تفسير الميزان - السيد الطباطبائي ج 13
تفسير الميزان
السيد الطباطبائي ج 13
[ 1 ]
الميزان في تفسير القرآن 13
[ 3 ]
تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره
[ 4 ]
الميزان في تفسير القران كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره الجزء الثالث العشر منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة بسم الله الرحمن الرحيم سورة الاسراء مكية وهى مائة واحدى عشرة آية المجلد:
[ 5 ]
بسم الله الرحمن الرحيم سبحان الذى اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذى باركنا حوله لنريه من آياتنا انه هو السميع البصير - 1. (بيان)
السورة تتعرض لامر توحيده تعالى عن الشريك مطلقا ومع ذلك يغلب فيها جانب التسبيح على جانب التحميد كما بدئت به فقيل: (سبحان الذى اسرى بعبده) الاية، وكرر ذلك فيها مرة بعد مرة كقوله: (سبحانه وتعالى عما يقولون) الاية 43 وقولة: (قل سبحان ربى) الاية 93، وقوله: (ويقولون سبحان ربنا) الاية 108 حتى ان الاية الخاتمة للسورة: (قل الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيرا) تحمد الله على تنزهه عن الشريك والولئ واتخاذ الولد. والسورة مكية لشهادة مضامين آياتها بذلك، وعن بعضهم كما في روح المعاني استثناء آيتين منها وهما قوله: (وان كادوا ليفتنونك) الاية وقوله: (وان كادوا ليستفزونك) الاية، وعن بعضهم الا اربع آيات وهى الايتان المذكورتان وقوله: (واذ قلنا لك ان ربك احاط بالناس) الاية، وقوله: (وقل رب ادخلني مدخل صدق) الاية.
[ 6 ]
وعن الحسن انها مكية الا خمس آيات منها وپهى قوله: (ولا تقتلوا النفس) الاية (ولا تقربوا الزنا) الاية اولئك الذين يدعون (اقم الصلاة) (وآت ذا القربى) الاية. وعن مقاتل: مكية الا خمس: (وان كادوا ليفتنونك) الاية (وان كادوا ليستفزونك) الاية واذ قلنا لك) الاية (وقل رب ادخلني) الاية (ان الذين اوتوا العلم من قبله) الاية. وعن قتادة والمعدل عن ابن عباس مكيه الا ثمانى آيات وهى قوله: (وان كادوا ليفتنونك) الاية إلى قوله: (وقل رب ادخلني مدخل صدق) الاية. ولا دلالة في مضامين الايات على كونها مدنية ولا الاحكام المذكورة فيها مما يختص نزولا بالمدينة وقد نزلت نظائرها في السور المكية كالانعام والاعراف.
وقد افتتحت السورة فيما ترومه من التسبيح بالاشارة إلى معراج النبي (صلى الله عليه وآله وصلم) فذكر اسراؤه (صلى الله عليه وآله وصلم) من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى وهو بيت المقدس والهيكل الذى بناه داود وسليمان عليه اسلام وقدسه الله لبنى اسرائيل. ثم سبق الكلام بالمناسبة إلى ما قدره الله لمجتمع بنى اسرائيل من الرقى والانحطاط والعزة والذلة فكلما اطاعوا رفعهم الله وكلما عصوا خفضهم الله، وقد انزل عليهم الكتاب وامرهم بالتوحيد ونفى الشريك. ثم عطف فيها الكلام على حال هذه الامة وما انزل عليهم من الكتاب بما يشاكل حال بنى اسرائيل وانهم ان اطاعوا اثيبوا وان عصوا عوقبوا فانما هي الاعمال يعامل الانسان بما عمل منها وعلى ذلك جرت السنة الالهية في الامم الماضين. ثم ذكرت فيها حقائق جمة من المعارف الراجعة إلى المبدا والمعاد والشرائع العامة من الاوامر والنواهي وغير ذلك. ومن غرر الايات فيها قوله تعالى: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان اياما تدعوا فله الاسماء الحسنى) الاية 110 من السورة، وقوله: (وكلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا) الايه 20 منها وقوله: (وان من قرية الانحن مهلكوها) الايه 58 منها وغير ذلك.
[ 7 ]
قوله تعالى: (سبحان الذى اسرى بعبده ليلا) إلى آخر الاية. سبحان اسم مصدر للتسبيح بمعنى التنزيه ويستعمل مضافا وهو مفعول مطلق قائم مقام فعله فتقدير (سبحان الله) سبحت الله تسبيحا أي نزهته عن كل ما لا يليق بساحة قدسه وكثيرا ما يستعمل للتعجب لكن سياق الايات انما يلائم التنزيه لكونه الغرض من البيان وان اصر بعضهم على كونه للتعجب. والاسراء والسرى السير بالليل يقال: سرى واسري أي سار ليلا وسرى واسري
به أي سار به ليلا، والسير يختص بالنهار أو يعمه والليل. وقوله: (ليلا) مفعول فيه ويفيد من الفائدة ان هذا الاسراء تم له بالليل فكان الرواح والمجئ في ليلة واحدة قبل ان يطلع فجرها. وقوله: (إلى المسجد الاقصى) هو بيت المقدس بقرينة قوله: (الذى باركنا حوله. والقصى البعد وقد سمى المسجد الاقصى لكونه ابعد مسجد بالنسبه إلى مكان النبي (صلى الله عليه وآله وصلم) ومن معه من المخاطبين وهو مكة التى فيها المسجد الحرام. وقوله: (لنريه من آياتنا) بيان غاية الاسراء وهى اراءه بعض الايات الالهية - لمكان - من وفي السياق دلاله على عظمة هذه الايات التى اراها الله سبحانه كما صرح به في موضع آخر من كلامه يذكر فيه حديث المعراج بقوله: (لقد راى من آيات ربه الكبرى) النجم: 18. وقوله: (انه هو السميع البصير) تعليل لاسرائه به لاراءة آياته أي انه سميع لاقوال عباده بصير بافعالهم وقد سمع من مقال عبده وراى من حاله ما استدعى ان يكرمه هذا الاكرام فيسرى به ليلا ويريه من آياتة الكبرى. وفي الاية التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير في قوله: (باركنا حوله لنريه من آياتنا) ثم رجوع إلى الغيبة السابقة والوجه فيه الاشارة إلى ان الاسراء وما ترتب عليه من اراءه الايات انما صدر عن ساحة العظمة والكبرياء وموطن العزة والجبروت فعملت فيه السلطنة العظمى وتجلى الله له باياته الكبرى، ولو قيل: ليريه من آياته أو غير ذلك لفاتت النكتة. والمعنى: لينزه تنزيها من اسرى بعظمته وكبريائه وبالغ قدرته وسلطانه بعبده محمد في جوف ليلة واحدة من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى وهو بيت المقدس الذى بارك
[ 8 ]
حوله ليريه بعظمتة وكبريائه آياتة الكبرى، وانما فعل به ذلك لانه سميع بصير علم
بما سمع من مقاله وراى من حاله انه خليق ان يكرم هذه التكرمة. (بحث روائي) في تفسير القمى عن ابيه عن ابن ابى عمير عن هشام بن سالم عن ابى عبد الله عليه السلام قال: جاء جبرئيل وميكائيل واسرافيل بالبراق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاخذ واحد باللجام وواحد بالركاب - وسوى الاخر عليه ثيابه فتضعضعت البراق فلطمها جبرائيل ثم قال لها: اسكني يا براق فما ركبك نبى قبله ولا يركبك بعده مثله قال: فرفت به ورفعته ارتفاعا ليس بالكثير ومعه جبرئيل يريه الايات من السماء والارض. قال: فبينا انا في مسيرى إذ نادى مناد عن يمينى: يا محمد فلم اجبه ولم التفت إليه ثم نادى مناد عن يسارى: يا محمد فلم اجبه ولم التفت إليه ثم استقبلتني امراة كاشفه عن ذراعيها عليها من كل زينة الدنيا فقالت: يا محمد انظرني حتى اكلمك فلم التفت إليها ثم سرت فسمعت صوتا افزعني فجاوزت فنزل بى جبرئيل فقال: صل فصليت فقال: تدرى اين صليت ؟ قلت: لا، فقال: صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسى تكليما ثم ركبت فمضينا ما شاء الله ثم قال لى: انزل فصل فنزلت وصليت فقال لى: تدرى اين صليت ؟ فقلت: لا، قال: صليت في بيت لحم، وبيت لحم بناحية بيت المقدس حيث ولد عيسى بن مريم. ثم ركبت فمضينا حتى انتهينا إلى بيت المقدس فربطت البراق بالحلقة التى كانت الانبياء تربط بها فدخلت المسجد ومعى جبرئيل إلى جنبى فوجدنا ابراهيم وموسى وعيسى فيمن شاء الله من انبياء الله عليهم السلام فقد جمعوا إلى واقيمت الصلاة ولا اشك الا وجبرئيل سيتقد منا فلما استووا اخذ جبرئيل بعضدي فقد منى واممتهم ولا فخر. ثم اتانى الخازن بثلاثة اوانى اناء فيه لبن واناء فيه ماء واناء فيه خمر، وسمعت قائلا يقول: ان اخذ الماء غرق وغرقت امته، وان اخذ الخمر غوى وغويت امته
[ 9 ]
وان اخذ اللبن هدى وهديت امته قال: فاخذت اللبن وشربت منه فقال لى جبرئيل هديت وهديت امتك. ثم قال لى: ما ذا رايت في مسيرك ؟ فقلت: نادانى مناد عن يمينى فقال: اواجبته فقلت: لا ولم التفت إليه فقال: داعى اليهود لواجبته لتهودت امتك من بعدك ثم قال: ما ذا رايت ؟ فقلت نادانى مناد عن يسارى فقال لى: أو اجبته ؟ فقلت لا ولم التفت إليه فقال: ذاك داعى النصارى ولو اجبته لتنصرت امتك من بعدك. ثم قال: ماذا استقبلك ؟ فقلت ؟ لقيت امراة كاشفة عن ذراعيها عليها من كل زينة الدنيا فقالت: يا محمد انظرني حتى اكلمك. فقال أو كلمتها ؟ فقلت: لم اكلمها ولم التفت إليها فقال: تلك الدنيا ولو كلمتها لاختارت امتك الدنيا على الاخرة. ثم سمعت صوتا افزعني فقال لى جبرئيل: اتسمع يا محمد ؟ قلت: نعم قال: هذه صخرة قذفتها عن شفير جهنم منذ سبعين عاما فهذا حين استقرت قالوا: فما ضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى قبض قال: وصعد جبرئيل وصعدت معه إلى السماء الدنيا وعليها ملك يقال له: اسماعيل وهو صاحب الخطفة التى قال الله عزوجل: (الا من خطف الخطفة فاتبعه شهاب ثاقب) وتحته سبعون الف ملك تحت كل ملك سبعون الف ملك فقال: يا جبرئيل من هذا الذى معك ؟ فقال محمد رسول الله قال: وقد بعث ؟ قال: نعم ففتح الباب فسلمت عليه وسلم على واستغفرت له واستغفر لى وقال: مرحبا بالاخ الصالح والنبى الصالح، وتلقتنى الملائكه حتى دخلت السماء الدنيا فما لقيني ملك الا ضاحكا مستبشرا حتى لقيني ملك من الملائكه لم ار اعظم خلقا منه كريه المنظر ظاهر الغضب فقال لى مثل ما قالوا من الدعاء الا انه لم يضحك ولم ار فيه من الاستبشار ما رايت من ضحك الملائكة فقلت: من هذا يا جبرئيل فانى قد فزعت منه ؟ فقال: يجوز ان يفزع منه فكلنا نفزع منه ان هذا مالك خازن النار لم يضحك قط، ولم
يزل منذ ان ولاه الله جهنم يزداد كل يوم غضبا وغيظا على اعداء الله واهل معصيته فينتقم الله به منهم ولو ضحك إلى احد قبلك أو كان ضاحكا إلى احد بعدك لضحك اليك فسلمت عليه فرد السلام على وبشرني بالجنه. فقلت لجبرئيل وجبرئيل بالمكان الذى وصفه الله (مطاع ثم امين): الا تأمره
[ 10 ]
ان يرينى النار ؟ فقال له جبرئيل: يا مالك ار محمدا النار فكشف عنها غطاءها وفتح بابا منها فخرج منها لهب ساطع في السماء وفارت وارتفعت حتى ظننت ليتناولنى مما رايت فقلت: يا جبرئيل ! قل له فليرد عليها غطاءها فأمره فقال لها: ارجعي فرجعت إلى مكانها الذى خرجت منه. ثم مضيت فرايت رجلا آدما جسيما فقلت: من هذا يا جبرئيل ؟ فقال هذا ابوك آدم فإذا هو يعرض عليه ذريته فيقول: روح طيبة وريح طيبة من جسد طيب ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سوره المطففين على راس سبع عشره آية (كلا ان كتاب الابرار لفى عليين وما ادراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون) إلى آخرها قال: فسلمت على ابى آدم وسلم على واستغفرت له واستغفر لى، وقال: مرحبا بالابن الصالح والنبى الصالح المبعوث في الزمن الصالح. قال: ثم مررت بملك من الملائكه جالس على مجلس وإذا جميع الدنيا بين ركبتيه وإذا بيده لوح من نور ينظر فيه مكتوب فيه كتاب ينظر فيه لا يلتفت يمينا ولا شمالا، مقبلا عليه كهيئه الحزين فقلت: من هذا يا جبرئيل ؟ قال هذا ملك الموت دائب في قبض الارواح فقلت: يا جبرئيل ادننى منه حتى اكلمه فادنانى منه فسلمت عليه وقال له جبرئيل: هذا محمد نبى الرحمه الذى ارسله الله إلى العباد فرحب بى وحياني بالسلام وقال: ابشر يا محمد فانى ارى الخير كله في امتك فقلت: الحمد لله المنان ذى النعم على عباده ذلك من فضل ربى ورحمته على فقال جبرئيل: هو اشد الملائكه عملا
فقلت: اكل من مات أو هو ميت فيما بعد هذا. تقبض روحه ؟ فقال نعم. قلت: وتراهم حيث كانوا وتشهدهم بنفسك ؟ فقال: نعم. فقال ملك الموت: ما الدنيا كلها عندي فيما سخره الله لى ومكننى عليها الا كالدرهم في كف الرجل يقلبه كيف يشاء، وما من دار الا وانا اتصفحه كل يوم خمس مرات، واقول إذا بكى اهل الميت على ميتهم: لا تبكوا عليه فان لى فيكم عودة وعودة حتى لا يبقى منكم احد فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كفى بالموت طامه يا جبرئيل فقال جبرئيل: ان ما بعد الموت اطم واطم من الموت قال: ثم مضيت فإذا انا بقوم بين ايديهم موائد من لحم طيب ولحم خبيث ياكلون اللحم الخبيث ويدعون الطيب فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل ؟ فقال: هؤلاء الذين
[ 11 ]
ياكلون الحرام ويدعون الحلال وهم من امتك يا محمد. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم رايت ملكا من الملائكة جعل الله امره عجيبا نصف جسده النار والنصف الاخر ثلج فلا النار تذيب الثلج ولا الثلج تطفئ النار وهو ينادى بصوت رفيع ويقول: سبحان الذى كف حر هذه النار فلا تذيب الثلج وكف برد هذا الثلج فلا يطفئ حر هذه النار اللهم يا مؤلف بين الثلج والنار الف بين قلوب عبادك المؤمنين فقلت: من هذا يا جبرئيل ؟ فقال: هذا ملك وكله الله باكناف السماء واطراف الارضين وهو انصح ملائكة الله لاهل الارض من عباده المؤمنين يدعو لهم بما تسمع منذ خلق. ورايت ملكين يناديان في السماء احدهما يقول: اللهم اعط كل منفق خلفا والاخر يقول: اللهم اعط كل ممسك تلفا. ثم مضيت فإذا انا باقوام لهم مشافر كمشافر الابل يقرض اللحم من جنوبهم ويلقى في افواههم فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل ؟ فقال: هؤلاء الهمازون اللمازون. ثم مضيت فإذا انا باقوام ترضخ رؤسهم بالصخر فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل ؟
فقال: هؤلاء الذين ينامون عن صلاة العشاء. ثم مضيت فإذا انا باقوام تقذف النار في افواههم وتخرج من ادبارهم فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل ؟ قال: هؤلاء الذين ياكلون اموال اليتامى ظلما انما ياكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا. ثم مضيت فإذا انا باقوام يريد احدهم ان يقوم فلا يدر من عظم بطنه فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل ؟ قال: هؤلاء الذين ياكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان من المس. وإذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا يقولون ربنا متى تقوم الساعه ؟. قال: ثم مضيت فإذا انا بنسوان معلقات بثديهن فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل فقال: هؤلاء اللواتى يورثن اموال ازواجهن اولاد غيرهم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اشتد غضب الله على امراة ادخلت على قوم في نسبهم من ليس منهم فاطلع على عوراتهم واكل خزائنهم. ثم قال: مررنا بملائكه من ملائكه الله عزوجل خلقهم الله كيف شاء ووضع
[ 12 ]
وجوههم كيف شاء، ليس شئ من اطباق اجسادهم الا وهو يسبح الله ويحمده من كل ناحية باصوات مختلفة اصواتهم مرتفعة بالتحميد والبكاء من خشية الله فسالت جبرئيل عنهم فقال: كما ترى خلقوا ان الملك منهم إلى جنب صاحبه ما كلمهم كلمة قط ولا رفعوا رؤسهم إلى ما فوقهاو لا خفضوهاالى ما تحتها خوفا من الله وخشوعا فسلمت عليهم فردوا على ايماء برؤوسهم لا ينظرون إلى من الخشوع فقال لهم جبرئيل: هذا محمد نبى الرحمة ارسله الله إلى العباد رسولا ونبيا. وهو خاتم النبيين وسيد هم افلا تكلمونه ؟ قال: فلما سمعوا ذلك من جبرئيل اقبلوا على بالسلام واكرموني وبشرونى بالخير لى ولامتى. قال: ثم صعدنا إلى السماء الثانية فإذا فيها رجلان متشابهان فقلت: من هذان
يا جبرئيل ؟ فقال لى: ابنا الخالة يحيى وعيسى عليهما السلام فسلمت عليهما وسلما على واستغفرت لهما واستغفرا لى وقالا: مرحبا بالاخ الصالح والنبى الصالح وإذا فيها من الملائكة وعليهم الخشوع قد وضع الله وجوههم كيف شاء ليس منهم ملك الا يسبح الله بحمده باصوات مختلفة. ثم صعدنا إلى السماء الثالثة فإذا فيها رجل فضل حسنه على سائر الخلق كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم فقلت: من هذا يا جبرئيل ؟ فقال: هذا اخوك يوسف فسلمت عليه وسلم على واستغفرت له واستغفر لى، وقال: مرحبا بالنبي الصالح والاخ الصالح والمبعوث في الزمن الصالح، وإذا فيها ملائكه عليهم من الخشوع مثل ما وصفت في السماء الاولى والثانية، وقال لهم جبرئيل في امرى ما قال للاخرين وصنعوا في مثل ما صنع الاخرون. ثم صعدنا إلى السماء الرابعة وإذا فيها رجل فقلت: من هذا يا جبرئيل ؟ فقال هذا ادريس رفعه الله مكانا عليا فسلمت عليه وسلم على واستغفرت له واستغفر لى، وإذا فيها من الملائكه الخشوع مثل ما في السموات التى عبرناها فبشروني بالخير لى ولامتى، ثم رايت ملكا جالسا على سرير تحت يديه سبعون الف ملك تحت كل ملك سبعون الف ملك فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه هو فصاح به جبرئيل فقال: قم فهو قائم إلى يوم القيامة.
[ 13 ]
ثم صعدنا إلى السماء الخامسة فإذا فيها رجل كهل عظيم العين لم اركهلا اعظم منه حوله ثلة من امته فاعجبني كثرتهم فقلت: من هذا يا جبرئيل ؟ فقال: هذا المحبب في قومه هارون بن عمران فسلمت عليه وسلم على واستغفرت له واستغفر لى وإذا فيها من الملائكه الخشوع مثل ما في السماوات. ثم صعدنا إلى السماء السادسة وإذا فيها رجل آدم طويل كانه من شنوة ولو ان له
قميصين لنفذ شعره فيهما وسمعته يقول: يزعم بنو اسرائيل انى اكرم ولد آدم على الله وهذا رجل اكرم على الله منى فقلت: من هذا يا جبرئيل ؟ فقال: هذا اخوك موسى بن عمران فسلمت عليه وسلم على واستغفرت له واستغفر لى، وإذا فيها من الملائكه الخشوع مثل ما في السماوات. قال: ثم صعدنا إلى السماء السابعة فما مررت بملك من الملائكة الا قالوا: يا محمد احتجم وامر امتك بالحجامة، وإذا فيها رجل اشمط الراس واللحية جالس على كرسى فقلت: يا جبرئيل من هذا الذى في السماء السابعة على باب البيت المعمور في جوار الله ؟ فقال: هذا يا محمد ابوك ابراهيم وهذا محلك ومحل من اتقى من امتك ثم قرء رسول الله: (ان اولى الناس بابراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولى المؤمنين) فسلمت عليه وسلم على وقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح والمبعوث في الزمن الصالح وإذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السموات فبشروني بالخير لى ولامتى. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ورايت في السماء السابعة بحارا من نور تتلألأ تلالؤها يخطف بالابصار، وفيها بحار من ظلمة وبحار من ثلج ترعد فكلما فزعت ورايت هولا سالت جبرئيل فقال: ابشر يا محمد واشكر كرامة ربك واشكر الله بما صنع اليك قال: فثبتني الله بقوته وعونه حتى كثر قولى لجبرئيل وتعجبي. فقال جبرئيل: يا محمد تعظم ما ترى ؟ انما هذا خلق من خلق ربك فكيف بالخالق الذى خلق ما ترى وما لا ترى اعظم من هذا من خلق ربك ان بين الله وبين خلقه سبعين الف حجاب واقرب الخلق إلى الله انا واسرافيل وبيننا وبينه اربعة حجب حجاب من نور وحجاب من الظلمه وحجاب من الغمامة وحجاب من الماء.
[ 14 ]
قال: ورايت من العجائب التى خلق الله وسخر على ما اراده ديكا رجلاه في
تخوم الارضين السابعة وراسه عند العرش وهو ملك من ملائكة الله تعالى خلقه الله كما اراد رجلاه في تخوم الارضين السابعة ثم اقبل مصعدا حتى خرج في الهواء إلى السماء السابعة وانتهى فيها مصعدا حتى انتهى قرنه إلى قرب العرش وهو يقول: سبحان ربى حيثما كنت لا تدرى اين ربك من عظم شانه، و له جناحان في منكبه إذا نشرهما جاوزا المشرق والمغرب فإذا كان في السحر نشر جناحيه وخفق بهما وصرخ بالتسبيح يقول: سبحان الله الملك القدوس، سبحان الله الكبير المتعال لا اله الا الله الحى القيوم وإذا قال ذلك سبحت ديوك الارض كلها وخفقت باجنحتها واخذت بالصراخ فإذا سكت ذلك الديك في السماء سكت ديوك الارض كلها، ولذلك الديك زغب اخضر وريش ابيض كاشد بياض ما رايته قط، وله زغب اخضر ايضا تحت ريشه الابيض كاشد خضره ما رايتها قط. قال: ثم مضيت مع جبرئيل فدخلت البيت المعمور فصليت فيه ركعتين ومعى اناس من اصحابي عليهم ثياب جدد وآخرين عليهم ثياب خلقان فدخل اصحاب الجدد وجلس اصحاب الخلقان. ثم خرجت فانقاد لى نهران نهر يسمى الكوثر ونهر يسمى الرحمة فشربت من الكوثر واغتسلت من الرحمة ثم انقادا لى جميعا حتى دخلت الجنة وإذا على حافتيها بيوتي وبيوت اهلي وإذا ترابها كالمسك، وإذا جاريه تنغمس في انهار الجنة فقلت: لمن انت يا جارية ؟ فقالت: لزيد بن حارثة فبشرته بها حين اصبحت، وإذا بطيرها كالبخت، وإذا رمانها مثل الدلى العظام، وإذا شجرة لو ارسل طائر في اصلها ما دارها سبعمائة سنة، وليس في الجنة منزل الا وفيه غصن منها فقلت: ما هذه يا جبرئيل ؟ فقال: هذه شجرة طوبى قال الله (طوبى لهم وحسن ماب). قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فلما دخلت الجنة رجعت إلى نفسي فسالت جبرئيل عن تلك
البحار وهولها واعاجيبها فقال: هي سرادقات الحجب التى احتجب الله تبارك وتعالى بها ولو لا تلك الحجب لهتك نور العرش كل شئ فيه. وانتهيت إلى سدرة المنتهى فإذا الورقة منها تظل امة من الامم فكنت منها كما
[ 15 ]
قال الله تعالى (قاب قوسين أو ادنى) فناداني (آمن الرسول بما انزل إليه من ربه) فقلت انا مجيبا عنى وعن امتى: (والمؤمنون كل آمن بالله وكتبه ورسله لا نفرق بين احد من رسله وقالوا سمعناو اطعنا غفرانك ربنا واليك المصير) فقال الله (لا يكلف الله نفسا الا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) فقلت: (ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو اخطانا) فقال الله لا اؤاخذك، فقلت (ربنا ولا تحمل علينا اصرا كما حملته على الذين من قبلنا) فقال الله: لا احملك فقلت: (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا انت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) فقال الله تبارك وتعالى: قد اعطيتك ذلك لك ولامتك، فقال الصادق عليه السلام ما وفد إلى الله تعالى احد اكرم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين سال لامته هذه الخصال. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رب اعطيت انبياءك فضائل فاعطني فقال الله: قد اعطيتك فيما اعطيتك كلمتين من تحت عرشى: لا حول ولا قوة الا بالله، ولا منجا منك الا اليك. قال: وعلمتني الملائكة قولا اقوله إذا اصبحت وامسيت: اللهم ان ظلمي اصبح مستجيرا بعفوك، وذنبي اصبح مستجيرا بمغفرتك وذلى اصبح مستجيرا بعزتك، وفقرى اصبح مستجيرا بغناك ووجهى الفاني اصبح مستجيرا بوجهك الباقي الذى لا يفنى، واقول ذلك إذا امسيت. ثم سمعت الاذان فإذا ملك يؤذن لم ير في السماء قبل تلك الليلة فقال: الله اكبر الله اكبر فقال الله: صدق عبدى انا اكبر من كل شئ فقال: (اشهد ان لا اله الا
الله اشهد ان لا اله الا الله) فقال الله: صدق عبدى انا الله لا اله الا انا ولا اله غيرى فقال: (اشهد ان محمدا رسول الله اشهد ان محمدا رسول الله) فقال الله: صدق عبدى ان محمدا عبدى ورسولي انا بعثته وانتجبته فقال: (حى على الصلاة حى على الصلاة) فقال: صدق عبدى دعا إلى فريضتي فمن مشى إليها راغبا فيها محتسبا كانت له كفارة لما مضى من ذنوبه فقال: (حى على الفلاح حى على الفلاح) فقال الله: هي الصلاح والنجاح والفلاح. ثم اممت الملائكة في السماء كما اممت الانبياء في بيت المقدس. قال: ثم غشيتني ضبابة فخررت ساجدا فناداني ربى انى قد فرضت على كل نبى
[ 16 ]
كان قبلك خمسين صلاة وفرضتها عليك وعلى امتك فقم بها انت في امتك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فانحدرت حتى مررت على ابراهيم فلم يسالنى عن شئ حتى انتهيت إلى موسى فقال: ما صنعت يا محمد ؟ فقلت: قال ربى: فرضت على كل نبى كان قبلك خمسين صلاة وفرضتها عليك وعلى امتك: فقال موسى: يا محمد ان امتك آخرالامم واضعفها وان ربك لا يزيده شئ وان امتك لا تستطيع ان تقوم بها فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لامتك. فرجعت إلى ربى حتى انتهيت إلى سدرة المنتهى فخررت ساجدا ثم قلت: فرضت على وعلى امتى خمسين صلاة ولا اطيق ذلك ولا امتى فخفف عنى فوضع عنى عشرا فرجعت إلى موسى فاخبرته فقال: ارجع لا تطيق فرجعت إلى ربى فوضع عنى عشرا فرجعت إلى موسى فاخبرته فقال ارجع وفي كل رجعة ارجع إليه اخر ساجدا حتى رجع إلى عشر صلوات فرجعت إلى موسى واخبرته فقال: لا تطيق فرجعت إلى ربى فوضع عنى خمسا فرجعت إلى موسى واخبرته فقال: لا تطيق فقلت: قد استحيت من ربى ولكن اصبر عليها فناداني مناد: كما صبرت عليها فهذه الخمس بخمسين كل صلاة بعشر، ومن هم من امتك بحسنة يعملها فعملها كتبت له عشرا وان لم يعمل كتبت له
واحدة، ومن هم من امتك بسيئة فعملها كتبت عليه واحدة وان لم يعملها لم اكتب عليه. فقال الصادق عليه السلام: جزى الله موسى عن هذه الامة خيرا فهذا تفسير قول الله: (سبحان الذى اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذى باركنا حوله لنريه من آياتنا انه هو السميع البصير). اقول: وقد ورد ما يقرب مما قصته هذه الرواية في روايات كثيرة جدا من طرق الشيعة واهل السنة، وقوله في الرواية (رجلا آدما) يقال: رجل آدم أي اسمر اللون، والطامة هي الامر الشديد الذى يغلب ما سواه، ولذلك سميت القيامة بالطامة، والاكتاف جمع كتف والمراد الاطراف والنواحى، وقوله: (فوقع في نفس رسول الله انه هو) أي انه الملك الذى يدبر امر العالم وينتهى إليه كل امر. وقوله: شنوة بالشين والنون والواو وربما يهمز قبيلة كانوا معروفين بطول القامة،
[ 17 ]
وقوله: (اشمط الراس واللحية) الشمط بياض الشعر يخالطه سواد، والزغب اول ما يبدو من الشعر والريش وصغارهما، والبخت الابل الخراساني والدلى بضم الدال وكسر اللام وتشديد الياء جمع دلو على فعول، والصبابه بفتح الصاد المهملة والباء الموحدة الشوق والهوى الرقيق وبالمعجمة مضمومة الغيم الرقيق. وفي امالي الصدوق عن ابيه عن على عن ابيه عن ابن ابى عمير عن ابان بن عثمان عن ابى عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال: لما اسرى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت المقدس حمله جبرئيل على البراق فاتيا بيت المقدس وعرض عليه محاريب الانبياء وصلى بها ورده فمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رجوعه بعير لقريش وإذا لهم ماء في آنية وقد اضلوا بعيرا لهم وكانوا يطلبونه فشرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك الماء واهرق باقيه.
فلما اصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لقريش: ان الله جل جلاله قد اسرى بى الى بيت المقدس واراني آثار الانبياء ومنازلهم، وانى مررت بعير لقريش في موضع كذا وكذا وقد اضلوا بعيرا لهم فشربت من مائهم واهرقت باقى ذلك فقال أبو جهل: قد امكنتكم الفرصة منه فاسألوه كم الاساطين فيها والقناديل ؟ فقالوا: يا محمد ان هاهنا من قد دخل بيت المقدس فصف لنا كم اساطينه وقناديله ومحاريبه ؟ فجاء جبرئيل فعلق صورة بيت المقدس تجاه وجهه فجعل يخبرهم بما يسالونه عنه فلما اخبرهم، قالو: حتى يجئ العير ونسالهم عما قلت، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تصديق ذلك ان العير يطلع عليكم مع طلوع الشمس يقدمها جمل اورق. فلما كان من الغد اقبلوا ينظرون إلى العقبة ويقولون هذه الشمس تطلع الساعة فبينما هم كذلك إذ طلعت عليهم العير حين طلع القرص يقدمها جمل اورق فسألوهم عما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: لقد كان هذا: ضل جمل لنافى موضع كذا وكذا، ووضعنا ماء فاصبحنا وقد اهريق الماء فلم يزدهم ذلك الا عتوا. اقول: وفى معناها روايات اخرى من طرق الفريقين. وفيه باسناده عن عبد الله بن عباس قال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما اسرى به إلى السماء انتهى به جبرئيل إلى نهر يقال له النور وهو قوله عزوجل: (جعل الظلمات
[ 18 ]
والنور) فلما انتهى به إلى ذلك قال له جبرئيل: يا محمد اعبر على بركة الله فقد نور الله لك بصرك ومر لك امامك فان هذا نهر لم يعبره احد لا ملك مقرب ولا نبى مرسل غير ان لى في كل يوم اغتماسة فيه ثم اخرج منه فانفض اجنحتي فليس من قطرة تقطر من اجنحتي الا خلق الله تبارك وتعالى منها ملكا مقربا له عشرون الف وجه واربعون الف لسان كل لسان يلفظ بلغة لا يفقهها اللسان الاخر. فعبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتهى إلى الحجب والحجب خمس مائة حجاب من
الحجاب إلى الحجاب مسيرة خمسمائة عام ثم قال: تقدم يا محمد فقال له: يا جبرئيل ولم لا تكون معى ؟ قال: ليس لى ان اجوز هذا المكان فتقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما شاء الله ان يتقدم حتى سمع ما قال الرب تبارك وتعالى: انا المحمود وانت محمد شققت اسمك من اسمى فمن وصلك وصلته ومن قطعك بتكته انزل إلى عبادي فاخبرهم بكرامتي اياك وانى لم ابعث نبيا الا جعلت له وزيرا وانك رسولي وان عليا وزيرك. وفي المناقب عن ابن عباس في خبر: وسمع يعنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صوتا (آمنا برب العالمين) قال يعنى جبرئيل: هؤلاء سحرة فرعون، وسمع لبيك اللهم لبيك قال: هؤلاء الحجاج، وسمع التكبير قال: هؤلاء الغزاة، وسمع التسبيح قال: هؤلاء الانبياء. فلما بلغ إلى سدرة المنتهى وانتهى إلى الحجب، قال جبرئيل: تقدم يا رسول الله ليس لى ان اجوز هذا المكان ولو دنوت انملة لاحترقت. وفي الاحتجاج عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما احتج على اليهود: حملت على جناح جبرئيل حتى انتهيت إلى السماء السابعة فجاوزت سدرة المنتهى عندها جنة الماوى حتى تعلقت بساق العرش فنوديت من ساق العرش: انى انا الله لا اله الا انا السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الرؤف الرحيم فرأيته بقلبي وما رايته بعينى. الخبر. وفي الكافي باسناده عن ابى الربيع قال: حججنا مع ابى جعفر عليه السلام في السنة التى كان حج فيها هشام بن عبد الملك وكان معه نافع مولى عمر بن الخطاب فنظر نافع إلى ابى جعفر عليه السلام في ركن البيت وقد اجتمع إليه الناس فقال نافع: يا امير المؤمنين من هذا الذى قد تداك عليه الناس ؟ فقال: هذا نبى اهل الكوفة هذا محمد بن على
[ 19 ]
فقال: اشهد لاتينه فلا سالنه من مسائل لا يجيبنى فيها الا نبى أو وصى أو ابن نبى. قال: فاذهب إليه واساله لعلك تخجله.
فجاء نافع حتى اتكى على الناس ثم اشرف على ابى جعفر عليه السلام وقال: يا محمد بن على انى قرات التوراة والانجيل والزبور والفرقان وقد عرفت حلالها وحرامها، وقد جئت اسالك عن مسائل لا يجيب فيها الا نبى أو وصى نبى أو ابن نبى. قال: فرفع أبو جعفر عليه السلام راسه وقال: سل عما بدا لك. فقال: اخبرني كم بين عيسى وبين محمد من سنة ؟ قال: اخبرك بقولى أو بقولك قال: اخبرني بالقولين جميعا قال: اما في قولى فخمسمائة سنة، واما في قولك فستمائة سنة، قال فاخبرني عن قول الله عزوجل: (واسال من ارسلنا من قبلك من رسلنا ا جعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون) من الذى ساله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكان بينه وبين عيسى عليه السلام خمسمائة سنة ؟. قال: فتلا أبو جعفر عليه السلام هذه الاية: (سبحان الذى اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذى باركنا حوله لنريه من آياتنا) فكان من الايات التى اراها الله تبارك وتعالى محمدا صلى الله عليه وآله وسلم حيث اسرى به إلى البيت المقدس ان حشر الله الاولين والاخرين من النبيين المرسلين ثم امر جبرئيل فاذن شفعا واقام شفعا، وقال في اذانه حى على خير العمل ثم تقدم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فصلى بالقوم. فلما انصرف قال لهم: على ما تشهدون ؟ ما كنتم تعبدون ؟ قالوا نشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له وانك رسول الله اخذ على ذلك عهودنا ومواثيقنا. فقال: نافع: صدقت يا ابا جعفر. وفي العلل باسناد عن ثابت بن دينار قال: سالت زين العابدين على بن الحسين عليه السلام عن الله جل جلاله هل يوصف بمكان ؟ فقال: تعالى الله عن ذلك. قلت: فلم اسرى بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء ؟ قال: ليريه ملكوت السماوات وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه. قلت: فقول الله عزوجل: (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو ادنى) قال:
ذاك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دنا من حجب النور فراى ملكوت السماوات ثم تدلى فنظر من
[ 20 ]
تحته إلى ملكوت الارض حتى ظن انه في القرب من الارض كقاب قوسين أو ادنى. وفي تفسير القمى باسناده عن اسماعيل الجعفي قال: كنت في المسجد الحرام قاعدا وابو جعفر عليه السلام في ناحية فرفع راسه فنظر إلى السماء مرة وإلى الكعبة مرة ثم قال: (سبحان الذى اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى) وكرر ذلك ثلاث مرات ثم التفت إلى فقال: أي شئ يقولون اهل العراق في هذه الاية يا عراقى ؟ قلت: يقولون اسرى به من المسجد الحرام إلى البيت المقدس. فقال: ليس هو كما يقولون ولكنه اسرى به من هذه إلى هذه واشار بيده إلى السماء وقال: ما بينهما حرم. قال: فلما انتهى به إلى سدرة المنتهى تخلف عنه جبرئيل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبرئيل افي مثل هذا الموضع تخذلني ؟ فقال: تقدم امامك فو الله لقد بلغت مبلغا لم يبلغه خلق من خلق الله قبلك فرايت ربى وحال بينى وبينه السبحة قلت: وما السبحة جعلت فداك ؟ فاوما بوجهه إلى الارض واو ما بيده إلى السماء وهو يقول: جلال ربى جلال ربى، ثلاث مرات. قال: يا محمد قلت: لبيك يا رب قال: فيم اختصم الملا الاعلى ؟ قلت سبحانك لا علم لى الا ما علمتني. قال فوضع يده بين ثديى فوجدت بردها بين كتفي. قال: فلم يسالنى عما مضى ولا عما بقى الا علمته فقال: يا محمد فيم اختصم الملا الاعلى ؟ قال: قلت: في الدرجات والكفارات والحسنات فقال: يا محمد انه قد انقضت نبوتك وانقطع اكلك فمن وصيك ؟ فقلت: يا رب انى قد بلوت خلقك فلم ار فيهم من خلقك احدا اطوع لى من على فقال: ولى يا محمد فقلت: يا رب انى قد بلوت خلقك فلم ار من خلقك احدا اشد حبا لى من على بن ابى طالب قال: ولى يا محمد فبشره بانه آية الهدى وامام اوليائي ونور لمن اطاعني والكلمة الباقية التى الزمتها المتقين من احبه احبني ومن ابغضه ابغضنى معما انى
اخصه بما لم اخص به احدا فقلت: يا رب اخى وصاحبى ووزيرى ووارثى فقال: انه امر قد سبق انه مبتلى ومبتلى به معما انى قد نحلته ونحلته ونحلته ونحلته اربعة اشياء عقدها بيده ولا يفصح بما عقدها. اقول: قوله عليه السلام: (ولكنه اسرى به من هذه إلى هذه) أي من الكعبة إلى البيت المعمور، وليس المراد به نفى الاسراء إلى بيت المقدس ولا تفسير المسجد
[ 21 ]
الاقصى في الاية بالبيت المعمور بل المراد نفى ان ينتهى الاسراء إلى بيت المقدس ولا يتجاوزه فقد استفاضت الروايات بتفسير المسجد الاقصى ببيت المقدس. وقوله: صلى الله عليه وآله وسلم: (فرايت ربى) أي شاهدته بعين قلبى كما تقدم في بعض الروايات السابقة ويؤيده تفسير الرؤية بذلك في روايات اخر. وقوله: (وحالت بينى وبينه السبحة) أي بلغت من القرب والزلفى مبلغا لم يبق بينى وبينه الا جلاله وقوله: فوضع يده بين ثديى (الخ) كناية عن الرحمة الالهية، ومحصله نزول العلم من لدنه تعالى على قلبه بحيث يزيل كل ريب وشك. وفي الدر المنثور اخرج ابن ابى شيبة ومسلم وابن مردويه من طريق ثابت عن انس ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: اتيت بالبراق وهو دابة ابيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه فركبته حتى اتيت بيت المقدس فربطته بالحلقه التى يربط بها الانبياء ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين. ثم خرجت فجاءني جبريل باناء من خمر واناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل: اخترت الفطرة، ثم عرج بنا إلى سماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل: من انت ؟ قال: جبريل قيل: ومن معك ؟ قال: محمد قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا انا بادم فرحب بى ودعا لى بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل: من انت ؟ قال جبريل قيل:
ومن معك ؟ قال: محمد قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا انا بابنى الخالة عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا فرحبا بى ودعوا لى بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل: من انت ؟ قال: جبريل قيل: ومن معك ؟ قال محمد، قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا انا بيوسف وإذا هو قد اعطى شطرالحسن فرحب بى ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا ؟ قال: جبريل قيل: ومن معك ؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه: قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا انا بادريس فرحب بى ودعا لى بخير.
[ 22 ]
ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا ؟ قال: جبريل قيل ومن معك، قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا انا بهارون فرحب بى ودعا لى بخير. ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا ؟ قال: جبريل قيل: ومن معك ؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا انا بموسى فرحب بى ودعا لى بخير. ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا ؟ قال: جبريل قيل: ومن معك ؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا انا بابراهيم مسند ظهره إلى البيت المعمور وإذا يدخله كل يوم سبعون الف ملك لا يعودون إليه. ثم ذهب بى إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها فيها كاذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال فلما غشيها من امر الله ما غشى تغيرت فما احد من خلق الله يستطيع ان ينعتا من حسنها فأوحى إلى ما اوحى وفرض على خمسين صلاة في كل يوم وليلة فنزلت حتى انتهيت إلى
موسى فقال: ما فرض ربك على امتك ؟ قلت: خمسين صلاة قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فان امتك لا تطيق ذلك فانى قد بلوت بنى اسرائيل وخبرتهم. فرجعت إلى ربى فقلت: يا رب خفف عن امتى فحط عنى خمسا فرجعت إلى موسى فقلت: حط عنى خمسا فقال: ان امتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف قال: فلم ازل ارجع بين ربى وموسى حتى قال: يا محمد انهن خمس صلوات لكل يوم وليلة لكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة، ومن هم بحسنه فلم يعملها كتبت له حسنة فان عملها كتبت له عشرا، ومن هم بسيئه فلم يعملها لم يكتب شيئا فان عملها كتبت سيئة واحدة فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فاخبرته فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فقلت: قد رجعت إلى ربى حتى استحيت منه. اقول: وقد روى الخبر عن انس بطرق مختلفة منها ما عن البخاري ومسلم وابن جرير وابن مردويه من طريق شريك بن عبد الله بن ابى نمر عن انس قال: ليلة اسرى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مسجد الكعبة جاءه ثلاثة نفر قبل ان يوحى إليه وهو نائم في
[ 23 ]
المسجد الحرام فقال اولهم: ايهم هو ؟ فقال اوسطهم: هو خيرهم فقال احدهم خذوا خيرهم فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى اتوه ليلة اخرى فيما يرى قلبه وتنام عيناه ولا ينام قلبه وكذلك الانبياء تنام اعينهم ولا ينام قلوبهم فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم فتولاه منهم جبريل فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى انقى جوفه ثم اتى بطست من ذهب محشوا ايمانا وحكمة فحشا به صدره ولغا ديده يعنى عروق حلقه ثم اطبقه ثم عرج به إلى سماء الدنيا ثم ساق الحديث نحوا مما تقدم. والذى وقع فيه من شق بطن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغسله وانقائه ثم حشوه ايمانا وحكمة حال مثالية شاهدها وليس بالامر المادى كما ربما يزعم، ويشهد به حشوه
ايمانا وحكمة واخبار المعراج مملوءة من المشاهدات المثالية والتمثلات الروحية وقد ورد هذا المعنى في عدة من اخبار المعراج المروية من طرق القوم ولا ضير فيه كما لا يخفى. وظاهر الرواية ان معراجه صلى الله عليه وآله وسلم كان قبل البعثة وانه كان في المنام اما كونه قبل البعثة فيدفعه معظم الروايات الواردة في الاسراء وهى اكثر من ان تحصى وقد اتفق على ذلك علماء هذا الشان. على ان الحديث نفسه يدفع كون الاسراء قبل البعثة وقد اشتمل على فرض الصلوات وكونها اولا خمسين ثم سؤال التخفيف باشارة من موسى عليه السلام ولا معنى للفرض قبل النبوة فمن الحرى ان يحمل صدر الحديث على ان الملائكة اتوه اولا قبل ان يوحى إليه ثم تركوه ثم جاؤه ليلة اخرى بعد بعثته وقد ورد في بعض رواياتنا ان الذين كانوا نائمين معه في المسجد ليلة اسرى به هم حمزة بن عبد المطلب وجعفر وعلى ابنا ابى طالب. واما ما وقع فيه من كون ذلك في المنام فيمكن - على بعد - ان يكون ناظرا إلى ما ذكر فيه من حديث الشق والغسل لكن الاظهر ان المراد به وقوع الاسراء بجملته في المنام كما يدل عليه ما ياتي من الروايات. وفي الدر المنثور ايضا اخرج ابن اسحاق وابن جرير عن معاوية بن ابى سفيان انه كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كانت رؤيا من الله صادقه.
[ 24 ]
اقول: وظاهر الاية الكريمة (سبحان الذى اسرى بعبده - إلى قوله - لنريه من آياتنا) يرده، وكذا آيات صدر سورة النجم وفيها مثل قوله: (ما زاغ البصر وما طغى لقد راى من آيات ربه الكبرى) على ان الايات في سياق الامتنان وفيها ثناء على الله سبحانه بذكر بديع رحمته وعجيب قدرته، ومن الضرورى ان ذلك لا يتم برؤيا يراها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والرؤيا يراها الصالح والطالح وربما يرى الفاسق الفاجر ما هو ابدع مما يراه
المؤمن المتقى والرؤيا لا تعد عند عامة الناس الا نوعا من التخيل لا يستدل به على شئ من القدرة والسلطنة بل غاية ما فيها ان يتفاءل بها فيرجى خيرها أو يتطير بها فيخاف شرها. وفيه اخرج ابن اسحاق وابن جرير عن عائشة قالت: ما فقدت جسد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الله اسرى بروحه. اقول: ويرد عليه ما ورد على سابقه على انه يكفى في سقوط الرواية اتفاق كلمة الرواة وارباب السير على ان الاسراء كان قبل الهجرة بزمان وانه صلى الله عليه وآله وسلم بنى بعائشة في المدينة بعد الهجرة بزمان لم يختلف في ذلك اثنان والاية ايضا صريحة في اسرائه صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد الحرام. وفيه اخرج الترمذي وحسنه والطبراني وابن مردويه عن ابن مسعود: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لقيت ابراهيم ليلة اسرى بى فقال: يا محمد اقرا امتك منى السلام واخبرهم ان الجنة طيبة التربة عذبة الماء وانها قيعان وان غراسها سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر ولا حول ولا قوة الا بالله. وفيه اخرج الطبراني عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما اسرى بى إلى السماء ادخلت الجنة فوقعت على شجرة من اشجار الجنة لم ار في الجنة احسن منها ولا ابيض ورقا ولا اطيب ثمرة فتناولت ثمرة من ثمرها فاكلتها فصارت نطفة في صلبى فلما هبطت إلى الارض واقعت خديجة فحملت بفاطمة فإذا انا اشتقت إلى ريح الجنة شممت ريح فاطمة وفي تفسير القمى عن ابيه عن ابن محبوب عن ابن رئاب عن ابى عبيدة عن الصادق عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر تقبيل فاطمة فانكرت ذلك عائشة فقال
[ 25 ]
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عائشة انى لما اسرى بى الى السماء دخلت الجنة فادنانى جبرئيل
من شجرة طوبى وناولني من ثمارها فاكلته فحول الله ذلك ماء في ظهرى فلما هبطت إلى الارض واقعت خديجة فحملت بفاطمة فما قبلتها قط الا وجدت رائحة شجرة طوبى منها. وفي الدر المنثور اخرج الطبراني في الاوسط عن ابن عمران النبي صلى الله عليه وسلم لما اسرى به إلى السماء اوحى إليه بالاذان فنزل به فعلمه جبريل. وفيه اخرج ابن مردويه عن على ان النبي صلى الله عليه وسلم علم الاذان ليلة اسرى به وفرضت عليه الصلاة. وفي العلل باسناده عن اسحاق بن عمار قال: سالت ابا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام كيف صارت الصلاة ركعة وسجدتين ؟ وكيف إذا صارت سجدتين لم تكن ركعتين ؟ فقال: إذا سالت عن شئ ففرغ قلبك لتفهم. ان اول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انما صلاها في السماء بين يدى الله تبارك وتعالى قدام عرشه جل جلاله. وذلك انه لما اسرى به وصار عند عرشه تبارك وتعالى قال: يا محمد ادن من صاد فاغسل مساجدك وطهرها وصل لربك فدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حيث امره الله تبارك وتعالى فتوضأ فاسبغ وضوءه ثم استقبل الجبار تبارك وتعالى قائما فأمره بافتتاح الصلاة ففعل. فقال: يا محمد اقرا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين إلى آخرها ففعل ذلك ثم امره ان يقرا نسبة ربه تبارك وتعالى بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله احد الله الصمد ثم امسك عنه القول فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قل هو الله احد الله الصمد فقال: قل: لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد فامسك عنه القول فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كذلك الله ربى كذلك الله ربى. فلما قال ذلك قال: اركع يا محمد لربك فركع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له وهو راكع: قل سبحان ربى العظيم وبحمده ففعل ذلك ثلاثا ثم قال: ارفع راسك يا محمد
ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام منتصبا بين يدى الله فقال: اسجد يا محمد لربك
[ 26 ]
فخر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساجدا فقال: قل: سبحان ربى الاعلى وبحمده ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثا فقال: استو جالسا يا محمد ففعل فلما استوى جالسا ذكر جلال ربه جل جلاله فخر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساجدا من تلقاء نفسه لا لامر امره ربه عزوجل فسبح ايضا ثلاثا فقال: انتصب قائما ففعل فلم يرى ما كان راى من عظمة ربه جل جلاله. فقال له: اقرء يا محمد وافعل كما فعلت في الركعة الاولى ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم سجد سجدة واحدة فلما رفع راسه ذكر جلال ربه تبارك وتعالى فخر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساجدا من تلقاء نفسه لا لامر امره ربه عزوجل فسبح ايضا ثم قال له: ارفع راسك ثبتك الله واشهد ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله وان الساعة آتية لا ريب فيها وان الله يبعث من في القبور اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت وباركت وترحمت على ابراهيم وآل ابراهيم انك حميد مجيد اللهم تقبل شفاعته في امته وارفع درجته ففعل. فقال: يا محمد واستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه تبارك وتعالى وجهه مطرقا فقال: السلام عليك فاجابه الجبار جل جلاله فقال: وعليك السلام يا محمد بنعمتي قويتك على طاعتي وبعصمتي اتخذتك نبيا وحبيبا. ثم قال أبو الحسن: عليه السلام وانما كانت الصلاة التى امر بها ركعتين وسجدتين وهو صلى الله عليه وآله وسلم انما سجد سجدتين في كل ركعة كما اخبرتك من تذكره لعظمة ربه تبارك وتعالى فجعله الله عزوجل فرضا. قلت: جعلت فداك وما صاد الذى امر ان يغتسل منه ؟ فقال: عين تنفجر من ركن من اركان العرش يقال له: ماء الحياة وهو ما قال الله عزوجل: (ص والقرآن ذى الذكر) انما امره ان يتوضا و يقرء ويصلى.
اقول: وفي معناه روايات اخر. وفي الكافي باسناده عن على بن ابى حمزة قال: سال أبو بصير ابا عبد الله عليه السلام وانا حاضر فقال: جعلت فداك كم عرج برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقال: مرتين فاوقفه جبرئيل موقفا فقال له: مكانك يا محمد فلقد وقفت موقفا ما وقفه ملك قط ولا نبى
[ 27 ]
ان ربك يصلى فقال: يا جبرئيل وكيف يصلى ؟ فقال: يقول: سبوح قدوس انا رب الملائكة والروح سبقت رحمتى غضبى فقال: اللهم عفوك عفوك. قال: وكان كما قال الله: قاب قوسين أو ادنى فقال له أبو بصير: جعلت فداك وما قاب قوسين أو ادنى ؟ قال: ما بين سيتها إلى راسها فقال: بينهما حجاب يتلالا ولا اعلمه الا وقد قال: من زبرجد فنظر في مثل سم الابرة إلى ما شاء الله من نور العظمة. الحديث. اقول وآيات صدر سوره النجم تؤيد ما في الرواية من وقوع المعراج مرتين ثم الاعتبار يساعد على ما في الرواية من صلاته تعالى فان الاصل في معنى الصلاة الميل والانعطاف، وهو من الله سبحانه الرحمة ومن العبد الدعاء كما قيل، واشتمال ما اخبر به جبرئيل من صلاته تعالى على قوله: (سبقت رحمتى غضبى) يؤيد ما ذكرناه ولذلك ايضا اوقفه جبرئيل في الموقف الذى اوقفه وذكر له انه موطا ما وطئه احد قبله وذلك ان لازم ما وصفه بهذا الوصف ان يكون الموقف هو الحد الفاصل بين الخلق والخالق وآخر ما ينتهى إليه الانسان من الكمال فهو الحد الذى يظهر فيه الرحمة الالهية وتفاض على ما دونه ولهذا اوقف صلى الله عليه وآله وسلم لمشاهدته. وفي المجمع - وهو ملخص من الروايات - ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اتانى جبرائيل وانا بمكه فقال: قم يا محمد فقمت معه وخرجت إلى الباب فإذا جبرائيل ومعه ميكائيل واسرافيل فاتى جبرائيل بالبراق وكان فوق الحمار ودون البغل خده كخد
الانسان وذنبه كذنب البقر وعرفه كعرف الفرس وقوائمه كقوائم الابل عليه رحل من الجنة وله جناحان من فخذيه خطوه منتهى طرفه فقال: اركب فركبت ومضيت حتى انتهيت إلى بيت المقدس ثم ساق الحديث إلى ان قال: فلما انتهيت إلى بيت المقدس إذا ملائكه نزلت من السماء بالبشارة والكرامة من عند رب العزة وصليت في بيت المقدس، وفي بعضها - بشر لى ابراهيم - في رهط من الانبياء ثم وصف موسى وعيسى ثم اخذ جبرائيل بيدى إلى الصخرة فاقعدني عليها فإذا معراج إلى السماء لم ار مثلها حسنا وجمالا. فصعدت إلى السماء الدنيا ورايت عجائبها وملكوتها وملائكتها يسلمون على ثم صعد بى جبرائيل إلى السماء الثانية فرايت فيها عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا. ثم
[ 28 ]
صعد بى إلى السماء الثالثة فرايت فيها يوسف. ثم صعد بى إلى السماء الرابعة فرايت فيها ادريس. ثم صعد بى إلى السماء الخامسة فرايت فيها هارون ثم صعد بى إلى السماء السادسة فإذا فيها خلق كثير يموج بعضهم في بعض وفيها الكروبيون ثم صعد بى إلى السماء السابعة فابصرت فيها خلقا وملائكة - وفي حديث ابى هريره رايت في السماء السادسة موسى، ورايت في السماء السابعة ابراهيم. قال: ثم جاوزناها متصاعدين إلى اعلى عليين - ووصف ذلك إلى ان قال - ثم كلمني ربى وكلمته، ورايت الجنة والنار، ورايت العرش وسدرة المنتهى ثم رجعت إلى مكة فلما اصبحت حدثت به الناس فكذبني أبو جهل والمشركون وقال مطعم بن عدى: اتزعم انك سرت مسيرة شهرين في ساعة ؟ اشهد انك كاذب. قالوا: ثم قالت قريش، اخبرنا عما رايت فقال: مررت بعير بنى فلان وقد اضلوا بعيرا لهم وهم في طلبه وفي رحلهم قعب (1) مملوء من ماء فشربت الماء ثم غطيته فاسألوهم هل وجدوا الماء في القدح ؟ قالوا: هذه آية واحدة.
قال: ومررت بعير بنى فلان فنفرت بكرة فلان فانكسرت يدها فاسألوهم عن ذلك فقالوا: هذه آية اخرى قالوا: فاخبرنا عن عيرنا قال: مررت بها بالتنعيم وبين لهم احمالها وهياتها وقال: يقدمها جمل اورق عليه فزارتان محيطتان وتطلع عليكم عند طلوع الشمس قالوا: هذه آية اخرى. ثم خرجوا يشتدون نحو التيه وهم يقولون: لقد قضى محمد بيننا وبينه قضاء بينا، وجلسوا ينتظرون متى تطلع الشمس فيكذبوه ؟ فقال قائل: والله ان الشمس قد طلعت، وقال آخر: والله هذه الابل قد طلعت يقدمها بعير اورق فبهتوا ولم يؤمنوا. وفي تفسير العياشي عن هشام بن الحكم عن ابى عبد الله عليه السلام قال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى العشاء الاخرة وصلى الفجر في الليلة التى اسرى به بمكة. اقول: وفي بعض الاخبار انه صلى الله عليه وآله وسلم صلى المغرب بالمسجد الحرام ثم اسرى به ولا منافاة بين الروايتين وكذا لا منافاة بين كونه صلى المغرب أو العشاء الاخرة والفجر
[ 29 ]
بمكة وبين كون الصلوات الخمس فرضت عليه في السماء ليلة الاسراء فان فرض اصل الصلاة كان قبل ذلك، واما انها كم ركعة كانت فغير معلوم غير ان الاثار تدل على انه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقيم الصلاة منذ بعثه الله نبيا وفى سورة العلق: (ارايت الذى ينهى عبدا إذا صلى) وقد روى انه صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلى بعلى وخديجة عليه السلام بالمسجد الحرام قبل ان يعلن دعوتة بمدة. وفى الكافي عن العامري عن ابى جعفر عليه السلام قال: لما عرج برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نزل بالصلاة عشر ركعات ركعتين ركعتين فلما ولد الحسن والحسين عليه السلام زاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبع ركعات شكرا لله فاجاز الله له ذلك وترك الفجر لم يزد فيها لانه يحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار فلما امر الله بالتقصير في السفر وضع عن امته ست ركعات وترك المغرب لم ينقص منه شيئا، وانما يجب السهو فيما زاد رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فمن شك في اصل الفرض في الركعتين الاوليين استقبل صلاته. وروى الصدوق في الفقيه باسناده عن سعيد بن المسيب انه سال على بن الحسين عليه السلام فقال: متى فرضت الصلاة على المسلمين على ما هي اليوم عليه ؟ فقال: بالمدينة حين ظهرت الدعوة وقوى الاسلام وكتب الله على المسلمين الجهاد زاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة سبع ركعات في الظهر ركعتين وفي العصر ركعتين وفي المغرب ركعة وفي العشاء الاخرة ركعتين، واقر الفجر على ما فرضت بمكة. الحديث. وفي الدر المنثور اخرج احمد والنسائي والبزاز والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما اسرى بى مرت بى رائحة طيبة فقلت: يا جبرئيل ما هذه الرائحة الطيبة ؟ قال: ما شطة بيت فرعون واولادها كانت تمشطها فسقط المشط من يدها فقالت: بسم الله فقالت ابنة فرعون: ابى ؟ قالت: بلى ربى وربك ورب ابيك قالت: اولك رب غير ابى ؟ قالت: نعم قالت: فاخبر بذلك ابى ؟ قالت: نعم. فاخبرته فدعاها فقال: الك رب غيرى ؟ قالت: نعم ربى وربك الله الذى في السماء فامر ببقرة من محاس فاحميت ثم امر بها لتلقى فيها واولادها. قالت: ان لى اليك حاجة قال: وما هي ؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدى فتدفنه جميعا. قال:
[ 30 ]
ذلك لك لما لك علينا من حق فالقوا واحدا واحدا حتى بلغ رضيعا فيهم قال: نعى يا امه ولا تقاعسي فانك على الحق فالقيت هي وولدها. قال ابن عباس: وتكلم اربعة وهم صغار: هذا وشاهد يوسف وصاحب جريح وعيسى بن مريم. اقول: وروى من وجه آخر عن ابن عباس عن ابى بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه اخرج ابن مردويه عن انس ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ليلة اسرى بى مررت
بناس يقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت عادت كما كانت فقلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء خطباء امتك الذين يقولون ما لا يفعلون اقول: وهذا النوع من التمثلات البرزخية التى تصور الاعمال بنتائجها والعذابات المعدة لها كثيرة الورود في اخبار الاسراء وقد تقدم شطر منها في ضمن الروايات. واعلم ان ما اوردناه من اخبار الاسراء نبذة يسيرة منها وهى كثيرة بالغة حد التواتر رواها جم غفير من الصحابة كانس بن مالك وشداد بن الاوس وعلى بن ابى طالب عليه السلام وابو سعيد الخدرى وابو هريرة وعبد الله بن مسعود وعمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وابى بن كعب وسمرة بن جندب وبريدة وصهيب بن سنان وحذيفة بن اليمان وسهل بن سعد وابو ايوب الانصاري وجابر بن عبد الله وابو الحمراء وابو الدرداء وعروة وام هاني وام سلمة وعائشة واسماء بنت ابى بكر كلهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وروتها جماعة كثيرة من رواة الشيعة عن ائمة اهل البيت عليه السلام. وقد اتفقت اقوال من يعتنى بقوله من علماء الاسلام على ان الاسراء كان بمكة قبل الهجرة كما يستفاد من قوله تعالى: (سبحان الذى اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام) الاية، ويدل عليه ما اشتملت عليه كثير من الروايات من اخباره صلى الله عليه وآله وسلم قريشا بذلك صبيحة ليلته وانكارهم ذلك عليه واخباره اياهم باساطين المسجد الاقصى وما لقيه في الطريق من العير وغير ذلك. ثم اختلفوا في السنة التى اسرى به صلى الله عليه وآله وسلم فيها فقيل: في السنة الثانية من البعثة كما
[ 31 ]
عن ابن عباس، وقيل في السنة الثالثة منها كما في الخرائج عن على عليه السلام. وقيل في السنة الخامسة أو السادسة، وقيل بعد البعثة بعشر سنين وثلاثة اشهر، وقيل في السنة الثانية عشرة منها، وقيل: قبل الهجرة بسنة وخمسة اشهر، وقيل: قبلها
بسنة وثلاثة اشهر، وقيل: قبلها بستة اشهر. ولا يهمنا الغور في البحث عن ذلك ولا عن الشهر واليوم الذى وقع فيه الاسراء ولا مستند يصح التعويل عليه لكن ينبغى ان يتنبه ان من الروايات المأثورة عن ائمة اهل البيت عليه السلام ما يصرح بوقوع الاسراء مرتين وهو المستفاد من آيات سورة النجم حيث يقول سبحانه: (ولقد رآه نزلة اخرى) الايات على ما سيوافيك ان شاء الله من تفسيره. وعلى هذا فمن الجائز ان يكون ما وصفه صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الروايات من عجيب ما شاهده راجعا إلى ما شاهده في الاسراء الاول وبعض ما وصفه في بعض آخر راجعا إلى الاسراء الثاني، وبعضه مما شاهده في الاسراءين معا. ثم اختلفوا في المكان الذى اسرى به صلى الله عليه وآله وسلم منه فقيل: اسرى به من شعب ابى طالب وقيل: اسرى به من بيت ام هاني وفي بعض الروايات دلالة على ذلك وقد اولوا قوله تعالى: (اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام) إلى ان المراد بالمسجد الحرام الحرم كله مجازا فيشمل مكة، وقيل: اسرى به من نفس المسجد الحرام لظهور الاية الكريمة فيه ولا دليل على التأويل. ومن الجائز بالنظر إلى ما نبهنا به من كون الاسراء مرتين ان يكون احد الاسراءين من المسجد الحرام والاخر من بيت ام هاني، واما كونه من الشعب فما ذكر فيما ذكر فيه من الروايات ان ابا طالب كان يطلبه طول ليلته وانه اجتمع هو وبنو هاشم في المسجد الحرام ثم سل سيفه وهدد قريشا ان لم يحصل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم نزوله من السماء ومجيئه إليهم واخباره قريشا بما راى كل ذلك لا يلائم ما كان هو صلى الله عليه واله وسلم وبنو هاشم جميعا عليه من الشدة والبلية ايام كانوا في الشعب. وعلى أي حال فالاسراء الذى تعطيه الايه: (سبحان الذى اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى) وهو الاسراء الذى كان إلى بيت المقدس كان مبدؤه
[ 32 ]
المسجد الحرام لكمال ظهور الاية ولا موجب للتأويل. ثم اختلفوا في كيفية الاسراء فقيل: كان اسراؤه عليه السلام بروحه وجسده من المسجد الحرام إلى بيت المقدس ثم منه إلى السماوات وعليه الاكثر وقيل: كان بروحه وجسده من مكة إلى بيت المقدس ثم بروحه من بيت المقدس إلى السماوات وعليه جمع، وقيل: كان بروحه عليه السلام وهو رؤيا صادقة اراها الله نبيه ونسب إلى بعضهم. قال في المناقب: اختلف الناس في المعراج فالخوارج ينكرونه، وقالت الجهميه: عرج بروحه دون جسمه على طريق الرؤيا، وقالت الامامية والزيدية والمعتزلة: بل عرج بروحه وبجسمه إلى البيت المقدس لقوله تعالى: (إلى المسجد الاقصى) وقال آخرون: بل عرج بروحه وبجسمه إلى السماوات روى ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وجابر وحذيفة وانس وعائشة وام هاني. ونحن لا ننكر ذلك إذا قامت الدلالة وقد جعل الله معراج موسى إلى الطور (وما كنت بجانب الطور) ولابراهيم إلى السماء الدنيا (وكذلك نرى ابراهيم) ولعيسى إلى الرابعة (بل رفعه الله إليه) ولادريس إلى الجنة (ورفعناه مكانا عليا) ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم (فكان قاب قوسين) وذلك لعلو همته. انتهى. والذى ينبغى ان يقال ان اصل الاسراء مما لا سبيل إلى انكاره فقد نص عليه القرآن وتواترت عليه الاخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمه من اهل بيته عليه السلام. واما كيفية الاسراء فظاهر الاية والروايات بما يحتف بها من القرائن ظهورا لا يقبل الدفع انه اسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى بروحه وجسده جميعا واما العروج إلى السماوات فظاهر آيات سورة النجم كما سيأتي ان شاء الله في تفسيرها وصريح الروايات على كثرتها البالغة وقوعه، ولا سبيل إلى انكاره من اصله غير انه من الجائز ان يقال بكونه بروحه لكن لا على النحو الذى يراه القائلون به من كون ذلك من قبيل الاحلام ومن نوع ما يراه النائم من الرؤى، ولو كان كذلك لم يكن لما يدل عليه الايات
بسياقها من اظهار المقدرة والكرامة معنى، ولا لذاك الانكار الشديد الذى اظهرته قريش عند ما قص عليه السلام لهم القصة وجه، ولا لما اخبرهم به من حوادث الطريق مفهوم معقول.
[ 33 ]
بل ذلك - ان كان - بعروجه صلى الله عليه وآله وسلم بروحه الشريفة إلى ما وراء هذا العالم المادى مما يسكنه الملائكة المكرمون وينتهى إليه الاعمال ويصدر منه الاقدار وراى عند ذلك من آيات ربه الكبرى وتمثلت له حقائق الاشياء ونتائج الاعمال وشاهد ارواح الانبياء العظام وفاوضهم ولقى الملائكة الكرام وسامرهم، وراى من الايات الالهية ما لا يوصف الا بالامثال كالعرش والحجب والسرادقات. والقوم لذهابهم إلى اصالة الوجود المادى وقصر الوجود غير المادى فيه تعالى لما وجدوا الكتاب والسنة يصفان امورا غير محسوسة بتمثيلها في خواص الاجسام المحسوسة كالملائكة الكرام والعرش والكرسي واللوح والقلم والحجب والسرادقات حملوا ذلك على كونها اجساما مادية لا يتعلق بها الحس ولا يجرى فيها احكام المادة، وحملوا ايضا ما ورد من التمثيلات في مقامات الصالحين ومعارج القرب وبواطن صور المعاصي ونتائج الاعمال وما يناظر ذلك إلى نوع من التشبيه والاستعارة فوقعوا في ورطة السفسطة بتغليط الحس واثبات الروابط الجزافية بين الاعمال ونتائجها وغبر ذلك من المحاذير. ولذلك ايضا لما نفى النافون منهم كون عروجه صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماوات بجسمه المادى اضطروا إلى القول بكونه في المنام وهو عندهم خاصة مادية للروح المادى واضطروا لذلك إلى تأويل الايات والروايات بما لا تلائمه ولا واحدة منها. بحث آخر: قال في مجمع البيان: فاما الموضع الذى اسرى إليه اين كان ؟ فان الاسراء إلى بيت
المقدس، وقد نص به القرآن ولا يدفعه مسلم، وما قاله بعضهم: ان ذلك كان في النوم فظاهر البطلان إذ لا معجز يكون فيه ولا برهان. وقد وردت روايات كثيرة في قصة المعراج في عروج نبينا صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء ورواها كثير من الصحابة مثل ابن عباس وابن مسعود وانس وجابر بن عبد الله وحذيفة وعائشة وام هاني وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزاد بعضهم ونقص بعض وتنقسم جملتها إلى اربعه اوجه:
[ 34 ]
احدها: ما يقطع على صحتها لتواتر الاخبار به واحاطة العلم بصحته. وثانيها: ما ورد في ذلك مما يجوزه العقول ولا ياباه الاصول فنحن نجوزه ثم نقطع على ان ذلك كان في يقظته دون منامه. وثالثها: ما يكون ظاهره مخالفا لبعض الاصول الا انه يمكن تأويلها على وجه يوافق المعقول فالاولى تأويله على وجه يوافق الحق والدليل. ورابعها: ما لا يصح ظاهره ولا يمكن تأويله الا على التعسف البعيد فالاولى ان لا نقبله. فاما الاول المقطوع به فهو انه اسرى به على الجملة، واما الثاني فمنه ما روى انه طاف في السماوات وراى الانبياء والعرش وسدرة المنتهى والجنة والنار ونحو ذلك. واما الثالث فنحو ما روى انه راى قوما في الجنة يتنعمون فيها وقوما في النار يعذبون فيها فيحمل على انه راى صفتهم أو اسمائهم، واما الرابع فنحو ما روى انه صلى الله عليه وآله وسلم كلم الله جهرة ورآه وقعد معه على سريره ونحو ذلك مما يوجب ظاهره التشبيه، والله سبحانه متقدس عن ذلك، وكذلك ما روى انه شق بطنه وغسله لانه صلى الله عليه وآله وسلم كان طاهرا مطهرا من كل سوء وعيب وكيف يطهر القلب وما فيه من الاعتقاد بالماء. انتهى. وما ذكره من التقسيم في محله غير ان غالب ما اورده من الامثلة للاقسام منظور فيه
فما ذكره من الطواف ورؤية الانبياء ونحو ذلك تمثلات برزخية أو روحية وكذا ما ذكره من حديث شق البطن والغسل تمثل برزخى لا ضير فيه واحاديث الاسراء مملوءة من ذكر هذا النوع من التمثل كتمثل الدنيا في هيئة مراة عليها من كل زينة الدنيا، وتمثل دعوة اليهودية والنصرانية وما شاهده من انواع النعيم والعذاب لاهل الجنة والنار وغير ذلك. ومما يؤيد هذا الذى ذكرناه ما في السنة هذه الاخبار من الاختلاف في بيان حقيقة واحدة كما في بعضها من صعوده صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء بالبراق وفي آخر على جناح جبريل وفي آخر بمعراج منصوب على صخرة بيت المقدس إلى السماء إلى غير ذلك مما يعثر عليه الباحث المتدبر في خلال هذه الروايات. فهذه وامثالها ترشد إلى ان هذه البيانات موضوعة على التمثيل أو التمثل الروحي، ووقوع هذه التمثيلات في ظواهر الكتاب والسنة مما لا سبيل إلى انكاره البتة.
[ 35 ]
وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبنى اسرائيل الا تتخذوا من دوني وكيلا (2). ذريه من حملنا مع نوح انه كان عبدا شكورا (3). وقضينا إلى بنى اسرائيل في الكتاب لتفسدن في الارض مرتين ولتعلن علوا كبيرا (4). فإذا جاء وعد اوليهما بعثنا عليكم عبادا لنا اولى باس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا (5). ثم رددنا لكم الكرة عليهم وامددناكم باموال وبنين وجعلناكم اكثر نفيرا (6). ان احسنتم احسنتم لانفسكم وان اساتم فلها فإذا جاء وعد الاخرة ليسوؤا وجوهكم و ليدخلوا المسجد كما دخلوه اول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا (7). عسى ربكم ان يرحمكم وان عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا (8). (بيان)
الظاهر من سياق آيات صدر السورة انها مسوقة لبيان ان السنة الالهية في الامم الانسانية جرت على هدايتهم إلى طريق العبودية وسبيل التوحيد وامكنهم من الوصول إلى ذلك باختيارهم فأتاهم من نعم الدنيا والاخرة، وامدهم باسباب الطاعة والمعصية فان اطاعوا واحسنوا اثابهم بسعادة الدنيا والاخرة، وان اساؤا وعصوا جازاهم بنكال الدنيا وعذاب الاخرة. وعلى هذا فهذه الايات السبع كالمثال يمثل به ما جرى من هذه السنة العامة في بنى اسرائيل انزل الله على نبيهم الكتاب وجعله لهم هدى يهتدون به وقضى إليهم فيه انهم سيعلون ويطغون ويفسقون فينتقم الله منهم باستيلاء عدوهم عليهم بالاذلال والقتل
[ 36 ]
والاسر ثم يعودون إلى الطاعة فيعود تعالى إلى النعمة والرحمة ثم يستعلون ويطغون ثانيا فينتقم الله منهم ثانيا باشد مما في المرة الاولى ثم من المرجو ان يرحمهم ربهم وان يعودوا يعد. ومن ذلك يستنتج ان الايات السبع كالتوطئة لما سيذكر بعدها من جريان هذه السنة العامة في هذه الامة، والايات السبع كالمعترضة بين الاية الاولى والتاسعة. قوله تعالى: (وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبنى اسرائيل الا تتخذوا من دوني وكيلا) الكتاب كثيرا ما يطلق في كلامه تعالى على مجموع الشرائع المكتوبة على الناس القاضية بينهم فيما اختلفوا فيه من الاعتقاد والعمل ففيه دلالة على اشتماله على الوظائف الاعتقادية والعملية التى عليهم ان ياخذوها ويتلبسوا بها، ولعله لذلك قيل: (وآتينا موسى الكتاب) ولم يقل التوراة ليدل به على اشتماله على شرائع مفترضة عليهم. وبذلك يظهر ان قوله: (وجعلناه هدى لبنى اسرائيل) بمنزلة التفسير لايتائه الكتاب. وكونه هدى أي هاديا لهم هو بيانه لهم شرائع ربهم التى لو اخذوها وعملوا بها لاهتدوا إلى الحق ونالوا سعادة الدارين.
وقوله: (الا تتخذوا من دوني وكيلا) ان: فيه للتفسير ومدخولها محصل ما يشتمل عليه الكتاب الذى جعل هدى لهم فيؤل المعنى إلى ان محصل ما كان الكتاب يبينه لهم ويهديهم إليه هو نهيه اياهم ان يشركوا بالله شيئا ويتخذوا من دونه وكيلا فقوله: (لا تتخذوا من دوني وكيلا) تفسيرا لقوله: (وجعلناه هدى لبنى اسرائيل) ان كان ضمير (لا تتخذوا) عائدا إليهم كما هو الظاهر، وتفسير لجميع ما تقدمه ان احتمل رجوعه إلى موسى وبنى اسرائيل جميعا. وفي الجملة التفات من التكلم مع الغير إلى التكلم وحده ووجهه بيان كون التكلم مع الغير لغرض التعظيم وجريان السياق على ما كان عليه من التكلم مع الغير كان يقال: (ان لا تتخذوا من دوننا وكلاء) لا يناسب معنى التوحيد الذى سيقت له الجملة، ولذلك عدل فيها إلى سياق التكلم وحده ثم لما ارتفعت الحاجة رجع الكلام إلى سياقه السابق فقيل: (ذرية من حملنا مع نوح). ورجوع اتخاذ الوكيل من دون الله إلى الشرك انما هو من جهة ان الوكيل هو الذى
[ 37 ]
يكفل اصلاح الشؤون الضرورية لموكله ويقدم على رفع حوائجه وهو الله سبحانه فاتخاذ غيره ربا هو اتخاذ وكيل من دونه. قوله تعالى: (ذرية من حملنا مع نوح انه كان عبدا شكورا) تطلق الذرية على الاولاد بعناية كونهم صغارا ملحقين بابائهم، وهى - على ما يهدى إليه السياق - منصوبة على الاختصاص ويفيد الاختصاص عناية خاصة من المتكلم به في حكمه فهو. بمنزلة التعليل كقوله تعالى: (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت) الاحزاب 33 أي ليفعل بكم ذلك لانكم اهل بيت النبوة ه. فقوله: (ذرية من حملنا مع نوح) يفيد فائدة التعليل بالنسبة إلى ما تقدمه كما ان قوله: (انه كان عبدا شكورا) يفيد فائدة التعليل بالنسبة إليه.
اما الاول فلان الظاهر ان تعلق العناية بهم انما هو من جهة ما سبق من الله سبحانه لاهل سفينة نوح من الوعد الجميل حين نجاهم من الطوفان وامر نوحا بالهبوط بقوله: (يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى امم ممن معك وامم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب اليم) هود: 48 ففى انزاله الكتاب لموسى وجعله هدى لبنى اسرائيل انجاز للوعد الحسن الذى سبق لابائهم من اهل السفينة وجرى على السنة الالهية الجارية في الامم فكأنه قيل: انزلنا على موسى الكتاب وجعلناه هدى لبنى اسرائيل لانهم ذرية من حملنا مع نوح وقد وعدناهم السلام والبركات والتمتيع. واما الثاني فلان هذه السنة اعني سنة الهداية والارشاد وطريقة الدعوة إلى التوحيد هي بعينها السنة التى كان نوح عليه السلام اول من قام بها في العالم البشرى فشكر بذلك نعمة الله واخلص له في العبودية - وقد تقدم مرارا ان الشكر بحقيقته يلازم الاخلاص في العبودية - فشكر الله له، وجعل سنته باقية ببقاء الدنيا، وسلم عليه في العالمين، واثابه بكل كلمة طيبة وعمل صالح إلى يوم القيامة كما قال تعالى: (وجعلنا ذريته هم الباقين وتركنا عليه في الاخرين سلام على نوح في العالمين انا كذلك نجزى المحسنين) الصافات: 80. فيتلخص معنى الايتين في مثل قولنا: انا جزينا نوحا بما كان عبدا شكورا لنا انا ابقينا دعوتة واجرينا سنته وطريقته في ذرية من حملناهم معه في السفينة ومن ذلك انا انزلنا على موسى الكتاب وجعلناه هدى لبنى اسرائيل.
[ 38 ]
ويظهر من قوله في الاية: (ذرية من حملنا مع نوح) ومن قوله: (وجعلنا ذريته هم الباقين) ان الناس ذرية نوح عليه السلام من جهة الابن والبنت معا، ولو كانت الذرية منتهية إلى ابنائه فقط وكان المراد بقوله: (من حملنا مع نوح) ابناؤه فقط كان الاحسن بل المتعين ان يقال: ذرية نوح وهو ظاهر.
وللقوم في اعراب الاية وجوه اخرى كثيرة كقول من قال: ان (ذرية) منصوب على النداء بحذف حرفه، والتقدير يا ذرية من حملنا، وقيل: مفعول اول لقوله: تتخذوا ومفعوله الثاني قوله: (وكيلا) والتقدير ان لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح وكيلا من دوني، وقيل: بدل من موسى في الاية السابقة وهى وجوه ظاهرة السخافة. ويتلوها في ذلك قول من قال: ان ضمير (انه) عائد إلى موسى دون نوح والجملة تعليل لايتائه الكتاب أو لجعله عليه السلام هدى لبنى اسرائيل بناء على رجوع ضمير (وجعلناه) إلى موسى دون الكتاب. قوله تعالى: (وقضينا إلى بنى اسرائيل في الكتاب لتفسدن في الارض مرتين ولتعلن علوا كبيرا) قال الراغب في المفردات: القضاء فصل الامر قولا كان ذلك أو فعلا، وكل واحد منهما على وجهين: الهى وبشرى فمن القول الالهى قوله: (وقضى ربك الا تعبدوا الا اياه) أي امر بذلك، وقال: (وقضينا إلى بنى اسرائيل في الكتاب) فهذا قضاء بالاعلام والفصل في الحكم أي اعلمناهم واوحينا إليهم وحيا جزما وعلى هذا (وقضينا إليه ذلك الامر ان دابر هؤلاء مقطوع). ومن الفعل الالهى قوله: (والله يقضى بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشئ) وقوله: (فقضاهن سبع سماوات في يومين) اشارة إلى ايجاده الابداعي والفراغ منه نحو: (بديع السماوات والارض). قال: ومن القول البشرى نحو قضى الحاكم بكذا فان حكم الحاكم يكون بالقول، ومن الفعل البشرى (فإذا قضيتم مناسككم) (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم) انتهى موضع الحاجه. والعلو هو الارتفاع وهو في الاية كناية عن الطغيان بالظلم والتعدى ويشهد بذلك عطفه على الافساد عطف التفسير، وفي هذا المعنى قوله: ان فرعون علا في الارض وجعل اهلها شيعا).
[ 39 ]
ومعنى الاية واخبرنا واعلمنا بنى اسرائيل اخبارا قاطعا في الكتاب وهو التوراة: اقسم واحق هذا القول انكم شعب اسرائيل ستفسدون في الارض وهى ارض فلسطين وما يتبعها مرتين مرة بعد مرة وتعلون علوا كبيرا وتطغون طغيانا عظيما. قوله تعالى: (فإذا جاء وعد اولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا) الخ قال الراغب: البؤس والباس والباساء الشدة والمكروه الا ان البؤس في الفقر والحرب اكثر والباس والباساء في النكاية نحو والله اشد باسا واشد تنكيلا. انتهى موضع الحاجة. وفي: المجمع الجوس التخلل في الديار يقال: تركت فلان يجوس بنى فلان ويجوسهم ويدوسهم أي يطؤهم، قال أبو عبيد: كل موضع خالطته ووطاته فقد حسته وجسته قال: وقيل: الجوس طلب الشئ باستقصاء. انتهى. وقوله: (فإذا جاء وعد اولاهما) تفريع على قوله: (لتفسدن) الخ، وضمير التثنية راجع إلى المرتين وهما الافسادتان فالمراد بها الافسادة الاولى، والمراد بوعد اولاهما ما وعدهم الله من النكال والنقمة على افسادهم فالوعد بمعنى الموعود، ومجئ الوعد كناية عن وقت انجازه، ويدل ذلك على انه وعدهم على افسادهم مرتين وعدين ولم يذكرا انجازا فكأنه قيل: لتفسدن في الارض مرتين ونحن نعدكم الانتقام على كل منهما فإذا جاء وعد المرة الاولى (الخ) كل ذلك معونة السياق. وقوله: (بعثنا عليكم عبادا لنا اولى باس شديد) أي انهضناهم وارسلناهم اليكم ليذلوكم وينتقموا منكم، والدليل على كون البعث للانتقام والاذلال قوله: اولى باس شديد) الخ. ولا ضير في عد مجيئهم إلى بنى اسرائيل مع ما كان فيه من القتل الذريع والاسر والسبي والنهب والتخريب بعثا الهيا لانه كان على سبيل المجازاة على افسادهم في الارض وعلوهم وبغيهم بغير الحق، فما ظلمهم الله ببعث اعدائهم وتاييدهم عليهم ولكن كانوا هم الظالمين لانفسهم. وبذلك يظهر ان لا دليل من الكلام يدل على قول من قال: ان المراد بقوله: (بعثنا
عليكم (الخ) امرنا قوما مؤمنين بقتالكم وجهادكم لاقتضاء ظاهر قوله: (بعثنا) وقوله (عبادا) ذلك، وذلك لما عرفت ان عد ذلك بعثا الهيا لا مانع فيه بعد ما كان
[ 40 ]
على سبيل المجازاة، وكذا لا مانع من عد الكفار عبادا لله مع ما تعقبه من قوله: (اولى باس شديد). ونظيره قول من قال: يجوز ان يكون هؤلاء المبعوثون مؤمنين امرهم الله بجهاد هؤلاء، ويجوز ان يكونوا كفارا فتالفهم نبى من الانبياء لحرب هؤلاء وسلطهم على امثالهم من الكفار والفساق، ويرد عليه نظير ما يرد على سابقه. وقوله: (وكان وعدا مفعولا) تأكيد لكون القضاء حتما لازما والمعنى فإذا جاء وقت الوعد الذى وعدناه على المرة الاولى من افسادكم مرتين بعثنا وانهضنا عليكم من الناس عبادا لنا اولى باس وشدة شديدة فدخلوا بالقهر والغلبة ارضكم وتوسطوا في دياركم فاذلوكم واذهبوا استقلالكم وعلوكم وسؤددكم وكان وعدا مفعولا لا محيص عنه. قوله تعالى: (ثم رددنا لكم الكرة عليهم وامددناكم باموال وبنين وجعلناكم اكثر نفيرا) قال في المجمع: الكرة معناه الرجعة والدولة، والنفير العدد من الرجال قال الزجاج: ويجوز ان يكون جمع نفر كما قيل: العبيد والضئين والمعيز والكليب، ونفر الانسان ونفره ونفيره ونافرته رهطه الذين ينصرونه وينفرون معه انتهى. ومعنى الاية ظاهر، وظاهرها ان بنى اسرائيل ستعود الدولة لهم على اعدائهم بعد وعد المرة الاولى فيغلبونهم ويقهرونهم ويتخلصون من استعبادهم واسترقاقهم وان هذه الدولة سترجع إليهم تدريجا في برهة معتد بها من الزمان كما هو لازم امدادهم باموال وبنين وجعلهم اكثر نفيرا. وفي قوله في الاية التالية: (ان احسنتم احسنتم لانفسكم وان اساتم فلها) اشعار بل دلالة بمعونة السياق ان هذه الواقعة وهى رد الكرة لبنى اسرائيل على
اعدائهم انما كانت لرجوعهم إلى الاحسان بعد ما ذاقوا وبال اساءتهم قبل ذلك كما ان انجاز وعد الاخرة انما كان لرجوعهم ثانيا إلى الاساءة بعد رجوعهم هذا إلى الاحسان. قوله تعالى: (ان احسنتم احسنتم لانفسكم وان اساتم فلها) اللام في (لانفسكم) و (فلها) للاختصاص أي ان كلا من احسانكم واساءتكم يختص بانفسكم دون ان يلحق غيركم، وهى سنة الله الجارية ان العمل يعود اثره وتبعته إلى صاحبه ان خيرا وان شرا فهو كقوله: (تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم) البقره - 141.
[ 41 ]
فالمقام مقام بيان ان اثر العمل لصاحبه خيرا كان أو شرا، وليس مقام بيان ان الاحسان ينفع صاحبه والاساءة تضره حتى يقال: وان اساتم فعليها كما قيل: (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) البقره: 286. فلا حاجة إلى ما تكلفه بعضهم ان اللام في قوله: (وان اساتم فلها) بمعنى على، وقول آخرين: انها بمعنى إلى لان الاساءة تتعدى بها يقال: اساء إلى فلان ويسئ إليه اساءة، وقول آخرين: انها للاستحقاق كقوله: (ولهم عذاب اليم). وربما اورد على كون اللام للاختصاص بان الواقع على خلافه فكثيرا ما يتعدى اثر الاحسان إلى غير محسنه واثر الاساءة إلى غير فاعلها وهو ظاهر. والجواب عنه ان فيه غفلة عما يراه القرآن الكريم في آثار الاعمال اما آثار الاعمال الاخروية فانها لا تتعدى صاحبها البتة قال تعالى: (من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلانفسهم يمهدون) الروم: 44، واما الاثار الدنيوية فان الاعمال لا تؤثر اثرا في غير فاعلها الا ان يشاء الله من ذلك شيئا على سبيل النعمة على الغير أو النقمة أو الابتلاء والامتحان فليس في مقدرة الفاعل ان يوصل اثر فعله إلى الغير دائما الا احيانا يريده الله لكن الفاعل يلحقه اثر فعله الحسن أو السئ دائما من غير تخلف.
فللمحسن نصيب من احسانه وللمسئ نصيب من اساءته، قال تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) الزلزال: 8 فاثر الفعل لا يفارق فاعله إلى غيره، وهذا معنى ما روى عن على عليه السلام انه قال: ما احسنتم إلى احد ولا اسات إليه وتلا الاية قوله تعالى: (فإذا جاء وعد الاخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه اول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا) التتبير الا هلاك من التبار بمعنى الهلاك والدمار. وقوله: (ليسوؤا وجوهكم) من المساءة يقال: ساء زيد فلانا إذا احزنه وهو على ما قيل متعلق بفعل مقدر محذوف للايجاز، واللام للغاية والتقدير بعثناهم ليسوؤا وجوهكم بظهور الحزن والكابة فيها وبدو آثار الذلة والمسكنة وصغار الاستعباد عليها بما يرتكبونه فيكم من القتل الذريع والسبي والنهب. وقوله: (وليدخلوا المسجد كما دخلوه اول مرة) المراد بالمسجد هو المسجد الاقصى
[ 42 ]
- بيت المقدس - ولا يعبؤ بما ذكره بعضهم ان المراد به جميع الارض المقدسة مجازا، وفي الكلام دلالة اولا انهم في وعد المرة الاولى ايضا دخلوا المسجد عنوة وانما لم يذكر قبلا للايجاز، وثانيا ان دخولهم المسجد انما كان للهتك والتخريب، وثالثا يشعر الكلام بان هؤلاء المهاجمين المبعوثين لمجازاة بنى اسرائيل والانتقام منهم هم الذين بعثوا عليهم اولا. وقوله: (وليتبروا ما علوا تتبيرا) أي ليهلكوا الذى غلبوا عليه اهلاكا فيقتلوا النفوس ويحرقوا الاموال ويهدموا الابنية ويخربوا البلاد، واحتمل ان يكون ما مصدرية بحذف مضاف وتقدير الكلام: وليتبروا مدة علوهم تتبيرا، والمعنى الاول اقرب إلى الفهم واوفق بالسياق. والمقايسة بين الوعدين اعني قوله: (بعثنا عليكم عبادا لنا) الخ وقولة: (ليسوؤا
وجوهكم) الخ يعطى ان الثاني كان اشد على بنى اسرائيل وامر وقد كادوا ان يفنوا ويبيدوا فيه عن آخرهم وكفى في ذلك قوله تعالى: (وليتبروا ما علوا تتبيرا). والمعنى فإذا جاء وعد المرة الاخرة وهى الثانية من الافسادتين بعثناهم ليسوؤا وجوهكم بظهور الحزن والكابة وبدو الذلة والمسكنة وليدخلوا المسجد الاقصى كما دخلوه اول مرة وليهلكوا الذى غلبوا عليه ويفنوا الذى مروا عليه اهلاكا وافناء. قوله تعالى: (عسى ربكم ان يرحمكم وان عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) الحصير من الحصر و - هو على ما ذكروه - التضييق والحبس قال تعالى: (واحصروهم) التوبه: 5 أي ضيقوا عليهم. وقوله: (عسى ربكم ان يرحمكم) أي بعد البعث الثاني على ما يفيده السياق وهو ترج للرحمة ه على تقدير ان يتوبوا ويرجعوا إلى الطاعة والاحسان بدليل قوله: (وان تعودوا نعد) أي وان تعودوا إلى الافساد والعلو، بعد ما رجعتم عنه ورحمكم ربكم نعد إلى العقوبة والنكال، وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ومكانا حابسا لا يستطيعون منه خروجا. وفي قوله: (عسى ربكم ان يرحمكم) التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة وكان الوجه فيه الاشارة إلى ان الاصل الذى يقتضيه ربوبيته تعالى ان يرحم عباده ان
[ 43 ]
جروا على ما يقتضيه خلقتهم ويرشد إليه فطرتهم الا ان ينحرفوا عن خط الخلقة ويخرجوا عن صراط الفطرة، والايماء إلى هذه النكتة يوجب ذكر وصف الرب فاحتاج السياق ان يتغير عن التكلم مع الغير إلى الغيبة ثم لما استوفيت النكتة بقوله: (عسى ربكم ان يرحمكم) عاد الكلام إلى ما كان عليه. بحث روائي في تفسير البرهان عن ابن بابويه باسناده عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السلام قال:
ان نوحا انما سمى عبدا شكورا لانه كان يقول إذا امسى واصبح: اللهم انى اشهدك انه ما امسى واصبح بى من نعمة أو عافية في دين أو دنيا فمنك وحدك لا شريك لك، لك الحمد ولك الشكر بها على حتى ترضى وبعد الرضا. اقول: وروى هذا المعنى بتفاوت يسير بعدة طرق في الكافي وتفسيري القمى والعياشي. وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن ابى فاطمة ان النبي صلى االله وسلم قال: كان نوح عليه السلام لا يحمل شيئا صغيرا ولا كبيرا الا قال: بسم الله والحمد لله فسماه الله عبدا شكورا. اقول: والروايات لا تنافى ما تقدم من تفسير الشكر بالاخلاص فمن المعلوم ان دعاءه لم يكن الا عن تحققه بحقيقة ما دعا به ولا ينفك ذلك عن الاخلاص في العبودية. وفي تفسير البرهان عن ابن قولويه باسناده عن صالح بن سهل عن ابى عبد الله عليه السلام: في قول الله عزوجل: (وقضينا إلى بنى اسرائيل في الكتاب لتفسدن في الارض مرتين) قال: قتل امير المؤمنين وطعن الحسن بن على عليه السلام (ولتعلن علوا كبيرا) قال: قتل الحسين عليه السلام (فإذا جاء وعد اولاهما) قال: إذا جاء نصر الحسين (بعثنا عليكم عبادا لنا اولى باس شديد فجاسوا خلال الديار) قوم يبعثهم الله قبل قيام القائم لا يدعون لال محمد وترا الا اخذوه (وكان وعدا مفعولا). اقول: وفي معناها روايات اخرى وهى مسوقة لتطبيق ما يجرى في هذه الامة من الحوادث على ما جرى منها في بنى اسرائيل تصديقا لما تواتر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان
[ 44 ]
هذه الامة ستركب ما ركبته بنو اسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخله هؤلاء، وليست الروايات واردة في تفسير الايات، ومن شواهد ذلك اختلاف ما فيها من التطبيق. واما اصل القصة التى تتضمنها الايات الكريمة فقد اختلفت الروايات فيها اختلافا
عجيبا يسلب عنها التعويل، ولذلك تركنا ايرادها ههنا من ارادها فليراجع جوامع الحديث من العامة والخاصة. وقد نزل على بنى اسرائيل منذ استقلوا بالملك والسؤدد نوازل هامة كثيرة فوق اثنتين - على ما يضبطه تاريخهم - يمكن ان ينطبق ما تضمنته هذه الايات على اثنتين منها لكن الذى هو كالمسلم عندهم ان احدى هاتين النكايتين اللتين تشير اليهما الايات هي ما جرى عليهم بيد بخت نصر (نبوكد نصر) من ملوك بابل قبل الميلاد بستة قرون تقريبا. وكان ملكا ذا قوة وشوكة من جبابرة عهده، وكان يحمى بنى اسرائيل فعصوه وتمردوا عليه فسار إليهم بجيوش لا قبل لهم بها وحاصر بلادهم ثم فتحها عنوة فخرب البلاد وهدم المسجد الاقصى واحرق التوراة وكتب الانبياء واباد النفوس بالقتل العام ولم يبق منهم الا شرذمة قليلة من النساء والذراري وضعفاء الرجال فاسرهم وسيرهم معه إلى بابل فلم يزالوا هناك لا يحميهم حام ولا يدفع عنهم دافع طول زمن حياة بخت نصر وبعده زمانا طويلا حتى قصد الكسرى كورش احد ملوك الفرس العظام بابل وفتحه تلطف على الاسرى من بنى اسرائيل واذن لهم في الرجوع إلى الارض المقدسة، واعانهم على تعمير الهيكل - المسجد الاقصى - وتجديد الابنية واجاز لعزراء احد كهنتهم ان يكتب لهم التوراة وذلك في نيف وخمسين واربعمائة سنة قبل الميلاد. والذى يظهر من تاريخ اليهود ان المبعوث اولا لتخريب بيت المقدس هو بخت نصر وبقى خرابا سبعين سنة، والمبعوث ثانيا هو قيصر الروم اسبيانوس سيراليهم وزيره طوطوز فخرب البيت واذل القوم قبل الميلاد بقرن تقريبا. وليس من البعيد ان يكون الحادثتان هما المرادتان في الايات فان الحوادث الاخرى لم تفن جمعهم ولم تذهب بملكهم واستقلالهم بالمرة لكن نازلة بخت نصر ذهب بجميعهم
[ 45 ]
وسؤددهم إلى زمن كورش ثم اجتمع شملهم بعده برهة ثم غلب عليهم الروم واذهبت بقوتهم و شوكتهم فلم يزالوا على ذلك إلى زمن ظهور الاسلام. ولا يبعده الا ما تقدمت الاشارة إليه في تفسير الايات ان فيها اشعارا بان المبعوث إلى بنى اسرائيل في المرة الا ولى والثانية قوم باعيانهم وان قوله: (ثم رددنا لكم الكرة عليهم) مشعر بان الكرة من بنى اسرائيل على القوم المبعوثين عليهم اولا، وان قوله: (فإذا كان وعد الاخرة ليسوؤا وجوهكم) مشعر برجوع ضمير الجمع إلى ما تقدم من قوله: (عبادا لنا). لكنه اشعار من غير دلالة ظاهرة لجواز ان يكون المرادكرة من غير بنى اسرائيل على اعدائهم وهم ينتفعون بها وان يكون ضمير الجمع عائدا إلى ما يدل عليه الكلام بسياقة من غير ايجاب السياق ان يكون المبعوثون ثانيا هم المبعوثين اولا. ان هذا القرآن يهدى للتى هي اقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ان لهم اجرا كبيرا - 9. وان الذين لا يؤمنون بالاخرة اعتدنا لهم عذابا اليما - 10. ويدع الانسان بالشر دعاءه بالخير وكان الانسان عجولا - 11. وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شئ فصلناه تفصيلا - 12. وكل انسان الزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقيه منشورا - 13. اقرء كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا - 14. من اهتدى فانما يهتدى لنفسه ومن ضل فانما يضل عليها ولا تزر وازره وزر اخرى وما كنا
[ 46 ]
معذبين حتى نبعث رسولا - 15. وإذا اردنا ان نهلك قرية امرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا - 16. وكم اهلكنا
من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا - 17. من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصليها مذموما مدحورا - 18. ومن اراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فاولئك كان سعيهم مشكورا - 19. كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا - 20. انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللاخرة اكبر درجات واكبر تفضيلا - 21. لا تجعل مع الله الها آخر فتقعد مذموما مخذولا - 22. (بيان) كان القبيل السابق من الايات يذكر كيفية جريان السنة الالهية في هداية الانسان إلى سبيل الحق ودين التوحيد ثم اسعاد من استجاب الدعوة الحقة في الدنيا والاخرة وعقاب من كفر بالحق وفسق عن الامر في دنياه وعقباه، وكان ذكر نزول التوراة وما جرى بعد ذلك على بنى اسرائيل كالمثال الذى يورد في الكلام لتطبيق الحكم الكلى على افراده ومصاديقه، وهذا القبيل من الايات يذكر جريان السنة المذكورة في هذه الامة كما جرت في امة موسى، وقد استنتج من الايات لزوم التجنب عن الشرك ووجوب التزام طريق التوحيد حيث قيل: (لا تجعل مع الله الها آخر فتقعد مذموما مخذولا) قوله تعالى: (ان هذا القرآن يهدى للتى هي اقوم) أي للملة التى هي اقوم كما قال تعالى: (قل اننى هداني ربى إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة ابراهيم حنيفا) الانعام: 161.
[ 47 ]
والاقوم افعل تفضيل والاصل في الباب القيام ضد القعود الذى هو احد احوال الانسان واوضاعه، وهو اعدل حالاته يتسلط به على ما يريده من العمل بخلاف القعود والاستلقاء والانبطاح ونحوها ثم كنى به عن حسن تصديه للامور إذا قوى عليها من غير عجز وعى واحسن ادارتها للغاية يقال: قام بامر كذا إذا تولاه وقام على امر كذا أي
راقبه وحفظه وراعى حاله بما يناسبه. وقد وصف الله سبحانه هذه الملة الحنيفية بالقيام كما قال: (فاقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) الروم: 30، وقال: (فاقم وجهك للدين القيم) الروم: 43. وذلك لكون هذا الدين مهيمنا على ما فيه خير دنياهم وآخرتهم قيما على اصلاح حالهم في معاشهم ومعادهم، وليس الا لكونه موافقا لما تقتضيه الفطرة الانسانية والخلقه التى سواه الله سبحانه عليها وجهزه بحسبها بما يهديه إلى غايتة التى اريدت له، وسعادته التى هيئت لاجله. وعلى هذا فوصف هذه الملة في قوله: (للتى هي اقوم) بانها اقوم ان كان بقياسها إلى سائر الملل انما هو من جهة ان كلا من تلك الملل سنة حيوية اتخذها ناس لينتفعوا بها في شئ من امور حياتهم لكنها ان كان تنفعهم في بعضها فهى تضرهم في بعض آخر وان كانت تحرز لهم شطرا مما فيه هواهم فهى تفوت عليهم شطرا عظيما مما فيه خيرهم وانما ذلك الاسلام يقوم على حياتهم وبجميع ما يهمهم في الدنيا والاخرة من غير ان يفوته فائت فالملة الحنيفية اقوم من غيرها على حياة الانسان. وان كان بالقياس إلى سائر الشرائع الالهية السابقة كشريعة نوح وموسى وعيسى عليه السلام كما هو ظاهر جعلها مما يهدى إليها القرآن قبال ما تقدم من ذكر التوراة وجعلها هدى لبنى اسرائيل فانما هو من جهة ان هذه الملة الحنيفية اكمل من الملل السابقة التى تتضمنها كتب الانبياء السابقين فهى تشتمل من المعارف الالهية على آخر ما تتحمله البنية الانسانية ومن الشرائع على ما لا يشذ منه شاذ من اعمال الانسان الفردية والاجتماعية، وقد قال تعالى: (وانزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه) المائدة: 48 فما يهدى إليه القرآن اقوم مما يهدى إليه غيره من الكتب.
[ 48 ]
قوله تعالى: (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ان لهم اجرا كبيرا) الصالحات صفة محذوف موصوفها اختصارا والتقدير وعملوا الاعمال الصالحات. وفي الاية جعل حق للمؤمنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات على الله سبحانه كما يؤيده تسمية ذلك اجرا ويؤيده ايضا قوله في موضع آخر: (ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم اجر غير ممنون) حم السجدة: 8 ولا محذور في ان يكون لهم على الله حق إذا كان الله سبحانه هو الجاعل له، ونظيره قوله: (ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين) يونس: 103. والعناية في الاية ببيان الوعد المنجز كما ان الاية التالية تعنى ببيان الوعيد المنجز وهو العذاب لمن يكفر بالاخرة، واما من آمن ولم يعمل الصالحات فليس ممن له على الله اجر منجز وحق ثابت بل امره مراعى بتوبة أو شفاعة حتى يلحق بذلك على معشر الصالحين من المؤمنين قال تعالى: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله ان يتوب عليهم) التوبه: 102 وقال: وآخرون مرجون لامر الله اما يعذبهم واما يتوب عليهم) التوبه: 106. نعم لهم ثبات على الحق بايمانهم كما قال تعالى: (وبشر الذين آمنوا ان لهم قدم صدق عند ربهم) يونس: 2 وقال: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة) ابراهيم: 27. قوله تعالى: (وان الذين لا يؤمنون بالاخرة اعتدنا لهم عذابا اليما) الاعتاد الاعداد والتهيئة من العتاد بالفتح وهو على ما ذكره الراغب ادخار الشئ قبل الحاجة إليه كالاعداد. وظاهر السياق انه عطف على قوله في الاية السابقة: (ان لهم) الخ فيكون التقدير ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ان الذين لا يؤمنون (الخ) وكون ذلك بشارة للمؤمنين من حيث انه انتقام الهى من اعدائهم في الدين.
وانما خص بالذكر من اوصاف هؤلاء عدم ايمانهم بالاخرة مع جواز ان يكفروا بغيرها كالتوحيد والنبوة لان الكلام مسوق لبيان الاثر الذى يعقبه الدين القيم، ولا موقع للدين ولا فائدة له مع انكار المعاد وان اعترف بوحدانية الرب تعالى وغيرها
[ 49 ]
من المعارف، ولذلك عد سبحانه نسيان يوم الحساب اصلا لكل ضلال في قوله: (ان الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) ص: 26. قوله تعالى: (ويدع الانسان بالشر دعاءه بالخير وكان الانسان عجولا) المراد بالدعاء على ما يستفاد من السياق مطلق الطلب سواء كان بلفظ الدعاء كقوله: اللهم ارزقني مالا وولدا وغير ذلك أو من غير دعاء لفظي بل بطلب وسعى فان ذلك كله دعاء وسؤال من الله سواء اعتقد به الانسان وتنبه له ام لا إذ لا معطى ولا مانع في الحقيقة الا الله سبحانه، قال تعالى: (يساله من في السماوات والارض) الرحمن: 29 وقال: (وآتاكم من كل ما سالتموه) ابراهيم: 34 فالدعاء مطلق الطلب والباء في قوله: (بالشر) و (بالخير) للصلة والمراد ان الانسان يدعو الشر ويساله دعاء كدعائه الخير وسؤاله وطلبه. وعلى هذا فالمراد بكون الانسان عجولا انه لا ياخذ بالاناة إذا اراد شيئا حتى يتروى ويتفكر في جهات صلاحه وفساده حتى يتبين له وجه الخير فيما يريده من الامر فيطلبه ويسعى إليه بل يستعجل في طلبه بمجرد ما ذكره وتعلق به هواه فربما كان شرا فتضرر به وربما كان خيرا فانتفع به. والاية وما يتلوها من الايات في سياق التوبيخ واللوم متفرعة على ما تقدم من حديث المن الالهى بالهداية إلى التى هي اقوم كانه قيل: انا انزلنا كتابا يهدى إلى ملة هي اقوم تسوق الاخذين بها إلى السعادة والجنة وتؤديهم إلى اجر كبير، وترشدهم إلى الخير كله لكن جنس الانسان عجول لا يفرق لعجلته بين الخير والشر بل يطلب كل ما لاح له
ويسال كل ما بدا له فتعلق به هواه من غير تمييز بين الخير والشر والحق والباطل فيرد الشر كما يرد الخير ويهجم على الباطل كما يهجم على الحق. وليس ينبغى له ان يستعجل ويطلب كل ما يهواه ويشتهيه ولا يحق له ان يرتكب كل ما له استطاعة ارتكابه، ويقترف كل ما اقدره الله عليه ومكنه منه مستندا إلى انه من التيسير الالهى ولو شاء لمنعه فهذان الليل والنهار وآيتان الهيتان وليستا على نمط واحد بل آية الليل ممحوة تسكن فيها الحركات وتهدا فيها العيون، وآية النهار مبصرة تنتبه فيها القوى ويبتغى فيها الناس من فضل ربهم ويعلمون بها عدد السنين والحساب.
[ 50 ]
كذلك اعمال الشر والخير جميعا كائنة في الوجود باذن الله مقدورة للانسان باقداره سبحانه لكن ذلك لا يكون دليلا على جواز ارتكاب الانسان الشر والخير جميعا وان يستعجل فيطلب كل ما بدا له فيرد الشر كما يرد الخير ويقترف المعصية كما يقترف الطاعة بل يجب عليه ان ياخذ عمل الشر ممحوا فلا يقترفه وعمل الخير مبصرا فيأتي به ويبتغى بذلك فضل ربه من سعادة الاخرة والرزق الكريم فان عمل الانسان هو طائره الذى يدله على سعادته وشقائه، وهو لازم له غير مفارقة فما عمله من خير أو شر فهو لا يفارقه إلى غيره ولا يستدل به سواه. هذا ما يعطيه السياق من معنى الاية ويتبين به: اولا: ان الاية وما يتلوها من الايات مسوقة لغرض التوبيخ واللوم، وهو وجه اتصالها وما بعدها بما تقدمها من قوله: (ان هذا القرآن يهدى للتى هي اقوم) الاية كما اشرنا إليه آنفا فهو سبحانه يلوم الانسان انه لما به من قريحة الاستعجال لا يقدر نعمة الهداية الالهية حق قدرها ولا يفرق بين الملة التى هي اقوم وبين غيرها فيدعو بالشر دعاءه بالخير ويقصد الشقاء كما يقصد السعادة. وثانيا: ان المراد بالانسان هو الجنس دون افراد معينة منه كالكفار والمشركين
كما قيل، وبالدعاء مطلق الطلب لا الدعاء المصطلح كما قيل، وبالخير والشر ما فيه سعادة حياته أو شقاؤه بحسب الحقيقة دون مطلق ما يضر وينفع كدعاء الانسان على من رضى عنه بالنجاح والفلاح وعلى من غضب عليه بالخيبة والخسران وغير ذلك. وبالعجلة حب الانسان ان يسرع ما يهواه إلى التحقق دون اللج والتمادى على طلب العذاب والمكروه. وللمفسرين اختلاف عجيب في مفردات الاية، وكلمات مضطربة في بيان وجه اتصال الاية وكذا الايات التالية بما قبلها تركنا ايرادها والغور فيها لعدم جدوى في التعرض لها من ارادها فليراجع كتبهم. قوله تعالى: (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة) إلى آخر الاية، قال في المجمع: مبصرة أي مضيئة منيرة نيرة قال أبو عمرو: اراد يبصر بها كما يقال: ليل نائم وسر كاتم، وقال الكسائي: العرب تقول: ابصر النهار إذا اضاء. انتهى موضع الحاجة.
[ 51 ]
الليل والنهار هما النور والظلمة المتعاقبان على الارض من جهة مواجهة الشمس بالطلوع وزوالها بالغروب وهما كسائر ما في الكون من اعيان الاشياء واحوالها آيتان لله سبحانه تدلان بذاتهما على توحده بالربوبية. ومن هنا يظهر ان المراد بجعلهما آيتين هو خلقهما كذلك لا خلقهما وليستا آيتين ثم جعلهما آيتين والباسهما لباس الدلالة فالاشياء كلها آيات له تعالى من جهة اصل وجودها وكينونتها الدالة على مكونها لا لوصف طار يطرء عليها. ومن هنا يظهر ايضا ان المراد باية الليل كاية النهار نفس الليل كنفس النهار - على ان تكون الاضافة بيانية لا لامية - والمراد بمحو الليل اظلامه واخفاؤه عن الابصار على خلاف النهار.
فما ذكره بعضهم ان المراد باية الليل القمر ومحوها ما يرى في وجهه من الكلف كما ان المراد باية النهار الشمس وجعلها مبصرة خلو قرصها عن المحو والسواد. ليس بسديد فان الكلام في الايتين لا آيتى الايتين. على ان ما فرع على ذلك من قوله: (لتبتغوا فضلا من ربكم) الخ متفرع على ضوء النهار وظلمة الليل لا على ما يرى من الكلف في وجه القمر وخلو قرص الشمس من ذلك. ونظيره في السقوط قول بعضهم: ان المراد باية الليل ظلمته وباية النهار ضوءه والمراد بمحو آية الليل امحاء ظلمته بضوء النهار ونظيره امحاء ضوء النهار بظلمة الليل وانما اكتفى بذكر احدهما لدلالته على الاخر. ولا يخفى عليك وجه سقوطه بتذكر ما اشرنا إليه سابقا فان الغرض بيان وجود الفرق بين الايتين مع كونهما مشتركتين في الائية والدلالة، وما ذكره من المعنى يبطل الفرق. وقوله: (لتبتغوا فضلا من ربكم) متفرع على قوله: (وجعلنا آية النهار مبصرة) أي جعلناها مضيئة لتطلبوا فيه رزقا من ربكم فان الرزق فضله وعطاؤه تعالى. وذكر بعضهم ان التقدير: لتسكنوا بالليل ولتبتغوا فضلا من ربكم بالنهار الا انه حذف (لتسكنوا بالليل) لما ذكره في مواضع اخر وفيه ان التقدير ينافى كون الكلام مسوقا لبيان ترتب الاثار على احدى الايتين دون الاخرى مع كونهما معا آيتين. وقوله: (ولتعلموا عدد السنين والحساب) أي لتعلموا بمحو الليل وابصار النهار عدد السنين بجعل عدد من الايام واحدا يعقد عليه، وتعلموا بذلك حساب الاوقات
[ 52 ]
والاجال، وظاهر السياق ان علم السنين والحساب متفرع على جعل النهار مبصرا نظير تفرع ما تقدمه من ابتغاء الرزق على ذلك وذلك انا انما نتنبه للاعدام والفقدانات من ناحية الوجودات لا بالعكس والظلمة فقدان النور ولو لا النور لم ننتقل لا إلى نور ولا إلى ظلمة، ونحن وان كنا نستمد في الحساب بالليل والنهار معا ونميز كلا منهما بالاخر
ظاهرا لكن ما هو الوجودى منهما اعني النهار هو الذى يتعلق به احساسنا اولا ثم نتنبه لما هو العدمي منها اعني الليل بنوع من القياس، وكذلك الحال في كل وجودي وعدمي مقيس إليه. وذكر الرازي في تفسيره ان الاولى ان يكون المراد بمحو آية الليل على القول بانها القمر هو ما يعرض القمر من اختلاف النور من المحاق إلى المحاق بالزيادة والنقيصة ليلة فليلة لما فيه من الاثار العظيمة في البحار والصحارى وامزجة الناس. ولازم ذلك - كما اشار إليه - ان يكون قوله: (لتبتغوا فضلا من ربكم) وقوله: (ولتعلموا عدد السنين والحساب) متفرعين على محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة جميعا، والمعنى انا جعلنا ذلك كذلك لتبتغوا باضاءة الشمس واختلاف نور القمر ارزاقكم، ولتعلموا بذلك ايضا السنين والحساب فان الشمس هي التى تميز النهار من الليل والقمر باختلاف تشكلاته يرسم الشهور القمرية والشهور ترسم السنين فاللام في الجملتين اعني (لتبتغوا) (ولتعلموا) متعلق بالفعلين (محونا) و (وجعلنا) جميعا. وفيه ان الاية في سياق لا يلائمه جعل ما ذكر فيها من الغرض غرضا مترتبا على الايتين معا اعني الاية الممحوة والاية المثبتة فقد عرفت ان الايات في سياق التوبيخ واللوم، والاية اعني قوله: (وجعلنا الليل والنهار آيتين) كالجواب عما قدر ان الانسان يحتج به في دعائه بالشر كدعائه بالخير. وملخصه: ان الانسان لمكان عجلته لا يعتنى بما انزله الله من كتاب وهداه إليه من الملة التى هي اقوم بل يقتحم الشر ويطلبه كما يطلب الخير من غير ان يتروى في عمله ويتامل وجه الصلاح والفساد فيه بل يقتحمه بمجرد ما تعلق به هواه ويسرته قدرته، وهو يعتمد في ذلك على حريته الطبيعية في العمل كانه يحتج فيه بان الله اقدره على ذلك ولم يمنع عنه كما نقله الله من قول المشركين، (لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آبائنا) النحل: 35.
[ 53 ]
فاجيب عنه بعد ما اورد في سياق التوبيخ واللوم بان مجرد تعلق القدرة وصحة الفعل لا يستلزم جواز العمل ولا ان اقداره على الخير والشر معا يدل على جواز اقتحام الشر كالخير فالليل والنهار آيتان من آيات الله يعيش فيهما الانسان لكن الله سبحانه محى آية الليل وقدر فيها السكون والخمود، وجعل آية النهار مبصرة مدركة يطلب فيها الرزق ويعلم بها عدد السنين والحساب. فكما ان كون الليل والنهار مشتركين في الائية لا يوجب اشتراكهما في الحركات والتقلبات بل هي للنهار خاصة كذلك اشتراك اعمال الخير والشر في انها جميعا تتحقق باذن الله سبحانه وهى مما اقدر الله الانسان عليه سواء لا يستلزم جواز ارتكابه لهما واتيانه بهما على حد سواء بل جواز الاتيان والارتكاب من خواص عمل الخير دون عمل الشر فليس للانسان ان يسلك كل ما بدا له من سبيل ولا ان ياتي بكل ما اشتهاه وتعلق به هواه معتمدا في ذلك على ما اعطى من الحرية الطبيعية والاقدار الالهى. ومما تقدم يظهر فساد ما ذكره بعضهم ان الاية مسوقة للاحتجاج على التوحيد فان الليل والنهار وما يعرضهما من الاختلاف وما يترتب على ذلك من البركات من اوضح آيات التوحيد. وفيه ان دلالتهما على التوحيد لا توجب ان يكون الغرض افادته والاحتجاج بهما على ذلك في أي سياق وقعا. وقوله في ذيل الاية: (وكل شئ فصلناه تفصيلا) اشارة إلى تمييز الاشياء وان الخلقة لا تتضمن ابهامها ولا اجمالها. قوله تعالى: (وكل انسان الزمناه طائره في عنقه) قال في المجمع: الطائر هنا عمل الانسان شبه بالطائر الذى يسنح ويتبرك به والطائر الذى يبرح فيتشام به، والسانح الذى يجعل ميامنه إلى مياسرك، والبارح الذى يجعل مياسره إلى ميامنك،
والاصل في هذا انه إذا كان سانحا امكن الرامى وإذا كان بارحا لم يمكنه قال أبو زيد: كل ما يجرى من طائر أو ظبى أو غيره فهو عندهم طائر. انتهى. وفي الكشاف: انهم كانوا يتفالون بالطير ويسمونه زجرا فإذا سافروا ومر بهم طير زجروه فان مر بهم سانحا بان مر من جهة اليسار إلى اليمين تيمنوا وان مر بارحا بان
[ 54 ]
مر من جهة اليمين إلى الشمال تشاموا ولذا سمى تطيرا. انتهى. وقال في المفردات: تطير فلان واطير اصله التفاؤل بالطير ثم يستعمل في كل ما يتفاءل به ويتشاءم (قالوا انا تطيرنا بكم) ولذلك قيل: لا طير الا طيرك وقال: (ان تصبهم سيئة يطيروا) أي يتشاءموا به (الا انما طائرهم عند الله) أي شؤمهم ما قد اعد الله لهم بسوء اعمالهم، وعلى ذلك قوله: (قالوا اطيرنا بك وبمن معك) (قال طائركم عند الله) (قالوا طائركم معكم) (وكل انسان الزمناه طائره في عنقه) أي عمله الذى طار عنه من خير وشر ويقال: تطايروا إذا اسرعوا ويقال إذا تفرقوا. انتهى. وبالجملة سياق ما قبل الاية وما بعدها وخاصة قوله: (من اهتدى فانما يهتدى لنفسه) الخ، يعطى ان المراد بالطائر ما يستدل به على الميمنة والمشامة ويكشف عن حسن العاقبة وسوءها فلكل انسان شئ يرتبط بعاقبة حاله يعلم به كيفيتها من خير أو شر. والزام الطائر جعله لازما له لا يفارقه، وانما جعل الالزام في العنق لانه العضو الذى لا يمكن ان يفارقه الانسان أو يفارق هو الانسان بخلاف الاطراف كاليد والرجل، وهو العضو الذى يوصل الراس بالصدر فيشاهد ما يعلق عليه من قلادة أو طوق أو غل اول ما يواجه الانسان. فالمراد بقوله: (وكل انسان الزمناه طائره في عنقه) ان الذى يستعقب لكل انسان سعادته أو شقاءه هو معه لا يفارقه بقضاء من الله سبحانه فهو الذى الزمه اياه،
وهذا هو العمل الذى يعمله الانسان لقوله تعالى: (وان ليس للانسان الا ما سعى وان سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الاوفى) النجم: 41. فالطائر الذى الزمه الله الانسان في عنقه هو عمله، ومعنى الزامه اياه ان الله قضى ان يقوم كل عمل بعامله ويعود إليه خيره وشره ونفعه وضره من غير ان يفارقه إلى غيره، وقد استفيد من قوله تعالى: (وان جهنم لموعدهم اجمعين... ان المتقين في جنات وعيون) الايات الحجر: 45 ان من القضاء المحتوم ان حسن العاقبة للايمان والتقوى وسوء العاقبة للكفر والمعصية.
[ 55 ]
ولازم ذلك ان يكون مع كل انسان من عمله ما يعين له حاله في عاقبة امره معية لازمة لا يتركه وتعيينا قطعيا لا يخطئ ولا يغلط لما قضى به ان كل عمل فهو لصاحبه ليس له الا هو وان مصير الطاعة إلى الجنة ومصير المعصية إلى النار. وبما تقدم يظهر ان الاية انما تثبت لزوم السعادة والشقاء للانسان من جهة اعماله الحسنة والسيئة المكتسبة من طريق الاختيار من دون ان يبطل تأثير العمل في السعادة والشقاء باثبات قضاء ازلى يحتم للانسان سعادة أو شقاء سواء عمل ام لم يعمل وسواء اطاع ام عصى كما توهمه بعضهم. قوله تعالى: (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) يوضح حال هذا الكتاب قوله بعده: (اقرء كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) حيث يدل اولا على ان الكتاب الذى يخرج له هو كتابه نفسه لا يتعلق بغيره، وثانيا ان الكتاب متضمن لحقائق اعماله التى عملها في الدنيا من غير ان يفقد منها شيئا كما في قوله: (يقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا احصاها) الكهف: 49، وثالثا ان الاعمال التى احصاها بادية فيها بحقائقها من سعادة أو شقاء ظاهرة بنتائجها من خير أو شر ظهورا لا يستتر بستر ولا يقطع بعذر، قال تعالى: (لقد كنت في غفلة
من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) ق: 22. ويظهر من قوله تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء) آل عمران: 30 ان الكتاب يتضمن نفس الاعمال بحقائقها دون الرسوم المخطوطة على حد الكتب المعمولة فيما بيننا في الدنيا فهو نفس الاعمال يطلع الله الانسان عليها عيانا، ولا حجه كالعيان. وبذلك يظهر ان المراد بالطائر والكتاب في الاية امر واحد وهو العمل الذى يعمله الانسان غير انه سبحانه قال: (ونخرج له يوم القيامة كتابا) ففرق الكتاب عن الطائر ولم يقل: (ونخرجه) لئلا يوهم ان العمل انما يصير كتابا يوم القيامة وهو قبل ذلك طائر وليس بكتاب أو يوهم ان الطائر خفى مستور غير خارج قبل يوم القيامة فلا يلائم كونه ملزما له في عنقه. وبالجملة في قوله: (ونخرج) له اشارة إلى ان كتاب الاعمال بحقائقها مستور عن
[ 56 ]
ادراك الانسان محجوب وراء حجاب الغفلة وانما يخرجه الله سبحانه للانسان يوم القيامة فيطلعه على تفاصيله، وهو المعنى بقوله: (يلقاه منشورا). وفي ذلك دلالة على ان ذلك امر مهيا له غير مغفول عنه فيكون تأكيدا لقوله: (وكل انسان الزمناه طائره في عنقه) لان المحصل ان الانسان ستناله تبعة عمله لا محالة اما اولا فلانه لازم له لا يفارقه. واما ثانيا فلانه مكتوب كتابا سيظهر له فيلقاه منشورا. قوله تعالى: (اقرء كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) أي يقال له: اقرا كتابك (الخ). وقوله: (كفى بنفسك) الباء فيه زائدة للتأكيد واصله كفت نفسك وانما لم يؤنث الفعل لان الفاعل مؤنث مجازى يجوز معه التذكير والتانيث، وربما قيل: انه اسم فعل
بمعنى اكتف والباء غير زائدة، وربما وجه بغير ذلك. وفي الاية دلالة على ان حجة للكتاب قاطعة بحيث لا يرتاب فيها قارئه ولو كان هو المجرم نفسه وكيف لا ؟ وفيه معاينة نفس العمل وبه الجزاء، قال تعالى: (لا تعتذروا اليوم انما تجزون ما كنتم تعملون) التحريم: 7 وقد اتضح مما اوردناه في وجه اتصال قوله: (ويدع الانسان بالشر) الاية بما قبله وجه اتصال هاتين الايتين اعني قوله: (وكل انسان الزمناه طائره - إلى قوله - حسيبا) فمحصل معنى الايات والسياق سياق التوبيخ واللوم ان الله سبحانه انزل القرآن وجعله هاديا إلى ملة هي اقوم جريا على السنة الالهية في هداية الناس إلى التوحيد والعبودية واسعاد من اهتدى منهم واشقاء من ضل لكن الانسان لا يميز الخير من الشر ولا يفرق بين النافع والضار بل يستعجل كل ما يهواه فيطلب الشر كما يطلب الخير. والحال ان العمل سواء كان خيرا أو شرا لازم لصاحبه لا يفارقه وهو ايضا محفوظ عليه في كتاب سيخرج له يوم القيامة وينشر بين يديه ويحاسب عليه، وإذا كان كذلك كان من الواجب على الانسان ان لا يبادر إلى اقتحام كل ما يهواه ويشتهيه
[ 57 ]
ولا يستعجل ارتكابه بل يتوقف في الامور ويتروى حتى يميز بينها ويفرق خيرها من شرها فيأخذ بالخير ويتحرز الشر. قوله تعالى: (من اهتدى فانما يهتدى لنفسه ومن ضل فانما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر اخرى) قال في المفردات: الوزر الثقل تشبيها بوزر الجبل، ويعبر بذلك عن الاثم كما يعبر عنه بالثقل قال تعالى: (ليحملوا اوزارهم كاملة) الاية كقوله: (وليحملن اثقالهم واثقالا مع اثقالهم) قال: وقوله: (ولا تزر وازرة وزر اخرى) أي لا تحمل وزره من حيث يتعرى المحمول عنه. انتهى.
والاية في موضع النتيجة لقوله: (وكل انسان الزمناه طائره) الخ والجملة الثالثة (ولا تزر وازرة وزر اخرى) تأكيد للجملة الثانية (ومن ضل فانما يضل عليها). والمعنى إذا كان العمل خيرا كان أو شرا يلزم صاحبه ولا يفارقه وهو محفوظ على صاحبه سيشاهده عند الحساب فمن اهتدى فانما يهتدى لنفسه وينتفع به نفسه من غير ان يتبع غيره. ومن ضل عن السبيل فانما يضل على نفسه ويتضرر به نفسه من دون ان يفارقه فيلحق غيره، ولا تتحمل نفس حامله حمل نفس اخرى لا كما ربما يخيل لاتباع الضلال انهم ان ضلوا فوبال ضلالهم على ائمتهم الذين اضلوهم وكما يتوهم المقلدون لابائهم واسلافهم ان آثامهم واوزارهم لابائهم واسلافهم لا لهم. نعم لائمة الضلال مثل اوزار متبعيهم، ولمن سن سنة سيئة اوزار من عمل بها ولمن قال: اتبعونا لنحمل خطاياكم آثام خطاياهم لكن ذلك كله وزر الامامة وجعل السنة وتحمل الخطايا لا عين ما للعامل من الوزر بحيث يفارق العمل عامله ويلحق المتبوع بل ان كان عينه فمعناه ان يعذب بعمل واحد اثنان. قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) ظاهر السياق الجارى في الاية وما يتلوها من الايات بل هي والايات السابقة ان يكون المراد بالتعذيب التعذيب الدنيوي بعقوبة الاستئصال، ويؤيده خصوص سياق النفى (وما كنا معذبين) حيث لم يقل: ولسنا معذبين ولا نعذب ولن نعذب بل قال: (وما كنا معذبين) الدال على استمرار النفى في الماضي الظاهر في انه كانت السنة الالهية في الامم الخالية الهالكة جارية على ان لا يعذبهم الا بعد ان يبعث إليهم رسولا ينذرهم بعذاب الله.
[ 58 ]
ويؤيده ايضا انه تعالى عبر عن هذا المبعوث بالرسول دون النبي فلم يقل حتى نبعث نبيا، وقد تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب في الفرق بين النبوة والرسالة ان الرسالة منصب خاص الهى يستعقب الحكم الفصل في الامة اما
بعذاب الاستئصال واما بالتمتع من الحياة إلى اجل مسمى، قال تعالى: (ولكل امة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) يونس: 47 وقال: (قالت رسلهم ا في الله شك فاطر السماوات والارض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى اجل مسمى) ابراهيم: 10. فالتعبير بالرسول لافادة ان المراد نفى التعذيب الدنيوي دون التعذيب الاخروي أو مطلق التعذيب. فقوله: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) كالدفع لما يمكن ان يتوهم من سابق الايات المنبئة عن لحوق اثر الاعمال بصاحبها وبشارة الصالحين بالاجر الكبير والطالحين بالعذاب الاليم فيوهم ان تبعات السيئات اعم من العذاب الدنيوي والاخروي سيترتب عليها فيغشى صاحبها من غير قيد وشرط. فاجيب ان الله سبحانه برحمته الواسعة وعنايتة الكاملة لا يعذب الناس بعذاب الاستئصال وهو عذاب الدنيا الا بعد ان يبعث رسولا ينذرهم به وان كان له ان يعذبهم به لكنه برحمته ورافته يبالغ في الموعظة ويتم الحجة بعد الحجة ثم ينزل العقوبة فقوله: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) نفى لوقوع العذاب لا لجوازه. فالاية - كما ترى - ليست مسوقة لامضاء حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بل هي تكشف عن اقتضاء العناية الالهية ان لا يعذب قوما بعذاب الاستئصال الا بعد ان يبعث إليهم رسولا فيؤكد لهم الحجة ويقرعهم بالبيان بعد البيان. واما النبوة التى يبلغ بها التكاليف ونبين بها الشرائع فهى التى تستقر بها المؤاخذة الالهية والمغفرة، ويثبت بها الثواب والعقاب الاخرويان فيما لا يتبين فيه الحق والباطل الا من طريق النبوة كالتكاليف الفرعية، واما الاصول التى يستقل العقل بادراكها كالتوحيد والنبوة والمعاد فانما تلحق آثار قبولها وتبعات ردها الانسان بالثبوت العقلي من غير توقف على نبوة أو رسالة
[ 59 ]
وبالجملة اصول الدين وهى التى يستقل العقل ببيانها ويتفرع عليها قبول الفروع التى تتضمنها الدعوة النبوية، تستقر المؤاخذة الالهية على ردها بمجرد قيام الحجة القاطعة العقلية من غير توقف على بيان النبي والرسول لان صحة بيان النبي والرسول متوقفة عليها فلو توقف هي عليها لدارت. وتستقر المؤاخذة الاخروية على الفروع بالبيان النبوى ولا تتم الحجة فيها بمجرد حكم العقل، وقد فصلنا القول فيه في مباحث النبوة في الجزء الثاني وفي قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب، وفي غيرهما. والمؤاخذة الدنيوية بعذاب الاستئصال يتوقف على بعث الرسول بعناية من الله سبحانه لا لحكم عقلي يحيل هذا النوع من المؤاخذة قبل بعث الرسول كما عرفت. وللمفسرين في الاية مشاجرات طويلة تركنا التعرض لها لخروج اكثرها عن غرض البحث التفسيرى، ولعل الذى اوردناه من البحث لا يوافق ما اوردوه لكن الحق احق بالاتباع. قوله تعالى: (وإذا اردنا ان نهلك قرية امرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) قال الراغب: الترفة التوسع في النعمة يقال: اترف فلان فهو مترف - إلى ان قال في قوله: امرنا مترفيها - هم الموصوفون بقوله سبحانه: (فاما الانسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه) انتهى. وقال في المجمع: الترفة النعمة، قال ابن عرفة: المترف المتروك يصنع ما يشاء ولا يمنع منه، وقال: التدمير الاهلاك والدمار الهلاك. انتهى. وقوله: (إذا اردنا ان نهلك قرية) أي إذا دنا وقت هلاكهم من قبيل قولهم: إذا اراد العليل ان يموت كان كذا، وإذا ارادت السماء ان يمطر كان كذا، أي إذا دنا وقت موته وإذا دنا وقت امطارها فان من المعلوم انه لا يريد الموت بحقيقه معنى
الارادة وانها لا تريد الامطار كذلك، وفي القرآن: (فوجدا جدارا يريد ان ينقض) الاية. ويمكن ان يراد به الارادة الفعلية وحقيقتها توافق الاسباب المقتضية للشئ
[ 60 ]
وتعاضدها على وقوعه، وهو قريب من المعنى الاول وحقيقته تحقق ما لهلاكهم من الاسباب وهو كفران النعمة والطغيان بالمعصية كما قال سبحانه: (لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي لشديد) ابراهيم: 7، وقال: (الذين طغوا في البلاد فاكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب ان ربك لبالمرصاد) الفجر: 14. وقوله: (امرنا مترفيها ففسقوا فيها) من المعلوم من كلامه تعالى انه لا يامر بالمعصية امرا تشريعيا فهو القائل: (قل ان الله لا يامر بالفحشاء) الاعراف: 28 واما الامر التكويني فعدم تعلقه بالمعصية من حيث انها معصية اوضح لجعله الفعل ضروريا يبطل معه تعلقه باختيار الانسان ولا معصية مع عدم الاختيار قال تعالى: (انما امره إذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون) يس: 82. فمتعلق الامر في قوله: (امرنا) ان كان هو الطاعة كان الامر بحقيقة معناه وهو الامر التشريعي وكان هو الامر الذى توجه إليهم بلسان الرسول الذى يبلغهم امر ربهم وينذرهم بعذابه لو خالفوا وهو الشان الذى يختص بالرسول كما تقدمت الاشارة إليه فإذا خالفوا وفسقوا عن امر ربهم حق عليهم القول وهو انهم معذبون ان خالفوا فاهلكوا ودمروا تدميرا. وان كان متعلق الامر هو الفسق والمعصية كان الامر مرادا به الاكثار من افاضة النعم عليهم وتوفيرها على سبيل الاملاء والاستدراج وتقريبهم بذلك من الفسق حتى يفسقوا فيحق عليهم القول وينزل عليهم العذاب.
وهذان وجهان في معنى قوله: (امرنا مترفيها ففسقوا فيها) يجوز توجيهه بكل منهما لكن يبعد اول الوجهين اولا ان قولنا: امرته ففعل وامرته ففسق ظاهره تعلق الامر بعين ما فرع عليه، وثانيا عدم ظهور وجه لتعلق الامر بالمترفين مع كون الفسق لجميع اهل القرية والا لم يهلكوا. قال في الكشاف: والامر مجاز لان حقيقة امرهم بالفسق ان يقول لهم: افسقوا، وهذا لا يكون فبقى ان يكون مجازا، ووجه المجاز انه صب عليهم النعمة صبا
[ 61 ]
فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات فكأنهم مامورون بذلك لتسبب ايلاء النعمة فيه، وانما خولهم اياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الاحسان والبر كما خلقهم اصحاء اقوياء واقدرهم على الخير والشر وطلب منهم ايثار الطاعة على المعصية فاثروا الفسوق فلما فسقوا حق عليهم القول وهو كلمة العذاب فدمرهم. فان قلت: هلا زعمت ان معناه امرناهم بالطاعة ففسقوا ؟ قلت لان حذف ما لا دليل عليه غير جائز فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه ؟ وذلك ان المأمور به انما حذف لان فسقوا يدل عليه وهو كلام مستفيض يقال: امرته فقام وامرته فقرا لا يفهم منه الا ان المأمور به قيام أو قراءة ولو ذهبت تقدر غيره لزمت من مخاطبك علم الغيب. ولا يلزم على هذا قولهم: امرته فعصاني أو فلم يمتثل امرى لان ذلك مناف للامر مناقض له، ولا يكون ما يناقض الامر مامورا به فكان محالا ان يقصد اصلا حتى يجعل دالا على المأمور به فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوى لان من يتكلم بهذا الكلام فانه لا ينوى لامره مامورا به كانه يقول: كان منى امر فلم يكن منه طاعة كما ان من يقول: فلان يعطى ويمنع ويامر وينهى غير قاصد إلى مفعول.
فان قلت: هلا كان ثبوت العلم بان الله لا يامر بالفحشاء وانما يامر بالقصد والخير دليلا على ان المراد امرناهم بالخير ففسقوا ؟ قلت: لا يصح ذلك لان قوله: ففسقوا يدافعه فكانك اظهرت شيئا وانت تدعى اضمار خلافه فكان صرف اللفظ إلى المجاز هو الوجه. انتهى. وهو كلام حسن في تقريب ظهور قوله: (امرنا مترفيها ففسقوا فيها) في كون المأمور به هو الفسق واما كونه صريحا فيه بحيث لا يحتمل الا ذلك كما يدعيه فلا، فلم لا يجوز ان تكون الاية من قبيل قولنا: امرته فعصاني حيث تكون المعصية وهى منافية للامر قرينة على كون المأمور به هو الطاعة والفسق والمعصية واحد فان الفسق هو الخروج عن زى العبودية والطاعة فهو المعصية ويكون المعنى حينئذ: امرنا
[ 62 ]
مترفيها بالطاعة ففسقوا عن امرنا وعصوه، أو يكون الامر في الاية مستعملا استعمال اللازم، والمعنى توجه امرنا إلى مترفيها ففسقوا فيها عنه. فالحق ان الوجهين لا باس بكل منهما وان كان الثاني لا يخلو من ظهور، وقد اجيب عن اختصاص الامر بالمترفين بانهم الرؤساء السادة والائمة المتبوعون وغيرهم اتباعهم وحكم التابع تابع لحكم المتبوع ولا يخلو من سقم. وذكر بعضهم في توجيه الاية ان قوله: (امرنا مترفيها) الخ صفة لقرية وليس جوابا لاذا وجواب إذا محذوف على حد قوله: حتى إذا جاؤها وفتحت ابوابها وقال لهم خزنتها إلى آخر الاية للاستغناء عنه بدلالة الكلام. وذكر آخرون ان في الاية تقديما وتاخيرا والتقدير وإذا امرنا مترفى قرية ففسقوا فيها اردنا ان نهلكها، وذلك انه لا معنى لارادة الهلاك قبل تحقق سببه وهو الفسق، وهو وجه سخيف كسابقه. هذا كله على القراءة المعروفة (امرنا) بفتح الهمزة ثم الميم مخففة من الامر بمعنى
الطلب، وربما اخذ من الامر بمعنى الاكثار أي اكثرنا مترفيها مالا وولدا ففسقوا فيها. وقرئ (آمرنا) بالمد ونسب إلى على عليه السلام والى عاصم وابن كثير ونافع وغيرهم وهو من الايمان بمعنى اكثار المال والنسل أو بمعنى تكليف انشاء فعل، وقرئ ايضا (امرنا) بتشديد الميم من التامير بمعنى تولية الامارة ونسب ذلك إلى على والحسن والباقر عليه السلام وإلى ابن عباس وزيد بن على وغيرهم. قوله تعالى: (وكم اهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا) قال في المفردات: القرن القوم المقترنون في زمن واحد وجمعه قرون قال: (ولقد اهلكنا القرون من قبلكم) (وكم اهلكنا من القرون) انتهى ومعنى الاية ظاهر، وفيها تثبيت ما ذكر في الاية السابقة من سنة الله الجارية في اهلاك القرى بالاشارة إلى القرون الماضية الهالكة. والاية لا تخلو من اشعار بان سنة الا هلاك انما شرعت في القرون الانسانية بعد نوح
[ 63 ]
عليه السلام وهو كذلك، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: (كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين) البقره: 213 في الجزء الثاني من الكتاب ان المجتمع الانساني قبل زمن نوح عليه السلام كانوا على سذاجة الفطرة ثم اختلفوا بعد ذلك. قوله تعالى: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا) العاجلة صفة محذوفة الموصوف ولعل موصوفها الحياة بقرينة مقابلتها للاخرة في الاية التالية وهى الحياة الاخرة وقيل: المراد النعم العاجلة وقيل: الاعراض الدنيوية العاجلة. وفي المفردات: اصل الصلى لا يقاد النار. قال: وقال الخليل: صلى الكافر النار قاسى حرها (يصلونها فبئس المصير) وقيل: صلى النار دخل فيها، واصلاها غيره قال: (فسوف نصليه نارا) انتهى. وفي المجمع: الدحر الابعاد والمدحور المبعد المطرود
يقال: اللهم ادحر عنا الشيطان أي ابعده انتهى. لما ذكر سبحانه سنته في التعذيب الدنيوي اثر دعوة الرسالة وانه يهدى الامم الانسانية إلى الايمان والعمل الصالح حتى إذا فسدوا وافسدوا بعث إليهم رسولا فإذا طغوا وفسقوا عذبهم عذاب الاستئصال، عاد إلى بيان سنته في التعذيب الاخروي والاثابة فيها في هذه الاية والايتين بعدها يذكر في آية ملاك عذاب الاخرة، وفي آية ملاك ثوابها، وفي آية محصل القول والاصل الكلى في ذلك. فقوله: (من كان يريد العاجلة) أي الذى يريد الحياة العاجلة وهى الحياة الدنيا، وارادة الحياة الدنيا انما هي طلب ما فيها من المتاع الذى تلتذ به النفس ويتعلق به القلب، والتعلق بالعاجلة وطلبها انما يعد طلبا لها إذا كانت مقصودة بالاستقلال لا لاجل التوسل بها إلى سعادة الاخرى والا كانت ارادة للاخرة فان الاخرة لا يسلك إليها الا من طريق الدنيا فلا يكون الانسان مريدا للدنيا الا إذا اعرض عن الاخرة ونسيها فتمحضت ارادته في الدنيا، ويدل عليه ايضا خصوص التعبير في الاية (من كان يريد) حيث يدل على استمرار الارادة. وهذا هو الذى لا يرى لنفسه الا هذه الحياة المادية الدنيوية وينكر الحياة الاخرة،
[ 64 ]
ويلغو بذلك القول بالنبوة والتوحيد إذ لا اثر للايمان بالله ورسله والتدين بالدين لو لا الاعتقاد بالمعاد، قال تعالى: (فاعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد الا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله) النجم: 30. وقوله: (عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) أي اسرعنا في اعطائه ما يريده في الدنيا لكن لا باعطائه ما يريده بل باعطائه ما نريده فالامر الينا لا إليه والاثر لارادتنا لا لارادته، ولا باعطاء ما نعطيه لكل من يريد بل لمن نريد فليس يحكم فينا ارادة الاشخاص بل ارادتنا هي التى تحكم فيهم.
وارادته سبحانه الفعلية لشئ هو اجتماع الاسباب على كينونته وتحقق العلة التامة لظهوره فالاية تدل على ان الانسان وهو يريد الدنيا يرزق منها على حسب ما يسمح له الاسباب والعوامل التى اجراها الله في الكون وقدر لها من الاثار فهو ينال شيئا مما يريده ويساله بلسان تكوينه لكن ليس له الا ما يهدى إليه الاسباب والله من ورائهم محيط. وقد ذكر الله سبحانه هذه الحقيقة بلسان آخر في قوله: (ولو لا ان يكون الناس امة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم ابوابا وسررا عليها يتكؤن وزخرفا وان كل ذلك لما متاع الحيوة الدنيا) الزخرف: 35 أي لو لا ان الناس جميعا يعيشون على نسق واحد تحت قانون الاسباب والعلل، ولا فرق بين الكافر والمؤمن قبال العلل الكونية بل من صادفته اسباب الغنى والثروة اثرته واغنته مؤمنا كان ام كافرا، ومن كان بالخلاف فبالخلاف، خصصنا الكفار بمزيد النعم الدنيوية إذ ليس لها عندنا قدر ولا في سوق الاخرة من قيمة. وذكر بعضهم: ان المراد بارادة العاجلة ارادتها بعمله وهو ان يريد بعمله الدنيا دون الاخرة فهو محروم من الاخرة، وهو تقييد من غير مقيد، ولعله اخذه من قوله تعالى: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم اعمالهم فيها و هم فيها لا يبخسون اولئك الذين ليس لهم في الاخرة الا النار) هود: 16 لكن الايتين مختلفتان غرضا فالغرض فيما نحن فيه بيان ان مريد الدنيا لا ينال الا منها، والغرض من آية سورة
[ 65 ]
هود ان الانسان لا ينال الا عمله فإذا كان مريدا للدنيا وفى إليه عمله فيها، وبين الغرضين فرق واضح فافهم ذلك. وقوله: (ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا) أي وجعلنا جزاءه في الاخرة جهنم يقاسى حرها وهو مذموم مبعد من الرحمة، والقيدان يفيدان انه مخصوص بجهنم
محروم من المغفرة والرحمة. والاية وان كانت تبين حال من تعلق بالدنيا ونسى الاخرة وانكرها غير ان الطلب والانكار مختلفان بالمراتب فمن ذلك ما هو كذلك قولا وفعلا ومنه ما هو كذلك فعلا مع الاعتراف به قولا، وتصديق ذلك قوله تعالى فيما سيأتي: (وللاخرة اكبر درجات) الاية. قوله تعالى: (ومن اراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فاولئك كان سعيهم مشكورا) قال الراغب: السعي المشى السريع وهو دون العدو، ويستعمل للجد في الامر خيرا كان أو شرا، انتهى موضع الحاجة. وقوله: (من اراد الاخرة) أي الحياة الاخرة نظير ما تقدم من قوله: (من كان يريد العاجلة) والكلام في قول من قال: يعنى من اراد بعمله الاخرة نظير الكلام في مثله في الاية السابقة. وقوله (وسعى لها سعيها) اللام للاختصاص وكذا اضافة السعي إلى ضمير الاخرة، والمعنى وسعى وجد للاخرة السعي الذى يختص بها، ويستفاد منه ان سعيه لها يجب ان يكون سعيا يليق بها ويحق لها كان يكون يبذل كمال الجهد في حسن العمل واخذه من عقل قطعي أو حجة شرعية. وقوله: (وهو مؤمن) أي مؤمن بالله ويستلزم ذلك توحيده والاذعان بالنبوة والمعاد فان من لا يعترف باحدى الخصال الثلاث لا يعده الله سبحانه في كلامه مؤمنا به وقد تكاثرت الايات فيه. على ان نفس التقييد بقوله: (وهو مؤمن) يكفى في التقييد المذكور فان من
[ 66 ]
اراد الاخرة وسعى لها سعيها فهو مؤمن بالله وبنشاة وراء هذه النشاة الدنيوية قطعا فلو لا ان التقييد بالايمان لافادة وجوب كون الايمان صحيحا ومن صحته ان يصاحب
التوحيد والاذعان بالنبوة لم يكن للتقييد وجه فمجرد التقييد بالايمان يكفى مؤونة الاستعانة بايات اخر. وقوله: (فاولئك كان سعيهم مشكورا) أي يشكره الله بحسن قبوله والثناء على ساعيه، وشكره تعالى على عمل العبد تفضل منه على تفضل فان اصل اثابته العبد على عمله تفضل لان من وظيفة العبد ان يعبد مولاه من غير وجوب الجزاء عليه فالاثابة تفضل، والثناء عليه بعد الاثابة تفضل على تفضل والله ذو الفضل العظيم. وفي الايتين دلالة على ان الاسباب الاخروية وهى الاعمال لا تتخلف عن غاياتها بخلاف الاسباب الدنيوية فانه سبحانه يقول فيمن عمل للاخرة: (فاولئك كان سعيهم مشكورا) ويقول فيمن عمل للدنيا: (عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد). قوله تعالى: (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا) قال في المفردات اصل المد الجر ومنه المدة للوقت الممتد ومدة الجرح ومد النهر و مده نهر آخر ومددت عينى إلى كذا قال تعالى: (ولا تمدن عينيك) الاية ومددته في غيه... وامددت الجيش بمدد والانسان بطعام قال: واكثر ما جاء الامداد في المحبوب والمد في المكروه نحو (وامددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون) (ونمد له من العذاب مدا) (ونمدهم في طغيانهم) (واخوانهم يمدونهم في الغى) انتهى بتلخيص منا. فامداد الشئ ومده ان يضاف إليه من نوعه مثلا ما يمتد به بقاؤه ويدوم به وجوده ولو لا ذلك لانقطع كالعين من الماء التى تستمد من المنبع ويضاف إليها منه الماء حينا بعد حين ويمتد بذلك جريانها. والله سبحانه يمد الانسان في اعماله سواء كان ممن يريد العاجلة أو الاخرة فان جميع ما يتوقف عليه العمل في تحققه من العلم والارادة والادوات البدنية والقوى العمالة و المواد الخارجية التى يقع عليها العمل ويتصرف فيها العامل والاسباب والشرائط
[ 67 ]
المربوطة بها كل ذلك امور تكوينية لا صنع للانسان فيها ولو فقد كلها أو بعضها لم يكن العمل، والله سبحانه هو الذى يفيضها بفضله ويمد الانسان بها بعطائه، ولو انقطع منه العطاء انقطع من العامل عمله. فاهل الدنيا في دنياهم واهل الاخرة في آخرتهم يستمدون من عطائه تعالى ولا يعود إليه سبحانه في عطائه الا الحمد لان الذى يعطيه نعمة على الانسان ان يستعمله استعمالا حسنا في موضع يرتضيه ربه، واما إذا فسق بعدم استعماله فيه وحرف الكلمة عن موضعها فلا يلومن الا نفسه وعلى الله الثناء على جميل صنعه وله الحجة البالغة. فقوله: (كلا نمد) أي كلا من الفريقين المعجل لهم والمشكور سعيهم نمد، وانما قدم المفعول على فعله لتعلق العناية به في الكلام فان المقصود بيان عموم الامداد للفريقين جميعا. وقوله: (هؤلاء وهؤلاء) أي هؤلاء المعجل لهم وهؤلاء المشكور سعيهم بما ان لكل منهما نعته الخاص به، ويؤل المعنى إلى ان كلا من الفريقين تحت التربية الالهية يفيض عليهم من عطائه من غير فرق غير ان احدهما يستعمل النعمة الالهية لابتغاء الاخرة فيشكر الله سعيه، والاخر يستعملها لابتغاء العاجلة وينسى الاخرة فلا يبقى له فيها الا الشقاء والخيبة. وقوله: (من عطاء ربك) فان جميع ما يستفيدون منه في اعمالهم كما تقدم لا صنع لهم ولا لغيرهم من المخلوقين فيه بل الله سبحانه هو الموجد لها ومالكها فهى من عطائه. ويستفاد من هذا القيد وجه ما ذكر لكل من الفريقين من الجزاء فان اعمالهم لما كانت بامداده تعالى من خالص عطائه فحقيق على من يستعمل نعمته في الكفر والفسوق ان يصلى النار مذموما مدحورا، وعلى من يستعملها في الايمان به وطاعته ان يشكر سعيه.
وفي قوله: (ربك) التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة وقد كرر ذلك مرتين والظاهر ان النكتة فيه الاشارة إلى ان امدادهم من شؤون صفة الربوبية والله سبحانه هو الرب لا رب غيره غير ان الوثنيين يتخذون من دونه اربابا ولذلك نسب ربوبيته إلى نبيه فقال: (ربك).
[ 68 ]
وقوله: (وما كان عطاء ربك محظورا) أي ممنوعا - والحظر المنع - فاهل الدنيا واهل الاخرة مستمدون من عطائه منعمون بنعمته ممنونون بمنته. وفي الاية دلالة على ان العطاء الالهى مطلق غير محدود بحد لمكان اطلاق العطاء ونفى الحظر في الاية فما يوجد من التحديد والتقدير والمنع باختلاف الموارد فانما هو من ناحية المستفيض وخصوص استعداده للاستفاضة أو فقدانه من راس لا من ناحية المفيض. ومن عجيب ما قيل في الاية ما نسب إلى الحسن وقتادة ان المراد بالعطاء العطاء الدنيوي فهو المشترك بين المؤمن والكافر واما العطاء الاخروي فللمؤمنين خاصة، والمعنى كما قيل: كل الفريقين نمد بالعطايا العاجلة لا الفريق الاول المريد للعاجلة فقط وما كان عطاؤه الدنيوي محظورا من احد. وفيه انه تقييد من غير مقيد مع صلاحية المورد للاطلاق واما ما ذكر من اختصاص العطاء الاخروي بالمؤمنين من غير مشاركة الكفار لهم فيه فخارج من مصب الكلام في الاية فان الكلام في الامداد الذى يمد به الاعمال المنتهية إلى الجزاء لا في الجزاء، وعطايا المؤمنين في الاخرة من الجزاء لا من قبيل الاعمال، ونفس ما يمد به اعمال الفريقين عطايا دنيوية واخروية على ان العطايا الاخروية ايضا مشتركة غير محظورة والحظر فيها من قبل الكافرين كما ان الامر في العطايا الدنيوية ايضا كذلك فربما يمنع لكن لا من قبل محدودية العطاء بل من قبل عدم صلاحية القابل.
وقال في روح المعاني: ان التقسيم الذى تضمنته الاية غير حاصر وذلك غير مضر، والتقسيم الحاصر ان كل فاعل اما ان يريد بفعله العاجلة فقط أو يريد الاخرة فقط أو يريدهما معا أو لم يرد شيئا والقسمان الاولان قد علم حكمهما من الاية، والقسم الثالث ينقسم إلى ثلاثة اقسام لانه اما ان تكون ارادة الاخرة ارجح أو تكون مرجوحة أو تكون الارادتان متعادلتين. ثم اطال البحث فيما تكون فيه ارادة الاخرة ارجح ونقل اختلاف العلماء في قبول هذا النوع من العمل، ونقل اتفاقهم على عدم قبول ما يترجح فيه باعث الدنيا أو كان
[ 69 ]
الباعثان فيه متساويين. قال: واما القسم الرابع عند القائلين بان صدور الفعل من القادر يتوقف على حصول الداعي فهو ممتنع الحصول والذين قالوا: انه لا يتوقف، قالوا ذلك الفعل لا اثر له في الباطن وهو محرم في الظاهر. انتهى وقد سبقه إلى هذا التقسيم والبحث غيره. وانت خبير بان الايات الكريمة ليست في مقام بيان حكم الرد والقبول بالنسبة إلى كل عمل عمل صدر عن عامل بل هي تأخذ غاية الانسان وتعينها بحسب نشاة حياته مرة متعلقة بالحياة العاجلة و لازمه ان لا يريد باعماله الا مزايا الحياة الدنيوية المادية ويعرض عن الاخرى، و مرة متعلقة بالحياة الاخرة ولازمه ان يرى لنفسه حياة خالدة دائمة، بعضها وهى الحياة الدنيا مقدمة للبعض الاخر وهى الحياة بعد الموت واعماله في الدنيا مقصودة بها سعادة الاخرى. ومعلوم ان هذا التقسيم لا ينتج الا قسمين نعم احد القسمين ينقسم إلى اقسام لم يستوف احكامها في الايات لعدم تعلق الغرض بها و ذلك ان من اراد الاخرة ربما سعى لها سعيها وربما لم يسع لها سعيها كالفساق و اهل البدع، وعلى كلا الوجهين ربما كان
مؤمنا وربما لم يكن مؤمنا، ولم يذكر في كلامه تعالى الا حكم طائفة خاصة وهى من اراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن لان الغرض تمييز ملاك السعادة من ملاك الشقاء لا بيان تفصيل الاحوال. قوله تعالى: (انطر كيف فضلنا بعضهم على بعض والاخرة اكبر درجات اكبر تفضيلا) اشارة الا تفاوت الدرجات بتفاوت المساعى حتى لا يتوهم ان قليل العمل وكثيره على حد سواء ويسير السعي والسعى البالغ لا فرق بينهما فان تسوية القليل والكثير والجيد والردى في الشكر والقبول رد في الحقيقة لما يزيد به الافضل على غيره. وقوله: (انطر كيف فضلنا بعضهم على بعض) أي بعض الناس على بعض في الدنيا، والقرينة على هذا التقييد قوله بعد: (والاخرة اكبر) والتفضيل في الدنيا هو ما يزيد به بعض اهلها على بعض من اعراضها وامتعتها كالمال والجاه والولد والقوة
[ 70 ]
والصيت والرئاسة والسؤدد والقبول عند الناس. وقوله: (وللاخرة اكبر درجات واكبر تفضيلا) أي هي اكبر من الدنيا في الدرجات والتفضيل فلا يتو همن متوهمن ان اهل الاخرة في عيشة سواء ولا ان التفاوت بين معايشهم كتفاوت اهل الدنيا في دنياهم بل الدار اوسع من الدنيا بما لا يقاس وذلك ان سبب التفضيل في الدنيا هي اختلاف الاسباب الكونية وهى محدودة والدار دار التزاحم وسبب التفضيل واختلاف الدرجات في الاخرة هو اختلاف النفوس في الايمان والاخلاص وهى من احوال القلوب، واختلاف احوالها اوسع من اختلاف احوال الاجسام بما لا يقاس قال تعالى: (ان تبدوا ما في انفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) البقرة: 284 وقال: (يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم) الشعراء: 89.
ففى الاية امره صلى الله عليه وآله وسلم ان ينظر إلى ما بين اهل الدنيا من التفاضل والاعتبار ليجعل ذلك ذريعة إلى فهم ما بين اهل الاخرة من تفاوت الدرجات والتفاضل في المقامات فان اختلاف الاحوال في الدنيا يؤدى إلى اختلاف الادراكات الباطنة والنيات والاعمال التى يتيسر للانسان ان ياتي بها واختلاف ذلك يؤدى إلى اختلاف الدرجات في الاخرة. قوله تعالى: (لا تجعل مع الله الها آخر فتقعد ملوما مخذولا) قال في المفردات: الخذلان ترك من يظن به ان ينصر نصرته انتهى. والاية بمنزلة النتيجة للايات السابقة التى ذكرت سنة الله في عباده وختمت في ان من اراد منهم العاجلة انتهى به ذلك إلى ان يصلى جهنم مذموما مدحورا، ومن اراد منهم الاخرة شكر الله سعيه الجميل، والمعنى لا تشرك بالله سبحانه حتى يؤديك ذلك إلى ان تقعد وتحتبس عن السير إلى درجات القرب وانت مذموم لا ينصرك الله ولا ناصر دونه وقيل: القعود كناية عن المذلة والعجز.
[ 71 ]
بحث روانى في الكافي باسناده عن ابى عمرو الزبيري عن ابى عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: (ان هذا القرآن يهدى للتى هي اقوم) قال: أي يدعو. وفي تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار عن ابى جعفر عليه السلام:) ان هذا القرآن يهدى للتى هي اقوم) قال: يهدى إلى الولاية. اقول: وهى من الجرى ويمكن ان يراد به ما عند الامام من كمال معارف الدين ولعله المراد مما في بعض الروايات من قوله: يهدى إلى الامام. وعنه: وفي رواية ابى الجارود عن ابى جعفر عليه السلام في قوله: (وكل انسان الزمناه طائره في عنقه) يقول: خيره وشره معه حيث كان لا يستطيع فراقه حتى يعطى
كتابه بما عمل. وفيه عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن ابى جعفر وابى عبد الله عليهما السلام عن الاية قال: قدره الذى قدر عليه. وفيه عن خالد بن يحيى عن ابى عبد الله عليه السلام في قوله: (اقرا كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) قال يذكر العبد جميع ما عمل وما كتب عليه حتى كانه فعله تلك الساعة فلذلك قالوا: يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا احصاها. وفيه عن حمران عن ابى جعفر عليه السلام في قوله: (امرنا مترفيها) مشددة منصوبة تفسيرها: كثرنا، وقال: لا قراتها مخففة. اقول: وفي حديث آخر عن حمران عنه: تفسيرها امرنا اكابرها. وقد روى في قوله تعالى: (ويدع الانسان بالشر) الاية وقوله: (وجعلنا الليل والنهار آيتين) الاية وقوله: (وكل انسان الزمناه طائره) الاية من طرق الفريقين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى عليه السلام وسلمان وغيره روايات تركنا ايرادها لعدم تايدها بكتاب أو سنة أو حجة عقلية قاطعة مع ما فيها من ضعف الاسناد.
[ 72 ]
كلام في القضاء في فصول 1 - في تحصيل معناه وتحديده. انا نجد الحوادث الخارجية والامور الكونيه بالقياس إلى عللها والاسباب المقتضية لها على احدى حالتين فانها قبل ان تتم عللها الموجبة لها والشرائط وارتفاع الموانع التى يتوقف عليها حدوثها وتحققها لا يتعين لها التحقق والثبوت ولا عدمه بل يتردد امرها بين ان تتحقق وان لا تتحقق من راس. فإذا تمت عللها الموجبة لها وكملت ما تتوقف عليه من الشرائط وارتفاع الموانع ولم يبق لها الا ان تتحقق خرجت من التردد والابهام وتعين لها احد الطرفين وهو
التحقق، أو عدم التحقق، ان فرض انعدام شئ مما يتوقف عليه وجودها. ولا يفارق تعين التحقق نفس التحقق. والاعتباران جاريان في افعالنا الخارجية فما لم نشرف على ايقاع فعل من الافعال كان مترددا بين ان يقع أو لا يقع فإذا اجتمعت الاسباب والاوضاع المتقضية واتممناها بالارادة والاجماع بحيث لم يبق له الا الوقوع والصدور عينا له احد الجانبين فتعين له الوقوع. وكذا يجرى نظير الاعتبارين في اعمالنا الوضعية الاعتبارية كما إذا تنازع اثنان في عين يدعيه كل منهما لنفسه كان امر مملوكيته مرددا بين ان يكون لهذا أو لذاك فإذا رجعا إلى حكم يحكم بينهما فحكم لاحدهما دون الاخر كان فيه فصل الامر عن الابهام والتردد وتعيين احد الجانبين بقطع رابطته مع الاخر. ثم توسع فيه ثانيا فجعل الفصل والتعيين بحسب القول كالفصل والتعيين بحسب الفعل فقول الحكم: ان المال لاحد المتنازعين فصل للخصومة وتعيين لاحد الجانبين بعد التردد بينهما، وقول المخبر ان كذا كذا، فصل وتعيين، وهذا المعنى هو الذى نسميه القضاء. ولما كانت الحوادث في وجودها وتحققها مستندة إليه سبحانه وهى فعله جرى
[ 73 ]
فيها الاعتبار ان بعينهما فهى ما لم يرد الله تحققها ولم يتم لها العلل والشرائط الموجبة لوجودها باقية على حال التردد بين الوقوع واللاوقوع فإذا شاء الله وقوعها واراد تحققها فتم لها عللها وعامة شرائطها ولم يبق لها الا ان توجد كان ذلك تعيينا منه تعالى وفصلا لها من الجانب الاخر وقطعا للابهام، ويسمى قضاء من الله. ونظير الاعتبارين جار في مرحلة التشريع وحكمه القاطع بامر وفصله القول فيه قضاء منه.
وعلى ذلك جرى كلامه تعالى فيما اشار فيه إلى هذه الحقيقة، قال تعالى: (وإذا قضى امرا فانما يقول له كن فيكون) البقرة: 117، وقال: (فقضاهن سبع سماوات في يومين) حم السجدة: 12، وقال: (قضى الامر الذى فيه تستفتيان) يوسف: 41، وقال: (وقضينا إلى بنى اسرائيل في الكتاب لتفسدن في الارض مرتين) اسراء: 4 إلى غير ذلك من الايات المتعرضة للقضاء التكويني. ومن الايات المتعرضة للقضاء التشريعي قوله: (وقضى ربك الا تعبدوا الا اياه وبالوالدين احسانا) اسراء: 23، وقوله: (ان ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) يونس: 93، وقوله: (وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) الزمر: 75، وما في الاية وما قبلها من القضاء بمعنى فصل الخصومة تشريعي بوجه وتكوينى باخر. فالايات الكريمة - كما ترى - تمضى صحة هذين الاعتبارين العقليين في الاشياء الكونية من جهة انها افعاله تعالى، وكذا في التشريع الالهى من جهة انه فعله التشريعي، وكذا فيما ينسب إليه تعالى من الحكم الفصل. وربما عبر عنه بالحكم والقول بعناية اخرى قال تعالى: (الا له الحكم) الانعام: 62، وقال: (والله يحكم لا معقب لحكمه) الرعد: 41، وقال: (ما يبدل القول لدى) ق: 29، وقال: (والحق اقول) ص: 84. 2 - نظرة فلسفية في معنى القضاء. لا ريب ان قانون العلية والمعلولية ثابت وان الموجود الممكن معلول له سبحانه اما بلا واسطة معها، وان المعلول إذا نسب
[ 74 ]
إلى علته التامة كان له منها الضرورة والوجوب إذ ما لم يجب لم يوجد، وإذا لم ينسب إليها كان له الامكان سواء اخذ في نفسه ولم ينسب إلى شئ كالماهية الممكنة في ذاتها أو نسب إلى بعض اجزاء علته التامة فانه لو اوجب ضرورته ووجوبه كان علة له تامة والمفروض خلافه.
ولما كانت الضرورة هي تعين احد الطرفين وخروج الشئ عن الابهام كانت الضرورة المنبسطة على سلسلة الممكنات من حيث انتسابها إلى الواجب تعالى الموجب لكل منها في ظرفه الذى يخصه قضاء عاما منه تعالى كما ان الضرورة الخاصة بكل واحد منها قضاء خاص به منه، إذ لا نعنى بالقضاء الا فصل الامر وتعيينه عن الابهام والتردد. ومن هنا يظهر ان القضاء من صفاته الفعلية وهو منتزع من الفعل من جهة نسبته إلى علته التامة الموجبة له. 3 - والروايات في تأييد ما تقدم كثيرة جدا: ففى المحاسن عن ابيه عن ابن ابى عمير عن هشام بن سالم قال: قال أبو عبد الله عليه السلام ان الله إذا اراد شيئا قدره فإذا قدره قضاه فإذا قضاه امضاه. وفيه عن ابيه عن ابن ابى عمير عن محمد بن اسحاق قال قال: أبو الحسن عليه السلام ليونس مولى على بن يقطين: يا يونس لا تتكلم بالقدر قال: انى لا اتكلم بالقدر ولكن اقول: لا يكون الا ما اراد الله وشاء وقضى وقدر فقال ليس هكذا اقول ولكن اقول: لا يكون الا ما شاء الله واراد وقدر وقضى. ثم قال: اتدرى ما المشية ؟ فقال: لا فقال: همه بالشئ أو تدرى ما اراد ؟ قال: لا، قال: اتمامه على المشية فقال: أو تدرى ما قدر ؟ قال: لا، قال: هو الهندسة من الطول والعرض والبقاء ثم قال ان الله إذا شاء شيئا اراده وإذا اراد قدره وإذا قدره قضاه وإذا قضاه امضاه الحديث. وفي رواية اخرى عن يونس عنه عليه السلام قال: لا يكون الا ما شاء الله واراد وقدر وقضى. قلت فما معنى شاء ؟ قال: ابتداء الفعل. قلت: فما معنى اراد ؟ قال: الثبوت عليه. قلت: فما معنى قدر ؟ قال: تقدير الشئ من طوله وعرضه. قلت:
[ 75 ]
فما معنى قضى ؟ قال: إذا قضى امضى فذلك الذى لا مرد له.
وفي التوحيد عن الدقاق عن الكليني عن ابن عامر عن المعلى قال: سئل العالم عليه السلام كيف علم الله ؟ قال: علم وشاء واراد وقدر وقضى وامضى فامضى ما قضى وقضى ما قدر وقدر ما اراد فبعلمه كانت المشية وبمشيته كانت الارادة وبارادته كان التقدير وبتقديره كان القضاء وبقضائه كان الامضاء فالعلم متقدم على المشية والمشية ثانية والارادة ثالثة والتقدير واقع على القضاء بالامضاء. فلله تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء وفيما اراد لتقدير الاشياء فإذا وقع القضاء بالامضاء فلا بداء. الحديث. والذى ذكره عليه السلام من ترتب المشية على العلم والارادة على المشية وهكذا ترتب عقلي بحسب صحة الانتزاع. وفيه باسناده عن ابن نباتة قال: ان امير المؤمنين عليه السلام عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له: يا امير المؤمنين تفر من قضاء الله ؟ قال: افر من قضاء الله إلى قدر الله عزوجل. اقول: وذلك ان القدر لا يحتم المقدر فمن المرجو ان لا يقع ما قدر اما إذا كان القضاء فلا مدفع له، والروايات في المعاني المتقدمة كثيرة من طرق ائمة اهل البيت عليهم السلام. بحث فلسفي في ان الفيض مطلق غير محدود على ما يفيده قوله تعالى: (وما كان عطاء ربك محظورا). اطبقت البراهين على ان وجود الواجب تعالى بما انه واجب لذاته مطلق غير محدود بحد ولا مقيد بقيد ولا مشروط بشرط والا انعدم فيما وراء حده وبطل على تقدير عدم قيده أو شرطه وقد فرض واجبا لذاته فهو واحد وحدة لا يتصور لها ثان ومطلق
[ 76 ]
اطلاقا لا يتحمل تقييدا. وقد ثبت ايضا ان وجود ما سواه اثر مجعول له وان الفعل ضروري المسانخة لفاعله فالاثر الصادر منه واحد بوحدة حقة ظلية مطلق غير محدود والا تركبت ذاته من حد ومحدود وتالفت من وجود وعدم وسرت هذه المناقضة الذاتية إلى ذات فاعله لمكان المسانخة بين الفاعل وفعله، وقد فرض انه واحد مطلق فالوجود الذى هو فعله، واثره المجعول واحد غير كثير ومطلق غير محدود وهو المطلوب. فما يتراءى في الممكنات من جهات الاختلاف التى تقضى بالتحديد من النقص والكمال والوجدان والفقدان عائدة إلى انفسها دون جاعلها. وهى ان كانت في اصل وجودها النوعى أو لوازمها النوعية فمنشاها ما هياتها القابلة للوجود بامكانها الذاتي كالانسان والفرس المختلفين في نوعيهما ولوازم نوعيهما وان كانت في كمالاتها الثانية المختلفة باختلاف افراد النوع من فاقد للكمال محروم منه وواجد له والواجد للكمال التام أو الناقص فمنشاها اختلاف الاستعدادات المادية باختلاف العلل المعدة المهياة للاستفاضة من العلة المفيضة. فالذي تفيضه العلة المفيضة من الاثر واحد مطلق، لكن القوابل المختلفة تكثره باختلاف قابليتها فمن راد له متلبس بخلافه ومن قابل يقبله تاما ومن قابل يقبله ناقصا ويحوله إلى ما يشاء كل خصوصية ما فيه من الاستعداد كالشمس التى تفيض نورا واحدا متشابه الاجزاء لكن الاجسام القابلة لنورها تتصرف فيه على حسب ما عندها من القوة والاستعداد. فان قلت لا ريب في ان هذه الاختلافات امور واقعية فان كان ما عد منشا لها من الماهيات والاستعدادات امورا وهمية غير واقعية لم يكن لاسناد هذه الامور الواقية إليها معنى ورجع الامر إلى الوجود الذى هو اثر الجاعل الحق وهو الخلاف ما ادعيتموه من اطلاق الفيض، وان كانت امورا واقعية غير وهمية كانت من
سنخ الوجود لاختصاص الاصالة به وكان الاستناد ايضا إلى فعله تعالى وثبت خلاف المدعى. قلت: هذا النظر يعيد الجميع إلى سنخ الوجود الواحد ولا يبغى معه من الاختلاف
[ 77 ]
اثر بل يگون هناك وجود واحد ظلى قائم بوجود واحد اصلى ولا يبغى لهذا البحث على هذا محل اصلا. وبعبارة اخرى تقسيم الموجود المطلق إلى ماهية ووجود وكذا تقسيمه إلى ما بالقوة وما بالفعل هو الذى اظهر السلوب في نفس الامر وقسم الاشياء إلى واجد وفاقد ومستكمل ومحروم وقابل ومقبول م منشاؤه وتحليل العقل الاشياء إلى ماهية قابلة للوجود ووجود مقبول للماهية، وكذا إلى قوة فاقدة للفعلية وفعلية تقابلها اما إذا رجع الجميع إلى الوجود الذى هو حقيقة واحدة مطلقة لم يبق للبحث عن سبب الاختلاف محل وعاد اثر الجاعل وهو الفيض واحدا مطلقا لاكثرة فيه ولا حد معه فافهم ذلك. * * * وقضى ربك الا تعبدوا الا اياه وبالوالدين احسانا اما يبلغن عندك الكبر احدهما أو كلاهما فلا تقل لهما اف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما - 23. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا - 24. ربكم اعلم بما في نفوسكم ان تكونوا صالحين فانه كان للاوابين غفورا - 25. وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا - 26. ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا - 27. واما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا - 28. ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها
[ 78 ]
كل البسط فتقعد ملوما محسورا - 29. ان ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر انه كان بعباده خبيرا بصيرا - 30. ولا تقتلوا اولادكم خشيه املاق نحن نرزقهم واياكم ان قتلهم كان خطئا كبيرا - 31. ولا تقربوا الزنى انه كان فاحشة وساء سبيلا - 32. ولا تقتلوا النفس التى حرم الله الا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل انه كان منصورا - 33. ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتى هي احسن حتى يبلغ اشده واوفوا بالعهد ان العهد كان مسؤلا - 34. - واوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير واحسن تأويلا - 35. ولا تقف ما ليس لك به علم ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤلا - 36. ولا تمش في الارض مرحا انك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا - 37. كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها - 38. ذلك مما اوحى اليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله الها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا - 39. بيان عدة من كليات الدين يذكرها الله سبحانه وهى تتبع قوله قبل آيات (ان هذا القرآن يهدى للتى هي اقوم) الاية.
[ 79 ]
قوله تعالى: (وقضى ربك الا تعبدوا الا اياه) (لا تعبدوا) الخ، نفى واستثناء و (ان) مصدرية وجوز ان يكون نهيا واستثناء وان مصدرية أو مفسرة، وعلى أي حال ينحل مجموع المستثنى والمستثنى منه إلى جملتين كقولنا: تعبدونه ولا تعبدون غيره وترجع
الجملتان بوجه آخر إلى حكم واحد وهو الحكم بعبادته عن اخلاص. والقول سواء كان منحلا إلى جملتين أو عائدا إلى جملة واحدة متعلق القضاء وهو القضاء التشريعي المتعلق بالاحكام والقضايا التشريعية، ويفيد معنى الفصل والحكم القاطع المولوي، وهو كما يتعلق بالامر يتعلق بالنهي وكما يبرم الاحكام المثبتة يبرم الاحكام المنفية، ولو كان بلفظ الامر فقيل: وامر ربك ان لا تعبدوا الا اياه، لم يصح الا بنوع من التأويل والتجوز. والامر باخلاص العبادة لله سبحانه اعظم الاوامر الدينية والاخلاص بالعبادة اوجب الواجبات كما ان معصيته وهو الشرك بالله سبحانه اكبر الكبائر الموبقة، قال تعالى: (ان الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النساء: 48. واليه يعود جميع المعاصي بحسب التحليل إذ لولا طاعة غير الله من شياطين الجن والانس وهوى النفس والجهل لم يقدم الانسان على معصية ربه فيما امره به أو نهاه عنه والطاعة عبادة قال تعالى: (الم اعهد اليكم يا بنى آدم ان لا تعبدوا الشيطان) يس: 60، وقال: (افرايت من اتخذ الهه هواه) الجاثية: 23، حتى ان الكافر المنكر للصانع مشرك بالقائه زمام تدبير العالم إلى المادة أو الطبيعة أو الدهر أو غير ذلك وهو مقر بسذاجة فطرته بالصانع تعالى. ولعظم امر هذا الحكم قدمه على سائر ما عد من الاحكام الخطيرة شانا كعقوق الوالدين ومنع الحقوق المالية والتبذير وقتل الاولاد والزنا وقتل النفس المحترمة واكل مال اليتيم ونقض العهد والتطفيف في الوزن واتباع غير العلم والكبير ثم ختمها بالنهي ثانيا عن الشرك. قوله تعالى: (وبالوالدين احسانا) عطف على سابقه أي وقضى ربك بان تحسنوا بالوالدين احسانا أو ان احسنوا بالوالدين احسانا والاحسان في الفعل يقابل الاساءة وهذا بعد التوحيد لله من اوجب الواجبات كما ان عقوقهما اكبر الكبائر بعد الشرك
[ 80 ]
بالله، ولذلك ذكره بعد حكم التوحيد وقدمه على سائر الاحكام المذكورة المعدودة وكذلك فعل في عدة مواضع من كلامه. وقد تقدم في نظير الاية من سورة الانعام - الاية 151 من السورة - ان الرابطة العاطفية المتوسطة بين الاب والام من جانب والولد من جانب آخر من اعظم ما يقوم به المجتمع الانساني على ساقه، وهى الوسيلة الطبيعية التى تمسك الزوجين على حال الاجتماع فمن الواجب بالنظر إلى السنة الاجتماعية الفطرية ان يحترم الانسان والديه باكرامهما والاحسان اليهما، ولو لم يجر هذا الحكم وهجر المجتمع الانساني بطلت العاطفة والرابطة للاولاد بالابوين وانحل به عقد الاجتماع. قوله تعالى: (اما يبلغن عندك الكبر احدهما أو كلاهما فلا تقل لهما اف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما) (اما) مركب من (ان) الشرطية و (ما) الزائدة وهى المصححة لدخول نون التأكيد على فعل الشرط، والكبر هو الكبر في السن واف كلمة تفيد الضجر والانزجار، والنهر هو الزجر بالصياح ورفع الصوت والاغلاظ في القول. وتخصيص حالة الكبر بالذكر لكونها اشق الحالات التى تمر على الوالدين فيحسان فيها الحاجة إلى اعانه الاولاد لهما وقيامهم بواجبات حياتيهما التى يعجزان عن القيام بها، وذلك من آمال الوالدين التى ياملانها من الاولاد حين يقومان بحضانتهم وتربيتهم في حال الصغر وفى وقت لا قدرة لهم على شئ من لوازم الحياة وواجباتها. فالاية تدل على وجوب اكرامهما ورعاية الادب التام في معاشرتهما ومحاورتهما في جميع الاوقات وخاصة في وقت يشتد حاجتهما إلى ذلك وهو وقت بلوغ الكبر من احدهما أو كليهما عند الولد ومعنى الاية ظاهر. قوله تعالى: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني
صغيرا) خفض الجناح كناية عن المبالغة في التواضع والخضوع قولا وفعلا ماخوذ من خفض فرخ الطائر جناحه ليستعطف امه لتغذيته، ولذا قيده بالذل فهو داب افراخ الطيور إذا ارادت الغذاء من امهاتها، فالمعنى واجههما في معاشرتك ومحاورتك مواجهة يلوج منها تواضعك وخضوعك لهما وتذللك قبالهما رحمة بهما.
[ 81 ]
هذا ان كان الذل بمعنى المسكنة وان كان بمعنى المطاوعة فهو ماخوذ من خفض الطائر جناحه ليجمع تحته افراخه رحمة بها وحفظا لها. وقوله: (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) أي اذكر تربيتهما لك صغيرا فادع الله سبحانه ان يرحمهما كما رحماك وربياك صغيرا. قال في المجمع: وفي هذا دلالة على ان دعاء الولد لوالده الميت مسموع والا لم يكن للامر به معنى. انتهى. والذى يدل عليه كون هذا الدعاء في مظنة الاجابة وهو ادب دينى ينتفع به الولد وان فرض عدم انتفاع والديه به على ان وجه تخصيص استجابة الدعاء بالوالد الميت غير ظاهر والاية مطلقة. قوله تعالى: (ربكم اعلم بما في نفوسكم ان تكونوا صالحين فانه كان للاوابين غفورا) السياق يعطى ان تكون الاية متعلقة بما تقدمها من ايجاب احسان الوالدين وتحريم عقوقهما، وعلى هذا فهى متعرضة لما إذا بدرت من الولد بادرة في حق الوالدين من قول أو فعل يتاذيان به، وانما لم يصرح به للاشارة إلى ان ذلك مما لا ينبغى ان يذكر كما لا ينبغى ان يقع. فقوله: (ربكم اعلم بما في نفوسكم) أي اعلم منكم به، وهو تمهيد لما يتلوه من قوله: (ان تكونوا صالحين) فيفيد تحقيق معنى الصلاح أي ان تكونوا صالحين وعلم الله من نفوسكم ذلك فانه كان الخ، وقوله: (فانه كان للاوابين غفورا) أي للراجعين إليه عند كل معصية وهو من وضع البيان العام موضع الخاص.
والمعنى: ان تكونوا صالحين وعلم الله من نفوسكم ورجعتم وتبتم إليه في بادرة ظهرت منكم على والديكم غفر الله لكم ذلك انه كان للاوابين غفورا. قوله تعالى: (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل) تقدم الكلام فيه في نظائره، وبالاية يظهر ان ايتاء ذى القربى والمسكين وابن السبيل مما شرع قبل الهجرة لانها آية مكية من سورة مكية. قوله تعالى: (ولا تبذر تبذيرا ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين وكان الشيطان
[ 82 ]
لربه كفورا) قال في المجمع: التبذير التفريق بالاسراف، واصله ان يفرق كما يفرق البذر الا انه يختص بما يكون على سبيل الافساد، وما كان على وجه الاصلاح لا يسمى تبذيرا وان كثر. انتهى. وقوله: (ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين) تعليل للنهى عن التبذير، والمعنى لا تبذر انك ان تبذر كنت من المبذرين والمبذرون اخوان الشياطين، وكان وجه المواخاة بينهم ان الواحد منهم يصير ملازما لشيطانه وبالعكس كالاخوين الذين هما شقيقان متلازمان في اصلهما الواحد كما يشير إليه قوله تعالى: (وقيضنا لهم قرناء) حم السجدة: 25، وقوله: (احشروا الذين ظلموا وازواجهم) الصافات: 22 أي قرناءهم: وقوله: (واخوانهم يمدونهم في الغى ثم لا يقصرون) الاعراف: 202. ومن هنا يظهر ان تفسير من فسر الاية بانهم قرناء الشياطين احسن من قول من قال: المعنى انهم اتباع الشياطين سالكون سبيلهم. واما قوله: (وكان الشيطان لربه كفورا) فالمراد بالشيطان فيه هو ابليس الذى هو ابوالشياطين وهم ذريته وقبيله واللام حينئذ للعهد الذهنى ويمكن ان يكون السلام للجنس والمراد به جنس الشيطان وعلى أي حال كونه كفورا لربه من جهة كفرانه بنعم الله حيث انه يصرف ما آتاه من قوة وقدرة واستطاعة في سبيل اغواء الناس
وحملهم على المعصية ودعوتهم إلى الخطيئة وكفران النعمة. وقد ظهرت مما تقدم النكتة في جمع الشيطان اولا وافراده ثانيا فان الاعتبار اولا بان كل مبذر اخو شيطانه الخاص فالجميع اخوان للشياطين والاعتبار ثانيا بابليس الذى هو أبو الشياطين أو بجنس الشيطان. قوله تعالى: (واما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا) اصله ان تعرض عنهم و (ما) زائدة للتأكيد والنون للتأكيد. والسياق يشهد بان الكلام في انفاق الاموال فالمراد بقوله: (واما تعرضن عنهم) الاعراض عمن ساله شيئا من المال ينفقه له ويسد به خلته، وليس المراد به كل اعراض كيف اتفق بل الاعراض عند ما ليس عنده شئ من المال يبذله له وليس بايس من
[ 83 ]
وجدانه بدليل قوله: ابتغاء رحمة من ربك ترجوها) أي كنت تعرض عنهم لا لكونك مليئا بالمال شحيحا به، ولا لانك فاقد له آيس من حصوله بل لانك فاقد له مبتغ وطالب لرحمة من ربك ترجوها يعنى الرزق. وقوله: (فقل لهم قولا ميسورا) أي سهلا لينا أي لا تغلظ في القول ولا تجف في الرد كما قال تعالى: (واما السائل فلا تنهر) الضحى: 10 بل رده بقول سهل لين. قال في الكشاف: وقوله: (ابتغاء رحمة من ربك) اما ان يتعلق بجواب الشرط مقدما عليه أي فقل لهم قولا سهلا لينا وعدهم وعدا جميلا رحمة لهم وتطييبا لقلوبهم ابتغاء رحمة من ربك أي ابتغ رحمة الله التى ترجوها برحمتك عليهم، واما ان يتعلق بالشرط أي وان اعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو ان يفتح لك - فسمى الرزق رحمة - فردهم ردا جميلا فوضع الابتغاء موضع الفقد لان فاقد الرزق مبتغ له فكان لفقد سبب الابتغاء والابتغاء مسببا عنه فوضع المسبب موضع السبب. انتهى. قوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما
محسورا) جعل اليد مغلولة إلى العنق كناية عن الامساك كمن لا يعطى ولا يهب شيئا لبخله وشح نفسه، وبسط اليد كل البسط كناية عن انفاق الانسان كل ما في وجده بحيث لا يبقى شيئا كمن يبسط يده كل البسط بحيث لا يستقر عليها شئ ففى الكلام نهى بالغ عن التفريط والافراط في الانفاق. وقوله: (فتقعد ملوما محسورا) متفرع على قوله: (ولا تبسطها) الخ والحسر هو الانقطاع أو العرى أي ولا تبسط يدك كل البسط حتى يتعقب ذلك ان تقعد ملوما لنفسك وغيرك منقطعا عن واجبات المعاش أو عريانا لا تقدر على ان تظهر للناس وتعاشرهم وتراودهم. وقيل: ان قوله: (فتقعد ملوما محسورا) متفرع على الجملتين لا على الجملة الاخيرة فحسب والمعنى ان امسكت قعدت ملوما مذموما وان اسرفت بقيت متحسرا مغموما. وفيه ان كون قوله: (ولا تبسطها كل البسط) ظاهرا في النهى عن التبذير والاسراف غير معلوم وكذا كون انفاق جميع المال في سبيل الله اسرافا وتبذيرا غير ظاهر وان كان منهيا عنه بهذه الاية كيف ومن المأخوذ في مفهوم التبذير ان يكون على
[ 84 ]
وجه الافساد، ووضع المال ولو كان كثيرا أو جميعه في سبيل الله و انفاقه على من يستحقه ليس بافساد له، ولا وجه للتحسر والغم على ما لم يفسد ولا افسد. قوله تعالى: (ان ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر انه كان بعباده خبيرا بصيرا ظاهر السياق ان الاية في مقام التعليل لما تقدم في الاية السابقة من النهى عن الافراط والتفريط في انفاق المال وبذله. والمعنى: ان هذا داب ربك وسنته الجارية يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر لمن يشاء فلا يبسطه كل البسط ولا يمسك عنه كل الامساك رعاية لمصلحة العباد انه كان بعباده خبيرا بصيرا وينبغى لك ان تتخلق بخلق الله وتتخذ طريق الاعتدال وتتجنب الافراط والتفريط.
وقيل: انها تعليل على معنى ان ربك يبسط ويقبض، وذلك من الشؤون الالهية المختصة به تعالى، وليس لك ان تتصف به والذى عليك ان تقتصد من غير ان تعدل عنه إلى افراط أو تفريط، وقيل في معنى التعليل غير ذلك، وهى وجوه بعيدة. قوله تعالى: (ولا تقتلوا اولادكم خشية املاق نحن نرزقهم واياكم ان قتلهم كان خطا كبيرا) الاملاق الفاقة والفقر، وقال في المفردات: الخطا العدول عن الجهة وذلك اضرب: احدها ان تريد غير ما تحسن ارادته وفعله، وهذا هو الخطا التام المأخوذ به الانسان يقال: خطئ يخطا وخطاة، قال تعالى: (ان قتلهم كان خطا كبيرا) وقال: (وان كنا لخاطئين) والثانى ان يريد ما يحسن فعله ولكن يقع منه خلاف ما يريد فيقال: اخطا اخطاء فهو مخطئ وهذا قد اصاب في الارادة واخطا في الفعل، وهذا المعنى بقوله: (ومن قتل مؤمنا خطا فتحرير رقبة)، والثالث ان يريد ما لا يحسن فعله ويتفق منه خلافه فهذا مخطئ في الارادة مصيب في الفعل فهو مذموم بقصده غير محمود على فعله. وجملة الامر ان من اراد شيئا فاتفق منه غيره يقال: اخطا، وان وقع منه كما اراده يقال: اصاب، وقد يقال لمن فعل فعلا لا يحسن أو اراد ارادة لا يجمل: انه اخطا، ولذا يقال: اصاب الخطا واخطا الصواب واصاب الصواب واخطا الخطا
[ 85 ]
وهذه اللفظة مشتركة كما ترى مترددة بين معان يجب لمن يتحرى الحقائق ان يتاملها انتهى بتلخيص. وفي الاية نهى شديد عن قتل الاولاد خوفا من الفقر والحاجة وقوله (نحن نرزقهم واياكم) تعليل للنهى وتمهيد لقوله بعده: (ان قتلهم كان خطا كبيرا). والمعنى ولا تقتلوا اولادكم خوفا من ان تبتلوا بالفقر والحاجة فيؤديهم ذلك إلى ذل السؤال أو ازدواج بناتكم من غير الاكفاء أو غير ذلك مما يذهب بكرامتكم
فانكم لستم ترزقونهم حتى تفقدوا الرزق عند فقركم واعساركم بل نحن نرزقهم واياكم ان قتلهم كان خطا كبيرا. وقد تكرر في كلامه تعالى النهى عن قتل الاولاد خوفا من الفقر وخشيد من الاملاق، وهو مع كونه من قتل النفس المحترمة التى يبالغ كلامه تعالى في النهى عنه انما افرد بالذكر واختص بنهي خاص لكونه من اقبح الشقوة واشد القسوة، ولانهم - كما قيل - كانوا يعيشون في اراضى يكثر فيها السنة ويسرع إليها الجدب فكانوا إذا لاحت لوائح الفاقة والاعسار يجدب وغيره بادروا إلى قتل الاولاد خوفا من ذهاب الكرامة والعزة. وفي الكشاف: قتلهم اولادهم هو وادهم بناتهم كانوا يئدونهن خشية الفاقة وهى الاملاق فنهاهم الله وضمن لهم ارزاقهم انتهى، والظاهر خلاف ما ذكره وان الايات المتعرضة لواد البنات آيات خاصة تصرح به وبحرمته كقوله تعالى: (وإذا الموؤدة سئلت باى ذنب قتلت) التكوير: 9، وقوله: (وإذا بشر احدهم بالانثى ظل وجهه مسودا فهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ايمسكه على هون ام يدسه في التراب الا ساء ما يحكمون) النحل: 59. واما الاية التى نحن فيها واترابها فانها تنهى عن قتل الاولاد خشية املاق، ولا موجب لحمل الاولاد على البنات مع كونه اعم، ولا حمل الهون على خوف الفقر مع كونهما متغايرين فالحق ان الاية تكشف عن سنة سيئة اخرى غير واد البنات دفعا للهون وهى قتل الاولاد من ذكر وانثى خوفا من الفقر والفاقة والايات تنهى عنه. قوله تعالى: (ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشه وساء سبيلا) نهى عن الزنا وقد
[ 86 ]
بالغ في تحريمه حيث نهاهم عن ان يقربوه، وعلله بقوله: (انه كان فاحشة) فافاد ان الفحش صفة لازمة له لا يفارقه، وقوله: (وساء سبيلا) فافاد انه سبيل سئ يؤدى إلى فساد المجتمع في جميع شؤنه حتى ينحل عقده ويختل نظامه وفيه هلاك الانسانية
وقد بالغ سبحانه في وعيد من اتى به حيث قال في صفات المؤمنين: (ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق اثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا الا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا) الفرقان: 70. (كلام في حرمه الزنا) وهو بحث قرآني اجتماعي. من المشهود ان في كل من الزوجين من الانسان اعني الذكر والانثى إذا ادرك وصحت بنيته ميلا غريزيا إلى الاخر وليس ذلك مما يختص بالانسان بل ما نجده من عامة الحيوان ايضا على هذه الغريزة الطبيعية. وقد جهز بحسب الاعضاء والقوى بما يدعوه إلى هذا الاقتراب والتمايل والتامل في نوع تجهيز الصنفين لا يدع ريبا في ان هذه الشهوة الطبيعية وسيلة تكوينية إلى التوالد والتناسل الذى هو ذريعة إلى بقاء النوع، وقد جهز بامور اخرى متممة لهذه البغية الطبيعية كحب الولد و تجهيز الانثى من الحيوان ذى الثدى باللبن لتغذى طفلها حتى يستطيع التقام الغذاء الخشن ومضغه وهضمه فكل ذلك تسخير الهى يتوسل به إلى بقاء النوع. ولذلك نرى ان الحيوان مع عدم افتقاره إلى الاجتماع والمدنية لسذاجة حياته وقلة حاجته يهتدى حينا بعد حين بحسب غريزته إلى الاجتماع الزوجي - السفاد - ثم يلتزم الزوجان أو الانثى منهما الطفل أو الفرخ ويتكفلان أو تتكفل الانثى تغذيته وتربيته حتى يدرك ويستقل بادارة رحى حياته. ولذلك ايضا لم يزل الناس منذ ضبط التاريخ سيرهم وسننهم تجرى فيهم سنة الازدواج التى فيها نوع من الاختصاص و الملازمة بين الرجل والمراة لتجاب به داعية
[ 87 ]
الغريزة ويتوسل به إلى انسال الذرية، وهو اصل طبيعي لانعقاد المجتمع الانساني فان من الضرورى ان الشعوب المختلفة البشرية على ما لها من السعة والكثرة تنتهى إلى
مجتمعات صغيرة منزلية انعقدت في سالف الدهور. وما مر من ان في سنة الازدواج شئ من معنى الاختصاص هو المنشا لما كان الرجال يعدون اهلهم اعراضا لانفسهم ويرون الذب عن الاهل وصونها من تعرض غيرهم فريضة على انفسهم كالذب عن انفسهم أو اشد، والغريزة الهائجة إذ ذاك هي المسماة بالغيرة وليست بالحسد والشح. ولذلك ايضا لم يزالوا على مر القرون والاجيال يمدحون النكاح ويعدونه سنة حسنة ممدوحه، ويستقبحون الزنا وهو المواقعة من غير علقه النكاح ويستشنعونه في الجملة ويعدونه اثما اجتماعيا وفاحشة أي فعلا شنيعا لا يجهر به وان كان ربما وجد بين بعض الاقوام الهمجية في بعض الاحيان وعلى شرائط خاصة بين الحرائر والشبان أو بين الفتيات من الجوارى على ما ذكر في تواريخ الامم والاقوام. وانما استفحشوه وانكروه لما يستتبعه من فساد الانساب وقطع النسل وظهور الامراض التناسلية ودعوته إلى كثير من الجنايات الاجتماعية من قتل وجرح وسرقة وخيانة وغير ذلك وذهاب العفة والحياء والغيرة والمودة والرحمة. غيران المدنية الغربية الحديثة لابتنائها على التمتع التام من مزايا الحياة المادية وحرية الافراد في غير ما تعتني به القوانين المدنية سواء فيه السنن القومية والشرائع الدينية والاخلاق الانسانية اباحته إذا وقع من غير كره كيفما كان، وربما اضيف إلى ذلك بعض شرائط جزئية اخرى في موارد خاصة، ولم تبال بما يستتبعه من وجوه الفساد عناية بحرية الافراد فيما يهوونه ويرتضونه والقوانين الاجتماعية تراعى راى الاكثرين. فشاعت الفاحشة بين الرجال والنساء حتى عمت المحصنين والمحصنات والمحارم حتى كاد ان لا يوجد من لم يبتل به وكثر مواليدها كثرة كاد ان تثقل كفة الميزان واخذت تضعف الاخلاق الكريمة التى كانت تتصف بها الانسانية الطبيعية وترتضيها لنفسه بتسنين سنة الازدواج من العفة والغيرة والحياء يوما فيوما حتى صار بعض هذه الفضائل
اضحوكة وسخرية ولو لا ان في ذكر الشنائع بعض الشناعة ثم في خلال الابحاث القرآنية
[ 88 ]
خاصة لاوردنا بعض ما نشرته المنشورات من الاحصاءات في هذا الباب. والشرائع السماوية على ما يذكره القرآن الكريم - وقد مرت الاشارة إلى ذلك في تفسير الايات 151 - 153 من سورة الانعام - تنهى عن الزنا اشد النهى وقد كان محرما في ملة اليهود ويستفاد من الاناجيل حرمته. وقد نهى عنه في الاسلام وعد من المعاصي الكبيرة واغلظ في التحريم في المحارم كالام والبنت والاخت والعمة والخالة، وفي التحريم في الزنا، مع الاحصان وهو زنا الرجل وله زوجة والمراة ذات البعل، وقد اغلظ فيما شرع له من الحد وهو الجلد مائة جلدة والقتل في المرة الثالثة أو الرابعة لو اقيم الحد مرتين أو ثلاثا والرجم في الزنا مع الاحصان. وقد اشار سبحانه إلى حكمة التحريم فيما نهى عنه بقوله: (ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة وساء سبيلا) حيث عده اولا فاحشة ثم وصفه ثانيا بقوله: (وساء سبيلا) والمراد - والله اعلم - سبيل البقاء كما يستفاد من قوله: (ائنكم لتاتون الرجال وتقطعون السبيل) العنكبوت: 29، أي وتتركون اتيان النساء الذى هو السبيل فتنقطع بذلك وليس الا سبيلا للبقاء من جهة تسببه إلى تولد المواليد وبقاء النسل بذلك، ومن جهة ان الازدواج وعقد المجتمع المنزلى هو اقوى وسيلة يضمن بقاء المجتمع المدنى بعد انعقاده. فمع انفتاح باب الزنا لا تزال الرغبات تنقطع عن النكاح والازدواج إذ لا يبقى له الا محنة النفقة ومشقة حمل الاولاد وتربيتها ومقاساة الشدائد في حفظها والقيام بواجب حياتها والغريزة تقنع من سبيل آخر من غير كد وتعب، وهو مشهود من حال الشبان والفتيات في هذه البلاد، وقد قيل لبعضهم: لم لا تتزوج ؟ فقال: وما اصنع بالازدواج وكل نساء البلد نسائى، ولا يبقى حينئذ للازدواج والنكاح الا شركة الزوجين في
مساعي الحياة الجزئية غير التناسل كالشركة في تجارة أو عمل ويسرع اليهما الافتراق لادنى عذر، وهذا كله مشهود اليوم في المجتمعات الغربية. ومن هنا انهم يعدون الازدواج شركة في الحياة منعقدة بين الزوجين الرجل والمراة وجعلوها هي الغاية المطلوبة بالذات من الازدواج دون الانسال وتهيئة الاولاد ولا اجابة
[ 89 ]
غريزة الميل الطبيعي بل عدوا ذلك من الاثار المترتبة عليه ان توافقا على ذلك وهذا انحراف عن سبيل الفطرة والتامل في حال الحيوان على اختلاف انواعه يهدى إلى ان الغاية المطلوبة منه عندها هو ارضاء الغريزة الهائجة وانسال الذرية وكذا الامعان في حال الانسان اول ما يميل إلى ذلك يعطى ان الغاية القريبة الداعية إليه عنده هو ارضاء الغريزة ويعقبه طلب الولد. ولو كانت الغريزة الانسانية التى تدفعه إلى هذه السنة الطبيعية انما تطلب الشركة في الحياة والتعاون على واجب الماكل والمشرب والملبس والمسكن وما هذا شانه يمكن ان يتحقق بين رجلين أو بين امراتين لظهر اثره في المجتمع البشرى واستن عليه ولا اقل في بعض المجتمعات في طول تاريخ الانسان وتزوج رجل برجل احيانا أو امراة بامراة ولم تجر سنة الازدواج على وتيرة واحدة دائما ولم تقم هذه الرابطة بين طرفين احدهما من الرجال والاخر من النساء ابدا. ومن جهة اخرى اخذ مواليد الزنا في الازدياد يوما فيوما يقطع منابت المودة والرحمة وتعلق قلوب الاولاد بالاباء ويستوجب ذلك انقطاع المودة والرحمة من ناحية الاباء بالنسبة إلى الاولاد وهجر المودة و الرحمة بين الطبقتين الاباء والاولاد يقضى بهجر سنة الازدواج للمجتمع وفيه انقراضهم وهذا كله ايضا مما يلوح من المجتمعات الغربية. ومن التصور الباطل ان يتصور ان البشر سيوفق يوما ان يدير رحى مجتمعه باصول فنية وطرق علمية من غير حاجة إلى الاستعانة بالغرائز الطبيعية فيهيا يومئذ طبقة
المواليد مع الاستغناء عن غريزة حب الاولاد بوضع جوائز تسوقهم إلى التوليد والانسال أو بغير ذلك كما هو معمول بعض الممالك اليوم فان السنن القومية والقوانين المدنية تستمد في حياتها بما جهز به الانسان من القوى والغرائز الطبيعية فلو بطلت أو ابطلت انفصم بذلك عقد مجتمعه، وهيئة المجتمع قائمة بافراده وسننه مبنية على اجابتهم لها ورضاهم بها وكيف تجرى في مجتمع سنة لا ترتضيها قرائحهم ولا تستجيبها نفوسهم ثم يدوم الامر عليه. فهجر الغرائز الطبيعية وذهول المجتمع البشرى عن غاياته الاصلية يهدد الانسانية بهلاك سيغشاها ويهتف بان امامهم يوما سيتسع فيه الخرق على الراقع وان كان اليوم لا
[ 90 ]
يحس به كل الاحساس لعدم تمام نمائه بعد. ثم ان لهذه الفاحشة اثرا آخر سيئا في نظر التشريع الاسلامي وهو افساده للانساب وقد بنى المناكح والمواريث في الاسلام عليها. قوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التى حرم الله الا بالحق) إلى آخر الاية نهى عن قتل النفس المحترمة الا بالحق أي الا ان يكون قتلا بالحق بان يستحق ذلك لقود أو ردة أو لغير ذلك من الاسباب الشرعية، ولعل في توصيف النفس بقوله: (حرم الله) من غير تقييد اشارة إلى حرمة قتل النفس في جميع الشرائع السماوية فيكون من الشرائع العامة كما تقدمت الاشارة إليه في ذيل الايات 151 - 153 من سورة الانعام. وقوله: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل انه كان منصورا) المراد بجعل السلطان لوليه تسليطه شرعا على قتل قاتل وليه قصاصا والضميران في (فلا يسرف) و (انه) للولى، والمراد بكونه منصورا هو التسليط الشرعي المذكور. والمعنى: ومن قتل مظلوما فقد جعلنا بحسب التشريع لوليه وهو ولى دمه سلطنة
على القصاص واخذ الدية والعفو فلا يسرف الولى في القتل بان يقتل غير القاتل أو يقتل اكثر من الواحد انه كان منصورا أي فلا يسرف فيه لانه كان منصورا فلا يفوته القاتل بسبب انا نصرناه أو فلا يسرف اعتمادا على انا نصرناه. وربما احتمل بعضهم رجوع الضمير في قوله: (فلا يسرف) إلى القاتل المدلول عليه بالسياق، وفي قوله: (انه) إلى (من) والمعنى قد جعلنا لولى المقتول ظلما سلطنة فلا يسرف القاتل الاول باقدامه على القتل ظلما فان المقتول ظلما منصور من ناحيتنا لما جعلنا لوليه من السلطنة، وهو معنى بعيد من السياق ودونه ارجاع ضمير (انه) فقط إلى المقتول. وقد تقدم كلام في معنى القصاص في ذيل قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة) البقره: 179 في الجزء الاول من الكتاب. قوله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتى هي احسن حتى يبلغ اشده) نهى
[ 91 ]
عن اكل مال اليتيم وهو من الكبائر التى اوعد الله عليها النار قال تعالى: (ان الذين ياكلون اموال اليتامى ظلما انما ياكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) النساء: 10. وفي النهى عن الاقتراب مبالغة لافادة اشتداد الحرمة. وقوله: (الا بالتى هي احسن) أي بالطريقة التى هي احسن وفيه مصلحة انماء ماله، وقوله: (حتى يبلغ اشده) هو أو ان البلوغ والرشد وعند ذلك يرتفع عنه اليتم فالتحديد بهذه الجملة لكون النهى عن القرب في معنى الامر بالصيانة والحفظ كانه قيل: احتفظوا على ماله حتى يبلغ اشده فتردوه إليه، وبعبارة اخرى الكلام في معنى قولنا: لا تقربوا مال اليتيم ما دام يتيما، وقد تقدم بعض ما يناسب المقام في سورة الانعام آية 152. قوله تعالى: (واوفوا بالعهد ان العهد كان مسؤلا) أي مسؤل عنه وهو من
الحذف والايصال السائغ في الكلام، وقيل: المراد السؤال عن نفس العهد فان من الجائز ان تتمثل الاعمال يوم القيامة فتشهد للانسان أو عليه وتشفع له أو تخاصمه. قوله تعالى: (واوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير واحسن تأويلا) القسطاس بكسر القاف وضمها هو الميزان قيل: رومى معرب وقيل: عربي، وقيل مركب في الاصل من القسط وهو العدل وطاس وهو كفة الميزان والقسطاس المستقيم هو الميزان العادل لا يخسر في وزنه. وقوله: (ذلك خير واحسن تأويلا) الخير هو الذى يجب ان يختاره الانسان إذا تردد الامر بينه وبين غيره، والتاويل هو الحقيقة التى ينتهى إليها الامر، وكون ايفاء الكيل والوزن بالقسطاس المستقيم خيرا لما فيه من الاتقاء من استراق اموال الناس واختلاسها من حيث لا يشعرون وجلب وثوقهم. وكونهما احسن تأويلا لما فيهما من رعاية الرشد والاستقامة في تقدير الناس معيشتهم فان معايشهم تقوم في التمتع بامتعة الحياة على اصلين اكتساب الامتعة الصالحة للتمتع والمبادلة على الزائد على قدر حاجتهم فهم يقدرون معيشتهم على قدر ما يسعهم ان يبذلوه من المال عينا أو قيمة، وعلى قدر ما يحتاجون إليه من الامتعة المشتراة فإذا
[ 92 ]
خسروا بالتطفيف ونقص الكيل والوزن فقد اختلت عليهم الحياة من الجهتين جميعا، وارتفع الامن العام من بينهم. واما إذا اقيم الوزن بالقسط فقد اطل عليهم الرشد واستقامت اوضاعهم الاقتصادية باصابة الصواب فيما قدروا عليه معيشتهم واجتلب وثوقهم إلى اهل السوق واستقر بينهم الامن العام. قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤلا) القراءة المشهورة (لا تقف) بسكون القاف وضم الفاء من قفا يقفو
قفوا إذا اتبعه ومنه قافية الشعر لكونها في آخر المصراع تابعة لما تقدمها، وقرئ (لا تقف) بضم القاف وسكون الفاء من قاف بمعنى قفا، ولذلك نقل عن بعض اهل اللغة ان قاف مقلوب قفا مثل جبذ مقلوب جذب، ومنه القيافة بمعنى اتباع اثر الاقدام. والاية تنهى عن اتباع ما لا علم به، وهى لاطلاقها تشمل الاتباع اعتقادا وعملا، وتتحصل في مثل قولنا: لا تعتقد ما لا علم لك به ولا تقل ما لا علم لك به ولا تفعل ما لا علم لك به لان في ذلك كله اتباعا. وفي ذلك امضاء لما تقضى به الفطرة الانسانية وهو وجوب اتباع العلم والمنع عن اتباع غيره فان الانسان بفطرته الموهوبة لا يريد في مسير حياته باعتقاده أو عمله الا اصابة الواقع والحصول على ما في متن الخارج والمعلوم هو الذى يصح له ان يقول: انه هو، واما المظنون والمشكوك والموهوم فلا يصح فيها اطلاق القول بانه هو فافهم ذلك. والانسان بفطرته السليمة يتبع في اعتقاده ما يراه حقا ويجده واقعا في الخارج، ويتبع في عمله ما يرى نفسه مصيبا في تشخيصه، وذلك فيما تيسر له ان يحصل العلم به، واما فيما لا يتيسر له العلم به كالفروع الاعتقادية بالنسبة إلى بعض الناس وغالب الاعمال بالنسبة إلى غالب الناس فان الفطرة السليمة تدفعه إلى اتباع علم من له علم بذلك وخبرة باعتبار علمه وخبرته علما لنفسه فيؤل اتباعه في ذلك بالحقيقة اتباعا لعلمه بان له علما
[ 93 ]
وخبرة كما يرجع السالك وهو لا يعرف الطريق إلى الدليل لكن مع علمه بخبرته ومعرفته، ويرجع المريض إلى الطبيب ومثله ارباب الحوائج إلى مختلف الصناعات المتعلقة بحوائجهم إلى اصاب تلك الصناعات. ويتحصل من ذلك انه لا يتخطى العلم في مسير حياته بحسب ما تهدى إليه فطرته
غير انه يعد ما يثق به نفسه ويطمئن إليه قلبه علما وان لم يكن ذاك اليقين الذى يسمى علما في صناعة البرهان من المنطق. فله في كل مسالة ترد عليه اما علم بنفس المسالة واما دليل علمي بوجوب العمل بما يؤديه ويدل عليه، وعلى هذا ينبغى ان ينزل قوله سبحانه (ولا تقف ما ليس لك به علم) فاتباع الظن عن دليل علمي بوجوب اتباعه اتباع للعلم كاتباع العلم في مورد العلم. فيؤل المعنى إلى انه يحرم الاقتحام على اعتقاد أو عمل يمكن تحصيل العلم به الا بعد تحصيل العلم، والاقتحام على ما لا يمكن فيه ذلك الا بعد الاعتماد على دليل علمي يجوز الاقتحام والورود وذلك كاخذ الاحكام عن النبي واتباعه واطاعته فيما يامر به وينهى عنه عن قبل ربه وتناول المريض ما يامر به الطبيب والرجوع إلى اصحاب الصنائع فيما يرجع إلى صناعتهم فان الدليل العلمي على عصمة النبي دليل علمي على مطابقة ما يخبر به أو ما يامر به وينهى عنه الواقع واصابة من اتبعه الصواب، والحجة العلمية على خبرة الطبيب في طبه واصحاب الصناعات في صناعاتهم حجة علمية على اصابة من يرجع إليهم فيما يعمل به. ولو لا كون الاقتحام على العمل عن حجة علمية على وجوب الاقتحام اقتحاما علميا لكانت الاية قاصرة عن الدلالة على مدلولها من راس فان الطريق إلى فهم مدلول الاية هو ظهورها اللفظى فيه، والظهور اللفظى من الادلة الظنية غير انه حجة عن دليل علمي وهو بناء العقلاء على حجيته فلو كان غير ما تعلق العلم به بعينه مما لا علم به مطلقا لكان اتباع الظهور ومنه ظهور نفس الاية منهيا عنه بالاية وكانت الاية ناهية عن اتباع نفسه فكانت ناقضة لنفسها. ومن هنا يظهر اندفاع ما اورده بعضهم في المقام كما عن الرازي في تفسيره ان العمل بالظن كثير في الفروع فالتمسك بالاية تمسك بعام مخصوص وهو لا يفيد الا الظن
[ 94 ]
فلو دلت على ان التمسك بالظن غير جائز لدلت على ان التمسك بها غير جائز فالقول بحجيتها يقضى إلى نفيه وهو غير جائز. وفيه ان الاية تدل على عدم جواز اتباع غير العلم بلا ريب غير ان موارد العمل بالظن شرعا موارد قامت عليها حجة علمية فالعمل فيها بالحقيقة انما هو عمل بتلك الحجج العلمية والاية باقية على عمومها من غير تخصص، ولو سلم فالعمل بالعام المخصص فيما بقى من الافراد سالمة عن التخصيص عمل بحجة عقلائية نظير العمل بالعام غير المخصص من غير فرق بينهما البتة. ونظيره الاستشكال فيها بان الطريق إلى فهم المراد من الاية هو ظهورها، والظهور طريق ظنى فلو دلت الاية على حرمة اتباع غير العلم لدلت على حرمة الاخذ بظهور نفسها، ولازمها حرمة العمل بنفسها. ويرده ما تقدمت الاشارة إليه ان اتباع الظهور اتباع لحجة علمية عقلائية وهى بناء العقلاء على حجيته فليس اتباعه من اتباع غير العلم بشئ. وقوله: (ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤلا) تعليل للنهى السابق في قوله: (ولا تقف ما ليس لك به علم). والظاهر المتبادر إلى الذهن، ان الضميرين في (كان عنه) راجعان إلى (كل) فيكون (عنه) نائب فاعل لقوله: (مسؤلا) مقدما عليه كما ذكره الزمخشري في الكشاف أو مغنيا عن نائب الفاعل، وقوله: (اولئك) اشارة إلى السمع والبصر والفؤاد، وانما عبر عنها باولئك المختص بالعقلاء لان كون كل منها مسؤلا عنه يجريه مجرى العقلاء وهو كثير النظير في كلامه تعالى. وربما منع بعضهم كون (اولئك) مختصا بالعقلاء استنادا إلى قول جرير: ذم المنازل بعد منزله اللوى والعيش بعد اولئك الايام وعلى ذلك فالمسؤل هو كل من السمع والبصر والفؤاد يسال عن نفسه فيشهد
للانسان أو عليه كما قال تعالى: (وتكلمنا ايديهم وتشهد ارجلهم بما كانوا يكسبون) يس: 65.
[ 95 ]
واختار بعضهم رجوع ضمير (عنه) إلى (كل) وعود باقى الضمائر إلى القافى المدلول عليه في الكلام فيكون المسؤول هو القافى يسال عن سمعه وبصره وفؤاده كيف استعملها ؟ وفيما استعملها ؟ وعليه ففى الكلام التفات عن الخطاب إلى الغيبة وكان الاصل ان يقال: كنت عنه مسؤلا. وهو بعيد. والمعنى: لا تتبع ما ليس لك به علم لان الله سبحانه سيسال عن السمع والبصر والفؤاد وهى الوسائل التى يستعملها الانسان لتحصيل العلم، والمحصل من التعليل بحسب انطباقه على المورد ان السمع والبصر والفؤاد انما هي نعم آتاها الله الانسان ليشخص بها الحق ويحصل بها على الواقع فيعتقد به ويبنى عليه عمله وسيسال عن كل منها هل ادرك ما استعمل فيه ادراكا علميا ؟ وهل اتبع الانسان ما حصلته تلك الوسيلة من العلم ؟ فيسأل السمع هل كان ما سمعه معلوما مقطوعا به ؟ وعن البصر هل كان ما رآه ظاهرا بينا ؟ وعن الفؤاد هل كان ما فكره وقضى به يقينيا لا شك فيه ؟ وهى لا محالة تجيب بالحق وتشهد على ما هو الواقع فمن الواجب على الانسان ان يتحرز عن اتباع ما ليس له به علم فان الاعضاء ووسائل العلم التى معه ستسال فتشهد عليه فيما اتبعه مما حصلته ولم يكن له به علم ولا يقبل حينئذ له عذر. وماله إلى نحو من قولنا: لا تقف ما ليس لك به علم فانه محفوظ عليك في سمعك وبصرك وفؤادك، والله سائلها عن عملك لا محالة، فتكون الاية في معنى قوله تعالى: (حتى إذا ما جاؤها شهد عليهم سمعهم وابصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون - إلى ان قال - وما كنتم تستترون ان يشهد عليكم سمعكم ولا ابصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم
ان الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذى ظننتم بربكم ارداكم فاصبحتم من الخاسرين) حم السجدة 20 - 23 وغيرها من آيات شهادة الاعضاء. غير ان الاية تزيد عليها بعد الفؤاد من الشهداء على الانسان وهو الذى به يشعر الانسان ما يشعر ويدرك ما يدرك، وهو من اعجب ما يستفاد من آيات الحشر ان يوقف الله النفس الانسانية فيسألها عما ادركت فتشهد على الانسان نفسه.
[ 96 ]
وقد تبين ان الاية تنهى عن الاقدام على امر مع الجهل به سواء كان اعتقادا مع الجهل أو عملا مع الجهل بجوازه ووجه الصواب فيه أو ترتيب اثر لامر مع الجهل به وذيلها يعلل ذلك بسؤاله تعالى السمع والبصر والفؤاد، ولا ضير في كون العلة اعم مما عللتها فان الاعضاء مسؤلة حتى عما إذا اقدم الانسان مع العلم بعدم جواز الاقدام قال تعالى: (اليوم نختم على افواههم وتكلمنا ايديهم وتشهد ارجلهم) الاية. قال في المجمع في معنى قوله: (ولا تقف ما ليس لك به علم): معناه لا تقل: سمعت ولم تسمع ولا رايت ولم تر ولا علمت ولم تعلم عن ابن عباس وقتادة، وقيل: معناه لا تقل في قفا غيرك كلاما أي إذا مر بك فلا تغتبه عن الحسن، وقيل: هو شهادة الزور عن محمد بن الحنفية. والاصل انه عام في كل قول أو فعل أو عزم يكون على غير علم فكأنه سبحانه قال: لا تقل الا ما تعلم انه يجوز ان يقال، ولا تفعل الا ما تعلم انه يجوز ان يفعل ولا تعتقد الا ما تعلم انه مما يجوز ان يعتقد انتهى. وفيه ان الذى ذكره اعم مما تفيده الاية فانها تنهى عن اقتفاء ما لا علم به لا عن الاقتفاء الا مع العلم والثانى اعم من الاول فانه يشمل النهى عن الاقتفاء مع العلم بعدم الجواز لكن الاول انما يشمل النهى عن الاقتفاء مع الجهل بوجه الاعتقاد أو العمل: واما ما نقله من الوجوه في اول كلامه فالاحرى بها ان يذكر في تفسير التعليل بعنوان
الاشارة إلى بعض المصاديق دون المعلل. قوله تعالى: (ولا تمش في الارض مرحا انك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا) المرح شدة الفرح بالباطل - كما قيل - ولعل التقييد بالباطل للدلالة على خروجه عن حد الاعتدال فان الفرح الحق هو ما يكون ابتهاجا بنعمة من نعم الله شكرا له وهو لا يتعدى حد الاعتدال، واما إذا فرح واشتد منه ذلك حتى خف عقله وظهر آثاره في افعاله واقواله وقيامه وقعوده وخاصة في مشيه فهو من الباطل. وقوله: (ولا تمش في الارض مرحا) نهى عن استعظام الانسان نفسه باكثر مما هو عليه لمثل البطر والاشر والكبر والخيلاء، وانما ذكر المشى في الارض مرحا لظهور ذلك فيه.
[ 97 ]
وقوله: (انك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا) كناية عن ان فعالك هذا وانت تريد به اظهار القدرة والقوة والعظمة انما هو وهم تتوهمه فان هناك ما هو اقوى منك لا يخترق بقدميك وهى الارض وما هو اطول منك وهى الجبال فاعترف بذلك انك وضيع مهين فلا شئ مما يبتغيه الانسان ويتنافس فيه في هذه النشاة من ملك وعزة وسلطنة وقدرة وسؤدد ومال وغيرها الا امور وهمية لا حقيقة لها وراء الادراك الانساني سخر الله النفوس للتصديق بها والاعتماد في العمل عليها لتعمير النشاة وتمام الكلمة، ولو لا هذه الاوهام لم يعش الانسان في الدنيا ولا تمت كلمته تعالى: (ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين) البقرة: 36. قوله تعالى: (كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها) الاشارة بذلك إلى ما تقدم من الواجبات والمحرمات - كما قيل - والضمير في (سيئه) يرجع إلى ذلك، والمعنى كل ما تقدم كان سيئه - وهو ما نهى عنه وكان معصية من بين المذكورات - عند ربك مكروها لا يريده الله تعالى.
وفي غير القراءة المعروفة (سيئة) بفتح الهمزة والتاء في آخرها وهى على هذه القراءة خبر كان والمعنى واضح. قوله تعالى: (ذلك مما اوحى اليك ربك من الحكمة) ذلك اشارة إلى ما تقدم من تفصيل التكاليف وفي الاية اطلاق الحكمة على الاحكام الفرعية ويمكن ان يكون لما تشتمل عليه من المصالح المستفادة اجمالا من سابق الكلام. قوله تعالى: (ولا تجعل مع الله الها آخر فتلقى في جهنم مذموما مدحورا) كرر سبحانه النهى عن الشرك وقد نهى عنه سابقا اعتناء بشان التوحيد وتفخيما لامره، وهو كالوصلة يتصل به لا حق الكلام بسابقه، ومعنى الاية ظاهر. بحث روائي في الاحتجاج عن بريد بن عمير بن معاوية الشامي عن الرضا عليه السلام في حديث يذكر فيه الجبر و التفويض والامر بين امرين قال: قلت له: وهل لله مشية وارادة في ذلك
[ 98 ]
يعنى فعل العبد فقال: اما الطاعات فارادة الله ومشيته فيها الامر بها والرضا لها والمعاونة لها ومشيته في المعاصي النهى عنها والسخط بها والخذلان عليها الحديث. وفي تفسير العياشي عن ابى ولاد الحناط قال: سالت ابا عبد الله عليه السلام عن قول الله: (وبالوالدين احسانا) فقال: الاحسان ان تحسن صحبتهما ولا تكلفهما ان يسالاك شيئا مما يحتاجان إليه وان كانا مستغنيين اليس الله يقول: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) ؟ ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: اما قوله: (اما يبلغن عندك الكبر احدهما أو كلاهما فلا تقل لهما اف) قال: ان اضجراك فلا تقل لهما اف ولا تنهرهما ان ضرباك، وقال (وقل لهما قولا كريما) قال: تقول لهما: غفر الله لكما فذلك منك قول كريم، وقال: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة قال: لا تملا عينيك من النظر اليهما الا برحمة
ورقة ولا ترفع صوتك فوق اصواتهماو لا يديك فوق ايديهما، ولا تتقدم قدامهما. اقول: ورواه الكليني في الكافي باسناده عن ابى ولاد الحناط عنه عليه السلام. وفي الكافي باسناده عن حديد بن حكيم عن ابى عبد الله عليه السلام قال: ادنى العقوق اف، ولو علم الله عزوجل شيئا اهون منه لنهى عنه. اقول: ورواه عنه ايضا بسند آخر وروى هذا المعنى ايضا باسناده عن ابى البلاد عنه عليه السلام ورواه العياشي في تفسيره عن حريز عنه عليه السلام، والطبرسي في مجمع البيان عن الرضا عن ابيه عنه عليه السلام. والروايات في وجوب بر الوالدين وحرمة عقوقهما في حياتهما وبعد مماتهما من طرق العامة والخاصة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وائمة اهل بيته عليهم السلام اكثر من ان تحصى. وفي المجمع عن ابى عبد الله عليه السلام الاواب التواب المتعبد الراجع عن ذنبه. وفي تفسير العياشي عن ابى بصير عن ابى عبد الله عليه السلام قال: يا با محمد عليكم بالورع والاجتهاد واداء الامانة وصدق الحديث وحسن الصحبة لمن صحبكم وطول السجود، وكان ذلك من سنن التوابين الاوابين. قال أبو بصير: الاوابون التوابون. اقول: وروى ايضا عن ابى بصير عنه عليه السلام في معنى الاية هم التوابون المتعبدون.
[ 99 ]
و في الدر المنثور اخرج ابن ابى شيبة وهناد عن على بن ابى طالب قال: إذا مالت الافياء وراحت الارواح فاطلبوا الحوائج إلى الله فانها ساعة الاوابين وقرء (فانه كان للاوابين غفورا) وفيه اخرج ابن حريز عن على بن الحسين رضى الله عنه انه قال لرجل من اهل الشام: اقرات القرآن ؟ قال: نعم قال: افما قرات في بنى اسرائيل: (وآت ذا القربى حقه) قال: وانكم للقرابة الذى امر الله ان يؤتى حقه ؟ قال: نعم.
اقول ورواه في البرهان عن الصدوق باسناده عنه عليه السلام وعن الثعلبي في تفسيره عن السدى عن ابن الديلمى عنه عليه السلام. وفي تفسير العياشي عن عبد الرحمان بن الحجاج قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله: (ولا تبذر تبذيرا) قال: من انفق شيئا في غير طاعة الله فهو مبذر، ومن انفق في سبيل الخير فهو مقتصد. وفيه عن ابى بصير عنه عليه السلام في الاية قال: بذل الرجل ماله ويقعد ليس له مال قلت: فيكون تبذير في حلال ؟ قال: نعم. وفي تفسير القمى قال قال: الصادق عليه السلام: المحسور العريان. وفي الكافي باسناده عن عجلان قال: كنت عند ابى عبد الله عليه السلام فجاء سائل فقام إلى مكتل فيه تمر فملا يده فناوله ثم جاء آخر فسأله فقام فاخذ بيده فناوله ثم آخر فقال: الله رازقنا واياك. ثم قال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يساله احد من الدنيا شيئا الا اعطاه فارسلت إليه امراة ابنا لها فقالت: فاسأله فان قال: ليس عندنا شئ فقل: اعطني قميصك قال: فاخذ قميصه فرماه إليه - وفي نسخة اخرى: واعطاه - فادبه الله تبارك وتعالى على القصد فقال: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) قال: الاحسار الفاقة. اقول: ورواه العياشي في تفسيره عن عجلان عنه عليه السلام، وروى قصة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القمى في تفسيره، ورواها في الدر المنثور عن ابن ابى حاتم عن المنهال بن عمرو وعن
[ 100 ]
ابن جرير الطبري عن ابن مسعود. وفي الكافي باسناده عن مسعدة بن صدقة عن ابى عبد الله عليه السلام قال: قال: علم الله عز اسمه نبيه كيف ينفق ؟ وذلك انه كانت عنده اوقية من الذهب فكره ان يبيت
عنده فتصدق بها فاصبح وليس عنده شئ وجاء من يساله فلم يكن عنده ما يعطيه فلامه السائل واغتم هو حيثما لم يكن عنده شئ وكان رحيما رقيقا فادب الله عزوجل نبيه بامره فقال: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) يقول: ان الناس قد يسالونك ولا يعذرونك فإذا اعطيت جميع ما عندك من المال قد كنت حسرت من المال. وفي تفسير العياشي عن ابن سنان عن ابى عبد الله عليه السلام في قوله: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) قال: فضم يده وقال: هكذا فقال: (ولا تبسطها كل البسط) فبسط راحته وقال: هكذا. وفي تفسير القمى عن اسحاق بن عمار عن ابى عبد الله عليه السلام في حديث قال: قلت: وما الاملاق ؟ قال: الافلاس. وفي الدر المنثور اخرج ابن ابى حاتم عن قتادة في قوله: (ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة) قال قتادة عن الحسن ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا يزنى العبد حين يزنى وهو مؤمن، ولا يبهت حين يبهت وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يغل حين يغل وهو مؤمن قيل: يا رسول الله والله ان كنا لنرى انه ياتي ذلك وهو مؤمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا فعل شيئا من ذلك نزع الايمان من قلبه فان تاب تاب الله. اقول: والحديث مروى بطرق اخرى عن عائشة وابى هريرة وقد ورد من طرق اهل البيت عليهم السلام ان روح الايمان يفارقه إذ ذاك. وفى الكافي باسناده عن اسحاق بن عمار قال: قلت لابي الحسن عليه السلام: ان الله عزوجل يقول في كتابه: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل انه كان منصورا) فما هذا الاسراف الذى نهى الله عنه ؟ قال: نهى ان يقتل
[ 101 ]
غير قاتله أو يمثل بالقاتل. قلت: فما معنى (انه كان منصورا) قال: واى نصرة اعظم من ان يدفع القاتل إلى اولياء المقتول فيقتله ولا تبعه يلزمه في قتله في دين ولا دنيا. وفي تفسير العياشي عن ابى العباس قال: سالت ابا عبد الله عليه السلام عن رجلين قتلا رجلا فقال: يخير وليه ان يقتل ايهما شاء ويغرم الباقي نصف الدية اعني دية المقتول فيرد على ذريته، وكذلك ان قتل رجل امراة ان قبلوا دية المراة فذاك وان ابى اولياؤها الا قتل قاتلها غرموا نصف دية الرجل وقتلوه وهو قول الله: (فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل). اقول: وفي معنى هاتين الروايتين غيرهما، وقد روى في الدر المنثور عن البيهقى في سننه عن زيد بن اسلم ان الناس في الجاهلية كانوا إذا قتل الرجل من القوم رجلا لم يرضوا حتى يقتلوا به رجلا شريفا إذا كان قاتلهم غير شريف لم يقتلوا قاتلهم وقتلوا غيره فوعظوا في ذلك بقول الله: (ولا تقتلوا - إلى قوله - فلا يسرف في القتل). وفي تفسير القمى في قوله تعالى: (وزنوا بالقسطاس المستقيم) وفي رواية ابى الجارود عن ابى جعفر عليه السلام، قال: القسطاس المستقيم هو الميزان الذى له لسان. اقول: وذكر اللسان للدلالة على الاستقامة فان الميزان ذا الكفتين كذلك. وفي تفسير العياشي عن ابى عمرو الزبيري عن ابى عبد الله عليه السلام قال: ان الله تبارك وتعالى فرض الايمان على جوارح بنى آدم وقسمه عليها فليس من جوارحه جارحة الا وقد وكلت من الايمان بغير ما وكلت به اختها فمنها عيناه اللتان ينظر بهما ورجلاه اللتان يمشى بهما. ففرض على العين ان لا تنظر إلى ما حرم الله عليه وان تغض عما نهاه الله عنه مما لا يحل و هو عمله وهو من الايمان، قال الله تبارك وتعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤلا) فهذا ما فرض من غض البصر عما حرم الله وهو عمله وهو من الايمان.
وفرض الله على الرجلين ان لا يمشى بهما إلى شئ من معاصي الله والله فرض عليهما المشى فيما فرض الله فقال: (ولا تمش في الارض مرحا انك لن تخرق الارض ولن تبلغ
[ 102 ]
الجبال طولا) قال: (واقصد في مشيك واغضض من صوتك ان انكر الاصوات لصوت الحمير). اقول: ورواه في الكافي باسناده عن ابى عمرو الزبيري عنه عليه السلام في حديث مفصل. وفيه عن ابى جعفر قال: كنت عند ابى عبد الله عليه السلام فقال له رجل: بابى انت وامى انى ادخل كنيفا لى ولى جيران وعندهم جوار يغنين ويضربن بالعود فربما اطيل الجلوس استماعا منى لهن فقال: لا تفعل فقال الرجل والله ما اتيتهن انما هو سماع اسمعه باذنى. فقال له: اما سمعت الله يقول: (ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤلا) قال: بلى والله فكانى لم اسمع هذه الاية قط من كتاب الله من عجمى ولا عربي لا جرم انى لا اعود ان شاء الله وانى استغفر الله. فقال: قم واغتسل وصل ما بدا لك فانك كنت مقيما على امر عظيم ما كان اسوا حالك لو مت على ذلك احمد الله واساله التوبة من كل ما يكره فانه لا يكره الا كل قبيح، والقبيح دعه لاهله فان لكل اهلا. اقول: ورواه الشيخ في التهذيب عنه عليه السلام والكليني في الكافي عن مسعدة بن زياد عنه عليه السلام. وفيه عن الحسين بن هارون عن ابى عبد الله عليه السلام في قول الله: (ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤلا) قال: يسال السمع عما يسمع والبصر عما يطرف والفؤاد عما يعقد عليه. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) الاية قال:
قال: لا تؤم احدا مما ليس لك به علم. قال: قال رسول الله عليه السلام: من بهت مؤمنا أو مؤمنة اقيم في طينة خبال أو يخرج مما قال. اقول: وفسرت طينة خبال في رواية ابن ابى يعفور عن الصادق عليه السلام - على ما في الكافي - بانها صديد يخرج من فروج المومسات وروى من طرق اهل السنة ما يقرب منها عن ابى ذر وانس عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
[ 103 ]
والروايات - كما ترى - بعضها مبنى على خصوص مورد الاية وبعضها على عموم التعليل كما اشير إليه في البيان المتقدم. * * * افاصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملئكه اناثا انكم لتقولون قولا عظيما - 40. ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم الا نفورا - 41. قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا - 42. سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا - 43. تسبح له السموات السبع والارض ومن فيهن وان من شئ الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم انه كان حليما غفورا - 44. وإذا قرات القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالاخرة حجابا مستورا - 45. وجعلنا على قلوبهم اكنة ان يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على ادبارهم نفورا - 46. نحن اعلم بما يستمعون به إذ يستمعون اليك واذ هم نجوى إذ يقول الظالمون ان تتبعون الا رجلا مسحورا - 47. انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا - 48. وقالوا ءاذا كنا عظاما ورفاتا ءانا
لمبعوثون خلقا جديدا - 49. قل كونوا حجارة أو حديدا - 50. أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذى
[ 104 ]
فطركم اول مرة فسينغضون اليك رؤسهم ويقولون متى هو قل عسى ان يكون قريبا - 51. يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون ان لبثتم الا قليلا - 52. وقل لعبادي يقولوا التى هي احسن ان الشيطان ينزغ بينهم ان الشيطان كان للانسان عدوا مبينا - 53. ربكم اعلم بكم ان يشا يرحمكم أو ان يشا يعذبكم وما ارسلنا عليهم وكيلا - 54. وربك اعلم بمن في السموات والارض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا - 55. بيان في الايات تعقيب مسالة التوحيد وتوبيخ المشركين على اتخاذهم الالهة ونسبة الملائكة الكرام إلى الانوثية، وانهم لا يتذكرون بما يلقى إليهم القرآن من حجج الوحدانية، ولا يفقهون الايات بل يستهزؤن بالرسول وبما يلقى إليهم من امر البعث ويسيؤون القول في امر الله وغير ذلك. قوله تعالى: (افاصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة اناثا انكم لتقولون قولا عظيما) الاصفاء الاخلاص قال في المجمع: تقول: اصفيت فلانا بالشئ إذا آثرته به. انتهى. خطاب لمن يقول منهم: ان الملائكة بنات الله أو بعضهم بنات الله والاستفهام للانكار، ولعله بدل البنات من الاناث لكونهم يعدون الانوثة من صفات الخسة. والمعنى إذا كان سبحانه ربكم لا رب غيره وهو الذى يتولى امر كل شئ فهل تقولون انه آثركم بكرامة لم يتكرم به هو نفسه وهو انه خصكم بالبنين ولم يتخذ لنفسه من الولد الا الاناث وهم الملائكة الكرام الذين تزعمون انهم اناث انكم لتقولون
[ 105 ]
قولا عظيما من حيث استتباعه التبعه السيئه. قوله تعالى ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم الا نفورا قال في المفردات الصرف رد الشئ من حالة إلى حال ء أو ابداله بغيره قال: والتصريف كالصرف الا في التكثير واكثر ما يقال في صرف الشئ من حالة إلى حاله ومن امر إلى امر وتصريف الرياح هو صرفها من حال إلى حال قال تعالى وصرفنا الايات وصرفنا فيه من الوعيد ومنه تصريف الكلام وتصريف الدراهم. انتهى. وقال النفر الانزعاج من الشئ وإلى الشئ كالفزع إلى الشئ وعن الشئ يقال نفر عن الشئ نفورا قال تعالى ما زادهم الا نفورا وما يزيدهم الا نفورا انتهى. فقوله: " ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا " معناه بشهادة السياق واقسم لقد رددنا الكلام معهم في امر التوحيد ونفى الشريك من وجه إلى وجه وحولناه من لحن إلى لحن في هذا القرآن فاوردناه بمختلف العبارات وبيناه باقسام البيانات ليتذكروا ويتبين لهم الحق. وقوله: " فما يزيدهم الا نفورا " أي ما يزيدهم التصريف الا انزعاجا كلما استؤنف جئ ببيان جديد اورثهم نفره جديده. وفي الايه التفات من الخطاب إلى الغيبه تنبيها على انهم غير صالحين للخطاب والتكليم بعد ما كان حالهم هذا الحال. قال في المجمع: فان قيل إذا كان المعلوم انهم يزدادون النفور عند انزال القرآن فما المعنى في إنزاله ؟ وما وجه الحكمه فيه ؟ قيل الحكمه فيه الزام الحجه وقطع المعذرة في اظهار الدلائل التى تحسن التكليف، وانه يصلح عند انزاله جماعه ما كانوا يصلحون عند عدم انزاله ولو لم ينزل لكان
هؤلاء الذين ينفرون عن الايمان يفسدون بفساد أعظم من هذا النفور فالحكمه اقتضت انزاله لهذه المعاني وانما ازدادوا نفورا عند مشاهده الايات والدلائل لاعتقادهم انها شبه وحيل وقله تفكرهم فيها انتهى. وقوله انه لو لم ينزل لكانوا يفسدون بفساد أعظم من النفور لا يخلو من شئ فان
[ 106 ]
ازدياد النفور يبلغ بهم إلى الجحود ومعانده الحق والصد عنه ولا فساد اعظم منه في باب الدعوه. لكن ينبغى أن يعلم أن الكفر والجحود والنفور عن الحق والعناد معه كما كانت تضر اصحابها ويوردهم مورد الهلاك فهى تنفع أرباب الايمان والرضا بالحق والتسليم له إذ لو لم يتحقق لهذه الخصال الحسنه والصفات الجميله مقابلات لم تتحقق لها كينونة فافهم ذلك. فمن الواجب في الحكمة أن تتم الحجه ثم تزيد في تمامها حتى يظهر من الشقى كل ما في وسعه من الشقاء، ويتخذ السعداء بمختلف مساعيهم من الدرجات ما يحاذي دركات الاشقياء وقد قال تعالى " كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا: الايه 20 من السوره. قوله تعالى: " قل لو كان معه آلهه كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا " اعرض عن مخاطبتهم فصرف الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمره أن يكلمهم في أمر التوحيد ونفى الشريك والذى يقولون به أن هناك آلهه دون الله يتولون جهات التدبير في العالم على اختلاف مراتبهم والواحد منهم رب لما يدبره كإله السماء وإله الارض وإله الحرب وإله قريش. وإذ كانوا شركاء من جهه التدبير لكل واحد منهم الملك على حسب ربوبيته والملك من توابع الخلق الذى يختص به سبحانه حتى على معتقدهم (1) كان الملك مما يقبل في
نفسه ان يقوم به غيره تعالى وحب الملك والسلطنه ضروري لكل موجود كانوا بالضرورة طالبين ان ينازعوه في ملكه وينتزعوه من يده حتى ينفرد الواحد منهم بالملك والسلطنه، ويتعين بالعزه والهيمنة تعالى الله عن ذلك. فملخص الحجه انه لو كان معه آلهه كما يقولون وكان يمكن أن ينال غيره تعالى شيئا من ملكه الذى هو من لوازم ذاته الفياضه لكل شئ وحب الملك والسلطنه مغروز
(1) كما نقل انهم كانوا يقولون في التلبية: لبيك لا شريك لك الا شريكا هو لك تملكه وما ملك والكتب المقدسة البرهمنية والبوذية مملوءة ان الملك كله لله سبحانه. (*)
[ 107 ]
في كل موجود بالضرورة لطلب اولئك الالهة أن ينالوا ملكه فيعزلوه عن عرشه ويزدادوا ملكا على ملك لحبهم ذلك ضروره لكن لا سبيل لاحد إليه تعالى عن ذلك. فقوله: " إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا " أي طلبوا سبيلا إليه ليغلبوه على ما له من الملك، والتعبير عنه تعالى بذى العرش وهو من الصفات الخاصة بالملك للدلاله على أن ابتغاءهم السبيل إليه انما هو لكونه ذا العرش وهو ابتغاء سبيل إلى عرشه ليستقروا عليه. ومن هنا يظهر أن قول بعضهم ان الحجه في الايه هي في معنى الحجه التى في قوله تعالى: " لو كان فيهما آلهه الا الله لفسدتا " الايه: الانبياء 22 في غير محله. وذلك ان الحجتين مختلفتان في مقدماتهما فالحجة التى في الايه التى نحن فيها تسلك إلى نفى الشريك من جهه ابتغاء الالهه السبيل إلى ذى العرش وطلبهم الغلبة عليه بانتزاع الملك منه، والتى في آيه الانبياء تسلك من جهه أن اختلاف الالهه في ذواتهم يؤدى إلى اختلافهم في التدبير وذلك يؤدى إلى فساد النظام فالحق أن الحجه التى فيما
نحن فيه غير الحجه التى في آيه الانبياء والتى تقرب من حجه آيه الانبياء ما في قوله: " إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض: المؤمنون 91. وكذا ما نقل عن بعض قدماء المفسرين: أن المراد من ابتغائهم سبيلا إلى ذى العرش طلبهم التقرب والزلفى منه لعلوه عليهم، وتقريب الحجه انه لو كان معه آلهه كما يقولون لطلبوا التقرب منه تعالى والزلفى لديه لعلمهم بعلوه وعظمته، والذى كان حاله هذا الحال لا يكون الها فليسوا بالهه. في غير محله لشهادة السياق على خلافه كوصفه تعالى بذى العرش وقوله بعد " سبحانه وتعالى عما يقولون " الخ فإنه ظاهر في أن لما قدروه من ثبوت الالهة المستلزم لابتغائهم سبيلا إلى الله محذورا عظيما لا تحتمله ساحه العظمة والكبرياء مثل كون ملكه في معرض ابتغاء سبيل إليه وتهاجم غيره عليه وكونه لا يابى بحسب طبعه أن يبتز وينتقل إلى من دونه. قوله تعالى: " سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا " التعالى هو العلو البالغ ولهذا
[ 108 ]
وصف المفعول المطلق أعنى " علوا " بقوله: " كبيرا " فالكلام في معنى تعالى تعاليا: والايه تنزيه له تعالى عما يقولونه من ثبوت الالهه وكون ملكه وربوبيته مما يمكن أن يناله غيره. قوله تعالى: " تسبح له السموات السبع والارض ومن فيهن وان من شئ الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " الخ الايه وما قبلها وان كانت واقعه موقع التعظيم كقوله: " وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه " لكنها تفيد بوجه في الحجه المتقدمة فإنها بمنزلة المقدمة المتممة لقوله: " لو كان معه آلهة كما يقولون " الخ فان الحجة بالحقيقة
قياس استثنائي والذى بمنزلة الاستثناء هو ما في الايه من تسبيح الاشياء له سبحانه كأنه قيل: لو كان معه آلهه لكان ملكه في معرض المنازعة والمهاجمة لكن الملك من السماوات والارض ومن فيهن ينزهه عن ذلك ويشهد ان لا شريك له في الملك فإنها لم تبتدء الا منه ولا تنتهى الا إليه ولا تقوم الا به ولا تخضع سجدا الا له فلا يتلبس بالملك ولا يصلح له الا هو فلا رب غيره. ومن الممكن ان تكون الايتان أعنى قوله: " سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا. تسبح له السموات " الخ جميعا في معنى الاستثناء والتقدير لو كان معه آلهة لطلبوا مغالبته وعزله من ملكه لكنه سبحانه ينزه ذاته عن ذلك بذاته الفياضة التى يقوم به كل شئ وتلزمه الربوبيه من غير أن يفارقه أو ينتقل إلى غيره، وكذلك ملكه وهو عالم السماوات والارض ومن فيهن ينزهنه سبحانه بذواتها المسبحه له حيث انها قائمة الذات به لو انقطعت أو حجبت عنه طرفة عين فنت وانعدمت فليس معه آلهة ولا أن ملكه وربوبيته مما يمكن ان يبتغيه غيره فتأمل فيه. وكيف كان فقوله " تسبح له السموات السبع والارض ومن فيهن " يثبت لاجزاء العالم المشهود التسبيح وأنها تسبح الله وتنزهه عما يقولون من الشريك و ينسبون إليه. والتسبيح تنزيه قولى كلامي وحقيقه الكلام الكشف عما في الضمير بنوع من الاشاره إليه والدلاله عليه غير أن الانسان لما لم يجد إلى اراده كل ما يريد الاشاره إليه من طريق التكوين طريقا التجأ إلى استعمال الالفاظ وهى الاصوات الموضوعة للمعانى
[ 109 ]
ودل بها على ما في ضميره وجرت على ذلك سنه التفهيم والتفهم وربما استعان على بعض مقاصده بالاشاره بيده أو راسه أو غيرهما وربما استعان على ذلك بكتابه أو نصب علامه. وبالجملة فالذي يكشف به عن معنى مقصود قول وكلام وقيام الشئ بهذا الكشف قول منه وتكليم وان لم يكن بصوت مقروع ولفظ موضوع ومن الدليل عليه ما ينسبه القرآن إليه تعالى من الكلام والقول والامر والوحى ونحو ذلك مما فيه معنى الكشف عن المقاصد وليس من قبيل القول والكلام المعهود عندنا معشر المتلسنين باللغات وقد سماه الله سبحانه قولا وكلاما. وعند هذه الموجودات المشهودة من السماء والارض ومن فيهما ما يكشف كشفا صريحا عن وحدانية ربها في ربوبيته وينزهه تعالى عن كل نقص وشين فهى تسبح الله سبحانه. وذلك أنها ليست لها في أنفسها إلا محض الحاجه وصرف الفاقة إليه في ذاتها وصفاتها وأحوالها والحاجة أقوى كاشف عما إليه الحاجه لا يستقل المحتاج دونه ولا ينفك عنه فكل من هذه الموجودات يكشف بحاجته في وجوده ونقصه في ذاته عن موجده الغنى في وجوده التام الكامل في ذاته وبارتباطه بسائر الموجودات التى يستعين بها على تكميل وجوده ورفع نقائصه في ذاته أن موجده هو ربه المتصرف في كل شئ المدبر لامره. ثم النظام العام الجارى في الاشياء الجامع لشتاتها الرابط بينها يكشف عن وحدة موجدها، وأنه الذى إليه بوحدته يرجع الاشياء وبه بوحدته ترتفع الحوائج والنقائص فلا يخلو من دونه من الحاجة ولا يتعرى ما سواه من النقيصة وهو الرب لا رب غيره والغنى الذى لا فقر عنده والكمال الذى لا نقص فيه. فكل واحد من هذه الموجودات يكشف بحاجته ونقصه عن تنزه ربه عن الحاجة وبراءته من النقص حتى أن الجاهل المثبت لربه شركاء من دونه أو الناسب إليه شيئا من
النقص والشين تعالى وتقدس يثبت بذلك تنزهه من الشريك وينسب بذلك إليه البراءه من النقص فإن المعنى الذى تصور في ضمير هذا الانسان واللفظ الذى يلفظه لسانه وجميع ما استخدمه في تأدية هذا المقصود كل ذلك أمور موجوده تكشف بحاجتها الوجودية
[ 110 ]
عن رب واحد لا شريك له ولا نقص فيه. فمثل هذا الانسان الجاحد في كون جحوده اعترافا مثل ما لو ادعى إنسان أن لا إنسان متكلما في الدنيا وشهد على ذلك قولا فإن شهادته أقوى حجة على خلاف ما ادعاه وشهد عليه وكلما تكررت الشهادة على هذا النمط وكثر الشهود تأكدت الحجة من طريق الشهادة على خلافها. فإن قلت: مجرد الكشف عن التنزه لا يسمى تسبيحا حتى يقارن القصد والقصد مما يتوقف على الحياه وأغلب هذه الموجودات عادمة للحياه كالارض والسماء وأنواع الجمادات فلا مخلص من حمل التسبيح على المجاز فتسبيحها دلالتها بحسب وجودها على تنزه ربها. قلت: كلامه تعالى مشعر بأن العلم سار في الموجودات مع سريان الخلقه فلكل منها حظ من العلم على مقدار حظه من الوجود، وليس لازم ذلك أن يتساوى الجميع من حيث العلم أو يتحد من حيث جنسه ونوعه أو يكون عند كل ما عند الانسان من ذلك أو أن يفقه الانسان بما عندها من العلم قال تعالى حكاية عن أعضاء الانسان: " قالوا أنطقنا الله الذى أنطق كل شئ " حم السجدة: 21 وقال " فقال لها للارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " حم السجدة 11 والايات في هذا المعنى كثيرة، وسيوافيك كلام مستقل في ذلك إن شاء الله تعالى. وإذا كان كذلك فما من موجود مخلوق إلا وهو يشعر
بنفسه بعض الشعور وهو يريد بوجوده إظهار نفسه المحتاجة الناقصة التى يحيط بها غنى ربه وكماله لا رب غيره فهو يسبح ربه وينزهه عن الشريك وعن كل نقص ينسب إليه. وبذلك يظهر أن لا وجه لحمل التسبيح في الايه على مطلق الدلاله مجازا فالمجاز لا يصار إليه إلا مع امتناع الحمل على الحقيقة ونظيره قول بعضهم: إن تسبيح بعض هذه الموجودات قالى حقيقي كتسبيح الملائكه والمؤمنين من الانسان وتسبيح بعضها حالى مجازى كدلاله الجمادات بوجودها عليه تعالى ولفظ التسبيح مستعمل في في الايه على سبيل عموم المجاز، وقد عرفت ضعفه آنفا. والحق أن التسبيح في الجميع حقيقي قالى غير أن كونه قاليا لا يستلزم أن يكون
[ 111 ]
بألفاظ موضوعة وأصوات مقروعة كما تقدمت الاشارة إليه وقد تقدم في آخر الجزء الثاني من الكتاب كلام في الكلام نافع في المقام. فقوله تعالى: " تسبح له السموات السبع والارض ومن فيهن " يثبت لها تسبيحا حقيقيا وهو تكلمها بوجودها وما له من الارتباط بسائر الموجودات الكائنة وبيانها تنزه ربها عما ينسب إليه المشركون من الشركاء وجهات النقص. وقوله: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده " تعميم التسبيح لكل شئ وقد كانت الجمله السابقة عدت السماوات السبع والارض ومن فيهن، وتزيد عليها بذكر الحمد مع التسبيح فتفيد أن كل شئ كما يسبحه تعالى كذلك يحمده بالثناء عليه بجميل صفاته وأفعاله. وذلك أنه كما أن عند كل من هذه الاشياء شيئا من الحاجة والنقص عائدا إلى نفسه كذلك عنده من جميل صنعه ونعمته تعالى شئ راجع إليه تعالى موهوب من
لدنه، وكما أن إظهار هذه الاشياء لنفسها في الوجود إظهار لحاجتها ونقصها وكشف عن تنزه ربها عن الحاجه والنقص، وهو تسبيحها كذلك ابرازها لنفسها ابراز لما عندها من جميل فعل ربها الذى وراءه جميل صفاته تعالى فهو حمدها فليس الحمد إلا الثناء على الجميل الاختياري فهى تحمد ربها كما تسبحه وهو قوله: " وإن من شئ الا يسبح بحمده ". وبلفظ آخر إذا لوحظ الاشياء من جهه كشفها عما عند ربها بابرازها ما عند من الحاجه والنقص مع ما لها من الشعور بذلك كان ذلك تسبيحا منها، وإذا لو حظت من جهه كشفها ما لربها باظهارها ما عندها من نعمه الوجود وسائر جهات الكمال فهو حمد منها لربها وإذا لوحظ كشفها ما عند الله سبحانه من صفه جمال أو جلال مع قطع النظر عن علمها وشعورها بما تكشف عنه كان ذلك دلالة منها عليه تعالى وهى آياته. وهذا نعم الشاهد على أن المراد بالتسبيح في الايه ليس مجرد دلالتها عليه تعالى بنفى الشريك وجهات النقص فإن الخطاب في قوله: " ولكن لا تفقهون تسبيحهم " إما للمشركين وإما للناس أعم من المؤمن والمشرك وهم على أي حال يفقهون دلالة الاشياء
[ 112 ]
على صانعها مع أن الايه تنفى عنهم الفقه. ولا يصغى إلى قول من قال: إن الخطاب للمشركين وهم لعدم تدبرهم فيها وقلة انتفاعهم بها كان فهمهم بمنزله العدم ولا إلى دعوى من يدعى أنهم لعدم فهمهم بعض المراد من التسبيح جعلوا ممن لا يفقه الجميع تغليبا. وذلك لان تنزيل الفهم منزله العدم أو جعل البعض كالجميع لا يلائم مقام الاحتجاج وهو سبحانه يخاطبهم في سابق الايه بالحجة على التنزيه على أن هذا النوع من المسامحة بالتغليب ونحوه لا يحتمله كلامه تعالى. وأما ما وقع في قوله بعد هذه الايه: " وإذا قرأت القرآن " إلى آخر الايات من
نفى الفقه عن المشركين فليس يؤيد ما ذكروه فإن الايات تنفى عنهم فقه القرآن وهو غير نفى فقه دلالة الاشياء على تنزهه تعالى إذ بها تتم الحجة عليهم. فالحق أن التسبيح الذى تثبته الايه لكل شئ هو التسبيح بمعناه الحقيقي وقد تكرر في كلامه تعالى إثباته للسموات والارض ومن فيهن وما فيهن وفيها موارد لا تحتمل إلا الحقيقة كقوله تعالى وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير " الانبياء: 79، وقوله " إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والاشراق " ص: 18 ويقرب منه قوله يا جبال أوبى معه والطير: سبا: 10 فلا معنى لحملها على التسبيح بلسان الحال. وقد استفاضت الروايات من طرق الشيعة وأهل السنة أن للاشياء تسبيحا ومنها روايات تسبيح الحصى في كف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيوافيك بعضها في البحث الروائي الاتى إن شاء الله تعالى. وقوله: " انه كان حليما غفورا " أي يمهل فلا يعاجل بالعقوبة ويغفر من تاب و رجع إليه وفى الوصفين دلاله على تنزهه تعالى عن كل نقص فإن لازم الحلم أن لا يخاف الفوت، ولازم المغفره أن لا يتضرر بالمغفرة ولا بإفاضه الرحمة فملكه وربوبيته لا يقبل نقصا ولا زوالا. وقد قيل في وجه هذا التذييل أنه إشاره إلى أن الانسان في قصوره عن فهم هذا
[ 113 ]
التسبيح الذى لا يزال كل شئ مشتغلا به حتى نفسه بجميع أركان وجوده بأبلغ بيان، مخطئ من حقه أن يؤاخذ به لكن الله سبحانه بحلمه ومغفرته لا يعاجله ويعفو عن ذلك إن شاء. وهو وجه حسن ولازمه أن يكون الانسان في وسعه أن يفقه هذا التسبيح من نفسه ومن غيره، ولعلنا نوفق لبيانه إن شاء الله في موضع يليق به.
قوله تعالى: " وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا " ظاهر توصيف الحجاب بالمستور أنه حجاب مستور عن الحواس على خلاف الحجابات المتداولة بين الناس المعمولة لستر شئ عن شئ فهو حجاب معنوى مضروب بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما أنه قار للقرآن حامل له وبين المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة يحجبه عنهم فلا يستطيعون يفقهوا حقيقة ما عنده من معارف القرآن ويؤمنوا به ولا أن يذعنوا بأنه رسول من الله جاءهم بالحق، ولذلك تولوا عنه إذا ذكر الله وحده وبالغوا في إنكار المعاد ورموه بأنه رجل مسحور، والايات التاليه تؤيد هذا المعنى. وإنما وصف المشركين بقوله: " الذين لا يؤمنون بالآخرة " لان إنكار الاخرة يلغو معه الايمان بالله وحده وبالرساله فالكفر بالمعاد يستلزم الكفر بجميع اصول الدين، وليكون تمهيدا لما سيذكر من إنكارهم البعث. والمعنى: إذا قرأت القرآن وتلوته عليهم جعلنا بينك وبين المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة - وفى توصيفهم بذلك ذم لهم - حجابا معنويا محجوبا عن فهمهم فلا يسعهم أن يسمعوا ذكره تعالى وحده، ولا أن يعرفوك بالرسالة الحقة ولا أن يؤمنوا بالمعاد ويفقهوا حقيقته. وللقوم في قوله: " حجابا مستورا أقوال أخر فعن بعضهم أن " مفعول " فيه للنسب أي حجابا ذا ستر نظير قولهم رجل مرطوب ومكان مهول وجارية مغنوجة أي ذو رطوبة وذو هول وذات غنج، ومنه قوله تعالى وعده مأتيا " أي ذا إتيان والاكثر في ذلك أن يجئ على فاعل كلابن وتامر.
[ 114 ]
وعن الاخفش أن " مفعول " ربما ورد بمعنى فاعل كميمون ومشؤم بمعنى يامن وشائم كما أن " فاعل " ربما ورد بمعنى مفعول كماء دافق أي مدفوق فمستور بمعنى ساتر. وعن بعضهم أن ذلك من الاسناد المجازى والمستور بحسب الحقيقة هو ما وراء
الحجاب لا نفسه. وعن بعضهم أنه من قبيل الحذف والايصال وأصله حجابا مستورا به الرسول صلى الله عليه وآله عنهم. وقيل: المعنى حجابا مستورا بحجاب آخر أي بحجب متعدده وقيل المعنى حجابا مستورا كونه حجابا بمعنى أنهم لا يدرون انهم لا يدرون والثلاثه الاخيرة أسخف الوجوه. قوله تعالى: " وجعلنا على قلوبهم أكنه أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا " الاكنه جمع كن بالكسر وهو على ما ذكره الراغب ما يحفظ فيه الشئ ويستر به عن غيره، والوقر الثقل في السمع وفي المجمع النفور جمع نافر، وهذا الجمع قياس في كل فاعل اشتق من فعل مصدره على فعول مثل ركوع وسجود وشهود. انتهى. وقوله: " وجعلنا على قلوبهم أكنة " الخ كالبيان للحجاب المذكور سابقا أي أغشينا قلوبهم بأغشيه وحجب حذار أن يفقهوا القرآن وجعلنا في آذانهم وقرا وثقلا أن يسمعوه فهم لا يسمعون القرآن سمع قبول ولا يفقهونه فقه إيمان وتصديق كل ذلك مجازاه لهم بما كفروا وفسقوا. وقوله: " وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده " أي على نعت التوحيد ونفى الشريك ولوا على ادبارهم نافرين وأعرضوا عنه مستدبرين. قوله تعالى: " نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون اليك " إلى آخر الايه النجوى مصدر ولذا يوصف به الواحد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث وهو لا يتغير في لفظه. والايه بمنزله الحجه على ما ذكر في الايه السابقة أنه جعل على قلوبهم أكنه أن يفقهوه وفى آذانهم وقرأ فقوله: " نحن اعلم بما يستمعون به " الخ ناظر إلى جعل الوقر
[ 115 ]
وقوله: " واذ هم نجوى " الخ ناظر إلى جعل الاكنه. يقول تعالى: نحن أعلم بآذانهم التى يستمعون بها اليك وبقلوبهم التى ينظرون بها في أمرك - وكيف لا ؟ وهو تعالى خالقها ومدبر أمرها فإخباره أنه جعل على قلوبهم أكنه وفى آذانهم وقرا أصدق واحق بالقبول - فنحن أعلم بما يستمعون به وهو آذانهم في وقت يستمعون اليك، ونحن أعلم أي بقلوبهم إذ هم نجوى إذ يناجى بعضهم بعضا متحرزين عن الاجهار ورفع الصوت وهم يرون الرأى إذ يقول الظالمون أي يقول القائلون منهم وهم ظالمون في قولهم - إن تتبعون إلا رجلا مسحورا وهذا تصديق أنهم لم يفقهوا الحق. وفى الايه إشعار بل دلاله على أنهم كانوا لا يأتونه صلى الله عليه وآله وسلم لاستماع القرآن علنا حذرا من اللائمه وإنما ياتونه متسترين مستخفين حتى إذا رأى بعضهم بعضا على هذا الحال تلاوموا بالنجوى خوفا أن يحس النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون بموقفهم فقال بعضهم لبعض إن تتبعون إلا رجلا مسحورا، وبهذا يتأيد ما ورد في أسباب النزول بهذا المعنى، وسنورده إن شاء الله في البحث الروائي الاتى. قوله تعالى: " انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " المثل بمعنى الوصف، وضرب الامثال التوصيف بالصفات ومعنى الايه ظاهر، وهى تفيد أنهم لا مطمع في إيمانهم كما قال تعالى: " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " يس: 10. قوله تعالى: وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا " قال في المجمع: الرفات ما تكسر وبلى من كل شئ، ويكثر بناء فعال في كل ما يحطم ويرضض يقال حطام ودقاق وتراب وقال المبرد: كل شئ مدقوق مبالغ في دقه حتى انسحق فهو رفات انتهى. في الايه مضى في بيان عدم فقههم بمعارف القرآن حيث استبعدوا البعث وهو من
أهم ما يثبته القرآن وأوضح ما قامت عليه الحجج من طريق الوحى والعقل حتى وصفه الله في مواضع من كلامه بأنه " لا ريب فيه " وليس لهم حجة على نفيه غير أنهم استبعدوه استبعادا.
[ 116 ]
ومن أعظم ما يزين في قلوبهم هذا الاستبعاد زعمهم أن الموت فناء للانسان ومن المستبعد أن يتكون الشئ عن عدم بحت كما قالوا: أإذا كنا عظاما ورفاتا بفساد أبداننا عن الموت حتى إذا لم يبق منها إلا العظام ثم رمت العظام وصارت رفاتا أإنا لفى خلق جديد نعود أناسى كما كنا ؟ ذلك رجع بعيد ولذلك رده سبحانه إليهم بتذكيرهم القدرة المطلقة والخلق الاول كما سيأتي. قوله تعالى: " قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم " جواب عن استبعادهم، وقد عبروا في كلامهم بقولهم: " أإذا كنا " فأمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يامرهم أمر تسخير أن يكونوا حجارة أو حديدا " الخ " مما تبديله إلى الانسان أبعد وأصعب عندهم من تبديل العظام الرفات إليه. فيكون إشاره إلى أن القدره المطلقة الالهية لا يشقها شئ تريد تجديد خلقه سواء أكان عظاما ورفاتا أو حجاره أو حديدا أو غير ذلك. والمعنى: قل لهم ليكونوا شيئا أشد من العظام والرفات حجارة أو حديدا أو مخلوقا آخر من الاشياء التى تكبر في صدورهم ويبالغون في استبعاد أن يخلق منه الانسان - فليكونوا ما شاءوا فإن الله سيعيد إليهم خلقهم الاول ويبعثهم. قوله تعالى: " فسيقولون من يعيدنا قل الذى فطركم أول مره " أي فإذا أجبت عن استبعادهم بأنهم مبعوثون أياما كانوا وإلى أي حال وصفة تحولوا سيسألونك ويقولون من يعيدنا إلى ما كنا عليه من الخلقة الانسانية ؟ فاذكر لهم الله سبحانه وذكرهم من
وصفه بما لا يبقى معه لاستبعادهم محل وهو فطره إياهم أول مره ولم يكونوا شيئا وقل: يعيدكم الذى خلقكم اول مره. ففى تبديل لفظ الجلالة من قوله: " الذى خلقكم أول مرة " إثبات الامكان ورفع الاستبعاد باراءه المثل. قوله تعالى: " فسينغضون اليك رؤسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا " قال الراغب: الانغاض تحريك الرأس نحو الغير كالمتعجب منه. انتهى. والمعنى: فإذا قرعتهم بالحجه وذكرتهم بقدرة الله على كل شئ وفطره إياهم أول
[ 117 ]
مرة وجدتهم يحركون اليك رؤسهم تحريك المستهزئ المستخف بك المستهين له ويقولون متى هو ؟ قل عسى أن يكون قريبا فإنه لا سبيل إلى العلم به وهو من الغيب الذى لا يعلمه إلا الله لكن وصف اليوم معلوم باعلامه تعالى ولذا وصفه لهم واضعا الصفه مكان الوقت فقال: يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده، الايه. قوله تعالى: " يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا " " يوم " منصوب بفعل مضمر أي تبعثون يوم كذا وكذا والدعوة هي أمره تعالى لهم أن يقوموا ليوم الجزاء واستجابتهم هي قبولهم الدعوه الالهيه، وقوله " بحمده " حال من فاعل تستجيبون والتقدير تستجيبون متلبسين بحمده أي حامدين له تعدون البعث والاعاده منه فعلا جميلا يحمد فاعله ويثنى عليه لان الحقائق تنكشف لكم اليوم فيتبين لكم أن من الواجب في الحكمه الالهية أن يبعث الناس للجزاء وان تكون بعد الاولى اخرى. وقوله " وتظنون إن لبثتم الا قليلا " أي تزعمون يوم البعث أنكم لم تلبثوا في القبور بعد الموت الا زمانا قليلا وترون أن اليوم كان
قريبا منكم جدا. وقد صدقهم الله في هذه المزعمه وان خطاهم فيما ضربوا له من المدة قال تعالى " قال ان لبثتم الا قليلا لو انكم كنتم تعلمون: المؤمنون، 114، وقال ويوم تقوم الساعه يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعه كذلك كانوا يؤفكون قال الذين اوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث " الروم: 56 إلى غير ذلك من الايات. وفى التعرض لقوله " وتظنون ان لبثتم الا قليلا " تعريض لهم في استبطائهم اليوم واستهزائهم به وتأييد لما مر من رجاء قربه في قوله قل عسى أن يكون قريبا أي وانكم ستعدونه قريبا وكذا في قوله: " فتستجيبون بحمده تعريض لهم في استهزائهم به وتعجبهم منه أي وانكم ستحمدونه يوم البعث وانتم اليوم تستبعدونه وتستهزؤن بأمره. قوله تعالى: " قل لعبادي يقولوا التى هي أحسن ان الشيطان ينزغ بينهم " الخ يلوح من السياق أن المراد بعبادي هم المؤمنون فالاضافة للتشريف، وقوله: " قل
[ 118 ]
لعبادي يقولوا " الخ أي مرهم أن يقولوا فهو أمر وجواب أمر مجزوم، وقوله: " التى هي أحسن " أي الكلمه التى هي أحسن، وهو اشتمالها على الادب الجميل وتعريها عن الخشونة والشتم وسوء الامر. الايه وما بعدها من الايتين ذات سياق واحد وخلاصه مضمونها الامر باحسان
القول ولزوم الادب الجميل في الكلام تحرزا عن نزغ الشيطان وليعلموا ان الامر إلى مشية الله لا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يرفع القلم عن كل من آمن به وانتسب إليه ويتاهل للسعاده، فله ما يقول، وله أن يحرم غيره كل خير ويسئ القول فيه فما للانسان الا حسن سريرته وكمال أدبه وقد فضل الله بذلك بعض الانبياء على بعض وخص داود بإيتاء الزبور الذى فيه أحسن القول وجميل الثناء على الله سبحانه. ومن هنا يظهر ان المؤمنين قبل الهجره ربما كانوا يحاورون المشركين فيغلظون لهم في القول ويخاشنونهم بالكلام وربما جبهوهم بأنهم أهل النار، وانهم معشر المؤمنين أهل الجنه ببركة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان ذلك يهيج المشركين عليهم ويزيد في عداوتهم ويبعثهم إلى المبالغة في فتنتهم وتعذيبهم وايذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعناد مع الحق. فأمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمرهم يقول التى هي أحسن والمقام مناسب لذلك فقد تقدم آنفا حكاية إساءة الادب من المشركين إلى النبي وتسميتهم إياه رجلا مسحورا واستهزائهم بالقرآن وبما فيه من معارف المبدء والمعاد، وهذا هو وجه اتصال الايات الثلاث بما قبلها واتصال بعض الثلاث ببعض فافهم ذلك. فقوله: " وقل لعبادي يقولوا التى هي أحسن " أمر بالامر والمامور به قول الكلمه التى هي أحسن فهو نظير قوله: " وجادلهم بالتى هي أحسن: " النحل: 125 وقوله: إن الشيطان ينزغ بينهم " تعليل للامر، وقوله: " ان الشيطان كان للانسان عدوا مبينا " تعليل لنزغ الشيطان بينهم. وربما قيل: إن المراد بقول التى هي أحسن الكف عن قتال المشركين ومعاملتهم بالسلم والخطاب للمؤمنين بمكه قبل الهجرة فالاية نظيرة قوله: " وقولوا للناس حسنا " البقره: 83 على ما ورد في أسباب النزول، وأنت خبير بأن سياق التعليل في الايه لا يلائمه.
[ 119 ]
قوله تعالى: " ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو أن يشا يعذبكم وما جعلناك عليهم وكيلا " قد تقدم أن الايه وما بعدها تتمة السياق السابق وعلى ذلك فصدر الايه من تمام كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذى أمر بإلقائه على المؤمنين بقوله: " قل لعبادي يقولوا " الخ وذيل الايه خطاب للنبى خاصه فلا التفات في الكلام. ويمكن أن يكون الخطاب في صدر الاية للنبى صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين جميعا بتغليب جانب خطابه على غيبتهم، وهذا أنسب بسياق الايه السابقة وتلاحق الكلام والكلام لله جميعا. وكيف كان فقوله: " ربكم أعلم بكم ان يشا يرحمكم أو ان يشا يعذبكم " في مقام تعليل الامر السابق ثانيا، ويفيد أنه يجب على المؤمنين أن يتحرزوا من اغلاظ القول على غيرهم والقضاء بما الله أعلم به من سعاده أو شقاء كأن يقولوا: فلان سعيد بمتابعة النبي وفلان شقى وفلان من أهل الجنة وفلان من أهل النار وعليهم أن يرجعوا الامر ويفوضوه إلى ربهم فربكم - والخطاب للنبى وغيره - أعلم بكم وهو يقضى فيكم على ما علم من استحقاق الرحمة أو العذاب إن يشأ يرحمكم ولا يشاء ذلك الا مع الايمان والعمل الصالح على ما بينه في كلامه أو ان يشأ يعذبكم ولا يشاء ذلك الا مع الكفر والفسوق، وما جعلناك أيها النبي عليهم وكيلا مفوضا إليه أمرهم حتى تختار لمن تشاء ما تشاء فتعطى هذا وتحرم ذاك. ومن ذلك يظهر أن الترديد في قوله: " ان يشأ يرحمكم أو ان يشأ يعذبكم، باعتبار المشيه المختلفة باختلاف الموارد بالايمان والكفر والعمل الصالح والطالح وأن قوله: " وما أرسلناك عليهم وكيلا " لردع المؤمنين عن أن يعتمدوا في نجاتهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والانتساب إلى قبول دينه نظير قوله ليس: بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به: النساء: 123 وقوله: " إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم " البقره: 62
وآيات اخرى في هذا المعنى. وفى الايه اقوال أخر تركنا التعرض لها لعدم الجدوى. قوله تعالى: " وربك أعلم بمن في السموات والارض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا " صدر الايه توسعة في معنى التعليل السابق كأنه قيل:
[ 120 ]
وكيف لا يكون أعلم بكم وهو أعلم بكم وهو أعلم بمن في السماوات والارض وانتم منهم. وقوله " ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض " كأنه تمهيد لقوله: " وآتينا داود زبورا " والجملة تذكر فضل داود عليه السلام بكتابه الذى هو زبور وفيه أحسن الكلمات في تسبيحه وحمده تعالى، وفيه تحريض للمؤمنين أن يرغبوا في احسن القول ويتأدبوا بالادب الجميل في المحاورة والكلام. ولهم في تفسير الايه أقوال اخرى تركنا التعرض لها ومن أرادها فليراجع المطولات. بحث روائي في تفسير القمى في قوله تعالى: " لو كان معه آلهه كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا " قال: قال لو كانت الاصنام آلهه كما تزعمون لصعدوا إلى العرش اقول: أي لاستولوا على ملكه تعالى واخذوا بأزمه الامور واما العرش بمعنى الفلك المحدد للجهات أو جسم نوراني عظيم فوق العالم الجسماني كما ذكره بعضهم فلا دليل عليه من الكتاب، وعلى تقدير ثبوته لا ملازمة بين الربوبيه والصعود على هذا الجسم. وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن مردويه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ان نوحا لما حضرته الوفاه قال لابنيه: آمركما بسبحان الله وبحمده فإنها صلاه كل شئ، وبها يرزق كل شئ. اقول: قد ظهر مما قدمناه في معنى تسبيح الاشياء الارتباط المشار إليه في الرواية بين تسبيح كل شئ وبين رزقه فإن الرزق يقدر بالحاجه والسؤال وكل شئ انما يسبح
الله تعالى بالاشاره باظهار حاجته ونقصه إلى تنزهه تعالى من ذلك. وفي تفسير العياشي عن أبى الصباح عن أبى عبد الله عليه السلام قال: قلت: له قول الله: " وإن من شئ الا يسبح بحمده " قال: كل شئ يسبح بحمده، وإنا لنرى أن تنقض الجدر هو تسبيحها.
[ 121 ]
اقول: ورواه أيضا عن الحسين بن سعيد عنه عليه السلام. وفيه عن النوفلي عن السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يوسم البهائم وأن يضرب وجهها فإنها تسبح بحمد ربها:. اقول: وروى النهى عن ضربها على وجوهها الكليني في الكافي باسناده عن محمد بن مسلم عن أبى عبد الله عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: وفى حديث آخر: لا تسمها في وجوهها وفيه عن اسحاق بن عمار عن أبى عبد الله عليه السلام قال: ما من طير يصاد في بر أو بحر ولا شئ يصاد من الوحش إلا بتضييعه التسبيح. اقول: وهذا المعنى رواه أهل السنة بطرق كثيرة عن ابن مسعود وأبى الدرداء وأبى هريره وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه عن مسعده بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام أنه دخل عليه رجل فقال: فداك أبى وامى - انى أجد الله يقول في كتابه: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " فقال له: هو كما قال الله تبارك وتعالى. قال: أتسبح الشجرة اليابسة ؟ فقال: نعم أما سمعت خشب البيت كيف ينقصف ؟ وذلك تسبيحه فسبحان الله على كل حال. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابي هريره ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن النمل يسبحن. وفيه أخرج النسائي وابو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر قال: نهى رسول الله
عن قتل الضفدع وقال: نعيقها تسبيح وفيه أخرج الخطيب عن ابي حمزه قال: كنا مع على بن الحسين فمر بنا عصافير يصحن فقال أتدرون ما تقول هذه العصافير ؟ فقلنا: لا فقال: أما إنى ما أقول إنا نعلم الغيب ولكني سمعت أبى يقول - سمعت على بن أبى طالب أمير المؤمنين يقول: إن الطير إذا أصبحت سبحت ربها وسألته قوت يومها - وإن هذه تسبح ربها وتسأل قوت يومها.
[ 122 ]
اقول وروى أيضا مثله عن أبي الشيخ وابي نعيم في الحلية عن ابي حمزة الثمالي عن محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام ولفظه قال محمد بن على بن الحسين وسمع عصافير يصحن قال: تدرى ما يقلن ؟ قلت: لا قال: يسبحن ربهن عزوجل ويسألن قوت يومهن. وفيه أخرج الخطيب في تاريخه عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لي: يا عائشة اغسلي هذين البردين فقلت: يا رسول الله بالامس غسلتهما فقال لى: أما علمت أن الثوب يسبح فإذا اتسخ انقطع تسبيحه. وفيه أخرج العقيلى في الضعفاء وأبو الشيخ والديلمي عن انس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: آجال البهائم كلها وخشاش الارض والنمل والبراغيث والجراد والخيل والبغال والدواب كلها وغير ذلك آجالها في التسبيح فإذا انقضى تسبيحها قبض الله أرواحها، وليس إلى ملك الموت منها شئ. اقول: ولعل المراد من قوله: وليس إلى ملك الموت منها شئ، أنه لا يتصدى بنفسه قبض ارواحها وإنما يباشرها بعض الملائكة والاعوان، والملائكة اسباب متوسطة على اي حال. وفيه اخرج احمد عن معاذ بن انس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انه مر على قوم وهم وقوف
على دواب لهم ورواحل فقال لهم: اركبوها سالمة ودعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لاحاديثكم في الطرق والاسواق فرب مركوبة خير من راكبها واكثر ذكرا لله منه. وفي الكافي باسناده عن السكوني عن ابي عبد الله عليه السلام قال: للدابة على صاحبها ستة حقوق: لا يحملها فوق طاقتها، ولا يتخذ ظهرها مجلسا يتحدث عليها، ويبدء بعلفها إذا نزل، ولا يسمها في وجهها، ولا يضربها فإنها تسبح، ويعرض عليها الماء إذا مر بها. وفي مناقب ابن شهر آشوب علقمة وابن مسعود: كنا نجلس مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونسمع الطعام يسبح ورسول الله يأكل، واتاه مكرز العامري وسأله آية فدعا بتسع
[ 123 ]
حصيات فسبحن في يده، وفي حديث ابي ذر: فوضعهن على الارض فلم يسبحن وسكتن ثم عاد واخذهن فسبحن. ابن عباس قال: قدم ملوك حضرموت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا كيف نعلم انك رسول الله ؟ فأخذ كفا من حصى فقال: هذا يشهد انى رسول الله فسبح الحصاه في يده وشهد أنه رسول الله. وفيه ابو هريرة وجابر الانصاري وابن عباس وابي بن كعب وزين العابدين: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخطب بالمدينة إلى بعض الاجذاع فلما كثر الناس واتخذوا له منبرا وتحول إليه حن كما يحن الناقة - فلما جاء إليه واكرمه كان يئن انين الصبي الذي يسكت. اقول: والروايات في تسبيح الاشياء على اختلاف انواعها كثيرة جدا، وربما اشتبه امرها على بعضهم فزعم ان هذا التسبيح العام من قبيل الاصوات، وان لعامة الاشياء لغة أو لغات ذات كلمات موضوعة لمعان نظير ما للانسان مستعملة للكشف عما في الضمير غير ان حواسنا مصروفة عنها وهو كما ترى. والذى تحصل من البحث المتقدم في ذيل الاية الكريمة ان لها تسبيحا هو كلام
بحقيقة معنى الكلام وهو اظهارها تنزه ربها باظهارها نقص ذاتها وصفاتها وافعالها عن علم منها بذلك، وهو الكلام فما روى من سماعهم تسبيح الحصى في كف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو سماع تسبيح الجبال والطير إذا سبح داود عليه السلام أو ما يشبه ذلك انما كان بادراكهم تسبيحها الواقعي بحقيقة معناه من طريق الباطن ثم محاكاة الحس ذلك بما يناظره ويناسبه من الالفاظ والكلمات الموضوعة لما يفيد ما ادركوه من المعنى. نظير ذلك ما تقدم من ظهور المعاني المجردة عن الصورة في الرؤيا فيما يناسبه من الصور المألوفة كظهور حقيقة يعقوب واهله وبنيه ليوسف عليهما السلام في رؤياة في صورة الشمس والقمر والكواكب ونظير سائر الرؤي التي حكاها الله سبحانه في سورة يوسف وقد تقدم البحث عنها. فالذي يناله من ينكشف له تسبيح الاشياء أو حمدها أو شهادتها أو ما يشابه ذلك حقيقة المعنى اولا ثم يحاكيه الحس الباطن في صورة الفاظ مسموعة تؤدي ما ناله من المعنى. والله أعلم. وفي الدر المنثور: اخرج ابو يعلى وابن ابي حاتم وصححه وابن مردويه وابو نعيم
[ 124 ]
والبيهقة معا في الدلائل عن اسماء بنت ابي بكر قالت: لما نزلت " يدا ابي لهب " اقبلت العوراء ام جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهى تقول: مذمما أبينا * * ودينه قلينا * * وأمره عصينا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس وأبو بكر إلى جنبه فقال أبو بكر: لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك فقال: إنها لن تراني وقرء قرآنا اعتصم به كما قال تعالى: " وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالاخرة حجابا مستورا " فجاءت حتى قامت على أبي بكر فلم تر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا أبا بكر بلغني أن صاحبك
هجاني فقال أبو بكر: لا ورب هذا البيت ما هجاك فانصرفت وهي تقول: قد علمت قريش إني بنت سيدها أقول: وروى أيضا بطريق آخر عن أسماء وعن أبى بكر وابن عباس مختصرا ورواه أيضا في البحار عن قرب الاسناد عن الحسن بن ظريف عن معمر عن الرضا عن أبيه عن جده عليه السلام في حديث يذكر فيه جوامع معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي تفسير العياشي عن زرارة عن أحدهما عليه السلام قال: في " بسم الله الرحمن الرحيم " قال: هو أحق ما جهر به، وهي الاية التي قال الله: " وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده - بسم الله الرحمن الرحيم ولوا على أدبارهم نفورا " كان المشركون يستمعون إلى قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا قرء " بسم الله الرحمن الرحيم " نفروا وذهبوا فإذا فرغ منه عادوا وتسمعوا. أقول: وروي هذا المعنى أيضا عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه السلام ورواه القمي في تفسيره مضمرا. وفي الدر المنثور أخرج البخاري في تاريخه عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: لم كتمتم " بسم الله الرحمن الرحيم " فنعم الاسم والله كتموا فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا دخل منزله اجتمعت عليه قريش فيجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ويرفع صوته بها فتولى قريش فرارا فأنزل الله: " وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده: ولوا على أدبارهم نفورا ". وفيه أخرج ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن الزهري قال: حدثت أن أبا
[ 125 ]
جهل وأبا سفيان والاخنس بن شريق خرجوا ليله يستمعون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلى بالليل في بيته - فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فتلاوموا فقال
بعضهم لبعض: لا تعودوا - فلو رأكم بعض سفهائكم لاوقعتم في نفسه شيئا. ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا. فلما أصبح الاخنس أتي أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني عن رأيك فيما سمعت من محمد قال: والله سمعت اشياء اعرفها واعرف ما يراد بها وسمعت اشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الاخنس: وأنا والذي حلفت به. ثم خرج من عنده حتى أتا ابا جهل فقال: ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال: ماذا سمعت ؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف في الشرف اطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا واعطوا فأعطينا - حتى إذا تجانبنا على الركب وكنا كفرسي الرهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى تدرك هذه ؟ لا والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه فقام عنه الاخنس وتركه. وفي المجمع: كان المشركون يؤذون اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة فيقولون: يا رسول الله ائذن لنا في قتالهم فيقول لهم: أني لم اؤمر فيهم بشئ فأنزل الله سبحانه: " قل لعبادي " الاية عن الكلبي. اقول: قد اشرنا في تفسير الاية انه لا يلائم سياقها. والله اعلم.
[ 126 ]
قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا (56). أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان
محذورا (57). وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيمة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا (58). وما منعنا أن نرسل بالايات إلا أن كذب بها الاولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالايات إلا تخويفا (59). وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنه للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا (60). وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا (61). قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا (62). قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا (63) واستفزز من استطعت منهم بصوتك واجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الاموال والاولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا (64). إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا (65).
[ 127 ]
" بيان " احتجاج من وجه آخر على التوحيد ونفى ربوبية الالهة الذين يدعون من دون الله وأنهم لا يستطيعون كشف الضر ولا تحويله عن عبادهم بل هم أمثالهم في الحاجة إلى الله سبحانه يبتغون إليه الوسيلة يرجون رحمته ويخافون عذابه. وأن الضر والهلاك والعذاب بيد الله، وقد كتب في الكتاب على كل قرية أن يهلكها قبل يوم القيامة أو يعذبها عذابا شديدا وقد كانت الاولون يرسل إليهم الايات الالهية لكن لما كفروا وكذبوا بها وتعقب ذلك عذاب الاستئصال لم يرسلها الله إلى
الاخرين فإنه شاء أن لا يعاجلهم بالهلاك غير أن أصل الفساد سينمو بينهم والشيطان سيضلهم فيحق عليهم القول فيأخذهم الله وكان أمرا مفعولا. قوله تعالى: " قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا " الزعم بتثليث الزاي مطلق الاعتقاد ثم غلب استعماله في الاعتقاد الباطل، ولذا نقل عن ابن عباس أن ما كان في القرآن من الزعم فهو كذب. والدعاء والنداء واحد غير أن النداء إنما هو فيما إذا كان معه صوت والدعاء ربما يطلق على ما كان باشارة أو غيرها، وذكر بعضهم في الفرق بينهما أن النداء قد يقال إذا قيل: يا أو أيا أو نحوهما من غير أن يضم إليه الاسم والدعاء لا يكاد يقال إلا إذا كان معه الاسم نحو يا فلان. انتهى. والاية تحتج على نفي الوهيه آلهتهم من دون الله بأن الرب المستحق للعبادة يجب أن يكون قادرا على إيصال النفع ودفع الضر إذ هو لازم ربوبية الرب على أن المشركين مسلمون لذلك وإنما اتخذوا الالهة وعبدوهم طمعا في نفعهم وخوفا من ضررهم لكن الذين يدعونهم من دون الله لا يستطيعون ذلك فليسوا بآلهة، والشاهد على ذلك أن يدعوهم هؤلاء الذين يعبدونهم لكشف ضر مسهم أو تحويله عنهم إلى غيرهم فإنهم لا يملكون كشفا ولا تحويلا.
[ 128 ]
وكيف يملكون من عند أنفسهم كشف ضر أو تحويله ويستقلون بقضاء حاجة ورفع فاقة وهم في أنفسهم مخلوقون لله يبتغون إليه الوسيلة يرجون رحمته ويخافون عذابه باعتراف من المشركين. فقد بان أولا أن المراد بقوله: " الذين زعمتم من دونه " هم الذين كانوا يعبدونهم من الملائكة والجن والانس فإنهم إنما يقصدون بعبادة الاصنام التقرب إليهم وكذا بعبادة الشمس والقمر والكواكب التقرب إلى روحانيتهم من الملائكة. على أن الاصنام بما هي أصنام ليست بأشياء حقيقية كما قال تعالى: " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ".
وأما ما صنعت منه من خشب أو فلز فليس إلا جمادا حاله حال الجماد في التقرب إليه والسجود له وتسبيحه، وليست من تلك الجهة بأصنام. وثانيا: أن المراد بنفي قدرتهم نفي استقلالهم بالقدرة من دون استعانة بالله واستمداد من إذنه والدليل عليه قوله سبحانه في الاية التالية: " اولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة الخ. وقال بعض المفسرين: وكأن المراد من نفي ملكهم ذلك نفى قدرتهم التامة الكاملة عليه، وكون قدره الالهة الباطلة مفاضة منه تعالى مسلم عند الكفرة لانهم لا ينكرون أنها مخلوقة لله تعالى بجميع صفاتها وأن الله سبحانه أقوى وأكمل صفة منها. وبهذا يتم الدليل ويحصل الافحام وإلا فنفي قدرة نحو الجن والملائكة الذين عبدوا من دون الله تعالى مطلقا على كشف الضر مما لا يظهر دليله فإنه إن قيل هو أن الكفره يتضرعون إليهم ولا يحصل لهم الاجابة عورض بأنا نرى أيضا المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى ولا يحصل لهم الاجابة. وقد يقال: المراد نفي قدرتهم على ذلك أصلا ويحتج له بدليل الاشعري على استناد جميع الممكنات إليه عزوجل ابتداء انتهى. قلت: هو سبحانه يثبت في كلامه أنواعا من القدرة للملائكة والجن والانس في آيات كثيرة لا تقبل التأويل البتة غير انه يخص حقيقه القدرة بنفسه في مثل قوله
[ 129 ]
" أن القوة لله جميعا " البقره: 165 ويظهر به ان غيره إنما يقدر على ما يقدر باقداره ويملك ما يملك بتمليكه تعالى إياه فلا أحد مستقلا بالقدرة والملك الا هو، وما عند غيره تعالى من القدرة والملك مستعار منوط في تأثيره بإلاذن والمشية. وعلى هذا فلا سبيل إلى تنزيل الحجة في الاية على نفي قدرة آلهتهم من الملائكة والجن والانس من أصلها بل الحجة مبتنية على ان اولئك المدعوين غير مستقلين بالملك والقدرة، وأنهم فيما عندهم من ذلك كالداعين محتاجون إلى الله مبتغون إليه الوسيلة والدعاء انما يتعلق بالقدرة المستقلة بالتأثير والدعاء والمسألة ممن هو قادر بقدرة
غيره مالك بتمليكه مع قيام القدرة والملك بصاحبهما الاصلي فهو في الحقيقة دعاء ومسألة ممن قام بهما حقيقة واستقلالا دون من هو مملك بتمليكه. واما ما ذكره ان نفي قدرتهم مطلقا غير ظاهر الدليل فإنه أن قيل: ان الكفرة يتضرعون إليهم ولا يحصل لهم الاجابة، عورض بأنا نرى أيضا المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى ولا يحصل لهم الاجابة، فقد اجاب الله سبحانه في كلامه عن مثل هذه المعارضة. توضيح ذلك: انه تعالى قال وقوله الحق: " أجيب دعوة الداع إذا دعان " البقرة: 186 وقال: " ادعوني استجب لكم ": المؤمن: 60 فأطلق الكلام وافاد ان العبد إذا جد بالدعاء ولم يلعب به ولم يتعلق قلبه في دعائه الجدي الا به تعالى بأن انقطع عن غيره والتجأ إليه فإنه يستجاب له البتة ثم ذكر هذا الانقطاع في الدعاء والسؤال في ذيل هذه الايات الذي كالمتمم لما في هذه الحجة بقوله: " وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون الا اياه فلما نجاكم إلى البر اعرضتم " الاية 67 من السورة فأفاد انكم عند مس الضر في البحر تنقطعون عن كل شئ إليه فتدعونه بهداية من فطرتكم فيستجيب لكم وينجيكم إلى البر. ويتحصل من الجميع ان الله سبحانه إذا انقطع العبد عن كل شئ ودعاه عن قلب فارغ سليم فإنه يستجيب له وأن غيره إذا انقطع داعيه عن الله وسأله مخلصا فإنه لا يملك الاستجابة. وعلى هذا فلا محل للمعارضة من قبل المشركين فإنهم لا يستجاب لهم إذا دعوا آلهتهم وهم أنفسهم يرون أنهم إذا مسهم الضر في البحر وانقطعوا إلى الله وسألوه
[ 130 ]
النجاة نجاهم إلى البر وهم معترفون بذلك، ولئن دعاه المسلمون على هذا النمط عن جد في الدعاء وانقطاع إليه كان حالهم في البر حال غيرهم وهم في البحر ولم يخيبوا ولا ردوا. ولم يقابل سبحانه في كلامه بين دعائهم آلهتهم ودعاء المسلمين لالههم حتى يعارض باشتراك
الدعاءين في الرد وعدم الاستجابة وإنما قابل بين دعاء المشركين لالهتهم وبين دعائهم أنفسهم له سبحانه في البحر عند انقطاع الاسباب وضلال كل مدعو من دون الله. ومن لطيف النكتة في الكلام إلقاؤه سبحانه الحجة إليهم بواسطة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال: قل " ادعوا الذين زعمتم من دونه " ولو ناقشه المشركون بمثل هذه المعارضة لدعا ربه عن انقطاع وإخلاص فاستجيب له. قوله تعالى: " اولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب " إلى آخر الاية " اولئك " مبتدء و " الذين " صفة له و " يدعون " صلته ضميره عائد إلى المشركين، و " يبتغون " خبر " اولئك " وضميره وسائر ضمائر الجمع إلى آخر الاية راجعة إلى " اولئك " وقوله: " أيهم أقرب " بيان لابتغاء الوسيلة لكون الابتغاء فحصا وسؤالا في المعنى هذا ما يعطيه السياق. والوسيلة على ما فسروه هي التوصل والتقرب، وربما استعملت بمعنى ما به التوصل والتقرب ولعله هو الانسب بالسياق بالنظر إلى تعقيبه بقوله: " أيهم أقرب ". والمعنى - الله أعلم - اولئك الذين يدعوهم المشركون من الملائكة والجن والانس يطلبون ما يتقربون به إلى ربهم يستعلمون أيهم أقرب: حتى يسلكوا سبيله ويقتدوا بأعماله ليتقربوا إليه تعالى كتقربه ويرجون رحمته من كل ما يستمدون به في وجودهم ويخافون عذابه فيطيعونه ولا يعصونه ان عذاب ربك كان محذورا يجب التحرز منه. والتوسل إلى الله ببعض المقربين إليه - على ما في الاية الكريمة قريب منه قوله " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة: المائدة: " - غير ما يرومه المشركون من الوثنيين فإنهم يتوسلون إلى الله ويتقربون بالملائكة الكرام والجن والاولياء
[ 131 ]
من الانس فيتركون عبادته تعالى ولا يرجونه ولا يخافونه، وانما يعبدون الوسيلة ويرجون رحمته ويخافون سخطه ثم يتوسلون إلى هؤلاء الارباب والالهة بالاصنام والتماثيل فيتركونهم ويعبدون الاصنام ويتقربون إليهم بالقرابين والذبائح. وبالجملة يدعون التقرب إلى الله ببعض عباده أو اصنام خلقه ثم لا يعبدون الا الوسيلة مستقلة بذلك ويرجونها ويخافونها مستقلة بذلك من دون الله فيشركون باعطاء الاستقلال لها في الربوبية والعبادة. والمراد باولئك الذين يدعون إن كان هو الملائكة الكرام والصلحاء المقربون من الجن والانبياء والاولياء من الانس كان المراد من ابتغائهم الوسيلة ورجاء الرحمة وخوف العذاب ظاهره المتبادر، وان كان المراد بهم أعم من ذلك حتى يشمل من كانوا يعبدونه من مردة الشياطين وفسقة الانسان كفرعون ونمرود وغيرهما كان المراد بابتغائهم الوسيلة إليه تعالى ما ذكر من خضوعهم وسجودهم وتسبيحهم التكويني وكذا المراد من رجائهم وخوفهم ما لذواتهم. وذكر بعضهم: ان ضمائر الجمع في الاية جميعا راجعة إلى اولئك والمعنى اولئك الانبياء الذين يعبدونهم من دون الله يدعون الناس إلى الحق أو يدعون الله ويتضرعون إليه يبتغون إلى ربهم التقرب، وهو كما ترى. وقال في الكشاف في معنى الاية: يعنى أن آلهتهم اولئك يبتغون الوسيلة وهي القربة إلى الله تعالى، و " ايهم " بدل من واو " يبتغون " واي موصولة اي يبتغي من هو أقرب منهم وأزلف الوسيلة إلى الله فكيف بغير الاقرب ؟ أو ضمن " يبتغون الوسيلة معنى يحرصون فكأنه قيل: يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح ويرجون ويخافون كما غيرهم من عباد الله فكيف يزعمون أنهم آلهة. انتهى.
والمعنيان لا بأس بهما لو لا أن السياق لا يلائمهما كل الملاءمة وثانيهما أقرب إليه من أولهما. وقيل: إن معنى الاية اولئك الذين يدعونهم ويعبدونهم ويعتقدون أنهم آلهة يبتغون الوسيلة والقربة إلى الله تعالى بعبادتهم ويجتهد كل منهم ليكون أقرب من رحمته.
[ 132 ]
انتهى. وهو معنى لا ينطبق على لفظ الاية البتة. قوله تعالى: " وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا " ذكروا أن المراد بالعذاب الشديد عذاب الاستئصال فيبقى للاهلاك المقابل له الاماتة بحتف الانف فالمعنى ما من قرية إلا نحن نميت أهلها قبل يوم القيامة أو نعذبهم عذاب الاستئصال قبل يوم القيامة إذ لا قرية بعد طي بساط الدنيا بقيام الساعة وقد قال تعالى: " وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا " الكهف: 8 ولذا قال بعضهم: إن الا هلاك للقرى الصالحة والتعذيب للقرى الطالحة. وقد ذكروا في وجه اتصال الاية أنها موعظة، وقال بعضهم: كأنه تعالى بعد ما ذكر من شأن البعث والتوحيد ما ذكر، ذكر بعض ما يكون قبل يوم البعث مما يدل على عظمته سبحانه وفيه تأييد لما ذكر قبله. والظاهر ان في الاية عطفا على ما تقدم من قوله قبل آيات: " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا " فإن آيات السورة لا تزال ينعطف بعضها على بعض، والغرض العام بيان سنة الله تعالى الجارية بدعوتهم إلى الحق ثم إسعاد من سعد منهم بالسمع والطاعة وعقوبة من خالف منهم وطغى بالاستكبار. وعلى هذا فالمراد بالاهلاك التدمير بعذاب الاستئصال كما نقل عن أبي مسلم المفسر والمراد بالعذاب الشديد ما دون ذلك من العذاب كقحط أو غلاء ينجر إلى جلاء أهلها وخراب عمارتها أو غير ذلك من البلايا والمحن.
فتكون في الاية إشارة إلى ان هذه القرى سيخرب كل منها بفساد أهلها وفسق مترفيها، وأن ذلك بقضاء من الله سبحانه كما يشير إليه ذيل الاية وبذلك يتضح اتصال الاية التالية " وما منعنا " الخ بهذه الاية فإن المعنى أنهم مستعدون للفساد مهيؤن لتكذيب الايات الالهية وهي تتعقب بالهلاك والفناء على من يردها ويكذب بها وقد أرسلناها إلى الاولين فكذبوا بها واستؤصلوا فلو انا أرسلنا إلى هؤلاء شيئا من جنس تلك الايات المخوفة لحق بهم الاهلاك والتدمير وانطوى بساط الدنيا فأمهلناهم حتى حين وسيلحق بهم ولا يتخطاهم - كما اشير إليه في قوله: " ولكل أمة رسول "
[ 133 ]
الايات يونس: 47. وذكر بعضهم: أن المراد بالقرى في الاية القرى الكافرة وأن تعميم القرى لا يساعد عليه السياق انتهى. وهو دعوى لا دليل عليها. وقوله: " كان ذلك في الكتاب مسطورا " أي اهلاك القرى أو تعذيبها عذابا شديدا كان في الكتاب مسطورا وقضاء محتوما، وبذلك يظهر أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ الذي يذكر القرآن أن الله كتب فيه كل شئ كقوله: " وكل شئ أحصيناه في امام مبين " يس: 12، وقوله: " وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الارض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر الا في كتاب مبين: يونس: 61. ومن غريب الكلام ما ذكره بعضهم: وذكر غير واحد أنه ما من شئ الا بين فيه أي في اللوح المحفوظ والكتاب المسطور بكيفياته وأسبابه الموجبة له ووقته المضروب له، واستشكل العموم بأنه يقتضي عدم تناهي الابعاد، وقد قامت البراهين النقلية والعقلية على خلاف ذلك فلا بد أن يقال بالتخصيص بأن يحمل الشئ على ما يتعلق بهذه النشأه أو نحو ذلك.
وقال بعضهم: بالعموم إلا انه التزم كون البيان على نحو يجتمع مع التناهي فاللوح المحفوظ في بيانه جميع الاشياء الدنيوية والاخروية وما كان وما يكون نظير الجفر الجامع في بيانه لما يبينه. انتهى. والكلام مبني على كونه لوحا جسمانيا موضوعا في بعض أقطار العالم مكتوبا فيه أسماء الاشياء وأوصافها وأحوالها وما يجري عليها في الانظمة الخاصة بكل منها والنظام العام الجاري عليها من جميع الجهات، ولو كان كما يقولون لوحا ماديا جسمانيا لم يسع كتابة أسماء أجزائه التي تألف منها جسمه وتفصيل صفاتها وحالاتها فضلا عن غيره من الموجودات التي لا يحصيها ولا يحيط بتفاصيل صفاتها وأحوالها وما يحدث عليها والنسب التي بينها الا الله سبحانه، وليس ينفع في ذلك التخصيص بما في هذه النشأة أو بما دون ذلك وهو ظاهر. وما التزم به البعض أنه من قبيل انطواء غير المتناهي في المتناهي نظير اشتمال
[ 134 ]
الحروف المقطعة جميع الكلام مع عدم تناهي التأليفات الكلامية التزام بوجود صور الحوادث فيه بالقوة والامكان أو الاجمال وكلامه سبحانه فيما يصف فيه هذا اللوح كالصريح أو هو صريح في اشتماله على الاشياء والحوادث مما كان أو يكون أو هو كائن بالفعل وعلى نحو التفصيل وبسمة الوجوب الذي لا سبيل للتغير إليه، ولو كان كذلك لكفى فيه كتابة حروف التهجة في دائرة على لوح. على ان الجمع بين جسمية اللوح وماديته التي من خاصتها قبول التغير وبين كونه محفوظا من اي تغير وتحول مفروض مما يحتاج إلى دليل اجلى من هذه التصويرات، وفي الكلام مواقع اخرى للنظر. فالحق ان الكتاب المبين هو متن (1) الاعيان بما فيه من الحوادث من جهة ضرورة ترتب المعلولات على عللها، وهو القضاء الذي لا يرد ولا يبدل لا من جهة امكان المادة
وقوتها والتعبير عنه بالكتاب واللوح لتقريب الافهام إلى حقيقة المعنى بالتمثيل، وسنستوفي الكلام في هذا البحث ان شاء الله في موضع يناسبه. قوله تعالى: " وما منعنا أن نرسل بالايات الا ان كذب بها الاولون " إلى آخر الاية قد تقدم وجه اتصال الاية بما قبلها ومحصله ان الاية السابقة افادت ان الناس - وآخروهم كأوليهم - مستحقون بما فيهم من غريزة الفساد والفسق لحلول الهلاك وسائر انواع العذاب الشديد، وقد قضى الله على القرى ان تهلك أو تعذب عذابا شديدا وهذا هو الذي منعنا ان نرسل بالايات التي يقترحونها فإن السابقين منهم اقترحوها فأرسلناها إليهم فكذبوا بها فأهلكناهم، وهؤلاء اللاحقون في خلق سابقيهم فلو ارسلنا بالايات حسب اقتراحهم لكذبوا بها فحل الهلاك بهم لا محالة كما حل بسابقيهم، وما يريد الله سبحانه ان يعاجلهم بالعقوبة. وبهذا يظهر ان للايتين ارتباطا بما سيحكيه من اقتراحهم الايات بقوله: " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا: الايه 90 من السورة إلى آخر الايات، وظاهر آيات السورة انها نزلت دفعة واحدة.
(1) بما لها من الثبوت في مرتبة عللها لا في مرتبة انفسها " منه ". (*)
[ 135 ]
فقوله: " وما منعنا ان نرسل بالايات " المنع هو قسر الغير عما يريد ان يفعله وكفه عنه، والله سبحانه يحكم ولا معقب لحكمه وهو الغالب القاهر إذا اراد شيئا قال له كن فيكون، فكون تكذيب الاولين لاياته مانعا له من ارسال الايات المقترحة بعد ذلك كون الفعل بالنظر إلى ما ارتكز فيهم من خلق التكذيب خاليا عن المصلحة بالنسبه إلى امة اراد الله ان لا يعاجلهم بالعقوبة والهلاك أو خاليا عن المصلحة مطلقا للعلم بأن عامتهم لا يؤمنون بالايات المقترحة.
وان شئت فقل: ان المنافاة بين ارسال الايات المقترحة مع تكذيب الاولين وكون الاخرين سالكين سبيلهم المستتبع للاستئصال وبين تعلق المشية بامهال هذه الامة عبر عنها في الاية بالمنع استعارة. وكأنه للاشعار بذلك عبر عن ايتاء الايات بالارسال كأنها تتعاضد وتتداعى للنزول لكن التكذيب وتعرق الفساد في فطر الناس يمنع من ذلك. وقوله: " الا ان كذب بها الاولون " التعبير عن الامم الهالكة بالاولين المضايف للاخرين فيه ايماء إلى ان هؤلاء آخر اولئك الاولين فهم في الحقيقة امه واحدة لاخرها من الخلق والغريزه ما لاولها، ولذيلها من الحكم ما لصدرها ولذلك كانوا يقولون: " ما سمعنا بهذا في آبائنا الاولين " المؤمنون: 24 ويكررون ذكر هذه الكلمة. وكيف كان فمعنى الاية انا لم نرسل الايات التي يقترحونها - والمقترحون هم قريش - لانا لو ارسلناها لم يؤمنوا وكذبوا بها فيستحقوا عذاب الاستئصال كما انا ارسلناها إلى الاولين بعد اقتراحهم اياها فكذبوا بها فأهلكناهم لكنا قضينا على هذه الامة أن لا نعذبهم الا بعد مهلة ونظرة كما يظهر من مواضع من كلامه تعالى. وذكروا في معنى الاية الكريمة وجهين آخرين: أحدهما: أنا لا نرسل الايات لعلمنا بأنهم لا يؤمنون عندها فيكون إنزالها عبثا لا فائدة فيه كما أن من قبلهم لم يؤمنوا عند إنزال الايات وهذا إنما يتم في الايات المقترحة وأما الايات التي يتوقف عليها ثبوت النبوة فإن الله يؤتيها رسوله لا محالة وكذا الايات التى في نزولها لطف منه سبحانه فإن الله يظهرها أيضا لطفا منه، وأما غير هذين
[ 136 ]
النوعين فلا فائدة في إنزالها. وثانيهما: أن المعنى أنا لا نرسل الايات لان آباءكم وأسلافكم سألوا مثلها ولم يؤمنوا به عند ما نزل وأنتم على آثار أسلافكم مقتدون فكما لم يؤمنوا هم لا تؤمنون أنتم. والمعنى الثاني منقول عن أبى مسلم وتمييزه من المعنيين السابقين من غير ان ينطبق
على أحدهما لا يخلو من صعوبة. وقوله: " وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها " ثمود هم قوم صالح ولقد آتاهم الناقه آية والمبصرة الظاهرة البينة على حد ما في قوله تعالى: " وجعلنا آية النهار مبصرة: اسرى 12، وهي صفة الناقة أو صفة لمحذوف والتقدير آية مبصرة والمعنى وآتينا قوم ثمود الناقة حالكونها ظاهرة بينة أو حالكونها آية ظاهرة بينة فظلموا أنفسهم بسببها أو ظلموا مكذبين بها. وقوله: " وما نرسل بالايات الا تخويفا " اي ان الحكمة في الارسال بالايات التخويف والانذار فإن كانت من الايات التي تستتبع عذاب الاستئصال ففيها تخويف بالهلاك في الدنيا وعذاب النار في الآخرة، وإن كانت من غيرها ففيها تخويف وإنذار بعقوبة العقبى. وليس من البعيد ان يكون المراد بالتخويف إيجاد الخوف والوحشة بارسال ما دون عذاب الاستئصال على حد ما في قوله تعالى: " أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤف رحيم " النحل: 47 فيرجع محصل معنى الاية انا لا نرسل بالايات المقترحة لانا لا نريد ان نعذبهم بعذاب الاستئصال وإنما نرسل ما نرسل من الايات تخويفا ليحذروا بمشاهدتها عما هو اشد منها وافظع ونسب الوجه إلى بعضهم. قوله تعالى: " واذ قلنا لك ان ربك احاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي اريناك الا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم الا طغيانا كبيرا " فقرات الآية وهة اربع واضحة المعاني لكنها بحسب ما بينها من الاتصال وارتباط بعضها ببعض لا تخلد من إجمال والسبب الاصلي في ذلك إجمال الفقرتين الوسطيين الثانية والثالثة.
[ 137 ]
فلم يبين سبحانه ما هذه الرؤيا التي أراها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقع في سائر كلامه ما
يصلح لان يفسر به هذه الرؤيا، والذي ذكره من رؤياه في مثل قوله: " إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم " الانفال، 43 وقوله " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام الفتح 27 من الحوادث الواقعة بعد الهجرة وهذه الاية مكية نازلة قبل الهجرة. ولا يدري ما هذه الشجرة الملعونة في القرآن التي جعلها فتنة للناس، ولا توجد في القرآن شجرة يذكرها الله ثم يلعنها نعم ذكر سبحانه شجرة الزقوم ووصفها بأنها فتنة كما في قوله " أم شجرة الزقوم انا جعلناها فتنة للظالمين الصافات 63 لكنه سبحانه لم يلعنها في شئ من المواضع التي ذكرها، ولو كان مجرد كونها شجرة تخرج في اصل الجحيم وسببا من أسباب عذاب الظالمين موجبا للعنها لكانت النار وكل ما أعد الله فيها للعذاب ملعونة ولكانت ملائكة العذاب وهم الذين قال تعالى فيهم: " وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا " المدثر: 31 ملعونين وقد أثنى الله عليهم ذاك الثناء البالغ في قوله: " عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون: التحريم: 6 وقد عد سبحانه أيدي المؤمنين من أسباب عذاب الكفار إذ قال: " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم " التوبة: 14 وليست بملعونة. وبهذا يتأيد أنه لم يكن المراد بالاية الكشف عن قناع الفقرتين وإيضاح قصة الرؤيا والشجرة الملعونة في القرآن المجعولتين فتنة للناس بل إنما أريدت الاشارة إلى إجمالهما والتذكير بما يقتضيانه بحكم السياق. نعم ربما يلوح السياق إلى بعض شأن الامرين: الرؤيا والشجرة الملعونة فإن الايات السابقة كانت تصف الناس أن آخريهم كأوليهم وذيلهم كصدرهم في عدم الاعتناء بآيات الله سبحانه وتكذيبها، وأن المجتمعات الانسانية ذائقون عذاب الله قرية بعد قرية وجيلا بعد جيل بإهلاك أو بعذاب مخوف دون ذلك، والايات اللاحقة " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم " الخ المشتملة على قصة إبليس وعجيب تسلطه على إغواء بنى آدم تجري على سياق الايات السابقة.
[ 138 ]
وبذلك يظهر أن الرؤيا والشجرة المشار اليهما في الاية أمران سيظهران على الناس أو هما ظاهر ان يفتتن بهما الناس فيشيع بهما فيهم الفساد ويتعرق فيهم الطغيان والاستكبار وذيل الاية ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا " يشير إلى ذلك ويؤيده بل وصدر الاية " وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس. أضف إلى ذلك أنه تعالى وصف هذه الشجرة التى ذكرها بأنها ملعونه في القرآن، وبذلك يظهر أن القرآن مشتمل على لعنها وأن لعنها بين اللعنات الموجودة في القرآن كما هو ظاهر قوله: " والشجرة الملعونة في القرآن " وقد لعن في القرآن إبليس ولعن فيه اليهود ولعن فيه المشركون ولعن فيه المنافقون ولعن فيه اناس بعناوين أخر كالذين يموتون وهم كفار والذين يكتمون ما أنزل الله والذين يؤذون الله ورسوله إلى غير ذلك. وقد جعل الموصوف بهذه اللعنة شجرة والشجرة كما تطلق على ذي الساق من النبات كذلك تستعمل في الاصل الذي تطلع منه وتنشأ عليه فروع بالنسب أو بالاتباع على أصل اعتقادي، قال في لسان العرب: ويقال: فلان من شجرة مباركة أي من أصل مبارك. انتهى. وقد ورد ذلك في لسانه صلى الله عليه وآله وسلم كثيرا كقوله: أنا وعلى من شجرة واحدة، ومن هذا الباب قوله في حديث العباس: عم الرجل صنو أبيه. (1) وبالتأمل في ذلك يتضح للباحث المتدبر أن هذه الشجرة الملعونة قوم من هؤلاء الملعونين في كلامه لهم صفة الشجرة في النشوء والنمو وتفرع الفروع على أصل له حظ من البقاء والاثمار وهم فتنة تفتتن بها هذه الامة وليس يصلح لهذه الصفة إلا طوائف ثلاث من المعدودين وهم أهل الكتاب والمشركون والمنافقون ولبثهم في الناس وبقاؤهم على الولاء إما بالتناسل والتوالد كأهل بيت من الطوائف المذكورة يعيشون بين الناس ويفسدون على الناس دينهم ودنياهم ويفتتن بهم الناس وإما بطلوع عقيدة فاسدة ثم اتباعها على الولاء من خلف بعد سلف.
ولم يظهر من المشركين وأهل الكتاب في زمن الرسول قبل الهجرة وبعدها قوم بهذا النعت، وقد آمن الله الناس من شرهم مستقلين بذلك بمثل قوله النازل في أواخر
(1) الصنوان: النخلتان تطلعان من عرق واحد. (*)
[ 139 ]
عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشوني: المائدة: 3 وقد استوفينا البحث عن معنى الاية فيما تقدم. فالذي يهدي إليه الامعان في البحث أن المراد بالشجرة الملعونة قوم من المنافقين المتظاهرين بالاسلام يتعرقون بين المسلمين إما بالنسل وإما بالعقيدة والمسلك هم فتنة للناس، ولا ينبغي أن يرتاب في أن في سياق الاية تلويحا بالارتباط بين الفقرتين أعنى قوله: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة " وخاصة بعد الامعان في تقدم قوله: " وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وتذييل الفقرات جميعا بقوله ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا " فإن ارتباط الفقرات بعضها ببعض ظاهر في أن الايه بصدد الاشارة إلى أمر واحد هو سبحانه محيط به ولا ينفع فيه عظة وتخويف إلا زيادة في الطغيان. ويستفاد من ذلك أن الشأن هو أن الله سبحانه أرى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في الرؤيا هذه الشجرة الملعونة وبعض أعمالهم في الاسلام ثم بين لرسوله أن ذلك فتنة. فقوله: " وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس مقتضى السياق أن المراد بالاحاطة الاحاطة العلمية والظرف متعلق بمحذوف والتقدير واذكر إذ قلنا لك كذا وكذا والمعنى واذكر للتثبت فيما ذكرنا لك في هذه الايات أن شيمة الناس الاستمرار في الفساد والفسوق واقتداء أخلافهم بأسلافهم في الاعراض عن ذكر الله وعدم الاعتناء بآيات الله، وقتا قلنا لك ان ربك أحاط بالناس علما وعلم أن هذه السنة ستجري بينهم كما كانت تجري.
وقوله: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك الا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن " محصل معناه على ما تقدم أنه لم نجعل الشجرة الملعونة في القرآن التي تعرفها بتعريفنا، ومأ أريناك في المنام من أمرهم الا فتنه للناس وامتحانا وبلاء نمتحنهم ونبلوهم به وقد أحطنا بهم. وقوله: " ونخوفهم فما يزيدهم الا طغيانا كبيرا ضميرا الجمع للناس ظاهرا والمراد بالتخويف اما التخويف بالموعظة والبيان أو بالايات المخوفة التي هي دون الايات الملكهة المبيدة، والمعنى ونخوف الناس فما يزيدهم التخويف الا طغيانا ولا أي طغيان كان بل
[ 140 ]
طغيانا كبيرا أي انهم لا يخافون من تخويفنا حتى ينتهوا عما هم عليه بل يجيبوننا بالطغيان الكبير فهم يبالغون في طغيانهم ويفرطون في عنادهم مع الحق. وسياق الاية سياق التسلية فالله سبحانه يعزى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فيها بأن الذي أراه من الامر، وعرفه من الفتن، وقد جرت سنته تعالى على امتحان عباده بالمحن والفتن، وقد اعترف بذلك غير واحد من المفسرين. ويؤيد جميع ما تقدم ما ورد من طرق أهل السنة واتفقت عليه أحاديث أئمه أهل البيت عليهم السلام أن المراد بالرؤيا في الاية هي رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بني اميه والشجرة شجرتهم وسيوافيك الروايات في البحث الروائي الاتي ان شاء الله تعالى. وقد ذكر جمع من المفسرين استنادا إلى ما نقل عن ابن عباس أن المراد بالرؤيا التى أراها الله نبيه هو الاسراء، والمراد بالشجرة الملعونة في القرآن شجرة الزقوم، وذكروا أن النبي صلى الله عليه واله وسلم لما رجع من الاسراء وأصبح أخبر المشركين بذلك فكذبوه واستهزؤا، به وكذلك لما سمع المشركون آيات ذكر الله فيها الزقوم كذبوه وسخروا منه فأنزل الله في هذه الاية أن الرؤيا التى أريناك وهي الاسراء وشجرة الزقوم ما جعلناهما الا فتنة للناس. ثم لما ورد عليهم أن الرؤيا على ما صرح به أهل اللغة هي ما يراه النائم في منامه
والاسراء كان في اليقظه اعتذروا عنه تاره بأن الرؤيا كالرؤية مصدر رآى ولا اختصاص لها بالمنام، وتارة بأن الرؤيا ما يراه الانسان بالليل سواء فيه النوم واليقظة، وتارة بأنها مشاكلة لتسمية المشركين له رؤيا، وتاره بأنه جار على زعمهم كما سموا أصنامهم آلهة فقد روي أن بعضهم قال للنبى صلى الله عليه وآله وسلم لما قص عليهم اسراءه: لعله شئ رأيته في منامك فسماه الله رؤيا على زعمهم كما قال في الاصنام " آلهتهم " وتارة بأنه سمى رؤيا تشبيها له بالمنام لما فيها من العجائب أو لوقوعه ليلا أو لسرعته. وقد أجاب عن ذلك بعضهم أن الاسراء كان في المنام كما روي عن عائشة ومعاوية. ولما ورد عليهم أيضا أن لا معنى لتسميه الزقوم شجرة ملعونة ولا ذنب للشجرة اعتذروا عنه تارة بأن المراد من لعنها لعن طاعميها على نحو المجاز في الاسناد للدلالة على المبالغة في لعنهم كما قيل، وتاره بأن اللعنة بمعنى البعد وهي في أبعد مكان من الرحمة
[ 141 ]
لكونها تنبت في أصل الجحيم، وتأرة بأنها جعلت ملعونة لان طلعها يشبه رؤس الشياطين والشياطين ملعونون وتارة بان العرب تسمي كل غذاء مكروه ضار ملعونا. أما ما ذكروه في معنى الرؤيا فما قيل: ان الرؤيا مصدر مرادف للرؤية أو انها بمعنى الرؤية ليلا يرده عدم الثبوت لغة ولم يستندوا في ذلك إلى شئ من كلامهم من نظم أو نثر الا إلى مجرد الدعوى. وأما قولهم: ان ذلك مشاكلة لتسمية المشركين الاسراء رؤيا اوجرى على زعمهم أنه رؤيا فيجب تنزيه كلامه سبحانه من ذلك البتة فما هي القرينه الدالة على هذه العناية وأنه ليس فيه اعتراف بكونها رؤيا حقيقة ؟ ولم يطلق تعالى على أصنامهم " آلهه " و " شركاء " وانما أطلق " آلهتهم " و " شركائهم " فأضافها إليهم والاضافة نعمت القرينه على عدم التسليم، ونظير الكلام جار في اعتذارهم بأنه من تشبيه الاسراء بالرؤيا فالاستعارة كسائر المجازات لا تصح الا مع قرينة، ولو كانت هناك قرينة لم
يستدل كل من قال بكون الاسراء مناميا بوقوع لفظة الرؤيا في الاية بناء على كون الايه ناظرة إلى الاسراء. وأما قول القائل: ان الاسراء كان في المنام فقد اتضح بطلانه في أول السورة في تفسير آية الاسراء. وأما المعاذير التي ذكروها تفصيا عن جعل الشجرة ملعونة في القرآن فقولهم: إن حقيقة لعنها لعن طاعميها على طريق المجاز في الاسناد للمبالغة في لعنهم فهو وإن كان كثير النظير في محاورات العامة لكنه مما يجب أن ينزه عنه ساحة كلامه تعالى وإنما هو من دأب جهلة الناس وسفلتهم تراهم إذا أرادوا أن يسبوا أحدا لعنوه بلعن أبيه وامه وعشيرته مبالغه في سبه، وإذا شتموا رجلا أساؤا ذكر زوجته وبنته وسبوا السماء التي تظله والارض التي تقله والدار التي يسكنها والقوم الذين يعاشرهم وأدب القرآن يمنعه ان يبالغ في لعن أصحاب النار بلعن الشجره التى يعذبهم الله بأكل ثمارها. وقولهم: " إن اللعن مطلق الابعاد مما لم يثبت لغة والذي ذكروه ويشهد به ما ورد من استعماله في القرآن أن معناه الابعاد من الرحمة والكرامة وما قيل: إنها كما قال الله " شجرة تنبت في أصل الجحيم " فهي في أبعد مكان من الرحمة إن اريدت بالرحمة الجنة
[ 142 ]
فهو قول من غير دليل وإن أريدت به الرحمة المقابلة للعذاب كان لازمه كون الشجرة ملعونة بمعنى الابعاد من الرحمة والكرامة ومقتضاه كون جهنم ومأ أعد الله فيها من العذاب وملائكة النار وخزنتها ملعونين مغضوبين مبعدين من الرحمة، وليس شئ منها
ملعونا وإنما اللعن والغضب والبعد للمعذبين فيها من الانس والجن. وقولهم: " إنها جعلت ملعونة لان طلعها يشبه رؤس الشياطين والشياطين ملعونون فهو مجاز في الاسناد بعيد من الفهم يرد عليه ما أوردناه على الوجه الاول. وقولهم: إن العرب تسمي كل غذاء مكروه ضار ملعونا فيه استعمال الشجرة وإرادة الثمرة مجازا ثم جعلها ملعونة لكونها مكروهة ضارة أو نسبة اللعن وهو وصف الثمرة إلى الشجرة مجازا، وعلى أي حال كونها معنى من معاني اللعن غير ثابت بل الظاهر أنهم يصفونه باللعن بمعناه المعروف والعامة يلعنون كل ما لا يرتضونه من طعام وشراب وغيرهما. وأما انتساب القول إلى ابن عباس فعلى تقدير ثبوته لا حجية فيه وخاصة مع معارضته لما في حديث عائشة الاتية وغيرها وهو يتضمن تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يعارضه قول غيره. وقال في الكشاف في قوله تعالى: " وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس " واذكر إذ أوحينا اليك أن ربك أحاط بقريش يعني بشرناك بوقعة بدر وبالنصرة عليهم وذلك قوله: " سيهزم الجمع ويولون الدبر " " قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون " وغير ذلك فجعله كأن قد كان ووجد فقال: " أحاط بالناس " على عادته في إخباره. وحين تزاحف الفريقان يوم بدر والنبى صلى الله عليه وآله وسلم في العريش مع أبي بكر كان يدعو ويقول: اللهم إني أسألك عهدك ووعدك ثم خرج وعليه الدرع يحرض الناس ويقول: " سيهزم الجمع ويولون الدبر ". ولعل الله تعالى أراه مصارعهم في منامه فقد كان يقول حين ورد ماء بدر: والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يومئ إلى الارض ويقول: هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان فتسامعت قريش بما أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أمر يوم بدر وما أري
[ 143 ]
في منامه من مصارعهم فكانوا يضحكون ويستسخرون ويستعجلون به استهزاء. وحين سمعوا بقوله: " إن شجرة الزقوم طعام الاثيم " جعلوها سخرية وقالوا: إن محمدا يزعم أن الجحيم تحرق الحجارة ثم يقول ينبت فيها الشجر - إلى أن قال - والمعنى أن الايات إنما يرسل بها تخويفا للعباد، وهؤلاء قد خوفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر. انتهى ثم ذكر تفسير الرؤيا في الاية بالاسراء ناسبا له إلى قيل. وهو ظاهر في أنه لم يرتض تفسير الرؤيا في الاية بالاسراء وإن نسب إلى الرواية فعدل عنه إلى تفسيرها برؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقعة بدر قبل وقوعها وتسامع قريش بذلك واستهزاءهم به. وهو وإن تقصى به عما يلزم تفسيرهم الرؤيا بالاسراء من المحذور لكنه وقع فيما ليس بأهون منه إن لم يكن أشد وهو تفسير الرؤيا بما رجى أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرى في منامه وقعة بدر ومصارع القوم فيها قبل وقوعها ويسخر قريش منه فيجعل فتنة لهم فلا حجة له على ما فسر إلا قوله: " ولعل الله أراه مصارعهم في منامه " وكيف يجترئ على تفسير كلامه تعالى بتوهم أمر لا مستند له ولا حجة عليه من أثر يعول عليه أو دليل من خلال الايات يرجع إليه. وذكر بعضهم: أن المراد بالرؤيا رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه يدخل مكة والمسجد الحرام وهي التي ذكرها الله سبحانه بقوله: " لقد صدق الله رسوله الرؤيا الاية. وفيه أن هذه الرؤيا إنما رآها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة قبل صلح الحديبيه والاية مكية وسنستوفي البحث عن هذه الرؤيا إن شاء الله تعالى. وذكر بعضهم: أن المراد بالشجرة الملعونة في القرآن هم اليهود ونسب إلى أبي مسلم المفسر. وقد تقدم ما يمكن أن يوجه به هذا القول مع ما يرد عليه. قوله تعالى: " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس قال ء أسجد لمن خلقت طينا " قال في المجمع: قال الزجاج: طينا منصوب على الحال بمعنى أنك أنشاته في حال كونه من طين ويجوز أن يكون تقديره من طين فحذف " من "
[ 144 ]
فوصل الفعل، ومثله قوله: " أن تسترضعوا أولادكم أي لاولادكم وقيل: إنه منصوب على التميز. انتهى. وجوز في الكشاف كونه حالا من الموصول لا من المفعول " خلقت " كما قاله الزجاج، وقيل ان الحالية على أي حال خلاف الظاهر لكون " طينا " جامدا. وفي الاية تذكير آخر للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بقصة ابليس وما جرى بينه وبين الله سبحانه من المحاورة عند ما عصى أمر السجدة ليتثبت فيما اخبره الله من حال الناس انهم لم يزالوا على الاستهانة بأمر الله والاستكبار عن الحق وعدم الاعتناء بآيات الله ولن يزالوا على ذلك فليذكر قصة ابليس وما عقد عليه ان يحتنك ذرية آدم وسلطه الله يومئذ على من أطاعه من بنى آدم واتبع دعوته ودعوة خيله ورجله ولم يستثن في عقده الا عباده المخلصين. فالمعنى: واذكر إذ قال ربك للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا الا ابليس - فكأنه قيل: " فماذا صنع ؟ أو فماذا قال ؟ إذ لم يسجد فقيل: انه انكر الامر بالسجدة وقال أأسجد - والاستفهام للانكار - لمن خلقته من طين وقد خلقتني من نار وهي اشرف من الطين. وفي القصة اختصار بحذف بعض فقراتها، والوجه فيه أن السياق اقتضى ذلك فإن الغرض بيان العلل والعوامل المقتضية لاستمرار بني آدم على الظلم والفسوق فقد ذكر أولا أن الاولين منهم لم يؤمنوا بالايات المقترحة والاخرون بانون على الاقتداء بهم ثم ذكره صلى الله عليه وآله وسلم أن هناك من الفتن ما سيفتنون به ثم ذكره بما قصه عليه من قصة آدم وابليس وفيها عقد ابليس أن يغوي ذرية آدم وسؤاله أن يسلطه الله عليهم واجابته تعالى اياه على ذلك في الغاوين فليس بمستبعد أن يميل أكثر الناس إلى سبيل الضلال وينكبوا على الظلم والطغيان والاعراض عن آيات الله وقد أحاطت بهم الفتنه الالهية من جانب والشيطان بخيله ورجله من جانب.
قوله تعالى: " قال أرأيتك هذا الذي كرمت على لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته الا قليلا " الكاف في " أرأيتك " زائدة لا محل لها من الاعراب وانما
[ 145 ]
تفيد معنى الخطاب كما في أسماء الاشارة، والمراد بقوله: " هذا الذي كرمت علي " آدم عليه السلام وتكريمه على ابليس تفضيله عليه بأمره بالسجدة ورجمه حيث أبى. ومن هنا يظهر أنه فهم التفضيل من أمر السجدة كما أنه اجترى على ارادة اغواء ذريته مما جرى في محاورته تعالى الملائكة من قولهم: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " البقرة 30، وقد تقدم في تفسير الاية ما ينفع هيهنا. والاحتناك - على ما في المجمع الاقتطاع من الاصل، يقال: احتنك فلان ما عند فلان من مال أو علم إذا استقصاه فأخذه كله واحتنك الجراد المزرع إذا أكله كله، وقيل: انه من قولهم حنك الدابة بحبلها إذا جعل في حنكها الاسفل حبلا يقودها به والظاهر أن المعنى الاخير هو الاصل في الباب، والاحتناك الالجام. والمعنى: قال ابليس بعد ما عصى وأخذه الغضب الالهي رب أرأيت هذا الذي فضلته بأمري بسجدته ورجمى بمعصيته اقسم لئن اخرتني إلى يوم القيامة وهو مدة مكث بنى آدم في الارض لالجمن ذريته الا قليلا منهم وهم المخلصون. قوله تعالى: " قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا " قيل: الامر بالذهاب ليس على حقيقته وإنما هو كناية عن تخليته ونفسه كما تقول لمن يخالفك: افعل ما تريد، وقيل: الامر على حقيقته وهو تعبير آخر لقوله في موضع آخر: " أخرج منها فانك رجيم " والموفور المكمل فالجزاء الموفور الجزاء الذى يوفى كله ولا يدخر منه شئ ومعنى الاية واضح. قوله تعالى: " واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك " إلى آخر الاية الاستفزاز الازعاج والاستنهاض بخفة وإسراع، والاجلاب كما في المجمع السوق بجلبة من السائق والجلبه شدة الصوت، وفي المفردات: أصل الجلب سوق الشئ
يقال جلبت جلبا قال الشاعر: " وقد يجلب الشئ البعيد الجواب وأجلبت عليه صحت عليه بقهر، قال الله عزوجل: " وأجلب عليهم بخيلك ورجلك " انتهى. والخيل - على ما قيل - الافراس حقيقة ولا واحد له من لفظه ويطلق على الفرسان
[ 146 ]
مجازا، والرجل بالفتح فالكسر هو الراجل كحذر وحاذر وكمل وكامل وهو خلاف الراكب، وظاهر مقابلته بالخيل أن يكون المراد به الرجالة وهم غير الفرسان من الجيش. فقوله: " واستفزز من استطعت منهم بصوتك ": أي استنهض للمعصية من استطعت أن تستنهضه من ذرية آدم - وهم الذين يتولونه منهم ويتبعونه كما ذكره في سورة الحجر - بصوتك، وكان الاستفزاز بالصوت كناية عن استخفافهم بالوسوسة الباطلة من غير حقيقة، وتمثيل بما يساق الغنم وغيره بالنعيق والزجر وهو صوت لا معنى له. وقوله: " واجلب عليهم بخيلك ورجلك " أي وصح عليهم لسوقهم إلى معصية الله بأعوانك وجيوشك فرسانهم ورجالتهم وكأنه اشارة إلى أن قبيله وأعوانه منهم من يعمل ما يعمل بسرعة كما هو شأن الفرسان في معركة الحرب ومنهم من يستعمل في غير موارد الحملات السريعة كالرجالة، فالخيل والرجل كناية عن المسرعين في العمل والمبطئين فيه وفيه تمثيل نحو عملهم. وقوله: " وشاركهم في الاموال والاولاد " الشركة إنما يتصور في الملك والاختصاص ولازمه كون الشريك سهيما لشريكه في الانتفاع الذي هو الغرض من اتخاذ المال والولد فإن المال عين خارجي منفصل من الانسان وكذا الولد شخص إنساني مستقل عن والديه، ولو لا غرض الانتفاع لم يعتبر الانسان مالية لمال ولا اختصاصا بولد.
فمشاركة الشيطان للانسان في ماله أو ولده مساهمته له في الاختصاص والانتفاع كأن يحصل المال الذي جعله الله رافعا لحاجه الانسان الطبيعية من غير حله فينتفع به الشيطان لغرضه والانسان لغرضه الطبيعي، أو يحصله من طريق الحل لكن يستعمله في غير طاعة الله فينتفعان به معا وهو صفر الكف من رحمة الله وكان يولد الانسان من غير طريق حله أو يولد من طريق حله ثم يربيه تربية غير صالحة ويؤدبه بغير أدب الله فيجعل للشيطان سهما ولنفسه سهما، وعلى هذا القياس. وهذا وجه مستقيم لمعنى الاية وجامع لما ذكره المفسرون في معنى الاية من الوجوه المختلفة كقول بعضهم: الاموال والاولاد التي يشارك فيها الشيطان كل مال أصيب من حرام وأخذ من غير حقه وكل ولد زنا كما ابن عباس وغيره.
[ 147 ]
وقول آخر: " إن مشاركته في الاموال أنه أمرهم أن يجعلوها سائبة وبحيرة وغير ذلك وفي الاولاد أنهم هو دوهم ونصروهم ومجسوهم كما عن قتادة. وقول آخر: إن كل مال حرام وفرج حرام فله فيه شرك كما عن الكلبي وقول آخر " إن المراد بالاولاد تسميتهم عبد شمس وعبد الحارث ونحوهما، وقول آخر: هو قتل الموؤدة من أولادهم كما عن ابن عباس أيضا، وقول آخر: إن المشاركة في الاموال الذبح للالهة كما عن الضحاك إلى غير ذلك مما روى عن قدماء المفسرين. وقوله وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا " أي ما يعدهم إلا وعدا غارا بإظهار الخطأ في صورة الصواب والباطل على هيئة الحق فالغرور مصدر بمعنى اسم الفاعل للمبالغة. قوله تعالى ": إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا " المراد بعبادي أعم من المخلصين الذين استثناهم إبليس بقوله: " إلا قليلا " بل غير الغاوين من أتباع أبليس كما قال في موضع آخر: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين: الحجر 42 والاضافة للتشريف.
وقوله: " وكفي بربك وكيلا " أي قائما على نفوسهم وأعمالهم حافظا لمنافعهم متوليا لامورهم فإن الوكيل هو الكافل لامور الغير القائم مقامه في تدبيرها وإدارة رحاها، وبذلك يظهر أن المراد به وكالته الخاصة لغير الغاوين من عباده كما مر في سورة الحجر. وقد تقدمت أبحاث مختلفة حول قصة سجدة آدم نافعة في هذا المقام في مواضع متفرقة من كلامه تعالى كسورة البقرة وسورة الاعراف وسورة الحجر. بحث روائي في تفسير العياشي عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام: في قوله: " وإن من فرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة " قال: هو الفناء بالموت أو غيره، وفي
[ 148 ]
رواية أخرى عنه عليه السلام: " وإن من قريه إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة " قال: بالقتل والموت أو غيره. اقول: ولعله تفسير لجميع الاية. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وما منعنا أن نرسل بالايات " الاية قال: نزلت في قريش. قال: وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام: في الاية: وذلك أن محمدا سأل قومه أن يأتيهم فنزل جبرئيل فقال: إن الله عزوجل يقول: وما منعنا أن نرسل بالايات الا أن كذب بها الاولون، وكنا إذا أرسلنا إلى قريش آية فلم يؤمنوا بها اهلكناهم فلذلك أخرنا عن قومك الايات. وفي الدر المنثور أخرج أحمد والنسائي والبزار وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: سأل أهل مكه النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعون فقيل له: إن شئت أن نتأني بهم وإن شئت أن نؤتيهم الذى سألوا فإن
كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم من الامم قال: لا بل أستأني بهم فأنزل الله: " وما منعنا أن نرسل بالايات الا أن كذب بها الاولون ". اقول: وروي ما يقرب منه بغير واحد من الطرق. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن سهل بن سعد قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى فلان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتى مات فأنزل الله: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنه للناس ". وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر أن النبي قال: رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة وأنزل الله في ذلك: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة " يعني الحكم وولده. وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أريت بني امية على منابر الارض وسيتملكونكم فتجدونهم أرباب سوء، واهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك فأنزل الله: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ".
[ 149 ]
وفيه أخرج ابن مردوية عن الحسين بن على: أن رسول الله أصبح وهو مهموم فقيل: مالك يا رسول الله ؟ فقال: إني أريت في المنام كأن بني امية يتعاورون منبرى هذا فقيل: يا رسول الله لا تهتم فإنها دنيا تنالهم فأنزل الله: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ". وفيه أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن سعيد ابن المسيب قال: رآى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أميه على المنابر فساءه ذلك فأوحى الله إليه إنما هي دنيا أعطوها فقرت عينه، وهي قوله: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنه للناس " يعنى بلاء للناس. اقول: ورواه في تفسير البرهان عن الثعلبي في تفسيره يرفعه إلى سعيد بن المسيب.
وفي تفسير البرهان عن كتاب فضيلة الحسين يرفعه إلى أبي هريرة قال قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رأيت في النوم بني الحكم أو بني العاص ينزون على منبري كما تنزو القردة فأصبح كالمتغيظ فما رؤي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستجمعا ضاحكا بعد ذلك حتى مات. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن عائشة: أنها قالت لمروان بن الحكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لابيك وجدك: إنكم الشجرة الملعونة في القرآن. وفي مجمع البيان: رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن قرودا تصعد منبره وتنزل وساءء ذلك واغتم: رواه سهل بن سعيد عن أبيه. ثم قال. وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام، وقالوا: على هذا التأويل الشجرة الملعونة في القرآن هو بنو اميه. اقول: وليس من التأويل في شئ بل هو تنزيل كما تقدم بيانه، إلا أن التأويل ربما اطلق في كلامهم على مطلق توجيه المقصود. وروى هذا المعنى العياشي في تفسيره عن عدة من الثقات كزرارة وحمران ومحمد ابن مسلم ومعروف بن خربوذ وسلام الجعفي والقاسم بن سليمان ويونس بن عبد الرحمان الاشل وعبد الرحيم القصير عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام ورواه القمي في تفسيره مضمرا، ورواه العياشي أيضا عن أبي الطفيل عن علي عليه السلام.
[ 150 ]
وفى بعض هذه الروايات أن مع بنى أمية غيرهم وقد تقدم ما يهدي إليه البحث في معنى الاية، وقد مر أيضا الروايات في ذيل قوله تعالى: " ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة " الاية إبراهيم: 26 أن الشجرة الخبيثة هي الافجران من قريش. وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وأحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس: " في قوله - وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس "
قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة اسري به إلى بيت المقدس وليست برؤيا منام " والشجرة الملعونة في القرآن " قال " هي شجره الزقوم: اقول: وروى هذا المعنى أيضا عن ابن سعد وأبي يعلى وابن عساكر عن ام هاني، وقد عرفت حال الرواية في الكلام على تفسير الاية. وفيه أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك " الاية قال: إن رسول الله اري أنه دخل مكة هو وأصحابه وهو يومئذ بالمدينة فسار إلى مكه قبل الاجل فرده المشركون فقال اناس: قد رد وقد كان حدثنا أنه سيدخلها فكانت رجعته فتنتهم اقول: وقد تقدم ما على الرواية في تفسير الاية على أنها تعارض ما تقدمها. وفي تفسير البرهان عن الحسين بن سعيد في كتاب الزهد عن عثمان بن عيسى عن عمر بن اذينة عن سليمان بن قيس قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله حرم الجنة علي كل فحاش بذئ قليل الحياء لا يبالي ما قال وما قيل له فإنك أن فتشته لم تجده إلا لغيه أو شرك شيطان. فقال رجل. يا رسول الله وفي الناس شرك شيطان ؟ فقال: أو ما تقرء قول الله عزوجل: " وشاركهم في الاموال والاولاد " ؟ فقال: من لا يبالي ما قال وما قيل له ؟ فقال: نعم من تعرض للناس فقال فيهم وهو يعلم أنهم لا يتركونه فذلك الذي لا يبالي ما قال وما قيل له. وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن شرك
[ 151 ]
الشيطان: قوله: " وشاركهم في الاموال والاولاد " قال: ما كان من مال حرام فهو شرك الشيطان. قال ويكون مع الرجل حتى يجامع فيكون من نطفته ونطفة الرجل إذا كان حراما. اقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة، وهي من قبيل ذكر المصاديق، وقد
تقدم المعنى الجامع لها. وما ذكر فيها على مشاركته الرجل في الوقاع والنطفة وغير ذلك كناية عن ان له نصيبا في جميع ذلك فهو من التمثيل بما يتبين به المعنى المقصود، ونظائرة كثيرة في الروايات. * * * ربكم الذى يزجى لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما (66). وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الانسان كفورا (67). أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا (68). أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا (69). ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (70). يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتى كتابه بيمينه فأولئك يقرؤن كتابهم ولا يظلمون فتيلا (71). ومن كان في هذه أعمى فهو في الاخرة أعمى وأضل سبيلا (72).
[ 152 ]
بيان الايات كالمكملة للايات السابقة تثبت لله سبحانه من استجابة الدعوه وكشف الضر ما نفاه القبيل السابق عن أصنامهم وأوثانهم فإن الايات السابقة تبتدي بقوله تعالى: " قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا " وهذه الايات تفتتح بقوله: " ربكم الذى يزجى لكم الفلك في البحر " الخ.
وإنما قلنا: هي كالمكملة لبيان الايات السابقة مع أن ما تحتويه كل من القبلين حجة تامة في مدلولها تبطل إحداهما الوهية آلهتهم وتثبت الاخرى ألوهية الله سبحانه لافتتاح القبيل الاول بقوله: " قل " دون الثاني وظاهره كون مجموع القبيلين واحدا من الاحتجاج أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإلقائه إلى المشركين لالزامهم بالتوحيد. ويؤيده السياق السابق المبدو بقوله: " قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا " وقد لحقه قوله ثانيا: " وقالوا أإذا متنا - أن قال - قل كونوا حجارة أو حديدا. وقد ختم الايات بقوله: " يوم ندعوا كل اناس بإمامهم " الخ فأشار به إلى أن هذا الذى يذكر من الهدى والضلالة في الدنيا يلازم الانسان في الاخرة فالنشأة الاخرى على طبق النشأه الاولى فمن أبصر في الدنيا أبصر في الاخرة ومن كان في هذه أعمى فهو من الاخرة أعمى وأضل سبيلا. قوله تعالى: " ربكم الذى يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما " الازجاء على ما في مجمع البيان سوق الشئ حالا بعد حال فالمراد به إجراء السفن في البحر بإرسال الرياح ونحوه وجعل الماء رطبا مائعا يقبل الجري والخرق، والفلك جمع الفلكة وهي السفينة. وابتغاء الفضل طلب الرزق فإن الجواد إنما يجود غالبا بما زاد على مقدار حاجة نفسه وفضل الشئ ما زاد وبقي منه ومن ابتدائيي، وربما قيل: إنها للتبعيض وذيل
[ 153 ]
الاية تعليل للحكم بالرحمة والمعنى ظاهر. والايه تمهيد لتاليها. قوله تعالى: " وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه " إلى آخر الاية الضر الشدة، ومس الضر في البحر هو خوف الغرق بالاشراف عليه بعصف الرياح وتقاذف الامواج ونحو ذلك.
وقوله: " ضل من تدعون إلا إياه " المراد بالضلال - على ما ذكروا - الذهاب عن الخواطر دون الخروج عن الطريق وقيل: هو بمعنى الضياع من قولهم ضل عن فلان كذا أي ضاع عنه ويعود على أي حال إلي معنى النسيان. والمراد بالدعاء دعاء المسألة دون دعاء العبادة فيعم قوله: " من تدعون الاله الحق والالهة الباطلة التى يدعوها المشركون، والاستثناء متصل، والمعنى وإذا اشتد عليكم الامر في البحر بالاشراف على الغرق نسيتم كل إله تدعونه وتسألونه حوائجكم إلا الله. وقيل: المراد دعاء العبادة دون المسألة فيختص بمن يعبدونه من دون الله والاستثناء منقطع، والمعنى إذا مسكم الضر في البحر ذهب عن خواطركم الالهة الذين تعبدونهم لكن الله سبحانه لا يغيب عنكم ولا ينسى. والظاهر أن المراد بالضلال معناه المعروف وهو خلاف الهدى والكلام مبني على تمثيل لطيف كأن الانسان إذا مسه الضر في البحر ووقع في قلبه أن يدعو لكشف ضره قصده آلهته الذين كان يدعوهم ويستمر في دعائهم قبل ذلك وأخذوا يسعون نحوه ويتسابقون في قطع الطريق إلى ذكره ليذكرهم ويدعوهم ويستغيث بهم لكنهم جميعا يضلون الطريق ولا ينتهون إلى ذكره فينساهم والله سبحانه مشهود لقلبه حاضر في ذكره يذكره الانسان عند ذلك فيدعوه وقد كان معرضا عنه فيجيبه وينجيه إلى البر. وبذلك يظهر أن المراد بالضلال معناه المعروف، وبمن تدعون آلهتهم من دون الله فحسب وأن الاستثناء منقطع والوجه في جعل الاستثناء منقطعا أن الذى يبتني عليه الكلام من معنى التشبيه لا يناسب ساحة قدسه تعالى لتنزهه من السعي والوقوع في الطريق وقطعه ونحو ذلك. مضافا إلى أن قوله: " فلما نجاكم إلى البر أعرضتم " ظاهر في أن المراد بالدعوة
[ 154 ]
دعاء المسألة وأنهم في البر أي في حالهم العادى غير حال الضر معرضون عنه تعالى لا يدعونه فقوله: " من تدعون " الظاهر في استمرار الدعوة المراد به آلهتهم الذين كانوا يدعونهم فاستثناؤه تعالى استثناء منقطع. وقوله: " فلما نجاكم إلى البر أعرضتم " أي فلما نجاكم من الغرق وكشف عنكم الضر
رادا لكم إلى البر اعرضتم عنه أو عن دعائه وفيه دلالة على أنه تعالى غير مغفول عنه للانسان في حال وأن فطرته تهديه إلى دعائه في الضراء والسراء والشدة والرخاء جميعا فإن الاعراض إنما يتحقق عن أمر ثابت موجود فقوله: إن الانسان يدعوه في الضر ويعرض عنه بعد كشفه في معنى أنه مهدي إليه بالفطرة دائما. وقوله، " وكان الانسان كفورا: أي إن الكفران من دأب الانسان من حيث ان له الطبيعة الانسانية فإنه يتعلق بالاسباب الظاهرية فينسى مسبب الاسباب فلا يشكره تعالى وهو يتقلب في نعمه الظاهره والباطنة. وفى تذييل الكلام بهذه الجملة تنبيه على أن إعراض الانسان عن ربه في غير حال الضر ليس بحال غريزي فطري له حتى يستدل بنسيانه ربه على نفي الربوبية بل هو دأب سئ من الانسان يوقعه فيه كفران النعمة. وفى الاية حجة على توحده تعالى في ربوبيته ومحصله ان الانسان إذا انقطع عن جميع الاسباب الظاهرية وأيس منها لم ينقطع عن التعلق بالسبب من اصله ولم يبطل منه رجاء النجاة من رأس بل رجى النجاة وتعلق قلبه بسبب ما يقدر على ما لا يقدر عليه سائر الاسباب، ولا معنى لهذا التعلق الفطري لو لا أن هناك سببا فوق الاسباب إليه يرجع الامر كله وهو الله سبحانه، وليس يصرف الانسان عنه الا الاشتغال بزخارف الحياة الدنيا والتعلق بالاسباب الظاهرية والغفلة عما وراءها. قوله تعالى: " أفأمنتم ان يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا " خسوف القمر استتار قرصه بالظلمة والظل وخسف الله به الارض أي ستره فيها، والحاصب - كما في المجمع - الريح التى ترمي بالحصباء والحصا الصغار وقيل: الحاصب الريح المهلكة في البر والقاصف الريح المهلكة في البحر.
[ 155 ]
والاستفهام للتوبيخ يوبخهم الله تعالى على إعراضهم عن دعائه في البر فإنهم لا
مؤمن لهم من مهلكات الحوادث في البر كما لا مؤمن لهم حال مس الضر في البحر إذ لا علم لهم بما سيحدث لهم وعليهم فمن الجائز أن يخسف الله بهم جانب البر أو يرسل عليهم ريحا حاصبا فيهلكهم بذلك ثم لا يجدوا لانفسهم وكيلا يدفع عنهم الشدة والبلاء ويعيد إليهم الامن والسلام. قوله تعالى: " أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى: إلى آخر الايه القصف الكسر بشدة وقاصف الريح هي التي تكسر السفن والابنية وقيل: القاصف الريح المهلكة في البحر والتبيع هو التابع يتبع الشئ وضمير " فيه للبحر وضمير " به " للغرق أو للارسال أو لهما معا باعتبار ما وقع ولكل قائل، والاية من تمام التوبيخ. والمعنى أم هل أمنتم بنجاتكم إلى البر أن يعيدكم الله في البحر تارة اخرى فيرسل عليكم ريحا كاسرة للسفن أو مهلكة فيغرقكم بسبب كفركم ثم لا تجدوا بسبب الاغراق أحدا يتبع الله لكم عليه فيسأله لم فعل هذا بكم ؟ ويؤاخذه على ما فعل. وفي قوله: " ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا " التفات من الغيبة إلى التكلم بالغير وكأن النكتة فيه الظهور على الخصم بالعظمة والكبرياء. وهو المناسب في المقام، وليكون مع ذلك توطئة لما في الايات التالية من سياق التكلم بالغير. قوله تعالى: " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " الاية مسوقة للامتنان مشوبا بالعتاب كأنه تعالى لما ذكر وفور نعمه وتواتر فضله ورحمته على الانسان، وحمله في البحر ابتغاء فضله ورزقه، ورفاه حاله في البر ثم نسيانه لربه واعراضه عن دعائه إذا نجاه وكشف ضره كفرانا مع أنه متقلب دائما بين نعمة التى لا تحصى نبه على جملة تكريمه وتفضيله ليعلم بذلك مزيد عنايته بالانسان وكفران الانسان لنعمه على كثرتها وبلوغها. وبذلك يظهر أن المراد بالاية بيان حال لعامة البشر مع الغض عما يختص به بعضهم من الكرامة الخاصة الالهية والقرب والفضيلة الروحية المحضة فالكلام يعم المشركين والكفار والفساق والا لم يتم معنى الامتنان والعتاب.
[ 156 ]
فقوله: " ولقد كرمنا بني آدم " المراد بالتكريم تخصيص الشئ بالعناية وتشريفه بما يختص به ولا يوجد في غيره، وبذلك يفترق عن التفضيل فإن التكريم معنى نفسي وهو جعله شريفا ذا كرامة في نفسه، والتفضيل معنى إضافي وهو تخصيصه بزيادة العطاء بالنسبة إلى غيره مع اشتراكهما في أصل العطية والانسان يختص من بين الموجودات الكونية بالعقل ويزيد على غيره في جميع الصفات والاحوال التى توجد بينها والاعمال التي يأتي بها. وينجلي ذلك بقياس ما يتفنن الانسان به في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه ومنكحه ويأتى به من النظم والتدبير في مجتمعه، ويتوسل إليه من مقاصده باستخدام سائر الموجودات الكونية وقياس ذلك مما لسائر الحيوان والنبات وغيرهما من ذلك فليس عندها من ذلك إلا وجوه من التصرف ساذجة بسيطة أو قريب من البساطة وهي واقفة في موقفها المحفوظ لها يوم خلقت من غير تغير أو تحول محسوس وقد سار الانسان في جميع وجوه حياته الكمالية إلى غايات بعيدة ولا يزال يسعى ويرقي. وبالجملة بنو آدم مكرمون بما خصهم الله به من بين سائر الموجودات الكونية وهو الذى يمتازون به من غيرهم وهو العقل الذي يعرفون به الحق من الباطل والخير من الشر والنافع من الضار. وأما ما ذكره المفسرون أو وردت به الرواية أن الذي كرمهم الله به النطق أو تعديل القامة وامتدادها أو الاصابع يفعلون بها ما يشاؤن أو الاكل باليد أو الخط أو حسن الصورة أو التسلط على سائر الخلق وتسخيرهم له أو أن الله خلق أباهم آدم بيده أو أنه جعل محمدا صلى الله عليه وآله وسلم منهم أو جميع ذلك، وما ذكر منها فإنما ذكر على سبيل التمثيل. فبعضها مما يتفرع على العقل كالخط والنطق والتسلط على غيره من الخلق وبعضها من مصاديق التفضيل دون التكريم وقد تقدم الفرق بينهما، وبعضها خارج عن مدلول الاية كالتكريم بخلق أبيهم آدم عليه السلام بيده وجعل محمد صلى الله عليه وآله وسلم منهم فإن ذلك من
التكريم الاخروي والتشريف المعنوي الخارج عن مدلول الاية كما تقدم. وبذلك يظهر ما في قول بعضهم: إن التكريم بجميع ذلك وقد أخطأ صاحب
[ 157 ]
روح المعاني حيث قال بعد ذكر الاقوال: والكل في الحقيقة على سبيل التمثيل ومن ادعى الحصر في واحد كابن عطية حيث قال: إنما التكريم بالعقل لا غيره فقد ادعى غلطا ورام شططا وخالف صريح العقل وصحيح النقل. انتهى. ووجه خطأه ظاهر مما تقدم. وقوله: " وحملناهم في البر والبحر " أي حملناهم على السفن والدواب وغير ذلك يركبونها إلى مقاصدهم وابتغاء فضل ربهم ورزقه، وهذا أحد مظاهر تكريمهم. وقوله: " ورزقناهم من الطيبات " أي من الاشياء التي يستطيبونها من أقسام النعم من الفواكه والثمار وسائر ما يتنعمون به ويستلذونه مما يصدق عليه الرزق، وهذا أيضا أحد مظاهر التكريم فمثل الانسان في هذا التكريم الالهي مثل من يدعى إلى الضيافة وهي تكريم ثم يرسل إليه مركوب يركبه للحضور لها وهو تكريم ثم يقدم عليه أنواع الاغذية والاطعمه الطيبة اللذيذة وهو تكريم. وبذلك يظهر أن عطف قوله: " وحملناهم " الخ وقوله " ورزقناهم " الخ على التكريم من قبيل عطف المصاديق المترتبة على العنوان الكلي المنتزع منها. وقوله: " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " لا يبعد أن يكون المراد بمن لقناهم أنواع الحيوان ذوات الشعور والجن الذي يثبته القرآن فإن الله سبحانه يعد أنواع الحيوان امما أرضيه كالامة الانسانية ويجريها مجرى اولي العقل كما قال: " وما من دابة في الارض ولا طائر يطير بجناحيه إلا امم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون. وهذا هو الانسب بمعنى الاية وقد عرفت أن الغرض منها بيان ما كرم الله به بني آدم وفضلهم على سائر الموجودات الكونية وهي - فيما نعلم - الحيوان والجن وأما الملائكة فليسوا من الموجودات الكونية الواقعة تحت تأثير النظام المادى الحاكم
في عالم المادة. فالمعنى: وفضلنا بني آدم على كثير مما خلقنا وهم الحيوان والجن واما غير
[ 158 ]
الكثير وهم الملائكة فهم خارجون عن محل الكلام لانهم موجودات نورية غير كونية ولا داخلة في مجرى النظام الكوني، والايه إنما تتكلم في الانسان من جهة أنه أحد الموجودات الكونية وقد انعم عليه بنعم نفسية وإضافيه. وقد تبين مما تقدم: أولا: أن كلا من التكريم والتفضيل في الاية ناظر إلى نوع من الموهبة الالهية التي اوتيها الانسان، أما تكريمه فيما يختص بنوعه من الموهبة لا يتعداه إلى غيره وهو العقل الذى يميز به الخير من الشر والنافع من الضار والحسن من القبيح ويتفرع عليه مواهب اخرى كالتسلط على غيره واستخدامه في سبيل مقاصده والنطق والخط وغيره. وأما تفضيله فبما يزيد به على غيره في الامور المشتركة بينه وبين غيره كما أن الحيوان يتغذى بما وجده من لحم أو فاكهة أو حب أو عشب ونحو ذلك على وجه ساذج والانسان يتغذى بذلك ويزيد عليه بما يبدعه من ألوان الغذاء المطبوخ وغير المطبوخ على أنحاء مختلفة وفنون مبتكرة وطعوم مستطابة لذيذه لا تكاد تحصى ولا تزال تزداد نوعا وصنفا، وقس على ذلك الحال في مشربه وملبسه ومسكنه ونكاحه و اجتماعه المنزلي والمدني وغير ذلك. وقال في مجمع البيان: ومتى قيل: إذا كان معنى التكريم والتفضيل واحدا فما معنى التكرار ؟ فجوابه أن قوله " كرمنا " ينبئ عن الانعام ولا ينبئ عن التفضل فجاء بلفظ التفضيل ليدل عليه، وقيل: ان التكريم يتناول نعم الدنيا والتفضيل يتناول نعم الاخرة وقيل: إن التكريم بالنعم التى يصح بها التكليف، والتفضل بالتكليف الذي عرضهم به للمنازل العالية. انتهى. أما ما ذكره أن التفضيل يدل علي نكتة زائده على مدلول التكريم وهو كونه
تفضلا وإعطاء لا عن استحقاق ففيه أنه ممنوع والتفضيل كما يصح لا عن استحقاق من المفضل كذلك يصح عن استحقاق منه لذلك، وأما ما نقله عن غيره فدعوى من غير دليل. وقال الرازي في تفسيره في الفرق بينهما: أن الاقرب في ذلك أن يقال: إنه تعالى فضل الانسان على سائر الحيوانات بامور خلقية طبيعية ذاتية مثل العقل والنطق والخط
[ 159 ]
والصوره الحسنة والقامة المديدة ثم إنه عزوجل عرضه بواسطة العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة والاخلاق الفاضلة فالاول هو التكريم والثاني هو التفضيل فكأنه قيل: فضلناهم بالتعريض لاكتساب ما فيه النجاة والزلفى بواسطة ما كرمناهم به من مبادى ذلك فعليهم أن يشكروا ويصرفوا ما خلق لهم لما خلق له فيوحدوا الله تعالى ولا يشركوا به شيئا ويرفضوا ما هم عليه من عبادة غيره. انتهى. ومحصله الفرق بين التكريم والتفضيل بأن الاول إنما هو في الامور الذاتية أو ما يلحق بها من الغريزيات والثاني في الامور الاكتسابية، وأنت خبير بأن الانسان وإن وجد فيه من المواهب الالهية والكمالات الوجودية امور ذاتية وامور اكتسابيه على ما ذكره لكن اختصاص التكريم بالنوع الاول والتفضيل بالنوع الثاني لا يساعد عليه لغة ولا عرف فالوجه ما قدمناه. وثانيا: أن الاية ناظرة إلى الكمال الانساني من حيث وجوده الكوني وتكريمه وتفضيله بالقياس إلى سائر الموجودات الكونية الواقعة تحت النظام الكوني فالملائكة الخارجون عن النظام الكوني خارجون عن محل الكلام، والمراد بتفضيل الانسان على كثير ممن خلق تفضيله على غير الملائكة من الموجودات الكونية، وأما الملائكة فوجودهم غير هذا الوجود فلا تعرض لهم في ذلك بوجه. وبذلك يظهر فساد ما استدل بعضهم بالاية على كون الملائكة أفضل من الانسان
حتى الانبياء عليهم السلام قال: لان قوله تعالى: " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا " يدل على أن هاهنا من لم يفضلهم عليه، وليس إلا الملائكه لان بني آدم أفضل من كل حيوان سوى الملائكة بالاتفاق. وجه الفساد: أن الذي تعرضت له الاية إنما هو التفضيل من حيث الوجود الكوني الدنيوي والملائكة غير موجودين بهذا النحو من الوجود، وإلى هذا يرجع ما أجاب به بعضهم أن التفضيل في الاية لم يرد به الثواب لان الثواب لا يجوز التفضيل به ابتداء، وإنما المراد بذلك ما فضلهم الله به من فنون النعم التي اوتيها في الدنيا. وأما ما أجابوا عنه بأن المراد بالكثير في الاية الجميع ومن بيانية، والمعنى وفضلناهم على من خلقنا وهم كثير.
[ 160 ]
ففيه أنه وجه سخيف لا يساعد عليه كلامهم ولا سياق الايه، وما قيل: أنه من قبيل قولهم: بذلت له العريض من جاهي وأبحته المنيع من حريمي ولا يراد به أني بذلت له عريض جاهي ومنعته ما ليس بعريض وابحته منيع حريمي ولم أبحه ما ليس بمنيع بل المراد بذلت له جاهي الذى من صفته أنه عريض وأبحته حريمي الذى هو منيع، يرده أنه إن اريد بما فسر به المثالان أن العناية في الكلام مصروفة إلى أخذ كل الجاه عريضا وكل الحريم منيعا لم ينقسم الجاه والحريم حينئذ إلى عريض وغير عريض ومنيع وغير منيع ولم ينطبق على مورد الاية المدعى أنه اطلق فيها البعض واريد به الكل، وإن اريد به أن المعنى بذلت له عريض جاهي فكيف بغير العريض وأبحته المنيع من حريمي فكيف بغير المنيع كان شمول حكم البعض للكل بالاولوية ولم يجز في مورد الاية قطعا. وربما اجيب عن ذلك بأنا أن سلمنا أن المراد بالكثير غير الملائكة ولفظة من للتبعيض فغايه ما في الباب أن تكون الاية ساكتة عن تفضيل بني آدم على الملائكة وهو أعم من تفضيل الملك على الانسان لجواز التساوى، ولو سلم أنها تدل على التفضيل
فغايته أن تدل على تفضيل جنس الملائكة على جنس بني آدم وهذا لا ينافى أن يكون بعض بني آدم أفضل من الملائكة كالانبياء عليهم السلام. والحق كما عرفت أن الاية غير متعرضة للتفضيل من جهة الثواب والفضل الاخروي وبعبارة أخرى هي متعرضة للتفضيل من جهة الوجود الكونة والمراد بكثير ممن خلقنا غير الملائكة ومن تبعيضية والمراد بمن خلقنا الملائكة وغيرهم من الانسان والحيوان والجن. والانسان مفضل بحسب وجوده الكوني على الحيوان والجن هذا، وسيوافيك كلام في معنى تفضيل الانسان على الملك إن شاء الله. كلام في الفضل بين الانسان والملك اختلف المسلمون في أن الانسان والملك أيهما أفضل فالمعروف المنسوب إلى الا شاعره أن الانسان أفضل والمراد به أفضلية المؤمنين منهم إذ لا يختلف اثنان في أن من الانسان من هو أضل من الانعام وهو أهل الجحود منهم فكيف يمكن أن
[ 161 ]
يفضل على الملائكه المقربين ؟ وقد استدل عليه بالاية الكريمة: " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " على أن يكون الكثير بمعنى الجميع كما أومانا إليه في تفسير الاية وبما ورد من طريق الرواية أن المؤمن أكرم على الله من الملائكة. وهو المعروف أيضا من مذهب الشيعة وربما استدلوا عليه بأن الملك مطبوع على الطاعة من غير أن يتاتى منه المعصية لكن الانسان من جهة اختياره تتساوى نسبته إلى الطاعة والمعصية وقد ركب من قوى رحمانية وشيطانية وتألف من عقل وشهوة وغضب فالانسان المؤمن المطيع يطيعه وهو غير ممنوع من المعصية بخلاف الملك فهو أفضل من الملك. ومع ذلك فالقول بأفضليه الانسان بالمعنى الذي تقدم ليس باتفاقي بينهم فمن الاشاعرة من قال بأفضلية الملك مطلقا كالزجاج ونسب إلى ابن عباس. ومنهم من قال بأفضليه الرسل من البشر، مطلقا ثم الرسل من الملائكة على من سواهم من البشر والملائكة ثم عامه الملائكة على عامة البشر.
ومنهم من قال بأفضلية الكروبيين من الملائكة مطلقا ثم الرسل من البشر ثم الكمل منهم ثم عموم الملائكة من عموم البشر، كما يقول به الامام الرازي ونسب إلى الغزالي. وذهبت المعتزلة إلى أفضلية الملائكة من البشر واستدلوا على ذلك بظاهر قوله تعالى: " ولقد كرمنا بني آدم. إلى قوله - وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " وقد مر تقرير حجتهم في تفسير الاية. وقد بالغ الزمخشري في التشنيع على القائلين بأفضلية الانسان من الملك ممن فسر الكثير في الاية بالجميع فقال في الكشاف في ذيل قوله تعالى: " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا " هو ما سوى الملائكة وحسب بني آدم تفضيلا أن ترفع عليهم الملائكة وهم هم ومنزلتهم عند الله منزلتهم. والعجب من المجبرة كيف عكسوا في كل شئ وكابروا حتى جسرتهم عادة المكابرة
[ 162 ]
على العظيمة التي هي تفضيل الانسان الملك، وذلك بعد ما سمعوا تفخيم الله أمرهم وتكثيره مع التعظيم ذكرهم وعلموا أين أسكنهم ؟ وأني قربهم ؟ وكيف نزلهم من انبيائه منزلة انبيائه من اممهم ؟ ثم جرهم فرط التعصب عليهم إلى أن لفقوا أقوالا واخبارا منها: قالت الملائكة ربنا إنك أعطيت بنى آدم الدنيا يأكلون منها ويتمتعون ولم تعطنا ذلك فأعطناه في الاخرة فقال: وعزتي وجلالي لا اجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت: له كن فكان، ورووا عن ابي هريره انه قال المؤمن اكرم على الله من الملائكة الذين عنده ومن ارتكابهم انهم فسروا كثيرا بمعنى جميع في هذه الاية وخذلوا حتى سلبوا الذوق فلم يحسوا ببشاعة قولهم: وفضلناهم على جميع ممن خلقنا على ان معنى قولهم: على جميع ممن خلقنا اشجى لحلوقهم واقذى لعيونهم ولكنهم لا يشعرون فانظر في تمحلهم وتشبثهم بالتأويلات البعيدة في عداوة الملا الاعلى كأن جبريل عليه السلام غاظهم حين اهلك مدائن قوم لوط فتلك السخيمة لا تنحل عن قلوبهم انتهى. وما أشار إليه من رواية سؤال الملائكة أن يجعل لهم الاخرة كما جعل لبني آدم
الدنيا رويت عن ابن عمر وأنس بن مالك وزيد بن أسلم وجابر بن عبد الله الانصاري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولفظ الاخير قال لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة: يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون الخيل فاجعل لهم الدنيا ولنا الاخرة فقال الله تعالى: لا أجعل من خلقته بيدي كمن قلت له: كن فكان. ومتن الرواية لا يخلو عن شئ فان الاكل والشرب والنكاح ونحوها في الانسان استكمالات مادية إنما يلتذ الانسان بها لما أنه يعالج البقاء لشخصه أو لنوعه بما جهز الله به بنيته المادية والملائكة واجدون في أصل وجودهم كمال ما يتوسل إلى بعضه الانسان بقواه المادية وأعماله المملة المتعبة منزهون عن مطاوعه النظام المادي الجاري في الكون فمن المحال أن يسألوا ذلك فليسوا بمحرومين حتى يحرصوا على ذلك فيرجوه أو يتمنوه. ونظير هذا وارد على ما تقدم من استدلالهم على أفضلية الانسان من الملك بأن وجود الانسان مركب من القوى الداعية إلى الطاعة والقوى الداعية إلى المعصية فإذا
[ 163 ]
اختار الطاعة على المعصية وانتزع إلى الاسلام والعبودية كانت طاعته أفضل من طاعة الملائكه المفطورين على الطاعة المجبولين على ترك المعصية فهو أكثر قربا وزلفى وأعظم ثوابا وأجرا. وهذا مبني على أصل عقلائي معتبر في المجتمع الانساني وهو أن الطاعة التي هي امتثال الخطاب المولوي من امر ونهى ولها الفضل والشرف على المعصية وبها يستحق الاجر والثواب لو استحق إنما يترتب عليها أثرها إذا كان الانسان المتوجة إليه الخطاب في موقف يجوز له فيه الفعل والترك متساوي النسبة إلى الجانبين، وكلما كان أقرب إلى المعصية منه إلى الطاعه قوي الاثر والعكس بالعكس فليس يستوى في امتثال النهى عن الزنا مثلا العنين والشيخ الهرم ومن يصعب عليه تحصيل مقدماته والشاب القوي البنية الذى ارتفع عنه غالب موانعه من لا مانع له عنه أصلا إلا تقوى الله فبعض هذه التروك لا يعد طاعة وبعضها طاعة وبعضها افضل الطاعة على هذا القياس.
ولما كانت الملائكة لا سبيل لهم إلى المعصية لفقدهم غرائز الشهوة والغضب ونزاهتهم عن هوى النفس كان امتثالهم للخطابات المولوية الالهية أشبه بامتثال العنين والشيخ الهرم لنهي الزنا وكان الفضل للانسان في طاعتة عليهم. وفيه أنه لو تم ذلك لم يكن لطاعة الملائكة فضل أصلا إذ لا سبيل لهم إلى المعصية ولا لهم مقام استواء النسبة ولم يكن لهم شرف ذاتي وقيمة جوهريه إذ لا شرف على هذا إلا بالطاعة التي تقابلها معصية وتسميه المطاوعة الذاتية التى لا تتخلف عن الذات طاعة مجاز، ولو كان كذلك لم يكن لقربهم من ربهم موجب ولا لاعمالهم منزلة. لكن الله سبحانه أقامهم مقام القرب والزلفى وأسكنهم في حظائر القدس ومنازل الانس، وجعلهم خزان سره وحملة أمره ووسائط بينه وبين خلقه وهل هذا كله لارادة منه جزافية من غير صلاحية منهم واستحقاق من ذواتهم ؟ وقد أثنى الله عليهم أجزل الثناء إذ قال فيهم: " بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " الانبياء: 27 وقال: " لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " التحريم 6 فوصف ذواتهم بالاكرام من غير تقييده بقيد ومدح طاعتهم واستنكافهم عن المعصية.
[ 164 ]
وقال مادحا لعبادتهم وتذللهم لربهم وهم من خشيته مشفقون: الانبياء 28 وقال: " فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسامون: حم السجدة 38 وقال: " واذكر ربك في نفسك - إلى أن قال - ولا تكن من الغافلين إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون " الاعراف: 206 فأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان يذكره كذكرهم ويعبده كعبادتهم. وحق الامر أن كون العمل جائز الفعل والترك ووقوف الانسان في موقف استواء النسبة ليس في نفسه ملاك أفضليه طاعته بل بما يكشف ذلك عن صفاء طينته وحسن
سريرته والدليل على ذلك أن لا قيمه للطاعه مع العلم بخباثة نفس المطيع وقبح سريرته وإن بلغ في تصفية العمل وبذل المجهود فيه ما بلغ كطاعة المنافق ومريض القلب الحابط عمله عند الله الممحوة حسنته عن ديوان الاعمال فصفاء نفس المطيع وجمال ذاته وخلوصه في عبوديته الذي يكشف عنه انتزاعه من المعصية إلى الطاعة وتحمله المشاق في ذلك هو الموجب لنفاسة عمله وفضل طاعته. وعلى هذا فذوات الملائكة ولا قوام لها إلا الطهارة والكرامة ولا يحكم في أعمالهم إلا ذل العبودية وخلوص النية أفضل من ذات الانسان المتكدرة بالهوى المشوبة بالغضب والشهوه وأعماله التي قلما تخلو عن خفايا الشرك وشامة النفس ودخل الطبع. فالقوام الملكي أفضل من القوام الانساني والاعمال الملكية الخالصة لوجه الله أفضل من أعمال الانسان وفيها لون قوامه وشوب من ذاته، والكمال الذي يتوخاه الانسان لذاته في طاعته وهو الثواب اوتيه الملك في أول وجوده كما تقدمت الاشاره إليه. نعم لما كان الانسان إنما ينال الكمال الذاتي تدريجا بما يحصل لذاته من الاستعداد سريعا أو بطيئا كان من المحتمل أن ينال عن استعداده مقاما من القرب وموطنا من الكمال فوق ما قد ناله الملك ببهاء ذاته في أول وجوده، وظاهر كلامه تعالى يحقق هذا الاحتمال. كيف وهو سبحانه يذكر في قصة جعل الانسان خليفة في الارض فضل الانسان واحتماله لما لا يحتمله الملائكة من العلم بالاسماء كلها، وأنه مقام من الكمال لا يتداركه
[ 165 ]
تسبيحهم بحمده وتقديسهم له، ويطهره مما سيظهر منه من الفساد في الارض وسفك الدماء كما قال: " وإذ قال ربك للملائكة إلي جاعل في الارض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون " إلى آخر الايات البقرة: 30 - 33 وقد فصلنا القول في ذلك في ذيل الايات
في الجزء الاول من الكتاب. ثم ذكر سبحانه أمر الملائكة بالسجود لادم ثم سجدودهم له جميعا فقال: " فسجد الملائكة كلهم أجمعون " الحجر: 30 وقد أوضحنا في تفسير الايات في القصة في سورة الاعراف أن السجدة إنما كان خضوعا منهم لمقام الكمال الانساني ولم يكن آدم عليه السلام إلا قبلة لهم ممثلا للانسانية قبال الملائكة. فهذا ما يفيده ظاهر كلامه تعالى، وفي الاخبار ما يؤيده، وللبحث جهة عقلية يرجع فيها إلى مظانه. قوله تعالى: " يوم ندعو كل اناس بإمامهم " اليوم يوم القيامة والظرف متعلق بقدر أي اذكر يوم كذا، والامام المقتدى وقد سمى الله سبحانه بهذا الاسم أفرادا من البشر يهدون الناس بأمر الله كما في قوله: " قال إني جاعلك للناس إماما " البقرة: 124 وقوله: " وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا " الانبياء: 73 وأفرادا آخرين يقتدي بهم في الضلال كما في قوله: " فقالوا أئمة الكفر " التوبة: 12. وسمى به أيضا التوراة كما في قوله: " ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة " هود: 17، وربما استفيد منه أن الكتب السماوية المشتملة على الشريعه ككتاب نوح وابراهيم وعيسى ومحمد عليه السلام جميعا أئمه. وسمى به أيضا اللوح المحفوظ كما هو ظاهر قوله تعالى: " وكل شئ أحصيناه في إمام مبين " يس: 12. ولما كان ظاهر الاية أن لكل طائفة من الناس إماما غير ما لغيرها فإنه المستفاد من إضافة الامام إلى الضمير الراجع إلى كل اناس لم يصلح أن يكون المراد بالامام في الاية اللوح لكونه واحدا لا اختصاص له باناس دون أناس. وأيضا ظاهر الاية أن هذه الدعوة تعم الناس جميعا من الاولين والاخرين وقد
[ 166 ]
تقدم في تفسير قوله تعالى: " كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب " البقرة: 213 أن أول الكتب السماوية المشتملة على الشريعة هو
كتاب نوح عليه السلام ولا كتاب قبله في هذا الشأن، وبذلك يظهر عدم صلاحية كون الامام في الاية مرادا به الكتاب وإلا خرج من قبل نوح من شمول الدعوة في الاية. فالمتعين أن يكون المراد بإمام كل اناس من يأتمون به في سبيلى الحق والباطل كما تقدم أن القرآن يسميهما إمامين أو إمام الحق خاصة وهو الذي يجتبيه الله سبحانه في كل زمان لهداية أهله بأمره نبيا كان كابراهيم ومحمد عليهما السلام أو غير نبى، وقد تقدم تفصيل الكلام فيه في تفسير قوله: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " البقرة: 124. لكن المستفاد من مثل قوله في فرعون وهو من أئمة الضلال: " يقدم قومه يوم القيامة فاوردهم النار " هود: 98، وقوله: " ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم ": الانفال: 37 وغيرهما من الايات وهي، كثيرة أن أهل الضلال لا يفارقون أولياءهم المتبوعين يوم القيامة، ولازم ذلك أن يصاحبوهم في الدعوة والاحضار. على أن قوله: " بإمامهم مطلق لم يقيد بالامام الحق الذي جعله الله إماما هاديا بأمره، وقد سمى مقتدى الضلال إماما كما سمى مقتدى الهدى إماما وسياق ذيل الاية والاية الثانية أيضا مشعر بأن الامام المدعو به هو الذي اتخذه الناس إماما واقتدوا به في الدنيا لا من اجتباه الله للامامة ونصبه للهداية بأمره سواء اتبعه الناس أو رفضوه. فالظاهر أن المراد بإمام كل أناس في الاية من ائتموا به سواء كان إمام حق أو إمام باطل، وليس كما يظن أنهم ينادون بأسماء أئمتهم فيقال يا أمة إبراهيم ويا أمة محمد ويا آل فرعون ويا آل فلان فإنه لا يلائمه ما في الاية من التفريع أعنة قوله: " فمن أوتي كتابه بيمينه " " ومن كان في هذه أعمى " الخ إذ لا تفرع بين الدعوة
بالامام بهذا المعنى وبين إعطاء الكتاب باليمين أو العمى. بل المراد بالدعوة - على ما يعطيه سياق الذيل - هو الاحضار فهم محضرون
[ 167 ]
بإمامهم ثم يأخذ من اقتدى بامام حق كتابه بيمينه ويظهر عمى من عمي عن معرفة الامام الحق في الدنيا واتباعه، هذا ما يعطيه التدبر في الاية. وللمفسرين في تفسير الامام في الاية مذاهب شتى مختلفة: منها: أن المراد بالامام الكتاب الذي يؤتم به كالتوراة والانجيل والقرآن فينادي يوم القيامة يا أهل التوراة ويا أهل الانجيل ويا أهل القرآن، وقد تقدم بيانه وبيان ما يرد عليه. ومنها: أن المراد بالامام النبي لمن كان على الحق والشيطان وإمام الضلال لمبتغي الباطل فيقال: هاتوا متبعي ابراهيم هاتوا متبعي موسى هاتوا متبعي محمد فيقوم أهل الحق الذين اتبعوهم فيعطون كتب أعمالهم بأيمانهم ثم يقال: هاتوا متبعي الشيطان هاتوا متبعي رؤساء الضلال. وفيه أنه مبني على أخذ الامام في الاية بمعناه العرفي وهو من يؤتم به من العقلاء، ولا سبيل إليه مع وجود معنى خاص له في عرف القرآن وهو الذي يهدي بأمر الله والمؤتم به في الضلال. ومنها: أن المراد كتاب أعمالهم فيقال: يا أصحاب كتاب الخير ويا أصحاب كتاب الشر ووجه كونه إماما بأنهم متبعون لما يحكم به من جنة أو نار. وفيه أنه لا معنى لتسمية كتاب الاعمال إماما وهو يتبع عمل الانسان من خير أو شر فان يسمى تابعا أولى به من أن يسمى متبوعا، وأما ما وجه به أخيرا ففيه أن المتبع من الحكم ما يقضي به الله سبحانه بعد نشر الصحف والسؤال والوزن والشهادة وأما الكتاب فإنما يشتمل على متون أعمال الخير والشر من غير فصل القضاء.
ومنه يظهر أن ليس المراد بالامام اللوح المحفوظ ولا صحيفة عمل الامة وهي التي يشير إليها قوله: " كل امة تدعى إلى كتابها " الجاثية: 28 لعدم ملائمته قوله ذيلا: " فمن اوتي كتابه بيمينه " الظاهر في الفرد دون الجماعة. ومنها: أن المراد به الامهات - بجعل إمام جمعا لام - فيقال: يا ابن فلان ولا يقال يا ابن فلان، وقد رووا فيه رواية.
[ 168 ]
وفيه أنه لا يلائم لفظ الاية فقد قيل: " ندعوا كل اناس بامامهم ولم يقل ندعو الناس بامامهم أو ندعو كل انسان بامه ولو كان كما قيل لتعين أحد التعبيرين الاخيرين وما اشير إليه من الرواية على تقدير صحتها وقبولها رواية مستقله غير واردة في تفسير الاية. على أن جمع الام بالامام لغه نادرة لا يحمل على مثلها كلامه تعالى وقد عد في الكشاف هذا القول من بدع التفاسير. ومنها: أن المراد به المقتدى به والمتبع عاقلا كان أو غيره حقا كان أو باطلا كالنبي والولي والشيطان ورؤساء الضلال والاديان الحقة والباطلة والكتب السماوية وكتب الضلال والسنن الحسنة والسيئة، ولعل دعوة كل اناس بامامهم على هذا الوجه كناية عن ملازمة كل تابع يوم القيامة، لمتبوعه، والباء للمصاحبة. وفيه ما أوردناه على القول بأن المراد به الانبياء ورؤساء الضلال فالحمل على المعنى اللغوي إنما يحسن فيما لم يكن للقرآن فيه عرف، وقد عرفت أن الامام في عرف القرآن هو الذي يهدي بأمر الله أو المقتدي في الضلال ومن الممكن أن يكون الباء في " بامامهم " للالة فافهم ذلك. على أن هداية الكتاب والسنة والدين وغير ذلك بالحقيقة ترجع إلى هداية الامام وكذا النبي إنما يهدي بما أنه إمام يهدي بأمر الله، وأما من حيث إنبائه عن معارف الغيب أو تبليغه ما ارسل به فإنما هو نبي أو رسول وليس بامام، وكذا إضلال المذاهب الباطلة وكتب الضلال والسنن المبتدعة بالحقيقة إضلال مؤسسيها والمبتدعين بها. قوله تعالى: " فمن اوتي كتابه بيمينه فاولئك يقرؤن كتابهم ولا يظلمون فتيلا " الفتيل هو المفتول الذي في شق النواة، وقيل: الفتيل هو الذي في بطن النواة والنقير
في ظهرها والقطمير شق النواة. وتفريع التفصيل على دعوتهم بامامهم دليل على أن ائتمامهم هو الموجب لانقسامهم إلى قسمين وتفرقهم فريقين: من اوتى كتابه بيمينه ومن كان أعمى وأضل سبيلا فالامام إمامان: امام هدى وإمام، ضلال وهذا هو الذي قدمناه أن تفريع التفصيل يشهد بكون المراد بالامام أعم من إمام الهدى.
[ 169 ]
ويشهد به أيضا تبديل إيتاء الكتاب بالشمال أو من وراء الظهر كما وقع في غير هذا الموضع من قوله " ومن كان في هذه أعمى فهو في الاخرة أعمى " الخ. والمعنى - باعانه من السياق - فيتفرقون حينئذ فريقين فالذين أعطوا صحيفة أعمالهم بأيمانهم فاولئك يقرؤن كتابهم فرحين مستبشرين مسرورين بالسعادة ولا يظلمون مقدار فتيل بل يوفون اجورهم تامة كاملة. قوله تعالى: " ومن كان في هذه أعمى فهو في الاخرة أعمى وأضل سبيلا " المقابلة بين قوليه: " في هذه " و " في الاخرة " دليل على أن الاشارة بهذه إلى الدنيا كما أن كون الاية مسوقة لبيان التطابق بين الحياة الدنيا والاخرة دليل على أن المراد بعمى الاخرة عمى البصيرة كما أن المراد بعمى الدنيا ذلك قال تعالى: " إنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " ويؤيد ذلك أيضا تعقيب عمى الاخرة بقوله " وأضل سبيلا ". و المعني: ومن كان في هذه الحياه الدنيا لا يعرف الامام الحق ولا يسلك سبيل الحق فهو في الحياة الاخرة لا يجد السعادة والفلاح ولا يهتدي إلى المغفره والرحمة. وبما تقدم يتبين ما في قول بعضهم: إن الاشاره بقوله: " في هذه إلى النعم المذكورة والمعنى ومن كان في هذه النعم التي رزقها أعمى لا يعرفها ولا يشكر الله على ما أنعمها فهو في الاخرة أعمى. وكذا ما ذكره بعضهم أن المراد بعمي الدنيا عمى البصيرة وبعمي الاخرة عمى
البصر، وقد تقدم وجه الفساد على أن عمى البصر في الاخرة ربما رجع إلى عمى البصيرة لقوله تعالى: " يوم تبلى ". السرائر وظاهر بعض المفسرين أن الاعمى الثاني في الاية تفيد معنى التفضيل حيث فسره أنه في الاخرة أشد عمى وأضل سبيلا والسياق يساعده على ذلك. بحث روائي في أمالى الشيخ بإسناده عن زيد بن على عن أبيه عليه السلام في قوله: " ولقد كرمنا
[ 170 ]
بنى آدم " يقول: فضلنا بني آدم على سائر الخلق " وحملناهم في البر والبحر " يقول: على الرطب واليابس " ورزقناهم من الطيبات " يقول: من طيبات الثمار كلها " وفضلناهم " يقول: ليس من دابة ولا طائر إلا هي تأكل وتشرب بفيها لا ترفع يدها إلى فيها طعاما ولا شرابا غير ابن آدم فإنه يرفع إلى فيه بيده طعامه فهذا من التفضيل. وفي تفسير العياشي عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " قال: خلق كل شئ منكبا غير الانسان خلق منتصبا. أقول: وما في الروايتين من قبيل ذكر بعض المصاديق والدليل عليه قوله في آخر الرواية الاولى: فهذا من التفضيل. وفيه عن الفضيل قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله: " يوم ندعوا كل اناس بإمامهم قال: يجئ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قومه وعلي عليه السلام في قومه والحسن في قومه والحسين في قومه وكل من مات بين ظهرانى إمام جاء معه. وفى تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب عن الصادق عليه السلام ألا تحمدون الله ؟ إنه إذا كان يوم القيامة يدعى كل قوم إلى من يتولونه، وفزعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفزعتم أنتم الينا. أقول: ورواه في المجمع عنه عليه السلام وفيه دلالة على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إمام
الائمة كما أنه شهيد الشهداء وأن حكم الدعوة بالامام جار بين الائمة أنفسهم. وفي مجمع البيان روى الخاص والعام عن علي بن موسى الرضا عليه السلام بالاسانيد الصحيحة أنه روى عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال فيه: يدعى كل اناس بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم. اقول: ورواه في تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب عنه عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلفظه وقد أسنده أيضا إلى رواية الخاص والعام. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " يوم ندعوا كل اناس بإمامهم " قال: يدعى كل قوم بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم. وفي تفسير العياشي عن عمار الساباطي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا يترك الارض
[ 171 ]
بغير امام يحل حلال الله ويحرم حرامه، وهو قول الله: " يوم ندعوا كل اناس بامامهم " ثم قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية. الحديث. اقول: ووجه الاحتجاج بالاية عموم الدعوة فيها لجميع الناس. وفيه عن اسماعيل بن همام عن أبى عبد الله عليه السلام: في قول الله: " يوم ندعوا كل اناس بإمامهم " قال: إذا كان يوم القيامة قال الله: أليس العدل من ربكم أن يولوا كل قوم من تولوا - قالوا بلى قال فيقول تميزوا فيتميزون. اقول وفيه تأييد لما قدمنا أن المراد بالدعوه بالامام احضارهم معه دون النداء بالاسم والروايات في المعاني السابقة كثيرة. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " ولا يظلمون فتيلا " قال: قال الجلدة التي في ظهر النواة. وفي تفسير العياشي عن المثنى عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سأله أبو بصير وأنا أسمع فقال له: رجل له مائة الف فقال: العام أحج العام أحج حتى يجيئه الموت فحجبه البلاء
ولم يحج حج الاسلام فقال يا با بصير أو ما سمعت قول الله: " من كان في هذه أعمى فهو في الاخرة أعمى وأضل سبيلا " عمي عن فريضة من فرائض الله. * * * وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لا تخذوك خليلا (73). ولو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا (74). إذا لاذقناك ضعف الحيوة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا (75). وإن كادوا ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا (76). سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا (77). أقم الصلوة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان
[ 172 ]
مشهودا (78). ومن الليل فتهجد به نافله لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا (79). وقل رب ادخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا (80). وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا (81): بيان تذكر الايات بعض مكر المشركين بالقرآن وبالنبى صلى الله عليه وآله وسلم - بعد ما ذمتهم على تماديهم في إنكار التوحيد والمعاد واحتجت عليهم في ذلك - حيث أرادوا أن يفتنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بعض ما أوحي إليه ليداهنهم فيه بعض المداهنة وأرادوا أن يخرجوه من مكة. وقد أوعد الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشد الوعيد إن مال إلى الركون إليهم بعض الميل، وأوعدهم إن أخرجوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالهلاك.
وفي الايات إيصاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصلوات والالتجاء بربه في مدخله ومخرجه وإعلام ظهور الحق. قوله تعالى: " وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا " إن مخففة بدليل اللام في " ليفتنونك " والفتنة الازلال والصرف، والخليل من الخلة بمعنى الصداقة وربما قيل: هو من الخلة بمعنى الحاجة وهو بعيد. وظاهر السياق أن المراد بالذى أوحينا إليك القرآن بما يشتمل عليه من التوحيد ونفى الشريك والسيرة الصالحة وهذا يؤيد ما ورد في بعض أسباب النزول أن المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكف عن ذكر آلهتهم بسوء ويبعد عن نفسه عبيدهم المؤمنين به والسقاط حتى يجالسوه ويسمعوا منه فنزلت الايات.
[ 173 ]
والمعنى: وإن المشركين اقتربوا أن يزلوك ويصرفوك عما أوحينا إليك لتتخذ من السيرة والعمل ما يخالفه فيكون في ذلك افتراء علينا لانتسابه بعملك إلينا وإذا لاتخذوك صديقا. قوله تعالى: " ولو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا " التثبيت - كما يفيده السياق هو العصمة الالهية وجعل جواب لو لا قوله: " لقد كدت تركن " دون نفس الركون والركون هو الميل أو أدنى الميل كما قيل دليل على أنه صلى الله عليه وآله لم يركن ولم يكد، ويؤكده إضافه الركون إليهم دون إجابتهم إلى ما سألوه. والمعنى: " ولو لا أن ثبتناك بعصمتنا دنوت من أن تميل إليهم قليلا لكنا ثبتناك فلم تدن من أدنى الميل إليهم فضلا من أن تجيبهم إلى ما سألوا فهو صلى الله عليه وآله وسلم لم يجبهم إلى ما سألوا ولا مال إليهم شيئا قليلا ولا كاد أن يميل.
قوله تعالى: " إذا لاذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا " سياق الاية سياق توعد فالمراد بضعف الحياة والممات المضاعف من عذاب الحياة والممات، والمعنى لو قارنت أن تميل إليهم بعض الميل لاذقناك الضعف من العذاب الذي نعذب به المجرمين في حياتهم والضعف مما نعذبهم به في مماتهم أي ضعف عذاب الدنيا والاخرة. ونقل في المجمع عن أبان بن تغلب أن المراد بالضعف العذاب المضاعف ألمه والمعنى لاذقناك عذاب الدنيا وعذاب الاخرة وأنشد قول الشاعر: لمقتل مالك إذ بان منى * * أبيت الليل في ضعف أليم أي في عذاب اليم. وما في ذيل الاية من قوله: " ثم لا تجد لك علينا نصيرا " تشديد في الايعاد أي إن العذاب واقع حينئذ لا مخلص منه. قوله تعالى وأن كادوا ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا " الاستفزاز الازعاج والتحريك بخفة وسهولة، واللام في
[ 174 ]
الارض للعهد والمراد بها مكة، والخلاف بمعنى بعد والمراد بالقليل اليسير من الزمان. والمعنى وإن المشركين قاربوا أن يزعجوك من إرض مكة لاخراجك منها ولو كان منهم وخرجت منها لم يمكثوا بعدك فيها إلا قليلا فهم هالكون لا محالة. وقيل: هؤلاء الذين كادوا يستفزونه هم اليهود أرادوا أن يخرجوه من المدينة وقيل: المراد المشركون واليهود أرادوا جميعا أن يخرجوه من أرض العرب. ويبعد ذلك أن السورة مكية والايات ذات سياق واحد وابتلاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم باليهود إنما كان بالمدينة بعد الهجرة. قوله تعالى: " سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا " التحويل نقل الشئ من حال إلى حال وقوله: " سنه " أي كسنة من قد أرسلنا
وهو متعلق بقوله: " لا يلبثون " أي لا يلبثون بعدك إلا قليلا كسنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا. و هذه السنة وهي إهلاك المشركين الذين أخرجوا رسولهم من بلادهم وطردوه من بينهم سنة لله سبحانه، وإنما نسبها إلى رسله لانها مسنونة لاجلهم بدليل قوله بعد: " ولن تجد لسنتنا تحويلا " وقد قال تعالى: " وقال الذين كفروا لرسلهم ليخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين: إبراهيم: 13. والمعنى وإذا نهلكهم لسنتنا التي سنناها لاجل من قد أرسلنا قبلك من رسلنا وأجريناها ولست تجد لسنتنا تحويلا وتبديلا. قوله تعالى: " أقم الصلاه لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا: " قال في مجمع البيان: الدلوك الزوال، وقال المبرد: دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها وقيل: هو الغروب واصله من الدلك فسمي الزوال دلوكا لان الناظر إليها يدلك عينيه لشده شعاعها وسمي الغروب دلوكا لان الناظر يدلك عينيه ليثبتها انتهى. وقال فيه غسق الليل ظهور ظلامه يقال غسقت القرحة إذا انفجرت فظهر
[ 175 ]
ما فيها انتهى، وفي المفردات غسق الليل شده ظلمته. انتهى. وقد اختلف المفسرون في تفسير صدر الاية والمروى عن أئمه أهل البيت عليهم السلام من طرق الشيعة تفسير دلوك الشمس بزوالها وغسق الليل بمنتصفه وسيجئ الاشاره إلى الروايات في البحث الروائي الاتى ان شاء الله. وعليه فالاية تشمل من الوقت ما بين زوال الشمس ومنتصف الليل، والواقع في هذا المقدار من الوقت من الفرائض اليومية أربع صلاه الظهر والعصر والمغرب والعشاء الاخرة. وبانضمام صلاه الصبح المدلول عليها بقوله: " وقرآن الفجر " الخ
إليها تتم الصلوات الخمس اليومية. وقوله: " وقرآن الفجر معطوف " على الصلاه أي وأقم قرآن الفجر والمراد به صلاة الصبح لما تشتمل عليه من القرائة وقد اتفقت الروايات على ان صلاه الصبح هي المراد بقرآن الفجر. وكذا اتفقت الروايات من طرق الفريقين على تفسير قوله ذيلا " إن قرآن الفجر كان مشهودا " بأنه يشهده ملائكة الليل وملائكه النهار وسنشير إلى بعض هذه الروايات عن قريب ان شاء الله. قوله تعالى: " ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا التهجد من الهجود وهو النوم في الاصل ومعنى التهجد التيقظ والسهر بعد النوم على ما ذكره غير واحد منهم، والضمير في " به " للقرآن أو للبعض المفهوم من قوله ومن الليل " والنافلة من النفل وهو الزيادة، وربما قيل: " إن قوله: " ومن الليل " من قبيل الاغراء نظير قولنا: عليك بالليل، والفاء في قوله: " فتهجد به " نظير قوله: " فإياي فارهبون: النحل: 51. والمعنى: واسهر بعض الليل بعد نومتك بالقرآن - وهو الصلاة حال كونها صلاة زائده لك على الفريضة. وقوله: " عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " من الممكن أن يكون المقام مصدرا ميميا وهو البعث فيكون مفعولا مطلقا ليبعثك من غير لفظه، والمعنى عسى أن يبعثك ربك بعثا محمودا، ومن الممكن أن يكون اسم مكان والبعث بمعنى الاقامة أو مضمنا معنى الاعطاء ونحوه، والمعنى عسى أن يقيمك ربك في مقام محمود أو يبعثك معطيا لك مقاما محمودا أو يعطيك باعثا مقاما محمودا.
[ 176 ]
وقد وصف سبحانه مقامه بأنه محمود وأطلق القول من غير تقييد وهو يفيد أنه مقام يحمده الكل ولا يثني عليه الكل إلا إذا استحسنه الكل وانتفع به الجميع ولذا
فسروا المقام المحمود بأنه المقام الذى يحمده عليه جميع الخلائق وهو مقام الشفاعة الكبرى له صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة وقد اتفقت على هذا التفسير الروايات من طرق الفريقين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام. قوله تعالى: " وقل رب ادخلني مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا " المدخل بضم الميم وفتح الخاء مصدر ميمي بمعنى الادخال ونظيره المخرج بمعنى الاخراج والعناية في إضافة الادخال والاخراج إلى الصدق أن يكون الدخول والخروج في كل أمر منعوتا بالصدق جاريا على الحقيقة من غير أن يخالف ظاهره باطنه أاو يضاد بعض أجزائه بعضا كأن يدعو الانسان بلسانه إلى الله وهو يريد بقلبه أن يسود الناس أو يخلص في بعض دعوته لله ويشرك في بعضها غيره. وبالجملة هو أن يرى الصدق في كل مدخل منه ومخرج ويستوعب وجوده فيقول ما يفعل ويفعل ما يقول ولا يقول ولا يفعل إلا ما يراه ويعتقد به، وهذا مقام الصديقين. ويرجع المعنى إلى نحو قولنا: اللهم تول أمري كما تتولى أمر الصديقين. وقوله: " وجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا " اي سلطنة بنصرتي على ما أهم به من الامور وأشتغل به من الاعمال فلا أغلب في دعوتي بحجة باطلة، ولا أفتتن بفتنة أو مكر يمكرنى به أعداؤك ولا أضل بنزغ شيطان ووسوسته. والاية - كما ترى - مطلقه تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسأل ربه أن يتولى أمره في كل مدخل ومخرج بالصدق ويجعل له سلطانا من عنده ينصره فلا يزيغ في حق ولا يظهر بباطل فلا وجه لما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالدخول والخروج دخول المدينة بالهجرة والخروج منها إلى مكة للفتح أو أن المراد بهما دخول القبر بالموت والخروج منه بالبعث. نعم لما كانت الاية بعد قوله: " وان كادوا ليفتنونك " " وان كادوا ليستفزونك " وفي سياقهما، لوحت إلى أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن لتجئ إلى ربه في كل أمريهم به أو يشتغل
[ 177 ]
به من امور الدعوة وفى الدخول والخروج في كل مكان يسكنه أو يدخله أو يخرج منه وهو ظاهر. قوله تعالى: " وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا " قال في المجمع " الزهوق هو الهلاك والبطلان يقال: زهقت نفسه إذا خرجت فكأنها قد خرجت إلى الهلاك. انتهى والمعنى ظاهر. وفي الاية أمره صلى الله عليه وآله وسلم بإعلام ظهور الحق وهو لوقوع الايه في سياق ما مر من قوله: " وان كادوا ليفتنونك " إلى آخر الايات امر بإيآس المشركين من نفسه وتنبيههم أن يوقنوا أن لا مطمع لهم صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الاية دلالة على أن الباطل لا دوام له كما قال تعالى في موضع آخر: " ومثل كلمه خبيثة كشجرة خبيثه اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار " إبراهيم: 26. " بحث روائي " في المجمع في سبب نزول قوله تعالى: " وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك " الايات أنهم قالوا له: كف عن شتم آلهتنا وتسفيه أحلامنا واطرد هؤلاء العبيد والسقاط الذين رائحتهم رائحة الصنان - حتى نجالسك ونسمع منك فطمع في إسلامهم فنزلت الاية. اقول: وروى في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن سعيد بن نفير ما يقرب منه. وأما ما روي عن ابن عباس أن أمية بن خلف وأبا جهل بن هشام ورجالا من قريش أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: تعال فاستلم آلهتنا وندخل معك في دينك وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه فراق قومه ويحب إسلامهم فرق لهم فأنزل الله: " وإن كادوا ليفتنونك - إلى قوله - نصيرا " فلا يلائم ظاهر الايات حيث تنفي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقارب الركون فضلا عن الركون.
[ 178 ]
وكذا ما رواه الطبري وابن مردويه عن أبن عباس أن ثقيفا قالوا للنبى صلى الله
عليه وسلم: أجلنا سنة حتى يهدى لالهتنا فإذا قبضنا الذي يهدي للالهة أحرزناه ثم أسلمنا وكسرنا الالهة فهم أن يؤجلهم فنزلت: " وإن كادوا ليفتنونك الاية. وكذا ما في تفسير العياشي عن أبي يعقوب عن أبي عبد الله عليه السلام في الاية قال: لما كان يوم الفتح أخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصناما من المسجد وكان منها صنم على المروة فطلبت إليه قريش أن يتركه وكان مستحيا ثم أمر بكسره فنزلت هذه الاية. ونظيرهما أخبار أخر تقرب منها معنى فهذه روايات لا تلائم ظاهر الكتاب وحاشا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يهم بمثل هذه البدع والله سبحانه ينفى عنه المقارنة من الركون والميل اليسير فضلا أن يهم بالعمل. على أن هذه القضايا من الحوادث الواقعة بعد الهجرة والسورة مكيه. وفي العيون باسناده عن علي بن محمد بن الجهم عن أبي الحسن الرضا عليه السلام مما سأله المأمون فقال له: أخبرني عن قول الله: " عفى الله عنك لم أذنت لهم " قال الرضا عليه السلام هذا مما نزل باياك أعنى واسمعي يا جارة خاطب الله بذلك نبيه وأراد به امته، وكذلك قوله: " لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين " وقوله تعالى: " ولو لا ان ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا " قال: صدقت يابن رسول الله. وفي المجمع عن ابن عباس في قوله تعالى: " إذا لاذقناك " الاية " قال: إنه لما نزلت هذه الايه قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا. وفي تفسير العياشي عن سعيد بن المسيب عن علي بن الحسين عليه السلام قال: قلت له: متى فرضت الصلاة على المسلمين على ما هم اليوم عليه ؟ قال: بالمدينة حين ظهرت الدعوة وقوي الاسلام - فكتب الله على المسلمين الجهاد، وزاد في الصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبع ركعات في الظهر ركعتين - وفى العصر ركعتين، وفي المغرب ركعة وفي العشاء ركعتين، وأقر الفجر على ما فرضت عليه بمكة لتعجيل نزول ملائكة النهار إلى الارض وتعجيل عروج ملائكة الليل إلى السماء فكان ملائكة الليل وملائكة النهار يشهدون
مع رسول الله الفجر فلذلك قال الله: " وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا " يشهد المسلمون ويشهد ملائكة الليل والنهار.
[ 179 ]
وفي المجمع في قوله تعالى: " أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر " قال: ففى الاية بيان وجوب الصلوات الخمس وبيان أوقاتها ويؤيد ذلك ما رواه العياشي بالاسناد عن عبيده بن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام في هذه الاية. قال: إن الله افترض أربع صلوات أول وقتها من زوال الشمس إلى انتصاف الليل منها صلاتان أول وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروبها إلا أن هذه قبل هذه، ومنها صلاتان أول وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلا أن هذه قبل هذه. وفي الدر المنثور أخرج بن جرير عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت - فصلى بي الظهر. وفيه أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الاصول وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قرء رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن قرآن الفجر كان مشهودا " قال " يشهده الله وملائكة الليل وملائكة النهار. اقول تفسير كون قرآن الفجر مشهودا في روايات الفريقين بشهادة ملائكة الليل وملائكه النهار يكاد يبلغ حد التواتر، وقد اضيف إلى ذلك في بعضها شهاده الله كما في هذه الرواية وفي بعضها شهاده المسلمين كما فيما تقدم. وفي تفسير العياشي عن عبيد بن زرارة قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن المؤمن هل له شفاعة ؟ قال نعم: فقال له رجل من القوم: هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال نعم للمؤمنين خطايا وذنوب وما من أحد إلا ويحتاج إلى شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ. قال: وسأله رجل عن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا سيد ولد آدم ولا فخر قال:
نعم يأخذ حلقة من باب الجنة فيفتحها فيخر ساجدا فيقول الله: ارفع رأسك اشفع تشفع اطلب تعط فيرفع رأسه - ثم يخر ساجدا فيقول الله: ارفع رأسك اشفع تشفع واطلب تعط ثم يرفع رأسه فيشفع يشفع (فيشفع) ظ ويطلب فيعطى. وفيه عن سماعة بن مهران عن أبي إبراهيم عليه السلام في قول الله " عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " قال: يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين يوما وتؤمر الشمس
[ 180 ]
فنزلت على رؤس العباد ويلجم العرق وتؤمر الارض لا تقبل من عرقهم شيئا فيأتون آدم فيشفعون له فيدلهم على نوح، ويدلهم نوح على إبراهيم، ويدلهم ابراهيم على موسى ويدلهم موسى على عيسى، ويدلهم عيسى على محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: عليكم بمحمد خاتم النبيين، فيقول محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أنا لها. فينطلق حتى يأتي باب الجنة فيدق فيقال له: من هذا ؟ والله أعلم فيقول محمد: افتحوا فإذا فتح الباب استقبل ربه فخر ساجدا فلا يرفع رأسه حتى يقال له تكلم وسل تعط واشفع تشفع فيرفع رأسه فيستقبل ربه فيخر ساجدا فيقال له مثلها فيرفع رأسه حتى أنه ليشفع من قد أحرق بالنار فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الامم أوجه من محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو قول الله تعالى: " عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ". اقول: وقوله: " حتى أنه ليشفع من قد احرق بالنار " أي بعض من أدخل النار وفي معنى هذه الرواية عدة روايات من طرق أهل السنة عن النبي صلى الله عليه واله وسلم. وفي الدر المنثور أخرج البخاري وابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الاذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم عليه السلام فيقول: لست بصاحب ذلك ثم موسى عليه السلام فيقول مثل ذلك ثم محمد صلى الله عليه وسلم فيشفع فيقضى الله بين الخلائق فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنه فيومئذ يبعثه الله مقاما.
وفيه اخرج ابن جرير والبيهقي في شعب الايمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: المقام المحمود الشفاعة. وفيه أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي الوقاص قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المقام المحمود فقال: هو الشفاعة. اقول: والروايات في المضامين السابقة كثيره. وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا (82). وإذا أنعمنا على الانسان اعرض ونآ
[ 181 ]
بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤسا - (83). قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا (84). ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (85). ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا (86). إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا (87). قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88). ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا (89). وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا (90). أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الانهار خلالها تفجيرا (91). أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا (92). أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا (93). وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جائهم
الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا (94). قل لو كان في الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا (95). قل كفى بالله شهيدا بينى وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا (96). ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم
[ 182 ]
جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا (97). ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا (98). أ ولم يروا أن الله الذى خلق السموات والارض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا (99). قل لو أنتم تملكون خزائن رحة ربي إذا لامسكتم خشية الانفاق وكان الانسان قتورا (100). بيان رجوع بعد رجوع إلى حديث القرآن وكونه آيه للنبوة وما يصحبه من الرحمة والبركة وقد افتتح الكلام فيه بقوله فيما تقدم: " إن هذا القرآن يهدي للتى هي أقوم " ثم رجع إليه بقوله: " ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا " الخ وقوله " وإذا قرأت القرآن " الخ وقوله: " وما منعنا أن نرسل بالايات " الخ. فبين في هذه الايات أن القرآن شفاء ورحمة وبعبارة اخرى مصلح لمن صلحت نفسه ومخسر للظالمين وأنه آية معجزه للنبوة ثم ذكر ما كانوا يقترحونه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الايات والجواب عنه وما يلحق بذلك من الكلام.
وفي الايات ذكر سؤالهم عن الروح والجواب عنه. قوله تعالى: " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين الا خسارا: من بيانية تبين الموصول أعني قوله: " ما هو شفاء " الخ أي وننزل ما هو شفاء ورحمة وهو القرآن. وعد القرآن شفاء والشفاء انما يكون عن مرض دليل على أن للقلوب أحوالا نسبة القرآن إليها نسبة الدواء الشافي إلى المرض، وهو المستفاد من كلامه سبحانه حيث ذكر
[ 183 ]
أن الدين الحق فطرى للانسان فكما أن للبنية الانسانية التي سويت على الخلقة الاصلية قبل أن يلحق بها أحوال منافية وآثار مغايرة للتسوية الاولية استقامة طبيعية تجري عليها في أطوار الحياة كذلك لها بحسب الخلقة الاصلية عقائد حقة في المبدء والمعاد وما يتفرع عليهما من اصول المعارف، وأخلاق فاضلة زاكية تلائمها ويترتب عليها من الاحوال والاعمال ما يناسبها. فللانسان صحة واستقامة روحية معنوية كما أن له صحة واستقامه جسمية صورية، وله أمراض وأدواء روحية باختلال أمر الصحة الروحية كما أن له أمراضا وأدواء جسميه باختلال أمر الصحة الجسمية ولكل داء دواء ولكل مرض شفاء. وقد ذكر الله سبحانه في اناس من المؤمنين أن في قلوبهم مرضا وهو غير الكفر والنفاق الصريحين كما يدل عليه قوله: لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم " الاحزاب: 60 وقوله: " وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ما ذا أراد الله بهذا مثلا " المدثر " 31. وليس هذا المسمى مرضا إلا ما يختل به ثبات القلب واستقامة النفس من أنواع الشك والريب الموجبة لاضطراب الباطن وتزلزل السر والميل إلى الباطل واتباع الهوى مما يجامع ايمان عامه المؤمنين من أهل أدنى مراتب الايمان ومما هو معدود نقصا وشركا بالاضافة إلى مراتب الايمان العالية، وقد قال تعالى: " وما يؤمن أكثرهم بالله الا وهم مشركون " يوسف 106 وقال: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
النساء: 65. والقرآن الكريم يزيل بحججه القاطعة وبراهينه الساطعة أنواع الشكوك والشبهات المعترضة في طريق العقائد الحقة والمعارف الحقيقية ويدفع بمواعظه الشافيه وما فيه من القصص والعبر والامثال والوعد والوعيد والانذار والتبشير والاحكام والشرائع عاهات الافئدة وأفاتها فالقرآن شفاء للمؤمنين. وأما كونه رحمة للمؤمنين - والرحمه افاضه ما يتم به النقص ويرتفع به الحاجة - فلان القرآن ينور القلوب بنور العلم واليقين بعد ما يزيل عنها ظلمات الجهل والعمى والشك والريب، ويحليها بالملكات الفاضلة والحالات الشريفة الزاكية بعد ما يغسل عنها أوساخ
[ 184 ]
الهيآت الردية والصفات الخسيسة. فهو بما انه شفاء يزيل عنها انواع الامراض والادواء وبما انه رحمة يعيد إليها ما افتقدته من الصحة والاستقامة الاصلية الفطرية فهو بكونه شفاء يطهر المحل من الموانع المضادة للسعادة ويهيئها لقبولها، وبكونه رحمة يلبسه لباس السعادة وينعم عليه بنعمة الاستقامة. فالقرآن شفاء ورحمة للقلوب المريضة كما انه هدى ورحمة للنفوس غير الامنة من الضلال، وبذلك يظهر النكتة في ترتب الرحمة على الشفاء في قوله: ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين " فهو كقوله: " هدى ورحمة لقوم يؤمنون: يوسف: 111 وقوله: " ومغفرة ورحمة " النساء: 96. فمعنى قوله: " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين " وننزل اليك امرا يشفى امراض القلوب ويزيلها ويعيد إليها حالة الصحة والاستقامة فتتمتع من نعمة السعادة والكرامة. وقوله: " ولا يزيد الظالمين الا خسارا " السياق دال على ان المراد به بيان ما للقرآن من الاثر في غير المؤمنين قبال ما له من الاثر الجميل في المؤمنين فالمراد بالظالمين غير
المؤمنين وهم الكفار دون المشركين خاصة كما يظهر من بعض المفسرين وانما علق الحكم بالوصف اعني الظلم ليشعر بالتعليل اي ان القرآن انما يزيدهم خسارا لمكان ظلمهم بالكفر. والخسار هو النقص في رأس المال فللكفار رأس مال بحسب الاصل وهو الدين الفطري تلهم به نفوسهم الساذجة ثم إنهم بكفرهم بالله وآياتة خسروا فيه ونقصوا. ثم إن كفرهم بالقرآن وإعراضهم عنه بظلمهم يزيدهم خسارا على خسار ونقصا على نقص إن كانت عندهم بقية من موهبة الفطرة، وإلى هذه النكتة يشير سياق النفي والاستثناء حيث قيل: " ولا يزيد الظالمين الا خسارا " ولم يقل ويزيد الظالمين خسارا. وبه يظهر أن محصل معنى الاية أن القرآن يزيد المؤمنين صحة واستقامة على صحتهم واستقامتهم بالايمان وسعاده على سعادتهم وإن زاد الكافرين شيئا فإنما يزيدهم نقصا وخسارا.
[ 185 ]
وللمفسرين في معنى صدر الاية وذيلها وجوه أخر أغمضنا عنها من أراد الوقوف عليها فليراجع مسفوراتهم. ومما ذكروه فيها أن المراد بالشفاء في الاية أعم من أشفاء الامراض الروحية من الجهل والشبهة والريب والملكات النفسانية الرذيلة وشفاء الامراض الجسميه بالتبرك بآياته الكريمة قراءة وكتابة هذا. ولا بأس به لكن لو صح التعميم فليصح في الصدر والذيل جميعا فإنه كما يستعان به على دفع الامراض والعاهات بقراءة وكتابة كذلك. يستعان به على دفع الاعداء ورفع ظلم الظالمين وإبطال كيد الكافرين فيزيد بذلك الظالمين خسارا كما يفيد المؤمنين شفاء هذا، ونسبة زيادة خسارهم إلى القرآن مع أنها مستندة بالحقيقة إلى سوء اختيارهم وشقاء أنفسهم إنما هي بنوع من المجاز. قوله تعالى: " وإذا أنعمنا على الانسان أعرض ونآ بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤسا " قال في المفردات: العرض خلاف الطول وأصله أن يقال
في الاجسام ثم يستعمل في غيرها - إلى أن قال - وأعرض أظهر عرضه أي ناحيته فإذا قيل " أعرض لي كذا أي بدا عرضه فأمكن تناوله، وإذا قيل: " أعرض عني فمعناه ولى مبديا عرضه، انتهى موضع الحاجة. والنأي البعد ونآى بجانبه أي اتخذ لنفسه جهة بعيدة منا، ومجموع قوله: " أعرض ونآى بجانبه " يمثل حال الانسان في تباعده وانقطاعه من ربه عند ما ينعم عليه. كمن يحول وجهه عن صاحبه ويتخذ لنفسه موقفا بعيدا منه، وربما ذكر بعض المفسرين أن قوله: " نآى بجانبه كناية عن الاستكبار والاستعلاء. وقوله: " وإذا مسه الشر كان يؤسا " أي وإذا أصابه الشر إصابه خفيفة كالمس كان آيسا منقطع الرجاء عن الخير وهو النعمة، ولم ينسب الشر إليه تعالى كما نسب النعمة تنزيها له تعالى من أن يسند إليه الشر، ولان وجود الشر أمر نسبي لا نفسي فما يتحقق من الشر في العالم كالموت والمرض والفقر والنقص وغير ذلك أنما هو شر بالنسبة إلى مورده، واما بالنسبة إلى غيره وخاصة النظام العام الجارى في الكون فهو من الخير الذي لا مناص عنه في التدبير الكلي فما كان من الخير فهو مما تعلقت به بعينه
[ 186 ]
العناية الالهية وهو مراد بالذات، وما كان من الشر فهو مما تعلقت به العناية لغيره وهو مقتضي بالعرض. فالمعني إنا إذا أنعمنا على الانسان هذا الموجود الواقع في مجرى الاسباب اشتغل بظواهر الاسباب واخلد إليها فنسينا فلم يذكرنا ولم يشكرنا، وإذا ناله شئ يسير من الشر فسلب منه الخير وزالت عنه أسبابه ورأى ذلك كان شديد اليأس من الخير لكونه متعلقا بأسبابه وهو يرى بطلان أسبابه ولا يرى لربه في ذلك صنعا. والاية تصف حال الانسان العادي الواقع في المجتمع الحيوى الذى يحكم فيه العرف
والعاده فهو إذا توالت عليه النعم الالهية من المال والجاه والبنين وغيرها ووافقته على ذلك الاسباب الظاهرية اشتغل بها وتعلق قلبه بها فلم تدع له فراغا يشتغل فيه بذكر ربه وشكره بما أنعم عليه، وإذا مسه الشر وسلب عنه بعض النعم الموهوبة أيس من الخير ولم يتسل بالرجاء لانه لا يرى للخير إلا الاسباب الظاهرية التي لا يجد وقتئذ شيئا منها في الوجود. وهذه الحال غير حال الانسان الفطري غير المشوب ذهنه بالرسوم والاداب ولا الحاكم فيه العرف والعادة إما بتأييد إلهي يلازمه ويسدده وإما بعروض اضطرار ينسيه الاسباب الظاهرية فيرجع إلى سذاجة فطرته ويدعو ربه ويسأله كشف ضره فللانسان حالان حال فطرية تهديه إلى الرجوع إلى ربه عند مس الضر ونزول الشر وحال عاديه تحول فيها الاسباب بينه وبين ربه فتشغله وتصرفه عن الرجوع إليه بالذكر والشكر، والاية تصف حاله الثانية دون الاولى. ومن هنا يظهر أن لا منافاة بين هذه الاية والايات الدالة على أن الانسان إذا مسه الضر رجع إلى ربه كقوله تعالى فيما تقدم: " وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه الاية وقوله: " وإذا مس الانسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما " الاية يونس: 12 إلى غير ذلك. ويظهر أيضا وجه اتصال الاية بما قبلها وأنها متصلة بالاية السابقة من جهة ذيلها أعني قوله: " ولا يزيد الظالمين إلا خسارا والمحصل أن هذا الخسار غير بعيد منهم
[ 187 ]
فإن من حال الانسان أن يشغله الاسباب الظاهرية عند نزول النعم الالهية فينصرف عن ربه ويعرض وينآى، بجانبه وييأس عند مس الشر. " بحث فلسفي " ذكروا أن الشرور داخلة في القضاء الالهي بالعرض، وقد أوردوا في بيانه
ما يأتي: نقل عن أفلاطون أن الشر عدم وقد بين ذلك بالامثلة فإن في القتل بالسيف مثلا شرا أو ليس هو في قدرة الضارب على مباشرة الضرب ولا في شجاعته ولا في قوة عضلات يده فإن ذلك كله كمال له، ليس من الشر في شئ وليس هو في حدة السيف ودقة ذبابه وكونه قطاعا فإن ذلك من كماله وحسنه وليس هو في انفعال رقبة المقتول عن الالة القطاعه فإن من كماله أن يكون كذلك فلا يبقي للشر إلا زهاق روح المقتول وبطلان حياته وهو عدمي وعلى هذا سائر الامثلة فالشر عدم. ثم إن الشرور التي في العالم لما كانت مرتبطة بالحوادث الواقعة مكتنفة بها كانت أعداما مضافة لا عدما مطلقا فلها حظ من الوجود والوقوع كأنواع الفقد والنقص والموت والفساد الواقعة في الخارج الداخله في النظام العام الكوني، ولذلك كان لها مساس بالقضاء الالهي الحاكم في الكون لكنها داخلة في القضاء بالعرض لا بالذات. وذلك أن الذى تتصوره من العدم اما عدم مطلق وهو عدم النقيض للوجود وإما مضاف إلى ملكة وهو عدم كمال الوجود عما من شأنه ذلك كالعمى الذي هو عدم البصر مما من شأنه أن يكون بصيرا. والقسم الاول إما عدم شئ مأخوذ بالنسبه إلى ماهيته كعدم زيد مثلا مأخوذا بالنسبه إلى ماهية نفسه، وهذا اعتبار عقلي ليس من وقوع الشر في شئ إذ لا موضوع مشترك بين النقيضين، نعم ربما يقيد العدم فيقاس إلى الشئ فيكون من الشر كعدم زيد بعد وجوده، وهو راجع في الحقيقي إلى العدم المضاف إلى الملكه الاتى حكمه. واما عدم شئ ماخوذ بالنسبه إلى شئ آخر كفقدان الماهيات الامكانيه كمال الوجود الواجبى وكفقدان كل ماهيه وجود الماهيه الاخرى الخاص بها مثل فقدان
[ 188 ]
النبات وجود الحيوان وفقدان البقر وجود الفرس، وهذا النوع من العدم من لوازم الماهيات وهي اعتبارية غير مجعولة. والقسم الثاني وهو العدم المضاف إلى الملكة فقدان أمر ما شيئا من كمال وجوده الذى من شأنه أن يوجد له ويتصف به كأنواع الفساد العارضة للاشياء والنواقص والعيوب والعاهات والامراض والاسقام والالام الطارئة عليها، وهذا القسم من الشرور إنما يتحقق في الامور المادية ويستند إلى قصور الاستعدادات على اختلاف مراتبها لا إلى افاضة مبدء الوجود فإن علة العدم عدم كما أن علة الوجود وجود. فالذي تعلقت به كلمة الايجاد والارادة الالهية وشمله القضاء بالذات في الامور التي يقارنها شئ من الشر إنما هو القدر الذى تلبس به من الوجود حسب استعداده ومقدار قابليته وأما العدم الذى يقارنه فليس إلا مستندا إلى عدم قابليته وقصور استعداده نعم ينسب إليه الجعل والافاضة بالعرض لمكان نوع من الاتحاد بينه وبين الوجود الذي يقارنه هذا. وببيان آخر الامور على خمسة أقسام: ما هو خير محض، وما خيره أكثر من شره، وما يتساوى خيره وشره، وما شره أكثر من خيره وما هو شر محض، ولا يوجد شئ من الثلاثة الاخيرة لاستلزامه الترجيح من غير مرجح أو ترجيح المرجوح على الراجح، ومن الواجب بالنظر إلى الحكمه الالهية المنبعثة عن القدرة والعلم الواجبيين والجود الذي لا يخالطه بخل أن يفيض ما هو الاصلح في النظام الاتم وأن يوجد ما هو خير محض وما خيره أكثر من شره لان في ترك الاول شرا محضا وفي ترك الثاني شرا كثيرا. فما يوجد من الشر نادر قليل بالنسبة إلى ما يوجد من الخير وإنما وجد الشر القليل بتبع الخير الكثير. وعن الامام الرازي أنه لا محل لهذا البحث منهم بناء على ما ذهبوا إليه من كونه تعالى علة تامة للعالم واستحالة انفكاك العلة التامة عن معلولها فهو موجب في فعله لا مختار فعليه أن يوجد ما هو علة له من خير أو شر من غير خيرة في الترجيح. وقد خفي عليه أن هذا الوجوب إنما هو قائم بالمعلول تلقاه من قبل العله مثل ما
[ 189 ]
يتلقى وجوده من قبله، ومن المحال أن يعود ما يفيضه العلة فيقهر العلة فيضطرها على الفعل ويغلبها بتحديده. ولقد أنصف صاحب روح المعاني حيث أشار أولا إلى نظير ما تقدم من البحث فقال: ولا يخفى أن هذا إنما يتم على القول بأنه تعالى لا يمكن أن تكون إرادته متساوية النسبة إلى الشئ ومقابله بلا داع ومصلحة كما هو مذهب الاشاعرة وإلا فقد يقال: إن الفاعل للكل إذا كان مختارا فله أن يختار أيما شاء من الخيرات والشرور لكن الحكماء وأساطين الاسلام قالوا: إن اختياره تعالى أرفع من هذا النمط، وامور العالم منوطة بقوانين كلية، وأفعاله تعالى مربوطة بحكم ومصالح جلية وخفية. ثم قال: وقول الامام: " إن الفلاسفة لما قالوا بالايجاب والجبر في الافعال فخوضهم في هذا المبحث من جملة الفضول والضلال لان السؤال بلم عن صدورها غير وارد كصدور الاحراق من النار لانه يصدر عنها لذاتها ". ناش من التعصب لان محققيهم يثبتون الاختيار، وليس صدور الافعال من الله تعالى عندهم صدور الاحراق من النار، وبعد فرض التسليم بحثهم عن كيفية وقوع الشر في هذا العالم لاجل أن الباري تبارك اسمه خير محض بسيط عندهم ولا يجوزون الشر عمالا جهة شرية فيه أصلا فيلزم عليهم في بادئ النظر ما افترته الثنوية من مبدئين خيري وشري فتخلصوا عن ذلك البحث فهو فضل لا فضول. انتهى. قوله تعالى: " قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا " المشاكلة - على ما في المفردات - من الشكل وهو تقييد الدابة، ويسمى ما يقيد به شكالا بكسر الشين، والشاكلة هي السجية سمي بها لتقييدها الانسان أن يجرى على ما يناسبها وتقتضيه. وفي المجمع الشاكلة الطريقة والمذهب يقال: هذا طريق ذو شواكل أي ينشعب منه طرق جماعة انتهى. وكأن تسميتهما بها لما فيها من تقييد العابرين والمنتحلين بالتزامهما وعدم التخلف عنهما وقيل: الشاكلة من الشكل بفتح الشين بمعنى المثل وقيل: إنها من الشكل بكسر الشين بمعنى الهيئة.
وكيف كان فالاية الكريمة ترتب عمل الانسان على شاكلتة بمعنى أن العمل يناسبها
[ 190 ]
ويوافقها، فهي بالنسبه إلى العمل كالروح السارية في البدن الذى يمثل بأعضائه وأعماله هيآت الروح المعنوية وقد تحقق بالتجارب والبحث العلمي أن بين الملكات والاحوال النفسانية وبين الاعمال رابطة خاصة فليس يتساوى عمل الشجاع الباسل والجبان إذا حضرا موقفا هائلا، ولا عمل الجواد الكريم والبخيل اللئيم في موارد الانفاق وهكذا، وأن بين الصفات النفسانية ونوع تركيب البنية الانسانية رابطة خاصة فمن الامزجة ما يسرع إليه الغضب وحب الانتقام بالطبع ومنها ما تغلى وتفور فيه شهوة الطعام أو النكاح أو غير ذلك بحيث تتوق نفسه بأدنى سبب يدعوه ويحركه، ومنها غير ذلك فيختلف انعقاد الملكات بحسب ما يناسب المورد سرعة وبطءا. ومع ذلك كله فليس يخرج دعوة المزاج المناسب لملكة من الملكات أو عمل من الاعمال من حد الاقتضاء إلى حد العلية التامة بحيث يخرج الفعل المخالف لمقتضى الطبع عن الامكان إلى الاستحالة ويبطل الاختيار فالفعل باق على اختياريته وإن كان في بعض الموارد صعبا غاية الصعوبة. وكلامه سبحانه يؤيد ما تقدم على ما يعطيه التدبر فهو سبحانه القائل: " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذى خبث لا يخرج إلا نكدا " الاعراف: 58 وانضمام الاية إلى الايات الدالة على عموم الدعوة كقوله: " لانذركم به ومن بلغ " الانعام: 19 يفيد أن تأثير البنى الانسانية في الصفات والاعمال على نحو الاقتضاء دون العلية التامة كما هو ظاهر. كيف وهو تعالى يعد الدين فطريا تهتف به الخلقة التي لا تبديل لها ولا تغيير قال: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " الروم: 30 وقال: " ثم السبيل يسره " عبس: 20 ولا تجامع دعوة الفطرة إلى
الدين الحق والسنة المعتدلة دعوة الخلقة إلى الشر والفساد والانحراف عن الاعتدال بنحو العلية التامة. وقول القائل: إن السعادة والشقاوة ذاتيتان لا تتخلفان عن ملزومهما كزوجية الاربعة وفردية الثلاثة أو مقضيتان بقضاء أزلي لازم، وأن الدعوة لاتمام الحجة لا لامكان التغيير ورجاء التحول من حال إلى حال فالامر مفروغ عنه قال تعالى:
[ 191 ]
" ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حتى ؟ ؟ عن بينة. مدفوع بأن صحة إقامة الحجة بعينها حجة على عدم كون سعادة السعيد وشقاوة الشقى لازمة ضرورية فإن السعادة والشقاوة لو كانتا من لوازم الذوات لم تحتاجا في لحوقهما إلى حجة إذ لا حجة في الذاتيات فتلغو الحجة، وكذا لو كانتا لازمتين للذوات بقضاء لازم أزلى لا لاقتضاء ذاتي من الذوات كانت الحجة للناس على الله سبحانه فتلغو الحجة منه تعالى فصحة إقامة الحجة من قبله سبحانه تكشف عن عدم ضرورية شئ من السعادة والشقاوة بالنظر إلى ذات الانسان مع قطع النظر عن أعماله الحسنة والسيئة واعتقاداته الحقة والباطلة. على أن توسل الانسان بالفطرة إلى مقاصد الحياة بمثل التعليم والتربية والانذار والتبشير والوعد والوعيد والامر والنهى وغير ذلك أوضح دليل على أن الانسان في نفسه على ملتقى خطين ومنشعب طريقين: السعادة والشقاوة وفي إمكانه أن يختار أيا منهما شاء وأن يسلك أيا منهما أراد ولكل سعي جزاء يناسبه قال تعالى: " وأن ليس للانسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الاوفى " النجم: 41. فهذا نوع من الارتباط مستقر بين الاعمال والملكات وبين الذوات، وهناك نوع آخر من الارتباط مستقر بين الاعمال والملكات وبين الاوضاع والاحوال والعوامل الخارجة عن الذات الانسانية المستقرة في ظرف الحياة وجو العيش كالاداب والسنن
والرسوم والعادات التقليدية فإنها تدعو الانسان إلى ما يوافقها وتزجره عن مخالفتها ولا تلبث دون أن تصوره صورة جديدة ثانية تنطبق أعمالة على الاوضاع والاحوال المحيطة به المجتمعة المؤتلفة في ظرف حياته. وهذه الرابطة على نحو الاقتضاء غالبا غير أنها ربما يستقر استقرارا لا مطمع في زوالها من جهة رسوخ الملكات الرذيلة أو الفاضلة في نفس الانسان وفي كلامه تعالى ما يشير إلى ذلك كقوله: " إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة " البقرة: 7 إلى غير ذلك. ولا يضر ذلك صحة إقامة الحجة عليهم بالدعوة والانذار والتبشير لان امتناع تأثير الدعوة فيهم مستند إلى سوء اختيارهم والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
[ 192 ]
فقد تبين بما قدمناه على طوله أن للانسان شاكلة بعد شاكلة فشاكلة يهيؤها نوع خلقته وخصوصية تركيب بنيته، وهي شخصية خلقية متحصلة من تفاعل جهازاته البدنية بعضها مع بعض كالمزاج الذي هو كيفية متوسطة حاصلة من تفاعل الكيفيات المتضادة بعضها في بعض. وشاكلة أخرى ثانية وهي شخصية خلقية متحصلة من وجوه تأثير العوامل الخارجية في النفس الانسانية على ما فيها من الشاكلة الاولى إن كانت. والانسان على أي شاكلة متحصلة وعلى أي نعت نفساني وفعليه داخلية روحية كان فإن عمله يجرى عليها وأفعاله تمثلها وتحكيها كما أن المتكبر المختال يلوح حاله في تكلمه وسكوته وقيامه وقعوده وحركته وسكونه، والذليل المسكين ظاهر الذلة والمسكنة في جميع أعماله وكذا الشجاع والجبان والسخي والبخيل والصبور والوقور والعجول وهكذا وكيف لا والفعل يمثل فاعله والظاهر عنوان الباطن والصورة دليل المعنى. وكلامه سبحانه يصدق ذلك ويبني عليه حججه في موارد كثيرة كقوله تعالى: " وما يستوى الاعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما
يستوى الاحياء ولا الاموات " فاطر: 22 وقوله: " الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات: النور: 36 إلى غير ذلك من الايات الكثيرة. وقوله تعالى: " كل يعمل على شاكلته محكم في معناه على أي معنى حملنا الشاكلة غير أن اتصال الايه بقوله: " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " ووقوعها في سياق أن الله سبحانه يربح المؤمنين ويشفيهم بالقرآن الكريم والدعوة الحقة ويخسر به الظالمين لظلمهم يقرب كون المراد بالشاكلة الشاكلة بالمعنى الثاني وهي الشخصيه الخلقية الحاصلة للانسان من مجموع غرائزه والعوامل الخارجية الفاعلة فيه. كأنه تعالى لما ذكر استفادة المؤمنين من كلامه الشفاء والرحمة وحرمان الظالمين من ذلك وزيادتهم في خسارهم اعترضه معترض في هذه التفرقة وأنه لو سوى بين
[ 193 ]
الفريقين في الشفاء والرحمة كان ذلك أو في لغرض الرسالة وأنفع لحال الدعوة فأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيبهم في ذلك. فقال: قل: كل يعمل على شاكلته أي إن أعمالكم تصدر على طبق ما عندكم من الشاكلة والفعلية الموجودة فمن كانت عنده شاكلة عادلة سهل اهتداؤه إلى كلمه الحق والعمل الصالح وانتفع بالدعوة الحقة، ومن كانت عنده شاكلة ظالمة صعب عليه التلبس بالقول الحق والعمل الصالح ولم يزد من استماع الدعوة الحقة إلا خسارا والله الذي هو ربكم العليم بسرائركم المدبر لامركم أعلم بمن عنده شاكلة عادلة وهو أهدى سبيلا وأقرب إلى الانتفاع بكلمة الحق والذي علمه وأخبر به أن المؤمنين اهدى سبيلا فيختص بهم الشفاء والرحمة بالقرآن الذى ينزله ولا يبقى للكافرين أهل الظلم إلا مزيد الخسار إلا أن ينتزعوا عن ظلمهم فينتفعوا به. ومن هنا يظهر النكتة في التعبير بصيغة التفضيل في قوله: " أهدى سبيلا " وذلك لما تقدم أن الشاكلة غير ملزمة في الدعوة إلى ما يلائمها فالشاكلة الظالمة وإن كانت مضلة
داعية إلى العمل الطالح غير أنها لا تحتم الضلال ففيها أثر من الهدى وإن كان ضعيفا والشاكلة العادلة أهدى منها فافهم. وذكر الامام الرازي في تفسيره ما ملخصه: أن الاية تدل على كون النفوس الناطقة الانسانية مختلفه بالماهية وذلك أنه تعالى بين في الايه المتقدمه أن القرآن بالنسبة إلى بعض النفوس يفيد الشفاء والرحمة وبالنسبة إلى بعض آخر يفيد الخسار والخزى ثم أتبعه بقوله: " قل كل يعمل على شاكلته ومعناه أن اللائق بتلك النفوس الطاهرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الذكاء والكمال وبتلك النفوس الكدرة أن يظهر فيها منه آثار الخزي والضلال كما أن الشمس تعقد الملح وتلين الدهن وتبيض ثوب القصار ويسود وجهه. وهذا إنما يتم إذا كانت الارواح والنفوس مختلفه بماهياتها فبعضها مشرقة صافيه يظهر فيها من القرآن نور على نور، وبعضها كدرة ظلمانيه يظهر فيها منه ضلال على ضلال ونكال على نكال. انتهى. وفيه أنه لو أقام الحجة على اختلاف ماهيات النفوس بعد رسوخ ملكاتها وتصورها
[ 194 ]
بصورها لكان له وجه، وأما النفوس الساذجة قبل رسوخ الملكات فلا تختلف بالاثار اختلافا ضروريا حتى تجري فيها الحجة وقد عرفت أن الاية انما تتعرض لحال الانسان بعد حصول شاكلته وشخصيته الخلقية الحاصلة من مجموع غرائزه والعوامل الخارجية الفاعلة فيه الداعية إلى نوع من العمل دعوة على نحو الاقتضاء فتبصر. " بحث فلسفي " ذكر الحكماء أن بين الفعل وفاعله ويعنون به المعلول وعلته الفاعلة سنخية وجودية ورابطة ذاتية يصير بها وجود الفعل كأنه مرتبة نازلة من وجود فاعله ووجود الفاعل كأنه مرتبة عالية من وجود فعله بل الامر على ذلك بناء على أصاله الوجود وتشكيكه. وبينوا ذلك بأنه لو لم يكن بين الفعل المعلول وعلته الفاعلة له مناسبة ذاتية وخصوصية واقعية بها يختص أحدهما بالاخر كانت نسبة الفاعل إلى فعله كنسبته إلى
غيره كما كانت نسبة الفعل إلى فاعله كنسبته إلى غيره فلم يكن لاستناد صدور الفعل إلى فاعله معنى، ونظير البرهان يجري في المعلول بالنسبة إلى سائر العلل ويثبت الرابطة بينه وبينها غير أن العلة الفاعلة لما كانت هي المقتضية لوجود المعلول ومعطي الشئ غير فاقده كانت العلة الفاعلة واجدة لكمال وجود المعلول والمعلول ممثلا لوجودها في مرتبة نازلة. وقد بين ذلك صدر المتألهين بوجه أدق وألطف وهو أن المعلول مفتقر في وجوده إلى العلة الفاعلة متعلق الذات بها، وليس من الجائز أن يتأخر هذا الفقر والتعلق عن مرتبة ذاته ويكون هناك ذات ثم فقر وتعلق والا استغنى بحسب ذاته عن العلة واستقل بنفسه عنها فلم يكن معلولا هف فذاته عين الفقر والتعلق فليس له من الوجود الا الرابط غير المستقل وما يتراءى فيه من استقلال الوجود المفروض معه أولا إنما هو استقلال علته فوجود المعلول يحاكي وجود علته ويمثله في مرتبته التي له من الوجود. (تعقيب البحث السابق من جهة القرآن) التدبر في الايات القرآنية لا يدع ريبا في أن القرآن الكريم يعد الاشياء على
[ 195 ]
اختلاف وجوهها وتشتت أنواعها آيات له تعالى دالة على أسمائه وصفاته فما من شئ إلا وهو آية في وجوده وفي أي جهة مفروضة في وجوده له تعالى مشيرة إلى ساحة عظمته وكبريائه، والاية وهي العلامة الدالة من حيث إنها آية وجودها مرآتى فان في ذى الاية الذي هو مدلولها غير مستقله دونه إذ لو استقلت في وجوده أو في جهة من جهات وجوده لم تكن من تلك الجهة مشيرة إليه دالة عليه آية له هف. فالاشياء بما هي مخلوقة له تعالى أفعاله وهي تحاكي بوجودها وصفات وجودها وجوده سبحانه وكرائم صفاته وهو المراد بمسانخة الفعل لفاعله لا أن الفعل واجد لهوية الفاعل مماثل لحقيقة ذاته فإن الضرورة تدفعه. قوله تعالى: " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " الروح على ما يعرف في اللغة هو مبدء الحياة الذي به يقوى الحيوان على
الاحساس والحركة الارادية ولفظه يذكر ويؤنث وربما يتجوز فيطلق على الامور التي يظهر بها آثار حسنه مطلوبة كما يعد العلم حياة للنفوس قال تعالى: " أو من كان ميتا فاحييناه " الانعام: 122 أي بالهداية إلى الايمان وعلى هذا المعنى حمل جماعة مثل قوله: " ينزل الملائكة بالروح من أمره " النحل: 2 أي بالوحي وقوله: " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا " الشورى: 52 أي القرآن الذي هو وحي فذكروا أنه تعالى سمى الوحي أو القرآن روحا لان به حياة النفوس الميتة كما أن الروح المعروف به حياة الاجساد الميتة. وكيف كان فقد تكرر في كلامه تعالى ذكر الروح في آيات كثيرة مكية ومدنية، ولم يرد في جميعها المعنى الذى نجده في الحيوان وهو مبدء الحياة الذي يتفرع عليه الاحساس والحركة الارادية كما في قوله: " يوم يقوم الروح والملائكة صفا " النبأ: 38، وقوله تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر " القدر: 4 ولا ريب أن المراد به في الاية غير الروح الحيواني وغير الملائكة وقد تقدم الحديث عن على عليه السلام أنه احتج بقوله تعالى: " ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده " النحل: " 2 على أن الروح غير الملائكة وقد وصفه تارة بالقدس وتارة بالامانة كما سيأتي لطهارته
[ 196 ]
عن الخيانة وسائر القذارات المعنوية والعيوب والعاهات التي لا تخلو عنها الارواح الانسية. وهو وإن كان غير الملائكة غير أنه يصاحبهم في الوحي والتبليغ كما يظهر من قوله: " ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده " الاية فقد قال تعالى: " من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك باذن الله " البقرة: 97 فنسب تنزيل القرآن على قلبه صلى الله عليه وآله وسلم إلى جبريل ثم قال: " نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين " الشعراء: 195 وقال: " قل نزله روح القدس من
ربك " النحل: 102 فوضع الروح وهو غير الملائكة بوجه مكان جبريل وهو من الملائكة فجبريل ينزل بالروح والروح يحمل هذا القرآن المقر والمتلو. وبذلك تنحل العقدة في قوله تعالى: " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا " الشورى: 52 ويظهر أن المراد من وحى الروح في الاية هو إنزال روح القدس إليه صلى الله عليه وآله وسلم وإنزاله إليه هو الوحي القرآن إليه لكونه يحمله على ما تبين فلا موجب لما ذكره بعضهم على ما نقلناه آنفا أن المراد بالروح في الاية هو القرآن. وأما نسبة الوحى وهو الكلام الخفي إلى الروح بهذا المعنى وهو من الموجودات العينية والاعيان الخارجية فلا ضير فيه فإن هذه الموجودات الطاهرة كما أنها موجودات مقدسة من خلقه تعالى كذلك هي كلمات منه تعالى كما قال في عيسى بن مريم عليه السلام " وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه " النساء: 171. فعد الروح كلمة دالة على المراد فمن الجائز أن يعد الروح وحيا كما عد كلمة وإنما سماه كلمة منه لانة إنما كان عن كلمة الايجاد من غير أن يتوسط فيه السبب العادي في كينونة الناس بدليل قوله: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " آل عمران: 59. وقد زاد سبحانه في إيضاح حقيقة الروح حيث قال قل الروح من امر ربي " وظاهر " من " أنها لتبيين الجنس كما في نظائرها من الايات " يلقى الروح من أمره ": المؤمن: 15 " ينزل الملائكة بالروح من امره " " أوحينا إليك روحا من أمرنا " تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر " فالروح من سنخ الامر.
[ 197 ]
ثم عرف امره في قوله: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ " يس: 84 فبين أولا أن أمره هو قوله للشئ: " كن " وهو كلمة الايجاد التي هي الايجاد والايجاد هو وجود الشئ لكن لا من كل
جهة بل من جهة استناده إليه تعالى وقيامه به فقوله فعله. ومن الدليل على أن وجود الاشياء قول له تعالى من جهة نسبته إليه مع الغاء الاسباب الوجودية الاخر قوله تعالى: " وما امرنا الا واحدة كلمح بالبصر " القمر: 50 حيث شبه أمره بعد عده واحدة بلمح بالبصر وهذا النوع من التشبيه لنفي التدريج وبه يعلم أن في الاشياء المكونة تدريجا الحاصلة بتوسط الاسباب الكونية المنطبقة على الزمان والمكان جهة معراة عن التدريج خارجة عن حيطة الزمان والمكان هي من تلك الجهة أمره وقوله وكلمته وأما الجهة التي هي بها تدريجية مرتبطة بالاسباب الكونية منطبقة على الزمان والمكان فهي بها من الخلق قال تعالى: " ألا له الخلق والامر " الاعراف: 54 فالامر هو وجود الشئ من جهة استناده إليه تعالى وحده والخلق هو ذلك من جهة استناده إليه مع توسط الاسباب الكونية فيه. ويستفاد ذلك أيضا من قوله: " ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون: الاية حيث ذكر أولا خلق آدم وذكر تعلقه بالتراب وهو من الاسباب ثم ذكر وجوده ولم يعلقه بشئ الا بقوله: " كن " فافهم ذلك ونظيره قوله: " ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة إلى أن قال - ثم أنشأناه خلقا آخر " المؤمنون: 14 فعد ايجاده المنسوب إلى نفسه من غير تخلل الاسباب الكونية انشاء خلق آخر. فظهر بذلك كله أن الامر هو كلمة الايجاد السماوية وفعله تعالى المختص به الذي لا تتوسط فيه الاسباب، ولا يتقدر بزمان أو مكان وغير ذلك. ثم بين ثانيا أن امره في كل شئ هو ملكوت ذلك الشئ - والملكوت أبلغ من الملك - فلكل شئ ملكوت كما أن له امرا قال تعالى: أو لم ينظروا في ملكوت السموات والارض " الاعراف 185 وقال: " وكذلك نرى ابراهيم ملكوت السموات والارض " الانعام 75، وقال: " تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر الاية: القدر: 4
[ 198 ]
بيان فقد بان بما مر أن الامر هو كلمة الايجاد وهو فعله تعالى الخاص به الذى لا يتوسط فيه الاسباب الكونية بتأثيراتها التدريجية وهو الوجود الا رفع من نشأه المادة وظرف الزمان، وأن الروح بحسب وجوده من سنخ الامر من الملكوت. وقد وصف تعالى أمر الروح في كلامه وصفا مختلفا فأفرده بالذكر في مثل قوله: " يوم يقوم الروح والملائكة صفا " النبأ: 38، وقوله: " تعرج الملائكة والروح إليه " الاية المعارج: 4. ويظهر من كلامه أن منه ما هو مع الملائكة كقوله في الايات المنقولة آنفا: " من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك نزل به الروح الامين على قلبك " " قل نزله روح القدس وقوله: فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا " مريم: 17. ومنه ما هو منفوخ في الانسان عامة قال تعالى: ثم سواه ونفخ فيه من روحه " الم السجدة: 9 وقال: " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي " الحجر: 29 ص: 72 ومنه ما هو مع المؤمنين كما يدل عليه قوله تعالى: " اولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه " المجادلة: 22 ويشعر به بل يدل عليه أيضا قوله: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس " الانعام: 122 فإن المذكور في الاية حياة جديدة والحياة فرع الروح. ومنه ما نزل إلى الانبياء عليه السلام كما يدل عليه قوله: " ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا " الاية النحل: " 2 وقوله: " وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس: البقرة: 87 وقوله: " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا " الشورى: 52 إلى غير ذلك. ومن الروح ما تشعر به الايات التي تذكر أن في غير الانسان من الحيوان حياة وأن في النبات حياة، والحياة متفرعة على الروح ظاهرا.
فقد تبين بما قدمناه على طوله معنى قوله تعالى: " يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وأن السؤال إنما هو عن حقيقة مطلق الروح الوارد في كلامه سبحانه، وأن الجواب مشتمل على بيان حقيقة الروح وأنه من سنخ الامر بالمعنى الذي تقدم،
[ 199 ]
وأما قوله: " وما اوتيتم من العلم إلا قليلا " أي ما عندكم من العلم بالروح الذى آتاكم الله ذلك قليل من كثير فإن له موقعا من الوجود وخواص وآثارا في الكون عجيبة بديعه أنتم عنها في حجاب. وللمفسرين في المراد من الروح المسئول عنه والحجاب عنه أقوال فقال: بعضهم: إن المراد بالروح المسؤل عنه هو الروح الذي يذكره الله في قوله " يوم يقوم الروح والملائكة صفا " وقوله: " تعرج الملائكة والروح إليه " الاية، ولا دليل لهم على ذلك. وقال بعضهم: إن المراد به جبريل فإن الله سماه روحا في قوله: نزل به الروح الامين على قلبك " وفيه أن مجرد تسميته روحا في بعض كلامه لا يستلزم كونه هو المراد بعينه أينما ذكر على أن لهذه التسمية معنى خاصا أومانا إليه في سابق الكلام، ولو لا ذلك لكان عيسى وجبريل واحدا لان الله سمى كلا منهما روحا. وقال بعضهم: إن المراد به القرآن لان الله سماه روحا في قوله: " وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا " الاية فيكون محصل السؤال والجواب أنهم يسألونك عن القرآن أهو من الله أو من عندك ؟ فأجبهم أنه من أمر ربى لا يقدر على الاتيان بمثله غيره فهو آية معجزه دالة على صحة رسالتي وما اوتيتم من العلم به إلا قليلا من غير أن تحيطوا به فتقدروا على الاتيان بمثله قالوا: والاية التالية: " ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا اليك " يؤيد هذا المعنى. وفيه أن تسميته في بعض كلامه روحا لا تستلزم كونه هو المراد كلما اطلق كما تقدم آنفا. على أنك قد عرفت ما في دعوى هذه التسمية. على أن الاية التالية لا تتعين
تأييدا لهذا الوجه بل تلائم بعض الوجوه الاخر أيضا. وقال بعضهم: إن المراد به الروح الانساني فهو المتبادر من إطلاقه وقوله: " قل الروح من أمر ربي " ترك للبيان ونهي عن التوغل في فهم حقيقة الروح فإنه من أمر الله الذي استأثر بعلمه ولم يطلع على حقيقته أحدا ثم اختلفوا في حقيقته بين قائل بأنه جسم هوائي متردد في مخارق البدن، وقائل بأنه جسم هوائي في هيئة البدن حال فيه
[ 200 ]
وخروجه موته، وقائل بأنه أجزاء أصلية في القلب، وقائل بأنه عرض في البدن، وقائل بأنه نفس البدن إلى غير ذلك. وفيه أن التبادر في كلامه تعالى ممنوع، والتدبر في الايات المتعرضة لامر الروح كما قدمناه يدفع جميع ما ذكروه. وقال بعضهم: إن المراد به مطلق الروح الواقع في كلامه والسؤال إنما هو عن كونه قديما أو محدثا فاجيب بأنه يحدث عن أمره وفعله تعالى، وفعله محدث لا قديم. وفيه أن تعميم الروح لجميع ما وقع منه في كلامه تعالى وإن كان في محله لكن إرجاع السؤال إلى حدوث الروح وقدمه وتوجيه الجواب بما يناسبه دعوى لا دليل عليها من جهة اللفظ. ثم إن لهم اختلافا في معنى قوله: " الروح من أمر ربي " أهو جواب مثبت أو ترك للجواب وصرف عن السؤال على قولين والوجوه المتقدمة في معنى الروح مختلفة في المناسبة مع هذين القولين فالمتعين في بعضها القول الاول وفي بعضها الثاني وقد أشرنا إلى ذلك في ضمن الاقوال. ثم إن لهم اختلافا آخر في المخاطبين بقوله: " وما اوتيتم من العلم إلا قليلا " أهم اليهود أو قريش لو كانوا هم السائلين بتعليم من اليهود أو هم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغير النبي من
الناس ؟ والانسب بالسياق أن يكون الخطاب متوجها إلى السائلين والكلام من تمام قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن السائلين هم اليهود لانهم كانوا معروفين يومئذ بالعلم وفي الكلام إثبات علم ما لهم دون قريش وكفار العرب وقد عبر تعالى عنهم في بعض كلامه (1) بالذين لا يعلمون. قوله تعالى: " ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا اليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا " الكلام متصل بما قبله فإن الاية السابقة وإن كانت متعرضة لامر مطلق الروح وهو ذو مراتب مختلفة إلا أن الذي ينطبق عليه منه بحسب سياق الايات السابقة المسوقة في أمر القرآن هو الروح السماوي النازل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الملقي إليه القرآن.
(1) سورگ البقرة 118. (*)
[ 201 ]
فالمعنى - والله أعلم - الروح النازل عليك الملقى بالقرآن اليك من أمرنا غير خارج من قدرتنا، وأقسم لئن شئنا لنذهبن بهذا الروح الذى هو كلمتنا الملقاة إليك ثم لا تجد أحدا يكون وكيلا به لك علينا يدافع عنك ويطالبنا به ويجبرنا على ردما أذهبنا به. وبذلك يظهر أولا ان المراد بالذى اوحينا إليك الروح الالهي الذى هي كلمة ملقاة من الله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حد قوله: " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا: الشورى: " 54. وثانيا: " أن المراد بالوكيل للمطالبة والرد لما أذهبه الله دون الوكيل في حفظ القرآن وتلاوته على ما فسره بعض المفسرين وهو مبني على تفسير قوله: " الذى أوحينا إليك " بالقرآن دون الروح النازل به كما قدمنا. قوله تعالى: " إلا رحمة من ربك أن فضله كان عليك كبيرا استثناء من محذوف يدل عليه السياق والتقدير فما اختصصت بما اختصصت به ولا اعطيت ما اعطيت من نزول الروح وملازمته إياك إلا رحمة من ربك: ثم علله بقوله: " إن فضله كان عليك كبيرا " وهو وارد مورد الامتنان. قوله تعالى: " قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن
لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " الظهير هو المعين مأخوذ من الظهر كالرئيس من الرأس وقوله: " بمثله " من وضع الظاهر موضع المضمر وضميره عائد إلى القرآن. وفي الاية تحد ظاهر وهي ظاهرة في أن التحدي بجميع ما للقرآن من صفات الكمال الراجعة إلى لفظه ومعناه لا بفصاحته وبلاغته وحدها فإن انضمام غير أهل اللسان إليهم لا ينفع في معارضه البلاغه شيئا وقد اعتنت الاية باجتماع الثقلين وإعانه بعضهم لبعض. على أن الاية ظاهرة في دوام التحدي وقد انقرضت العرب العرباء أعلام الفصاحة والبلاغه اليوم فلا أثر منهم والقرآن باق على إعجازه متحد بنفسه كما كان. قوله تعالى: " ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا
[ 202 ]
كفورا " تصريف الامثال ردها وتكرارها وتحويلها من بيان إلى بيان ومن اسلوب إلى اسلوب، والمثل هو وصف المقصود بما يمثله ويقربه من ذهن السامع و " من " في قوله: " من كل مثل " لابتداء الغاية والمراد من كل مثل يوضح لهم سبيل الحق ويمهد لهم طريق الايمان والشكر بقرينة قوله: " فأبى أكثر الناس إلا كفورا " والكلام مسوق للتوبيخ والملامة. وفى قوله: " أكثر الناس " وضع الظاهر موضع المضمر والاصل أكثرهم ولعل الوجه فيه الاشارة إلى أن ذلك مقتضى كونهم ناسا كما مر في قوله: " وكان الانسان كفورا " أسرى: 67. والمعنى واقسم لقد كررنا للناس في هذا القرآن من كل مثل يوضح لهم الحق ويدعوهم إلى الايمان بنا والشكر لنعمنا فأبى اكثر الناس إلا ان يكفروا ولا يشكروا. قوله تعالى: " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا - إلى قوله - كتابا نقرؤه " الفجر الفتح والشق وكذلك التفجير إلا انه يفيد المبالغة والتكثير، والينبوع العين التى لا ينضب ماؤها وخلال الشئ وسطه واثناؤه، والكسف جمع كسفة كقطع جمع قطعه وزنا ومعنى، والقبيل هو المقابل كالعشير والمعاشر والزخرف
الذهب، والرقي الصعود والارتقاء. والايات تحكى الايات المعجزة التي اقترحتها قريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلقوا إيمانهم به عليها مستهينة بالقرآن الذي هو معجزة خالده. والمعنى " وقالوا " اي قالت قريش " لن نؤمن لك " يا محمد " حتى تفجر وتشق " لنا من الارض " ارض مكة لقلة مائها " ينبوعا " عينا لا ينضب ماؤها " أو تكون " بالاعجاز " لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الانهار " اي تشقها أو تجريها " خلالها " اي وسط تلك الجنة واثناءها " تفجيرا " " أو تسقط السماء كما زعمت اي مماثلا لما زعمت يشيرون (1) به إلى قوله تعالى: " أو نسقط عليهم كسفا من السماء: السبأ " 9 " علينا كسفا " وقطعا " أو تأتي بالله والملائكة قبيلا " مقابلا نعاينهم ونشاهدهم
(1) فالاية لا تخلو من دلالة على تقدم سورة سبأ على هذه السورة نزولا. (*)
[ 203 ]
" أو يكون لك بيت من زخرف " وذهب " أو ترقى " وتصعد " في السماء ولن نؤمن لرقيك " وصعودك " حتى تنزل علينا منها " كتابا نقرؤه " ونتلوه. قوله تعالى: " قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا " فيه امره صلى الله عليه وآله وسلم ان يجيب عما اقترحوه عليه وينبههم على جهلهم ومكابرتهم فيما لا يخفى على ذي نظر فإنهم سألوه امورا عظاما لا يقوى على اكثرها إلا القدرة الغيبية الالهية وفيها ما هو مستحيل بالذات كالاتيان بالله والملائكة قبيلا، ولم يرضوا بهذا المقدار ولم يقنعوا به دون ان جعلوه هو المسؤل المتصدي لذلك المجيب لما سألوه فلم يقولوا لن نؤمن لك حتى تسأل ربك ان يفعل كذا وكذا بل قالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر " الخ " أو تكون لك الخ " أو تسقط السماء " الخ " أو تأتي بالله " الخ " أو يكون لك " الخ " أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ". فإن أرادوا منه ذلك بما أنه بشر فأين البشر من هذه القدرة المطلقة غير المتناهية المحيطة حتى بالمحال الذاتي، وإن أرادوا منه ذلك بما أنه يدعى الرسالة فالرسالة لا
تقتضي إلا حمل ما حمله الله من أمره وبعثه لتبليغه بالانذار والتبشير لا تفويض القدرة الغيبية إليه وإقداره أن يخلق كل ما يريد، ويوجد كل ما شاؤا، وهو صلى الله عليه وآله وسلم لا يدعي لنفسه ذلك فاقتراحهم ما اقترحوه مع ظهور الامر من عجيب الاقتراح. ولذلك أمره صلى الله عليه واله وسلم أن يبادر في جوابهم أولا إلى تنزيه ربه مما يلوح إليه اقتراحهم هذا من المجازفة وتفويض القدرة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يبعد أن يستفاد منه التعجب فالمقام صالح لذلك. وثانيا: " إلى الجواب قوله في صورة الاستفهام: " هل كنت إلا بشرا رسولا وهو يؤيد كون قوله: " سبحان ربي " واقعا موقع التعجب أي إن كنتم اقترحتم على هذه الامور وطلبتموها مني بما أنا محمد فإنما أنا بشر ولا قدره للبشر على شئ من هذه الامور، وإن كنتم اقترحتموها لاني رسول أدعي الرسالة فلا شأن للرسول إلا حمل الرسالة وتبليغها لا تقلد القدرة الغيبيه المطلقة. وقد ظهر بهذا البيان أن كلا من قوله: " بشرا " و " رسولا " دخيل في استقامة الجواب عن اقتراحهم أما قوله: " بشرا " فليرد به اقتراحهم عليه أن يأتي بهذه
[ 204 ]
الايات عن قدرته في نفسه وأما قوله: " رسولا " فليرد به اقتراح ايتائها عن قدرة مكتسبة من ربه. وذكر بعضهم ما محصله أن معتمد الكلام هو قوله: " رسولا " وقوله: " بشرا " توطئة له ردا لما أنكروه من جواز كون الرسول بشرا، ودلالة على أن من قبله من الرسل كانوا كذلك، والمعنى على هذا هل كنت الا بشرا رسولا كسائر الرسل وكانوا لا يأتون الا بما أجراه على أيديهم من غير أن يفوض إليهم أو يتحكموا على ربهم بشئ. قال: وجعل " بشرا " و " رسولا " كليهما معتمدين مخالف لما يظهر من الاثار أولا فإن الذي ورد في الاثار أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسال ربه أن يفعل كذا وكذا، ولم يسألوه أن يأتيهم بشئ من قبل نفسه حتى يشار إلى رده بإثبات بشريته، ومستلزم لكون رسولا خبرا بعد خبر وكونهما خبرين لكان يأباه الذوق السليم. انتهى محصلا.
وفيه أولا: أن أخذ قوله: " بشرا " ردا على زعمهم عدم جواز كون الرسول بشرا مع عدم اشتمال الايات على مزعمتهم هذه لا تصريحا ولا تلويحا تحميل من غير دليل. وثانيا: " أن الذي ذكره في معنى الاية " هل كنت الا بشرا رسولا كسائر الرسل وكانوا لا يأتون إلا كذا وكذا معتمد الكلام فيه هو التشبيه الذى في قوله: " كسائر الرسل " لا قوله " رسولا " وفي حذف معتمد الكلام إفساد السياق فافهم ذلك. وثالثا: أن اشتمال الاثار على أنهم انما سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسأل ربه الاتيان بتلك الايات من غير أن يسألوه نفسه أن يأتي بها، لا يعارض نص الكتاب بخلافه، والذى حكاه الله عنهم أنهم قالوا: لن نؤمن لك حتي تفجر لنا " الخ " فتفجر الانهار " الخ " أو تسقط السماء " الخ " وهذا من عجيب المغالاة في حق الاثار وتحكيمها على كتاب الله وتقديمها عليه حتى في صورة المخالفة. ورابعا: أن اباء الذوق السليم عن تجويز كون " رسولا " خبرا بعد خبر لا يظهر له وجه. قوله تعالى: " وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جائهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا "
[ 205 ]
الاستفهام في قوله: " أبعث الله بشرا رسولا " للانكار، وجملة " قالوا أبعث الله " الخ " حكاية حالهم بحسب الاعتقاد وان لم يتكلموا بهذه الكلمة بعينها. وانكار النبوة والرسالة مع اثبات الاله من عقائد الوثنية وهذه قرينة على أن المراد بالناس الوثنيون والمراد بالايمان الذي منعوه هو الايمان بالرسول. فمعنى الاية وما منع الوثنيين - وكانت قريش وعامة العرب يومئذ منهم - أن يؤمنوا بالرسالة أو - برسالتك - إلا إنكارهم لرسالة البشر، ولذلك كانوا يردون على رسلهم دعوتهم - كما حكاه الله - بمثل قولهم: " لو شاء ربنا لانزل ملائكة فإنا بما ارسلتم به كافرون: حم السجدة: 14.
قوله تعالى: " قل لو كان في الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا " أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرد عليهم قولهم وإنكارهم لرسالة البشر ونزول الوحي بأن العناية الالهية قد تعلقت بهداية أهل الارض ولا يكون ذلك إلا بوحي سماوي لا من عند أنفسهم فالبشر القاطنون في الارض لا غنى لهم عن وحي سماوي بنزول ملك رسول إليهم ويختص بذلك نبيهم. وهذه خاصة الحياة الارضية والعيشة المادية المفتقرة إلى هداية إلهية لا سبيل إليها إلا بنزول الوحي من السماء حتى لو أن طائفة من الملائكة سكنوا الارض وأخذوا يعيشون عيشة أرضية مادية لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا كما ننزل على البشر ملكا رسولا. والعناية في الاية الكريمة. كما ترى - متعلقة بجهتين إحداهما كون الحيأه أرضية مادية والاخرى كون الهداية الواجبة بالعناية الالهية بوحي نازل من السماء برسالة ملك من الملائكة. والامر على ذلك، فهاتان الجهتان أعني كون حياة النوع أرضية مادية ووجوب هدايتهم بواسطة سماوية وملك علوي هما المقدمتان الاصليتان في البرهان على وجود الرسالة ولزومها. وأما ما أصر عليه المفسرون من تقييد معنى الاية بوجوب كون الرسول من جنس
[ 206 ]
المرسل إليهم ومن أنفسهم كالانسان للانسان والملك للملك فليس بتلك الاهمية ولذلك لم يصرح به في الاية الكريمة. وذلك أن كون الرسول إلى البشر وهو الذى يعلمهم ويربيهم من أنفسهم من لوازم كون حياتهم أرضية وكون الوحي النازل عليهم بواسطة الملك السماوي فإن اختلاف أفراد النوع المادية بالسعادة والشقاء والكمال والنقص وطهارة الباطن وقذارته ضروري
والملك الملقي للوحي وما تحمله منه طاهر زكي لا يمسه الا المطهرون، فالملك النازل بالوحي وان نزل على النوع لكن لا يمسه الا آحاد منهم مطهرون من قذارات المادة وألواثها مقدسون من مس الشيطان وهم الرسل صلى الله عليه وآله وسلم. وتوضيح المقام: أن مقتضى العناية الالهية هداية كل نوع من أنواع الخليقة إلى كماله وسعادته، والانسان الذي هو أحد هذه الانواع غير مستثنى من هذه الكلية، ولا تتم سعادته في الحياة إلا بأن يعيش عيشة اجتماعية تحكم فيها قوانين وسنن تضمن سعادة حياته في الدنيا وبعدها وترفع الاختلافات الضرورية الناشئة بين الافراد، وإذ كانت حياته حياة شعورية فلا بد أن يجهز بما يتلقى به هذه القوانين والسنن ولا يكفي في ذلك ما جهز به من العقل المميز بين خيره وشره فإن العقل بعينه يهديه إلى الاختلاف فلا بد أن يجهز بشعور آخر يتلقى به ما يفيضه الله من المعارف والقوانين الرافعة للاختلاف الضامنة لسعادته وكماله وهو شعور الوحي والانسان المتلبس به هو النبي. وهذا برهان عقلي تام مأخوذ من كلامه وقد أوردناه وفصلنا القول فيه في مباحث النبوة من الجزء الثاني وفي ضمن قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب. وأما الاية التي نحن فيها أعني قوله: " قل لو كان في الارض ملائكة " الخ فإنها تزيد على مر من معنى البرهان بشئ وهو أن القاء الوحي إلى البشر يجب أن يكون بنزول ملك من السماء إليهم. وذلك أن محصل مضمون الاية وما قبلها هو أن الذي يمنع الناس أن يؤمنوا برسالتك أنهم يحيلون رسالة البشر من جانب الله سبحانه. وقد أخطئوا في ذلك
[ 207 ]
فإن مقتضى الحياة الارضية وعناية الله بهداية عبادة إن ينزل إلى بعضهم ملكا من السماء رسولا حتى أن الملائكة لو كانوا كالانسان عائشين في الارض لنزل الله إلى بعضهم وهو رسولهم ملكا من السماء رسولا حاملا لوحيه.
وهذا كما ترى يعطي أولا: معنى الرسالة البشرية وهو أن الرسول انسان ينزل عليه ملك من السماء بدين الله ثم هو يبلغه الناس بأمر الله. ويشير ثانيا: إلى برهان الرسالة أن حياة الانسان الارضية والعناية الربانية متعلقة بهداية عباده وإيصالهم إلى غاياتهم لا غنى لها عن نزول دين سماوي عليهم، والملائكة وسائط نزول البركات السماوية إلى الارض فلا محالة ينزل الدين على الناس بوساطة الملك وهو رسالته، والذي يشاهده ويتلقى ما ينزل به - ولا يكون إلا بعض الناس لا جميعهم لحاجته إلى طهارة باطنية وروح من أمر الله - هو الرسول البشرى. وكان المترقب من السياق أن يقال: " لبعث الله فيهم ملكا رسولا " بحذاء قولهم المحكي في الاية السابقة: " أبعث الله بشرا رسولا " لكنه عدل إلى مثل قوله: لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا " ليكون أولا أحسم للشبهة وأقطع للتوهم فإن عامة الوثنيين من البرهمانية والبوذية والصابئة كما يشهد به ما في كتبهم المقدسة لا يتحاشون ذاك التحاشي عن النبوة بمعنى انبعاث بشر كامل لتكميل الناس ويعبرون عنه بظهور المنجي أو المصلح ونزول الاله إلى الارض وظهوره على أهلها في صورة موجود أرضي وكان بوذه ويوذاسف - على ما يقال - منهم والمعبود عندهم على أي حال هو الملك أو الجن أو الانسان المستغرق فيه دون الله سبحانه. وإنما يمتنعون كل الامتناع عن رسالة الملك وهو من الالهة المعبودين عندهم إلى البشر بدين يعبد فيه الله وحده وهو اله غير معبود عندهم ففي التصريح برسالة الملك السماوي إلى البشر الارضي من عند الله النص على كمال المخالفة لهم. وليكون ثانيا اشارة إلى أن رسالة الملك بالحقيقة إلى عامة الانسان غير أن الذى يصلح لتلقى الوحى منه هو الرسول منهم، وأما غيره فهم محرومون عن ذلك لعدم استعدادهم لذلك فالفيض عام وان كان المستفيض خاصا قال تعالى: " وما كان عطاء ربك محظورا " أسرى: 20 وقال: قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما اوتى
[ 208 ]
رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته " الانعام: 124. والاية بما تعطي من معنى الرسالة يؤيد ما ورد عن أئمه أهل البيت عليه السلام في الفرق بين الرسول والنبى أن الرسول هو الذى يرى الملك ويسمع منه، والنبى يرى المنام ولا يعاين، وقد أوردنا بعض هذه الاخبار في خلال ابحاث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب. ومن ألطف التعبير في الاية وأوجزه تعبيره عن الحياة الارضية بقوله " في الارض ملائكه يمشون مطمئنين " فإن الانتقال المكاني على الارض مع الوقوع تحت الجاذبة الارضية من أوضح خواص الحياة المادية الارضية. قوله تعالى: " قل كفى بالله شهيدا بينى وبينكم انه كان بعباده خبيرا بصيرا لما احتج عليهم بما احتج وبين لهم ما بين في أمر معجزة رسالته وهي القرآن الذي تحدى به وهم على عنادهم وجحودهم وعنتهم لا يعتنون به ويقترحون عليه بامور جزافية اخرى ولا يحترمون لحق ولا ينقطعون عن باطل أمر أن يرجع الامر إلى شهادة الله فهو شهيد بما وقع منه ومنهم فقد بلغ ما ارسل به ودعا واحتج وأعذر وقد سمعوا وتمت عليهم الحجة واستكبروا وعتوا فالكلام في معنى اعلام قطع المحاجة وترك المخاصمة ورد الامر إلى مالك الامر فليقض ما هو قاض. وقيل المراد بالاية الاستشهاد بالله سبحانه على حقية الدعوة وصحة الرسالة كأنه يقول: كفانى حجة أن الله شهيد على رسالتي فهذا كلامه يصرح بذلك فإن قلتم: ليس بكلامه بل مما افتريته فأتوا بمثله ولن تأتوا بمثله ولو كان الثقلان أعوانا لكم وأعضادا يمدونكم. وهذا في نفسه جيد غير أن ذيل الاية كما قيل لا يلائمه أعني قوله: " بينى وبينكم " وقوله: " إنه كان بعباده خبيرا بصيرا " بل كان الاقرب أن يقال شهيدا لي عليكم
أو على رسالتي أو نحو ذلك. وهذه الاية والايتان قبلها مسجعة بقوله: " رسولا " وهو المورد الوحيد في القرآن الذي اتفقت فيه ثلاث آيات متوالية في سجع واحد على ما نذكر.
[ 209 ]
قوله تعالى: " ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه " الخ هو - على ما يشعر به السياق - من تتمة الخطاب الاخير للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: " قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم " فهو كناية عن أنه تمت عليهم الحجة وحقت عليهم الضلالة فلا مطمع في هدايتهم. ومحصل المعنى: خاطبهم باعلام قطع المحاجة فإن الهداية لله تعالى لا يشاركه فيها أحد فمن هداه فهو المهتدي لا غير ومن أضله ولم يهده فلن تجد يا محمد له أولياء من دونه يهدونه والله لا يهدي هؤلاء فانقطع عنهم ولا تكلف نفسك في دعوتهم رجاء أن يؤمنوا. ومن هنا يظهر أن قول بعضهم: أن الاية كلام مبتدء غير داخل في حيز " قل " في غير محله. وإنما أتى بأولياء بصيغة الجمع مع كون المفرد أبلغ وأشمل إشارة إلى أنه لو كان له ولي من دون الله لكان ذلك إما آلهتهم وهي كثيرة واما سائر الاسباب الكونية وهي أيضا كثيرة. وفي قوله: " ومن يهد الله فهو المهتد " الخ التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة فقد كان السياق سياق التكلم بالغير ولعل الوجه فيه أنه لو قيل: ومن نهد ومن نضلل على التكلم بالغير أو هم تشريك الملائكة في أمر الهداية والاضلال فأوهم التناقض في قوله: " فلن تجد له أولياء من دونه " فإن الاولياء عندهم الملائكة وهم يتخذونهم آلهة ويعبدونهم. قوله: " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم " إلى آخر الايتين العمي والبكم والصم جمع أعمى وأبكم وأصم وخبو النار وخبوها سكون لهبها، والسعير لهب النار، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: " أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والارض قادر على أن يخلق مثلهم إلى آخر الاية، الكفور الجحود احتجاج منه تعالى على البعث بعد الموت فقد كان قولهم " ءاذا كنا عظاما ورفاتا ءإنا لمبعوثون خلقا جديدا استبعادا مبنيا على إحالة أن يعود هذا البدن الدنيوي بعد تلاشيه وصيرورته عظاما ورفاتا إلى ما كان
[ 210 ]
عليه بخلق جديد فاحتج عليهم بأن خلق البدن أولا يثبت القدرة عليه وعلى مثله الذي هو الخلق الجديد للبعث فحكم الامثال واحد. فالمماثلة إنما هي من جهة مقايسة البدن الجديد من البدن الاول مع قطع النظر عن النفس التي هي الحافظة لوحدة الانسان وشخصيته ولا ينافي ذلك كون الانسان الاخروي عين الانسان الدنيوي لا مثله لان ملاك الوحدة والشخصية هي النفس الانسانية وهي محفوظة عند الله سبحانه غير باطلة ولا معدومة، وإذا تعلقت بالبدن المخلوق جديدا كان هو الانسان الدنيوي كما أن الانسان في الدنيا واحد شخصي باق على وحدته الشخصية مع تغير البدن بجميع أجزائه حينا بعد حين. والدليل على أن النفس التي هي حقيقة الانسان محفوظة عند الله مع تفرق أجزاء البدن وفساد صورته قوله تعالى: " وقالوا ءإذا ضللنا في الارض ءإنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم " الم السجدة: 11 حيث استشكلوا في المعاد بأنه تجديد للخلق بعد فناء الانسان بتفرق أجزاء بدنه فاجيب عنه بأن ملك الموت يتوفى الانسان ويأخذه تاما كاملا فلا يضل ولا يتلاشى وإنما الضال بدنه ولا ضير في ذلك فإن الله يجدده. والدليل على أن الانسان المبعوث هو عين الانسان الدنيوي لا مثله جميع آيات القيامة الدالة على رجوع الانسان إليه تعالى وبعثه وسؤاله وحسابه ومجازاته بما عمل. فهذا كله يشهد على أن المراد بالمماثلة ما ذكرناه، وإنما تعرض لامر البدن حتى ينجر
إلى ذكر المماثلة محاذاة لمتن ما استشكلوا به من قولهم: " ءإذا كنا عظاما ورفاتا ءإنا لمبعوثون خلقا جديدا " فلم يضمنوا قولهم إلا شؤون البدن لا النفس المتوفاة منه، وإذا قطع النظر عن النفس كان البدن مماثلا للبدن، وإن كان مع اعتبارها عينا. وذكر بعضهم: أن المراد بمثلهم نفسهم فهو من قبيل قولهم مثلك لا يفعل هذا أي أنت لا تفعله. وللمناقشة إليه سبيل والظاهر أن العناية في هذا التركيب أن مثلك لاشتماله على مثل ما فيك من الصفة لا يفعل هذا فأنت لا تفعله لمكان صفتك ففيه نفي الفعل بنفي سببه على سبيل الكناية، وهو آكد من قولنا: أنت لا تفعله. وقوله: " وجعل لهم أجلا لا ريب فيه الظاهر أن المراد بالاجل هو زمان الموت
[ 211 ]
فإن الاجل إما مجموع مدة الحياة الدنيا وهي محدودة بالموت وإما آخر زمان الحياة ويقارنه الموت وكيف كان فالتذكير بالموت الذي لا ريب فيه ليعتبروا به ويكفوا عن الجرأة على الله وتكذيب آياته فهو قادر على بعثهم والانتقام منهم بما صنعوا. فقوله: " وجعل لهم أجلا لا ريب فيه " ناظر إلى قوله في صدر الاية السابقة: " ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا فهو نظير قوله: " والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يشعرون - إلى أن قال أو لم ينظروا في ملكوت السموات والارض - إلى أن قال - وان عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون " الاعراف: 185. وجوز بعضهم أن يكون المراد بالاجل هو يوم القيامة وهو لا يلائم السياق فإن سابق الكلام يحكي إنكارهم للبعث ثم يحتج عليهم بالقدرة فلا يناسبه أخذ البعث مسلما لا ريب فيه. ونظيره تقرير بعضهم قوله: " وجعل لهم أجلا لا ريب فيه " حجة أخرى مسوقة لاثبات يوم القيامة على كل من تقديري كون المراد بالاجل هو يوم الموت أو يوم القيامة وهو تكلف لا يعود إلى جدوى البتة فلا موجب للاشتغال به. قوله تعالى: " قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لامسكتم خشية الانفاق وكان الانسان قتورا " فسر القتور بالبخيل المبالغ في الامساك وقال في المجمع: القتر
التضييق والقتور فعول منه للمبالغة ويقال: قتر يقتر وتقتر وأقتر وقتر إذا قدر في النفقة. انتهى. وهذا توبيخ لهم على منعهم رسالة البشر المنقول عنهم سابقا بقوله: " وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله ملكا رسولا " ومعنى الاية ظاهر. بحث روائي في تفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنما الشفاء في علم
[ 212 ]
القرآن لقوله: " ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين الحديث. وفي الكافي بإسناده عن سفيان بن عيينة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال: النية أفضل من العمل إلا وإن النية هي العمل ثم قرء قوله عزوجل: " قل كل يعمل على شاكلته " يعنى على نيته. أقول: وقوله: إن النية هي العمل يشير إلى اتحادهما اتحاد العنوان ومعنونه. وفيه بإسناده عن أبي هاشم قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إنما خلد أهل النار في النار لان نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا، وإنما خلد أهل الجنة في الجنة لان نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء. ثم تلا قوله تعالى: " قل كل يعمل على شاكلته قال: على نيته. اقول: إشارة إلى رسوخ الملكات بحيث يبطل في النفس استعداد ما يقابلها وروي الرواية العياشي أيضا في تفسيره عن أبى هاشم عنه عليه السلام. وفي الدر المنثور ": في قوله تعالى: " يسألونك عن الروح " الاية أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن المنذر وابن حبان وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن ابن عباس قال: قالت
قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل فقالوا: سلوه عن الروح فسألوه فنزلت: " يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما اوتيتم من العلم إلا قليلا " قالوا: أوتينا علما كثيرا اوتينا التوراة ومن اوتي التوراة فقد اوتي خيرا كثيرا فأنزل الله: " قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى ولو جئنا بمثله مددا ". اقول: وروى بطرق أخرى عن عبد الله بن مسعود وعن عبد الرحمان بن عبد الله ابن ام الحكم أن السؤال إنما كان من اليهود بالمدينة وبها نزلت الاية وكون السورة مكية واتحاد سياق آياتها لا يلائم ذلك. وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن الانباري في كتاب الاضداد وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الاسماء والصفات عن علي بن أبي طالب في قوله:
[ 213 ]
" ويسألونك عن الروح " قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه منها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها يخلق الله تعالى من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة اقول: كون الروح من الملائكة لا يوافق ظاهر عدة من آيات الكتاب كقوله: " ينزل الملائكة بالروح من أمره " النحل: وغيره من الايات، وقد تقدم في ذيل قوله تعالى: " ينزل الملائكة بالروح من أمره " من سورة النحل حديث على عليه السلام وفيه إنكاره أن يكون الروح ملكا واحتجاجه على ذلك بالاية فالعبرة في أمر الروح بما يأتي. وفي الكافي بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل: يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى " قال: خلق أعظم من جبرائيل وميكائيل كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مع الائمة وهو من الملكوت. اقول: وفي معناه روايات أخر، والرواية توافق ما تقدم توضيحه من مدلول الايات. وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران عن أبى جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام عن قوله " يسألونك عن الروح قال: إن الله تبارك وتعالى أحد صمد والصمد الشئ
الذى ليس له جوف فإنما الروح خلق من خلقه له بصر وقوة وتأييد يجعله في قلوب الرسل والمؤمنين. اقول: وإنما تعرض في صدر الرواية بما تعرض دفعا لما يتوهم من مثل قوله تعالى: " ونفخت فيه من روحي " أن هناك جوفا ونفسا منفوخا. وفيه عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته عن قوله: " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي " ما الروح ؟ قال: التي في الدواب والناس قلت: وما هي ؟ قال: من الملكوت من القدرة. أقول: وهذه الروايات تؤيد ما تقدم في بيان الاية أن الروح المسؤول عنه حقيقة وسيعة ذات مراتب مختلفة، وأيضا ظاهر هذه الرواية كون الروح الحيواني مجردا من الملكوت.
[ 214 ]
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وإبن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ورجلا من بنى عبد الدار وأبا البحترى أخا بني أسد والاسود بن المطلب وربيعة بن الاسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي امية وامية بن خلف والعاص بن وائل ونبيها ومنبها ابني الحجاج السهميين أجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه. فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سريعا وهو يظن أنهم قد بدا لهم في أمره بدء، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم. فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذرك وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الابآء، وعبت الدين، وسفهت الاحلام وشتمت الالهة وفرقت الجماعة فما بقي من قبيح الا وقد جئت فيما بيننا وبينك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من اموالنا حتى تكون اكثرنا
مالا، وإن كنت تطلب الشرف فينا سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي - فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه ونعذر فيك فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا فيئكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا. وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فان تقبلوا منى ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والاخرة وان تردوه علي أصبر لامر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم. فقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا ولا أقل مالا ولا أشد عيشا منا فأسأل ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من قد مضى من آبائنا وليكن فيمن
[ 215 ]
يبعث لنا منهم قصى بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل ؟ فإن صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله وأنه بعثك رسولا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به فقد بلغتكم ما ارسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والاخرة، وإن تردوه على أصبر لامر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم. قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا فخر لنفسك فاسأل ربك أن يبعث ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وتسأله أن يجعل لك جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة
ويغنيك بها عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالاسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت اليكم بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والاخرة وان تردوه علي أصبر لامر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم. قالوا: فاسقط السماء كما زعمت أن ربك ان شاء فعل فإنا لن نؤمن لك الا أن تفعل فقال رسول الله ذلك إلى الله ان شاء فعل بكم ذلك. قالوا: يا محمد قد علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب فيتقدم اليك ويعلمك ما تراجعنا به ويخبرك بما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمان وإنا والله لن نؤمن بالرحمان أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمد أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا، وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا. فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهم وقام معهم عبد الله بن أبي امية فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لانفسهم امورا ليعرفوا بها منزلتك عند الله فلم تفعل ذلك ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب فو الله ما
[ 216 ]
اؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتى معك بنسخة منشورة معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لا اصدقك. ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهله حزينا أسفا لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه ولما رآى من متابعتهم إياه وأنزل عليه فيما
قال له عبد الله بن أبي أميه: " وقالوا لن نؤمن لك - إلى قوله - بشرا رسولا الحديث. أقول: وألذي ذكر في الروايي من محاورتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسؤالاتهم لا ينطبق على ظاهر الايات ولا ما فيها من الجواب على ظاهر ما فيها من الجواب. وقد تقدمت الاشارة إلى ذلك في بيان الايات. وقد تكررت الرواية من طرق الشيعة وأهل السنة أن الذي القى إليه صلى الله عليه وآله وسلم القول من بين القوم وسأله هذه المسائل هو عبد الله بن أبي أمية المخزومى أخو ام سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفى الدر المنثور: في قوله تعالى: " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم " أخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وأبو نعيم في المعرفة وابن مردويه والبيهقي في الاسماء والصفات عن انس قال: قيل: يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم ؟ قال: الذى أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيه على وجوههم أقول: وفي معناه روايات أخر. * * * ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فسئل بني اسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لا ظنك يا موسى مسحورا (101).
[ 217 ]
قال لقد علمت ما أنزل هولاء إلا رب السموات والارض بصائر وإنى لا ظنك يا فرعون مثبورا (102). فأراد أن يستفزهم من الارض فأغرقناه ومن معه جميعا (103). وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الارض فإذا جاء وعد الاخرة جئنا بكم لفيفا (104). وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك الا مبشرا ونذيرا (105). وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا (106). قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للاذقان سجدا (107). ويقولون سبحان
ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا (108). ويخرون للاذقان يبكون ويزيدهم خشوعا (109). قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الاسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا (110). وقل الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا (111). بيان في الايات تنظير ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من معجزة النبوة وهو القرآن وإعراض المشركين عنه واقتراحهم آيات اخرى جزافيه بما جاء به موسى عليه السلام من آيات النبوة وإعراض فرعون عنها ورميه إياه بأنه مسحور ثم عود إلى وصف القرآن والسبب في نزوله مفرقة أجزاؤه وما يلحق بها من المعارف.
[ 218 ]
قوله تعالى: " ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فسئل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إنى لا ظنك يا موسى مسحورا " الذي اوتي موسى عليه السلام من الايات على ما يقصه القرآن أكثر من تسع غير أن الايات التى أتى بها لدعوة فرعون فيما يذكره القرآن تسع وهي: العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفدع والدم والسنون ونقص من الثمرات فالظاهر أنها هي المرادة بالايات التسع المذكورة في الاية وخاصة مع ما فيها من محكى قول موسى لفرعون: " لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والارض بصائر " وأما غير هذه الايات كالبحر والحجر وإحياء المقتول بالبقرة وإحياء من أخذته الصاعقة من قومه ونتق الجبل فوقهم وغير ذلك فهي خارجة عن هذه التسع المذكورة في الاية. ولا ينافي ذلك كون الايات إنما ظهرت تدريجا فإن هذه المحاورة مستخرجة من مجموع ما تخاصم به موسى وفرعون طول دعوته.
فلا عبرة بما ذكره بعض المفسرين مخالفا لما عددناه لعدم شاهد عليه وفي التوراة أن التسع هي العصا والدم والضفادع والقمل وموت البهائم وبرد كنار أنزل مع نار مضطرمة أهلكت ما مرت به من نبات وحيوان والجراد والظلمة وموت عم كبار الادميين وجميع الحيوانات. ولعل مخالفة التوراة لظاهر القرآن في الايات التسع هي الموجبة لترك تفصيل الايات التسع في الاية ليستقيم الامر بالسؤال من اليهود لانهم مع صريح المخالفة لم يكونوا ليصدقوا القرآن بل كانوا يبادرون إلى التكذيب قبل التصديق. وقوله: " إنى لا ظنك يا موسى مسحورا " أي سحرت فاختل عقلك وهذا في معنى قوله المنقول في موضع آخر: " إن رسولكم الذى أرسل إليكم لمجنون " الشعراء: 27 وقيل المراد بالمسحور الساحر نظير الميمون والمشؤم بمعنى اليامن والشائم وأصله استعمال وزن الفاعل في النسبة ومعنى الاية ظاهر. قوله تعالى: " قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والارض بصائر وإني لا ظنك يا فرعون مثبورا " المثبور الهالك وهو من الثبور بمعنى الهلاك والمعنى قال موسى مخاطبا لفرعون: لقد علمت يا فرعون ما أنزل هؤلاء الايات البينات إلا رب
[ 219 ]
السموات والارض أنزلها بصائر يتبصر بها لتمييز الحق من الباطل وإني لا ظنك يا فرعون هالكا بالاخرة لعنادك وجحودك. وإنما أخذ الظن دون اليقين لان الحكم لله وليوافق ما في كلام فرعون: " وإنى لاظنك يا موسى " الخ ومن الظن ما يستعمل في مورد اليقين. قوله تعالى: " فأراد أن يستفزهم من الارض فأغرقناه ومن معه جميعا " الاستفزاز الازعاج والاخراج بعنف، ومعنى الاية ظاهر. قوله تعالى وقلنا من بعده لبنى اسرائيل اسكنوا الارض فإذا جاء وعد الاخرة جئنا بكم لفيفا " المراد بالارض التي أمروا أن يسكنوها هي الارض المقدسة التي كتبها الله لهم بشهادة قوله: ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم " المائدة: 21، وغير ذلك كما أن المراد بالارض في الاية السابقة مطلق الارض أو أرض مصر بشهادة السياق. وقوله: " فإذا جاء وعد الاخرة أي وعد الكرة الاخرة أو الحياة الاخرة
والمراد به على ما ذكره المفسرون يوم القيامة، وقوله: " جئنا بكم لفيفا " أي مجموعا ملفوفا بعضكم ببعض. والمعنى: وقلنا من بعد غرق فرعون لبني إسرائيل اسكنوا الارض المقدسة - وكان فرعون يريد أن يستفزهم من الارض - فإذا كان يوم القيامة جئنا بكم ملتفين مجتمعين للحساب وفصل القضاء. وليس ببعيد أن يكون المراد بوعد الاخرة ما ذكره الله سبحانه في أول السورة فيما قضى إلى بنى إسرائيل بقوله: فإذا جاء وعد الاخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا " وإان لم يذكره جمهور المفسرين فينعطف بذلك ذيل الكلام في السورة إلى صدره، ويكون المراد أنا أمرناهم بعد غرق فرعون ان اسكنوا الارض المقدسة التي كان يمنعكم منها فرعون والبثوا فيها حتى إذا جاء وعد الاخرة التى يلتف بكم فيها البلاء بالقتل والاسر والجلاء جمعناكم منها وجئنابكم لفيفا، وذلك أسارتهم وإجلاؤهم إلى بابل.
[ 220 ]
ويتضح على هذا الوجه نكتة تفرع قوله: " فإذا جاء وعد الاخرة " الخ على قوله: " وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الارض " على خلاف الوجه السابق الذي لا يترتب فيه على التفريع نكتة ظاهرة. قوله تعالى: " وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا " لما فرغ من التنظير رجع إلى ما كان عليه من بيان حال القرآن وذكر أوصافه فذكر أنه أنزله انزالا مصاحبا للحق وقد نزل هو من عنده نزولا مصاحبا للحق فهو مصون من الباطل من جهة من أنزله فليس من لغو القول وهذره ولا داخله شئ يمكن أن يفسده يوما ولا شاركه فيه أحد حتى ينسخه في وقت من الاوقات وليس النبي صلى الله عليه وآله وسلم الا رسولا منه تعالى يبشر به وينذر وليس له أن يتصرف فيه بزيادة أو نقيصة أو يتركه كلا أو بعضا باقتراح من الناس أو هوى من نفسه أو يعرض عنه فيسأل الله آية أخرى فيها هواه أو هوى الناس أو يداهنهم فيه أو يسامحهم في شئ من معارفه وأحكامه كل ذلك لانه
حق صادر عن مصدر حق، وماذا بعد الحق الا الضلال. فقوله: " وما أرسلناك " الخ متمم للكلام السابق، ومحصله أن القرآن آية حقة ليس لاحد أن يتصرف فيه شيئا من التصرف والنبي وغيره في ذلك سواء. قوله تعالى: وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا " معطوف على ما قبله أي أنزلناه بالحق وفرقناه قرآنا، قال في المجمع: معنى فرقناه فصلناه ونزلناه آية آية وسورة سورة ويدل عليه قوله: " على مكث " والمكث - بضم الميم - والمكث - بفتحها - لغتان. انتهى. فاللفظ بحسب نفسه يعم نزول المعارف القرآنية التي هي عند الله في قالب الالفاظ والعبارات التي لا تتلقى الا بالتدريج ولا تتعاطى الا بالمكث والتؤدة ليسهل على الناس تعقله وحفظه على حد قوله " انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وانه في أم الكتاب لدينا لعلى حكيم " الزخرف: 4. ونزول الايات القرآنية نجوما مفرقة سورة سورة وآية آية بحسب بلوغ الناس فة استعداد تلقي المعارف الاصلية للاعتقاد والاحكام الفرعية للعمل واقتضاء المصالح ذلك ليقارن العلم العمل ولا يجمح عنه طباع الناس بأخذ معارفه وأحكامه واحدا بعد
[ 221 ]
واحد كما لو نزل دفعة وقد نزلت التوراة دفعة فلم يتلقها اليهود بالقبول الا بعد نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة. لكن الاوفق بسياق الايات السابقة وفيها مثل قولهم المحكي: " حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه " الظاهر في اقتراح نزول القرآن دفعة هو أن يكون المراد بتفريق القرآن انزاله سورة سورة وآية آية حسب تحقق أسباب النزول تدريجا وقد تكرر من الناس اقتراح أن ينزل القرآن جملة واحدة كما في: " وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة " الفرقان " 32، وقوله حكاية عن أهل الكتاب: " يسألك
أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء " النساء: 153. ويؤيده تذييل الاية بقوله: " ونزلناه تنزيلا " فإن التنزيل وهو انزال الشئ تدريجا أمس بالاعتبار الثاني منه بالاول. ومع ذلك فالاعتبار الثاني وهو تفصيل القرآن وتفريقه بحسب النزول بانزال بعضه بعد بعض من دون أن ينزل جملة واحدة يستلزم الاعتبار الاول وهو تفصيله وتفريقه إلى معارف وأحكام متبوعة مختلفه بعدما كان الجميع مندمجة في حقيقة واحده منطوية مجتمعة الاعراق في أصل واحد فارد. ولذلك فصل الله سبحانه كتابه سورا وآيات بعدما البسه لباس اللفظ العربي ليسهل على الناس فهمه كما قال: " لعلكم تعقلون " ثم نوعها انواعا ورتبها ترتيبا فنزلها واحدة بعد واحدة عند قيام الحاجة إلى ذلك وعلى حسب حصول استعدادات الناس المختلفة وتمام قابليتهم بكل واحد منها وذلك في تمام ثلاث وعشرين سنة ليشفع التعليم بالتربية ويقرن العلم بالعمل. وسنعود إلى البحث عن بعض ما يتعلق بالاية والسورة في كلام مستقل ان شاء الله تعالى. قوله تعالى: " قل آمنوا به أو لا تؤمنوا " إلى آخر الايات الثلاث، المراد بالذين اوتوا العلم من قبله هم الذين تحققوا بالعلم بالله وآياته من قبل نزول القرآن سواء كانوا من اليهود أو النصارى أو غيرهم فلا موجب للتخصيص اللهم الا ان يقال: ان السياق
[ 222 ]
يفيد كون هؤلاء من اهل الحق والدين غير المنسوخ يومئذ هو دين المسيح عليه السلام فهم أهل الحق من علماء النصرانية الذين لم يزيغوا ولم يبدلوا. وعلى أي حال المراد من كونهم اوتوا العلم من قبله أنهم استعدوا لفهم كلمه الحق وقبولها لتجهزهم بالعلم بحقيقة معناه وايراثه اياهم وصف الخشوع فيزيدهم القرآن المتلو عليهم خشوعا.
وقوله: " يخرون للاذقان سجدا الاذقان جمع ذقن وهو مجمع اللحيين من الوجه، والخرور للاذقان السقوط على الارض على أذقانهم للسجدة كما يبينه قوله: " سجدا " وانما اعتبرت الاذقان لان الذقن أقرب أجزاء الوجه من الارض عند الخرور عليها للسجدة، وربما قيل: المراد بالاذقان الوجوه اطلاقا للجزء على الكل مجازا. وقوله: " ويقولون سبحان ربنا ان كان وعد ربنا لمفعولا: اي ينزهونه تعالى عن كل نقص وعن خلف الوعد خاصة ويعطي سياق الايات السابقة أن المراد بالوعد وعده سبحانه بالبعث وهذا في قبال اصرار المشركين على نفى البعث وانكار المعاد كما تكرر في الايات السابقة. وقوله: " ويخرون للاذقان يبكون ويزيدهم خشوعا " تكرار الخرور للاذقان واضافته إلى البكاء لافادة معنى الخضوع وهو التذلل الذى يكون بالبدن كما أن الجملة الثانية لافادة معنى الخشوع وهو التذلل الذي يكون بالقلب فمحصل الاية أنهم يخضعون ويخشعون. وفي الاية اثبات خاصة المؤمنين لهم وهي التى أشير إليها بقوله سابقا: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) كما أن في الاية نفي خاصة المشركين عنهم وهي انكار البعث. وفي هذه الايات الثلاث بيان أن القرآن في غنى عن إيمانهم لا لان إيمان الذين اوتوا العلم من قبله يرفع حاجة له إلى إيمان غيرهم بل لان إيمانهم به يكشف عن أنه كتاب حق أنزل بالحق لا حاجة له في حقيته ولا افتقار في كماله إلى إيمان مؤمن وتصديق مصدق فإن آمنوا به فلا نفسهم وإن كفروا به فعليها لا له ولا عليه.
[ 223 ]
فقد ذكر سبحانه إعراضهم عن القرآن وكفرهم به وعدم اعتنائهم بكونه آية واقتراحهم آيات اخرى ثم بين له من نعوت الكمال ودلائل الاعجاز في لفظه ومعناه وغزاره الاثر في النفوس وكيفية نزوله ما استبان به انه حق لا يعتريه بطلان ولا
فساد أصلا ثم بين في هذه الايات أنه في غنى عن إيمانهم فهم وما يختارونه من الايمان والكفر. قوله تعالى: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أياما تدعوا فله الاسماء الحسنى " لفظة أو للتسوبة ؟ ؟ والاباحه فالمراد بقوله " الله " و " الرحمان " الاسمان الدالان على المسمى دون المسمى، والمعنى ادعوا باسم الله أو باسم الرحمان فالدعاء. دعاؤه. وقوله: " أيا ما تدعوا شرط وما صلة للتأكيد نظير قوله: فبما رحمة من الله " آل عمران 159. وقوله: " عما قليل ليصبحن نادمين " المؤمنون 40 و " أيا " شرطية وهى مفعول " تدعوا ". وقوله: " فله الاسماء الحسنى " جواب الشرط، وهو من وضع السبب موضع المسبب والمعنى أي اسم من الاسمين تدعوه فهو اسم أحسن له لان الاسماء الحسنى كلها له فالاسماء الدالة على المسميات منها حسنة تدل على ما فيه حسن ومنها قبيحة بخلافها ولا سبيل للقبيح إليه تعالى، والاسماء الحسنة منها ما هو أحسن لاشوب نقص وقبح فيه كالغنى الذي لا فقر معه والحياة التي لاموت معها والعزة التي لا ذلة دونها ومنها ما هو حسن يغلب عليه الحسن من غير محوضة ولله سبحانه الاسماء الحسنى، وهي كل اسم هو أحسن الاسماء في معناه كما يدل عليه قول أئمه الدين: ان الله تعالى غني لا كالاغنياء حي لا كالاحياء، عزيز لا كالاعزة عليم لا كالعلماء وهكذا أي له من كل كمال صرفه ومحضه الذي لا يشوبه خلافه. والضمير في قوله: " أيا ما تدعوا فله الاسماء الحسنى " عائد إلى الذات المتعالية من كل اسم ورسم، وليس براجع إلى شئ من الاسمين الله والرحمان لان المراد بهما كما - تقدم - الاسمان دون الذات المتعالية التي هي مسماة بهما ولا معنى لان يقال: أيا من الاسمين تدعوا فان لذلك الاسم جميع الاسماء الحسنى أو باقي الاسماء الحسنى بل المعنى أيا من اسمائه تدعوا فلا مانع منه لانها جميعا اسماؤه لانها اسماء حسنى وله
[ 224 ]
الاسماء الحسنى فهى طرق دعوته ودعوتها دعوته فإنها اسماؤه والاسم مرآة المسمى وعنوانه فافهم ذلك. والاية من غرر الايات القرآنية تنير حقيقة ما يراه القرآن الكريم من توحيد الذات وتوحيد العبادة قبال ما يراه الوثنية من توحيد الذات وتشريك العبادة. فإن الوثنية - على ما تقدم جملة من آرائهم في الجزء العاشر من الكتاب ترى انه سبحانه ذات متعالية من كل حد ونعت ثم تعينت بأسماء اسما بعد اسم وتسمي ذلك تولدا، وترى الملائكة والجن مظاهر عالية لاسمائه فهم ابناؤه المتصرفون في الكون، وترى أن عبادة العابدين وتوجه المتوجهين لا يتعدى طور الاسماء ولا يتجاوز مرتبة الابناء الذين هم مظاهر اسمائه فإنا انما نعبد فيما نعبد الاله أو الخالق أو الرازق أو المحيي أو المميت إلى غير ذلك، وهذه كلها اسماء مظاهرها الابناء من الملائكة والجن: وأما الذات المتعالية فهي أرفع من أن يناله حس أو وهم أو عقل، وأعلى من أن يتعلق به توجه أو طلب أو عبادة أو نسك. فعندهم دعوة كل اسم هي عبادة ذلك الاسم أي الملك أو الجن الذي هو مظهر ذلك الاسم وهو الاله المعبود بتلك العبادة فيتكثر الالهة بتكثر أنواع الدعوات بأنواع الحاجات ولذلك لما سمع بعض المشركين دعاءه صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته: يا الله يا رحمان قال: انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهين. والايه الكريمة ترد عليهم ذلك وتكشف عن وجه الخطأ في رأيهم بأن هذه الاسماء أسماء حسنى له تعالى فهي مملوكة له محضا لا تستقل دونه بنعت ولا تنحاز عنه في ذات أو صفة تملكه وتقوم به فليس لها إلا الطريقيه المحضة، ويكون دعاؤها دعاءه والتوجه بها توجها إليه، وكيف يستقيم أن يحجب الاسم المسمى وليس إلا طريقا دالا عليه هاديا إليه ووجها له يتجلى به لغيره، فدعاء الاسماء الكثيرة لا ينافي توحيد عبادة
الذات كما يمتنع أن تقف العبادة على الاسم ولا يتعداه. ويتفرع على هذا البيان ظهور الخطأ في عد الاسماء أو مظاهرها من الملائكة والجن
[ 225 ]
أبناء له تعالى فان إطلاق الولد والابن سواء كان على وجه الحقيقة أو التشريف يقتضى نوع مسانخة واشتراك بين الولد الوالد - أو الابن والاب - في حقيقة الذات أو كمال من كمالاته وساحة كبريائه منزهة من أن يشاركه شئ غيره في ذات أو كمال فإن الذي له هو لنفسه، والذى لغيره هو له لا لانفسهم. وكذا ظهور الخطأ في نسبه التصرف في الكون بأنواعه إليهم فإن هؤلاء الملائكه وكذا الاسماء التي هم مظاهر لها عندهم لا يملكون لانفسهم شيئا ولا يستقلون دونه بشئ بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، وكذا الجن فيما يعملون وبالجملة ما من سبب من الاسباب الفعالة في الكون إلا وهو تعالى الذي ملكه القدرة على ما يعمله، وهو المالك لما ملكه والقادر على ما عليه أقدره. وهذا هو الذي تفيده الاية التالية " وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولى من الذل " وسنكرر الاشارة إليه إن شاء الله. وفي الاية دلالة على أن لفظة الجلالة من الاسماء الحسنى فهو في أصله - الاله - وصف يفيد معني المعبودية وإن عرضت عليه العلمية بكثرة الاستعمال كما يدل عليه صحة إجراء الصفات عليه يقال: الله الرحمن الرحيم ولا يقال الرحمن الله الرحيم وفي كلامه تعالى: " بسم الله الرحمن الرحيم ". قوله تعالى: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا " الجهر والاخفات وصفان متضائفان، يتصف بهما الاصوات، وربما يعتبر بينهما خصلة ثالثة هي بالنسبة إلى الجهر إخفات وبالنسبة إلى الاخفات جهر فيكون الجهر هو المبالغة في رفع الصوت، والاخفات هو المبالغة في خفضه وما بينهما هو الاعتدال فيكون معنى الاية لا تبالغ في صلاتك في الجهر ولا في الاخفات بل اسلك فيما بينهما سبيلا وهو الاعتدال وتسميته سبيلا لانه سنة يستن بها هو ومن يقتدي به من امته المؤمنين به.
هذا لو كان المراد بالصلاة في قوله: " بصلاتك " للاستغراق والمراد به كل صلاة
[ 226 ]
صلاة وأما لو اريد المجموع ولعله الاظهر كان المعنى لا تجهر في صلواتك كلها ولا تخافت فيها كلها بل اتخذ سبيلا وسطا تجهر في بعض وتخافت في بعض، وهذا المعنى أنسب بالنظر إلى ما ثبت في السنة من الجهر في بعض الفرائض اليومية كالصبح والمغرب والعشاء والاخفات في غيرها. ولعل هذا الوجه أوفق بالنظر إلى اتصال ذيل الاية بصدرها فالجهر بالصلاة يناسب كونه تعالى عليا متعاليا والاخفاف يناسب كونه قريبا أقرب من حبل الوريد فاتخاذ الخصلتين جميعا في الصلوات أداء لحق أسمائه جميعا. قوله تعالى: " وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا " معطوف على قوله في الايه السابقة: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان " ويرجع محصل الكلام إلى أن قل لهم إن ما تدعونها من الاسماء وتزعمون أنها آلهة معبودون غيره إنما هي أسماؤه وهي مملوكه له لا تملك أنفسها ولا شيئا لانفسها فدعاؤها دعاؤه فهو المعبود على كل حال. ثم أحمده واثن عليه بما يتفرع على إطلاق ملكه فإنه لا يماثله شئ في ذات ولا صفة حتى يكون ولدا له إن اشتق عنه في ذات أو صفة كما تقوله الوثنية وأهل الكتاب من النصارى واليهود وقدماء المجوس في الملائكة أو الجن أو المسيح أو عزير والاحبار، أو يكون شريكا إن شاركه في الملك من غير اشتقاق كما تقوله الوثنيون والثنويون وغيرهم من عبدة الشيطان أو يكون وليا له إن شاركه في الملك وفاق عليه فأصلح من ملكه بعض ما لم يقدر هو على إصلاحه. وبوجه آخر لا يجانسه شئ حتى يكون ولدا إن كان دونه أو شريكا له إن كان مساويا له في مرتبته أو وليا له إن كان فائقا عليه في الملك.
والاية في الحقيقة ثناء عليه تعالى بما له من إطلاق الملك الذى يتفرع عليه نفى الولد والشريك والولي ولذلك أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالتحميد دون التسبيح مع أن المذكور فيها من نفي الولد والشريك والولي صفات سلبية والذي يناسبها التسبيح دون التحميد فافهم ذلك.
[ 227 ]
وختم سبحانه الاية بقوله: " وكبره تكبيرا وقد اطلق إطلاقا بعد التوصيف والتنزيه فهو تكبير من كل وصف، ولذا فسر " الله أكبر " بأنه أكبر من أن يوصف على ما ورد عن الصادق عليه السلام، ولو كان المعنى أنه أكبر من كل شئ لم يخل من إشراك الاشياء به تعالى في معنى الكبر وهو أعز ساحة أن يشاركه شئ في أمر. ومن لطيف الصنعة في السورة افتتاح أول آية منها بالتسبيح واختتام آخر آية منها بالتكبير مع افتتاحها بالتحميد. بحث روائي في الدر المنثور أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن على أنه كان يقرء: لقد علمت يعنى بالرفع قال علي والله ما علم عدو الله ولكن موسى هو الذي علم. اقول: وهي قراءه منسوبة إليه عليه السلام. وفي الكافي عن علي بن محمد باسناده قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عمن بجبهته علة لا يقدر على السجود عليها قال: يضع ذقنه على الارض إن الله عزوجل يقول " ويخرون للاذقان سجدا ". أقول: وفي معناه غيره. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ذات يوم فدعا الله فقال في دعائه: يا الله يا رحمان فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو إلهين فأنزل الله: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان الاية.
أقول: وفي سبب نزول الاية روايات اخر تخالف هذه الرواية وتذكر أشياء غير ما ذكرته غير أن هذه الرواية أقربها انطباقا على مفاد الاية. وفي التوحيد مسندا وفي الاحتجاج مرسلا عن هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أسماء الله عز ذكره واشتقاقها فقلت الله مما هو مشتق ؟ قال يا
[ 228 ]
هشام الله مشتق من أله وإله يقتضى مألوها، والاسم غير المسمى فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ومن عبد الاسم والمعنى فقد كفر وعبد اثنين، ومن عبد المعنى دون الاسم فذلك التوحيد أفهمت يا هشام ؟ قال: فقلت زدنى فقال: إن لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسما فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها إلها - ولكن الله معنى يدل عليه بهذه الاسماء وكلها غيره يا هشام الخبز اسم المأكول والماء اسم المشروب والثوب اسم الملبوس والنار اسم المحرق. الحديث. وفى التوحيد بإسناده عن ابن رئاب عن غير واحد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من عبد الله بالتوهم فقد كفر، ومن عبد الاسم ولم يعبد المعنى فقد كفر ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك، ومن عبد المعنى بإيقاع الاسماء عليه بصفاته التي يصف بها نفسه فعقد عليه قلبه ونطق به لسانه في سرائره وعلانيته فاولئك أصحاب أمير المؤمنين وفي حديث آخر: اولئك هم المؤمنون حقا. وفي توحيد البحار في باب المغايرة بين الاسم والمعنى عن التوحيد بإسناده عن إبراهيم بن عمر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى خلق اسما بالحروف غير منعوت، وباللفظ غير منطق، وبالشخص غير مجسد، وبالتشبية غير موصوف وباللون غير مصبوغ، منفي عنه الاقطار، مبعد عنه الحدود، محجوب عنه حس كل متوهم، مستتر غير مستور فجعله كلمة تامة على أربعة أجزاء معا ليس منها واحد قبل
الاخر فأظهر منها ثلاثة أشياء لفاقة الخلق إليها، وحجب واحدا منها وهو الاسم المكنون المخزون بهذه الاسماء الثلاثة التي أظهرت. فالظاهر هو الله وتبارك وسبحان - لكل اسم من هذه أربعة أركان فذلك اثنا عشر ركنا ثم خلق لكل ركن منها ثلاثين اسما وفعلا منسوبا إليها فهو الرحمان الرحيم الملك القدوس الخالق البارئ المصور الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم العليم الخبير السميع البصير الحكيم العزيز الجبار المتكبر العلي العظيم المقتدر القادر السلام المؤمن المهيمن البارئ المنشئ البديع الرفيع الجليل الكريم الرازق المحيي المميت الباعث الوارث فهذه الاسماء وما كان من الاسماء الحسنى حتى تتم ثلاث مائه وستين اسما فهي نسبة لهذه الاسماء الثلاثة، وهذه الاسماء الثلاثة أركان وحجب للاسم الواحد المكنون
[ 229 ]
المخزون بهذه الاسماء الثلاثة وذلك قوله عزوجل: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الاسماء الحسني ". أقول والحديث مروي في الكافي أيضا عنه عليه السلام. وقد تقدم في بحث الاسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب أن هذه الالفاظ المسماة بأسماء الله إنما هي أسماء الاسماء وأن ما تدل عليه وتشير إليه من المصداق أعني الذات مأخوذه بوصف ما هو الاسم بحسب الحقيقة وعلى هذا فبعض الاسماء الحسنى عين الذات وهو المشتمل على صفة ثبوتية كمالية كالحي والعليم والقدير وبعضها زائد على الذات خارج منها وهو المشتمل على صفة سلبية أو فعلية كالخالق والرازق لا تأخذه سنة ولا نوم، هذا في الاسماء وأما أسماء الاسماء وهي الالفاظ الدالة على الذات المأخوذة مع وصف من أوصافها فلا ريب في كونها غير الذات: وأنها ألفاظ حادثة قائمة بمن يتلفظ بها. إلا أن ههنا خلافا من جهتين:
إحداهما: أن بعض الجهلة من متكلمي السلف خلطوا بين الاسماء وأسماء الاسماء فحسبوا أن المراد من عينية الاسماء مع الذات عينية أسماء الاسماء معها فذهبوا إلى أن الاسم هو المسمى ويكون على هذا عباده الاسم ودعوته هو عين عبادة المسمى، وقد كان هذا القول سائغا في أوائل عصر العباسيين، والروايتان السابقتان أعني روايتي التوحيد في الرد عليه. والثانية ما عليه الوثنية وهو أن الله سبحانه لا يتعلق به التوجه العبادي وانما يتعلق بالاسماء فالاسماء أو مظاهرها من الملائكة والجن والكمل من الانس هم المدعوون وهم الالهة المعبودون دون الله، وقد عرفت في البيان المتقدم أن قوله تعالى: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان " الخ رد عليه. والرواية الاخيرة أيضا تكشف عن وجه انتشاء الاسماء عن الذات المتعالية التي هي أرفع من أن يحيط به علم أو يقيده وصف ونعت أو يحده اسم أو رسم، وهي بما في صدره وذيله من البيان صريح في أن المراد بالاسماء فيها هي الاسماء دون اسماء الاسماء،
[ 230 ]
وقد شرحناها بعض الشرح في ذيل البحث عن الاسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب فراجعه إن شئت. وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام: في قوله تعالى: " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان بمكة جهر بصوته فيعلم بمكانه المشركون فكانوا يؤذونه فانزلت هذه الاية عند ذلك. أقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن مردويه عن ابن عباس، وروى أيضا عن عائشة أنها نزلت في الدعاء، ولا بأس به لعدم معارضته، وروى عنها أيضا أنها نزلت في التشهد.
وفي الكافي باسناده عن سماعة قال: سألته عن قول الله تعالى: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها " قال: المخافتة ما دون سمعك والجهر أن ترفع صوتك شديدا. اقول: فيه تأييد المعنى الاول المتقدم في تفسير الاية. وفيه باسناده عن عبد الله بن سنان قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: على الامام أن يسمع من خلفه وإن كثروا - فقال ليقرء وسطا يقول الله تبارك وتعالى: " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ". وفي الدر المنثور أخرج أحمد والطبراني عن معاذ بن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آية العز " وقل الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا " الاية كلها. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " ولم يكن له ولي من الذل " قال: قال: لم يذل فيحتاج إلى ولى ينصره " بحث آخر روائي وقرآنى " متعلق بقوله تعالى: " وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث " ثلاثة فصول " 1 - ان للقرآن الكريم أجزاء يعرف بها كالجزء والحزب والعشر وغير ذلك والذي
[ 231 ]
ينتهي اعتباره إلى عناية من نفس الكتاب العزيز أثنان منها وهما السورة والاية فقد كرر الله سبحانه ذكرهما في كلامه كقوله: " سورة أنزلناها " النور: 1 وقوله: " قل فاتوا بسورة مثله " يونس: 38 وغير ذلك. وقد كثر استعماله في لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والائمة كثرة لا تدع ريبا في أن لها حقيقة في القرآن الكريم وهي مجموعة من الكلام الالهي مبدوة بالبسملة مسوقة لبيان غرض، وهو معرف للسورة مطرد غير منقوض إلا ببراءة وقد ورد (1) عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أنها آيات من سورة الانفال، وإلا بما ورد (2) عنهم عليهم السلام أن الضحى وألم نشرح سورة واحدة وأن الفيل والايلاف سورة واحدة. ونظيره القول في الاية فقد تكرر في كلامه تعالى إطلاق الايه على قطعة من الكلام كقوله: " وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا " الانفال: 2، وقوله: " كتاب فصلت
آياته قرآنا عربيا " حم السجدة: 3، وقد روى عن ام سلمة أن البنى صلى الله عليه وآله وسلم كان يقف على رؤس الاي وصح أن سورة الحمد سبع آيات، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: أن سورة الملك ثلاثون آية إلى غير ذلك مما يدل على وقوع العدد على الايات في كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآله. والذي يعطيه التأمل في انقسام الكلام العربي إلى قطع وفصول بالطبع وخاصة فيما كان من الكلام مسجعا ثم التدبر فيما ورد عن النبي وآله صلى الله عليه وآله وسلم في أعداد الايات أن الاية من القرآن هي قطعة من الكلام من حقها أن تعتمد عليها التلاوة بفصلها عما قبلها وعما بعدها. ويختلف ذلك باختلاف السياقات وخاصة في السياقات المسجعة فربما كانت كلمة واحدة كقوله: " مدهامتان " الرحمن: 64 وربما كانت كلمتين فصاعدا كلاما أو غير كلام كقوله: " الرحمان علم القرآن خلق الانسان علمه البيان الرحمان 1 - 4
(1) تقدم بعض ما يدل عليه من الرواية في ذيل قوله: " انا نحن نزلنا الذكر " الاية الحجر: 8 في الجزء الثاني عشر من الكتاب. (2) رواه الشيخ في التهذيب باسناده عن الشحام عن الصادق عليه السلام ونسبه المحقق في الشرائع والطبرسي في مجمع البيان إلى رواية اصحابنا. (*)
[ 232 ]
وقوله: " الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة " الحاقة 1 - 3 وربما طالت كآية الدين من سورة البقرة آية: 282. 2 - أما عدد السور القرآنية فهي مائة وأربع عشره سورة على ما جرى عليه الرسم في المصحف الدائر بيننا وهو مطابق للمصحف العثماني وقد تقدم كلام أئمه أهل البيت عليهم السلام فيه، وأنهم لا يعدون براءه سورة مستقلة ويعدون الضحى وألم نشرح سورة واحدة ويعدون الفيل والايلاف سورة واحدة. وأما عدد الاي فلم يرد فيه نص متواتر يعرف الاي ويميز كل آية من غيرها ولا
شئ من الاحاد يعتمد عليه، ومن أوضح الدليل على ذلك اختلاف أهل العدد فيما بينهم وهم المكيون والمدنيون والشاميون والبصريون والكوفيون. فقد قال بعضهم: إن مجموع القرآن ستة آلاف آية، وقال بعضهم ستة آلاف ومأتان وأربع آيات، وقيل: واربع عشرة وقيل: وتسع عشرة وقيل: وخمس وعشرون، وقيل: وست وثلاثون. وقد روى المكيون عددهم عن عبد الله بن كثير عن مجاهد عن ابن عباس عن ابي ابن كعب، وللمدنيين عددان ينتهى أحدهما إلى أبي جعفر مرثد بن القعقاع وشيبة بن نصاح، والاخر إلى اسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الانصاري وروى أهل الشام عددهم عن أبي الدرداء، وينتهي عدد أهل البصرة إلى عاصم بن العجاج الجحدري، ويضاف عدد أهل الكوفة إلى حمزة والكسائي وخلف قال حمزة أخبرنا بهذا العدد ابن أبي ليلى عن أبي عبد الرحمان السلمي عن علي بن أبي طالب. وبالجملة لما كانت الاعداد لا تنتهي إلى نص متواتر أو واحد يعبؤ به ويجوز الركون إليه ويتميز به كل آية عن اختها لا ملزم للاخذ بشئ منها فما كان منها بينا ظاهر الامر فهو والا فللباحث المتدبر أن يختار ما أدى إليه نظره. والذى روي عن علي عليه السلام من عدد الكوفيين معارض بأن البسملة غير معدودة في شئ من السور ما خلا فاتحة الكتاب من آياتها مع أن المروي عنه عليه السلام وعن غيره من أئمة أهل البيت عليهم السلام أن البسمله آية من القرآن وهي جزء من كل سورة
[ 233 ]
افتتحت بها ولازم ذلك زيادة العدد بعدد البسملات. وهذا هو الذي صرفنا عن إيراد تفاصيل ما ذكروه من العدد ههنا، وذكر ما اتفقوا على عدده من السور القرآنية وهى أربعون سورة وما اختلفوه في عدده أو في رؤس آية من السور وهي أربع وسبعون سورة وكذا ما اتفقوا على كونه آية تامة أو
على عدم كونه آية مثل " الرآ " أينما وقع من القرآن وما اختلف فيه وعلى من أراد الاطلاع على تفصيل ذلك أن يراجع مظانه. 3 - في ترتيب السور نزولا: نقل في الاتقان عن ابن الضريس في فضائل القرآن قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي جعفر الرازي أنبأنا عمرو بن هارون، حدثنا عثمان بن عطاء الخرساني عن أبيه عن ابن عباس قال: كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ثم يزيد الله فيها ما شاء. وكان أول ما أنزل، من القرآن اقرء باسم ربك، ثم ن، ثم يا أيها المزمل، ثم يا أيها المدثر، ثم تبت يدا أبؤ لهم، ثم إذا الشمس كورت، ثم سبح اسم ربك الاعلى، ثم والليل إذا يغشى، ثم والفجر، ثم والضحى، ثم ألم نشرح، ثم والعصر، ثم والعاديات ثم إنا أعطيناك، ثم ألهاكم التكاثر، ثم أرأيت الذي يكذب، ثم قل يا أيها الكافرون، ثم ألم تر كيف فعل ربك، ثم قل أعوذ برب الفلق، ثم قل أعوذ برب الناس، ثم قل هو الله أحد، ثم والنجم، ثم عبس، ثم إنا أنزلناه في ليلة القدر، ثم والشمس وضحاها، ثم والسماء ذات البروج، ثم التين، ثم لايلاف قريش، ثم القارعة، ثم لا اقسم بيوم القيامة، ثم ويل لكل همزة، ثم والمرسلات، ثم ق، ثم لا اقسم بهذا البلد، ثم والسماء والطارق، ثم اقتربت الساعة، ثم ص، ثم الاعراف، ثم قل اوحي ثم يس، ثم الفرقان، ثم الملائكة، ثم كهيعص، صم طه، ثم الواقعة، ثم طسم الشعراء، ثم طس، ثم القصص، ثم بني إسرائيل، ثم يونس، ثم هود، ثم يوسف، ثم الحجر، ثم الانعام، ثم الصافات، ثم لقمان، ثم سبأ، ثم الزمر، ثم حم المؤمن، ثم حم السجدة، ثم حمعسق، ثم حم الزخرف، ثم الدخان، ثم الجاثية، ثم الاحقاف ثم الذاريات، ثم الغاشية، ثم الكهف، ثم النحل، ثم إنا أرسلنا نوحا، ثم سورة إبراهيم، ثم الانبياء، ثم المؤمنين، ثم تنزيل السجدة، ثم الطور، ثم تبارك الملك،
[ 234 ]
ثم الحاقة، ثم سأل، ثم عم يتساءلون، ثم النازعات، ثم إذا السماء انفطرت، ثم إذا السماء انشقت، ثم الروم، ثم العنكبوت، ثم ويل للمطففين فهذا ما أنزل الله بمكة. ثم أنزل الله بالمدينة سورة البقرة ثم الانفال، ثم آل عمران، ثم الاحزاب، ثم الممتحنة، ثم النساء، ثم إذا زلزلت، ثم الحديد، ثم القتال، ثم الرعد، ثم الرحمان، ثم الانسان، ثم الطلاق، ثم لم يكن، ثم الحشر، ثم إذا جاء نصر الله، ثم النور، ثم الحج، ثم المنافقون، ثم المجادلة، ثم الحجرات ثم التحريم، ثم الجمعة ثم التغابن، ثم الصف، ثم الفتح، ثم المائدة، ثم براءة. وقد سقطت من الرواية سورة فاتحة الكتاب وربما قيل: إنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة. ونقل فيه عن البيهقى في دلائل النبوة أنه روى باسناده عن عكرمة والحسين بن أبي الحسن قالا: أنزل الله من القرآن بمكة اقرء باسم ربك وساقا الحديث نحو حديث عطاء السابق عن ابن عباس إلا أنه قد سقط منه الفاتحة والاعراف وكهيعص مما نزل بمكة. وأيضا ذكر فيه حم الدخان قبل حم السجدة ثم إذا السماء انشقت قبل إذا السماء انفطرت ثم ويل للمطففين قبل البقرة مما نزل بالمدينة ثم آل عمران قبل الانفال ثم المائدة قبل الممتحنة. ثم روى البيهقي باسناده عن مجاهد عن ابن عباس إنه قال: إن أول ما أنزل الله على نبيه من القرآن اقرء باسم ربك الحديث. وهو مطابق لحديث عكرمة في الترتيب وقد ذكرت فيه السور التي سقطت من حديث عكرمة فيما نزل بمكة. وفيه عن كتاب الناسخ والمنسوخ لابن حصار " أن المدني باتفاق عشرون سورة، والمختلف فيه اثنا عشرة سورة وما عدا ذلك مكي باتفاق انتهى. والذى اتفقوا عليه من المدنيات البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والانفال والتوبة والنور والاحزاب وسورة محمد والفتح والحجرات والحديد والمجادلة والحشر والممتحنة والمنافقون والجمعة والطلاق والتحريم والنصر.
[ 235 ]
وما اختلفوا في مكيته ومدنيته سورة الرعد والرحمن والجن والصف والتغابن والمطففين والقدر والبينة والزلزال والتوحيد والمعوذتان. وللعلم بمكية السور ومدنيتها ثم ترتيب نزولها أثر هام في الابحاث المتعلقة بالدعوة النبوية وسيرها الروحي والسياسى والمدني في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم وتحليل سيرته الشريفة، والروايات - كما ترى - لا تصلح أن تنهض حجة معتمدا عليها في إثبات شئ من ذلك على أن فيما بينها من التعارض ما يسقطها عن الاعتبار. فالطريق المتعين لهذا الغرض هو التدبر في سياق الايات والاستمداد بما يتحصل من القرائن والامارات الداخلية والخارجية، وعلى ذلك نجري في هذا الكتاب والله المستعان. * * * سورة الكهف مكية وهي مائة وعشر آيات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا (1). قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا (2). ماكثين فيه أبدا (3). وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا (4). ما لهم به من علم ولا لابائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم أن يقولون إلا كذبا (5). فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا (6). إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا (7). وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا (8).
[ 236 ]
بيان
السورة تتضمن الدعوة إلى الاعتقاد الحق والعمل الصالح بالانذار والتبشير كما يلوح إليه ما افتتحت به من الايتين وما اختتمت به من قوله تعالى: " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ". وفيها مع ذلك عناية بالغة بنفي الولد كما يدل على ذلك تخصيص إنذار القائلين بالولد بالذكر ثانيا بعد ذكر مطلق الانذار أولا أعني وقوع قوله: " وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا بعد قوله: " لينذر باسا شديدا من لدنه ". فوجه الكلام فيها إلى الوثنيين القائلين ببنوة الملائكة والجن والمصلحين من البشر والنصارى القائلين ببنوة المسيح عليه السلام ولعل اليهود يشاركونهم فيه حيث يذكر القرآن عنهم أنهم قالوا: عزير ابن الله. وغير بعيد أن يقال إن الغرض من نزول السورة ذكر القصص الثلاث العجيبة التي لم تذكر في القرآن الكريم إلا في هذه السورة وهي قصة أصحاب الكهف وقصة موسى وفتاه في مسيرهما إلى مجمع البحرين وقصة ذي القرنين ثم استفيد منها ما استفرغ في السورة من الكلام في نفي الشريك والحث على تقوى الله سبحانه. والسورة مكية على ما يستفاد من سياق آياتها وقد استثنى منها قوله: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم " الاية وسيجئ ما فيه من الكلام. قوله تعالى: " الحمد لله الذي نزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما " العوج بفتح العين وكسرها الانحراف، قال في المجمع: العوج بالفتح فيما يرى كالقناة والخشبة وبالكسر فيما لا يرى شخصا قائما كالدين والكلام. انتهى. ولعل المراد بما يرى وما لا يرى ما يسهل رؤيته وما يشكل كما ذكره الراغب في المفردات بقوله: العوج - بالفتح - يقال فيما يدرك بالبصر سهلا كالخشب المنتصب ونحوه والعوج - بالكسر - يقال فيما يدرك بالفكر والبصيرة كما يكون في أرض بسيط يعرف تفاوته بالبصيرة وكالدين والمعاش انتهى. فلا يرد عليه ما في قوله تعالى: " لا ترى فيها
عوجا - بكسر العين - ولا أمتا: طه: 107 فافهم.
[ 237 ]
وقد افتتح تعالى الكلام في السورة بالثناء على نفسه بما نزل على عبده قرآنا لا انحراف فيه عن الحق بوجه وهو قيم على مصالح عباده في حياتهم الدنيا والاخرة فله كل الحمد فيما يترتب على نزوله من الخيرات والبركات من يوم نزل إلى يوم القيامة فلا ينبغي أن يرتاب الباحث الناقد أن ما في المجتمع البشري من الصلاح والسداد من بركات ما بثه الانبياء الكرام من الدعوة إلى القول الحق والخلق الحسن والعمل الصالح وأن ما يمتاز به عصر القرآن في قرونه الاربعة عشر عما تقدمه من الاعصار من رقي المجتمع البشري وتقدمه في علم نافع أو عمل صالح للقرآن فيه أثره الخاص وللدعوة النبويه فيه أياديها الجميلة فلله في ذلك الحمد كله. ومن هنا يظهر أن قول بعضهم في تفسير الاية: يعني قولوا الحمد لله الذي نزل " الخ " ليس على ما ينبغي. وقوله: " ولم يجعل له عوجا " الضمير للكتاب والجملة حال عن الكتاب وقوله: " قيما " حال بعد حال على ما يفيده السياق فإنه تعالى في مقام حمد نفسه من جهة تنزيله كتابا موصوفا بأنه لا عوج له وأنه قيم على مصالح المجتمع البشرى فالعناية متعلقة بالوصفين موزعة بينهما على السواء وهو مفاد كونهما حالين من الكتاب. وقيل إن جملة " ولم يجعل له عوجا " معطوفة على الصلة و " قيما " حال من ضمير " له " والمعنى والذي لم يجعل للكتاب حال كونه قيما عوجا أو أن " قيما " منصوب بمقدر، والمعنى: والذي لم يجعل له عوجا وجعله قيما، ولازم الوجهين انقسام العناية بين أصل النزول وبين كون الكتاب قيما لا عوج له. وقد عرفت أنه خلاف ما يستفاد من السياق. وقيل: إن في الاية تقديما وتأخيرا، والتقدير نزل الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا وهو أردء الوجوه. وقد قدم نفي العوج على إثبات القيمومة لان الاول كما الكتاب في نفسه والثاني تكميله لغيره والكمال مقدم طبعا على التكميل.
ووقوع " عوجا " وهو نكرة في سياق النفي يفيد العموم فالقرآن مستقيم في جميع جهاته فصيح في لفظه، بليغ في معناه، مصيب في هدايته، حي في حججه وبراهينه، ناصح في أمره ونهيه، صادق فيما يقصه من قصصه وأخباره، فاصل فيما يقضى به،
[ 238 ]
محفوظ من مخالطة الشياطين لا اختلاف فيه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والقيم هو الذى يقوم بمصلحة الشئ وتدبير أمره كقيم الدار وهو القائم بمصالحها ويرجع إليه في امورها، والكتاب إنما يكون قيما بما يشتمل عليه من المعاني، والذي يتضمنه القرآن هو الاعتقاد الحق والعمل الصالح كما قال تعالى: " يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم " الاحقاف: 30، وهذا هو الدين وقد وصف تعالى دينه في مواضع من كتابه بأنه قيم قال: " فأقم وجهك للدين القيم " الروم: 43 وعلى هذا فتوصيف الكتاب بالقيم لما يتضمنه من الدين القيم على مصالح العالم الانساني في دنياهم واخراهم. وربما عكس الامر فاخذ القيمومة وصفا للكتاب ثم للدين من جهته كما في قوله تعالى: " وذلك دين القيمة: البينة: 5 فالظاهر أن معناه دين الكتب القيمة وهو نوع تجوز. وقيل: المراد بالقيم المستقيم المعتدل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، وقيل: القيم المدبر لسائر الكتب السماوية يصدقها ويحفظها وينسخ شرائعها وتعقيب الكلمة بقوله: " لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين " الخ يؤيد ما قدمناه. قوله تعالى: لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات " الاية أي لينذر الكافرين عذابا شديدا صادرا من عند الله كذا قيل والظاهر بقرينة تقييد المؤمنين المبشرين بقوله: " الذين يعملون الصالحات " أن التقدير لينذر الذين لا يعملون الصالحات أعم ممن لا يؤمن أصلا أو يؤمن ويفسق في عمله. والجملة على أي حال بيان لتنزيله الكتاب على عبده مستقيما قيما إذ لو لا استقامته
في نفسه وقيمومته على غيره لم يستقم إنذار ولا تبشير وهو ظاهر. والمراد بالاجر الحسن الجنة بقرينة قوله في الاية التالية: " ماكثين فيه أبدا " والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا " وهم عامة الوثنيين القائلين بأن الملائكة أبناء أو بنات له وربما قالوا بذلك في الجن والمصلحين من البشر والنصارى
[ 239 ]
القائلين بأن المسيح ابن الله وقد نسب القرآن إلى اليهود أنهم قالوا عزير ابن الله. وذكر إنذارهم خاصة ثانيا بعد ذكره على وجه العموم أولا بقوله: " لينذر بأسا شديدا من لدنه " لمزيد الاهتمام بشأنهم. قوله تعالى: " ما لهم به من علم ولا لابائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم " الخ كانت عامتهم يريدون بقولهم: اتخذ الله ولدا حقيقة التوليد كما يدل عليه قوله: " أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شئ " الانعام: 101. وقد رد سبحانه قولهم عليهم أولا بأنه قول منهم جهلا بغير علم وثانيا بقوله في آخر الاية: إن يقولون إلا كذبا ". وكان قوله: " ما لهم به من علم شاملا لهم جميعا من آباء وأبناء لكنهم لما كانوا يحيلون العلم به إلى آبائهم قائلين إن هذه ملة آبائنا وهم أعلم منا وليس لنا إلا أن نتبعهم ونقتدي بهم فرق تعالى بينهم وبين آبائهم فنفى العلم عنهم أولا وعن آبائهم الذين كانوا يركون إليهم ثانيا ليكون إبطالا لقولهم ولحجتهم جميعا. وقوله: " كبرت كلمة تخرج من أفواههم ذم " لهم وإعظام لقولهم: " اتخذ الله ولدا لما فيه من عظيم الاجتراء على الله سبحانه بنسبة الشريك والتجسم والتركب والحاجة إلى المعين والخليفه إليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وربما وقع في كلام أوائلهم إطلاق الابن على بعض خلقه بعناية التشريف للدلالة على قربه منه واختصاصه به نظير قول اليهود فيما حكاه القرآن: عزير ابن الله، وقولهم:
نحن أبناء الله وأحباؤه، وكذا وقع في كلام عدة من قدمائهم إطلاق الابن على بعض الخلق الاول بعناية صدوره منه كما يصدر الابن عن الاب وإطلاق الزوج والصاحبة على وسائط الصدور والايجاد كما أن زوج الرجل واسطة لصدور الولد منه فاطلق على بعض الملائكة من الخلق الاول الزوج وعلى بعض آخر منهم الابن أو البنت. وهذان الاطلاقان وإن لم يشتملا على مثل ما اشتمل عليه الاطلاق الاول لكونهما من التجوز بعناية التشريف ونحوه لكنهما ممنوعان شرعا، وكفى ملاكا لحرمتهما سوقهما وسوق أمثالهما عامة الناس إلى الشقاء الدائم والهلاك الخالد. قوله تعالى: " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا
[ 240 ]
البخوع والبخع القتل والاهلاك والاثار علائم أقدام المارة على الارض، والاسف شدة الحزن والمراد بهذا الحديث القرآن. والاية واللتان بعدها في مقام تعزية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتسليته وتطييب نفسه والفاء لتفريع الكلام على كفرهم وجحدهم بآيات الله المفهوم من الايات السابقة والمعنى يرجى منك أن تهلك نفسك بعد إعراضهم عن القرآن وانصرافهم عنك من شدة الحزن، وقد دل على إعراضهم وتوليهم بقوله: على آثارهم وهو من الاستعارة. قوله تعالى: " إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا " إلى آخر الايتين. الزينة الامر الجميل الذي ينضم إلى الشئ فيفيده جمالا يرغب إليه لاجله والصعيد ظهر الارض والجرز على ما في المجمع - الارض التي لا تنبت كأنها تأكل النبت أكلا. ولقد أتى في الايتين ببيان عجيب في حقيقة حياة الانسان الارضية وهو أن النفوس الانسانية - وهي في أصل جوهرها علوية شريفة - ما كانت لتميل إلى الارض والحياة عليها وقد قدر الله أن يكون كمالها وسعادتها الخالدة بالاعتقاد الحق والعمل الصالح
فاحتالت العناية الالهية إلى توقيفها موقف الاعتقاد والعمل وإيصالها إلى محك التصفية والتطهير وإسكانها الارض إلى أجل معلوم بالقاء التعلق والارتباط بينها وبين ما على الارض من أمتعه الحياة من مال وولد وجاه وتحبيبه إلى قلوبهم فكان ما على الارض وهو جميل عندهم محبوب في أنفسهم زينة للارض وحليه تتحلى بها لكونه عليها فتعلقت نفوسهم على الارض بسببه واطمأنت إليها. فإذا انقضى الاجل الذي أجله الله تعالى لمكثهم في الارض بتحقق ما أراده من البلاء والامتحان سلب الله ما بينهم وبين ما على الارض من التعلق ومحى ما له من الجمال والزينة وصار كالصعيد الجرز الذي لا نبت فيه ولا نضارة عليه ونودي فيهم بالرحيل وهم فرادى كما خلقهم الله تعالى أول مرة. وهذه سنة الله تعالى في خلق الانسان واسكانه الارض وتزيينه ما عليها له ليمتحنه بذلك ويتميز به أهل السعادة من غيرهم فيأتي سبحانه بالجيل بعد الجيل والفرد بعد الفرد فيزين له ما على وجه الارض من أمتعة الحياة ثم يخليه واختياره ليختبرهم بذلك
[ 241 ]
ثم إذا تم الاختبار قطع ما بينه وبين زخارف الدنيا المزينة ونقله من دار العمل إلى دار الجزاء قال تعالى: " ولو تري إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم - إلى أن قال: ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون " الانعام: 94. فمحصل معنى الاية لا تتحرج ولا تأسف عليهم إذا عرضوا عن دعوتك بالانذار والتبشير واشتغلوا بالتمتع من أمتعة الحياة فما هم بسابقين ولا معجزين وإنما حقيقة حياتهم هذه نوع تسخير إلهي أسكناهم الارض ثم جعلنا ما على الارض زينة يفتتن الناظر إليها لتتعلق به نفوسهم فنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون هذا الذي زين
لهم بعينه كالصعيد الجرز الذي ليس فيه نبت ولا شئ مما يرغب فيه النفس فالله سبحانه لم يشأ منهم الايمان جميعا حتى يكون مغلوبا بكفرهم بالكتاب وتماديهم في الضلال وتبخع أنت نفسك على آثارهم أسفا وإنما أراد بهم الابتلاء والامتحان وهو سبحانه الغالب فيما شاء وأراد. وقد ظهر بما تقدم أن قوله: " وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا " من الاستعارة بالكناية، والمراد به قطع رابطة التعلق بين الانسان وبين أمتعة الحياة الدنيا مما على الارض. وربما قيل: إن المراد به حقيقة معنى الصعيد الجرز، والمعنى أنا سنعيد ما على الارض من زينة ترابا مستويا بالارض، ونجعله صعيدا أملس لا نبات فيه ولا شئ عليه. وقوله: " ما عليها " من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر وكان من طبع الكلام أن يقال: وإنا لجاعلوه، ولعل النكتة مزيد العناية بوصف كونه على الارض. " بحث روائي في تفسير العياشي عن البرقي رفعه عن أبى بصير عن أبي جعفر عليه السلام: لينذر بأسا شديدا من لدنه " قال البأس الشديد علي عليه السلام وهو من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاتل معه عدوه فذلك قوله: " لينذر بأسا شديدا من لدنه ".
[ 242 ]
أقول: ورواه ابن شهر آشوب عن الباقر والصادق عليهما السلام وهو من التطبيق وليس بتفسير. وفي تفسير القمي في حديث أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " فلعلك باخع نفسك يقول: قاتل نفسك على آثارهم وأما أسفا يقول حزنا. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في التاريخ عن ابن عمر قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الاية " لنبلوهم أيهم أحسن عملا " فقلت ما معنى ذلك يا رسول الله ؟ قال ليبلوكم أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله
وأسرعكم في طاعي الله. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " صعيدا جرزا " قال: لا نبات فيها. * * * أم حسبت أن اصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا (9). إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهئ لنا من أمرنا رشدا (10). فضر بنا على آذانهم في الكهف سنين عددا (11). ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا (12). نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتيي آمنوا بربهم وزدناهم هدى (13). وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والارض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا (14). هؤلاء قومنا
[ 243 ]
اتخذوا من دونه آلهة لو لا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن أفترى على الله كذبا (15). وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأوا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهئ لكم من أمركم مرفقا (16). وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا (17). وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا (18). وكذلك بعثناهم ليتسآءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا
يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا (19). إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا ابدا (20). وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا (21). سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم
[ 244 ]
كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراءا ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا (22). ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا (23). إلا أن يشاء الله وأذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لاقرب من هذا رشدا (24). ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا (25). قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والارض أبصر به واسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا (26). " بيان " الايات تذكر قصة أصحاب الكهف وهي أحد الامور الثلاثة التي أشارت اليهود على قريش أن تسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها وتختبر بها صدقه في دعوى النبوة قصة أصحاب الكهف وقصة موسى وفتاه وقصة ذي القرنين على ما وردت به الرواية غير أن هذه القصة لم تصدر بما يدل على تعلق السؤال بها كما صدرت به قصه ذي القرنين: " يسألونك
عن ذي القرنين " الاية وإن كان في آخرها بعض ما يشعر بذلك كقوله: " ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا " على ما سيجئ. وسياق الايات الثلاث التي افتتحت بها القصة مشعر بأن قصة الكهف كانت معلومة إجمالا قبل نزول الوحى بذكر القصة وخاصة سياق قوله: " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا " وأن الذي كشف عنه الوحي تفصيل قصتهم الاخذ من قوله: " نحن نقص عليك نبأهم بالحق إلى آخر الايات.
[ 245 ]
ووجه اتصال آيات القصه بما تقدم أنه يشير بذكر قصتهم ونفى كونهم عجبا من آيات الله أن أمر جعله تعالى ما على الارض زينة لها يتعلق بها الانسان ويطمئن إليها مكبا عليها منصرفا غافلا عن غيرها لغرض البلاء والامتحان ثم جعل ما عليها بعد أيام قلائل صعيدا جرزا لا يظهر للانسان إلا سدى وسرابا ليس ذلك كله إلا آية الهية هي نظيرة ما جرى على أصحاب الكهف حين سلط الله عليهم النوم في فجوة من الكهف ثلاث مائة سنين شمسية ثم لما بعثهم لم يحسبوا مكثهم ذلك إلا مكث يوم أو بعض يوم. فمكث كل إنسان في الدنيا واشتغاله بزخارفها وزيناتها وتولهه إليها ذاهلا عما سواها آية تضاهي في معناها آية أصحاب الكهف وسيبعث الله الناس من هذه الرقدة فيسألهم " كم لبثتم في الارض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم " المؤمنون: 113 " كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار " الاحقاف: 35 فما آية أصحاب الكهف ببدع عجيب من بين الايات بل هي متكررة جارية ما جرت الايام والليالي على الانسان. فكأنه تعالى لما قال: " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا " إلى تمام ثلاث آيات قال مخاطبا لنبيه: فكأنك ما تنبهت أن اشتغالهم بالدنيا وعدم إيمانهم بهذا الحديث عن تعلقهم بزينة الارض آية إلهية تشابه آية مكث أصحاب الكهف في كهفهم ثم انبعاثهم ولذلك حزنت وكدت تقتل نفسك أسفا بل حسبت أن أصحاب الكهف كانوا من آياتنا بدعا عجبا من النوادر في هذا الباب. وإنما لم يصرح بهذا المعنى صونا لمقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن نسبة الغفلة والذهول إليه ولان الكناية أبلغ من التصريح.
هذا ما يعطيه التدبر في وجه اتصال القصه وعلى هذا النمط يجري السياق في اتصال ما يتلو هذه القصة من مثل رجلين لاحدهما جنتان وقصة موسى وفتاه وسيجئ بيانه وقد ذكر في اتصال القصة وجوه أخر غير وجيهة لا جدوى في نقلها. قوله تعالى: " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا " الحسبان هو الظن والكهف هو المغارة في الجبل إلا أنه أوسع منها فإذا صغر سمي غارا والرقيم من الرقم وهو الكتابة والخط فهو في الاصل فعيل بمعنى المفعول كالجريح
[ 246 ]
والقتيل بمعنى المجروح والمقتول، والعجب مصدر بمعنى التعجب أريد به معني الوصف مبالغة. وظاهر سياق القصة أن أصحاب الكهف والرقيم جماعة بأعيانهم والقصه قصتهم جميعا فهم المسمون أصحاب الكهف وأصحاب الرقيم أما تسميتهم أصحاب الكهف فلدخولهم الكهف ووقوع ما جرى عليهم فيه. وأما تسميتهم أصحاب الرقيم فقد قيل: إن قصتهم كانت منقوشة في لوح منصوب هناك أو محفوظ في خزانة الملوك فبذلك سموا أصحاب الرقيم، وقيل: إن الرقيم اسم الجبل الذي فيه الكهف، أو الوادي الذي فيه الجبل أو البلد الذي خرجوا منه إلى الكهف أو الكلب الذي كان معهم أقوال خمسة، وسيأتي في الكلام على قصتهم ما يؤيد القول الاول. وقيل: إن أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف وقصتهم غير قصتهم ذكرهم الله مع أصحاب الكهف ولم يذكر قصتهم وقد رووا لهم قصة سنشير إليها في البحث الروائي الاتى. وهو بعيد جدا فما كان الله ليشير في بليغ كلامه إلى قصة طائفتين ثم يفصل القول في أحدى القصتين ولا يتعرض للاخرى لا إجمالا ولا تفصيلا على أن ما أوردوه من قصة أصحاب الرقيم لا يلائم السياق السابق المستدعى لذكر قصة أصحاب الكهف.
وقد تبين مما تقدم في وجه اتصال القصة أن معنى الاية بل ظننت أن أصحاب الكهف والرقيم - وقد أنامهم الله مئات من السنين ثم أيقظهم فحسبوا أنهم لبثوا يوما أو بعض يوم - كانوا من آياتنا آية عجيبة كل العجب ؟ لا وليسوا بعجب وما يجري على عامة الانسان من افتتانه بزينة الارض و غفلته عن أمر المعاد ثم بعثه وهو يستقل اللبث في الدنيا آية جارية تضاهي آية الكهف. وظاهر السياق - كما تقدمت الاشارة إليه - أن القصة كانت معلومة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إجمالا عند نزول القصة وإنما العناية متعلقة بالاخبار عن تفصيلها ويؤيد ذلك تعقيب الايه بالايات الثلاث المتضمنة لاجمال القصة حيث إنها تذكر إجمال القصة المؤدي إلى عدهم آية عجيبة نادرة في بابها.
[ 247 ]
قوله تعالى: " إذ أوى الفتية إلى الكهف " إلى آخر الاية الاوي الرجوع ولا كل رجوع بل رجوع الانسان أو الحيوان إلى محل يستقر فيه أو ليستقر فيه والفتية جمع سماعي لفتي والفتى الشاب ولا تخلو الكلمة من شائبة مدح. والتهيئة الاعداد قال البيضاوى وأصل التهيئة إحداث هيأة الشئ، انتهى والرشد بفتحتين أو الضم فالسكون الاهتداء إلى المطلوب، قال الراغب: الرشد والرشد خلاف الغى يستعمل استعمال الهداية. انتهى. وقوله: " فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة " تفريع لدعائهم على أويهم كأنهم اضطروا لفقد القوة وانقطاع الحيلة إلى المبادرة إلى المسألة ويؤيده قولهم: " من لدنك " فلو لا أن المذاهب أعيتهم والاسباب تقطعت بهم واليأس أحاط بهم ما قيدوا الرحمة المسؤلة أن تكون من لدنه تعالى بل قالوا: آتنا رحمة كقول غيرهم " ربنا آتنا في الدنيا حسنة: البقرة: 201 " ربنا آتنا ما وعدتنا على رسلك " آل عمران: 194 فالمراد بالرحمة المسؤلة التأييد الالهي إذ لا مؤيد غيره. ويمكن أن يكون المراد بالرحمة المسؤلة من لدنه بعض المواهب والنعم المختصة به تعالى كالهداية التي يصرح في مواضع من كلامه بأنها منه خاصة، ويشعر به التقييد بقوله
" من لدنك "، ويؤيده ورود نظيره في دعاء الراسخين في العلم المنقول في قوله " ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة " آل عمران: 8 فما سألوا إلا الهداية. وقوله: " وهيئ لنا من أمرنا رشدا " المراد من أمرهم الشأن الذي يخصهم وهم عليه وقد هربوا من قوم يتتبعون المؤمنين ويسفكون دماءهم ويكرهونهم على عبادة غير الله، والتجأوا إلى كهف وهم لا يدرون ماذا سيجري عليهم ؟ ولا يهتدون أي سبيل للنجاة يسلكون ؟ ومن هنا يظهر أن المراد بالرشد الاهتداء إلى ما فيه نجاتهم. فالجملة أعني قوله: " وهيئ لنا من امرنا رشدا على أول الاحتمالين السابقين في معنى الرحمة عطف تفسير على قوله: " آتنا من لدنك رحمة وعلى ثانيهما مسألة بعد مسألة. قوله تعالى: " فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا " قال في الكشاف أي
[ 248 ]
ضربنا عليها حجابا من أن تسمع يعني أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الاصوات كما ترى المستثقل في نومه يصاح به فلا يسمع ولا يستنبه فحذف المفعول الذي هو الحجاب كما يقال: بنى على امرأته يريدون بنى عليها القبة. انتهى. وقال في المجمع: ومعنى ضربنا على آذانهم سلطنا عليهم النوم، وهو من الكلام البالغ في الفصاحة يقال: ضربه الله بالفالج إذا ابتلاه الله به، قال قطرب: هو كقول العرب: ضرب الامير على يد فلان إذا منعه من التصرف، قال الاسود بن يعفر وقد كان ضريرا: ومن الحوادث لا أبالك أنني * * ضربت على الارض بالاسداد وقال: هذا من فصيح لغات القرآن التى لا يمكن أن يترجم بمعنى يوافق اللفظ انتهى، وما ذكره من المعنى أبلغ مما ذكره الزمخشري. وهنا معنى ثالث وإن لم يذكروه: وهو أن يكون إشارة إلى ما تصنعه النساء عند
إنامه الصبي غالبا من الضرب على اذنه بدق الاكف أو الانامل عليها دقا نعيما لتتجمع حاسته عليه فيأخذه النوم بذلك فالجملة كناية عن إنامتهم سنين معدوده بشفقة وحنان كما تفعل الام المرضع بطفلها الرضيع. وقوله: " سنين عددا ظرف للضرب والعدد مصدر كالعد بمعنى المعدود فالمعنى سنين معدودة وقيل بحذف المضاف والتقدير ذوات عدد. وقد قال في الكشاف إن توصيف السنين بالعدد يحتمل أن يراد به التكثير أو التقليل لان الكثير قليل عنده كقوله لم: يلبثوا إلا ساعة من نهار، وقال الزجاج إن الشئ إذا قل فهم مقدار عدده فلم يحتج أن يعد وإذا كثر احتاج إلى أن يعد. انتهى ملخصا. وربما كانت العناية في التوصيف بالعدد هي أن الشئ إذا بلغ في الكثرة عسر عده فلم يعد عادة وكان التوصيف بالعدد أمارة كونه قليلا يقبل العد بسهولة، قال تعالى: " وشروه بثمن بخس دراهم معدودة: يوسف -: 20 اي قليلة. وكون الغرض من التوصيف بالعدد هو التقليل هو الملائم للسياق على ما مر فإن الكلام مسرود لنفى كون قصتهم عجبا وإنما يناسبه تقليل سنى لبثهم لا تكثيرها -
[ 249 ]
ومعنى الاية ظاهر وقد دل فيها على كونهم نائمين في الكهف طول المدة لا ميتين. قوله تعالى: " ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين احصى لما لبثوا امدا المراد بالبعث هو الايقاظ دون الاحياء بقرينة الاية السابقة، وقال الراغب: الحزب جماعة فيها غلظ. انتهى. وقال: الامد والابد يتقاربان لكن الابد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود ولا يتقيد لا يقال: أبد كذا، والامد مدة لها حد مجهول إذا اطلق، وقد ينحصر نحو أن يقال: أمد كذا كما يقال: زمان كذا. والفرق بين الامد والزمان أن الامد يقال باعتبار الغاية والزمان عام في المبدء والغاية ولذلك قال بعضهم: المدى والامد يتقاربان. انتهى. والمراد بالعلم، العلم الفعلي وهو ظهور الشئ وحضوره بوجوده الخاص عند الله،
وقد كثر ورود العلم بهذا المعنى في القرآن كقوله: " ليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب " الحديد: 25: وقوله: " ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم: الجن: 28 وإليه يرجع قول بعضهم في تفسيره " أن المعنى ليظهر معلومنا على ما علمناه. وقوله: " لنعلم أي الحزبين أحصى " الخ تعليل للبعث واللام للغاية والمراد بالحزبين الطائفتان من أصحاب الكهف حين سأل بعضهم بعضا بعد البعث: قائلا كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم على ما يفيده قوله تعالى في الايات التالية: " وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم الخ. وأما قول القائل: إن المراد بالحزبين الطائفتان من قومهم المؤمنون والكافرون كأنهم اختلفوا في أمد لبثهم في الكهف بين مصيب في إحصائه ومخطئ فبعثهم الله تعالى ليبين ذلك ويظهر والمعنى أيقظناهم ليظهر أي الطائفتين المختلفتين من المؤمنين والكافرين في أمد لبثهم مصيبة في قولها، فبعيد. وقوله: " أحصى لما لبثوا أمدا " فعل ماض من الاحصاء، و " أمدا " مفعوله والظاهر أن " لما لبثوا " قيد لقوله " أمدا " وما مصدرية أي أي الحزبين عد أمد لبثهم وقيل: أحصى اسم تفضيل من الاحصاء بحذف الزوائد كقولهم: هو أحصى للمال وأفلس من ابن المذلق (1)، وأمدا منصوب بفعل يدل عليه " أحصى " ولا يخلو من
(1) مثل. (*)
[ 250 ]
تكلف، وقيل غير ذلك. ومعنى الايات الثلاث أعني قوله: " إذ أوى الفتية " إلى قوله: " أمدا " إذ رجع الشبان إلى الكهف فسألوا عند ذلك ربهم قائلين: ربنا هب لنا من لدنك ما ننجو به مما يهددنا بالتخيير بين عبادة غيرك وبين القتل وأعد لنا من أمرنا هدى نهتدي به إلى النجاة فأنمناهم في الكهف سنين معدودة ثم أيقظناهم ليتبين أي الحزبين عد أمدا للبثهم.
والايات الثلاث - كما ترى - تذكر إجمال قصتهم تشير بذلك إلى جهة كونهم من آيات الله وغرابة أمرهم، تشير الاية الاولى إلى دخولهم الكهف ومسألتهم للنجاة والثانية إلى نومهم فيه سنين عددا، والثالثة إلى تيقظهم وانتباههم واختلافهم في تقدير زمان لبثهم. فلاجمال القصة أركان ثلاثة تتضمن كل واحدة من الايات الثلاث واحدا منها وعلى هذا النمط تجري الايات التالية المتضمنة لتفصيل القصة غير أنها تضيف إلى ذلك بعض ما جرى بعد ظهور أمرهم وتبين حالهم للناس وهو الذى يشير إليه قوله: " وكذلك أعثرنا عليهم " إلى آخر آيات القصة. قوله تعالى: " نحن نقص عليك نبأهم بالحق " إلى آخر الاية. شروع في ذكر ما يهم من خصوصيات قصتهم تفصيلا، وقوله: " إنهم فتية آمنوا بربهم " أي آمنوا إيمانا مرضيا لربهم ولو لا ذلك لم ينسبه إليهم قطعا. وقوله: " وزدناهم هدى " الهدى بعد أصل الايمان ملازم لارتقاء درجة الايمان الذي فيه اهتداء الانسان إلى كل ما ينتهى إلى رضوان الله قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به " الحديد: 28. قوله تعالى: " وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا " إلى آخر الايات الثلاث الربط هو الشد، والربط على القلوب كناية عن سلب القلق والاضطراب عنها. والشطط الخروج عن الحد والتجاوز عن الحق والسلطان الحجة والبرهان.
[ 251 ]
والايات الثلاث تحكي الشطر الاول من محاورتهم حين انتهضوا لمخالفة الوثنية ومخاصمتهم إذ " قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والارض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لو لا يأتون عليهم بسلطان بين فمن
أظلم ممن افترى على الله كذبا. وقد أتوا بكلام مملوء حكمة وفهما راموا به إبطال ربوبية أرباب الاصنام من الملائكه والجن و المصلحين من البشر الذين رامت الفلسفة الوثنية إثبات الوهيتهم وربوبيتهم دون نفس الاصنام التي هي تماثيل وصور لاولئك الارباب تدعوها عامتهم آلهة وأربابا، ومن الشاهد على ذلك قوله: " عليهم " حيث أرجع إليهم ضمير " هم " المختص بأولي العقل. فبدؤا بإثبات توحيده بقولهم: " ربنا رب السماوات والارض " فأسندوا ربوبية الكل إلى واحد لا شريك له، والوثنية تثبت لكل نوع من أنواع الخلقية إلها وربا كرب السماء ورب الارض ورب الانسان. ثم أكدوا ذلك بقولهم: " لن ندعوا من دونه إلها " ومن فائدته نفى الالهة الذين تثبتهم الوثنية فوق أرباب الانواع كالعقول الكلية التي تعبده الصابئة وبرهما وسيوا ووشنو الذين تعبدهم البراهمة والبوذية وأكدوه ثانيا بقولهم: " لقد قلنا إذا شططا " فدلوا على أن دعوة غيرة من التجاوز عن الحد بالغلو في حق المخلوق برفعه إلى درجة الخالق. ثم كروا على القوم في عبادتهم غير الله سبحانه باتخاذهم آلهة فقالوا: هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لو لا يأتون عليهم بسلطان بين فردوا قولهم بأنهم لا برهان لهم على ما يدعونه يدل عليه دلالة بينة. وما استدلوا به من قولهم: إن الله سبحانه أجل من أن يحيط به إدراك خلقه فلا يمكن التوجه إليه بالعبادة ولا التقرب إليه بالعبودية فلا يبقى لنا إلا أن نعبد بعض الموجودات الشريفة من عباده المقربين ليقربونا إليه زلفى ! مردود إليهم أما عدم إحاطة الادراك به تعالى فهو مشترك بيننا معاشر البشر وبين من يعبدونه من
[ 252 ]
العباد المقربين، والجميع منا ومنهم يعرفونه بأسمائه وصفاته وآثاره كل على قدر طاقته فله أن يتوجه إليه بالعبادة على قدر معرفته. على أن جميع الصفات الموجبة لاستحقاق العبادة من الخلق والرزق والملك والتدبير له وحده ولا يملك غيره شيئا من ذلك فله أن يعبد وليس لغيره ذلك. ثم اردفوا قولهم: " لو لا يأتون عليهم بسلطان بين " بقولهم " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا " وهو من تمام الحجة الرادة لقولهم، ومعناه أن عليهم أن يقيموا برهانا قاطعا على قولهم فلو لم يقيموه كان قولهم من القول بغير علم في الله وهو افتراء الكذب عليه تعالى، والافتراء ظلم والظلم على الله أعظم الظلم. هذا فقد دلوا بكلامهم هذا أنهم كانوا علماء بالله اولي بصيرة في دينهم، وصدقوا قوله تعالى " وزدناهم هدى " وفي الكلام على ما به من الايجاز قيود تكشف عن تفصيل نهضتهم في بادئها فقوله تعالى: " وربطنا على قلوبهم " يدل على أن قولهم: ربنا رب السماوات والارض " الخ لم يكن بإسرار النجوى وفي خلا من عبدة الاوثان بل كان بإعلان القول والاجهار به في ظرف تذوب منه القلوب وترتاع النفوس وتقشعر الجلود في ملاء معاند يسفك الدماء ويعذب ويفتن. وقوله: " لن ندعوا من دونه إلها " بعد قوله " ربنا رب السماوات والارض. - وهو جحد وإنكار - فيه إشعار وتلويح إلى أنه كان هناك تكليف إجباري بعبادة الاوثان ودعاء غير الله. وقوله: " إذ قاموا فقالوا " إلخ يشير إلى أنهم في بادئ قولهم كانوا في مجلس يصدر عنه الامر بعبادة الاوثان والاجبار عليها والنهي عن عبادة الله والسياسه المنتحلية بالقتل والعذاب كمجلس الملك أو ملاه أو ملا عام كذلك فقاموا وأعلنوا مخالفتهم وخرجوا واعتزلوا القوم وهم في خطر عظيم يهددهم ويهجم عليهم من كل جانب كما يدل عليه قولهم: " وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون من دون الله فأووا إلى الكهف.
هذا يؤيد ما وردت به الرواية - وسيجئ الخبر أن ستة منهم كانوا من خواص الملك يستشيرهم في اموره فقاموا من مجلس وأعلنوا التوحيد ونفي الشريك عنه تعالى.
[ 253 ]
ولا ينافي ذلك ما سيأتي من الروايات أنهم كانوا يسرون إيمانهم ويعملون بالتقية لجواز أن يكونوا سائرين عليها ثم يفاجؤوا القوم بإعلان الايمان ثم يعتزلوهم من غير مهل فلم تكن تسعهم إدامة التظاهر بالايمان وإلا قتلوا بلا شك. وربما احتمل أن يكون المراد بقيامهم قيامهم لله نصرة منهم للحق وقولهم: " ربنا رب السماوات والارض " الخ قولا منهم في أنفسهم وقولهم: وإذ اعتزلتموهم " الخ قولا منهم بعد ما خرجوا من المدينة، أو يكون المراد قيامهم لله " وجميع ما نقل من أقوالهم إنما قالوها فيما بين أنفسهم بعد ما خرجوا من المدينة وتنحوا عن القوم وعلى الوجهين يكون المراد بالربط على قلوبهم أنهم لم يخافوا عاقبة الخروج والهرب من المدينة وهجرة القوم لكن الاظهر هو الوجه الاول. قوله تعالى: " وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف " إلى آخر الاية الاعتزال والتعزل التنحي عن أمر والنشر البسط والمرفق بكسر الميم وفتح الفاء وبالعكس وبفتحهما المعاملة بلطف. هذا هو الشطر الثاني من محاورتهم جرت بينهم بعد خروجهم من بين الناس واعتزالهم إياهم وما يعبدون من دون الله وتنحيهم عن الجميع يشير به بعضهم عليهم أن يدخلوا الكهف ويتستروا فيه من أعداء الدين. وقد تفرسوا بهدي إلهي أنهم لو فعلوا ذلك عاملهم الله من لطفه ورحمته بما فيه نجاتهم من تحكم القوم وظلمهم والدليل على ذلك قولهم بالجزم: " فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته " الخ ولم يقولوا: عسى أن ينشر أو لعل. وهذان اللذان تفرسوا بهما من نشر الرحمة وتهيئة المرفق هما اللذان سألوهما بعد دخول الكهف إذ قالوا - كما حكى الله " ربنا آتنا من لدنك رحمة وهئ لنا من أمرنا رشدا ".
والاستثناء في قوله: وما يعبدون إلا الله " استثناء منقطع فإن الوثنيين لم يكونوا يعبدون الله مع سائر آلهتهم حتى يفيد الاستثناء إخراج بعض ما دخل أولا في المستثنى منه فيكون متصلا فقول بعضهم: إنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون
[ 254 ]
الاصنام كسائر المشركين. وكذا قول بعض آخر يجوز: إنه كان فيهم من يعبد الله مع عبادة الاصنام فيكون الاستثناء متصلا في غير محله، إذ لم يعهد من الوثنيين عبادة الله سبحانه مع عبادة الاصنام، وفلسفتهم لا تجيز ذلك، وقد أشرنا إلى حجتهم في ذلك آنفا. قوله تعالى: " وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال " إلى آخر الايتين التزاور هو التمايل مأخوذ من الزور بمعنى الميل والقرض القطع والفجوة المتسع من الارض وساحة الدار والمراد بذات اليمين وذات الشمال الجهة التي تلي اليمين أو الشمال أو الجهة ذات اسم اليمين أو الشمال وهما جهتا اليمين والشمال. وهاتان الايتان تمثلان الكهف ومستقرهم منه ومنظرهم وما يتقلب عليهم من الحال أيام لبثهم فيه وهم رقود والخطاب للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بما أنه سامع لا بما أنه هو، وهذا شائع في الكلام، والخطاب على هذا النمط يعم كل سامع من غير أن يختص بمخاطب خاص. فقوله وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه " يصف موقع الكهف وموقعهم فيه وهم نائمون وأما إنامتهم فيه بعد الاوي إليه ومدة لبثهم فيه فقد اكتفى في ذلك بما أشير إليه في الايات السابقة من إنامتهم ولبثهم وما سيأتي من قوله: " ولبثوا في كهفهم " " الخ " إيثارا للايجاز. والمعنى: وترى أنت وكل راء يفرض اطلاعه عليهم وهم في الكهف يرى الشمس
إذا طلعت تتزاور وتتمايل عن كهفهم جانب اليمين فيقع نورها عليه، وإذا غربت تقطع جانب الشمال فيقع شعاعها عليه وهم في متسع من الكهف لا تناله الشمس. وقد أشار سبحانه بذلك إلى أن الكهف لم يكن شرقيا ولا غربيا لا يقع عليه شعاع الشمس إلا في أحد الوقتين بل كان قطبيا يحاذي ببابه القطب فيقع شعاع الشمس على أحد جانبيه من داخل طلوعا وغروبا، ولا يقع عليهم لانهم كانوا في متسع منه فوقاهم الله بذلك من أن يؤذيهم حر الشمس أو يغير ألوانهم أو يبلي ثيابهم بل كانوا