المجرمين مشفقين مما فيه " تفريع الجملة على وضع الكتاب وذكر إشفاقهم مما فيه دليل على كونه كتاب الاعمال أو كتابا فيه الاعمال، وذكرهم بوصف الاجرام للاشارة إلى علة الحكم وأن إشفاقهم مما فيه لكونهم مجرمين فالحكم يعم كل مجرم وإن لم يكن مشركا. وقوله: " ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها " الصغيرة والكبيرة وصفان قامتا مقام موصوفهما وهو الخطيئة أو المعصية أو الهنة ونحوها. وقولهم هذا إظهار للدهشة والفزع من سلطه الكتاب في إحصائه للذنوب أو لمطلق الحوادث ومنها الذنوب في صورة الاستفهام التعجيبي، ومنه يعلم وجه تقديم الصغيرة على الكبيرة في قوله: " صغيرة ولا كبيرة " مع أن الظاهر أن يقال: " لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها بناء على أن الكلام في معنى الاثبات وحق الترقي فيه أن يتدرج من الكبير إلى الصغير هذا، وذلك لان المراد - والله - أعلم - لا يغادر صغيرة لصغرها

[ 325 ]

ودقتها ولا كبيرة لكبرها ووضوحها، والمقام مقام الاستفزاع في صورة التعجيب واحصاء الصغيرة على صغرها ودقتها أقرب إليه من غيرها. وقوله: " ووجدوا ما عملوا حاضرا " ظاهر السياق كون الجملة تأسيسا لا عطف تفسير لقوله: " لا يغادر صغيرة ولا كبيرة " الخ وعليه فالحاضر عندهم نفس الاعمال بصورها المناسبة لها لا كتابتها كما هو ظاهر أمثال قوله: " يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون " التحريم: 7، ويؤيده قوله بعده: " وما يظلم ربك أحدا " فإن انتفاء الظلم بناء على تجسم الاعمال أوضح لان ما يجزون به إنما هو عملهم يرد إليهم ويلحق بهم لا صنع في ذلك لاحد فافهم ذلك. قوله تعالى: " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا ابليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه " تذكير ثان لهم بما جرى بينه تعالى وبين ابليس حين أمر الملائكة بالسجود لابيهم آدم فسجدوا الا ابليس كان من الجن فتمرد عن أمر ربه. أي واذكر هذه الواقعة حتى يظهر لهم أن ابليس - وهو من الجن - وذريته عدو لهم لا يريدون لهم الخير فلا ينبغى لهم أن يفتتنوا بما يزينه لهم هو وذريته من ملاذ الدنيا وشهواتها والاعراض عن ذكر الله ولا أن يطيعوهم فيما يدعونهم إليه من الباطل. وقوله: " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو " تفريع على محصل الواقعة والاستفهام للانكار أي ويتفرع على الواقعة أن لا تتخذوه وذريته أولياء والحال انهم اعداء لكم معشر البشر، وعلى هذا فالمراد بالولاية ولاية الطاعة حيث يطيعونه وذريته فيما يدعونهم فقد اتخذوهم مطاعين من دون الله، وهكذا فسرها المفسرون. وليس من البعيد أن يكون المراد بالولاية ولاية الملك والتدبير وهو الربوبية فإن الوثنية كما يعبدون الملائكة طمعا في خيرهم كذلك يعبدون الجن اتقاء من شرهم، وهو سبحانه يصرح بأن ابليس من الجن وله ذرية وأن ضلال الانسان في صراط سعادته وما يلجمه من أنواع الشقاء إنما هو بإغواء الشيطان فالمعنى أفتتخذونه وذريته آلهة وأربابا من دوني تعبدونهم وتتقربون إليهم وهم لكم عدو ؟ ويؤيده الاية التالية فإن عدم إشهادهم الخلقة انما يناسب انتفاء ولاية التدبير عنهم لا انتفاء ولاية الطاعة وهو ظاهر.

[ 326 ]

وقد ختم الاية بتقبيح اتخاذهم إياهم أولياء من دون الله الذى معناه اتخاذهم إبليس بدلا منه سبحانه فقال: " بئس للظالمين بدلا " وما أقبح ذلك فلا يقدم عليه ذو مسكة، وهو السر في الالتفات الذي في قوله: " من دوني " فلم يقل: من دوننا على سياق قوله: " واذ قلنا " ليزيد في وضوح القبح كما أنه السر أيضا في الالتفات السابق في قوله: " عن أمر ربه " ولم يقل: عن أمرنا. وللمفسرين ههنا أبحاث في معنى شمول أمر الملائكة لابليس، وفى معنى كونه من الجن وفي معنى، وقد قدمنا بعض القول في ذلك في تفسير سورة الاعراف. قوله تعالى: " ما أشهدتهم خلق السماوات والارض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا " ظاهر السياق كون ضميري الجمع لابليس وذريته والمراد بالاشهاد الاحضار والاعلام عيانا كما أن الشهود هو المعاينة حضورا، والعضد ما بين المرفق والكتف من الانسان ويستعار للمعين كاليد وهو المراد ههنا. وقد اشتملت الاية في نفي ولاية التدبير عن إبليس وذريته على حجتين إحداهما: أن ولاية تدبير امور شئ من الاشياء تتوقف على الاحاطة العلمية - بتمام معنى الكلمة - بتلك الامور من الجهة التي تدبر فيها وبما لذلك الشئ وتلك الامور من الروابط الداخلية والخارجية بما يبتدئ منه وما يقارنه وما ينتهي إليه والارتباط الوجودي سار بين أجزاء الكون، وهؤلاء وهم إبليس وذريته لم يشهدهم الله سبحانه خلق السماوات والارض ولا خلق أنفسهم فلا كانوا شاهدين إذ قال للسماوات والارض: كن فكانت ولا إذ قال لهم كونوا فكانوا فهم جاهلون بحقيقة السماوات والارض وما في أوعية وجوداتها من اسرار الخلقة حتى بحقيقة صنع أنفسهم فكيف يسعهم أن يلوا تدبير أمرها أو تدبير امر شطر منها فيكونوا آلهة وأربابا من دون الله وهم جاهلون بحقيقة خلقتها وخلقة أنفسهم. وأما أنهم لم يشهدوا خلقها فلان كلا منهم شئ محدود لا سبيل له إلى ما وراء نفسه فغيره في غيب منه مضروب عليه الحجاب، وهذا بين وقد أنبأ الله سبحانه عنه في مواضع من كلامه، وكذا كل منهم مستور عنه شأن الاسباب التي تسبق وجوده واللواحق التي ستلحق وجوده.

[ 327 ]

وهذه حجه برهانية غير جدلية عند من أجاد النظر وأمعن في التدبر حتى لا يختلط عنده هذه الالعوبة الكاذبة التى نسميها تدبيرا بالتدبير الكوني الذي لا يلحقه خطأ ولا ضلال، وكذا الظنون والمزاعم الواهية التي نتداولها ونركن إليها بالعلم العيانى الذي هو حقيقه العلم وكذا العلم بالامور الغائبة عنا بالظفر على أماراتها الاغلبية بالعلم بالغيب الذي يتبدل به الغيب شهادة. والثانيه أن كل نوع من أنواع المخلوقات متوجه بفطرته نحو كماله المختص بنوعه وهذا ضروري عند من تتبعها وأمعن النظر في حالها فالهداية الالهية عامة للجميع كما قال: " الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه: 50 والشياطين أشرار مفسدون مضلون فتصديهم تدبير شئ من السماوات والارض أو الانسان - ولن يكون إلا بإذن من الله سبحانه - مؤد إلى نقضه السنة الالهية من الهداية العامة أي توسله تعالى إلى الاصلاح بما ليس شأنه إلا الافساد وإلى الهداية بما خاصته الاضلال وهو محال. وهذا معنى قوله سبحانه: " وما كنت متخذ المضلين عضدا: " الظاهر في أن سنته تعالى أن لا يتخذ المضلين عضدا فافهم. وفي قوله: " ما أشهدتهم وقوله " وما كنت " ولم يقل: ما شهدوا وما كانوا دلالة على أنه سبحانه هو القاهر المهيمن عليهم على كل حال: والقائلون بإشراك الشياطين أو الملائكة أو غيرهم بالله في أمر التدبير لم يقولوا باستقلالهم في ذلك بل بأن أمر التدبير مملوك لهم بتمليك من الله تعالى مفوض إليهم بتفويض منه وأنهم أرباب وآلهة والله رب الارباب وإله الالهة. وما تقدم من معنى الاية مبنى على حمل الاشهاد على معناه الحقيقي وإرجاع الضميرين في " ما أشهدتهم " و " أنفسهم " إلى إبليس وذريته كما هو الظاهر المتبادر من السياق، وللمفسرين أقوال اخر. منها قول بعضهم: إن المراد من الاشهاد في خلقها المشاورة مجازا فإن أدنى مراتب الولاية على شئ أن يشاوره في أمره والمراد بنفي الاعتضاد نفي سائر مراتب الاستعاني المؤديي إلى الولاية والسلطة على المولى عليه بوجه ما فكأنه قيل: ما شاورتهم

[ 328 ]

في أمر خلقها ولا استعنت بهم بشئ من انواع الاستعانة فمن أين يكونون أولياءلهم ؟ وفيه أنه لا قرينة على هذا المجاز ولا مانع من الحمل على المعنى الحقيقي على أنه لا رابطة بين الاشارة بالشئ والولاية عليه حتى تعد المشاورة من مراتب التولية أو الاشاره من درجات الولاية، وقد وجه بعضهم هذا المعنى بأن المراد بالاشهاد المشاورة كنايه ولازم المشاورة أن يخلق كما شاؤا أي أن يخلقهم كما أحبوا أي أن يخلقهم كاملين فالمراد بنفي إشهاد الشياطين خلق أنفسهم نفي أن يكونوا كاملين في الخلقة حتى يسع لهم ولاية تدبير الامور. وفيه مضافا إلى أنه يرد عليه ما أورد على سابقه أولا أن ذلك يرجع إلى إطلاق الشئ وإرادة لازمه بخمس مراتب من اللزوم فالمشاورة لازم الاشهاد على ما يدعيه وخلق ما يشاؤه المشير لازم المشاورة وخلق ما يحبه لازم خلق ما يشاؤه، وكمال الخلقة لازم خلق ما يحبه، وصحة الولاية لازم كمال الخلقة فإطلاق الاشهاد وارادة كمال الخلقة أو صحة الولاية من قبيل التكنية عن لازم المعنى من وراء لزومات أربع أو خمس، والكتاب المبين يجل عن أمثال هذه الالغازات. وثانيا: أنه لو صح فإنما يصح في إشهادهم خلق أنفسهم دون إشهادهم خلق السماوات والارض فلازمه التفكيك بين الاشهادين. وثالثا: أن لازمه صحة ولاية من كان كاملا في خلقه كالملائكة المقربين ففيه اعتراف بإمكان ولايتهم وجواز ربوبيتهم والقرآن يدفع ذلك بأصرح البيان فأين الممكن المفتقر لذاته إلى الله سبحانه من الاستقلال في تدبير نفسه أو تدبير غيره ؟ وأما نحو قوله تعالى: " فالمدبرات أمرا " النازعات: 5 فسيجئ توضيح معناه إن شاء الله. ومنها قول بعضهم: إن المراد بالاشهاد حقيقة معناه والضمير ان للشياطين لكن المراد من إشهادهم خلق أنفسهم إشهاد بعضهم خلق بعض لا إشهاد كل خلق نفسه. وفيه أن المراد بنفي الاشهاد استنتاج انتفاء الولاية، ولم يقل أحد من المشركين بولاية بعض الشياطين لبعض ولا تعلق الغرض بنفيها حتى يحمل لفظ الاية على إشهاد بعضهم خلق بعض.

[ 329 ]

ومنها قول بعضهم: " إن أول الضميرين للشياطين والثاني للكفار أو لهم ولغيرهم من الناس. والمعنى ما أشهدت الشياطين خلق السماوات والارض ولا خلق الكفار أو الناس حتى يكونوا أولياء لهم. وفيه أن فيه تفكيك الضميرين. ومنها قول بعضهم: برجوع الضميرين إلى الكفار، قال الامام الرازي في تفسيره والاقرب عندي عودهما يعني الضميرين على الكفار الذين قالوا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم: إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء لم نؤمن بك فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركائي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السماوات والارض ولا خلق أنفسهم ولا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والاخرة بل هم كسائر الخلق فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد ؟ ونظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنك تقول له: لست بسلطان البلد حتى نقبل منك هذه الاقتراحات الهائلة فلم تقدم عليها ؟ ويؤكده أن الضمير يجب عوده على أقرب المذكورات، وهو في الاية اولئك الكفار لانهم المراد بالظالمين في قوله تعالى: " بئس للظالمين بدلا " انتهى. وفيه أن فيه خرق السياق بتعليق مضمون الاية بما تعرض به في قوله: " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا " بنحو الاشارة قبل ثلاث وعشرين آية وقد تحول وجه الكلام بالانعطاف على أول السورة مرة بعد مرة بالتمثيل بعد التمثيل والتذكير بعد التذكير فما احتمله من المعني في غاية البعد. على أن ما ذكره من اقتراحهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " إن لم تطرد هؤلاء الفقراء من مجلسك لم نؤمن بك " ليس باقتراح فيه مداخلة في تدبير أمر العالم حتى يرد عليهم بمثل قوله " ما أشهدتهم " الخ بل اشتراط لايمانهم بطرد اولئك من غير أن يبتني على دعوى ترد بمثل ذلك، نعم لو قيل: اطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء واكتفي به لكان لما قاله بعض الوجه. وكأن التنبه لهذه النكتة دعا بعضهم إلى توجيه معني الاية على تقدير رجوع

[ 330 ]

الضميرين إلى الكفار بأن المراد أنهم جاهلون بما جرى عليه القلم في الازل من أمر السعادة والشقاء إذ لم يشهدوا الخلقة فكيف يقترحون عليك أن تقربهم إليك وتطرد الفقراء. ومثله قول آخرين: إن المراد أني ما أطلعتهم على أسرار الخلقة ولم يختصوا مني بما يمتازون به من غيرهم حتى يكونوا قدوة يقتدى بهم الناس في الايمان بك فلا تطمع في نصرتهم فلا ينبغي لي أن أعتضد لدينى بالمضلين. وكلا الجهين أبعد مما ذكره الامام من الوجه فأين الاية من الدلالة على ما اختلقاه من المعنى ؟ ومنها أن الضميرين للملائكة والمعنى ما أشهدت الملائكه خلق العالم ولا خلق أنفسهم حتى يعبدوا من دوني وينبغى أن يضاف إليه أن قوله: " وما كنت متخذ المضلين عضدا " أيضا متعرض لنفي ولاية الشياطين فتدل الاية حينئذ بصدرها وذيلها على نفي ولاية الفريقين جميعا وإلا دفعه ذيل الاية. وفيه أن الايه السابقة إنما خاطبت الكفار في قولهم بولاية الشياطين ثم ذكرتهم بضمير الجمع في قولها: " وهم لكم عدو " ولم يتعرض لشئ من أمر الملائكه فإرجاع الضميرين إلى الملائكة دون الشياطين تفكيك، والاشتغال بنفي ولاية الملائكة تعرض لما لم يحوج إليه السياق ولا اقتضاه المقام. قوله تعالى: " ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم إلى آخر الاية هذا تذكير ثالث يذكر فيه ظهور بطلان الرابطة بين المشركين وبين شركائهم يوم القيامة ويتأكد بذلك أنهم ليسوا على شئ مما يدعيه لهم المشركون. فقوله: " ويوم يقول " الخ الضمير له تعالى بشهادة السياق، والمعنى واذكر لهم يوم يقول الله لهم نادوا شركائي الذين زعمتم أنهم لي شركاء فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وبان أنهم ليسوا لي شركاء ولو كانوا لاستجابوا. وقوله: " وجعلنا بينهم موبقا " الموبق بكسر الباء إسم مكان من وبق وبوقا بمعنى هلك، والمعنى جعلنا بين المشركين وشركائهم محل هلاك وقد فسر القوم هذا

[ 331 ]

الموبق والمهلك بالنار أو بمحل من النار يهلك فيه الفريقان المشركون وشركاءهم لكن التدبر في كلامه تعالى لا يساعد عليه فإن الايه قد اطلقت الشركاء وفيهم - ولعلهم الاكثر - الملائكة وبعض الانبياء والاولياء، وأرجع إليهم ضمير اولي العقل مرة بعد مرة، ولا دليل على اختصاصهم بمردة الجن والانس، وكون جعل الموبق بينهم دليلا على الاختصاص أول الكلام. فلعل المراد من جعل موبق بينهم إبطال الرابطة ورفعها من بينهم وقد كانوا يرون في الدنيا أن بينهم وبين شركائهم رابطه الربوبيه والمربوبيه أو السببية والمسببية فكني عن ذلك بجعل موبق بينهم يهلك فيه الرابطة والعلقة من غير أن يهلك الطرفان، ويومي إلى ذلك بلطيف الاشارة تعبيره عن دعوتهم أولا بالنداء حيث قال: " نادوا شركائي والنداء إنما يكون في البعيد فهو دليل على بعد ما بينهما. وإلى مثل هذا المعنى يشير قوله تعالى في موضع آخر من كلامه: " وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون " الانعام: 94، وقوله تعالى: ثم نقول للذين أشركوا مكانكم انتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون " يونس: 28. قوله تعالى ورأي المجرمون النار وظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا " في أخذ المجرمين مكان المشركين دلالة على أن الحكم عام لجميع أهل الاجرام، والمراد بالظن هو العلم - على ما قيل - ويشهد به قوله: " ولم يجدوا عنها مصرفا ". والمراد بمواقعة النار الوقوع فيها - على ما قيل ولا يبعد أن يكون المراد حصول الوقوع من الجانبين فهم واقعون في النار بدخولهم فيها والنار واقعة فيهم باشتعالهم بها. وقوله: " ولم يجدوا عنها مصرفا " المصرف بكسر الراء اسم مكان من الصرف أي لم يجدوا محلا ينصرفون إليه ويعدلون عن النار ولا مناص. قوله تعالى: " ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل وكان الانسان أكثر شئ جدلا " قد مر الكلام في نظير صدر الاية في سورة أسرى آيه 89 والجدل الكلام

[ 332 ]

على سبيل المنازعة والمشاجرة والاية إلى تمام ست آيات مسوقة للتهديد بالعذاب بعد التذكيرات السابقة. قوله تعالى: " وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم و " يستغفروا " عطف على قوله: " يؤمنوا " أي وما منعهم من الايمان والاستغفار حين مجئ الهدى. وقوله: " إلا أن تأتيهم سنة الاولين " أي إلا طلب أن تأتيهم السنة الجارية في الامم الاولين وهي عذاب الاستئصال، وقوله: " أو يأتيهم العذاب قبلا " عطف على سابقه أي أو طلب أن يأتيهم العذاب مقابلة وعيانا ولا ينفعهم الايمان حينئذ لانه إيمان بعد مشاهدة البأس الالهي قال تعالي: " فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده ": المؤمن: 85. فمحصل المعنى أن الناس لا يطلبون إيمانا ينفعهم والذي يريدونه أن يأخذهم عذاب الاستئصال على سنة الاولين فيهلكوا ولايؤمنوا أو يقابلهم العذاب عيانا فيؤمنوا اضطرارا فلا ينفعهم الايمان. وهذا المنع والاقتضاء في الاية أمر ادعائي يراد به أنهم معرضون عن الحق لسوء سريرتهم فلا جدوى للاطناب الذي وقع في التفاسير في صحة ما مر من التوجيه والتقدير إشكالا ودفعا. قوله تعالى: " وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين " الخ تعزية للنبى صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يضيق صدره من إنكار المنكرين وإعراضهم عن ذكر الله فما كانت وظيفة المرسلين إلا التبشير والانذار وليس عليهم وراء ذلك من بأس ففيه انعطاف إلى مثل ما مر في قوله في أول السورة: " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا وفي الايه أيضا نوع تهديد للكفار المستهزئين. والدحض الهلاك والادحاض الاهلاك والابطال والهزوء الاستهزاء والمصدر بمعنى اسم المفعول ومعنى الاية ظاهر.

[ 333 ]

قوله تعالى: " ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه " إعظام وتكبير لظلمهم والظلم يعظم ويكبر بحسب متعلقه، وإذا كان هو الله سبحانه بآياته فهو أكبر من كل ظلم. والمراد بنسيان ما قدمت يداه عدم مبالاته بما يأتيه من الاعراض عن الحق والاستهزاء به وهو يعلم أنه حق، وقوله: " إنا جعلنا على قلوبهم أكنه أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا " كأنه تعليل لاعراضهم عن آيات الله أو له ولنسيانهم ما قدمت أيديهم، وقد تقدم الكلام في معنى جعل الاكنة على قلوبهم والوقر في آذانهم في الكتاب مرارا. وقوله: " وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا " إيآس من إيمانهم بعد ما ضرب الله الحجاب على قلوبهم وآذانهم فلا يسعهم بعد ذلك أن يهتدوا بأنفسهم بتعقل الحق ولا أن يسترشدوا بهداية غيرهم بالسمع والاتباع، والدليل على هذا المعنى قوله: " وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا " حيث دل على تأييد النفي وقيده بقوله: " إذا " وهو جزاء وجواب. قال في روح المعاني: واستدلت الجبرية بهذه الاية على مذهبهم، والقدرية بالاية التي قبلها. قال الامام: وقل ما تجد في القرآن آية لاحد هذين الفريقين إلا ومعها آية للفريق الاخر، وما ذاك إلا امتحان شديد من الله تعالى ألقاه الله على عباده ليتميز العلماء الراسخون من المقلدين. انتهى. أقول: وكلتا الايتين حق ولازم ذلك ثبوت الاختيار للعباد في أعمالهم وانبساط سلطنته تعالى في ملكه حتى على أعمال العباد وهو مذهب أئمة أهل لبيت عليهم السلام. قوله تعالى: " وربك الغفور ذو الرحمة " إلى آخر الاية، الايات - كما سمعت - مسرودة لتهديدهم بالعذاب وهم فاسدون في أعمالهم فسادا لا يرجى منهم صلاح وهذا مقتض لنزول العذاب وأن يكون معجلا لا يمهلهم إذ لا أثر لبقائهم إلا الفساد لكن الله سبحانه لم يعجل لهم العذاب وإن قضى به قضاء حتم بل أخره إلى أجل مسمى عينه بعلمه.

[ 334 ]

فقوله: " وربك الغفور ذو الرحمة " صدرت به الاية المتضمنة لصريح القضاء في تهديدهم ليعدل به بواسطة اشتماله على الوصفين: الغفور ذي الرحمة ما يقتضي العذاب المعجل فيقضى ويمضى أصل العذاب أداء لحق مقتضيه وهو عملهم، ويؤخر وقوعه لان الله غفور ذو رحمة. فالجملة أعني قوله: " الغفور ذو الرحمة " مع قوله: " لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب " بمنزلة متخاصمين متنازعين يحضران عند القاضي وقوله: " بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا " أي ملجأ يلجؤون منه إليه بمنزلي الحكم الصادر عنه بما فيه إرضاء الجانبين ومراعاة الحقين فاعطي وصف الانتقام الالهي باستدعاء مما كسبوا أصل العذاب وأعطيت صفة المغفره والرحمة أن يؤجل العذاب ولا يعجل، وعند ذلك أخذت المغفره الالهية تمحو أثر العمل الذي هو استعجال العذاب، والرحمة تفيض عليهم حياة معجلة. ومحصل المعنى: لو يؤاخذهم ربك لعجل لهم العذاب لكن لم يعجل لانه الغفور ذو الرحمة بل حتم عليهم العذاب بجعله لهم موعدا لا ملجأ لهم يلجؤون منه إليه. فقوله: " بل لهم موعد " الخ كلمة قضاء وليس بحكاية محضة وإلا قيل: بل جعل لهم موعدا الخ فافهم ذلك. والغفور صيغة مبالغة تدل على كثرة المغفرة وذو الرحمة - ولامه للجنس - صفة تدل على شمول الرحمة لكل شئ فهي أشمل معنى من الرحمان والرحيم الدالين على الكثرة أو الثبوت والاستمرار فالغفور بمنزلة الخادم لذي الرحمة فإنه يصلح المورد لذي الرحمة بإمحاء ما عليه من وصمة الموانع فإذا صلح شمله ذو الرحمة، فللغفور السعي وكثرة العمل ولذي الرحمة الانبساط والشمول على ما لا مانع عنده، ولهذه النكتة جئ في المغفرة بالغفور وهو صيغة مبالغة وفي الرحمي بذي الرحمي الحاوي لجنس الرحمي فأفهم ذلك ودع عنك ما أطنبوا فيه من الكلام في الاسمين. قوله تعالى: " وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا " المراد بالقرى أهلها مجازا بدليل الضمائر الراجعة إليها، ولمهلك بكسر اللام اسم زمان. ومعنى الاية ظاهر وهي مسوقة لبيان أن تأخير مهلكهم وتأجيله ليس ببدع منا

[ 335 ]

بل السنة الالهية في الامم الماضين الذين أهلكهم الله لما ظلموا كانت جارية على ذلك فكان الله يهلكهم ويجعل لمهلكهم موعدا. ومن هنا يظهر أن العذاب والهلاك الذي تتضمنه الايات ليس بعذاب يوم القيامة بل عذاب دنيوي وهو عذاب يوم بدر إن كان المراد تهديد صناديد قريش أو عذاب آخر الزمان إن كان المراد تهديد الامة كما مر في تفسير سورة يونس. " بحث روائي " في تفسير العياشي: في قوله تعالى: " يا ويلتنا ما لهذا الكتاب " الاية: عن خالد ابن نجيح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا كان يوم القيامة دفع للانسان كتابه ثم قيل له: اقرء. قلت: فيعرف ما فيه، فقال: إنه يذكره فما من لحظة ولا كلمة ولا نقل قدم ولا شئ فعله إلا ذكره كأنه فعله تلك الساعة. ولذلك قالوا: " يا ويلتنا مالهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ". اقول: والرواية كما ترى تجعل ما يذكره الانسان هو ما عرفه من ذلك الكتاب فمذكوره هو المكتوب فيه، ولو لا حضور ما عمله لم تتم عليه الحجة ولامكنه أن ينكره. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " ولا يظلم ربك أحدا " قال: يجدون كل ما عملوا مكتوبا. وفي تفسير البرهان عن ابن بابويه بإسناده عن أبي معمر السعدان عن علي عليه السلام قال: قوله: " ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها " أي أيقنوا أنهم داخلوها. وفي الدر المنثور أخرج أحمد وأبو يعلى وابن جرير وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ينصب الكافر يوم

[ 336 ]

القيامة مقدار خمسين ألف سنة كما لم يعمل في الدنيا، وإن الكافر يرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة. أقول وهو يؤيد ما تقدم أن المواقعة في الاية مأخوذه بين الاثنين وإذ قال موسى لفتيه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقبا (60). فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا (61). فلما جاوزا قال لفتيه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا (62). قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإنى نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا (63). قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا (64). فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما (65). قال له موسى هل اتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا (66). قال إنك لن تستطيع معي صبرا (67). وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا (68). قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا إعصي لك أمرا (69). قال فإن اتبعتنى فلا تسئلني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا (70). فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا امرا (71). قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا (72). قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا

[ 337 ]

ترهقني من أمرى عسرا (73). فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا (74). قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا (75). قال إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدنى عذرا (76). فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لتخذت عليه اجرا (77). قال هذا فراق بينى وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا (78). أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا (79). وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا (80). فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكوة وأقرب رحما (81). وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمرى ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا (82). بيان قصة موسى والعالم الذي لقيه بمجمع البحرين وكان يعلم تأويل الحوادث ذكر الله سبحانه

[ 338 ]

بها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهو التذكير الرابع من التذكيرات الواقعة إثر ما أمره في صدر السورة بالصبر والمضي على تبليغ رسالته والسلوة فيما يشاهده من إعراض الناس عن ذكر الله وإقبالهم على الدنيا وبين أن الذي هم مشتغلون به زينة معجلة ومتاع إلى حين فلا يشقن عليه ما يجده عندهم من ظاهر تمتعهم بالحياة وفوزهم بما يشتهون فيها فإن وراء هذا الظاهر باطنا وفوق سلطتهم على المشتهيات سلطنة إلهية. فالتذكير بقصة موسى والعالم كأنه للاشارة إلى أن لهذه الوقائع والحوادث التي تجري على مشتهى أهل الدنيا تأويلا سيظهر لهم إذا بلغ الكتاب أجله فإذن الله لهم أن ينتبهوا من نومة الغفلة وبعثوا لنشأه غير النشأه يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل لقد جاءت رسل ربنا بالحق. وموسى الذي ذكر في القصة هو ابن عمران الرسول النبي أحد اولي العزم عليه السلام على ما وردت به الرواية من طرق الشيعة وأهل السنة. وقيل هو أحد أسباط يوسف بن يعقوب عليه السلام وهو موسى بن ميشا بن يوسف وكان من أنبياء بني إسرائيل ويبعده أن القرآن قد أكثر ذكر اسم موسى حتى بلغ مائة ونيفا وثلاثين وهو يريد ابن عمران عليه السلام فلو اريد بما في هذه القصة غيره لضم إليه قرينة صارفة. وقيل: إن القصة اسطورة تخييلية صورت لغاية أن كمال المعرفة يورد الانسان مشرعة عين الحياة ويسقيه ماءها وهو الحياة الخالدة التي لا موت بعدها أبدا والسعادة السرمديه التي لا سعادة فوقها قط. وفيه أنه تقدير من غير دليل وظاهر الكتاب العزيز يدفعه ولا خبر في القصة التي يقصها القرآن عن عين الحياة هذه إلا ما ورد في أقاويل بعض المفسرين والقصاصين من أهل التاريخ من غير أصل قرآني يستند إليه أو وجدان حسي لعين هذه صفتها في صقع من أصقاع الارض. والفتى الذي ذكره الله وأضافه إلى موسى قيل هو يوشع بن نون وصيه، وبه وردت الرواية قيل: " سمي فتى لانه كان يلازمه سفرا وحضرا أو لانه كان يخدمه. والعالم الذي لقيه موسى ووصفه الله وصفا جميلا بقوله: " عبدا من عبادنا آتيناه

[ 339 ]

رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما " ولم يسمه ورد في الروايات أن اسمه الخضر وكان نبيا من الانبياء معاصر لموسى عليه السلام وفي بعضها أن الله رزقه طول الحياة فهو حي لم يمت بعد، وهذا المقدار لا بأس به إذ لم يرد عقل أو نقل قطعي بخلافه وقد طال البحث عن شخصية الخضر بين القوم كما في مطولات التفاسير وتكاثرت القصص والحكايات في رؤيته ومع ذلك لا تخلو الاخبار والقصص عن أساطير موضوعة أو مدسوسة. قوله تعالى: " وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقبا " الظرف متعلق بمقدر، والجملة معطوفة على ما عطف عليه التذكيرات الثلاثة المذكورة سابقا، وقوله: " لا أبرح بمعنى لا أزال وهو من الافعال الناقصة حذف خبره إيجازا لدلالة قوله: " حتى أبلغ " عليه والتقدير لا أبرح أمشى أو أسير ومجمع البحرين قيل: " هو الذي ينتهي إليه بحر الروم من الجانب الشرقي وبحر الفرس من الجانب (1) الغربي، والحقب الدهر والزمان وتنكيره يدل على وصف محذوف والتقدير حقبا طويلا. والمعنى - والله أعلم - وأذكر إذ قال موسى لفتاه لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي دهرا طويلا. قوله تعالى: " فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا " الظاهر أن قوله: " مجمع بينهما " من إضافة الصفة إلى الموصوف وأصله بين البحرين الموصوف بأنه مجمعهما. وقوله: " نسيا حوتهما " الايتان التاليتان تدلان على أنه كان حوتا مملوحا أو مشويا حملاه ليرتزقابه في المسير ولم يكن حيا وإنما حي هناك واتخذ سبيله في البحر ورآه الفتى وهو حي يغوص في البحر ونسى أن يذكر ذلك لموسى ونسي موسى أن يسأله عنه أين هو ؟ وعلى هذا فمعنى " نسيا حوتهما " بنسبة النسيان اليهما معا نسيا حال حوتهما فموسى نسي


(1) فمجمع البحرين على هذا ما بينهما سمى مجمعا بنوع من التوسع. (*)

[ 340 ]

كونه في المكتل فلم يتفقده والفتى نسيه إذ لم يخبر موسى بعجيب ما رأى من أمره. هذا ما ذكروه. وأعلم أن الايات غير صريحه في حياه الحوت بعد ما كان ميتا بل ظاهر قوله: " نسيا حوتهما " وكذا قوله " نسيت الحوت " أن يكونا وضعاه في مكان من الصخرة مشرف على البحر فيسقط في البحر أو يأخذه البحر بمد ونحوه فيغيب فيه ويغور في أعماقه بنحو عجيب كالدخول في السرب ويؤيده ما في بعض الروايات أن العلامة كانت هي افتقاد الحوت لا حياته والله أعلم. وقوله: " فاتخذ سبيله في البحر سربا " السرب المسلك والمذهب والسرب والنفق الطريق المحفور في الارض لا نفاذ فيه كأنه شبه السبيل الذي اتخذه الحوت داخل الماء بالسرب الذي يسلكه السالك فيغيب فيه. قوله تعالى: " فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال في المجمع: النصب والوصب والتعب نظائر، وهو الوهن الذي يكون عن كد انتهى، والمراد بالغداء ما يتغدى به وفيه دلالة على أن ذلك كان في النهار. والمعنى: ولما جاوزا مجمع البحرين أمر موسى فتاه أن يأتي بالغداء وهو الحوت الذي حملاه ليتغديا به ولقد لقيا من سفرهما تعبا. قوله تعالى: " قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة " إلى آخر الاية يريد حال بلوغهم مجمع البحرين ومكثهم هناك فقد كانت الصخرة هناك والدليل عليه قوله: " واتخذ سبيله " الخ وقد ذكر في ما مر أنه كان بمجمع البحرين، يقول لموسى: لا غداء عندنا نتغدى به فإن غداءنا وهو الحوت حى ودخل البحر وذهب حينما بلغنا مجمع البحرين وأينا إلى الصخرة التي كانت هناك وإني نسيت أن اخبرك بذلك. فقوله: " أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة يذكره حال اويهما إلى الصخرة ونزولهما عندها ليستريحا قليلا، وقوله: " فإني نسيت الحوت " أي نسيت حال الحوت التي شاهدتها منه فلم أذكرها لك، والدليل على هذا المعنى - كما قيل قوله: " وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره " فان " أن أذكره " بدل من ضمير " أنسانيه "

[ 341 ]

والتقدير " وما أنساني ذكر الحوت لك إلا الشيطان فهو لم ينس نفس الحوت وإنما نسى أن يذكر حاله التي شاهد منه لموسى. ولا ضير في نسبة الفتى نسيانه إلى تصرف من الشيطان بناء على أنه كان يوشع بن نون النبي والانبياء في عصمة إلهية من الشيطان لانهم معصومون مما يرجع إلى المعصية وأما مطلق إيذاء الشيطان فيما لا يرجع إلى معصية فلا دليل يمنعه قال تعالى: " وأذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب " ص: 41. وقوله: " واتخذ سبيله في البحر عجبا أي اتخاذا عجبا، فعجبا وصف قام مقام موصوفه على المفعولية المطلقة وقيل: " إن قوله: " واتخذ سئيله في البحر " قول الفتى وقوله: " عجبا " من قول موسى، والسياق يدفعه. واعلم أن ما تقدم من الاحتمال في قوله: " نسيا حوتهما " الخ جار ههنا والله أعلم. قوله تعالى: " قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا " البغي الطلب، والارتداد العود على بدء، والمراد بالاثار آثار أقدامهما والقصص اتباع الاثر والمعنى قال موسى: ذلك الذى وقع من أمر الحوت هو الذي كنا نطلبه فرجعا على آثارهما يقصانها قصصا ويتبعانها اتباعا. وقوله: " ذلك ما كنا نبغ فارتدا " يكشف عن أن موسى كان مأمورا من طريق الوحى ان يلقى العالم في مجمع البحرين وكان علامة المحل الذي يجده ويلقا فيه ما وقع من أمر الحوت إما خصوص قضية حياته وذهابه في البحر أو بنحو الابهام والعموم كفقد الحوت أو حياته أو عود الميت حيا ونحو ذلك، ولذلك لما سمع موسى من فتاه ما سمع من أمر الحوت قال ما قال، ورجعا إلى المكان الذي فارقاه فوجد اعبدا " الخ ". قوله تعالى: فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا " إلخ. كل نعمة فإنها رحمة منه تعالى لخلقه لكن منها ما تتوسط فيه الاسباب الكونية وتعمل فيه كالنعم الظاهرية بأنواعها، ومنها ما لا يتوسط فيه شئ منها كالنعم الباطنيه من النبوة والولاية بشعبها ومقاماتها، وتقييد الرحمة بقوله: " من عندنا " الظاهر في أنها من موهبته لا صنع لغيره فيها يعطي أنها من القسم الثانة أعنى النعم الباطنية ثم اختصاص الولاية بحقيقتها به تعالى كما قال: " فالله هو الولى " الشورى: 9، وكون النبوة مما للملائكة

[ 342 ]

الكرام فيه عمل كالوحي ونحوه يؤيد أن يكون المراد بقوله: " رحمه من عندنا " حيث جيئ بنون العظمة ولم يقل: من عندي هو النبوة دون الولاية وبهذا يتأيد تفسير من فسر الكلمة بالنبوة والله أعلم. وأما قوله: " وعلمناه من لدنا علما " فهو أيضا كالرحمة التي من عنده علم لا صنع فيه للاسباب العادية كالحس والفكر حتى يحصل من طريق الاكتساب والدليل على ذلك قوله: " من لدنا " فهو علم وهبى غير اكتساب يختص به أولياءه وآخر الايات يدل على أنه كان علما بتأويل الحوادث. قوله تعالى: " قال له موسى هل اتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا " الرشد خلاف الغي وهو إصابه الصواب، وهو في الاية مفعول له أو مفعول به، والمعنى قال له موسى هل اتبعك اتباعا مبنيا على هذا الاساس وهو أن تعلمني مما علمت لارشد به أو تعلمني مما علمت أمرا ذا رشد. قوله تعالى: " قال إنك لن تستطيع معي صبرا " نفي مؤكد لصبره عليه السلام على شئ مما يشاهده منه في طريق التعليم والدليل عليه تأكيد الكلام بإن وإيراد الصبر نكرة في سياق النفي الدال على إرادة العموم، ونفي الصبر بنفي الاستطاعة التي هي القدرة فهو آكد من أن يقال: لن تصبر، وإيراد النفي بلن ولم يقل: لا تصبر وللفعل توقف على القدرة فهو نفي الفعل بنفي أحد أسبابه ثم نفي الصبر بنفى سبب القدرة عليه وهو إحاطة الخبر والعلم بحقيقة الواقعة وتأويلها حتى يعلم أنها يجب أن تجرى على ما جرت عليه. وقد نفى صبره على مظاهر علمه من الحوادث حيث قال: " لن تستطيع معى " ولم ينف صبره على نفس علمه فلم يقل: لن تصبر على ما أعلمه ولن تتحمله ولم يتغير عليه موسى عليه السلام حينما أخبره بتأويل ما رأى منه وإنما تغير عليه عند مشاهدة نفس أفعاله التي أراه إياها في طريق التعليم، فللعلم حكم ولمظاهره حكم ونظير ذلك أن موسى عليه السلام لما رجع من الميقات إلى قومه وشاهد أنهم عبدوا العجل من بعده امتلا غيظا وألقى الالواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه وقد كان الله أخبره بذلك وهو في الميقات فلم يأت بشئ من ذلك وقول الله أصدق من الحس والقصة في سورة الاعراف.

[ 343 ]

فقوله: " إنك لن تستطيع معى " الخ إخبار بأنه لا يطيق الطريق الذي يتخذه في تعليمه إن اتبعه لا أنه لا يتحمل العلم. قوله تعالى: " وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا " الخبر العلم وهو تمييز والمعنى لا يحيط به خبرك. قوله تعالى: " قال ستجدني ان شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا " وعده الصبر لكن قيده بالمشية فلم يكذب إذ لم يصبر وقوله: ولا أعصي " الخ عطف على " صابرا " لما فيه من معنى الفعل فعدم المعصية الذي وعده أيضا مقيد بالمشية ولم يخلف الوعد إذ لم ينتهي بنهيه عن السؤال. قوله تعالى: " قال فان اتبعتني فلا تسألني عن شئ حتى احدث لك منه ذكرا " الظاهر أن " منه " متعلق بقوله: " ذكرا " وإحداث الذكر من الشئ الابتداء به من غير سابقة والمعنى فإن اتبعتنى فلا تسألني عن شئ تشاهده من أمرى تشق عليك مشاهدته حتى أبتدء أنا بذكر منه، وفيه إشارة إلى أنه سيشاهد منه امورا تشق عليه مشاهدتها وهو سيبينها له لكن لا ينبغى لموسى أن يبتدئه بالسؤال والاستخبار بل ينبغى أن يصبر حتى يبتدئه هو بالاخبار. وقد أتى موسى عليه السلام من الخلق والادب البارع الحرى بالمتعلم المستفيد قبال الخضر - على ما تحكيه هذه الايات - بأمر عجيب وهو كليم الله موسى بن عمران الرسول النبي أحد اولي العزم صاحب التوراة. فكلامه موضوع على التواضع من أوله إلى آخره، وقد تأدب معه أولا فلم يورد طلبه منه التعليم في صورة الامر بل في صورة الاستفهام هضما لنفسه، وسمى مصاحبته اتباعا منه له، ثم لم يورد التعليم في صورة الاشتراط بل قال: على أن تعلمن الخ ثم عد نفسه متعلما، ثم أعظم قدر علمه إذ جعله منتسبا إلى مبدء غير معلوم لم يعينه باسم أو نعت فقال: " علمت " ولم يقل تعلم، ثم مدحه بقوله: " رشدا " ثم جعل ما يتعلمه بعض علمه فقال: " مما علمت " ولم يقل: ما علمت ثم رفع قدره إذ جعل ما يشير عليه به أمرا يأمره وعد نفسه لو خالفه فيما يأمر عاصيا ثم لم يسترسل معه بالتصريح بالوعد بل كنى عنه بمثل قوله: " ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا.

[ 344 ]

وقد تأدب الخضر معه إذ لم يصرح بالرد أولا بل أشار إليه بنفى استطاعته على الصبر ثم لما وعده موسى بالصبر إن شاء الله لم يأمره بالاتباع بل خلى بينه وبين ما يريد فقال: " فإن اتبعتني ": ثم لم ينهه عن السؤال نهيا مطلقا في صوره المولوية المحضة بل علقه على اتباعة فقال: " فان اتبعتني فلا تسألني حتى أنه لا يقترح عليه بالنهي بل هو أمر يقتضيه الاتباع. قوله تعالى: " فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا " الامر بكسر الهمزة الداهية العظيمة وقوله: " فانطلقا " تفريع على ما تقدمه، والمنطلقان هما موسى والخضر وهو ظاهر في أن موسى لم يصحب فتاه في سيره مع الخضر، واللام في قوله، " لتغرق أهلها " للغاية فإن الغرق وإن كان عاقبة للخرق ولم يقصده الخضر البتة لكن العاقبة الضرورية ربما تؤخذ غاية مقصودة ادعاه لوضوحها كما يقال: أتفعل كذا لتهلك نفسك ؟ والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا " إنكار لسؤال موسى وتذكير لما قاله من قبل: " إنك لن تستطيع الخ. قوله تعالى: " قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمرى عسرا الرهق الغثيان بالقهر والارهاق التكليف، والمعنى لا تؤاخذني بنسياني الوعد وغفلتي عنه ولا تكلفني عسرا من أمري، وربما يفسر النسيان بمعنى الترك، والاول أظهر، والكلام اعتذار على أي حال. قوله تعالى: " فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا في الكلام بعض الحذف للايجاز والتقدير: فخرجا من السفينة وانطلقا. وفي قوله: " حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال " الخ " فقتله " معطوف على الشرط بفاء التفريع و " قال " جزاء " إذا " على ما هو ظاهر الكلام: وبذلك يظهر أن العمدة في الكلام ذكر اعتراض موسى لا ذكر القتل، ونظيرته الاية اللاحقة " فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية - إلى قوله - قال لو شئت " الخ بخلاف الاية السابقة:

[ 345 ]

" فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال " فإن جزاء " إذا " فيها " خرقها " وقوله: " قال " كلام مفصول مستأنف. وعلى هذا فالايات مسرودة في صوره قصة واحده اعترض فيها موسى على الخضر عليهما السلام ثلاث مرات واحدة بعد اخرى لا في صورة ثلاث قصص اعترض فيها ثلاث اعتراضات كأنه قيل: وقع كذا وكذا فاعترض عليه ثم اعترض ثم اعترض فالقصة قصة اعتراضاته فهي واحدة لا قصة أعمال هذا واعتراضات ذاك حتى تكون ثلاثا. ومن هنا يتبين وجه الفرق بين الايات الثلاث حيث جعل " خرقها " جواب إذا في الاية الاولى، ولم يجعل " قتله " و " وجدا " أو " إقامه " جوابا في الثانية والثالثة بل جزءا من الشرط معطوفا عليه فافهم ذلك. وقوله: " أقتلت نفسا زكيه الزكية " الطاهرة والمراد طهارتها من الذنوب لعدم البلوغ كما يشعر به قوله: " غلاما " والاستفهام للانكار، والقائل موسى. وقوله: " بغير نفس " أي بغير قتل منها لنفس قتلا مجوزا لقتلها قصاصا وقودا فإن غير البالغ لا يتحقق منه القتل الموجب للقصاص وربما استفيد من قوله: " بغير نفس: " أنه كان شابا بالغا ولا دلالة في إطلاق الغلام عليه على عدم بلوغه لان الغلام يطلق على البالغ وغيره فالمعنى أقتلت بغير قصاص نفسا بريئة من الذنوب المستوجبة للقتل ؟ إذ لم يظهر لهما من الغلام شئ يستوجبه. وقوله: " لقد جئت شيئا نكرا " أي منكرا يستنكره الطبع ولا يعرفه المجتمع وقد عد خرق السفينة إمرا أي داهية يستعقب مصائب لم يقع شئ منها بعد وقتل النفس نكرا أو منكرا وهو أفظع وأفجع عند الناس من الخرق الذي يستوجب عادة هلاك النفوس لكن لا بالمباشرة فعلا. قوله تعالى: قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا " معناه ظاهر وزيادة " لك " نوع تقريع له أنه لم يصغ إلى وصيته وإيماء إلى كونه كأنه لم يسمع قوله له أول مرة: " أنك لن تستطيع معي صبرا " أو سمعه وحسب أنه لا يعنيه بل يقصد به غيره كأنه يقول: إنما عنيت بقولى إنك لن تستطيع " الخ " إياك دون غيرك.

[ 346 ]

قوله تعالى: " قال أن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا الضمير في " بعدها " راجع إلى هذه المرة أو المسألة اي ان سألتك بعد هذه المرة أو هذه المسألة فلا تصاحبني اي يجوز لك ان لا تصاحبني. وقوله: " قد بلغت من لدني عذرا " اي بلغت عذرا ووجدته كائنا ذلك من لدني إذ بلغ عذرك النهاية من عندي. قوله تعالى: " فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية أستطعما أهلها " إلى آخر الاية الكلام في قوله: " فانطلقا " " فأبوا " " فوجدا " فأقامه " كالكلام في قوله في الاية السابقة: " فانطلقا " " فقتله ". وقوله: استطعما أهلها " صفة لقرية ولم يقل: " استطعماهم لرداءة قولنا: " قرية استطعماهم بخلاف مثل قولنا: أتى قرية على إرادة أتى أهل قرية لان للقرية نصيبا من الاتيان فيجوز وضعها موضع أهلها مجازا بخلاف الاستطعام لانه لاهلها خاصة، وعلى هذا فليس قوله: " أهلها " من وضع الظاهر موضع المضمر. ولم يقل: حتى إذا أتيا قرية أستطعما أهلها لان القرية كانت تتمحض حينئذ في معناها الحقيقي والغرض العمدة - كما عرفت - متعلق بالجزاء أعني قوله: " قال لو شئت لتخذت عليه أجرا " وفيه ذكر أخذ الاجر وهو إنما يكون من أهلها لا منها فقوله: " أتيا أهل قرية " دليل على أن إقامة الجدار كانت بحضور من أهل القرية وهو الذي أغنى أن يقال: لو شئت لتخذت عليه منهم أو من أهلها أجرا فافهم ذلك. والمراد بالاستطعام طلب الطعام بالاضافة ولذا قال: " فأبوا أن يضيفوهما " وقوله " فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض " الانقضاض السقوط، وإراده الانقضاض مجاز عن الاشراف على السقوط والانهدام، وقوله: " فأقامة " أي أثبته الخضر باصلاح شأنه ولم يذكر سبحانه كيف أقامه ؟ بنحو خرق العادة أم ببناء أو ضرب دعامة ؟ غير أن قول موسى: " لو شئت لتخذت عليه أجرا " مشعر بأنه كان بعمل غير خارق فإن المعهود من أخذ الاجر، ما كان على العاديات. وقوله: " قال لو شئت لتخذت (1) عليه اجرا " تخذ وأخذ بمعنى واحد، وضمير


(1) قرى، بالتشديد من " اتخذ " وبالتخفيف من " تخذ " (*).

[ 347 ]

" عليه " للاقامة المفهومة من " فأقامة " وهو مصدر جائز الوجهين، والسياق يشهد أنهما كانا جائعين فذكره موسى أخذ الاجرة على عمله إذ لو كان أخذ أجرا أمكنهما أن يشتريا به شيئا من الطعام يسدان به جوعهما. قوله تعالى: " قال هذا فراق بينى وبينك سانبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا " الاشارة بهذا إلى قول موسى أي هذا القول سبب فراق بينى وبينك أو إلى الوقت أي هذا الوقت وقت فراق بيني وبينك كما قيل، ويمكن أن تكون الاشارة إلى نفس الفراق، والمعنى هذا الفراق قد حضر كأنه كان أمرا غائبا فحضر عند قول موسى: " لو شئت لتخذت " الخ وقوله: " بينى وبينك " ولم يقل بيننا للتأكيد، وإنما قال الخضر هذا القول بعد الاعتراض الثالث لان موسى كان قبل ذلك يعتذر إليه كما في الاول أو يستمهله كما في الثاني، وأما الفراق بعد الاعتراض الثالث فقد أعذره موسى فيه إذ قال بعد الاعتراض الثاني: إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني " الخ والباقي ظاهر. قوله تعالى: " أما السفينة فكانت لمساكين " الخ شروع في تفصيل ما وعد إجمالا بقوله: " سانبئك " الخ وقوله: " أن أعيبها " أي أجعلها معيبة وهذه قرينة على أن المراد بكل سفينة كل سفينة غير معيبة. وقوله: " وكان وراءهم ملك " وراء بمعنى الخلف وهو الظرف المقابل للظرف الاخر الذي يواجهه الانسان ويسمى قدام وأمام لكن ربما يطلق على الظرف الذي يغفل عنه الانسان وفيه من يريده بسوء أو مكروه وإن كان قدامه أو فيه ما يعرض عنه الانسان أو فيه ما يشغل الانسان بنفسه عن غيره كان الانسان ولى وجهه إلى جهه تخالف جهته قال تعالى: " فمن ابتغى وراء ذلك فاولئك هم العادون " المؤمنون: 7، وقال: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب الشورى: 51، وقال: " والله من ورائهم " البروج: 20. ومحصل المعنى: أن السفينة كانت لعدة من المساكين يعملون بها في البحر ويتعيشون به وكان هناك ملك جبار أمر بغصب السفن فأردت بخرقها أحدث فيها عيبا فلا يطمع فيها الجبار ويدعها لهم. قوله تعالى: " وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا "

[ 348 ]

الاظهر من سياق الاية وما سيأتي من قوله: " وما فعلته عن أمري " أن يكون المراد بالخشية التحذر عن رأفة ورحمة مجازا لا معناه الحقيقي الذي هو التأثر القلبي الخاص المنفى عنه تعالى وعن أنبيائه كما قال: " ولا يخشون أحدا إلا الله " الاحزاب: " 39، وأن يكون المراد بقوله: " أن يرهقهما طغيانا وكفرا " أن يغشيهما ذلك أي يحمل والديه على الطغيان والكفر بالاغواء والتأثير الروحي لمكان حبهما الشديد له لكن قوله في الاية التالية: " وأقرب رحما " لا تخلو من تأييد لكون " طغيانا وكفرا " تميزين عن الارهاق أي وصفين للغلام دون أبويه. قوله تعالى: " فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاه وأقرب رحما المراد بكونه خيرا منه زكاة كونه خيرا منه صلاحا وايمانا بقرينة مقابلته الطغيان والكفر في الاية السابقة، وأصل الزكاة فيما قيل الطهارة والمراد بكونه أقرب منه رحما كونه أوصل للرحم والقرابة فلا يرهقهما، وأما تفسيره بكونه أكثر رحمة بهما فلا يناسبه قوله " اقرب منه " تلك المناسبة، وهذا - كما عرفت - يؤيد كون المراد من قوله: " يرهقهما طغيانا وكفرا " في الاية السابقة إرهاقه اياهما بطغيانه وكفره لا تكليفه إياهما الطغيان والكفر وإغشاؤهما ذلك. والاية - على أي حال - تلوح إلى أن إيمان أبويه كان ذا قدر عند الله ويستدعي ولدا مؤمنا صالحا يصل رحمهما وقد كان المقضي في الغلام خلاف ذلك فأمر الله الخضر بقتله ليبدلهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما. قوله تعالى: " وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا " لا يبعد أن يستظهر من السياق أن المدينة المذكورة في هذه الاية غير القرية التى وجدا فيها الجدار فأقامه، إذ لو كانت هي هي لم يكن كثير حاجة إلى ذكر كون الغلامين اليتيمين فيها فكأن العناية متعلقة بالاشارة إلى أنهما ومن يتولى أمرهما غير حاضرين في القرية. وذكر يتم الغلامين ووجود كنز لهما تحت الجدار ولو انقض لظهر وضاع وكون أبيهما صالحا كل ذلك توطئة وتمهيد لقوله: " فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما " وقوله: " رحمة من ربك " تعليل للارادة.

[ 349 ]

فرحمته تعالى سبب لارادة بلوغهما واستخراجهما كنزهما، وكان يتوقف على قيام الجدار فأقامه الخضر، وكان سبب انبعاث الرحمة صلاح ابيهما وقد عرض أن مات وايتم الغلامين وترك كنزا لهما. وقد طال البحث في التوفيق بين صلاح ابيهما ووجود كنز لهما تحت الجدار الظاهر في كون ابيهما هو الكانز له بناء على ذم الكنز كما يدل عليه قوله تعالى: " والذين يكنزون الذهب والفضي ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم " التوبه: 34. لكن الاية لا تتعرض بأكثر من أن تحته كنز لهما من غير دلالة على أن أباهما هو الذي دفنه وكنزه، على أن وصف أبيهما بالصلاح دليل على كون هذا الكنز أيا ما كان أمرا غير مذموم على تقدير تسليم كون الكانز هو الاب، على أن من الجائز أن يكون أبوهما الصالح كنزه لهما لتأويل يسوغه فما هو بأعظم من خرق السفينة وقتل النفس المحترمة الواردين في القصة وقد جوزهما التأويل بأمر إلهي وهنا بعض روايات ستوافيك في البحث الروائي الاتي إن شاء الله. وفي الاية دلالة على أن صلاح الانسان ربما ورث أولاده أثرا جميلا وأعقب فيهم السعادة والخير فهذه الاية في جانب الخير نظيرة قوله تعالى: " وليخش الذين لو تركوا من بعدهم ذرية ضعافا خافوا عليهم " النساء: " 9. وقوله: " وما فعلته عن أمري " كناية عن أنه إنما فعل ما فعل عن أمر غيره وهو الله سبحانه لا عن أمر أمرته به نفسه. وقوله: " ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا: " أي ما لم تستطع عليه صبرا من اسطاع يسطيع بمعنى استطاع يستطيع وقد تقدم في أول تفسير سورة آل عمران أن التأويل في عرف القرآن هي الحقيقة التي يتضمنها الشئ ويؤول إليها ويبتنى عليها كتأويل الرؤيا وهو تعبيرها، وتأويل الحكم وهو ملاكه وتأويل الفعل وهو مصلحته وغايته الحقيقية وتأويل الواقعة وهو علتها الواقعية وهكذا. فقوله: " ذلك تأويل ما لم تسطع " الخ إشارة منه إلى أن الذي ذكره للوقائع الثلاث وأعماله فيها هو السبب الحقيقي لها لا ما حسبه موسى من العناوين المترائية من

[ 350 ]

أعماله كالتسبب إلى هلاك الناس في خرق السفينة والقتل من غير سبب موجب في قتل الغلام وسوء تدبير المعاش في إقامة الجدار. وذكر بعضهم: " أن من الادب الجميل الذي استعمله الخضر مع ربه في كلامه أن ما كان من الاعمال التى لا تخلو عن نقص ما نسبه إلى نفسه كقوله: فأردت أن أعيبها وما جاز انتسابه إلى ربه وإلى نفسه أتي فيه بصيغة المتكلم مع الغير كقوله: " فأردنا أن يبدلهما ربهما "، " فخشينا " وما يختص به تعالى لتعلقه بربوبيته وتدبيره ملكه نسبه إليه كقوله: " فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ". بحث تاريخي في فصلين 1 - قصة موسى والخضر في القرآن: أوحى الله سبحانه إلى موسى أن هناك عبدا من عباده عنده من العلم ما ليس عند موسى وأخبره أنه إن انطلق إلى مجمع البحرين وجده هناك، وهو بالمكان الذي يحيى فيه الحوت الميت. (أو يفتقد فيه الحوت). فعزم موسى أن يلقى العالم ويتعلم منه بعض ما عنده إن أمكن وأخبر فتاه عما عزم عليه فخرجا قاصدين مجمع البحرين وقد حملا معهما حوتا ميتا وذهبا حتى بلغا مجمع البحرين وقد تعبا وكانت هناك صخرة على شاطئ البحر فأويا إليها ليستريحا هنيئة وقد نسيا حوتهما وهما في شغل منه. وإذا بالحوت اضطرب ووقع في البحر حيا، أو وقع فيه وهو ميت، وغار فيه والفتى يشاهده ويتعجب من امره غير انه نسي ان يذكره لموسى حتى تركا الموضع وانطلقا حتى جاوزا مجمع البحرين وقد نصبا فقال له موسى: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. فذكر الفتى ما شاهده من امر الحوت، وقال لموسى: إنا إذ أوينا إلى الصخرة حي الحوت ووقع في البحر يسبح فيه حتى غار وكنت اريد ان اذكر لك امره لكن الشيطان انسانية (أو إنى نسيت الحوت عند الصخرة فوقع في البحر وغار فيه). قال موسى: ذلك ما كنا نبغى ونطلب فلنرجع إلى هناك فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا عبدا من عباد الله آتاه الله رحمة من عنده وعلمه علما من لدنه فعرض عليه

[ 351 ]

موسى وسأله أن يتبعه فيعلمه شيئا ذا رشد مما علمه الله. قال العالم: انك لن تستطيع معى صبرا على ما تشاهده من اعمالي التى لا علم لك بتأويلها، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا فوعده موسى ان يصبر ولا يعصيه في أمر ان شاء الله فقال له العالم بانيا على ما طلبه منه ووعده به: فإن اتبعتنى فلا تسألني عن شئ حتى احدث لك منه ذكرا. فانطلق موسى والعالم حتى ركبا سفينة وفيها ناس من الركاب وموسى خالي الذهن عما في قصد العالم فخرق العالم السفينة خرقا لا يؤمن معه الغرق فأدهش ذلك موسى وانساه وما وعده فقال للعالم: أخرقتها لتغرق اهلها لقد جئت شيئا امرا قال له العالم ألم اقل انك لن تسطيع معى صبرا ؟ فاعتذر إليه موسى بأنه نسي ما وعده من الصبر قائلا: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من امري عسرا. فانطلقا فلقيا غلاما فقتله العالم فلم يملك موسى نفسه دون ان تغير وانكر عليه ذلك قائلا: أقتلت نفسا زكية بغير نفس ؟ لقد جئت شيئا نكرا. قال له العالم ثانيا: لم اقل لك انك لن تستطيع معي صبرا ؟ فلم يكن عند موسى ما يعتذر به ويمتنع به عن مفارقته ونفسه غير راضية بها فاستدعى منه مصاحبة مؤجلة بسؤال آخر ان اتى به كان له فراقه واستمهله قائلا: ان سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا وقبله العالم. فانطلقا حتى اتيا قرية وقد بلغ بهما الجوع فاستطعما اهلها فلم يضيفهما أحد منهم وإذا بجدار فيها يريد أن ينقض ويتحذر منه الناس فأقامه العالم. قال له موسى: " لو شئت لتخذت على عملك منهم اجرا فتوسلنا به إلى سد الجوع فنحن في حاجة إليه والقوم لا يضيفوننا. فقال له العالم: هذا فراق بيني وبينك سانبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ثم قال: اما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر ويتعيشون بها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا فخرقتها لتكون معيبة لا يرغب فيها. وأما الغلام فكان كافرا وكان ابواه مؤمنين، ولو انه عاش لارهقهما بكفره

[ 352 ]

وطغيانه فشملتهما الرحمة الالهية فأمرني ان اقتله ليبدلهما ولدا خيرا منه زكاه واقرب رحما فقتلته. وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان ابوهما صالحا فشملتهما الرحمة الالهية لصلاح ابيهما فأمرني أن اقيمه فيستقيم حتى يبلغا اشدهما ويستخرجا كنزهما ولو انقض لظهر أمر الكنز وانتهبه الناس. قال: وما فعلت الذي فعلت عن امري بل عن أمر من الله، وتأويلها ما أنبأتك به ثم فارق موسى. 2 - قصة الخضر عليه السلام - لم يرد ذكره في القرآن إلا ما في قصة رحلة موسى إلى مجمع البحرين، ولا ذكر شئ من جوامع أوصافه إلا ما في قوله تعالى. " فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما " الاية 65 من السورة والذى يتحصل من الروايات النبوية أو الواردة من طرق أئمه أهل البيت في قصته ففي رواية (1) محمد بن عمارة عن الصادق عليه السلام أن الخضر كان نبيا مرسلا بعثه الله تبارك وتعالى إلى قومه فدعاهم إلى توحيده والاقرار بأنبيائه ورسله وكتبه، وكان آيته أنه لا يجلس على خشبة يابسة ولا أرض بيضاء إلا أزهرت خضراء وإنما سمي خضرا لذلك، وكان اسمه تاليا بن مالك بن عابر بن ارفخشد بن سام بن نوح الحديث ويؤيد ما ذكر من وجه تسميته ما في الدر المنثور عن عدة من أرباب الجوامع عن ابن عباس وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما سمي الخضر خضرا لانه صلى على فروة بيضاء فاهتزت خضراء وفي بعض الاخبار - كما فيما رواه العياشي عن بريد عن أحدهما عليهما السلام الخضر وذو القرنين كانا عالمين ولم يكونا نبيين الحديث لكن الايات النازلة في قصته مع موسى لا تخلو عن ظهور في كونه نبيا كيف ؟ وفيها نزول الحكم عليه. ويظهر من أخبار متفرقة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أنه حى لم يمت بعد وليس بعزيز على الله سبحانه أن يعمر بعض عباده عمرا طويلا إلى أمد بعيد ولا أن هناك برهانا عقليا يدل على استحالة ذلك.


(1) الاتية في البحث الروائي الاتي. (*)

[ 353 ]

وقد ورد في سبب ذلك في بعض الروايات (1) من طرق العامة أنه ابن آدم لصلبه ونسئ له في أجله حتى يكذب الدجال، وفي بعضها (2) أن آدم عليه السلام دعا له بالبقاء إلى يوم القيامة وفي عدة روايات من طرق الفريقين أنه شرب من عين الحياة التي هي في الظلمات حين دخلها ذو القرنين في طلبها وكان الخضر في مقدمته فرزقه الخضر ولم يرزقه ذو القرنين، وهذه وأمثالها آحاد غير قطعية من الاخبار لا سبيل إلى تصحيحها بكتاب أو سنة قطعية أو عقل. وقد كثرت القصص والحكايات وكذا الروايات في الخضر بما لا يعول عليها ذو لب كرواية خصيف (3): أربعة من الانبياء أحياء اثنان في السماء: عيسى وإدريس، واثنان في الارض الخضر والياس فأما الخضر فإنه في البحر وأما صاحبه فإنه في البر. ورواية (4) العقيلي عن كعب قال: الخضر على منبر بين البحر الاعلى والبحر الاسفل، وقد أمرت دواب البحر أن تسمع له وتطيع، وتعرض عليه الارواح غدوة وعشية. ورواية (5) كعب الاحبار أن الخضر بن عاميل ركب في نفر من اصحابه حتى بلغ بحر الهند وهو بحر الصين فقال لاصحابه: يا أصحابي أدلوني فدلوه في البحر اياما وليالي ثم صعد فقالوا: يا خضر ما رأيت فلقد اكرمك الله وحفظ لك نفسك في لجة هذا البحر فقال استقبلني ملك من الملائكة فقال لي: ايها الادمي الخطاء إلى اين ؟ ومن اين ؟ فقلت: اني اردت ان انظر عمق هذا البحر. فقال لي كيف ؟ وقد اهوى رجل من زمان داود عليه السلام - لم يبلغ ثلث قعره حتى الساعة، وذلك منذ ثلاث مائة سنة، إلى غير ذلك من الروايات المشتملة على نوادر القصص


(1) الدر المنثور عن الدار قطني وابن عساكر عن ابن عباس. (2) الدر المنثور عن ابن عساكر عن ابن اسحاق. (3) الدر المنثور عن ابن شاهين عنه. (4) الدر المنثور عنه. (5) الدر المنثور عن ابي الشيخ في العظمة وابي نعيم في الحلية عنه. (*)

[ 354 ]

" بحث روائي في تفسير البرهان عن ابن بابويه باسناده عن جعفر بن محمد بن عمارة عن أبيه عن جعفر بن محمد عليه السلام في حديث: إن موسى لما كلمه الله تكليما، وأنزل عليه التوراة، وكتب له في الالواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ، وجعل آية في يده وعصاه وفي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وفلق البحر وغرق الله فرعون وجنوده عملت البشرية فيه حتى قال في نفسه: ما أرى الله عزوجل خلق خلقا أعلم مني فأوحى الله إلى جبرئيل: أدرك عبدى قبل أن يهلك، وقل له: إن عند ملتقى البحرين رجلا عابدا فاتبعه وتعلم منه. فهبط جبرئيل على موسى بما أمره به ربه عزوجل فعلم موسى أن ذلك لما حدثته به نفسه فمضى هو وفتاه يوشع بن نون حتى انتهيا إلى ملتقى البحرين فوجدا هناك الخضر يعبد الله عزوجل كما قال الله في كتابه: " فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما " الحديث. اقول: والحديث طويل يذكر فيه صحبته للخضر وما جرى بينهما مما ذكره الله في كتابه في القصة. وروى القصة العياشي في تفسيره بطريقين، والقمي في تفسيره بطريقين مسندا ومرسلا، ورواه في الدر المنثور بطرق كثيرة من أرباب الجوامع كالبخاري ومسلم والنسائي والترمذي وغيرهم عن ابن عباس عن ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والاحاديث متفقة في معنى ما نقلناه من صدر حديث محمد بن عمارة، وفي أن الحوت الذي حملاه حي عند الصخرة واتخذ سبيله في البحر سربا لكنها تختلف في امور كثيرة أضافتها إلى ما في القرآن من أصل القصة. منها ما يتحصل من رواية ابن بابويه والقمى أن مجمع البحرين من أرض الشامات وفلسطين بقرينة ذكرهما أن القرية التي ورداها هي الناصرة التي تنسب إليها النصارى، وفي بعضها أن الارض كانت آذربيجان وهو يوافق ما في الدر المنثور عن السدي أن

[ 355 ]

البحرين هما الكر والرس حيث يصبان في البحر وأن القرية كانت تسمى باجروان وكان أهلها لئاما وروى عن أبي أنه أفريقية، وعن القرظي أنه طنجة وعن قتادة أنه ملتقى بحر الروم وفارس. ومنها ما في بعض الروايات أن الحوت كان مشويا وفي أكثرها أنه كان مملوحا. ومنها ما في مرسلة القمي وروايات الشيخين والنسائي والترمذي وغيرهم أنه كانت عند الصخرة عين الحياة حتى في رواية مسلم وغيره أن الماء كان ماء الحياة من شرب منه خلد ولا يقاربه شئ ميت إلا حي فلما نزلا ومس الحوت الماء حي. الحديث وفي غيرها أن فتى موسى توضأ من الماء فقطرت منه قطرة على الحوت فحي وفي غيرها أنه شرب منه ولم يكن له ذلك فأخذه الخضر وطابقه في سفينة وتركها في البحر فهو بين أمواجها حتى تقوم الساعة وفي بعضها أنه كانت عند الصخرة عين الحياة التي كان يشرب منها الخضر وبقية الروايات خالية عن ذكرها. ومنها ما في رواية الصحاح الاربع وغيرها أن الحوت سقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا فأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق الحديث، وفي بعض هذه الروايات أن موسى بعد ما رجع أبصر اثر الحوت فأخذ أثر الحوت يمشيان على الماء حتى انتهيا إلى جزيرة من جزائر العرب، وفى حديث الطبري عن ابن عباس في القصة: فرجع يعني موسى حتى أتى الصخرة فوجد الحوت فجعل الحوت يضرب في البحر ويتبعه موسى يقدم عصاه يفرج بها عنه الماء ويتبع الحوت وجعل الحوت لا يمس شيئا من البحر الا يبس حتى يكون صخرة الحديث وبعضها خال عن ذلك. ومنها ما في أكثرها ان موسى لقي الخضر عند الصخرة، وفي بعضها انه ذهب من سرب الحوت أو على الماء حتى وجده في جزيرة من جزائر البحر، وفي بعضها وجده على سطع الماء جالسا أو متكئا. ومنها اختلافها في أن الفتى هل صحبهما أو تركاه وذهبا. ومنها اختلافها في كيفية خرق السفينة وفي كيفيه قتل الغلام وفي كيفية إقامه الجدار وفي الكنز الذي تحته لكن أكثر الروايات أنه كان لوحا من ذهب مكتوبا

[ 356 ]

فيه مواعظ، وفي الاب الصالح فظاهر أكثرها أنه أبوهما الاقرب، وفي بعضها أنه أبوهما العاشر وفي بعضها السابع وفي بعضها بينهما وبينه سبعون ابا وفي بعضها كأن بينهما وبينه سبعمائة سنة، إلى غير ذلك من جهات الاختلاف. وفي تفسير القمي عن محمد بن علي بن بلال عن يونس في كتاب كتبوه إلى الرضا عليه السلام يسألونه عن العالم الذي اتاه موسى ايهما كان اعلم ؟ وهل يجوز ان يكون على موسى حجة في وقته ؟ فكتب في الجواب اتى موسى العالم فأصابه في جزيرة من جزائر البحر إما جالسا وإما متكئا فسلم عليه موسى فأنكر السلام إذ كان الارض ليس بها سلام. قال: من انت ؟ قال: انا موسى بن عمران. قال: انت موسى بن عمران الذي كلمه الله تكليما: قال: نعم. قال: فما حاجتك ؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت رشدا. قال: اني وكلت بأمر لا تطيقه، ووكلت بأمر لا اطيقه الحديث. اقول: وهذا المعنى مروي في أخبار اخر من طرق الفريقين. وفي الدر المنثور أخرج الحاكم وصححه عن ابي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما لقى موسى الخضر جاء طير فألقى منقاره في الماء فقال الخضر لموسى: تدري ما يقول هذا الطائر ؟ قال: وما يقول ؟ قال: يقول: ما علمك وعلم موسى في علم الله إلا كما أخذ منقاري من الماء. اقول: قصة هذا الطائر وارد في اغلب روايات القصة. وفى تفسير العياشي عن هشام بن سالم عن ابي عبد الله عليه السلام قال: كان موسى اعلم من الخضر. وفيه عن ابي حمزه عن ابي جعفر عليه السلام قال: كان وصي موسى يوشع بن نون، وهو فتاه الذي ذكره في كتابه. وفيه عن عبد الله بن ميمون القداح عن ابي عبد الله عن ابيه عليهما السلام قال: بينما موسى قاعد في ملاء من بني اسرائيل إذ قال له رجل: ما ارى احدا اعلم بالله منك قال موسى: ما ارى فأوحى الله إليه بلى عبدي الخضر فسأل السبيل إليه وكان

[ 357 ]

له الحوت آية إن افتقده، وكان من شانه ما قص الله. اقول: وينبغى أن يحمل اختلاف الروايات في علمهما على اختلاف نوع العلم. وفيه عن ابي بصير عن ابي عبد الله عليه السلام في قوله: " فخشينا " خشي إن أدرك الغلام ان يدعو ابويه إلى الكفر فيجيبانه من فرط حبهما له. وفيه عن عثمان عن رجل عن ابي عبد الله عليه السلام في قول الله: " فاردنا ان يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة واقرب رحما " قال: إنه ولدت لهما جارية فولدت غلاما فكان نبيا. اقول: وفي اكثر الروايات انها ولد منها سبعون نبيا والمراد ثبوت الواسطة. وفيه عن إسحاق بن عمار قال: سمعت ابا عبد الله عليه السلام يقول: ان الله ليصلح بصلاح الرجل المؤمن ولده وولد ولده ويحفظه في دويرته ودويرات حوله فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله. ثم ذكر الغلامين فقال: " وكان ابوهما صالحا " ألم تر ان الله شكر صلاح ابويهما لهما ؟ وفيه عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله ليخلف العبد الصالح بعد موته في أهله وماله وإن كان اهله اهل سوء ثم قرأ هذه الاية إلي آخرها " وكان ابوهما صالحا ". وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وآله وسلم ان الله يصلح بصلاح الرجل الصالح ولده وولد ولده واهل دويرات حوله فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم. اقول والروايات في هذا المعنى كثيرة مستفيضه. في الكافي باسناده عن صفوان الجمال قال: سالت ابا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل واما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما ". فقال: اما إنه ما كان ذهبا ولا فضه، وانما كان اربع كلمات: لا إله إلا الله، من ايقن بالموت لم يضحك ومن ايقن بالحساب لم يفرح قلبه، ومن ايقن بالقدر لم يخش إلا الله. اقول: وقد تكاثرت الروايات من طرق الشيعة واهل السنة ان الكنز الذى كان

[ 358 ]

تحت الجدار كان لوحا مكتوبا فيه الكلمات، وفي أكثرها أنه كان لوحا من ذهب، ولا ينافيه قوله في هذه الرواية: " ما كان ذهبا ولا فضة لان المراد به نفي الدينار والدرهم كما هو المتبادر والروايات مختلفة في تعيين الكلمات التى كانت مكتوبة على اللوح لكن أكثرها متفقة في كلمة التوحيد ومسألتي الموت والقدر. وقد جمع في بعضها بين الشهادتين كما رواه في الدر المنثور عن البيهقى في شعب الايمان عن على بن أبي طالب في قول الله عزوجل: " وكان تحته كنز لهما " قال: كان لوحا من ذهب مكتوب فيه: لا إله إلا الله محمد رسول الله عجبا لمن يذكر أن الموت حق كيف يفرح ؟ وعجبا لمن يذكر أن النار حق كيف يضحك ؟ وعجبا لمن يذكر أن القدر حق كيف يحزن ؟ وعجبا لمن يرى الدنيا وتصرفها بأهلها حالا بعد حال كيف يطمئن إليها ؟ ويسئلونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا (83). إنا مكنا له في الارض وآتيناه من كل شئ سببا (84). فاتبع سببا (85). حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وأما أن تتخذ فيهم حسنا (86) - قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا (87). وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا (88) - ثم اتبع سببا (89). حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا (90) - كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا (91). ثم اتبع سببا (92). حتى إذا بلغ بين السدين

[ 359 ]

وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا (93) قالوا يا ذا القرنين إن ياجوج وماجوج مفسدون في الارض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا (94). قال ما مكنى فيه ربى خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما (95). آتونى زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا (96). فما اسطاعوا ان يظهروه وما استطاعوا له نقبا (97). قال هذا رحمه من ربي فإذا جاء وعد ربى جعله دكاء وكان وعد ربي حقا (98). وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا (99). وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا (100). الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكرى وكانوا لا يستطيعون سمعا (101). أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا اعتدنا جهنم للكافرين نزلا (102). بيان الايات تشتمل على قصة ذى القرنين وفيها شئ من ملاحم القرآن: قوله تعالى: " ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا " أي يسألونك عن شأن ذي القرنين. والدليل على ذلك جوابه عن السؤال بذكر شانه لا تعريف شخصه حتى اكتفى بلقبه فلم يتعد منه إلى ذكر اسمه.

[ 360 ]

والذكر إما مصدر بمعنى المفعول والمعنى قل سأتلو عليكم منه أي من ذى القرنين شيئا مذكورا، وإما المراد بالذكر القرآن - وقد سماه الله في مواضع من كلامه بالذكر والمعنى قل سأتلو عليكم منه أي من ذى القرنين أو من الله قرآنا وهو ما يتلو هذه الاية من قوله: " إنا مكنا له " إلى آخر القصة، والمعنى الثاني أظهر. قوله تعالى: إنا مكنا له في الارض وآتيناه من كل شئ سببا " التمكين الاقدار يقال مكنته ومكنت له أي أقدرته فالتمكن في الارض القدرة على التصرف فيه بالملك كيفما شاء وأراد. وربما يقال: إنه مصدر مصوغ من المكان بتوهم أصالة الميم فالتمكين إعطاء الاستقرار والثبات بحيث لا يزيله عن مكانه أي مانع مزاحم. والسبب الوصلة والوسيلة فمعنى إيتائه سببا من كل شئ أن يؤتى من كل شئ يتوصل به إلى المقاصد الهامة الحيوية ما يستعمله ويستفيد منه كالعقل والعلم والدين وقوة الجسم وكثرة المال والجند وسعه الملك وحسن التدبير وغير ذلك وهذا امتنان منه تعالى على ذي القرنين وإعظام لامره بأبلغ بيان، وما حكاه تعالى من سيرته وفعله وقوله المملوءة حكمة وقدرة يشهد بذلك. قوله تعالى: " فاتبع سببا " الاتباع اللحوق أي لحق سببا واتخذ وصلة وسيلة يسير بها نحو مغرب الشمس. قوله تعالى: " حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما " تدل " حتى " على فعل مقدر وتقديره " فسار حتى إذا بلغ " والمراد بمغرب الشمس آخر المعمورة يومئذ من جانب الغرب بدليل قوله: " ووجد عندها قوما ". وذكروا أن المراد بالعين الحمئة العين ذات الحمأه وهي الطين الاسود، وأن المراد بالعين البحر فربما تطلق عليه، وأن المراد بوجد ان الشمس تغرب في عين حمئة أنه وقف على ساحل بحر لا مطمع في وجود بر وراءه فرآى الشمس كأنها تغرب في البحر لمكان انطباق الافق عليه قيل: وينطبق هذه العين الحمئة على المحيط الغربي

[ 361 ]

وفيه الجزائر الخالدات التي كانت مبدء الطول سابقا ثم غرقت. وقرئ " في عين حامية أي حارة وينطبق على النقاط القريبة من خط الاستواء من المحيط الغربي المجاورة لافريقية ولعل ذا القرنين في رحلته الغربية بلغ سواحل إفريقية. قوله تعالى: " قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا " القول المنسوب إليه تعالى في القرآن يستعمل في الوحي النبوى وفي الابلاغ بواسطة الوحى كقوله تعالى: " وقلنا يا آدم اسكن " البقرة: 35 وقوله: " وإذ قلنا ادخلو هذه القرية " البقرة: 58، ويستعمل في الالهام الذي ليس من النبوة كقوله " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه " القصص " 7. وبه يظهر أن قوله: " قلنا يا ذا القرنين " الخ لا يدل على كونه نبيا يوحى إليه لكون قوله تعالى أعم من الوحى المختص بالنبوة ولا يخلو قوله ثم يرد إلى ربه فيعذبه " الخ حيث أورد في سياق الغيبة بالنسبة إليه تعالى من إشعار بأن مكالمته كانت بتوسط نبي كان معه فملكه نظير ملك طالوت في بنى إسرائيل بإشارة من نبيهم وهدايته. وقوله: " إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا " أي إما أن تعذب هؤلاء القوم وإما أن تتخذ فيهم أمرا ذا حسن، فحسنا مصدر بمعنى الفاعل قائم مقام موصوفه أو هو وصف للمبالغة، وقد قيل: إن في مقابلة العذاب باتخاذ الحسن إيماء إلى ترجيحه والكلام ترديد خبري بداعي الاباحة فهو إنشاء في صورة الاخبار، والمعنى لك أن تعذبهم ولك أن تعفو عنهم كما قيل، لكن الظاهر أنه استخبار عما سيفعله بهم من سياسة أو عفو، وهو الاوفق بسياق الجواب المشتمل على التفصيل بالتعذيب والاحسان " أما من ظلم فسوف نعذبه " الخ إذ لو كان قوله: " إما أن تعذب " الخ حكما تخييريا لكان قوله: " أما من ظلم " الخ تقريرا له وإيذانا بالقبول ولا كثير فائدة فيه. ومحصل المعنى استخبرناه ماذا تريد أن تفعل بهم من العذاب والاحسان وقد غلبتهم واستوليت عليهم ؟ فقال: نعذب الظالم ؟ منهم ثم يرد إلى ربه فيعذ به العذاب النكر، ونحسن إلى المؤمن الصالح ونكلفه بما فيه يسر. ولم يذكر المفعول في قوله: " إما أن تعذب " بخلاف قوله: " إما أن تتخذ فيهم حسنا " لان جميعهم لم يكونوا ظالمين، وليس من الجائز تعميم العذاب لقوم هذا شأنهم

[ 362 ]

بخلاف تعميم الاحسان لقوم فيهم الصالح والطالح. قوله تعالى: " أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا " النكر والمنكر غير المعهود أي يعذبه عذابا لا عهد له به، ولا يحتسبه ويترقبه. وقد فسر الظلم بالاشراك. والتعذيب بالقتل فمعنى " أما من ظلم فسوف نعذبه " أما من أشرك ولم يرجع عن شركه فسوف نقتله، وكأنه مأخوذ من مقابلة " من ظلم " بقوله: من آمن وعمل صالحا " لكن الظاهر من المقابلة أن يكون المراد بالظالم أعم ممن أشرك ولم يؤمن بالله أو آمن ولم يشرك لكنه لم يعمل صالحا بل أفسد في الارض، ولو لا تقييد مقابله بالايمان لكان ظاهر الظلم هو الافساد من غير نظر إلى الشرك لان المعهود من سيرة الملوك إذا عدلوا أن يطهروا أرضهم من فساد المفسدين، وكذا لا دليل على تخصيص التعذيب بالقتل. قوله تعالى: " وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى " الخ " صالحا " وصف اقيم مقام موصوفه وكذا الحسنى، " وجزاء " حال أو تمييز أو مفعول مطلق والتقدير: وأما من آمن وعمل عملا صالحا فله المثوبة الحسنى حال لكونه مجزيا أو من حيث الجزاء أو نجزيه جزاء. وقوله: " وسنقول له من أمرنا يسرا " اليسر بمعني الميسور وصف اقيم مقام موصوفه والظاهر أن المراد بالامر الامر التكليفى وتقدير الكلام: وسنقول له قولا ميسورا من أمرنا أي نكلفه بما يتيسر له ولا يشق عليه. قوله تعالى: " ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ مطلع الشمس " الخ أي ثم هيأ سببا للسير فسار نحو المشرق حتى إذا بلغ الصحراء من الجانب الشرقي فوجد الشمس تطلع على قوم بدويين لم نجعل لهم من دونها سترا. والمراد بالستر ما يستتر به من الشمس وهو البناء واللباس أو خصوص البناء أي كانوا يعيشون على الصعيد من غير أن يكون لهم بيوت يأوون إليها ويستترون بها من الشمس وعراة لا لباس عليهم، وإسناد ذلك إلى الله سبحانه في قوله: " لم نجعل لهم " الخ إشارة إلى أنهم لم يتنبهوا بعد لذلك ولم يتعلموا بناء البيوت واتخاذ الخيام ونسج الاثواب وخياطتها.

[ 363 ]

قوله تعالى: " كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا " الظاهر أن قوله: " كذلك " إشارة إلى وصفهم المذكور في الكلام وتشبيه الشئ بنفسه مبنيا على دعوى المغايرة يفيد نوعا من التأكيد، وقد قيل في المشار إليه بذلك وجوه اخر بعيدة عن الفهم. وقوله: " وقد أحطنا بما لديه خبرا " الضمير لذي القرنين والجملة حالية والمعنى أنه اتخذ وسيلة السير وبلغ مطلع الشمس ووجد قوما كذا وكذا في حال أحاط فيها علمنا وخبرنا بما عنده من عدة وعدة وما يجريه أو يجري عليه. والظاهر أن إحاطة علمه تعالى بما عنده كناية عن كون ما اختاره وأتى به بهداية من الله وأمر، فما كان يرد ولا يصدر إلا عن هداية يهتدي بها وأمر يأتمره كما أشار إلى مثل هذا المعنى عند ذكر مسيره إلى المغرب بقوله: " قلنا يا ذا القرنين " الخ فالاية أعني قوله: " وقد أحطنا " الخ في معناها الكنائي نظيرة قوله: " واصنع الفلك بأعيننا ووحينا " هود: 37، وقوله: " أنزله بعلمه " النساء: 166، وقوله: " وأحاط بما لديهم: الجن: 28. وقيل: " إن الاية لافادة تعظيم أمره وأنه لا يحيط بدقائقه وجزئياته إلا الله أو لتهويل ما قاساه ذو القرنين في هذا المسير وأن ما تحمله من المصائب والشدائد في علم الله لم يكن ليخفى عليه، أو لتعظيم السبب الذي اتبعه، وما قدمناه أوجه. قوله تعالى: " ثم اتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين " إلى آخر الاية. السد الجبل وكل حاجز يسد طريق العبور وكأن المراد بهما الجبلان، وقوله: " وجد من دونهما: قوما أي قريبا منهما، وقوله: لا يكادون يفقهون قولا " كناية عن بساطتهم وسذاجة فهمهم، وربما قيل كناية عن غرابة لغتهم وبعدها عن اللغات المعروفة عندهم، ولا يخلو عن بعد. قوله تعالي: " قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون " الخ الظاهر أن القائلين هم القوم الذين وجدهم من دون الجبلين، ويأجوج ومأجوج جيلان من الناس كانوا يأتونهم من وراء الجبلين فيغيرون عليهم ويعمونهم قتلا وسبيا ونهبا والدليل عليه السياق بما فيه من ضمائر اولي العقل وعمل السد بين الجبلين وغير ذلك.

[ 364 ]

وقوله: " فهل نجعل لك خرجا " الخرج ما يخرج من المال ليصرف في شئ من الحوائج عرضوا عليه أن يعطوه مالا على أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سدا يمنع من تجاوزهم وتعديهم عليهم. قوله تعالى: " قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما " أصل مكنى " مكنني ثم ادغمت إحدى النونين في الاخرى، والردم السد وقيل السد القوي وعلى هذا فالتعبير بالردم في الجواب وقد سألوه سدا إجابة ووعد بما هو فوق ما استدعوه وأملوه. وقوله: " قال ما مكني فيه ربي خير " استغناء من ذي القرنين عن خرجهم الذي عرضوه عليه على أن يجعل لهم سدا يقول: ما مكنني فيه وأقرني عليه ربي من السعة والقدرة خير من المال الذي تعدونني به فلا حاجه لي إليه. وقوله: " فأعينوني بقوة الخ القوة ما يتقوى به على الشئ والجملة تفريع على ما يتحصل من عرضهم وهو طلبهم منه أن يجعل لهم سدا، ومحصل المعنى أما الخرج فلا حاجة لي إليه، وأما السد فإن أردتموه فأعينوني بما أتقوى به على بنائه كالرجال وما يستعمل في بنائه - وقد ذكر منها زبر الحديد والقطر والنفخ بالمنافخ - أجعل لكم سدا قويا. وبهذا المعنى يظهر أن مرادهم بما عرضوا عليه من الخرج الاجر على عمل السد. قوله تعالى: " آتونى زبر الحديد " إلى آخر الاية، الزبر بالضم فالفتح جمع زبرة كغرف وغرفة وهي القطعي، وساوى بمعنى سوى على ما قيل وقرئ " سوى " والصدفين تثنية الصدف وهو أحد جانبي الجبل ذكر بعضهم أنه لا يقال إلا إذا كان هناك جبل آخر يوازيه بجانبه فهو من الاسماء المتضائفة كالزوج والضعف وغيرهما والقطر النحاس أو الصفر المذاب وإفراغه صبه على الثقب والخلل والفرج. وقوله: " آتوني زبر الحديد " أي أعطوني إياها لاستعملها في السد وهي من القوة التي استعانهم فيها، ولعله خصها بالذكر ولم يذكر الحجارة وغيرها من لوازم البناء لانها الركن في استحكام بناء السد فجملة آتوني زبر الحديد " بدل البعض من الكل من جملة

[ 365 ]

" فأعينوني بقوة " أو الكلام بتقدير قال، وهو كثير في القرآن. وقوله: " حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا: في الكلام إيجاز بالحذف والتقدير فاعانوه بقوة وآتوه ما طلبه منهم فبنى لهم السد ورفعه حتى إذا سوى بين الصدفين قال: انفخوا. وقوله: " قال انفخوا " الظاهر أنه من الاعراض عن متعلق الفعل للدلالة على نفس الفعل والمراد نصب المنافخ على السد لاحماء ما وضع فيه من الحديد وإفراغ القطر على خلله وفرجه. وقوله: " حتى إذا جعله نارا قال " الخ في الكلام حذف وإيجاز، والتقدير فنفخ حتى إذا جعله أي المنفوخ فيه أو الحديد نارا أي كالنار في هيئته وحرارته فهو من الاستعارة. وقوله: قال آتوني أفرغ عليه قطرا " أي آتوني قطرا افرغه واصبه عليه ليسد بذلك خلله ويصير السد به مصمتا لا ينفذ فيه نافذ. قوله تعالى: " فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا " اسطاع واستطاع واحد، والظهور العلو والاستعلاء، والنقب الثقب، قال الراغب في المفردات: النقب في الحائط والجلد كالثقب في الخشب انتهى وضمائر الجمع ليأجوج ومأجوج. وفي الكلام حذف وإيجاز، والتقدير فبنى السد فما استطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوه لارتفاعه وما استطاعوا ان ينقبوه لاستحكامه. قوله تعالى: " قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربى حقا " الدكاء الدك وهو أشد الدق مصدر بمعنى اسم المفعول، وقيل: المراد الناقة الدكاء وهي التي لا سنام لها وهو على هذا من الاستعارة والمراد به خراب السد كما قالوا. وقوله: " قال هذا رحمة من ربى " أي قال ذو القرنين - بعد ما بنى السد - هذا أي السد رحمة من ربى أي نعمة ووقايه يدفع به شر يأجوج ومأجوج عن امم من الناس. وقوله: " فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء " في الكلام حذف وإيجاز والتقدير

[ 366 ]

وتبقى هذه الرحمة إلى مجئ وعد ربى فإذا جاء وعد ربى جعله مدكوكا وسوى به الارض. والمراد بالوعد إما وعد منه تعالى خاص بالسد أنه سيندك عند اقتراب الساعة فيكون هذا ملحمة أخبر بها ذو القرنين، وإما وعده تعالى العام بقيام الساعة الذي يدك الجبال ويخرب الدنيا، وقد أكد القول بجملة " وكان وعد ربى حقا ". قوله تعالى. " وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض " الخ ظاهر السياق أن ضمير الجمع للناس ويؤيده رجوع ضمير " فجمعناهم " إلى الناس قطعا لان حكم الجمع عام. وفي قوله: " بعضهم يومئذ يموج في بعض " استعارة، والمراد أنهم يضطربون يومئذ من شدة الهول اضطراب البحر باندفاع بعضه إلى بعض فيرتفع من بينهم النظم ويحكم فيهم الهرج والمرج ويعرض عنهم ربهم فلا يشملهم برحمته، ولا يصلح شأنهم بعنايته. فالاية بمنزلة التفصيل للاجمال الذي في قول ذي القرنين: " فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء " ونظيرة قوله تعالى في موضع آخر: " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين " الانبياء: 97. وهي على أي حال من الملاحم. وقد بان مما مر أن الترك في الاية بمعناه المتبادر منه وهو خلاف الاخذ ولا موجب لما ذكره بعضهم: أن الترك بمعنى الجعل وهو من الاضداد انتهى. والاية من كلام الله سبحانه وليست من تمام كلام ذى القرنين والدليل عليه تغيير السياق من الغيبة إلى التكلم مع الغير الذي هو سياق كلامه السابق " انا مكنا له " " قلنا يا ذا القرنين ولو كان من تمام كلام ذي القرنين لقيل: وترك بعضهم على حذاء قوله: " جعله دكاء ". وقوله: " ونفخ في الصور " الخ هي النفخة الثانية التي فيها الاحياء بدليل قوله " فجمعناهم جمعا وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا ". قوله تعالى: " الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا "

[ 367 ]

تفسير للكافرين وهؤلاء هم الذين ضرب الله بينهم وبين ذكره سدا حاجزا - وبهذه المناسبة تعرض لحالهم بعد ذكر سد يأجوج ومأجوج - فجعل أعينهم في غطاء عن ذكره وأخذ استطاعة السمع عن آذانهم فانقطع الطريق بينهم وبين الحق وهو ذكر الله. فإن الحق إنما ينال إما من طريق البصر بالنظر إلى آيات الله سبحانه والاهتداء إلى ما تدل عليه وتهدى إليه، وإما من طريق السمع باستماع الحكمة والموعظة والقصص والعبر، ولا بصر لهؤلاء ولا سمع. قوله تعالى: " أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء " الخ الاستفهام للانكار قال في المجمع: معناه أفحسب الذين جحدوا توحيد الله أن يتخذوا من دوني أربابا ينصرونهم ويدفعون عقابي عنهم قال: ويدل على هذا المحذوف قوله: " إنا اعتدنا جهنم للكافرين نزلا انتهى. وهناك وجه ثان منقول عن ابن عباس وهو أن المعنى أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا من دوني آلهة وأنا لا أغضب لنفسي عليهم ولا اعاقبهم. ووجه ثالث: وهو أن " أن يتخذوا " الخ مفعول أول لحسب بمعنى ظن ومفعوله الثاني محذوف، والتقدير أفحسب الذين كفروا اتخاذهم عبادي من دوني أولياء نافعا لهم أو دافعا للعقاب عنهم، والفرق بين هذا الوجه والوجهين السابقين أن " أن " وصلته قائمة مقام المفعولين فيهما والمحذوف بعض الصلة فيهما بخلاف الوجه الثالث فأن وصلته فيه مفعول أول لحسب، والمفعول الثاني محذوف. ووجه رابع: وهو أن يكون أن وصلته سادة مسد المفعولين وعنايي الكلام متوجهة إلى إنكار كون الاتخاذ اتخاذا حقيقة على معنى أن ذلك ليس من الاتخاذ في شئ إذ الاتخاذ إنما يكون من الجانبين والمتخذون متبرؤن منهم لقولهم: " سبحانك أنت ولينا من دونهم ". والوجوه الاربعة مترتبة في الوجاهة وأوجهها أولها وسياق هذه الايات يساعد عليه فإن هذه الايات بل عامة آيات السورة مسوقة لبيان أنهم فتنوا بزينة الحياه الدنيا واشتبه عليهم الامر فاطمأنوا إلى ظاهر الاسباب فاتخذوا غيره تعالى أولياء من دونه

[ 368 ]

فهم يظنون أن ولايتهم تكفيهم وتنفعهم وتدفع عنهم الضر والحال أن ما سيلقونه بعد النفخ والجمع يناقض ذلك فالاية تنكر عليهم هذا الظن والحسبان بعد ما كان مال امرهم ذلك. ثم إن إمكان قيام أن وصلته مقام مفعولي حسب وقد ورد في كلامه تعالى كثيرا كقوله: " أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا " الجاثية: 21 وغيره يغني عن تقدير مفعول ثان محذوف وقد منع عنه بعض النحاة. وتؤيده الايات التالية: " قل هل ننبئكم بالاخسرين اعمالا: الخ وكذا القراءة المنسوبة إلى علي عليه السلام وعدة منهم " أفحسب " بسكون السين وضم الباء والمعنى أفاتخاذ عبادي من دوني أولياء كاف لهم. والمراد بالعباد في قوله: " أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء " كل من يعبده الوثنيون من الملائكة والجن والكملين من البشر. وأما ما ذكره المفسرون أن المراد بهم المسيح عليه السلام والملائكة ونحوهم من المقربين دون الشياطين لان الاكثر في مثل هذا اللفظ " عبادي " أن تكون الاضافة لتشريف المضاف. ففيه أولا أن المقام لا يناسب التشريف. وهو ظاهر. وثانيا أن قيد " من دوني " في الكلام صريح في أن المراد بالذين كفروا هم الوثنيون الذين لا يعبدون الله مع الاعتراف بالوهيته وإنما يعبدون الشركاء الشفعاء ؟ وأما أهل الكتاب مثلا النصارى في اتخاذهم المسيح وليا فإنهم لا ينفون ولاية الله بل يثبتون الولايتين معا ثم يعدونهما واحدا فافهم ذلك فالحق أن قوله: " عبادي " لا يعم المسيح ومن كان مثله من البشر بل يختص بآلهة الوثنيين والمراد بقوله: " الذين كفروا " الوثنيون فحسب. وقوله: إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا " أي شيئا يتمتعون به عند أول نزولهم الدار الاخرة شبه الدار الاخرة بالدار ينزلها الضيف وجهنم بالنزل الذي يكرم به الضيف النزيل لدى أول وروده، ويزيد هذا التشبيه لطفا وجمالا ما سيأتي بعد آيتين أنهم لا يقام لهم وزن يوم القيامة فكأنهم لا يلبثون دون ان يدخلوا النار، وفي الاية من التهكم ما لا يخفى وكأنما قوبل به ما سيحكى من تهكمهم في الدنيا بقوله: " واتخذوا آياتي ورسلي هزوا ".

[ 369 ]

بحث روائي في تفسير القمي: فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخبر موسى وفتاه والخضر قالوا له فأخبرنا عن طائف طاف الارض: المشرق والمغرب من هو ؟ وما قصته فأنزل الله: " ويسألونك عن ذى القرنين " الايات. اقول: وقد تقدم في الكلام على قصة أصحاب الكهف تفصيل هذه الرواية وروى أيضا ما في معناه في الدر لمنثور عن ابن ابى حاتم عن السدي وعن عمر مولى غفرة. واعلم أن الروايات المروية من طرق الشيعة وأهل السنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن طرق الشيعه عن أئمه أهل البيت عليهم السلام وكذا الاقوال المنقولة عن الصحابة والتابعين ويعامل معها أهل السنة معاملة الاحاديث الموقوفة في قصة ذي القرنين مختلفة اختلافا عجيبا متعارضة متهافتة في جميع خصوصيات القصه وكافة أطرافها وهي مع ذلك مشتملة على غرائب يستوحش منها الذوق السليم أو يحيلها العقل وينكرها الوجود لا يرتاب الباحث الناقد إذا قاس بعضها إلى بعض وتدبر فيها أنها غير سليمة عن الدس والوضع ومبالغات عجيبة في وصف القصة وأغربها ما روى عن علماء اليهود الذين أسلموا كوهب بن منبه وكعب الاحبار أو ما يشعر القرائن أنه مأخوذ منهم فلا يجدينا والحال هذه نقلها بالاستقصاء على كثرتها وطولها، وإنما نشير بعض الاشارة إلى وجوه اختلافها، ونقتصر على نقل ما يسلم عن الاختلاف في الجملة. فمن الاختلاف اختلافها في نفسه فمعظم الروايات على أنه كان بشرا، وقد ورد (1) في بعضها أنه كان ملكا سماويا أنزله الله إلى الارض وآتاه من كل شئ سببا. وفى خطط المقريزي عن الجاحظ في كتاب الحيوان ان ذا القرنين كانت امه آدمية وأبوه من الملائكة. ومن ذلك الاختلاف في سمته ففي أكثر الروايات أنه كان عبدا صالحا أحب الله


(1) رواه في الدر المنثور عن الاحوص بن حكيم عن ابيه عن النبي صلى الله عليه وآله وعن الشيرازي عن جبير بن نفير عن النبي صلى الله عليه وآله وعن عدة عن خالد بن معدان عن النبي صلى الله عليه وآله وعن عدة عن عمر بن الخطاب. (*)

[ 370 ]

فأحبه وناصح الله فناصحه وفي بعضها (1) أنه كان محدثا يأتيه الملك فيحدثه وفي بعضها (2) أنه كان نبيا. ومن ذلك الاختلاف في اسمه ففي بعضها أن أسمه (3) عياش، وفي بعضها (4) اسكندر، وفى بعضها (5) مرزيا بن مرزبة اليونانى من ولد يونن بن يافث بن نوح، وفي بعضها (6) مصعب بن عبد الله من قحطان وفي بعضها (7) صعب بن ذي المراثد أول التبابعة وكأنه التبع أبو كرب، وفى بعضها (8) عبد الله بن ضحاك بن معد إلى غير ذلك وهي كثيرة. ومن ذلك الاختلاف في وجه تسميته بذي القرنين ففي بعضها (9) أنه دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه الايمن فغاب عنهم زمانا ثم جاءهم ودعاهم إلى الله ثانيا فضربوه على قرنه الايسر فغاب عنهم زمانا ثم آتاه الله الاسباب فطاف شرق الارض وغربها فسمي بذلك ذا القرنين وفى بعضها (10) أنهم قتلوه بالضربة الاولى ثم أحياه الله


(1) رواه في الدر المنثور عن ابن ابي حاتم وابي الشيخ عن الباقر عليه السلام وفي البرهان عن جبرئيل بن احمد عن الاصبغ بن نباتة عن علي عليه السلام وفي نور الثقلين عن اصول الكافي عن الحارث ابن المغيرة عن ابي جعفر عليه السلام. (2) رواه العياشي عن ابي حمزة الثمالي عن ابن جعفر عليه السلام ورواه في الدر المنثور عن ابي الشيخ عن ابي الورقاء عن علي عليه السلام وفي هذا المعنى روايات اخرى. (3) كما في تفسير العياشي عن الاصبغ بن نباتة عن علي عليه السلام، وفي البرهان عن الثمالي عن الباقر عليه السلام. (4) كما يظهر من رواية قرب الاسناد للحميري عن الكاظم عليه السلام ورواية الدر المنثور عن عدة عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وآله، وروايته ايضا عن عدة عن وهب. (5) في الدر المنثور عن ابن المنذر وابن ابي حاتم وابي الشيخ من طريق ابن اسحاق عن بعض من اسلم من اهل الكتاب. (6) البداية والنهاية. (7) البداية والنهاية عن ابن هشام في التيجان. (8) في الخصال عن محمد بن خالد مرفوعا، وفي البداية والنهاية عن زبير بن بكار عن ابن عباس. (9) في البرهان عن الصدوق عن الاصبغ عن علي عليه السلام، وفي تفسير القمي عن ابي بصير عن الصادق عليه السلام وفي الخصال عن ابي بصير عن الصادق عليه السلام. (10) في تفسير العياشي عن الاصبغ عن علي عليه السلام وفي الدر المنثور عن ابن مردويه من طريق ابي الطفيل عن علي عليه السلام ورواه العياشي ايضا وروى ايضا في روايات اخر. (*)

[ 371 ]

فجاءهم ودعاهم فضربوه وقتلوه ثانيا ثم أحياه الله ورفعه إلى السماء الدنيا ثم أنزله إلى الارض وآتاه من كل شئ سببا. وفي بعضها (1) أنه نبت له بعد الاحياء الثاني قرنان في موضعي الشجتين وسخر الله له النور والظلمة ثم لما نزل إلى الارض سار فيها ودعا إلى الله وكان يزأر كالاسد ويبرق ويرعد قرناه وإذا استكبر عن دعوته قوم سلط عليهم الظلمة فأعيتهم حتى اضطروا إلى إجابتها. وفي بعضها (2) أنه كان له قرنان في رأسه وكان يتعم عليهما يواريهما بذلك وهو أول من تعمم وقد كان يخفيهما عن الناس ولم يكن يطلع على ذلك أحد إلا كاتبه وقد نهاه أن يخبر به أحدا فضاق صدر الكاتب بذلك فأتى الصحراء فوضع فمه بالارض ثم نادى ألا إن للملك قرنين فأنبت الله من كلمته قصبتين فمر بهما راع فأعجبهما فقطعهما واتخذهما مزمارا فكان إذا زمر خرج من القصبتين: ألا إن للملك قرنين فانتشر ذلك في المدينة فأرسل إلى الكاتب واستنطقه وهدده بالقتل إن لم يصدق فقص عليه القصه فقال ذو القرنين هذا أمر أراد الله أن يبديه فوضع العمامة عن رأسه. وقيل: (3) سمى ذا القرنين لانه ملك قرنى الارض وهما المشرق والمغرب وقيل: (4) " لانه رأي في المنام أنه أخذ بقرنى الشمس فعبر له بملك الشرق والغرب وسمى بذي القرنين، وقيل: (5) لانه كان له عقيصتان في رأسه وقيل (6) لانه ملك الروم وفارس، وقيل (7): لانه كان له في رأسه شبه قرنين وقيل (8) لانه كان على تاجه


(1) تفسير العياشي عن الاصبغ عن علي عليه السلام وفي الدر المنثور عن عدة عن وهب بن منبه ما في معناه. (2) في الدر المنثور عن ابي الشيخ عن وهب بن منبه. (3) في الدر المنثور عن عدة عن أبي العالية وابن شهاب. (4) في نور الثقلين عن الخرائج والحرائج عن العسكري عليه السلام عن علي عليه السلام. (5) في الدر المنثور عن الشيرازي عن قتادة. (6) في الدر المنثور عن عدة عن وهب. (7) المصدر السابق. (8) نقله في روح المعاني. (*)

[ 372 ]

قرنان من الذهب إلى غير ذلك مما قيل. ومن ذلك اختلافها في سيره إلى المغرب والمشرق وفيه أشد الاختلاف فقد روى (1) أنه سخر له السحاب فكان يركب السحاب ويسير في الارض غربا وشرقا. وروي (2) أنه بلغ جبل قاف وهو جبل اخضر محيط بالدنيا منه خضرة السماء. وروى (3) انه طلب عين الحياة فاشير عليه أنها في الظلمات فدخلها وفي مقدمته الخضر فلم يرزق ذو القرنين أن يشرب منها وشرب الخضر واغتسل منها فكان له البقاء المؤبد وفي هذه الروايات أن الظلمات في جانب المشرق. ومن ذلك اختلافها في موضع السد الذي بناها ففي بعضها أنه في (4) المشرق وفى بعضها أنه في الشمال وقد بلغ من مبالغه بعض الروايات أن ذكرت (6) أن طول السد وهو مسافة ما بين الجبلين مائة فرسخ وعرضه خمسون فرسخا وارتفاعه ارتفاع الجبلين وقد حفر له أساسا حتى بلغ الماء وقد جعل حشوه الصخور وطينه النحاس ثم علاه بزبر الحديد والنحاس المذاب وجعل خلاله عرقا من نحاس اصفر فصار كأنه برد محبر. ومن ذلك اختلافها في وصف يأجوج ومأجوج فروي (7) انهم من الترك ومن ولد يافث بن نوح كانوا يفسدون في الارض فضرب السد دونهم. وروى (8) انهم من غير ولد آدم وفي (9) عده من الروايات انهم قوم ولود لا يموت الواحد منهم من ذكر أو انثى


(1) في عدة من روايات العامة والخاصة الموردة في الدر المنثور والبرهان ونور الثقلين والبحار. (2) في البرهان عن جميل عن الصادق عليه السلام وفي الدر المنثور عن عبد بن حميد وغيره عن عكرمة. (3) في تفسير القمي عن علي عليه السلام وفي تفسير العياشي عن هشام عن بعض آل محمد عليهم السلام وفي الدر المنثور عن ابن ابي حاتم وغيره عن الباقر عليه السلام. (4) الدر المنثور عن ابن اسحاق وغيره عن وهب. (5) الدر المنثور عن ابن المنذر عن ابن عباس. (6) الدر المنثور عن ابن اسحاق وغيره عن وهب. (7) الدر المنثور عن ابن المنذر عن علي عليه السلام وعن ابن ابي حاتم عن قتادة. وفي نور الثقلين عن علل الشرائع عن العسكري. (8) نور الثقلين عن روضة الكافي عن ابن عباس. (9) الطبري عن عبد الله بن عمير، وعن عبد الله بن سلام، وفي الدر المنثور عن النسائي وابن مردويه عن اوس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه عن ابن ابي حاتم عن السدي عن علي عليه السلام.

[ 373 ]

حتى يولد له الف من الاولاد وانهم اكثر عددا من سائر البشر حتى عدوا في (1) بعض الروايات تسعة اضعاف البشر، وروى (2) انهم من الشدة والبأس بحيث لا يمرون ببهيمة أو سبع أو انسان الا افترسوه واكلوه ولا على زرع أو شجر ألا رعوه ولا على ماء نهر الا شربوه وشفوه، وروي (3) انهم امتان كل منهما اربعمائه الف امة كل امة لا يحصي عددهم الا الله سبحانه. وروى (4) انهم طوائف ثلاث فطائفة كالارز وهو شجر طوال وطائفه يستوى طولهم وعرضهم، اربعة اذرع في اربعه اذرع وطائفة وهم اشدهم للواحد منهم اذنان يفترش باحداهما ويلتحف بالاخرى يشتو في احداهما لابسا له وهي وبرة ظهرها وبطنها ويصيف في الاخرى وهي زغبة ظهرها وبطنها، وهم صلب على اجسادهم من الشعر ما يواريها، وروى ان الواحد (5) منهم شبر أو شبران أو ثلاثة وروي (6) ان الذين كانوا يقاتلونهم كان وجوههم وجوه الكلاب. ومن ذلك اختلافها في زمان ملكه ففى بعضها (7) أنه كان بعد نوح، وروى (8) أنه كان في زمن إبراهيم ومعاصره وقد حج البيت ولقيه وصافحه وهي أول مصافحة على وجه الارض، وروى (9) انه كان في زمن داود.


(1) في الدر المنثور عن عبد الرزاق وغيره عن عبد الله بن عمر. (2) الدر المنثور عن ابن اسحاق وغيره عن وهب. (3) في الدر المنثور عن ابن المنذر وأبي الشيخ عن حسان بن عطية. وعن ابن ابي حاتم وغيره. عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وآله وقد بلغ من مبالغة الروايات في عددهم أنه روى عن النبي صلى الله عليه وآله أن يأجوج ومأجوج يعدل الف ضعف للمسلمين (البداية والنهاية عن الصحيحة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله) وهو ذا يقال: ان المسلمين خمس اهل الارض ولازمه ان يكون يأجوج ومأجوج مائتا ضعف اهل الارض. (4) في الدر المنثور عن ابن المنذر وابن ابي حاتم عن كعب الاحبار. (5) في الدر المنثور عن ابن المنذر والحاكم وغيرهما عن ابن عباس. (6) في الدر المنثور عن عدة عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وآله. (7) في تفسير العياشي عن الاصبغ عن علي عليه السلام. (8) الدر المنثور عن ابن مردويه وغيره عن عبيد بن عمير، وفي نور الثقلين عن امالي الشيخ عن الباقر عليه السلام وفي العرائس لابن اسحاق. (9) الدر المنثور عن ابن ابي حاتم وابن عساكر عن مجاهد. (*)

[ 374 ]

ومن ذلك اختلافها في مدة ملكه فروي (1) ثلاثون سنة وروى (2) اثنتا عشرة سنة إلى غير ذلك من جهات الاختلاف التي يعثر عليها من راجع أخبار القصة من جوامع الحديث وخاصة الدر المنثور والبحار والبرهان ونور الثقلين. وفي كتاب كمال الدين باسناده عن الاصبغ بن نباتة قال: قام ابن الكواء إلى علي عليه السلام وهو على المنبر فقال: " يا أمير المؤمنين أخبرني عن ذى القرنين أنبيا كان أم ملكا ؟ وأخبرني عن قرنيه أمن ذهب أم من فضة ؟ فقال له: لم يكن نبيا ولا ملكا، ولم يكن قرناه من ذهب ولا فضة ولكن كان عبدا أحب الله فأحبه الله ونصح الله فنصحه الله وإنما سمي ذا القرنين لانه دعا قومه إلى الله عزوجل فضربوه على قرنه فغاب عنهم حينا ثم عاد إليهم فضرب على قرنه الاخر، وفيكم مثله. اقول: الظاهر أن " الملك " في الرواية بفتح اللام لا بكسرها لاستفاضة الروايات عنه وعن غيره عليه السلام بملك ذي القرنين فنفيه عليه السلام أن يكون ذو القرنين نبيا أو ملكا بفتح اللام إنكار منه لصحة ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الروايات أنه كان نبيا وفى بعضها الاخر أنه كان ملكا من الملائكة وبه كان يقول عمر بن الخطاب كما تقدمت الاشاره إليه. وقوله: " وفيكم مثله " أي مثل ذي القرنين في شجتيه يشير عليه السلام إلى نفسه فإنه أصيب بضربة من عمرو بن عبدود وبضربة من عبد الرحمان بن ملجم لعنه الله فاستشهد بها، ولروايه مستفيضة عنه عليه السلام روته عنه الشيعه وأهل السنة بألفاظ مختلفة، وأبسط الفاظها ما أوردناه، وقد لعبت به يد النقل بالمعنى فأظهرته في صور عجيبة وبلغ بها التحريف غايته. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن سالم بن أبي الجعد قال: سئل علي عن ذي القرنين أنبي هو ؟ فقال سمعت نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم يقول: هو عبد ناصح الله فنصحه. وفي احتجاج الطبرسي عن الصادق عليه السلام في حديث طويل وفيه قال السائل


(1) البرهان عن البرقي عن موسى بن جعفر عليه السلام. (2) الدر المنثور عن ابن ابي حاتم عن وهب. (*)

[ 375 ]

أخبرني عن الشمس أين تغيب ؟ قال: " إن بعض العلماء قال: إذا انحدرت أسفل القبة دار بها الفلك إلى بطن السماء صاعدة أبدا إلى أن تنحط إلى موضع مطلعها. يعنى أنها تغيب في عين حمئة ثم تخرق الارض راجعة إلى موضع مطلعها فتحير تحت العرش حتى يؤذن لها بطلوع ويسلب نورها كل يوم وتتجلل نورا احمر. اقول: قوله: " إذا انحدرت أسفل القبة - إلى قوله: مطلعها " بيان لسير الشمس من حين غروبها إلى أبان طلوعها في مدارها السماوي على ما تفرضه هيئة بطلميوس الدائرة في تلك الاعصار المبنية على سكون الكرة الارضية وحركة الاجرام السماوية حولها، ولذا نسبه عليه السلام إلى بعض العلماء. وقوله: " يعنى انها تغيب في عين حمئة ثم تخرق الارض راجعة إلى موضع مطلعها " من كلام بعض رواه الخبر لا من كلامه فالراوي لقصور منه في الفهم فسر قوله تعالى: " تغرب في عين حمئه بسقوط القرص في العين وغيبوبته فيها ثم سبحه فيها كالسمكة في الماء وخرقة الارض حتى يبلغ المطلع ثم ذهابه إلى تحت العرش وهو على زعمه سماء فوق السماوات السبع أو جسم نوراني كأعظم ما يكون موضوع فوق السماء السابعة ومكثه هناك حتى يؤذن له في الطلوع فيكسى نورا أحمر ويطلع. والراوي يشير بقوله: " فتحير تحت العرش حتى يؤذن لها " الخ إلى رواية اخرى مأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الملائكة تذهب بالشمس بعد غروبها فتوقفها تحت العرش وهي مسلوبة النور فتمكث هناك وهي لا تدري ما تؤمر به غدا حتى تكسى نورا وتؤمر بالطلوع، الرواية. وقد ارتكب فهمه في تفسير العرش هناك نظير ما ارتكبه في تفسير الغروب ههنا فزاد عن الحق بعدا على بعد. ولم يرد تفسير العرش في كتاب ولا سنة قابلة للاعتماد بالفلك التاسع أو بجسم نوراني علوي كهيئة السرير التي اختلقها فهمه وقد قدمنا معظم روايات العرش في أوائل الجزء الثامن من هذا الكتاب. وفي النسبة أعنى قوله: " قال بعض العلماء " بعض الاشارة إلى أن هذا القول لم يكن مرضيا عنده عليه السلام ومع ذلك لم يسعه ان يسمح بحق القول في المسألة كيف ؟

[ 376 ]

وإذا ساقتهم سذاجة الفهم في فرضية سهلة التصور عند أهله في تلك الاعصار هذا المساق فما ظنك بهم لو ألقى إليهم ما لا يصدقه ظاهر حسهم ولا يسعه ظرف فكرهم. وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم من طريق عثمان بن أبي حاضر أن ابن عباس ذكر له أن معاوية بن أبي سفيان قرأ الايي التي في سورة الكهف " تغرب في عين حامية " قال ابن عباس: فقلت لمعاوية: ما نقرؤها إلا حمئة فسأل معاوية عبد الله بن عمرو كيف تقرؤه ؟ فقال عبد الله كما قرأتها. قال ابن عباس: فقلت لمعاوية: في بيتي نزل القرآن فأرسل إلى كعب فقال له: أين تجد الشمس تغرب في التوراة ؟ فقال له كعب: سل أهل العربية فإنهم أعلم بها، وأما انا فاني أجد الشمس تغرب في التوراة في ماء وطين، واشار بيده إلى المغرب. قال ابن أبي حاضر: لو اني عندكما ايدتك بكلام تزداد به بصيرة في حمئة. قال ابن عباس: وما هو ؟ قلت: فيما نأثر قول تبع فيما ذكر به ذا القرنين في كلفه بالعلم واتباعه إياه: قد كان ذو القرنين عمر مسلما * * ملكا تدين له الملوك وتحشد فأتى المشارق والمغارب يبتغي * * أسباب ملك من حكيم مرشد فرأى مغيب الشمس عند غروبها * * في عين ذي خلب وثأط حرمد فقال ابن عباس: ما الخلب ؟ قلت: الطين بكلامهم. قال: فما الثأط ؟ قلت: الحمأة. قال: فما الحرمد ؟ قلت: الاسود فدعا ابن عباس غلاما فقال له: اكتب ما يقول هذا الرجل. اقول: والحديث لا يلائم ما ذهبوا إليه من تواتر القراءات تلك الملائمة وعن التيجان لابن هشام الحديث وفيه أن ابن عباس انشد هذه الاشعار لمعاوية وان معاوية سأله عن معنى الخلب والثاط والحرمد قال: الخلب الحماة والثأط ما تحتها من الطين والحرمد ما تحته من الحصى والحجر، وقد أورد القصيدة، وهذا الاختلاف يؤذن بشئ في الرواية. في تفسير العياشي عن ابي بصير عن ابي جعفر عليه السلام في قول الله عزوجل: " لم نجعل لهم من دونها سترا " قال: لم يعلموا صنعة البيوت.

[ 377 ]

وفي تفسير القمي في الاية قال: لم يعلموا صنعة الثياب. وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله حتى إذا بلغ بين السدين " قال الجبلين أرمينيه وآذربيجان. وفي تفسير العياشي عن المفضل قال: سألت الصادق عليه السلام عن قوله: " أجعل بينكم وبينهم ردما: " قال: التقية فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا إذا عملت بالتقية لم يقدروا لك على حيلة، وهو الحصن الحصين، وصار بينك وبين أعداء الله سدا لا يستطيعون له نقبا. وفيه أيضا عن جابر عنه عليه السلام في الاية قال: التقيه. أقول: الروايتان من الجرى وليستا بتفسير. وفي تفسير العياشي عن الاصبغ بن نباتة عن علي عليه السلام: " وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض " يعنى يوم القيامة. أقول: ظاهر الاية بحسب السياق أنه من أشراط الساعة ولعله المراد بيوم القيامة فربما تطلق على ظهور مقدماتها. وفيه عن محمد بن حكيم قال: كتبت رقعة إلى أبي عبد الله عليه السلام فيها: أتستطيع النفس المعرفة ؟ قال: فقال لا فقلت: يقول الله: " الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا " قال: هو كقوله: " وما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون " قلت: فعابهم ؟ قال لم يعبهم بما صنع هو بهم ولكن عابهم بما صنعوا، ولو لم يتكلفوا لم يكن عليهم شئ. أقول: يعنى أنهم تسببوا لهذا الحجاب فرجع إليهم تبعته. وفي تفسير القمي في الاية قال: كانوا لا ينظرون إلى ما خلق الله من الايات والسموات والارض. أقول: وفي العيون عن الرضا عليه السلام تطبيق الاية على منكري الولاية وهو من الجرى

[ 378 ]

(كلام حول قصة ذي القرنين) وهو بحث قرآني وتاريخي في فصول: 1 - قصة ذي القرنين في القرآن: لم يعترض لاسمه ولا لتاريخ زمان ولادته وحياته ولا لنسبه وسائر مشخصاته على ما هو دأبه في ذكر قصص الماضين بل اكتفى على ذكر ثلاث رحلات منه فرحلة اولى إلى المغرب حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة (أو حامية) ووجد عندها قوما، ورحلة ثانيه إلى المشرق حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم يجعل الله لهم من دونها سترا، ورحله ثالثة حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا فشكوا إليه إفساد يأجوج ومأجوج في الارض وعرضوا عليه أن يجعلوا له خرجا على أن يجعل بين القوم وبين يأجوج ومأجوج سدا فأجابهم إلى بناء السد ووعدهم أن يبني لهم فوق ما يأملون وأبى أن يقبل خرجهم وإنما طلب منهم أن يعينوه بقوة وقد اشير منها في القصة إلى الرجال وزبر الحديد والمنافخ والقطر. والخصوصيات والجهات الجوهرية التي تستفاد من القصة هي أولا أن صاحب القصة كان يسمى قبل نزول قصته في القرآن بل حتى في زمان حياته بذي القرنين كما يظهر في سياق القصة من قوله: " يسألونك عن ذي القرنين " " قلنا يا ذا القرنين " " و قالوا يا ذا القرنين ". وثانيا: أنه كان مؤمنا بالله واليوم الآخر ومتدينا بدين الحق كما يظهر من قوله: " هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربى جعله دكاء و كان وعد ربي حقا " وقوله: " أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا وأما من آمن وعمل صالحا " الخ ويزيد في كرامته الدينية أن قوله تعالى: " قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا " يدل على تأييده بوحي أو إلهام أو نبي من أنبياء الله كان عنده يسدده بتبليغ الوحي. وثالثا: أنه كان ممن جمع الله له خير لدنيا ولاخرة، أما خير الدنيا فالملك العظيم الذي بلغ به مغرب الشمس ومطلعها فلم يقم له شئ وقد ذلت له الاسباب، وأما خير الاخرة فبسط العدل وإقامة الحق والصفح والعفو والرفق وكرامة النفس وبث الخير ودفع الشر، وهذا كله مما يدل

[ 379 ]

عليه قوله تعالى: " إنا مكنا له في الارض وآتيناه من كل شئ سببا " مضافا إلى ما يستفاد من سياق القصة من سيطرته الجسمانية والروحانية. ورابعا: أنه صادف قوما ظالمين بالمغرب فعذبهم. وخامسا: أن الردم الذي بناه هو في غير مغرب الشمس ومطلعها فإنه بعد ما بلغ مطلع الشمس أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين. ومن مشخصات ردمه مضافا إلى كونه واقعا في غير المغرب والمشرق أنه واقع بين جبلين كالحائطين، وأنه ساوى بين صدفيهما وأنه استعمل في بنائه زبر الحديد والقطر، ولا محالة هو في مضيق هو الرابط بين ناحيتين من نواحي الارض المسكونة. 2 - ذكرى ذى القرنين والسد ويأجوج ومأجوج: في اخبار الماضين، لم يذكر القدماء من المؤرخين في أخبارهم ملكا يسمى في عهده بذي القرنين أو ما يؤدي معناه من غير اللفظ العربي ولا يأجوج ومأجوج بهذين اللفظين ولا سدا ينسب إليه باسمه نعم ينسب إلى بعض ملوك حمير من اليمنيين أشعار في المباهاة يذكر فيها ذا القرنين وأنه من أسلافه التبابعة، وفيها ذكر سيره إلى المغرب والمشرق وسد يأجوج ومأجوج وسيوافيك نبذة منها في بعض الفصول الاتية. وورد ذكر " مأجوج " و " جوج ومأجوج " في مواضع من كتب العهد العتيق ففي الاصلاح (1) العاشر من سفر التكوين من التوراة. " وهذه مواليد بنى نوح: سام وحام ويافث. وولد لهم بنون بعد الطوفان. بنو يافث جومر ومأجوج وماداي وباوان ونوبال وما شك ونبراس ". وفي كتاب حزقيال (1) الاصحاح الثامن والثلثون " وكان إلى كلام الرب قائلا: يا بن آدم اجعل وجهك على جوج أرض مأجوج رئيس روش ما شك ونوبال، وتنبأ عليه وقل: هكذا قال السيد الرب: ها أنا ذا عليك ياجوج رئيس روش وما شك ونوبال وأرجعك وأضع شكائم في فكيك وأخرجك أنت وكل جيشك خيلا وفرسانا


(1) كتب العهدين مطبوعة بيروت 1870 ومنها سائر ما نقل في هذه الفصول. (2) وكان بين اليهود أيام أسارتهم ببابل. (*)

[ 380 ]

كلهم لا بسين أفخر لباس جماعة عظيمة مع أتراس ومجان كلهم ممسكين السيوف. فارس وكوش وفوط معهم كلهم بمجن وخوذة، وجومر وكل جيوشه وبيت نوجرمه من أقاصى الشمال مع كل جيشه شعوبا كثيرين معك " قال: " لذلك تنبأ يابن آدم وقل لجوج: هكذا قال السيد الرب في ذلك اليوم عند سكنى شعب اسرائيل آمنين أفلا تعلم وتأتي من موضعك من أقاصى الشمال " الخ وقال في الاصحاح التاسع والثلاثين ماضيا في الحديث السابق: وأنت يابن آدم تنبأ على جوج وقل: هكذا قال السيد الرب ها أنا ذا عليك ياجوج رئيس روش ما شك ونوبال وأردك وأقودك وأصعدك من أقاصي الشمال. وآتي بك على جبال إسرائيل وأضرب قوسك من يدك اليسرى واسقط سهامك من يدك اليمنى فتسقط على جبال إسرائيل أنت وكل جيشك والشعوب الذين معك أبذلك مأكلا للطيور الكاسرة من كل نوع ولوحوش الحفل، على وجه الحفل تسقط لاني تكلمت بقول السيد الرب، وارسل نارا على مأجوج وعلى الساكنين في الجزائر آمنين فيعلمون أني أنا الرب " الخ. وفي رؤيا يوحنا في الاصحاح العشرين: " ورأيت ملاكا نازلا من السماء معه مفتاح الهاوية وسلسلة عظيمة على يده فقبض على التنين الحية القديمة الذي هو ابليس والشيطان، وقيده ألف سنة وطرحه في الهاوية وأغلق عليه وختم عليه لكيلا يضل الامم فيما بعد حتى تتم الالف سنة وبعد ذلك لا بد أن يحل زمانا يسيرا. قال: " ثم متى تمت الالف سنة لن يحل الشيطان من سجنه ويخرج ليضل الامم الذين في أربع زوايا الارض جوج ومأجوج ليجمعهم للحرب الذين عددهم مثل رمل البحر فصعدوا على عرض الارض، وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة فنزلت نار من عند الله من السماء وأكلتهم، وإبليس الذي كان يضلهم طرح في بحيرة النار والكبريت حيث الوحش والنبى الكذاب وسيعذبون نهارا وليلا إلى أبد الابدين ". ويستفاد منها أن " مأجوج " أو " جوج ومأجوج " امة أو امم عظيمة كانت قاطنه في أقاصي شمال آسيا من معمورة الارض يومئذ، وأنهم كانوا امما حربية معروفة بالمغازي والغارات.

[ 381 ]

ويقرب حينئذ أن يحدس أن ذا القرنين هذا هو أحد الملوك العظام الذين سدوا الطريق على هذه الامم المفسدة في الارض، وأن السد المنسوب إليه يجب أن يكون فاصلا بين منطقة شمالية من قارة آسيا وجنوبها كحائط الصين أو سد باب الابواب أو سد " داريال " أو غير هذه. وقد تسلمت تواريخ الامم اليوم من أن ناحية الشمال الشرقي من آسيا وهي الاحداب والمرتفعات في شمال الصين كانت موطنا لامة كبيره بدوية همجيه لم تزل تزداد عددا وتكثر سوادا فتكر على الامم المجاورة لها كالصين وربما نسلت من أحدابها وهبطت إلى بلاد آسيا الوسطى والدنيا وبلغت إلى شمال أو ربه فمنهم من قطن في أراض أغار عليها كأغلب سكنه أو ربه الشمالية فتمدين بها واشتغل بالزراعة والصناعة، ومنهم من رجع ثم عاد وعاد (1). وهذا أيضا مما يؤيد ما استقربناه آنفا أن السد الذي نبحث عنه هو أحد الاسداد الموجودة في شمال آسيا الفاصلة بين الشمال وجنوبه. 3 - من هو ذو القرنين ؟ وأين سده ؟ للمؤرخين وأرباب التفسير في ذلك أقوال بحسب اختلاف انظارهم في تطبيق القصة: 1 - ينسب إلى بعضهم أن السد المذكور في القرآن هو حائط الصين، وهو حائط طويل يحول بين الصين وبين منغوليا بناه " شين هوانك تي " أحد ملوك الصين لصد هجمات المغول عن الصين، طوله ثلاثة آلاف كيلو متر في عرض تسعة أمتار وارتفاع خمسة عشر مترا، وقد بني بالاحجار شرع في بنائه سنه 264 ق م وقد تم بناؤه في عشر أو عشرين وعلى هذا فذو القرنين هو الملك المذكور. ويدفعه أن الاوصاف والمشخصات المذكورة في القرآن لذي القرنين وسدة لا تنطبق على هذا الملك وحائط الصين الكبير فلم يذكر من هذا الملك أنه سار من أرضه إلى المغرب


(1) وذكر بعضهم أن يأجوج ومأجوج هم الامم الذين كانوا يشغلون الجزء الشمالي من آسيا تمتد بلادهم من التبت والصين إلى المحيط المنجد الشمالي وتنتهي غربا بما بلى بلاد تركستان ونقل ذلك عن فاكهلة الخلفاء وتهذيب الاخلاق لابن مسكويه ورسائل إخوان الصفا. (*)

[ 382 ]

الاقصى، والسد الذي يذكره القرآن يصفه بأنه ردم بين جبلين وقد استعمل فيه زبر الحديد والقطر وهو النحاس المذاب والحائط الكبير يمتد ثلاثه آلاف كيلو متر يمر في طريقه على السهول والجبال، وليس بين جبلين وهو مبنى بالحجارة لم يستعمل فيه حديد ولا قطر. ب - نسب إلى بعضهم أن الذي بنى السد هو أحد ملوك آشور (1) وقد كان يهجم في حوالى القرن السابع قبل الميلاد أقوام (2) سيت من مضيق جبال قفقاز إلى أرمينستان ثم غربي إيران وربما بلغوا بلاد آشور وعاصمتها نينوا فأحاطوا بهم قتلا وسبيا ونهبا فبني ملك آشور السد لصدهم، وكأن المراد به سد باب الابواب المنسوب تعميره أو ترميمه إلى كسرى أنو شيروان من ملوك الفرس هذا. ولكن الشأن في انطباق خصوصيات القصة عليه. ج - قال في روح المعاني: وقيل: هو يعني ذا القرنين فريدون بن أثفيان بن جمشيد خامس ملوك الفرس الفيشدادية، وكان ملكا عادلا مطيعا لله تعالى، وفي، كتاب صور الاقاليم لابي زيد البلخى: أنه كان مؤيدا بالوحى وفي عامة التواريخ أنه ملك الارض وقسمها بين بنيه الثلاثة: إيرج وسلم وتور فأعطى إيرج العراق والهند والحجاز وجعله صاحب التاج، وأعطى سلم الروم وديار مصر والمغرب، وأعطى تور الصين والترك والمشرق، ووضع لكل قانونا يحكم به، وسميت القوانين الثلاثة " سياسة " وهي معربة " سي أيسا " أي ثلاثه قوانين. ووجه تسميته ذا القرنين أنه ملك طرفي الدنيا أو طول أيام سلطنته فإنها كانت على ما في روضة الصفا خمسمائة سنة، أو عظم شجاعته وقهره الملوك انتهى. وفيه أن التاريخ لا يعترف بذلك. د - وقيل: إن ذا القرنين هو الاسكندر المقدوني وهو المشهور في الالسن وسد


(1) منقول عن كتاب كيهان شناخت " للحسن بن قطان المروزي الطبيب المنجم المتوفى سنة 548 ه‍ وذكر فيه أن اسمه " بلينس " وسماه أيضا اسكندر. (2) كانت هذه الاقوام يسمون - على ما ذكروا - عند الغربيين " سيت " ولهم ذكر في بعض النقوش الباقية من زمن " داريوش " ويسمون عند اليونانيين " ميكاك ". (*)

[ 383 ]

الاسكندر كالمثل السائر بينهم وقد ورد ذلك في بعض الروايات كما في رواية قرب الاسناد عن موسي بن جعفر عليهما السلام ورواية عقبه بن عامر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورواية وهب بن منبه المرويتين في الدر المنثور. وبه قال بعض قدماء المفسرين من الصحابة والتابعين كمعاذ بن جبل على ما في مجمع البيان، وقتادة على ما رواه في الدر المنثور، ووصفه الشيخ أبو على بن سينا عندما ذكره في كتاب الشفاء بذي القرنين، وأصر على ذلك الامام الرازي في تفسيره الكبير. قال فيه ما ملخصه: ان القرآن دل على أن ملك الرجل بلغ إلى أقصى المغرب وأقصى المشرق وجهة الشمال، وذلك تمام المعمورة من الارض، ومثل هذا الملك يجب أن يبقى اسمه مخلدا، والملك الذي اشتهر في كتب التواريخ أن ملكه بلغ هذا المبلغ ليس إلا الاسكندر. وذلك أنه بعد موت أبيه جمع ملوك الروم والمغرب وقهرهم، وانتهى إلى البحر الاخضر ثم إلى مصر، وبنى الاسكندرية ثم دخل الشام وقصد بنى إسرائيل وورد بيت المقدس، وذبح في مذبحه. ثم انعطف إلى أرمينية وباب الابواب، ودان له العراقيون والقبط والبربر، واستولى على إيران، وقصد الهند والصين وغزا الامم البعيدة، ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ثم رجع إلى العراق ومات في شهر زور أو رومية المدائن وحمل إلى اسكندرية ودفن بها، وعاش ثلاثا وثلاثين سنة، ومدة ملكه اثنتا عشرة سنة. فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين ملك أكثر المعمورة، وثبت بالتواريخ أن الذي هذا شأنه هو الاسكندر وجب القطع بأن المراد بذي القرنين هو الاسكندر. انتهى. وفيه أولا: أن الذي ذكره من انحصار ملك معظم المعمورة في الاسكندر المقدوني غير مسلم في التاريخ ففي الملوك من يماثله أو يزيد عليه ملكا. وثانيا: أن الذي يذكره القرآن من أوصاف ذي القرنين لا يتسلمه التاريخ للاسكندر أو ينفيه عنه فقد ذكر القرآن أن ذا القرنين كان مؤمنا بالله واليوم الاخر وهو دين التوحيد وكان الاسكندر وثنيا من الصابئين كما يحكى أنه ذبح ذبيحته للمشترى، وذكر

[ 384 ]

القرآن أن ذا القرنين كان من صالحي عباد الله ذا عدل ورفق والتاريخ يقص للاسكندر خلاف ذلك. وثالثا: أنه لم يرد في شئ من تواريخهم أن الاسكندر المقدونى بنى سد يأجوج ومأجوج على ما يذكره القرآن. وقال في البداية والنهاية في خبر ذي القرنين: وقال إسحاق بن بشر عن سعيد بن بشير عن قتادة قال: إسكندر هو ذو القرنين وأبوه أول القياصرة، وكان من ولد سام ابن نوح. فأما ذو القرنين الثاني فهو إسكندر بن فيلبس (وساق نسبه إلى عيص بن إسحاق بن إبراهيم المقدوني اليونانى المصري باني أسكندرية الذى يؤرخ بأيامه الروم، وكان متأخرا عن الاول بدهر طويل. وكان هذا قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة وكان أرسطاطاليس الفيلسوف وزيره، وهو الذي قتل دارا بن دارا وأذل ملوك الفرس وأوطا أرضهم. قال: وإنما نبهنا عليه لان كثيرا من الناس يعتقد أنهما واحد وأن المذكور في القرآن هو الذي كان أرسطاطاليس وزيره فيقع بسبب ذلك خطأ كبير، وفساد عريض طويل كثير فإن الاول كان عبدا مؤمنا صالحا، وملكا عادلا، وكان وزيره الخضر، وقد كان نبيا على ما قررناه قبل هذا، وأما الثاني فكان مشركا، وقد كان وزيره فيلسوفا، وقد كان بين زمانيهما، أزيد من ألفي سنة فأين هذا من هذا لا يستويان ولا يشتبهان إلا على غبي لا يعرف حقائق الامور انتهى. وفيه تعريض بالامام الرازي في مقاله السابق لكنك لو أمعنت فيما نقلنا من كلامه ثم راجعت كتابه فيما ذكره من قصة ذي القرنين وجدته لا يرتكب من الخطأ أقل مما ارتكبه الامام الرازي فلا أثر في التاريخ عن ملك كان قبل المسيح بأكثر من ألفين وثلاثمائة سنة ملك الارض من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق وجهة الشمال وبنى السد وكان مؤمنا صالحا بل نبيا ووزيره الخضر ودخل الظلمات في طلب ماء الحياة سواء كان اسمه الاسكندر أو غير ذلك.

[ 385 ]

ه‍ - ذكر جمع من المؤرخين أن ذا القرنين أحد التبابعة (1) الاذواء اليمنيين من ملوك حمير باليمن كالاصمعي في تاريخ العرب قبل الاسلام، وابن هشام في السيرة والتيجان وأبى ريحان البيرونى في الاثار الباقية ونشوان بن سعيد الحميرى في شمس العلوم - على ما نقل عنهم - وغيرهم. وقد اختلفوا في اسمه فقيل اسمه مصعب بن عبد الله، وقيل: صعب بن ذي المرائد وهو أول التبابعة، وهو الذى حكم لابراهيم في بئر السبع، وقيل: تبع الاقرن واسمه حسان، وذكر الاصمعي أنه أسعد الكامل الرابع من التبابعة بن حسان الاقرن ملكي كرب تبع الثاني ابن الملك تبع الاول، وقيل: اسمه " شمر يرعش ". وقد ورد ذكر ذي القرنين والافتخار به في عدة من أشعار الحميريين وبعض شعراء الجاهلية ففي البداية والنهاية: أنشد ابن هشام للاعشى: والصعب ذو القرنين أصبح ثاويا. بالجنو في جدث أشم مقيما. وقد مر في البحث الروائي السابق أن عثمان بن أبي الحاضر أنشد لابن عباس قول بعض الحميريين: قد كان ذو القرنين جدي مسلما * * ملكا تدين له الملوك وتحشد. بلغ المشارق والمغارب يبتغي * * أسباب أمر من حكيم مرشد


(1) كانت مملكة اليمن ينقسم إلى اربعة وثمانين مخلافا، والمخلاف بمنزلة القضاء والمديرية في العرف الحاضر، وكل مخلاف يشتمل على عدة قلاع يسمى كل قلعة قصرا أو محفدا يسكنه جماعة من الامة يحكم فيهم كبير لهم، وكان صاحب القصر الذي يتولى أمره يسمى بذي كذي غمدان وذي معين أي صاحب غمدان وصاحب معين والجمع أذواء وذوين، والذي يتولى أمر المحلاف يسمى القيل والجمع أقيال، والذي يتولى أمر مجموع المخاليف يسمى الملك: والملك الذي يضم حضر موت والشحر إلى اليمين ويحكم في الثلاث يسمى تبع اما إذا ملك اليمن فقط فملك وليس بتبع. وقد عثر على اسماء خمس وخمسين من الاذواء لكن الملوك منهم ثمانية اذواء هم من ملوك حمير وهم من ملوك الدولة الاخيرة من الدول الحاكمة في قبل، وقد عد منهم أربعة عشر ملكا، والذي يتحصل من تاريخ ملوك اليمن من طريق والرواية مبهم جدا لا اعتماد على تفاصيله. (*)

[ 386 ]

فرأى مغيب الشمس عند غروبها * * في عين ذي خلب وثأط حرمد قال المقريزى في الخطط: إعلم أن التحقيق عند علماء الاخبار أن ذا القرنين الذي ذكره الله في كتابه العزيز فقال: " ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الارض وآتيناه من كل شئ سببا " الايات عربي قد كثر ذكره في أشعار العرب. وان اسمه الصعب بن ذي مرائد بن الحارث الرائش ابن الهمال ذي سدد بن عاد ذي منح بن عار الملطاط بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبا بن يشجب بن يعرب ابن قحطان بن هود بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام. وأنه ملك من ملوك حمير وهم العرب (1) العاربة، ويقال لهم أيضا العرب العرباء، وكان ذو القرنين تبعا متوجا، ولما ولي الملك تجبر ثم تواضع لله، واجتمع بالخضر وقد غلط من ظن أن الاسكندر بن فيلبس هو ذو القرنين الذى بنى السد فإن لفظة ذو عربيه، وذو القرنين من القاب العرب ملوك اليمن، وذاك رومي يوناني. قال أبو جعفر الطبري: وكان الخضر في ايام افريدون الملك بن الضحاك في قول عامه علماء أهل الكتاب الاول، وقيل: موسى بن عمران عليه السلام، وقيل: إنه كان على مقدمة ذي القرنين الاكبر الذي كان على أيام ابراهيم الخليل عليه السلام وان الخضر بلغ مع ذي القرنين أيام مسيره في البلاد نهر الحياة فشرب من مائه وهو لا يعلم به ذو القرنين ولا من معه فخلد وهو حي عندهم إلى الان، وقال آخرون إن ذا القرنين الذي كان على عهد ابراهيم الخليل عليه السلام هو أفريدون بن الضحاك وعلى مقدمته كان الخضر. وقال ابو محمد عبد الملك بن هشام في كتاب التيجان في معرفة ملوك الزمان بعد ما ذكر نسب ذي القرنين الذي ذكرناه: وكان تبعا متوجا لما ولي الملك تجبر ثم تواضع واجتمع بالخضر ببيت المقدس، وسار معه مشارق الارض ومغاربها واوتي من كل شئ سببا كما اخبر الله تعالى، وبنى السد على يأجوج ومأجوج ومات بالعراق. وأما الاسكندر فإنه يونانى، ويعرف بالاسكندر المجدونى (ويقال المقدوني)


(1) العرب العارية هم العرب قبل إسماعيل وأما إسماعيل وبنوه فهم العرب المستعربة. (*)

[ 387 ]

سئل ابن عباس عن ذي القرنين: ممن كان ؟ فقال: من حمير وهو الصعب بن ذي مرائد الذي مكنه الله في الارض وآتاه من كل شئ سببا فبلغ قرنى الشمس ورأس الارض وبنى السد على يأجوج ومأجوج. قيل له: فالاسكندر ؟ قال: كان رجلا صالحا روميا حكيما بنى على البحر في أفريقية منارا، وأخذ أرض رومة، وأتى بحر العرب، وأكثر عمل الاثار في العرب من المصانع والمدن. وسئل كعب الاحبار عن ذي القرنين فقال: الصحيح عندنا من أحبارنا وأسلافنا أنه من حمير وأنه الصعب بن ذي مرائد، والاسكندر كان رجلا من يونان من ولد عيصو بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، ورجال الاسكندر (1) أدركوا المسيح بن مريم منهم جالينوس وأرسطاطاليس. وقال الهمداني في كتاب الانساب وولد كهلان بن سبا زيدا فولد، زيد عريبا ومالكا وغالبا وعميكرب، وقال الهيثم: عميكرب بن سبا أخو حمير وكهلان فولد عميكرب أبا مالك فدرحا ومهيليل ابني عميكرب، وولد غالب جنادة بن غالب وقد ملك بعد مهيليل بن عميكرب بن سبا، وولد عريب عمرا فولد عمرو زيدا والهميسع ويكنى أبا الصعب وهو ذو القرنين الاول، وهو المساح والبناء، وفيه يقول النعمان ابن بشير. فمن ذا يعادونا من الناس معشرا * * كراما فذو القرنين منا وحاتم. وفيه يقول الحارثي: سموا لنا واحدا منكم فنعرفه * * في الجاهلية لاسم الملك محتملا كالتبعين وذي القرنين يقبله * * أهل الحجى فأحق القول ما قبلا وفيه يقول ابن أبي ذئب الخزائي: ومنا الذى بالخافقين تغربا * * واصعد في كل البلاد وصوبا فقد نال قرن الشمس شرقا ومغربا * * وفي ردم يأجوج بنى ثم نصبا


وهذا لا يوافق ما قطع به التاريخ انه ملك 356 - 324 ق م. (*)

[ 388 ]

وذلك ذو القرنين تفخر حمير * * بعسكر فيل ليس يحصى فيحسبا قال الهمداني: وعلماء همدان تقول ذو القرنين الصعب بن مالك بن الحارث الاعلى ابن ربيعة بن الحيار بن مالك وف ذي القرنين أقاويل كثيرة. انتهى كلام المقريزى. وهو كلام جامع، ويستفاد منه أولا أن لقب ذي القرنين تسمى به أكثر من واحد من ملوك حمير وأن هناك ذا القرنين الاول (الكبير) وغيره. وثانيا: أن ذا القرنين الاول وهو الذى بنى سد يأجوج ومأجوج قبل الاسكندر المقدونى بقرون كثيرة سواء كان معاصرا للخليل عليه السلام أو بعده كما هو مقتضى ما نقله ابن هشام من ملاقاته الخضر ببيت المقدس المبني بعد إبراهيم بعدة قرون في زمن داود وسليمان عليهما السلام فهو على أي حال قبله مع ما في تاريخ ملوك حمير من الابهام. ويبقى الكلام على ما ذكره واختاره من جهتين: أحدهما: أنه أين موضع هذا السد الذى بناه تبع الحميري ؟. وثانيهما: أنه من هم هذه الامة المفسدة في الارض التي بنى السد لصدهم فهل هذا السد أحد الاسداد المبنية في اليمن أو ما والاها كسد مأرب وغيره فهي أسداد مبنية لادخار المياه للشرب والسقي لا للصد على أنها لم يعمل فيها زبر الحديد والقطر كما ذكره الله في كتابه، أو غيرها ؟ وهل كان هناك امة مفسده مهاجمة، وليس فيما يجاورهم إلا أمثال القبط والاشور وكلدان وغيرهم وهم أهل حضارة ومدنية. وذكر بعض أجله المحققين (1) من معاصرينا في تأييد هذا القول ما محصله: أن ذا القرنين المذكور في القرآن قبل الاسكندر المقدوني بمآت من السنين فليس هو هو بل هو أحد الملوك الصالحين من التبابعة الاذواء من ملوك اليمن، وكان من شيمة طائفه منهم التسمى بذي كذى همدان وذي غمدان وذي المنار وذي الاذعار وذي يزن وغيرهم. وكان مسلما موحدا وعادلا حسن السيرة وقويا ذا هيبة وشوكه سار في جيش كثيف نحو المغرب فاستولى على مصر وما وراءها ثم لم يزل يسير على سواحل البحر


(1) وهو العلامة السيد هبة الدين الشهرستاني. (*)

[ 389 ]

الابيض حتى بلغ ساحل المحيط الغربي فوجد الشمس تغيب في عين حمئة أو حامية. ثم رجع سائرا نحو المشرق وبنى في مسيره " أفريقية (1). وكان شديد الولع وذا خبرة في البناء والعمارة ولم يزل يسير حتى مر بشبه جزيرة وبراري آسيا الوسطى وبلغ تركستان وحائط الصين ووجد هناك قوما لم يجعل الله لهم من دون الشمس سترا. ثم مال إلى الجانب الشمالي حتى بلغ مدار السرطان، ولعله الذي شاع في الالسن أنه دخل الظلمات، فسأله أهل تلك البلاد أن يبني لهم سدا يصد عنهم يأجوج ومأجوج لما أن اليمنيين - وذو القرنين منهم - كانوا معروفين بعمل السد والخبرة فيه فبنى لهم السد. فإن كان هذا السد هو الحائط الكبير الحائل بين الصين ومنغوليا فقد كان ذلك ترميما منه لمواضع تهدمت من الحائط بمرور الايام وإلا فأصل الحائط إنما بناه بعض ملوك الصين قبل ذلك، وإن كان سدا آخر غير الحائط فلا إشكال. ومما بناه ذو القرنين واسمه الاصلي " شمر يرعش " في تلك النواحي مدينة سمرقند (2) على ما قيل. وأيد ذلك بأن كون ذي القرنين ملكا عربيا صالحا يسأل عنه الاعراب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويذكره القرآن الكريم للتذكر والاعتبار أقرب للقبول من أن يذكر قصة بعض ملوك الروم أو العجم أو الصين، وهم من الامم البعيدة التي لم يكن للاعراب هوى في أن يسمعوا أخبارهم أو يعتبروا بآثارهم، ولذا لم يتعرض القرآن لشئ من أخبارهم. انتهى ملخصا. والذي يبقى عليه أن كون حائط الصين هو سد ذي القرنين لا سبيل إليه فإن ذا القرنين قبل الاسكندر بعدة قرون على ما ذكره وقد بنى حائط الصين بعد الاسكندر بما يقرب من نصف قرن وأما غير الحائط الكبير ففي ناحية الشمال الغربي من الصين بعض أسداد اخر لكنها مبنية من الحجارة على ما يذكر لا أثر فيها من زبر الحديد والقطر.


(1) بناها التبع أفريقس الملك ويقال إنه ذو القرنين، وقيل إنه أبوذي القرنين أو أخوه وبه سميت القارة افريقيا. (2) يقال انه مر بناحية تركستان فخرب " سند " وبنى " سمرقند " فقيل " شمركند " أي شمر قلع وخرب سند فبقي شمراسماله كند ثم عربت الكلمة فصارت سمرقند. (*)

[ 390 ]

وقال في تفسير الجواهر بعد ذكر مقدمة ملخصها أن المعروف من دول اليمن بمعونة من النقوش المكشوفة في خرائب اليمن ثلاث دول: دولة معين وعاصمتها قرناء وقد قدر العلماء أن آثار دولة معين تبتدئ من القرن الرابع عشر قبل الميلاد إلى القرن السابع أو الثامن قبله، وقد عثروا على بعض ملوك هذه الدولة وهم ستة وعشرون ملكأ مثل " أب يدع " و " أب يدع ينيع " أي المنقد. ودولة سبا وهم من القحطانيين كانوا أولا أذواء فأقيالا، والذى نبغ منهم " سبا " صاحب قصر صرواح شرقي صنعاء فاستولى على الجميع، ويبتدئ ملكهم من 850 ق م إلى 115 ق م والمعروف من ملوكهم سبعة وعشرون ملكا خمسة عشر منهم يسمى مكربا كالمكرب " يثعمر " والمكرب " ذمر على " واثنا عشرة منهم يسمى ملكا فقط كالملك " ذرح " والملك " يريم أيمن ". ودولة الحميريين وهم طبقتان الاولى ملوك سبا وريدان من سنة 115 ق م إلى سنة 275 ق م وهؤلاء ملوك فقط، والطبقة الثانية ملوك سبا وريدان وحضر موت وغيرها، وهؤلاء أربعه عشر ملكا أكثرهم تبابعه أولهم " شمر يرعش " وثانيهم " ذو القرنين " وثالثهم " عمرو " زوج بلقيس (1) ونتهي إلي ذي جدن ويبتدئ ملكهم من سنة 275 م إلى سنة 525. ثم قال: فقد ظهرت صلة الاتصاف بلقب " ذي " بملوك اليمن ولا نجد في غيرهم كملوك الروم مثلا من يلقب بذي فذو القرنين من ملوك اليمن، وقد تقدم من ملوكهم من يسمي بذي القرنين، ولكن هل هذا هو ذو القرنين المذكور في القرآن ؟ نحن نقول: كلا لان هذا مذكور في ملوك قريبي العهد منا جدا، ولم ينقل ذلك عنهم اللهم إلا في روايات ذكرها القصاصون في التاريخ مثل أن " شمر يرعش " وصل إلى بلاد العراق وفارس وخراسان والصغد وبنى مدينة سمرقند وأصله شمر كند، وأن


(1) بلقيس هذه غير ملكة سبأ التي يقال إن سليمان بن داود عليه السلام تزوج بها بعدما أحضرها من سبأ وهو سابق على الميلاد بما يقرب من الف سنة. (*)

[ 391 ]

أسعد أبو كرب غزا آذربيجان، وبعث حسانا ابنه إلى الصغد، وابنه يعفر إلى الروم، وابن أخيه إلى الفرس، وأن من الحميريين من بقوا في الصين لهذا العهد بعد غزو ذلك الملك لها. وكذب ابن خلدون وغيره هذه الاخبار، ووسموها بأنها مبالغ فيها ونقضوها بأدلة جغرافية وأخرى تاريخية. إذن يكون ذو القرنين من أمة العرب ولكنه في تاريخ قديم قبل التاريخ المعروف. انتهى ملخصا. و - وقيل: إن ذا القرنين هو كورش أحد ملوك الفرس الهخامنشيين (539 - 560 ق م وهو الذي أسس الامبراطورية الايرانية، وجمع بين مملكتي الفارس وماد، وسخر بابل وأذن في رجوع اليهود من بابل إلى اورشليم وساعد في بناء الهيكل وسخر مصر ثم اجتاز إلى يونان فغلبهم وبلغ المغرب ثم سار إلى أقاصي المعمورة في المشرق. ذكر بعض من قارب (1) عصرنا ثم بذل الجهد في إيضاحه وتقريبه بعض محققي (2) الهند في هذه الاواخر بيان ذلك إجمالا أن الذي ذكره القرآن من وصف ذي القرنين منطبق على هذا الملك العظيم فقد كان مؤمنا بالله بدين التوحيد عادلا في رعيته سائرا بالرأفة والرفق والاحسان سائسا لاهل الظلم والعدوان، وقد آتاه الله من كل شئ سببا فجمع بين الدين والعقل وفضائل الاخلاق والعدة والقوة والثروة والشوكة ومطاوعة الاسباب. وقد سار كما ذكره الله في كتابه مره نحو المغرب حتى استولى علي ليديا وحواليها ثم سار ثانيا نحو المشرق حتى بلغ مطلع الشمس ووجد عنده قوما بدويين همجيين يسكنون في البراري ثم بنى السد وهو على ما يدل عليه الشواهد السد المعمول في مضيق داريال بين جبال قفقاز بقرب " مدينة تفليس " هذا إجمال الكلام ودونك التفصيل. ايمانه بالله واليوم الاخر: يدل على ذلك ما في كتب العهد العتيق ككتاب عزرا


(1) سر احمد خان الهندي. (2) الباحث المحقق مولانا أبو الكلام آزاد. (*)

[ 392 ]

(الاصحاح 1) وكتاب دانيال (الاصحاح 6) وكتاب أشعياء (الاصحاح 44 و 45) من تجليله وتقديسه حتى سماه في كتاب الاشعياء " راعي الرب " وقال في الاصحاح الخامس والاربعين: " هكذا يقول الرب لمسيحه لكورش الذي أمسكت بيمينه لادوس أمامه امما وأحقاء ملوك أحل لا فتح أمامه المصراعين والابواب لا تغلق. أنا أسير قدامك والهضاب أمهد أكسر مصراعي النحاس ومغاليق الحديد أقصف. وأعطيك ذخائر الظلمة وكنوز المخابي. لكي تعرف أني أنا الرب الذي يدعوك باسمك. لقبتك وأنت لست تعرفني. ولو قطع النظر عن كونه وحيا فاليهود على ما بهم من العصبية المذهبية لا يعدون رجلا مشركا مجوسيا أو وثنيا - لو كان كورش كذلك - مسيحا إلهيا مهديا مؤيدا وراعيا للرب. على أن النقوش والكتابات المخطوطة بالخط المسماري المأثور عن داريوش الكبير وبينهما من الفصل الزماني ثماني سنين ناطقة بكونه موحدا غير مشرك، وليس من المعقول أن يتغير ما كان عليه كورش في هذا الزمن القصير. وأما فضائله النفسانية فيكفي في ذلك الرجوع إلى المحفوظ من أخباره وسيرته وما قابل به الطغاة والجبابرة الذين خرجوا عليه أو حاربهم كملوك " ماد " و " ليديا " و " بابل " و " مصر " وطغاة البدو في أطراف " بكتريا " وهو البلخ وغيرهم، وكان كلما ظهر على قوم عفا عن مجرميهم، وأكرم كريمهم ورحم ضعيفهم وساس مفسدهم وخائنهم. وقد أثنى عليه كتب العهد القديم، واليهود يحترمه أعظم الاحترام لما نجاهم من أساره بابل وأرجعهم إلى بلادهم وبذل لهم الاموال لتجديد بناء الهيكل ورد إليهم نفائس الهيكل المنهوبة المخزونة في خزائن ملوك بابل، وهذا في نفسه مؤيد آخر لكون ذي القرنين هو كورش فان السؤال عن ذي القرنين إنما كان بتلقين من اليهود على ما في الروايات. وقد ذكره مؤرخو يونان القدماء كهرودت وغيره فلم يسعهم إلا أن يصفوه

[ 393 ]

بالمروة والفتوة والسماحة والكرم والصفح وقلة الحرص والرحمة والرأفة ويثنوا عليه بأحسن الثناء. واما تسميته بذي القرنين فالتواريخ وإن كانت خاليه عما يدل على شئ في ذلك لكن اكتشاف تمثاله الحجري اخيرا في مشهد مرغاب في جنوب إيران يزيل الريب في اتصافه بذي القرنين فانه مثل فيه ذا قرنين نابتين من أم رأسه من منبت واحد أحد القرنين مائل إلى قدام والاخر آخذ جهة الخلف. وهذا قريب من قول من قال من القدماء في وجه تسمية ذي القرنين أنه كان له تاج أو خوذة فيه قرنان. وقد ورد في كتاب دانيال ذكر رؤيا رأى كورش فيه في صورة كبش ذي قرنين قال فيه (1). " في السنة الثالثة من ملك " بيلشاصر " الملك ظهرت لي انا دانيال رؤيا بعد التي ظهرت لي في الابتداء. فرأيت في الرؤيا وكأن في رؤياي وانا في " شوشن " القصر الذي في ولاية عيلام. ورأيت في الرؤيا وأنا عند نهر " اولاي " فرفعت عيني وإذا بكبش واقف عند النهر وله قرنان والقرنان عاليان والواحد اعلى من الاخر والاعلى طالع اخيرا. رأيت الكبش ينطح غربا وشمالا وجنوبا فلم يقف حيوان قدامه ولا منفذ من يده وفعل كمرضاته وعظم. وبينما كنت متأملا إذا بتيس من المعزجاء من المغرب على وجه كل الارض ولم يمس الارض وللتيس قرن معتبر بين عينيه. وجاء إلى الكبش صاحب القرنين الذي رأيته واقفا عند النهر وركض إليه بشدة قوته ورايته قد وصل إلى جانب الكبش فاستشاط عليه وضرب الكبش وكسر قرنيه فلم تكن للكبش قوة على الوقوف امامه وطرحه على الارض وداسه ولم يكن للكبش منفذ من يده. فتعظم تيس المعز جدا. ثم ذكر بعد تمام الرؤيا ان جبرئيل تراءى له وعبر رؤياه بما ينطبق فيه الكبش ذو القرنين على كورش، وقرناه مملكتا الفارس وماد، والتيس ذو القرن الواحد على


(1) كتاب دانيال الاصحاح الثامن 1 - 9. (*)

[ 394 ]

الاسكندر المقدونى. واما سيره نحو المغرب والمشرق فسيره نحو المغرب كان لدفع طاغية " ليديا " وقد سار بجيوشه نحو كورش ظلما وطغيانا من غير أي عذر يجوز له ذلك فسار إليه وحاربه وهزمه ثم عقبه حتى حاصره في عاصمة ملكه ثم فتحها وأسره ثم عفا عنه وعن سائر أعضاده وأكرمه وإياهم وأحسن إليهم وكان له أن يسوسهم ويبيدهم وانطباق القصة على قوله تعالى: " حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة - ولعلها الساحل الغربي من آسيا الصغرى - ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا " وذلك لاستحقاقهم العذاب بطغيانهم وظلمهم وفسادهم. ثم إنه سار نحو الصحراء الكبير بالمشرق حوالي بكتريا لاخماد غائلة قبائل بدوية همجية انتهضوا هناك للمهاجمة والفساد وانطباق قوله تعالى: " حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا عليه ظاهر. واما بناؤه السد: فالسد الموجود في مضيق جبال قفقاز الممتدة من بحر الخزر إلى البحر الاسود، ويسمى المضيق " داريال " (1) وهو واقع بلدة " تفليس " وبين " ولادي كيوكز ". وهذا السد واقع في مضيق بين جبلين شاهقين يمتدان من جانبيه وهو وحده الفتحة الرابطة بين جانبي الجبال الجنوبي والشمالي والجبال مع ما ينضم إليها من بحر الخزر والبحر الاسود حاجز طبيعي في طول الوف من الكيلو مترات يحجز جنوب آسيا من شمالها. وكان يهجم في تلك الاعصار أقوام شريرة من قاطني الشمال الشرقي من آسيا من مضيق جبال قفقاز إلى ما يواليها من الجنوب فيغيرون على ما دونها من أرمينستان ثم إيران حتى الاشور وكلده، وهجموا في حوالي المائة السابعة قبل الميلاد فعمموا البلاد قتلا وسبيا ونهبأ حتى بلغوا نينوى عاصمة الاشور وكان ذلك في القرن السابق على عهد


(1) ولعله محرف " داريول " بمعنى المضيق بالتركية، ويسمى السد باللغة المحيلة " دمير قابو " ومعناه باب الحديد. (*)

[ 395 ]

كورش تقريبا. وقد ذكر المؤرخون من القدماء كهرودوت اليونانى سير كورش إلى شمال إيران لاخماد نوائر فتن اشتعلت هناك، والظاهر أنه بنى السد في مضيق داريال في مسيره هذا لاستدعاء من أهل الشمال وتظلم منهم، وقد بناه بالحجارة والحديد وهو الردم الوحيد الذي استعمل فيه الحديد، وهو بين سدين جبلين، وانطباق قوله تعالى: " فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما آتوني زبر الحديد " الايات عليه ظاهر. ومما أيد به هذا المدعى وجود نهر بالقرب منه يسمى " سايروس " وهو اسم كورش عند الغربيين، ونهر آخر يمر بتفليس يسمى " كر " وقد ذكر هذا السد " يوسف " اليهودي المؤرخ عند ذكر رحلته إلى شمال قفقاز وليس هو الحائط الموجود في باب الابواب على ساحل بحر الخزر فان التاريخ ينسب بناءه إلى كسرى أنو شيروان وكان يوسف قبله (1). على أن سد باب الابواب غير سد ذي القرنين المذكور في القرآن قطعا إذ لم يستعمل فيه حديد قط. وأما يأجوج ومأجوج فالبحث عن التطورات الحاكمة على اللغات يهدينا إلى أنهم المغول فان الكلمة بالتكلم الصيني " منكوك " أو " منجوك " ولفظتا يأجوج ومأجوج كأنهما نقل عبرانى وهما في التراجم اليونانية وغيرها للعهد العتيق " كوك " و " مأكوك " والشبه الكامل بين " ماكوك " و " منكوك " يقضي بأن الكلمة متطورة من التلفظ الصيني " منكوك " كما اشتق منه " منغول " و " مغول " ولذلك في باب تطورات الالفاظ نظائر لا تحصى. فيأجوج ومأجوج هما المغول وكانت هذه الامة القاطنة بالشمال الشرقي من آسيا من أقدم الاعصار امة كبيرة مهاجمة تهجم برهة إلى الصين وبرهة من طريق داريال قفقاز إلى أرمينستان وشمال إيران وغيرها وبرهة وهى بعد بناء السد إلى شمال اوربة وتسمى


(1) فهو على ما يقال كان يعيش في القرن الاول الميلادي. (*)

[ 396 ]

عندهم بسيت ومنهم الامة الهاجمة على الروم وقد سقطت في هذه الكرة دولة رومان، وقد تقدم أيضا أن المستفاد من كتب العهد العتيق أن هذه الامة المفسدة من سكنة أقاصى الشمال. هذه جملة ما لخصناه من كلامه، وهو وإن لم يخل عن اعتراض ما في بعض أطرافه لكنه أوضح انطباقا على الايات وأقرب إلى القبول من غيره. ز - ومما قيل في ذي القرنين ما سمعته عن بعض مشايخي أنه من أهل بعض الادوار السابقة على هذه الدورة الانسانية وهو غريب ولعله لتصحيح ما ورد في الاخبار من عجائب حالات ذي القرنين وغرائب ما وقع منه من الوقائع كموته وحياته مرة بعد مرة ورفعه إلى السماء ونزوله إلى الارض وقد سخر له السحاب يسير به إلى المغرب والمشرق، وتسخير النور والظلمة والرعد والبرق له، ومن المعلوم أن تاريخ هذه الدورة لا يحفظ شيئا من ذلك فلا بد أن يكون ذلك في بعض الادوار السابقة هذا، وقد بالغ في حسن الظن بتلك الاخبار. 4 - أمعن أهل التفسير والمؤرخون في البحث حول القصة، وأشبعوا الكلام في أطرافها، وأكثرهم على أن يأجوج ومأجوج امة كبيرة في شمال آسيا، وقد طبق جمع منهم ما أخبر به القرآن من خروجهم في آخر الزمان وإفسادهم في الارض على هجوم التتر في النصف الاول من القرن السابع الهجري على غربي آسيا، وإفراطهم في إهلاك الحرث والنسل بهدم البلاد وإبادة النفوس ونهب الاموال وفجائع لم يسبقهم إليها سابق. وقد أخضعوا أولا الصين ثم زحفوا إلى تركستان وإيران والعراق والشام وقفقاز إلى آسيا الصغرى، وأفنوا كل ما قاومهم من المدن والبلاد والحصون كسمرقند وبخارا وخوارزم ومرو ونيسابور والري وغيرها، فكانت المدينة من المدن تصبح وفيها مآت الالوف من النفوس وتمسي ولم يبق من عامة أهلها نافخ نار، ولا من هامة أبنيتها حجر على حجر. ثم رجعوا إلى بلادهم ثم عادوا وحملوا على الروس ودمروا أهل بولونيا وبلاد المجر

[ 397 ]

وحملوا على الروم وألجأوهم على الجزية كل ذلك في فجائع يطول شرحها. لكنهم أهملوا البحث عن أمر السد من جهة خروجهم منه وحل مشكلته فإن قوله تعالى: " فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا وجعلنا بعضهم يومئذ يموج في بعض الايات ظاهره على ما فسروه أن هذه الامة المفسدة محبوسون فيما وراءه لا مخرج لهم إلى سائر الارض مادام معمورا قائما على ساقه حتى إذا جاء وعد الله سبحانه جعله دكاء مثلما أو منهدما فخرجوا منه إلى الناس وساروا بالفساد والشر. فكان عليهم - على هذا - أن يقرروا للسد وصفه هذا فإن كانت هذه الامة المذكورة هي التتر وقد ساروا من شمال الصين إلى إيران والعراق والشام وقفقاز إلى آسيا الصغرى فأين كان هذا السد الموصوف في القرآن الذى وطؤوه ثم طلعوا منه إلى هذه البلاد وجعلوا عاليها سافلها ؟ وإن لم تكن هي التتر أو غيرها من الامم المهاجمة في طول التاريخ فأين هذا السد المشيد بالحديد ومن صفته أنه يحبس امة كبيرة منذ الوف من السنين من أن تهجم على سائر أقطار الارض ولا مخرج لهم إلى سائر الدنيا دون السد المضروب دونهم وقد ارتبطت اليوم بقاع الارض بعضها ببعض بالخطوط البرية والبحرية والهوائية وليس يحجز حاجز طبيعي كجبل أو بحر أو صناعي كسد أو سور أو خندق أمة من أمة فأي معنى لانصداد قوم عن الدنيا بسد بين جبلين بأي وصف وصف وعلى أي نحو فرض ؟. بيان والذي أرى في دفع هذا الاشكال - والله أعلم - أن قوله: " دكاء " من الدك بمعنى الذلة قال في لسان العرب: وجبل دك: ذليل. انتهى. والمراد بجعل السد دكاء جعله ذليلا لا يعبأ بأمره ولا ينتفع به من جهة اتساع طرق الارتباط وتنوع وسائل الحركة والانتقال برا وبحرا وجوا. فحقيقة هذا الوعد هو الوعد برقي المجتمع البشري في مدنيته، واقتراب شتى اممه إلى حيث لا يسده سد ولا يحوطه حائط عن الانتقال من أي صقع من أصقاع الارض إلى غيره ولا يمنعه من الهجوم والزحف إلى أي قوم شاؤا. ويؤيد هذا المعنى سياق قوله تعالى في موضع آخر يذكر فيه هجوم يأجوج ومأجوج

[ 398 ]

" حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون " حيث عبر بفتح يأجوج ومأجوج ولم يذكر السد. وللدك معنى آخر وهو الدفن بالتراب ففي الصحاح: دككت الركى - وهو البئر - دفنته بالتراب انتهى، ومعنى آخر وهو صيرورة الجبل رابية من طين، قال في الصحاح وتد كدكت الجبال أي صارت روابي من طين واحدتها دكاء انتهى. فمن الممكن أن يحتمل أن السد من جملة أبنية العهود القديمة التي ذهبت مدفونة تحت التراب عن رياح عاصفة أو غريقة بانتقال البحار أو اتساع بعضها على ما تثبتها الابحاث الجيولوجية، وبذلك يندفع الاشكال لكن الوجه السابق أوجه والله أعلم قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا (103). الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا (104). أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيمه وزنا (105). ذلك جزآوهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا (106). إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا (107). خالدين فيها لا يبغون عنها حولا (108). (بيان) الايات الست في منزلة الاستنتاج مما تقدم من آيات السورة الشارحه لافتنان المشركين بزينة الحياة الدنيا واطمئنانهم بأولياء من دون الله وابتلائهم بما ابتلوا به من غشاوة الابصار ووقر الاذان وما يتعقب ذلك من سوء العاقبة وتمهيد لما سيأتي من قوله

[ 399 ]

في آخر السورة: " قل إنما أنا بشر مثلكم الاية. قوله تعالى: " قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا ظاهر السياق أن الخطاب للمشركين وهو مسوق سوق الكناية وهم المعنيون بالتوصيف وسيقترب من التصريح في قوله: " اولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه " فالمنكرون للنبوة والمعاد هم المشركون. قيل: ولم يقل: بالاخسرين عملا، مع أن الاصل في التمييز أن يأتي مفردا والمصدر شامل للقليل والكثير للايذان بتنوع أعمالهم وقصد شمول الخسران لجميعها. قوله تعالى: " الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " إنباء بالاخسرين أعمالا وهم الذين عرض في الايه السابقة على المشركين أن ينبئهم بهم ويعرفهم إياهم فعرفهم بأنهم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وضلال السعي خسران ثم عقبه بقوله: " وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا وبذلك تم كونهم أخسرين. بيان ذلك: أن الخسران والخسار في المكاسب والمساعي المأخوذة لغاية الاسترباح إنما يتحقق إذا لم يصب الكسب والسعي غرضه وانتهى إلى نقص في رأس المال أو ضيعة السعي وهو المعبر عنه في الاية بضلال السعي كأنه ضل الطريق فانتهى به السير إلى خلاف غرضه. والانسان ربما يخسر في كسبه وسعيه لعدم تدرب في العمل أو جهل بالطريق أو لعوامل اخر اتفاقيه وهي خسران يرجى زواله فإن من المرجو أن يتنبه به صاحبه ثم يستأنف العمل فيتدارك ما ضاع منه ويقضي ما فات، وربما يخسر وهو يذعن بأنه يربح، ويتضرر وهو يعتقد أن ينتفع لا يرى غير ذلك وهو أشد الخسران لا رجاء لزواله. ثم الانسان في حياته الدنيا لا شأن له إلا السعي لسعادته ولا هم له فيما وراء ذلك فإن ركب طريق الحق وأصاب الغرض وهو حق السعادة فهو، وإن أخطا الطريق وهو لا يعلم بخطإه فهو خاسر سعيا لكنه مرجو النجاة، وان أخطا الطريق وأصاب غير الحق وسكن إليه فصار كلما لاح له لائح من الحق ضربت عليه نفسه بحجاب الاعراض وزينت له ما هو فيه من الاستكبار وعصبية الجاهلية فهو أخسر عملا وأخيب سعيا لانه خسران لا يرجى زواله ولا مطمع في أن يتبدل يوما سعادة وهو قوله تعالى في تفسير الاخسرين أعمالا الذين: " ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ".

[ 400 ]

وحسبانهم عملهم حسنا مع ظهور الحق وتبين بطلان أعمالهم لهم إنما هو من جهة انجذاب نفوسهم إلى زينات الدنيا وزخارفها وانغمارهم في الشهوات فيحبسهم ذلك عن الميل إلى اتباع الحق والاصغاء إلى داعي الحق ومنادي الفطرة قال تعالى: " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم " النمل: 14 وقال: " وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم " البقرة: 206 فاتباعهم هوى أنفسهم ومضيهم على ما هم عليه من الاعراض عن الحق عنادا واستكبارا والانغمار في شهوات النفس ليس إلا رضى منهم بما هم عليه واستحسانا منهم لصنعهم. قوله تعالى: " أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه " تعريف ثان وتفسير بعد تفسير للاخسرين أعمالا، والمراد بالايات - على ما يقتضيه إطلاق الكلمة - آياته تعالى في الافاق والانفس وما يأتي به الانبياء والرسل من المعجزات لتأييد رسالتهم فالكفر بالايات كفر بالنبوة، على أن النبي نفسه من الايات، والمراد بلقاء الله الرجوع إليه وهو المعاد. فآل تعريف الاخسرين أعمالا إلى أنهم المنكرون للنبوة والمعاد وهذا من خواص الوثنيين. قوله تعالى: " فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا " وجه حبط أعمالهم أنهم لا يعملون عملا لوجه الله ولا يريدون ثواب الدار الاخرة وسعادة حياتها ولا أن الباعث لهم على العمل ذكر يوم الحساب وقد مر كلام في الحبط في مباحث الاعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب. وقوله: " فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا " تفريع على حبط أعمالهم والوزن يوم القيامة بثقل الحسنات على ما يدل عليه قوله تعالى: " والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فاولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فاولئك الذين خسروا أنفسهم " الاعراف: 9، وإذ لا حسنة للحبط فلا ثقل فلا وزن. قوله تعالى: " ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا " الاشارة إلى ما أورده من وصفهم، واسم الاشارة خبر لمبتدء محذوف والتقدير: الامر ذلك أي حالهم ما وصفناه وهو تأكيد وقوله: " جزاؤهم جهنم " كلام مستأنف ينبئ عن

[ 401 ]

عاقبه أمرهم وقوله بما كفروا واتخذوا آياتى ورسلي هزوا " في معنى بما كفروا وازدادوا كفرا باستهزاء آياتي ورسلي. قوله تعالى: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا " الفردوس يذكر ويؤنث قيل: هي البستان بالرومية، وقيل: الكرم بالنبطية وأصله فرداسا وقيل: جنة الاعناب بالسريانية وقيل الجنة بالحبشية، وقيل: عربية وهي الجنة الملتفة بالاشجار والغالب عليه الكرم. وقد استفاد بعضهم من عده جنات الفردوس نزلا وقد عد سابقا جهنم للكافرين نزلا أن وراء الجنة والنار من الثواب والعقاب ما لم يوصف بوصف وربما أيده أمثال قوله تعالى: " لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد " ق: 35 وقوله: " فلا تعلم نفس ما اخفي لهم من قرة أعين " الم السجدة: 17، وقوله: " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون. قوله تعالى: " خالدين فيها لا يبغون عنها حولا " البغي الطلب، والحول التحول، والباقي ظاهر. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي الطفيل قال: سمعت علي بن أبي طالب وسأله ابن الكوا فقال: من " هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا " ؟ قال: فجرة قريش. وفي تفسير العياشي عن امام بن ربعي قال: قال ابن الكوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: أخبرني عن قول الله: " قل هل ننبئكم إلى قوله - صنعا " قال: اولئك أهل الكتاب كفروا بربهم، وابتدعوا في دينهم فحبطت أعمالهم وما أهل النهر منهم ببعيد. أقول: وروى أنهم النصاري، القمي عن أبي جعفر عليه السلام والطبرسي في الاحتجاج عن علي عليه السلام أنهم أهل الكتاب وفي الدر المنثور عن ابن المنذر وابن أبي حاتم عن

[ 402 ]

أبي خميصة عبد الله بن قيس عن علي عليه السلام: أنهم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في السواري. والروايات جميعا من قبيل الجرى، والايتان واقعتان في سياق متصل وجه الكلام فيه مع المشركين والاية الثالثة " اولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه " الاية وهي تفسير الثانية أوضح انطباقا على الوثنيين منها على غيرهم كما مر فما عن القمي في تفسيره في ذيل الاية أنها نزلت في اليهود وجرت في الخوارج ليس بصواب. في تفسير البرهان عن محمد بن العباس بإسناده عن الحارث عن على عليه السلام قال: لكل شئ ذروة وذروه الجنة الفردوس، وهي لمحمد وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الدر المنثور أخرج البخاري ومسلم وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمان ومنه تفجر أنهار الجنة. وفي المجمع روى عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الجنة مائه درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والارض، الفردوس أعلاها درجة منها تفجر أنهار الجنة الاربعة فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس. أقول: وفي هذا المعنى روايات اخر. وفي تفسير القمي عن جعفر بن أحمد عن عبيد الله بن موسى عن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن أبيه عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال: قلت قوله: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا " قال: نزلت في أبي ذر وسلمان والمقداد وعمار بن ياسر جعل الله لهم جنات الفردوس نزلا أي مأوي ومنزلا. أقول: وينبغي أن يحمل على الجري أو المراد نزولها في المؤمنين حقا وإنما ذكر الاربعة لكونهم من أوضح المصاديق وإلا فالسورة مكية وسلمان رضي الله عنه ممن آمن بالمدينة. على أن سند الحديث لا يخلو عن وهن

[ 403 ]

قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا (109). بيان الاية بيان مستقل لسعة كلمات الله تعالى وعدم قبولها النفاد وليس من البعيد أن تكون نازلة وحدها لا في ضمن آيات السورة لكنها لو كانت نازلة في ضمن آياتها كانت مرتبطة بجميع ما بحثت عنه السورة. وذلك أن السورة أشارت في أولها إلى أن هناك حقائق إلهية وذكرت أولا في تسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حزنه من إعراضهم عن الذكر أن عامتهم في رقدة عن التنبه لها وسيستيقظون عن نومتهم، وأورد في ذلك قصة أصحاب الكهف ثم ذكر بامور أورد في ذيلها قصة موسى والخضر حيث شاهد موسى عنه أعمالا ذات تأويل لم يتنبه لتأويلها وأغفله ظاهرها عن باطنها حتى بينها له الخضر فسكن عند ذلك قلقه ثم اورد قصة ذي القرنين والسد الذي ضربه بامر من الله في وجه المفسدين من ياجوج وماجوج فحجزهم عن ورود ما وراءه والافساد فيه. فهذه - كما ترى - امور تحتها حقائق واسرار وبالحقيقة كلمات تكشف عن مقاصد إلهية وبيانات تنبئ عن خبايا يدعو الذكر الحكيم الناس إليها، والاية - والله أعلم - تنبئ أن هذه الامور وهي كلماته تعالى المنبئة عن مقاصده لا تنفد والاية في وقوعها بعد استيفاء السورة ما استوفتها من البيان بوجه مثل قول القائل وقد طال حديثه: ليس لهذا الحديث منتهى فلنكتف بما أوردناه. قوله تعالى: " قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي إلى آخر الاية، الكلمة تطلق على الجملة كما تطلق على المفرد ومنه قوله تعالى: " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله " الاية آل عمران: 64 وقد استعملت كثيرا في القرآن الكريم فيما قاله الله وحكم به كقوله: " وتمت كلمة ربك الحسنى على

[ 404 ]

بنى إسرائيل بما صبروا " الاعراف: 137، وقوله: " كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون " يونس: 33، وقوله: " ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم " يونس 19 إلى غير ذلك من الايات الكثيرة جدا. ومن المعلوم أنه تعالى لا يتكلم بشق الفم وإنما قوله فعله وما يفيضه من وجود كما قال: " إنما قولنا لشئ إذا اردناه أن نقول له كن فيكون " النحل: 40 وإنما تسمى كلمة لكونها آية دالة عليه تعالى ومن هنا سمى المسيح كلمة في قوله: " إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته " النساء 171. ومن هنا يظهر أنه ما من عين يوجد أو واقعة تقع إلا وهي من حيث كونها آية دالة عليه كلمة منه إلا أنها خصت في عرف القرآن بما دلالته ظاهرة لاخفاء فيها ولا بطلان ولا تغير كما قال: " والحق أقول " ص: 84 وقال: " ما يبدل القول لدي ق: 29 وذلك كالمسيح عليه السلام وموارد القضاء المحتوم. ومن هنا يظهر أن حمل الكلمات في الايي على معلوماته أو مقدوراته تعالى أو مواعده لاهل الثواب والعقاب إلى غير ذلك مما ذكره المفسرون غير سديد. فقوله: " قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي " أي فرقمت الكلمات وأثبتت من حيث دلالتها بذاك البحر المأخوذ مدادا لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي. وقوله: " ولو جئنا بمثله مددا " أي ولو أمددناه ببحر آخر لنفد أيضا قبل أن تنفد كلمات ربى. وذكر بعضهم: أن المراد بمثله جنس المثل لا مثل واحد، وذلك لان المثل كلما اضيف إلى الاصل لم يخرج عن التناهي، وكلماته يعني معلوماته غير متناهية والمتناهي لا يضبط غير المتناهي انتهي. ملخصا. وما ذكره حق لكن لا لحديث التناهي واللاتناهي وإن كانت الكلمات غير متناهية بل لان الحقائق المدلول عليها والكلمات من حيث دلالتها غالبة على المقادير كيف ؟ وكل ذرة من ذرات البحر وإن فرض ما فرض لا تفى بثبت دلالة نفسها في مدي وجودها على ما تدل عليه من جماله وجلاله تعالى فكيف إذا اضيف إليها غيرها.

[ 405 ]

وفي تكرار " البحر " في الايه بلفظه وكذا " ربى " وضع الظاهر موضع المضمر والنكتة فيه التثبيت والتأكيد وكذا في تخصيص الرب بالذكر وإضافته إلى ضمير المتكلم مع ما فيه من تشريف المضاف إليه. (بحث روائي) في تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن أبى عبد الله عليه السلام في الاية قال: أخبرك أن كلام الله ليس له آخر ولا غاية ولا ينقطع أبدا. أقول: في تفسيره الكلمات بالكلام تأييد لما قدمناه. قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما ألهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا (110). بيان الاية خاتمة السورة وتلخص غرض البيان فيها وقد جمعت اصول الدين الثلاثة وهي التوحيد والنبوة والمعاد فالتوحيد ما في قوله: " إنما إلهكم إله واحد " والنبوة ما في قوله " إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى " وقوله " فليعمل عملا صالحا " الخ والمعاد ما في قوله " فمن كان يرجوا لقاء ربه ". قوله تعالى: " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد " القصر الاول قصره صلى الله عليه وآله وسلم في البشرية المماثلة لبشرية الناس لا يزيد عليهم بشئ ولا يدعيه لنفسه قبال ما كانوا يزعمون أنه إذا ادعى النبوة فقد ادعى كينونة إلهية وقدرة غيبية ولذا كانوا يقترحون عليه بما لا يعلمه إلا الله ولا يقدر عليه إلا الله لكنه صلى الله عليه وآله وسلم نفى ذلك كله بأمر الله عن نفسه ولم يثبت لنفسه إلا أنه يوحى إليه. والقصر الثاني قصر الاله الذى هو إلههم في إله واحد وهو التوحيد الناطق بأن إله الكل إله واحد. وقوله: " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل ا " لخ مشتمل على إجمال الدعوة الدينية

[ 406 ]

وهو العمل الصالح لوجه الله وحده لا شريك له وقد فرعه على رجاء لقاء الرب تعالى وهو الرجوع إليه إذ لو لا الحساب والجزاء لم يكن للاخذ بالدين والتلبس بالاعتقاد والعمل موجب يدعو إليه كما قال تعالى: " إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " ص: 26. وقد رتب على الاعتقاد بالمعاد العمل الصالح وعدم الاشراك بعبادة الرب لان الاعتقاد بالوحدانية مع الاشراك في العمل متناقضان لا يجتمعان فالاله تعالى لو كان واحدا فهو واحد في جميع صفاته ومنها المعبودية لا شريك له فيها. وقد رتب الاخذ بالدين على رجاء المعاد دون القطع به لان احتماله كاف في وجوب التحذر منه لوجوب دفع الضرر المحتمل، وربما قيل: إن المراد باللقاء لقاء الكرامة وهو مرجو لا مقطوع به. وقد فرع رجاء لقاء الله على قوله: " أنما إلهكم إله واحد " لان رجوع العباد إلى الله سبحانه من تمام معنى الالوهية فله تعالى كل كمال مطلوب وكل وصف جميل ومنها فعل الحق والحكم بالعدل وهما يقتضيان رجوع عباده إليه والقضاء بينهم قال تعالى: " وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار " ص: 28. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن مندة وأبو نعيم في الصحابة وابن عساكر من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدق فذكر بخير ارتاح له فزاد في ذلك لمقالة الناس فلامه الله فنزل في ذلك " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ". أقول: وورد نحو منه في عدة روايات اخر من غير ذكر الاسم وينبغي أن يحمل على انطباق الآية على المورد فمن المستبعد أن ينزل خاتمة سورة من السور لسبب خاص بنفسها. وفيه عن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم إن ربكم يقول: أنا

[ 407 ]

خير شريك فمن أشرك معي في عمله أحدا من خلقي تركت العمل كله له، ولم أقبل إلا ما كان لي خالصا ثم قرء النبي صلى الله عليه وسلم: " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ". وفي تفسير العياشي عن علي بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال الله تبارك وتعالى: أنا خير شريك من أشرك بي في عمله لم أقبله إلا ما كان لي خالصا. قال العياشي: وفي رواية اخري عنه عليه السلام قال: إن الله يقول: أنا خير شريك من عمل لي ولغيري فهو لمن عمل له دوني. وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن أبي الدنيا وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي عن شداد بن أوس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك ومن تصدق يرائي فقد أشرك ثم قرء " فمن كان يرجو لقاء ربه " الآية. وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام قالا: لو أن عبدا عمل عملا يطلب به رحمة الله ولدار الآخرة ثم أدخل فيه رضا أحد من الناس كان مشركا. اقول: والروايات في هذا الباب من طرق الشيعة وأهل السنة فوق حد الاحصاء والمراد بالشرك فيها الشرك الخفي غير المنافي لاصل الايمان بل لكماله قال تعالى: " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " يوسف: 106 فالآية تشمله بباطنها لا بتنزيلها. وفي الدر المنثور أخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي حكيم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو لم ينزل على امتي إلا خاتمة سورة الكهف لكفتهم. أقول: تقدم وجهه في البيان السابق. وفيه عن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم إن ربكم يقول: أنا

[ 407 ]

خير شريك فمن أشرك معي في عمله أحدا من خلقي تركت العمل كله له، ولم أقبل إلا ما كان لي خالصا ثم قرء النبي صلى الله عليه وسلم: " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ". وفي تفسير العياشي عن علي بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال الله تبارك وتعالى: أنا خير شريك من أشرك بي في عمله لم أقبله إلا ما كان لي خالصا. قال العياشي: وفي رواية اخري عنه عليه السلام قال: إن الله يقول: أنا خير شريك من عمل لي ولغيري فهو لمن عمل له دوني. وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن أبي الدنيا وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي عن شداد بن أوس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك ومن تصدق يرائي فقد أشرك ثم قرء " فمن كان يرجو لقاء ربه " الآية. وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام قالا: لو أن عبدا عمل عملا يطلب به رحمة الله ولدار الآخرة ثم أدخل فيه رضا أحد من الناس كان مشركا. اقول: والروايات في هذا الباب من طرق الشيعة وأهل السنة فوق حد الاحصاء والمراد بالشرك فيها الشرك الخفي غير المنافي لاصل الايمان بل لكماله قال تعالى: " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " يوسف: 106 فالآية تشمله بباطنها لا بتنزيلها. وفي الدر المنثور أخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي حكيم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو لم ينزل على امتي إلا خاتمة سورة الكهف لكفتهم. أقول: تقدم وجهه في البيان السابق. تم والحمد لله

مكتبة مكتبة شبكة أمل