تفسير الميزان - السيد الطباطبائي ج 12

تفسير الميزان

السيد الطباطبائي ج 12


[ 1 ]

الميزان في تفسير القران 12

[ 3 ]

الميزان في تفسير القرآن كتاب علمي، فني، فلسفي، أدبي، تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره الجزء الثاني عشر منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم القمدسة

[ 4 ]

تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره

[ 5 ]

بسم الله الرحمن الرحيم (سورة ابراهيم مكية وهى اثنتان وخمسون آية) " بسم الله الرحمن الرحيم الر كتاب انزلناه اليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور باذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد - 1. الله الذى له ما في السموات وما في الارض وويل للكافرين من عذاب شديد - 2 الذين يستحبون الحيوة الدنيا على الاخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا اولئك في ضلال بعيد - 3 وما ارسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدى من يشاء وهو العزيز الحكيم - 4 ولقد ارسلنا موسى بآياتنا ان اخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بايام الله ان في ذلك لايات لكل صبار شكور - 5 "

[ 6 ]

(بيان) السورة الكريمة تصف القرآن النازل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حيث انه آية رسالته يخرج به الناس من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط الله سبحانه الذى هو عزيز حميد أي غالب غير مغلوب وغنى غير محتاج إلى الناس وجميل في فعله منعم عليهم وإذا كان المنعم غالبا غنيا حميد الافعال كان على المنعم عليهم ان يجيبوا دعوته ويلبوا نداءه حتى يسعدوا بما افاض عليهم من النعم وان يخافوا سخطه وشديد عذابه فانه قوى غير محتاج إلى احد له ان يستغنى عنهم فيذهب بهم ويأتى بآخرين كما فعل بالذين كفروا بنعمته من الامم الماضين فان آيات السماوات والارض ناطقة بأن النعمة كلها له وهو رب العزة وولى الحمد لا رب سواه. وبهذا تختتم السورة إذ يقول عز من قائل: " هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا انما هو اله واحد وليذكر اولوا الالباب ". ولعل ما ذكرنا هو مراد من قال ان السورة مفتتحة ببيان الغرض من الرسالة والكتاب يشير إلى قوله تعالى: " لتخرج الناس من الظلمات إلى النور باذن ربهم ". والسورة مكية على ما يدل عليه سياق آياتها ونسب إلى ابن عباس والحسن وقتادة انها مكية الا آيتين منها نزلتا في قتلى بدر من المشركين: " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار " وسياتى ان الايتين غير صريحتين ولا ظاهرتين في ذلك. قوله تعالى: " الر كتاب انزلناه اليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور باذن ربهم " أي هذا كتاب انزلناه اليك فهو خبر لمبتدأ محذوف على ما يعطيه السياق وقيل غير ذلك. وقوله: " لتخرج الناس من الظلمات إلى النور " ظاهر السياق عموم الناس لا

[ 7 ]

خصوص قومه صلى الله عليه وآله وسلم ولا خصوص المؤمنين منهم إذ لا دليل على التقييد من جهة اللفظ وكلامه تعالى صريح في عموم الرسالة كقوله: " ليكون للعالمين نذيرا " الفرقان: 1 وقوله: " لانذركم به ومن بلغ " الانعام: 19 وقوله: " قل يا ايها الناس انى رسول الله اليكم جميعا " الاعراف: 158 والايات الصريحة في دعوة اليهود وعامة اهل الكتاب وعمله صلى الله عليه وآله وسلم في دعوتهم وقبول ايمان من آمن منهم كعبد الله بن سلام وسلمان وبلال وصهيب وغيرهم تؤيد ذلك. على ان آخر السورة هذا بلاغ: " للناس ولينذروا به " الاية وقد قوبل به اولها يؤيد ان المراد بالناس اعم من المؤمنين الذين خرجوا من الظلمات إلى النور بالفعل. وقد نسب الاخراج من الظلمات إلى النور إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكونه احد الاسباب الظاهرية لذلك واليه ينتهى ايمان المؤمنين بدعوته بلا واسطة أو بواسطة ولا ينافيه قوله: " انك لا تهدى من احببت ولكن الله يهدى من يشاء " القصص: 56 فان الاية انما تنفى اصالته صلى الله عليه وآله وسلم في الهداية واستقلاله فيها من غير ان تنفى عنه مطلق الهداية حتى ما يكون على نحو الوساطة وباذن من الله تعالى والدليل عليه قوله تعالى: " وانك لتهدى إلى صراط مستقيم " الشورى: 52 ولذلك قيد سبحانه قوله لتخرج بقوله باذن ربهم. والمراد بالظلمات والنور: الضلال والهدى وقد تكرر في كلامه تعالى اعتبار الهدى نورا وعد الضلال ظلمة وجمع الظلمات دون النور لان الهدى من الحق والحق واحد لا تغاير بين اجزائه ومصاديقه ولا كثرة بخلاف الضلال فانه من اتباع الهوى والاهواء مختلفة متغاير بعضها مع بعض لا وحدة بينها ولا اتحاد لابعاضها ومصاديقها قال تعالى: " وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " الانعام: 153. واللام في قوله لتخرج الناس الخ لام الغرض بناء على عموم الناس كما هو ظاهر الاية وليس بلام العاقبة إذ لو كان كذلك لكان الناس كلهم مؤمنين والمعلوم خلافه.

[ 8 ]

واما ما اعترض عليه بعضهم ان التربية الالهية بإخراج الناس من الظلمات إلى النور وايصالهم إلى السعادة والكمال مشروطة بالتهيؤ والاستعداد مع كون الفيض عاما فالمقدار الممكن من هذه العاقبة على تقدير عمومه هو هذا المقدار. ففيه انه اعتراف بأن كون اللام للعاقبة خلاف ظاهر الاية فان الذى ذكره لا يتم الا بتقييد الناس بالمستعدين لكن الذى يجب ان يعلم ان هذا الغرض غرض تشريعي معناه ان للحكم غاية مقصودة وهى المصلحة التى يستعقبها فان الله سبحانه يدعو الناس ليغفر لهم ويهديهم إلى الايمان والعمل الصالح ليسعدهم بذلك ويدخلهم الجنة ويرسل الرسل وينزل عليهم الكتاب ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور باذن ربهم ويريد بما يوجهه إليهم من الامر والنهى ان يطهرهم ويذهب عنهم رجز الشيطان والايات الدالة على ذلك كثيرة لا موجب لايرادها وكذا الروايات ولعلها تزهو الالوف. وقد قال سبحانه: " إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون " الزخرف: 3 وقال " وما ارسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدى من يشاء " الاية - 4 من السورة فبين ان ما نعقله من كتابه ويظهر لنا من بيان رسوله حجة لا مناص عنه ونحن لا نعقل من قوله مثلا: " يدعوكم ليغفر لكم " ابراهيم: 10 الا ان المغفرة غرض الدعوة كما لا نعقل من قول السيد لعبده أو أي متبوع لتابعه ائتنى بماء لاشربه أو بغذاء لآكله أو اكس فلانا ليستر به عورته الا ان الشرب والاكل وستر العورة اغراض لاوامرها فلله سبحانه فيما ينزله من الاحكام والشرائع اغراض وغايات مقصودة. نعم بين سبحانه ان ساحته منزهة عن الفقر والحاجة مبرأة عن النقص والشين إذ قال: " ان الله لغنى عن العالمين " العنكبوت: 6 وقال وربك الغنى ذو الرحمة " الانعام: 133 وقال: " يا ايها الناس انتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى " فاطر: 15 فأفاد انه في غنى عن كل شئ لا ينتفع بشئ من هذه الاغراض وليست افعاله تعالى بالعبث والجزاف حتى تخلو عن الغرض كيف ؟ وقد وصف نفسه بالحكمة والحكيم لا يعبث ولا يجازف ونص على انتفاء العبث من فعله: " أفحسبتم انما خلقناكم عبثا "

[ 9 ]

المؤمنون: 115 والامر والنهى اللذان يتم بهما الكمال في العالم الانساني يعودان بالآخرة إلى ما يتم به الخلقة. فلله سبحانه في خلقه وامره اغراض وان كان لا يستكمل باغراض افعاله كما نستكمل نحن باغراض افعالنا لكنه سبحانه لا يتأثر عن اغراضه وبعبارة اخرى الحكم والمصالح لا تؤثر فيه تعالى كما ان مصلحة الفعل تؤثر فينا فيبعثنا تعقلها نحو الفعل ونرجح الفعل على الترك فانه سبحانه هو القاهر غير المقهور والغالب غير المغلوب يملك كل شئ ولا يملكه شئ ويحكم على كل شئ ولا يحكم عليه شئ ولم يكن له شريك في الملك ولا ولي من الذل فلا يكون تعالى محكوما بعقل بل هو الذى يهدى العقل إلى ما يعقله ولا تضطره مصلحة إلى فعل ولا مفسدة إلى ترك بل هو الهادى لهما إلى ما توجبانه. فالغرض والمصلحة منتزعة من مقام فعله بمعنى ان فعله يتوقف على المصلحة لكنها لا تحكم في ذاته تعالى ولا تضطره إلى الفعل فكما انه تعالى إذا خلق شيئا وقال له كن فكان كزيد مثلا انتزع العقل من العين الخارجية نفسها انها ايجاد من الله تعالى ووجود لزيد وحكم بأن وجوده يتوقف على ايجاده كذلك ينتزع العقل من فعله تعالى بالنظر إلى ما اشرنا إليه من صفاته العليا انه فعله وانه ذو مصلحة مقصودة ثم يحكم بأن تحقق الفعل يتوقف على كونه ذا مصلحة. فهذا هو الذى يعطيه التدبر في كلامه تعالى في كون افعاله تعالى مشتملة على الحكم والمصالح متوقفة على الاغراض والمتحصل من ذلك ان له تعالى في افعاله اغراضا لكنها راجعة إلى خلقه دونه. وملخصه ان غرضه في فعله يفارق اغراضنا في افعالنا من وجهين احدهما انه تعالى لا يستكمل بأغراض افعاله وغاياتها بخلافنا معاشر ذوى الشعور والارادة من الانسان وسائر الحيوان وثانيهما ان المصلحة والمفسدة لا تحكمان فيه تعالى بخلاف غيره. واما النزاع المعروف بين الاشاعرة والمعتزلة في ان افعال الله معللة بالاغراض أم

[ 10 ]

لا ؟ بمعنى انه تعالى هل هو محكوم بالمصلحة الواقعية في فعله بحيث ان المصلحة ترجح له الفعل على الترك ولولاها لم يكن له ليفعل ؟ أو انه لا غاية له في فعله وانما يفعل بارادة جزافية من غير غرض ؟ فذلك مما لا يهدى إلى شئ من طرفيه النظر المستوفى والحق خلاف القولين جميعا وهو امر بين الامرين كما اشرنا إليه ولعلنا نوفق فيما سيأتي من الكتاب لعقد بحث مستقل في المسألة نستوفي فيه النظر العقلي والنقلى فيها ان شاء الله تعالى. وفي قوله باذن ربهم التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة والنكتة فيه التخلص إلى ذكر صفة الربوبية وتسجيل انه تعالى هو رب هؤلاء المشركين الذين اتخذوا له اندادا فان وجه الكلام في الحقيقة إليهم وان كان المخاطب به هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم دونهم ولتكون هذه التسمية وهى في مفتتح الكلام مبدء لما سيذكر في السورة من الحجة على توحيد الربوبية. قوله تعالى: " إلى صراط العزيز الحميد الله الذى له ما في السماوات وما في الارض " العزة تقابل الذلة قال الراغب العزة حالة مانعة للانسان من ان يغلب من قولهم ارض عزاز أي صلبة قال تعالى: " أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا " وتعزز اللحم اشتد وعز كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه انتهى موضع الحاجة. فعزة العزيز هي كونه بحيث يصعب نيله والوصول إليه ومنه عزيز القوم وهو الذى يقهر ولا يقهر لانه ذو مقام لا يصل إليه من قصده دون ان يمنع قبل الوصول إليه ويقهر ومنه العزيز لما قل وجوده لصعوبة نيله ومنه العزيز بمعنى الشاق لان الذى يشق على الانسان يصعب حصوله قال تعالى: " عزيز عليه ما عنتم " التوبة: 128 ومنه قوله: " وعزنى في الخطاب " ص: 23 أي غلبنى على ما فسر به. والله سبحانه عزيز لانه الذات الذى لا يقهره شئ من جهة وهو يقهر كل شئ من كل جهة ولذلك انحصرت العزة فيه تعالى فلا توجد عند غيره الا باكتساب منه

[ 11 ]

وباذنه قال تعالى: " أيبتغون عندهم العزة فان العزة لله جميعا " النساء: 139 وقال " من كان يريد العزة فلله العزة جميعا " فاطر: 10. والحميد فعيل بمعنى المفعول من الحمد وهو الثناء على الجميل الاختياري واذ كان كل جمال ينتهى إليه سبحانه كان جميع الحمد له كما قال: " الحمدلله رب العالمين " سورة الحمد: 2 ومن غريب القول ما عن الامام الرازي على ماسننقله ان الحميد معناه العالم الغنى. وقوله إلى صراط العزيز الحميد بدل من قوله إلى النور يبين به ما يوصل إليه الكتاب الذى انزله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بيانا بعد بيان فنبه اولا بأنه نور يميز الحق من الباطل والخير من الشر والسعادة من الشقاوة وثانيا بأنه طريق واضح يجمع سالكيه في متنه وينتهى بهم جميعا إلى الله العزيز الحميد. والوجه في ذكر الصفتين الكريمتين العزيز الحميد انهما مبدءان لما سيورد في السورة من الكلام الموجه إليهم فإن عمدة الكلام في السورة هي تذكيرهم ان الله أنعم عليهم بربوبيته كل نعمة عظيمة ثم عزم عليهم من طريق رسله ان يشكروه ولا يكفروه ووعد رسله انهم إن آمنوا ادخلهم الجنة وإن كفروا انتقم منهم وأوردهم مورد الشقاء والعذاب فليخافوا ربهم وليحذروا مخالفة امره وكفران نعمته لان له كل العزة لا يمنع عن حلول سخطه بهم ونزول عذابه عليهم شئ حميد لا يذم في اثابته المؤمنين ولا في تعذيب الكافرين كما لا يذم فيما بسط عليهم من نعمه التى لا تحصى. فجل الكلام في هذه السورة فيما يقتضيه الصفات الثلاث توحده تعالى بالربوبية وعزته وكونه حميدا في افعاله فليخف من عزته المطلقة وليشكر وليوثق بما وعد وليتذكر من آيات ربوبيته. وفي روح المعاني عن ابى حيان النكتة في ذلك انه لما ذكر قبل انزاله تعالى لهذا الكتاب واخراج الناس من الظلمات إلى النور باذن ربهم ناسب ذكر هاتين الصفتين صفة العزة المتضمنة للقدرة والغلبة لا نزاله مثل هذا الكتاب المعجز الذى لا

[ 12 ]

يقدر عليه سواه وصفة الحمد لانعامه بأعظم النعم لاخراج الناس من الظلمات إلى النور قال ووجه التقديم والتأخير على هذا ظاهر انتهى وهو اجنبي عن سياق آيات السورة البتة ولعله مأخوذ من قوله تعالى في وصف القرآن: " وانه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد " حم السجدة 42 لكن المقام غير المقام. وعن الامام في تفسيره انما قدم ذكر العزيز على ذكر الحميد لان الصحيح ان اول العلم بالله تعالى العلم بكونه قادرا ثم بعد ذلك العلم بكونه عالما ثم بعد ذلك العلم بكونه غنيا عن الحاجات والعزيز هو القادر والحميد هو العالم الغنى فلما كان العلم بكونه قادرا متقدما على العلم بكونه عالما بالكل غنيا عنه لا جرم قدم ذكر العزيز على ذكر الحميد انتهى وهو مجازفة عجيبة. وقريب منه في المجازفة قول بعضهم قدم العزيز على الحميد اعتناء بأمر الصفات السلبية كما يؤذن به قولهم التخلية اولى من التحلية فان العزة كما تقدم من الصفات السلبية بخلاف الحمد. وربما قيل في وجه تخصيص الوصفين بالذكر انه للترغيب في سلوك هذا الصراط لانه صراط العزيز الحميد فيعز سالكه ويحمد سابله انتهى وهو وجه الاحرى به ان يجعل من الفوائد المتفرعة دون السبب الموجب والوجه ما قدمناه. واما قوله " الله الذى له ما في السماوات والارض " فبيان للعزيز الحميد والمراد بما في السماوات والارض كل ما في الكون فيشمل نفس السماوات والارض كما يشمل ما فيهما فهو تعالى يملك كل شئ من كل جهة بحقيقة معنى الملك. وفيه اشارة إلى الحجة في كونه تعالى عزيزا حميدا فانه تعالى وان كان هو الذى يحق الحق بكلماته وهو الذى ينجح كل حجة في دلالتها لكنه جارى عباده في كلامه على ما فطرهم عليه وذلك انه تعالى لما ملك كل خلق وامر بحقيقة معنى الملك فهو المالك لكل قهر وغلبة فلا قهر الا منه ولا غلبة الا له فهو تعالى عزيز وله أن

[ 13 ]

يتصرف في ما يشاء بما يشاء ولا يكون تصرفه الا محمودا غير مذموم لان التصرف انما يكون مذموما إذا كان المتصرف لا يملكه اما عقلا أو شرعا أو عرفا واى تصرف نسبه إليه تعالى عقل أو شرع أو عرف فانه يملكه فهو تعالى حميد محمود الافعال. قوله تعالى: " وويل للكافرين من عذاب شديد " بيان لما تقتضيه صفة العزة من القهر لمن يرد دعوته ويكفر بنعمته. قوله تعالى: " الذين يستحبون الحياة الدنيا على الاخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا " الخ قال الراغب في المفردات وقوله عز وجل ان استحبوا الكفر على الايمان أي ان آثروه عليه وحقيقة الاستحباب ان يتحرى الانسان في الشئ ان يحبه واقتضى تعديته بعلى معنى الايثار وعلى هذا قوله تعالى: " واما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " انتهى. ومعنى استحباب الدنيا على الاخرة اختيار الدنيا وترك الاخرة رأسا ويقابله اختيار الاخرة على الدنيا بمعنى اخذ الاخرة غاية للسعى وجعل الدنيا مقدمة لها يتوسل بها إليها واما اختيار الاخرة وترك الدنيا من اصلها فانه مضاف إلى عدم امكانه بحقيقة معنى الكلمة يوجب اختلال امر الاخرة وينجر إلى تركها بالاخرة فالحياة الدنيا حياة منقطعة والحياة الاخرة حياة دائمة يتوسل إلى سعادتها من طريق الدنيا بالاكتساب فمن اختار الاخرة واثبتها لزمه اثبات الدنيا لمكان مقدميتها ومن اختار الدنيا وجعلها غاية لزمه نفى الاخرة من اصلها لانها لو ثبتت ثبتت غاية واذ لم يجعل غاية انتفت فليس بين يدى الانسان الا خصلتان اختبار الاخرة على الدنيا بجعل الاخرة غاية واثبات الدنيا معها للمقدمية واختيار الدنيا على الاخرة بجعل الدنيا غاية ونفى الاخرة من اصلها. وايضاح المقام ان الانسان لا بغية له الا سعادة حياته وحبه لها فطرى وقد اوضحنا ذلك في مواضع متفرقة فيما تقدم والذى يثبته كتاب الله من امر الحياة انها دائمة غير منقطعة بالموت فلا محالة تنقسم بالنظر إلى تخلل الموت إلى حياتين الحياة الدنيا المؤجلة بالموت و الحياة الاخرة بعد الموت وهى تتفرع في سعادتها وشقائها على

[ 14 ]

الحياة الدنيا وما يكتسبه الانسان في الدنيا من ناحية الاعمال الحيوية من حسنة أو سيئة ولا مفر للانسان من هذه الاعمال لما عنده من حب الحياة الفطري. وهذه الاعمال أعنى السنة التى يستن بها الانسان في حياته الدنيا الكاسبة له التقوى أو الفجور والحسنة أو السيئة هي التى تسمى في كتاب الله دينا وسبيلا فلا مفر للانسان من سنة حسنة أو سيئة ودين حق أو باطل. ولما كان من سنة الله سبحانه الجارية ان يهدى كل نوع من الانواع إلى سعادته وكماله ومن كمال الانسان وسعادته ان يعيش عيشة اجتماعية ويستن بسنة حيوية شرع الله سبحانه له دينا مبنيا على فطرته التى فطر عليها وهو سبيل الله الذى يسلكه ودينه الذى يتدين به فان جرى على ما شرعته له الربوبية وهدته إليه الفطرة فقد سلك سبيل الله وابتغاه مستقيما وان اتبع الهوى وصد نفسه عن سبيل الله واشتغل بما يزينه له الشيطان فقد ابتغى سبيل الله عوجا منحرفا. اما انه يبتغى سبيل الله فان الله هو الذى فطره على طلب السبيل وابتغاء الصراط ولا يهدى البتة الا إلى ما يرتضيه وهو سبيل نفسه وأما أنه منحرف ذو عوج فلانه لا يهدى إلى الحق وما ذا بعد الحق الا الضلال ؟ والايات القرآنية الدالة على هذا الذى قدمناه متكاثرة لا حاجة إلى ايرادها. إذا عرفت هذا لاح لك ان قوله في تفسير الكافرين الذين يستحبون الحياة الدنيا على الاخرة مفاده انهم يتعلقون تمام التعلق بالحياة الدنيا ويعرضون عن الاخرة بنفيها وهو الكفر بالمعاد المستلزم للكفر بالتوحيد والنبوة. وقوله ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا مفاده انهم يكفون انفسهم عن الاستنان بسنة الله والتدين بدينه أو يصدون ويصرفون الناس عن الايمان بالله واليوم الاخر والتشرع بشريعته عنادا منهم للحق ويطلبون سنة الله عوجا ومنحرفة بالاستنان بغيرها من سنة اجتماعية ايا ما كانت ثم سجل عليهم الضلال بقوله سبحانه: اولئك في ضلال بعيد.

[ 15 ]

ويظهر بما تقدم فساد قول بعضهم ان المراد بقوله يبغونها عوجا يبغون لها عوجا أي يطلبون لها زيغا واعوجاجا حتى يعيبوها به ويصدوا الناس عنها بسببه. وقول بعضهم المعنى يطلبون ان يروا فيها عوجا يكون قادحا فيقدحوا فيها به. وقول بعضهم المعنى يطلبون لاهلها ان يعوجوا وينحرفوا بالرد فهو المراد بطلبهم الدين منحرفا وانحرافه فساد ما عند المؤمنين من معارفه وفساد هذه الاقوال ظاهر. قوله تعالى وما ارسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم إلى آخر الاية. اللسان هو اللغة قال تعالى: " بلسان عربي مبين " الشعراء: 195. والضمير في قومه عائد إلى رسول وفي لهم إلى قومه والمحصل ما ارسلنا من رسول الا بلسان قوم ذلك الرسول ليبين لقومه ومن الخطأ ارجاع ضمير قومه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليفيد ان الله سبحانه كان يوحى إلى جميع الرسل بالعربية لفساد المعنى بذلك لرجوع ضمير لهم إلى قومه فيفيد ان الله انزل التوراة لموسى مثلا بالعربية ليبين للعرب كما في الكشاف. والمراد بإرسال الرسول بلسان قومه ارساله بلسان القوم الذين كان يعيش فيهم ويخالطهم ويعاشرهم وليس المراد به الارسال بلسان القوم الذين هو منهم نسبا لانه سبحانه يصرح بمهاجرة لوط عليه السلام من كلدة وهم سريانية اللسان إلى المؤتفكات وهم عبرانيون وسماهم قومه وارسله إليهم ثم أنجاه وأهله الا امرأته وهى منهم وأهلكهم قال تعالى: " فآمن له لوط وقالى انى مهاجر إلى ربى " العنكبوت: 26 وفي مواضع من كلامه تعالى قوم لوط. واما من ارسل إلى ازيد من امة وهم اولوا العزم من الرسل فمن الدليل على أنهم كانوا يدعون اقواما من غير اهل لسانهم ما حكاه الله من دعوة ابراهيم عليه السلام عرب الحجاز إلى الحج ودعوة موسى عليه السلام فرعون وقومه إلى الايمان وعموم دعوة

[ 16 ]

النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد اشتمل القرآن على دعوة اليهود والنصارى وغيرهم وقبول ايمان من آمن منهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذا ما يستفاد من عموم دعوة نوح عليه السلام وعلى هذا فالمراد بقوله: " وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم " والله اعلم ان الله لم يبن ارسال الرسل والدعوة الدينية على اساس معجز خارق للعادة الجارية ولا فوض إلى رسله من الامر شيئا بل ارسلهم باللسان العادى الذى كانوا يكالمون قومهم ويحاورونهم به ليبينوا لهم مقاصد الوحى فليس لهم الا البيان واما ما وراء ذلك من الهداية والاضلال فالى الله سبحانه لا يشاركه في ذلك رسول ولا غيره. فتعود الاية كالبيان والايضاح لقوله تعالى قبل: " كتاب انزلناه اليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور باذن ربهم " وان معنى اخراجك الناس من الظلمات إلى النور ان تبين لهم ما انزل الله لا ازيد من ذلك فيكون في معنى قوله: " وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم " النحل: 44. واما قوله: " فيضل الله من يشاء ويهدى من يشاء " فإشارة إلى ما اومأنا إليه ان امر الهدى والضلال إلى الله لا يتحقق شئ منهما الا عن مشية منه تعالى غير انه سبحانه اخبرنا ان هذه المشية منه ليست جزافية غير منتظمة بل لها نظم ثابت فمن اتبع الحق ولم يعانده هداه الله ومن جاحده واتبع هواه اضله الله فهو اضلال مجازاة غير الاضلال الابتدائي المذموم. وقد قدم سبحانه الاضلال على الهداية إذ قال: " فيضل الله من يشاء ويهدى من يشاء " لان ذلك احوج إلى البيان بالنظر إلى ان الكلام مبنى على عزته المطلقة فكان من الواجب ان يبين ان ضلال من يضل عن السبيل كهدى من اهتدى إليها انما هو بمشية منه تعالى ولم يغلب في ارادته ولم يزاحم في ملكه حتى لا يخيل إلى كل مغفل من الناس ان الله يصف نفسه بالعزة المطلقة وانه غالب غير مغلوب وقاهر غير مقهور ثم يدعو الناس فلا يستجيبون دعوته ويأمرهم وينهاهم فيعصون ولا يطيعون وهل هذا الا غلبة منهم وقهر وهو مغلوب مقهور ؟ فكأنه تعالى اجاب عن ذلك بأن معنى دعوته تعالى ان يرسل رسولا بلسان

[ 17 ]

قومه فيبين لهم ما يسعدهم مما يشقيهم واما ضلال من ضل من الناس كهدى من اهتدى منهم فبمشية من الله واذنه وحاشاه ان يقهر في سلطانه أو يتصرف في ملكه احد بغير اذنه. فضلال من ضل منهم دليل عزته فضلا ان يكون ناقضا لها كما ان هدى من اهتدى كذلك ولذلك ذيل الكلام بقوله وهو العزيز الحكيم فهو سبحانه عزيز لا يغلبه ولا يضره ضلال من ضل منهم ولا ينفعه هدى من اهتدى حكيم لا يشاء ما شاء جزافا وعبثا بل عن نظام متقن دائمي قوله تعالى: " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن اخرج قومك من الظلمات إلى النور " إلى آخر الاية إذ كان الكلام في السورة مبنيا على الانذار والتذكير بعزة الله سبحانه ناسب ان يذكر ارسال موسى بالايات لهداية قومه فان قصة رسالته من اوضح مصاديق ظهور العزة الالهية من بين الرسل وقد قال تعالى فيه: " ولقد ارسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين " المؤمن: 23 وقال حاكيا عنه عليه السلام: " وان لا تعلوا على الله انى آتيكم بسلطان مبين " الدخان: 19. فوزان الاية اعني قوله ولقد ارسلنا موسى بآياتنا ان اخرج قومك من الظلمات إلى النور من قوله كتاب انزلناه اليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور باذن ربهم وزان التنظير بداعي التأييد وتطييب النفس كما في قوله: " إنا أوحينا اليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " النساء: 163. واما ما ذكر بعضهم ان الاية شروع في تفصيل ما اجمل في قوله وما ارسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم فبعيد كل البعد ونظيره في البعد قول بعضهم ان المراد بالايات التى ارسل بها موسى آيات التوراة دون المعجزات التى ارسل عليه السلام بها كالثعبان واليد البيضاء وغيرهما. على ان الله سبحانه وتعالى لم يعد في كلامه التوراة من آيات رسالة موسى ولا ذكر انه أرسله بها قط وانما ذكر انه انزلها عليه وآتاه اياها.

[ 18 ]

ولم يقيد قوله ان اخرج قومك الخ بالاذن كما قيد به قوله للنبى صلى الله عليه وآله وسلم لتخرج الناس الخ لان قوله ههنا اخرج قومك امر يتضمن معنى الاذن بخلاف قوله هناك لتخرج الناس. وقوله: " وذكرهم بأيام الله " لا شك ان المراد بها ايام خاصة ونسبة ايام خاصة إلى الله سبحانه مع كون جميع الايام وكل الاشياء له تعالى ليست الا لظهور امره تعالى فيها ظهورا لا يبقى معه لغيره ظهور فهى الازمنة والظروف التى ظهرت أو سيظهر فيها امره تعالى وآيات وحدانيته وسلطنته كيوم الموت الذى يظهر فيه سلطان الاخرة وتسقط فيه الاسباب الدنيوية عن التأثير ويوم القيامة الذى لا يملك فيه نفس لنفس شيئا والامر يومئذ لله وكالايام التى اهلك الله فيها قوم نوح وعاد وثمود فان هذه وامثالها ايام ظهر فيها الغلبة والقهر الالهيان وان العزة لله جميعا. ويمكن ان يكون منها ايام ظهرت فيها النعم الالهية ظهورا ليس فيه لغيره تعالى صنع كيوم خروج نوح عليه السلام وأصحابه من السفينة بسلام من الله وبركات ويوم انجاء ابراهيم من النار وغيرهما فانها ايضا كسوابقها لا نسبة لها في الحقيقة إلى غيره تعالى فهى ايام الله منسوبة إليه كما ينسب الايام إلى الامم والاقوام ومنه ايام العرب كيوم ذى قار ويوم فجار ويوم بغاث وغير ذلك. وتخصيص بعضهم الايام بنعماء الله سبحانه بالنظر إلى ما سيأتي من ذكر نعمه تعالى كتخصيص آخرين لها بنقماته تعالى خال عن الوجه بعد ما كان الكلام جاريا في السورة على ما تقتضيه عزته تعالى ومن مقتضى صفة عزته الانعام على العباد والاخذ الشديد ان كفروا بنعمته. ثم تمم الكلام بقوله: " ان في ذلك لآيات لكل صبار شكور " أي كثير الصبر عند الضراء وكثير الشكر على النعماء.

[ 19 ]

(بحث روائي) في الدر المنثور اخرج احمد عن ابى ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لم يبعث الله نبيا الا بلسان قومه وفيه اخرج النسائي وعبد الله بن احمد في زوائد المسند وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن ابى بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: " وذكرهم بأيام الله " قال بنعم الله وآلائه اقول وهو بيان بعض المصاديق وروى ما في معناه الطبرسي والعياشي عن الصادق عليه السلام. وفي امالي الشيخ باسناده عن عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله في حديث طويل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ايام الله نعماؤه وبلاؤه وهو مثلاته سبحانه وفي تفسير القمى قال ": قال ايام الله ثلاثة: يوم القائم ويوم الموت ويوم القيامة اقول المراد بيان ايامه تعالى العظيمة لا حصر مطلق ايامه. وفي المعاني باسناده عن مثنى الحناط عن ابى جعفر وابى عبد الله عليهما السلام قالا: ايام الله ثلاثة يوم يقوم القائم ويوم الكرة ويوم القيامة. اقول وهى كسابقتها واختلاف الروايات في تعداد المصاديق يؤيد ما قدمناه في بيان الاية. * * * واذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ انجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون ابناءكم

[ 20 ]

ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم - 6 واذ تأذن ربكم لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي لشديد - 7 وقال موسى ان تكفروا انتم ومن في الارض جميعا فان الله لغنى حميد - 8 ألم يأتكم نبؤ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم الا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا ايديهم في افواههم وقالوا انا كفرنا بما ارسلتم به وانا لفى شك مما تدعوننا إليه مريب - 9 قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والارض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى اجل مسمى قالوا ان انتم الا بشر مثلنا تريدون ان تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين - 10 قالت لهم رسلهم ان نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا ان نأتيكم بسلطان الا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون - 11 وما لنا الا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون - 12 وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين - 13 ولنسكننكم الارض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد - 14

[ 21 ]

واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد - 15 من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد - 16 يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ - 17 مثل الذين كفروا بربهم اعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شئ ذلك هو الضلال البعيد - 18. (بيان) الآيات تشتمل على ذكر نبذة من نعم الله ونقمه في ايامه وظاهر سياق الايات انها من كلام موسى عليه السلام غير قوله تعالى: " واذ تأذن ربكم " الاية فهى حكاية قول موسى يذكر فيها قومه ببعض ايام الله سبحانه على ما يقتضيه عزته المطلقة من انزال النعم والنقم ووضع كل في موضعه الذى يليق به حسب ما اقتضته حكمته البالغة. قوله تعالى: " واذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم " إلى آخر الاية السوم على ما ذكره الراغب بمعنى الذهاب في ابتغاء الشئ فهو لفظ لمعنى يتركب من الذهاب والابتغاء فكأنه في الاية بمعنى اذاقة العذاب والاستحياء استبقاء الحياة. والمعنى واذكر ايها الرسول لزيادة التثبت في ان الله عزيز حميد إذ قال موسى لقومه وهم بنو اسرائيل اذكروا نعمة الله عليكم يوم انجاكم من آل فرعون وخاصة من القبط والحال انهم مستمرون على اذاقتكم سوء العذاب ويكثرون ذبح الذكور من اولادكم وعلى استبقاء حياة نسائكم للاسترقاق وفي ذلكم بلاء ومحنة من ربكم عظيم.

[ 22 ]

قوله تعالى: " واذ تأذن ربكم لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي لشديد " قال في المجمع التأذن الاعلام يقال آذن وتأذن ومثله أوعد وتوعد انتهى. وقوله واذ تأذن ربكم الخ معطوف على قوله واذ قال موسى لقومه وموقع الاية التالية وقال موسى الخ من هذه الاية كموقع قوله ولقد ارسلنا موسى الخ من قوله كتاب انزلناه اليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور الخ فافهم ذلك فهو الانسب بسياق كلامه تعالى. وذكر بعضهم انه داخل في مقول موسى وليس بكلام مبتدء وعليه فهو معطوف على قوله نعمة الله عليكم والتقدير اذكروا نعمة الله عليكم واذكروا إذ تأذن ربكم الخ وفيه انه لو كان كذلك لكان الانسب ان يقال اذكروا إذ أنجاكم فأنعم عليكم واذ تأذن ربكم الخ لما فيه من رعاية حكم الترتيب. وقيل انه معطوف على قوله إذ انجاكم والمعنى اذكروا نعمة الله عليكم إذ تأذن ربكم فان هذا التأذن نفسه نعمة لما فيه من الترغيب والترهيب الباعثين إلى نيل خير الدنيا والاخرة. وفيه ان هذا التأذن ليس الا نعمة للشاكرين منهم خاصة واما غيرهم فهو نقمة عليهم وخسارة فنظمه في سلك ما تقدمه من غير تقييد أو استثناء ليس على ما ينبغى. فالظاهر انه كلام مبتدأ وقد بين تعالى هذه الحقيقة اعني كون الشكر الذى حقيقته استعمال النعمة بنحو يذكر انعام المنعم ويظهر احسانه ويؤول في مورده تعالى إلى الايمان به والتقوى موجبا لمزيد النعمة والكفر لشديد العذاب في مواضع من كلامه وقد حكى عن نوح فيما ناجى ربه ودعا على قومه فقلت: " استغفروا ربكم انه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين " الخ نوح: 12. ومن لطيف كرمه تعالى اللائح من الاية كما ذكره بعضهم اشتمالها على التصريح بالوعد والتعريض في الوعيد حيث قال لازيدنكم وقال ان عذابي لشديد ولم يقل لاعذبنكم وذلك من دأب الكرام في وعدهم ووعيدهم غالبا.

[ 23 ]

والاية مطلقة لا دليل على اختصاص ما فيها من الوعد والوعيد بالدنيا ولا بالاخرة وتأثير الايمان والكفر والتقوى والفسق في شؤون الحياة الدنيا والاخرة معا معلوم من القرآن. وقد استدل بالاية على وجوب شكر المنعم والحق ان الاية لا تدل على ازيد من ان الكافر على خطر من كفره فان الله سبحانه لم يصرح بفعلية العذاب على كل كفر إذ قال ولئن كفرتم ان عذابي لشديد ولم يقل لاعذبنكم. قوله تعالى: " وقال موسى ان تكفروا انتم ومن في الارض جميعا فان الله لغنى حميد " لما امر تعالى بشكر نعمه بذكر ما تأذن به من الزيادة على الشكر والعذاب على الكفر على ما تقتضيه العزة المطلقة ذكر في تأييده من كلام موسى عليه السلام ما يجرى مجرى التنظير فقال وقال موسى والكلام جار على هذا النمط إلى تمام عشر آيات. واما ان الله غنى وان كفر من في الارض جميعا فانه غنى بالذات عن كل شئ فلا ينتفع بشكر ولا يتضرر بكفر وانما يعود النفع والضرر إلى الانسان فيما اتى به واما انه حميد فلان الحمد هو اظهار الحامد بلسانه ما لفعل المحمود من الجمال والحسن وفعله تعالى حسن جميل من كل جهة فهو جميل ظاهر الجمال يمتنع خفاؤه واخفاؤه فهو تعالى محمود سواء حمده حامد باللسان أو لم يحمد. على ان كل شئ يحمده بتمام وجوده حتى الكافر بنعمته كما قال تعالى: " وان من شئ الا يسبح بحمده " الاسراء: 44 فهو تعالى محمود سواء حمده الناس بألسنتهم أو لم يحمدوه وله كل الحمد سواء قصد به هو أو قصد به غيره. قوله تعالى: " ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود " إلى آخر الاية من كلام موسى عليه السلام يذكر قومه من ايام الله في الامم الماضين ممن فنيت اشخاصهم وخمدت انفاسهم وعفت آثارهم وانقطعت اخبارهم فلا يعلمهم بحقيقة حالهم تفصيلا الا الله كقوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم. ومن هنا يعلم اولا ان المراد بالنبأ في قوله: " ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم

[ 24 ]

خبر هلاكهم وانقراضهم فان النبأ هو الخبر الذى يعتنى بأمره فلا ينافى ما يتعقبه من قوله لا يعلمهم الا الله. وثانيا ان قوله قوم نوح وعاد وثمود من قبيل ذكر الامثلة وان قوله لا يعلمهم الا الله بيان لقوله من قبلكم والمراد بعدم العلم بهم لغير الله الجهل بحقيقة حالهم وعدم الاحاطة بتفاصيل تاريخ حياتهم. ومن الممكن ان يكون قوله لا يعلمهم الا الله اعتراضا وان كان ما ذكرناه انسب للسياق واما احتمال ان يكون خبرا لقوله والذين من بعدهم كما ذكره بعضهم فسخافته ظاهرة واسخف منه تجويز بعضهم ان يكون حالا من ضمير من بعدهم وكون قوله جاءتهم رسلهم خبرا لقوله والذين من بعدهم. وقوله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا ايديهم في افواههم الظاهر ان المراد به ان رسلهم جاؤوهم بحجج بينة تبين الحق وتجليه من غير أي ابهام وريب فمنعوهم ان يتفوهوا بالحق وسدوا عليهم طريق التكلم. فالضميران في ايديهم وافواههم للرسل ورد ايديهم في افواههم كناية عن اجبارهم على ان يسكتوا ويكفوا عن التكلم بالحق كأنهم اخذوا بايدى رسلهم وردوها في افواههم ايذانا بأن من الواجب عليكم ان تكفوا عن الكلام ويؤيده قوله بعد وقالوا انا كفرنا بما ارسلتم به وانا لفى شك مما تدعوننا إليه مريب فان دعوى الشك والريب قبال الحجة البينة والحق الصريح الذى لا يبقى مجالا للشك لا تتحقق الا من جاحد مكابر متحكم مجازف لا يستطيع ان يسمع كلمة الحق فيجبر قائلها على السكوت والصمت. وللقوم في معنى الاية اقوال أخر منها قول بعضهم المعنى ان الكفار ردوا ايديهم في افواه الرسل تكذيبا لهم وردا لما جاؤوا به فالضمير الاول للكفار والثانى للرسل وفيه انه مستلزم لاختلاف مرجع الضميرين من غير قرينة ظاهرة

[ 25 ]

ومنها ان المراد ان الكفار وضعوا ايديهم على افواه انفسهم مومين به إلى الرسل ان اسكتوا كما يفعله الواحد من الناس مع غيره إذا اراد اسكاته فالضميران معا للكفار. ومنها ان المعنى عضوا اصابعهم من شدة الغيظ من استماع دعوة الرسل فالضميران للكفار كما في الوجه السابق وفيه انه كناية بعيدة غير مفهومة من اللفظ. ومنها ان المراد بالايدي الحجج وهى اما جمع اليد بمعنى الجارحة لكون الحجة بمنزلة اليد التى بها البطش والدفع واما جمع اليد بمعنى النعمة لكون حجج الرسل نعما منهم على الناس والمعنى انهم ردوا حجج الرسل إلى افواههم التى خرجت منها. وقريب من هذا الوجه قول بعضهم ان المراد بالايدي نعم الرسل وهى اوامرهم ونواهيهم والضميران ايضا للرسل والمعنى انهم كذبوا الرسل في اوامرهم ونواهيهم. وقريب منه ايضا قول آخرين ان المراد بالايدي النعم وضمير ايديهم للرسل وفي في قوله في افواههم بمعنى الباء والضمير للكفار والمعنى كذب الكفار بافواههم نعم الرسل وهى حججهم. وانت خبير بأن هذه معان بعيدة عن الفهم يجل كلامه تعالى ان يحمل عليها وعلى امثالها. واما قوله: " وقالوا انا كفرنا بما أرسلتم به " وإنا لفى شك مما تدعوننا إليه مريب فهو نحو بيان لقوله فردوا ايديهم في افواههم والجملة الاولى اعني قولهم انا كفرنا بما ارسلتم به انكار للشريعة الالهية التى هي متن الرسالة والجملة الثانية اعني قولهم وانا لفى شك الخ انكار لما جاؤوا به من الحجج والبينات واظهار ريب فيما كانوا يدعون إليه وهو توحيد الربوبية. قوله تعالى: " قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والارض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى اجل مسمى " اصل الفطر على ما ذكره الراغب الشق طولا يقال فطرت الشئ فطرا أي شققته طولا وافطر الشئ فطورا وانفطر

[ 26 ]

انفطارا أي قبل الفطر واستعمل في القرآن فيما انتسب إليه تعالى بمعنى الايجاد بنوع من العناية كأنه تعالى شق العدم شقا فأظهر من بطنه الاشياء فهى ظاهرة ما امسك هو تعالى على شقى العدم موجوده ما كان ممسكا لها ولو ترك الامساك لانعدمت وزالت كما قال تعالى: " ان الله يمسك السماوات والارض ان تزولا ولئن زالتا ان امسكها من احد من بعده " فاطر: 41. وعلى هذا فتفسير الفطر بالخلق الذى هو جمع الاجزاء والابعاض كما وقع في بعض العبارات ليس على ما ينبغى ويؤيد ذلك ان الفطر لو كان بمعنى الخلق لكان البرهان الذى اشير إليه بقوله فاطر السماوات والارض مسوقا لاثبات وجود الخالق فكان اجنبيا عن المقام لان الوثنية لا تنكر وجود خالق للعالم وانه هو الله عز اسمه لا غير وانما ينكرون توحيد الربوبية والعبادة وهو ان يكون الله سبحانه هو الرب المعبود لا غير والبرهان على كونه تعالى خالقا للسماوات و الارض لا ينفع فيه شيئا. وكيف كان فقوله قالت رسلهم أفي الله شك الخ كلام قوبل به قولهم وقالوا انا كفرنا بما ارسلتم به وانا لفى شك مما تدعوننا إليه مريب وقد عرفت ان قولهم هذا يتضمن انكارين انكارهم للرسالة وتشككهم في توحيد الربوبية فكلام الرسل المورد جوابا منهم عن قولهم بالمقابلة متضمن لجزءين. فقولهم أفي الله شك فاطر السماوات والارض برهان على توحيد الربوبية إذ لو سيق لمجرد الانكار على الكفار من غير اشارة إلى برهان لم يكن حاجة إلى ذكر الوصف فاطر السماوات والارض ففى ذكره دلالة على انه مزيل كل شك وريب عنه تعالى. وذلك انا نرى في اول ما نعقل ان لهذا العالم المشهود الذى هو مؤلف من اشياء كثيرة كل واحد منها محدود في نفسه متميز من غيره وجودا وليس وجوده ولا وجود شئ من اجزائه من نفسه وقائما بذاته وإلا لم يتغير ولم ينعدم فوجوده ووجود اجزائه وكذا كل ما يرجع إلى الوجود من الصفات والاثار من غيرها ولغيرها وهذا الغير هو الذى نسميه الله عز اسمه.

[ 27 ]

فهو تعالى الذى يوجد العالم وكل جزء من اجزائه ويحده ويميزه من غيره فهو في نفسه موجود غير محدود والا لاحتاج إلى آخر يحدده فهو تعالى واحد لا يقبل الكثرة لان ما لا يحد بحد لا يقبل الكثرة. وهو بوحدته يدبر كل امر كما انه يوجده لانه هو المالك لوجودها والكل امر يرجع إلى وجودها ولا يشاركه غيره في شئ لان شيئا من الموجودات غيره لا يملك لنفسه ولا لغيره فهو تعالى رب كل شئ لا رب غيره كما انه موجد كل شئ لا موجد غيره. وهذا برهان تام سهل التناول حتى للافهام البسيطة يناله الانسان الذى يذعن بفطرته ان للعالم المشهود حقيقة وواقعية من غير ان يكون وهما مجردا كما يبديه السفسطة والشك ويثبت به توحد الالوهية والربوبية ولذلك تمسك به في هذا المقام الذى هو مقام خصام الوثنية. ومن هنا يظهر فساد زعم من زعم ان قوله أفي الله شك فاطر السماوات والارض حجة مسوقة لاثبات خالق للعالم وكذا قول من قال انه دليل اتصال التدبير لتوحيد الربوبية بل هو برهان عليه تعالى من جهة قيام وجود كل شئ وآثار وجوده به من كل جهة فينتج توحده في الربوبية ويزول به ما ايدوه من الشك بقولهم وانا لفى شك مما تدعوننا إليه مريب (1). ثم قولهم " يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى اجل مسمى " اشارة إلى برهان النبوة التى انكروها بقولهم انا كفرنا بما ارسلتم به يريدون به دين الرسل والشريعة السماوية بالوحى. وبيانه ان من سنته تعالى الجارية هداية كل شئ إلى كماله وسعادته النوعية والانسان احد هذه الانواع المشمولة للهداية الالهية فمن الواجب في العناية الالهية


(1) فهو قريب من مضمون قوله تعالى: " قل أفاتخذتم من دونه اولياء لا يملكون لانفسهم نفعا ولا ضرا " الرعد: وقد تقدم. (*)

[ 28 ]

ان يهتدى إلى سعادة حياته ولكن له حياة خالدة غير محدودة بالدنيا ولا منقطعة بالموت وسعادته في الحياة ان يعيش في الدنيا عيشة مطمئنة على اساس تعديل قواه في التمتع من امتعة الحياة من مأكول ومشروب ولباس ونكاح وغير ذلك وهى الاعمال الصالحة وفي الاخرة ان يعيش على ما اكتسبه من الاعتقاد الحق والعمل الصالح. وهو وان كان مجهزا بفطرة تذكره حق الاعتقاد وصالح العمل لكنه مجبول من جهة اخرى على العيشة الاجتماعية التى تدعوه إلى اتباع الاهواء والظلم والفسق فمجرد ذكرى الفطرة لا يكفى في حمله على سنة حقة عادلة تحصل له الاستقامة في الاعتقاد والعمل والا لم يفسد المجتمع الانساني ولا واحد من اجزائه قط وهم مجهزون بالفطرة. فمن الواجب في العناية ان يمد النوع الانساني مع ما له من الفطرة الداعية إلى الصلاح والسعادة بأمر آخر تتلقى به الهداية الالهية وهو النبوة التى هي موقف انسانى طاهر ينكشف له عنده الاعتقاد الحق والعمل الصالح بوحى الهى وتكليم غيبي يضمن اتباعه سعادة الفرد والمجتمع في الدنيا والاخرة. اما سعادة الدنيا فلما تقدم كرارا ان بين المعاصي والمظالم وبين النكال والعقوبة الالهية التى تنتهى إلى الهلاك ملازمة فلو لم يفسد المجتمع وداموا على الصلاح الفطري لم يختر منهم الهلاك ولم يفاجئهم النكال وعاشوا ما قدر لهم من الآجال الطبيعية والعيشة المغبوطة. واما سعادة الاخرة فلان اتباع الدعوة الالهية وبعبارة اخرى الايمان والتقوى يحليان النفس بالهيئة الصالحة ويذهبان بدرن النفس الذى هو الذنوب بمقدار الاتباع. فربوبيته تعالى لكل شئ المستوجبة لتدبيرها احسن تدبير وهدايته كل نوع إلى غايته السعيدة تستدعى ان تعنى بالناس بارسال رسل منهم إليهم ودعوته الناس بلسان رسله إلى الايمان والعمل الصالح ليتم بذلك سعادتهم في الدنيا والاخرة اما في

[ 29 ]

الدنيا فبالتخلص عن النكال والعقوبة القاضية عليهم واما في الاخرة فبالمغفرة الالهية بمقدار ما تلبسوا به من الايمان والعمل الصالح. إذا عرفت ما ذكرناه بان لك ان قوله تعالى حاكيا عن الرسل يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى اجل مسمى اشارة منهم عليهم السلام إلى حجة النبوة العامة وان قوله ليغفر لكم الخ اشارة إلى غاية الدعوة الاخروية وقوله ويؤخركم الخ اشارة إلى غايتها الدنيوية وقدم ما للاخرة على ما للدنيا لان الاخرة هي المقصودة بالذات وهى دار القرار. وقد نسبوا الدعوة في كلامهم إلى الله سبحانه للتنبيه لما هو الحق تجاه قول الكفار تدعوننا إليه حيث نسبوها إلى الرسل وقوله من ذنوبكم ظاهر في التبعيض ولعله للدلالة على إن المغفرة على قدر الطاعة والمجتمع الانساني لا يخلو عن المعصية المستوجبة للمؤاخذة البتة فالمغفور على أي حال بعض ذنوب المجتمع لا جميعها فافهم ذلك. وربما ذكر بعضهم ان المراد به انه يغفر حقوق الله لا حقوق الناس ورد بأنه صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان الاسلام يجب ما قبله. وربما قيل ان من زائدة وايد بقوله تعالى في موضع آخر يغفر لكم ذنوبكم بدون من وفيه ان من انما يزاد في النفى دون الاثبات كقولهم ما جاءني من رجل وتدخل على النكرة دون المعرفة كما قيل على ان مورد الايتين مختلف فان قوله يغفر لكم ذنوبكم الظاهر في مغفرة الجميع انما هو في مورد الايمان والجهاد وهو قوله تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وانفسكم إلى أن قال " يغفر لكم ذنوبكم " الصف - 12 والذى حكاه الله عن نوح عليه السلام في مثل المقام وهو اول هؤلاء الرسل المذكورين في الاية قوله: " ان اعبدوا الله واتقوه واطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى اجل مسمى " نوح: 4 وهو يوافق الاية التى نحن فيها فالتبعيض لا مفر منه ظاهرا. ومما قيل في توجيه الاية ان المراد بالبعض الكل توسعا ومن ذلك ان المراد

[ 30 ]

مغفرة ما قبل الايمان من الذنوب واما ما بعد ذلك فمسكوت عنه ومن ذلك ان المراد مغفرة الكبائر وهى بعض الذنوب إلى غير ذلك وهذه وجوه ضعيفة لا يعبؤ بها. وقال الزمخشري في الكشاف فان قلت ما معنى التبعيض في قوله: " من ذنوبكم ؟ قلت ما علمته جاء هكذا الا في خطاب الكافرين بقوله واتقوه واطيعون يغفر لكم من ذنوبكم يا قومنا اجيبوا داعى الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم وقال في خطاب المؤمنين هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم إلى ان قال يغفر لكم ذنوبكم وغير ذلك مما يقفك عليه الاستقراء وكأن ذلك للتفرقة بين الخطابين ولئلا يسوى بين الفريقين في الميعاد انتهى. وكأن مراده ان المغفور من الذنوب في الفريقين واحد وهو جميع الذنوب الا ان تشريف مقام الايمان اوجب ان يصرح في المؤمنين بمغفرة الجميع ويقتصر في وعد الكفار على مغفرة البعض والسكوت عن الباقي ومغفرة بعضها لا تنافى مغفرة البعض الآخر فليكن هذا مراده والا فمجرد التفرقة بين الخطابين لا ينتج ارتكاب مخالفة الواقع بتاتا. وقوله ويؤخركم إلى اجل مسمى أي لا يعاجلكم بالعقوبة والهلاك ويؤخركم إلى الاجل الذى لا يؤخر وقد سماه لكم ولا يبدل القول لديه وقد تقدم في تفسير اول سورة الانعام ان الاجل اجلان اجل موقوف معلق واجل مسمى لا يؤخر. ومن الدليل على هذا الذى ذكرناه قول نوح لقومه في هذا المقام على ما حكاه الله سبحانه " ويؤخركم إلى اجل مسمى ان اجل الله إذا جاء لا يؤخر " نوح: 4 قوله تعالى: " قالوا ان انتم الا بشر مثلنا تريدون ان تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين " قد تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب ان الاية المعجزة حجة عامة على نبوة النبي لا حجة عامية وخاصة الوحى والنبوة التى هي نوع اتصال بالغيب امر خارق للعادة الجارية بين افراد الانسان لا يجدونها من انفسهم فعلى من يدعيها الاثبات ولا طريق إلى اثباتها الا بالاتيان بخارق عادة آخر

[ 31 ]

يدل على صحة هذا الاتصال الغيبي لان حكم الامثال واحد وإذا جاز ان تخترق العادة بشئ جاز ان تخترق بما يماثله. والرسل عليهم السلام لما احتجوا على كفار اممهم في النبوة العامة بقولهم " يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى اجل مسمى " عادت الكفار إليهم بطلب الدليل منهم على ما يدعونه من النبوة لانفسهم معتذرين في ذلك بقولهم: " إن أنتم الا بشر مثلنا " ثم صرحوا بما يطلبونه من الدليل وهو الاية المعجزة بقولهم فأتونا بسلطان مبين. فالمعنى سلمنا ان من مقتضى العناية الالهية ان يدعونا إلى المغفرة والرحمة لكنا لا نسلم لكم ان هذه الدعوة قائمة بكم كما تدعون فإنكم بشر مثلنا لا تزيدون علينا بشئ ولو كان مجرد البشرية يوجب ذلك لكنا وجدناه من انفسنا ونحن بشر فان كنتم صادقين في دعواكم هذه فأتونا بسلطان مبين أي ببرهان قاطع يتسلط على عقولنا ويضطرنا إلى الاذعان بنبوتكم وهو آية معجزة غيبية تخرق العادة كما ان ما تدعونه خارق مثلها. وبهذا البيان يظهر اولا ان كلامهم هذا من قبيل منع الدعوى وقولهم إن أنتم الا بشر مثلنا سند المنع وقولهم فأتونا بسلطان مبين تصريح بطلب الدليل. وثانيا ان قولهم تريدون ان تصدونا عما كان يعبد آباؤنا من قبيل الاعتراض الواقع بين المنع وسنده ومعناه انكم لما كنتم بشرا مثلنا لا فضل لكم علينا بشئ فلا وجه لان نقبل منكم ما لا نجده من انفسنا ولا نعهده من امثالنا والذى نعهده من امثال هذه الامور انها انما تظهر عن اغراض ومطامع دنيوية مادية فليس إلا انكم تريدون ان تصرفونا عن سنتنا القومية وطريقتنا المثلى. قوله تعالى: " قالت لهم رسلهم إن نحن الا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء " إلى آخر الاية جواب الرسل عما اوردوه على رسالتهم بأنكم بشر مثلنا فلستم ذوى هوية ملكوتية حتى تتصلوا بالغيب فان كنتم صادقين في دعواكم هذه القدرة الغيبية فأتونا بسلطان مبين.

[ 32 ]

ومحصل الجواب ان كوننا بشرا مثلكم مسلم لكنه يوجب خلاف ما استوجبتموه اما قولكم ان كونكم بشرا مثلنا يوجب ان لا تختصوا بخصيصة لا نجدها من انفسنا وهى الوحى والرسالة فجوابه ان المماثلة في البشرية لا توجب المماثلة في جميع الكمالات الصورية والمعنوية الانسانية كما ان اعتدال الخلقة وجمال الهيئة وكذا رزانة العقل واصابة الرأى والفهم والذكاء كمالات صورية ومعنوية توجد في بعض افراد الانسان دون بعض فمن الجائز ان ينعم الله بالوحى والرسالة على بعض عباده دون بعض فإن الله يمن على من يشاء منهم. واما قولكم فأتونا بسلطان مبين فإنه مبنى على كون النبي ذا شخصية ملكوتية وقدرة غيبية فعالة لما تشاء وليس كذلك فما النبي الا بشر مثلكم يوحى إليه بالرسالة وليس له من الامر شئ وما كان له ان يأتي بآية من عنده الا ان يشاء الله ذلك ويأذن فيه. فقوله ان نحن إلا بشر مثلكم تسليم من الرسل لقولهم ان انتم الا بشر مثلنا لاستنتاج خلاف ما استنتجوه منه وقوله ولكن الله يمن على من يشاء اشارة إلى مقدمة بانضمامها يستنتج المطلوب وقوله وما كان لنا ان نأتيكم بسلطان الا بإذن الله جواب منهم استنتجوه من كونهم بشرا مثلهم. وتذييل هذا الكلام بقولهم وعلى الله فليتوكل المؤمنون للاشارة إلى ما يجرى مجرى حجة ثانية على ارجاع الامر كله ومنه امر الاية المعجزة إلى الله وهى حجة خاصة بالمؤمنين وملخصها ان الايمان بالله سبحانه يقتضى منهم أن يذعنوا بأن الاتيان بالاية انما هو إلى الله لان الحول والقوة له خاصة لا يملك غيره من ذلك شيئا الا بإذنه. وذلك لانه هو الله عز شأنه فهو الذى يبدأ منه وينتهى إليه ويقوم به كل شئ فهو رب كل شئ المالك لتدبير أمره لا يملك شئ امرا الا باذنه فهو وكيل كل شئ القائم بما يرجع إليه من الامر فعلى المؤمن ان يتخذ ربه وكيلا في جميع ما يرجع إليه حتى في اعماله التى تنسب إليه لما ان القوة كلها له سبحانه وعلى الرسول ان يذعن بأن ليس له الاتيان بآية معجزة إلا بإذن الله.

[ 33 ]

والاية ظاهرة في ان الرسل عليهم السلام لم يدعوا امتناع اتيانهم بالاية المعجزة المسماة سلطانا مبينا وانما ادعوا امتناع ان يستقلوا بذلك من غير حاجة فيه إلى اذن الله سبحانه واحتجوا على ذلك اولا وثانيا. قوله تعالى: " وما لنا الا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون " ما استفهامية والاستفهام للانكار وقوله وقد هدانا سبلنا حال من الضمير في لنا وسبل الانبياء والرسل الشرائع التى كانوا يدعون إليها قال تعالى: " قل هذه سبيلى ادعوا إلى الله على بصيرة " يوسف: 108 والمعنى ما الذى نملكه من العذر في ان لا نتوكل على الله والحال انه تعالى هدانا سبلنا ولم يكن لنا صنع في هذه النعمة والسعادة التى من بها علينا فإذا كان سبحانه فعل بنا هذا الفعل الذى هو كل الخير فمن الواجب ان نتوكل عليه في سائر الامور. وهذا في الحقيقة حجة ثانية على وجوب التوكل عليه والقاء الزمام إليه سلك فيها من طريق الاثار الدالة على وجوب التوكل عليه كما ان الحجة السابقة سلك فيها من النظر في نفس المؤثر وتقرير الحجة ان هدايته تعالى ايانا إلى سبلنا دليل على وجوب التوكل عليه لانه لا يخون عباده ولا يريد بهم الا الخير ومع وجود الدليل على التوكل لا معنى لوجود دليل على عدم التوكل يكون عذرا لنا فيه فلا سبيل لنا إلى عدم التوكل عليه تعالى. فقوله تعالى: " وعلى الله فليتوكل المؤمنون " يجرى مجرى اللم وقوله وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا مجرى الآن فتدبر في هذا البيان العذب والاحتجاج السهل الممتنع الذى قدمه القرآن الكريم إلى متدبريه في اوجز لفظ. وقوله ولنصبرن على ما آذيتمونا من تفريع الصبر على ما بين من وجوب التوكل عليه أي إذا كان من الواجب ان نتوكل عليه ونحن مؤمنون به وقد هدانا سبلنا فلنصبرن على ايذائكم لنا في سبيل الدعوة إليه المتوكلين عليه حتى يحكم بما يريد ويفعل ما يشاء من غير ان نأوى في ذلك إلى ما عندنا من ظاهر الحول والقوة.

[ 34 ]

وقوله " وعلى الله فليتوكل المتوكلون كلام مبنى على الترقي أي كل من تلبس بالتوكل فعليه ان يتوكل على الله سواء كان مؤمنا أو غير مؤمن إذ لا دليل غيره غير إن المتوكل بحقيقة التوكل لا يكون الا مؤمنا فإنه مذعن ان الامر كله لله فلا يسعه الا أن يطيعه فيما يامر وينتهى عما ينهى ويرضى بما رضى به ويسخط عما سخط عنه وهذا هو الايمان. قوله تعالى: " وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من ارضنا أو لتعودن في ملتنا " هذا تهديد منهم بعد ما عجزوا في مناظرتهم وخسروا في محاجتهم والخطاب في قولهم لنخرجنكم الخ للرسل والذين آمنوا معهم فما كانوا ليرضوا ان يعود الرسل في ملتهم ويبقى اتباعهم على دين التوحيد على ان الله سبحانه صرح بذلك في قصص بعضهم كقوله في شعيب: " قال الملا الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا " الاعراف: 88. وقوله أو لتعودن في ملتنا عاد من الافعال الناقصة بمعنى الصيرورة وهى الحيلولة من حال إلى حال سواء كان عليها سابقا أو لا ومن الدليل عليه كما قيل قوله في ملتنا ولو كان بمعنى الرجوع إلى ما كان لتعين ان يقال إلى ملتنا. ومن هنا يظهر فساد ما قيل ان ظاهر الاية ان الرسل كانوا قبل الرسالة في ملتهم فكلفهم الكفار ان يعودوا إلى ما كانوا عليه. على ان خطابهم لم يكن للرسل خاصة بل لهم ولمن آمن بهم ممن كان على ملة الكفار من قبل فالخطاب لهم ولرسلهم بالعود إلى ملتهم على تقدير كون العود بمعنى الرجوع انما هو من باب التغليب. ومن لطيف الصناعة في الاية دخول لام القسم ونون التأكيد على طرفي الترديد لنخرجنكم أو لتعودن مع إن أو للاستدراك وتفيد معنى الاستثناء ولا معنى لان يقال الا ان تعودوا والله في ملتنا الا ان عودهم لما كان باجبار من الكفار كان في معنى الاعادة وعاد قوله لتعودن طرف الترديد وصح دخول اللام والنون وآل المعنى إلى قولنا والله لنخرجنكم من ارضنا أو نعيدنكم في ملتنا.

[ 35 ]

قوله تعالى: " فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الارض من بعدهم " إلى آخر الاية ضمير الجميع الاول والثانى للرسل والثالث للذين كفروا بدلالة السياق والتعبير عنهم بالظالمين للاشارة إلى سببية ظلمهم للاهلاك فان تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية كما ان قوله: " ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد " مشعر بعلية الخوف للاسكان. وقوله مقامي مصدر ميمى اريد به قيامه تعالى على الامر كله أو اسم مكان اريد به مرتبة قيمومته تعالى للامر كله والمراد من وعيده تعالما اوعد به المخالفين عن امره من العذاب. فالمراد بالخوف من مقامه تعالى تقواه بما انه الله القائم بامر عباده والمراد بالخوف من وعيده تقواه بما انه الله الذى حذر عباده من مخالفة امره بلسان انبيائه ورسله فيعود على أي حال إلى التقوى وينطبق على قول موسى لقومه: " استعينوا بالله واصبروا ان الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " الاعراف: 128 كما اشار إليه في الكشاف. والمعنى فأوحى رب الرسل إليهم وقد اخذت صفة الربوبية الخاصة بهم لمكان توكلهم الجالب للرحمة والعناية واقسم لنهلكن هؤلاء المهددين لكم بظلمهم ولنسكننكم هذه الارض التى هددوكم بالاخراج منها ونورثكم اياها لصفة مخافتكم منى ومن وعيدي وكذلك نفعل فنورث الارض عبادنا المتقين. قوله تعالى: " واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد " الاستفتاح طلب الفتح والنصر والخيبة انقطاع الرجاء والخسران والهلاك والعنيد هو اللجوج ومنه المعاند. والضمير في واستفتحوا للرسل أي طلبوا النصر من الله لما انقطعت بهم الاسباب من كل جانب وبلغ بهم ظلم الظالمين وتكذيب المعاندين كقول نوح فيما حكاه الله: " انى مغلوب فانتصر " القمر: 10 ويمكن رجوع الضمير إلى الرسل والكفار جميعا فان الكفار ايضا كانوا يصرون على أن يأتيهم الرسل بما يقضى بينهم كقولهم " متى هذا الفتح " ألم السجدة: 28 " متى هذا الوعد " يس: 48 وعلى هذا التقدير يكون المعنى واستفتح الرسل والكفار جميعا وكانت الخيبة للجبارين وهو

[ 36 ]

عذاب الاستئصال قوله تعالى: " من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد " إلى آخر الايتين الصديد القيح السائل من الجرح وهو بيان للماء الذى يسقونه في جهنم والتجرع تناول المشروب جرعة جرعة على الاستمرار والاساغة اجراء الشراب في الحلق يقال ساغ الشراب وأسغته انا كذا في المجمع والباقى ظاهر. قوله تعالى: " مثل الذين كفروا بربهم اعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف " إلى آخر الاية يوم عاصف شديد الريح تمثيل لاعمال الكفار من حيث تترتب نتائجها عليها وبيان انها حبط باطلة لا اثر لها من جهة السعادة فهو كقوله تعالى: " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا " الفرقان: 23 فأعمالهم كذرات من الرماد اشتدت به الريح في يوم شديد الريح فنثرته ولم يبق منه شيئا هذا مثلهم من جهة اعمالهم. ومن هنا يظهر ان لا حاجة إلى تقدير شئ في الكلام وارجاعه إلى مثل قولنا مثل اعمال الذين كفروا الخ والظاهر ان الاية ليست من تمام كلام موسى بل هي كالنتيجة المحصلة من كلامه المنقول. (بحث روائي) في الكافي باسناده عن معاوية بن وهب عن ابى عبد الله عليه السلام قال: من اعطى الشكر اعطى الزيادة يقول الله عز وجل: " لئن شكرتم لازيدنكم " وفي الدر المنثور اخرج ابن ابى الدنيا والبيهقي في شعب الايمان عن ابى زهير يحيى بن عطارد بن مصعب عن ابيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما اعطى احد اربعة فمنع اربعة ما اعطى احد الشكر فمنع الزيادة لان الله يقول: " لئن شكرتم لازيدنكم " وما اعطى احد الدعاء فمنع الاجابة لان الله يقول: " إدعونى استجب لكم " وما اعطى احد الاستغفار فمنع المغفرة لان الله يقول: " استغفروا ربكم انه

[ 37 ]

كان غفارا " وما اعطى احد التوبة فمنع التقبل لان الله يقول: " وهو الذى يقبل التوبة عن عباده " الشورى: 25 وفيه اخرج أبو نعيم في الحلية من طريق مالك بن انس عن جعفر بن محمد بن على ابن الحسين قال: لما قال له سفيان الثوري لا اقوم حتى تحدثني قال جعفر اما انى احدثك وما كثرة الحديث لك بخيريا سفيان إذا أنعم الله عليك بنعمة فأحببت بقائها ودوامها فاكثر من الحمد والشكر عليها فان الله تعالى قال في كتابه: " لئن شكرتم لازيدنكم وإذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار فان الله تعالى قال في كتابه: " استغفروا ربكم انه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم باموال وبنين " يعنى في الدنيا والاخرة (1) ويجعل لكم جنات ويجعل لكم انهارا " يا سفيان إذا حزنك امر من سلطان أو غيره فأكثر من لا حول ولا قوة الا بالله فانها مفتاح الفرج وكنز من كنوز الجنة اقول وفي هذا المعنى روايات كثيرة من طرق الفريقين. وفي الكافي باسناده عن عمر بن يزيد قال سمعت ابا عبد الله عليه السلام يقول: شكر كل نعمة وان عظمت ان تحمد الله وفيه باسناده عن حماد بن عثمان قال: خرج أبو عبد الله عليه السلام من المسجد وقد ضاعت دابته فقال لئن ردها الله على لاشكرن الله حق شكره فما لبث ان أتى بها فقال الحمد لله فقال قائل له جعلت فداك ألست قلت لاشكرن الله حق شكره ؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام ألم تسمعني قلت الحمد لله ؟ وفيه باسناده عن ابى بصير قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام هل للشكر حد إذا فعله العبد كان شاكرا ؟ قال نعم قلت وما هو ؟ قال الحمد لله على كل نعمة عليه في اهل ومال وإن كان فيما أنعم الله عليه في ماله حق أداه ومنه قوله عز وجل: " سبحان الذى سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين " ومنه قوله " انزلني


(1) كذا في النسخة والظاهر أن يكون قوله: والآخرة زائدا وأن يقع يعني في الآخرة بعد قوله: أنهارا. (*)

[ 38 ]

منزلا مباركا وانت خير المنزلين " وقوله: " رب ادخلني مدخل صدق واخرجني مخرج صدق واجعل لى من لدنك سلطانا نصيرا " وفي تفسير العياشي عن ابى ولاد قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام أرايت هذه النعمة الظاهرة علينا من الله أليس ان شكرناه عليها وحمدناه زادنا كما قال الله في كتابه: " لئن شكرتم لازيدنكم " ؟ فقال نعم من حمدالله على نعمه وشكره وعلم إن ذلك منه لا من غيره زاد الله نعمه. اقول والروايتان الاخيرتان تفسران الشكر احسن تفسير وينطبق عليهما ما قدمناه في البيان ان الشكر اظهار النعمة اعتقادا وقولا وفعلا ويؤيده اطلاق قوله تعالى: " وأما بنعمة ربك فحدث " الضحى: 11. وفي تفسير القمى قال حدثنى ابى رفعه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من آذى جاره طمعا في مسكنه ورثه الله داره وهو قوله وقال الذين كفروا لرسلهم إلى قوله فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الارض من بعدهم وفي التفسيرين المجمع وروح المعاني عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من آذى جاره اورثه الله داره وفي الدر المنثور اخرج ابن الضريس عن ابى مجلز قال: قال رجل لعلى بن ابى طالب أنا انسب الناس قال إنك لا تنسب الناس قال بلى فقال له علي أرأيت قوله تعالى: " وعادا وثمود وقرونا بين ذلك كثيرا " ؟ قال انا انسب ذلك الكثير قال أرايت قوله ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم الا الله " فسكت وفي المجمع عن ابى عبد الله عليه السلام: الصديد هو الدم والقيح من فروج الزوانى في النار وفي الدر المنثور اخرج احمد والترمذي والنسائي وابن ابى الدنيا في صفة النار وابو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم والطبراني وابو نعيم في الحليه وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث والنشور عن ابى امامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله

[ 39 ]

ويسقى من ماء صديد يتجرعه قال يقرب إليه فيتكرهه فإذا دنا منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع امعاءه حتى يخرج من دبره يقول الله تعالى: " فسقوا ماء حميما فقطع امعاءهم " وقال: " وان يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه " وفي تفسير القمى في الاية قال قال ": يقرب إليه فيتكرهه فإذا دنا منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شرب تقطعت امعاؤه ومزقت تحت قدميه وانه ليخرج من احدهم مثل الوادي صديد وقيح الحديث. وفيه في رواية ابى الجارود عن ابى جعفر عليه السلام: العنيد المعرض عن الحق * * * ألم تر ان الله خلق السموات والارض بالحق ان يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد - 19 وما ذلك على الله بعزيز - 20 وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل انتم مغنون عنا من عذاب الله من شئ قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص - 21 وقال الشيطان لما قضى الامر ان الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان الا ان دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما انا بمصرخكم وما انتم بمصرخي إنى كفرت بما اشركتمون من قبل ان الظالمين لهم عذاب اليم - 22 وادخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها

[ 40 ]

الانهار خالدين فيها باذن ربهم تحيتهم فيها سلام - 23 ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء - 24 تؤتى أكلها كل حين باذن ربها ويضرب الله الامثال للناس لعلهم يتذكرون - 25 ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار - 26 يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الاخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء - 27 ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار - 28 جهنم يصلونها وبئس القرار - 29 وجعلوا لله اندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار - 30 قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلوة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال - 31 الله الذى خلق السموات والارض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجرى في البحر بامره وسخر لكم الانهار - 32 وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار - 33 وآتيكم من كل ما سألتموه وان تعدوا نعمت الله لا تحصوها ان الانسان لظلوم كفار - 34

[ 41 ]

(بيان) تشتمل الايات على تذكرة الناس في صورة خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرة بعد مرة بقوله: " ألم تر كيف خلق الله السماوات والارض بالحق " " ألم تر كيف ضرب الله مثلا " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا. " يذكر تعالى بها إن الخلقة مبنية على الحق فهم سيبرزون جميعا فالذين ساروا بالحق وآمنوا بالحق وعملوا الحق ينالون السعادة والجنة والذين اتبعوا الباطل وعبدوا الشيطان واطاعوا الطغاة المستكبرين منهم غرورا بظاهر عزتهم وقدرتهم لزمهم شقاء لازم وتبرأ منهم متبوعوهم من الجن والانس ولله العزة والحمد. ثم يذكر ان هذا التقسم إلى فريقين انما هو لانقسام سلوكهم إلى قسمين سلوك هدى وسلوك ضلال والذى يلزمه الهدى هو المؤمن والذى يلزمه الضلال هو الظالم والقاضى بذلك هو الله سبحانه يفعل ما يشاء وله العزة والحمد. ثم يذكر بالامم الماضية الهالكة وما وقعوا فيه من البوار بسبب كفرانهم بنعمة الله العزيز الحميد ويعاتب الانسان بظلمه وكفره بالنعم الالهية التى ملات الوجود وإن تعدوها لا تحصوها. قوله تعالى: " ألم تر ان الله خلق السماوات والارض بالحق " المراد بالرؤية هو العلم القاطع فانه الصالح لان يتعلق بكيفية خلق السماوات والارض دون الرؤية البصرية. ثم الفعل الحق ويقابله الباطل هو الذى يكون لفاعله فيه غاية مطلوبة يسلك إليه بذاته فمن المشهود ان كل واحد من الانواع من اول تكونه متوجه إلى غاية مؤجلة لا بغية له دون ان يصل إليها ثم البعض منها غاية للبعض ينتفع به في طريق كينونته ويصلح به في حدوثه وبقائه كالعناصر الارضية التى ينتفع بها النبات والنبات الذى ينتفع به الحيوان وهكذا قال تعالى: " وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما الا بالحق ولكن اكثرهم لا يعلمون " الدخان: 39 وقال: " وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا " ص: 27

[ 42 ]

بيان فلا تزال الخلقة تقع مرحلة بعد مرحلة وتنال غاية بعد غاية حتى تتوقف في غاية لا غاية بعدها وذلك رجوعها إلى الله سبحانه قال تعالى: " وان إلى ربك المنتهى " النجم: 42. وبالجملة الفعل انما يكون فعلا حقا إذا كان له امر يقصده الفاعل بفعله وغاية يسلك بالفعل إليها واما إذا كان فعلا لا يقصد به الا نفسه من غير ان يكون هناك غرض مطلوب فهو الفعل الباطل وإذا كان الفعل الباطل ذا نظام وترتيب فهو الذى يسمى لعبا كما يلعب الصبيان بإتيان حركات منظمة مرتبة لا غاية لهم وراءها ولا إن لهم هما الا ايجاد ما تخيلوه من صورة الفعل لشوق نفساني منهم إلى ذلك. وفعله تعالى ملازم للحق مصاحب له فخلق السماوات والارض يخلف عالما باقيا بعد زواله ولو لم يكن كذلك كان باطلا لا اثر له ولا خلف يخلفه وكان العالم المشهود بما فيه من النظام البديع لعبا منه سبحانه اتخذه لحاجة منه إليه كالتنفس من كرب وسأمة والتفرج من هم أو التخلص من وحشة وحدة ونحو ذلك وهو سبحانه العزيز الحميد لا تمسه حاجة ولا يذله فقر وفاقة. وبما مر يظهر ان الباء في قوله بالحق للمصاحبة وان قول بعضهم أن الباء للسببية أو الآلة وان المعنى كيف خلقها بقوله الحق أو للغرض الحق ليس على ما ينبغى. قوله تعالى: " إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز " أي بشاق صعب والخطاب لعامة البشر بجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثالا لهم يمثلون به لان الخطاب متوجه إليه في قوله قبل وبعد ألم تر وما ذلك. قد تقدم ان كون الخلقة بالحق هو مقتضى كونه تعالى عزيزا غنيا بالذات إذ لو لم يقتض غناه ذلك وامكن صدور اللعب منه تعالى وكان هذا الخلق المشهود بما له من النظام البديع لعبا لا يقصد به الا حدوث وفناء كان ذلك لشوق خيالي منه إليه وحاجة داخلية كتنفيس كرب وتفريج هم أو أنس عن وحشة وسأمة ونحو ذلك وغناه تعالى بالذات يدفع ذلك.

[ 43 ]

ولعل هذه النكتة هي التى اوجبت تعقيب قوله كيف خلق الله السماوات والارض بقوله ان يشأ يذهبكم الخ فقوله إن يشأ يذهبكم الخ في موضع البيان لما تقدمه والمعنى ألم تعلم ان الله خلق هذا الخلق المشهود عن عزة منه وغنى وانه ان يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك عليه تعالى بعزيز وهو الله عز اسمه له الاسماء الحسنى وكل العزة والكبرياء. وبهذا يظهر ان وضع الظاهر في موضع المضمر في قوله على الله للدلالة على الحجة وان عدم عزة ذلك عليه تعالى من جهة كونه هو الله عز اسمه. فان قلت لو كان الاتيان بقوله إن يشأ الخ للدلالة على غناه المطلق وعدم كونه لاعبا بالخلق لكان الانسب الاقتصار على قوله إن يشأ يذهبكم وترك قوله ويأت بخلق جديد فان إذهاب القديم والاتيان بجديد لا ينفى اللعب لجواز ان يكون نفس اذهاب بعض واتيان بعض لعبا. قلت هذا كذلك لو قيل ان يشأ يذهب جميع الخلق ويأت بخلق جديد ولكن لما قيل إن يشأ يذهبكم الخ والخطاب لعامة البشر أو لامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقط أو للموجودين في عصره كان من اللازم ان يعقبه بقوله ويأت بخلق جديد فان هذا الخلق المشهود بما بين اجزائه من الارتباط والتعلق لا يتم الغرض منه إلا بهذه الصفة الموجودة والتركب والتألف الخاص ولو اذهب الناس على بقاء من السماوات والارض بحالها الحاضرة كان ذلك باطلا ولعبا من جهة اخرى. وبعبارة اخرى اذهاب الانسان فقط من غير اتيان بخلق جديد على ابقاء لسائر الخلق المشهود لعب باطل كما ان اذهاب الخلق من اصله من غير غاية مترتبة لعب باطل وانما الحق الذى يكشف عن غناه تعالى أن يذهب قوما ويأتى بآخرين وهو الذى تذكره الاية الكريمة فافهم ذلك. قوله تعالى: " وبرزوا لله جميعا " إلى آخر الاية البروز هو الخروج إلى البراز بفتح الباء وهو الفضاء يقال برز إليه إذا خرج إليه بحيث لا يحجبه عنه حاجب ومنه المبارزة والبراز كخروج المقاتل من الصف إلى كفؤه من العدو.

[ 44 ]

والتبع بفتحتين جمع تابع كخدم وخادم وقيل اسم جمع وقيل مصدر جئ به للمبالغة والاغناء الافادة وضمن معنى الدفع ولذا عدى بعن كما قيل والجزع والصبر متقابلان والمحيص اسم مكان من حاص يحيص حيصا وحيوصا إذا زال عن المكروه كما في المجمع فالمحيص هو المكان الذى يزول إليه الانسان عن المكروه والشدة وقوله وبرزوا لله جميعا أي ظهروا له تعالى ظهورا لا يحجبهم عنه حاجب وهذا بالنسبة إلى انفسهم حيث كانوا يتوهمون في الدنيا إن ربهم في غيبة عنهم وهم غائبون عنه فإذا كان يوم القيامة زال كل ستر متوهم وشاهدوا ان لا حاجب هناك يحجبهم عنه واما هو تعالى فلا ساتر يستر عنه في دنيا ولا آخرة قال تعالى: " إن الله لا يخفى عليه شئ في الارض ولا في السماء " آل عمران: 5. ويمكن ان تكون الجملة كناية عن خلوصهم لحساب الاعمال وتعلق المشيئة الالهية بانقطاع الاعمال وانجاز الجزاء الموعود كما قال: " سنفرغ لكم ايها الثقلان " الرحمن - 31 وقوله فقال الضعفاء للذين استكبروا إلى قوله من شئ تخاصم بين الكفار يوم القيامة على ما يعطيه السياق فالضعفاء هم المقلدون المطيعون لاوليائهم من الكفار والمستكبرون هم اولياؤهم المتبوعون اولوا الطول والقوة المستنكفون عن الايمان بالله وآياته. والمعنى فقال الضعفاء المقلدون للذين استكبروا منهم إنا كنا في الدنيا لكم تابعين مطيعين من غير ان نسألكم حجة على ما تأمروننا به فهل انتم مفيدون لنا اليوم تدفعون عنا شيئا من عذاب الله الذى قضى علينا. وعلى هذا فلفظة من في قوله من عذاب الله للبيان وفي قوله من شئ زائدة للتأكيد كما في قولنا ما جاءني من أحد والنفى والاستفهام متقاربان حكما ولا دليل على امتناع تقدم البيان على المبين وخاصة مع اتصالهما وعدم الفصل بينهما. وقوله قالوا لو هدانا الله لهديناكم ظاهر السياق ان المراد بالهداية هنا الهداية إلى طريق التخلص من العذاب ويمكن ان يكون المراد بها الهداية إلى الدين الحق في الدنيا والمال واحد لما بين الدنيا والاخرة من التطابق ولا يبرز في الاخرى إلا ما كان كامنا في الاولى قال تعالى حكاية عن اهل الجنة: " وقالوا الحمد لله الذى هدانا

[ 45 ]

لهذا وما كنا لنهتدي لو لا ان هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق " الاعراف: 43 مزجوا الهدايتين بعضا ببعض كما هو ظاهر. وقوله: " سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص " سواء والاستواء والتساوي واحد وسواء خبر لمبتدأ محذوف والجملة الاستفهامية بيان لذلك وقوله ما لنا من محيص بيان آخر للتساوي والمعنى الامران متساويان علينا وبالنسبة الينا وهما الجزع والصبر لا مهرب لنا عن العذاب اللازم. قوله تعالى: " وقال الشيطان لما قضى الامر " إلى آخر الاية في المجمع الاصراخ الاغاثة باجابة الصارخ ويقال استصرخنى فلان فأصرخته أي استغاث بى فأغثته انتهى. وهذا كلام جامع يلقيه الشيطان يوم القيامة إلى الظالمين يبين فيه موقعه منهم وينبئ اهل الجمع منهم بوجه الحق في الرابطة التى كانت بينه وبينهم في الدنيا وقد وعد الله سبحانه انه سينبؤهم يوم القيامة بما كانوا فيه يختلفون وان الحق سيظهر يوم القيامة عن قبل كل من كان له من قبله خفاء أو التباس فالملائكة يتبرؤون من شركهم والجن والقرناء من الشياطين يطردونهم والاصنام والالهة التى اتخذوها اربابا من دون الله يكفرون بشركهم وكبراؤهم وائمة الضلال لا يستجيبون لهم والمجرمون انفسهم يعترفون بضلالهم وجرمهم كل ذلك واقعة في آيات كثيرة غير خفية على المتتبع المتدبر فيها. والشيطان وان كان بمعنى الشرير وربما اطلق في كلامه تعالى على كل شرير من الجن والانس كقوله: " وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا شياطين الانس والجن " الانعام: 112 لكن المراد به في الاية الشيطان الذى هو مصدر كل غواية وضلال في بنى آدم وهو ابليس فان ظاهر السياق انه يخاطب بكلامه هذا عامة الظالمين من اهل الجمع ويعترف انه كان يدعوهم إلى الشرك وقد نص القرآن على ان الذى له هذا الشأن هو ابليس وقد ادعى هو ذلك ولم يرد الله ذلك عليه كما في قوله: " قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين الا عبادك منهم المخلصين " إلى ان قال: " لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم اجمعين " ص - 85.

[ 46 ]

وأما ذريته وقبيله الذين يذكرهم القرآن بقوله: " انه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم انا جعلنا الشياطين اولياء للذين لا يؤمنون " الاعراف: 27 وقوله " أفتتخذونه وذريته اولياء " الكهف: 50 فولاية الواحد منهم اما لبعض الناس دون بعض أو في بعض الاعمال دون بعض واما ولاية على نحو العونية فهو العون والاصل الذى ينتهى إليه امر الاضلال والاغواء هو ابليس. فهذا القائل ان الله وعدكم وعد الحق الخ هو ابليس يريد بكلامه رد اللوم على فعل المعاصي إليهم والتبرى من شركهم فقوله ان الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم أي وعدكم الله وعدا حققه الوقوع وصدقته المشاهدة من البعث والجمع والحساب وفصل القضاء والجنة والنار ووعدتكم انا أن لا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار ولم أف بما وعدت حيث ظهر خلاف ما وعدت كذا ذكره المفسرون. وعلى هذا فالموعود جميع ما يرجع إلى المعاد اثباتا ونفيا اثبته الله سبحانه ونفاه ابليس واخلاف الوعد كناية عن ظهور الكذب وعدم الوقوع من اطلاق الملزوم وارادة اللازم. ومن الممكن بل هو الوجه أن يشمل الوعد ما يترتب على الايمان والشرك في الدنيا والاخرة جميعا لانهما متطابقتان فقد وعد الله اهل الايمان حياة طيبة وعيشة سعيدة واهل الشرك المعرضين عن ذكره معيشة ضنكا وتحرجا في صدورهم وعذابا في قلوبهم في الدنيا ووعد الجميع بعثا وحسابا وجنة ونارا في الاخرة. ووعد ابليس اولياءه بالاهواء اللذيذة والامال الطويلة وأنساهم الموت وصرفهم عن البعث والحساب وخوفهم الفقر والذلة وملامة الناس وكان مفتاحه في جميع ذلك إغفالهم عن مقام ربهم وتزيين ما بين ايديهم من الاسباب مستقلة بالتأثير خالقة لآثارها وتصوير نفوسهم لهم في صورة الاستقلال مهيمنة على سائر الاسباب تدبرها كيف شاءت فتغريهم على الاعتماد بأنفسهم دون الله وتسخير الاسباب في سبيل الآمال والاماني. وبالجملة وعدهم الله فيما يرجع إلى الدنيا والاخرة بما وفى لهم فيه ودعاهم ابليس من طريق الاغفال والتزيين إلى الاوهام والاماني وهى بين ما لا يناله الانسان قطعا وما إذا ناله وجده غير ما كان يظنه فيتركه إلى ما يظنه كما يريد هذا في الدنيا

[ 47 ]

واما الاخرة فينسيه شؤنها كما تقدم وقوله وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى السلطان كما ذكره الراغب هو السلاطة وهو التمكن من القهر وتسمى الحجة ايضا سلطانا لما فيها من التمكن من قهر العقول على ما لها من النتائج وكثيرا ما يطلق ويراد به ذو السلطان كالملك وغيره. والظاهر ان المراد ما هو اعم من السلطة الصورية والمعنوية فالمعنى وما كان في الدنيا لى عليكم من تسلط لا من جهة اشخاصكم واعيانكم فأجبركم على معصية الله بسلب اختياركم وتحميل ارادتي عليكم ولا من جهة عقولكم فأقيم لكم الحجة على الشرك كيفما شئت فتضطر عقولكم لقبوله وتطيعها نفوسكم فيما تأمرها به. والظاهر ايضا ان يكون الاستثناء في قوله إلا أن دعوتكم منقطعا والمعنى لكن دعوتكم من غير أي سلطان فاستجبتم لى ودعوة الناس إلى الشرك والمعصية وان كانت باذن الله لكنها لم تكن تسليطا فان الدعوة إلى فعل ليست تسلطا من الداعي على فعل المدعو وان كان نوع تسلط على نفس الدعوة ومن الدليل عليه قوله تعالى: " فيما يأذن له واستفزز من استطعت منهم بصوتك إلى ان قال وعدهم وما يعدهم الشيطان الا غرورا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا " اسرى - 65. ومن هنا يظهر سقوط ما وجه به الرازي في تفسيره كون الاستثناء متصلا إذ قال ان القدرة على حمل الانسان على الشئ تارة تكون بالقهر من الحامل وتارة تكون بتقوية الداعية في قلبه وذلك بالقاء الوسواس إليه وهذا نوع من انواع التسلط فكأنه قال ما كان لى تسلط عليكم الا بالوسوسة لا بالضرب ونحوه. وجه السقوط ان عدم كون مجرد الدعوة سلطانا وتمكنا من القهر على المدعو بديهى لا يقبل التشكيك فعدة من انواع التسلط مما لا يصغى إليه. نعم ربما انبعثت من المدعو ميل نفساني إلى المدعو إليه فانقاد للدعوة وسلط الداعي بدعوته على نفسه لكنه تسليط من المدعو لا تسلط من الداعي وبعبارة

[ 48 ]

اخرى هي سلطة يملكها المدعو من نفسه فيملكها الداعي وليس الداعي يملكها عليه من نفسه وابليس انما ينفى التسلط الذى يملكه من نفسه لا ما يسلطونه على انفسهم بالانقياد بقرينة قوله فلا تلوموني ولوموا أنفسكم. وهذا هو التسلط الذى يثبته الله سبحانه له في قوله: " إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون انما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون " النحل: 100 أو قوله: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين " الحجر: 42 والايات كما ترى ظاهرة في إن سلطانه متفرع على الاتباع والتولى والاشراك لا بالعكس. ولانتفاء سلطانه عليهم بالمرة استنتج قوله بعد فلا تلوموني ولوموا أنفسكم والفاء للتفريع أي إذا لم يكن لى عليكم سلطان بوجه من الوجوه كما يدل عليه وقوع النكرة في سياق النفى والتأكيد بمن في قوله وما كان لى عليكم من سلطان فلا يعود إلى شئ من اللوم العائد اليكم من جهة الشرك والمعصية فلا يحق لكم أن تلوموني بل الواجب عليكم أن تلوموا انفسكم لان لكم السلطان على عملكم. وقوله ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي أي ما انا بمغيثكم ومنجيكم وما انتم بمغيثى ومنجى فلا أنا شافع لكم ولا انتم شافعون لى اليوم. وقوله انى كفرت بما اشركتمون من قبل أي انى تبرأت من اشراككم اياى في الدنيا والمراد بالاشراك الاشراك في الطاعة دون الاشراك في العبادة كما يظهر من قوله تعالى خطابا لاهل الجمع: " ألم اعهد اليكم يا بنى آدم ان لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وان اعبدوني " يس: 61. وهذا الكلام منه تبر من شركهم كما حكى سبحانه تبرى كل متبوع باطل من تابعه يوم القيامة وهو اظهار إن اشراكهم اياه بالله في الدنيا لم يكن إلا وهما سرابيا قال تعالى: " ويوم القيامة يكفرون بشرككم " فاطر: 14 وقال: " وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرء منهم كما تبرؤوا منا " البقرة: 167 وقال: " قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين اغوينا اغويناهم كما غوينا تبرأنا اليك ما كانوا ايانا يعبدون وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم " القصص: 64.

[ 49 ]

وقوله: " ان الظالمين لهم عذاب اليم " من تمام كلام ابليس على ما يعطيه السياق يسجل عليهم العذاب الاليم لانهم ظالمون ظلما لا يرجع الا إلى انفسهم. و ظاهر السياق ان قوله ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي كناية عن انتفاء الرابطة بينه وبين تابعيه كما يشير تعالى إليه في مواضع اخرى بمثل قوله: " لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون " الانعام: 94 وقوله: " فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم ايانا تعبدون " يونس: 28. وذلك لظهور انه لو لم يكن كناية لكان قوله وما انتم بمصرخي مستدركا مستغنى عنه لعدم تعلق غرض به فلا هم يتوهمون انهم قادرون على اغاثة ابليس والشفاعة له ولا هو يتوهم ذلك ولا المقام يوهم ذلك فهو يقول لا تلوموني ولوموا انفسكم لان الرابطة مقطوعة بينى وبينكم لا ينفعكم انى كنت متبوعكم ولا ينفعني انكم كنتم اتباعى إنى تبرأت من شرككم فلست بشريك له تعالى وانما تبرأت لانكم ظالمون في أنفسكم والظالمون لهم عذاب اليم لا مسوغ يومئذ للحماية عنهم والتقرب منهم. وهذا السياق كما ترى يشهد ان تابعي ابليس يلومونه يوم القيامة على ما أصابهم من المصيبة على اتباعه متوقعين منه ان يشاركهم في مصابهم بنحو وهو يرد عليهم ذلك بأنه لا رابط بينه وبينهم فلا يلحق لومهم إلا بأنفسهم ولا يسعه أن يماسهم ويقترب منهم لانه يخاف العذاب الاليم الذى هئ للظالمين وهم ظالمون فهو قريب المعنى من قوله تعالى: " كمثل الشيطان إذ قال للانسان أكفر فلما كفر قال انى برئ منك انى اخاف الله رب العالمين " الحشر: 16. ولعله من هنا قال بعضهم ان المراد بقوله انى كفرت الخ كفره في الدنيا على أن يكون من قبل متعلقا بقوله كفرت فقط أو به وبقوله اشركتمون على سبيل التنازع. وبالجملة المطلوب العمدة في الاية إن الانسان هو المسؤول عن عمله لان السلطان له لا لغيره فلا يلومن الا نفسه واما رابطة التابعية والمتبوعية فهى وهمية لا حقيقة لها وسيظهر هذه الحقيقة يوم القيامة عندما يتبرء منه الشيطان ويعيد لائمته إلى نفسه كما

[ 50 ]

بين في الاية السابقة إن الرابطة بين الضعفاء والمستكبرين وهمية لا تغنى عنهم شيئا عندما تقع إليها الحاجة يوم القيامة حين انكشاف الحقائق. وللمفسرين في فقرات الاية اقوال شتى مختلفة اغمضنا عن ايرادها ومن أراد الاطلاع عليها فليراجع مطولات التفاسير. وفي الاية دلالة واضحة على ان للانسان سلطانا على عمله هو الذى يوجب ارتباط الجزاء به ويسلبه عن غيره وهو الذى يعيد اللائمة إليه لا إلى غيره واما كونه مستقلا بهذا السلطان فلا دلالة فيها على ذلك البتة وقد تكلمنا في ذلك في الجزء الاول من الكتاب في ذيل قوله: " وما يضل به إلا الفاسقين " البقرة: 26. قوله تعالى: " وادخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات " الخ بيان ما ينتهى إليه حال السعداء من المؤمنين وفي قوله تحيتهم فيها سلام مقابلة حالهم من انعكاس السلام والتحية المباركة من بعضهم إلى بعض مع حال غيرهم المذكورين في الايتين السابقتين من الخصام وتجبيه بعضهم بعضا بالكفر والتبرى والاياس. قوله تعالى: " ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى اكلها كل حين بإذن ربها " ذكروا ان كلمة بدل اشتمال من مثلا وكشجرة صفة بعد صفة لقوله كلمة أو خبر مبتدأ محذوف والتقدير هي كشجرة وقيل ان كلمة مفعول اول متأخر لضرب ومثلا مفعوله الثاني قدم لدفع محذور الفصل بين كلمة وصفتها وهى كشجرة والتقدير ضرب الله كلمة طيبة كشجرة طيبة الخ مثلا وقيل ضرب متعد لواحد وكلمة منصوب بفعل مقدر كجعل واتخذ والتقدير ضرب الله مثلا جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة الخ واظن ان هذا احسن الوجوه لو وجه بكون كلمة طيبة الخ عطف بيان لقوله ضرب الله مثلا من بيان الجملة للجملة ويتعين حينئذ نصب كلمة بمقدر هو جعل أو اتخذ لان المدلول انه مثل الكلمة بالشجرة وشبهها بها وهو معنى قولنا اتخذ كلمة طيبة كشجرة الخ. وقوله اصلها ثابت أي مرتكز في الارض ضارب بعروقه فيها وقوله وفرعها في السماء أي ما يتفرع على ذلك الاصل من اغصانها في جهة العلو فكل ما

[ 51 ]

علا واظل سماء وقوله تؤتى اكلها كل حين باذن ربها أي تثمر ثمرها المأكول كل زمان باذن الله وهذا نهاية ما تفيده شجرة من البركات واختلفوا في الاية اولا في المراد من الكلمة الطيبة فقيل هي شهادة ان لا اله الا الله وقيل الايمان وقيل القرآن وقيل مطلق التسبيح والتنزيه وقيل الثناء على الله مطلقا وقيل كل كلمة حسنة وقيل جميع الطاعات وقيل المؤمن. وثانيا في المراد من الشجرة الطيبة فقيل النخلة وهو قول الاكثرين وقيل شجرة جوز الهند وقيل كل شجرة تثمر ثمرة طيبة كالتين والعنب والرمان وقيل شجرة صفتها ما وصفه الله وان لم تكن موجودة بالفعل. ثم اختلفوا في المراد بالحين فقيل شهران وقيل ستة اشهر وقيل سنة كاملة وقيل كل غداة وعشى وقيل جميع الاوقات. والاشتغال بأمثال هذه المشاجرات مما يصرف الانسان عما يهمه من البحث عن معارف كتاب الله والحصول على مقاصد الايات الكريمة واغراضها. والذى يعطيه التدبر في الايات ان المراد بالكلمة الطيبة التى شبهت بشجرة طيبة من صفتها كذا وكذا هو الاعتقاد الحق الثابت فانه تعالى يقول بعد وهو كالنتيجة المأخوذة من التمثيل يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة الاية والقول هي الكلمة ولا كل كلمة بما هي لفظ بل بما هي معتمدة على اعتقاد وعزم يستقيم عليه الانسان ولا يزيغ عنه عملا. وقد تعرض تعالى لما يقرب من هذا المعنى في مواضع من كلامه كقوله: " ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " الاحقاف: 13 وقوله: " ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا " حم السجدة: 30 وقوله: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " فاطر: 10. وهذا القول والكلمة الطيبة هو الذى يرتب تعالى عليه تثبيته في الدنيا والاخرة اهله وهم الذين آمنوا ثم يقابله بإضلال الظالمين ويقابله بوجه آخر بشأن المشركين وبهذا يظهر ان المراد بالممثل هو كلمة التوحيد وشهادة ان لا اله الا الله حق شهادته.

[ 52 ]

فالقول بالوحدانية والاستقامة عليه هو حق القول الذى له اصل ثابت محفوظ عن كل تغير وزوال وبطلان وهو الله عز اسمه أو ارض الحقائق وله فروع نشأت ونمت من غير عائق يعوقه عن ذلك من عقائد حقة فرعية واخلاق زاكية واعمال صالحة يحيى بها المؤمن حياته الطيبة ويعمر بها العالم الانساني حق عمارته وهى التى تلائم سير النظام الكونى الذى ادى إلى ظهور الانسان بوجوده المفطور على الاعتقاد الحق والعمل الصالح. والكمل من المؤمنين وهم الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فتحققوا بهذا القول الثابت والكلمة الطيبة مثلهم كمثل قولهم الذى ثبتوا لا يزال الناس منتفعين بخيرات وجودهم ومنعمين ببركاتهم. وكذلك كل كلمة حقة وكل عمل صالح مثله هذا المثل له اصل ثابت وفروع رشيدة وثمرات طيبة مفيدة نافعة. فالمثل المذكور في الاية يجرى في الجميع كما يؤيده التعبير بكلمة طيبة بلفظ النكرة غير ان المراد في الاية على ما يعطيه السياق هو اصل التوحيد الذى يتفرع عليه سائر الاعتقادات الحقة وينمو عليه الاخلاق الزاكية وتنشأ منه الاعمال الصالحة. ثم ختم الله سبحانه الاية بقوله ويضرب الله الامثال للناس لعلهم يتذكرون ليتذكر به المتذكر أن لا محيص لمريد السعادة عن التحقق بكلمة التوحيد والاستقامة عليها. قوله تعالى: " ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار الاجتثاث الاقتلاع يقال جثته واجتثته أي قلعته واقتلعته والجث بالضم ما ارتفع من الارض كالاكمة وجثة الشئ شخصه الناتئ كذا في المفردات. والكلمة الخبيثة ما يقابل الكلمة الطيبة ولذا اختلفوا فيها فقال كل قوم فيها ما يقابل ما قاله في الكلمة الطيبة وكذا اختلفوا في المراد بالشجرة الخبيثة فقيل هي الحنظلة وقيل الكشوث وهو نبت يلتف على الشوك والشجر لا اصل له في الارض ولا ورق عليه وقيل شجرة الثوم وقيل شجرة الشوك وقيل الطحلب وقيل الكمأة وقيل كل شجرة لا تطيب لها ثمرة. وقد عرفت حال هذه الاختلافات في الاية السابقة وعرفت ايضا ما يعطيه التدبر في معنى الكلمة الطيبة وما مثلت به ويجرى ما يقابله في الكلمة الخبيثة وما

[ 53 ]

مثلت به حرفا بحرف فانما هي كلمة الشرك مثلت بشجرة خبيثة مفروضة اقتلعت من فوق الارض ليس لها اصل ثابت وما لها من قرار واذ كانت خبيثة فلا اثر لها إلا الضر والشر. قوله تعالى: " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت " إلى آخر الاية الظاهر إن بالقول متعلق بقوله يثبت لا بقوله آمنوا والباء للآلة أو السببية لا للتعدية وان قوله في الحياة الدنيا وفي الاخرة متعلق ايضا بقوله يثبت لا بقوله الثابت. فيعود المعنى إلى ان الذين آمنوا إذا ثبتواعلى ايمانهم واستقاموا ثبتهم الله عليه في الدنيا والاخرة ولولا تثبيته تعالى لهم لم ينفعهم الثبات من انفسهم شيئا ولم يستفيدوا شيئا من فوائده فإليه تعالى يرجع الامر كله فقوله تعالى: " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت " في باب الهداية يوازن قوله: " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " الصف: 5 في باب الاضلال. غير ان بين البابين فرقا وهو ان الهدى يبتدئ من الله سبحانه ويترتب عليه اهتداء العبد والضلال يبتدئ من العبد بسوء اختياره فيجازيه الله بالضلال على الضلال كما قال: " وما يضل به الا الفاسقين " البقرة: 26 وقد تكاثرت الايات القرآنية إن الهداية من الله سبحانه ليس لغيره فيها صنع. وتوضيح المقام إن الله سبحانه خلق الانسان على فطرة سليمة ركز فيها معرفة ربوبيته وألهمها فجورها وتقواها وهذه هداية فطرية اولية ثم ايدها بالدعوة الدينية التى قام بها انبياؤه ورسله. ثم ان الانسان لو جرى على سلامة فطرته واشتاق إلى المعرفة والعمل الصالح هداه الله فاهتدى العبد للايمان عن هدايته تعالى واما جريه على سلامة الفطرة فلو سمي اهتداء فانما هو اهتداء متفرع على السلامة الفطرية لو سميت هداية. ولو انحرف الانسان عن صراط الفطرة بسوء اختياره وجهل مقام ربه واخلد إلى الارض واتبع الهوى وعاند الحق فهو ضلال منه غير مسبوق باضلال من الله وحاشاه سبحانه لكنه يستعقب اضلاله عن الطريق مجازاة وتثبيته على ما هو

[ 54 ]

عليه بقطع الرحمة منه وسلب التوفيق عنه وهذا اضلال مسبوق بضلاله من نفسه بسوء اختياره وأزاغة له عن زيغ منه. ومن هنا وجه اختلاف السياق في الايتين اما قوله فلما زاغوا ازاغ الله قلوبهم فقد فرض فيه زيغ منهم ثم ازاغه منه تعالى واما قوله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فقد فرض فيه ايمان ثابت على التثبيت وهو في نفسه يستلزم هداية منه واهتداء منهم ثم اضيف إلى ذلك القول الثابت وهو ثباتهم واستقامتهم بحسن اختيارهم على ما آمنوا به وهو فعلهم فيعقبه الله بتثبيتهم بسبب ذاك القول الثابت وحفظهم من الزيغ والزلل يدفع عنهم بذلك مخاطر الحياة في الدنيا والاخرة وهذا هداية منه تعالى غير مسبوقة باهتداء من عند انفسهم يرتبط بها فافهم ذلك. وكيف كان فهذا التثبيت بالنظر إلى التمثيل بمنزلة احكام الشجرة الطيبة من جهة ثبوت اصلها في الارض وإذا ثبت اصل الشجرة نمت وتفرعت بالفروع وأتت بالاثمار في كل حين والدنيا والاخرة تحاذيان كل حين فان الدنيا والاخرة تشملان جميع الاحيان فهذا ما يعطيه السياق من معنى الاية. وقيل ان المعنى يثبت الله الذين آمنوا ويقرهم في كرامته وثوابه بالقول الثابت الذى وجد منهم وهو كلمة الايمان لانه ثابت بالحجج والادلة فالمراد بتثبيتهم تقريبهم منه واسكانهم الجنة وبثبوت قولهم تأيده بالحجة والبرهان وفيه انه تقييد من غير مقيد. وقيل المعنى انه يثبتهم بالتمكين في الارض والنصرة والفتح والغلبة في الدنيا وإسكان الجنة في الاخرة وهو بعيد من السياق. وقوله ويضل الله الظالمين ظاهر المقابلة بين الظالمين والذين آمنوا في الجملة السابقة ان المراد بهم اهل الكفر بالله وباياته على أنه تعالى فسر الظالمين بقول مطلق في بعض كلامه بما يقرب منه إذ قال: " ان لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالاخرة كافرون " الاعراف: 45. والجملة كالنتيجة المستخرجة من المثل الثاني المذكور: " ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار " والمعنى ان الله يضل اهل

[ 55 ]

الكفر بحرمانهم من صراط الهداية فلا يهتدون إلى عيشة سعيدة في الدنيا ولا إلى نعمة باقهة ورضوان من الله في الاخرة فلا يوجد عندهم ان كشف عن قلوبهم الا الشك والتردد والقلق والاضطراب والاسى والاسف والحسرة. وقوله ويفعل الله ما يشاء أي يجرى تثبيت هؤلاء واضلال اولئك على ما تقتضيه مشيته لا مانع له ولا دافع فلا حائل بين مشيته وفعله. ويظهر من ذلك ان الله تعالى قد شاء تثبيت هؤلاء واضلال اولئك وهو فاعلهما لا محاله فمن القضاء المحتوم سعادة المؤمن وشقاء الكافر وقد وردت به الرواية. ووقوع لفظ الجلالة في قوله ويضل الله وقوله ويفعل الله من وقوع الظاهر موقع المضمر ويدل على فخامة الامر ومهابة الموقف كما قيل. قوله تعالى: " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار " قال في المجمع الاحلال وضع الشئ في محل اما بمجاورة ان كان من قبيل الاجسام أو بمداخلة إن كان من قبيل الاعراض والبوار الهلاك يقال بار الشئ يبور بورا إذا هلك ورجل بور أي هالك وقوم بور ايضا انتهى. وقال الراغب البوار فرط الكساد ولما كان فرط الكساد يؤدى إلى الفساد كما قيل كسد حتى فسد عبر بالبوار عن الهلاك يقال بار الشئ يبور بورا وبؤرا قال عز وجل: " تجارة لن تبور " انتهى. والاية تذكر حال ائمة الكفر ورؤساء الضلال في ظلمهم وكفرانهم نعمة الله سبحانه التى احاطت بهم من كل جهة بدل ان يشكروها ويؤمنوا بربهم وقد ذكر قبل كيفية خلقه تعالى السماوات والارض على غنى منه وهى نعمة ثم ذكر كلمة الحق التى يدعو إليها وما لها من الاثار الثابتة الطيبة وهى نعمة. والاية مطلقة لا دليل على تقييدها بكفار مكة أو كفار قريش وان كان الخطاب فيها للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وكان في ذيلها مثل قوله: " قل تمتعوا فان مصيركم إلى النار " لظهور ان ذلك لا يوجب تقييدا في الاية مع اطلاق مضمونها وشمولها للطواغيت من الامم وما صنعوا بأقوامهم. فقوله: " ألم تر إلى الذين بدلوانعمة الله كفرا " يذكر حال ائمة الكفر ورؤساء

[ 56 ]

الضلال من الامم السابقة ومن هذه الامة والدليل على اختصاصه بهم قوله واحلوا قومهم دار البوار المشعر بكونهم نافذى الكلمة مطاعين في قومهم فهم الائمة والرؤساء. والمراد بتبديلهم نعمة الله كفرا تبديلهم شكر نعمته الواجب عليهم كفرا ففى الجملة مضاف محذوف والتقدير بدلوا شكر نعمة الله كفرا ويمكن ان يراد تبديل نفس النعمة كفرا بنوع من التجوز ونظير الاية في هذه العناية قوله تعالى: " وتجعلون رزقكم انكم تكذبون " الواقعة: 82 وذكر إحلالهم قومهم دار البوار يستلزم احلال انفسهم فيها لانهم ائمة الضلال ضلوا ثم اضلوا والتبعة تبعة الضلال ونظير الاية في هذا المعنى قوله في فرعون: " يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار " هود: 98. والمعنى ألم تنظر إلى الائمة و الرؤساء من الامم السابقة ومن امتك الذين بدلوا شكر نعمة الله كفرا واتبعتهم قومهم فحلوا واحلوا قومهم دار الهلاك وهو الشقاء والنار. قوله تعالى: " جهنم يصلونها وبئس القرار " بيان لدار البوار واحتمال بعضهم أن يكون جهنم منصوبا بالاشتغال والتقدير يصلون جهنم يصلونها والجملة مستأنفة خال عن الوجه لان النصب مرجوح ولا نكتة تستوجب الاستئناف. ومن هنا يظهر فساد قول من قال ان الايات مدنية والمراد بالذين كفروا هم عظماء مكة وصناديد قريش الذين جمعوا الجموع على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحاربوه ببدر فقتلوا وأحلوا قومهم دار البوار. وذلك انك عرفت من معنى الاية انها مطلقة ولا موجب لتخصيصها بقتلى بدر من الكفار اصلا بل الاية تشمل كل امام ضلال احل قومه دار البوار ممن تقدم وتأخر والمراد باحلال دار البوار اقرارهم في شقاء النار وإن لم يقتلوا ولا ماتوا ولا دخلوا النار بعد. على ان ظاهر الاية التالية وجعلوا لله اندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار ان ضمير الجمع راجع إلى الذين كفروا المذكورين في هذه الاية ولازمه كون خطاب قل تمتعوا خطابا للباقين منهم وهم الذين اسلموا يوم الفتح وهو ايعاد بشقاء قطعي منجز من غير استثناء.

[ 57 ]

قوله تعالى: " وجعلوا لله اندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فان مصيركم إلى النار " الانداد جمع ند وهو المثل وهم الالهة الذين اتخذوهم آلهة من دون الله من الملائكة والجن والانس. وانما جعلوها اندادا مع اعترافهم بأنهم مخلوقون لله سبحانه من جهة أنهم سموهم آلهة واربابا ونسبوا إليهم تدبير امر العالم ثم عبدوهم خوفا وطمعا مع ان الامر والخلق كله لله وقد اعترفت بذلك فطرتهم وايد الله ذلك بما الهمه انبياءه ورسله من الايات والحجج الدالة على وحدانيته. فهم كانوا على بصيرة من امر التوحيد لم يتخذوا الانداد عن غفلة أو خطأ بل عمدوا إلى ذلك ابتغاء عرض الحياة الدنيا وليستعبدوا الناس ويستدروهم باضلالهم عن سبيل الله ولذلك علل اتخاذهم الانداد بقوله ليضلوا عن سبيله ثم امر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يوعدهم بالنار التى إليها مرجعهم لا مرجع لهم سواها فقال قل تمتعوا فان مصيركم إلى النار. وكان من طبع الكلام أن يقال لهم اتخذوا الانداد أو اضلوا عن سبيل الله فإن مصيركم إلى النار لكن بدل من قوله تمتعوا ليصرح بغرضهم الفاسد الذى كانوا يخفونه ليكون ابلغ في فضاحتهم. قوله تعالى: " قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل ان يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال " لما توعدهم على لسان رسوله بعذاب يوم القيامة لاضلالهم الناس عن سبيل الله امره ان يأمر عباده الذين آمنوا بالتزام سبيله من قبل ان ياتي يوم القيامة فلا يسعهم تدارك ما فات منهم من السعادة بشئ من الاسباب الدائرة بينهم لذلك وهى ترجع إلى احد شيئين اما المعارضة باعطاء شئ واخذ ما يعادله وهو البيع بالمعنى الاعم وأما الخلة والمحبة ولا اثر من هذه الاسباب في يوم محض للحساب والجزاء فان ذلك شأن يوم القيامة لا شأن له دون ذلك. ومن هنا يظهر ان قوله يقيموا الصلاة وينفقوا بيان لسبيل الله وقد اكتفى بهذين الركنين اللذين بهما يلحق سائر الوظائف الشرعية مما يصلح حياة الانسان الدنيوية فيما بينه وبين ربه وما بينه وبين سائر افراد نوعه.

[ 58 ]

وقوله يقيموا الصلاة وينفقوا الخ مجزومان لوقوعهما في جواب الامر ومقول القول محذوف لدلالة الفعلين عليه والتقدير قل اقيموا الصلاة وانفقوا الخ يقيموا الصلاة وينفقوا الخ. والاشكال فيه بأن المجزوم في جواب الامر يجب ان يكون مترتبا عليه ولا يلزم من الامر بالصلاة والانفاق ان يطيعوا ذلك. ساقط فان اللازم فيه ان يكون الجواب مما يقتضيه الامر بوجه وامر عباده المؤمنين وهم عباد مؤمنون مما يقتضى الطاعة بلا اشكال. والانفاق المذكور في الاية مطلق الانفاق في سبيل الله فان السورة مكية ولم تنزل آية الزكاة بعد والمراد بالانفاق سرا وعلانية ان يجرى الانفاق على ما يقتضيه الادب الدينى الحق فيسر به فيما يحسن الاسرار ويعلن فيما يحسن الاعلان والمطلوب بذلك على أي حال الاتيان بما يصلح ما في مظنة الفساد ويقيم اود المجتمع من امور المسلمين. ولا ينافى ما في هذه الاية من نفى المخالة قوله تعالى: " الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو الا المتقين " الزخرف: 67 فان النسبة بين الايتين نسبة العموم والخصوص المطلق فتخصص هذه الاية بتلك الاية ويتحصل المراد من الايتين ان كل خلة من غير جهة التقوى ترتفع يوم القيامة واما الخلة التى من جهتها وهى الخلة في ذات الله فانها تثبت وتنفع فنفى الخلال مطلقا ثم اثبات بعضه في الايتين نظير نفى الشفاعة مطلقا في قوله: " ولا خلة ولا شفاعة " البقرة: 254 ثم اثباتها فيما كان باذن الله كما في قوله: " الا من شهد بالحق وهم يعلمون " الزخرف: 86. وما قيل في نفى التنافى ان المراد بالخلال في الاية النافية المخالة التى هي من الاسباب الدنيوية لتدارك ما فات بخلاف ما في الاية المثبتة وكذا ما قيل ان المراد بالمخالة المنفية هي التى تكون بحسب ميل الطبع ورغبة النفس بخلاف المخالة المثبتة فانها التى تكون في ذات الله مرجعهما بالحقيقة إلى ما ذكرناه. قوله تعالى: " الله الذى خلق السماوات والارض " الخ لما ذكر سبحانه جعلهم لله اندادا لاضلال الناس عن سبيل الله وأوعد عليه اورد في هذه الاية إلى تمام

[ 59 ]

ثلاث آيات الحجة على اختصاص الربوبية بنفسه تعالى وتقدس من طريق اختصاص التدبير العام به من نظم الخلقة وانزال الماء واخراج الرزق وتسخير البحار الفلك والانهار والشمس والقمر والليل والنهار. واشار في آخر الايات إلى انها وما لا تحصى من غيرها نعمة منه تعالى للانسان لان البيان في هذه السورة كما تقدمت الاشارة إليه يجرى في ضوء الاسمين العزيز الحميد. فقوله الله الذى خلق الخ في معنى قولنا فهوالرب وحده دون الذين جعلتموهم اندادا له. وقوله وانزل من السماء ماء فاخرج به الخ المراد بالسماء جهة العلو وهو معناها اللغوى والماء النازل منها هو المطر النازل منها فإليه ينتهى الماء في الارض الذى تعيش به ذوات الحياة من النبات والحيوان. قوله تعالى: " وسخر لكم الفلك لتجرى في البحر بأمره وسخر لكم الانهار " تسخير الفلك للناس هو جعلها بحيث تنفعهم في مقاصدهم وهى العبور بانفسهم واحمالهم وغير ذلك من غير ان ترسب في الماء أو تمتنع عن الحركة. واما قول بعضهم تسخيرها لهم هو اقدارهم على صنعتها واستعمالها بالهامهم طريق ذلك بعيد فان الظاهر من تسخير شئ للانسان هو التصرف فيه بجعله موافقا لما يقصده من منافع نفسه دون التصرف في الانسان نفسه بالهام ونحوه. وكان من طبع الكلام ان يقال وسخر لكم البحر لتجرى فيه الفلك بأمره وسخر لكم الانهار غير انه عكس وقيل وسخر لكم الفلك لتجرى في البحر بأمره لكون الفلك من اوضح النعم البحرية وان لم تنحصر فيها نعمه ولعل ذلك هو السبب في العكس لان المقام مقام عد النعمة والنعمة في الفلك اوضح وان كانت في البحر اعظم. واسناد جريها في البحر إلى امره تعالى مع كونه مستندا إلى الاسباب الطبيعية العاملة كالريح والبخار وسائر الاسباب لكونه تعالى هو السبب المحيط الذى إليه ينتهى كل سبب.

[ 60 ]

وقوله وسخر لكم الانهار وهى المياه الجارية في مختلف اقطار الارض وتسخيرها هو تذليلها بحيث ينتفع بها الانسان بالشرب والغسل وازالة الاوساخ وغير ذلك ويعيش بها الحيوان والنبات المسخران له. قوله تعالى: " وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار " قال الراغب الدأب ادامة السير دأب في السير دأبا قال تعالى: " وسخر لكم الشمس والقمر دائبين والدأب العادة المستمرة دائما على حالة قال تعالى: " كدأب آل فرعون أي كعادتهم التى يستمرون عليها انتهى ومعنى الاية واضح. قوله تعالى: " وآتاكم من كل ما سألتموه وان تعدوا نعمه الله لا تحصوها إن الانسان لظلوم كفار " السؤال هو الطلب ويفارقه ان السؤال انما يكون ممن يعقل والطلب اعم وانما تنبه الانسان للسؤال من جهة الحاجة الداعية إليه فاظهر له ان يرفع ما حلت به من حاجة وكانت الوسيلة العادية إليه هي اللفظ فتوسل به إليه وربما توسل إليه باشارة أو كتابة وسمى سؤالا حقيقة من غير تجوز. واذ كان الله سبحانه هو الذى يرفع حاجة كل محتاج ممن سواه لا يتعلق شئ بذاته فيما يحتاج إليه في وجوده وبقائه الا بذيل جوده وكرمه سواء اقر به أو أنكره وهو تعالى اعلم بهم وبحاجاتهم ظاهرة وباطنة من انفسهم كان كل من سواه عاكفا على باب جوده سائلا يسأله رفع ما حلت به من حاجة سواء اعطاه أو منعه وسواء أجابه في جميع ما سأل أو بعضه. هذا هو حق السؤال وحقيقته يختص به تعالى لا يتعداه إلى غيره ومن السؤال ما هو لفظي كما تقدم ربما يسأل به الله سبحانه وربما يسأل به غيره فهو تعالى مسئول يسأله كل شئ بحقيقة السؤال ويسأله بعض الناس من المؤمنين به بالسؤال اللفظى. هذا بالنسبة إلى السؤال واما بالنسبة إلى الايتاء وهو الاعطاء فقد اطلق من غير أن يقيد باستثناء ونحوه فيدل على انه ما من سؤال الا وعنده اعطاء وهذه قرينة إن الخطاب للنوع كما يؤيده ايضا قوله ذيلا ان الانسان لظلوم كفار. والمعنى ان النوع الانساني لم يحتج بنوعيته إلى نعمة من النعم الا رفع الله حاجته

[ 61 ]

أما كلا أو بعضا وان كان الفرد منه ربما احتاج وسأل ولم يقض حاجته وهذا المعنى هو الذى يؤيده قوله تعالى: " اجيب دعوة الداع إذا دعان " البقرة: 186 فقد مر في تفسير الاية انه تعالى لا يرد دعاء من دعاه الا أن لا يكون دعاء حقيقة أو يكون دعاء إلا انه ليس دعاءه بل دعاء غيره والفرد من الانسان ربما لم يواطئ لسانه قلبه أو لغى في دعائه لكن النوع بنوعيته لا يعرف هذرا ولا نفاقا ولا يعرف ربا غيره سبحانه فكلما مسته حاجة فانه يسأله حقيقة ولا يسأله الا من ربه فجميع ادعيته مستجابة وسؤالاته مؤتاة وحاجاته مقضية. وقد ظهر مما تقدم إن من في قوله من كل ما سألتموه ابتدائية تفيد إن الذى يؤتيه الله مأخوذ مما سألوه سواء كان جميع ما سألوه كما في بعض الموارد أو بعضه كما في بعضها الاخر ولو كانت من تبعيضية لافادت انه تعالى يؤتى في كل سؤال بعض المسئول والواقع خلافه كما انه لو قيل وآتاكم كل ما سألتموه افاد ايتاء الجميع وليس كذلك ولو قيل مما سألتموه افاد ان من الجائز ان لا يستجاب بعض الادعية ويرد بعض الاسئلة من اصله والاية وهى في مقام الامتنان تأبى ذلك. فبالجملة معنى الاية ان الله تعالى اعطى النوع الانساني ما سأله فما من حاجة من حوائجه الا رفع كلها أو بعضها حسب ما تقتضيه حكمته البالغة. وربما قيل ان تقدير الكلام وآتاكم من كل ما سألتموه وما لم تسألوه وهو مبنى على كون المراد بالسؤال هو السؤال اللفظى وقد تقدم خلافه وسياق الاية لا يساعد عليه. وقوله وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها قال الراغب الاحصاء التحصيل بالعدد يقال احصيت كذا وذلك من لفظ الحصا واستعمال ذلك فيه من حيث انهم كانوا يعتمدونه بالعد كاعتمادنا فيه على الاصابع انتهى. وفي الجملة اشارة إلى خروج النعم عن طوق الاحصاء ولازمه كون حوائج الانسان التى رفعها الله بنعمه غير مقدور للانسان احصاءها. وكيف يمكن احصاء نعمه تعالى وعالم الوجود بجميع اجزائه وما يلحق بها من الاوصاف والاحوال مرتبطة منتظمة نافع بعضها في بعض متوقف بعضها على بعض

[ 62 ]

فالجميع نعمه بالنسبة إلى الجميع وهذا امر لا يحيط به احصاء. ولعل ذلك هو السر في افراد النعمة في قوله نعمة الله فان الحق ان ليس هناك الا النعمة فلا حاجة إلى تفخيمها بالجمع ليدل على الكثرة والمراد بالنعمة جنس المنعم فيفيد ما يفيده الجمع. وقوله ان الانسان لظلوم كفار أي كثير الكفران يظلم نفسه فلا يشكر نعمة الله ويكفر بها فيؤديه ذلك إلى البوار والخسران أو كثير الظلم لنعم الله لا يشكرها ويكفر بها والجملة استئناف بيانى يؤكد بها ما يستفاد من البيان السابق فان الواقف على ما مر بيانه من حال نعمه تعالى وما آتى الانسان من كل ما سأله منها لا يرتاب في ان الانسان وهو غافل عنها طبعا ظالم لنفسه كافر بنعمة ربه. (بحث روائي) في الدر المنثور اخرج الترمذي والنسائي والبزار وابو يعلى وابن جرير وابن ابى حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن انس قال: اتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقناع من بسر فقال مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة حتى بلغ تؤتى اكلها كل حين باذن ربها قال هي النخلة ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة حتى بلغ ما لها من قرار قال هي الحنظلة. اقول وكون الشجرة الطيبة هي النخلة مروى في عدة روايات عنه صلى الله عليه وآله وسلم وهى لا تدل على ازيد من انطباق المثل عليها وذيل الرواية ينافى الرواية التالية. وفيه اخرج ابن مردويه عن ابى هريرة قال: قعد ناس من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكروا هذه الاية اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار فقالوا يا رسول الله نراه الكمأة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين والعجوة من الجنة وهى شفاء من السم اقول والكلام يجرى في الحنظلة فان لها خواص طبية هامة. وفيه اخرج البيهقى في سننه عن على قال: الحين ستة اشهر

[ 63 ]

اقول والكلام فيه كالكلام في سابقه. وفي الكافي باسناده عن عمرو بن حريث قال: سالت ابا عبد الله عليه السلام عن قول الله كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء قال فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اصلها وامير المؤمنين فرعها والائمة من ذريتهما اغصانها وعلم الائمة ثمرتها وشيعتهم المؤمنون ورقها هل في هذا فضل ؟ قال قلت لا والله قال والله ان المؤمن ليولد فتورق ورقة فيها وإن المؤمن ليموت فتسقط ورقة منها. اقول والرواية مبنية على كون المراد بالكلمة الطيبة هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد اطلقت الكلمة في كلامه على الانسان كقوله: " بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم " آل عمران: 45 ومع ذلك فالرواية من باب التطبيق ومن الدليل عليه اختلاف الروايات في كيفية التطبيق ففى بعضها ان الاصل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والفرع علي عليه السلام والاغصان الائمة عليهم السلام والثمرة علمهم والورق الشيعة كما في هذه الرواية وفي بعضها إن الشجرة رسول الله وفرعها علي والغصن فاطمة وثمرها اولادها وورقها شيعتنا كما فيما رواه الصدوق عن جابر عن ابى جعفر عليه السلام وفي بعضها ان النبي والائمة هم الاصل الثابت والفرع الولاية لمن دخل فيها كما في الكافي باسناده عن محمد الحلبي عن ابى عبد الله عليه السلام. وفي المجمع روى أبو الجارود عن ابى جعفر عليه السلام إن هذا يعنى قوله كشجرة خبيثة الخ مثل بنى امية وفي تفسير العياشي عن عبد الرحمن بن سالم الاشل عن ابيه عن ابى عبد الله عليه السلام ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة الايتين قال هذا مثل ضربه الله لاهل بيت نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ولمن عاداهم هو مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار اقول قال الالوسى في تفسير روح المعاني ما لفظه وروى الامامية وانت تعرف حالهم عن ابى جعفر رضى الله عنه تفسيرها يعنى الشجرة الخبيثة ببنى امية وتفسير الشجرة الطيبة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي كرم الله وجهه وفاطمة رضى الله عنها وما تولد منهما وفي بعض روايات اهل السنة ما يعكر على تفسير الشجرة

[ 64 ]

الخبيثة ببنى امية فقد اخرج ابن مردويه عن عدى بن حاتم قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ان الله تعالى قلب العباد ظهرا وبطنا فكان خير عباده العرب وقلب العرب ظهرا وبطنا فكان خير العرب قريشا وهى الشجرة المباركة التى قال الله تعالى في كتابه " مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة " لان بنى امية من قريش انتهى موضع الحاجة. وهو عجيب فان كون امة أو طائفة مباركة بحسب طبعهم لا يوجب كون جميع الشعب المنشعبة منها كذلك فالرواية على تقدير تسليمها لا تدل الا على ان قريشا شجرة مباركة واما ان جميع الشعب المنشعبة منها مباركة طيبة كبنى عبد الدار مثلا أو كون كل فرد منهم كذلك كابى جهل وابى لهب فلا قطعا فاى ملازمة بين كون شجرة بحسب اصلها مباركة طيبة وبين كون بعض فروعها التى انفصلت منها ونمت نماء فاسدا مباركا طيبا. ؟ وقد روى ابن مردويه هذا عن عائشة: انها قالت لمروان بن الحكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لابيك وجدك إنكم الشجرة الملعونة في القرآن وروي اصحاب التفاسير كالطبري وغيره عن سهل بن ساعد وعبد الله بن عمر ويعلى بن مرة والحسين بن على وسعيد بن المسيب: انهم الذين نزل فيهم قوله تعالى: " وما جعلنا الرؤيا التى اريناك الا فتنة للناس والشجرة الملعونة " في القرآن الاية ولفظ سعد رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنى فلان ينزون على منبرة نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتى مات وانزل الله وما جعلنا الرؤيا الاية وستاتى الرواية عن عمرو عن علي: في تفسير قوله: " الذين بدلوا نعمة الله كفرا " انهم الافجران من قريش بنو المغيرة وبنو امية وفي تفسير العياشي عن صفوان بن مهران عن ابى عبد الله عليه السلام قال: الشيطان ليأتي الرجل من اوليائنا فيأتيه عند موته ويأتيه عن يمينه وعن يساره ليصده عما هو عليه فيأبى الله ذلك وكذلك قال الله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة وفيه عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن ابى جعفر وابى عبد الله عليه السلام قالا: إذا وضع الرجل في قبره اتاه ملكان ملك عن يمينه وملك عن شماله واقيم الشيطان بين

[ 65 ]

يديه عيناه من نحاس فيقال له - ما تقول في هذا الرجل الذى خرج من بين ظهرانيكم يزعم انه رسول الله ؟ فيفزع لذلك فزعة فيقول ان كان مؤمنا محمد رسول الله فيقال عند ذلك نم نومة لا حلم فيها ويفسح له في قبره تسعة اذرع ويرى مقعده من الجنة وهو قول الله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وان كان كافرا قالوا - من هذا الرجل الذى كان بين ظهرانيكم يقول انه رسول الله ؟ فيقول ما ادرى - فيخلى بينه وبين الشيطان وفي الدر المنثور اخرج الطيالسي والبخاري ومسلم وابو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابن مردويه عن البراء بن عازب ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: المسلم إذا سئل في القبر يشهد ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله فذلك قوله سبحانه يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة وفيه اخرج الطبراني في الاوسط وابن مردويه عن ابى سعيد الخدرى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في هذه الاية يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة قال في الاخرة القبر. اقول وهناك روايات كثيرة من طرق الشيعة واهل السنة وردت في تفصيل سؤال القبر واتيان الملكين منكر ونكير وثبات المؤمن وضلال الكافر عند ذلك وقد وقع في كثير منها التمسك بالاية. وظاهرها ان المراد بالاخرة هو القبر وعالم الموت ولعل ذلك مبنى على ظاهر معنى التثبيت فان الظاهر من اعطاء الثبات أن يكون في مقام يجوز فيه الزلل والخبط وهذا انما يتصور في غير يوم القيامة الذى ليس فيه الا المجازاة بالاعمال واما بالنظر إلى ان كل ثابت في الوجود فانما ثباته بالله سبحانه سواء كان مما يجوز عليه الزوال ام لا فلا فرق بين البرزخ والقيامة في إن المؤمن ثابت بتثبيت الله سبحانه والاولى اخذ الروايات من قبيل التطبيق. وفي تفسير العياشي عن الاصبغ بن نباتة قال قال امير المؤمنين عليه السلام في

[ 66 ]

قوله: " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا " قال نحن نعمة الله التى انعم الله بها على العباد. اقول وهو من الجرى والتطبيق. وفيه عن معصم المسرف عن على بن ابى طالب عليه السلام في قوله: واحلوا قومهم دار البوار قال هما الافجران من قريش بنو امية وبنو المغيرة اقول ورواه ايضا في البرهان عن ابن شهر آشوب عن ابى الطفيل عنه عليه السلام وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم والطبراني في الاوسط وابن مردويه والحاكم وصححه من طرق عن على بن ابى طالب في قوله: " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا قال - هما الافجران من قريش بنو امية وبنو المغيرة فأما بنو المغيره فقطع الله دابرهم يوم بدر واما بنو امية فمتعوا إلى حين. اقول وهو مروى عن عمر كما ياتي. وفيه اخرج البخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عمر بن الخطاب في قوله: ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا " قال هما الافجران من قريش بنو المغيرة وبنو امية فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر واما بنو امية فمتعوا إلى حين وفيه اخرج ابن مردويه عن ابن عباس انه قال لعمر يا امير المؤمنين هذه الاية: " الذين بدلوا نعمة الله كفرا قال - هم الافجران من قريش اخوالي واعمامك فأما اخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر - واما اعمامك فأملى الله لهم إلى حين وفي تفسير العياشي عن ذريح عن ابى عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول: جاء ابن الكواء إلى امير المؤمنين عليه السلام فسأله عن قول الله: " ألم تر إلى الذين بدلوا الاية قال تلك قريش بدلوا نعمة الله كفرا وكذبوا نبيه يوم بدر. اقول واختلاف التطبيق في كلامه عليه السلام من الشاهد على انه من باب بيان انطباق الاية لا من قبيل سبب النزول. وفي الكافي عن على بن محمد عن بعض اصحابه رفعه قال: كان على بن الحسين عليه السلام إذا قرأ هذه الاية وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها يقول - سبحان الذى لم

[ 67 ]

يجعل في احد من معرفة نعمه - الا المعرفة بالتقصير عن معرفتها - كما لم يجعل في احد (من ظ) معرفة ادراكه - اكثر من العلم انه لا يدركه - فشكر عز وجل معرفة العارفين بالتقصير عن معرفة شكره فجعل معرفتهم بالتقصير شكرا كما علم علم العالمين انهم لا لا يدركونه فجعله علما الحديث * * * واذ قال ابراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبنى أن نعبد الاصنام - 35 رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني فانك غفور رحيم - 36 ربنا انى اسكنت من ذريتي بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلوة فاجعل افئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون - 37 - ربنا انك تعلم ما نخفى وما نعلن وما يخفى على الله من شئ في الارض ولا في السماء - 38 الحمد لله الذى وهب لى على الكبر اسمعيل واسحق ان ربى لسميع الدعاء - 39. رب اجعلني مقيم الصلوة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء - 40 ربنا اغفر لى ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب - 41 (بيان) تتضمن الايات تذكرة ثانية بجملة من نعمه عقيب التذكرة الاولى التى يتضمنها قوله واذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ انجاكم من آل فرعون الاية

[ 68 ]

فذكر سبحانه اولا نعمته على جمع من عباده المؤمنين وهم بنو اسرائيل من ولد ابراهيم ثم ذكر ثانيا نعمته على جمع آخر منهم وهم بنو اسماعيل من ولد ابراهيم وهى التى يتضمنها دعاء ابراهيم عليه السلام رب اجعل هذا البلد آمنا إلى آخر دعائه وفيها نعمة توفيقه تعالى لهم ان يجتنبوا عبادة الاصنام ونعمة الامن بمكة وميل الافئدة إلى اهله ورزقهم من الثمرات وغير ذلك كل ذلك لان الله سبحانه هو العزيز الحميد. قوله تعالى: " واذ قال ابراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا أي واذكر إذ قال ابراهيم والاشارة إلى مكة شرفها الله تعالى. وقد حكى الله سبحانه نظير هذا الدعاء على اختصار فيه عن ابراهيم عليه السلام في موضع آخر بقوله: " واذ قال ابراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق اهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الاخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير " البقرة: 126. ومن الممكن ان يستفاد من اختلاف المحكيين في التعبير اعني قوله اجعل هذا بلدا آمنا وقوله اجعل هذا البلد آمنا انهما دعاءان دعا عليه السلام بهما في زمانين مختلفين وانه بعد ما اسكن اسماعيل وامه ارض مكة ورجع إلى ارض فلسطين ثم عاد اليهما وجد من اقبال جرهم إلى مجاورتهما مكانا ما سر بذلك فدعا عند ذلك مشيرا إلى مكانهم رب اجعل هذا بلدا آمنا فسأل ربه أن يجعل المكان بلدا ولم يكن به وأن يرزق اهله المؤمنين من الثمرات ثم لما عاد إليهم بعد ذلك بزمان وحد المكان بلدا فسأل ربه ان يجعل البلد آمنا. ومما يؤيد كونهما دعاءين ما فيهما من الاختلاف من غير هذه الجهة ففى آية البقرة الدعاء لاهل البلد بالرزق من الثمرات وفي الايات المبحوث عنها الدعاء بذلك لذريته خاصة مع امور اخرى دعا بها لهم. وعلى هذا يكون هذا الدعاء المحكى عن ابراهيم عليه السلام في هذه الايات آخر ما اورده الله تعالى في كتابه من كلام ابراهيم عليه السلام ودعائه وقد دعا به بعد ما اسكن اسماعيل وامه بها وجاورتهما قبيلة جرهم وبنى البيت الحرام وبنيت بلدة مكة بايدى القاطنين هناك كما تدل عليه فقرات الايات.

[ 69 ]

وعلى تقدير ان يكون المحكيان دعاء واحدا يكون قوله رب اجعل الخ تقديره رب اجعل هذا البلد بلدا آمنا وقد حذف في احدى الايتين المشار إليه وفي الاخرى الموصوف اختصارا. والمراد بالامن الذى سأله عليه السلام الامن التشريعي دون التكويني كما تقدم في تفسير آية البقرة فهو يسأل ربه ان يشرع لارض مكة حكم الحرمة والامن وهو على خلاف ما ربما يتوهم من اعظم النعم التى انعم الله بها على عباده فانا لو تأملنا هذا الحكم الالهى الذى شرعه ابراهيم عليه السلام باذن ربه اعني حكم الحرمة والامن وامعنا فيما يعتقده الناس من تقديس هذا البيت العتيق وما احاط به من حرم الله الآمن وقد ركز ذلك في نفوسهم منذ اربعة آلاف سنة حتى اليوم وجدنا ما لا يحصى من الخيرات والبركات الدينية والدنيوية عائدة إلى اهلها وإلى سائر اهل الحق ممن يحن إليهم ويتعلق قلبه بهم وقد ضبط التاريخ من ذلك شيئا كثيرا وما لم يضبط اكثر فجعله تعالى مكة بلدا آمنا من النعم العظيمة التى انعم الله بها على عباده. قوله تعالى: " وأجنبنى وبني أن نعبد الاصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس إلى قوله غفور رحيم " يقال جنبه واجنبه أي ابعده وسؤاله عليه السلام أن يجنبه الله ويبعده وبنيه من عبادة الاصنام لواذ والتجاء إليه تعالى من الاضلال الذى نسبه اليهن في قوله رب انهن اضللن الخ. ومن المعلوم ان هذا الابعاد والاجناب منه تعالى كيفما كان وأيا ما كان تصرف ما وتأثير منه تعالى في عبده بنحو غير انه ليس بنحو يؤدى إلى الالجاء والاضطرار ولا ينجر إلى القهر والاجبار بسلب صفة الاختيار منه إذ لا مزية لمثل هذا الابتعاد حتى يسأل ذلك مثل ابراهيم خليل الله. فرجع بالحقيقة إلى ما تقدم في قوله تعالى: " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت " الاية ان كل خير من فعل أو ترك فانه منسوب إليه تعالى اولا ثم إلى العبد ثانيا بخلاف الشر من فعل أو ترك فانه منسوب إلى العبد ابتداء ولو نسب إليه تعالى فانما ينسب إذا كان على سبيل المجازاة وقد اوضحنا ذلك. فالاجتناب من عبادة الاصنام انما يتحقق عن اجناب من الله رحمة منه لعبده وعناية وليس في الحقيقة الا امرا تلبس واتصف به العبد غير انه انما يملكه بتمليك

[ 70 ]

الله سبحانه فهو المالك له بذاته والعبد يملكه بأمر منه واذن كما إن العبد انما يهتدى عن هداية من الله وليس هناك الا هدى واحد لكنه مملوك لله سبحانه لذاته والعبد انما يملكه بتمليك منه سبحانه وابسط كلمة في هذا المعنى ما وقع في اخبار آل العصمة ان الله يوفق عبده لفعل الخير وترك الشر هذا. فتلخص إن المراد بقوله عليه السلام واجنبني سؤال ما لله سبحانه من الصنع في ترك العبد عبادة الاصنام وبعبارة اخرى هو يسأل ربه ان يحفظه وبنيه من عبادة الاصنام ويهديهم إلى الحق ان هم عرضوا انفسهم لذلك وان يفيض عليهم إن استفاضوا لا ان يحفظهم منها سواء عرضوا لذلك انفسهم أو لم يعرضوا وان يفيض عليهم سواء استفاضوا أو امتنعوا فهذا معنى دعائه عليه السلام ومنه يعلم ان نتيجة الدعاء لبعض المدعوين لهم وان كان بلفظ يستوعب الجميع وهذا البعض هم المستعدون لذلك دون المعاندين والمستكبرين منهم وسنزيده بيانا. ثم هو عليه السلام يدعو بهذا الدعاء لنفسه وبنيه واجنبني وبنى ان نعبد الاصنام وبنوه جميع من جاء من نسله بعده وهم بنو اسماعيل وبنو اسحاق فان الابن كما يطلق على الولد من غير واسطة كذلك يطلق على غيره ويصدق ذلك القرآن الكريم قال تعالى: " ملة ابيكم ابراهيم " الحج: 78 وقد تكرر اطلاق بنى اسرائيل على اليهود في نيف واربعين موضعا من كلامه تعالى. فهو عليه السلام يسأل البعد عن عبادة الاصنام لنفسه ولجميع من بعده من بنيه بالمعنى الذى تقدم اللهم الا أن يقال ان قرائن الحال والمقال تدل على اختصاص الدعاة بآل اسماعيل القاطنين بالحجاز فلا يعم بنى اسحاق. ثم عقب عليه السلام دعاءه واجنبني وبنى ان نعبد الاصنام بقوله: " رب انهن اضللن كثيرا من الناس " وهو في مقام التعليل لدعائه وقداعاد النداء رب اثارة للرحمة الالهية أي انى انما اسألك ان تبعدني وبني عن عبادتهن لانهن اضللن كثيرا من الناس ونسبة الاضلال إلى الاصنام لمكان الربط الذى بين الضلال وبينهن وان لم يكن ارتباطا شعوريا وليس من اللازم في نسبة أي فعل أو اثر إلى شئ أن يقوم به قياما شعوريا وهو ظاهر.

[ 71 ]

ثم قوله عليه السلام فمن تبعني فانه منى ومن عصاني فانك غفور رحيم تفريع على ما تقدم من كلامه أي إذا كان كثير من الناس اضلتهم الاصنام بعبادتهن واستعذت بك وعرضت نفسي وبنى عليك ان تجنبنا من عبادتهن افترقنا نحن والناس طائفتين الضالون عن طريق توحيدك والعارضون لانفسهم على حفظك واجنابك فمن تبعني الخ وقد عبر عليه السلام في تفريعه بقوله فمن تبعني والاتباع انما يكون في طريق وقد لوح إلى الطريق ايضا بقوله اضللن لان الضلال انما يكون عن الطريق فمراده باتباعه التدين بدينه والسير بسيرته لا مجرد الاعتقاد بوحدانيته تعالى بل سلوك طريقته المبنية على توحيد الله سبحانه ليكون في ذلك عرض النفس على رحمته تعالى واجنابه من عبادة الاصنام. ومن الدليل على كون المراد بالاتباع هو سلوك سبيله قوله في ما يعادله من كلامه ومن عصاني فانه نسب العصيان إلى نفسه ولم يقل ومن كفر بك أو عصاك أو فسق عن الحق ونحو ذلك كما لم يقل فمن آمن بك أو اطاعك أو اتقاك وما اشبهه. فمراده باتباعه سلوك طريقه والتدين بجميع ما اتى به من الاعتقاد والعمل وبعصيانه ترك سيرته وما اتى به من الشريعة اعتقادا وعملا كأنه عليه السلام يقول من تبعني وعمل بشريعتى وسار بسيرتي فانه ملحق بى ومن ابنائى تنزيلا اسالك ان تجنبنى واياه ان نعبد الاصنام ومن عصاني بترك طريقتي كلها أو بعضها سواء كان من بنى أو غيرهم فلا الحقه بنفسى ولا اسألك اجنابه وابعاده بل اخلي بينه وبين مغفرتك ورحمتك. ومن هنا يظهر اولا ان قوله عليه السلام فمن تبعني فانه منى ومن عصاني فانك غفور رحيم تفسير لقوله واجنبني وبنى أن نعبد الاصنام بالتصرف في البنين تعميما وتخصيصا فهو كتعميم البنين لكل من تبعه من جهة وتخصيصه بالعاصين له منهم من جهة اخرى فليسوا منه ولا ملحقين به وبالجملة هو عليه السلام يلحق الذين اتبعوه من بعده بنفسه واما غير متبعيه فيخلى بينهم وبين ربهم الغفور الرحيم كما قال تعالى: " ان اولى الناس بابراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا " آل عمران - 68. وهذه التوسعة والتضييق منه عليه السلام نظير مجموع ما وقع منه ومن ربه في الفقرة

[ 72 ]

الاخرى من دعائه على ما يحكيه آية البقرة: " وارزق اهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الاخر قال ومن كفرفامتعه قليلا ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير " حيث سأل الرزق اولا لاهل البلد ثم خصه لمن آمن منهم فعممه الله سبحانه بقوله ومن كفر ثانيا وثانيا ان من الممكن ان يستفاد من قوله عليه السلام فيمن تبعه انه منى وسكوته فيمن عصاه بعد ما كان دعاؤه في نفسه وبنيه ان ذلك تبن منه لكل من تبعه والحاق له بنفسه ونفى لكل من عصاه عن نفسه وان كان من بنيه بالولادة أو الحاق لتابعيه بنفسه مع السكوت عن غيرهم بناء على عدم صراحة السكوت في النفى. ولا اشكال في ذلك بعد ظهور الدليل فان الولادة الطبيعية لا يجب ان تكون هي الملاك في النسب اثباتا ونفيا ولا تجد واحدة من الامم يقتصرون في النسب اثباتا ونفيا على مجرد الولادة الطبيعية بل لا يزالون يتصرفون بالتوسعة والتضييق وللاسلام ايضا تصرفات في ذلك كنفى الدعى والمولود من الزنا والكافر والمرتد والحاق الرضيع والمولود على الفراش إلى غير ذلك وفي كلامه تعالى في ابن نوح انه ليس من اهلك إنه عمل غير صالح " هود: 46. وثالثا انه عليه السلام وان لم يسأل المغفرة والرحمة صريحا لمن عصاه وانما عرضهم للمغفرة والرحمة بقوله ومن عصاني فانك غفور رحيم لكنه لا يخلو عن ايماء ما إلى الطلب لمن ترك طريقته وسيرته التى تعد الانسان للرحمة الالهية بحفظه من عبادة الاصنام وهذا المقدار من المعصية لا يمنع عن شمول الرحمة وان لم يكن مقتضيا ايضا لذلك وليس المراد به نفس الشرك بالله حتى ينافى سؤال المغفرة كما قال تعالى: " إن الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " النساء - 116. هذا محصل ما يعطيه التدبر في الايتين الكريمتين وهو في معزل عما استشكله المفسرون في اطراف الايتين ثم ذهبوا في التخلص عنه مذاهب شتى بعيدة عن الذوق السليم. فقد استشكلوا اولا قوله عليه السلام وأجنبنى وبنى ان نعبد الاصنام من حيث إن ظاهره سؤال الحفظ عن عبادة الاصنام لنفسه ولبنيه جميعا فيكون دعاء غير مستجاب فان قريشا من بنيه وقد كانوا وثنيين يعبدون الاصنام وكيف يمكن ان يدعو

[ 73 ]

مثل الخليل عليه السلام ثم لا يستجاب له ؟ أم كيف يمكن ان يذكر تعالى دعاءه وهو لغو غير معنى به ثم لا يذكر رده على خلاف مسلك القرآن في جميع المواضع المشابهة ؟ ثم كيف يمكن ان يسال لنفسه المصونية والعصمة عن عبادة الاصنام وهو نبى والانبياء معصومون ؟ وقد قيل في الجواب عن اشكال عدم استجابة دعائه في بنيه ان المراد ببنيه ابناؤه بلا واسطة كاسماعيل واسحاق وغيرهما وقد استجيب دعاؤه فيهم وقيل المراد الموجودون من بنيه وقت الدعاء وهم موحدون وقيل إن الله قد استجاب دعاءه في بعض بنيه دون بعض ولا نقص فيه. وقيل إن المشركين من بنيه لم يكونوا يعبدون الاصنام وانما كانوا يتخذونها شفعاء وقيل انهم كانوا يعبدون الاوثان دون الاصنام وبينهما فرق فان الاصنام هي التماثيل المصورة والاوثان هي التماثيل غير المصورة وقيل انهم ما كانوا يعبدون الاصنام بل كان الواحد منهم ينصب حجرا ويقول هذا حجر والبيت حجر فكان يدور حوله ويسمونه الدوار. وسقوط هذه الوجوه ظاهرة اما الاول والثانى فلكونهما خلاف ظاهر اللفظ واما الثالث فلان الاشكال ليس في ورود نقص على النبي بعدم استجابة دعائه أو بعضه لحكمة بل من جهة منافاته لمسلك القرآن في حكاية لغو الكلام من غير رده واما باقى الوجوه فلان ملاك الضلال في عبادة الاصنام هو شرك العبادة وهو موجود في جميع ما افترضوه من الوجوه. وقيل في الجواب عن اشكال سؤال النبي الابعاد والاجناب عن الشرك وهو نبى معصوم إن المراد الثبات والدوام على ذلك وقيل انه عليه السلام ذكر ذلك هضما لنفسه واظهارا للحاجة إلى فضله تعالى وقيل المراد سؤال الحفظ عن الشرك الخفى والا فالانبياء مصونون عن الشرك الجلى هذا. وهذه وجوه ردية اما الاول فلانه لا ينحسم به مادة الاشكال إذ العصمة والمصونية كما انها لازمة للنبوة حدوثا لازمة لها بقاء فلو لم يصح للنبى ان يسال حدوثها لمكان اللزوم لم يصح له أن يسال بقائها لذلك بعينه والاصل في جوابهم هذا انهم يزعمون انفصال الفيض عن المفيض واستقلال المستفيض فيما استفاضه بمعنى ان الله سبحانه

[ 74 ]

إذا افاض بشئ على شئ خرج ما افاضه من ملكه ووقع في ملك المستفيض ولا معنى للسؤال ممن لا يملك وإذا قضى سبحانه بشئ حدوثا أو بقاء قضاء حتم لا يتغير عما هو عليه فانه لا يتعلق على خلافه قدرة ولا مشية وهو خطأ فان الحاجة من جانب المستفيض باقية على حالها قبل الافاضة لا تختلف اصلا وملكه تعالى باق بعد الافاضة على ما كان عليه قبلها ولا يزال سبحانه قادرا له أن يشاء ما يشاء وان كان لا يشاء فيما قضى بخلافه قضاء حتم والسؤال والطلب من آثار الحاجة لا من آثار الفقدان فافهم ذلك وقد اشبعنا القول في هذا المعنى في المباحث المتقدمة مرارا. واما الثاني فلان هضم النفس انما يستقيم في غير الضروريات واما الامور الضرورية فلا فلا معنى لقول القائل لست انسانا وهو يريد نفى الماهية هضما لنفسه اللهم إلا أن يريد نفى الكمال وكذا القول في اظهار الحاجة وهم لا يرون في الامور الضرورية المحتومة كالعصمة في الانبياء حاجة. واما الثالث فلان الشرك الخفى هو الركون والتوجه إلى غير الله على مراتبه وابراهيم عليه السلام يعلل قوله واجنبني الخ بقوله انهن اضللن الخ فهو انما يسأل الابعاد من عبادة هذه الاصنام وهى الشرك الجلى دون الحفظ عن الركون والتوجه إلى غير الله تعالى اللهم الا ان يدعى ان المراد بالصنم كل ما يتوجه إليه غير الله سبحانه وكذا المراد بالعبادة مطلق التوجه والالتفات وهو دعوى لا دليل عليها. ثم استشكلوا في قوله عليه السلام ومن عصاني فانك غفور رحيم من حيث اشتماله على طلب المغفرة للمشركين ولا تتعلق المغفرة بالشرك بنص قوله تعالى إن الله لا يغفر ان يشرك به الاية. وقد قيل في الجواب عن الاشكال ان الشرك كان جائز المغفرة في الشرائع السابقة وانما رفع ذلك في هذه الشريعة بقوله ان الله لا يغفر ان يشرك به الاية فابراهيم عليه السلام جرى في دعائه على ما كان عليه الامر في شريعته. وقيل ان المراد ومن عصاني فانك غفور رحيم له بعد توبته ففى الكلام قيد محذوف وقيل المراد ومن عصاني واقام على الشرك فانك غفور رحيم بأن تنقله من الشرك إلى التوحيد فتغفر له وترحمه.

[ 75 ]

وقيل المراد بالمغفرة والرحمة الستر على الشرك في الدنيا والرحمة بعدم معاجلة العقاب فالمعنى ومن عصاني بالاقامة على الشرك فاستر عليه ذلك وارحمه بتأخير العقاب عنه وقيل ان الكلام على ظاهره وكان ذلك منه عليه السلام قبل أن يعلم ان الله لا يغفر الشرك ولا نقص بجهل ذلك لان مغفرة لشرك جائزة عقلا وانما منع منها الدليل السمعى وليس من الواجب ان يعلم بجميع الادلة السمعية في يوم واحد وقيل المراد بالمعصية ما دون الشرك. وهذه اجوبة فاسدة اما الاول فلان دعوى كون الشرك جائز المغفرة في الشرائع السابقة دعوى لا دليل عليها بل الدليل على خلافها فقد خاطب الله آدم عليه السلام بمثل قوله وهو اول الشرائع السابقة: " والذين كفروا وكذبوا باياتنا اولئك اصحاب النار هم فيها خالدون " البقره: 39 وحكى عن المسيح عليه السلام وشريعته آخر الشرائع السابقة قوله: " انه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من انصار " المائدة: 72 والتدبر في آيات القيامة والجنة والنار وفي آيات الشفاعة وفي دعوات الانبياء المحكية في القرآن لا يدع شكا في إن الشرك لا نجاة لصاحبه بشفاعة أو غيره الا بالتوبة قبل الموت. واما الثاني فلان تقييد المغفرة والرحمة بالتوبة تقييد من غير مقيد على ان تقييد المعصية بالتوبة يفسد المعادلة في قوله فمن تبعني فانه منى ومن عصاني الخ فان العاصى التائب يعود ممن تبعه ويلحق به عليه السلام فلا يبقى للمعادله ازيد من طرف واحد. واما الثالث والرابع فلما فيهما من ارتكاب خلاف الظاهر فان ظاهر طلب المغفرة للعاصي أن يغفر الله له حينما هو عاص لا ان يغفر الله له بعد خروجه بالتوبة عن المعصية إلى الطاعة وكذا ظاهر مغفرة العصيان رفع تبعات معصيته مطلقا أو في الاخرة واما رفع التبعة الدنيوية فقد فأمر بعيد عن الفهم. واما الخامس فهو ابعد الوجوه وكيف يجوز الاجتراء على مثل الخليل عليه السلام وهو في اواخر عمره كما تقدم ان يجهل ما هو من واضحات المعارف الدينية ثم يجرى على جهله فيشفع عند ربه للمشركين ويسال لهم المغفرة من غير ان يستاذن الله في ذلك ولو استاذنه لانبأه ان ذلك مما لا يكون ثم يورد الله سبحانه في كلامه ما ارتكبه

[ 76 ]

من لغو الكلام جهلا ولا يرده ببيان ما هو الحق في ذلك وقد اعتذر سبحانه عن استغفاره لابيه المشرك ورفع عن ساحته كل غميضة فيما قال وما كان استغفار ابراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها اياه فلما تبين له انه عدو لله تبرأ منه " التوبة - 114. واما السادس فتقييد المعصية بما دون الشرك تقييد من غير مقيد اللهم إلا أن يقرر بما يرجع إلى ما قدمناه. فهذه جملة ما ذكره المفسرون في ذيل الايتين اوردناها ملخصة وقد وقعوا فيما وقعوا لاهمالهم تحقيق القول في معنى حفظه تعالى عن الشرك ومعنى تفرع قوله فمن تبعني فانه منى الخ على ما تقدمه. قوله تعالى: " ربنا انى اسكنت من ذريتي بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم إلى آخر الاية من ذريتي في تأويل مفعول اسكنت أو ساد مسده ومن فيه للتبعيض ومراده عليه السلام ببعض ذريته ابنه اسماعيل ومن سيولد له من الاولاد دون اسماعيل وحده بدليل قوله بعد ربنا ليقيموا الصلاة. والمراد بغير ذى زرع غير المزروع وهو آكد وابلغ لانه يدل كما قيل على عدم صلاحيته لان يزرع لكونه ارضا حجرية رملية خالية عن المواد الصالحة للزرع وهذا كقوله قرآنا غير ذى عوج. و نسبة البيت إلى الله سبحانه لانه مبنى لغرض لا يصلح الا له تعالى وهو عبادته وكونه محرما هو ما جعل الله له من الحرمة تشريعا والظرف اعني قوله عند بيتك المحرم متعلق بقوله اسكنت. وهذه الجملة من دعائه عليه السلام اعني قوله ربنا انى اسكنت إلى قوله المحرم من الشاهد على ما قدمناه من انه عليه السلام انما دعا بهذالدعاء في اواخر عمره بعد ما بنى الكعبة وبنى الناس بلدة مكة وعمروها كما ان من الشاهد عليه ايضا قوله الحمد لله الذى وهب لى على الكبر اسماعيل واسحاق. وبذلك يندفع ما ربما يستشكل فيقال كيف سماه بيتا وقال اسكنت من ذريتي عنده ولم يبنه بعد ؟ كأن السائل يقدر انه انما دعا به يوم اتى باسماعيل وامه إلى ارض مكة وكانت ارضا قفراء لا انيس بها ولا نبت

[ 77 ]

ولا حاجة إلى دفعه بانه كان يعلم بما علمه الله انه سيبني هناك بيتا لله أو بأن البيت كان قبل ذلك وانما خربه بعض الطوائف أو رفعه الله إلى السماء في الطوفان وليت شعرى إذا اندفع بهما هذا الاشكال فكيف يندفع بهما ما يتوجه من الاشكال على هذا التقدير إلى ظاهر قوله رب اجعل هذا البلد آمنا وظاهر قوله وهب لى على الكبر اسماعيل واسحاق. وقوله ربنا ليقيموا الصلاة بيان لغرضه من اسكانهم هناك وهو بانضمام ما تقدم من قوله بواد غير ذى زرع وما يعقبه من قوله: " فاجعل افئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات " يفيد إنه عليه السلام انما اختار واديا غير ذى زرع اعزل من امتعة الحياة من ماء عذب ونبات ذى خضرة وشجر ذي بهجة وهواء معتدل خاليا من السكنة ليتمحضوا في عبادة الله من غير أن يشغلهم شواغل الدنيا. وقوله فاجعل افئدة من الناس تهوى إليهم الخ من الهوى بمعنى السقوط أي تحن وتميل إليهم بالمساكنة معهم أو بالحج إلى البيت فيأنسوا بهم وارزقهم من الثمرات بالنقل إليهم تجارة لعلهم يشكرون. قوله تعالى: " ربنا إنك تعلم ما نخفى وما نعلن " إلى آخر الاية معناه ظاهر وقوله وما يخفى على الله شئ في الارض ولا في السماء من تمام كلام ابراهيم عليه السلام أو من كلامه تعالى وعلى الاول ففى قوله على الله التفات وجهه الاشارة إلى علة الحكم كأنه قيل انك تعلم ما نخفى وما نعلن لانك الله الذى ما يخفى عليه شئ في الارض ولا في السماء ولا يبعد أن يستفاد من هذا التعليل ان المراد بالسماء ما هو خفى علينا غائب عن حسنا والارض بخلافه فافهم ذلك. قوله تعالى: " الحمد لله الذى وهب لى على الكبر اسماعيل واسحاق ان ربى لسميع الدعاء " كالجملة المعترضة بين فقرات دعائه دعاه إلى ايراده تذكرة في ضمن ما اورده من الادعية عظيم نعمة الله عليه إذ وهب له ولدين صالحين مثلهما بعد ما انقطع عنه الاسباب العادية المؤدية إلى ظهور النسل وانه انما وهبهما له باستجابة دعائه للولد فحمد الله على ما وهبهما واثنى عليه على استجابة دعائه في ذلك. قوله تعالى: " رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربناوتقبل دعاء " الكلام

[ 78 ]

في استناد اقامته الصلاة إلى الله سبحانه نظير الكلام في استناد اجنابه أن يعبد الاصنام فان لاقامة الصلاة نسبة إليه تعالى بالاذن والمشية كما ان لها نسبة إلى العبد بالتصدي والعمل وقد مر الكلام فيه. وهذه الفقرة ثانى دعاء يشترك فيه هو عليه السلام وذريته ويعقب في الحقيقة قوله اولا وأجنبنى وبني أن نعبد الاصنام كما يلحق به دعاؤه الثالث المشترك فيه ربنا اغفر لى ولوالدي وللمؤمنين. وقد أفرد نفسه في جميع الفقرات الثلاث عن غيره إذ قال وأجنبنى واجعلني مقيم الصلاة اغفر لى لان مطلوبه لحوق ذريته به كما قال في موضع آخر: " واجعل لى لسان صدق في الاخرين " الشعراء: 84 وفي موضع آخر كما حكاه الله بقوله: " واذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال انى جاعلك للناس اماما قال ومن ذريتي " البقرة: 124. واما قوله في الفقرة الاولى وأجنبنى وبنى وههنا اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي فقد تقدم ان المراد ببنيه بعضهم لا جميعهم فتتطابق الفقرتان. ومن تطابق الفقرتين انه اكد دعاءه في هذه الفقرة بقوله ربنا وتقبل دعاء فان سؤال تقبل الدعاء الحاح واصرار وتأكيد كما إن التعليل في الفقرة الاولى بقوله رب انهن اضللن كثيرا من الناس تأكيد في الحقيقة لما فيها من الدعاء بقوله وأجنبنى الخ. قوله تعالى: " ربنا اغفر لى ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ختم عليه السلام دعاءه وهو آخر ما ذكر من دعائه في القرآن الكريم كما تقدم بطلب المغفرة للمؤمنين يوم القيامة ويشبه آخر ما دعا به نوح عليه السلام مما ذكر في القرآن: " رب اغفر لى ولوالدي ولمن دخل بيتى مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات " نوح 28. وفي الاية دليل على انه عليه السلام لم يكن ولد آزر المشرك لصلبه فانه عليه السلام كما ترى يستغفر لوالديه وهو على الكبر وفي آخر عهده وقد تبرء من آزر في اوائل عهده بعد ما استغفر له عن موعدة وعده اياه قال تعالى: " قال سلام عليك سأستغفر لك ربى " مريم: 47 وقال: " واغفر لابي انه كان من الضالين " الشعراء: 86

[ 79 ]

وقال وما كان استغفار ابراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها اياه فلما تبين له إنه عدو لله تبرء منه " التوبة: 114 وقد تقدم تفصيل القول في قصصه عليه السلام في سورة الانعام في الجزء السابع من الكتاب. ومن لطيف ما في دعائه عليه السلام اختلاف النداء المكرر الذى فيه بلفظ رب وربنا والعناية فيما اضيف إلى نفسه بما يختص بنفسه من السبقة والامامة وفيما اضيف إلى نفسه وغيره إلى المشتركات. (بحث روائي) في الدر المنثور اخرج أبو نعيم في الدلائل عن عقيل بن ابى طالب: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أتاه الستة النفر من الانصار جلس إليهم عند جمرة العقبة فدعاهم إلى الله وإلى عبادته والمؤازرة على دينه فسألوه أن يعرض عليهم ما اوحى إليه فقرأ من سورة ابراهيم: " واذ قال ابراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا وأجنبنى وبني أن نعبد الاصنام " إلى آخر السورة فرق القوم وأخبتوا حين سمعوا منه ما سمعوا واجابوه وفي تفسير العياشي عن ابى عبيدة عن ابى عبد الله عليه السلام قال: من احبنا فهو منا أهل البيت فقلت جعلت فداك منكم ؟ قال منا والله أما سمعت قول الله وهو قول ابراهيم عليه السلام فمن تبعني فانه منى وفيه عن محمد الحلبي عن ابى عبد الله عليه السلام قال: من اتقى الله منكم واصلح فهو منا اهل البيت ؟ قال منكم اهل البيت قال منا اهل البيت قال فيها ابراهيم فمن تبعني فانه منى قال عمر بن يزيد قلت له من آل محمد ؟ قال أي والله من آل محمد أي والله من انفسهم أما تسمع قول الله تعالى: " إن أولى الناس بابراهيم للذين اتبعوه وقول ابراهيم فمن تبعني فانه منى ؟ اقول وقد ورد في بعض الروايات ان بنى اسماعيل لم يعبدوا صنما قط اثر دعاء ابراهيم واجنبني وبنى ان نعبد الاصنام وانهم انما قالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله والظاهر ان الرواية موضوعة وقد تقدمت الاشارة إليه في البيان السابق

[ 80 ]

وكذا ما ورد في بعض الروايات من طرق العامة والخاصة إن ارض الطائف كانت في الاردن من ارض فلسطين فلما دعا ابراهيم عليه السلام لبنيه بقوله: " وارزقهم من الثمرات امر الله بها فسارت بترابها إلى مكة فطافت على البيت سبعة اشواط ثم استقرت حيث الطائف الان. وهذا وان كان ممكن الوقوع في نفسه من طريق الاعجاز لكن لا يكفى لثبوته امثال هذه الروايات الضعيفة والمرسلة على إن هذه الايات في مقام الامتنان ولو قارن هذا الدعاء واستجابته تعالى له مثل هذه الاية العظيمة العجيبة والمعجزة الباهرة لاشير إليها مزيدا للامتنان والله اعلم. وفي مرسلة العياشي عن حريز عمن ذكره عن احدهما عليه السلام: انه كان يقرأ رب اغفر لى ولولدي يعنى اسماعيل واسحاق وفي مرسلته الاخرى عن جابر عن ابى جعفر عليه السلام: مثله وظاهر هذه الرواية إن القراءة مبنية على كفر والد ابراهيم والروايتان ضعيفتان لا يعبأ بهما * * * ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون انما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار - 42 مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وافئدتهم هواء - 43 وانذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى اجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال - 44 وسكنتم في مساكن الذين ظلموا انفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الامثال - 45 وقد مكروا مكرهم وعند الله

[ 81 ]

مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال - 46 فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ان الله عزيز ذو انتقام - 47 يوم تبدل الارض غير الارض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار - 48 وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الاصفاد - 49 سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار - 50 ليجزى الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب - 51 هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا انما هو اله واحد وليذكر اولوا الالباب - 52 (بيان) لما أنذر وبشر سبحانه في الايات السابقة ودعا إلى صراطه بما إنه العزيز الحميد ختم بيانه بدفع ما ربما يسبق إلى اوهام ضعفاء العقول من الناس من ان الامر لو كان على ما ذكر وكانت هذه الدعوة دعوة نبوية من لدن رب عزيز حميد فما بال هؤلاء الظالمين يتمتعون بما شاؤا ؟ وما باله لا يأخذ الظالمين بظلمهم ولا يلجم المتخلفين عن دعوته المخالفين عن امره ؟ أهو في غفلة عما يعملونه أم هو مخلف وعده رسله يعدهم بالنصر ثم لا يفى بوعده ؟ فأجاب تعالى انه ليس بغافل عما يعمل الظالمون ولا مخلف وعده رسله كيف ؟ وهو تعالى عليم بما يمكرون وعزيز ذو انتقام بل انما يؤخرهم ليوم شديد وهو يوم الجزاء على انه تعالى ربما اخذهم بذنوبهم في الدنيا كما اخذ الامم الماضين. ثم ختم السورة بقوله هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا إنما هو إله واحد وليذكر اولوا الالباب وهى آية جامعة لغرض السورة كما سيجئ بيانه ان شاء الله.

[ 82 ]

قوله تعالى: " ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون " إلى آخر الايتين يقال شخص بصره أي سكن بحيث لا يطرف جفنه ويقال بعير مهطع إذا صوب عنقه أي رفعه وهطع واهطع بمعنى ويقال اقنع رأسه إذا رفعه وقوله لا يرتد إليهم طرفهم أي لا يقدرون على ان يطرفوا من هول ما يشاهدونه وقوله وافئدتهم هواء أي قلوبهم خالية عن التعقل والتدبير لشدة الموقف أو انها زائلة. والمعنى ولا تحسبن الله ولا تظننه غافلا عما يعمل هؤلاء الظالمون بما تشاهد من تمتعهم وإترافهم في العيش وافسادهم في الارض انما يمهلهم الله ويؤخر عقابهم إلى يوم يسكن فيه ابصارهم فلا تطرف والحال انهم ما دون لاعناقهم رافعون لرؤوسهم لا يقدرون على رد طرفهم وقلوبهم مدهوشة خالية عن كل تحيل وتدبير من شدة هول يوم القيامة وفي الاية انذار للظالمين وتعزية لغيرهم. قوله تعالى: " وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب " إلى آخر الاية في الاية انذار بعد انذار وبين الانذارين فرق من جهتين احداهما ان الانذار في الايتين السابقتين انذار بما أعد الله من اهوال يوم القيامة واليم العذاب فيه واما الذى في هذه الاية وما يتلوها فهو انذار بعذاب الاستئصال في الدنيا ومن الدليل عليه قوله: " فيقول الذين ظلموا ربنا اخرنا إلى اجل قريب " الخ. وبذلك يظهر ان لا وجه لما ذكره بعضهم ان المراد بهذا اليوم الذى يأتيهم فيه العذاب هو يوم القيامة وكذا ما ذكره آخرون ان المراد به يوم الموت. والثانية إن الانذار الاول انذار بعذاب قطعي لا صارف له عن أمة ظالمة ولا فرد ظالم من أمة واما الانذار الثاني فهو انذار بعذاب غير مصروف عن امة ظالمة واما الفرد فربما صرف عنه ولذلك ترى انه تعالى يقول اولا وانذر الناس ثم يقول فيقول الذين ظلموا الخ ولم يقل فيقولون أي الناس لان عذاب الاستئصال لا يصيب المؤمنين قال تعالى: " ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين " يونس: 103 وانما يصيب الامة الظالمة بحلول أجلهم وهم طائفة من ظالمي الامة لا جميع افرادها. وبالجملة فقوله وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب انذار للناس بعذاب الاستئصال الذى يقطع دابر الظالمين منهم وقد تقدم في تفسير سورة يونس وغيره ان ذلك

[ 83 ]

مكتوب على الامم قضاء بينهم وبين رسولهم حتى هذه الامة المحمدية وقد تكرر هذا الوعيد منه تعالى في عدة مواضع من كلامه. وهذا هو اليوم الذى يطهر الله الارض فيه من قذارة الشرك والظلم ولا يعبد عليها يومئذ الا الله سبحانه فان الدعوة عامة والامة هم اهل الارض فإذا محى الله عنهم الشرك لم يبق منهم الا المؤمنون ويكون الدين كله لله قال تعالى: " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ان الارض يرثها عبادي الصالحون ". ومما تقدم يظهر الجواب عما اورد على كون المراد بالعذاب في الاية عذاب الاستئصال ان القصر في الاية السابقة ينافيه فان قوله انما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار يقصر اخذهم وعقابهم في يوم القيامة. وذلك لما عرفت ان العذاب المنذر به في الايتين السابقتين هو العذاب الذى لا يصرفه عنهم صارف ولا يتخلف عنه احد من الظالمين وهو مقصور في عذاب يوم القيامة ولا ينافى انحصاره في يوم القيامة وجود نوع آخر من العذاب في الدنيا. على ان القصر لو تم على ما يريده المعترض لدفع ما يدل عليه الايات الكثيرة الدالة على نزول العذاب بهذه الامة كما اشرنا إليه. على ان حمل العذاب في الاية على عذاب يوم القيامة يوجب صرف الايات عن ظهورها ورفع اليد عما يعطيه السياق فيها ولا مساغ له. وقوله: " فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى اجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل " المراد به الظالمون من الناس وهم الذين يأخذهم العذاب المستأصل ولا يتخطاهم ومرادهم بقولهم اخرنا إلى اجل قريب الاستمهال بمدة قصيرة تضاف إلى عمرهم في الدنيا حتى يتداركوا فيه ما فوتوه بظلمهم والدليل عليه قولهم نجب دعوتك ونتبع الرسل. والتعبير بالرسل بلفظ الجمع في قولهم ونتبع الرسل مع ان الاية تصف حال ظالمي هذه الامة ظاهرا وكان مقتضى ذلك ان يقان ونتبع الرسول انما هو للدلالة على ان الملاك في نزول هذا العذاب القضاء بين الرسالة وبين منكريها من غير اختصاص ذلك برسول دون رسول كما يفيده قوله: " ولكل امة رسول فإذا جاء رسولهم

[ 84 ]

قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون " يونس: 47. وقوله: " أو لم تكونوا اقسمتم من قبل ما لكم من زوال " الاقسام تعليق الحكم في الكلام بامر شريف من جهة شرافته ليدل به على صدقه إذ لو كذب المتكلم وقد اقسم في كلامه لاذهب بذلك شرف المقسم به كقولنا والله ان كذا لكذا ولعمري ان الامر على كذا ويعد القسم اقوى اسباب التأكيد ولا يبعد ان يكون الاقسام في الاية كناية عن ايراد الكلام في صورة جازمة غير قابلة للترديد. والكلام على تقدير القول والمعنى يقال لهم توبيخا وتبكيتا ألم تكونوا أقسمتم من قبل نزول العذاب ما لكم من زوال وإنكم بما عندكم من القوة والسطوة ووسائل الدفاع أمة خالدة مسيطرة على الحوادث فما لكم تستمهلون إلى اجل قريب. قوله تعالى: " وسكنتم في مساكن الذين ظلموا انفسهم " إلى آخر الاية معطوف على محل قوله اقسمتم في الاية السابقة والمعنى أو لم تكونوا سكنتم في مساكن الذين ظلموا انفسهم من الامم السابقة وظهر لكم ان هذه الدعوة حقة ويتعقبها لو ردت عذاب مستأصل من جهتين جهة المشاهدة حيث تبين لكم كيف فعلنا باولئك الظالمين الذين سكنتم في مساكنهم ؟ وجهة البيان حيث ضربنا لكم الامثال وأنذرناكم عذابا مستأصلا يتعقبه انكار الحق ورد الدعوة النبوية ويقطع دابر الظالمين. قوله تعالى: " وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وان كان مكرهم لتزول منه الجبال حال من الضمير في فعلنا في الاية السابقة أو من الضمير في بهم فيها أو من الضميرين جميعا على ما قيل وضمائر الجمع راجعة إلى الذين ظلموا. والمراد بكون مكرهم عند الله احاطته تعالى به بعلمه وقدرته ومن المعلوم ان المكر إنما يكون مكرا إذا لم يحط به الممكور به وجهله واما إذا كان الممكور به عالما بما هيأه الماكر من المكر وقادرا على دفعه لغى المكر أو عاد مكرا على نفس الماكر كما قال تعالى: " وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون " الانعام: 123. وقوله: " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال إن وصلية على ما قيل واللام في لتزول متعلق بمقدر يدل عليه لفظ المكر كقولنا يقتضى أو يوجب وما اشبه ذلك والتقدير الله محيط بمكرهم عالم به قادر على دفعه ان كان مكرهم

[ 85 ]

دون هذه الشدة وان كان على هذه الشدة. والمعنى تبين لكم كيف فعلنا بهم والحال انهم مكروا ما في وسعهم من المكر والله محيط بمكرهم وان كان مكرهم عظيما موجبا لزوال الجبال. وربما قيل إن إن نافية واللام هي الداخلة على المنفى والمراد بالجبال الايات والمعجزات كناية والمعنى وما كان مكرهم لتبطل به آيات الله ومعجزاته التى هي كالجبال الراسيات التى لا تزول عن مكانها وايد هذا المعنى بقراءة ابن مسعود وما كان مكرهم وهو معنى بعيد. وقرئ ايضا لتزول بفتح اللام الاولى وضم اللام الثانية وعلى هذا تكون ان مخففة من المشددة والمعنى والتحقيق ان مكرهم كان من العظمة بحيث تزول منه الجبال قوله تعالى: " فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ان الله عزيز ذو انتقام " تفريع على ما تقدم ان ترك مؤاخذة الظالمين بعملهم انما هو لتاخيرهم إلى يوم القيامة أي إذا كان الامر كذلك فلا تحسبن الله مخلفا لما وعد رسله من نصرهم ومؤاخذة المتخلفين عن دعوتهم وكيف يخلف وعده وهو عزيز ذو انتقام شديد ولازم عزته المطلقة أن لا يخلف وعده فان اخلاف الوعد اما لكون الواعد غير قادر على انجاز ما وعده أو لتغير من الرأى بعروض حال ثانية تقهره على خلاف ما بعثته إليه الحال الاولى التى اوجبت عليه الوعد والله سبحانه عزيز على الاطلاق لا يتصف بعجز ولا تقهره حال ولا شئ آخر وهو الواحد القهار. ولازم اتصافه بالانتقام ان ينتقم للحق ممن استكبر عنه واستعلى عليه وينتصف للمظلوم من الظالم. وذو انتقام من اسمائه تعالى الحسنى التى سمى الله تعالى بها نفسه في مواضع من كلامه وقارنه في جميعها باسمه العزيز قال تعالى: " والله عزيز ذو انتقام " آل عمران: 4 المائدة: 95 وقال: " أليس الله بعزيز ذو انتقام " الزمر: 37 وقال في الاية المبحوث عنها ان الله عزيز ذو انتقام ومن ذلك يظهر ان ذا انتقام من فروع اسم العزيز.

[ 86 ]

(كلام في معنى الانتقام ونسبته إليه تعالى) الانتقام هو العقوبة لكن لا كل عقوبة بل عقوبة خاصة وهى ان تذيق غيرك من الشر ما يعادل ما اذاقك منه أو تزيد عليه قال تعالى: " ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله ". وهو اصل حيوى معمول به عند الانسان وربما يشاهد من بعض الحيوان ايضا اعمال يشبه ان تكون منه وايا ما كان يختلف الغرض الذى يبعث الانسان إليه فالداعي إليه في الانتقام الفردى هو التشفي غالبا فإذا سلب الواحد من الانسان غيره شيئا من الخير أو اذاقه شيئا من الشر وجد الذى فعل به ذلك في نفسه من الاسى والاسف ما لا تسكن فورته ولا تخمد ناره الا بأن يذيقه من الشر ما يعادل ما ذاق منه أو يزيد عليه فالعامل الذى يدعو إليه هو الاحساس الباطني واما العقل فربما اجازه وانفذه وربما استنكف. والانتقام الاجتماعي ونعنى به القصاصات وانواع المؤاخذات التى نعثر عليها في السنن والقوانين الدائرة في المجتمعات اعم من الراقية والهمجية الغالب فيه أن يكون الغرض الداعي إليه غاية فكرية ومطلوبا عقليا وهو حفظ النظام عن الاختلال وسد طريق الهرج والمرج فلو لا اصل الانتقام ومؤاخذة المجرم الجاني بما اجرم وجنى اختل الامن العام وارتحل السلام من بين الناس. ولذا كان هذا النوع من الانتقام حقا من حقوق المجتمع وان كان ربما استصحب حقا فرديا كمن ظلم غيره بما فيه مؤاخذة قانونية فربما يؤاخذ الظالم استيفاء لحق المجتمع وان ابطل المظلوم حقه بالعفو. فقد تبين ان من الانتقام ما يبتنى على الاحساس وهو الانتقام الفردى الذى غايته التشفي ومنه ما يبتنى على العقل وهو الانتقام الاجتماعي الذى غايته حفظ النظام وهو من حقوق المجتمع وان شئت قلت من حقوق السنة أو القانون الجارى في المجتمع فان استقامة الاحكام المعدلة لحياة الناس وسلامتها في نفسها تقتضي مؤاخذة المجرم المتخلف عنها واذاقته جزاء سيئته المر فهو من حقوق السنة والقانون كما انه من حقوق المجتمع.

[ 87 ]

إذا عرفت هذا علمت ان ما ينسب إليه تعالى في الكتاب والسنة من الانتقام هو ما كان حقا من حقوق الدين الالهى والشريعة السماوية وان شئت فقل من حقوق المجتمع الاسلامي وان كان ربما استصحب الحق الفردى فيما إذا انتصف سبحانه للمظلوم من ظالمه فهو الولى الحميد. واما الانتقام الفردى المبنى على الاحساس لغايه التشفي فساحته المقدسة اعز من أن يتضرر بإجرام المجرمين ومعصية المسيئين أو ينتفع بطاعة المحسنين. ومن هنا يظهر سقوط ما ربما استشكله بعضهم ان الانتقام انما يكون لتشفى القلب واذ كان تعالى لا ينتفع ولا يتضرر بشئ من اعمال عباده خيرا أو شرا طاعة أو معصية فلا وجه لنسبة الانتقام إليه كما ان رحمته غير المتناهية تأبى ان يعذبهم بعذاب خالد غير متناه كيف لا ؟ والواحد من ارباب الرحمة يرحم المجرم المقدم على أي معصية إذا كان عن جهالة منه وهو تعالى يصف الانسان وهو مخلوقه المعلوم له حاله بذلك إذ يقول: " إنه كان ظلوما جهولا " الاحزاب 72. وجه السقوط ان فيه خلطا بين الانتقام الفردى والاجتماعي والذى يثبت فيه تعالى هو الاجتماعي منه دون الفردى كما توهم كما ان فيه خلطا بين الرحمة النفسانية التى هي تأثر وانفعال قلبى من الانسان وبين الرحمة العقلية التى هي تتميم نقص الناقص المستعد لذلك والتى تثبت فيه تعالى هي الرحمة العقلية دون الرحمة النفسانية ولم يثبت الخلود في العذاب الا فيما إذا بطل استعداد الرحمة وامكان الافاضة قال تعالى: " بلى من كسب سيئة واحاطت به خطيئته فاولئك اصحاب النار هم فيها خالدون " البقرة: 81. وههنا نكتة يجب ان تتنبه لها وهى إن الذى تقدم من معنى الانتقام المنسوب إليه تعالى انما يتأتى على مسلك المجازاة والثواب والعقاب واما على مسلك نتائج الاعمال فترجع حقيقته إلى لحوق الصور السيئه المؤلمه بالنفس الانسانية عن الملكات الرديئة التى اكتسبتها في الحياة الدنيا بعد الموت وقد تقدم البحث في الجزء الاول من الكتاب في ذيل قوله تعالى: " ان الله لا يستحى ان يضرب مثلا ما " الاية البقرة 26 في جزاء الاعمال. قوله تعالى: " يوم تبدل الارض غير الارض والسماوات وبرزوالله الواحد

[ 88 ]

القهار " الظرف متعلق بقوله ذو انتقام وتخصيص انتقامه تعالى بيوم القيامة مع عمومه لجميع الاوقات والظروف انما هو لكون اليوم اعلى مظاهر الانتقام الالهى كما ان تخصيص بروزهم لله بذلك اليوم كذلك وعلى هذا النسق جل الاوصاف المذكورة في كلامه تعالى ليوم القيامة كقوله: " الامر يومئذ لله " الانفطار: 19 وقوله: " ما لكم من الله من عاصم " المؤمن: 33 إلى غير ذلك وقد تقدمت الاشارة إليه كرارا. والظاهر ان اللام في الارض للعهد في الموضعين معا وكذا في السماوات والسماوات معطوفة على الارض الاولى والمعنى تبدل هذه الارض غير هذه الارض وتبدل هذه السماوات غير هذه السماوات. وللمفسرين في معنى تبدل الارض والسماوات اقوال مختلفة فقيل تبدل الارض فضة والسماوات ذهبا وربما قيل ان الارض تبدل من ارض نقية كالفضة والسماوات كذلك. وقيل تبدل الارض نارا والسماوات جنانا. وقيل تبدل الارض خبزة نقية تأكل الناس منها طول يوم القيامة. وقيل تبدل الارض لكل فريق مما يقتضيه حاله فتبدل لبعض المؤمنين خبزة يأكل منها ما دام في العرصات ولبعض آخر فضة وتبدل للكافر نارا. وقيل التبديل هو انه يزاد في الارض وينقص منها وتذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها وتمد مد الاديم وتصير مستوية لا ترى فيها عوجا ولا أمتا وتتغير السماوات بذهاب الشمس والقمر والنجوم وبالجملة يتغير كل من الارض والسماوات عما هو عليه في الدنيا من الصفات والاشكال. ومنشأ اختلافهم في تفسير التبديل اختلاف الروايات الواردة في تفسير الاية مع إن الروايات لو صحت واتصلت كان اختلافها اقوى شاهد على ان ظاهرها غير مراد وان بياناتها واقعة موقع التمثيل للتقريب. والتدبر الكافي في الايات التى تحوم حول تبديل الارض والسماء يفيد إن امر التبديل أعظم مما نتصوره من بسط الجبل على السهل أو تبديل التراب فضة أو خبزا

[ 89 ]

نقيا مثلا كقوله تعالى: " واشرقت الارض بنور ربها " الزمر: 69 وقوله: " وسيرت الجبال فكانت سرابا " النبأ: 20 وقوله: " وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب " النمل: 88 ان كانت الاية ناظرة إلى يوم القيامة إلى غير ذلك من الايات. فالايات تنبئ عن نظام غير هذا النظام الذى نعهده وشؤون دون مانتصوره فإشراق الارض يومئذ بنور ربها غير اشراق بسيطها بنور الشمس أو الكواكب أو غيرها وسير الجبال ينتهى عادة إلى زوالها عن مكانها وتلاشيها مثلا لا إلى كونها سرابا وهكذا نرجو ان يوفقنا الله سبحانه لبسط الكلام في هذا المعنى فيما سيأتي ان شاء الله تعالى. وقوله وبرزوا لله الواحد القهار معنى بروزهم وظهورهم لله يومئذ مع كون الاشياء بارزة غير خفية عليه دائما سقوط جميع العلل والاسباب التى كانت تحجبهم عنه تعالى ما داموا في الدنيا فلا يبقى يومئذ على ما يشاهدون شئ من الاسباب يملكهم ويتولى امرهم ويستقل بالتأثير فيهم الا الله سبحانه كما يدل عليه آيات كثيرة فهم لا يلتفتون إلى جانب ولا يتوجهون إلى جهة في ظاهرهم وباطنهم وحاضرهم والماضي الغائب من احوالهم واعمالهم الا وجدوه سبحانه شاهدا مهيمنا عليه محيطا به. والدليل على هذا الذى ذكرناه توصيفه تعالى بالواحد القهار المشعر بنوع من الغلبة فبروزهم لله يومئذ انما هو ناشئ عن كونه تعالى هو الواحد الذى يقوم به وجود كل شئ ويقهر كل من دونه من مؤثر فلا يحول بينهم وبينه حائل فهم بارزون له بروزا مطلقا. قوله تعالى: " وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الاصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار " المقرنين من التقرين وهو جمع الشئ إلى نظيره والاصفاد جمع الصفد وهو الغل الذى يجمع اليد إلى العنق أو هو مطلق السلسلة يقرن بين المقيدين والسرابيل جمع السربال وهو القميص والقطران شئ اسود منتن يطلى به الابل فانهم يطلون به فيصير كالقميص عليهم والغشاوة بالفتح الستر والتغطية يقال غشى يغشى غشاوة أي ستره وغطاه ومعنى الايتين واضح. قوله تعالى: " ليجزى الله كل نفس ما كسبت ان الله سريع الحساب معنى

[ 90 ]

الاية واضح وهى بظاهرها تدل على ان الذى تجزى به كل نفس هو عين ما كسبته من حسنة أو سيئة وان تبدلت صورته فهى من الايات الدالة على ان الذى يلحق بهم يوم القيامة هو نتيجة اعمالهم. فالاية تفسر اولا معنى الجزاء في يوم الجزاء وثانيا معنى انتقامه تعالى يومئذ وانه ليس من قبيل عقوبة المجرم العاصى تشفيا منه بل الحاق ما يستدعيه عمل المجرم به وان شئت فقل ايصال ما اكتسبه المجرم بعينه إليه وفي تعليل هذا الجزاء وهو في يوم القيامة بقوله ان الله سريع الحساب ايماء إلى ان الجزاء واقع من غير فصل ومهل الا ان ظرف ظهوره هو ذلك اليوم لا غير أو ان الحكم بالجزاء وكتابته واقع عند العمل وتحققه يوم القيامة ومآل الوجهين واحد في الحقيقة. قوله تعالى: " هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا انما هو اله واحد وليذكر اولوا الالباب " البلاغ بمعنى التبليغ على ما ذكره الراغب أو بمعنى الكفاية على ما ذكره غيره. والاية خاتمة السورة فالانسب ان تكون الاشارة بهذا إلى ما اورد في السورة من البيان لا إلى مجموع القرآن كما ذكره بعضهم ولا إلى ما ذكر من قوله تعالى: " ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون " إلى آخر السورة كما ذكره آخرون. وقوله ولينذروا به الخ اللام فيه للغاية وهو معطوف على محذوف انما حذف لفخامة امره وعظم شأنه لا يحيط به افهام الناس لاشتماله من الاسرار الالهية على ما لا يطيقونه وانما تسع عقولهم ما ذكر من غاياته وهو الانذار والعلم بوحدانيته تعالى والتذكر فهم ينذرون بما ذكر فيها من مؤاخذته تعالى الظالمين عاجلا وآجلا وتتم عليهم الحجة بما ذكر فيها من آيات التوحيد ويتذكر المؤمنون منهم خاصة بما فيها من المعارف الالهية. وبهذا يتطابق مختتم السورة ومفتتحها اعني قوله في اول السورة كتاب انزلناه اليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور باذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد فقد تقدم ان مدلول الاية امر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة والتبليغ إلى صراط الله بما انه

[ 91 ]

تعالى ربهم العزيز الحميد ليخرج الناس من الظلمات إلى النور باذنه فانهم ان استجابوا الدعوة وآمنوا خرجوا بذلك من ظلمات الكفر إلى نور الايمان بالفعل وان لم يستجيبوا انذروا ووقفوا على التوحيد الحق وخرجوا من الجهل إلى العلم وهو نوع خروج من الظلمة إلى النور وان كان وبالا عليهم وخساراففى الدعوة على أي حال انذار للناس واعلامهم انما هو اله واحد وتذكر لاولى الالباب منهم خاصة وهم المؤمنون. (بحث روائي) في المعاني باسناده عن ثوبان: ان يهوديا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا محمد فرفعه ثوبان برجله وقال قل يا رسول الله فقال لا ادعوه الا باسماء اهله قال أرأيت قول الله يوم تبدل الارض غير الارض والسماوات اين الناس يومئذ قال في الظلمة دون المحشرقال فما اول ما يأكل اهل الجنة إذا دخلوها قال كبد الحوت قال فما شرابهم على اثر ذلك قال السلسبيل قال صدقت يا محمد اقول وروى الحديث في الدر المنثور عن مسلم وابن جرير والحاكم والبيهقي في الدلائل عن ثوبان: مثله إلى قوله في الظلمة وروى ايضا عن عده عن عائشة: إنها سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال على الصراط وفي تفسير العياشي عن ثوير بن ابى فاخته عن الحسين بن على عليه السلام قال: تبدل الارض غير الارض يعنى بأرض لم يكتسب عليها الذنوب بارزة ليست عليها جبال ولا نبات كما دحاها اول مرة. اقول ورواه القمى ايضا في تفسيره وفيه دلالة على حدوث الجبال وكذا النبات بعد تمام خلقه الارض. وفي الدر المنثور اخرج البزار وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في البعث عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قول الله يوم تبدل الارض غير الارض قال ارض بيضاء كأنها فضة لم يسفك فيها دم حرام ولم تعمل فيها خطيئة

[ 92 ]

اقول ورواه ايضا عن ابن مردويه عن على عنه صلى الله عليه وآله وسلم: مثله وفيه اخرج ابن ابى الدنيا في صفة الجنة وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم عن على بن ابى طالب في الاية قال: تبدل الارض من فضة والسماء من ذهب. اقول وحمل بعضهم الكلام على التشبيه كما وقع في حديث ابن مسعود السابق. وفي الكافي باسناده عن زرارة عن ابى جعفر عليه السلام قال: سأله ابرش الكلبى عن قول الله عز وجل يوم تبدل الارض غير الارض قال تبدل خبزة نقية يأكل الناس منها حتى يفرغ من الحساب فقال الابرش فقلت إن الناس يومئذ لفى شغل من الاكل فقال أبو جعفر عليه السلام فهم في النار لا يشتغلون عن اكل الضريع وشرب الحميم وهم في عذاب فكيف يشتغلون عنه في الحساب ؟ اقول وقوله تبدل خبزة نقية يحتمل التشبيه كما ربما يستفاد من الخبر الاتى. وفي ارشاد المفيد واحتجاج الطبرسي عن عبد الرحمان بن عبد الله الزهري قال: حج هشام بن عبد الملك فدخل المسجد الحرام متكئا على ولد سالم مولاه ومحمد ابن على بن الحسين عليه السلام جالس في المسجد فقال له سالم مولاه يا امير المؤمنين هذا محمد بن على قال هشام المفتونون به أهل العراق ؟ قال نعم فقال اذهب إليه فقل له يقول لك امير المؤمنين ما الذى ياكل الناس ويشربون إلى أن يفصل بينهم يوم القيامة قال أبو جعفر عليه السلام يحشر الناس على مثل قرص نقى فيها انهار متفجرة يأكلون ويشربون حتى يفرغ من الحساب. قال فرأى هشام انه قد ظفر به فقال الله اكبر اذهب إليه فقل ما اشغلهم عن الاكل والشرب يومئذ فقال أبو جعفر عليه السلام هم في النار أشغل ولم يشتغلوا عن ذلك قالوا أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله فسكت هشام لا يرجع كلاما وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن أفلح مولى ابى ايوب إن رجلا من يهود سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم تبدل الارض غير الارض ما الذى تبدل به ؟ فقال خبزة

[ 93 ]

فقال اليهودي درمكة بأبى انت قال فضحك ثم قال قاتل الله اليهود هل تدرون ما الدرمكة ؟ لباب الخبز وفيه اخرج احمد وابن جرير وابن ابى حاتم وابو نعيم في الدلائل عن ابى ايوب الانصاري قال: اتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حبر من اليهود وقال أرأيت إذ يقول الله يوم تبدل الارض غير الارض فأين الخلق عند ذلك ؟ قال اضياف الله لن يعجزهم ما لديه. اقول واختلاف الروايات في تفسير التبديل لا يخلو عن دلالة على إنها امثال مضروبة للتقريب والمسلم من معنى التبدل ان حقيقة الارض والسماء وما فيهما يومئذ هي هي غير ان النظام الجارى فيهما يومئذ هو غير النظام الجارى فيهما في الدنيا. وفي المعاني باسناده عن محمد بن مسلم قال سمعت ابا جعفر عليه السلام يقول: لقد خلق الله عز وجل في الارض منذ خلقها سبعة عالمين ليس فيهم من ولد آدم خلقهم من أديم الارض فأسكنهم فيها واحدا بعد واحد مع عالمه. ثم خلق الله عز وجل آدم ابا البشر وخلق ذريته منه لا والله ما خلت الجنة من ارواح المؤمنين منذ خلقها ولا خلت النار من ارواح الكفار والعصاة منذ خلقها عز وجل لعلكم ترون إذا كان يوم القيامة وصير أبدان اهل الجنة مع ارواحهم في الجنة وصير ابدان اهل النار مع ارواحهم في النار إن الله تعالى لا يعبد في بلاده ولا يخلق خلقا يعبدونه ويوحدونه ؟ بلى والله ليخلقن الله خلقا من غير فحولة ولا اناث يعبدونه ويوحدونه ويعظمونه ويخلق لهم ارضا تحملهم وسماء تظلهم أليس الله عز وجل يقول: " يوم تبدل الارض غير الارض والسماوات " ؟ وقد قال عز وجل: " أفعيينا بالخلق الاول بل هم في لبس من خلق جديد " اقول ورواه العياشي في تفسيره عن محمد بن مسلم عنه عليه السلام: مثله وهو غير المعاني التى اوردناها سابقا. وفي تفسير القمى قوله ": يوم تبدل الارض غير الارض " قال تبدل خبزة بيضاء في الموقف يأكل منها المؤمنون وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الاصفاد قال قال مقرنين بعضهم إلى بعض سرابيلهم من قطران قال قال السرابيل القميص

[ 94 ]

قال: وفي رواية ابى الجارود عن ابى جعفر عليه السلام: في قوله سرابيلهم من قطران هو الصفر الحار المذاب انتهى حره يقول الله عز وجل: " وتغشى وجوههم النار " سربلوا ذلك الصفر وتغشى وجوههم النار. اقول يعنى ان المراد بالجملتين سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار جميعا بيان انهم مستورون مغشيون أما ابدانهم فبالقطران واما وجوههم فبالنار

[ 95 ]

(سورة الحجر مكية وهى تسع وتسعون آية) بسم الله الرحمن الرحيم الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين - 1 ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين - 2 ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الامل فسوف يعلمون - 3 وما اهلكنا من قرية الا ولها كتاب معلوم - 4 ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون - 5 وقالوا يا أيها الذى نزل عليه الذكر انك لمجنون - 6 لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين - 7 ما ننزل الملائكة الا بالحق وما كانوا إذا منظرين - 8 إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون - 9 (بيان) تشتمل السورة على الكلام حول استهزاء الكفار بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ورميه بالجنون ورمى القرآن الكريم بانه من اهذار المجانين ففيها تعزية للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وأمره بالصبر والثبات والصفح عنهم وتطييب لنفسه الشريفة وانذار وتبشير. وهى مكية على ما تشهد به آياتها ونقل في المجمع عن الحسن استثناء قوله: " ولقد آتيناك سبعا من المثانى " الاية وقوله كما انزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين " وسياتى ما فيه.

[ 96 ]

وتشتمل السورة على قوله تعالى فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين الخ والاية تقبل الانطباق على ما ضبطه التاريخ ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إكتتم في اول البعثة ثلاث سنين أو اربعا أو خمسا لا يعلن دعوته لاشتداد الامر عليه فكان لا يدعو الا آحادا ممن يرجو منهم الايمان يدعوهم خفية ويسر إليهم الدعوة حتى اذن له ربه في ذلك وأمره ان يعلن دعوته. وتؤيده الروايات المأثورة من طرق الشيعة وأهل السنة إنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يكتتم في اول بعثته سنين لا يظهر فيها دعوته لعامة الناس حتى انزل الله تعالى عليه: " فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين " فخرج إلى الناس واظهر الدعوة وعليه فالسورة مكية نازلة في اول الدعوة العلنية. ومن غرر الايات القرآنية المشتملة على حقائق جمة في السورة قوله تعالى: " وان من شئ الا عندنا خزائنه " الاية وقوله: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ". قوله تعالى: " الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين " الاشارة إلى الايات الكريمة القرآنية فالمراد بالكتاب القرآن وتنكير القرآن للدلالة على عظم شأنه وفخامة أمره كما ان التعبير بتلك وهى للاشارة إلى البعيد لذلك. والمعنى هذه الايات العالية منزلة الرفيعة درجة التى ننزلها اليك آيات الكتاب الالهى وآيات قرآن عظيم الشأن فاصل بين الحق والباطل على خلاف ما يرميها به الكفار بما يرمونك بالجنة مستهزئين بكلام الله. ومن الممكن ان يراد بالكتاب اللوح المحفوظ فان القرآن منه وفيه قال تعالى: " انه لقرآن كريم في كتاب مكنون " الواقعة: 78 وقال: " بل هوقرآن مجيد في لوح محفوظ " البروج: 22 فيكون قوله تلك آيات الكتاب وقرآن مبين كالملخص من قوله: " والكتاب المبين انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلى حكيم " الزخرف 4. قوله تعالى: " ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين " توطئة لما سيتعرض له من قولهم للنبى: " يا ايها الذى نزل عليه الذكر انك لمجنون يشير به إلى انهم سيندمون

[ 97 ]

على ما هم عليه من الكفر ويتمنون الاسلام لله والايمان بكتابه يوم لا سبيل لهم إلى تحصيل ذلك. فقوله ربما يود المراد به ودادة التمنى لا مطلق الودادة والحب والدليل على ذلك قوله في بيان هذه المودة لو كانوا مسلمين فان لفظي لو وكانوا تدلان على إن ودادتهم ودادة تمن وإنهم يتمنون الاسلام بالنسبة إلى ماضى حالهم مما فاتهم ولن يعود إليهم فليس الا الاسلام ما داموا في الدنيا. فالاية تدل على إن الذين كفروا سيندمون على كفرهم ويتمنون أن لو كانوا مسلمين بعد انطواء بساط الحياة الدنيا. قوله تعالى ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الامل فسوف يعلمون الالهاء الصرف والاشغال يقال ألهاه كذا عن كذا أي شغله عنه وأنساه ذكره. وقوله ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الامل امر برفع اليد عنهم وتركهم وما هم فيه من الباطل وهو كناية عن النهى عن الجدال معهم والاحتجاج عليهم لاثبات هذه الحقيقة وهى انهم سوف يودون الاسلام ويتمنونه ولا سبيل لهم إلى تحصيله وتدارك ما فات منه وقوله فسوف يعلمون في موضع التعليل للامر أي ذرهم ولا تجادلهم ولا تحاجهم فلا حاجة إلى ذلك لانهم سوف يعلمون ذلك فان الحق ظاهر لا محالة. وفي الاية تعريض لهم انهم لا غاية لهم في حياتهم الا الاكل والتمتع بلذات المادة والتلهى بالآمال والاماني فلا منطق لهم الا منطق الانعام والحيوان العجم فمن الحرى أن يتركوا وما هم فيه ولا يلقى إليهم الحجج الحقة المبنية على اساس العقل السليم والمنطق الانساني. قوله تعالى: " وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم إلى آخر الايتين تثبيت وتوكيد لقوله في الاية السابقة فسوف يعلمون على ما يعطيه السياق والمعنى دعهم فانهم لا يسلمون في هذه الحياة الدنيا وإنما يودون الاسلام بعد حلول اجهلم ونزول الهلاك بهم والناس ليسوا بذوى خيرة في ذلك بل لكل امة كتاب معلوم عند الله مكتوب فيه اجلهم لا يقدرون ان يستقدموه ولا يستأخروه ساعة.

[ 98 ]

وفي الايتين دلالة على إن الامة من الانسان لها كتاب كما ان للفرد منه كتابا قال تعالى: " وكل انسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا " اسرى: 13. قوله تعالى: " وقالوا يا أيها الذى نزل عليه الذكر انك لمجنون " كلام خارج مخرج الاستهزاء ولذلك خاطبوه صلى الله عليه وآله وسلم لا باسمه بل بوصف نزول الذكر عليه كما كان يدعيه وجاؤا بالفعل المجهول للدلالة على ان منزله غير معلوم عندهم ولا اعتماد ولا وثوق لهم بما يدعيه هو ان الله تعالى هو الذى انزله وتوصيفه بالذى نزل عليه الذكر وكذا تسمية النازل عليه ذكرا كل ذلك من الاستهزاء كما ان قولهم انك لمجنون رمى وتكذيب. قوله تعالى لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين لو ما مثل هلا للتحضيض أي هلا تأتينا بالملائكة ان كنت صادقا في دعوى النبوة ليشهدوا على صدق دعواك وينذر معك فهو قريب المعنى من قولهم على ما حكاه الله: " لو لا انزل إليه ملك فيكون معه نذيرا " الفرقان: 7. ووجه اقتراحهم على الانبياء أن يأتوا بالملائكة ويظهروهم لهم اعتقادهم ان البشرية كينونة مادية مغمورة في قذارة الشهوة والغضب لا نسبة بينها وبين العالم السماوي الذى هو محض النورانية والطهارة فمن ادعى نوعا من الاتصال بذاك العالم الروحانى فعليه ان يأتي ببعض اهله من الملائكة الكرام ليصدقوه في دعواه ويعينوه في دعوته. على إن الملائكة عند الوثنيين آلهة دون الله سبحانه فدعوتهم إلى التوحيد معناها ان هؤلاء الالهة في معزل من الشفاعة والعبادة بأمر من الله سبحانه وهو اله الالهة ولا دليل على ذلك كاعترافهم به فلينزلوا وليعترفوا ويصدقوا النبوة. قوله تعالى: " ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين " جواب عما اقترحوا على النبي صلى الله عليه ولاله وسلم أن ياتيهم بالملائكة حتى يصدقوه ومحصل الجواب ان السنة الالهية جارية على ستر ملائكته عنهم تحت استار الغيب فلو انزلهم واظهرهم لهم عن اقتراحهم ذلك كان ذلك آية سماوية خارقة للعادة نازلة عن اقتراحهم ومن شأن الاية المعجزة النازلة عن اقتراح الناس ان يعقبها عذاب الاستئصال والهلاك القطعي

[ 99 ]

ان لم يؤمنوا بها وهؤلاء الكفار المعاندون ليسوا بمؤمنين فهو الهلاك. وبالجملة لو انزل الله الملائكة والحال هذا الحال هم يقترحون آية فاصلة تظهر الحق وتميط الباطل لانزلهم بالحق الفاصل المميز وما كانوا إذا منظرين بل يهلكون ويقطع دابرهم هذا محصل ما ذكره بعضهم. وقيل المراد بالحق في الاية الموت والمعنى ما نزل الملائكة على الناس الا مصاحبا للحق الذى هو الموت وما كانوا إذا منظرين وكأنه مأخوذ من قوله تعالى: " يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين " الاية. وقيل المراد بالحق الرسالة أي ما نزل الملائكة إلا بالوحى والرسالة وكأنه مأخوذ من نحو قوله: " قد جاءكم الرسول بالحق " النساء 170 وقوله: " فقد كذبوا بالحق لما جاءهم " الانعام 5. فهذه وجوه مذكورة في تفسير الاية ودونها وجوه مذكورة في مختلف التفاسير وهى جميعا لا تخلو من شئ وهو ان شيئا منها لا ينطبق على الحصر الموجود في قوله ما ننزل الملائكة إلا بالحق فنزول الملائكة لا يختص بعذاب الاستئصال فقط ولا بالموت فقط ولا بالوحى والرسالة فقط وتوجيه الاية بما يختص بأحد المعاني الثلاث المذكورة للحق يحتاج إلى تقييدها بقيود كثيرة يدفعها اطلاق الاية كما هو ظاهر لمن راجع الوجوه المقررة آنفا. ويمكن ان يقرر معنى الاية باستمداد من التدبر في آيات أخر إن ظرف الحياة المادية اعني هذه النشأة الدنيوية ظرف يختلط فيه الحق والباطل من غير أن يتمحض الحق في الظهور بجميع خواصه وآثاره كما يشير إليه قوله تعالى: " كذلك يضرب الله الحق والباطل " الرعد: 17 وقد تقدم تفصيل القول في ذلك فما يظهر فيه شئ من الحق الا وهو يحتمل شيئا من اللبس والشك كما يصدقه استقراء الموارد التى صادفناها مدى اعمارنا ومن الشاهد عليه قوله تعالى: " ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون " الانعام: 9 والظرف ظرف الامتحان والاختيار ولا اختيار الا مع امكان التباس الحق بالباطل واختلاط الخير والشر بنحو حتى يقف الانسان على ملتقى الطريقين ومنشعب النجدين فيستدل على الخير والشر بآثارهما وإماراتهما ثم يختار

[ 100 ]

ما يستحقه من السعادة والشقاوة. واما عالم الملائكة وظرف وجودهم فانما هو عالم الحق غير مشوب بشئ من الباطل كما يدل عليه قوله تعالى: " لا يعصون الله ما امرهم ويفعلون ما يؤمرون " التحريم: 6 وقوله بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " الانبياء: 27. فمقتضى الايات وما في معناها انهم في انفسهم مخلوقات شريفة ووجودات طاهرة نورانية منزهة عن النقص والشين لا تحتمل الشر والشقاء وليس عندها امكان الفساد والمعصية والتقصير فلا يحكم فيها هذا النظام المادى المبنى على اساس الامكان والاختيار وجواز الصلاح والفساد والطاعة والمعصية والسعادة والشقاء جميعا وسيوافيك البحث المستوفى فيه فيما يناسبه من المورد ان شاء الله وسيأتى ايضا ان الانسان لا طريق له إلى هذا الظرف الحق ما دام متوغلا في هذا العالم المادى متورطا في ورطات الشهوات والاهواء كاهل الكفر والفسوق الا ببطلان عالمهم وخروجهم إلى العالم الحق وظهوره عليهم وانكشاف الغطاء عنهم كما يشير إليه قوله: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " ق: 22 وهذا هو العالم الذى يسمى بالنسبة إلى الانسان آخرة. فتبين ان ظهور عالم الملائكة للناس المتوغلين في عالم المادة متوقف على تبدل الظرف والانتقال من الدنيا إلى الاخرة وهو الموت اللهم إلا في المصطفين من عباد الله واوليائه المطهرين من اقذار الذنوب الملازمين لساحة قربه لهم اهلية مشاهدة الغيب وهم في عالم الشهادة كالانبياء عليهم السلام. ولعل ما قدمناه هو المراد بقوله: " ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين " فانهم انما اقترحوا نزول الملائكة ليشاهدوهم في صورهم الاصلية حتى يصدقوا وهذا الحال لا تتمهد لهم الا بالموت كما قال تعالى: " وقال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا انزل علينا الملائكة " إلى ان قال " يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا " الفرقان: 23.

[ 101 ]

وقد اجتمع المعنيان في قوله تعالى: " وقالوا لو لا انزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون " الانعام: 9 يقول تعالى لو أنزلنا عليه الملائكة آية خارقة للعادة مصدقة للنبوة كان لازمه القضاء عليهم وهلاكهم ولو قلدنا الملك النبوة والرسالة كان لازمه أن نصوره في صورة رجل من الانسان وأن نوقفه موقفا يحتمل اللبس فان الرسالة احدى وسائل الامتحان والابتلاء الالهى ولا امتحان الا بما يحتمل السعادة والشقاء والفوز والخيبة ويجوز معه النجاة والهلاك ولو توصل إلى الرسالة بما يضطر العقول إلى الايمان ويلجئ النفوس إلى القبول واليقين لبطل ذلك كله. قوله تعالى: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " صدر الاية مسوق سوق الحصر وظاهر السياق ان الحصر ناظر إلى ما ذكر من ردهم القرآن بأنه من اهذار الجنون وانه صلى الله عليه وآله وسلم مجنون لا عبرة بما صنع ولا حجر ومن اقتراحهم أن يأتيهم بالملائكة ليصدقوه في دعوته وإن القرآن كتاب سماوي حق. والمعنى على هذا والله اعلم ان هذا الذكر لم تأت به انت من عندك حتى يعجزوك ويبطلوه بعنادهم وشدة بطشهم وتتكلف لحفظه ثم لا تقدر وليس نازلا من عند الملائكة حتى يفتقر إلى نزولهم وتصديقهم إياه بل نحن أنزلنا هذا الذكر انزالا تدريجيا وانا له لحافظون بما له من صفة الذكر بما لنا من العناية الكاملة به. فهو ذكر حى خالد مصون من أن يموت وينسى من اصله مصون من الزيادة عليه بما يبطل به كونه ذكرا مصون من النقص كذلك مصون من التغيير في صورته وسياقه بحيث يتغير به صفة كونه ذكرا لله مبينا لحقائق معارفه. فالاية تدل على كون كتاب الله محفوظا من التحريف بجميع اقسامه من جهة كونه ذكرا لله سبحانه فهو ذكر حى خالد. ونظير الاية في الدلالة على كون الكتاب العزيز محفوظا بحفظ الله مصونا من التحريف والتصرف بأى وجه كان من جهة كونه ذكرا له سبحانه قوله تعالى: " إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وانه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من

[ 102 ]

خلفه تنزيل من حكيم حميد " حم السجدة 42. وقد ظهر بما تقدم ان اللام في الذكر للعهد الذكرى وان المراد بالوصف لحافظون هو الاستقبال كما هو الظاهر من اسم الفاعل فيندفع به ما ربما يورد على الاية انها لو دلت على نفى التحريف من القرآن لانه ذكر لدلت على نفيه من التوراة والانجيل ايضا لان كلا منهما ذكر مع ان كلامه تعالى صريح في وقوع التحريف فيهما. وذلك ان الاية بقرينة السياق انما تدل على حفظ الذكر الذى هو القرآن بعد انزاله إلى الابد ولا دلالة فيها على علية الذكر للحفظ الالهى ودوران الحكم مداره. وسنستوفي البحث عما يرجع إلى هذا الشأن ان شاء الله تعالى. (بحث روائي) في تفسير القمى باسناده عن ابيه عن ابن ابى عمير عن عمر بن اذينة عن رفاعة عن ابى عبد الله عليه السلام قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من عند الله لا يدخل الجنة الا مسلم فيومئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ثم قال ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الامل أي شغلهم فسوف يعلمون اقول وروى العياشي عن عبد الله بن عطاء المكى عن ابى جعفر وابى عبد الله عليهما السلام في تفسير الاية مثله وفي الدر المنثور اخرج الطبراني في الاوسط وابن مردويه بسند صحيح عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان ناسا من امتى يعذبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ثم يعيرهم اهل الشرك فيقولون ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم فلا يبقى موحد الا اخرجه الله تعالى من النار ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربما يود الذين كفرا لو كانوا مسلمين. اقول وهذا المعنى مروى بطرق اخرى عن ابى موسى الاشعري وابى سعيد الخدرى وانس بن مالك عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه اخرج ابن ابى حاتم وابن شاهين في السنة عن على بن ابى طالب قال

[ 103 ]

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اصحاب الكبائر من موحدى الامم كلها الذين ماتوا على كبائرهم غير نادمين ولا تائبين من دخل منهم جهنم لا تزرق اعينهم ولا تسود وجوههم ولا يقرنون بالشياطين ولا يغلون بالسلاسل ولا يجرعون الحميم ولا يلبسون القطران حرم الله اجسادهم على الخلود من اجل التوحيد وصورهم على النار من اجل السجود. فمنهم من تأخذه النار إلى قدميه ومنهم من تأخذه النار إلى عقبيه ومنهم من تأخذه النار إلى فخذيه ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته ومنهم من تأخذه النار إلى عنقه على قدر ذنوبهم واعمالهم ومنهم من يمكث فيها شهرا ثم يخرج منها ومنهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج منها واطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا منذ يوم خلقت إلى ان تفنى فإذا اراد الله ان يخرجهم منها قالت اليهود والنصارى ومن في النار من اهل الاديان والاوثان لمن في النار من اهل التوحيد آمنتم بالله وكتبه ورسله فنحن وانتم اليوم في النار سواء فيغضب الله لهم غضبا لم يغضبه لشئ فيما مضى فيخرجهم إلى عين بين الجنة والصراط فينبتون فيها نبات الطراثيث في حميل السيل ثم يدخلون الجنة مكتوب في جباههم هؤلاء الجهنميون عتقاء الرحمان فيمكثون في الجنة ما شاء الله ان يمكثوا. ثم يسألون الله تعالى ان يمحو ذلك الاسم عنهم فيبعث الله ملكا فيمحوه ثم يبعث الله ملائكة معهم مسامير من نار فيطبقونها على من بقى فيها يسمرونها بتلك المسامير فينساهم الله على عرشه ويشتغل عنهم اهل الجنة بنعيمهم ولذاتهم وذلك قوله ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. اقول الطرثوث نبت وحميل السيل غثاؤه وقد روى من طرق الشيعة ما يقرب من الحديث مضمونا. وفيه اخرج احمد وابن مردويه عن ابى سعيد: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غرس عودا بين يديه وآخر إلى جنبه وآخر بعده قال أتدرون ما هذا ؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال فان هذا الانسان وهذا اجله وهذا امله فيتعاطى الامل فيختلجه الاجل دون ذلك

[ 104 ]

اقول وروى ما يقرب من معناه بطرق عن انس عنه صلى الله عليه وآله وسلم وفي المجمع عن امير المؤمنين عليه السلام إنه قال: ان اخوف ما اخاف عليكم اثنان اتباع الهوى وطول الامل فان اتباع الهوى يصد عن الحق وطول الامل ينسى الاخرة وفي تفسير القمى: في قوله تعالى: " ما ننزل الملائكة الا بالحق وما كانوا إذا منظرين قال قال عليه السلام لو انزلنا بالملائكة لم ينظروا وهلكوا كلام في ان القرآن مصون عن التحريف في فصول: الفصل - 1 من ضروريات التاريخ إن النبي العربي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم جاء قبل اربعة عشر قرنا تقريبا وادعى النبوة وانتهض للدعوة وآمن به امة من العرب وغيرهم وانه جاء بكتاب يسميه القرآن وينسبه إلى ربه متضمن لجمل المعارف وكليات الشريعة التى كان يدعو إليها وكان يتحدى به ويعده آية لنبوته وان القرآن الموجود اليوم بأيدينا هو القرآن الذى جاء به وقرأه على الناس المعاصرين له في الجملة بمعنى إنه لم يضع من اصله بأن يفقد كله ثم يوضع كتاب آخر يشابهه في نظمه أو لا يشابهه وينسب إليه ويشتهر بين الناس بأنه القرآن النازل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فهذه امور لا يرتاب في شئ منها الا مصاب في فهمه ولا احتمل بعض ذلك احد من الباحثين في مسألة التحريف من المخالفين والمؤالفين. وانما احتمل بعض من قال به من المخالف أو المؤالف زيادة شئ يسير كالجملة أو الاية (1) أو النقص أو التغيير في جملة أو آية في كلماتها أو اعرابها واما جل الكتاب الالهى فهو على ما هو في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يضع ولم يفقد.


(1) كقول بعض من غير المنتحلين بالاسلام إن قوله تعالى: " إنك ميت وإنهم ميتون " من وضع ابى بكر وضعه حين سمع عمر وهو شاهر سيفه يهدد بالقتل من قال: إن النبي مات فقرأها على عمر فصرفه. (*)

[ 105 ]

ثم إنا نجد القرآن يتحدى باوصاف ترجع إلى عامة آياته ونجد ما بأيدينا من القرآن اعني ما بين الدفتين واجدا لما وصف به من اوصاف تحدى بها من غير أن يتغير في شئ منها أو يفوته ويفقد. فنجده يتحدى بالبلاغة والفصاحة ونجد ما بأيدينا مشتملا على ذلك النظم العجيب البديع لا يعدله ولا يشابهه شئ من كلام البلغاء والفصحاء المحفوظ منهم والمروى عنهم من شعر أو نثر أو خطبة أو رسالة أو محاورة أو غير ذلك وهذا النظم موجود في جميع الايات سواء كتابا متشابها مثانى تقشعر منه الجلود والقلوب. ونجده يتحدى بقوله: " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " النساء: 82 بعدم وجود اختلاف فيه ونجد ما بايدينا من القرآن يفى بذلك احسن الوفاء وأوفاه فما من ابهام أو خلل يتراءى في آية الا ويرفعه آية اخرى وما من خلاف أو مناقضة يتوهم بادئ الرأى من شطر الا وهناك ما يدفعه ويفسره. ونجده يتحدى بغير ذلك مما لا يختص فهمه بأهل اللغة العربية كما في قوله: " قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " اسرى: 88 وقوله: " إنه لقول فصل وما هو بالهزل " الطارق: 14 ثم نجد ما بأيدينا من القرآن يستوفى البيان في صريح الحق الذى لا مرية فيه ويهدى إلى آخر ما يهتدى إليه العقل من اصول المعارف الحقيقية وكليات الشرائع الفطرية وتفاصيل الفضائل الخلقية من غير أن نعثر فيها على شئ من النقيصة والخلل أو نحصل على شئ من التناقض والزلل بل نجد جميع المعارف على سعتها وكثرتها حية بحياة واحدة مدبرة بروح واحد هو مبدء جميع المعارف القرآنية والاصل الذى إليه ينتهى الجميع ويرجع وهو التوحيد فإليه ينتهى الجميع بالتحليل وهو يعود إلى كل منها بالتركيب. ونجده يغوص في اخبار الماضين من الانبياء واممهم ونجد ما عندنا من كلام الله يورد قصصهم ويفصل القول فيها على ما يليق بطهارة الدين ويناسب نزاهة ساحة النبوة وخلوصها للعبودية والطاعة وكلما طبقنا قصة من القصص القرآنية على ما يماثلها مما ورد في العهدين انجلى ذلك احسن الانجلاء. ونجده يورد آيات في الملاحم ويخبر عن الحوادث الاتية في آيات كثيرة بالتصريح

[ 106 ]

أو بالتلويح ثم نجدها فيما هو بايدينا من القرآن على تلك الشريطة صادقة مصدقة. ونجده يصف نفسه باوصاف زاكية جميلة كما يصف نفسه بأنه نور وانه هاد يهدى إلى صراط مستقيم وإلى الملة التى هي اقوم ونجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئا من ذلك ولا يهمل من امر الهداية والدلالة ولا دقيقة. ومن اجمع الاوصاف التى يذكرها القرآن لنفسه انه ذكر لله فانه يذكر به تعالى بما انه آية دالة عليه حية خالدة وبما انه يصفه باسمائه الحسنى وصفاته العليا ويصف سنته في الصنع والايجاد ويصف ملائكته وكتبه ورسله ويصف شرائعه واحكامه ويصف ما ينتهى إليه امر الخلقة وهو المعاد ورجوع الكل إليه سبحانه وتفاصيل ما يؤل إليه امر الناس من السعادة والشقاء والجنة والنار. ففى جميع ذلك ذكر الله وهو الذى يرومه القرآن باطلاق القول بانه ذكر ونجد ما بايدينا من القرآن لا يفقد شيئا من معنى الذكر. ولكون الذكر من اجمع الصفات في الدلالة على شؤون القرآن عبر عنه بالذكر في الايات التى اخبر فيها عن حفظه القرآن عن البطلان والتغيير والتحريف كقوله تعالى: " إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير ام من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم انه بما تعملون بصير ان الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وانه لكتاب عزيز لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد " حم السجدة: 42 فذكر تعالى ان القرآن من حيث هو ذكر لا يغلبه باطل ولا يدخل فيه حالا ولا في مستقبل الزمان لا بابطال ولا بنسخ ولا بتغيير أو تحريف يوجب زوال ذكريته عنه. وكقوله تعالى: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " الحجر: 9 فقد اطلق الذكر واطلق الحفظ فالقرآن محفوظ بحفظ الله عن كل زيادة ونقيصة وتغيير في اللفظ أو في الترتيب يزيله عن الذكرية ويبطل كونه ذكرا لله سبحانه بوجه. ومن سخيف القول ارجاع ضمير له إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فانه مدفوع بالسياق وانما كان المشركون يستهزؤن بالنبي لاجل القرآن الذى كان يدعى نزوله عليه كما يشير إليه بقوله سابقا وقالوا: " يا ايهاالذى نزل عليه الذكر انك لمجنون وقد

[ 107 ]

مر تفسير الاية. فقد تبين مما فصلناه ان القرآن الذى انزله الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ووصفه بانه ذكر محفوظ على ما انزل مصون بصيانة الهية عن الزيادة والنقيصة والتغيير كما وعد الله نبيه فيه. وخلاصة الحجة ان القرآن انزله الله على نبيه ووصفه في آيات كثيرة باوصاف خاصة لو كان تغير في شئ من هذه الاوصاف بزيادة أو نقيصة أو تغيير في لفظ أو ترتيب مؤثر فقد آثار تلك الصفة قطعا لكنا نجد القرآن الذى بايدينا واجدا لاثار تلك الصفات المعدودة على أتم ما يمكن واحسن ما يكون فلم يقع فيه تحريف يسلبه شيئا من صفاته فالذي بايدينا منه هو القرآن المنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعينه فلو فرض سقوط شئ منه أو تغير في اعراب أو حرف أو ترتيب وجب ان يكون في امر لا يؤثر في شئ من اوصافه كالاعجاز وارتفاع الاختلاف والهداية والنورية والذكرية والهيمنة على سائر الكتب السماوية إلى غير ذلك وذلك كآية مكررة ساقطة أو اختلاف في نقطة أو اعراب ونحوها. الفصل - 2 ويدل على عدم وقوع التحريف الاخبار الكثيرة المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طرق الفريقين الآمرة بالرجوع إلى القرآن عند الفتن وفي حل عقد المشكلات. وكذا حديث الثقلين المتواتر من طرق الفريقين: انى تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي اهل بيتى ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدى ابدا الحديث فلا معنى للامر بالتمسك بكتاب محرف ونفى الضلال ابدا ممن تمسك به. وكذا الاخبار الكثيرة الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وائمه اهل البيت عليهم السلام الآمرة بعرض الاخبار على الكتاب وما ذكره بعضهم ان ذلك في الاخبار الفقهية ومن الجائز أن نلتزم بعدم وقوع التحريف في خصوص آيات الاحكام ولا ينفع ذلك سائر الايات مدفوع بان اخبار العرض مطلقة فتخصيصها بذلك تخصيص من غير مخصص. على إن لسان اخبار العرض كالصريح أو هو صريح في ان الامر بالعرض انما هو

[ 108 ]

لتمييز الصدق من الكذب والحق من الباطل ومن المعلوم ان الدس والوضع غير مقصورين في اخبار الفقه بل الدواعى إلى الدس والوضع في المعارف الاعتقادية وقصص الانبياء والامم الماضين واوصاف المبدء والمعاد اكثر واوفر ويؤيد ذلك ما بايدينا من الاسرائيليات وما يحذو حذوها مما امر الجعل فيها اوضح وابين. وكذا الاخبار التى تتضمن تمسك ائمة اهل البيت عليهم السلام بمختلف الايات القرآنية في كل باب على ما يوافق القرآن الموجود عندنا حتى في الموارد التى فيها آحاد من الروايات بالتحريف وهذا احسن شاهد على ان المراد في كثير من روايات التحريف من قولهم عليهم السلام كذا نزل هو التفسير بحسب التنزيل في مقابل البطن والتأويل. وكذا الروايات الواردة عن امير المؤمنين وسائر الائمة من ذريته عليهم السلام في إن ما بايدى الناس قرآن نازل من عند الله سبحانه وان كان غير ما الفه على عليه السلام من المصحف ولم يشركوه عليه السلام في التاليف في زمن ابى بكر ولا في زمن عثمان ومن هذا الباب قولهم عليهم السلام لشيعتهم: اقرؤوا كما قرء الناس ومقتضى هذه الروايات ان لو كان القرآن الدائر بين الناس مخالفا لما الفه على عليه السلام في شئ فانما يخالفه في ترتيب السور أو في ترتيب بعض الايات التى لا يؤثر اختلال ترتيبها في مدلولها شيئا ولا في الاوصاف التى وصف الله سبحانه بها القرآن النازل من عنده ما يختل به آثارها. فمجموع هذه الروايات على اختلاف اصنافها يدل دلالة قاطعة على ان الذى بايدينا من القرآن هو القرآن النازل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير أن يفقد شيئا من اوصافه الكريمة وآثارها وبركاتها. الفصل - 3 ذهب جماعة من محدثي الشيعة والحشوية وجماعة من محدثي اهل السنة إلى وقوع التحريف بمعنى النقص والتغيير في اللفظ أو الترتيب دون الزيادة فلم يذهب إليها احد من المسلمين كما قيل. واحتجوا على نفى الزيادة بالاجماع وعلى وقوع النقص والتغيير بوجوه كثيرة.

[ 109 ]

احدها الاخبار الكثيرة المروية من طرق الشيعة واهل السنة الدالة على سقوط بعض السور والايات وكذا الجمل واجزاء الجمل والكلمات والحروف في الجمع الاول الذى الف فيه القرآن في زمن ابى بكر وكذا في الجمع الثاني الذى كان في زمن عثمان وكذا التغيير وهذه روايات كثيرة روتها الشيعة في جوامعها المعتبرة وغيرها وقد ادعى بعضهم انها تبلغ الفى حديث وروتها اهل السنة في صحاحهم كصحيحي البخاري ومسلم وسنن ابى داود والسنائى واحمد وسائر الجوامع وكتب التفاسير وغيرها وقد ذكر الآلوسي في تفسيره انها فوق حد الاحصاء. وهذا غير ما يخالف فيه مصحف عبد الله بن مسعود المصحف المعروف مما ينيف على ستين موضعا وما يخالف فيه مصحف ابى بن كعب المصحف العثماني وهو في بضع وثلاثين موضعا وما يختلف فيه المصاحف العثمانية التى اكتتبها وارسلها إلى الافاق وهى خمسة أو سبعة ارسلها إلى مكة وإلى الشام وإلى البصرة وإلى الكوفة وإلى اليمن وإلى البحرين وحبس واحدا بالمدينة والاختلاف الذى فيما بينها يبلغ خمسة واربعين حرفا وقيل بضع وخمسين حرفا (1). وغير الاختلاف في الترتيب بين المصاحف العثمانية والجمع الاول في زمن ابى بكر فقد كانت سورة الانفال في التاليف الاول في المثانى وسورة براءة في المئين وهما في الجمع الثاني موضوعتان في الطوال على ما ستجئ روايته. وغير الاختلاف في ترتيب السور الموجود بين مصحفي عبد الله بن مسعود وابى ابن كعب على ما وردت به الرواية وبين المصاحف العثمانية وغير الاختلافات القرائية الشاذة التى رويت عن الصحابة والتابعين فربما بلغ عدد المجموع الالف أو زاد عليه. الوجه الثاني إن العقل يحكم بأنه إذا كان القرآن متفرقا متشتتا منتشرا عند الناس وتصدى لجمعه غير المعصوم يمتنع عادة ان يكون جمعه كاملا موافقا للواقع. الوجه الثالث ماروته العامة والخاصة: إن عليا عليه السلام اعتزل الناس بعد رحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يرتد الا للصلاة حتى جمع القرآن ثم حمله إلى الناس واعلمهم انه القرآن

[ 110 ]

الذى انزله الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وقد جمعه فردوه واستغنوا عنه بما جمعه لهم زيد بن ثابت ولو لم يكن بعض ما فيه مخالفا لبعض ما في مصحف زيد لم يكن لحمله إليهم واعلامهم ودعوتهم إليه وجه وقد كان عليه السلام اعلم الناس بكتاب الله بعد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وقد ارجع الناس إليه في حديث الثقلين المتواتر وقال في الحديث المتفق عليه: على مع الحق والحق مع على. الوجه الرابع ما ورد من الروايات انه يقع في هذه الامة ما وقع في بنى اسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة وقد حرفت بنو اسرائيل كتاب نبيهم على ما يصرح به القرآن الكريم والروايات المأثورة فلا بد ان يقع نظيره في هذه الامة فيحرفوا كتاب ربهم وهو القرآن الكريم. ففى صحيح البخاري عن ابى سعيد الخدرى إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموه قلنا يا رسول الله بآبائنا وامهاتنا اليهود والنصارى ؟ قال فمن ؟ والرواية مستفيضة مروية في جوامع الحديث عن عدة من الصحابة كأبى سعيد الخدرى كما مر وابى هريرة وعبد الله بن عمر وابن عباس وحذيفة وعبد الله بن مسعود وسهل بن سعد وعمر بن عوف وعمرو بن العاص وشداد بن اوس والمستورد بن شداد في الفاظ متقاربة. وهى مروية مستفيضة من طرق الشيعة عن عدة من ائمة اهل البيت عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في تفسير القمى عنه صلى الله عليه وآله وسلم: لتركبن سبيل من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة لا تخطؤون طريقهم ولا تخطئ شبر بشبر وذراع بذراع وباع بباع حتى ان لو كان من قبلكم دخل جحر ضب لدخلتموه قالوا اليهود والنصارى تعنى يا رسول الله ؟ قال فمن اعني ؟ لتنقضن عرى الاسلام عروة عروة فيكون اول ما تنقضون من دينكم الامانة وآخره الصلاة. والجواب عن استدلالهم باجماع الامة على نفى تحريف القرآن بالزيادة بأنها حجة مدخولة لكونها دورية. بيان ذلك ان الاجماع ليس في نفسه حجة عقلية يقينية بل هو عند القائلين

[ 111 ]

باعتباره حجة شرعية لو افاد شيئا من الاعتقاد فانما يفيد الظن سواء في ذلك محصله ومنقوله على خلاف ما يزعمه كثير منهم ان الاجماع المحصل مفيد للقطع وذلك ان الذى يفيده الاجماع من الاعتقاد لا يزيد على مجموع الاعتقادات التى تفيدها آحاد الاقوال والواحد من الاقوال المتوافقة لا يفيد الا الظن باصابة الواقع وانضمام القول الثاني الذى يوافقه إليه انما يفيد قوة الظن دون القطع لان القطع اعتقاد خاص بسيط مغاير للظن وليس بالمركب من عدة ظنون. وهكذا كلما انضم قول إلى قول وتراكمت الاقوال المتوافقة زاد الظن قوة وتراكمت الظنون واقتربت من القطع من غير ان تنقلب إليه كما تقدم هذا في المحصل من الاجماع وهو الذى نحصله بتتبع جميع الاقوال والحصول على كل قول قول واما المنقول منه الذى ينقله الواحد والاثنان من اهل العلم والبحث فالامر فيه اوضح فهو كآحاد الروايات لا يفيد الا الظن ان افاد شيئا من الاعتقاد. فالاجماع حجة ظنية شرعية دليل اعتبارها عند اهل السنة مثلا قوله صلى الله عليه وآله وسلم لا تجتمع امتى على خطاء أو ضلال وعند الشيعة دخول قول المعصوم في اقوال المجمعين أو كشف اقوالهم عن قوله بوجه. فحجية الاجماع بالجملة متوقفة على صحة النبوة وذلك ظاهر وصحة النبوة اليوم متوقفة على سلامة القرآن من التحريف المستوجب لزوال صفات القرآن الكريمة عنه كالهداية وفصل القول وخاصة الاعجاز فانه لا دليل حيا خالدا على خصوص نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير القرآن الكريم بكونه آية معجزة ومع احتمال التحريف بزيادة أو نقيصة أو أي تغيير آخر لا وثوق بشئ من آياته ومحتوياته انه كلام الله محضا وبذلك تسقط الحجة وتفسد الاية ومع سقوط كتاب الله عن الحجية يسقط الاجماع عن الحجية. ولا ينفع في المقام ما قدمناه في اول الكلام ان وجود القرآن المنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما بايدينا من القرآن في الجملة من ضروريات التاريخ. وذلك لان مجرد اشتمال ما بأيدينا منه على القرآن الواقعي يدفع احتمال زيادة أو نقيصة أو أي تغيير آخر في كل آية أو جملة اريد التمسك بها لاثبات مطلوب.

[ 112 ]

والجواب عن الوجه الاول الذى اقيم لوقوع التحريف بالنقص والتغيير وهو الذى تمسك فيه بالاخبار اما اولا فبأن التمسك بالاخبار بما انها حجة شرعية يشتمل من الدور على ما يشتمل عليه التمسك بالاجماع بنظير البيان الذى تقدم آنفا. فلا يبقى للمستدل بها إلا أن يتمسك بها بما انها اسناد ومصادر تاريخية وليس فيها حديث متواتر ولا محفوف بقرائن قطعية تضطر العقل إلى قبوله بل هي آحاد متفرقة متشتتة مختلفة منها صحاح ومنها ضعاف في اسنادها ومنها قاصرة في دلالتها فما اشذ منها ما هو صحيح في سنده تام في دلالته. وهذا النوع على شذوذه وندرته غير مأمون فيه الوضع والدس فان انسراب الاسرائيليات وما يحلق بها من الموضوعات والمدسوسات بين رواياتنا لا سبيل إلى انكاره ولا حجية في خبر لا يؤمن فيه الدس والوضع. ومع الغض عن ذلك فهى تذكر من الايات والسور ما لا يشبه النظم القرآني بوجه ومع الغض عن جميع ذلك فانها مخالفة للكتاب مردودة اما ما ذكرنا ان اكثرها ضعيفة الاسناد فيعلم ذلك بالرجوع إلى اسانيدها فهى مراسيل أو مقطوعة الاسناد أو ضعيفتها والسالم منها من هذه العلل اقل قليل. واما ما ذكرنا ان منها ما هو قاصر في دلالتها فان كثيرا مما وقع فيها من الايات المحكية من قبيل التفسير وذكر معنى الايات لا من حكاية متن الاية المحرفة وذلك كما في روضة الكافي عن ابى الحسن الاول: في قول الله: " اولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم فقد سبقت عليهم كلمة الشقاء وسبق لهم العذاب وقل لهم في انفسهم قولا بليغا وما في الكافي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: " وان تلووا أو تعرضوا قال ان تلووا الامر وتعرضوا عما امرتم به فان الله كان بما تعملون خبيرا إلى غير ذلك من رويات التفسير المعدودة من اخبار التحريف. ويلحق بهذا الباب ما لا يحصى من الروايات المشيرة إلى سبب النزول المعدودة من اخبار التحريف كالروايات التى تذكر هذه الاية هكذا يا ايها الرسول بلغ ما

[ 113 ]

انزل اليك في على والاية نازلة في حقه عليه السلام وما روى ": ان وفد بنى تميم كانوا إذا قدموا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقفوا على باب الحجرة ونادوه أن اخرج الينا فذكرت الاية فيها هكذا إن الذين ينادونك من وراء الحجرات بنو تميم اكثرهم لا يعقلون فظن إن في الاية سقطا ويلحق بهذا الباب ايضا ما لا يحصى من الاخبار الواردة في جرى القرآن وانطباقه كما ورد في قوله: " وسيعلم الذين ظلموا آل محمد حقهم وما ورد من قوله ومن يطع الله ورسوله " في ولاية على والائمة من بعده فقد فاز فوزا عظيما وهى كثيرة جدا. ويلحق بها ايضا ما اتبع فيه القراءة بشئ من الذكر والدعاء فتوهم انه من سقط القرآن كما في الكافي عن عبد العزيز بن المهتدى قال: سألت الرضا عليه السلام عن التوحيد فقال كل من قرء قل هو الله احد وآمن بها فقد عرف التوحيد قال (قلت ظ) كيف نقرؤها ؟ قال كما يقرؤها الناس وزاد فيه كذلك الله ربى كذلك الله ربى ومن قبيل قصور الدلالة ما نجد في كثير من الايات المعدودة من المحرفة اختلاف الروايات في لفظ الاية كالتى وردت في قوله تعالى: " ولقد نصركم الله ببدر وانتم اذلة " ففى بعضها ان الاية هكذا ولقد نصركم الله ببدر وانتم ضعفاء وفي بعضها ولقد نصركم الله ببدر وانتم قليل. وهذا الاختلاف ربما كان قرينة على ان المراد هو التفسير بالمعنى كما في الاية المذكورة ويؤيده ما ورد في بعضها من قوله عليه السلام: لا يجوز وصفهم بأنهم اذلة وفيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وربما لم يكن الا من التعارض والتنافى بين الروايات القاضى بسقوطها كآية الرجم على ما ورد في روايات الخاصة والعامة وهى في بعضها إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة فانهما قضيا الشهوة وفي بعضها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فانهما قضيا الشهوة وفي بعضها بما قضيا من اللذة وفي بعضها آخرها نكالا من الله والله عليم حكيم وفي بعضها نكالا من الله والله عزيز حكيم. وكآية الكرسي على التنزيل التى وردت فيها روايات فهى في بعضها هكذا

[ 114 ]

الله لا اله الا هو الحى القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الارض وما بينهما وما تحت الثرى عالم الغيب والشهادة فلا يظهر على غيبه احدا من ذا الذى يشفع عنده إلى قوله وهو العلى العظيم والحمد لله رب العالمين. وفي بعضها إلى قوله هم فيها خالدون والحمد لله رب العالمين وفي بعضها هكذا له ما في السماوات وما في الارض وما بينهما وما تحت الثرى عالم الغيب والشهادة الرحمان الرحيم الخ وفي بعضها عالم الغيب والشهادة الرحمان الرحيم بديع السماوات والارض ذو الجلال والاكرام رب العرش العظيم وفي بعضها عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم. وما ذكره بعض المحدثين ان اختلاف هذه الروايات في الايات المنقولة غير ضائر لاتفاقها في اصل التحريف مردود بان ذلك لا يصلح ضعف الدلالة ودفع بعضها لبعض. واما ما ذكرنا من شيوع الدس والوضع في الروايات فلا يرتاب فيه من راجع الروايات المنقولة في الصنع والايجاد وقصص الانبياء والامم والاخبار الواردة في تفاسير الايات والحوادث الواقعة في صدر الاسلام واعظم ما يهم امره لاعداء الدين ولا يألون جهدا في اطفاء نوره واخماد ناره واعفاء اثره هو القرآن الكريم الذى هو الكهف المنيع والركن الشديد الذى يأوى إليه ويتحصن به المعارف الدينية والسند الحى الخالد لمنشور النبوة ومواد الدعوة لعلمهم بأنه لو بطلت حجة القرآن لفسد بذلك امر النبوة واختل نظام الدين ولم يستقر من بنيته حجر على حجر. والعجب من هؤلاء المحتجين بروايات منسوبة إلى الصحابة أو إلى ائمة اهل البيت عليهم السلام على تحريف كتاب الله سبحانه وابطال حجيته وببطلان حجة القرآن تذهب النبوة سدى والمعارف الدينية لغى لا اثر لها وما ذا يغنى قولنا ان رجلا في تاريخ كذا ادعى النبوة وأتى بالقرآن معجزة اما هو فقد مات واما قرآنه فقد حرف ولم يبق بايدينا مما يؤيد امره إلا ان المؤمنين به اجمعوا على صدقه في دعواه وان القرآن الذى جاء به كان معجزا دالا على نبوته والاجماع حجة لان النبي المذكور اعتبر حجيته أو لانه يكشف مثلا عن قول ائمة اهل بيته ؟ وبالجملة احتمال الدس وهو قريب جدا مؤيد بالشواهد والقرائن يدفع

[ 115 ]

حجية هذه الروايات ويفسد اعتبارها فلا يبقى معه لها لا حجية شرعية ولا حجية عقلائية حتى ما كان منها صحيح الاسناد فان صحة السند وعدالة رجال الطريق انما يدفع تعمدهم الكذب دون دس غيرهم في اصولهم وجوامعهم ما لم يرووه. واما ما ذكرناه ان روايات التحريف تذكر آيات وسورا لا يشبها نظمها النظم القرآني بوجه فهو ظاهر لمن راجعها فانه يعثر فيها بشئ كثير من ذلك كسورتي الخلع والحفد اللتين رويتا بعدة من طرق اهل السنة فسورة الخلع هي بسم الله الرحمن الرحيم اللهم انا نستعينك ونستغفرك ونثنى عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك وسورة الحفد هي بسم الله الرحمن الرحيم اللهم اياك نعبد ولك نصلى ونسجد واليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى نقمتك إن عذابك بالكافرين ملحق. وكذا ما اورده بعض الروايات من سورة الولاية وغيرها اقاويل مختلقة رام واضعها ان يقلد النظم القرآني فخرج الكلام عن الاسلوب العربي المألوف ولم يبلغ النظم الالهى المعجز فعاد يستبشعه الطبع وينكره الذوق ولك ان تراجعها حتى تشاهد صدق ما ادعيناه وتقضى ان اكثر المعتنين بهذه السور والايات المختلقة المجعولة انما دعاهم إلى ذلك التعبد الشديد بالروايات والاهمال في عرضها على الكتاب ولو لا ذلك لكفتهم للحكم بانها ليست بكلام الهى نظرة. واما ما ذكرنا ان روايات التحريف على تقدير صحة اسنادها مخالفة للكتاب فليس المراد به مجرد مخالفتها لظاهر قوله تعالى: " انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون " وقوله: " وانه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " الايتان حتى تكون مخالفة ظنية لكون ظهور الالفاظ من الادلة الظنية بل المراد مخالفتها للدلالة القطعية من مجموع القرآن الذى بايدينا حسب ما قررناه في الحجة الاولى التى اقمناها لنفى التحريف. كيف لا ؟ والقرآن الذى بايدينا متشابه الاجزاء في نظمه البديع المعجز كاف في رفع الاختلافات المتراءاة بين آياته وابعاضه غير ناقص ولا قاصر في اعطاء معارفه الحقيقية وعلومه الالهية الكلية والجزئية المرتبطة بعضها ببعض المترتبة فروعها على اصولها المنعطفة اطرافها على اوساطها إلى غير ذلك من خواص النظم القرآني الذى

[ 116 ]

وصفه الله بها. والجواب عن الوجه الثاني ان دعوى الامتناع العادى مجازفة بينة نعم يجوز العقل عدم موافقة التأليف في نفسه للواقع الا ان تقوم قرائن تدل على ذلك وهى قائمة كما قدمنا واما ان يحكم العقل بوجوب مخالفتها للواقع كما هو مقتضى الامتناع العادى فلا. والجواب عن الوجه الثالث ان جمعه عليه السلام القرآن وحمله إليهم وعرضه عليهم لا يدل على مخالفة ما جمعه لما جمعوه في شئ من الحقائق الدينية الاصلية أو الفرعية إلا أن يكون في شئ من ترتيب السور أو الايات من السور التى نزلت نجوما بحيث لا يرجع إلى مخالفة في بعض الحقائق الدينية. ولو كان كذلك لعارضهم بالاحتجاج ودافع فيه ولم يقنع بمجرد اعراضهم عما جمعه واستغنائهم عنه كما روى عنه عليه السلام في موارد شتى ولم ينقل عنه عليه السلام فيما روى من احتجاجاته انه قرأ في امر ولايته ولا غيرها آية أو سورة تدل على ذلك وجبههم على اسقاطها أو تحريفها. وهل كان ذلك حفظا لوحدة المسلمين وتحرزا عن شق العصا فانما كان يتصور ذلك بعد استقرار الامر واجتماع الناس على ما جمع لهم لا حين الجمع وقبل ان يقع في الايدى ويسير في البلاد. وليت شعرى هل يسعنا ان ندعى ان ذاك الجم الغفير من الايات التى يرون سقوطها وربما ادعوا انها تبلغ الالوف كانت جميعا في الولاية أو كانت خفية مستورة عن عامة المسلمين لا يعرفها الا النزر القليل منهم مع توفر دواعيهم وكثرة رغباتهم على اخذ القرآن كلما نزل وتعلمه وبلوغ اجتهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغه وارساله إلى الافاق وتعليمه وبيانه وقد نص على ذلك القرآن قال تعالى: " ويعلمهم الكتاب والحكمة " الجمعة: 2 وقال: " لتبين للناس ما نزل إليهم " النحل: 44 فكيف ضاع ؟ واين ذهب ؟ ما يشير إليه بعض المراسيل انه سقط في آية من اول سورة النساء بين قوله: " وان خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى وقوله فانكحوا ما طاب لكم من النساء " اكثر من ثلث القرآن أي اكثر من الفى آية وما ورد من طرق اهل السنة ان سورة

[ 117 ]

براءة كانت مبسملة تعدل سورة البقرة وان الاحزاب كانت اعظم من البقرة وقد سقطت منه مائتا آية إلى غير ذلك. أو إن هذه الايات وقد دلت هذه الروايات على بلوغها في الكثره كانت منسوخة التلاوة كما ذكره جمع من المفسرين من اهل السنة حفظا لما ورد في بعض رواياتهم إن من القرآن ما أنساه الله ونسخ تلاوته. فما معنى انساء الاية ونسخ تلاوتها ؟ أكان ذلك لنسخ العمل بها فما هي هذه الايات المنسوخة الواقعة في القرآن كآية الصدقة وآية نكاح الزانية والزانى وآية العدة وغيرها ؟ وهم مع ذلك يقسمون منسوخ التلاوة إلى منسوخ التلاوة والعمل معا ومنسوخ التلاوة دون العمل كآية الرجم. أم كان ذلك لكونها غير واجدة لبعض صفات كلام الله حتى ابطلها الله بامحاء ذكرها وإذهاب اثرها فلم يكن من الكتاب العزيز الذى لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ولا منزها من الاختلاف ولا قولا فصلا ولا هاديا إلى الحق وإلى طريق مستقيم ولا معجزا يتحدى به ولا ولا فما معنى الايات الكثيرة التى تصف القرآن بانه في لوح محفوظ وانه كتاب عزيز لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وانه قول فصل وانه هدى وانه نور وانه فرقان بين الحق والباطل وانه آية معجزة وانه وانه ؟ فهل يسعنا ان نقول ان هذه الايات على كثرتها واباء سياقها عن التقييد مقيدة بالبعض فبعض الكتاب فقط وهو غير المنسى ومنسوخ التلاوة لا ياتيه الباطل وقول فصل وهدى ونور وفرقان ومعجزة خالدة ؟ وهل جعل الكلام منسوخ التلاوة ونسيا منسيا غير ابطاله واماتته ؟ وهل صيرورة القول النافع بحيث لا ينفع للابد ولا يصلح شأنا مما فسد غير الغائه وطرحه واهماله ؟ وكيف يجامع ذلك كون القرآن ذكرا ؟ فالحق ان روايات التحريف المروية من طرق الفريقين وكذا الروايات المروية في نسخ تلاوة بعض الايات القرآنية مخالفة للكتاب مخالفة قطعية. والجواب عن الوجه الرابع ان اصل الاخبار القاضية بمماثلة الحوادث الواقعة في

[ 118 ]

هذه الامة لما وقع في بنى اسرائيل مما لا ريب فيه وهى متظافرة أو متواترة لكن هذه الروايات لا تدل على المماثلة من جميع الجهات وهو ظاهر بل الضرورة تدفعه. فالمراد بالمماثلة هي المماثلة في الجملة من حيث النتائج والاثار وحينئذ فمن الجائز أن تكون مماثلة هذه الامة لبنى اسرائيل في مسألة تحريف الكتاب انما هي في حدوث الاختلاف والتفرق بين الامة بانشعابها إلى مذاهب شتى يكفر بعضهم بعضا وافتراقها إلى ثلاث وسبعين فرقة كما افترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين واليهود إلى واحدة وسبعين وقد ورد هذا المعنى في كثير من هذه الروايات حتى ادعى بعضهم كونها متواترة. ومن المعلوم ان الجميع مستندون فيما اختاروه إلى كتاب الله وليس ذلك الا من جهة تحريف الكلم عن مواضعه وتفسير القرآن الكريم بالرأى والاعتماد على الاخبار الواردة في تفسير الايات من غير العرض على الكتاب وتمييز الصحيح منها من السقيم وبالجملة اصل الروايات الدالة على المماثلة بين الامتين لا يدل على شئ من التحريف الذى يدعونه نعم وقع في بعضها ذكر التحريف بالتغيير والاسقاط وهذه الطائفة على ما بها من السقم مخالفة للكتاب كما تقدم الفصل - 4 في تاريخ اليعقوبي قال عمر بن الخطاب لابي بكر يا خليفة رسول الله إن حملة القرآن قد قتل اكثرهم يوم اليمامة فلو جمعت القرآن فانى اخاف عليه ان يذهب حملته فقال له أبو بكر افعل ما لم يفعله رسول الله ؟ فلم يزل به عمر حتى جمعه وكتبه في صحف وكان مفرقا في الجريد وغيرها. واجلس خمسة وعشرين رجلا من قريش وخمسين رجلا من الانصار فقال اكتبوا القرآن واعرضوا على سعيد بن العاص فانه رجل فصيح. وروى بعضهم ان على بن ابى طالب عليه السلام كان جمعه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأتى به يحمله على جمل فقال هذا القرآن قد جمعته قال وكان قد جزأه سبعة اجزاء ثم ذكر الاجزاء. وفي تاريخ ابى الفداء وقتل في قتال مسيلمة جماعة من القراء من المهاجرين

[ 119 ]

والانصار ولما رأى أبو بكر كثرة من قتل امربجمع القرآن من افواه الرجال وجريد النخل والجلود وترك ذلك المكتوب عند حفصة بنت عمر زوج النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. والاصل فيما ذكراه الروايات فقد اخرج البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت قال ارسل إلى ابى بكر مقتل اهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده فقال أبو بكر إن عمر اتانى فقال ان القتل قد استحر بقراء القرآن وانى اخشى ان يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن وانى ارى ان تامر بجمع القرآن فقلت لعمر كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال عمر هذا والله خير فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت الذى رأى عمر. قال زيد قال أبو بكر انك شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فأجمعه فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان اثقل على مما امرني به من جمع القرآن قلت كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال هو والله خير. فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذى شرح له صدر ابى بكر وعمر فتتبعت القرآن اجمعه من العسف واللخاف وصدور الرجال ووجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة الانصاري لم اجدها مع غيره لقد جاءكم رسول حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند ابى بكر حتى توفاه الله تعالى ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر. وعن ابن ابى داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال ": قدم عمر فقال من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن - فليأت به وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والالواح والعسب وكان لا يقبل من احد شيئا حتى يشهد شهيدا وعنه ايضا من طريق هشام بن عروة عن ابيه وفي الطريق انقطاع ": ان ابا بكر قال لعمر ولزيد - اقعدوا على باب المسجد - فمن جاءكما بشاهدين على شئ من كتاب الله فاكتباه وفي الاتقان عن ابن اشتة في المصاحف عن الليث بن سعد قال ": اول من جمع القرآن أبو بكر وكتبه زيد - وكان الناس يأتون زيد بن ثابت - فكان لا يكتب آية الا

[ 120 ]

بشاهدي عدل وان آخر سورة براءة لم يوجد الا مع ابى خزيمة بن ثابت فقال اكتبوها فان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين فكتب وان عمر اتى بآية الرجم فلم يكتبها لانه كان وحده وعن ابن ابى داود في المصاحف من طريق محمد بن اسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن ابيه قال ": اتانى الحارث بن خزيمة بهاتين الايتين من آخر سورة براءة فقال - اشهد انى سمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيتهما فقال عمر وانا اشهد لقد سمعتهما ثم قال لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا آخر سورة من القرآن فالحقوها في آخرها وعنه ايضا من طريق ابى العالية عن ابى بن كعب ": انهم جمعوا القرآن فلما انتهوا إلى الاية التى في سورة براءة ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون ظنوا ان هذا آخر ما انزل فقال ابى - ان رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأني بعد هذا آيتين " لقد جاءكم رسول " إلى آخر السورة وفي الاتقان عن الدير عاقولي في فوائده حدثنا ابراهيم بن يسار حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد عن زيد بن ثابت قال قال ": قبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع في شئ وفي مستدرك الحاكم باسناده عن زيد بن ثابت قال ": كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع الحديث. اقول ولعل المراد ضم بعض الايات النازلة نجوما إلى بعض السور أو الحاق بعض السور إلى بعضها مما يتماثل صنفا كالطوال والمئين والمفصلات فقد ورد لها ذكر في الاحاديث النبوية والا فتأليف القرآن وجمعه مصحفا واحدا انما كان بعد ما قبض النبي صلى الله عليه وسلم بلا اشكال وعلى مثل هذا ينبغى ان يحمل ما ياتي. في صحيح النسائي عن ابن عمر قال: جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال اقرأه في شهر وفي الاتقان عن ابن ابى داود بسند حسن عن محمد بن كعب القرظى قال ": جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة من الانصار معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت

[ 121 ]

وابى بن كعب وابو الدرداء وابو ايوب الانصاري وفيه عن البيهقى في المدخل عن ابن سيرين قال ": جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اربعة لا يختلف فيهم معاذ بن جبل وابى بن كعب وابو زيد واختلفوا في رجلين من ثلاثة ابى الدرداء وعثمان وقيل عثمان وتميم الدارى وفيه عنه وعن ابن ابى داود عن الشعبى قال ": جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ستة ابى وزيد ومعاذ وابو الدرداء وسعيد بن عبيد وابو زيد ومجمع بن حارثة وقد اخذه الا سورتين أو ثلاث وفيه ايضا عن ابن اشتة في كتاب المصاحف من طريق كهمس عن ابن بريدة قال ": اول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى ابى حذيفة اقسم لا يرتدى برداء حتى يجمعه فجمعه الحديث. اقول اقصى ما تدل عليه هذه الروايات مجرد جمعهم ما نزلت من السور والايات واما العناية بترتيب السور والايات كما هو اليوم أو بترتيب آخر فلا هذا هو الجمع الاول في عهد ابى بكر. الفصل - 5 وقد جمع القرآن ثانيا في عهد عثمان لما اختلفت المصاحف وكثرت القراءات. قال اليعقوبي في تاريخه وجمع عثمان القرآن وألفه وصير الطوال مع الطوال والقصار مع القصار من السور وكتب في جمع المصاحف من الافاق حتى جمعت ثم سلقها بالماء الحار والخل وقيل احرقها فلم يبق مصحف حتى فعل به ذلك خلا مصحف ابن مسعود. وكان ابن مسعود بالكوفة فامتنع ان يدفع مصحفه إلى عبد الله بن عامر وكتب (إليه ظ) عثمان ان اشخصه ان لم يكن هذا الدين خبالا وهذه الامة فسادا فدخل المسجد وعثمان يخطب فقال عثمان انه قد قدمت عليكم دابة سوء فكلم ابن مسعود بكلام غليظ فامر به عثمان فجر برجله حتى كسر له ضلعان فتكلمت عائشة وقالت قولا كثيرا.

[ 122 ]

وبعث بها إلى الامصار وبعث بمصحف إلى الكوفة ومصحف إلى البصرة ومصحف إلى المدينة ومصحف إلى مكة ومصحف إلى مصر ومصحف إلى الشام ومصحف إلى البحرين ومصحف إلى اليمن ومصحف إلى الجزيرة. وامر الناس ان يقرؤا على نسخة واحدة وكان سبب ذلك انه بلغه ان الناس يقولون قرآن آل فلان فاراد ان يكون نسخته واحدة وقيل ان ابن مسعود كان كتب بذلك إليه فلما بلغه انه كان يحرق المصاحف قال لم ارد هذا وقيل كتب إليه بذلك حذيفة بن اليمان انتهى موضع الحاجة وفي الاتقان روى البخاري عن انس ": ان حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازى اهل الشام في فتح ارمينية وآذربيجان مع اهل العراق فافزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال لعثمان ادرك الامة قبل ان يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى فارسل إلى حفصة ان ارسلي الينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها اليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فامر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمان ابن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فانه انما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وارسل إلى كل افق بمصحف مما نسخوا وامر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف ان يحرق. قال زيد آية من الاحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت اسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الانصاري: " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه " فالحقناها في سورتها في المصحف وفيه اخرج ابن اشتة من طريق ايوب عن ابى قلابة قال حدثنى رجل من بنى عامر يقال له انس بن مالك قال ": اختلفوا في القرآن على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان والمعلمون فبلغ ذلك عثمان بن عفان فقال عندي تكذبون به وتلحنون فيه فمن نأى عنى كان اشد تكذيبا واكثر لحنا يا اصحاب محمد اجتمعوا واكتبوا للناس اماما. فاجتمعوا فكانوا إذا اختلفوا وتدارؤا في آية قالوا هذه اقرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

[ 123 ]

فلانا فيرسل إليه وهو على رأس ثلاث من المدينة فيقال له كيف اقراك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آية كذا وكذا ؟ فيقول كذا وكذا فيكتبونها وقد تركوا لذلك مكانا وفيه عن ابن ابى داود من طريق ابن سيرين عن كثير بن افلح قال ": لما اراد عثمان ان يكتب المصاحف جمع له اثنى عشر رجلا من قريش والانصار فبعثوا إلى الربعة التى في بيت عمر فجئ بها وكان عثمان يتعاهدهم فكانوا إذا تدارؤا في شئ اخروه. قال محمد فظننت انما كانوا يؤخرونه لينظروا احدثهم عهدا بالعرضة الاخيرة فيكتبونه على قوله وفيه اخرج ابن ابى داود بسند صحيح عن سويد بن غفلة قال قال على: لا تقولوا في عثمان الا خيرا - فو الله ما فعل الذى فعل في المصاحف الا عن ملاء منا قال ما تقولون في هذه القراء ؟ فقد بلغني ان بعضهم يقول إن قراءتى خير من قراءتك وهذا يكاد يكون كفرا قلنا - فما ترى ؟ (قال ارى ظ) ان يجمع الناس على مصحف واحد فلا يكون فرقة ولا اختلاف قلنا فنعم ما رأيت وفي الدر المنثور اخرج ابن الضريس عن علباء بن احمر إن عثمان بن عفان ": لما اراد ان يكتب المصاحب ارادوا ان يلقوا الواو التى في براءة والذين يكنزون الذهب والفضة قال ابى لتلحقنها أو لاضعن سيفى على عاتقي فألحقوها وفي الاتقان عن احمد وابى داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال ": قلت لعثمان ما حملكم على ان عمدتم إلى الانفال وهى من المثانى وإلى براءة وهى من المئين فقربتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموهما في السبع الطوال فقال عثمان كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنزل عليه السورة ذات العدد فكان إذا انزل عليه الشئ دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هؤلاء الايات في السورة التى يذكر فيها كذا وكذا وكانت الانفال من اوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت انها منها فقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبين لنا انها منها. فمن اجل ذلك قرنت بينهما ولم اكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم

[ 124 ]

ووضعتها في السبع الطوال. اقول السبع الطوال على ما يظهر من هذه الرواية وروى ايضا عن ابن جبير هي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والانعام والاعراف ويونس وقد كانت موضوعة في الجمع الاول على هذا الترتيب ثم غير عثمان هذا الترتيب فأخذ الانفال وهى من المثانى وبراءة وهى من المئين قبل المثانى فوضعهما بين الاعراف ويونس مقدما الانفال على براءة. الفصل - 6 الروايات الموضوعة في الفصلين السابقين هي اشهر الروايات الواردة في باب جمع القرآن وتاليفه بين صحيحة وسقيمة وهى تدل على ان الجمع الاول كان جمعا لشتات السور المكتوبة في العسب واللخاف والاكتاف والجلود والرقاع والحاق الايات النازلة متفرقة إلى سور تناسبها. وان الجمع الثاني وهو الجمع العثماني كان رد المصاحف المنتشرة عن الجمع الاول بعد عروض تعارض النسخ واختلاف القراءات عليها إلى مصحف واحد مجمع عليه عدا ما كان من قول زيد انه الحق قوله من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه الاية في سورة الاحزاب في المصحف فقد كانت المصاحف تتلى خمس عشرة سنة وليست فيها الاية. وقد روى البخاري عن ابن الزبير قال ": قلت لعثمان والذين يتوفون منكم ويذرون ازواجا قد نسختها الاية الاخرى فلم تكتبها أو تدعها ؟ قال يا بن اخى لا اغير شيئا منه من مكانه. والذى يعطيه النظر الحر في امر هذه الروايات ودلالتها وهى عمدة ما في هذا الباب انها آحاد غير متواترة لكنها محفوفة بقرائن قطعية فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبلغ الناس ما نزل إليه من ربه من غير أن يكتم منه شيئا وكان يعلمهم ويبين لهم ما نزل إليهم من ربهم على ما نص عليه القرآن ولم يزل جماعة منهم يعلمون ويتعلمون القرآن تعلم تلاوة وبيان وهم القراء الذين قتل جم غفير منهم في غزوة اليمامة.

[ 125 ]

وكان الناس على رغبة شديدة في اخذ القرآن وتعاطيه ولم يترك هذا الشان ولا ارتفع القرآن من بينهم ولا يوما أو بعض يوم حتى جمع القرآن في مصحف واحد ثم اجمع عليه فلم يبتل القرآن بما ابتليت به التوراة والانجيل وكتب سائر الانبياء. اضف إلى ذلك روايات لا تحصى كثرة وردت من طرق الشيعة واهل السنة في قراءاته صلى الله عليه وآله وسلم كثيرا من السور القرآنية في الفرائض اليومية وغيرها بمسمع من ملا الناس وقد سمى في هذه الروايات جم غفير من السور القرآنية مكيتها ومدنيتها. اضف إلى ذلك ما تقدم في رواية عثمان بن ابى العاص: في تفسير قوله تعالى: " ان الله يامر بالعدل والاحسان " الاية النحل: 90 من قوله صلى الله عليه وآله وسلم إن جبريل اتانى بهذه الاية وامرني أن اضعها في موضعها من السورة ونظير الرواية في الدلالة ما دل على قراءته صلى الله عليه وآله وسلم لبعض السور النازلة نجوما كآل عمران والنساء وغيرها فيدل على انه صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر كتاب الوحى بالحاق بعض الايات في موضعها واعظم الشواهد القاطعة ما تقدم في اول هذه الابحاث ان القرآن الموجود بايدينا واجد لما وصفه الله تعالى من الاوصاف الكريمة. وبالجملة الذى تدل عليه هذه الروايات هي اولا ان الموجود فيما بين الدفتين من القرآن هو كلام الله تعالى فلم يزد فيه شئ ولم يتغير منه شئ واما النقص فانها لا تفى بنفيه نفيا قطعيا كما روى بعدة طرق ان عمر كان يذكر كثيرا آية الرجم ولم تكتب عنه واما حملهم الرواية وسائر ما ورد في التحريف وقد ذكر الآلوسي في تفسيره انها فوق حد الاحصاء على منسوخ التلاوة فقد عرفت فساده وتحققت ان اثبات منسوخ التلاوة اشنع من اثبات اصل التحريف. على إن من كان له مصحف غير ما جمعه زيد اولا بامر من ابى بكر وثانيا بأمر من عثمان كعلى عليه السلام وابى بن كعب وعبد الله بن مسعود لم ينكر شيئا مما حواه المصحف الدائر غير ما نقل عن ابن مسعود انه لم يكتب في مصحفه المعوذتين وكان يقول انهما عوذتان نزل بهما جبريل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليعوذ بهما الحسنين عليهما السلام وقد رده سائر الصحابة وتواترت النصوص من ائمة اهل البيت عليهم السلام على انهما سورتان من القرآن.

[ 126 ]

وبالجملة الروايات السابقة كما ترى آحاد محفوفة بالقرائن القطعية نافية للتحريف بالزيادة والتغيير قطعا دون النقص الا ظنا ودعوى بعضهم التواتر من حيث الجهات الثلاث لا مستند لها. والتعويل في ذلك على ما قدمناه من الحجة في اول هذه الابحاث ان القرآن الذى بايدينا واجد للصفات الكريمة التى وصف الله سبحانه بها القرآن الواقعي الذى انزله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ككونه قولا فصلا ورافعا للاختلاف وذكرا وهاديا ونورا ومبينا للمعارف الحقيقية والشرائع الفطرية وآية معجزة إلى غير ذلك من صفاته الكريمة. ومن الحرى أن نعول على هذا الوجه فان حجة القرآن على كونه كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم هي نفسه المتصفة بهاتيك الصفات الكريمة من غير ان يتوقف في ذلك على امر آخر وراء نفسه كائنا ما كان فحجته معه اينما تحقق وبيد من كان ومن أي طريق وصل. وبعبارة اخرى لا يتوقف القرآن النازل من عند الله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كونه متصفا بصفاته الكريمة على ثبوت استناده إليه صلى الله عليه وآله وسلم بنقل متواتر أو متظافر وان كان واجدا لذلك بل الامر بالعكس فاتصافه بصفاته الكريمة هو الحجة على الاستناد فليس كالكتب والرسائل المنسوبة إلى المصنفين والكتاب والاقاويل المأثورة عن العلماء واصحاب الانظار المتوقفة صحة استنادها إلى نقل قطعي وبلوغ متواتر أو مستفيض مثلا بل نفس ذاته هي الحجة على ثبوته. وثانيا إن ترتيب السور انما هو من الصحابة في الجمع الاول والثانى ومن الدليل عليه ما تقدم في الروايات من وضع عثمان الانفال وبراءة بين الاعراف ويونس وقد كانتا في الجمع الاول متاخرتين. ومن الدليل عليه ما ورد من مغايرة ترتيب مصاحف سائر الصحابة للجمع الاول والثانى كليهما كما روى ان مصحف على عليه السلام كان مرتبا على ترتيب النزول فكان اوله اقرء ثم المدثر ثم نون ثم المزمل ثم تبت ثم التكوير وهكذا إلى آخر المكى والمدنى نقله في الاتقان عن ابن فارس وفي تاريخ اليعقوبي ترتيب آخر لمصحفه عليه السلام.

[ 127 ]

ونقل عن ابن اشتة في المصاحف باسناده عن ابى جعفر الكوفى ترتيب مصحف ابى وهو يغاير المصحف الدائر مغايرة شديدة وكذا عنه فيه باسناده عن جرير بن عبد الحميد ترتيب مصحف عبد الله بن مسعود آخذا من الطوال ثم المئين ثم المثانى ثم المفصل وهو ايضا مغاير للمصحف الدائر. وقد ذهب كثير منهم إلى إن ترتيب السور توقيفي وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذى امر بهذا الترتيب باشارة من جبريل بامر من الله سبحانه حتى افرط بعضهم فادعى ثبوت ذلك بالتواتر وليت شعرى اين هذا التواتر وقد تقدمت عمدة روايات الباب ولا اثر فيها من هذا المعنى وسياتى استدلال بعضهم على ذلك بما ورد من نزول القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا جملة ثم منها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم تدريجا. وثالثا إن وقوع بعض الايات القرآنية التى نزلت متفرقة موقعها الذى هي فيه الان لم يخل عن مداخلة من الصحابة بالاجتهاد كما هو ظاهر روايات الجمع الاول وقد تقدمت. واما رواية عثمان بن ابى العاص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اتانى جبريل فأمرني أن اضع هذه الاية بهذا الموضع من السورة: " إن الله يأمر بالعدل والاحسان " الاية فلا تدل على ازيد من فعله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الايات في الجملة لا بالجملة وعلى تقدير التسليم لا دلالة لما بأيدينا من الروايات المتقدمة على مطابقة ترتيب الصحابة ترتيبه صلى الله عليه وآله وسلم ومجرد حسن الظن بهم لا يسمح للروايات بدلالة تدل بها على ذلك وانما يفيد انهم ما كانوا ليعمدوا إلى مخالفة ترتيبه صلى الله عليه وآله وسلم فيما علموه لا فيما جهلوه وفي روايات الجمع الاول المتقدمة اوضح الشواهد على إنهم ما كانوا على علم بمواضع جميع الايات ولا بنفسها. ويدل على ذلك الروايات المستفيضة التى وردت من طرق الشيعة واهل السنة ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إنما كانوا يعلمون تمام السورة بنزول البسملة كما رواه أبو داود والحاكم والبيهقي والبزار من طريق سعيد بن جبير على ما في الاتقان عن ابن عباس قال ": كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم زاد البزار فإذا نزلت عرف إن السورة قد ختمت واستقبلت أو ابتدأت سورة اخرى وايضا عن الحاكم من وجه آخر عن سعيد عن ابن عباس قال ": كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم فإذا نزلت علموا إن السورة

[ 128 ]

قد انقضت اسناده على شرط الشيخين. وايضا عنه من وجه آخر عن سعيد عن ابن عباس ": ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا جاءه جبريل فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم علم انها سورة اسناده صحيح. اقول وروى ما يقرب من ذلك في عدة روايات اخر وروى ذلك من طرق الشيعة عن الباقر عليه السلام. والروايات كما ترى صريحة في دلالتها على ان الايات كانت مرتبة عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحسب ترتيب النزول فكانت المكيات في السورة المكية والمدنيات في سورة مدنية اللهم إلا أن يفرض سورة نزل بعضها بمكة وبعضها بالمدينة ولا يتحقق هذا الفرض الا في سورة واحدة. ولازم ذلك ان يكون ما نشاهده من اختلاف مواضع الايات مستندا إلى اجتهاد من الصحابة. توضيح ذلك ان هناك ما لا يحصى من روايات اسباب النزول يدل على كون آيات كثيرة في السور المدنية نازلة بمكة وبالعكس وعلى كون آيات من القرآن نازلة مثلا في اواخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهى واقعة في سور نازلة في اوائل الهجرة وقد نزلت بين الوقتين سور اخرى كثيرة وذلك كسورة البقرة التى نزلت في السنة الاولى من الهجرة وفيها آيات الربا وقد وردت الروايات على انها من آخر ما نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى ورد عن عمر انه قال مات رسول الله ولم يبين لنا آيات الربا وفيها قوله تعالى: " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " الاية البقرة: 281 وقد ورد انها آخر ما نزل من القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فهذه الايات النازلة مفرقة الموضوعة في سور لا تجانسها في المكية والمدنية موضوعة في غير موضعها بحسب ترتيب النزول وليس الا عن اجتهاد من الصحابة. ويؤيد ذلك ما في الاتقان عن ابن حجر ": وقد ورد عن علي انه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم اخرجه ابن ابى داود وهو من مسلمات مداليل روايات الشيعة. هذا ما يدل عليه ظاهر روايات الباب المتقدمة لكن الجمهور اصروا على أن

[ 129 ]

ترتيب الايات توقيفي فآيات المصحف الدائر اليوم وهو المصحف العثماني مرتبة على ما رتبها عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم باشارة من جبريل وأولوا ظاهر الروايات بأن جمع الصحابة لم يكن جمع ترتيب وانما كان جمعا لما كانوا يعلمونه ويحفظونه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من السور وآياتها المرتبة بين دفتين وفي مكان واحد. وأنت خبير بأن كيفية الجمع الاول الذى تدل عليها الروايات تدفع هذه الدعوى دفعا صريحا. وربما استدل عليه بما ادعاه بعضهم من الاجماع على ذلك فقد نقل السيوطي في الاتقان عن الزركشي دعوى الاجماع عليه وعن ابى جعفر بن الزبير نفى الخلاف فيه بين المسلمين وهو اجماع منقول لا يعتمد عليه بعد وجود الخلاف في اصل التحريف ودلالة ما تقدم من الروايات على خلافه. وربما استدل عليه بالتواتر ويوجد ذلك في كلام كثير منهم ادعوا تواتر الترتيب الموجود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو عجيب وقد نقل في الاتقان بعد نقله ما رواه البخاري وغيره بعدة طرق عن انس انه قال ": مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير اربعة أبو الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وابو زيد وفي رواية ": ابى بن كعب بدل ابى الدرداء عن المازرى انه قال ": وقد تمسك بقول انس هذا جماعة من الملاحدة ولا متمسك لهم فيه فأنا لا نسلم حمله على ظاهره سلمناولكن من اين لهم ان الواقع في نفس الامر كذلك ؟ سلمناه لكن لا يلزم من كون كل من الجم الغفير لم يحفظه كله أن لا يكون حفظ مجموعة الجم الغفير وليس من شرط التواتر ان يحفظ كل فرد جميعه بل إذا حفظ الكل الكل ولو على التوزيع كفى انتهى. اما دعواه ان ظاهر كلام انس غير مراد فهو مما لا يصغى إليه في الابحاث اللفظية المبنية على ظاهر اللفظ الا بقرينة من نفس كلام المتكلم أو ما ينوب منابه اما مجرد الدعوى والاستناد إلى قول آخرين فلا. على انه لو حمل كلام انس على خلاف ظاهره كان من الواجب ان يحمل على ان هؤلاء الاربعة انما جمعوا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم معظم القرآن واكثر سوره وآياته لا على

[ 130 ]

انهم وغيرهم من الصحابة جمعوا جميع القرآن على ما في المصحف العثماني وحفظوا ترتيب سوره وآياته وضبطوا موضع كل واحدة واحدة منها عن آخرها فهذا زيد بن ثابت نفسه وهو احد الاربعة المذكورين في حديث انس والمتصدي للجمع الاول والثانى كليهما يصرح في رواياته انه لم يحفظ جميع الايات. ونظيره ما في الاتقان عن ابن اشتة في المصاحف بسند صحيح عن محمد بن سيرين قال ": مات أبو بكر ولم يجمع القرآن وقتل عمر ولم يجمع القرآن. واما قوله سلمناه ولكن من اين لهم ان الواقع في نفس الامر كذلك ؟ فمقلوب على نفسه فمن اين لهذا القائل ان الواقع في نفس الامر كما يدعيه وقد عرفت الشواهد على خلاف ما يدعيه ؟ واما قوله انه يكفى في تحقق التواتر ان يحفظ الكل كل القرآن على سبيل التوزيع فمغالطة واضحة لانه انما يفيد كون مجموع القرآن من حيث المجموع منقولا بالتواتر واما كون كل واحدة واحدة من الايات القرآنية محفوظة من حيث محلها وموضعها بالتواتر فلا وهو ظاهر ونقل في الاتقان عن البغوي انه قال في شرح السنة الصحابة جمعوا بين الدفتين القرآن الذى انزله الله على رسوله من غير ان زادوا أو نقصوا منه شيئا خوف ذهاب بعضه بذهاب حفظته فكتبوه كما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير أن قدموا شيئا أو أخروه أو وضعوا له ترتيبا لم يأخذوه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلقن اصحابه ويعلمهم ما نزل عليه من القرآن على الترتيب الذى هو الان في مصاحفنا بتوقيف جبريل اياه على ذلك واعلامه عند نزول كل آية ان هذه الاية تكتب عقب آية كذا في سورة كذا. فثبت إن سعى الصحابة كان في جمعه في موضع واحد لا في ترتيبه فان القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب انزله الله جملة إلى السماء الدنيا ثم كان ينزله مفرقا عند الحاجة وترتيب النزول غير ترتيب التلاوة انتهى ونقل عن ابن الحصار انه قال ترتيب السور ووضع الايات مواضعها انما كان بالوحى كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ضعوا آية كذا في موضع كذا وقد حصل اليقين

[ 131 ]

من النقل المتواتر بهذا الترتيب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانما اجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف انتهى: ونقل ايضا ما يقرب من ذلك عن جماعة غيرهم كالبيهقي والطيبى وابن حجر. اما قولهم إن الصحابة انما كتبوا المصحف على الترتيب الذى اخذوه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير ان يخالفوه في شئ فمما لا يدل عليه شئ من الروايات المتقدمة وانما المسلم من دلالتها انهم انما اثبتوا ما قامت عليه البينة من متن الايات ولا اشارة في ذلك إلى كيفية ترتيب الايات النازلة مفرقة وهو ظاهر نعم في رواية ابن عباس المتقدمة عن عثمان ما يشير إلى ذلك غير ان الذى فيه انه كان صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بعض كتاب الوحى بذلك وهو غير اعلامه جميع الصحابة ذلك على إن الرواية معارضة بروايات الجمع الاول واخبار نزول بسم الله وغيرها. واما قولهم ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقن الصحابة هذا الترتيب الموجود في مصاحفنا بتوقيف من جبريل ووحى سماوي فكأنه اشارة إلى حديث عثمان بن ابى العاص المتقدم في آية ان الله يأمر بالعدل والاحسان وقد عرفت مما تقدم انه حديث واحد في خصوص موضع آية واحدة واين ذلك من مواضع جميع الايات المفرقة. واما قولهم ان القرآن مكتوب على هذا الترتيب في اللوح المحفوظ انزله الله إلى السماء الدنيا ثم انزله الله مفرقا عند الحاجة الخ فاشارة إلى ما روى مستفيضا من طرق الشيعة واهل السنة من نزول القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم نزوله منها نجوما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكن الروايات ليس فيها ادنى دلالة على كون القرآن مكتوبا في اللوح المحفوظ منظما في السماء الدنيا على الترتيب الموجود في المصحف الذى عندنا وهو ظاهر. على انه سيأتي ان شاء الله الكلام في معنى كتابة القرآن في اللوح المحفوظ ونزوله إلى السماء الدنيا في ذيل ما يناسب ذلك من الايات كأول سورتي الزخرف والدخان وسورة القدر. واما قولهم انه قد حصل اليقين بالنقل المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الترتيب الموجود في المصاحف فقد عرفت انه دعوى خالية عن الدليل وان هذا التواتر

[ 132 ]

لا خبر عنه بالنسبة إلى كل آية آية كيف وقد تكاثرت الروايات ان ابن مسعود لم يكتب في مصحفه المعوذتين وكان يقول انهما ليستا من القرآن وإنما نزل بهما جبريل تعويذا للحسنين وكان يحكهما عن المصاحف ولم ينقل عنه انه رجع عن قوله فكيف خفى عليه هذا التواتر طول حياته بعد الجمع الاول. الفصل - 7 يتعلق بالبحث السابق البحث في روايات الانساء وقد مرت اشارة اجمالية إليها وهى عدة روايات وردت من طرق اهل السنة في نسخ القرآن وانسائه حملوا عليها ما ورد من روايات التحريف سقوطا وتغييرا. فمنها ما في الدر المنثورعن ابن ابى حاتم والحاكم في الكنى وابن عدى وابن عساكر عن ابن عباس قال ": كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوحى بالليل وينسأه بالنهار فانزل الله: " ما ننسخ من آية أو ننسأها نأت بخير منها أو مثلها " وفيه عن ابى داود في ناسخه والبيهقي في الدلائل عن ابى امامة ": ان رهطا من الانصار من اصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم اخبروه إن رجلا قام من جوف الليل يريد أن يفتتح سورة كان قد وعاها فلم يقدر منها على شئ الا بسم الله الرحمن الرحيم ووقع ذلك لناس من اصحابه فاصبحوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن السورة فسكت ساعة لم يرجع إليهم شيئا ثم قال نسخت البارحة فنسخت من صدورهم ومن كل شئ كانت فيه. اقول والقصة مروية بعدة طرق في الفاظ متقاربة مضمونا. وفيه عن عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابى داود في ناسخه وابنه في المصاحف والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم والحاكم وصححه عن سعد بن ابى وقاص ": انه قرأ ما ننسخ من آية أو ننسأها " فقيل له إن سعيد بن المسيب يقرأ ننسها فقال سعد ان القرآن لم ينزل على المسيب ولا آل المسيب قال الله: " سنقرئك فلا تنسى " واذكر ربك إذا نسيت ". اقول يريد بالتمسك بالايتين ان الله رفع النسيان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيتعين ان يقرأ ننسأها من النسئ بمعنى الترك والتاخير فيكون المراد بقوله ما ننسخ من

[ 133 ]

آية ازالة الاية عن العمل دون التلاوة كآية صدقة النجوى وبقوله أو ننسأها ترك الاية ورفعها من عندهم بالمرة وازالتها عن العمل والتلاوة كما روى تفسيرها بذلك عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم. وفيه اخرج ابن الانباري عن ابى ظبيان قال ": قال لنا ابن عباس أي القراءتين تعدون اول ؟ قلنا قراءة عبد الله وقراءتنا هي الاخيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض عليه جبريل القرآن كل سنة مرة في شهر رمضان وانه عرضه عليه في آخر سنة مرتين فشهد منه عبد الله ما نسخ ما بدل. اقول وهذا المعنى مروى بطرق اخرى عن ابن عباس وعبد الله بن مسعود نفسه وغيرهما من الصحابة والتابعين وهناك روايات أخر في الانساء. ومحصل ما استفيد منها إن النسخ قد يكون في الحكم كالايات المنسوخة المثبتة في المصحف وقد يكون في التلاوة مع نسخ حكمها أو من غير نسخ حكمها وقد تقدم في تفسير قوله: " ما ننسخ من آية " البقرة: 106 وسيأتى في قوله: " وإذا بدلنا آية مكان آية " النحل: 101 ان الايتين اجنبيتان عن الانساء بمعنى نسخ التلاوة وتقدم ايضا في الفصول السابقة ان هذه الروايات مخالفة لصريح الكتاب فالوجه عطفها على روايات التحريف وطرح القبيلين جميعا * * * ولقد ارسلنا من قبلك في شيع الاولين - 10 وما يأتيهم من رسول الا كانوا به يستهزؤن - 11 كذلك نسلكه في قلوب المجرمين - 12 لا يؤمنون به وقد خلت سنة الاولين - 13 ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون - 14 لقالوا إنما سكرت ابصارنا بل نحن قوم مسحورون - 15

[ 134 ]

(بيان) لما ذكر استهزاءهم بكتابه ونبيه وما اقترحوا عليه من الاتيان بالملائكة آية للرسالة عقبه بثلاث طوائف من الايات وهى المصدرة بقوله: " ولقد ارسلنا من قبلك " الخ وقوله ولقد جعلنا في السماء بروجا الخ وقوله ولقد خلقنا الانسان من صلصال الخ. فبين في اوليها ان هذا الاستهزاء دأب وسنة جارية للمجرمين وليسوا بمؤمنين ولو جاءتهم آية آية وفي الثانية أن هناك آيات سماوية وأرضية كافية لمن وفق للايمان وفي الثالثة أن الاختلاف بالايمان والكفر في نوع الانسان وضلال أهل الضلال مما تعين لهم يوم أبدع الله خلق الانسان فخلق آدم وجرى هنالك ما جرى من أمر الملائكة بالسجود وإباء ابليس عن ذلك. قوله تعالى: " ولقد ارسلنا من قبلك في شيع الاولين " إلى آخر الايتين الشيع جمع شيعة وهى الفرقة المتفقة على سنة أو مذهب يتبعونه قال تعالى: " من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون " لروم: 32 وقوله ولقد ارسلنا أي رسلا وقد حذف للاستغناء عنه فان العناية بأصل تحقق الارسال من قبل من غير نظر إلى من ارسل بل بيان ان البشر الاولين كالاخرين جرت عادتهم على ان لا يحترموا الرسالة الالهية ويستهزؤا بمن أتى بها ويمضوا على إجرامهم لتكون في ذلك تعزية للنبى صلى الله عليه وآله وسلم فلا يضيق صدره بما قابلوه به من الانكار والاستهزاء كما سيعود إليه في آخر السورة بقوله: " ولقد نعلم انك يضيق صدرك بما يقولون " الخ الاية: 97 من السورة. والمعنى طب نفسا فنحن نزلنا الذكر عليك ونحن نحفظه ولا يضيقن صدرك بما يقولون فهو دأب المجرمين من الامم الانسانية أقسم لقد ارسلنا من قبلك في فرق الاولين وشيعهم وحالهم هذه الحال ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤن قوله تعالى: " كذلك نسلكه في قلوب المجرمين " إلى آخر الايتين السلوك النفاذ والانفاذ يقال سلك الطريق أي نفذ فيه وسلك الخيط في الابرة أي أنفذه فيها

[ 135 ]

وادخله وذكروا ان سلك واسلك بمعنى. والضميران في نسلكه وبه للذكر المتقدم ذكره وهو القرآن الكريم والمعنى ان حال رسالتك ودعوتك بالذكر المنزل اليك تشبه حال الرسالة من قبلك فكما ارسلنا من قبلك فقابلوها بالرد والاستهزاء كذلك ندخل هذا الذكر وننفذه في قلوب هؤلاء المجرمين ونبأ به انهم لا يؤمنون بالذكر وقد مضت طريقة الاولين وسنتهم في انهم يستهزؤن بالحق ولا يتبعونه فالايتان قريبتا المعنى من قوله فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل. وربما قيل ان الضميرين للشرك أو الاستهزاء المفهوم من الايات السابقة والباء في به للسببية والمعنى كذلك ننفذ الشرك أو الاستهزاء في قلوب المجرمين لا يؤمنون بسبب الشرك أو الاستهزاء وهو معنى بعيد والمتبادر إلى الذهن من لفظة لا يؤمنون به إن الباء للتعدية دون السببية. وربما قيل ان الضمير الاول للاستهزاء المفهوم من سابق الكلام والثانى للذكر المذكور سابقا والمعنى مثل ما سلكنا الاستهزاء في قلوب شيع الاولين نسلك الاستهزاء وننفذه في قلوب هؤلاء المجرمين لا يؤمنون بالذكر الخ. ولا بأس به وان كان يستلزم التفرقة بين الضميرين المتواليين لكن اباء قوله لا يؤمنون به أن يرجع ضميره إلى الاستهزاء يكفى قرينة لذلك. وكذا لا يرد على الوجهين ما اورد ان رجوع ضمير نسلكه إلى الاستهزاء يوجب كون المشركين ملجئين إلى الشرك مجبرين عليه. وجه عدم الورود انه تعالى علق السلوك على المجرمين فيكون مفاده انهم كانوا متلبسين بالاجرام قبل فعل السلوك بهم ثم فعل بهم ذلك فينطبق على الاضلال الالهى مجازاة ولا مانع منه وانما الممنوع هو الاضلال الابتدائي ولا دليل عليه في الاية بل الدليل على خلافه والاية من قبيل قوله تعالى: " يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضل به الا الفاسقين " البقرة: 26 وقد تقدم تفصيل القول فيه. وقد ظهر مما تقدم ان المراد بسنة الاولين السنة التى سنها الاولون لا السنة التى

[ 136 ]

سنها الله في الاولين فالسنة سنتهم دون سنة الله فيهم كما ذكره بعض المفسرين فهو الانسب لمقام ذمهم وتعزيته صلى الله عليه وآله وسلم بذكر ردهم واستهزائهم لرسلهم. قوله تعالى ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا انما سكرت ابصارنا الخ العروج في السماء الصعود إليها والتسكير الغشاوة. والمراد بفتح باب من السماء عليهم ايجاد طريق يتيسر لهم به الدخول في العالم العلوى الذى هو مأوى الملائكة وليس كما يظن سقفا جرمانيا له باب ذو مصراعين يفتح ويغلق وقد قال تعالى: " ففتحنا ابواب السماء بماء منهمر " القمر: 11. وقد اختار سبحانه من بين الخوارق التى يظن انها ترفع عنهم الشبهة وتزيل عن نفوسهم الريب فتح باب من السماء وعروجهم فيه لانه كان يعظم في اعينهم اكثر من غيره ولذلك لما اقترحوا عليه امورا من الخوارق العظيمة ذكروا الرقى في السماء في آخر تلك الخوارق المذكورة على سبيل الترقي كما حكاه الله عنهم بقوله: " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا " إلى ان قال " أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه " اسرى: 93 فالرقي في السماء والتصرف في امورها كتنزيل كتاب مقرو منها أي نفوذ البشر في العالم العلوى وتمكنه فيه ومنه اعجب الخوارق عندهم. على ان السماء مأوى الملائكة الكرام ومحل صدور الاحكام والاوامر الالهية وفيها الواح التقادير ومنها مجارى الامور ومنبع الوحى واليها صعود كتب الاعمال فعروج الانسان فيها يوجب اطلاعه على مجارى الامور واسباب الخوارق وحقائق الوحى والنبوة والدعوة والسعادة والشقاوة وبالجملة يوجب اشرافه على كل حقيقة وخاصة إذا كان عروجا مستمرا لا مرة ودفعة كما يشير إليه قوله تعالى فظلوا فيه يعرجون حيث عبر بقوله ظلوا ولم يقل فعرجوا فيه. فالفتح والعروج بهذا النعت يطلعهم على اصول هذه الدعوة الحقة واعراقها لكنهم لما في قلوبهم من الفساد وفي نفوسهم من قذارة الريبة والشبهة المستحكمة يخطؤن ابصارهم فيما يشاهدون بل يتهمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه سحرهم فهم مسحورون من قبله. فالمعنى ولو فتحنا عليهم بابا من السماء ويسرنا لهم الدخول في عالمها فداموا

[ 137 ]

يعرجون فيه عروجا بعد عروج حتى يتكرر لهم مشاهدة ما فيه من اسرار الغيب وملكوت الاشياء لقالوا انما غشيت ابصارنا فشاهدت امورا لا حقيقة لها بل نحن قوم مسحورون * * * ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين - 16 وحفظناها من كل شيطان رجيم - 17 إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين - 18 والارض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شئ موزون - 19 وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين - 20 وان من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم - 21 وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما انتم له بخازنين - 22 وإنا لنحن نحيى ونميت ونحن الوارثون - 23 ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين - 24 وان ربك هو يحشرهم انه حكيم عليم - 25. (بيان) لما ذكر سبحانه اعراضهم عن آية القرآن المعجزة واقتراحهم آية اخرى وهى الاتيان بالملائكة وأجاب عنه إنه ممتنع وملازم لفنائهم عدل إلى عد عدة من آيات السماء والارض الدالة على التوحيد ليعتبروا بها إن كانوا يعقلون وتتم الحجة بها على المجرمين وقد ضمن سبحانه فيها طرفا عاليا من المعارف الحقيقية والاسرار الالهية. قوله تعالى: " ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين " إلى آخر الايات

[ 138 ]

الثلاث البروج جمع برج وهو القصر سميت بها منازل الشمس والقمر من السماء بحسب الحس تشبيها لها بالقصور التى ينزلها الملوك. والضمير في قوله وزيناها للسماء كما في قوله وحفظناها وتزيينها للناظرين هو ما نشاهده في جوها من البهجة والجمال الذى يوله الالباب بنجومها الزاهرة وكواكبها اللامعة على اختلاف اقدارها وتنوع لمعاتها وقد كرر سبحانه ذكر هذا التزيين الكاشف عن مزيد عنايته به كقوله: " وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا " حم السجدة: 12 وقوله: " إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الملا الاعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب " الصافات: 10. واستراق السمع اخذ الخبر المسموع في خفية كمن يصغى خفية إلى حديث قوم يسرونه فيما بينهم واستراق السمع من الشياطين هو محاولتهم ان يطلعوا على بعض ما يحدث به الملائكة فيما بينهم كما يدل عليه ما تقدم آنفا من آيات سورة الصافات. والشهاب هو الشعلة الخارجة من النار ويطلق على ما يشاهد في الجو من اجرام مضيئة كأن الواحد منها كوكب ينقض دفعة من جانب إلى آخر فيسير سيرا سريعا ثم لا يلبث دون ان ينطفئ. فظاهر معنى الايات ولقد جعلنا في السماء وهى جهة العلو بروجا وقصورا هي منازل الشمس والقمر وزيناها أي السماء للناظرين بزينة النجوم والكواكب وحفظناها أي السماء من كل شيطان رجيم أن ينفذ فيها فيطلع على ما تحتويه من الملكوت الا من استرق السمع من الشياطين بالاقتراب منه ليسمع ما يحدث به الملائكة من احاديث الغيب المتعلقة بمستقبل الحوادث وغيرها فانه يتبعه شهاب مبين. وسنتكلم ان شاء الله في الشهب ومعنى رمى الشياطين فيما سيأتي من تفسير سورة الصافات. قوله تعالى: " والارض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شئ موزون " مد الارض بسطها طولا وعرضا وبذلك صلحت للزرع والسكنى ولو اغشيت جبالا شاهقة مضرسة لفقدت كمال حياة الحيوان عليها.

[ 139 ]

والرواسي صفة محذوفة الموصوف والتقدير والقينا فيها جبالا رواسي وهو جمع راسية بمعنى الثابتة اشارة إلى ما وقع في غير هذا الموضع انها تمنع الارض من الميدان كما قال: " وألقى في الارض رواسي أن تميد بكم " النحل: 15. والموزون من الوزن وهو تقدير الاجسام من جهة ثقلها ثم عمم لكل تقدير لكل ما يمكن ان يتقدر بوجه كتقدير الطول بالشبر والذراع ونحو ذلك وتقدير الحجم وتقدير الحرارة والنور والقدرة وغيرها وفي كلامه تعالى: " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة " الانبياء: 47 وهو توزين الاعمال ولا يتصف بثقل وخفة من نوع ما للاجسام الارضية منهما. وربما يكنى به عن كون الشئ بحيث لا يزيد ولا ينقص عما يقتضيه الطبع أو الحكمة كما يقال كلامه موزون وقامته موزونه وافعاله موزونة أي مستحسنة متناسبة الاجزاء لا تزيد ولا تنقص مما يقتضيه الطبع أو الحكمة. وبالنظر إلى اختلاف اعتباراته المذكورة ذكر بعضهم ان المراد به اخراج كل ما يوزن من المعدنيات كالذهب والفضة وسائر الفلزات وقال بعضهم انه انبات النباتات على ما لكل نوع منها من النظام البديع الموزون وقيل انه خلق كل امر مقدر معلوم. والذى يجب التنبه له التعبير بقوله من كل شئ موزون دون أن يقال من كل نبات موزون فهو يشمل غير النبات مما يظهر وينمو في الارض كما انه يشمل النبات لمكان قوله وانبتنا دون أن يقال اخرجنا أو خلقنا وقد جئ بمن وظاهرها التبعيض فالمراد والله اعلم انبات كل امر موزون ذى ثقل مادى يمكن أن يزيد وينقص من الاجسام النباتية والارضية ولا مانع على هذا من اخذ الموزون بكل من معنييه الحقيقي والكنائي. والمعنى والارض بسطناها وطرحنا فيها جبالا ثابتة لتسكنها من الميد وانبتنا فيها من كل شئ موزون ثقيل واقع تحت الجاذبة أو متناسب مقدارا تقتضيه الحكمة. قوله تعالى: " وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين المعايش جمع

[ 140 ]

معيشة وهى ما به يعيش الحيوان ويديم حياته من المأكول والمشروب وغيرهما وياتى مصدرا كالعيش والمعاش. وقوله ومن لستم له برازقين معطوف على الضمير المجرور في لكم على ما ذهب إليه من النحاة الكوفيون ويونس والاخفش من جواز العطف على الضمير المجرور من غير اعادة الجار واما على قول غيرهم فربما يعطف على معايش والتقدير وجعلنا لكم من لستم له برازقين كالعبيد والحيوان الاهلى وربما جعل من مبتدأ محذوف الخبر والتقدير ومن لستم له برازقين جعلنا له فيها معايش وهذا كله تكلف ظاهر. وكيف كان المراد بمن العبيد والدواب على ما قيل اتى بلفظة من وهى لاولى العقل تغليبا هذا وليس من البعيد ان يكون المراد به كل ما عدا الانسان من الحيوان والنبات وغيرهما فانها تسأل الرزق كما يسأله العقلاء ومن دأبة سبحانه في كلامه ان يطلق الالفاظ المختصة بالعقلاء على غيرهم إذا اضيف إليها شئ من الاثار المختصة بهم كقوله تعالى في الاصنام: " فاسألوهم إن كانوا ينطقون " الانبياء: 63 وقوله: " فانهم عدو لى " الشعراء: 77 إلى غير ذلك من الايات المتعرضة لحال الاصنام التى كانوا يعبدونها ولا يستقيم للمعبود الا أن يكون عاقلا وكذا قوله: " فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " حم السجدة: 11 وغير ذلك. والمعنى وجعلنا لكم معشر البشر في الارض اشياء تعيشون بها مما تدام به الحياة ولغيركم من ارباب الحياة مثل ذلك قوله تعالى: " وإن من شئ الا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " الخزائن جمع خزانة وهى مكان خزن المال وحفظه وادخاره والقدر بفتحتين أو فتح فسكون مبلغ الشئ وكميته المتعينة. ولما كانت الاية واقعة في سياق الكلام في الرزق الذى يعيش به الانسان والحيوان كان المراد بالشئ الموصوف في الاية النبات وما يتبعه من الحبوب والثمرات فالمراد بخزانته التى عند الله وهو ينزل بقدر معلوم المطر النازل من السماء الذى ينبت به النبات فيأتى بالحبوب والاثمار ويعيش بذلك الانسان والحيوان هذا ملخص ما ذكره جمع

[ 141 ]

من المفسرين. ولا يخفى عليك ما فيه من التكلف فتخصيص ما في قوله وان من شئ من العموم وحصره في النبات من تخصيص الاكثر من غير شك والمورد لا يخصص وأردى منه تسمية المطر خزائن النبات وليس الا سببا من اسبابه وجزء من اجزاء كثيرة يتكون النبات بتركبها الخاص على ان المطر انما تتكون حينما ينزل فكيف يسمى خزانة وليس بموجود ولا ان الذى هو خزانته موجود فيه. وذكر بعض المفسرين ان المراد بكون خزائن كل شئ عند الله سبحانه شمول قدرته المطلقة له. فله تعالى من كل نوع من انواع الاشياء كالانسان والفرس والنخلة وغير ذلك من الاعيان وصفاتها وآثارها وافعالها مقدورات في التقدير غير متناهية عددا لا يخرج منها دائما من التقدير والفرض إلى التحقق والفعلية إلا قدر معلوم وعدد معين محدود. وعلى هذا فالمراد من كل شئ نوعه لا شخصه كالانسان مثلا لا كزيد وعمرو والمراد من القدر المعلوم الكمية المعينة من الافراد والمراد من وجود خزائنه ووجوده في خزائنه وجوده بحسب التقدير لا بحسب التحقق فيرجع إلى نوع من التشبيه والمجاز. وانت خبير بأن فيه تخصيصا للشئ من غير مخصص وفيه قصر للقدر في العدد من غير دليل والقدر في اللغة قريب المعنى من الحد وهو المفهوم من سياق قوله تعالى: " قد جعل الله لكل شئ قدرا " الطلاق: 3 وقوله: " وكل شئ عنده بمقدار " الرعد 8 وقوله: " إنا كل شئ خلقناه بقدر " القمر: 49 وقوله: " وخلق كل شئ فقدره تقديرا " الفرقان: 2 إلى غير ذلك. وفيه ارجاع الكلام إلى معنى مجازى استعارى من غير موجب مع ما فيه من ورود الخزائن بصيغة الجمع من غير نكتة ظاهرة. وذكر بعض معاصري المفسرين وجها آخر وهو ان المراد بالخزائن العناصر المختلفة التى تتألف منها الارزاق وغيرها وقد اعد الله منها في عالمنا المشهود كمية عظيمة لا تنفد بعروض التركيب والاسباب الكلية التى تعمل في تركب المركبات كالضوء والحرارة والرياح الدائمة المنظمة وغيرها التى تتكون منها الاشياء مما يحتاج إليه الانسان

[ 142 ]

في ادامة حياته وغيره. فكل من هذه الاشياء مدخرة باجزائها والقوى الفعالة فيها في تلك الخزائن غير القابلة للنفاد من جهة عظمة مقداره ومن جهة ما يعود إليه من الاجزاء الجديدة بانحلال تركيب المركبات بموت أو فساد ورجوعها إلى عناصرها الاولية كالنبات يفسد والحيوان يموت فيعود عناصرها بانحلال التركيب إلى مقارها ويتسع بذلك المكان لكينونة نبات وحيوان آخر يخلفان سلفهما. فالضوء وخاصة ضوء الشمس الذى يعمل الليل والنهار والفصول الاربعة ويربى النبات والحيوان وسائر المركبات ويسوقها إلى غاياتها ومقاصدها من خزائن الله تعالى والرياح التى تلقح النبات وتسوق السحب وتنقل الاهوية من مكان إلى مكان وتدفع فاسد الهواء وتجرى السفن خزانة اخرى والماء النازل من السماء الذى تحتاج إليه المركبات ذوات الحياة في كينونتها وبقائها خزانة اخرى وكذلك العناصر البسيطة التى تتركب منها المركبات كل منها خزانة تنزل من مجموعها أو من عدة منها الاشياء المركبة ولا ينزل قط الا عدد معلوم من كل نوع من غير ان تنفد به الخزائن. وعلى هذا فمراد الاية بالشئ هو نوعه لا شخصه كما تقدم في الوجه الاول والمراد بخزائنه مجموع ما في الكون من اصوله وعناصره واسبابه العامة المادية ومجموع الشئ موجود في مجموع خزائنه لا في كل واحد منها والمراد بنزوله بقدر معلوم كينونة عدد محدود منه في كل حين من غير ان يستوفى عدد جميع ما في خزائنه. وهذا وجه حسن في نفسه تؤيده الابحاث العلمية عن كينونة هذه الحوادث وتصدقه آيات كثيرة متفرقة في الكتاب العزيز كقوله في الاية التالية: " وأرسلنا الرياح لواقح وانزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه " وقوله: " وجعلنا من الماء كل شئ حى " الانبياء: 30 وقوله: " وسخر لكم الشمس والقمر دائبين " ابراهيم: 33 وقوله: " والسحاب المسخر بين السماء والارض " البقرة: 164 إلى غير ذلك من الايات. لكن الاية وهى من آيات القدر كما يعطيه سياقها تأبى الحمل عليه كما تأبى عنه اخواتها وكيف يحمل عليه قوله: " وخلق كل شئ‌فقدره تقديرا " ؟ الفرقان: 2 وقوله: " الذى خلق فسوى والذى قدر فهدى " الاعلى: 3 وقوله: " وكل شئ

[ 143 ]

عنده بمقدار " الرعد: 8 وقوله: " الا امرأته قدرناها من الغابرين " النمل: 57 وقوله: " من أي شئ خلقه من نطفة خلقه فقدره " عبس: 19 وقوله: " إنا انزلناه في ليلة القدر " إلى آخر السورة إلى غير ذلك من الايات. على انه يرد عليه بعض ما اورد على الوجهين السابقين كتخصيص عموم شئ من غير مخصص وغير ذلك. والذى يعطيه التدبر في الاية وما يناظرها من الايات الكريمة إنها من غرر كلامه تعالى تبين ما هو ادق مسلكا وابعد غورا مما فسروها به وهو ظهور الاشياء بالقدر والاصل الذى لها قبل احاطته بها واشتماله عليها. وذلك إن ظاهر قوله وان من شئ على ما به من العموم بسبب وقوعه في سياق النفى مع تأكيده بمن كل ما يصدق عليه انه شئ من دون ان يخرج منه الا ما يخرجه نفس السياق وهو ما تدل عليه لفظة نا وعند وخزائن وما عدا ذلك مما يرى ولا يرى مشمول للعام. فشخص زيد مثلا وهو فرد انسانى من الشئ ونوع من الانسان ايضا الموجود في الخارج بأفراده من الشئ والاية تثبت لذلك خزائن عند الله سبحانه فلننظر ما معنى كون زيد مثلا له خزائن عند الله ؟ والذى يسهل الامر فيه انه تعالى يعد هذا الشئ المذكور نازلا من عنده والنزول يستدعى علوا وسفلا ورفعة وخفضة وسماء وارضا مثلا ولم ينزل زيد المخلوق مثلا من مكان عال إلى آخر سافل بشهادة العيان فليس المراد بانزاله إلا خلقه لكنه ذو صفة يصدق عليه النزول بسببها ونظير الاية قوله تعالى: " وأنزل لكم من الانعام ثمانية ازواج " الزمر: 6 وقوله: " وانزلنا الحديد " الحديد: 25. ثم قوله: " وما ننزله إلا بقدر معلوم " يقرن النزول وهو الخلقة بالقدر قرنا لازما غير جائز الانفكاك لمكان الحصر والباء اما للسببية أو الآلة أو المصاحبة والمال واحد فكينونة زيد وظهوره بالوجود انما هو بماله من القدر المعلوم فوجوده محدود لا محالة كيف ؟ وهو تعالى يقول: " انه بكل شئ محيط " حم السجدة: 54 ولو لم يكن محدودا لم يكن محاطا له تعالى فمن المحال ان يحاط بما لا حد له ولا نهاية

[ 144 ]

وهذا القدر هو الذى بسببه يتعين الشئ ويتميز من غيره ففى زيد مثلا شئ به يتميز من عمرو وغيره من افراد الانسان ويتميز من الفرس والبقر والارض والسماء ويجوز لنا به ان نقول ليس هو بعمرو ولا بالفرس والبقر والارض والسماء ولو لا هذا الحد لكان هو هي وارتفع التميز. وكذلك ما عنده من القوى والاثار والاعمال محدودة مقدرة فليس ابصاره مثلا ابصارا مطلقا في كل حال وفي كل زمان وفي كل مكان ولكل شئ وبكل عضو مثلا بل ابصار في حال وزمان ومكان خاص ولشئ خاص وبعضو خاص وعلى شرائط خاصة ولو كان ابصارا مطلقا لاحاط بكل ابصار خاص وكان الجميع له ونظيره الكلام في سائر ما يعود إليه من خصائص وجوده وتوابعه فافهم ذلك. ومن هنا يظهر إن القدر خصوصية وجود الشئ وكيفية خلقته كما يستفاد ايضا من قوله تعالى: " الذى خلق فسوى والذى قدر فهدى " الاعلى: 3 وقوله: " الذى اعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه: 50 فان الاية الاولى رتبت الهداية وهى الدلالة على مقاصد الوجود على خلق الشئ وتسويته وتقديره والاية الثانية رتبتها على اعطائه ما يختص به من الخلق ولازم ذلك على ما يعطيه سياق الايتين كون قدر الشئ خصوصية خلقه غير الخارجة عنه. ثم انه تعالى وصف قدر كل شئ بأنه معلوم إذ قال: " وما ننزله الا بقدر معلوم " ويفيد بحسب سياق الكلام ان هذا القدر معلوم له حينما يتنزل الشئ ولما يتم نزوله ويظهر وجوده فهو معلوم القدر معينه قبل ايجاده واليه يؤل معنى قوله: " وكل شئ عنده بمقدار " الرعد: 8 فان ظاهر الاية إن كل شئ بما له من المقدار حاضر عنده معلوم له فقوله هناك عنده بمقدار في معنى قوله هاهنا بقدر معلوم ونظير ذلك قوله في موضع آخر: " قد جعل الله لكل شئ قدرا " الطلاق: 3 أي قدرا لا يتجاوزه معينا غير مبهم معلوما غير مجهول وبالجملة للقدر تقدم على الشئ بحسب العلم والمشية وان كان مقارنا له غير منفك عنه في وجوده. ثم انه تعالى اثبت بقوله عندنا خزائنه وما ننزله الخ للشئ عنده قبل نزوله إلى هذه النشأة واستقراره فيها خزائن وجعل القدر متأخرا عنها ملازما

[ 145 ]

لنزوله فالشئ وهو في هذه الخزائن غير مقدر بقدر ولا محدود بحد وهو مع ذلك هو وقد جمع في تعريف هذه الخزائن بين كونها فوق القدر الذى يلحق الشئ وبين كونها خزائن فوق الواحدة والاثنتين ومن المعلوم ان العدد لا يلحق الا الشئ المحدود وإن هذه الخزائن لو لم تكن محدودة متميزة بعضها من بعض كانت واحدة البتة. ومن هنا يتبين ان هذه الخزائن بعضها فوق بعض وكل ما هو عال منها غير محدود بحد ما هو دان غير مقدر بقدره ومجموعها غير محدود بالحد الذى يلحق الشئ وهو في هذه النشأة ولا يبعد ان يكون التعبير بالتنزيل الدال على نوع من التدريج في قوله وما ننزله اشارة إلى كونه يطوى في نزوله مرحلة بعد مرحلة وكلما ورد مرحلة طرأه من القدر امر جديد لم يكن قبل حتى إذا وقع في الاخيرة احاط به القدر من كل جانب قال تعالى: " هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا " الدهر: 1 فقد كان الانسان ولكنه لم يكن شيئا مذكورا. وهذه الخزائن جميعا فوق عالمنا المشهود لانه تعالى وصفها بأنها عنده وقد اخبرنا بقوله ما عندكم ينفد وما عند الله باق إن ما عنده ثابت لا يزول ولا يتغير عما هو عليه فهذه الخزائن كائنة ما كانت امور ثابتة غير زائلة ولا متغيرة والاشياء في هذه النشأة المادية المحسوسة متغيرة فانية لا ثابتة ولا باقية فهذه الخزائن الالهية فوق عالمنا المشهود. هذا ما يعطيه التدبر في الاية الكريمة وهو وان كان لا يخلو من دقة وغموض يعضل على بادئ الفهم لكنك لو امعنت في التدبر وبذلت في ذلك بعض جهدك استنار لك ووجدته من واضحات كلامه ان شاء الله تعالى وعلى من لم يتيسر له قبوله ان يعتمد الوجه الثالث المتقدم فهو احسن الوجوه الثلاثة المتقدمة والله ولى الهداية وسنرجع إلى بحث القدر في كلام مستقل يختص به ان شاء الله في موضع يناسبه. قوله تعالى: " وأرسلنا الرياح لواقح فانزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما انتم له بخازنين " اللواقح جمع لاقحة من اللقح بالفتح فالسكون يقال لقح النخل لقحا أي وضع اللقاح بفتح اللام وهو طلع الذكور من النخل على الاناث لتحمل بالتمر

[ 146 ]

وقد ثبت بالابحاث الحديثة في علم النبات ان حكم الزوجية جار في عامة النبات وان فيه ذكورية وانوثية وان الرياح في مهبها تحمل الذرات من نطفة الذكور فتلقح بها الاناث وهو قوله تعالى وارسلنا الرياح لواقح. وقوله: " وأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه " اشارة إلى المطر النازل من السحاب وقد تسلم الابحاث العلمية الحديثة ان الماء الموجود في الكرة الارضية من الامطار النازلة عليها من السماء على خلاف ما كانت تعتقده القدماء انه كرة ناقصة محيطة بكرة الارض احاطة ناقصة وهو عنصر من العناصر الاربعة. وهذه الاية التى تثبت بشطرها الاول وارسلنا الرياح لواقح مسألة الزوجية واللقاح في النبات وبشطرها الثاني وأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه إن المياه الموجودة المدخرة في الارض تنتهى إلى الامطار وقوله تعالى السابق وانبتنا فيها من كل شئ موزون الظاهر في ان للوزن دخلا خاصا في الانبات والانماء من نقود العلم التى سبق إليها القرآن الكريم الابحاث العلمية وهى تتلو المعجزة أو هي هي. قوله تعالى: " وانا لنحن نحيى ونميت ونحن الوارثون " الكلام مسوق للحصر يريد بيان رجوع كل التدبير إليه وقد كان ما عده من النعم كالسماء ببروجها والارض برواسيها وانبات كل شئ موزون وجعل المعايش وارسال اللواقح وانزال الماء من السماء انما يتم نظاما مبنيا على الحكمة والعلم إذا انضم إليه الحياة والموت والحشر وكان مما ربما يظن ان بعض الحياة والموت ليس إليه تعالى ولذا اكد الكلام وأتى بالحصر دفعا لذلك. ثم جاء بقوله ونحن الوارثون أي الباقون بعد إماتتكم المتصرفون فيما خولناكموه من امتعة الحياة كأنه تعالى يقول الينا تدبير امركم ونحن محيطون بكم نحييكم بعد ما لم تكونوا فنحن قبلكم ونميتكم ونرثكم فنحن بعدكم. قوله تعالى: " ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستاخرين " لما كانت الايات السابقة التى تعد النعم الالهية وتصف التدبير مسوقة لبيان وحدانيته تعالى في ربوبيته وكان لا ينفع الخلق والنظم من غير انضمام علمه تعالى وخاصة بمن يحييه ويميته

[ 147 ]

عقبها بهذه الاية الدالة على علمه بمن استقدم منهم بالوجود ومن استأخر أي المتقدمين من الناس والمتاخرين على ما يفيده السياق. وقيل المراد بالمستقدمين المستقدمون في الخير وقيل المستقدمون في صفوف الحرب وقيل المستقدمون إلى الصف الاول في صلاة الجماعة والمستأخرون خلافهم وهى اقوال ردية. قوله تعالى: " وان ربك هو يحشرهم انه حكيم عليم " الكلام مسوق للحصر أي هو يحشرهم لا غير فهو الرب. واورد عليه انه في مثل ذلك من الحصر يكون الفعل مسلم الثبوت والنزاع انما هو في الفاعل وههنا ليس كذلك فان الخصم لا يسلم الحشر من اصله هذا وقد ذهب على هذا المعترض ان الاية حولت الخطاب السابق للناس عنهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم التفاتا فقيل وان ربك هو يحشرهم ولم يقل ان ربكم هو يحشركم والنبى صلى الله عليه وآله وسلم مسلم للحشر. وبذلك يظهر نكتة الالتفات في الاية في مورده تعالى من التكلم مع الغير إلى الغيبة وفي مورد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الغيبة إلى الخطاب وفي مورد الناس بالعكس. وقد ختمت الاية بقوله انه حكيم عليم لان الحشر يتوقف على الحكمة المقتضية لحساب الاعمال ومجازاة المحسن باحسانه والمسئ باساءته وعلى العلم حتى لا يغادر منهم احد. (بحث روائي) في تفسير القمى في قوله تعالى: " ولقد جعلنا في السماء بروجا " قال قال منازل الشمس والقمر وفيه في قوله تعالى: " إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين " قال قال لم يزل الشياطين تصعد إلى السماء - وتجس حتى ولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي المعاني عن البرقى عن ابيه عن جده عن البزنطى عن ابان عن ابى عبد الله

[ 148 ]

عليه السلام قال: كان ابليس يخترق السماوات السبع فلما ولد عيسى عليه السلام حجب عن ثلاث سماوات وكان يخترق اربع سماوات فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجب عن السبع كلها ورميت الشياطين بالنجوم الحديث. وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال قال جرير بن عبد الله: حدثنى يا رسول الله عن السماء الدنيا والارض السفلى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اما السماء الدنيا فان الله خلقها من دخان ثم رفعها وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وزينها بمصابيح النجوم وجعلها رجوما للشياطين وحفظها من كل شيطان رجيم. اقول وسياتى ان شاء الله ما يتبين به معنى هذه الاحاديث. وفي تفسير القمى في قوله وجعلنا لكم فيها معايش قال لكل ضرب من الحيوان قدرنا شيئا مقدرا وفيه في رواية ابى الجارود عن ابى جعفر عليه السلام في قوله وانبتنا فيها من كل شئ موزون فان الله انبت في الجبال الذهب والفضة والجوهر والصفر والنحاس والحديد والرصاص والكحل والزرنيخ واشباه ذلك لا تباع الا وزنا. اقول ينبغى ان يحمل على بيان بعض المصاديق على ما في متنه وسنده من الوهن. وفي روضة الواعظين لابن الفارسى روى عن جعفر بن محمد عن ابيه عن جده عليهم السلام انه قال: في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البر والبحر قال وهذا تأويل قوله وان من شئ الا عندنا خزائنه الحديث. وفي المعاني باسناده عن مقاتل بن سليمان قال قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام لما صعد موسى عليه السلام الطور فنادى ربه عز وجل قال رب ارنى خزائنك قال يا موسى انما خزائني إذا اردت شيئا ان اقول له كن فيكون وفي الدر المنثور اخرج البزار وابن مردويه في العظمة عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خزائن الله الكلام فإذا اراد شيئا قال له كن فكان. اقول والروايات الثلاث الاخيرة تؤيد ما قدمناه في تقرير معنى الاية والمراد بقول كن كلمة الايجاد الذى هو وجود الاشياء وهو مما يؤيد عموم الشئ في الاية وكذا كان يفهمه الصحابة واهل عصر النزول كما يؤيده ما رواه في الدر المنثورعن ابن ابى

[ 149 ]

حاتم عن معاوية انه قال ": ألستم تعلمون ان كتاب الله حق ؟ قالوا بلى قال فاقرؤا هذه الاية: " وان من شئ الا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " ألستم تؤمنون بهذا وتعلمون انه حق ؟ قالوا بلى قال فكيف تلومونني بعد هذا ؟ فقام الاحنف وقال يا معاوية والله ما نلومك على ما في خزائن الله ولكن انما نلومك على ما انزله الله من خزائنه - فجعلته انت في خزائنك واغلقت عليه بابك فسكت معاوية وفيه اخرج ابن مردويه والحاكم عن مروان بن الحكم قال ": كان اناس يستأخرون في الصفوف من اجل النساء فأنزل الله: " ولقد علمنا المستقدمين منكم " الاية اقول وروى فيه ايضا عن عدة عن ابى الجوزاء عن ابن عباس قال ": كانت امرأة تصلى خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حسناء من احسن الناس فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الاول لئلا يراها ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت ابطيه فانزل الله ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين. والاية لا تنطبق على ما في هاتين الروايتين لا من جهة اللفظ ولا من جهة السياق الذى وقعت هي فيه وهو ظاهر. وفيه اخرج ابن ابى حاتم من طريق معتمر بن سليمان عن شعيب بن عبد الملك عن مقاتل بن سليمان ": في قوله ولقد علمنا المستقدمين منكم الاية قال بلغنا انه في القتال قال معتمر فحدثت ابى فقال لقد نزلت هذه الاية قبل ان يفرض القتال. اقول يعنى انها مكية. وفي تفسير العياشي عن جابر عن ابى جعفر عليه السلام قال: ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين قال هم المؤمنون من هذه الامة وفي تفسير البرهان عن الشيباني في نهج البيان عن الصادق جعفر بن محمد: أن المستقدمين اصحاب الحسنات والمستأخرين اصحاب السيئات * * * ولقد خلقنا الانسان من صلصال من حمأ مسنون - 26

[ 150 ]

والجان خلقناه من قبل من نار السموم - 27 واذ قال ربك للملائكة انى خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون - 28 فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين - 29 فسجد الملائكة كلهم اجمعون - 30 إلا ابليس أبى أن يكون مع الساجدين - 31 قال يا ابليس ما لك أن لا تكون مع الساجدين - 32 قال لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون - 33 قال فاخرج منها فانك رجيم - 34 وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين - 35 قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون - 36 قال فانك من المنظرين - 37 إلى يوم الوقت المعلوم - 38 قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الارض ولاغوينهم اجمعين - 39 إلا عبادك منهم المخلصين - 40 قال هذا صراط علي مستقيم - 41 إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين - 42 وإن جهنم لموعدهم اجمعين - 43 لها سبعة ابواب لكل باب منهم جزء مقسوم - 44 إن المتقين في جنات وعيون - 45 ادخلوها بسلام آمنين - 46 ونزعنا ما في صدورهم من غل اخوانا على سرر متقابلين - 47 لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين - 48

[ 151 ]

(بيان) هذه هي الطائفة الثالثة من الايات الموردة اثر ما ذكر في مفتتح السورة من استهزاء الكفار بالكتاب وبالنبى صلى الله عليه وآله وسلم واقتراحهم عليه آية اخرى غير القرآن وقد ذكر الله سبحانه في هذه الطائفة بدء خلقة الانسان والجان وامره الملائكة وابليس أن يسجدوا له وسجودهم وإباء ابليس وهو من الجن ورجمه واغواءه بنى آدم وما قضى الله سبحانه عند ذلك من سعادة المتقين وشقاء الغاوين. قوله تعالى: " ولقد خلقنا الانسان من صلصال من حماء مسنون قال الراغب في المفردات اصل الصلصال تردد الصوت من الشئ اليابس ومنه قيل صل المسمار وسمى الطين الجاف صلصالا قال تعالى من صلصال كالفخار من صلصال من حماء مسنون والصلصلة بقية ماء سميت بذلك لحكاية صوت تحركه في المزادة وقيل الصلصال المنتن من الطين من قولهم صل اللحم. وقال والحمأة والحمأ طين اسود منتن وقال وقوله من حماء مسنون قيل متغير وقوله لم يتسنه معناه لم يتغير والهاء للاستراحة انتهى. وقوله ولقد خلقنا الانسان الخ المراد به بدء خلقة الانسان بدليل قوله: " وبدأ خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين " ألم السجدة: 8 فهو اخبار عن خلقة النوع وظهوره في الارض فان خلق اول من خلق منهم ومنه خلق الباقي خلق الجميع. قال في مجمع البيان وأصل آدم كان من تراب وذلك قوله خلقه من تراب ثم جعل التراب طينا وذلك قوله وخلقته من طين ثم ترك ذلك الطين حتى تغير واسترخى وذلك قوله من حماء مسنون ثم ترك حتى جف وذلك قوله من صلصال فهذه الاقوال لا تناقض فيها إذ هي اخبار عن حالاته المختلفة انتهى. قوله تعالى والجان خلقناه من قبل من نار السموم قال الراغب السموم الريح الحارة تؤثر تأثير السم انتهى وأصل الجن الستر وهو معنى سار في جميع ما اشتق منه كالجن والمجنة والجنة والجنين والجنان بالفتح وجن عليه الليل وغير ذلك.

[ 152 ]

والجن طائفة من الموجودات مستورة بالطبع عن حواسنا ذات شعور وارادة تكرر في القرآن الكريم ذكرهم ونسب إليهم أعمال عجيبة وحركات سريعة كما في قصص سليمان عليه السلام وهم مكلفون ويعيشون ويموتون ويحشرون تدل على ذلك كله آيات كثيرة متفرقة في كلامه تعالى. واما الجان فهل هو الجن بعينه أو هو أبو الجن كما ان آدم عليه السلام أبو البشر كما عن ابن عباس أو هو ابليس نفسه كما عن الحسن أو الجان نسل ابليس من الجن أو هو نوع من الجن كما ذكره الراغب ؟ اقوال مختلفة لا دليل على اكثرها. والذى يهدى إليه التدبر في كلامه تعالى انه قابل في هاتين الايتين الانسان بالجان فجعلهما نوعين اثنين لا يخلوان عن نوع من الارتباط في خلقتهما ونظير ذلك قوله: " خلق الانسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار " الرحمان: 15. ولا يخلو سياق ما نحن فيه من الايات من دلالة على إن ابليس كان جانا وإلا لغى قوله والجان خلقناه من قبل الخ وقد قال تعالى في موضع آخر من كلامه في ابليس: " كان من الجن ففسق عن امر ربه " الكهف: 50 فأفاد إن هذا الجان المذكور هو الجن نفسه أو هو نوع من انواع الجن ثم ترك سبحانه في سائر كلامه ذكر الجان من اصله ولم يذكر الا الجن حتى في موارد يعم الكلام فيها ابليس وقبيله كقوله تعالى: " شياطين الانس والجن " الانعام: 112 وقوله وحق عليهم القول في امم قد خلت من قبلهم من الجن والانس " حم السجدة 25 وقوله: " سنفرغ لكم ايها الثقلان " إلى أن قال " يا معشر الجن والانس ان استطعتم ان تنفذوا من اقطار السماوات والارض فانفذوا " الرحمان: 33. وظاهر هذه الايات من جهة المقابلة الواقعة فيها بين الانسان والجان تارة وبين الانس والجن اخرى ان الجن والجان واحد وان اختلف التعبير. وظاهر المقابلة بين قوله ولقد خلقنا الانسان الخ وقوله: وخلقنا الجان من قبل الخ ان خلق الجان من نار السموم المراد به الخلق الابتدائي وبدء ظهور النوع كخلق الانسان من صلصال وهل كان استمرار الخلقة في افراد الجان المستتبع لبقاء النوع على سنة الخلق الاول من نار السموم بخلاف الانسان حيث بدئ

[ 153 ]

خلقه من تراب ثم استمر بالنطفة ؟ كلامه سبحانه خال عن بيانه ظاهرا غير ما في بعض كلامه من نسبة الذرية إلى ابليس كما قال: " أفتتخذونه وذريته اولياء من دوني " الكهف: 50 ونسبة الموت إليهم كما في قوله: " قد خلت من قبلهم من الجن والانس " حم السجدة: 25 والمألوف من نوع فيه ذرية وموت هو التناسل والكلام بعد في هذا التناسل هل هو بسفاد كسفاد نوع من الحيوان أو بغير ذلك ؟ وقوله خلقناه من قبل مقطوع الاضافة أي من قبل خلق الانسان والقرينة هي المقابلة بين الخلقين. وعد مبدأ خلق الجان في الاية هو نار السموم لا ينافى ما في سورة الرحمان من عده مارجا من نار أي لهيبا مختلطا بدخان فان الايتين تلخصان ان مبدأ خلقه ريح سموم اشتعلت فكانت مارج نار. فمعنى الايتين اقسم لقد بدأنا خلق النوع الانسان من طين قد جف بعد ان كان سائلا متغيرا منتنا ونوع الجان بدأنا خلقه من ريح حارة حادة اشتعلت فصارت نارا قوله تعالى: " واذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا " إلى آخر الاية قال في المفردات البشرة ظاهر الجلد والادمة باطنه كذا قال عامة الادباء إلى أن قال وعبر عن الانسان بالبشر اعتبارا بظهور جلده من الشعر بخلاف الحيوانات التى عليها الصوف أو الشعر أو الوبر واستوى في لفظ البشر الواحد والجمع وثنى فقال تعالى: " أنؤمن لبشرين " وخص في القرآن في كل موضع اعتبر من الانسان جثته وظاهره بلفظ البشر نحو وهو الذى خلق من الماء بشرا انتهى موضع الحاجة. وقوله واذ قال ربك للملائكة انى خالق بشرا باضمار فعل والتقدير واذكر إذ قال ربك وفي الكلام التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة وكأن العناية فيه مثل العناية التى مرت في قوله وان ربك هو يحشرهم فان هذه الايات ايضا تكشف عن نبأ ينتهى إلى الحشر والسعادة والشقاوة الخالدتين. على ان التكلم مع الغير في السابق ولقد خلقنا خلقناه من قبيل تكلم العظماء عنهم وعن خدمهم واعوانهم تعظيما أي باخذه تعالى ملائكته الكرام معه في

[ 154 ]

الامر وهذه العناية مما لا يستقيم في مثل المقام الذى يخاطب فيه الملائكة في اخبارهم بارادته خلق آدم عليه السلام وأمرهم بالسجود له إذا سواه ونفخ فيه من روحه فافهم ذلك ومعنى الاية ظاهر. قوله تعالى: " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " التسوية جعل الشئ مستويا قيما على امره بحيث يكون كل جزء منه على ما ينبغى أن يكون عليه فتسوية الانسان ان يكون كل عضو من اعضائه في موضع الذى ينبغى ان يكون فيه وعلى الحال التى ينبغى ان يكون عليها. ولا يبعد ان يستفاد من قوله انى خالق فإذا سويته ان خلق بدن الانسان الاول كان على سبيل التدريج الزمانى فكان اولا الخلق وهو جمع الاجزاء ثم التسوية وهو تنظيم الاجزاء ووضع كل جزء في موضعه الذى يليق به وعلى الحال التى تليق به ثم النفخ ولا ينافيه ما في قوله تعالى: " خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " آل عمران: 59 فان قوله ثم قال له الخ ناظر إلى كينونة الروح وهو النفس الانسانية دون البدن كما عبر عنه في موضع آخر بعد بيان خلق البدن بالتدريج بقوله: " ثم انشأناه خلقا آخر " المؤمنون: 14. وقوله: " ونفخت فيه من روحي " النفخ ادخال الهواء في داخل الاجسام بفم أو غيره ويكنى به عن القاء اثر أو امر غير محسوس في شئ ويعنى به في الاية ايجاده تعالى الروح الانساني بما له من الرابطة والتعلق بالبدن وليس بداخل فيه دخول الهواء في الجسم المنفوخ فيه كما يشير إليه قوله سبحانه: " ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم انشأناه خلقا آخر " المؤمنون: 14 وقوله تعالى: " قل يتوفاكم ملك الموت الذى وكل بكم " ألم السجدة: 11. فالاية الاولى كما ترى تبين ان الروح الانساني هو البدن منشأ خلقا آخر والبدن على حاله من غير ان يزاد فيه شئ والاية الثانية تبين ان الروح عند الموت مأخوذ من البدن والبدن على حاله من غير ان ينقص منه شئ. فالروح امر موجود في نفسه له نوع اتحاد بالبدن بتعلقه به وله استقلال عن البدن إذا انقطع تعلقه به وفارقه وقد تقدم بعض ما يتعلق من الكلام بهذا المقام في

[ 155 ]

تفسير قوله تعالى: " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله اموات " البقرة: 154 في الجزء الاول من الكتاب ونرجو ان نستوفي هذا البحث في ذيل قوله: " قل الروح من أمر ربي " الاية 85 من سورة اسرى ان شاء الله واضافة الروح إليه تعالى في قوله: " من روحي " للتكرمة والتشريف من الاضافة اللامية المفيدة للملك وقوله: " فقعوا له ساجدين " أي اسجدوا ولا يبعد ان يفهم منه ان خروا على الارض ساجدين له فيفيد التأكيد في الخضوع من الملائكة لهذا المخلوق الجديد كما قيل ومعنى الآية فإذا عدلت تركيبه وأتممت صنع بدنه وأوجدت الروح الكريم المنسوب الي الذي اربط بينه وبين بدنه فقعوا وخروا على الارض ساجدين له قوله تعالى: " فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا ابليس أبى أن يكون مع الساجدين " لفظة أجمعون تأكيد بعد تأكيد لتشديده والمراد أن الملائكة سجدوا له بحيث لم يبق منهم أحد وقد استثنى من ذلك ابليس ولم يكن منهم لقوله تعالى: " كان من الجن ففسق عن أمر ربه " الكهف: 50 واما قول من قال: ان طائفة من الملائكة كانوا يسمون الجن وكان ابليس منهم أو ان الجن بمعنى الستر فيعم الملائكة وغيرهم فمما لا يصغى إليه وقد تقدم في تفسير سورة الاعراف كلام في معنى شمول الامر بالسجود لابليس مع عدم كونه من الملائكة ومعنى الآيتين ظاهر قوله تعالى: " قال يا ابليس ما لم أن لا تكون مع الساجدين " ما لك مبتدأ وخبر اي ما الذي هو كائن لك ؟ وقوله: " ان لا تكون " من قبيل نزع الخافض والتقدير في ان لا تكون مع الساجدين وهم الملائكة ومحصل المعنى ما بالك لم تسجد ؟ قوله تعالى: " قال لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلصال من حماء مسنون " في التعبير بقوله لم أكن لاسجد دون ان يقول لا اسجد أو لست اسجد دلالة على ان الاباء على السجدة مقتضى ذاته وكان هو المترقب منه لو اطلع على جوهره فتفيد الاية بالكناية ما يفيده قوله في موضع آخر: " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته

[ 156 ]

من طين: ص: 76 بالتصريح. وقد تقدم كلام في معنى السجود لادم وامر الملائكة وابليس بذلك وائتمارهم وتمرده عنه نافع في هذا الباب في تفسير سورتي البقرة والاعراف من هذا الكتاب. قوله تعالى: " فاخرج منها فانك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين " الرجيم فعيل بمعنى المفعول من الرجم وهو الطرد وشاع استعماله في الطرد بالحجارة والحصاة واللعن هو الطرد والابعاد من الرحمة. ومن هنا يظهر ان قوله وان عليك اللعنة الخ بمنزلة البيان لقوله فانك رجيم فان الرجم كان سببا لخروجه من بين الملائكة من السماء أو من المنزلة الالهية وبالجملة من مقام القرب وهو مستوى الرحمة الخاصة الالهية فينطبق على الابعاد من الرحمة وهو اللعن وقد نسب سبحانه هذه اللعنة المجعولة على ابليس في موضع آخر إلى نفسه فقال: " وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين " ص: 58 وقيدها في الايتين جميعا بقوله إلى يوم الدين. اما جعل مطلق اللعنة عليه في قوله عليك اللعنة فلان اللعن يلحق المعصية وما من معصية إلا ولابليس فيه صنع بالاغواء والوسوسة فهو الاصل الذى يرجع إليه كل معصية وما يلحقها من لعن حتى في عين ما يعود إلى اشخاص العصاة من اللعن والوبال وتذكر في ذلك ما تقدم في ذيل قوله تعالى: " ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه فيجعله في جهنم " الانفال: 37 في الجزء التاسع من الكتاب. على انه لعنه الله اول فاتح فتح باب معصية الله وعصاه في امره فإليه يعود وبال هذا الطريق بسالكيه ما سلكوا فيه. واما جعل لعنته خاصة عليه في قوله عليك لعنتي فلان الابعاد من الرحمة بالحقيقة انما يؤثر اثره إذا كان منه تعالى إذ لا يملك احد من رحمته اعطاء ومنعا الا باذنه فإليه يعود حقيقة الاعطاء والمنع. على ان اللعن من غيره تعالى بالحقيقة دعاء عليه بالابعاد من الرحمة واما نفس

[ 157 ]

الابعاد الذى هو نتيجة ادعاء فهو من صنعه القائم به تعالى وحقيقته المبالغة في منع الرحمة. وقال في المجمع وقال بعض المحققين انما قال سبحانه هنا وان عليك اللعنة بالالف واللام وقال في سورة ص لعنتي بالاضافة لان هناك يقول لما خلقت بيدى مضافا فقال وان عليك لعنتي على المطابقة وقال هنا ما لك الا تكون مع الساجدين وساق الاية على اللام في قوله ولقد خلقنا الانسان وقوله والجان فاتى باللام ايضا في قوله وان عليك اللعنة انتهى وقال ايضا في الاية بيان انه لا يؤمن قط. واما تقييد اللعنة بقوله إلى يوم الدين فلان اللعنة هي عنوان الاثم والوبال العائد إلى النفس من المعصية والمعصية محدودة بيوم القيامة فاليوم عمل ولا جزاء وغدا جزاء ولا عمل وان شئت فقل هذه الدار دار كتابة الاعمال وحفظها ويوم القيامة دار الحساب والجزاء. واما قول القائل ان تحديد اللعن بيوم الدين دليل على كونه مغيا به مرفوعا فيه وفيما بعده فمما يدفعه ظاهر الايات المبينة للعذاب يوم القيامة. ويؤيد ذلك التعبير في الاية عن يوم القيامة بيوم الدين المشعر بأنه ملعون قبل يوم القيامة ومجزى به فيه ولو انقطع العذاب بقيام الساعة لكان اليوم يوم انقطاع الدين لا يوم الدين. وربما قيل في دفع اشكال الغاية ان ذلك ابعد غاية يضربها الخلائق فهو كقوله خالدين فيها ما دامت السماوات والارض الاية وهو كما ترى وقد عرفت معنى الاية المقيس عليها في تفسير سورة هود. وربما قيل ان المراد باللعنة في الاية لعن الخلائق وذلك منقطع بمجئ يوم الدين دون لعنه تعالى وابعاده له من رحمته فانه متصل إلى الابد. وكأن هذا القائل ذهب عليه قوله تعالى في سورة ص: " وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين الاية: 78. قوله تعالى: " قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون " الانظار هو الامهال وقد صدر كلامه بقوله رب وهو يخاصمه وقد عصاه واستكبر عليه تعالى لانه في مقام

[ 158 ]

الدعاء لا مفر له من دعوته تعالى بما يثير به الرحمة الالهية المطلقة وهو الالتجاء إليه بربوبيته له ليستجيب له وهو مغضوب عليه. وقد صدر مسألته بفاء التفريع في قوله فانظرني وذكر فيه بعثة عامة البشر من غير أن يخص بالذكر آدم اباهم الذى ابتلى بالرجم واللعن من اجل الاباء عن السجود له وذلك كله مبنى على ما تقدم في تفسير آيات القصة في سورة الاعراف ان المأمور به كان هو السجود لعامة البشر وكان آدم عليه السلام كالقبلة المنصوبة للسجود يمثل به النوع الانساني. وتوضيحه انه قد تقدم في قوله تعالى: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا الا ابليس " الاعراف 11 إنهم انما أمروا بالسجدة لنوع الانسان لا لشخص آدم عليه السلام ولم يكن هذه السجدة تشريفا اجتماعيا من غير غاية حقيقية بل كانت خضوعا بحسب الخلقة فهم بحسب ما اريد من خلقتهم خاضعون للانسان بحسب ما اريد من كمال خلقته أي إنهم مسخرون لاجله عاملون في سبيل سعادة حياته أي ان للانسان منزلة من القرب ومرحلة من كمال السعادة تفوق ما للملائكة من ذلك. فسجودهم جميعا له دليل انهم جميعا مسخرون في سبيل كماله من السعادة عاملون لاجل فوزه وفلاحه كملائكة الحياة وملائكة الموت وملائكة الارزاق وملائكة الوحى والمعقبات والحفظة والكتبة وغيرهم ممن تذكرهم متفرقات الايات القرآنية فالملائكة اسباب الهية واعوان للانسان في سبيل سعادته وكما له ومن هنا يظهر للمتدبر الفطن إن إباء ابليس عن السجدة استنكاف منه عن الخضوع لنوع الانسان والعمل في سبيل سعادته واعانته على كماله المطلوب على خلاف ما ظهر من الملائكة فهو بإبائه عن السجدة خرج من جمع الملائكة كما يفيده قوله تعالى: " ما لك أن لا تكون مع الساجدين " واظهر الخصومة لنوع الانسان والبراءة منهم ما حيوا وعاشوا أو خالدا مؤبدا. ويؤيده جعله تعالى اللعنة المطلقة عليه من يوم أبى إلى يوم الدين وهو مدة مكث النوع الانساني في هذه الدنيا فجعلها عليه كذلك ولما يدع ابليس انه سيغويهم ولم يقل

[ 159 ]

بعد لاغوينهم اجمعين مشعر بأن اباءه عن السجدة نوع خصومة وعداوة منه لهذا النوع آخذا من آدم إلى آخر من سيولد ويعيش من ذريته. فكأنه عليه اللعنة فهم من قوله تعالى: " وان عليك اللعنة إلى يوم الدين ان له شأنا مع النوع الانساني إلى يوم القيامة وان لشقائهم وفساد اعمالهم ارتباطا به من حيث امتنع عن السجود ولذلك سأل النظرة إلى يوم يبعثون مفرعا ذلك على اللعنة المجعولة عليه فقال رب فانظرني إلى يوم يبعثون ولم يقل رب انظرني إلى يوم يبعثون ولم يقل انظرني إلى يوم يموت آدم أو انظرني ما دام حيا يعيش بل ذكر آدم وبنيه جميعا وطلب النظرة إلى يوم يبعثون مفرعا ذلك على اللعنة إلى يوم الدين فلما اجيب إلى ما سأل ابدى ما في كمون ذاته وقال لاغوينهم اجمعين. قوله تعالى: " قال فانك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم جواب منه سبحانه لابليس وفيه اجابة ورد اما الاجابة فبالنسبة إلى اصل الانظار الذى سأله واما الرد فبالنسبة إلى القيد وهو ان يكون الانظار إلى يوم يبعثون فان من الواضح اللائح بالنظر إلى سياق الايتين ان يوم وقت المعلوم غير يوم يبعثون فلم يسمح له بانظاره إلى يوم يبعثون بل إلى يوم هو غيره ولا محالة هو قبل يوم البعث. وبذلك يظهر فساد قول من قال انه لعنه الله اجيب إلى ما سال واليومان في الايتين واحد ومن الدليل عليه قوله في سورة الاعراف في القصة: " قال انك من المنظرين " الاية: 15 من غير أن يقيد بشئ. اما فساد دعواه اتحاد اليومين في الايتين فقد ظهر مما تقدم واما فساد الاستدلال باطلاق آية الاعراف فلانها تتقيد بما في هذه السورة وسورة ص من التقييد بقوله إلى يوم الوقت المعلوم وهذا كثير شائع في كلامه تعالى والقرآن يشهد بعضه على بعض وينطق بعضه ببعض. وظاهر يوم الوقت المعلوم انه وقت تعين في العلم الالهى نظير قوله: " وما ننزله إلا بقدر معلوم " الحجر: 21 وقوله: " اولئك لهم رزق معلوم " الصافات: 41 فهو معلوم عند الله قطعا واما انه معلوم لابليس أو مجهول عنده فغير معلوم من اللفظ وقول بعضهم انه سبحانه ابهم اليوم ولم يبين فهو معلوم لله غير معلوم لابليس لان في

[ 160 ]

بيانه اغراء بالمعصية كلام خال عن الدليل فابهام اللفظ بالنسبة الينا غير ابهام ما القى إلى ابليس من القول بالنسبة إليه على ان اغراء ابليس بالمعصية وهو الاصل لكل معصية مفروضة لا يخلو عن اشكال فافهمه. على ان قول ابليس ثانيا لاغوينهم اجمعين شاهد على انه سيبقى إلى آخر ما يعيش الانسان في الدنيا ممن يمكنه اغواؤه فقد كان فهم من قوله تعالى إلى يوم الوقت المعلوم انه آخر عمر البشر العائشين في الارض الجائز له اغواؤهم. ونسب إلى ابن عباس ومال إليه الجمهور إن اليوم هو آخر ايام التكليف وهو النفخة الاولى يوم يموت الخلائق وكأنه مبنى على إن ابليس باق ما بقى التكليف وامكنت المخالفة والمعصية وهو مدة عمر الانسان في الدنيا وينتهى ذلك إلى النفخة الاولى التى بها يموت الخلائق فهو يوم الوقت المعلوم الذى انظره الله إليه وبينه وبين النفخة الثانية التى فيها يبعثون اربعمائة سنة أو اربعون سنة على اختلاف الروايات وهى ما به التفاوت بين ما سأله ابليس وبين ما اجاب إليه الله سبحانه. وهذاوجه حسن لو لا ما فيه من قولهم ان ابليس باق ما بقى التكليف وامكنت المخالفة والمعصية فانها مقدمة لا بينة ولا مبينة وذلك ان تعويل القوم في ذلك على االمستفاد من الايات والاخبار كون كل كفر وفسوق موجود في النوع الانساني مستندا إلى اغواء ابليس ووسوسته كما يدل عليه امثال قوله تعالى: " ألم أعهد اليكم يا بنى آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين " يس: 60 وقوله: " وقال الشيطان لما قضى الامر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فاخلفتكم " الخ إلى غير ذلك من الايات ومقتضاها أن يدوم وجود ابليس ما دام التكليف باقيا والتكليف باق ما بقى الانسان وهو المطلوب. وفيه ان كون المعصية الانسانية مستندة بالجملة إلى اغواء ابليس مستفادة من الايات والروايات لا غبار عليه لكنه انما يقتضى بقاء ابليس ما دامت المعصية والغواية باقية لا بقائه ما دام التكليف باقيا ولا دليل على الملازمة بين المعصية والتكليف وجودا. بل الحجة قائمة من العقل والنقل على إن غاية الانسان النوعية وهى السعادة ستعم النوع ويتخلص المجتمع الانساني إلى الخير والصلاح ولا يعبد على الارض يومئذ الا

[ 161 ]

الله سبحانه وينطوى وقتئذ بساط الكفر والفسوق ويصفو العيش ويرتفع امراض القلوب ووساوس الصدور وقد تقدم تفصيل ذلك في مباحث النبوة في الجزء الثاني وفي قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب قال تعالى: " ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت ايدى الناس ليذيقهم بعض الذى عملوا لعلهم يرجعون " الروم: 41 وقال: " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ان الارض يرثها عبادي الصالحون " الانبياء: 105. ومن ذلك يظهر ان الذى استندوا إليه من الحجة انما يدل على كون يوم الوقت المعلوم الذى جعله الله غاية انظار ابليس هو يوم يصلح الله سبحانه المجتمع الانساني فينقطع دابر الفساد ولا يعبد يومئذ الا الله لا يوم يموت الخلائق بالنفخة الاولى. قوله تعالى: " قال رب بما اغويتني لازينن لهم في الارض ولاغوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين " الباء في قوله بما اغويتني للسببية وما مصدرية أي اتسبب باغوائك اياى إلى التزيين لهم والقى إليهم ما استقر في من الغواية كما قالوا يوم القيامة على ما حكى الله: " اغويناهم كما غوينا " القصص: 63. وقول بعضهم ان الباء للقسم أي اقسم باغوائك لازينن من اردء القول فلم يعهد في كتاب ولا سنة أن يقسم بمثل الاغواء والاضلال وليس فيه شئ مفهوم من التعظيم اللازم في القسم. وقد نسب لعنه الله في قوله بما اغويتني إلى الله سبحانه انه اغواه ولم يرده الله سبحانه إليه ولا اجاب عنه وليس مراده به غوايته إذ عصى امر السجدة ولم يسجد لادم عليه السلام والدليل على ذلك ان لا رابطة بين معصيته في نفسه وبين معصية الانسان لربه حتى يكون معصيته سبب معصيتهم ويتسبب هو بها إلى اغوائهم. وانما يريد به ما يفيده قوله تعالى: " وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين من استقرار اللعنة المطلقة فيه وهى الابعاد من الرحمة والاضلال عن طريق السعادة وهى اغواء له اثر الغواية التى ابداها من نفسه واتى بها من عنده فيكون من اضلاله تعالى مجازاة لا اضلالا ابتدائيا وهو جائز غير ممتنع عليه تعالى ولذلك لم يرده كما قال تعالى: " يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضل به الا الفاسقين " البقرة: 26 وقد بينا

[ 162 ]

ذلك في ذيل الاية ومواضع اخرى من هذا الكتاب. وعند هذا يستقيم معنى السببية اعني اغواؤه الناس بسبب الاغواء الذى مسه واستقر فيه فان البعد من الرحمة والبون من السعادة لما كان لازما لنفسه بلزوم اللعنة الالهية له كان كلما اقترب من قلب انسان بالوسوسة والتسويل أو استولى على نفس من النفوس وهو بعيد من الرحمة والسعادة اوجب ذلك بعد من اقترب منه أو تسلط عليه وهو اغواؤه بالقاء اثر الغواية التى عنده إليه وهو ظاهر. هذا ما يعطيه التدبر في الاية ومحصله إن المراد بالاغواء ليس هو الاضلال الابتدائي بل الاضلال على سبيل المجازاة الذى يدل عليه قوله وان عليك لعنتي الاية. واما القوم فكالمسلم عندهم ان قوله بما اغويتني لو كان بمعناه الظاهر وهو الاضلال لكان هو الاضلال الابتدائي وكان ناظرا إلى ابائه وامتناعه عن السجدة ولذا استشكلوا الاية واختلفوا في تفسير الاغواء على اختلاف مذاهبهم في استناد الشر إليه تعالى وصدوره منه جوازا وامتناعا. فقال بعضهم وهم اهل الجبر إن اسناد الاغواء إليه تعالى بلا انكار منه لذلك يدل على ان الشر كالخير من الله تعالى والمعنى رب بما اضللتنى بالامتناع عن السجدة فهو منك اقسم لاضلنهم اجمعين. وقال آخرون وهم غيرهم انه لا يجوز استناد الشر والمعصية وكل قبيح إليه تعالى ووجهوا الاية بوجوه. احدها ان الاغواء في الاية بمعنى التخييب والمعنى رب بما خيبتنى من رحمتك لاخيبنهم بالدعوة إلى معصيتك. الثاني ان المراد بالاغواء الاضلال عن طريق الجنة والمعنى بما اضللتنى عن طريق جنتك لما صدر منى من معصيتك لاضلنهم بالدعوة. الثالث ان المراد بقوله بما اغويتني بما كلفتني امرا ضللت عنده بالمعصية وهو السجود فسمى ذلك اضلالا منه له توسعا وانت بالتأمل فيما قدمناه تعرف ان الاية في غنى عن هذا البحث وما ابدئ فيه من الوجوه.

[ 163 ]

ونظير هذا البحث بحثهم عن الانظار الواقع في قوله انك من المنظرين من جهة انه مفض إلى الاغواء القبيح وترجيح للمرجوح على الراجح. فقال المجوزون ان الاية تدل على ان الحسن والقبح اللذين يعلل بهما العقل افعالنا لا تأثير لهما في افعاله تعالى فله ان يثيب من يشاء ويعذب من يشاء من غير جهة مرجحة حتى مع رجحان الخلاف قالوا ومن زعم ان حكيما يحصر قوما في دار ويرسل فيها النار العظيمة والافاعي القاتلة الكثيرة ولم يرد اذى احد من اولئك القوم بالاحراق واللسع فقد خرج عن الفطرة الانسانية فاذن من حكم الفطرة إن الله تعالى اراد بانظار ابليس اضلال بعض الناس. والمانعون يوجهون الانظار بانه تعالى كان يعلم من ابليس واتباعه انهم يموتون على الكفر والفسوق ويصيرون إلى النار انظر ابليس أو لم ينظر على انه تعالى تدارك تأييده ذلك بمزيد ثواب المؤمنين المتقين على انه يقول ولاغوينهم ولو كان الاغواء من الله لا نكره عليه إلى غير ذلك مما اوردوه من الوجوه وليت شعرى ما الذى اغفلهم عن آيات الامتحان والابتلاء على كثرتها كقوله تعالى: " ليميز الله الخبيث من الطيب " الانفال: 37 وقوله: " وليبتلى الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم " آل عمران: 154 وغيرهما من الايات الدالة على إن نظام السعادة والشقاء والثواب والعقاب مبنى على اساس الامتحان والابتلاء والانسان واقع بين الخير والشر والسعادة والشقاء له ما يختاره من العمل بنتائجه. فلو لا ان يكون هناك داع إلى الخير وهم الملائكة الكرام وان شئت فقل هو الله وداع إلى الشر وهم ابليس وقبيله لم يكن للامتحان معنى قال تعالى: " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا " البقرة: 268. ولئن ايد الله ابليس على الانسان بالانظار إلى يوم الوقت المعلوم فقد ايده عليه بالملائكة الباقين ببقاء الدنيا ولم يقل سبحانه له انك منظر بل قال انك من المنظرين فاثبت منظرين غيره وجعله بعضهم. ولئن ايده بالتمكين بتزيين الباطل من الكفر والفسوق للانسان ايد الانسان بأن هداه إلى الحق وزين الايمان في قلبه وفطره على التوحيد وعرفه الفجور

[ 164 ]

والتقوى وجعل له نورا يمشى به في الناس ان آمن بربه إلى غير ذلك من الايادي قال: " قل الله يهدى للحق " يونس: 35 وقال: " ولكن الله حبب اليكم الايمان وزينه في قلوبكم " الحجرات: 7 وقال: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها " الروم: 30 وقال: " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها " الشمس: 8 وقال: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس " الانعام: 122 وقال: " انا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد " المؤمن: 51 والتكلم بالغير مشعر بوساطة الملائكة. فالانسان خلق هو في نفسه اعزل ليس معه شئ من السعادة والشقاء بحسب بدء خلقته واقف في ملتقى سبيلين سبيل الخير والطاعة وهو سبيل الملائكة ليس لهم الا الطاعة وسبيل الشر والمعصية وهو سبيل ابليس وجنوده وليس معهم إلا المخالفة والمعصية فإلى أي السبيلين مال في مسير حياته وقع فيه ورافقه اصحابه وزينوا له ما عندهم وهدوه إلى ما ينتهى إليه سبيلهم وهو الجنة أو النار والسعادة أو الشقاء. فقد بان مما تقدم ان انظار ابليس إلى يوم الوقت المعلوم ليس من تقديم المرجوح على الراجح ولا ابطالا لقانون العلية بل ليتيسر به وبما يقابله من بقاء الملائكة ما هو الواجب من امر الامتحان والابتلاء فلا محل للاستشكال. وقوله لازينن لهم في الارض أي لازينن لهم الباطل أو لازينن لهم المعاصي على ما قيل والمعنى الاول اجمع والمفعول محذوف على أي حال والظاهر ان المفعول معرض عنه والفعل مستعمل استعمال اللازم والغرض بيان اصل التزيين كناية عن الغرور يقال زين له كذا وكذا أي حمله عليه غرورا وضمير هم لآدم وذريته على ما يدل عليه السياق والمراد بالتزيين لهم في الارض غرورهم في هذه الحياة الارضية وهى الحياة الدنيا وهو السبب القريب للاغواء فيكون عطف قوله ولاغوينهم اجمعين عليه من عطف المسبب على السبب المترتب عليه. والاية تشعر بل تدل على ما قدمناه في تفسير آيات جنة آدم في الجزء الاول من الكتاب ان معصية آدم بالاكل من الشجرة المنهية عن وسوسة ابليس لم تكن معصية لامر مولوى بل مخالفة لامر ارشادى لا يوجب نقضا في عصمته فانه يعرف الارض في

[ 165 ]

الاية ظرفا لتزيينه واغوائه فما كان غروره لادم وزوجته في الجنة إلا ليخرجهما منها وينزلهما إلى الارض فيتناسلا فيها فيغويهما وبنيهما عن الحق ويضلهم عن الصراط قال تعالى: " يا بنى آدم لا يفتننكم الشيطان كما اخرج ابويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما " الاعراف: 27. وقوله إلا عبادك منهم المخلصين استثنى من عموم الاغواء طائفة خاصة من البشر وهم المخلصون بفتح اللام على القراءة المشهورة والسياق يشهد انهم الذين اخلصوا لله وما أخلصهم الا الله سبحانه وقد قدمنا في الكلام على الاخلاص في تفسير سورة يوسف إن المخلصين هم الذين اخلصهم الله لنفسه بعد ما اخلصوا انفسهم لله فليس لغيره سبحانه فيهم شركة ولا في قلوبهم محل فلا يشتغلون بغيره تعالى فما ألقاه إليهم الشيطان من حبائله وتزييناته عاد ذكرا لله مقربا إليه. ومن هنا يترجح ان الاستثناء انما هو من الاغواء فقط لا منه ومن التزيين بمعنى انه لعنه الله يزين للكل لكن لا يغوى إلا غير المخلصين. ويستفاد من استثناء العباد اولا ثم تفسيره بالمخلصين ان حق العبودية انما هو بأن يخلص الله العبد لنفسه أي ان لا يملكه إلا هو ويرجع إلى ان لا يرى الانسان لنفسه ملكا وانه لا يملك نفسه ولا شيئا من صفات نفسه وآثارها واعمالها وان الملك بكسر الميم وضمها لله وحده. وقوله تعالى: " قال هذا صراط على مستقيم " ظاهر الكلام على ما يعطيه السياق انه كناية على ان الامر إليه تعالى لا غنى فيه عنه بوجه كما ان كون طريق السفينة على البحر يقضى على راكبيها بأن لا مفر لهم مما يستدعيه العبور على الماء من العدة والوسيلة وكذا كون طريق القافلة على الجبل يحوجهم إلى ما يتهيأ به لعبور قلله الشاهقة ومسالكه الصعبة فكونه صراطا عليه تعالى بالاستقامة هو انه امر متوقف من كل جهة إلى حكمه وقضائه تعالى فانه الله الذى منه يبدأ كل شئ واليه ينتهى فلا يتحقق امر إلا وهو ربه القيوم عليه. وظاهر السياق ايضا ان الاشارة بقوله هذا صراط الخ إلى قول ابليس " لاغوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين " لما اظهر بقوله هذا انه سينتقم منهم

[ 166 ]

ويبسط سلطته بالتزيين والاغواء عليهم جميعا فلا يخلص منهم الا القليل كأنه يشير إلى انه سيستقل بما عزم عليه ويعلو بارادته على الله سبحانه فيما اراد من خلقهم واستخلافهم واستعبادهم كما حكاه الله تعالى من قوله في موضع آخر من قوله: " ولا تجد اكثرهم شاكرين " الاعراف: 17. فمعنى الاية ان ما ذكرت من انك ستغويهم اجمعين واستثنيت منهم من استثنيت واظهرت نسبته إلى قوتك ومشيئتك زاعما فيه انك مستقل به امر لا يملكه الا انا ولا يحكم فيه غيرى ولا يصدر الا عن قضائه فان اغويت فباذنى اغويت وان منعت فبمشيئتى منعت فليس اليك من الامر شئ ولا من الملك الا ما ملكتك ولا من القدرة إلا ما اقدرتك والذى اقضيه لك من السلطان ان عبادي ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك الخ. قوله تعالى: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين " هذا هو القضاء الذى اشار سبحانه إليه في الاية السابقة في امر الاغواء وذكر انه له وحده ليس لغيره فيه صنع ولا نصيب. ومحصله ان آدم وبنيه كلهم عباده لا كما قاله ابليس حيث قصر عباده على المخلصين منهم إذ قال إلا عبادك منهم المخلصين ولم يجعل سبحانه له عليهم أي على العباد سلطانا حتى يستقل بأمرهم فيغويهم وانما جعل له السلطان على طائفة منهم وهم الذين اتبعوه من الغاوين وولوه امرهم والقوا إليه زمام تدبيرهم فهؤلاء هم الذين له عليهم سلطان. فإذا امعنت في الاية وجدتها ترد على ابليس قوله لاغوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين من ثلاث جهات اصلية احداها انه حصر عباده في المخلصين منهم ونفى عنهم سلطان نفسه وعمم سلطانه على الباقين والله سبحانه عمم عباده على الجميع وقصر سلطان ابليس على طائفة منهم وهم الذين اتبعوه من الغاوين ونفى سلطانه على الباقين. والثانية انه لعنه الله ادعى لنفسه الاستقلال في اغوائهم كما يظهر من قوله لاغوينهم في سياق المخاصمة والتقريع بالانتقام والله سبحانه يرد عليه بانه منه مزعمة

[ 167 ]

باطلة وانما هو عن قضاء من الله وسلطان بتسليطه وانما ملكه اغواء من اتبعه وكان غاويا في نفسه وبسوء اختياره فلم يأت ابليس بشئ من نفسه ولم يفسد امرا على ربه لا في اغوائه اهل الغواية فانه بقضاء من الله سبحانه ان يستقر لاهل الغواية غيهم بسببه وقد اعترف لعنه الله بذلك بعض الاعتراف بقوله رب بما اغويتني ولا في استثنائه المخلصين فانه ايضا بقضاء من الله نافذ فلا حكم الا لله. وهذا الذى تفيده الاية الكريمة اعني تسليط ابليس على اغواء الغاوين الذين هم في انفسهم غاوون وتخليص المخلصين وهم مخلصون في انفسهم من كيده كل ذلك بقضاء من الله مبنى على اصل عظيم يفيده التوحيد القرآني المفاد بامثال قوله تعالى: " إن الحكم الا لله " يوسف: 67 وقوله: " وهو الله لا اله الا هو له الحمد في الاولى والاخرة وله الحكم " القصص: 70 وقوله: " الحق من ربك " آل عمران: 60 وقوله: " ويحق الله الحق بكلماته " يونس: 82 وغير ذلك من الايات الدالة على إن كل حكم ايجابي أو سلبى فهو مملوك لله نافذ بقضائه. ومن هنا يظهر ما في تفسيرهم قوله الا من اتبعك من الغاوين من المسامحة فانهم قالوا انه إذا قبل من ابليس واتبعه صار له سلطان عليه بعدوله عن الهدى إلى ما يدعوه إليه من الغى وظاهره انه سلطان قهرى يحصل لابليس عن سوء اختيارهم ليس من عند نفسه ولا بجعل من الله سبحانه. وجه الفساد ان فيه اخذ الاستقلال والحول الذاتي من ابليس واعطاؤه ذوات الاشياء ولو كان ابليس لا يملك شيئا من عند نفسه وبغير اذن ربه فالاشياء والامور ايضا لا تملك لنفسها شيئا ولا حكما حتى الضروريات ولوازم الذوات الا باذن من الله وتمليك فافهمه. والثالثة إن سلطانه على اغواء من يغويه وان كان بجعل وتسليط من الله سبحانه إلا انه ليس بتسليط على الاغواء والاضلال الابتدائي غير الجائز اسناده إلى ساحته سبحانه بل تسليط على الاغواء بنحو المجازاة المسبوق بغوايتهم من عندهم وفي انفسهم. والدليل على ذلك قوله تعالى: " الا من اتبعك من الغاوين " فابليس انما يغوى

[ 168 ]

من اتبعه بغوايته أي ان الانسان يتبعه بغوايته اولا فيغويه هو ثانيا فهناك غواية بعدها اغواء والغواية اجرام من الانسان والاغواء بسبب ابليس مجازاة من الله سبحانه. ولو كان هذا الاغواء اغواء ابتدائيا من ابليس لمن لا يستحق ذلك لكان هو الاليق باللوم دون الانسان كما يذكره يوم القيامة على ما يحكيه سبحانه بقوله: " وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلوموني ولوموا انفسكم " ابراهيم: 22 فاللوم على الانسان المجرم وهو مسؤول عن معصيته دون ابليس. نعم ابليس ملوم على ما يتلبس به من الفعل بسوء اختياره وهو الاغواء الذى سلطه الله عليه مجازاة لما امتنع من السجود لادم لما امر به فالاغواء هو الذى استقرت ولايته عليه كما يشير سبحانه إليه في موضع آخر من كلامه إذ يقول: " إنا جعلنا الشياطين اولياء للذين لا يؤمنون " الاعراف: 27 وقال تعالى وهو اوضح ما يؤيد جميع ما قدمناه: " كتب عليه انه من تولاه فانه يضله ويهديه إلى عذاب السعير " الحج: 4. وقد تحصل مما تقدم ان المراد بقوله عبادي عامة الانسان وان الاستثناء في قوله من اتبعك متصل لا منقطع وان من في قوله من الغاوين بيانية وان الكلام مبنى على رد قول ابليس وان الاية مشتملة على قضاءين من الله سبحانه في عقدى المستثنى والمستثنى منه وغير ذلك. ومن ذلك يظهر عدم استقامة قول بعضهم ان المراد بعبادي هم الذين استثناهم ابليس وعبر عنهم بقوله عبادك منهم فيكون الاستثناء منقطعا والكلام مسوقا لتقرير قول ابليس ان له سلطانا على من يغويه وان المخلصين لا سبيل له إليهم والمعنى إن المخلصين لا سلطان لك عليهم لكنك مسلط على من اتبعك من الغاوين. وانت تعلم بالتأمل فيما تقدم ان هذا هدم لاساس السياق وما يعطيه مقام المخاصمة وتحق نسبته إلى ساحة العزة والكبرياء وتنزيل خطابه تعالى منزلة لا يفيد معها اكثر من تغيير صورة كلام ابليس مع حفظ معناه تقريرا أو اعترافا فهو يقول سأغويهم إلا المخلصين والله سبحانه يقول لا تغوى المخلصين لكن تغوى غيرهم. وربما فسر بعضهم قوله عبادي بجميع البشر واخذ مع ذلك الاستثناء

[ 169 ]

منقطعا ولعل ذلك بالبناء على عدم جواز استثناء اكثر الافراد فلا يقال له علي مائة الا تسعة وتسعون مثلا ومن المعلوم ان الغاوين من الناس اكثر من المخلصين بما لا يقاس. وفيه ان ذلك انما هو فيما كان النظر في الاستثناء إلى صريح العدد واما إذا كان المنظور إليه هو النوع أو الصنف بعنوانه فلا بأس بزيادة عدد الافراد وللانسان عدة اصناف المخلصون ومن دونهم من المؤمنين والمستضعفون والذين اتبعوا ابليس من الغاوين وقد استثنى الصنف الاخير في الاية بعنوانه وبقى الباقون وهم اصناف. ومنهم من جعل الاستثناء منقطعا حذرا من ثبوت سلطان ابليس حتى على الغاوين زعما منه انه ينافى اطلاق السلطنة الالهية أو عدله تعالى ومعنى الاية على هذا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان لكن من اتبعك من الغاوين القى اليك زمام نفسه وجعل لك على نفسه سلطانا وليس ذلك من نفسك حتى تعجز الله في خلقه ولا من الله حتى ينافى عدله تعالى وفيه ان له سلطانا على الغاوين لا من نفسه بل بجعل من الله ولا ينافى ذلك عدله في خلقه فانه تسليط مجازاة لا تسليط ابتدائى ولا منافاة بين كون السلطان بقضاء منه تعالى وكونه باتباع الغاوين له باختيارهم فكل ذلك مما قد تبين فيما قدمناه. على ان قوله تعالى فيه: " كتب عليه انه من تولاه فانه يضله " الحج: 4 وقوله: " إنا جعلنا الشياطين اولياء للذين لا يؤمنون " الاعراف: 27 يدلان صريحا على ثبوت سلطانه وانه بجعل من الله سبحانه وقضاء. قوله تعالى: " وان جهنم لموعدهم اجمعين " الظاهر ان موعد اسم مكان والمراد بكون جهنم موعدهم كونه محل انجاز ما وعدهم الله من العذاب. وهذا منه سبحانه تأكيد لثبوت قدرته ورجوع الامر كله إليه كأنه تعالى يقول له ما ذكرته من السلطان على الغاوين ليس لك من نفسك ولم تعجزنا بل نحن سلطناك عليهم لاتباعهم لك على إنا سنجازيهم بعذاب جهنم. ولكون الكلام مسوقا لبيان حالهم اقتصر على ذكر جزائهم ولم يذكر معهم ابليس ولا جزاءه بخلاف قوله: " لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم اجمعين " ص: 85 وقوله: " فان جهنم جزاؤكم جزاء موفورا " اسرى: 63 لان المقام غير المقام.

[ 170 ]

قوله تعالى: " لها سبعة ابواب لكل باب منهم جزء مقسوم " لم يبين سبحانه في شئ من صريح كلامه ما هو المراد بهذه الابواب أهى كأبواب الحيطان مداخل تهدى الجميع إلى عرصة واحدة أم هي طبقات ودركات تختلف في نوع العذاب وشدته ؟ وكثيرا ما يسمى في الامور المختلفة الانواع كل نوع بابا كما يقال ابواب الخير وابواب الشر وابواب الرحمة قال تعالى: " فتحنا عليهم ابواب كل شئ " الانعام: 44 وربما سمى اسباب الشئ وطرق الوصول إليه ابوابا كأبواب الرزق لانواع المكاسب والمعاملات. وليس من البعيد ان يستفاد المعنى الثاني من متفرقات آيات النار كقوله تعالى: " وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤها فتحت ابوابها " إلى ان قال: " قيل ادخلوا ابواب جهنم خالدين فيها " الزمر: 72 وقوله: " إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار " النساء 145 إلى غير ذلك من الايات. ويؤيده قوله لكل باب منهم جزء مقسوم فان ظاهره ان نفس الجزء مقسوم موزع على الباب وهذا انما يلائم الباب بمعنى الطبقة دون الباب بمعنى المدخل واما تفسير بعضهم الجزء المقسوم بالفريق المعين المفروز من غيره فوهنه ظاهر. وعلى هذا فكون جهنم لها سبعة ابواب هو كون العذاب المعد فيها متنوعا إلى سبعة انواع ثم انقسام كل نوع اقساما حسب انقسام الجزء الداخل الماكث فيه وذلك يستدعى انقسام المعاصي الموجبة للدخول فيها سبعة اقسام وكذا انقسام الطرق المؤدية والاسباب الداعية إلى تلك المعاصي ذاك الانقسام وبذلك يتأيد ما ورد من الروايات في هذه المعاني كما سيوافيك ان شاء الله. قوله تعالى: " ان المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين " أي انهم مستقرون في جنات وعيون يقال لهم ادخلوها بسلام لا يوصف ولا يكتنه نعته في حال كونكم آمنين من كل شر وضر. لما ذكر سبحانه قضاءه فيمن اتبع ابليس من الغاوين ذكر ما قضى به في حق المتقين من الجنة وقد ورد تفسير التقوى في كلامه صلى الله عليه وآله وسلم بالورع عن محارم الله وقد تكرر في كلامه تعالى بشراهم بالجنة فيكون المتقون اعم من المخلصين.

[ 171 ]

وما قيل انه لا شبهة في ان السياق يدل على ان المتقين هم المخلصون السابق ذكرهم وان المطلق يحمل على الفرد الكامل. فيه ان ذلك مبنى على كون المراد بالعباد في قوله ان عبادي ليس لك عليهم سلطان هم المخلصين حتى يختص السياق بالكلام فيهم وقد تقدم ان المراد بالعباد عامة افراد الانسان خرج منه الغاوون بالاستثناء وبقى الباقون وقد ذكر سبحانه قضاءه في الغاوين بالنار وهو ذا يذكر قضاءه في غيرهم ممن اوجب له الجنة والامر في المستضعفين مرجأ وفي العصاة من اهل الكبائر الذين يموتون بغير توبة منوط بالشفاعة فيبقى اهل التقوى من المؤمنين وهم اعم من المخلصين فقضى فيهم بالجنة. واما حديث حمل المطلق على الفرد الكامل فهو خطأ وانما يحمل على الفرد المتعارف وتفصيل المسألة في فن الاصول. وذكر الامام الرازي في تفسيره ان المراد بالمتقين في الاية الذين اتقوا الشرك ونقله عن جمهور الصحابة والتابعين واسنده إلى الخبر. قال وهذا هو الحق الصحيح والذى يدل عليه ان المتقى هو الاتى بالتقوى مرة واحدة كما ان الضارب هو الاتى بالضرب مرة فليس من شرط صدق الوصف بكونه متقيا كونه آتيا بجميع انواع التقوى والذى يقرر ذلك إن الاتى بفرد واحد من افراد التقوى يكون آتيا بالتقوى فان الفرد مشتمل على الماهية بالضرورة وكل آت بالتقوى يجب ان يكون متقيا فالاتى بفرد يجب كونه متقيا ولهذا قالوا ظاهر الامر لا يفيد التكرار فظاهر الاية يقتضى حصول الجنات والعيون لكل من اتقى عن ذنب واحد الا ان الامة مجمعة على ان التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم. وايضا هذه الاية وردت عقيب قول ابليس: " إلا عبادك منهم المخلصين " عقيب قوله تعالى: " ان عبادي ليس لك عليهم سلطان فلذا اعتبر الايمان في هذا الحكم فوجب ان لا يزاد فيه قيد آخر لان تخصيص العام لما كان خلاف الظاهر فكلما كان التخصيص اقل كان اوفق بمقتضى الاصل والظاهر. فثبت ان الحكم المذكور يتناول جميع القائلين لا اله الا الله محمد رسول الله ولو

[ 172 ]

كانوا من اهل المعصية وهذا تقرير بين وكلام ظاهر انتهى. ومقتضى كلامه شمول الاية لمن اتقى الشرك ولو اقترف جميع الكبائر الموبقة التى نص الكتاب العزيز باستحقاق النار باتيانها وترك جميع الواجبات التى نص على تركها بمثله والمستأنس بكلامه تعالى المتدبر في آياته لا يرتاب في ان القرآن لا يسمى مثل هذا متقيا ولا يعده من المتقين وقد اكثر القرآن ذكر المتقين وبشرهم بالجنة بشارة صريحة فيما يقرب من عشرين موضعا وصفهم في كثير منها باجتناب المحارم وبذلك فسر التقوى في الحديث كما تقدم. ثم ان مجرد صحة اطلاق الوصف امر والتسمية امر آخر فلا يسمى بالمؤمنين والمحسنين والقانتين والمخلصين والصابرين وخاصة في الاوصاف التى تحتمل البقاء والاستمرار الا من استقر فيه الوصف ولو صح ما ذكره في المتقين لجرى مثل ذلك في الظالمين والفاسقين والمفسدين والمجرمين والغاوين والضالين وقد اوعدهم الله النار وادى ذلك إلى تدافع عجيب واختلال في كلامه تعالى ولو قيل ان هناك ما يصرف هذه الايات ان تشمل المرة والمرتين كايات التوبة والشفاعة ونظائرها فهناك ما يصرف هذه الاية ان تشمل المتقى بالمرة والمرتين وهى نفس آيات الوعيد على الكبائر الموبقة كآيات الزنا والقتل ظلما والربا واكل مال اليتيم واشباهها. ثم الذى ذكره في تقريب الدلالة وجوه واهية كقوله ان هذه الاية وقعت عقيب قول ابليس الخ فانك قد عرفت فيما تقدم ان ذلك لا ينفعه شيئا وكقوله ان زيادة قيد آخر بعد الايمان خلاف الاصل الخ فان الاصل انما يركن إليه عند عدم الدليل اللفظى وقد عرفت ان هناك آيات جمة صالحة للتقييد. وكقوله ان ذلك خلاف الظاهر وكأنه يريد به ظهور المطلق في الاطلاق وقد ذهب عليه ان ظهور المطلق انما هو حجة فيما إذا لم يكن هناك ما يصلح للتقييد. فالحق ان الاية انما تشمل الذين استقرت فيهم ملكة التقوى وهو الورع عن محارم الله فاولئك هم المقضى عليهم بالسعادة والجنة قضاء لازما نعم المستفاد من الكتاب والسنة إن اهل التوحيد وهم من حضر الموقف بشهادة ان لا اله الا الله لا يخلدون في النار ويدخلون الجنة لا محالة وهذا غير دلالة آية المتقين على ذلك.

[ 173 ]

قوله تعالى ونزعنا ما في صدورهم من غل اخوانا على سرر متقابلين إلى آخر الايتين الغل الحقد وقيل هو ما في الصدر من حقد وحسد مما يبعث الانسان إلى اضرار الغير والسرر جمع سرير والنصب هو التعب والعى الوارد من خارج. يصف تعالى في الايتين حال المتقين في سعادتهم بدخول الجنة اختص بالذكر هذه الامور من بين نعم الجنة على كثرتها فان العناية باقتضاء من المقام متعلقة ببيان انهم في سلام وامن مما ابتلى به الغاوون من بطلان السعادة وذهاب السيادة والكرامة فذكر انهم في امن من قبل انفسهم لان الله نزع ما في صدورهم من غل فلا يهم الواحد منهم بصاحبه سوء بل هم اخوان على سرر متقابلين ولتقابلهم معنى سيأتي في البحث الروائي ان شاء الله تعالى وانهم في امن من ناحية الاسباب والعوامل الخارجة فلا يمسهم نصب اصلا وانهم في امن وسلام من ناحية ربهم فما هم من الجنة بمخرجين ابدا فلهم السعادة والكرامة من كل جهة ولا يغشاهم ولا يمسهم شقاء ووهن من جهة اصلا لا من ناحية انفسهم ولا من ناحية سائر ما خلق الله ولا من ناحية ربهم. (كلام) الاقضية التى صدرت عن مصدر العزة في بدء خلقة الانسان على ما وقع في كلامه سبحانه عشرة الاول والثانى قوله لابليس: " فاخرج منها فانك رجيم وان عليك اللعنة إلى يوم الدين " الحجر: 35 ويمكن ارجاعهما إلى واحد. الثالث قوله سبحانه له: " فانك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم " الحجر - 38. الرابع والخامس والسادس قوله له: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين وان جهنم لموعدهم اجمعين " الحجر: 43. السابع والثامن قوله سبحانه لادم ومن معه: " اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين " البقرة: 36. التاسع والعاشر قوله لهم اهبطوا منها جميعا فاما يأتينكم منى هدى فمن تبع

[ 174 ]

هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا اولئك اصحاب النار هم فيها خالدون " البقرة 39. وهناك اقضية فرعية مترتبة على هذه الاقضية الاصلية يعثر عليها المتدبر الباحث. (بحث روائي) في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السلام قال: سألته عن قول الله ونفخت فيه من روحي الاية قال روح خلقها الله فنفخ في آدم منها وفيه عن ابى بصير عن ابى عبد الله عليه السلام: في قوله فإذا سويته ونفخت فيه من روحي قال خلق خلقا وخلق روحا ثم امر الملك فنفخ فيه وليست بالتى نقصت من الله شيئاهى من قدرته تبارك وتعالى وفيه وفي رواية سماعة عنه عليه السلام: خلق آدم ونفخ فيه وسألته عن الروح قال هي قدرته من الملكوت. اقول أي هي قدرته الفعلية منبعثة عن قدرته الذاتية صادرة منها كما يدل عليه الخبر السابق. وفي المعاني باسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت ابا جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل ونفخت فيه من روحي قال روح اختاره واصطفاه وخلقه واضافه إلى نفسه وفضله على جميع الارواح فأمر فنفخ منه في آدم وفي الكافي باسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت ابا جعفر عليه السلام عما يروون إن الله خلق آدم على صورته فقال هي على صورة مخلوقة محدثة اصطفاها الله واختارها على سائر الصور المختلفة فاضافها إلى نفسه كما اضاف الكعبة إلى نفسه فقال بيتى ونفخت فيه من روحي. اقول وهذه الروايات من غرر الروايات في معنى الروح تتضمن معارف جمة وسنوضح معناها عند الكلام في حقيقة الروح ان شاء الله. وفي تفسير البرهان عن ابن بابويه باسناده عن ابى عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: " انك لمن المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم يوم ينفخ في الصور نفخة واحدة فيموت

[ 175 ]

ابليس ما بين النفخة الاولى والثانية وفي تفسير العياشي عن وهب بن جميع وفي تفسير البرهان عن شرف الدين النجفي بحذف الاسناد عن وهب واللفظ للثاني عن ابى عبد الله عليه السلام قال: سألته عن ابليس وقوله رب فانظرني إلى يوم يبعثون قال فانك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم - أي يوم هو ؟ قال يا وهب أتحسب انه يوم يبعث الله فيه الناس ولكن الله عز وجل انظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا - فيأخذ بناصيته ويضرب عنقه فذلك اليوم هو الوقت المعلوم وفي تفسير القمى باسناده عن محمد بن يونس عن رجل عن ابى عبد الله عليه السلام في قول الله تبارك وتعالى فانظرني إلى قوله إلى يوم الوقت المعلوم قال يوم الوقت المعلوم يذبحه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الصخرة التى في بيت المقدس. اقول وهو من اخبار الرجعة وفي معناه ومعنى الرواية السابقة عليه اخبار اخرى من طرق اهل البيت عليهم السلام ومن الممكن ان تكون الرواية الاولى من هذه الثلاث الاخيرة صادرة على وجه التقية ويمكن ان توجه الروايات الثلاث من غير تناف بينها بما تقدم في الكلام على الرجعة في الجزء الاول من الكتاب وغيره ان الروايات الواردة من طرق اهل البيت عليهم السلام في تفسير غالب آيات القيامة تفسرها بظهور المهدى عليه السلام تارة وبالرجعة تارة وبالقيامة اخرى لكون هذه الايام الثلاثة مشتركة في ظهور الحقائق وان كانت مختلفة من حيث الشدة والضعف فحكم احدها جار في الاخرين فافهم ذلك. وفي تفسير العياشي عن جابر عن ابى جعفر عليه السلام قال: قلت أرايت قول الله ان عبادي ليس لك عليهم سلطان ؟ ما تفسير هذا ؟ قال قال الله انك لا تملك ان تدخلهم جنة ولا نارا وفي تفسير القمى ": في قوله تعالى لها سبعة ابواب الاية قال قال يدخل في كل باب اهل مذهب وللجنة ثمانية ابواب وفي الدر المنثور اخرج احمد في الزهد عن خطاب بن عبد الله قال قال على: أتدرون كيف ابواب جهنم ؟ قلنا كنحو هذه الابواب قال لا - ولكنها هكذا

[ 176 ]

ووضع يده فوق يده وبسط يده على يده وفيه اخرج ابن المبارك وهناد وابن ابى شيبة وعبد بن حميد واحمد في الزهد وابن ابى الدنيا في صفة النار وابن جرير وابن ابى حاتم والبيهقي في البعث من طرق عن على قال: ابواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض فيملا الاول ثم الثاني ثم الثالث حتى يملا كلها وفيه اخرج ابن مردويه والخطيب في تاريخه عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى لكل باب منهم جزء مقسوم قال جزء اشركوا بالله وجزء شكوا في الله وجزء غفلوا عن الله. اقول هو تعداد اجزاء الابواب دون نفسها والظاهر ان الكلام غير مسوق للحصر. وفيه اخرج ابن مردويه عن ابى ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لجهنم باب لا يدخل منه الا من اخفرنى في اهل بيتى وأراق دماءهم من بعدى. اقول يقال خفره أي غدر به ونقض عهده. وفيه اخرج احمد وابن حبان والطبري وابن مردويه والبيهقي في البعث عن عتبة ابن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: للجنة ثمانية ابواب وللنار سبعة ابواب وبعضها افضل من بعض. اقول والروايات كما ترى تؤيد من قدمناه. وفي تفسير القمى ": في قوله تعالى ونزعنا ما في صدورهم من غل الاية قال قال العداوة وفي تفسير البرهان عن الحافظ ابى نعيم عن رجاله عن ابى هريرة قال قال على ابن ابى طالب: يا رسول الله ايما انا احب اليك ام فاطمة ؟ قال فاطمة احب إلي منك وانت اعز علي منها وكأني بك وانت على حوضى تذود عنه الناس وان عليه اباريق عدد نجوم السماء - وانت والحسن والحسين وحمزة وجعفر في الجنة اخوانا على سرر متقابلين وانت معى وشيعتك ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اخوانا على سرر متقابلين لا ينظر احدكم في قفاء صاحبه

[ 177 ]

وفيه عن ابن المغازلى في المناقب يرفعه إلى زيد بن ارقم قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال إنى مواخ بينكم كما آخى الله بين الملائكة ثم قال لعلى أنت اخى ثم تلا هذه الاية: " اخوانا على سرر متقابلين الاخلاء في الله ينظر بعضهم إلى بعض " اقول ورواه ايضا عن احمد في مسنده مرفوعا إلى زيد بن اوفى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والرواية مبسوطة. وفي الروايتين تفسير قوله تعالى على سرر متقابلين بقوله لا ينظر احدهم في قفاء صاحبه وقوله الاخلاء في الله ينظر بعضهم إلى بعض وفيه اشارة إلى ان التقابل في الاية كناية عن عدم تتبع احدهم عورات اخوانه وزلاتهم كما يفعل ذلك من في صدره غل وهو معنى لطيف. وما قرأه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الاية انما هو من باب الجرى والانطباق لا ان الاية نازلة في اهل البيت عليهم السلام فسياق الايات لا يلائمه البتة. ونظيرها ما روى عن على عليه السلام: إن الاية نزلت فينا اهل بدر وفي رواية اخرى عنه عليه السلام: انها نزلت في ابى بكر وعمر وفي رواية اخرى عن على بن الحسين عليه السلام: انها نزلت في ابى بكر وعمر وعلى وفي رواية اخرى ": انها نزلت في على والزبير وطلحة وفي رواية اخرى ": انها نزلت في على وعثمان وطلحة والزبير وفي رواية اخرى عن ابن عباس ": انها نزلت في عشرة ابى بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود. والروايات على ما بها من الاختلاف تطبيقات من الرواة والاية تأبى بسياقها عن أن تكون نازلة في بعض المذكورين كيف ؟ وهى في جملة آيات تقص ما قضاه الله وحكم به يوم خلق آدم وامر الملائكة وابليس بالسجود له فأبى ابليس فرجمه ثم قضى ما قضى ولا تعلق لذلك باشخاص بخصوصيتهم هذا * * * نبئ عبادي إنى أنا الغفور الرحيم - 49 وإن عذابي هو العذاب

[ 178 ]

الاليم - 50 ونبئهم عن ضيف ابراهيم - 51 إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون - 52 قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم - 53 قال أبشرتموني على أن مسنى الكبر فبم تبشرون - 54 قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين - 55 قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون - 56 قال فما خطبكم ايها المرسلون - 57 قالوا إنا ارسلنا إلى قوم مجرمين - 58 إلا آل لوط إنا لمنجوهم اجمعين - 59 الا امراته قدرنا انها لمن الغابرين - 60 فلما جاء آل لوط المرسلون - 61 قال انكم قوم منكرون - 62 قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون - 63 واتيناك بالحق وانا لصادقون - 64 فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع ادبارهم ولا يلتفت منكم احد وامضوا حيث تؤمرون - 65 وقضينا إليه ذلك الامر ان دابر هؤلاء مقطوع مصبحين - 66 وجاء اهل المدينة يستبشرون - 67 قال ان هؤلاء ضيفي فلا تفضحون - 68 واتقوا الله ولا تخزون - 69 قالوا أو لم ننهك عن العالمين - 70 قال هؤلاء بناتى إن كنتم فاعلين - 71 لعمرك انهم لفى سكرتهم يعمهون - 72 فاخذتهم الصيحة مشرقين - 73 فجعلنا عاليها سافلها وامطرنا عليهم حجارة من سجيل - 74 إن

[ 179 ]

في ذلك لايات للمتوسمين - 75 وانها لبسبيل مقيم - 76 ان في ذلك لاية للمؤمنين - 77 وان كان اصحاب الايكة لظالمين - 78 فانتقمنا منهم وانهما لبإمام مبين - 79 ولقد كذب اصحاب الحجر المرسلين - 80 وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين - 81 وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين - 82 فأخذتهم الصيحة مصبحين - 83 فما اغنى عنهم ما كانوا يكسبون - 84 (بيان) بعد ما تكلم سبحانه حول استهزائهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وما انزل إليه من الكتاب واقتراحهم عليه ان ياتيهم بالملائكه وهم ليسوا بمؤمنين وان سمح لهم باوضح الايات اتى سبحانه في هذه الايات ببيان جامع في التبشير والانذار وهو ما في قوله نبئ عبادي إلى آخر الايتين ثم اوضحه وايده بقصة جامعة للجهتين متضمنة للامرين معا وهى قصة ضيف ابراهيم وفيها بشرى ابراهيم بما لا مطمع فيه عادة وعذاب قوم لوط بأشد انواع العذاب. ثم ايده تعالى باشارة اجمالية إلى تعذيب اصحاب الايكة وهم قوم شعيب واصحاب الحجر وهم ثمود قوم صالح عليه السلام. قوله تعالى: " نبئ عبادي انى انا الغفور الرحيم وان عذابي هو العذاب الاليم " المراد بقوله عبادي على ما يفيده سياق الايات مطلق العباد ولا يعبؤ بما ذكره بعضهم ان المراد بهم المتقون السابق ذكرهم أو المخلصون. وتاكيد الجملتين بالاسمية وان وضمير الفصل واللام في الخبر يدل على ان الصفات المذكورة فيها اعني المغفرة والرحمة والم العذاب بالغة في معناها النهاية بحيث لا تقدر بقدر ولا يقاس بها غيرها فما من مغفرة أو رحمة الا ويمكن ان يفرض لها مانع يمنع

[ 180 ]

من ارسالها أو مقدر يقدرها ويحدها لكنه سبحانه يحكم لا معقب لحكمه ولا مانع يقاومه فلا يمنع عن انجاز مغفرته ورحمته شئ ولا يحدهما امر الا أن يشاء ذلك هو عز وجل فليس لاحد ان ييأس من مغفرته أو يقنط من روحه ورحمته استنادا إلى مانع يمنع أو رادع يردع الا أن يخافه تعالى نفسه كما قال: " لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور الرحيم وانيبوا إلى ربكم " الزمر - 54. وليس لاحد ان يحقر عذابه أو يؤمل عجزه أو يأمن مكره والله غالب على امره ولا يأمن مكر الله الا القوم الخاسرون قوله تعالى ونبئهم عن ضيف ابراهيم الضيف معروف ويطلق على المفرد والجمع وربما يجمع على اضياف وضيوف وضيفان لكن الافصح كما قيل ان لا يثنى ولا يجمع لكونه مصدرا في الاصل. والمراد بالضيف الملائكة المكرمون الذين ارسلوا لبشارة ابراهيم بالولد ولهلاك قوم لوط سماهم ضيفا لانهم دخلوا عليه في صورة الضيف. قوله تعالى: " إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال انا منكم وجلون قالوا لا توجل انا نبشرك بغلام عليم ضمير الجمع في دخلوا وقالوا في الموضعين للملائكة فقولهم سلاما تحية وتقديره نسلم عليك سلاما وقول ابراهيم عليه السلام انا منكم وجلون أي خائفون والوجل الخوف. وانما قال لهم ابراهيم ذلك بعد ما استقر بهم المجلس وقدم إليهم عجلا حنيذا فلم يأكلوا منه فلما رأى ايديهم لا تصل إليه نكرهم واوجس منهم خيفة كما في سورة هود فالقصة مذكورة على نحو التلخيص. وقولهم لا توجل تسكين لوجله وتأمين له وتطييب لنفسه بانهم رسل ربه وقد دخلوا عليه ليبشروه بغلام عليم أي بولد يكون غلاما وعليما ولعل المراد كونه عليما بتعليم الله ووحيه فيقرب من قوله في موضع " آخر فبشرناه باسحاق نبيا " الصافات: 112. قوله تعالى: " قال أبشرتموني على ان مسنى الكبر فبم تبشرون " تلقى ابراهيم عليه السلام البشرى وهو شيخ كبير هرم لا عقب له من زوجه وقد ايأسته العادة الجارية

[ 181 ]

عن الولد وان كان يجل ان يقنط من رحمه الله ونفوذ قدرته ولذا تعجب من قولهم واستفهمهم كيف يبشرونه بالولد وحاله هذه الحال وزوجه عجوز عقيم كما وقع في موضع آخر من كلامه تعالى. فقوله ا بشرتموني على ان مسنى الكبر الكبر كنايه عن الشيخوخه ومسه هو نيله منه ما نال بافناء شبابه واذهاب قواه والمعنى انى لا تعجب من بشارتكم اياى والحال انى شيخ هرم فنى شبابى و فقدت قوى بدنى والعاده تستدعى ان لا يولد لمن هذا شانه ولد. وقوله فبم تبشرون تفريع على قوله مسنى الكبر وهو استفهام عما بشروه به كانه يشك في كون بشارتهم بشرى بالولد مع تصريحهم بذلك لا استبعاد ذلك فيسأل ما هو الذى تبشرون به فان الذى يدل عليه ظاهر كلامكم امر عجيب وهذا شائع في الكلام يقول الرجل إذا اخبر بما يستبعده أو لا يصدقه ما تقول ؟ وما تريد ؟ وماذا تصنع ؟ قوله تعالى: " قالوا بشرناك بالحق إلى قوله الا الضالون " الباء في بالحق للمصاحبة أي ان بشارتنا ملازمة للحق غير منفكة منه فلا تدفعها بالاستبعاد فتكون من القانطين من رحمة الله وهذا جواب للملائكة وقد قابلهم ابراهيم عليه السلام على نحو التكنية فقال ومن يقنط من رحمة ربه الا الضالون والاستفهام انكاري أي ان القنوط من رحمة الله مما يختص بالضالين ولست انا بضال فليس سؤالي سؤال قانط مستبعد. قوله تعالى: " قال فما خطبكم ايها المرسلون " الخطب الامر الجليل والشأن العظيم وفي خطابهم بالمرسلين دلالة على انهم ذكروا له ذلك قبلا ومعنى الاية ظاهر. قوله تعالى: " قالوا إنا ارسلنا إلى قوم مجرمين " إلى قوله لمن الغابرين قال في المفردات الغابر الماكث بعد مضى من هو معه قال تعالى: " إلا عجوزا في الغابرين " يعنى فيمن طال اعمارهم وقيل فيمن بقى ولم يسر مع لوط وقيل فيمن بقى بعد في العذاب وفي آخر إلا امرأتك كانت من الغابرين وفي آخر قدرنا انها لمن الغابرين إلى ان قال والغبار ما يبقى من التراب المثار وجعل على بناء

[ 182 ]

الدخان والعثار ونحوهما من البقايا انتهى ولعله من هنا ما ربما يسمى الماضي والمستقبل معا غابرا اما الماضي فبعناية انه بقى فيما مضى ولم يتعد إلى الزمان الحاضر واما المستقبل فبعناية انه باق لم يفن بعد كالماضي. والايات جواب الملائكة لسؤال ابراهيم قالوا انا ارسلنا من عند الله سبحانه إلى قوم مجرمين نكروهم ولم يسموهم صونا للسان عن التصريح باسمهم تنفرا منه ومستقبل الكلام يعينهم ثم استثنوا وقالوا الا آل لوط وهم لوط وخاصته وظهر به ان القوم قومه انا لمنجوهم أي مخلصوهم من العذاب اجمعين وظاهر السياق كون الاستثناء منقطعا ثم استثنوا امرأة لوط من آله للدلالة على إن النجاة لا تشملها وإن العذاب سيأخذها ويهلكها فقالوا: " إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين " اي الباقين من القوم بعد خروج آل لوط من قريتهم وقد تقدم تفصيل القول في ضيف ابراهيم عليه السلام في سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب وعقدنا هناك بحثا مستقلا فيه قوله تعالى: " فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون " إنما قال لهم لوط عليه السلام ذلك لكونهم ظاهرين بصور غلمان مرد حسان وكان يشقه ما يراه منهم وشأن قومه شأنهم من الفحشاء كما تقدم في سورة هود والمعنى ظاهر قوله تعالى: " قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتيناك بالحق وإنا لصادقون " الامتراء من المرية وهو الشك والمراد بما كانوا فيه يمترون العذاب الذي كان ينذرهم به لوط وهو يشكون فيه والمراد باتيانهم بالحق اتيانهم بقضاء حق في أمر القوم لا معدل عنه كما وقع في موضع آخر من قولهم: " وانهم آتيهم عذاب غير مردود " هود: 76 وقيل: المراد وأتيناك بالعذاب الذي لا شك فيه وما ذكرناه هو الوجه وفى آيات القصة تقديم وتأخير لا بمعنى اختلال ترتيبها بحسب النزول عند التأليف بوضع ما هو مؤخر في موضع المقدم وبالعكس بل بمعنى ذكره تعالى بعض اجزاء القصة في غير محله الذي يقتضيه الترتيب الطبعي وتعينه له سنة الاقتصاص لنكتة توجب ذلك

[ 183 ]

وترتيب القصة بحسب اجزائها على ما ذكرها الله سبحانه في سورة هود وغيرها والاعتبار يساعد ذلك مقتضاه أن يكون قوله: " فلما جاء آل لوط " إلى تمام آيتين قبل سائر الايات ثم قوله وجاء اهل المدينة إلى تمام ست آيات ثم قوله قالوا بل جئناك إلى تمام اربع آيات ثم قوله فأخذتهم الصيحة مشرقين إلى آخر الايات. وحقيقة هذا التقديم والتأخير ان للقصة فصولا اربعة وقد اخذ الفصل الثالث منها فوضع بين الاول والثانى اعني ان قوله وجاء اهل المدينة إلى آخره أخر في الذكر ليتصل آخره وهو قوله لعمرك انهم لفى سكرتهم يعمهون بأول الفصل الاخير فأخذتهم الصيحة مشرقين وذلك ليتمثل به الغرض في الاستشهاد بالقصة وينجلى اوضح الانجلاء وهو نزول عذاب هائل كعذابهم في حال سكرة منهم وأمن منه لا يخطر ببالهم شئ من ذلك وذلك ابلغ في الدهشة وأوقع في الحسرة يزيد في العذاب الما على الم. ونظير هذا في التلويح بهذه النكتة ما في آخر قصة اصحاب الحجر الاتية من اتصال قوله وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين بقوله فأخذتهم الصيحة مصبحين كل ذلك ليجلى معنى قوله تعالى في صدر المقال وان عذابي هو العذاب الاليم فافهم ذلك. قوله تعالى: " فأسر بأهلك بقطع من الليل " إلى آخر الاية الاسراء هو السير بالليل فقوله بقطع من الليل يؤكده وقطع الليل شطر مقطوع منه والمراد باتباعه ادبارهم هو ان يسير وراءهم فلا يترك احدا يتخلف عن السير ويحملهم على السير الحثيث كما يشعر به قوله ولا يلتفت منكم احد. والمعنى واذ جئناك بعذاب غير مردود وامر من الله ماض يجب عليك ان تسير بأهلك ليلا وتأخذ انت وراءهم لئلا يتخلفوا عن السير ولا يساهلوا فيه ولا يلتفت احد منكم إلى ورائه وامضوا حيث تؤمرون وفيه دلالة على انه كانت امامهم هداية الهية تهديهم وقائد يقودهم. قوله تعالى وقضينا إليه ذلك الامر إن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين القضاء

[ 184 ]

مضمن معنى الوحى ولذا عدى بإلى كما قيل والمراد بالامر امر العذاب كما يفسره قوله إن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين والاشارة إليه بلفظة ذلك للدلالة على عظم خطره وهول امره. والمعنى وقضينا امرنا العظيم في عذابهم موحيا ذلك إلى لوط وهو إن دابر هؤلاء واثرهم الذى من شأنه ان يبقى بعدهم من نسل وبناء وعمل مقطوع حال كونهم مصبحين أو التقدير اوحينا إليه قاضيا الخ. قوله تعالى: " وجاء اهل المدينة يستبشرون إلى قوله ان كنتم فاعلين " يدل نسبة المجئ إلى اهل المدينة على كونهم جماعة عظيمة يصح عدهم اهل المدينة لكثرتهم. فالمعنى وجاء إلى لوط اهل المدينة جمع كثير منهم يريدون اضيافه وهم يستبشرون لولعهم بالفحشاء وخاصة بالداخلين في بلادهم من خارج فاستقبلهم لوط مدافعا عن اضيافه قال ان هؤلاء ضيفي فلا تفضحون بالعمل الشنيع بهم واتقوا الله ولا تخزون قالوا المهاجمون من اهل المدينة ألم نقطع عذرك في ايوائهم أو لم ننهك عن العالمين ان تؤويهم وتشفع فيهم وتدافع عنهم فلما يئس لوط عليه السلام منهم عرض عليهم بناته ان ينصرفوا عن اضيافه بنكاحهن كما تقدم بيانه في سورة هود قال ان هؤلاء بناتى ان كنتم فاعلين. قوله تعالى: " لعمرك انهم لفى سكرتهم يعمهون " إلى قوله من سجيل " قال في المفردات العمارة ضد الخراب قال والعمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة فهو دون البقاء فإذا قيل طال عمره فمعناه عمارة بدنه بروحه وإذا قيل بقاؤه فليس يقتضى ذلك فان البقاء ضد الفناء ولفضل البقاء على العمر وصف الله به وقلما وصف بالعمر قال والعمر بالضم والعمر بالفتح واحد لكن خص القسم بالعمر بالفتح دون العمر بالضم نحو لعمرك انهم لفى سكرتهم انتهى. والخطاب في لعمرك للنبى صلى الله عليه وآله وسلم فهو قسم ببقائه وقول بعضهم انه خطاب من الملائكة للوط عليه السلام وقسم بعمره لا دليل عليه من سياق الايات. والعمه هو التردد على حيرة والسجيل حجارة العذاب وقد تقدم تفصيل القول في معناه في تفسير سورة هود.

[ 185 ]

والمعنى اقسم بحياتك وبقائك يا محمد انهم لفى سكرتهم وهى غفلتهم بانغمارهم في الفحشاء والمنكر يترددون متحيرين فاخذتهم الصيحة وهى الصوت الهائل مشرقين أي حال كونهم داخلين في اشراق الصبح فجعلنا عالى بلادهم سافلها وفوقها تحتها وامطرنا وانزلنا من السماء عليهم حجارة من سجيل. قوله تعالى: " إن في ذلك لايات للمتوسمين " إلى قوله للمؤمنين الاية العلامة والمراد بالايات اولا العلامات الدالة على وقوع الحادثة من بقايا الاثار وبالاية ثانيا العلامة الدالة للمؤمنين على حقية الانذار والدعوة الالهية والتوسم التفرس والانتقال من سيماء الاشياء على حقيقة حالها. والمعنى ان في ذلك أي فيما جرى من الامر على قوم لوط وفي بلادهم لعلامات من بقايا الاثار للمتفرسين وان تلك العلامات لبسبيل للعابرين مقيم لم تعف ولم تنمح بالكلية بعد ان في ذلك لاية للمؤمنين تدل على حقية الانذار والدعوة وقد تبين بذلك وجه ايراد الايات جمعا ومفردا في الموضعين قوله تعالى: " وان كان اصحاب الايكة لظالمين - فانتقمنا منهم وانهما لبإمام مبين " الايكة واحدة الايك وهو الشجر الملتف بعضه ببعض فقد كانوا كما قيل في غيضة أي بقعة كثيفة الاشجار. وهؤلاء كما ذكروا هم قوم شعيب عليه السلام أو طائفة من قومه كانوا يسكنون الغيضة ويؤيده قوله تعالى ذيلا وانهما لبامام مبين أي مكانا قوم لوط واصحاب الايكة لفى طريق واضح فان الذى على طريق المدينة إلى الشام هي بلاد قوم لوط وقوم شعيب الخربة اهلكهم الله بكفرهم وتكذيبهم لدعوة شعيب عليه السلام وقد تقدمت قصتهم في سورة هود وقوله فانتقمنا منهم الضمير لاصحاب الايكة وقيل لهم ولقوم لوط ومعنى الايتين ظاهر. قوله تعالى: " ولقد كذب اصحاب الحجر المرسلين إلى قوله ما كانوا يكسبون " اصحاب الحجر هم ثمود قوم صالح والحجر اسم بلدة كانوا يسكنونها وعدهم مكذبين لجميع المرسلين وهم انما كذبوا صالحا المرسل إليهم انما هو لكون دعوة الرسل دعوة واحدة والمكذب لواحد منهم مكذب للجميع.

[ 186 ]

وقوله وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين ان كان المراد بالايات المعجزات والخوارق كما هو الظاهر فالمراد بها الناقة وشربها وما ظهر لهم بعد عقرها إلى ان أهلكوا وقد تقدمت القصة في سورة هود وان كان المراد بها المعارف الالهية التى بلغها صالح عليه السلام ونشرها فيهم أو المجموع من المعارف الحقة والاية المعجزة فالامر واضح. وقوله وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين أي كانوا يسكنون الغيران والكهوف المنحوتة من الحجارة آمنين من الحوادث الارضية والسماوية بزعمهم. وقوله فاخذتهم الصيحة مصبحين أي صيحة العذاب التى كان فيها هلاكهم وقد تقدمت الاشارة إلى مناسبة اجتماع الامن مع الصيحة في الايتين لقوله في صدر الايات وان عذابي هو العذاب الاليم. وقوله فما اغنى عنهم ما كانوا يكسبون أي من الاعمال لتأمين سعادتهم في الحياة. (بحث روائي) في الدر المنثور اخرج ابن المنذر وابن ابى حاتم عن مصعب بن ثابت قال: مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ناس من اصحابه يضحكون قال اذكروا الجنة واذكروا النار فنزلت " نبئ عبادي انى أنا الغفور الرحيم ". اقول وفي معناه روايات اخر لكن في انطباق معنى الاية على ما ذكر فيها من السبب خفاء. وفيه اخرج أبو نعيم في الحلية عن جعفر بن محمد في قوله ان في ذلك لايات للمتوسمين قال هم المتفرسون. وفيه اخرج البخاري في تاريخه والترمذي وابن جرير وابن ابى حاتم وابن السنى وابو نعيم معا في الطب وابن مردويه والخطيب عن ابى سعيد الخدرى قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله ثم قرأ ان في ذلك لايات للمتوسمين قال المتفرسين

[ 187 ]

وفي اختصاص المفيد باسناده عن ابى بكر بن محمد الحضرمي عن ابى جعفر عليه السلام قال قال: ما من مخلوق الا وبين عينيه مكتوب مؤمن أو كافر وذلك محجوب عنكم وليس بمحجوب عن الائمة من آل محمد ثم ليس يدخل عليهم احد إلا عرفوه مؤمنا أو كافرا ثم تلا هذه الاية إن في ذلك لايات للمتوسمين فهم المتوسمون. اقول والروايات في هذا المعنى متظافرة متكاثرة وليس معناها نزول الاية فيهم عليهم السلام وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن مدين واصحاب الايكة أمتان بعث الله اليهما شعيبا. اقول وقد اوردنا ما يجب ايراده من الروايات في قصة بشرى ابراهيم وقصص لوط وشعيب وصالح عليهم السلام في تفسير سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب واكتفينا بذلك عن ايرادها ههنا فليرجع إلى هناك * * * وما خلقنا السموات والارض وما بينهما الا بالحق وان الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل - 85 ان ربك هو الخلاق العليم - 86 ولقد آتيناك سبعا من المثانى والقرآن العظيم - 87 لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به ازواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين - 88 وقل إنى أنا النذير المبين - 89 كما انزلنا على المقتسمين - 90 الذين جعلوا القرآن عضين - 91 فو ربك لنسألنهم اجمعين - 92 عما كانوا يعملون - 93 فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين - 94 إنا كفيناك المستهزئين - 95

[ 188 ]

الذين يجعلون مع الله الها آخرفسوف يعلمون - 96 ولقد نعلم انك يضيق صدرك بما يقولون - 97 فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين - 98 واعبد ربك حتى يأتيك اليقين - 99 (بيان) في الايات تخلص إلى غرض البيان السابق وهو امر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصدع بما يؤمر وياخذ بالصفح والاعراض عن المشركين ولا يحزن عليهم ولا يضيق صدره بما يقولون فان من القضاء الحق ان يجازى الناس باعمالهم في الدنيا والاخرة وخاصة يوم القيامة الذى لا ريب فيه وهو اليوم الذى لا يغادر احدا ولا يدع مثقال ذرة من الخير والشر الا الحقه بعامله فلا ينبغى أن يؤسف لكفر كافر فان الله عليم به سيجازيه ولا يحزن عليه فان الاشتغال بالله سبحانه اهم وأوجب. ولقد كرر سبحانه امره بالصفح والاعراض عن اولئك المستهزئين به وهم الذين مر ذكرهم في مفتتح السورة والاشتغال بتسبيحه وتحميده وعبادته واخبره انه كفاه شرهم فليشتغل بما امره الله به وبذلك تختتم السورة. قوله تعالى: " وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما الا بالحق وان الساعة لآتية الباء في قوله بالحق للمصاحبة أي ان خلقها جميعا لا ينفك عن الحق ويلازمه فللخلق غاية سيرجع إليها قال تعالى: " إن إلى ربك الرجعى " العلق: 8 ولو لا ذلك لكان لعبا باطلا قال تعالى: " وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما الا بالحق " الدخان: 39 وقال: " وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا " ص: 27 ومن الدليل على كون المراد بالحق ما يقابل اللعب الباطل تذييل الكلام بقوله وان الساعة لآتية وهو ظاهر. وبذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم ان المراد بالحق العدل والانصاف والباء للسببية والمعنى ما خلقنا ذلك الا بسبب العدل والانصاف يوم الجزاء بالاعمال.

[ 189 ]

وذلك ان كون الحق في الاية بمعنى العدل والانصاف لا شاهد عليه من اللفظ على ان الذى ذكره من المعنى انما يلائم كون الباء بمعنى لام الغرض أو للمصاحبة دون السببية. وكذا ما ذكره بعضهم ان الحق بمعنى الحكمة وان الجملة الاولى وما خلقنا الخ ناظرة إلى العذاب الدنيوي والثانية وان الساعة لآتية إلى العذاب الاخروي والمعنى وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما إلا متلبسا بالحق والحكمة بحيث لا يلائم استمرار الفساد واستقرار الشرور وقد اقتضت الحكمة اهلاك امثال هؤلاء دفعا لفسادهم وارشادا لمن بقى إلى الصلاح وان الساعة لآتية فينتقم ايضا فيها من امثال هؤلاء. وفي الاية مشاجرة بين اصحاب الجبر والتفويض كل من الفريقين يجر نارها إلى قرصته فاستدل بها اصحاب الجبر على ان افعال العباد مخلوقة لله لان اعمالهم من جملة ما بينهما فهى مخلوقه له. واستدل بها اصحاب التفويض على ان افعال العباد ليست مخلوقة له بل لانفسهم فان المعاصي وقبائح الاعمال من الباطل فلو كانت مخلوقة له لكانت مخلوقة بالحق والباطل لا يكون مخلوقا بالحق والحق ان الحجتين جميعا من الباطل فان جهات القبح والمعصية في الافعال حيثيات عدمية إذ الطاعة والمعصية كالنكاح والزنا وأكل المال من حله وبالباطل وامثال ذلك مشتركة في اصل الفعل وانما تختلف طاعة ومعصية بموافقة الامر ومخالفته والمخالفة جهة عدمية وإذا كان كذلك فاستناد الفعل إلى الخلقة من جهة الوجود لا يستلزم استناد القبيح أو المعصية إليها فان ذلك من جهاته العدمية فليس الفعل بجهته العدمية مما بين السماوات والارض حتى تشمله الاية ولا بجهته الوجودية من الباطل حتى يكون خلقه خلقا للباطل بالحق. على ان الضرورة قائمة على حكومة نظام العلل والمعلولات في الوجود وان قيام وجود شئ بشئ بحيث لا يستقل دونه هو ملاك الاتصاف فالمتصف بالطاعة والمعصية وحسن الفعل وقبيحه هو الانسان دون الذى خلقه ويسر له ان يفعل كذا وكذا كما

[ 190 ]

ان المتصف بالسواد والبياض الجسم الذى يقوم به هذان اللونان دون الذى اوجده. وقد استوفينا الكلام في هذا البحث في تفسير قوله: " وما يضل به إلا الفاسقين " البقرة: 26 الجزء الاول من الكتاب. قوله تعالى فاصفح الصفح الجميل ان ربك هو الخلاق العليم قال في المفردات صفح الشئ عرضه وجانبه كصفحة الوجه وصفحة السيف وصفحة الحجر والصفح ترك التثريب وهو ابلغ من العفو ولذلك قال فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره وقد يعفوا الانسان ولا يصفح قال تعالى: " فاصفح عنهم وقل سلام فاصفح الصفح الجميل أفنضرب عنكم الذكر صفحا. وصفحت عنه اوليته صفحة جميلة معرضا عن ذنبه أو لقيت صفحته متجافيا عنه أو تجاوزت الصفحة التى اثبت فيها ذنبه من الكتاب إلى غيرها من قولك تصفحت الكتاب وقوله: " إن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل " فأمر له عليه السلام ان يخفف كفر من كفر كما قال ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون والمصافحة الافضاء بصفحة اليد انتهى. وسيأتى ما في الرواية من تفسير على عليه السلام الصفح بالعفو من غير عتاب. وقوله فاصفح الصفح الجميل تفريع على سابقه أي إذا كانت الخلقة بالحق وهناك يوم فيه يحاسبون ويجازون لا ريب فيه فلا تشغل نفسك بما ترى منهم من التكذيب والاستهزاء واعف عنهم من غير ان تقع فيهم بعتاب أو مناقشة وجدال فان ربك الذى خلقك وخلقهم هو عليم بحالك وحالهم ووراءهم يوم لا يفوتونه. ومن هنا يظهر ان قوله ان ربك هو الخلاق العليم تعليل لقوله فاصفح الصفح الجميل. وهذه الايات الحافة لقوله فاصدع بما تؤمر تسلية للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وتطييب لنفسه ليأخذ قوله فاصدع بما تؤمر موقعه فقد عرفت في اول السورة ان الغرض الاصيل منها هو الامر باعلان الدعوة وعرفت ايضا بالتدبر في الايات السابقة انها مسرودة ليتخلص بها إلى تسليته صلى الله عليه وآله وسلم عما لقى من قومه من الايذاء والاهانة والاستهزاء ويتخلص من ذلك إلى الامر المطلوب.

[ 191 ]

قوله تعالى: " ولقد آتيناك سبعا من المثانى والقرآن العظيم " السبع المثانى هي سورة الحمد على ما فسر في عدة من الروايات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وائمة اهل البيت عليهم السلام فلا يصغى إلى ما ذكره بعضهم انها السبع الطوال وما ذكره بعض آخر انها الحواميم السبع وما قيل انها سبع صحف من الصحف النازلة على الانبياء فلا دليل على شئ منها من لفظ الكتاب ولا من جهة السنة. وقد كثر اختلافهم في قوله من المثانى من جهة كون من للتبعيض أو للتبيين وفي كيفية اشتقاق لفظة المثانى ووجه تسميتها بالمثاني. والذى ينبغى ان يقال والله اعلم ان من للتبعيض فانه سبحانه سمي جميع آيات كتابه مثانى إذ قال: " كتابا متشابها مثانى تقشعر منه قلوب الذين يخشون ربهم " الزمر: 23 وآيات سورة الحمد من جملتها فهى بعض المثانى لا كلها. والظاهر ان المثانى جمع مثنية اسم مفعول من الثنى بمعنى اللوى والعطف والاعادة قال تعالى: " يثنون صدورهم " هود - 5 وسميت الايات القرآنية مثانى لان بعضها يوضح حال البعض ويلوى وينعطف عليه كما يشعر به قوله كتابا متشابها مثانى حيث جمع بين كون الكتاب متشابها يشبه بعض آياته بعضا وبين كون آياته مثانى وفي كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم: في صفة القرآن يصدق بعضه بعضا وعن على عليه السلام: فيه ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض أو هي جمع مثنى بمعنى التكرير والاعادة كناية عن بيان بعض الايات ببعض. ولعل في ذلك كفاية وغنى عما ذكروه من مختلف المعاني كما في الكشاف وحواشيه والمجمع وروح المعاني وغيرها كقولهم انها من التثنية أو الثنى بمعنى التكرير والاعادة سميت آيات القرآن مثانى لتكرر المعاني فيها وكقولهم سميت الفاتحة مثانى لوجوب قراءتها في كل صلاة مرتين أو لانها تثنى في كل ركعة بما يقرؤ بعدها من القرآن أو لان كثيرا من كلماتها مكررة كالرحمان والرحيم واياك والصراط وعليهم أو لانها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة أو لما فيها من الثناء على الله أو لان الله استثناها وادخرها لهذه الامة ولم ينزلها على الامم الماضين كما في الرواية إلى غير ذلك من الوجوه المذكورة في التفاسير.

[ 192 ]

وفي قوله سبعا من المثانى والقرآن العظيم من تعظيم امر الفاتحة والقرآن ما لا يخفى اما القرآن فلتوصيفه من ساحة العظمة والكبرياء بالعظيم واما الفاتحة فلمكان التعبير عنه بالنكرة غير الموصوفة سبعا وفيه من الدلالة على عظمة قدرها وجلالة شأنها ما لا يخفى وقد قوبل بها القرآن العظيم وهى بعضه. والاية كما تبين في مقام الامتنان وهى مع ذلك لوقوعها في سياق الدعوة إلى الصفح والاعراض تفيد ان في هذه الموهبة العظمى المتضمنة لحقائق المعارف الالهية الهادية إلى كل كمال وسعادة باذن الله عدة ان تحملك على الصفح الجميل والاشتغال بربك والتوغل في طاعته. قوله تعالى: " لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به ازواجا منهم " إلى قوله المبين الايتان في مقام بيان الصفح الجميل الذى تقدم الامر به ولذلك جئ بالكلام في صورة الاستئناف. والمذكور فيهما اربعة دساتير منفيان ومثبتان فقوله لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به ازواجا منهم مد العينين إلى ما متعوا به من زهرة الحياة الدنيا كناية عن التعدي عن قصر النظر على ما آتاه الله من نعمة والمراد بالازواج الازواج من الرجال والنساء أو الاصناف من الناس كالوثنيين واليهود والنصارى والمجوس والمعنى لا تتجاوز عن النظر عما انعمناك به من النعم الظاهرة والباطنة إلى ما متعنا به ازواجا قليلة أو اصنافا من الكفار. وربما اخذ بعضهم قوله لا تمدن عينيك كناية عن اطالة النظر وادامته وانت تعلم ان الغرض على أي حال النهى عن الرغبة والميل والتعلق القلبى بما في ايديهم من امتعة الحياة كالمال والشوكة والصيت والذى يكنى به عن ذلك هو النهى عن اصل النظر إليه لا عن اطالته وادامته ويشهد به ما سننقله من آية الكهف. وقوله ولا تحزن عليهم أي من جهة تماديهم في التكذيب والاستهزاء واصرارهم على ان لا يؤمنوا بك. وقوله واخفض جناحك للمؤمنين قالوا هو كناية عن التواضع ولين الجانب والاصل فيه ان الطائر إذا اراد ان يضم إليه افراخه بسط جناحه عليها ثم

[ 193 ]

خفضه لها هذا والذى ذكروه وان امكن ان يتأيد بآيات اخر كقوله: " فبما رحمة من الله لنت لهم " آل عمران: 159 وقوله في صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤمنين رؤف رحيم " التوبة: 128 لكن الذى وقع في نظير الاية مما يمكن ان يفسر به خفض الجناح هو صبر النفس مع المؤمنين وهو يناسب ان يكون كناية عن ضم المؤمنين إليه وقصر الهم على معاشرتهم وتربيتهم وتأديبهم بأدب الله أو كناية عن ملازمتهم والاحتباس فيهم من غير مفارقة كما ان الطائر إذا خفض الجناح لم يطر ولم يفارق قال تعالى: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا " الاية الكهف: 28. وقوله وقل انى انا النذير المبين أي لا دعوى لى الا انى نذير انذركم بعذاب الله سبحانه مبين ابين لكم ما تحتاجون إلى بيانه وليس لى وراء ذلك من الامر شئ. فهذه الامور الاربعة اعني ترك الرغبة بما في ايديهم من متاع الحياة الدنيا وترك الحزن عليهم إذا كفروا واستهزؤا وخفض الجناح للمؤمنين واظهار انه نذير مبين هو الصفح الجميل الذى يليق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولو اسقط منها واحد لاختل الامر. ومن ذلك يظهر ان قول بعضهم ان قوله فاصفح الصفح الجميل منسوخ بآية السيف غير وجيه فان هذا الصفح الذى تأمر به الاية ويفسره قوله لا تمدن عينيك باق على احكامه واعتباره حتى بعد نزول آية السيف فلا وجه لنسبة النسخ إليه. قوله تعالى: " كما انزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين " قال في المجمع عضين جمع عضة واصله عضوة فنقصت الواو لذلك جمعت عضين بالنون كما قيل عزوة وعزون والاصل عزوة والتعضية التفريق مأخوذ من الاعضاء يقال عضيت الشئ أي فرقته وبعضته قال رؤبة وليس دين الله بالمعضى انتهى موضع الحاجة. وقوله كما انزلنا على المقتسمين لا يخلو السياق من دلالة على انه متعلق بمقدر يلوح إليه قوله وقل إنى أنا النذير المبين أي بعذاب منزل ينزل عليكم كما انزلنا على المقتسمين والمراد بالمقتسمين هم الذين يصفهم قوله بعد الذين

[ 194 ]

جعلوا القرآن عضين وهم على ما وردت به الرواية قوم من كفار قريش جزؤا القرآن اجزاء فقالوا سحر وقالوا اساطير الاولين وقالوا مفترى وتفرقوا في مداخل طرق مكة ايام الموسم يصدون الناس الواردين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما سيأتي في البحث الروائي ان شاء الله. وقيل قوله كما انزلنا متعلق بما تقدم من قوله ولقد آتيناك سبعا من المثانى أي انزلنا عليك القرآن كما انزلنا على المقتسمين والمراد بالمقتسمين اليهود والنصارى الذين فرقوا القرآن اجزاء وابعاضا وقالوا نؤمن ببعض ونكفر ببعض. وفيه ان السورة مكية نازلة في اوائل البعثة ولم يبتل الاسلام يومئذ باليهود والنصارى ذاك الابتلاء وقولهم: " آمنوا بالذى انزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره " آل عمران: 72 مما قالته اليهود بعد الهجرة وكذا ما اشبه ذلك والدليل على ما ذكرنا سياق الايات. وربما قيل سموا مقتسمين لانهم اقتسموا انبياء الله وكتبه المنزلة إليهم فآمنوا ببعض وكفروا ببعض ويدفعه ان الاية التالية تفسر المقتسمين بالذين جعلوا القرآن عضين لا بالذين فرقوا بين انبياء الله أو بين كتبه. فالظاهر أن الآيتين تذكران قوما نهضوا في أوائل البعثة على اطفاء نور القرآن وبعضوه ابعاضا ليصدوا عن سبيل الله فأنزل الله عليهم العذاب وأهلكهم، وهم الذين ذكروا في الآيتين ثم يذكر الله مآل أمرهم بقوله: " فو ربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ". قوله تعالى: " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين " قال في المجمع: الصدع والفرق والفصل نظائر، وصدع بالحق إذا تكلم به جهارا، انتهى. والآية تفريع على ما تقدم، ومن حقها ان تتفرع لانها الغرض في الحقيقة من السورة اي إذا كان الامر على ما ذكر وأمرت بالصفح الجميل وكنت نذيرا بعذابنا كما أنزلنا على المقتسمين فأظهر كلمة الحق وأعلن الدعوة. وبذلك يظهر أن قوله: " إنا كفيناك المستهزئين " في مقام التعليل لقوله: فاصدع الخ، كما يشعر الكلام أو يدل على أن هؤلاء المستهزئين هم المقتسمون

[ 195 ]

المذكورون قبل، ومعنى الآية إذا كان الامر كما ذكرناه وكنت نذيرا بعذابنا كما انزلناه على المقتسمين " فاصدع بما تؤمر " وأعلن الدعوة وأظهر الحق " وأعرض عن المشركين إنا " اي لاننا كفيناك المستهزئين بانزال العذاب عليهم وهم " الذين يجعلون مع الله الها آخر فسوف يعلمون ". قوله تعالى: " ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون " رجع ثانيا إلى حزنه صلى الله عليه وآله وسلم وضيق صدره من استهزائهم لمزيد العناية بتسليته وتطييب نفسه وتقوية روحه، وقد أكثر سبحانه في كلامه وخاصة في السور المكية من ذلك لشدة الامر عليه صلى الله عليه وآاه وسلم. قوله تعالى: " فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين وصاه سبحانه بالتسبيح والتحميد والسجدة والعبادة أو ادامة العبودية مفرعا ذلك على ضيق صدره بما يقولون ففى ذلك استعانة على الغم والمصيبة وقد امره في الايات السابقة بالصفح والصبر ويستفاد الامر بالصبر ايضا من قوله واعبد ربك حتى يأتيك اليقين فان ظاهره الامر بالصبر على العبودية حتى حين وبذلك يصير الكلام قريب المضمون من قوله تعالى لدفع الشدائد والمقاومة على مر الحوادث استعينوا بالصبر والصلاة " البقرة: 153. وبذلك يتأيد ان المراد بالساجدين المصلون وانه امر بالصلاة وقد سميت سجودا تسمية لها باسم افضل اجزائها ويكون المراد بالتسبيح والتحميد اللفظى منهما كقول سبحان الله والحمد لله أو ما في معناهما نعم لو كان المراد بالصلاة في آية البقرة التوجه إلى الله سبحانه امكن ان يكون المراد بالتسبيح والتحميد أو بهما وبالسجود المعنى اللغوى وهو تنزيهه تعالى عما يقولون والثناء عليه بما انعم به عليه من النعم والتذلل له تذلل العبودية. واما قوله واعبد ربك حتى يأتيك اليقين فان كان المراد به الامر بالعبادة كان كالمفسر للاية السابقة وان كان المراد الاخذ بالعبودية كما هو ظاهر السياق وخاصة سياق الايات السابقة الآمرة بالصفح والاعراض ولازمهما الصبر كان بقرينة تقييده بقوله حتى يأتيك اليقين امرا بانتهاج منهج التسليم والطاعة والقيام بلوازم العبودية.

[ 196 ]

وعلى هذا فالمراد باتيان اليقين حلول الاجل ونزول الموت الذى يتبدل به الغيب من الشهادة ويعود به الخبر عيانا ويؤيد ذلك تفريع ما تقدم من قوله فاصفح الصفح الجميل على قوله وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما الا بالحق وان الساعة لآتية فانه بالحقيقة امر بالعفو والصبر على ما يقولون لان لهم يوما ينتقم الله منهم ويجازيهم باعمالهم فيكون معنى الآية دم على العبودية واصبر على الطاعة وعن المعصية وعلى مر ما يقولون حتى يدركك الموت وينزل عليك عالم اليقين فتشاهد ما يفعل الله بهم ربك. وفي التعبير بمثل قوله حتى ياتيك اليقين اشعار ايضا بذلك فان العناية فيه بان اليقين طالب له وسيدركه فليعبد ربه حتى يدركه ويصل إليه وهذا هو عالم الاخرة الذى هو عالم اليقين العام بما وراء الحجاب دون الاعتقاد اليقيني الذى ربما يحصل بالنظر أو بالعبادة. وبذلك يظهر فساد ما ربما قيل ان الاية تدل على ارتفاع التكليف بحصول اليقين وذلك لان المخاطب به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد دلت آيات كثيرة من كتاب الله انه من الموقنين وانه على بصيرة وانه على بينة من ربه وانه معصوم وانه مهدى بهداية الله سبحانه إلى غير ذلك مضافا إلى ما قدمناه من دلالة الاية على كون المراد باليقين هو الموت. وسنفرد لدوام التكليف بحثا عقليا بعد الفراغ عن البحث الروائي ان شاء الله تعالى (بحث روائي) في الدر المنثور اخرج ابن مردويه وابن النجار عن على بن ابى طالب: في قوله فاصفح الصفح الجميل قال الرضا بغير عتاب وفي المجمع حكى عن على بن ابى طالب عليه السلام: ان الصفح الجميل هو العفو من غير عتاب وفي العيون باسناده عن على بن الحسن بن فضال عن ابيه عن الرضا عليه السلام: في

[ 197 ]

الاية قال العفو من غير عتاب وفي التهذيب باسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت ابا عبد الله عليه السلام عن السبع المثانى والقرآن العظيم هي فاتحة الكتاب ؟ قال نعم قلت بسم الله الرحمن الرحيم من السبع ؟ قال نعم هي افضلهن. اقول وهو مرومن طرق الشيعة عن امير المؤمنين عليه السلام وغير واحد من ائمة اهل البيت عليهم السلام ومن طرق اهل السنة عن على وعدة من الصحابة كعمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وابن عباس وابى بن كعب وابى هريرة وغيرهم. وفي الدر المنثور اخرج الطبراني في الاوسط عن ابن عباس قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال أرايت قول الله كما انزلنا على المقتسمين ؟ قال اليهود والنصارى قال الذين جعلوا القرآن عضين قال آمنوا ببعض وكفروا ببعض. اقول وقد عرفت فيما مر ان مضمون الرواية لا يلائم كون السورة مكية. وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن ابى جعفر وابى عبد الله عليه السلام: عن قوله الذين جعلوا القرآن عضين قالا هم قريش وفي المعاني باسناده عن عبد الله بن على الحلبي قال سمعت ابا عبد الله عليه السلام يقول: مكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة بعد ما جاء الوحى - عن الله تبارك وتعالى ثلاث عشرة سنة مستخفيا منها ثلاث سنين خائفا لا يظهر - حتى امر الله عز وجل أن يصدع بما امر فاظهر حينئذ الدعوة وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير عن ابى عبيدة ان عبد الله بن مسعود قال ": ما زال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستخفيا حتى نزل فاصدع بما تؤمر فخرج هو واصحابه وفي تفسير العياشي عن محمد بن على الحلبي عن ابى عبد الله عليه السلام قال اكتتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة سنين ليس يظهر وعلى معه وخديجة ثم امره الله ان يصدع بما يؤمر فظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب فإذا اتاهم قالوا كذاب امض عنا وفي تفسير العياشي عن ابان بن عثمان الاحمر رفعه قال كان المستهزؤن خمسة

[ 198 ]

من قريش الوليد بن المغيرة المخزومى والعاص بن وائل السهمى والحارث بن حنظلة (1) والاسود بن عبد يغوث بن وهب الزهري والاسود بن المطلب بن اسد فلما قال الله إنا كفيناك المستهزئين علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قد اخزاهم فأماتهم الله بشر ميتات اقول ورواه الصدوق في المعاني باسناده عن ابان وروى فيه ايضا والطبرسي في الاحتجاج عن موسى بن جعفر عن آبائه عن على عليه السلام ما في هذا المعنى وهو حديث طويل فيه تفصيل هلاك كل من هؤلاء الخمسة لعنهم الله وروى كون المستهزئين خمسة من قريش عن على وعن ابن عباس مع سبب هلاكهم والروايات مع ذلك مختلفة من طرق اهل السنة من جهة عددهم واسمائهم واسباب هلاكهم والذى اتفق فيه حديث الفريقين هو ما قدمناه. وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه والديلمي عن ابى الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ما اوحى إلى أن أكون تاجراولا اجمع المال متكاثرا ولكن اوحى إلى أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين. اقول وروى ما في معناه ايضا عن ابن مردويه عن ابن مسعود عنه صلى الله عليه وآله وسلم وفيه اخرج البخاري وابن جرير عن ام العلاء ": ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل على عثمان ابن مظعون وقد مات فقلت رحمة الله عليك ابا السائب فشهادتي عليك لقد اكرمك الله فقال - وما يدريك ان الله اكرمه ؟ اما هو فقد جاءه اليقين انى لارجو له الخير وفي الكافي باسناده عن حفص بن غياث قال قال أبو عبد الله عليه السلام: ان من صبر صبر قليلا ومن جزع جزع قليلا. ثم قال عليك بالصبر في جميع امورك فان الله عز وجل بعث محمدا وامره بالصبر والرفق فقال واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا وذرنى والمكذبين اولى النعمة وقال تبارك وتعالى: " ادفع بالتى هي احسن السيئة فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم وما يلقاها الا الذين صبرواوما يلقاها الا ذو حظ عظيم ".


(1) طلاطلة ط. (*)

[ 199 ]

فصبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى نالوه بالعظائم ورموه بها وضاق صدره وقال الله: " ولقد نعلم انك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين " (بحث فلسفي في كيفية وجود التكليف ودوامه) قد تقدم في خلال ابحاث النبوة وكيفية انتشاء الشرائع السماوية في هذا الكتاب ان كل نوع من انواع الموجودات له غاية كمالية هو متوجه إليها ساع نحوها طالب لها بحركة وجودية تناسب وجوده لا يسكن عنها دون ان ينالها الا ان يمنعه عن ذلك مانع مزاحم فيبطل دون الوصول إلى غايته كالشجرة تقف عن الرشد والنمو قبل ان تبلغ غايتها لآفات تعرضها وتقدم ايضا ان الحرمان من بلوغ الغايات انما هو في افراد خاصة من الانواع واما النوع بنوعيته فلا يتصور فيه ذلك. وان الانسان وهو نوع وجودي له غاية وجودية لا ينالها الا بالاجتماع المدنى كما يشهد به تجهيز وجوده بما لا يستغنى به عن سائر امثاله كالذكورة والانوثة والعواطف والاحساسات وكثرة الحوائج وتراكمها. وان تحقق هذا الاجتماع وانعقاد المجتمع الانساني يحوج افراد المجتمع إلى احكام وقوانين ينتظم باحترامها والعمل بها شتات امورهم ويرتفع بها اختلافاتهم الضرورية ويقف بها كل منهم في موقفه الذى ينبغى له ويحوز بها سعادته وكماله الوجودى وهذه الاحكام والقوانين العملية في الحقيقة منبعثة عن الحوائج التى تهتف بها خصوصية وجود الانسان وخلقته الخاصة بما لها من التجهيزات البدنية والروحية كما ان خصوصية وجوده وخلقته مرتبطة بخصوصيات العلل والاسباب التى تكون وجود الانسان من الكون العام. وهذا معنى كون الدين فطريا أي انه مجموع احكام وقوانين يرشد إليها وجود الانسان بحسب التكوين وان شئت فقل سنن يستدعيها الكون العام فلو اقيمت اصلحت المجتمع وبلغت بالافراد غايتها في الوجود وكمالها المطلوب ولو تركت وابطلت افسدت العالم الانساني وزاحمت الكون العام في نظامه. وان هذه الاحكام والقوانين سواء كانت معاملية اجتماعية تصلح بها حال المجتمع

[ 200 ]

ويجمع بها شمله أو عبادية تبلغ بالانسان غاية كماله من المعرفة والصلاح في مجتمع صالح فانها جميعا يجب ان يتلقاها الانسان من طريق نبوة الهية ووحى سماوي لا غير. وبهذه الاصول الماضية يتبين ان التكليف الالهى يلازم الانسان ما عاش في هذه النشأة الدنيوية سواء كان في نفسه ناقصا لم يكمل وجودا بعد أو كاملا علما وعملا اما لو كان ناقصا فظاهر واما لو كان كاملا فلان معنى كماله أن يحصل له في جانبى العلم والعمل ملكات فاضلة يصدر عنها من الاعمال المعاملية ما يلائم المجتمع ويصلحه ويتمكن من كمال المعرفة وصدور الاعمال العبادية الملائمة للمعرفة كما تقتضيه العناية الالهية الهادية للانسان إلى سعادته. ومن المعلوم ان تجويز ارتفاع التكليف عن الانسان الكامل ملازم لتجويز تخلفه عن الاحكام والقوانين وهو فيما يرجع إلى المعاملات يوجب فساد المجتمع والعناية الالهية تأباه وفيما يرجع إلى العبادات يوجب تخلف الملكات عن آثارها فان الافعال مقدمات معدة لحصول الملكات ما لم تحصل وإذا حصلت عادت تلك الافعال آثارا لها تصدر عنها صدورا لا تخلف فيه. ومن هنا يظهر فساد ما ربما يتوهم ان الغرض من التكليف تكميل الانسان وايصاله غاية وجوده فإذا كمل لم يكن لبقاء التكليف معنى. وجه الفساد إن تخلف الانسان عن التكليف الالهى وان كان كاملا في المعاملات يفسد المجتمع وفيه ابطال العناية الالهية بالنوع وفي العبادات يستلزم تخلف الملكات عن آثارها وهو غير جائز ولو جاز لكان فيه ابطال الملكة وفيه ايضا ابطال العناية نعم بين الانسان الكامل وغيره فرق في صدور الافعال وهو ان الكامل مصون عن المخالفة لمكان الملكة الراسخة بخلاف غير الكامل والله المستعان

[ 201 ]

(سورة النحل مكية وهى مائة وثمان وعشرون آية) بسم الله الرحمن الرحيم أتى امر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون - 1 ينزل الملائكة بالروح من امره على من يشاء من عباده ان انذروا انه لا اله الا انا فاتقون - 2 خلق السموات والارض بالحق تعالى عما يشركون - 3 خلق الانسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين - 4. والانعام خلقها لكم فيها دف ء ومنافع ومنها تأكلون - 5 ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون - 6 وتحمل اثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الانفس ان ربكم لرؤف رحيم - 7 والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون - 8 وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم اجمعين - 9 هو الذى انزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون - 10 ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والاعناب ومن كل الثمرات ان في ذلك لاية لقوم يتفكرون - 11 وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ان في ذلك لايات لقوم يعقلون - 12 وما ذرأ لكم في الارض مختلفا

[ 202 ]

الوانه ان في ذلك لاية لقوم يذكرون - 13 وهو الذى سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون - 14 والقى في الارض رواسي ان تميد بكم وانهارا وسبلا لعلكم تهتدون - 15 وعلامات وبالنجم هم يهتدون - 16 أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون - 17 وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ان الله لغفور رحيم - 18 والله يعلم ما تسرون وما تعلنون - 19 والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون - 20 اموات غير احياء وما يشعرون ايان يبعثون - 21 (بيان) الغالب على الظن إذا تدبرنا السورة ان صدر السورة مما نزلت في اواخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة قبيل الهجرة وهى اربعون آية يذكر الله سبحانه في شطر منها انواع نعمه السماوية والارضية مما تقوم به حياة الانسان وينتفع به في معاشه نظاما متقنا وتدبيرا متصلا يدل على وحدانيته تعالى في ربوبيته. ويحتج في شطر آخر على بطلان مزاعم المشركين وخيبة مساعيهم وانه سيجازيهم كما جازى امثالهم من الامم الماضية وسيفصل القضاء بينهم يوم القيامة. وقد افتتح سبحانه هذه الايات بقوله اتى امر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون مفرعا آيات الاحتجاج على ما فيه من التنزيه والتسبيح ومن ذلك يعلم ان عمدة الغرض في صدر السورة الانباء باشراف الامر الالهى ودنوه منهم وقرب

[ 203 ]

نزوله عليهم وفيه ابعاد للمشركين فقد كانوا يستعجلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم استهزاء به لما كانوا يسمعون كلام الله سبحانه يذكر كثيرا نزول امره تعالى وينذرهم به وفيه مثل قوله للمؤمنين فاعفوا واصفحوا حتى ياتي الله بامره وليس الا امره تعالى بظهور الحق على الباطل والتوحيد على الشرك والايمان على الكفر هذا ما يعطيه التدبر في صدر السورة. واما ذيلها وهى ثمان وثمانون آية من قوله والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا إلى آخر السورة على ما بينها من الاتصال والارتباط فسياق الايات فيه يشبه ان تكون مما نزلت في اوائل عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة بعيد الهجرة فصدر السورة وذيلها متقاربا النزول وذلك لما فيها من آيات لا تنطبق مضامينها الا على بعض الحوادث الواقعة بعيد الهجرة كقوله تعالى: " والذين هاجروا في الله " الاية وقوله ولقد نعلم انهم يقولون انما يعلمه بشر الاية النازلة على قول في سلمان الفارسى وقد آمن بالمدينة وقوله من كفر بالله من بعد ايمانه الا من اكره الاية النازلة في عمار كما سيأتي وكذا الايات النازلة في اليهود والايات النازلة في الاحكام كل ذلك يفيد الظن بكون الايات مدنية. ومع ذلك فاختلاف النزول لائح من بعضها كقوله: " والذين هاجروا الخ " الاية: 41 وقوله: " وإذا بدلنا آية مكان آية " الاية 101 إلى تمام آيتين أو خمس آيات وقوله: " من كفر بالله من بعد ايمانه " الاية: 106 وعدة آيات تتلوها. والانصاف بعد ذلك كله ان قوله تعالى: " والذين هاجروا " الاية: 41 إلى تمام آيتين وقوله: " من كفر بالله من بعد ايمانه " الاية: 106 وبضع آيات بعدها وقوله: " وان عاقبتم فعاقبوا " الاية: 126 وآيتان بعدها مدنية لشهادة سياقها بذلك والباقى اشبه بالمكية منها بالمدنية وهذا وان لم يوافق شيئا من المأثور لكن السياق يشهد به وهو اولى بالاتباع وقد مر في تفسير آية 118 من سورة الانعام احتمال ان تكون نازلة بعد سورة النحل وهى مكية والغرض الذى هو كالجامع لايات ذيل السورة ان فيها امرا بالصبر ووعدا حسنا على الصبر في ذات الله. وغرض السورة الاخبار باشراف امر الله وهو ظهور الدين الحق عليهم ويوضح

[ 204 ]

تعالى ذلك ببيان ان الله هو الاله المعبود لا غير لقيام تدبير العالم به كما إن الخلقة قائمة به ولانتهاء جميع النعم إليه وانتفاء ذلك عن غيره فالواجب ان يعبد الله ولا يعبد غيره وبيان ان الدين الحق لله فيجب ان يؤخذ به ولا يشرع دونه دين ورد ما ابداه المشركون من الشبهة على النبوة والتشريع وبيان امور من الدين الالهى هذا هو الذى يرومه معظم آيات السورة وتنعطف إلى بيانه مرة بعد مرة وفي ضمنها آيات تتعرض لامر الهجرة وما يناسب ذلك مما يحوم حولها. قوله تعالى: " اتى امر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون " ظاهر السياق ان الخطاب للمشركين لان الايات التالية مسوقة احتجاجا عليهم إلى قوله في الاية الثانية والعشرين: " الهكم اله واحد " ووجه الكلام فيها إلى المشركين وهى جميعا كالمتفرعة على قوله في ذيل هذه الاية سبحانه وتعالى عما يشركون ومقتضاه ان يكون الامر الذى اخبر باتيانه امرا يطهر ساحة الربوبية من شركهم بحسم مادته ولم تقع في كلامه حكاية استعجال من المؤمنين في امر بل المذكور استعجال المشركين بما كان يذكر في كلامه تعالى من امر الساعة وامر الفتح وامر نزول العذاب كما يشير إليه قوله: " قل أرايتم ان اتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون إلى قوله ويستنبئونك أحق هو قل أي وربى انه لحق وما انتم بمعجزين " يونس: 53 إلى غير ذلك من الايات. وعلى هذا فالمراد بالامر ما وعد الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا واوعد المشركين مرة بعد مرة في كلامه انه سينصر المؤمنين ويخزى الكافرين ويعذبهم ويظهر دينه بأمر من عنده كما قال: " فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره " البقرة: 109 واليه يعود ايضا ضمير فلا تستعجلوه على ما يفيده السياق أو يكون المراد باتيان الامر اشرافه على التحقق وقربه من الظهور وهذا شائع في الكلام يقال لمن ينتظر ورود الامير هذا الامير جاء وقد دنا مجيئه ولم يجئ بعد. وعلى هذا أيضا يكون قوله سبحانه وتعالى عما يشركون من قبيل الالتفات من الخطاب إلى الغيبه اشارة إلى انهم ينبغى أن يعرض عن مخاطبتهم ومشافهتهم لانحطاط افهامهم لشركهم ولم يستعجلوا نزول الامر الا لشركهم استهزاء وسخرية.

[ 205 ]

وبما مر يندفع ما ذكره بعضهم ان الخطاب في الاية للمؤمنين أو للمؤمنين والمشركين جميعا فان السياق لا يلائمه. على انه تعالى يخص في كلامه الاستعجال بغير المؤمنين وينفيه عنهم قال: " يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون انها الحق " الشورى: 18. وكذا ما ذكروه ان المراد بالامر هو يوم القيامة وذلك ان المشركين وان كانوا يستعجلونه ايضا كما يدل عليه قولهم على ما حكاه الله تعالى: " متى هذا الوعد ان كنتم صادقين " يس: 48 لكن سياق الايات لا يساعد عليه كما عرفت. ومن العجيب ما استدل به جمع منهم على ان المراد بالامر يوم القيامة انه تعالى لما قال في آخر سورة الحجر فو ربك لنسألنهم اجمعين وكان فيه تنبيه على حشر هؤلاء وسؤالهم قال في مفتتح هذه السورة: " اتى امر الله " فاخبر بقرب يوم القيامة وكذا قوله في آخر الحجر واعبد ربك حتى يأتيك اليقين وهو مفسر بالموت شديد المناسبة بأن يكون المراد بالامر في هذه السورة يوم القيامة ومما يؤكد المناسبة قوله هناك ياتيك وههنا اتى وامثال هذه الاقاويل الملفقة مما لا ينبغى ان يلتفت إليه. ونظيره قول بعضهم ان المراد بالامر واحدة الاوامر ومعناه الحكم كأنه يشير به إلى ما في السورة من احكام العهد واليمين ومحرمات الاكل وغيرها والخطاب على هذا للمؤمنين خاصة وهو كما ترى. قوله تعالى ينزل الملائكة بالروح من امره على من يشاء من عباده إلى آخر الاية الناس على اختلافهم الشديد قديما وحديثا في حقيقة الروح لا يختلفون في انهم يفهمون منه معنى واحدا وهو ما به الحياة التى هي ملاك الشعور والارادة فهذا المعنى هو المراد في الاية الكريمة. واما حقيقته اجمالا فالذي يفيده مثل قوله تعالى: " يوم يقوم الروح والملائكة صفا " النبأ: 38 وقوله: " تعرج الملائكة والروح إليه " المعارج: 4 وغيرهما انه موجود مستقل ذو حياة وعلم وقدرة وليس من قبيل الصفات والاحوال القائمة بالاشياء

[ 206 ]

كما ربما يتوهم وقد افاد بقوله قل الروح من امر ربى انه من سنخ امره وعرف ايضا امره بمثل قوله: " انما امره إذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون فسبحان الذى بيده ملكوت كل شئ " يس: 83 فدل على انه كلمة الايجاد التى يوجد سبحانه بها الاشياء أي الوجود الذى يفيضه عليها لكن لا من كل جهة بل من جهة استناده إليه تعالى بلا مادة ولا زمان ولا مكان كما يفيده قوله: " وما امرنا إلا واحدة كلمح بالبصر " القمر: 50 فان هذا التعبير انما يورد فيما لا تدريج فيه أي لا مادة ولا حركة له وليكن هذا الاجمال عندك حتى يرد عليك تفصيله فيما سيأتي ان شاء الله في تفسير سورة الاسراء. فتحصل ان الروح كلمة الحياة التى يلقيها الله سبحانه إلى الاشياء فيحييها بمشيئته ولذلك سماه وحيا وعد القاءه وانزاله على نبيه ايحاء في قوله: " وكذلك اوحينا اليك روحا من امرنا " الشورى: 52 فان الوحى هو الكلام الخفى والتفهيم بطريق الاشارة والايماء فيكون القاء كلمته تعالى كلمة الحياة إلى قلب النبي عليه السلام وحيا للروح إليه فافهم ذلك. فقوله تعالى: " ينزل الملائكة بالروح من امره " الباء للمصاحبة أو للسببية ولا كثير تفاوت بينهما في المآل كما هو ظاهر عند المتأمل فان تنزيل الملائكة بمصاحبة الروح انما هو لالقائه في روح النبي عليه السلام ليفيض عليه المعارف الالهية وكذا تنزيلهم بسبب الروح لان كلمته تعالى اعني كلمة الحياة تحكم في الملائكة وتحييهم كما تحكم في الانسان وتحييه وضمير ينزل له تعالى والجملة استئناف تفيد تعليل قوله في الاية السابقة سبحانه وتعالى عما يشركون. والمعنى ان الله منزه ومتعال عن شركهم أو عن الشريك الذى يدعونه له ولتنزهه وتعاليه عن الشريك ينزل سبحانه الملائكة بمصاحبة الروح الذى هو من سنخ امره وكلمته في الايجاد أو بسببه على من يشاء من عباده ان انذروا انه لا اله الا انا فاتقون. وذكر بعضهم ان المراد بالروح الوحى أو القرآن وسمى روحا لان به حياة القلوب كما ان الروح الحقيقي به حياة الابدان قال وقوله من امره أي

[ 207 ]

بأمره ونظيره قوله يحفظونه من امر الله أي بامر الله لان احدا لا يحفظه عن امره انتهى. اما قوله ان من في قوله من امره بمعنى الباء استنادا إلى قوله يحفظونه من امر الله أي بامر الله الخ فقد مر في تفسير سورة الرعد ان من على ظاهر معناه وان بعض امره تعالى يحفظ الاشياء من بعض امره فلا وجه لاخذ من امره بمعنى بامره بل قوله بالروح من امره معناه بالروح الكائن من امره على ان الظرف مستقر لا لغو كما في قوله قل الروح من امر ربى ومعناه ما تقدم. واما قوله ان الروح بمعنى الوحى أو القرآن وكذا قول بعضهم انه بمعنى النبوة فلا يخلو عن وجه بحسب النتيجة بمعنى ان نتيجة نزول الملائكة بالروح من امره هو الوحى أو النبوة واما في نفسه وهو ان يسمى الوحى أو النبوة روحا باشتراك لفظي أو مجازا من حيث انه يحيى القلوب ويعمرها كما ان الروح به حياة الابدان وعمارتها فهو فاسد لما بيناه مرارا ان الطريق إلى تشخيص مصاديق الكلمات في كلامه تعالى هو الرجوع إلى سائر ما يصلح من كلامه لتفسيره دون الرجوع إلى العرف وما يراه في مصاديق الالفاظ. والمتحصل من كلامه سبحانه ان الروح خلق من خلق الله وهو حقيقة واحدة ذات مراتب ودرجات مختلفة منها ما في الحيوان وغير المؤمنين من الانسان ومنها ما في المؤمنين من الانسان قال تعالى: " وايدهم بروح منه " المجادلة: 22 ومنها ما يتأيد به الانبياء والرسل كما قال: " وايدناه بروح القدس " البقرة: 87 وقال: " وكذلك اوحينا اليك روحا من امرنا " الشورى: 52 على ما سيأتي تفصيله ان شاء الله. هذا ما تفيده الايات الكريمة واما ان اطلاق اللفظ على هذا المعنى هل هي حقيقة أو مجاز وما امعنوا في البحث انه من الاستعارة المصرحة أو استعارة بالكناية أو ان قوله بالروح من امره من قبيل التشبيه لذكر المشبه صريحا بناء على كون من في قوله من امره بيانية كما صرحوا في قوله: " حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر " البقرة: 187 انه من التشبيه للتصريح بالمشبه

[ 208 ]

في متن الكلام فكل ذلك من الابحاث الادبية الفنية التى ليس لها كثير تأثير في الحصول على الحقائق. وذكر بعضهم ان من امره بيان للروح ومن للتبيين والمراد بالروح الوحى كما تقدم. وفيه انه مدفوع بقوله تعالى قل الروح من امر ربى فان من الواضح ان الايتين تسلكان مسلكا واحدا وظاهر آية الاسراء ان من فيها للابتداء أو للنشوء والمراد بيان ان الروح من سنخ الامر وشأن من شؤنه ويقرب منها قوله تعالى: " تنزل الملائكة والروح فيها باذن ربهم من كل امر " القدر: 4. وذكر بعضهم ان المراد بالروح هو جبريل وايده بقوله: " نزل به الروح الامين على قلبك " الشعراء: 194 فان من المسلم ان المراد به في الايه هو جبريل والباء للمصاحبة والمراد بالملائكة ملائكة الوحى وهم اعوان جبريل والمراد بالامر واحد الاوامر والمعنى ينزل تعالى ملائكة الوحى بمصاحبة جبريل بامره وارادته. وفيه ان هذه الاية نظيرة قوله تعالى: " يلقى الروح من امره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق " المؤمن: 15 وظاهره لا يلائم كون المراد بالروح هو جبريل. واردأ الوجوه ما ذكره بعضهم ان المراد بالروح ارواح الناس لا ينزل ملك الا ومعه واحد من الارواح وهو منقول عن مجاهد وفساده ظاهر. وقوله على من يشاء من عباده أي ان بعث الرسل وتنزيل الملائكة بالروح من امره عليهم متوقف على مجرد المشية الالهية من غير ان يقهره تعالى في ذلك قاهر غيره فيجبره على الفعل أو يمنعه من الفعل كما في سائر افعاله تعالى فانه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. فلا ينافى ذلك كون فعله ملازما لحكم ومصالح ومختلفا باختلاف الاستعدادات لا يقع الا عن استعداد في المحل وصلاحية للقبول فان استعداد المستعد ليس الا كسؤال السائل فكما ان سؤال السائل انما يقربه من جود المسؤل وعطائه من غير ان يجبره على الاعطاء ويقهره كذلك الاستعداد في تقريبه المستعد لافاضته تعالى وحرمان غير المستعد من ذلك فهو تعالى يفعل ما يشاء من غير ان يوجبه عليه شئ أو يمنعه عنه شئ

[ 209 ]

لكنه لا يفعل شيئا ولا يفيض رحمة الا عن استعداد فيما يفيض عليه وصلاحية منه وقد افاد ذلك في خصوص الرسالة حيث قال: " وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما اوتى رسل الله الله اعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين اجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون " الانعام: 124 فان الاية ظاهرة في ان الموارد مختلفة في قبول كرامة الرسالة وان الله سبحانه اعلم بالمورد الذى يصلح لها ويستأهل لتلك الكرامة وهو غير هؤلاء المجرمين الماكرين واما هم فليس لهم عند الله الا الصغار والعذاب لاجرامهم ومكرهم هذا. ومن هنا يظهر فساد استدلال بعضهم بالاية على نفى المرجح في مورد الرسالة ومحصل ما ذكره ان الاية تعلق الرسالة على مجرد المشية الالهية من غير ان تقيدها بشئ فالرسول انما ينال الرسالة بمشية من الله لا لاختصاصه بصفات تؤهله لذلك ويرجحه على غيره ووجه الفساد ظاهر مما تقدم. ونظيره في الفساد الاستدلال بالاية على كون الرسالة عطائية غير كسبية وذلك انه تعالى غير محكوم عليه في ما ينسب إليه من الفعل لا يفعل الا ما يشاء والامور العطائية والكسبية في ذلك سواء ولا شئ يقع في الوجود الا باذنه. وقوله ان انذروا انه لا اله الا انا فاتقون بيان لقوله ينزل الملائكة بالروح لكونه في معنى الوحى أو بيان للروح بناء على كونه بمعنى الوحى والانذار هو اخبار فيه تخويف كما ان التبشير هو اخبار فيه سرور على ما ذكره الراغب أو اعلام بالمحذور كما ذكره غيره والتقدير على الاول اخبروهم مخوفين بوحدانيتى في الالوهية ووجوب تقواى وعلى الثاني اعلموهم ذلك على ان يكون انه مفعولا ثانيا لا منصوبا بنزع الخافض. وقد علم بذلك ان قوله فاتقون متفرع على قوله لا اله الا انا والجملتان جميعا مفعول ثان أو في موضعه لقوله انذروا ويوضح ذلك ان لا اله وهو الذى يبتدئ منه وينتهى إليه كل شئ أو المعبود بالحق من لوازم صفة الوهيته ان يتقيه الانسان لتوقف كل خير وسعادة إليه فلو فرض انه واحد لا شريك له في

[ 210 ]

الوهيته كان لازمه ان يتقى وحده لان التقوى وهو اصلاح مقام العمل فرع لما في مقام الاعتقاد والنظر فعبادة الالهة الكثيرين والخضوع لهم لا يجامع الاعتقاد باله واحد لا شريك له الذى هو القيوم على كل شئ وبيده زمام كل امر ولذا لم يؤمر نبى ان يدعو إلى توحيد من غير عمل أو إلى عمل من غير توحيد قال تعالى: " وما ارسلنا من قبلك من رسول الا نوحي إليه انه لا اله الا انا فاعبدون " الانبياء: 25. فالذي امر الرسل بالانذار به في الاية هو مجموع قوله انه لا اله الا انا فاتقون وهو تمام الدين لاندراج الاعتقادات الحقة في التوحيد والاحكام العملية جميعا في التقوى ولا يعبؤ بما ذكره بعضهم ان قوله فاتقون للمستعجلين من الكفار المذكورين في الاية الاولى أو لخصوص كفار قريش من غير أن يكون داخلا فيما امر به الرسل من الانذار. قوله تعالى خلق السماوات والارض بالحق تعالى عما يشركون تقدم معنى خلق السماوات والارض بالحق ولازم خلقها بالحق ان لا يكون للباطل فيها اثر ولذلك عقبه بتنزيهه عن الشركاء الذين يدعونهم ليشفعوا لهم عند الله ويهدوهم إلى الخير ويقوهم الشر فانهم من الباطل الذى لا اثر له. وفي الاية والايات التالية لها احتجاج على وحدانيته تعالى في الالوهية والربوبية من جهتى الخلق والتدبير جميعا فان الخلق والايجاد آية الالوهية وكون الخلق بعضها نعمة بالنسبة إلى بعض آية الربوبية لان الشئ لا يكون نعمه بالنسبة إلى آخر الا عن ارتباط بينهما واتصال من احدهما بالاخر يؤدى إلى نظام جامع بينهما وتدبير واحد يجمعهما ووحدة التدبير آية وحدة المدبر فكون ما في السماوات والارض من مخلوق نعما للانسان يدل على ان الله سبحانه وحده ربه ورب كل شئ. قوله تعالى: " خلق الانسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين " المراد به الخلق الجارى في النوع الانساني وهو جعل نسله من النطفة فلا يشمل آدم وعيسى عليهم السلام والخصيم صفة مشبهة من الخصومة وهى الجدال والاية وان امكن ان تحمل على الامتنان حيث ان من عظيم المن ان يبدل الله سبحانه بقدرته التامة قطرة من ماء مهين انسانا كامل الخلقة منطيقا متكلما ينبئ عن كل ما جل ودق ببيانه البليغ لكن كثرة

[ 211 ]

الايات التى توبخ الانسان وتقرعه على وقاحته في خصامه في ربه كقوله تعالى: " أو لم ير الانسان انا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظام وهى رميم " يس: 78 ترجح ان يكون المراد بذيل الاية بيان وقاحة الانسان. ويؤيد ذلك ايضا بعض التأييد ما في ذيل الاية السابقة من تنزيهه تعالى من شركهم. قوله تعالى: " والانعام خلقها لكم فيها دف ء ومنافع ومنها تأكلون " الانعام جمع نعم وهى الابل والبقر والغنم سميت بذلك لنعمة مسها بخلاف الحافر الذى يصلب كذا في المجمع وفي المفردات الدف ء خلاف البرد انتهى وكأن المراد بالدف ء ما يحصل من جلودها واصوافها واوبارها من الحرارة للاتقاء من البرد أو المراد بالدف ء ما يدفؤ به. والمراد بالمنافع سائر ما يستفاد منها لغير الدف ء من اصوافها واوبارها وجلودها والبانها وشحومها وغير ذلك وقوله لكم يمكن ان يكون متعلقا بقوله خلقها ويكون قوله فيها دف ء ومنافع حالا من ضمير خلقها ويمكن ان يكون لكم ظرفا مستقرا متعلقا بالجملة الثانية أي في الانعام دف ء كائنا لكم. قوله تعالى: " ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون " الجمال الزينة وحسن المنظر قال في المجمع الاراحة رد الماشية بالعشى من مراعيها إلى منازلها والمكان الذى تراح فيه مراح والسروح خروج الماشية إلى المرعى بالغداة يقال سرحت الماشية سرحا وسروحا وسرحها اهلها انتهى. يقول تعالى: " ولكم في الانعام منظر حسن حين تردونها بالعشى إلى منازلها وحين تخرجونها بالغداة إلى مراعيها. قوله تعالى وتحمل اثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الانفس ان ربكم لرؤف رحيم " الاثقال جمع ثقل وهو المتاع الذى يثقل حمله والمراد بقوله بشق الانفس مشقة تتحملها الانفس في قطع المسافات البعيدة والمسالك الصعبة. والمراد ان الانعام كالابل وبعض البقر تحمل امتعتكم الثقيلة إلى بلد ليس يتيسر

[ 212 ]

لكم بلوغها الا بمشقة تتحملها انفسكم فرفع عنكم المشاق بخلقها وتسخيرها لكم ان ربكم رؤف رحيم. قوله تعالى: " والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون " معطوف على الانعام فيما مر أي والخيل والبغال والحمير خلقها لكم لتركبوها وزينة أي ان في خلقها ارتباطا بمنافعكم وذلك انكم تركبونها وتتخذونها زينة وجمالا وقوله ويخلق ما لا تعلمون أي يخلق ما لا علم لكم به من الحيوان وغيره وسخرها لكم لتنتفعوا بها والدليل على ما قدرناه هو السياق. قوله تعالى وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم اجمعين القصد على ما ذكره الراغب وغيره استقامة الطريق وهو كونه قيما على سالكيه يوصلهم إلى الغاية والظاهر ان المصدر بمعنى الفاعل والاضافة من اضافة الصفة إلى موصوفها والمراد السبيل القاصد بدليل مقابلته بقوله ومنها جائر أي ومن السبيل ما هو جائر أي مائل عن الغاية يورد سالكيه غيرها ويضلهم عنها والمراد بكون قصد السبيل على الله وجوب جعل سبيل قاصد عليه تعالى يسلكه عباده فيوردهم مورد السعادة والفلاح واذ لا حاكم غيره يحكم عليه فهو الذى اوجب على نفسه ان يجعل لهم طريقا هذا نعته ثم يهديهم إليه اما الجعل فهو ما جهز الله كل موجود ومنها الانسان من القوى والادوات بما لو استعملها كما نظمت ادته إلى سعادته وكماله المطلوب قال تعالى: " الذى اعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه: 50 وقال في الانسان خاصة: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله " الروم: 30. واما الهداية فهى التى فعلها من ناحية الفطرة وتناها بما من طريق بعث الرسل وانزال الكتب وتشريع الشرائع قال تعالى: " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها " الشمس: 8 وقال: " انا هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا " الدهر: 3. وانما ادرج سبحانه هذه الاية بين هذه الايات التى سياقها عد النعم العلوية والسفلية من السماء والارض والانعام والخيل والبغال والحمير والماء النازل من السماء والزرع ونظائرها لما ان الكلام انجر في آيتى الانعام والخيل إلى معنى قطع الطرق

[ 213 ]

وركوب المراكب فناسب ان يذكر ما انعم به من الطريق المعنوي الموصل للانسان إلى غايته الحقيقية يبتغيها في مسير الحياة كما انعم بمثله في عالم المادة ونشأة الصورة. فذكر سبحانه ان من نعمه التى من بها على عباده أن اوجب على نفسه لهم سبيلا قاصدا يوصلهم إلى سعادة حياتهم فجعله لهم وهداهم إليه. وقد نسب سبحانه قصد السبيل إلى نفسه دون السبيل الجائر لان سبيل الضلال ليس سبيلا مجعولا له وفي عرض سبيل الهدى وانما هو الخروج عن السبيل وعدم التلبس بسلوكه فليس بسبيل حقيقة وانما هو عدم السبيل. وكيف كان فالاية ظاهرة في نسبة قصد السبيل إليه تعالى وترك نسبة السبيل الجائر المؤدى بسبب المقابلة إلى نفى نسبته إليه تعالى. واذ كان من الممكن ان يتوهم ان لازم جعله قصد السبيل ان يكون مكفورا في نعمته مغلوبا في تدبيره وربوبيته حيث جعل السبيل ولم يسلكه الاكثرون وهدى إليه ولم يهتد به المدعوون دفعه بقوله تعالى: " ولو شاء لهداكم اجمعين " أي ان عدم اهتداء الجميع ليس لعجز منه سبحانه عن ذلك أو غلبة من هؤلاء المتخلفين وظهورهم عليه بل لانه تعالى لم يشأ ذلك ولو شاء لم يسعهم الا ان يهتدوا جميعا فهو القاهر الغالب على كل حال. وبعبارة اخرى السبيل القاصد الذى جعله الله تعالى هو السبيل المبنى على اختيار الانسان يقطعه باتيان الاعمال الصالحة واجتناب المعاصي عن اختيار منه وما هذا شأنه لم يكن مما يجبر عليه ولا عاما للجميع فان الطبائع متنوعة والتراكيب مختلفة ولا محالة تتنوع آثارها ويختلف الافراد بالايمان والكفر والتقوى والفجور والطاعة والمعصية. والاية مما تشاجرت فيها الاشاعرة والمعتزلة من فرق المسلمين فاستدلت المعتزلة بأن تغيير الاسلوب يجعل قصد السبيل على الله دون السبيل الجائر للدلالة على ما يجوز اضافته إليه تعالى وما لا يجوز كما ذكره في الكشاف. وتكلفت الاشاعرة في الجواب عنه فمن مجيب بان السبيلين جميعا منه تعالى وانما لم ينسب السبيل الجائر إليه تأدبا ومن مجيب بان المراد بقوله وعلى الله قصد

[ 214 ]

السبيل ان عليه تعالى بيان السبيل الحق فضلا وكرما منه دون بيان السبيل الجائر واما اصل الجعل فهما جميعا مجعولان له تعالى ومن منكر ان يكون تغيير الاسلوب في الاية لامر مطلوب. والحق ان دلالة الاية على كون قصد السبيل مضافا إليه تعالى دون السبيل الجائر مما لا ريب فيه لكن ذلك لا يستلزم كون السبيل الجائر مخلوقا لغيره تعالى لما تقدم ان سبيل الضلال ليس بسبيل حقيقة بل حقيقته عدم سلوك سبيل الهدى كما ان الضلال عدم الهدى فليس بامر موجود حتى ينسب خلقه وايجاده إليه تعالى وانما ينسب الضلال إليه تعالى فيما ينسب بمعنى عدم هدايته للضال أي عدم ايجاده الهدى في نفسه. ومع ذلك فالذي ينسب إليه من الضلال كما في قوله: " يضل من يشاء ويهدى من يشاء " فاطر: 8 وقوله: " يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا " البقرة: 26 هو الضلال بطريق المجازاة دون الضلال الابتدائي كما يفسره قوله: " وما يضل به الا الفاسقين البقرة: 26 فإذا فسق الانسان وخرج بسوء اختياره عن زى العبودية بأن عصى ولم يرجع وهو ضلاله الابتدائي من قبل نفسه جازاه الله بالضلال بأن اثبته على حاله ولم يقض عليه الهدى. واما الضلال الابتدائي من الانسان فانما هو انكفاف وقصور عن الطاعة وقد هداه الله من طريق الفطرة ودعوة النبوة. قوله تعالى: " هو الذى انزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون " شروع في نوع آخر من النعم وهى النعم النباتية التى يقتات بها الانسان وغيره وما سخر له لتدبير امرها كالليل والنهار والشمس والقمر وما يحذو حذوها ولذلك غير السياق فقال هو الذى الخ ولم يقل وانزل من السماء. وقوله تسيمون من الاسامة وهى رعى المواشى ومنه السائمة للماشية الراعية ومن الاولى تبعيضية والثانية نشوئية والشجر من النبات ما له ساق وورق وربما توسع فاطلق على ذى الساق وغيره جميعا ومنه الشجر المذكور في الاية لمكان قوله فيه تسيمون والباقى واضح.

[ 215 ]

قوله تعالى: " ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والاعناب ومن كل الثمرات " الخ الزيتون شجر معروف ويطلق على ثمره ايضا يقال انه اسم جنس جمعى واحده زيتونة وكذا النخيل ويطلق على الواحد والجمع والاعناب جمع عنبة وهى ثمرة شجرة الكرم ويطلق على نفس الشجرة كما في الاية والسياق يفيد ان قوله ومن كل الثمرات تقديره ومن كل الثمرات انبت اشجارها ولعل التصريح باسماء هذه الثمرات الثلاث بخصوصها وعطف الباقي عليها لكونها مما يقتات بها غالبا. ولما كان في هذا التدبير العام الوسيع الذى يجمع شمل الانسان والحيوان في الارتزاق به حجة على وحدانيته تعالى في الربوبية ختم الاية بقوله ان في ذلك لاية لقوم يتفكرون. قوله تعالى: " وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر " إلى آخر الاية قد تكرر الكلام في معنى تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم ولكون كل من المذكورات وكذا مجموع الليل والنهار ومجموع الشمس والقمر والنجوم ذا خواص وآثار في نفسه من شأنه ان يستقل باثبات وحدانيته في ربوبيته تعالى ختم الاية بقوله ان في ذلك لايات لقوم يعقلون فجمع الايات في هذه الاية بخلاف الايتين السابقة واللاحقة. قوله تعالى: " وما ذرأ لكم في الارض مختلفا الوانه ان في ذلك لاية لقوم يذكرون " الذرء الخلق واختلاف الوان ما ذرأه في الارض غير ما مر كما يختلف الوان المعادن وسائر المركبات العنصرية التى ينتفع بها الانسان في معاشه ولا يبعد ان يكون اختلاف الالوان كناية عن الاختلاف النوعى بينها فتقرب الايه مضمونا من قوله تعالى: " وفي الارض قطع متجاورات وجنات من اعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الاكل " الرعد: 4 وقد تقدم تقريب الاستدلال به واختلاف الالوان فيما ذرأ في الارض كانبات الشجر والثمر امر واحد يستدل به على وحدانيته في الربوبية ولذا قال ان في ذلك لاية ولم يقل لايات. وهذه حجج ثلاث نسب الاولى إلى الذين يتفكرون والثانية إلى الذين

[ 216 ]

يعقلون والثالثة إلى الذين يتذكرون وذلك ان الحجة الاولى مؤلفة من مقدمات ساذجة يكفى في انتاجها مطلق التفكر والثانية مؤلفة من مقدمات علمية لا يتيسر فهمها الا لمن غار في اوضاع الاجرام العلوية والسفلية وعقل آثار حركاتها وانتقالاتها والثالثة مؤلفة من مقدمات كلية فلسفية انما ينالها الانسان بتذكر ما للوجود من الاحكام العامة الكلية كاحتياج هذه النشأة المتغيرة إلى المادة وكون المادة العامة واحدة متشابهة الامر ووجوب انتهاء هذه الاختلافات الحقيقية إلى امر آخر وراء المادة الواحدة المتشابهة. قوله تعالى: " وهو الذى سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها " الخ وهذا فصل آخر من النعم الالهية وهو نعم البحر والجبال والانهار والسبل والعلامات وكأن ما تقدمه من الفصل مشتملا على نعم البر والسهل من الاشجار والاثمار ونحوها ولذلك قال وهو الذى سخر ولم يقل وسخر الخ. والطرى فعيل من الطراوة وهو الغض الجديد من الشئ على ما ذكره في المفردات والمخر شق الماء عن يمين وشمال يقال مخرت السفينة تمخر مخرا فهى ماخرة ومخر الارض ايضا شقها للزراعة على ما في المجمع والمراد بأكل اللحم الطرى من البحر هو اكل لحوم الحيتان المصطادة منه و باستخراج حلية تلبسونها ما يستخرج منه بالغوص من امثال اللؤلؤ والمرجان التى تتحلى وتتزين بها النساء. وقوله: " وترى الفلك مواخر فيه أي تشاهد السفائن تشق ماءه عن اليمين والشمال ولعل قوله وترى من الخطابات العامة التى لا يقصد بها مخاطب خاص وكثيرا ما يستعمل كذلك ومعناه يراه كل راء ويشاهده كل من له ان يشاهد فليس من قبيل الالتفات من خطاب الجمع السابق إلى خطاب الواحد. وقوله ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون أي ولتطلبوا بعض رزقه في ركوب البحر وارسال السفائن فيه والجملة معطوفة على محذوف والتقدير وترى الفلك مواخر فيه لتنالوا بذلك كذا وكذا ولتبتغوا من فضله وهو كثير النظير في كلامه تعالى. و قوله ولعلكم تشكرون أي ومن الغايات في تسخير البحر واجراء الفلك

[ 217 ]

فيه شكركم له المرجو منكم إذ هو من زيادته تعالى في النعمة فقد اغناكم بما انعم عليكم في البر عن ان تتصرفوا في البحر بالغوص واجراء السفن وغير ذلك لكنه تعالى زادكم بتسخير البحر لكم نعمة لعلكم تشكرونه على هذا الزائد فان الانسان قليلا ما يتنبه في الضروريات انها نعمة موهوبة من لدنه سبحانه ولو شاء لقطعها واما الزوائد النافعة فهى اقرب من هذا التنبه والانتقال. قوله تعالى: " والقى في الارض رواسي ان تميد بكم وانهارا وسبلا لعلكم تهتدون " قال في المجمع الميد الميل يمينا وشمالا وهو الاضطراب ماد يميد ميدا انتهى. وقوله ان تميد بكم أي كراهة ان تميد بكم أو ان لا تميد بكم والمراد انه طرح على الارض جبالا ثوابت لئلا تضطرب وتميل يمينا وشمالا فيختل بذلك نظام معاشكم. وقوله وانهارا أي وجعل فيها انهارا تجرى بمائها وتسوقه إلى مزارعكم وبساتينكم وتسقيكم وما عندكم من الحيوان الاهلى. وقوله وسبلا لعلكم تهتدون معطوف على قوله وانهارا أي وجعل سبلا لغاية الاهتداء المرجو منكم والسبل منها ما هي طبيعية وهى المسافات الواقعة بين بقعتين من الارض الواصلة احداهما بالاخرى من غير ان يقطع ما بينهما بحاجب أو مانع كالسهل بين الجبلين ومنها ما هي صناعية وهى التى تتكون بعبور المارة وآثار الاقدام أو يعملها الانسان. والظاهر من السياق عموم السبل لكلا القسمين ولا ضير في نسبة ما جعله الانسان إلى جعله تعالى كما نسب الانهار والعلامات إلى جعله تعالى واكثرها من صنع الانسان وكما نسب ما عمله الانسان من الاصنام وغيرها إلى خلقه تعالى في قوله: " والله خلقكم وما تعملون " الصافات 96. وذلك انها كائنة ما كانت من آثار مجعولاته تعالى وجعل الشئ ذى الاثر جعل لاثره بوجه وان لم يكن جعلا مستقيما من غير واسطة. قوله تعالى: " وعلامات وبالنجم هم يهتدون " العلامات جمع علامة وهى ما يعلم به الشئ وهو معطوف على قوله انهارا أي وجعل علامات تستدلون بها على

[ 218 ]

الاشياء الغائبة عن الحس وهى كل آية وامارة طبيعية أو وضعية تدل على مدلولها ومنها الشواخص والنصب واللغات والاشارات والخطوط وغيرها. ثم ذكر سبحانه الاهتداء بالنجوم فقال وبالنجم هم يهتدون ولعل الالتفات فيه من الخطاب إلى الغيبة للتحرز عن تكرار تهتدون بصيغة الخطاب في آخر الايتين. والاية السابقة وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم اجمعين المتضمنة لمسألة الهداية المعنوية التى هي كالمعترضة بين الايات العادة للنعم الصورية وان كان الانسب ظاهرا ان يوضع بعد هذه الاية اعني قوله وبالنجم هم يهتدون المتعرضة هي وما قبلها للهداية الصورية غير ان ذلك لم يكن خاليا من اللبس وايهام التناقض بخلاف موقعها الذى هي واقعة فيه وان كانت كالمعترضة كما هو ظاهر. قوله تعالى: " أفمن يخلق كمن لا يخلق إلى قوله الهكم اله واحد " الايات تقرير اجمالي للحجة المذكورة تفصيلا في ضمن الايات الست عشرة الماضية واستنتاج للتوحيد وهى حجة واحدة اقيمت لتوحيد الربوبية وملخصها ان الله سبحانه خالق كل شئ فهو الذى انعم بهذه النعم التى لا يحيط بها الاحصاء التى ينتظم بها نظام الكون وهو تعالى عالم بسرها وعلنها فهو الذى يملك الكل ويدبر الامر فهو ربها وليس شئ مما يدعونه على شئ من هذه الصفات فليست اربابا فالاله واحد لا غير وهو الله عز اسمه. ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم ان الايات تثبت التوحيد من طريقين طريق الخلقة وطريق النعمة بيان الفساد ان طريق الخلقة وحدها انما تثبت الصانع ووحدانيته في الخلق والايجاد والوثنيون واليهم وجه الكلام في الايات لا ينكرون وجود الصانع ولا ان الله سبحانه خالق الكل حتى اوثانهم وان اوثانهم ليسوا بخالقين لشئ وانما يدعون لاوثانهم تدبير امر العالم بتفويض من الله لذلك إليهم والشفاعة عند الله فلا يفيد اثبات الصانع تجاه هؤلاء شيئا. وانما سيقت آيات الخلقة لتثبيت امر النعمة إذ من البين انه إذا كان الله سبحانه خالقا لكل شئ موجودا له كانت آثار وجودات الاشياء وهى النعم التى يتنعم بها

[ 219 ]

له سبحانه كما ان وجوداتها له ملكا طلقا لا يقبل بطلانا ولا نقلا ولا تبديلا فهو سبحانه المنعم بها حقيقة لا غيره من شئ حتى الذى نفس النعمة من آثار وجوده فانه وما له من اثر هو لله وحده. ولذلك ضم إلى حديث الخلق والانعام قوله تعالى: " والله يعلم ما تسرون وما تعلنون " لان مجرد استناد الخلق والانعام إلى شئ لا يستلزم ربوبيته ولا يستوجب عبادته لو لا انضمام العلم اليهما ليتم بذلك انه مدبر يهدى كل شئ إلى كماله المطلوب له وسعادته المكتوبة في صحيفة عمله ومن المعلوم ان العبادة انما تستقيم عبادة إذا كان المعبود موسوما بسمة العلم عالما بعبادة من يعبده شاهدا لخضوعه. فمجموع ما تتضمنه الايات من حديث الخلق والنعمة والعلم مقدمات لحجة واحدة اقيمت على توحيد الربوبية الذى ينكره الوثنية كما عرفت. فقوله: " أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون " قياس ما له سبحانه من النعت إلى ما لغيره منه ونفى للمساواة والاستفهام للانكار والمراد بمن لا يخلق آلهتهم الذين يدعونهم من دون الله. وبيانه كما ظهر مما تقدم ان الله سبحانه يخلق الاشياء ويستمر في خلقها فلا يستوى هو ومن لا يخلق شيئا فانه تعالى لخلقه الاشياء يملك وجوداتها وآثار وجوداتها التى هي الانظمة الخاصة بها والنظام العام الجارى عليها. وقوله وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها الخ اشارة إلى كثرة النعم الالهية كثرة خارجة عن حيطة الاحصاء وبالحقيقة ما من شئ الا وهو نعمة إذا قيس إلى النظام الكلى وان كان ربما وجد بينها ما ليس بنعمة إذا قيس إلى بعض آخر. وقد علل سبحانه ذلك بقوله ان الله لغفور رحيم وهو من الطف التعليل وادقه فافاد سبحانه ان خروج النعمة عن حد الاحصاء انما هو من بركات اتصافه تعالى بصفتي المغفرة والرحمة فانه بمغفرته والمغفرة هي الستر يستر ما في الاشياء من وبال النقص وشوهة القصور وبرحمته والرحمة اتمام النقص ورفع الحاجة يظهر فيها الخير والكمال ويحليها بالجمال فببسط المغفرة والرحمة على الاشياء يكون كل شئ نافعا في غيره خيرا مطلوبا عنده فيصير نعمة بالنسبة إليه فالاشياء بعضها نعمة

[ 220 ]

لبعض فللنعمة الالهية من السعة والعرض ما لمغفرته ورحمته من ذلك فان تعدوا نعمة الله لا تحصوها فافهم ذلك. والاية من الموارد التى استعملت فيها المغفره في غير الذنب والمعصية للامر المولوي كما هو المعروف عند المتشرعة. وقوله والله يعلم ما تسرون وما تعلنون اشارة إلى الركن الثالث من اركان الربوبية وهو العلم فان الاله لو كان غير متصف بالعلم استوت العبادة واللاعبادة بالنسبة إليه فكانت عبادته لغوا لا اثر لها. فمن الواجب في الرب المعبود ان يكون له علم ولا كل علم كيفما كان بل العلم بظاهر من يعبده وباطنه فان العبادة متقومة بالنية فهى انما تقع عبادة حقيقة إذا اتى بها عن نية صالحة وهو مما يرجع إلى الضمير فلا يتم العلم بكون صورة العبادة واجدة لحقيقة معناها الا بعد احاطة المعبود بظاهر من يعبده وباطنه لكن الله سبحانه عليم بما يسره الانسان وما يعلنه كما انه خالق منعم ويستحق بذلك ان يعبد. ومن هنا يظهر وجه اختيار ما في الاية من التعبير لبيان علمه فلم يعبر بمثل قوله عالم الغيب والشهادة وقوله والله بكل شئ عليم بل قال والله يعلم ما تسرون وما تعلنون فذكر العلم بالاسرار والاعلان واضافه إلى الانسان لان الكلام في عبادة الانسان لربه والواجب في العلم بالعبادة المرتبطة بعمل الجوارح والقلب جميعا ان يكون عالما بما يسره الانسان وما يعلنه من النية القلبية والاحوال والحركات البدنية. وقوله والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون اشارة إلى فقدان الركن الاول من اركان الربوبية في آلهتهم الذين يدعون من دون الله ويتفرع عليه الركن الثاني وهو ايتاء النعمة فليس الذين يدعونهم آلهة واربابا والله الرب. وقوله اموات غير احياء وما يشعرون ايان يبعثون اشارة إلى فقدان الركن الثالث من اركان الربوبية في اصنامهم وهو العلم بما يسرون وما يعلنون وقد بالغ في نفى ذلك فنفى اصل الحياة المستلزم لنفى مطلق العلم فضلا عن نوعه الكامل الذى هو العلم بما يسرون وما يعلنون فقال اموات غير احياء فاثبت الموت اولا

[ 221 ]

وهو لا يجامع الشعور ثم اكده بنفى الحياة ثانيا وخص من وجوه جهلهم عدم شعورهم متى يبعث عبادهم من الناس فقال وما يشعرون ايان يبعثون أي ما يدرى الاصنام ايان يبعث عبادهم فان العبادة هي التى يجزى بها الانسان يوم البعث فمن الواجب في الاله المعبود ان يعلم متى يوم البعث حتى يجزى عباده فيه عن عبادتهم وهؤلاء لا يدرون شيئا من ذلك. ومن هنا يظهر ان اول ضميري الجمع يشعرون للاصنام والثانى يبعثون للمشركين واما ارجاعهما كليهما إلى الاصنام فغير مرضى لان العلم بالبعث مختص به سبحانه محجوب عن غيره ولا يختص الجهل به بالاصنام واردأ منه قول بعضهم إن ضميري الجمع معا في الاية عائدان إلى المشركين هذا. والايات وان كانت مسوقة بظاهرها لنفى ربوبية الاصنام لكن البيان بعينه بأدنى دقة جار في ارباب الاصنام كالملائكة المقربين والجن والكملين من البشر والكواكب من كل ما يعبده الوثنيون فان صفات الخلق والانعام والعلم لا تقوم بالاصالة والاستقلال الا بالله سبحانه ولا ربوبية حقيقة الا بالاصالة والاستقلال فافهم. وفي الايتين اعني قوله والذين يدعون من دون الله إلى قوله يبعثون التفات من الخطاب إلى الغيبة ولعل النكتة فيه ذكر يوم البعث فيهما والمشركون لا يقولون به فحول الخطاب منهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتوسل بذلك إليه من غير اعتراض. وقوله الهكم اله واحد بيان لنتيجة الحجة التى اقيمت في الايات السابقة أي إذا كان الله سبحانه هو الواجد لما تتوقف عليه الالوهية وهى المعبودية بالحق وغيره تعالى ممن يدعون من دونه غير واجد لشئ مما تتوقف عليه وهو الخلق والانعام والعلم فالهكم الذى يحق له ان يعبد واحد ولازم معناه انه الله عز اسمه. (بحث روائي) في المجمع اربعون آية من اولها مكية والباقى من قوله والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم إلى آخر السورة مدنية عن الحسن وقتادة وقيل مكية كلها غير ثلاث آيات نزلت في انصراف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أحد وان عاقبتم فعاقبوا

[ 222 ]

إلى آخر السورة نزلت فيما بين مكة والمدينة عن ابن عباس وعطاء والشعبى وفي احدى الروايات عن ابن عباس بعضها مكى وبعضها مدنى فالمكي من اولها إلى قوله ولكم عذاب عظيم والمدنى قوله ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إلى قوله بأحسن ما كانوا يعملون. اقول وقد قدمنا ان الذى يعطيه السياق خلاف ذلك كله فراجع. وفي تفسير العياشي عن هشام بن سالم عن بعض اصحابنا عن ابى عبد الله عليه السلام قال سألته عن قول الله: " اتى امر الله فلا تستعجلوه قال إذا اخبر الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشئ إلى وقت فهو قوله: " أتى أمر الله فلا تستعجلوه " حتى يأتي ذلك الوقت وقال ان الله إذا أخبر ان شيئا كائن فكأنه قد كان اقول كأنه اشارة إلى إن التعبير في الآية بلفظ الماضي لتحقق الوقوع وفى الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال لما نزلت أتى أمر الله ذعر اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل فلا تستعجلوه فسكنوا وفيه اخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريد قال لما نزلت هذه الآية: " اتى امر الله فلا تستعجلوه " قال رجال من المنافقين بعضهم لبعض ان هذا يزعم إن امر الله قد أتى فامسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن فلما رأوا إنه لا ينزل شئ قالوا ما نراه نزل فنزلت: " اقترب للناس حسابهم " الآية فقالوا إن هذا يزعم مثلها ايضا فلما رأوا إنه لا ينزل شئ قالوا ما نراه نزل شئ فنزل: " ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى امة معدودة " الآية اقول والرواية تدل على إن المسلمين كان بينهم قبل الهجرة منافقون كما يشهد به بعض آخر من الروايات وفيه اخرج ابن ابي حاتم والطبراني وابن مردويه والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تطلع عليكم قبل الساعة سحابة سوداء من قبل المغرب مثل الترس فلا تزال ترتفع في السماء حتى تملا السماء ثم ينادي مناد يا ايها الناس فيقبل الناس بعضهم على بعض هل سمعتم ؟ فمنهم من يقول نعم ومنهم من

[ 223 ]

يشك ثم ينادى الثانية يا ايها الناس فيقول الناس هل سمعتم ؟ فيقولون نعم ثم ينادى ايها الناس اتى امر الله فلا تستعجلوه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فو الذى نفسي بيده ان الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه وان الرجل ليملؤ حوضه فما يسقى فيه شيئا وان الرجل ليحلب ناقته فما يشربه ويشغل الناس. اقول وقد رام بعضهم ان يستفيد من هذه الروايات الثلاث وفي معناها بعض روايات اخر ان المراد بالامر هو يوم القيامة ولا دلالة فيها على ذلك. اما الرواية الاولى فلا يدل ذعرهم انهم فهموا منها ذلك فان امر الله ايا ما كان مما يهيب عباده على انه لا حجة في فهمهم وليس الشبهة مفهومية حتى يرجع إليهم بما هم اهل اللسان. على ان الرواية لا تخلو عن شئ فان الله سبحانه يعد الاستعجال بالقيامة من صفات الكفار ويذمهم عليه ويبرئ المؤمنين منه قال: " والذين آمنوا مشفقون منها " الشورى: 18 وقد مرت الاشارة إليه في البيان المتقدم هذا إذا كان الخطاب في قوله فلا تستعجلوه للمؤمنين واما إذا كان المخاطب به المشركين وهم كانوا يستعجلونه فمعنى النهى عن استعجالهم هو حلول الاجل وقرب الوقوع لا الامهال والانظار ولا معنى حينئذ لسكونهم لما سمعوا قوله فلا تستعجلوه. واما الرواية الثانية فظاهرها انهم فهموا منها العذاب الدنيوي دون الساعة فهى تؤيد ما قدمناه في البيان لا ما ذكروه. واما الرواية الثالثة فاقصى ما تدل عليه ان قيام الساعة من مصاديق اتيان امر الله ولا ريب في ذلك وهو غير كون المراد بالامر في الاية هو الساعة. وفي كتاب الغيبة للنعماني باسناده عن عبد الرحمان بن كثير عن ابى عبد الله عليه السلام: في قوله عز وجل: " اتى امر الله فلا تستعجلوه قال هو امرنا امر الله عز وجل فلا يستعجل به يؤيده بثلاثة اجناد الملائكة والمؤمنون والركب وخروجه كخروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك قوله كما اخرجك ربك من بيتك بالحق. اقول ورواه المفيد في كتاب الغيبة عن عبد الرحمان عنه عليه السلام ومراده

[ 224 ]

ظهور المهدى عليه السلام كما صرح به في روايات اخر وهو من جرى القرآن أو بطنه. وفي الكافي باسناده عن سعد الاسكاف قال: اتى رجل امير المؤمنين عليه السلام يسأله عن الروح أليس هو جبرئيل ؟ فقال له امير المؤمنين عليه السلام جبرئيل من الملائكة والروح غير جبرئيل فكبر ذلك على الرجل فقال له لقد قلت عظيما من القول ما احد يزعم ان الروح غير جبرئيل فقال له امير المؤمنين عليه السلام انك ضال تروى عن اهل الضلال يقول الله لنبيه اتى امر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون ينزل الملائكة بالروح والروح غير الملائكة. اقول وهو يؤيد ما قدمناه وفي روايات اخر انه خلق اعظم من جبرئيل. وفي تفسير القمى: في قوله تعالى فإذا هو خصيم مبين قال عليه السلام خلقه من قطرة من ماء مهين فيكون خصيما متكلما بليغا وفيه: في قوله تعالى حين تريحون وحين تسرحون قال عليه السلام حين ترجع من المرعى وحين تخرج إلى المرعى وفي تفسير العياشي عن زرارة عن احدهما عليه السلام قال سألته عن ابوال الخيل والبغال والحمير قال نكرهها قلت أليس لحمها حلالا ؟ قال فقال أليس قد بين الله لكم والانعام خلقها لكم فيها دف ء ومنافع ومنها تأكلون وقال في الخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة فجعل الاكل من الانعام التى قص الله في الكتاب وجعل للركوب الخيل والبغال والحمير وليس لحومها بحرام ولكن الناس عافوها. اقول والروايات في الخيل والبغال والحمير مختلفة ومذهب اهل البيت عليهم السلام حلية اكل لحومها على كراهية. وفي تفسير القمى: في قوله تعالى ويخلق ما لا تعلمون قال قال عليه السلام العجائب التى خلقها الله في البر والبحر وفي الدر المنثور في قوله تعالى: " وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر " اخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن الانباري في المصاحف عن على انه كان يقرء هذه الاية فمنكم جائر وفي تفسير العياشي عن اسماعيل بن ابى زياد عن جعفر بن محمد عن ابيه عن آبائه

[ 225 ]

عن على عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله: وبالنجم هم يهتدون قال هو الجدى لانه نجم لا يدور عليه بناء القبلة وبه يهتدى اهل البر والبحر. اقول وهو مروى عن الصادق عليه السلام ايضا وفي الكافي بإسناده عن داود الجصاص قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: وعلامات وبالنجم هم يهتدون قال - النجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعلامات الائمة عليهم السلام أقول ورواه ايضا بطريقين آخرين عنه وعن الرضا عليه السلام ورواه العياشي والقمى في تفسيريهما والشيخ في أماليه عن الصادق عليه السلام. وليس بتفسير وإنما هو من البطن ومن الدليل عليه ما رواه الطبرسي في المجمع قال قال أبو عبد الله عليه السلام: نحن العلامات والنجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولقد قال إن الله جعل النجوم أمانا لاهل السماء - وجعل أهل بيتى امانا لاهل الارض * * * الهكم اله واحد فالذين لا يؤمنون بالاخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون - 22 لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين - 23 وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الاولين - 24 ليحملوا اوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم الا ساء ما يزرون - 25 قد مكر الذين من قبلهم فاتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون - 26

[ 226 ]

ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول اين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين اوتوا العلم ان الخزى اليوم والسوء على الكافرين - 27 الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي انفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى ان الله عليم بما كنتم تعملون - 28 فادخلوا ابواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين - 29 وقيل للذين اتقوا ما ذا انزل ربكم قالوا خيرا للذين احسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الاخرة خير ولنعم دار المتقين - 30 جنات عدن يدخلونها تجرى من تحتها الانهار لهم فيها ما يشاؤن كذلك يجزى الله المتقين - 31 الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون - 32 هل ينظرون الا أن تأتيهم الملائكة أو ياتي امر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا انفسهم يظلمون - 33 فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن - 34 وقال الذين اشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل الا البلاغ المبين - 35 ولقد بعثنا في كل امة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم

[ 227 ]

من حقت عليه الضلالة فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين - 36 إن تحرص على هداهم فان الله لا يهدى من يضل وما لهم من ناصرين - 37 وأقسموا بالله جهد ايمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن اكثر الناس لا يعلمون - 38 ليبين لهم الذى يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا انهم كانوا كاذبين - 39 انما قولنا لشئ إذا اردناه ان نقول له كن فيكون - 40 (بيان) هذا هو الشطر الثاني من آيات صدر السورة وقد كان الشطر الاول يتضمن توحيد الربوبية واقامة الحجة على المشركين في ذلك بعد ما انذرهم باتيان الامر ونزه الله سبحانه عن شركهم. وهذا الشطر الثاني يتضمن ما يناسب المقام ذكره من مساوى صفات المشركين المتفرعة على انكارهم التوحيد وأباطيل اقوالهم كاستكبارهم على الله واستهزائهم باياته وانكارهم الحشر وبيان بطلانها واظهار فسادها وتهديدهم باتيان الامر وحلول العذاب الدنيوي والايعاد بعذاب يوم الموت ويوم القيامة وحقائق أخر ستنكشف بالبحث. قوله تعالى الهكم اله واحد فالذين لا يؤمنون بالاخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون قد تقدم الكلام في قوله الهكم اله واحد وانه نتيجة الحجة التي اقيمت في الايات السابقة. وقوله فالذين لا يؤمنون بالاخرة الخ تفريع عليه وافتتاح لفصل

[ 228 ]

جديد من الكلام حول اعمال الكفار من اقوالهم واعمالهم الناشئة عن عدم ايمانهم بالله سبحانه وانما ذكر عدم ايمانهم بالاخرة ولم يذكر عدم ايمانهم بالله وحده لان الذى اقيمت عليه الحجة هو التوحيد الكامل وهو وجوب الاعتقاد باله عليم قدير خلق كل شئ واتم النعمة لا لغوا باطلا بل بالحق ليرجعوا إليه فيحاسبهم على ما عملوا ويجازيهم بما اكتسبوا مما عهده إليهم من الامر والنهى بواسطة الرسل. فالتوحيد المندوب إليه في الايات الماضية هو القول بوحدانيته تعالى والايمان بما اتى به رسل الله والايمان بيوم الحساب والجزاء ولذلك وصف الكفار بعدم الايمان بالاخرة لان الايمان بها يستلزم الايمان بالوحدانية والرسالة. ولك ان تراجع في استيضاح ما ذكرناه قوله في اول الايات ينزل الملائكة بالروح من امره على من يشاء من عباده ان انذروا انه لا اله الا انا فاتقون خلق السماوات والارض بالحق سبحانه عما يشركون فانه كلام جامع للاصول الثلاثة. وقوله قلوبهم منكرة أي للحق وقوله وهم مستكبرون أي عن الحق والاستكبار على ما ذكروه طلب الترفع بترك الاذعان للحق. والمعنى الهكم واحد على ما تدل عليه الايات الواضحة في دلالتها وإذا كان الامر على هذا الوضوح والجلاء لا يستتر بستر ولا يرتاب فيه فهم فالذين لا يؤمنون بالاخرة قلوبهم منكرة للحق جاحدة له عنادا وهم مستكبرون عن الانقياد للحق من غير حجة ولا برهان. قوله تعالى لا جرم ان الله يعلم ما يسرون وما يعلنون انه لا يحب المستكبرين لا جرم كلمة مركبة باقية على حالة واحدة يفيد معنى التحقيق على ما ذكره الخليل وسيبويه واليه يرجع ما ذكره غيرهما وان اختلفوا في اصل تركبه قال الخليل وهو كلمة تحقيق ولا يكون الا جوابا يقال فعلوا كذا فيقول السامع لا جرم يندمون. والمعنى من المحقق أو حق ان الله يعلم ما يسرون وما يعلنون وهو كناية وتهديد بالجزاء السئ أي انه يعلم ما يخفونه من اعمالهم وما يظهرونه فسيجزيهم بما عملوا ويؤاخذهم على ما انكروا واستكبروا انه لا يحب المستكبرين.

[ 229 ]

قوله تعالى: " وإذا قيل لهم ما ذا انزل ربكم قالوا اساطير الاولين " قال الراغب في المفردات السطر والسطر بفتح فسكون أو بفتحتين السطر من الكتابة ومن الشجر المغروس ومن القوم الوقوف إلى ان قال وجمع السطر اسطر وسطور واسطار. قال واما قوله اساطير الاولين فقد قال المبرد هي جمع اسطورة نحو ارجوحة واراجيح واثفية واثافى واحدوثة واحاديث وقوله تعالى: " وإذا قيل لهم ماذا انزل ربكم قالوا اساطير الاولين " أي شئ كتبوه كذبا ومينا فيما زعموا نحو قوله تعالى: " اساطير الاولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة واصيلا " انتهى وقال غيره اساطير جمع اسطار واسطار جمع سطر فهو جمع الجمع وقوله وإذا قيل لهم ما ذا انزل ربكم يمكن ان يكون القائل بعض المؤمنين وانما قاله اختبارا لحالهم واستفهاما لما يرونه في الدعوة النبوية ويمكن ان يكون من المشركين وانما قاله لهم ليقلدهم فيما يرونه وعبر عن القرآن بمثل قوله ما ذا انزل ربكم لنوع من التهكم والاستهزاء ويمكن ان يكون شاكا متحيرا باحثا والاية التالية وكذا قوله فيما سيأتي وقيل للذين اتقوا ما ذا انزل ربكم يؤيد احد الوجهين الاخيرين. وقوله قالوا اساطير الاولين أي الذى يسأل عنه اكاذيب خرافية كتبها الاولون واثبتوها وتركوها لمن خلفهم ولازم هذا القول دعوى انه ليس نازلا من عند الله سبحانه. قوله تعالى: " ليحملوا اوزارهم كاملة يوم القيامة إلى آخر الاية قال في المفردات الوزر بفتحتين الملجأ الذى يلتجأ إليه من الجبل قال تعالى: " كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر " والوزر بالكسر فالسكون الثقل تشبيها بوزر الجبل ويعبر بذلك عن الاثم كما يعبر عنه بالثقل قال تعالى: " ليحملوا اوزارهم كاملة " الاية كقوله: " وليحملن اثقالهم واثقالا مع اثقالهم ". قال وحمل وزر الغير بالحقيقة هو على نحو ما اشار إليه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله من سن سنة حسنة كان له اجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من اجره شئ ومن

[ 230 ]

سن سنة سيئة كان له وزرها ووزر من عمل بها أي مثل وزر من عمل بها وقوله: " ولا تزر وازرة وزر اخرى " أي لا تحمل وزره من حيث يتعرى المحمول عنه انتهى. والذى ذكره من الحديث النبوى مروى من طرق الخاصة والعامة جميعا ويصدقه من الكتاب العزيز مثل قوله تعالى: " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بايمان ألحقنا بهم ذريتهم وما التناهم من عملهم من شئ كل امرء بما كسب رهين " الطور: 21 وقوله: " ونكتب ما قدموا وآثارهم " يس: 12 والايات في هذا المعنى كثيرة. واما قوله في تفسير قوله صلى الله عليه وآله وسلم: كان له وزرها ووزر من عمل بها أي مثل وزر من عمل بها فكلام ظاهري لا بأس بأن يوجه به الاية والرواية لرفع التناقض بينهما وبين مثل قوله تعالى: " لا تزر وازرة وزر اخرى " الانعام: 164 وقوله: " ليوفينهم ربك اعمالهم " هود: 111 إذ لو حمل الآمر وزر السيئة وعذب بعذابها دون الفاعل ناقض ذلك الاية الاولى ولو قسم بينهما وحمل كل منهما بعض الوزر وعذب ببعض العذاب ناقض الاية الثانية واما لو حمل السان والآمر مثل ما للعامل الفاعل لم يناقض شيئا. واما بحسب الحقيقة فكما ان العمل عمل واحد حسنة أو سيئة كذلك وزره وعذابه مثلاواحد لا تعدد فيه غير ان نفس العمل لما كان قائما باكثر من واحد قيامه بالآمر والفاعل قياما طوليا لا عرضيا يوجب المحذور كانت تبعته من الوزر والعذاب قائمة باكثر من واحد فهناك وزر واحد يزرها اثنان وعذاب واحد يعذب به الآمر والفاعل جميعا. ويسهل تصور ذلك بالتأمل في مضمون الايات المبنية على تجسم الاعمال فان العمل كالسيئة مثلا على تقدير التجسم واحد شخصي يتمثل لاثنين ويعذب بتمثله انسانين الآمر والفاعل أو السان والمستن فهو بوجه بعيد كالشخص الواحد يتصوره اثنان فيلتذان أو يتألمان معا به وليس الا واحدا. وقد تقدم بعض الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: " ليميز الله الخبيث من الطيب " الاية في الجزء التاسع من الكتاب وسياتى ان شاء الله تفصيل القول فيه فيما يناسبه من المورد.

[ 231 ]

وكيف كان فقوله ليحملوا اوزارهم كاملة يوم القيامة ومن اوزار الذين يضلونهم بغير علم اللام للغاية وهى متعلقة بقوله قالوا اساطير الاولين وفي قوله يضلونهم دلالة على ان حملهم لاوزار غيرهم انما هو من جهة اضلالهم فيعود الاضلال غاية والحمل غاية الغاية والتقدير قالوا اساطير الاولين ليضلوهم وهم انفسهم ضالون فيحملوا اوزار انفسهم كاملة ومن اوزار اولئك الذين يضلونهم بغير علم. وفي تقييد قوله ليحملوا اوزارهم بقوله كاملة دفع لتوهم التقسيم والتبعيض بان يحملوا بعضا من اوزار انفسهم وبعضا من اوزار الذين يضلونهم فيعود الجميع اوزارا كاملة بل يحملون اوزار انفسهم كاملة ثم من اوزار الذين يضلونهم. وقوله ومن اوزار الذين يضلونهم من تبعيضية لانهم لا يحملون جميع اوزارهم بل اوزارهم التى ترتبت على اضلالهم خاصة بشهادة السياق فالتبعيض انما هو لتمييز الاوزار المترتبة على الاضلال من غيرها لا للدلالة على تبعيض كل وزر من اوزار الاضلال وحمل بعضه على هذا وبعضه على ذاك ولا تقسيم مجموع اوزار الاضلال وحمل قسم منه على هذا وقسم منه على ذاك مع تعريته عن القسم الاخر فان امثال قوله تعالى: " ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " الزلزال: 8 تنافى ذلك فافهم. ومما تقدم يظهر وهن ما استفاده بعضهم من قوله ليحملوا اوزارهم كاملة يوم القيامة إن مقتضاه انه لم ينقص منها شئ ولم تكفر بنحو بلية تصيبهم في الدنيا أو طاعة مقبولة فيها كما تكفر بذلك اوزار المؤمنين. وكذا ما استفاده بعض آخر ان في الاية دلالة على انه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلا للكل لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار به فائدة. وجه الوهن ان ما ذكراه من خزى الكافرين واكرام المؤمنين وان كان حقا في نفسه كما تدل عليه الايات الدالة على خزى الكفار بما يصيبهم في الدنيا وحبط اعمالهم وشمول المغفرة والشفاعة لطائفة من المؤمنين لكن هذه الاية ليست ناظرة إلى شئ من ذلك بل العناية فيها انما هي بالفرق بين اوزار انفسهم واوزار غيرهم الذين اضلوهم وان الطائفة الثانية يلحقهم بعضها وهى التى ترتبت من الاوزار على الاضلال بخلاف

[ 232 ]

الطائفة الاولى فهى لهم انفسهم. واوهن منهما ما ذكره بعضهم ان من في قوله ومن اوزار الذين الخ زائدة أو بيانية وهو كما ترى. وتقييده سبحانه قوله يضلونهم بقوله بغير علم للدلالة على ان الذين اضلهم هؤلاء المشركون الذين قالوا اساطير الاولين انما ضلوا باتباعهم لهم تقليدا وبغير علم فالقائلون ائمة الضلال وهؤلاء الضلال اتباعهم ومقلدوهم ثم ختم سبحانه الاية بذمهم وتقبيح امرهم جميعا فقال: " ألا ساء ما يزرون " قوله تعالى: " قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد " الخ اتيانه تعالى بنيانهم من القواعد هو حضور امره تعالى عنده بعد ما لم يكن حاضرا وهذا شائع في الكلام وخرور السقف سقوطه على الارض وانهدامه والظاهر كما يشعر به السياق ان قوله فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم كناية عن ابطال كيدهم وافساد مكرهم من حيث لا يتوقعون كمن يتقى امامه ويراقبه فيأتيه العدو من خلفه فالله سبحانه يأتي بنيان مكرهم من ناحية قواعده وهم مراقبون سقفه مما ياتيه من فوق فينهدم عليهم السقف لا بهادم يهدمه من فوقه بل بانهدام القواعد. وعلى هذا فقوله وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون عطف تفسيرى يفسر قوله فأتى الله بنيانهم الخ والمراد بالعذاب العذاب الدنيوي. وفي الاية تهديد للمشركين الذين كانوا يمكرون بالله ورسوله بتذكيرهم ما فعل الله بالماكرين من قبلهم من مستكبرى الامم الماضية حيث رد مكرهم إلى انفسهم فكانوا هم الممكورين. قوله تعالى: " ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول اين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم " الاخزاء من الخزى وهو على ما ذكره الراغب الذل الذى يستحيى منه والمشاقة من الشق وهو قطع بعض الشئ وفصله منه فهى المخاصمة والمعاداة والاختلاف ممن من شأنه ان يأتلف ويتفق فمشاقة المشركين في شركائهم هو اختلافهم مع اهل التوحيد وهم امة واحدة فطرهم الله جميعا على التوحيد ودين الحق ومخاصمتهم

[ 233 ]

لهم وانفصالهم عنهم. والمعنى ان الله سبحانه سيخزيهم يوم القيامة ويضرب عليهم الذلة والهوان بقوله اين شركائي الذين كنتم تشاقون اهل الحق فيهم وتخاصمونهم وتوجدون الاختلاف في دين الله. قوله تعالى: " قال الذين اوتوا العلم ان الخزى اليوم والسوء على الكافرين " الخزى ذلة الموقف والسوء العذاب على ما يفيده السياق. وهؤلاء الذين وصفهم الله بانهم اوتوا العلم واخبر أنهم يتكلمون بكذا هم الذين رزقوا العلم بالله وانكشفت لهم حقيقة التوحيد فان ذلك هو الذى يعطيه السياق من جهة المقابلة بينهم مع وصفهم بالعلم وبين المشركين الذين ينكشف لهم يومئذ انهم ما كانوا يعبدون الا اسماء سموها وسرابا توهموه. على ان الله سبحانه يخبر عنهم انهم يتكلمون يومئذ ويقولون كذا وقد قال في وصف اليوم: " لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا " النبأ: 38 والقول لا يكون صوابا بحق المعنى الا مع كون قائله مصونا من خطأه ولغوه وباطله ولا يكون مصونا في قوله الا إذا كان مصونا في فعله وفي علمه فهؤلاء قوم لا يرون الا الحق ولا يفعلون الا الحق ولا ينطقون الا بالحق. فان قلت فالذين اوتوا العلم بناء على ما فسرهم اهل العصمة لكن تدفعه كثرة ورود هذه اللفظة في كلامه تعالى وإرادة غيرهم كقوله: " وقال الذين اوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير " القصص: 80 وقوله: " وليعلم الذين اوتوا العلم انه الحق من ربك فيؤمنوا به " الحج: 54 إلى غير ذلك من الموارد الظاهر فيها عدم ارادة العصمة من ايتاء العلم. قلت ما ذكرناه انما هو استفادة بمؤنة المقام لا انه مدلول اللفظ كلما اطلق في كلامه تعالى. واما قولهم ان المراد بالذين اوتوا العلم هم الانبياء فقط أو الانبياء والمؤمنون الذين علموا في الدنيا بدلائل التوحيد أو المؤمنون فحسب أو الملائكة فلا دليل في كلامه تعالى على واحد منها بخصوصه.

[ 234 ]

قوله تعالى: " الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي انفسهم فألقوا السلم " إلى آخر الاية الظاهر انه تفسير للكافرين الواقع في آخر الاية السابقة كما ان قوله الاتى الذين تتوفاهم الملائكة طيبين الخ تفسير للمتقين الواقع في آخر الاية التى قبله ولا يستلزم كونه بيانا للكافرين كونه من تمام قول الذين اوتوا العلم حتى يختل نظم الكلام بقولهم ان الخزى اليوم الخ ثم بيانهم بقولهم الذين تتوفاهم الملائكة الخ دون ان يقولوا الذين توفاهم الملائكة كما لا يخفى. وقوله فألقوا السلم أي الاستسلام وهو الخضوع والانقياد وضمير الجمع للكافرين والمعنى الكافرون هم الذين تتوفاهم الملائكة ويقبضون ارواحهم والحال انهم ظالمون لانفسهم بكفرهم بالله فالقوا السلم وقدموا الخضوع والانقياد مظهرين بذلك انهم ما كانوا يعملون من سوء فيرد عليهم قولهم ويكذبون ويقال لهم بلى قد فعلتم وعملتم ان الله عليم بما كنتم تعملون قبل ورودكم هذا المورد وهو الموت. قوله تعالى: " فادخلوا ابواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين " الخطاب للمجموع كما كان قوله ان الخزى اليوم والسوء على الكافرين وكذا قوله الذين تتوفاهم الملائكة الخ ناظرا إلى جماعة الكافرين دون كل واحد واحد منهم. وعلى هذا يعود معناه إلى مثل قولنا ليدخل كل واحد منكم بابا من جهنم يناسب عمله وموقفه من الكفر لا ان يدخل كل واحد منهم جميع الابواب أو اكثر من واحد منها وقد تقدم الكلام في معنى ابواب جهنم في تفسير قوله تعالى: " لها سبعة ابواب لكل باب منهم جزء مقسوم " الحجر 44. والمتكبرون هم المستكبرون بحسب المصداق وان كانت العناية اللفظية مختلفة فيهما كالمسلم والمستسلم فالمستكبر هو الذى يطلب الكبر لنفسه باخراجه من القوة إلى الفعل واظهاره لغيره والمتكبر هو الذى يقبله لنفسه ويأخذه صفة. قوله تعالى: " وقيل للذين اتقوا ما ذا انزل ربكم قالوا خيرا " إلى آخر الاية. اخذ المسؤل عنهم هم الذين اتقوا أي الذين شأنهم في الدنيا انهم تلبسوا بالتقوى وهم المتصفون به المستمرون بدليل اعادة ذكرهم بعد بلفظ المتقين مرتين فيكون المسؤل

[ 235 ]

عنهم من هذه الطائفة خيارهم الكاملين في الايمان كما كان المسؤل عنهم في الطائفة الاخرى شرارهم الكاملين في الكفر وهم المستكبرون. فقول بعضهم ان المراد بالذين اتقوا مطلق المؤمنين الذين اتقوا الشرك أو الشرك والمعاصي في الجملة ليس في محله. وقوله قالوا خيرا أي انزل خيرا لانه انزل قرآنا يتضمن معارف وشرائع في اخذها والعمل بها خير الدنيا والاخرة وفي قولهم خيرا اعتراف بكون القرآن نازلا من عنده تعالى مضافا إلى وصفهم له بالخيرية وفي ذلك اظهار منهم المخالفة للمستكبرين حيث اجابوا بقولهم اساطير الاولين أي هو اساطير ولو قال المتقون خير بالرفع لم يكن فيه اعتراف بالنزول كما انه لو قال المستكبرون اساطير الاولين بالنصب كان فيه اعتراف بالنزول كذا قيل. وقوله للذين احسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الاخرة خير ظاهر السياق انه بيان لقولهم خيرا وهل هو تتمة قولهم أو بيان منه تعالى ؟ ظاهر قوله ولنعم دار المتقين جنات عدن إلى آخر الاية انه كلام منه تعالى يبين به وجه الخيرية فيما انزله إليهم فانه اشبه بكلام الرب تعالى منه بكلام المربوب وخاصة المتقين الذين لا يجترؤن على امثال هذه الاقتراحات. والمراد بالحسنة المثوبة الحسنة وذلك لانهم بالاحسان الذى هو العمل بما يتضمنه الكتاب يرزقون مجتمعا صالحا يحكم فيه العدل والاحسان وعيشة طيبة مبنية على الرشد والسعادة ينالون ذلك جزاء دنيويا لاحسانهم لقوله لهم في الدنيا ولدار الحياة الاخرة خير جزاء لان فيها بقاء بلا فناء ونعمة من غير نقمة وسعادة ليس معها شقاء. ومعنى الاية وقيل للمتقين من المؤمنين ماذا انزل ربكم من الكتاب وما شأنه ؟ قالوا انزل خيرا وكونه خيرا هو ان للذين احسنوا أي عملوا بما فيه فوضع الاحسان موضع الاخذ والعمل بما في الكتاب ايماء إلى ان الذى يامر به الكتاب اعمال حسنة في هذه الدنيا مثوبة حسنة ولدار الاخرة خير لهم جزاء. ثم مدح دارهم ليكون تأكيدا للقول فقال ولنعم دار المتقين ثم بين دار المتقين بقوله جنات عدن يدخلونها تجرى من تحتها الانهار لهم فيها ما يشاؤن

[ 236 ]

كذلك يجزى الله المتقين والمعنى ظاهر قوله تعالى: " الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون " بيان للمتقين كما كان قوله الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي انفسهم الخ بيانا للمستكبرين. والطيب تعرى الشئ مما يختلط به فيكدره ويذهب بخلوصه ومحوضته يقال طاب لى العيش أي خلص وتعرى مما يكدره وينغصه والقول الطيب ما كان عاريا من اللغو والشتم والخشونة وسائر ما يوجب فيه غضاضة والفرق بين الطيب والطهارة ان الطهارة كون الشئ على طبعه الاصلى بحيث يخلو عما يوجب التنفر عنه والطيب كونه على اصله من غير ان يختلط به ما يكدره ويفسد امره سواء تنفر عنه ام لا ولذلك قوبل الطيب بالخبيث المشتمل على الخبث الزائد قال تعالى: " الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات " النور: 26 وقال: " والبلد الطيب يخرج نباته باذن ربه والذى خبث لا يخرج إلا نكدا " الاعراف: 58. وعلى هذا فالمراد بكون المتقين طيبين في حال توفيهم خلوصهم من خبث الظلم في مقابل المستكبرين الذين وصفهم بالظلم حال التوفى في قوله السابق الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي انفسهم ويكون معنى الاية ان المتقين هم الذين تتوفاهم الملائكة متعرين عن خبث الظلم الشرك والمعاصي يقولون لهم سلام عليكم وهو تأمين قولى لهم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون وهو هداية لهم إليها. فالاية كما ترى تصف المتقين بالتخلص عن التلبس بالظلم وتعدهم الامن والاهتداء إلى الجنة فيعود مضمونها إلى معنى قوله: " الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون " الانعام: 82. وذكر بعض المفسرين ان المراد بالطيب في الاية الطهارة عن دنس الشرك وفسره بعضهم بكون اقوالهم وافعالهم زاكية والاكثر على تفسيره بالطهارة عن قذارة الذنوب وانت بالتأمل فيما تقدم تعرف ان شيئا مما ذكروه لا يخلو عن تسامح. قوله تعالى: " هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي امر ربك كذلك فعل

[ 237 ]

الذين من قبلهم " الخ رجوع إلى حديث المستكبرين من المشركين وذكر بعض احوالهم واقوالهم وقياسهم ممن سبقهم من طغاة الامم الماضين وما آل إليه امرهم. وقوله: " هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو ياتي امر ربك " سياق الاية وخاصة ما في الاية التالية من حديث العذاب ظاهر في انها مسوقة للتهديد فالمراد باتيان الملائكة نزولهم لعذاب الاستئصال وينطبق على مثل قوله: " ما ننزل الملائكة الا بالحق وما كانوا إذا منظرين " الحجر: 8 والمراد باتيان امر الرب تعالى قيام الساعة وفصل القضاء والانتقام الالهى منهم. واما كون المراد باتيان الامر ما تقدم في اول السورة من قوله اتى امر الله وقد قربنا هناك ان المراد به مجئ النصر وظهور الاسلام على الشرك فلا يلائم اللحن الشديد الذى في الاية تلك الملائمة وايضا سيأتي في ذيل الايات ذكر انكارهم للبعث واصرارهم على نفيه والرد عليهم وهو يؤيد كون المراد باتيان الامر قيام الساعة. وقد اضاف الرب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال امر ربك ولم يقل امر الله أو امر ربهم ليدل به على ان فيه انتصارا له صلى الله عليه وآله وسلم وقضاء له عليهم. وقوله كذلك فعل الذين من قبلهم تأكيد للتهديد وتأييد بالنظير أي فعل الذين من قبلهم مثل فعلهم من الجحود والاستهزاء مما فيه بحسب الطبع انتظار عذاب الله فأصابهم سيئات ما عملوا الخ. وقوله وما ظلمهم الله ولكن كانوا انفسهم يظلمون معترضة يبين بها ان الذى نزل بهم من العذاب لم يستوجبه الا الظلم غير ان هذا الظلم كان هو ظلمهم انفسهم لا ظلما منه تعالى وتقدس ولم يعذبهم الله سبحانه عن ظلم وقع منهم مرة أو مرتين بل امهلهم إذ ظلموا حتى استمروا في ظلمهم واصروا عليه كما يدل عليه قوله كانوا انفسهم يظلمون فعند ذلك انزل عليهم العذاب ففى قوله وما ظلمهم الله الخ اثبات الاستمرار على الظلم عليهم ونفى اصل الظلم عن الله سبحانه. قوله تعالى فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن حاق بهم أي حل بهم وقيل معناه نزل بهم واصابهم والذى كانوا به يستهزؤن هو العذاب الذى كانت رسلهم ينذرونهم به ومعنى الاية ظاهر.

[ 238 ]

قوله تعالى: " وقال الذين اشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ " الخ الذى تورده الاية شبهة على النبوة من الوثنيين المنكرين لها ولذلك عرفهم بنعتهم الصريح حيث قال وقال الذين اشركوا ولم يكتف بالضمير ولم يقل وقالوا كما في الايات السابقة ليعلم ان الشبهة لهم بعينهم. وقوله لو شاء الله ما عبدنا جملة شرطية حذف فيها مفعول شاء لدلالة الجزاء عليه والتقدير لو شاء الله ان لا نعبد من دونه شيئا ما عبدنا الخ. وقول بعضهم ان الارادة والمشية لا تتعلق بالعدم وانما تتعلق بالوجود فلا معنى لمشية عدم العبادة فالاولى ان يقدر متعلق المشية امرا وجوديا ملازما لعدم العبادة كالتوحيد مثلا ويكون التقديم لو شاء الله ان نوحده أو ان نعبده وحده ما عبدنا من دونه من شئ واستدل بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن حيث علق عدم الكون على عدم المشية لا على مشية العدم وفيه ان ما ذكره حق بالنظر إلى حقيقة الامر إلا ان العنايات اللفظية والتوسعات الكلامية لا تدور دائما مدار الحقائق الكونية والانظار الفلسفية وان الافهام البسيطة ولم تكن افهام اولئك الوثنيين بأرقى منها كما تجيز ترتب الفعل الوجودى على المشية تجيز تعلق عدمه بها وفي كلامه صلى الله عليه وآله وسلم جريا على هذه العناية الظاهرية اللهم ان شئت ان لا تعبد لم تعبد. على انهم يشيرون بقولهم لو شاء الله ما عبدنا الخ إلى قول الرسل لهم لا تشركوا بالله ولا تعبدوا غير الله ولا تحرموا ما احل الله وهى نواه ومدلول النهى طلب الترك. على ان الوثنيين لا ينكرون توحيده تعالى في الالوهية بمعنى الصنع والايجاد وانما يشركون في العبادة بمعنى انهم يخصونه تعالى بالصنع والايجاد ويخصون آلهتهم بالعبادة فلهم آلهة كثيرون احدهم اله موجد غير معبود وهو الله سبحانه والباقون شفعاء معبودون غير موجدين فهم لا يعبدون الله اصلا لا انهم يعبدونه تعالى وآلهتهم جميعا وحينئذ لو كان التقدير لو شاء الله أن نوحده في العبادة أو ان نعبده وحده

[ 239 ]

لكان الاهم ان يقع في الجزاء توحيدهم له في العبادة أو عبادتهم له وحده لا نفى عبادتهم لغيره أو كان نفى عبادة الغير كناية عن توحيد عبادته أو عبادته وحده فافهم ذلك. وان كان ولا بد من تقدير متعلق المشية امرا وجوديا فليكن التقدير لو شاء الله ان نكف عن عبادة غيره ما عبدنا الخ حتى يتحد الشرط والجزاء بحسب الحقيقة في عين انهما يختلفان في النفى والاثبات. وقوله ما عبدنا من دونه من شئ لفظة من الاولى بيانية والثانية زائدة لتأكيد الاستغراق في النفى والمعنى ما عبدنا شيئا دونه ونظير ذلك قوله ولا حرمنا من دونه من شئ. وقوله نحن ولا آباؤنا بيان لضمير التكلم في عبدنا للدلالة على انهم يتكلمون عنهم وعن آبائهم جميعا لانهم كانوا يقتدون في عبادة الاصنام بآبائهم وقد تكرر في القرآن حكاية مثل قولهم انا وجدنا آباءنا على امة وانا على آثارهم مقتدون " الزخرف: 23. وقوله ولا حرمنا من دونه من شئ " عطف على قوله عبدنا الخ أي ولو شاء الله ان لا نحرم من دونه من شئ اونحل ما حرمناه ما حرمنا الخ والمراد البحيرة والسائبة وغيرهما مما حرموه. ثم ان قولهم لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ الخ ظاهر من جهة تعليق نفى العبادة على نفس مشيته تعالى في انهم ارادوا بالمشية ارادته التكوينية التى لا تتخلف عن المراد البتة ولو ارادوا غيرها لقالوا لو شاء الله كذا لاطعناه واستجبنا دعوته أو ما يفيد هذا المعنى. فكأنهم يقولون لو كانت الرسالة حقة وكان ما جاء به الرسل من النهى عن عبادة الاصنام والاوثان والنهى عن تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة وغيرها نواهى لله سبحانه كان الله سبحانه شاء ان لا نعبد شيئا غيره وان لا نحرم من دونه شيئا ولو شاء الله سبحانه ان لا نعبد غيره ولا نحرم شيئا لم نعبد ولم نحرم لاستحالة تخلف مراده عن ارادته لكنا نعبد غيره ونحرم اشياء فليس يشاء شيئا من ذلك فلا نهى ولا امر منه تعالى ولا شريعة ولا رسالة من قبله.

[ 240 ]

هذا تقرير حجتهم على ما يعطيه السياق ومغزى مرادهم ان عبادتهم لغير الله وتحريمهم لما حرموه وبالجملة عامة اعمالهم لم تتعلق بها مشية من الله بنهي ولو تعلقت لم يعملوها ضرورة. وليسوا يعنون بها إن مشية الله تعلقت بعبادتهم وتحريمهم فصارت ضرورية الوجود وهم ملجؤن في فعلها مجبرون في الاتيان بها فلا معنى لنهى الرسل عنها بعد الالجاء وذلك ان لو تفيد امتناع الجزاء لامتناع الشرط فيكون مفهوم الشرطية لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ انه لم يشأ ذلك فعبدنا غيره وان شئت قلت لكنا عبدنا غيره فانكشف انه لم يشأ ذلك واما مثل قولنا لكنه شاء أن نعبد غيره فعبدنا غيره أو قولنا لكنه شاء ان لا نوحده فعبدنا غيره فهو اجنبي عن مفهوم الشرطية ومنطوقها جميعا. على انهم لو عنوا ذلك وكان غرضهم رد النبوة باثبات الالجاء في افعالهم بما اقاموه من الحجة كانوا بذلك معترفين على الضلال مسلمين له غير انهم معتذرون عن اتباع الهدى الذى اتاهم به الرسل بالالجاء والاجبار وان الله شاء منهم ما هم عليه من الضلال والشقاء بعبادة غير الله وتحريم ما احل الله واجبرهم على ذلك فليسوا يقدرون على تركه ولا يستطيعون التخلف عنه. لكنهم مدعون للاهتداء مصرون على هذه المزعمة مصرحون بها كما حكى الله سبحانه ذلك عنهم بعد ذكر عبادتهم للملائكة إذ قال وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم ان هم الا يخرصون إلى ان قال: " بل قالوا انا وجدنا آباءنا على امة وانا على آثارهم مهتدون " الزخرف: 22 وقد تكرر في كلامه حكاية تعليلهم عبادة الاصنام بأنها سنة قومية قدسها سلفهم قبل خلفهم فمن الواجب ان يقدسها ويجرى عليها خلفهم بعد سلفهم واين هذا من الاعتراف بالضلال والشقاء ؟ وكذا ليسوا يعنون بهذه الحجة إن اعمالهم مخلوقة لانفسهم غير مرتبطة بالمشية الالهية ولا انه خالقها إذ الاعمال والافعال على هذا التقدير بمعزل من ان تتعلق بها الارادة الالهية وانما يتسبب تعالى لعدم فعل من الافعال بايجاد المانع عنه فكان الانسب حينئذ ان يقولوا لو شاء الله لصرفنا عن عبادة غيره وتحريم ما حرمناه وهو

[ 241 ]

مدفوع بظاهر الكلام أو يقولوا لو شاء الله شيئا من اعمالنا لبطل وخرج عن كونه عملا لنا ونحن مستقلون به. على انه لو كان معنى قولهم لو شاء الله ما عبدنا هو انه لو شاء لصرفنا كان حقا فلم يكن معنى لقوله تعالى في آية الزخرف السابقة: " وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم ان هم الا يخرصون " الزخرف: 20. فالحق انهم ارادوا بقولهم لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ ان يستدلوا بعبادتهم لها على ان المشية الالهية لم تتعلق بتركها من غير تعرض لتعلق المشية بفعل العبادة أو لكون المشية مستحيلة التعلق بعبادتهم إلا بالصرف. قوله تعالى: " كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل الا البلاغ المبين " خطاب للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بأمره ان يبلغ رسالته بلاغا مبينا ولا يعتنى بما لفقوه من الحجة فانها داحضة والحجة تامة عليهم بالبلاغ وفيه اشارة اجمالية إلى دحض حجتهم. فقوله كذلك فعل الذين من قبلهم أي على هذا الطريق الذى سلكه هؤلاء سلك الذين من قبلهم فعبدوا غير الله وحرموا ما لم يحرمه الله ثم إذا جاءتهم رسلهم ينهونهم عن ذلك قالوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ فالجملة كقوله تعالى: " كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بايات الله فأخذهم الله بذنوبهم " الانفال: 52. وقوله فهل على الرسل إلا البلاغ المبين أي بلغهم الرسالة بلاغا مبينا تتم به الحجة عليهم فانما وظيفة الرسل البلاغ المبين وليس من وظيفتهم ان يلجؤا الناس إلى ما يدعونهم إليه وينهونهم عنه ولا أن يحملوا معهم ارادة الله الموجبة التى لا تتخلف عن المراد ولا امره الذى إذا اراد شيئا قال له كن فيكون حتى يحولوا بذلك الكفر إلى الايمان ويضطروا العاصى على الاطاعة. فانما الرسول بشر مثلهم والرسالة التى بعث بها انذار وتبشير وهى مجموعة قوانين اجتماعية اوحاها إليه الله فيها صلاح الناس في دنياهم وآخرتهم صورتها صورة الاوامر والنواهي المولوية وحقيقتها الانذار والتبشير قال تعالى: " قل لا اقول لكم عندي

[ 242 ]

خزائن الله ولا اعلم الغيب ولا اقول لكم انى ملك " الانعام: 50 فهذا ما امر به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان يبلغهم وقد امر به نوحا ومن بعده من الرسل عليهم السلام ان يبلغوه اممهم كما في سورة هود وغيرها. وقال ايضا مخاطبا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: " قل انما انا بشر مثلكم يوحى إلى انما الهكم اله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه احدا " الكهف: 110. فهذا هو الذى يشير إليه على سبيل الاجمال بقوله كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل الا البلاغ المبين فان ظاهره كما اشرنا إليه سابقا ان هذه حجة دائرة بينهم قديما وحديثا وعلى هذا ليس من شأن الرسول اجبار الناس والجاؤهم على الايمان والطاعة بل البلاغ المبين بالانذار والتبشير وحجتهم لا تدفع ذلك فبلغ ما ارسلت به بلاغا مبينا ولا تطمع في هداية من ضل منهم وستفصل الايتان التاليتان ما اجملته هذه الاية وتوضحانها. قوله تعالى: " ولقد بعثنا في كل امة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة " الخ الطاغوت في الاصل مصدر كالطغيان وهو تجاوز الحد بغير حق واسم المصدر منه الطغوى قال الراغب الطاغوت عبارة عن كل متعد وكل معبود من دون الله ويستعمل في الواحد والجمع قال تعالى: " فمن يكفر بالطاغوت " والذين اجتنبوا الطاغوت " اولياؤهم الطاغوت " انتهى. وقوله ولقد بعثنا في كل امة رسولا اشارة إلى ان بعث الرسول امر لا يختص به امة دون امة بل هو سنة الهية جارية في جميع الناس بما انهم في حاجة إليه وهو يدركهم اينما كانوا كما اشار إلى عمومه في الاية السابقة اجمالا بقوله كذلك فعل الذين من قبلهم. وقوله ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت بيان لبعث الرسول على ما يعطيه السياق أي ما كانت حقيقة بعث الرسول الا ان يدعوهم إلى عبادة الله واجتناب الطاغوت لان الامر وكذا النهى من البشر وخاصة إذا كان رسولا ليس إلا دعوة عادية

[ 243 ]

لا الجاء واضطرارا تكوينيا ولا ان للرسول ان يدعى ذلك حتى يرد عليه انه لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ واذ لم يشأ فلا معنى للرسالة. ومن هنا يظهر ان قول بعضهم ان التقدير ليقول لهم اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ليس في محله. وقوله فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة أي كانت كل من هذه الامم مثل هذه الامة منقسمة إلى طائفتين فبعضهم هو من هداه الله إلى ما دعاهم إليه الرسول من عبادة الله واجتناب الطاغوت وذلك ان الهداية من الله سبحانه لا يشاركه فيها غيره ولا تنسب إلى احد دونه إلا بالتبع كما قال: " انك لا تهدى من احببت ولكن الله يهدى من يشاء " القصص: 56 وسنشير إليه في الاية التالية ان تحرص على هداهم فان الله لا يهدى من يضل والايات في حصر الهداية فيه تعالى كثيرة ولا يستلزم ذلك كونها امرا اضطراريا لا صنع فيه للعبد اصلا فانها اختيارية بالمقدمة كما يشير إليه قوله: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين " العنكبوت: 69 يفيد ان للهداية الالهية طريقا ميسرا للانسان وهو الاحسان في العمل وان الله لمع المحسنين لا يدعهم يضلون. وبعض هذه الامم الطائفة الثانية منهم هو من حقت عليه الضلالة أي ثبتت ولزمت وهذه الضلالة هي التى من قبل العبد بسوء اختياره وليس بالتى تتبعها مجازاة من الله فان الله يصفها بقوله حقت ثم يضيفها في الاية التالية إلى نفسه إذ يقول فان الله لا يهدى من يضل فقد كانت هناك ضلالة ثم حقت وثبتت باثبات الله مجازاة فصارت هي التى من قبل الله سبحانه مجازاة فتبصر. ولم ينسب الله سبحانه في كلامه إلى نفسه اضلالا الا ما كان مسبوقا بظلم من العبد أو فسق أو كفر وتكذيب أو نظائرها كقوله: " والله لا يهدى القوم الظالمين " الجمعة: 5 وعدم الهداية هو الاضلال وقوله: " ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء " ابراهيم: 27 وقوله: " وما يضل به الا الفاسقين " البقرة: 26 وقوله: " ان الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم " النساء: 168 وقوله: " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " الصف: 5 إلى غير ذلك من الايات.

[ 244 ]

ولم يقل سبحانه فمنهم من هدى الله ومنهم من اضله مع كون ضلالهم ضلال مجازاة لا مانع من اضافته إليه تعالى دفعا لايهام نسبة اصل الضلال إليه بل ذكر اولا من هداه ثم قابله بمن كان من حقه ان يضل وهو الذى اختار الضلالة على الهدى أي اختار ان لا يهتدى فلم يهده الله وحق له ذلك. وتوضيحه ببيان آخر ان خلاصة الفرق بين الضلال الابتدائي ونسبته إلى العبد والضلال مجازاة ونسبته إليه تعالى ونسبة الهداية ابتداء ومجازاة إلى الله سبحانه هي ان الله اودع في الانسان امكان الرشد واستعداد الاهتداء فان جرى على سلامة الفطرة ولم يبطل الاستعداد باتباع الهوى والمعصية أو اصلحه بالندامة والتوبة بعد المعصية هداه الله وهذه هداية مجازاة من الله سبحانه بعد الهداية الاولى الفطرية. وان اتبع هواه وعصى ربه بطل استعداده للاهتداء فلم يفض عليه الهدى وهو ضلاله بسوء اختياره فان لم يندم ولم يراجع اثبته الله على حاله وحقت عليه الضلالة وهو الضلال مجازاة. وربما توهم متوهم ان الامكان والاستعداد لا يكون الا ذا طرفين فالذي يمكنه الهدى يمكنه الضلال والانسان لا يزال مترددا بين آثار وجودية وافعال مثبتة والجميع منه تعالى حتى الاستعداد والامكان الاول. وهو من اوهن التوهم فان عد امكان الضلال وما يترتب عليه الضلال امرا وجوديا وعطاء ربانيا يفسد معنى الضلال ويبطله فان الضلال انما هو ضلال لكونه عدم الهداية فلو عاد امرا ثبوتيا لم يكن ضلالا بل صار الهدى والضلال كلاهما امرين وجوديين وعطاءين الهيين نظير ما يترتب على الجماد مثلا من الاثار الوجودية الخارجة عن الهدى والضلال. وبعبارة اخرى الضلال انما يكون ضلالا إذا كان مقيسا إلى الهدى ومن الواجب حينئذ ان يكون عدم الهدى وإذا اخذ امرا وجوديا لم يكن ضلالا فلم ينقسم الموضوع إلى مهتد وضال ولا حاله إلى هدى وضلال فلا مفر من اخذ الضلال امرا عدميا ونسبة الضلال الاول إلى نفسه العبد فاحسن التأمل فيه فلا تزل قدم بعد ثبوتها. وقوله فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ظاهر السياق

[ 245 ]

ان الخطاب للذين اشركوا القائلين لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ والالتفات إلى خطابهم لكونه اشد تأثيرا في تثبيت القول واتمام الحجة. والكلام متفرع على ما بين جوابا لحجتهم اجمالا وتفصيلا ومحصل المعنى ان الرسالة والدعوة النبوية ليست من الارادة التكوينية الملجئة إلى ترك عبادة الاصنام وتحريم ما لم يحرمه الله حتى يستدلوا بعدم وجود الالجاء على عدم وجود الرسالة وكذب مدعيها بل هي دعوة عادية بعث الله سبحانه بها رسلا يدعونكم إلى عبادة الله واجتناب الطاغوت وحقيقته الانذار والتبشير ومن الدليل على ذلك آثار الامم الماضية الظالمة التى تحكى عن نزول العذاب عليهم فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين حتى يتبين لكم ان الدعوة النبوية التى هي انذار حق وان الرسالة ليست كما تزعمون. قوله تعالى: " إن تحرص على هداهم فان الله لا يهدى من يضل وما لهم من ناصرين لما بين ان الامم الماضين انقسموا طائفتين وكانت احدى الطائفتين هم الذين حقت عليهم الضلالة وكانت هؤلاء الذين اشركوا وقالوا ما قالوا كالذين من قبلهم منهم بين في هذه الاية ان ثبوت الضلالة في حقهم انما هو ثبوت لا زوال معه وتحتم لا يقبل التغيير فانه لا هادى بالحقيقة الا الله فان جاز هداهم كان الله هو هاديهم لكنه لا يهديهم فانه يضلهم ولا يجتمع الهدى والضلال معا وليس هناك ناصر ينصرهم على الله فيقهره على هداهم فليؤيس منهم. ففى الاية تعزية للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وارشاد له ان لا يحرص في هداهم واعلام له ان القضاء قد مضى في حقهم وما يبدل القول لديه وما هو بظلام للعبيد. فقوله ان تحرص على هداهم الخ في تقدير ان تحرص على هداهم لم ينفعهم حرصك شيئا فليسوا ممن يمكن له الاهتداء فان الله هو الذى يهدى من اهتدى وهو لا يهديهم فانه يضلهم ولا يناقض تعالى فعل نفسه وليس لهم ناصرون ينصرونهم عليه. وفي هذه الايات الثلاث مشاجرات طويلة بين المجبرة والمفوضة وكل يفسرها بما يقتضيه مذهبه حتى قال الامام الرازي ان المشركين ارادوا بقولهم لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ الخ انه لما كان الكل من التوحيد والشرك والهدى والضلال

[ 246 ]

من الله كانت بعثة الانبياء عبثا فنقول هذا اعتراض على الله وجار مجرى طلب العلة في احكامه وافعاله تعالى وذلك باطل فلا يقال له لم فعلت هذا ولم لم تفعل ذلك ؟ قال فثبت ان الله تعالى انما ذم هؤلاء القائلين لانهم اعتقدوا ان كون الامر كذلك يمنع عن جواز بعثة الرسل لا لانهم كذبوا في قولهم ذلك انتهى ملخصا. وقال الزمخشري ان المشركين فعلوا ما فعلوا من القبيح ثم نسبوه إلى ربهم وقالوا لو شاء الله إلى آخره وهذا مذهب المجبرة بعينه كذلك فعل اسلافهم فهل على الرسل الا ان يبلغوا الحق وان الله لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان ويطلعوا على بطلان الشرك وقبحه وبراءة الله من افعال العباد وانهم فاعلوها بقصدهم وارادتهم واختيارهم وان الله باعثهم على جميلها وموفقهم له وزاجرهم عن قبيحها وموعدهم عليه انتهى موضع الحاجة وقد اطالوا البحث عن ذلك من الجانبين. وقد عرفت ان الايات تروم غرضا وراء ذلك وان مرادهم بقولهم لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ الخ ابطال الرسالة بأن ما اتى به الرسل من النهى عن عبادة غير الله وتحريم ما لم يحرمه الله لو كان حقا لكان الله مريدا لتركهم عبادة غيره وتحريم ما لم يحرمه ولو كان مريدا ذلك لم يتحقق منهم وليس كذلك واما إن الارادة الالهية تعلقت بفعلهم فوجب أو انها لم تتعلق ومن المحال أن تتعلق وليست افعالهم إلا مخلوقة لانفسهم من غير ان يكون لله سبحانه فيها صنع فانما ذلك امر خارج عن مدلول كلامهم اجنبي عن الحجة التى اقاموها على ما يستفاد من السياق كما تقدم. وفي قوله وما لهم من ناصرين دلالة على ان لغيرهم ناصرين كثيرين وذلك ان السياق يدل على انه ليس لهم ناصر اصلا لا واحد ولا كثير فنفى الناصرين بصيغة الجمع يكشف عن عناية زائدة بذلك أي ان هناك ناصرين لكنهم ليسوا لهم بل لغيرهم وليس الا من يهتدى بهدى الله ونظير الاية ما حكاه الله سبحانه عن المجرمين يوم القيامة: " فما لنا من شافعين " الشعراء: 100. وهؤلاء الناصرون هم الملائكة الكرام وسائر اسباب التوفيق والهداية والله سبحانه من ورائهم محيط قال تعالى: " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد " المؤمن: 51.

[ 247 ]

قوله تعالى: " واقسموا بالله جهد ايمانهم لا يبعث الله من يموت بلى " إلى آخر الاية قال في المفردات الجهد بفتح الجيم وضمها الطاقة والمشقة ابلغ من الجهد بالفتح قال وقال تعالى: " واقسموا بالله جهد ايمانهم " أي حلفوا واجتهدوا في الحلف ان يأتوا به على ابلغ ما في وسعهم انتهى. وقال في المجمع في معنى قوله واقسموا بالله جهد ايمانهم أي بلغوا في القسم كل مبلغ انتهى. وقولهم لا يبعث الله من يموت انكار للحشر والجملة كناية عن ان الموت فناء فلا يتعلق به بعده خلق جديد وهذا لا ينافى قول كلهم أو جلهم بالتناسخ فانه قول بتعلق النفس بعد مفارقتها البدن ببدن آخر انسانى أو غير انسانى وعيشها في الدنيا وهو قولهم بالتولد بعد التولد. وقوله بلى وعدا عليه حقا أي ليس الامر كما يقولون بل يبعث الله من يموت وعده وعدا ثابتا عليه حقا أي ان الله سبحانه اوجبه على نفسه بالوعد الذى وعد عباده واثبته اثباتا فلا يتخلف ولا يتغير. وقوله ولكن اكثر الناس لا يعلمون أي لا يعلمون انه من الوعد الذى لا يخلف والقضاء الذى لا يتغير لاعراضهم عن الايات الدالة عليه الكاشفة عن وعده وهى خلق السماوات والارض واختلاف الناس بالظلم والطغيان والعدل والاحسان والتكليف النازل في الشرائع الالهية. قوله تعالى: " ليبين لهم الذى يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا انهم كانوا كاذبين " اللام للغاية والغرض أي يبعث الله من يموت ليبين لهم الخ والغايتان في الحقيقة غاية واحدة فان الثانية من متفرعات الاولى ولوازمها فان الكافرين انما يعلمون انهم كانوا كاذبين في نفى المعاد من جهة تبين الاختلاف الذى ظهر بينهم وبين الرسل بسبب اثبات المعاد ونفيه وظهور المعاد لهم عيانا. وتبين ما اختلف فيه الناس من شؤن يوم القيامة وقد تكرر في كلامه هذا التعبير وما في معناه تكرارا صح معه جعل تبيين الاختلاف معرفا لهذا اليوم الذى ثقل في السماوات والارض وعلى ذلك يتفرع ما قصه الله سبحانه في كلامه من تفاصيل

[ 248 ]

ما يجرى فيه من المرور على الصراط وتطاير الكتب ووزن الاعمال والسؤال والحساب وفصل القضاء ومن المعلوم وخاصة من سياق آيات القيامة ان المراد بالاختلاف ليس ما يوجد بينهم بحسب الخلقة بنحو ذكورة وانوثة وطول وقصر وبياض وسواد بل ما يوجد في دين الحق من الاختلاف في اعتقاد أو عمل وقد بين الله ذلك لهم في هذه النشأة الدنيوية في كتبه المنزلة وبلسان انبيائه بكل طريق ممكن كما يقول بعد عدة آيات: " وما انزلنا عليك الكتاب الا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه " الاية: 64 من السورة. ومن هنا يظهر للمتدبر ان البيان الذى يخبر تعالى عنه ويخصه بيوم القيامة نوع آخر من الظهور والوضوح غير ما يتمشى من الكتاب والنبوة في هذه الدنيا من البيان بالحكمة والموعظة والجدال بالتى هي احسن وليس الا العيان الذى لا يتطرق إليه شك وارتياب ولا يهجس معه خطور نفساني بالخلاف كما يشير إليه قوله تعالى: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " ق: 22 وقوله: " يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون ان الله هو الحق المبين " النور: 25. فيومئذ يشاهدون حقائق ما اختلفوا فيه من المعارف الدينية الحقة والاعمال الصالحة وما اخلدوا إليه من الباطل ويفصل بينهم بظهور الحق وانجلائه. قوله تعالى: " انما قولنا لشئ إذا اردناه ان نقول له كن فيكون " هو نظير قوله في موضع آخر: " انما امره إذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون " يس: 82 ومنه يعلم انه تعالى يسمى امره قولا كما يسمى امره وقوله من حيث قوته واحكامه وخروجه عن الابهام وكونه مرادا حكما وقضاء قال تعالى: " وما اغنى عنكم من الله من شئ ان الحكم إلا لله " يوسف: 67 وقال: " وقضينا إليه ذلك الامر إن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين " الحجر: 66 وقال: " وإذا قضى امرا فانما يقول له كن فيكون " البقرة: 117 وكما يسمى قوله الخاص كلمة قال تعالى: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون " الصافات: 172 وقال: " ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " آل عمران

[ 249 ]

59 ثم قال في عيسى عليه السلام: " وكلمة القاها إلى مريم وروح منه ": النساء: 171. فتحصل من ذلك كله ان ايجاده تعالى اعني ما يفيضه على الاشياء من الوجود من عنده وهو بوجه نفس وجود الشئ الكائن هو امره وقوله حسب ما يسميه القرآن وكلمته لكن الظاهر ان الكلمة هي القول باعتبار خصوصيته وتعينه. ويتبين بذلك ان ارادته وقضاءه واحد وانه بحسب الاعتبار متقدم على القول والامرفهو سبحانه يريد شيئا ويقضيه ثم يامره ويقول له كن فيكون وقد علل عدم تخلف الاشياء عن امره بالطف التعليل إذ قال: " وهو الذى خلق السماوات والارض بالحق يوم يقول كن فيكون قوله الحق " الانعام: 73 فافاد ان قوله هو الحق الثابت بحقيقة معنى الثبوت أي نفس العين الخارجية التى هي فعله فلا معنى لفرض التخلف فيه وعروض الكذب أو البطلان عليه فمن الضرورى ان الواقع لا يتغير عما هو عليه فلا يخطئ ولا يغلط في فعله ولا يرد امره ولا يكذب قوله ولا يخلف في وعده. وقد تبين ايضا من هذه الاية ومن قوله: " وقال الذين اشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ " الخ ان لله سبحانه ارادتين ارادة تكوين لا يتخلف عنها المراد وارادة تشريع يمكن ان تعصى وتطاع وسنستوفي هذا البحث بعض الاستيفاء ان شاء الله (بحث روائي) في تفسير القمى باسناده عن ابى جعفر عليه السلام في قوله: " قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون قال بيت مكرهم أي ماتوا وابقاهم الله في النار " وهو مثل لاعداء آل محمد. اقول وظاهره ان قوله فأتى الله بنيانهم الخ كناية عن بطلان مكرهم. وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السلام قال فأتى الله

[ 250 ]

بنيانهم من القواعد قال كان بيت غدر يجتمعون فيه إذا ارادوا الشر وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " قال الذين اوتوا العلم " الاية قال قال عليه السلام الذين اوتوا العلم الائمة يقولون لاعدائهم اين شركاؤكم ومن اطعتموهم في الدنيا ؟ ثم قال قال فهم ايضا الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي انفسهم فالقوا السلم سلموا لما اصابهم من البلاء ثم يقولون ما كنا نعمل من سوء فرد الله عليهم فقال بلى الخ وفي امالي الشيخ باسناده عن ابى اسحاق الهمداني عن امير المؤمنين عليه السلام: فيما كتبه إلى اهل مصر قال يا عباد الله ان اقرب ما يكون العبد من المغفرة والرحمة حين يعمل بطاعته وينصح في توبته عليكم بتقوى الله فانها يجمع الخير ولا خير غيرها ويدرك بها من خير الدنيا وخير الاخرة قال عز وجل: " وقيل للذين اتقوا ماذا انزل ربكم قالوا خيرا للذين احسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الاخرة خير ولنعم دار المتقين وفي تفسير العياشي عن ابن مسكان عن ابى جعفر عليه السلام: في قوله ولنعم دار المتقين قال الدنيا وفي تفسير القمى: في قوله الذين تتوفاهم الملائكة طيبين قال قال عليه السلام هم المؤمنون الذين طابت مواليدهم في الدنيا. اقول وهو بالنظر إلى ما يقابله من قوله الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي انفسهم الاية لا يخلو عن خفاء والرواية ضعيفة. وفي الدر المنثور اخرج ابن ابى حاتم عن السدى قال ": اجتمعت قريش فقالوا ان محمدا رجل حلو اللسان - إذا كلمه الرجل ذهب بعقله فانظروا اناسا من اشرافكم المعدودين المعروفة انسابهم فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس كل ليلة أو ليلتين فمن جاء يريده فردوه عنه. فخرج ناس منهم في كل طريق فكان إذا اقبل الرجل وافدا لقومه ينظر ما يقول محمد ؟ فينزل بهم قالوا له انا فلان بن فلان فيعرفه بنسبه ويقول انا اخبرك بمحمد فلا يريد ان يعنى إليه هو رجل كذاب لم يتبعه على امره إلا السفهاء والعبيد ومن لا خير فيه واما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له فيرجع احدهم فذلك قوله

[ 251 ]

وإذا قيل لهم ما ذا انزل ربكم قالوا اساطير الاولين. فإذا كان الوافد ممن عزم الله له على الرشاد فقالوا له مثل ذلك في محمد قال بئس الوافد انا لقومي ان كنت جئت حتى بلغت إلا مسيرة يوم رجعت قبل ان القى هذا الرجل وانظر ما يقول وآتى قومي ببيان امره فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم ماذا يقول محمد فيقولون خيرا للذين احسنوا في هذه الدنيا حسنة يقول مال ولدار الاخرة خير وهى الجنة. اقول والاعتبار يساعد على القصة وما في آخرها من تفسير الحسنة بالمال غير مرضي. وفي الكافي باسناده عن صفوان بن يحيى قال: قلت لابي الحسن عليه السلام اخبرني عن الارادة من الله ومن الخلق قال فقال الارادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل واما من الله تعالى فارادته احداثه لا غير ذلك لانه لا يروى ولا يهم ولا يتفكر وهذه الصفات منفية عنه وهى صفات الخلق فاراده الله الفعل لا غير ذلك يقول له كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همه ولا تفكر ولا كيف لذلك كما انه لا كيف له وفي الدر المنثور اخرج احمد والترمذي وحسنة وابن ابى حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان واللفظ له عن ابى ذر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يقول الله يا بن آدم كلكم مذنب إلا من عافيت فاستغفروني اغفر لكم وكلكم فقراء الا من اغنيت فسلوني اعطكم وكلكم ضال الا من هديت فسلوني الهدى اهدكم ومن استغفرني وهو يعلم انى ذو قدرة على ان اغفر له غفرت له ولا ابالى. ولو ان اولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على قلب اشقى واحد منكم ما نقص ذلك من سلطاني مثل جناح بعوضة ولو ان اولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على قلب اتقى واحد منكم ما زادوا في سلطاني مثل جناح بعوضة ولو ان اولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم سألوني حتى تنتهى مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما سألوني ما نقص ذلك مما عندي كغرز ابرة لو غمسها احدكم في البحر.

[ 252 ]

وذلك انى جواد ماجد واحد عطائي كلام وعذابي كلام انما امرى لشئ إذا اردته ان اقول له كن فيكون * * * والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولاجر الاخرة اكبر لو كانوا يعلمون - 41 الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون - 42 وما ارسلنا من قبلك الا رجالا نوحي إليهم فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون - 43 بالبينات والزبر وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون - 44 أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الارض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون - 45 أو ياخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين - 46 أو يأخذهم على تخوف فان ربكم لرؤف رحيم - 47 أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون - 48 ولله يسجد ما في السموات وما في الارض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون - 49 يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون - 50 وقال الله لا تتخذوا الهين اثنين انما هو اله واحد فإياى فارهبون - 51 وله ما في السموات والارض وله الدين واصبا

[ 253 ]

أفغير الله تتقون - 52 وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجئرون - 53 ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون - 54 ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون - 55 ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون - 56 ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون - 57 وإذا بشر احدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم - 58 يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون - 59 للذين لا يؤمنون بالاخرة مثل السوء ولله المثل الاعلى وهو العزيز الحكيم - 60 ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى اجل مسمى فإذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون - 61 ويجعلون لله ما يكرهون وتصف السنتهم الكذب ان لهم الحسنى لا جرم ان لهم النار وانهم مفرطون - 62 تالله لقد ارسلنا إلى امم من قبلك فزين لهم الشيطان اعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب اليم - 63 وما انزلنا عليك الكتاب الا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون - 64

[ 254 ]

(بيان) الايتان الاوليان تذكران الهجرة وتعدان المهاجرين في الله وعدا حسنا في الدنيا والاخرة وباقى الايات تعقب حديث شركهم بالله وتشريعهم بغير اذن الله وهى بحسب المعنى تفصيل القول في الجواب عن عد المشركين الدعوة النبوية إلى ترك عبادة الالهة وتحريم ما لم يحرمه الله امرا محالا كما اشير إليه في قوله وقال الذين اشركوا الخ. قوله تعالى: " والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولاجر الاخرة خير لو كانوا يعلمون " وعد جميل للمهاجرين وقد كانت من المؤمنين هجرتان عن مكة احداهما إلى حبشة هاجرتها عدة من المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم باذن من الله ورسوله إليها ولبثوا فيها حينا في امن وراحة من اذى مشركي مكة وعذابهم وفتنتهم. والثانية هجرتهم من مكة إلى المدينة بعد مهاجره النبي صلى الله عليه وآله وسلم والظاهر ان المراد بالهجرة في الاية هي الهجرة الثانية فسياق الايتين اكثر ملاءمة لها من الاولى وهو ظاهر. وقوله في الله متعلق بهاجروا والمراد بكون المهاجرة في الله ان يكون طلب مرضاته محيطا بهم في مهاجرتهم لا يخرجون منه إلى غرض آخر كما يقال سافر في طلب العلم وخرج في طلب المعيشة أي لا غاية له الا طلب العلم ولا بغية له الا طلب المعيشة والسياق يعطى ان قوله من بعد ما ظلموا ايضا مقيد بذلك معنى والتقدير والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا فيه وانما حذف اختصارا وانما اكتفى به قيدا للمهاجرة لانها محل الابتلاء فتخصيصه بايضاح الحال اولى. وقوله لنبوئنهم في الدنيا حسنة قيل أي بلدة حسنة بدلا مما تركوه من وطنهم كمكة وحواليها بدليل قوله لنبوئنهم فانه من بوأت له مكانا أي سويت واقررته فيه. وقيل أي حالة حسنة من الفتح والظفر ونحو ذلك فيكون قوله لنبوئنهم

[ 255 ]

الخ من الاستعارة بالكناية. والوجهان متحدان مآلا فانهم انما كانوا يهاجرون ليعقدوا مجتمعا اسلاميا طيبا لا يعبد فيه الا الله ولا يحكم فيه الا العدل والاحسان أو ليدخلوا في مجتمع هذا شأنه فلو رجعوا في مهاجرهم غاية حسنة أو وعدوا بغاية حسنة كان ذلك هذا المجتمع الصالح ولو حمدوا البلدة التى يهاجرون إليها لكان حمدهم للمجتمع الاسلامي المستقر فيها لا لمائها أو هوائها فالغاية الحسنة التى يعدهم الله في الدنيا هي هذا المجتمع سواء اريد بالحسنة البلدة أو الغاية. وقوله ولاجر الاخرة اكبر لو كانوا يعلمون تتميم للوعد واشارة إلى ان أجر الاخرة افضل من هذا الاجر الدنيوي لو كانوا يعلمون ما اعد الله لهم فيها من النعم فان فيها سعادة من غير شقاء وخلودا من غير فناء ولذة غير مشوبة بألم وجوار رب العالمين. قوله تعالى الذين: " صبروا وعلى ربهم يتوكلون لا يبعد ان يستفاد من سياق الايتين ان جملة العناية فيهما إلى وعد المهاجرين في الله وعدا حسنا في الدنيا والاخرة من غير نظر إلى الاخبار بتحقق المهاجرة قبل حال الخطاب فيكون الكلام في معنى الاشتراط من يهاجر في الله فله كذا وكذا وتكون العناية في قوله الذين صبروا الخ بتوصيف المهاجرين بالصبر والتوكل من غير نظر إلى ما تحقق منهم من ذلك ايام توقفهم في اوطانهم بين المشركين قبال إذا هم وفتنتهم. والعناية بالتوصيف انما هي لكون كلتا الصفتين دخيلتين في الغاية الحسنة التى وعدوا بها إذ لو لم يصبروا على مر الجهاد واظهروا الجزع عند هجوم العظائم ولم يتأيدوا بالتوكل على الله واعتمدوا على انفسهم الضعيفة احيط بهم ولم يتهيأ لهم المستقر وفرقهم العدو المصر على عداوته بددا وتلاشى المجتمع الصالح الذى اقاموه في مهاجرهم هذا في الدنيا واما امر الاخرة ففساده بفساد المجتمع أو تلاشيه اوضح. ولو كان المراد وعد المهاجرين الذين تحقق منهم الهجرة قبل نزول الاية تطييبا لنفوسهم وتسلية لهم عما اخرجوا من ديارهم واموالهم وقاسوا الفتن والمحن كان قوله الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون مدحا لهم بما ظهر منهم ايام اقامتهم بمكة

[ 256 ]

وغيرها من الصبر في الله على اذى المشركين والتوكل على الله فيما عزموا عليه من الاسلام لله قوله تعالى: " وما ارسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا اهل الذكر إن كنتم لا تعلمون رجوع ثان إلى بيان كيفية ارسال الرسل وانزال الكتب حتى يتضح للمشركين انه لم تكن الدعوة الدينية إلا دعوة عادية من رجال يوحى إليهم من البشر يندبون إلى ما فيه صلاح الناس في دنياهم وعقباهم. وانه لم يدع احد من الرسل ولا ادعى في كتاب من كتب الشرائع إن الدعوة الدينية ظهور للقدرة الغيبية القاهرة لكل شئ والارادة التكوينية لهدم النظام الجارى ونقض سنة الاختيار وابطالها حتى يقول القائل منهم لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ الخ. وعلى هذا فقوله سبحانه: " وما ارسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم " مسوق لحصر الرسالة على البشر العادى من رجال يوحى إليهم قبال ما ادعاه المشركون انها لو كانت لكانت نقضا لنظام الطبيعة وابطالا للاختيار والاستطاعة. وبه يظهر عدم استقامة ما ذكره غير واحد منهم ان الاية مسوقة لرد المشركين من قريش حيث كانوا يزعمون ان البشر لا يصلح للرسالة وانها لو كانت فهى من شأن الملائكة فالاية تخبر ان السنة الالهية جرت حسب ما اقتضته الحكمة على ان لا يبعث للدعوة الدينية إلا رجالا من البشر يوحى إليهم المعارف والاوامر والنواهي. وذلك ان سياق الايات لا يساعد على ذلك ولم يتقدم في الكلام ذكر لقولهم ذلك أو لاقتراحهم بعثة الملائكة للرسالة حتى يوجه الكلام إلى ذلك. وانما الذى تقدم هو قول المشركين لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ الخ وكان مسوقا لاثبات استحالة النبوة لا لكونها من شأن الملائكة. واستدل بعضهم بالاية على ان الله سبحانه لم يرسل صبيا ولا امرأة واستشكل بنبوة عيسى عليه السلام في المهد واجيب بأن النبوة اعم من الرسالة والذى اثبته عيسى لنفسه بقوله: " إنى عبد الله آتانى الكتاب وجعلني نبيا " مريم: 30 هي النبوة دون الرسالة.

[ 257 ]

وفيه ان الاستدلال المذكور بالاية انما هو بقوله وما ارسلنا وهذا الفعل كما يتعلق في القرآن بالرسول كذلك يتعلق بالنبي غير الرسول قال تعالى: " وما ارسلنا من قبلك من رسول ولا نبى " الاية فلو تم الاستدلال المذكور لدل على حرمان الاطفال والنساء عن الرسالة والنبوة جميعا وقد حكى الله عن عيسى عليه السلام قوله: " إنى عبد الله آتانى الكتاب وجعلني نبيا " مريم: 30 وقال في يحيى عليه السلام: " وآتيناه الحكم صبيا " مريم: 12. والحق ان الاية وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا انما هي في مقام بيان ان الرسل كانوا رجالا من البشر العادى من غير عناية بكونهم اول ما بعثوا للرسالة افرادا بالغين مبلغ الرجال فالغرض ان نوحا وابراهيم وموسى وعيسى ويحيى عليهم السلام وهم رسل كانوا رجالا يوحى إليهم ولم يكونوا اشخاصا مجهزين بقدرة قاهرة غيبية وارادة الهية تكوينية. ويقرب من الاية قوله تعالى في موضع آخر: " وما ارسلنا قبلك الا رجالا نوحي إليهم فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين " الانبياء: 8. وقوله: " فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون الظاهر انه خطاب للنبى صلى الله عليه وآله وسلم ولقومه وقد كان الخطاب في سابق الكلام للنبى صلى الله عليه وآله وسلم خاصة والمعنى موجه إلى الجميع فهو تعميم الخطاب للجميع ليتخذ كل من المخاطبين سبيله فمن كان لا يعلم ذلك كبعض المشركين راجع اهل الذكر واسألهم ومن كان يعلم ذلك كالنبى صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين به كان في غنى عن الرجوع والسؤال. وقيل ان الخطاب في الاية للمشركين فانهم هم المنكرون فليرجعوا وليسألوا وفيه ان لازم ذلك كون الجملة التفاتا من خطاب الفرد إلى خطاب الجميع ولا نكتة ظاهرة تصحح ذلك والله اعلم. والذكر حفظ معنى الشئ أو استحضاره ويقال لما به يحفظ أو يستحضر قال الراغب في المفردات الذكر تارة يقال ويراد به هيئة للنفس بها يمكن للانسان ان يحفظ

[ 258 ]

ما يقتنيه من المعرفة وهو كالحفظ إلا إن الحفظ يقال اعتبارا باحرازه والذكر يقال اعتبارا باستحضاره وتاره يقال لحضور الشئ في القلب أو القول ولذلك قيل الذكر ذكران ذكر بالقلب وذكر باللسان وكل واحد منهما ضربان ذكر عن نسيان وذكر لا عن نسيان بل عن ادامة الحفظ انتهى موضع الحاجة. والظاهر ان الاصل فيه ما هو للقلب وانما يسمى اللفظ ذكرا اعتبارا بافادته المعنى والقائه اياه في الذهن وعلى هذا المعنى جرى استعماله في القرآن غير ان مورده فيه ذكر الله تعالى فالذكر إذا اطلق فيه ولم يتقيد بشئ هو ذكره. وبهذه العناية ايضا سمى القرآن وحى النبوة والكتب المنزلة على الانبياء ذكرا والايات في ذلك كثيرة لا حاجة إلى ايرادها في هذا الموضع وقد سمى الله سبحانه في الاية التالية القرآن ذكرا. فالقرآن الكريم ذكر كما ان كتاب نوح وصحف ابراهيم وتوراة موسى وزبور داود وانجيل عيسى عليهم السلام وهى الكتب السماوية المذكورة في القرآن كلها ذكر واهلها المتعاطون لها المؤمنين بها اهل الذكر. ولما كان اهل الشئ وخاصته اعرف بحاله وابصر باخباره كان على من يريد التبصر في امره ان يرجع إلى اهله واهل الكتب السماوية القائمون على دراستها وتعلمها والعمل بشرائعها هم اهل الخبرة بها والعالمون باخبار الانبياء الجائين بها فعلى من اراد الاطلاع على شئ من امرهم ان يراجعهم ويسألهم. لكن المشركين المخاطبين بمثل قوله فاسألوا اهل الذكر لما كانوا لا يسلمون للنبى صلى الله عليه وآله وسلم النبوة ولا يصدقونه في دعواه ويستهزؤن بالقرآن ذى الذكر كما يذكره تعالى في قوله: " وقالوا يا ايها الذى نزل عليه الذكر انك لمجنون " الحجر: 6 لم ينطبق قوله فاسألوا اهل الذكر بحسب المورد الا على اهل التوراة وخاصة من حيث كونهم اعداء للنبى صلى الله عليه وآله وسلم رادين لنبوته وكانت نفوس المشركين طيبة بهم لذلك وقد قالوا في المشركين: " هؤلاء اهدى من الذين آمنوا سبيلا " النساء: 51. وقال بعضهم المراد باهل الذكر اهل العلم باخبار من مضى من الامم سواء أكانوا مؤمنين ام كفارا ؟ وسمى العلم ذكرا لان العلم بالمدلول يحصل غالبا من

[ 259 ]

تذكر الدليل فهو من قبيل تسمية المسبب باسم السبب. وفيه انه من المجاز من غير قرينة موجبة للحمل عليه على ان المعهود من الموارد التى ورد فيها الذكر في القرآن الكريم غير هذا المعنى. وقال بعضهم المراد باهل الذكر اهل القرآن لان الله سماه ذكرا واهله النبي صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه وخاصة المؤمنين وفيه ان كون القرآن ذكرا واهله اهله لا ريب فيه لكن اراده ذلك من الاية خاصة لا تلائم تمام الحجة فان اولئك لم يكونوا مسلمين لنبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكيف يقبلون من اتباعه من المؤمنين ؟ وكيف كان فالاية ارشاد إلى اصل عام عقلائي وهو وجوب رجوع الجاهل إلى اهل الخبرة وليس ما تتضمنه من الحكم حكما تعبديا ولا امر الجاهل بالسؤال عن العالم ولا بالسؤال عن خصوص اهل الذكر امرا مولويا تشريعيا وهو ظاهر. قوله تعالى: " بالبينات والزبر متعلق بمقدر يدل عليه ما في الاية السابقة من قوله وما ارسلنا أي ارسلناهم بالبينات والزبر وهى الايات الواضحة الدالة على رسالتهم والكتب المنزلة عليهم. وذلك ان العناية في الاية السابقة انما هي ببيان كون الرسل بشرا على العادة فحسب فكأنه لما ذكر ذلك اختلج في ذهن السامع انهم بماذا ارسلوا ؟ فاجيب عنه فقيل بالبينات والزبر اما البينات فلاثبات رسالتهم واما الزبر فلحفظ تعليماتهم. وقيل هو متعلق بقوله وما ارسلنا أي وما ارسلنا بالبينات والزبر الا رجالا نوحي إليهم وفيه انه لا بأس به في نفسه لكنه مفوت لما تقدم من النكتة. قوله تعالى: " وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون " لاشك ان تنزيل الكتاب على الناس وانزال الذكر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم واحد بمعنى ان تنزيله على الناس هو انزاله إليه لياخذوا به ويوردوه مورد العمل كما قال تعالى: " يا ايها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وانزلنا اليكم نورا مبينا " النساء: 174 وقال: " لقد انزلنا اليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون " الانبياء: 10. فيكون محصل المعنى ان القصد بنزول هذا الذكر إلى عامة البشر وانك والناس في ذلك سواء وانما اخترناك لتوجيه الخطاب والقاء القول لا لنحملك قدرة غيبية

[ 260 ]

وارادة تكوينية الهية فنجعلك مسيطرا عليهم وعلى كل شئ بل لامرين احدهما ان تبين للناس ما نزل تدريجا إليهم لان المعارف الالهية لا ينالها الناس بلا واسطة فلا بد من بعث واحد منهم للتبيين والتعليم وهذا هو غرض الرسالة ينزل إليه الوحى فيحمله ثم يؤمر بتبليغه وتعليمه تبيينه. والثانى رجاء أن يتفكروا فيك فيتبصروا ان ما جئت به حق من عند الله فان الاوضاع المحيطة بك والحوادث والاحوال الواردة عليك في مدى حياتك من اليتم وخمود الذكر والحرمان من التعلم والكتابة وفقدان مرب صالح والفقر والاحتباس بين قوم جهلة اخساء صفر الايدى من مزايا المدنية وفضائل الانسانية كانت جميعا اسبابا قاطعة ان لا تذوق من عين الكمال قطرة ولا تقبض من عرى السعادة على مسكة لكن الله سبحانه انزل اليك ذكرا تتحدى به على الجن والانس مهيمنا على سائر الكتب السماوية تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبرهانا ونورا مبينا. فالتفكر فيك نعم الدليل الهادى إلى ان ليس لك فيما جئت به صنع ولا لك من الامر شئ وان الله انزله بعلمه وايدك لذلك بقدرته من غير ان يداخله من الاسباب العادية شئ. هذا ما تفيده الاية الكريمة نظرا إلى سياقها وسياق ما قبلها ومحصله ان قوله لتبين الخ غاية للانزال لا لنفسه بل من حيث تعلقه بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وان متعلق يتفكرون المحذوف هو نحو قولنا فيك لا قولنا في الذكر. لكن القوم ذكروا ان قوله لتبين غاية للانزال وان المراد بالتفكر التفكر في الذكر ليعلم بذلك انه حق ومعنى الاية على هذا وانزلنا اليك الذكر أي القرآن لتبين للناس كافة ما نزل إليهم في ذلك الذكر من اصول المعارف والاحكام والشرائع واحوال الامم الماضية وما جرى فيهم من سنة الله تعالى ولرجاء ان يتفكروا في الذكر فيهتدوا إلى انه حق من عند الله أو يتفكروا فيما تبينه لهم. وانت خبير بأن لازم ذلك اولا شبه تحصيل الحاصل في انزاله إليه ليبين لهم ما نزل إليهم والانزال واحد ولا مدفع له الا ان يغير النظم إلى مثل قولنا وانزلنا اليك الذكر لتبينه لهم.

[ 261 ]

وثانيا كون قوله اليك مستدركا مستغنى عنه وخاصة بالنظر إلى قوله ولعلهم يتفكرون وذلك ان الانزال غايته التبيين ولا اثر في ذلك لكونه صلى الله عليه وآله وسلم هو المنزل إليه دون غيره وكذلك التفكر في الذكر غاية مرجوة للعلم بانه حق من عند الله من غير نظر إلى من انزل إليه ولازم ذلك كون قوله اليك زائدا في الكلام لا حاجة إليه وثالثا انقطاع الاية بسياقها عن سياق الاية السابقة عليها وما ارسلنا من قبلك الا رجالا نوحي إليهم والايات المتقدمة عليها. وههنا وجه آخر يمكن ان يندفع به بعض الاشكالات السابقة وهو كون المراد بالذكر المنزل لفظ القرآن الكريم وبما نزل إليهم معاني الاحكام والشرائع وغيرها ويكون قوله لتبين غاية للانزال وقوله ولعلهم يتفكرون معطوفا على مقدر وغاية للتبيين لا للانزال وهو خلاف ظاهر الاية وعليك باجادة التدبر فيها. ومن لطيف التعبير في الاية قوله وانزلنا اليك وما نزل إليهم بتفريق الفعلين بالافعال الدال على اعتبار الجملة والدفعة والتفعيل الدال على اعتبار التدريج ولعل الوجه في ذلك ان العناية في قوله وانزلنا اليك بتعلق الانزال بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقط من غير نظر إلى خصوصية نفس الانزال ولذلك اخذ الذكر جملة واحدة فعبر عن نزوله من عنده تعالى بالانزال. واما الناس فان الذى لهم من ذلك هو الاخذ والتعلم والعمل وقد كان تدريجيا ولذلك عنى به وعبر عن نزوله إليهم بالتنزيل. وفي الاية دلالة على حجية قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيان الايات القرآنية واما ما ذكره بعضهم ان ذلك في غير النص والظاهر من المتشابهات أو فيما يرجع إلى اسرار كلام الله وما فيه من التأويل فمما لا ينبغى ان يصغى إليه. هذا في نفس بيانه صلى الله عليه وآله وسلم ويلحق به بيان اهل بيته لحديث الثقلين المتواتر وغيره واما سائر الامة من الصحابة أو التابعين أو العلماء فلا حجية لبيانهم لعدم شمول الاية وعدم نص معتمد عليه يعطى حجية بيانهم على الاطلاق.

[ 262 ]

واما قوله تعالى: " فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون " فقد تقدم انه ارشاد إلى حكم العقلاء بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم من غير اختصاص الحكم بطائفة دون طائفة. هذا كله في نفس بيانهم المتلقى بالمشافهة واما الخبر الحاكى له فما كان منه بيانا متواترا أو محفوفا بقرينة قطعية وما يلحق به فهو حجة لكونه بيانهم واما ما كان مخالفا للكتاب أو غير مخالف لكنه ليس بمتواتر ولا محفوفا بالقرينة فلا حجية فيه لعدم كونه بيانا في الاول وعدم احراز البيانية في الثاني وللتفصيل محل آخر. قوله تعالى: " أفأمن الذين مكروا السيئات ان يخسف الله بهم الارض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون " هذه الاية والايتان بعدها انذار وتهديد للمشركين وهم الذين يعبدون غير الله سبحانه ويشرعون لانفسهم سننا يستنون بها في الحياة فما يعملون من الاعمال مستقلين فيها بأنفسهم معرضين عن شرائع الله النازلة من طريق النبوة استنادا إلى حجج داحضة اختلقوها لانفسهم كلها سيئات وما يتقلبون فيها مدى حياتهم من حركة أو سكون واخذ أو رد وفعل أو ترك وهم على ما هم عليه من استكبار وغرور كلها ذنوب يقترفونها مكرا بالله ربهم وبرسله الداعين إلى الاخذ بدين الله ولزوم سبيله. فقوله السيئات مفعول مكروا بتضمينه بمعنى عملوا أي عملوا السيئات ماكرين وما احتمله بعضهم من كون السيئات وصفا سادا مسد المفعول المطلق والتقدير يمكرون المكرات السيئات بعيد من السياق. وبالجملة الكلام لتهديد المشركين وانذارهم بالعذاب الالهى ويدخل فيهم مشركوا مكة والكلام متفرع على ما تقدم كما يدل عليه قوله أفأمن بفاء التفريع. والمعنى والله اعلم فإذا دلت الايات البينات على ان الله هو ربهم لا شريك له في ربوبيته وان الرسالة ليست بأمر محال بل هي دعوة إلى ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم وخير دنياهم واخراهم من رجال هم امثالهم يبعثهم الله ويوحى إليهم بما تشتمل عليه الدعوة فهؤلاء الذين يعرضون عن ذلك ويمكرون بالله ورسله بالتشبث بهذه الحجج الواهية لتسوية الطريق إلى ترك دين الله وتشريع ما يوافق اهواءهم ويعملون

[ 263 ]

السيئات هل أمنوا ان يخسف الله بهم الارض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أي يفاجئهم من غير أن يتنبهوا بتوجهه إليهم قبل نزوله. قوله تعالى أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين الفاعل هو الله سبحانه وقد كثرت في القرآن نسبة الاخذ إليه وقيل الضمير للعذاب والتقلب هو التحول من حال إلى حال والمراد به تحول المشركين في مقاصدهم واعمالهم السيئة وانتقالهم من نعمة إلى نعمة اخرى من نعم الحياة الدنيا قال تعالى: " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد " آل عمران: 197 فالمراد بأخذهم في تقلبهم ان ياخذهم في عين ما يتقلبون فيه من السيئات مكرا بالله ورسله بالعذاب أو المعنى يعذبهم بنفس ما يتقلبون فيه فيعود النعمة نقمة وهذا انسب بالنظر إلى قوله فما هم بمعجزين. وقوله فماهم بمعجزين في مقام التعليل لاخذهم في تقلبهم ومكرهم السيئات أي لانهم ليسوا بمعجزين لله فيما اراد بالتغلب عليه أو بالفرار من حكمه والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " أو يأخذهم على تخوف فان ربكم لرؤوف رحيم " التخوف تمكن الخوف من النفس واستقراره فيها فالاخذ على تخوف هو العذاب مبنيا على المخافة بأن يشعروا بالعذاب فيتقوه ويحذروه بما استطاعوا من توبة وندامة ونحوهما فيكون الاخذ على تخوف مقابلا لاتيان العذاب من حيث لا يشعرون. وربما قيل ان الاخذ على تخوف هو العذاب بما يخاف منه من غير هلاك كالزلزلة والطوفان وغيرهما. وربما قيل ان معنى التخوف التنقص بأن يأخذهم الله بنقص النعم واحدة بعد واحدة تدريجيا كأخذ الامن ثم الامطار ثم الرخص ثم الصحة وهكذا. وقوله ان ربكم لرؤف رحيم في مقام التعليل أي يأخذهم على تخوف ويتنزل في عذابهم إلى هذا النوع من العذاب الذى هو اهون الانواع المعدودة لانه رؤف رحيم وفي التعبير بقوله ربكم اشارة إلى ذلك وكونه في مقام التعليل بالنسبة إلى الوجهين الاولين ظاهر واما بالنسبه إلى الثالث فلان الاخذ بالنقص لا يخلو من

[ 264 ]

مهلة وفرصة يتنبه فيها من تنبه فيأخذ بالحذر بتوبة أو غيرها. والكلام في تعداد انواع العذاب المذكورة ليس مسوقا للحصر كما نبه به بعضهم بل احصاء لانواع منه. قوله تعالى: " أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون " المراد بالرؤية الرؤية البصرية والنظر الحسى إلى الاشياء الجسمانية لان المطلوب الفات النظر إلى الاجسام ذوات الاظلال. والتفيؤ من الفئ وهو الظل راجعا ولذا قيل ان الظل هو ما في اول النهار إلى زوال الشمس والفئ هو ما يكون بعد زوال الشمس إلى آخر النهار والظاهر ان الظل اعم من الفئ كما تقدم وتؤيده الاية فالتفيؤ رجوع الظل بعد زواله. والشمائل جمع شمأل وهو خلاف اليمين وجمعه باعتبار اخذ كل سمت مفروض خلف الشئ وعن يساره جهة شمال على حده فهى شمائل تقابل اليمين كما ان عد كل شئ ذا اظلال بهذه العناية اخذا للظل بالنسبة إلى كل جهة من اليمين والشمائل ظلا غيره بالنسبة إلى جهة اخرى لا لان الشئ المذكور جمع بحسب المعنى وان كان مفردا بحسب اللفظ والدخور هو الخضوع والصغار. وكون المراد بالرؤية الرؤية البصرية قرينة على ان المراد بما خلق الله من شئ ومن شئ بيان لما خلق الله هو الاشياء المرئية وما تعقبه من حديث تفيؤ الظلال يحصرها في الاجسام الكثيفة التى لها ظلال كالجبال والاشجار والابنية والاجسام القائمة على الارض فلا يرد ان ما خلق الله وخاصة بعد بيانه بالشئ لا يلازمه الظل كالاجرام العلوية المضيئة والاجسام الشفافة واعراض الاجسام. ولدفع هذا الاشكال جعل بعضهم قوله يتفيؤ ظلاله الخ وصفا لشئ حتى يخص البيان بالاشياء المخلوقة التى لها افياء واظلال ولا يخلو من وجه. والاية تهدى المشركين وهم منكرون للتوحيد والنبوة إلى النظر في حال الاجسام التى لها اظلال تدور عن يمينها وعن شمائلها فانها تمثل سجودها لله وخضوعها له وصغارها قبال عظمته وكبريائه وكذا سجود ما في السماوات والارض من دابة والملائكة. فهى جميعا ساجدة لله وحده لانقيادها الذاتي لامره ممثلة للخضوع والصغار بهذا

[ 265 ]

النسك الوجودى والعبادة التكوينية. وهذا من اوضح الدليل على ان في العالم الها معبودا واحدا هو الله سبحانه وان من حقه ان يسجد له ويخضع لامره وهذا هو التوحيد والنبوة اللذان ينكرونهما فهل التوحيد إلا الاذعان بكون سبحانه هو الاله الذى يجب الخضوع له والتوجه بالذلة والصغار إليه ؟ وهل الدين الذى تتضمنه دعوة الانبياء والرسل الا الخضوع لله سبحانه والانقياد لامره فيما اراد ؟ فما بالهم ينكرون ذلك ؟ وهم يرون ويعلمون ان ما على الارض من اظلال الاجسام الكثيفة يسجد له وما في السماوات والارض من الملائكة و الذوات ساجدة له منقادة لامره حتى ارباب اصنامهم الذين يتخذونهم آلهة دون الله فانهم اما من الملائكة واما من الجن واما من كملى البشر وهم جميعا داخرون له منقادون لامره. فمعنى الاية والله اعلم أو لم يروا هؤلاء المشركون المنكرون لتوحيد الربوبية ولدعوة النبوة أو لم ينظروا إلى ما خلق الله من شئ من هذه الاجسام القائمة على بسيط الارض من جبل أو بناء أو شجر أو أي جسم منتصب يتفيؤ ويرجع ويدور ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله واقعة على الارض تذللا وتعبدا له سبحانه وهم داخرون خاضعون صاغرون. وقد تقدم الكلام في معنى سجدة الظلال ذيل قوله تعالى: " وظلالهم بالغدو والآصال " الرعد: 15 في الجزء الحادى عشر من الكتاب. قوله تعالى: " ولله يسجد ما في السماوات وما في الارض من دابة والملائكة " إلى آخر الايتين ذكرت الاية السابقة سجود الظلال وهو معنى مشهود فيها يمثل معنى السجود لله وتذكر هذه الاية سجود ما في السماوات والارض من دابة و الدابة ما يدب ويتحرك بالانتقال من مكان إلى مكان بحقيقة السجود التى هي نهاية التذلل والتواضع قبال العظمة والكبرياء فان صورة السجدة التى هي خرور الانسان ووقوعه على وجهه على الارض انما تعد عبادة إذا اريد بها تمثيل هذا المعنى فحقيقة السجدة هي التذلل المذكور ويدخل في عموم الدابة الانسان وكذا الجن لانه سبحانه يصفهم في كلامه بما يفيد

[ 266 ]

ان لهم دبيبا كما لسائر الدواب من الانسان والحيوان ولم يدخل سبحانه الملائكة في عموم الدابة وافردهم بالذكر وفي ذلك من التلويح إلى ان ما نسب إليهم في كلامه تعالى من النزول والصعود والذهاب والمجئ مما ظاهره النقلة والحركة المكانية ليس من نوع ما للدواب من الدبيب والانتقال المكانى ما لا يخفى. فقوله ولله يسجد ما في السماوات وما في الارض من دابة أي له يخضع وينقاد خضوعا وانقيادا ذاتيا هي حقيقة السجود فمن حقه تعالى أن يعبد ويسجد له. وفي الاية دلالة على ان في غير الارض من السماوات شيئا من الدواب يسكنها ويعيش فيها. وقوله والملائكة وهم لا يستكبرون الاستكبار والتكبر من الانسان ان يعد نفسه كبيرا ويضعه موضع الكبر وليس به ولذلك يعد في الرذائل لكن التكبر ربما يطلق على ما لله سبحانه من الكبرياء بالحق وهو الكبير المتعال فهو تعالى كبير متكبر وليس يقال مستكبر ولعل ذلك كذلك اعتبارا باللفظ فان الاستكبار بحسب اصل هيئته طلب الكبر ولازمه ان لا يكون ذلك حاصلا للطالب من نفسه وانما يطلب الكبر والعلو على غيره دعوى فكان مذموما واما التكبر فهو الظهور بالكبرياء سواء كانت له في نفسه كما لله سبحانه وهو التكبر الحق أو لم يكن له الا دعوى وغرورا كما في غيره. فتبين بذلك ان الاستكبار مذموم دائما اما استكبار المخلوق على مخلوق آخر فلان الفقر والحاجة قد استوعبهما جميعا وشئ منهما لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا لغيره فاستكبار احدهما على الاخر خروج منه عن حده وتجاوز عن طوره وظلم وطغيان. واما استكبار المخلوق على الخالق فلا يتم الا مع دعوى المخلوق الاستقلال والغنى لنفسه وذهوله عن مقام ربه فان النسبة بين العبد وربه نسبة الذلة والعزة والفقر والغنى فما لم يغفل العبد عن هذه النسبة ولم يذهل عن مشاهدة مقام ربه لم يعقل استكباره على ربه فان الصغير الوضيع القائم امام الكبير المتعالى وهو يشاهد صغار نفسه وذلته وكبرياء من هو امامه وعزته لا يتيسر له ان يرى لنفسه كبرياء وعزة إلا أن

[ 267 ]

يأخذه غفلة وذهول. واذ كان الكبرياء والعلو لله جميعا فدعواه الكبرياء والعلو تغلب منه على ربه وغصب منه لمقامه واستكبار واستعلاء عليه دعوى وهذا هو الاستكبار بحسب الذات ويتبعه الاستكبار بحسب الفعل وهو ان لا يأتمر بأمره ولا ينتهى عن نهيه فانه ما لم ير لنفسه ارادة مستقلة قبال الارادة الالهية مغايرة لها لم ير لنفسه ان يخالفه في امره ونهيه. وعلى هذا فقوله وهم لا يستكبرون في تعريف الملائكة والكلام في سياق العبودية دليل على انهم لا يستكبرون على ربهم فلا يغفلون عنه تعالى ولا يذهلون عن الشعور بمقامه ومشاهدته. وقد اطلق نفى الاستكبار من غير ان يقيده بما بحسب الذات أو بحسب الفعل فأفاد انهم لا يستكبرون عليه في ذات ولا فعل أي لا يغفلون عنه سبحانه ولا يستنكفون عن عبادته ولا يخالفون عن امره ولبيان هذا الاطلاق والشمول عقبه بيانا له بقوله يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون واشار بذلك إلى نفى الاستكبار عنهم ذاتا وفعلا. توضيح ذلك ان قوله يخافون ربهم من فوقهم يثبت لهم الخوف من ربهم والله سبحانه ليس عنده الا الخير ولا شر عنده ولا سبب شر يخاف منه الا ان يكون الشر وسببه عند العبد وقد اخذ متعلق الخوف هو ربهم لا عذابه تعالى أو عصيان امره كما في قوله: " ويرجون رحمته ويخافون عذابه " اسرى: 57. فهذه المخافة هي المخافة منه تعالى وهو وان لم يكن عنده الا الخير والخوف انما يكون من شر مترقب الا ان حقيقته التأثر والانكسار والصغار وتأثر الضعيف قبال القوى الظاهر بقوته وانكسار الصغير الوضيع امام الكبير المتعال القاهر بكبريائه وتعاليه ضروري فمخافتهم هي تأثرهم الذاتي عما يشاهدونه من مقام ربهم ولا يغفلون عنه قط. ويؤيد ما ذكرناه تقييد قوله يخافون ربهم بقوله من فوقهم فان فيه اشارة إلى ان كونه تعالى فوقهم قاهرا لهم متعاليا بالنسبة إليهم هو السبب في

[ 268 ]

مخافتهم وليس هذا إلا الخوف من مقامه تعالى لا من عذابه فهو خوف ذاتي ويرجع إلى نفى الاستكبار عن ذواتهم. واما قوله ويفعلون ما يؤمرون فاشارة إلى عدم استكبارهم في مقام الفعل وقد تقدم انه إذا لم يستكبر عليه تعالى في ذات لم يستكبر عليه في فعل فهم لا يعصون الله سبحانه في امر بل يفعلون ما يؤمرون وفي اتيان قوله يؤمرون مبنيا للمجهول من التعظيم والتفخيم لمقامه سبحانه ما لا يخفى. فتبين ان الملائكة نوع من خلق الله تعالى لا تأخذهم غفلة عن مقام ربهم ولا يطرأ عليهم ذهول ولا سهو ولا نسيان عن ذلك ولا يشغلهم عنه شاغل وهم لا يريدون الا ما يريده الله سبحانه. وانما خص سبحانه الملائكة من بين الساجدين المذكورين في الاية بذكر شأنهم وتعريف اوصافهم وتفصيل عبوديتهم لان اكثر آلهة الوثنيين من الملائكة كإله السماء واله الارض واله الرزق واله الجمال وغيرهم وللدلالة على انهم بالرغم من زعم الوثنيين امعن خلق الله تعالى في عبوديته وعبادته. ومن عجيب الاستدلال ما استدل به بعضهم بالاية على ان الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف والرجاء كمثلنا اما دلالتها على التكليف فلمكان الامر واما ادارتهم بين الخوف والرجاء فلان الاية ذكرت خوفهم والخوف يستلزم الرجاء. وهو ظاهر الفساد اما الامر فقد ورد في كلامه تعالى في موارد لا تكليف فيها قطعا كالسماء والارض وغيرهما قال تعالى: " فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " حم السجدة: 11 وقال ويوم يقول كن فيكون. واما استلزام الخوف للرجاء فانما الملازمة ما بين الخوف من نزول العذاب واصابة المكروه وبين الرجاء وقد تقدم ان الذى في الاية انما هو خوف مهابة واجلال بمعنى تأثر الضعيف من القوى وانكسار الصغير الحقير قبال العظيم الكبير الظاهر عليه بعظمته وكبريائه ولا مقابلة بين الخوف بهذا المعنى وبين الرجاء. وقد استدل بالاية ايضا على ان الملائكة افضل من البشر وفيه ان من الممكن استظهار افضليتهم من عصاة البشر وكفارهم ممن يفقد الصفات المذكورة لكونها

[ 269 ]

مسوقة في مقام المدح واما غيرهم فلا تعرض للاية لهم اثباتا ونفيا وسياتى تفصيل القول في الملائكة في موضع يليق به ان شاء الله. قوله تعالى وقال الله لا تتخذوا الهين اثنين انما هو اله واحد فاياى فارهبون الرهبة الخوف وتقابل الرغبة كما ان الخوف يقابل به الرجاء. والكلام معطوف على قوله ولله يسجد وقيل معطوف على قوله وانزلنا اليك الذكر وقيل على قوله ما خلق الله على طريقه قوله (علفتها تبنا وماء باردا) أي وسقيتها ماء باردا والتقدير في الاية أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ وألم يسمعوا إلى ما قال الله لا تتخذوا الخ ؟ والاول هو الوجه. وقوله لا تتخذوا الهين اثنين اريد به والله اعلم النهى عن التعدي عن الاله الواحد باتخاذ غيره معه فيشمل الاثنين وما فوقه من العدد ويؤيده تأكيده بقوله انما هو اله واحد واثنين صفة الهين كما ان واحد صفة اله جئ بهما للايضاح والتبيين. وبعبارة اخرى العناية متعلقة بالنهي عن اتخاذ غيره معه سواء كان واحدا أو اكثر من واحد لكن لما كان كل عدد اختاروه في الاله فوق الاثنين يجب ان يسلكوا إليه من الاثنين إذ لا يتحقق عدد هو فوق الاثنين الا بعد تحقق الاثنين نهى عن اتخاذ الاثنين واكتفى به عن النهى عن كل عدد فوق الواحد. ويمكن ان يكون اعتبار الاثنين نظرا إلى ما عليه دأبهم وسنتهم فانهم يعتقدون من الاله باله الصنع والايجاد وهو الذى له الخلق فحسب وهو اله الالهة وموجد الكل وباله العبادة وهو الذى له الربوبية والتدبير وهذا المعنى انسب بما يتلوه من الجمل. وعلى هذا فالمعنى لا تتخذوا الهين اثنين اله الخلق واله التدبير الذى له العبادة انما هو أي الاله اله واحد له الخلق والتدبير جميعا لان كل تدبير ينتهى إلى الايجاد واذ كنت انا الخالق الموجد فانا المدبر الذى تجب عبادته فاياى فارهبون واياى فاعبدون ومن هنا يظهر وجه تفرع قوله فاياى فارهبون على ما تقدمه وانه من لطيف الاستدلال والجملة تفيد الحصر بتقديم المفعول على سبيل الاشتغال و القصر

[ 270 ]

قصر قلب لا قصر افراد كما يفيده كلامهم فان الوثنيين لا يعبدون الله وآلهتهم غير الله وانما يعبدون آلهتهم فحسب معتذرين بان الله سبحانه لا يحيط به علم ولا يناله فهم فلا يمكن التوجه إليه بالعبادة فمن الواجب ان يعبد الكرام أو الاقوياء من خلقه كالملائكة والكاملين من البشر والجن فهم المدبرون لامر العالم ينال بالعبادة خيرهم ويتقى بها شرهم وهذا معنى التقرب إلى الله بشفاعتهم. والظاهر ان الامر بالرهبة كناية عن الامر بالعبادة وانما اختصت الرهبة بالذكر ليوافق ما تقدم في حديث سجدة الكل التى هي الاصل في تشريع العبادة من خوف الملائكة وعلى هذا فالظاهر ان المراد بالرهبة ما هي رهبة اجلال ومهابة لا ما هي رهبة مؤاخذة وعذاب فافهم ذلك. قوله تعالى: " وله ما في السماوات والارض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون " قال في المفردات الوصب السقم اللازم وقد وصب فلان فهو وصب واوصبه كذا فهو يتوصب نحو يتوجع قال تعالى ولهم عذاب واصب وله الدين واصبا فتوعد لمن اتخذ الهين وتنبيه ان جزاء من فعل ذلك عذاب لازم شديد. ويكون الدين ههنا الطاعة ومعنى الواصب الدائم أي حق الانسان ان يطيعه دائما في جميع احواله كما وصف به الملائكة حيث قال لا يعصون الله ما امرهم ويفعلون ما يؤمرون ويقال وصب وصوبا دام ووصب الدين وجب ومفازة واصبة بعيدة لا غاية لها انتهى. والاية وما بعدها تحتج على وحدانيته تعالى في الالوهية بمعنى المعبودية بالحق وان الدين له وحده ليس لاحد ان يشرع من ذلك شيئا ولا ان يطاع فيما شرع فالاية وما بعدها في مقام التعليل لقوله وقال الله لا تتخذوا الهين اثنين إلى آخر الاية واحتجاج على مضمونها وعود بعد عود إلى ما تقدم بيانه من التوحيد والنبوة اللذين ينكرهما المشركون. فقوله وله ما في السماوات والارض احتجاج على توحده تعالى في الربوبية فان ما في السماوات والارض من شئ فهو مملوك له بحقيقة معنى الملك إذ ما في العالم المشهود من شئ فهو بما له من الصفات والافعال قائم به تعالى موجود بايجاده

[ 271 ]

وظاهر باظهاره لا يسعه ان ينقطع منه ولا لحظة فالاشياء قائمة به قيام الملك بمالكه مملوكة له ملكا حقيقيا لا يقبل تغييرا ولا انتقالا كما هو خاصة الملك الحقيقي كملك الانسان لسمعه وبصره مثلا. وإذا كان كذلك كان هو تعالى المدبر لامر العالم إذ لا معنى لكون العالم مملوكا له بهذا الملك ثم يستقل غيره بتدبير امره والتصرف فيه وينعزل هو تعالى عما خلقه وملكه وإذا كان هو المدبر لامره كان هو الرب له إذ الرب هو المالك المدبر وإذا كان هو الرب كان هو الذى يجب ان يتقى ويخضع له بالعبادة. وقوله وله الدين واصبا أي دائما لازما وذلك انه لما كان تعالى هو الرب الذى يملك الاشياء ويدبر امرها ومن واجب التدبير ان يستن العالم الانساني بسنة يبلغ به الجرى عليها غايته ويهديه إلى سعادته وهذه السنة والطريقة هي التى يسميها القرآن دينا كان من الواجب ان يكون تعالى هو القائم على وضع هذه السنة وتشريع هذه الطريقة فهو تعالى المالك للدين كما قال وله الدين واصبا وعليه أن يشرع ما يصلح به التدبير كما قال فيما مر وعلى الله قصد السبيل الاية. وقيل المراد بالدين الطاعة وقيل الملك وقيل الجزاء ولكل منها وجه غير خفى على المتأمل والاوجه هو ما قدمناه لانه اوفق وانسب بسياق ما يحفها من الايات السابقة واللاحقة الباحثة عن توحيد الربوبية وتشريع الدين من طريق الوحى والرسالة. وقوله: " أفغير الله تتقون " استفهام انكاري متفرع على الجملتين جميعا على الظاهر والمعنى وإذا كان كذلك فهل غيره تعالى تتقون وتعبدون ؟ وليس يملك شيئا ولا يدبر امرا حتى يعبد وليس من حقه ان يشرع دينا فيطاع فيما وضعه وشرعه. قوله تعالى: " وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون " بيان آخر لوحدانيته تعالى في الربوبية يفرع سبحانه عليه ذمهم وتوبيخهم على شركهم بالله وعلى تشريعهم امورا من عند انفسهم من غير اذن منه ورضى ويجرى الكلام في هذا المجرى إلى تمام بضع آيات. والمراد بالضر سوء الحال من جهة فقدان النعمة التى تصلح بها الحال والجؤار

[ 272 ]

بضم الجيم صوت الوحوش استعير لرفع الصوت بالدعاء والتضرع والاستغاثة تشبيها له به. وقوله: " وما بكم من نعمة فمن الله " الكلام مسوق للعموم وليس مجرد دعوى غير مستدل فقد بين ذلك في الايات السابقة على ان السامعين يسلمون ذلك ويقولون به ويدل عليه جؤارهم واستغاثتهم إليه عند مسيس الضر بفقدان نعمة من النعم. فالمعنى ان جميع النعم التى عندكم من انعامه تعالى عليكم وانتم تعلمون ذلك ثم إذا حل بكم شئ من الضر وسوء حال يسير رفعتم اصواتكم بالتضرع وجأرتم إليه لا إلى غيره ولو كان لغيره صنيعة عندكم لتوجهتم إليه فهو سبحانه منعم النعمة وكاشف الضر فما بالكم لا تخصونه بالعبادة ولا تطيعونه. والاستغاثة به تعالى والتضرع إليه عند حلول المصائب وهجوم الشدائد التى ينقطع عندها الرجاء عن الاسباب الظاهرية ضرورية لا يرتاب فيها فان الانسان ولو لم ينتحل إلى دين ولم يؤمن بالله سبحانه فانه لا ينقطع رجاؤه عند الشدائد إذا رجع إلى ما يجده من نفسه ولا رجاء إلا وهناك مرجو منه فمن الضرورى ان تحقق ما لا يخلو من معنى التعلق كالحب والبغض والارادة والكراهة والجذب ونظائرها في الخارج لا يمكن إلا مع تحقق طرف تعلقها في الخارج فلو لم يكن في الخارج مراد لم تتحقق ارادة من مريد ولو لم يكن هناك مطلوب لم يكن طلب ولو لم يكن جاذب يجذب لم يتصور مجذوب ينجذب وهذا حال جميع المعاني الموجودة التى لا تخلو كينونتها عن نسبة. فتعلق الرجاء من الانسان بالتخلص من البلية عند انقطاع الاسباب دليل على انه يرى ان هناك سببا فوق هذه الاسباب المنقطع عنها لا تعجزه عظائم الحوادث وداهمات الرزايا ولا ينقطع عنه الانسان ولا يزول ولا يفنى ولا يسهو ولا ينسى قط. هذا شئ يجده الانسان من نفسه وتقضى به فطرته وان الهاه عنه الاشتغال بالاسباب الظاهرة وجذبته إلى نفسها امتعة الحياة وزخارف المادة المحسوسة لكنه إذا احاطت به البلية واعيته الحيلة وسدت عليه طرق النجاة وانهزمت الاسباب الظاهرة عن آخرها وطارت الموانع عن نظره ولم يبق هناك مله يلهيه ولا شاغل يشغله ظهر له ما اخفته الاسباب وعاين ما كان على غفلة منه فتعلقت نفسه به وهو السبب الذى فوق كل سبب وهو الله عز اسمه.

[ 273 ]

قوله تعالى: " ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون شروع في ذمهم وتوبيخهم وينتهى إلى ايعادهم وحق لهم ذلك لان الذى يستدعيه كشف الضر عن استغاثتهم ورجوعهم الفطري إلى ربهم ان يوحدوه بالربوبية بعد ما انكشفت لهم الحقيقة باندفاع البلية ونزول الرحمة لكن فريقا منهم تفاجئهم الشقوة فيعودون إلى التغلق بالاسباب فينتبه عندئذ الراقد من رذائل ملكاتهم فيثير لهم الاهواء ويشركون بربهم غيره ومنه الاسباب التى يتعلقون بها ومعنى الاية ظاهر. قوله تعالى: " ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون اللام للغاية أي انهم انما يشركون بربهم ليكفروا بما اعطيناهم من النعمة بكشف الضر عنهم ولا يشكروه. وجعل الكفر بالنعمة غاية للشرك انما هو بدعوى انهم لا غاية لهم في مسير حياتهم الا الكفر بنعمة الله وعدم شكره على ما اولى فان اشتغالهم بالحس والمادة اورثهم في قلوبهم ملكة التعلق بالاسباب الظاهرة واسناد النعم الالهية إليها وضربهم اياها حجابا ثخينا على عرفان الفطرة فأنساهم ذلك توحيد ربهم في ربوبيته فصاروا يذكرون عند كل نعمة اسبابها الظاهرة دون الله ويتعلقون بها ويخشون انقطاعها ويخضعون لها دون الله فكأنهم بل انهم لا غاية لهم الا كفر نعمة الله وعدم شكرها. فالكفر بالله سبحانه هو غايتهم العامة في كل شأن ابدوه وكل عمل اتوا به فإذا اشركوا بربهم بعد كشف الضر بالخضوع لسائر الاسباب فانما اشركوا ليكفروا بما آتاهم من النعمة. ولما كان كفرانهم هذا وهو كفر دائم يصرون عليه واستكبار على الله وقد قال تعالى: " لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي لشديد " ابراهيم: 7 أثار ذكر ذلك الغضب الالهى فعدل عن خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم على نعت الغيبة إلى خطابهم وايعادهم من غير توسيط فقال فتمتعوا فسوف تعلمون. ولم يذكر ما يتمتعون به ليفيد بالاطلاق ان كل ما تمتعوا به سيؤاخذون عليه ولا ينفعهم شئ منه ولم يذكر ما يعلمونه وهو لا محالة امر يسوؤهم ليكونوا على جهل منه حتى يحل بهم مفاجأة ويبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وفيه

[ 274 ]

تشديد للايعاد. وذكر بعضهم ان اللام في قوله ليكفروا بما آتيناهم لام الامر والمراد به الايعاد على نحو التعجيز وهو تكلف. قوله تعالى: " ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون " ذكروا انه معطوف على سائر جناياتهم التى دلت عليها الايات السابقة والتقدير انهم يفعلون ما قصصناه من جناياتهم ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا والظاهر ان ما في لما لا يعلمون موصولة والمراد به آلهتهم وضمير الجمع يعود إلى المشركين ومفعول لا يعلمون محذوف والمعنى ويجعل المشركون لالهتهم التى لا يعلمون من حالها انها تضر وتنفع نصيبا مما رزقناهم. والمراد من هذا الجعل ما ذكره سبحانه في سورة الانعام: " بقوله وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون " الانعام: 136 هذا ما ذكروه ولا يخلو عن تكلف ويمكن ان يكون معطوفا على ما مر من قوله يشركون والتقدير إذا فريق منكم بربهم يشركون ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم والمراد بما لا يعلمون الاسباب الظاهرة التى ينسبون إليها الاثار على سبيل الاستقلال وهم جاهلون بحقيقة حالها ولا علم لهم جازما انها تضر وتنفع مع ما يرون من تخلفها عن التأثير احيانا. وانما نسب إليهم انهم يجعلون لها نصيبا من رزقهم مع انهم يسندون الرزق إليها بالاستقلال من غير ان يذكروا الله معها ومقتضاه نفى التأثير عنه تعالى رأسا لا اشراكه معها لان لهم علما فطريا بأن الله سبحانه له تأثير في الامر وقد ذكر عنهم آنفا انهم يجأرون إليه عند مس الضر وإذا اعتبر اعترافهم هذا مع اسنادهم التأثير إلى الاسباب انتج ذلك ان الاسباب عندهم شركاء لله في الرزق ولها نصيب فيه ثم اوعدهم بقوله " تالله لتسألن عما كنتم تفترون ". قوله تعالى ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون عتاب آخر لهم في حكم حكموا به جهلا من غير علم فاحترموا لانفسهم واساؤا الادب مجترئين على الله

[ 275 ]

سبحانه حيث اختاروا لانفسهم البنين وكرهوا البنات لكنهم نسبوها إلى الله سبحانه. فقوله ويجعلون لله البنات سبحانه هو اخذهم الالهة دون الله أو بعض الالهة اناثا وقولهم انهن بنات الله وقد قيل ان خزاعة وكنانة كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله. وكانت الوثنية البرهمية والبوذية والصابئة يثبتون آلهة كثيرة من الملائكة والجن اناثا وهن بنات الله وفي القرآن الكريم: " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان اناثا " الزخرف: 19 وقال تعالى: " وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا " الصافات: 158. وقال الامام في تفسيره في وجه ذلك اظن انهم سموها بنات لاستتارها عن العيون كالنساء كما انهم اخذوا الشمس مؤنثا لاستتار قرصها بنورها الباهر وضوئها عن العيون كالمخدرات من النساء ولا يلزم الاطراد في التسمية حتى يلزم مثل ذلك في الجن لاستتارهم عن العيون مع عدم التأنيث انتهى ملخصا. وذكر بعضهم ان الوجه في التأنيث كونها مستترة عن العيون مع كونها في محل لا يصل إليه الاغيار فهى كالبنات التى يغار عليهن الرجل فيسكنهن في محل امين ومكان مكين والجن وان كانوا مستترين عن العيون لكنه على غير هذه الصورة انتهى. وهذان الوجهان لا يتعديان طور الاستحسان وانت لو راجعت آراء الوثنية على اختلافهم وقد تقدم شطر منها في الجزء العاشر من هذا الكتاب عرفت ان العرب لم تكن مبتكرة في هذه العقيدة بل لها اصل قديم في آراء قدماء الوثنية في الهند ومصر وبابل واليونان والروم. والامعان في اصول آرائهم يعطى انهم كانوا يتخذون الملائكة الذين ينتهى إليهم وجوه الخير في العالم والجن الذين يرجع إليهم الشرور آلهة يعبدونهم رغبا ورهبا وهذه المبادئ العالية والقوى الكلية التى هم يحملونها وبعبارة اخرى هم مظاهر لها تنقسم إلى فاعله ومنفعلة وهم يعتبرون اجتماع الفاعل والمنفعل منها نكاحا وازدواجا والفاعل منها أبا والمنفعل منها أما والمتحصل من اجتماعهما ولدا وينقسم الاولاد إلى بنين وبنات فمن الالهة ما هن امهات وبنات ومنها ما هم آباء وبنون. فلئن كان بعض وثنية العرب قالت ان الملائكة جميعا بنات الله فقول ارادوا

[ 276 ]

ان يقلدوا فيه من قبلهم جهلا ومن غير تثبت. وقوله ولهم ما يشتهون ظاهر السياق انه معطوف على لله البنات والتقدير ويجعلون لهم ما يشتهون أي يثبتون لله سبحانه البنات باعتقاد ان الملائكة بناته ويثبتون لانفسهم ما يشتهون وهم البنون بقتل البنات ووأدها والمحصل انهم يرضون لله بما لا يرضون به لانفسهم. وقيل ان ما يشتهون مبتدأ مؤخر ولهم خبر مقدم والجملة معطوفة على يجعلون وعلى هذا فالجملة مسوقة للتقريع أو الاستهزاء. وقد وجهوا ذلك بأن عطف الجملة على لله البنات غير جائز لمخالفته القاعدة وهى ان الفعل المتعدى إلى المفعول بنفسه أو بحرف جر إذا كان فاعله ضميرا متصلا مرفوعا فانه لا يتعدى إلى نفس هذا الضمير بنفسه أو بحرف جر الا بفاصل مثلا إذا ضرب زيد نفسه لم يقل زيد ضربه وانت ضربتك وإذا غضب على نفسه لم يقل زيد غضب عليه وانما يقال زيد ضرب نفسه أو ما ضرب الا اياه وزيد غضب على نفسه أو ما غضب الا عليه الا في باب ظن وما الحق به من فقد وعدم فيجوز ان يقال زيد ظنه قويا أي نفسه. وعلى هذا فلو كان قوله ولهم ما يشتهون معطوفا على قوله لله البنات كان من الواجب ان يقال ولانفسهم ما يشتهون انتهى محصلا. والحق ان التزام هذه القاعدة انما هو لدفع اللبس وان تخلل حرف الجر بين الضميرين من الفصل وفي القرآن الكريم: " وهزى اليك بجذع النخلة " مريم: 25 " واضمم اليك جناحك " القصص: 32 ومنهم من رد القاعدة من رأس لانتقاضها بالايتين وأجابوا ايضا بوجوه اخر لا حاجة بنا إلى ذكرها من ارادها فليراجع التفاسير. قوله تعالى: " وإذا بشر احدهم بالانثى ظل وجهه مسوداوهو كظيم " اسوداد الوجه كناية عن الغضب والكظيم هو الذى يتجرع الغيظ والجملة حالية أي ينسبون إلى ربهم البنات والحال انهم إذا بشر احدهم بالانثى فقيل ولدت لك بنت اسود وجهه من الغيظ وهو يتجرع غيظه. قوله تعالى: " يتوارى من القوم من سوء ما بشر به إلى آخر الاية التوارى

[ 277 ]

الاستخفاء والتخفى وهو مأخود من الوراء والهون الذلة والخزى والدس الاخفاء. والمعنى يستخفى هذا المبشر بالبنت من القوم من سوء ما بشر به على عقيدته ويتفكر في امره أيمسك ما بشر به وهى البنت على ذلة من امساكه وحفظه أم يخفيه في التراب كما كان ذلك عادتهم في المواليد من البنات كما قيل ان احدهم كان يحفر حفيرة صغيرة فإذا كان المولود انثى جعلها في الحفيرة وحثا عليها التراب حتى تموت تحته وكانوا يفعلون ذلك مخافة الفقر عليهن فيطمع غير الاكفاء فيهن. واول ما بدا لهم ذلك ان بنى تميم غزوا كسرى فهزمهم وسبى نساءهم وذراريهم فادخلهن دار الملك واتخذ البنات جواري وسرايا ثم اصطلحوا بعد برهة واستردوا السبايا فخيرن في الرجوع إلى اهلهن فامتنعت عدة من البنات فاغضب ذلك رجال بنى تميم فعزموا لا تولد لهم انثى إلا وأدوها ودفنوها حية ثم تبعهم في ذلك بعض من دونهم فشاع بينهم وأد البنات. وقوله ألا ساء ما يحكمون هو حكمهم ان له البنات ولهم البنون لا لهوان البنات وكرامة البنين في نفس الامر بل معنى هذا الحكم عندهم ان يكون لله ما يكرهون ولهم ما يحبون وقيل المراد بالحكم حكمهم بوجوب وأد البنات وكون امساكهن هونا واول الوجهين اوفق وانسب للاية التالية. قوله تعالى: " للذين لا يؤمنون بالاخرة مثل السوء ولله المثل الاعلى وهو العزيز الحكيم " المثل هو الصفة ومنه سمى المثل السائر مثلا لانه صفة تسير في الالسن وتجرى في كل موضع تناسبه وتشابهه. والسوء بالفتح والسكون مصدر ساء يسوء كما ان السوء بالضم اسمه واضافة المثل إلى السوء تفيد التنويع فان الاشياء انما توصف اما من جهة حسنها واما من جهة سوئها وقبحها فالمثل مثلان مثل الحسن ومثل السوء. والحسن والقبح ربما كانا من جهة الخلقة لا صنع للانسان ولا مدخل لاختياره فيهما كحسن الوجه ودمامة الخلقة وربما لحقا من جهة الاعمال الاختيارية كحسن العدل وقبح الظلم وانما يحمد ويذم العقل ما كان من القسم الثاني دون القسم الاول فيدور الحمد والذم بحسب الحقيقة مدار العمل بما تستحسنه وتأمر به الفطرة الانسانية

[ 278 ]

من الاعمال التى توصله إلى ما فيه سعادة حياته وترك العمل بها وهو الذى يتضمنه الدين الحق من احكام الفطرة. ومن المعلوم ان الطبع الانساني لا رادع له عن اقتراف العمل السئ الا اليم المؤاخذة وشديد العقاب واذعانه بايقاعه وانجازه واما الذم فانه يتبدل مدحا إذا شاع الفعل وخرج بذلك عن كونه منكرا غير معروف. ومن هنا يظهر ان الايمان بالاخرة والاذعان بالحساب والجزاء هو الاصل الوحيد الذى يضمن حفظ الانسان عن اقتراف الاعمال السيئة ويجيره من لحوق أي ذم وخزى وهو المنشأ الذى يقوم اعمال الانسان تقويما يحمله على ملازمة طريق السعادة ولا يؤثر اثره أي شئ آخر من المعارف الاصلية حتى التوحيد الذى إليه ينتهى كل اصل. وإلى ذلك يشير قوله تعالى: " ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " ص: 26. فعدم الايمان بالاخرة واستخفاف امر الحساب والجزاء هو مصدر كل عمل سئ ومورده وبالمقابلة الايمان بالاخرة هو منشأ كل حسنة ومنبع كل خير وبركة. فكل مثل سوء وصفة قبح يلزم الانسان ويلحقه فانما يأتيه من قبل نسيان الاخرة كما ان كل مثل حسن وصفة حمد بالعكس من ذلك. وبما تقدم يظهر النكتة في قوله للذين لا يؤمنون بالاخرة مثل السوء فقد كان يصفهم في الايات السابقة بالشرك فلما اراد بيان ان لهم مثل السوء بدل ذلك من وصفهم بعدم ايمانهم بالاخرة. فالذين لا يؤمنون بالاخرة هم الاصل في عروض كل مثل سوء وصفة قبح فان ملاكه وهو انكار الاخرة نعتهم اللازم لهم ولو لحق بعض المؤمنين بالاخرة شئ من مثل السوء فانما يلحقه لنسيان ما ليوم الحساب والمنكرون هم الاصل في ذلك. هذا في صفات السوء التى يستقبحها العقل ويذمها وهناك صفات سوء لا يستقبحها العقل وانما يكرهها الطبع كالانوثة عند قوم وايلاد البنات عند آخرين والفقر المالى والمرض وكالموت والفناء والعجز والجهل تشترك بين المؤمن والكافر وصفات اخرى تحليلية كالفقر والحاجة والنقص والعدم والامكان لا تختص بالانسان بل هي مشتركة

[ 279 ]

بين جميع الممكنات سارية في عامة الخلق والكافر يتصف بها كما يتصف بها غيره فالكافر في معرض الاتصاف بكل مثل سوء منها ما يختص به ومنها ما يشترك بينه وبين غيره كما بين تفصيلا والله سبحانه منزه من ان يتصف بشئ من هذه الصفات التى هي امثال السوء أما امثال السوء التى تتحصل من ناحية سيئات الاعمال مما يستقبحه العقل ويذمه ويجمعها الظلم فلانه لا يظلم شيئا قال تعالى: " ولا يظلم ربك احدا " الكهف: 49 وقال: " وهو الحكيم العليم " الزخرف: 84 فما قضاه من حكم أو فعله من شئ فهو المتعين في الحكمة لا يصلح بالنظر إلى النظام الجارى في الوجود الا ذاك. واما امثال السوء مما يستكرهه الطبع أو يحلله العقل فلا سبيل لها إليه تعالى فانه عزيز مطلق يمتنع جانبه من ان تسرب إليه ذلة فان له كل القدرة لا يعرضه عجز وله العلم كله فلا يطرأ عليه جهل وله محض الحياة لا يهدده موت ولا فناء منزه عن كل نقص وعدم فلا يتصف بصفات الاجسام مما فيه نقص أو فقد أو قصور أو فتور والايات في هذه المعاني كثيرة ظاهرة لا حاجة إلى ايرادها. فهو سبحانه ذو علو ونزاهة من ان يتصف بشئ من امثال السوء التى يتصف بها غيره ولا هذا المقدار من التنزه والتقدس فحسب بل منزه من ان يتصف بشئ من الامثال الحسنة والصفات الجميلة الكريمة بمعانيها التى يتصف بها غيره كالحياة والعلم والقدرة والعزة والعظمة والكبرياء وغيرها فان الذى يوجد من هذه الصفات الحسنة الكمالية في الممكنات محدودة متناه مشوب بالفقر والحاجة مخلوط بالفقدان والنقيصة لكن الذى له سبحانه من الصفات محض الكمال وحقيقته غير محدودة ولا متناه ولا مشوب بنقص وعدم فله حياة لا يهددها موت وقدرة لا يعتريها عى وعجز وعلم لا يقارنه جهل وعزة ليس معها ذلة. فله المثل الاعلى والصفة الحسنى قال تعالى: " وله المثل الاعلى في السماوات والارض " الروم: 27 وقال: " له الاسماء الحسنى " طه: 8 فالامثال منها دانية ومنها عالية والعالية منها اعلى ومنها غيره والاعلى مثله تعالى والاسماء سيئة وحسنة والحسنة منها احسن وغيره ولله منها ما هو احسن فافهم ذلك.

[ 280 ]

فقد تبين بما تقدم معنى كون مثله اعلى وان قوله ولله المثل الاعلى مسوق للحصر أي لله المثل الذى هو اعلى دون المثل الذى هو سئ دان ودون المثل الذى هو حسن عال من صفات الكمال الذى تتصف به الممكنات وليس بأعلى. وتبين ايضا ان المثل الاعلى الذى يظهر له تعالى من البيان السابق هو انتفاء جميع الصفات السيئة عنه كما قال: " ليس كمثله شئ " الشورى: 11 ومن الصفات الثبوتية كل صفة حسنة منفيا عنه الحدود والنواقص. وقوله وهو العزيز الحكيم مسوق لافادة الحصر وتعليل ما تقدمه أي وهو الذى له كل العزة فلا تعتريه ذلة اصلا لان كل ذلة فهو فقد عزة ما وليس يفقد عزة ما وله كل الحكمة فلا يعرضه جهالة لانها فقد حكمة ما وليس يفقد شيئا من الحكمة. واذ لا سبيل لذلة ولا جهالة إليه فلا يتصف بشئ من صفات النقص ولا ينعت بشئ من نعوت الذم وامثال السوء لكن الكافر ذليل في ذاته جهول في نفسه فتلحقه وتلازمه صفات النقص ويتصف بصفات الذم وامثال السوء فللذين لا يؤمنون بالاخرة مثل السوء. والمؤمن وان كان ذليلا في ذاته جهولا في نفسه كالكافر الا انه لدخوله في ولاية الله اعزه ربه بعزته واظهره على الجهالة بتأييده بروح منه قال تعالى: " والله ولى المؤمنين " آل عمران: 68 وقال: " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " المنافقون: 8 وقال: " اولئك كتب في قلوبهم الايمان وايدهم بروح منه " المجادلة: 22. قوله تعالى: " ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة " إلى آخر الاية ضمير عليها عائد إلى الارض لدلالة الناس عليها. ولا يبعد ان يدعى ان السياق يدل على كون المراد بالدابة الانسان فقط من جهة كونه يدب ويتحرك والمعنى ولو اخذ الله الناس بظلمهم مستمرا على المؤاخذة ما ترك على الارض من انسان يدب ويتحرك اما جل الناس فانهم يهلكون بظلمهم واما الاشذ الاندر وهم الانبياء والائمة المعصومون من الظلم فهم لا يوجدون لهلاك آبائهم وامهاتهم من قبل. والقوم اخذوا الدابة في الاية باطلاق معناها وهو كل ما يدب على الارض من

[ 281 ]

انسان وحيوان فعاد معنى الاية إلى انه لو يؤاخذهم بظلمهم لاهلك البشر وكل حيوان على الارض فتوجه إليه ان هذا هو الانسان يهلك بظلمه فما بال سائر الحيوان يهلك ولا ظلم له أو يهلك بظلم من الانسان ؟ واوجه ما اجيب به عنه قول بعضهم باصلاح منا ان الله تعالى لو اخذهم بظلمهم بكفر أو معصية لهلك عامة الناس بظلمهم إلا المعصومين منهم واما المعصومون على شذوذهم وقلة عددهم فانهم لا يوجدون لهلاك آبائهم وامهاتهم من قبل وإذا هلك الناس وبطل النسل هلكت الدواب من سائر الحيوان لانها مخلوقة لمنافع العباد ومصالحهم كما يشعر به قوله تعالى: " خلق لكم ما في الارض جميعا " البقرة: 29 ولهم وجوه أخر في الذب عن الاية على تقدير عموم الدابة فيها لا جدوى في نقلها من ارادها فليراجع مطولات التفاسير. واحتج بعضهم بالاية على عدم عصمة الانبياء عليهم السلام وفيه ان الاية لا تدل على ازيد من انه تعالى لو اخذ بالظلم لهلك جميع الناس وانقرض النوع واما إن كل من يهلك فانما هلك عن ظلمه فلا دلالة لها عليه فمن الجائز ان يهلك الاكثرون بظلمهم ويفنى الاقلون بفناء آبائهم وامهاتهم كما تقدم فلا دلالة في الاية على استغراق الظلم الافراد حتى الانبياء والمعصومين وانما تدل على استغراق الفناء. وربما قيل في الجواب ان المراد بالناس الظالمون منهم بقرينة قوله على ظلمهم فلا يشمل المعصومين من رأس. وربما اجيب ان المراد بالظلم اعم من المعصية التى هي مخالفة الامر المولوي وترك الاولى الذى هو مخالفة الامر الارشادي وربما صدر عن الانبياء عليهم السلام كما حكى عن آدم وزوجه: " قالا ربنا ظلمنا انفسنا " الاعراف: 23 وغيره من الانبياء فحسنات الابرار سيئات المقربين وحينئذ فلا يدل عموم الظلم في الاية للانبياء على عدم عصمة الانبياء عن المعصية بمعنى مخالفة الامر المولوي. وربما اجيب بأن اهلاك جميع الناس انما هو بان الله يمسك عن انزال المطر على الارض لظلم الظالمين من الناس فيهلك به الظالمون والاولياء والدواب فان العذاب إذا نزل لم يفرق بين الشقى والسعيد فيكون على العدو نقمة ونكالا وعلى غيره محنة ومزيد أجر.

[ 282 ]

والاجوبة الثلاثة غير تامة جميعا اما الاول فان اختصاص الناس بالظالمين يوجب اختصاص الهلاك بهم كما ادعى فلا يعم الهلاك المعصومين ولا موجب حينئذ لهلاك سائر الدواب المخلوقة للانسان فلا يستقيم قوله ما ترك عليها من دابة كما لا يخفى. واما الثاني فلان الايات بما لها من السياق تبحث عن الظلم بمعنى الشرك وسائر المعاصي المولوية فتعميم الظلم في الاية لترك الاولى وخاصة بالنظر إلى ذيل الاية ولكن يؤخرهم إلى اجل مسمى الظاهر في الايعاد لا يلائم السياق. واما الثالث فلعدم دليل من جهة اللفظ على ما ذكر فيه. وقوله ولكن يؤخرهم إلى اجل مسمى فإذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون استدراك عن مقدر يدل عليه الجملة الشرطية في صدر الاية والتقدير فلا يعاجل في مؤاخذتهم ولكن يؤخرهم إلى اجل مسمى والاجل المسمى بالنسبة إلى الفرد من الانسان موته المحتوم وبالنسبة إلى الامة يوم انقراضها وبالنسبة إلى عامة البشر نفخ الصور وقيام الساعة ولكل منها ذكر في كلامه تعالى قال: " ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا اجلا مسمى " المؤمن: 67 وقال: " ولكل امة اجل فإذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " الاعراف: 34 وقال: " ولو لا كلمة سبقت من ربك إلى اجل مسمى لقضى بينهم " الشورى: 14. قوله تعالى: " ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب ان لهم الحسنى " إلى آخر الاية عود إلى نسبة المشركين إليه تعالى البنات واختيارهم لانفسهم البنين وهم يكرهون البنات ويحبون البنين ويستحسنونهم. فقوله ويجعلون لله ما يكرهون يعنى البنات وقوله وتصف السنتهم الكذب أي تخبر السنتهم الخبر الكاذب وهو ان لهم الحسنى أي العاقبة الحسنى من الحياة وهى ان يخلفهم البنون وقيل المراد بالحسنى الجنة على تقدير صحة البعث وصدق الانبياء فيما يخبرون به كما حكاه عنهم في قوله: " ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لى وما اظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربى ان لى عنده للحسنى " حم السجدة: 50 وهذا الوجه لا بأس به لو لا ذيل الاية بما سيجئ

[ 283 ]

من معناه. وقوله لا جرم ان لهم النار وانهم مفرطون أي المقدمون إلى عذاب النار يقال فرط وافرط أي تقدم والافراط الاسراف في التقدم كما ان التفريط التقصير فيه والفرط بفتحتين هو الذى يسبق السيارة لتهيئة المسكن والماء ويقال افرطه أي قدمه. ولما كان قولهم كذبا وافتراء ان لله ما يكرهون ولهم الحسنى في معنى دعوى انهم سبقوا ربهم إلى الحسنى وتركوا له ما يكرهون اوعدهم بحقيقة هذا الزعم جزاء لكذبهم وهو ان لهم النار وانهم مقدمون إليها حقا وذلك قوله لا جرم إن لهم النار الخ. قوله تعالى: " تالله لقد ارسلنا إلى امم من قبلك فزين لهم الشيطان اعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب اليم " ظاهر السياق ان المراد باليوم يوم نزول الاية والمراد بكون الشيطان وليا لهم يومئذ اتفاقهم على الضلال في زمان الوحى والمراد بالعذاب الموعود عذاب يوم القيامة كما هو ظاهر غالب الايات التى توعد بالعذاب. والمعنى تالله لقد ارسلنا رسلنا إلى امم من قبلك كاليهود والنصارى والمجوس ممن لم ينقرضوا كعاد وثمود فزين لهم الشيطان اعمالهم فاتبعوه واعرضوا عن رسلنا فهو وليهم اليوم وهم متفقون على الضلال ولهم يوم القيامة عذاب اليم. وجوز الزمخشري على هذا الوجه ان يكون ضمير وليهم لقريش والمعنى إن الشيطان زين للامم الماضين اعمالهم وهو اليوم ولى قريش ويبعده لزوم اختلاف الضمائر. ويمكن ان يكون المراد بالامم الامم الماضين والهالكين فولاية الشيطان لهم اليوم كونهم من اولياء الشيطان في البرزخ ولهم هناك عذاب اليم وقيل المراد باليوم مدة الدنيا فهى يوم الولاية والعذاب يوم القيامة. وقيل المراد به يوم القيامة فهناك ولاية الشيطان لهم ولهم هناك عذاب اليم. وقيل المراد يوم تزيين الشيطان اعمالهم وهو من قبيل حكاية الحال الماضية. واقرب الوجوه اولها ثم التالى فالتالي والله اعلم.

[ 284 ]

قوله تعالى: " وما انزلنا عليك الكتاب الا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه " الخ ضمير لهم للمشركين والمراد بالذى اختلفوا فيه هو الحق من اعتقاد وعمل فيكون المراد بالتبين الايضاح والكشف لاتمام الحجة والدليل على هذا الذى ذكرنا تفريق امر المؤمنين منهم وافرادهم بالذكر في قوله: " وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ". والمعنى هذا حال الناس في الاختلاف في المعارف الحقة والاحكام الالهية وما انزلنا عليك الكتاب الا لتكشف لهؤلاء المختلفين الحق الذى اختلف فيه فيتم لهم الحجة وليكون هدى ورحمة لقوم يؤمنون يهديهم الله به إلى الحق ويرحمهم بالايمان به والعمل. (بحث روائي) في الكافي باسناده عن عبد الرحمان بن كثير قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون قال الذكر محمد ونحن اهله المسؤولون الحديث. اقول يشير عليه السلام إلى قوله تعالى: " قد انزل الله عليكم ذكرا رسولا " الطلاق: 11 وفي معناه روايات كثيرة. وفي تفسير البرهان عن البرقى باسناده عن عبد الكريم بن ابى الديلم عن ابى عبد الله عليه السلام: قال جل ذكره فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون قال الكتاب الذكر واهله آل محمد عليهم السلام امر الله عز وجل بسؤالهم ولم يأمر بسؤال الجهال وسمى الله عز وجل القرآن ذكرا فقال تبارك وتعالى: " وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون " وقال تعالى: " وانه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون ". اقول وهذا احتجاج على كونهم اهل الذكر بأن الذكر هو القرآن وانهم اهله لكونهم قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والايتان في آخر الكلام للاستشهاد على ذلك كما صرح بذلك في غيره من الروايات وفي معنى الحديث احاديث أخر. وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السلام قال: قلت له ان من عندنا يزعمون ان قول الله تعالى فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون انهم اليهود والنصارى فقال إذا يدعونكم إلى دينهم قال ثم قال بيده إلى صدره نحن أهل الذكر

[ 285 ]

الذكر ونحن المسؤولون قال قال أبو جعفر عليه السلام الذكر القرآن. اقول وروى نظير هذا البيان عن الرضا عليه السلام في مجلس المأمون. وقد مر ان الخطاب في الاية على ما يفيده السياق للمشركين من الوثنيين المحيلين للرسالة امروا أن يسألوا اهل الذكر وهم اهل الكتب السماوية هل بعث الله للرسالة رجالا من البشر يوحى إليهم ؟ ومن المعلوم ان المشركين لما كانوا لا يقبلون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن معنى لارجاعهم إلى غيره من اهل القرآن لانهم لم يكونوا يقرون للقرآن انه ذكر من الله فتعين ان يكون المسؤل عنه بالنظر إلى مورد الاية هم اهل الكتاب وخاصة اليهود. واما إذا اخذ قوله فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون في نفسه مع قطع النظر عن المورد ومن شأن القرآن ذلك ومن المعلوم ان المورد لا يخصص بنفسه كان القول عاما من حيث السائل والمسئول والمسؤول عنه ظاهرا فالسائل كل من يمكن ان يجهل شيئا من المعارف حقيقية والمسائل من المكلفين والمسئول عنه جميع المعارف والمسائل التى يمكن ان يجهله جاهل واما المسئول فانه وان كان بحسب المفهوم عاما فهو بحسب المصداق خاص وهم اهل بيت النبي عليه وعليهم السلام. وذلك ان المراد بالذكر ان كان هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في آية الطلاق فهم اهل الذكر وان كان هو القرآن كما في آية الزخرف فهو ذكر للنبى صلى الله عليه وآله وسلم ولقومه وهم قومه أو المتيقن من قومه فهم اهله وخاصته وهم المسئولون وقد قارنهم صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن وأمر الناس بالتمسك بهما في حديث الثقلين المتواتر قائلا: انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض الحديث ومن الدليل على ان كلامهم عليهم السلام من الجهة التى ذكرناها عدم تعرضهم لشئ من خصوصيات مورد الاية. ومما قدمناه يظهر فساد ما اورده بعضهم على الاحاديث ان المشركين الذين امروا بالسؤال ما كانوا يقبلون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكيف يقبلون من اهل بيته ؟ وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ينبغى للعالم ان يسكت على علمه ولا ينبغى للجاهل ان يسكت على جهله وقد قال الله

[ 286 ]

فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون فينبغي للمؤمن ان يعرف عمله على هدى أم على خلافه وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " أفأمن الذين مكروا السيئات إلى قوله بمعجزين قال قال عليه السلام إذا جاؤا وذهبوا في التجارات فيأخذهم في تلك الحالة أو يأخذهم على تخوف قال قال على تيقظ وفي تفسير العياشي عن سماعة عن ابى عبد الله عليه السلام قال: سألت عن قول الله وله الدين واصبا قال واجبا وفي المعاني باسناده عن حنان بن سدير عن الصادق عليه السلام في حديث قال عليه السلام ولله المثل الاعلى الذى لا يشبهه شئ ولا يوصف ولا يتوهم وفي الدر المنثور: في قوله ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم الاية اخرج ابن مردويه عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو ان الله يؤاخذنى وعيسى بن مريم بذنوبنا وفي لفظ بما جنت هاتان الابهام والتى تليها لعذبنا مايظلمنا شيئا. اقول والحديث مخالف لما يثبته الكتاب والسنة من عصمة الانبياء عليهم السلام ولا وجه لحمله على ارادة ترك الاولى من الذنوب إذ لا عذاب عليه * * * والله انزل من السماء ماء فأحيا به الارض بعد موتها ان في ذلك لاية لقوم يسمعون - 65 وان لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين - 66 ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ان في ذلك لاية لقوم يعقلون - 67 وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون - 68 ثم كلى

[ 287 ]

من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذلك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف الوانه فيه شفاء للناس ان في ذلك لاية لقوم يتفكرون - 69 والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى ارذل العمر لكى لا يعلم بعد علم شيئا ان الله عليم قدير - 70 والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادى رزقهم على ما ملكت ايمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون - 71 والله جعل لكم من انفسكم ازواجا وجعل لكم من ازواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون - 72 ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والارض شيئا ولا يستطيعون - 73 فلا تضربوا لله الامثال ان الله يعلم وانتم لا تعلمون - 74 ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستون الحمد لله بل اكثرهم لا يعلمون - 75 وضرب الله مثلا رجلين احدهما أبكم لا يقدر على شئ وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم - 76 ولله غيب السموات والارض وما امر الساعة إلا كلمح البصر أو هو اقرب ان الله على كل شئ قدير - 77

[ 288 ]

(بيان) رجوع بعد رجوع إلى عد النعم والالاء الالهية واستنتاج التوحيد والبعث منها والاشارة إلى مسألة التشريع وهى النبوة. قوله تعالى: " والله انزل من السماء ماء فأحيا به الارض بعد موتها " الخ يريد انبات الارض بعدما انقطعت عنه بحلول الشتاء بماء السماء الذين هو المطر فتأخذ اصول النباتات وبذورها في النمو بعد سكونها وهى حياة من سنخ الحياة الحيوانية وإن كانت اضعف منها وقد اتضح بالابحاث الحديث ان للنبات من جراثيم الحياة ما للحيوان وان اختلفتا صورة وأثرا. وقوله ان في ذلك لاية لقوم يسمعون المراد بالسمع قبول ما من شأنه أن يقبل من القول فان العاقل الطالب للحق إذا سمع ما يتوقع فيه الحق اصغي واستمع إليه ليعيه ويحفظه قال تعالى: " الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه اولئك الذين هداهم الله واولئك هم اولوا الالباب " الزمر: 18. فإذا ذكر من فيه قريحة قبول الحق حديث انزال الله المطر واحيائه الارض بعد موتها كان له في ذلك آية للبعث وان الذى احياها لمحيى الموتى. قوله تعالى: " وان لكم في الانعام لعبرة الخ الفرث هو الثفل الذى ينزل إلى الكرش والامعاء فإذا دفع فهو سرجين وليس فرثا والسائغ اسم فاعل من السوغ يقال ساغ الطعام والشراب إذا جرى في الحلق بسهولة. وقوله وان لكم في الانعام لعبرة أي لكم في الابل والبقر والغنم لامرا أمكنكم أن تعتبروا به وتتعظوا ثم بين ذلك الامر بقوله نسقيكم مما في بطونه الخ أي بطون ما ذكر من الانعام اخذ الكثير شيئا واحدا. وقوله من بين فرث ودم الفرث في الكرش والبان الانعام مكانها مؤخر البطن بين الرجلين والدم مجراه الشرايين والاوردة وهى محيطة بهما جميعا فأخذ اللبن شيئا هو بين الفرث والدم كأنه باعتبار مجاورته لكل منهما واجتماع الجميع في داخل الحيوان وهذا كما يقال اخترت زيدا من بين القوم ودعوته واخرجته من بينهم إذا

[ 289 ]

اجتمع معهم في مكان واحد وجاورهم فيه وان كان جالسا في حاشية القوم لا وسطهم والمراد بذلك انى ميزته من بينهم وقد كان غير متميز. والمعنى نسقيكم مما في بطونه لبنا خارجا من بين فرث ودم خالصا غير مختلط ولا مشوب بهما ولا مستصحب لشئ من طعمهما ورائحتهما سائغا للشاربين فذلك عبرة لمن اعتبر وذريعة إلى العلم بكمال القدرة ونفوذ الارادة وان الذى خلص اللبن من بين فرث ودم لقادر على ان يبعث الانسان ويحييه بعدما صار عظاما رميما وضلت في الارض اجزاؤه. قوله تعالى: " ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا " إلى آخر الاية قال في المفردات السكر بضم السين حالة تعرض بين المرء وعقله إلى ان قال والسكر بفتحتين ما يكون منه السكر قال تعالى: " تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا انتهى. وقال في المجمع السكر في اللغة على اربعة اوجه الاول ما اسكر من الشراب والثانى ما طعم من الطعام قال الشاعر جعلت عيب الاكرمين سكرا أي جعلت ذمهم طعما لك والثالث السكون ومنه ليلة ساكرة أي ساكنة قال الشاعر وليست بطلق ولا ساكرة ويقال سكرت الريح سكنت قال وجعلت عين الحرور تسكر والرابع المصدر من قولك سكر سكرا ومنه التسكير التحيير في قوله سكرت ابصارنا انتهى والظاهر ان الاصل في معناه هو زوال العقل باستعمال ما يوجب ذلك وسائر ما ذكره من المعاني مأخوذة منه بنوع من الاستعارة والتوسع. وقوله ومن ثمرات النخيل والاعناب اما جملة اسمية معطوفة على قوله والله انزل من السماء ماء كقوله في الاية السابقة وان لكم في الانعام لعبرة والتقدير ومن ثمرات النخيل والاعناب ما أو (1) شئ تتخذون منه الخ قالوا


(1) الترديد مبنى على المذهبين في حذف الموصول كما سيأتي. (*)

[ 290 ]

والعرب ربما يضمرما الموصولة كثيرا ومنه قوله تعالى: " وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا " الدهر: 20 والتقدير رأيت ما ثم أو التقدير ومن ثمرات النخيل والاعناب شئ تتخذون منه بناء على عدم جواز حذف الموصول وابقاء الصلة على ما ذهب إليه البصريون من النحاة. واما جملة فعلية معطوفة على قوله انزل من السماء كما في الاية التالية واوحى ربك والتقدير خلق لكم أو آتاكم من ثمرات النخيل والاعناب وقوله تتخذون منه الخ بدل منه أو استئناف كأن قائلا يقول ما ذا نستفيد منه فقيل تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا وافراد ضمير منه بتأويل المذكور كقوله مما في بطونه في الاية السابقة. وقوله تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا أي تتخذون مما ذكر من ثمرات النخيل والاعناب ما هو مسكر كالخمر بأنواعها ورزقا حسنا كالتمر والزبيب والدبس وغير ذلك مما يقتات به. ولا دلالة في الاية على اباحة استعمال السكر ولا على تحسين استعماله ان لم تدل على نوع من تقبيحه من جهة مقابلته بالرزق الحسن وانما الاية تعد ما ينتفعون به من ثمرات النخيل والاعناب وهى مكية تخاطب المشركين وتدعوهم إلى التوحيد. وعلى هذا فالاية لا تتضمن حكما تكليفيا حتى تكون منسوخة أو غير منسوخة وبه يظهر فساد القول بكونها منسوخة بآية المائدة كما نسب إلى قتادة. وقد اغرب صاحب روح المعاني إذ قال وتفسير السكر بالخمر هو المروى عن ابن مسعود وابن عمر وابى رزين والحسن ومجاهد والشعبى والنخعي وابن ابى ليلى وابى ثور والكلبي وابن جبير مع خلق آخرين والاية نزلت في مكة والخمر إذ ذاك كانت حلالا يشربها البر و الفاجر وتحريمها انما كان بالمدينة اتفاقا واختلفوا في انه قبل احد أو بعدها والاية المحرمة لها يا ايها الذين آمنوا انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه على ما ذهب إليه جمع فما هنا منسوخ بها وروى ذلك غير واحد ممن تقدم كالنخعي وابى ثور وابن جبير. وقيل نزلت قبل ولا نسخ بناء على ما روى عن ابن عباس ان السكر هو الخل

[ 291 ]

بلغة الحبشة أو على ما نقل عن ابى عبيدة ان السكر المطعوم المتفكه به كالنقل وانشد جعلت اعراض الكرام سكرا إلى ان قال وإلى عدم النسخ ذهب الحنفيون وقالوا المراد بالسكر ما لا يسكر من الانبذة واستدلوا عليه بأن الله تعالى امتن على عباده بما خلق لهم من ذلك ولا يقع الامتنان الا بمحلل فيكون ذلك دليلا على جواز شرب ما دون المسكر من النبيذ فإذا انتهى إلى السكر لم يجز انتهى موضع الحاجة. اما ما ذكره في الخمر فقد فصلنا القول في ذلك في ذيل آيات التحريم من سورة المائدة واقمنا الشواهد هناك على ان الخمر كانت محرمة قبل الهجرة وكان الاسلام معروفا بتحريمها وتحريم الزنا عند المشركين عامتهم وان تحريمها نزل في سورة الاعراف وقد نزلت قبل سورة النحل قطعا وفي سورتي البقرة والنساء وقد نزلتا قبل سورة المائدة وان التى نزلت في المائدة انما نزلت لتشديد الحرمة وزجر بعض المسلمين حيث كانوا يتخلفون عن حكم التحريم كما وقع في الروايات وهو الذى يشير إليه بقوله يشربها البر والفاجر وفي لفظ الايات دلالة على ذلك إذ يقول فهل انتم منتهون. واما ما نقله عن ابن عباس ان السكر في لغة الحبشة بمعنى الخل فلا معول عليه واستعمال اللفظ غير العربي وان كان غير عزيز في القرآن كما قيل في استبرق وجهنم وزقوم وغيرها لكنه انما يجوز فيما لم يكن هناك مانع من لبس أو ابهام واما في مثل السكر وهو في اللغة العربية الخمر وفي الحبشية الخل فلا وكيف يجوز ان ينسب إلى ابلغ الكلام انه ترك الخل وهو عربي جيد واستعمل مكانه لفظة حبشية تفيد في العربية ضد معناها ؟ واما ما نسبه إلى ابى عبيدة فقد تقدم ما عليه في اول الكلام فراجع. واما ما نسبه إلى الحنفية من ان المراد بالسكر النبيذ وان الاية تدل على جواز شرب القليل منه ما لم يصل إلى حد الاسكار لمكان الامتنان ففيه ان الاية لا تدل على اكثر من انهم يتخذون منه سكرا واما الامتنان عليهم بذلك فبمعزل من دلالة الاية وانما عد من النعم ثمرات النخيل والاعناب لا كل ما عملوا منها من حلال وحرام ولو كان في ذلك امتنان لم يقابله بالرزق الحسن الدال بمقابلته على نوع من العتاب على اتخاذهم منه سكرا كما اعترف به البيضاوى وغيره.

[ 292 ]

على ان ما في الاية من لفظ السكر غير مقيد بكونه نبيذا أو خمرا ولا قليلا لا يبلغ حد الاسكار ولا غيره فلو كان اتخاذ السكر متعلقا للامتنان الدال على الجواز لكانت الاية صريحة في حلية الجميع ثم لم يقبل النسخ اصلا فان لسان الامتنان لا يقبل امدا يرتفع بعده كيف يجوز ان يعد الله شيئا من نعمه ويمتن على الناس به ثم يعده بعد برهة رجسا ومن عمل الشيطان كما في آية المائدة الا بالبداء بمعناه المستحيل عليه تعالى. ثم ختم سبحانه الاية بقوله ان في ذلك لاية لقوم يعقلون حثا على التعقل والامعان في امر النبات وثمراته. قوله تعالى: " واوحى ربك إلى النحل ان اتخذى من الجبال بيوتا " إلى آخر الايتين الوحى كما قال الراغب الاشارة السريعة وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز أو بصوت مجرد عن التركيب أو باشارة ونحوها والمحصل من موارد استعماله انه القاء المعنى بنحو يخفى على غير من قصد افهامه فالالهام بالقاء المعنى في فهم الحيوان من طريق الغريزة من الوحى وكذا ورود المعنى في النفس من طريق الرؤيا أو من طريق الوسوسة أو بالاشارة كل ذلك من الوحى وقد استعمل في كلامه تعالى في كل من هذه المعاني كقوله واوحى ربك إلى النحل الاية وقوله: " واوحينا إلى أم موسى " القصص: 7 وقوله: " إن الشياطين ليوحون إلى اوليائهم " الانعام: 121 وقوله: " فأوحى إليهم ان سبحوا بكرة وعشيا " مريم: 11 ومن الوحى التكليم الالهى لانبيائه ورسله قال تعالى: " وما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا " الشورى: 51 وقد قرر الادب الدينى في الاسلام ان لا يطلق الوحى على غير ما عند الانبياء والرسل من التكليم الالهى. قال في المجمع والذلل جمع الذلول يقال دابة ذلول بين الذل ورجل ذلول بين الذل والذلة انتهى. وقوله واوحى ربك إلى النحل أي ألهمه من طريق غريزته التى اودعها في بنيته وامر النحل وهو زنبور العسل في حياته الاجتماعية وسيرته وصنعته لعجيب ولعل بداعة امره هو الموجب لصرف الخطاب عنهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال واوحى ربك.

[ 293 ]

وقوله ان اتخذى من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون هذا من مضمون الوحى الذى اوحى إليه والظاهر ان المراد بما يعرشون هو ما يبنون لبيوت العسل. وقوله ثم كلى من كل الثمرات الامر بان تأكل من كل الثمرات مع انها تنزل غالبا على الازهار انما هو لانها انما تأكل من مواد الثمرات اول ما تتكون في بطون الازهار ولما تكبر وتنضج. وقوله فاسلكي سبل ربك ذللا تفريعه على الامر بالاكل يؤيد ان المراد به رجوعها إلى بيوتها لتودع فيها ما هيأته من العسل المأخوذ من الثمرات واضافة السبل إلى الرب للدلالة على إن الجميع بالهام الهى. وقوله يخرج من بطونها شراب مختلف الوانه الخ استئناف بعد ذكر جملة ما امرت به يبين فيه ما يترتب على مجاهدتها في امتثال امر الله سبحانه ذللا وهو انه يخرج من بطونها أي بطون النحل شراب وهو العسل مختلف الوانه بالبياض والصفرة والحمرة الناصعة وما يميل إلى السواد فيه شفاء للناس من غالب الامراض. وتفصيل القول في حياة النحلة هذه الحشرة الفطنة التى بنت حياتها على مدنية عجيبة فاضلة لا تكاد تحصى غرائبها ولا يحاط بدقائقها ثم الذى تهيؤه ببالغ مجاهدتها وما يشتمل عليه من الخواص خارج عن وسع هذا الكتاب فليراجع في ذلك مظان تحقيقه. ثم ختم الاية بقوله ان في ذلك لاية لقوم يتفكرون وقد اختلف التعبير بذلك في هذه الايات فخص الاية في احياء الارض بعد موتها بقوم يسمعون وفي ثمرات النخيل والاعناب بقوم يعقلون وفي امر النحل بقوم يتفكرون. ولعل الوجه في ذلك ان النظر في امر الموت والحياة بحسب طبعه من العبرة والموعظة وهى بالسمع انسب والنظر في الثمرات من حيث ما ينفع الانسان في وجوده من السير البرهانى من مسلك اتصال التدبير وارتباط الانظمة الجزئية ورجوعها إلى نظام عام واحد لا يقوم الا بمدبر واحد وهو للعقل انسب وامر النحل في حياتها يتضمن دقائق عجيبة لا تنكشف للانسان الا بالامعان في التفكر فهو آية للمتفكرين. وقد اشرنا سابقا إلى ما في آيات السورة من مختلف الالتفاتات وعمدتها في هذه الايات ترجع إلى خطاب المشركين رحمة لهم واشفاقا بحالهم وهم لا يعلمون والاعراض

[ 294 ]

عن مخاطبتهم لكفرهم وجحودهم إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا ظاهر مشهود في آيات السورة فلا يزال الخطاب فيها يتقلب بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين المشركين فيتحول منه إليهم ومنهم إليه. قوله تعالى: " والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى ارذل العمر لكى لا يعلم بعد علم شيئا " الخ الارذل اسم تفضيل من الرذالة وهى الرداءة والرذل الدون والردئ والمراد بأرذل العمر بقرينة قوله لكى لا يعلم الخ سن الشيخوخة والهرم التى فيها انحطاط قوى الشعور والادراك وهى تختلف باختلاف الامزجة وتبتدئ على الاغلب من الخمس و السبعين. والمعنى والله خلقكم معشر الناس ثم يتوفاكم في عمر متوسط ومنكم من يرد إلى سن الهرم فينتهى إلى ان لا يعلم بعد علم شيئا لضعف القوى وهذا آية ان حياتكم وموتكم وكذا شعوركم وعلمكم ليست بأيديكم وإلا اخترتم البقاء على الوفاة والعلم على عدمه بل ذلك على ما له من عجيب النظام منته إلى علمه وقدرته تعالى ولهذا علله بقوله ان الله عليم قدير. قوله تعالى: " والله فضل بعضكم على بعض في الرزق " إلى آخر الاية فضل بعض الناس على بعض في الرزق وهو ما تبقى به الحياة ربما كان من جهة الكمية كالغنى المفضل بالمال الكثير على الفقير وربما كان من جهة الكيفية كأن يستقل بالتصرف فيه بعضهم ويتولى امر الاخرين مثل ما يستقل المولى الحر بملك ما في يده والتصرف فيه بخلاف عبده الذى ليس له ان يتصرف في شئ الا باذنه وكذا الاولاد الصغار بالنسبة إلى وليهم و الانعام والمواشى بالنسبة إلى مالكها وقوله: " فما الذين فضلوا برادى رزقهم على ما ملكت ايمانهم " قرينة على ان المراد هو القسم الثاني من التفضيل وهو ان بعضهم فضل بالحرية والاستقلال بملك ما رزق وليس يختار ان يرد ما رزق باستقلاله وحريته إلى من يملكه ويملك رزقه ولا ان يبذل له ما اوتيه من نعمة حتى يتساويا ويتشاركا فيبطل ملكه ويذهب سودده. فهذه نعمة ليسوا بمغمضين عنها ولا برادين لها على غيرهم وليست إلا من الله سبحانه فان امر المولوية والرقية وان كان من الشئون الاجتماعية التى ظهرت عن آراء

[ 295 ]

الناس والسنن الاجتماعية الجارية في مجتمعاتهم لكن له اصول طبيعية تكوينية هي التى بعثت آرائهم على اعتباره كسائر الامور الاجتماعية العامة. ومن الشاهد على ذلك ان الامم الراقية منذ عهد طويل اعلنوا بالغاء سنة الاسترقاق ثم اتبعتهم سائر الامم من الشرقيين وغيرهم وهم لا يزالون يحترمون معناها إلى هذه الغاية وان ألغوا صورتها ويجرون مسماها وان هجروا اسمها (1) ولن يزالوا كذلك فليس في وسع الانسان أن يسد باب المغالبة وقد قدمنا كلاما في هذا المعنى في آخر الجزء السادس من هذا الكتاب فليراجعه من شاء. وكون هذا المعنى نعمة من الله انما هو لان من صلاح المجتمع الانساني ان يتسلط بعضهم على بعض فيصلح القوى الضعيف بصالح التدبير ويكمله. وعلى هذا فقوله فهم فيه سواء متفرع على المنفى في قوله فما الذين فضلوا برادى رزقهم دون النفى والمعنى ليسوا برادى رزقهم على عبيدهم فيكونوا متساوين فيه متشاركين وفي ذلك ذهاب مولويتهم ويحتمل ان يكون جملة استفهامية حذفت منها اداة الاستفهام وفيها انكار ان يكون المفضلون والمفضل عليهم في ذلك متساويين ولو كانوا سواء لم يمتنع المفضل من ان يرد رزقه على من فضل عليه فان في ذلك دلالة على انها نعمة خصه الله بها. ولذلك عقبه ثانيا بقوله أفبنعمة الله يجحدون وهو استفهام توبيخي كالمتفرع لما تقدمه من الاستفهام الانكارى والمراد بنعمة الله هذا التفضيل المذكور بعينه. والمعنى والله اعلم والله فرق بينكم بأن فضل بعضكم على بعض في الرزق فبعضكم حر مستقل في التصرف فيه وبعضكم عبد تبع له لا يتصرف الا عن اذن فليس الذين فضلوا برادى رزقهم الذى رزقوه على سبيل الحرية والاستقلال على ما ملكت ايمانهم حتى يكون هؤلاء المفضلون والمفضل عليهم في الرزق سواء فليسوا سواء بل هي نعمة تختص بالمفضلين أفبنعمة الله يجحدون ؟ هذا ما يفيده ظاهر الاية بما احتفت به من القرائن والسياق سياق تعداد النعم


(1) وإنما نقلوا حكم الاسترقاق مما بين الفرد والفرد إلى ما بين المجتمع والمجتمع وسموه بغير اسمه. (*)

[ 296 ]

وربما قرر معنى الاية على وجه آخر فقيل المعنى أنهم لا يشركون عبيدهم في أموالهم وأزواجهم حتى يكونوا في ذلك سواء ويرون ذلك نقصا لانفسهم فكيف يشركون عبيدى في ملكى وسلطاني ويعبدونهم ويتقربون إليهم كما يعبدونني ويتقربون إلى كما فعلوا في عيسى بن مريم عليه السلام ؟ قالوا والاية على شاكلة قوله تعالى: " ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء " الروم: 28 قالوا والاية نزلت في نصارى نجران. وفيه أن سياق الآية هو سياق تعداد النعم لاستنتاج التوحيد لا المناقضة والتوبيخ فلا أثر فيها منه. على أن الآية مما نزلت بمكة واين ذاك من وفود نصارى نجران على المدينة سنة ست من الهجرة أو بعدها ؟ وقياس هذه الاية من آية سورة الروم مع الفارق لاختلاف السياقين فسياق هذه الاية سياق الاحتجاج بذكر النعمة وسياق آية الروم هو سياق التوبيخ على الشرك. وقيل ان المعنى فهؤلاء الذين فضلهم الله في الرزق من الاحرار لا يرزقون مماليكهم وعبيدهم بل الله تعالى هو رازق الملاك والمماليك فإن الذى ينفقه المولى على مملوكه إنما ينفقه مما رزقهم الله فالله رازقهم جميعا فهم فيه سواء. ومحصله ان قوله فهم فيه سواء حال محل اضراب مقدر والتقدير ان الموالى ليسوا برادى رزق انفسهم على عبيدهم فيما ينفقون عليهم بل الله يرزق العبيد بأيدى مواليهم وهم سواء في الرزق من الله. وفيه ان ما قرر من المعنى مقتضاه ان يبطل التسوية اخيرا حكم التفضيل أولا ولا يستقيم عليه مدلول قوله أفبنعمة الله يجحدون. وقيل المراد أن الموالى ليسوا برادى ما بأيديهم من الرزق على مواليهم حتى يستووا في التمتع منه. وفيه أنه يعود حينئذ إلى أن الانسان يمنع غيره من أن يتسلط على ما ملكه من

[ 297 ]

الرزق وحينئذ يكون تخصيصذلك بالعبيد مستدركا زائدا ولو وجه بأنه انما لا يرده عليه لمكان تسلطه على عبيده رجع إلى ما قدمناه من المعنى ولكانت النعمة المعدودة هي الفضل من جهة مالكية المولى لعبده ولما عنده من الرزق. قوله تعالى: " والله جعل لكم من انفسكم ازواجا وجعل لكم من ازواجكم بنين وحفدة " إلى آخر الاية قال في المفردات قال الله تعالى: " 2 وجعل لكم من ازواجكم بنين وحفدة " جمع حافد وهو المتحرك المسرع بالخدمة اقارب كانوا أو اجانب قال المفسرون هم الاسباط ونحوهم وذلك ان خدمتهم اصدق إلى ان قال قال الاصمعي اصل الحفد مداركة الخطو انتهى. وفي المجمع واصل الحفد الاسراع في العمل إلى ان قال ومنه قيل للاعوان حفدة لاسراعهم في الطاعة انتهى والمراد بالحفدة في الاية الاعوان الخدم من البنين لمكان قوله وجعل لكم من ازواجكم ولذا فسر بعضهم قوله بنين وحفدة بصغار الاولاد وكبارهم وبعضهم بالبنين والاسباط وهم بنو البنين. والمعنى والله جعل لكم من انفسكم ازواجا تألفونها وتأنسون بها وجعل لكم من ازواجكم بالايلاد بنين وحفدة واعوانا تستعينون بخدمتهم على حوائجكم وتدفعون بهم عن انفسكم المكاره ورزقكم من الطيبات وهى ما تستطيبونه من امتعة الحياة وتنالونه بلا علاج وعمل كالماء والثمرات أو بعلاج وعمل كالاطعمة والملابس ونحوها ومن في من الطيبات للتبعيض وهو ظاهر. ثم وبخهم بقوله أفبالباطل وهى الاصنام والاوثان ومن ذلك القول بالبنات لله والاحكام التى يشرعها لهم ائمتهم ائمة الضلال يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون والنعمة هي جعل الازواج من انفسهم وجعل البنين والحفدة من ازواجهم فان ذلك من اعظم النعم واجلاها لكونه اساسا تكوينيا يبتنى عليه المجتمع البشرى ويظهر به فيهم حكم التعاون والتعاضد بين الافراد وينتظم به لهم امر تشريك الاعمال والمساعي فيتيسر لهم الظفر بسعادتهم في الدنيا والاخرة. ولو ان الانسان قطع هذا الرابط التكويني الذى انعم الله به عليه وهجر هذا السبب الجميل وان توسل بأى وسيلة غيره لتلاشي جمعه وتشتت شمله وفي ذلك

[ 298 ]

هلاك الانسانية قوله تعالى: " ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا في السماوات والارض شيئا ولا يستطيعون " عطف على موضع الجملة السابقة والمعنى يكفرون بنعمة الله ويعبدون من دون الله ما لا يملك الخ. وقد ذكروا ان رزقا مصدر وشيئا مفعوله والمعنى لا يملك لهم أن يرزق شيئا وقيل الرزق بمعنى المرزوق وشيئا بدل منه وقيل ان شيئا مفعول مطلق والتقدير لا يملك شيئا من الملك وخير الوجوه اوسطها. ويمكن ان يقال في السماوات والارض شيئا بدل من رزقا وهو من بدل الكل من البعض يفيد معنى الاضراب والترقى والمعنى ويعبدون ما لا يملك لهم رزقا بل لا يملك لهم في السماوات والارض شيئا. وقوله ولا يستطيعون أي ولا يستطيعون ان يملكوا رزقا وشيئا ويمكن أن يكون منسى المتعلق جاريا مجرى اللازم أي ولا استطاعة لهم اصلا. وقد اجتمع في الاية رعاية الاعتبارين في الاصنام فانها من جهة انها معمولة من حجر أو خشب أو ذهب أو فضة غير عاقلة وبهذا الاعتبار قيل ما لا يملك الخ ومن جهة انهم يعدونها آلهة دون الله ويعبدونها والعبادة لا تكون الا لعاقل منسلكة على زعمهم في سلك العقلاء وبهذا الاعتبار قيل ولا يستطيعون. وفي الاية رجوع إلى التخلص لبيان الغرض من تعداد النعم وهو التوحيد واثبات النبوة بمعنى التشريع والمعاد يجرى ذلك إلى تمام اربع آيات ينهى في اولاها عن ضربهم الامثال لله سبحانه ويضرب في الثانية مثل تبين به وحدانيته تعالى في ربوبيته وفي الثالثة مثل يتبين به امر النبوة والتشريع ويتعرض في الرابعة لامر المعاد. قوله تعالى: " فلا تضربوا لله الامثال ان الله يعلم وانتم لا تعلمون " الظاهر السابق إلى الذهن ان المراد بضرب الامثال التوصيف المصطلح عليه بالاستعارة التمثيلية وهى اجراء الاوصاف عليه تعالى بضرب من التشبيه كقولهم ان له بنات كالانسان وان الملائكة بناته وان بينه وبين الجنة نسبا وصهرا وانه كيف يحيى العظام وهى

[ 299 ]

رميم إلى غير ذلك وهذا هو المعنى المعهود من هذه الكلمة في كلامه تعالى وقد تقدم في خلال الايات السابقة قوله للذين لا يؤمنون بالاخرة مثل السوء ولله المثل الاعلى. فالمعنى إذا كان الامر على ما ذكر فلا تصفوه سبحانه بما تشبهونه بغيره وتقيسونه إلى خلقه لان الله يعلم وانتم لا تعلمون حقائق الامور وكنهه تعالى. وقيل المراد بالضرب الجعل وبالامثال ما هو جمع المثل بمعنى الند فقوله: " فلا تضربوا لله الامثال " في معنى قوله في موضع آخر فلا تجعلوا لله اندادا " البقرة: 22 وهو معنى بعيد. قوله تعالى: " ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ " إلى آخر الاية ما في الاية من المثل المضروب يفرض عبدا مملوكا لا يقدر على شئ وآخر رزق من الله رزقا حسنا ينفق منه سرا وجهرا ثم يسأل هل يستويان ؟ واعتبار التقابل بين المفروضين يعطى ان كلا من الطرفين مقيد بخلاف ما في الاخر من الوصف مع تبيين الاوصاف بعضها لبعض. فالعبد المفروض مملوك غير مالك لا لنفسه ولا لشئ من متاع الحياة وهو غير قادر على التصرف في شئ من المال والذى فرض قباله حر يملك نفسه وقد رزقه الله رزقا حسنا وهو ينفق منه سرا وجهرا على قدرة منه على التصرف بجميع اقسامه. وقوله هل يستوون سؤال عن تساويهما ومن البديهى ان الجواب هو نفى التساوى ويثبت به ان الله سبحانه وهو المالك لكل شئ المنعم بجميع النعم لا يساوى شيئا من خلقه وهم لا يملكون لا انفسهم ولا غيرهم ولا يقدرون على شئ من التصرف فمن الباطل قولهم ان مع الله آلهة غيره وهم من خلقه. والتعبير بقوله يستوون دون أن يقال يستويان للدلالة على ان المراد من ذلك الجنس من غير أن يختص بمولى وعبد معينين كما قيل. وقوله الحمد لله أي له عز اسمه جنس الحمد وحقيقته وهو الثناء على الجميل الاختياري لان جميل النعمة من عنده ولا يحمد الا الجميل فله تعالى كل الحمد كما ان له جنسه فافهم ذلك.

[ 300 ]

والجملة من تمام الحجة ومحصلها انه لا يستوى المملوك الذى لا يقدر أن يتصرف في شئ وينعم بشئ والمالك الذى يملك الرزق ويقدر على التصرف فيه فيتصرف وينعم كيف شاء والله سبحانه هو المحمود بكل حمد إذ ما من نعمة إلا وهى من خلقه فله كل صفة يحمد عليها كالخلق والرزق والرحمة والمغفرة والاحسان والانعام وغيرها فله كل ثناء جميل وما يعبدون من دونه مملوك لا يقدر على شئ فهو سبحانه الرب وحده دون غيره. وقد قيل ان الحمد في الاية شكر على نعمه تعالى وقيل حمد على تمام الحجة وقوتها وقيل تلقين للعباد ومعناه قولوا الحمد لله الذى دلنا على توحيده وهدانا إلى شكر نعمه وهى وجوه لا يعبأ بها. وقوله بل اكثرهم لا يعلمون أي اكثر المشركين لا يعلمون ان النعمة كلها لله لا يملك غيره شيئا ولا يقدر على شئ بل يثبتون لاوليائهم شيئا من الملك والقدرة على سبيل التفويض فيعبدونهم طمعا وخوفا هذا حال اكثرهم واما اقلهم من الخواص فانهم على علم من الحق لكنهم يحيدون عنه بغيا وعنادا. وقد تبين مما تقدم ان الاية مثل مضروب في الله سبحانه وفيمن يزعمونه شريكا له في الربوبية وقيل انها مثل تمثل به حال الكافر المخذول والمؤمن الموفق فإن الكافر لاحباط عمله وعدم الاعتداد باعماله كالعبد المملوك الذى لا يقدر على شئ فلا يعد له احسان وان انفق وبالغ بخلاف المؤمن الذى يوفقه الله لمرضاته ويشكر مساعيه فهو ينفق مما عنده من الخير سرا وجهرا. وفيه انه لا يلائم سياق الاحتجاج الذى للايات وقد تقدم ان الاية احدى الايات الثلاث المتوالية التى تتعرض لغرض تعداد النعم الالهية وهى تذكر بالتوحيد بمثل يقيس حال من ينعم بجميع النعم من حال من لا يملك شيئا ولا يقدر على شئ فيستنتج ان الرب هو المنعم لا غير. قوله تعالى: " وضرب الله مثلا رجلين احدهما أبكم " إلى آخر الاية قال في المجمع الابكم الذى يولد اخرس لا يفهم ولا يفهم وقيل الابكم الذى لا يقدر أن يتكلم والكل الثقل يقال كل عن الامر يكل كلا إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه.

[ 301 ]

وكلت السكين كلولا إذا غلظت شفرتها وكل لسانه إذا لم ينبعث في القول لغلظه وذهاب حده فالاصل فيه الغلظ المانع من النفوذ والتوجيه الارسال في وجه من الطريق يقال وجهته إلى موضع كذا فتوجه إليه انتهى. فقوله وضرب الله مثلا رجلين مقايسة اخرى بين رجلين مفروضين متقابلين في اوصافهما المذكورة. وقوله احدهما ابكم لا يقدر على شئ أي محروم من ان يفهم الكلام ويفهم غيره بالكلام لكونه ابكم لا يسمع ولا ينطق فهو فاقد لجميع الفعليات والمزايا التى يكتسبها الانسان من طريق السمع الذى هو اوسع الحواس نطاقا به يتمكن الانسان من العلم باخبار من مضى وما غاب عن البصر من الحوادث وما في ضمائر الناس ويعلم العلوم والصناعات وبه يتمكن من القاء ما يدركه من المعاني الجليلة والدقيقة إلى غيره ولا يقوى الابكم على درك شئ منها إلا النزر اليسير مما يساعد عليه البصر بإعانة من الاشارة. فقوله لا يقدر على شئ مخصص عمومه بالابكم أي لا يقدر على شئ مما يقدر عليه غير الابكم وهو جملة ما يحرمه الابكم من تلقى المعلومات والقائها. وقوله وهو كل على مولاه أي ثقل وعيال على من يلى ويدبر امره فهو لا يستطيع ان يدبر امر نفسه وقوله اينما يوجهه لا يأت بخير أي إلى أي جهة ارسله مولاه لحاجة من حوائج نفسه أو حوائج مولاه لم يقدر على رفعها فهو لا يستطيع ان ينفع غيره كما لا ينفع نفسه فهذا اعني قوله احدهما ابكم لا يقدر على شئ الخ مثل احد الرجلين ولم يذكر سبحانه مثل الاخر لحصول العلم به من قوله هل يستوى هو ومن يامر بالعدل الخ وفيه ايجاز لطيف. وقوله هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم فيه اشارة إلى وصف الرجل المفروض وسؤال عن استوائهما إذا قويس بينهما وعدمه. اما الوصف فقد ذكر له منه آخر ما يمكن ان يتلبس به غير الابكم من الخير والكمال الذى يحلى نفسه ويعدو إلى غيره وهو العدل الذى هو التزام الحد الوسط في الاعمال واجتناب الافراط والتفريط فان الامر بالعدل إذا جرى على حقيقته كان لازمه

[ 302 ]

أن يتمكن الصلاح من نفس الانسان ثم ينبسط على اعماله فيلتزم الاعتدال في الامور ثم يحب انبساطه على اعمال غيره من الناس فيأمرهم بالعدل وهو كما عرفت مطلق التجنب عن الافراط والتفريط أي العمل الصالح اعم من العدل في الرعية. ثم وصفه بقوله وهو على صراط مستقيم وهو السبيل الواضح الذى يهدى سالكيه إلى غايتهم من غير عوج والانسان الذى هو في مسير حياته على صراط مستقيم يجرى في اعماله على الفطرة الانسانية من غير ان يناقض بعض اعماله بعضا أو يتخلف عن شئ مما يراه حقا وبالجملة لا تخلف ولا اختلاف في اعماله. وتوصيف هذا الرجل المفروض الذى يامر بالعدل بكونه على صراط مستقيم يفيد اولا ان امره بالعدل ليس من امر الناس بالبر ونسيان نفسه بل هو مستقيم في احواله واعماله يأتي بالعدل كما يأمر به. وثانيا ان امره بالعدل ليس ببدع منه من غير اصل فيه يبتنى عليه بل هو في نفسه على مستقيم الصراط ولازمه ان يحب لغيره ذلك فيأمرهم ان يلتزموا وسط الطريق ويجتنبوا حاشيتي الافراط والتفريط. واما السؤال اعني ما في قوله هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل الخ فهو سؤال لا جواب له الا النفى لا شك فيه وبه يثبت ان ما يعبدونه من دون الله من الاصنام والاوثان وهو مسلوب القدرة لا يستطيع أن يهتدى من نفسه ولا ان يهدى غيره لا يساوى الله تعالى وهو على صراط مستقيم في نفسه هاد لغيره بارسال الرسل وتشريع الشرائع. ومنه يظهر ان هذا المثل المضروب في الاية في معنى قوله تعالى: " أفمن يهدى إلى الحق أحق ان يتبع أم من لا يهدى إلا أن يهدى فمالكم كيف تحكمون " يونس: 35 فالله سبحانه على صراط مستقيم في صفاته وافعاله ومن استقامة صراطه ان يجعل لما خلقه من الاشياء غايات تتوجه إليها فلا يكون الخلق باطلا كما قال وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما باطلا وان يهدى كلا إلى غايته التى تخصه كما خلقها وجعل لها غاية كما قال: " الذى اعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه: 50 فيهدى الانسان إلى سبيل قاصد كما قال: " وعلى الله قصد السبيل " النحل: 9 وقال

[ 303 ]

" إنا هديناه السبيل " الدهر: 3 وهذا اصل الحجة على النبوة والتشريع وقد مر تمامه في ابحاث النبوة في الجزء الثاني وفي قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب. فقد تحصل ان الغرض من المثل المضروب في الاية اقامة حجة على التوحيد مع اشارة إلى النبوة والتشريع. وقيل انه مثل مضروب فيمن يؤمل منه الخير ومن لا يؤمل منه واصل الخير كله من الله تعالى فكيف يستوى بينه وبين شئ سواه في العبادة ؟ وفيه ان المورد اخص من ذلك فهو مثل مضروب فيمن هو على خير في نفسه وهو يأمر بالعدل وهو شأنه تعالى دون غيره على انهم لا يساون بينه وبين غيره في العبادة بل يتركونه ويعبدون غيره. وقيل انه مثل مضروب في المؤمن والكافر فالابكم هو الكافر والذى يأمر بالعدل هو المؤمن وفيه ان صحة انطباق الاية على المؤمن والكافر بل على كل من يأمر بالعدل ومن يسكت عنه وجريها فيهما امر ومدلولها من جهة وقوعها في سياق تعداد النعم والاحتجاج على التوحيد وما يلحق به من الاصول امر آخر والذى تفيده بالنظر إلى هذه الجهة ان مورد المثل هو الله سبحانه وما يعبدون من دونه لا غير. قوله تعالى: " ولله غيب السماوات والارض وما امر الساعة إلا كلمح البصر أو هو اقرب ان الله على كل شئ قدير الغيب يقابل الشهادة في اطلاقات القرآن الكريم وقد تكرر فيه عالم الغيب والشهادة وقد تقدم مرارا انهما امران اضافيان فالامر الواحد غيب وغائب بالنسبة إلى شئ وشهادة ومشهود بالنسبة إلى آخر. واذ كان من الاشياء ما هو ذو وجوه يظهر ببعض منها لغيره ويخفى ببعض اعني انه متضمن غيبا وشهادة كانت اضافة الغيب والشهادة إلى الشئ تارة بمعنى اللام فيكون مثلا غيب السماوات والارض ما هو غائب عنهما خارج من حدودهما ويلحق بهذا الباب الاضافة لنوع من الاختصاص كما في قوله: " فلا يظهر على غيبه احدا " الجن: 26. وتارة بمعنى من أو ما يقرب منه فيكون المراد بغيب السماوات والارض

[ 304 ]

الغيب الذى يشتملان عليه نوعا من الاشتمال قبال ما يشتملان عليه من الشهادة وبعبارة اخرى ما يغيب عن الافهام من امرهما قبال ما يظهر منهما. والساعة هي من غيب السماوات والارض بهذا المعنى الثاني اما اولا فلانه سبحانه يعدها في كلامه من الغيب وليست بخارج من امر السماوات والارض فهو من الغيب بهذا المعنى. واما ثانيافلان ما يصفها به من الاوصاف انما يلائم هذا المعنى الثاني ككونها يوما ينبئهم الله بما كانوا فيه يختلفون ويوم تبلى السرائر ويوما يخاطب فيه الانسان بمثل قوله: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ويوما يخاطبون ربهم بقولهم ربنا ابصرنا وسمعنا فارجعنا " وبالجملة هي يوم يظهر فيه ما استتر من الحقائق في هذه النشأة ظهور عيان ومن المعلوم ان هذه الحقائق غير خارجة من السماوات والارض بل هي معهما ثابتة. كيف ؟ وهو تعالى يقول: " ولله غيب السماوات والارض " فيثبته ملكا لنفسه وليس ملكه من الملك الاعتباري يتعلق بكل امر موهوم أو جزافي بل ملك حقيقي يتعلق بامر ثابت فلها نوع من الثبوت وان فرض جهلنا بحقيقة ثبوتها. والشواهد القرآنية على هذا الذى ذكرناه كثيرة وقد عد سبحانه حياة هذه النشأة متاع الغرور ولعبا ولهوا وكرر ان اكثر الناس لا يعلمون ما هو يوم القيامة وذكر ان الدار الاخرة هي الحيوان وانهم سيعلمون ان الله هو الحق المبين وسيبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون إلى غير ذلك مما يشتمل عليه الايات على اختلاف السنتها. وبالجملة الساعة من غيب السماوات والارض والاية اعني قوله ولله غيب السماوات والارض تقرر ملكه تعالى لنفس هذا الغيب لا لعلمه فلم يقل ولله علم غيب السماوات والارض وسياق الاية يعطى إن الجملة اعني قوله ولله غيب الخ توطئة وتمهيد لقوله ما امر الساعة إلا كلمح البصر الخ فالجملة مسوقة للاحتجاج. وعلى هذا يعود معنى الاية إلى ان الله سبحانه يملك غيب السماوات والارض ملكا له ان يتصرف فيه كيف يشاء كما يملك شهادتهما وكيف لا ؟ وغيب الشئ لا يفارق

[ 305 ]

شهادته وهو موجود ثابت معه وله الخلق والامر والساعة الموعودة ليست بأمر محال حتى لا يتعلق بها قدرة بل هي من غيب السماوات والارض وحقيقتها المستورة عن الافهام اليوم فهى مما استقر عليه ملكه تعالى وله ان يتصرف فيه بالاخفاء يوما وبالاظهار آخر. وليست بصعبة عليه تعالى فانما امرها كلمح البصر أو اقرب من ذلك لان الله على كل شئ قدير. ومن هنا يظهر ان قوله وما امر الساعة إلا كلمح البصر أو هو اقرب إن الله على كل شئ قدير مسوق لا لاثبات اصل الساعة أو امكانها بل لنفى صعوبتها والمشقة في اقامتها وهوان امرها عنده سبحانه. فقوله وما امر الساعة إلا كلمح البصر أو هو اقرب أي بالنسبة إليه وإلا فقد استعظم سبحانه امرها بما يهون عنده كل امر خطير ووصفها بأوصاف لا يعادلها فيها غيرها قال تعالى: " ثقلت في السماوات والارض " الاعراف: 187. وتشبيه امرها بلمح البصر انما هو من جهة إن اللمحة وهى مد البصر وارساله للرؤية اخف الاعمال عند الانسان واقصرها زمانا فهو تشبيه بحسب فهم السامع ولذلك عقبه بقوله أو هو اقرب فان مثل هذا السياق يفهم منه الاضراب فكأنه تعالى يقول ان امرها في خفة المؤنة والهوان والسهولة بالنسبة الينا يشبه لمح احدكم ببصره وانما اشبهه به رعاية لحالكم وتقريبا إلى فهمكم وإلا فالامر اقرب من ذلك كما قال فيها: " ويقول كن فيكون " الانعام: 73 فأمر الساعة بالنسبة إلى قدرته ومشيته تعالى كامر ايسر الخلق واهونه. وعلل تعالى ذلك بقوله ان الله على كل شئ قدير فقدرته على كل شئ توجب أن تكون الاشياء بالنسبة إليه سواء. واياك أن تتوهم ان عموم القدرة لا يستوجب ارتفاع الاختلاف من بين الاشياء من حيث النسبة فقلة الاسباب المتوسطة بين الفاعل وفعله والشرائط والموانع وكثرتها لهما تأثير في ذلك لا محالة فالانسان مثلا قادر على التنفس وحمل ما يطيقه من الاثقال

[ 306 ]

وليسا سواء بالنسبة إليه وعلى هذا القياس. فان في ذلك غفلة عن معنى عموم القدرة وتوضيحه ان القدرة التى فينا قدرة مقيدة فان قدرة الانسان مثلا على اكل الغذاء وهى إن له نسبة الفاعلية إليه وهى في تأثيرها مشروطة بتحقق غذاء في الخارج وكونه بين يديه وممكن التناول وعدم ما يمنع من ذلك من انسان أو غيره وكون ادوات الفعل كاليد والفم وغيرهما غير مصابة بآفة إلى غير ذلك والذى يملكه الانسان هو الارادة والزائد على ذلك وسائط وشرائط وموانع خارجة عن قدرته بالحقيقة وقيد يقيدها وإذا اراد الانسان أن يعمل قدرته فيأكل كان عليه ان يهئ تلك الامور التى تتقيد بها قدرته في التأثير كتحصيل الغذاء ووضعه قريبا منه ورفع الموانع واعمال الادوات البدنية مثلا. ومن المعلوم ان قلة هذه الامور وكثرتها وقربها وبعدها وما اشبه ذلك من صفاتها توجب اختلاف الفعل في السهولة وعدمها وضعف القدرة وقوتها فتقيد القدرة هو الموجب للاختلاف. اما قدرته تعالى فانها عين ذاته التى يجب وجودها ويمتنع عدمها وإذا كان كذلك فلو تقيدت بقيد من وجود سبب أو شرط أو عدم مانع لانعدمت بانعدام قيدها وهو محال فقدرته تعالى مطلقة غير محدودة بحد ولا مقيدة بقيد عامة تتعلق بكل شئ على حد سواء من غير ان يكون شئ بالنسبة إليه اصعب من شئ أو اسهل واقرب إليه من شئ أو ابعد وانما الاختلاف بين الاشياء انفسها بقياس بعضها إلى بعض. وبتقريب آخر ما من شئ الا وهو يفتقر إليه سبحانه في وجوده فإذا فرضنا كل امر موجود بحيث لا يشذ عنها شاذ في جانب ونسبناها إليه تعالى كان الجميع متعلقا لقدرته وليس هناك امر ثالث يكون قيدا لقدرته من سبب أو شرط أو عدم مانع وإلا لكان شريكا في التأثير تعالى عن ذلك. واما الذى بين الاشياء انفسها من الاسباب المتوسطة والشرائط والموانع فانها توجب تقيد بعضها ببعض لا تقيد القدرة العامة الالهية التى تتعلق بها ثم تتعلق القدرة بالمقيد منها دون المطلق بمعنى ان متعلق القدرة هو زيد الذى ابوه فلان وامه فلان وهو في زمان كذا ومكان كذا وهكذا فوجود زيد بجميع روابطه وجود جميع العالم

[ 307 ]

والقدرة المتعلقة به متعلقة بالجميع بعينه وليست هناك إلا قدرة واحدة متعلقة بالجميع يوجد بها كل شئ في موطنه الخاص به وهى مطلقة غير مقيدة لا اختلاف للاشياء بالنسبة إليها وانما الاختلاف بينها انفسها. فقد تبين مما تقدم ان عموم القدرة يوجب ارتفاع الاختلاف من بين الاشياء بالنسبة إليها بالسهولة والصعوبة وغير ذلك والاية الكريمة من غرر الايات القرآنية يتبين بها اولا إن حقيقة المعاد ظهور حقيقة الاشياء بعد خفائها. وثانيا إن القدرة الالهية تتعلق بجميع الاشياء على نعت سواء من غير اختلاف بالسهولة والصعوبة والقرب والبعد وغير ذلك. وثالثا إن الاشياء بحسب الحقيقة مرتبطة وجودا بحيث ان ايجاد الواحد منها ايجاد الجميع والجميع متعلق قدرة واحدة لا مؤثر فيها غيرها. نعم هناك نظر آخر ابسط من ذلك وهو النظر فيها من جهة نظام الاسباب والمسببات وقد صدقه الله في كلامه كما تقدم بيانه في البحث عن الاعجاز في الجزء الاول من الكتاب وبهذه النظرة ينفصل الاشياء بعضها عن بعض ويتوقف وجود بعضها على وجود بعض أو عدمه فتتقدم وتتأخر وتسهل وتصعب وتكون الاسباب وسائط بينها وبينه تعالى ويكون تعالى فاعلا بوساطة الاسباب وهو نظر بسيط. وقد ذكر كثير من المفسرين في قوله ولله غيب السماوات والارض انه بحذف مضاف والتقدير ولله علم غيب الخ وفيه إنه يستلزم ارتفاع الاتصال بين هذه الجملة وبين ما يليها إذ لا رابطة بين علم الغيب وبين هوان أمر الساعة فتعود الجملة مستدركة مستغنى عنها في الكلام. وقول بعضهم في رفع الاستدراك ان صدر الاية وذيلها يثبتان العلم والقدرة وبهما معا يتم خلق الساعة غير مفيد فانهم انما استشكلوا في الساعة من جهة القدرة لعدهم اياها ممتنعة فلا حاجة إلى التشبث لاثباتها بمسألة العلم ويشهد لذلك ما في سائر الايات المثبتة لامكان المعاد بعموم القدرة. وذكر بعضهم ان المراد به علم غيبهما لا بتقدير العلم في الكلام حتى يقال إن الاصل عدمه بل لان اضافة الغيب وهو ما يغيب عن الحس والعقل إلى السماوات

[ 308 ]

والارض تفيد ان المراد الامور المجهولة التى فيهما مما يقع فيهما حالا أو بعد حين وملكه تعالى له ملكه للعلم به. وفيه ان المقدمة الاخيرة ممنوعة وقد تقدم بيانه على إن اشكال ارتفاع الاتصال بين الجملتين في محله بعد. وايضا ذكر بعضهم في توجيه التعليل المستفاد من قوله ان الله على كل شئ قدير ان من جملة الاشياء اقامة الساعة في اسرع ما يكون فهو قادر على ذلك. وفيه انه لا يفى بتعليل ما يستفاد من الحصر بالنفى والاثبات وانما يفى بتعليل ما لو قيل ان الله سيجعل امر الساعة كلمح البصر مع امكان كونه لا كذلك فافهم ذلك (بحث روائي) في تفسير القمى في قوله تعالى: " من بطونه من بين فرث ودم " قال قال عليه السلام الفرث ما في الكرش وفي الكافي عن على بن ابراهيم عن ابيه عن النوفلي عن السكوني قال قال أبو عبد الله عليه السلام: ليس أحد يغص بشرب اللبن لان الله عز وجل يقول لبنا خالصا سائغا للشاربين وفي تفسير القمى باسناده عن رجل عن حريز عن ابى عبد الله عليه السلام في قوله واوحى ربك إلى النحل قال نحن النحل الذى اوحى الله إليه أن اتخذى من الجبال بيوتا أمرنا أن نتخذ من العرب شيعة ومن الشجر يقول من العجم ومما يعرشون من الموالى والذى خرج من بطونها شراب مختلف الوانه العلم الذى يخرج منا اليكم. اقول وفي هذا المعنى روايات أخر وهى من باب الجرى ويشهد به ما في بعض هذه الروايات من تطبيق النحل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والجبال على قريش والشجر على العرب ومما يعرشون على الموالى وما يخرج من بطونها على العلم.

[ 309 ]

وفي تفسير القمى باسناده عن على بن المغيرة عن ابى عبد الله عليه السلام قال إذا بلغ العبد مائة سنة فذلك ارذل العمر وفي المجمع روى عن على عليه السلام: إن أرذل العمر خمس وسبعون سنة وروى عن النبي مثل ذلك. اقول روى ذلك في الدر المنثور عن الطبري عن على عليه السلام وروى عن ابن مردويه عن انس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديثا مفصلا يدل على ان ارذل العمر مائة سنة وفي تفسير العياشي عن عبد الرحمان الاشل عن الصادق عليه السلام: في قول الله وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة قال الحفدة بنو البنت ونحن حفدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيه عن جميل بن دراج عن ابى عبد الله عليه السلام في الحفدة قال وهم العون منهم يعنى البنين وفي المجمع في معنى الحفدة هي اختان الرجل على بناته قال وهو المروى عن ابى عبد الله عليه السلام. اقول ولا تنافى بين الروايات كما تقدم في البيان. وفي التهذيب باسناده عن شعيب العقرقوفى عن ابى عبد الله عليه السلام في طلاق العبد ونكاحه قال ليس له طلاق ولا نكاح أما تسمع الله تعالى يقول عبدا مملوكا لا يقدر على شئ قال لا يقدر على طلاق ولا على نكاح إلا باذن مولاه. اقول وفي هذا المعنى عدة روايات من طرق الشيعة. وفي تفسير القمى في قوله تعالى هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل قال قال عليه السلام كيف يستوى هذا ؟ ومن يأمر بالعدل امير المؤمنين والائمة عليهم السلام وفي تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب عن حمزة بن عطاء عن ابى جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل " الاية قال هو على بن ابى طالب عليه السلام وهو على صراط مستقيم. اقول والروايتان من الجرى وليستا من اسباب النزول في شئ لما تقدم في البيان السابق.

[ 310 ]

وكذا ما روى من طرق اهل السنة إن قوله: " ضرب الله مثلا عبدا مملوكا " الاية نزل في هشام بن عمرو وهو الذى ينفق ماله سرا وجهرا في عبده ابى الجوزاء الذى كان ينهاه وكذا ما روى ان الاية نزلت في عثمان بن عفان وعبد له. وكذا ما روى في قوله وضرب الله مثلا رجلين الاية إن الابكم ابى بن خلف ومن يأمر بالعدل حمزة وعثمان بن مظعون وكذا ما روى ان الابكم هاشم بن عمر بن الحارث القرشى وكان قليل الخير يعادى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما روى ان الابكم أبو جهل والامر بالعدل عمار وما روى ان الآمر بالعدل عثمان بن عفان والابكم مولى له كافر وهو اسيد بن ابى العيص إلى غير ذلك * * * والله اخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون - 78 ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن الا الله ان في ذلك لايات لقوم يؤمنون - 79 والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم اقامتكم ومن اصوافها واوبارها واشعارها اثاثا ومتاعا إلى حين - 80 والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال اكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون - 81 فان تولوا فانما عليك البلاغ المبين - 82 يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها واكثرهم الكافرون - 83

[ 311 ]

ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون - 84 وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون - 85 وإذا رأى الذين اشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول انكم لكاذبون - 86 وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون - 87 الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون - 88 ويوم نبعث في كل امة شهيدا عليهم من انفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين - 89 (بيان) الايات تذكر عدة اخرى من النعم الالهية ثم تعطف الكلام إلى ما تكشف عنه من حق القول في وحدانيته تعالى في الربوبية وفي البعث وفي النبوة والتشريع نظيره القبيل السابق الذى اوردناه من الايات. قوله تعالى: " والله اخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئا إلى آخر الاية الامهات جمع ام والهاء زائدة نظير اهراق واصله اراق وقد تأتى أمات وقيل الامهات في الانسان والامات في غيره من الحيوان والافئدة جمع قلة للفؤاد وهو القلب واللب ولم يبن له جمع كثرة.

[ 312 ]

وقوله: " والله اخرجكم من بطون امهاتكم " اشارة إلى التولد ولا تعلمون شيئا حال من ضمير الخطاب أي اخرجكم من ارحامهن بالتولد والحال ان نفوسكم خالية من هذه المعلومات التى احرزتموها من طريق الحس والخيال والعقل بعد ذلك. والاية تؤيد ما ذهب إليه علماء النفس ان لوح النفس خالية عن المعلومات اول تكونها ثم تنتقش فيها شيئا فشيئا كما قيل وهذا في غير علم النفس بذاتها فلا يطلق عليه عرفا يعلم شيئا والدليل عليه قوله تعالى في خلال الايات السابقة فيمن يرد إلى ارذل العمر لكى لا يعلم من بعد علم شيئا فان من الضرورى انه في تلك الحال عالم بنفسه. واحتج بعضهم بعموم الاية على ان العلم الحضوري يعنى به علم الانسان بنفسه كسائر العلوم الحصولية مفقود في بادئ الحال حادث بعد ذلك ثم ناقش في ادلة كون علم النفس بذاتها حضوريا مناقشات عجيبة. وفيه ان العموم منصرف إلى العلم الحصولي ويشهد بذلك الاية المتقدمة. وقوله: " وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون " اشارة إلى مبادى العلم الذى انعم بها على الانسان فمبدأ التصور هو الحس والعمدة فيه السمع والبصر وان كان هناك غيرهما من اللمس والذوق والشم ومبدأ الفكر هو الفؤاد. قوله تعالى: " ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله " الخ قال في المجمع الجو الهواء البعيد من الارض انتهى يقول ألم ينظروا إلى الطير حال كونها مسخرات لله سبحانه في جو السماء والهواء البعيد من الارض ثم استأنف فقال مشيرا إلى ما هو نتيجة هذا النظر ما يمسكهن الا الله. واثبات الامساك لله سبحانه ونفيه عن غيره مع وجود اسباب طبيعية هناك مؤثرة في ذلك وكلامه تعالى يصدق ناموس العلية والمعلولية انما هو من جهة ان توقف الطير في الجو من دون ان تسقط كيفما كان وإلى أي سبب استند هو وسببه والرابطة التى بينهما جميعا مستندة إلى صنعه تعالى فهو الذى يفيض الوجود عليه وعلى سببه وعلى الرابطة التى بينهما فهو السبب المفيض لوجوده حقيقة وان كان سببه الطبيعي القريب معه يتوقف هو عليه. ومعنى توقفه في وجوده على سببه ليس إن سببه يفيد وجوده بعد ما استفاد

[ 313 ]

وجود نفسه منه تعالى بل ان هذا المسبب يتوقف في اخذه الوجود منه تعالى إلى اخذ سببه الوجود منه تعالى قبل ذلك وقد تقدم بعض الكلام في توضيح ذلك من قريب. وهذا معنى توحيد القرآن والدليل عليه من جهة لفظه امثال قوله: " ألا له الخلق والامر " الاعراف: 54 وقوله: " إن القوة لله جميعا " البقرة: 165 وقوله: " الله خالق كل شئ " الزمر: 62 وقوله: " إن الله على كل شئ قدير " النحل: 77. والدليل على ما قدمناه في معنى النفى والاثبات في الاية قوله تعالى مسخرات فان التسخير انما يتحقق بقهراحد السببين الاخر في فعله على ما يريده السبب القاهر ففى لفظه دلالة على إن للمقهور نوعا من السببية. وليس طيران الطائر في جو السماء بالحقيقة بأعجب من سكون الانسان في الارض فالجميع ينتهى إلى صنعه تعالى على حد سواء لكن ألفة الانسان لبعض الامور وكثرة عهده به توجب خمود قريحة البحث عنه فإذا صادف ما يخالف ما ألفه وكثر عهده به كالمستثنى من الكلية انتبه لذلك وانتزعت القريحة للبحث عنه والانسان يرى الاجسام الارضية الثقيلة معتمدة على الارض مجذوبة إليها فإذا وجد الطير مثلا تنقض كلية هذا الحكم بطيرانها تعجب منه وانبسط للبحث عنه والحصول على علته وللحق نصيب من هذا البحث وهذا هو احد الاسباب في اخذ هذا النوع من الامور في القرآن مواد للاحتجاج. وقوله ان في ذلك لايات لقوم يؤمنون أي في كونها مسخرات في جو السماء فان للطير وهو في الجو دفيفا وصفيفا وبسطا لاجنحتها وقبضا وسكونا وانتقالا وصعودا ونزولا وهى جميعا آيات لقوم يؤمنون كما ذكره الله. قوله تعالى والله جعل لكم من بيوتكم سكنا إلى آخر الاية في المفردات البيت مأوى الانسان بالليل لانه يقال بات اقام بالليل كما يقال ظل بالنهار ثم قد يقال للمسكن بيت من غير اعتبار الليل فيه وجمعه ابيات وبيوت لكن البيوت بالمسكن اخص والابيات بالشعر قال ويقع ذلك على المتخذ من حجر ومدر وصوف ووبر انتهى موضع الحاجة. والسكن ما يسكن إليه والظعن الارتحال وهو خلاف الاقامة والصوف

[ 314 ]

للضأن والوبر للابل كالشعر للانسان ويسمى ما للمعز شعرا كالانسان والاثاث متاع البيت الكثير ولا يقال للواحد منه اثاث قال في المجمع ولا واحد للاثاث كما انه لا واحد للمتاع انتهى والمتاع اعم من الاثاث فانه مطلق ما يتمتع به ولا يختص بما في البيت. وقوله والله جعل لكم من بيوتكم سكنا أي جعل لكم بعض بيوتكم سكنا تسكنون إليه ومن البيوت ما لا يسكن إليه كالمتخذ لادخار الاموال واختزان الامتعة وغير ذلك وقوله وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا الخ أي من جلودها بعد الدبغ وهى الانطاع والادم بيوتا وهى القباب والخيام تستخفونها أي تعدونها خفيفة من جهه الحمل يوم ظعنكم وارتحالكم ويوم اقامتكم من غير سفر وظعن وقوله ومن اصوافها واوبارها واشعارها الخ معطوف على موضع من جلود أي وجعل لكم من اصوافها وهى للضأن وأوبارها وهى للابل واشعارها وهى للمعز اثاثا تستعملونه في بيوتكم ومتاعا تتمتعون به إلى حين محدود قيل وفيه اشارة إلى انها فانية داثرة فلا ينبغى للعاقل ان يختارها على نعيم الاخرة. قوله تعالى: " والله جعل لكم مما خلق ظلالا " إلى آخر الاية الظرفان اعني قوله لكم ومما خلق متعلقان بجعل وتعليق الظلال بما خلق لكونها امرا عدميا محققا بتبع غيره وهى مع ذلك من النعم العظيمة التى أنعم الله بها على الانسان وسائر الحيوان والنبات فما الانتفاع بالظل للانسان وغيره بأقل من الانتفاع بالنور ولو لا الظل وهو ظل الليل وظل الابنية والاشجار والكهوف وغيرها لما عاش على وجه الارض عائش. وقوله وجعل لكم من الجبال اكنانا الكن ما يستتر به الشئ حتى ان القميص كن للابسه وأكنان الجبال هي الكهوف والثقب الموجودة فيها. وقوله وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر أي قميصا يحفظكم من الحر قال في المجمع ولم يقل وتقيكم البرد لان ما وقى الحر وقى البرد وانما خص الحر

[ 315 ]

بذلك مع ان وقايتها للبرد اكثر لان الذين خوطبوا بذلك اهل حر في بلادهم فحاجتهم إلى ما يقى الحر اكثر عن عطاء. قال على ان العرب يكتفى بذكر احد الشيئين عن الاخر للعلم به قال الشاعر وما ادرى إذا يممت أرضا * أريد الخير أيهما يلينى. فكنى عن الشر ولم يذكره لاند مدلول عليه ذكره الفراء انتهى. ولعل بعض الوجه في ذكره الحر والاكتفاء به ان البشر الاولى كانوا يسكنون المناطق الحارة من الارض فكان شدة الحر أمس بهم من شدة البرد وتنبههم لاتخاذ السراويل انما هو للاتقاء مما كان الابتلاء به اقرب إليهم وهو الحر والله اعلم. وقوله وسرابيل تقيكم بأسكم الظاهر ان المراد به درع الحديد ونحوه. وقوله كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون امتنان عليهم باتمام النعم التى ذكرها وكانت الغاية المرجوة من ذلك اسلامهم لله عن معرفتها فإن المترقب المتوقع ممن يعرف النعم واتمامها عليه ان يسلم لارادة منعمه ولا يقابله بالاستكبار لان منعما هذا شأنه لا يريد به سوء. قوله تعالى: " فان تولوا فانما عليك البلاغ المبين " قال في المجمع البلاغ الاسم والتبليغ المصدر مثل الكلام والتكليم انتهى. لما فرغ عن ذكر ما اريد ذكره من النعم والاحتجاج بها ختمها بما مدلولها العتاب واللوم والوعيد على الكفر ويتضمن ذكر وحدانيته تعالى في الربوبية والمعاد والنبوة وبدأ ذلك ببيان وظيفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته وهو البلاغ فقال فان تولوا أي يتفرع على هذا البيان الذى ليس فيه الا دعوتهم إلى ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم من غير أن يتبعه اجبار أو اكراه انهم ان تولوا واعرضوا عن الاصغاء إليه والاهتداء به فانما عليك البلاغ المبين والتبليغ الواضح الذى لا ابهام فيه ولا ستر عليه لانك رسول وما على الرسول الا ذلك. وفي الاية تسلية للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وبيان وظيفة له. قوله تعالى: " يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها واكثرهم الكافرون " المعرفة

[ 316 ]

والانكار متقابلان كالعلم والجهل وهذا هو الدليل على ان المراد بالانكار وهو عدم المعرفة لازم معناه وهو الانكار في مقام العمل وهو عدم الايمان بالله ورسوله واليوم الاخر أو الجحود لسانا مع معرفتها قلبا لكن قوله واكثرهم الكافرون يخص الجحود باكثرهم كما يسجئ فيبقى للانكار المعنى الاول. وقوله واكثرهم الكافرون دخول اللام على الكافرون يدل على الكمال أي انهم كافرون بالنعم الالهية أو بما تدل عليه من التوحيد وغيره جميعا لكن اكثرهم كاملون في كفرهم وذلك بالجحود عنادا والاصرار عليه والصد عن سبيل الله. والمعنى يعرفون نعمة الله بعنوان انها نعمة منه ومقتضاه ان يؤمنوا به وبرسوله واليوم الاخر ويسلموا في العمل ثم إذا وردوا مورد العمل عملوا بما هو من آثار الانكار دون المعرفة واكثرهم لا يكتفون بمجرد الانكار العملي بل يزيدون عليه بكمال الكفر والعناد مع الحق والجحود والاصرار عليه. وفيما قدمناه كفاية لك عما اطال فيه المفسرون في معنى قوله واكثرهم الكافرون مع انهم جميعا كافرون بانكارهم من قول بعضهم انما قال اكثرهم لان منهم من لم تقم عليه الحجة كمن لم يبلغ حد التكليف أو كان مؤفا في عقله أو لم تصل إليه الدعوة فلا يقع عليه اسم الكفر. وفيه ان هؤلاء خارجون على اطلاق الاية رأسا فانها تذكر توبيخا وايعادا انهم ينكرون نعمة الله بعد ما عرفوها وهؤلاء ان كانوا ينكرونها كانوا بذلك كافرين وان لم ينكروها لم يدخلوا في اطلاق الاية قطعا وكيف يصح ان يقال انهم لم تقم عليهم الحجة وليست الحجة إلا النعمة التى يعدها الله سبحانه وهم يعرفونها ؟ وقول بعضهم انما قال واكثرهم الكافرون لانه كان يعلم ان فيهم من سيؤمن وفيه انه قول لا دليل عليه. وقول بعضهم ان المراد بالاكثر الجميع وانما عدل عن البعض احتقارا له ان يذكره ونسب إلى الحسن البصري وهو قول عجيب. قيل وفي الاية دليل على فساد قول المجبرة انه ليس لله على الكافر نعمة

[ 317 ]

وان جميع ما فعله بهم انما هو خذلان ونقمة لانه سبحانه نص في هذه الاية على خلاف قولهم انتهى. والحق ان للنعمة اعتبارين احدهما كونها نعمه أي ناعمة ملائمة لحال المنعم عليه من حيث كونه في صراط التكوين أي من حيث سعادته الجسمية والاخر من حيث وقوع المنعم عليه في صراط التشريع أي من حيث سعادته الروحية الانسانية بأن تكون النعمة بحيث توجب معرفتها ايمانه بالله ورسوله واليوم الاخر واستعمالها في طريق مرضاة الله والمؤمن منعم بالنعمتين كلتيهما والكافر منعم في الدنيا بالطائفة الاولى محروم من الثانية وفي كلامه سبحانه شواهد كثيرة تشهد على ذلك. قوله تعالى: " ويوم نبعث من كل امة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون " قال في المجمع قال الزجاج والعتب الموجودة يقال عتب عليه يعتب إذا وجد عليه فإذا فاوضه ما عتب عليه قالوا عاتبه وإذا رجع إلى مسرته قيل اعتب والاسم العتبى وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضى العاتب واستعتبه طلب منه ان يعتب انتهى. وقوله ويوم نبعث من كل امة شهيدا يفيد السياق ان المراد بهذا اليوم يوم القيامة وبهؤلاء الشهداء الذين يبعث كل واحد منهم من امة شهداء الاعمال الذين تحملوا حقائق اعمال امتهم في الدنيا وهم يستشهد بهم ويشهدون عليهم يوم القيامة وقد تقدم بعض الكلام في معنى هذه الشهادة في تفسير قوله: " لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " البقرة: 143 في الجزء الاول من الكتاب. ولا دلالة في لفظ الاية على ان المراد بشهيد الامة نبيها ولا ان المراد بالامة امة الرسول فمن الجائز ان يكون غير النبي من امته كالامام شهيدا كما يدل عليه آية البقرة السابقة وقوله تعالى: " وجئ بالنبيين والشهداء " الزمر: 69 وعلى هذا فالمراد بكل امة امة الشهيد المبعوث واهل زمانه. وقوله ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون ذكر بعث شهداء الامم دليل على انهم يشهدون على اممهم بما عملوا في الدنيا وقرينة على ان المراد من نفى الاذن للكافرين انهم لا يؤذن لهم في الكلام وهو الاعتذار لا محالة ونفى الاذن في الكلام

[ 318 ]

انما هو تمهيد لاداء الشهود شهادتهم كما تلوح إليه آيات اخر كقوله: " اليوم نختم على افواههم وتكلمنا ايديهم وتشهد ارجلهم " يس: 65 وقوله: " هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون " المرسلات: 36. على ان سياق قوله ثم لا يؤذن الخ يفيد ان المراد بهذا الذى ذكر نفى ما يتقى به الشر يومئذ من الحيل وبيان انه لا سبيل إلى تدارك ما فات منهم واصلاح ما فسد من اعمالهم في الدنيا يومئذ وهو احد امرين الاعتذار أو استئناف العمل اما الثاني فيتكفله قوله ولا هم يستعتبون ولا يبقى للاول وهو الاعتذار بالكلام إلا قوله ثم لا يؤذن للذين كفروا. ومن هنا يظهر ان قوله ولا هم يستعتبون أي لا يطلب منهم ان يعتبوا الله ويرضوه بيان لعدم امكان تدارك ما فات منهم بتجديد العمل والرجوع إلى السمع والطاعة فان اليوم يوم جزاء لا يوم عمل ولا سبيل إلى رجوعهم القهقرى إلى الدنيا حتى يعملوا صالحا فيجزوا به. وقد بين سبحانه ذلك في مواضع اخرى من كلامه بلسان آخر كقوله تعالى: " يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة ابصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون " القلم: 43 وقوله: " ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا ابصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون " الم السجدة: 12. قوله تعالى: " وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون " كانت الاية السابقة بالحقيقة مسوقة لبيان الفرق بين يوم الجزاء الذى هو يوم القيامة وبين سائر ظروف الجزاء في الدنيا بأن جزاء يوم القيامة لا يرتفع ولا يتغير باعتذار ولا باستعتاب وهذه الاية بيان فرق عذاب اليوم مع العذابات الدنيوية التى تتعلق بالظالمين في الدنيا فانها تقبل بوجه التخفيف أو الانظار بتأخير ما وعذاب يوم القيامة لا يقبل تخفيفا ولا انظارا. فقوله: " واذارأى الذين ظلموا العذاب " ذكر الظلم في الصلة دون الكفر ونحوه للدلالة على سبب الحكم وملاكه والمراد برؤية العذاب اشرافه عليهم

[ 319 ]

واشرافهم عليه بعد فصل القضاء كما يفيده السياق والمراد بالعذاب عذاب يوم القيامة وهو عذاب النار. والمعنى والله اعلم وإذا قضى الامر بعذابهم وأشرفوا على العذاب بمشاهدة النار فلا مخلص لهم عنه بتخفيف أو بانظار وامهال. قوله تعالى: " وإذا رأى الذين اشركوا شركاءهم " إلى آخر الاية مضى في حديث يوم البعث وقوله وإذا رأى الذين اشركوا وهم في عرف القرآن عبدة الاصنام والاوثان قرينة على ان المراد بقوله شركاءهم الذين اشركوهم بالله زعما منهم انهم شركاء لله وافتراء ويدل ايضا عليه ذيل الاية والاية التالية. فتسميتهم شركاءهم وهم يسمونهم شركاء الله للدلالة بها على ان ليس لهم من الشركة إلا الشركة بجعلهم بحسب وهمهم فليس لاشراكهم شركاءهم من الحقيقة إلا انها لا حقيقة لها وبذلك يظهر ان تفسير شركائهم بالاصنام أو بالمعبودات الباطلة وانهم انما عدوا شركائهم لانهم جعلوا لها نصيبا من اموالهم وانعامهم أو الشياطين لانهم شاركوهم في الاموال والاولاد أو شركاؤهم في الكفر وهم الذين كفروا مثل كفرهم أو شاركوهم في وبال كفرهم كل ذلك في غير محله ولا نطيل بالمناقشة في كل واحد منها. وقوله: " قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا " من دونك معناه ظاهر وهو تعريف منهم اياهم لربهم ولا حاجة إلى البحث عن غرض المشركين في تعريفهم فان اليوم يوم احاط بهم الشقاء والعذاب من كل جانب والانسان في مثل ذلك يلوى إلى كل ما يخطر بباله من طرق السعي في خلاص نفسه وتنفيس كربه. وقوله فألقوا إليهم القول انكم لكاذبون قال في المجمع تقول القيت الشئ إذا طرحته واللقى الشئ الملقى والقيت إليه مقالة إذا قلتها له وتلقاها إذا قبلها انتهى. والمعنى ان شركائهم ردوا إليهم وكذبوهم وقد عبر سبحانه في موضع آخر عن هذا التكذيب بالكفر كقوله: " ويوم القيامة يكفرون بشرككم " فاطر: 14 وقوله حكاية عن مخاطبة الشيطان لهم يوم القيامة: " انى كفرت بما اشركتمون من

[ 320 ]

قبل " ابراهيم: 22. قوله تعالى: " وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون " السلم الاسلام والاستسلام وكان في التعبير بالقاء السلم اشارة إلى انضمام شئ من الخضوع والمقهورية بالقهر الالهى إلى سلمهم. وضمير ألقوا عائد إلى الذين اشركوا بقرينة قوله بعد وضل عنهم ما كانوا يفترون فالمراد إن المشركين يسلمون يوم القيامة لله وقد كانوا يدعون إلى الاسلام في الدنيا وهم يستكبرون. وليس المراد بالقاء السلم هذا يوم القيامة هو انكشاف الحقيقة وظهور الوحدانية وهو مدلول قوله في صفة يوم القيامة: " ويعلمون إن الله هو الحق المبين " النور: 25 لان العلم بثبوت شئ امر والتسليم والايمان بثبوته امر آخر كما يظهر من قوله تعالى: " وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم " النمل: 14. ومجرد العلم بأن الله هو الحق لا يكفى في سعادة الانسان بل تحتاج في تمامها إلى تسليمه والايمان به بترتيب آثاره عليه ثم من التسليم والايمان ما كان عن طوع واختيار ومنه ما كان عن كره واضطرار والذى ينفع في السعادة هو التسليم والايمان عن اختيار وموطن الاختيار الدنيا التى هي دار العمل دون الاخرة التى هي دار الجزاء. وهم لم يسلموا للحق ما داموا في الدنيا وان أيقنوا به حتى إذا وردوا الدار الاخرة وأوقفوا موقف الحساب عاينوا ان الله هو الحق المبين وان عذاب الشقاء أحاط بهم من كل جانب اسلموا للحق وهم مضطرون وليس ينفعهم وإلى هذا العلم والتسليم الاضطراري يشير قوله تعالى: " يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون إن الله هو الحق المبين " النور: 25 فصدر الاية يخبر عن اسلامهم لانه الدين الحق قال تعالى: " إن الدين عند الله الاسلام " آل عمران: 19 وذيل الاية عن انكشاف الحق لهم وظهور الحقيقة عليهم. والاية المبحوث عنها اعني قوله وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون صدرها يشير إلى اسلامهم وذيلها إلى كون ذاك الاسلام اضطراريا لا ينفعهم لانهم كانوا يرون لله الوهية ولشركائهم الوهية فاختاروا تسليم شركائهم

[ 321 ]

وعبادتهم على التسليم لله ثم لما ظهر لهم الحق يوم القيامة وكذبهم شركائهم بطل ما زعموه وضل عنهم ما افتروه فلم يبق للتسليم الا الله سبحانه فسلموا له مضطرين وانقادوا له كارهين. قوله تعالى: " الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون " استئناف متعرض لحال ائمة الكفر بالخصوص بعد ما اشار إلى حال عامة الظالمين والمشركين في الايات السابقة. والسامع إذا سمع ما شرحه الله من حالهم يوم القيامة في هذه الايات وانهم معذبون جميعا من غير ان يخفف عنهم أو ينظروا فيه وقد سمع منه ان منهم طائفة هم اشد كفرا واشقى من غيرهم إذ يقول واكثرهم الكافرون خطر بباله طبعا انهم هل يساوون غيرهم في العذاب الموعود وهم يزيدون عليهم في السبب وهو الكفر. فاستؤنف الكلام جوابا عن ذلك فقيل الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله بالعناد واللجاج فاكتملوا في الكفر واقتدى بهم غيرهم زدناهم عذابا وهو الذى للصد وهم يختصون به فوق العذاب وهو الذى بازاء مطلق الظلم والكفر ويشاركون فيه عامة اخوانهم وكان اللام في العذاب للعهد الذكرى يشار بها إلى ما ذكر في قوله وإذا رأى الذين ظلموا العذاب الخ بما كانوا يفسدون تعليل لزيادة العذاب. ومن هنا يظهر ان المراد بالافساد الواقع في التعليل هو الصد لانه الوصف الذى يزيدون به على غيرهم وهو افساد الغير بصرفه عن سبيل الله وبتقرير آخر افساد في الارض بالمنع عن انعقاد مجتمع صالح كان من المترقب حصوله باقبال اولئك المصروفين على دين الله وسلوك سبيله. قوله تعالى: " ويوم نبعث في كل امة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء " الخ صدر الاية تكرار ما تقدم قبل بضع آيات من قوله ويوم نبعث من كل امة شهيدا غير انه كان هناك توطئة وتمهيدا لحديث عدم الاذن لهم في الكلام يومئذ وهو ههنا توطئة وتمهيد لذكر شهادته صلى الله عليه وآله وسلم لهؤلاء يومئذ وهو في الموضعين

[ 322 ]

مقصود لغيره لا لنفسه وكيف كان فقوله ويوم نبعث في كل امة شهيدا عليهم من انفسهم يدل على بعث واحد في كل امة للشهادة على اعمال غيره وهو غير البعث بمعنى الاحياء للحساب بل بعث بعد البعث وانما جعل من انفسهم ليكون اتم للحجة واقطع للمعذرة كما يفيده السياق وذكره المفسرون حتى انهم ذكروا شهادة لوط على قومه ولم يكن منهم نسبا ووجهوه بأنه كان تأهل فيهم وسكن معهم فهو معدود منهم. وقوله وجئنا بك شهيدا على هؤلاء يفيد انه صلى الله عليه وآله وسلم شهيد على هؤلاء واستظهروا ان المراد بهؤلاء هم امته وايضا انهم قاطبة من بعث إليه من لدن عصره إلى يوم القيامة ممن حضره ومن غاب ومن عاصره ومن جاء بعده من الناس. وآيات الشهادة من معضلات آيات القيامة على ما في جميع آيات القيامة من الاعضال وصعوبة المنال وقد تقدم في ذيل قوله: " لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " البقرة: 143 في الجزء الاول من الكتاب نبذة من الكلام في معنى هذه الشهادة. ومن الواجب قبل الورود في بحث الشهادة وسائر الامور التى تصفها الايات ليوم القيامة كالجمع والوقوف والسؤال والميزان والحساب ان يعلم انه تعالى يعد في كلامه هذه الامور في عداد الحجج التى تقام يوم القيامة على الانسان لتثبيت ما عمله من خير أو شر والقضاء عليه بما ثبت بالحجة القاطعة للعذر والمنيرة للحق ثم المجازاة بما يستوجبه القضاء من سعادة أو شقاء وجنة أو نار وهذا من اوضح ما يستفاد من آيات القيامة الشارحة لشؤن هذا اليوم وما يواجه الناس منها. وهذا اصل مقتضاه ان يكون بين هذه الحجج واجزائها ونتائجها روابط حقيقية بينة يضطر العقل إلى الاذعان بها ولا يسع للانسان بما عنده من الشعور الفطري ردها ولا الشك والارتياب فيها. وعلى هذا فمن الواجب ان تكون الشهادة القائمة هناك باقامة منه تعالى مشتملة من الحقيقة على ما لا سبيل للمناقشة فيها والله سبحانه لو امر اشقى الناس على أن يشهد على الاولين والاخرين بما عملوه باختيار من الشاهد أو يخلق الشهادة في لسانه بلا

[ 323 ]

ارادة منه أو أن يشهد بما عملوه من غير ان يكون قد تحملها في الدنيا وشهدها شهود عيان بل معتمدا على اعلام من الله أو ملائكته أو على حجة ثم امضى تعالى ذلك وأنفذه وجازى به محتجا في جميع ذلك بشهادته ثانيا عليها لم يكن ذلك مما لا تطيقه سعة قدرته ولا يسعه نفوذ ارادته ولا استطاع احد أن ينازعه في ملكه أو يعقب حكمه أو يغلبه على امره. لكنها حجة تحكمية غير تامة لا تقطع بالحقيقة عذرا ولا تدفع ريبا نظير التحكمات التى نجدها من جبابرة الانسان والطواغيت العابثين بالحق والحقيقة وكيف يتصور لمثل هذه الحجج المختلقة عين أو اثر يوم لا عين فيه الا للحق ولا اثر فيه الا للحقيقة ؟ وعلى هذا فمن الواجب ان يكون هذا الشهيد ذا عصمة الهية يمتنع عليه الكذب والجزاف وان يكون عالما بحقائق الاعمال التى يشهد عليها لا بظاهر صورها وهيئاتها المحسوسة بل بحقيقة ما انعقدت عليه في القلوب وان يستوى عنده الحاضر والغائب من الناس كما تقدمت الاشارة إليه في تفسير آية سورة البقرة. ومن الواجب أن تكون شهادته شهادة عن معاينة كما هو ظاهر لفظ الشهيد وظاهر تقييده بقوله من انفسهم في قوله شهيدا عليهم من انفسهم غير مستندة إلى حجة عقلية أو دليل سمعي ويشهد به قوله تعالى حكاية عن المسيح عليه السلام: " وكنت شهيدا عليهم ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت انت الرقيب عليهم وانت على كل شئ شهيد " المائدة: 117. وبهذا تتلاءم الايتان مضمونا اعني قوله ويوم نبعث في كل امة شهيدا عليهم من انفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء وقوله: " وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " البقرة: 143. فان ظاهر آية البقرة ان بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين الناس الذين هم عامة من بعث إليهم من زمانه إلى يوم القيامة شهداء يشهدون على اعمالهم وان الرسول انما هو شهيد على هؤلاء الشهداء دون سائر الناس إلا بواسطتهم ولا ينبغى ان يتوهم ان الامة هم المؤمنون وغيرهم الناس وهم خارجون من الامة فان ظاهر الاية السابقة في السورة " ويوم نبعث من كل امة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا " الاية إن الكفار من الامة

[ 324 ]

المشهود عليهم. ولازم ذلك ان يكون المراد بالامة في الاية المبحوث عنها ويوم نبعث في كل امة شهيدا عليهم من انفسهم جماعة الناس من اهل عصر واحد يشهد اعمالهم شهيد واحد ويكون حينئذ الامة التى بعث إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم منقسمة إلى امم كثيرة. ويكون المراد بالشهيد الانسان المبعوث بالعصمة والمشاهدة كما تقدم ويؤيده قوله من انفسهم إذ لولا المشاهدة لم يكن لكونه من انفسهم وقع ولا لتعدد الشهداء بتعدد الامم وجه فلكل قوم شهيد من انفسهم سواء كان نبيا لهم أو غير نبيهم فلا ملازمة كما يؤيده قوله: " وجئ بالنبيين والشهداء " الزمر: 69. ويكون المراد بهؤلاء في قوله وجئنا بك شهيدا على هؤلاء الشهداء دون عامة الناس فالشهداء شهداء على الناس والنبى صلى الله عليه وآله وسلم شهيد على الشهداء وظاهر الشهادة على الشاهد تعديله دون الشهادة على عمله فهو صلى الله عليه وآله وسلم شهيد على مقامهم لا على اعمالهم ولذلك لم يكن من الواجب ان يعاصرهم ويتحد بهم زمانا فافهم ذلك. والانصاف انه لو لا هذا التقريب لم يرتفع ما يتراءى ما في آيات الشهادة من الاختلاف كدلالة آية البقرة وقوله: " ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس " الحج: 78 على كون الامة هم المؤمنين ودلالة غيرهما على الاعم ودلالتهما على ان النبي انما هو شهيد على الشهداء وان بينه وبين الناس شهداء ودلالة غيرهما على خلافه وان على الناس شهيدا واحدا هو نبيهم لان المفروض حينئذ ان شهيد كل امة هو نبيهم وكون اخذ الشهيد من انفسهم لغو لا اثر له مع عدم لزوم الحضور والمعاصرة وان الشهادة انما تكون من حى كما في الكلام المحكى عن المسيح عليه السلام واشكالات اخرى تتوجه على نجاح الحجة ومضيها تقدمت الاشارة إليها والله الهادى. وقوله: " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين " ذكروا انه استئناف يصف القرآن بكرائم صفاته فصفته العامة انه تبيان لكل شئ والتبيان والبيان واحد كما قيل واذ كان كتاب هداية لعامة الناس وذلك شأنه كان الظاهر ان المراد بكل شئ كل ما يرجع إلى امر الهداية مما يحتاج إليه الناس في

[ 325 ]

اهتدائهم من المعارف الحقيقية المتعلقة بالمبدأ والمعاد والاخلاق الفاضلة والشرائع الالهية والقصص والمواعظ فهو تبيان لذلك كله. ومن صفته الخاصة أي المتعلقة بالمسلمين الذين يسلمون للحق انه هدى يهتدون به إلى مستقيم الصراط ورحمة لهم من الله سبحانه يحوزون بالعمل بما فيه خير الدنيا والاخرة وينالون به ثواب الله ورضوانه وبشرى لهم يبشرهم بمغفرة من الله ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم. هذا ما ذكروه وهو مبنى على ما هو ظاهر التبيان من البيان المعهود من الكلام وهو اظهار المقاصد من طريق الدلالة اللفظية فإنا لا نهتدي من دلالة لفظ القرآن الكريم إلا على كليات ما تقدم لكن في الروايات ما يدل على ان القرآن فيه علم ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة ولو صحت الروايات لكان من اللازم ان يكون المراد بالتبيان الاعم مما يكون من طريق الدلالة اللفظية فلعل هناك اشارات من غير طريق الدلالة اللفظية تكشف عن اسرار وخبايا لا سبيل للفهم المتعارف إليها. والظاهر على ما يستفاد من سياق هذه الايات المسوقة للاحتجاج على الاصول الثلاثة التوحيد والنبوة والمعاد والكلام فيها ينعطف مرة بعد اخرى عليها إن قوله ونزلنا عليك الكتاب الخ ليس باستئناف بل حال عن ضمير الخطاب في جئنا بك بتقدير قد أو بدون تقديرها على الخلاف بين النحاة في الجملة الحالية المصدرة بالفعل الماضي. والمعنى وجئنا بك شهيدا على هؤلاء والحال إنا نزلنا عليك من قبل في الدنيا الكتاب وهو بيان لكل شئ من امر الهداية يعلم به الحق من الباطل فيتحمل شهادة اعمالهم فيشهد يوم القيامة على الظالمين بما ظلموا وعلى المسلمين بما اسلموا لان الكتاب كان هدى ورحمة وبشرى لهم وكنت انت بذلك هاديا ورحمة ومبشرا لهم. وعلى هذا فصدر الاية كالتوطئة لذيلها كأنه قيل سيبعث شهداء يشهدون على الناس بأعمالهم وانت منهم ولذلك نزلنا عليك كتابا يبين الحق والباطل ويميز بينهما حتى تشهد به يوم القيامة على الظالمين بظلمهم وقد تبين الكتاب وعلى المسلمين باسلامهم وقد كان الكتاب هدى ورحمة وبشرى لهم وكنت هاديا ورحمة ومبشرا به.

[ 326 ]

ومن لطيف ما يؤيد هذا المعنى مقارنة الكتاب بالشهادة في بعض آيات الشهادة كقوله: " واشرقت الارض بنور ربها ووضع الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء " الزمر: 69 وسيجئ ان شاء الله ان المراد به اللوح المحفوظ وقد تكرر في كلامه تعالى ان القرآن من اللوح المحفوظ كقوله: " انه لقرآن كريم في كتاب مكنون " الواقعة: 78 وقوله: " بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ " البروج: 22. وشهادة اللوح المحفوظ وان كانت غير شهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكنهما جميعا متوقفتان على قضاء الكتاب النازل. (بحث روائي) في الدر المنثور اخرج ابن ابى حاتم عن مجاهد: ان اعرابيا اتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأله فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والله جعل لكم من بيوتكم سكنا قال الاعرابي نعم قال وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا تستخفونها قال الاعرابي نعم ثم قرأ عليه كل ذلك يقول نعم حتى بلغ كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون فولى الاعرابي فأنزل الله: " يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها واكثرهم الكافرون " في تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى: " يعرفون نعمة الله " الاية قال عرفهم ولاية علي وأمرهم بولايته ثم انكروا بعد وفاته. اقول والرواية من الجرى. وفي تفسير العياشي عن جعفر بن احمد عن التركي النيشابوري عن على بن جعفر ابن محمد عن اخيه موسى بن جعفر عليه السلام إنه سئل عن هذه الاية يعرفون نعمة الله الاية قال عرفوه ثم انكروه وفي تفسير القمى: قى قوله تعالى: " ويوم نبعث في كل امة شهيدا عليهم من انفسهم قال الصادق عليه السلام لكل زمان وامة شهيد تبعث كل امة مع امامها اقول وذيل كلامه عليه السلام مضمون قوله تعالى: " يوم ندعو كل اناس بامامهم " وفي الدر المنثور اخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم عن

[ 327 ]

قتادة قال الله وجئنا بك شهيدا على هؤلاء قال ذكر لنا ان نبى الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قرأ هذه الاية فاضت عيناه اقول والروايات في باب الشهادة يوم القيامة كثيرة جدا وقد أوردنا بعضها في ذيل قوله وكذلك جعلناكم امة وسطا " البقرة: 143 وبعضها في ذيل قوله: " وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " النساء: 41 وقوله: " ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " النساء: 159. وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه والخطيب في تالى التلخيص عن البراء ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن قول الله زدناهم عذابا فوق العذاب قال عقارب امثال النخل الطوال ينهشونه في جهنم وفي الكافي باسناده عن عبد الاعلى بن اعين قال سمعت ابا عبد الله عليه السلام يقول قد ولدنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانا اعلم كتاب الله وفيه بدؤ الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة وفيه خبر السماء وخبر الارض وخبر الجنة وخبر النار وخبر ما كان وخبر ما هو كائن اعلم ذلك كما انظر إلى كفى إن الله عز وجل يقول فيه تبيان كل شئ. اقول والاية منقولة في الرواية بالمعنى. وفي تفسير العياشي عن منصور عن حماد اللحام قال قال أبو عبد الله عليه السلام نحن نعلم ما في السماوات ونعلم ما في الارض وما في الجنة وما في النار وما بين ذلك قال فبهت انظر إليه فقال يا حماد ان ذلك في كتاب الله تعالى ثم تلا هذه الاية: " ويوم نبعث في كل امة شهيدا عليهم من انفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين " انه من كتاب فيه تبيان كل شئ وفي الكافي عن عدة من اصحابنا عن احمد بن محمد بن سنان عن يونس بن يعقوب عن الحارث بن المغيرة وعدة من اصحابنا منهم عبد الاعلى وابو عبيدة وعبد الله بن بشير الخثعمي سمعوا ابا عبد الله عليه السلام يقول انى لاعلم ما في السماوات وما في الارض واعلم ما في الجنة واعلم ما في النار واعلم ما كان وما يكون ثم مكث هنيئة فرأى

[ 328 ]

إن ذلك كبر على من سمعه منه - فقال علمت ذلك من كتاب الله عز وجل إن الله يقول فيه تبيان كل شئ وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن الوليد قال قال أبو عبد الله عليه السلام قال الله لموسى وكتبنا له في الالواح من كل شئ فعلمنا انه لم يكتب لموسى الشئ كله وقال الله لعيسى لابين لكم بعض الذى تختلفون فيه وقال الله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ. اقول ورواه العياشي بالاسناد عليه السلام * * * إن الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون - 90 وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون - 91 ولا تكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا تتخذون ايمانكم دخلا بينكم ان تكون أمة هي أربى من امة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون - 92 ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدى من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون - 93 ولا تتخذوا ايمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم - 94 ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا انما عند الله هو خير

[ 329 ]

لكم ان كنتم تعلمون - 95 ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا اجرهم بأحسن ما كانوا يعملون - 96 من عمل صالحا من ذكر أو انثى وهو مؤمن فلنحيينه حيوة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون - 97 فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم - 98 إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون - 99 إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون - 100 وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا انما انت مفتر بل اكثرهم لا يعلمون - 101 قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين - 102 ولقد نعلم إنهم يقولون انما يعلمه بشر لسان الذى يلحدون إليه اعجمي وهذا لسان عربي مبين - 103 إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب اليم - 104 انما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله واولئك هم الكاذبون - 105 (بيان) تذكر الايات عدة من الاحكام مما يلائم حال الاسلام قبل الهجرة مما يصلح به حال المجتمع العام كالامر بالعدل والاحسان والنهى عن الفحشاء والمنكر والبغى وما

[ 330 ]

يلحق بذلك كالامر بايتاء ذى القربى والنهى عن نقض العهد واليمين وتذكر امورا اخرى تناسب ذلك وتثبتها. قوله تعالى: " إن الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذى القربى " ابتدأ سبحانه بهذه الاحكام الثلاثة التى هي بالترتيب أهم ما يقوم به صلب المجتمع الانساني لما ان صلاح المجتمع العام اهم ما يبتغيه الاسلام في تعاليمه المصلحة فان اهم الاشياء عند الانسان في نظر الطبيعة وان كان هو نفسه الفردية لكن سعادة الشخص مبنية على صلاح الظرف الاجتماعي الذى يعيش هو فيه وما اصعب ان يفلح فرد في مجتمع فاسد احاط به الشقاء من كل جانب. ولذلك اهتم في اصلاح المجتمع اهتماما لا يعادله فيه غيره وبذل الجهد البالغ في جعل الدساتير والتعاليم الدينية حتى العبادات من الصلاة والحج والصوم اجتماعية ما امكن فيها ذلك كل ذلك ليستصلح الانسان في نفسه ومن جهة ظرف حياته. فقوله إن الله يأمر بالعدل امر بالعدل ويقابله الظلم قال في المفردات العدالة والمعادلة لفظ يقتضى معنى المساواة ويستعمل باعتبار المضايفة والعدل بفتح العين والعدل بكسرها يتقاربان لكن العدل بفتح العين يستعمل فيما يدرك بالبصيرة كالاحكام وعلى ذلك قوله تعالى أو عدل ذلك صياما والعدل بكسر العين والعديل فيما يدرك بالحاسة كالموزونات والمعدودات والمكيلات فالعدل هو التقسيط على سواء. قال والعدل ضربان مطلق يقتضى العقل حسنه ولا يكون في شئ من الازمنة منسوخا ولا يوصف بالاعتداء بوجه نحو الاحسان إلى من احسن اليك وكف الاذى عمن كف أذاه عنك وعدل يعرف كونه عدلا بالشرع ويمكن ان يكون منسوخا في بعض الازمنة كالقصاص واروش الجنايات واصل مال المرتد ولذلك قال فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه وقال وجزاء سيئة سيئة مثلها فسمى اعتداء وسيئة. وهذا النحو هو المعنى بقوله ان الله يأمر بالعدل والاحسان فان العدل هو المساواة في المكافاة ان خيرا فخير وان شرا فشر والاحسان ان يقابل الخير بأكثر

[ 331 ]

منه والشر بأقل منه انتهى موضع الحاجة. وما ذكره على ما فيه من التفصيل يرجع إلى قولهم ان العدل هو لزوم الوسط والاجتناب عن جانبى الافراط والتفريط في الامور وهو من قبيل التفسير بلازم المعنى فان حقيقة العدل هي اقامة المساواة والموازنة بين الامور بأن يعطى كل من السهم ما ينبغى ان يعطاه فيتساوى في ان كلا منها واقع موضعه الذى يستحقه فالعدل في الاعتقاد أن يؤمن بما هو الحق والعدل في فعل الانسان في نفسه ان يفعل ما فيه سعادته ويتحرز مما فيه شقاؤه باتباع هوى النفس والعدل في الناس وبينهم أن يوضع كل موضعه الذى يستحقه في العقل أو في الشرع أو في العرف فيثاب المحسن باحسانه ويعاقب المسئ على اساءته وينتصف للمظلوم من الظالم ولا يبعض في اقامة القانون ولا يستثنى. ومن هنا يظهر ان العدل يساوق الحسن ويلازمه إذ لا نعنى بالحسن إلا ما من طبعه ان تميل إليه النفس وتنجذب نحوه واقرار الشئ في موضعه الذى ينبغى ان يقر عليه من حيث هو كذلك مما يميل إليه الانسان ويعترف بحسنه ويقدم العذر لو خالفه إلى من يقرعه باللوم لا يختلف في ذلك اثنان وان اختلف الناس في مصاديقه كثيرا باختلاف مسالكهم في الحياة. ويظهر ايضا ان ما عد الراغب في كلامه من الاعتداء والسيئة عدلا لا يخلو عن مسامحة فان الاعتداء والسيئة الذين يجازى بهما المعتدى والمسئ انما هما اعتداء وسيئة بالنسبة اليهما وأما بالنسبة إلى من يجازيهما بهما فهما من لزوم وسط الاعتدال وخصلة الحسن لكونهما من وضع الشئ موضعه الذى ينبغى ان يوضع فيه. وكيف كان فالعدل وان كان منقسما إلى عدل الانسان في نفسه وإلى عدله بالنسبة إلى غيره وهما العدل الفردى والعدل الاجتماعي واللفظ مطلق لكن ظاهر السياق إن المراد به في الاية العدل الاجتماعي وهو أن يعامل كل من افراد المجتمع بما يستحقه ويوضع في موضعه الذى ينبغى ان يوضع فيه وهذا امر بخصلة اجتماعية متوجه إلى افراد المكلفين بمعنى ان الله سبحانه يأمر كل واحد من افراد المجتمع أن يأتي بالعدل ولازمه أن يتعلق الامر بالمجموع ايضا فيكلف المجتمع اقامة هذا الحكم وتتقلده الحكومة

[ 332 ]

بما انها تتولى امر المجتمع وتدبره. وقوله والاحسان الكلام فيه من حيث اقتضاء السياق كسابقه فالمراد به الاحسان إلى الغير دون الاحسان بمعنى اتيان الفعل حسنا وهو ايصال خير أو نفع إلى غير لا على سبيل المجازاة والمقابلة كأن يقابل الخير باكثر منه ويقابل الشر بأقل منه كما تقدم ويوصل الخير إلى غير متبرعا به ابتداء. والاحسان على ما فيه من اصلاح حال من اذلته المسكنة والفاقة أو اضطرته النوازل وما فيه من نشر الرحمة وايجاد المحبة يعود محمود اثره إلى نفس المحسن بدوران الثروة في المجتمع وجلب الامن والسلامة بالتحبيب. وقوله وايتاء ذى القربى أي اعطاء المال لذوى القرابة وهو من افراد الاحسان خص بالذكر ليدل على مزيد العناية باصلاح هذا المجتمع الصغير الذى هو السبب بالحقيقة لانعقاد المجتمع المدنى الكبير كما ان مجتمع الازدواج الذى هو اصغر بالنسبة إلى مجتمع القرابة سبب مقدم مكون له فالمجتمعات المدنية العظيمة انما ابتدأت من مجتمع بيتى عقده الازدواج ثم بسطه التوالد والتناسل ووسعه حتى صار قبيلة وعشيرة ولم يزل يتزايد ويتكاثر حتى عادت امة عظيمة فالمراد بذى القربى الجنس دون الفرد وهو عام لكل قرابة كما ذكروه. وفي التفسير المأثور عن ائمة اهل البيت عليهم السلام إن المراد بذى القربى الامام من قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمراد بالايتاء اعطاء الخمس الذى فرضه الله سبحانه في قوله: " واعلموا انما غنمتم من شئ فان لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين " الاية الانفال: 41 وقد تقدم تفسيرها ولعل التعبير بالافراد حيث قيل ذى القربى ولم يقل ذوى القربى أو اولى القربى كما في قوله: " وإذا حضر القسمة اولوا القربى واليتامى والمساكين " النساء: 8 وقوله: " وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين " البقرة: 177 يؤيد ذلك. واحتمال ارادة الجنس من ذى القربى يبعده ما وقع في سياق آية الخمس من ذكر اليتامى والمساكين معه بصيغة الجمع مع عدم ظهور نكتة يختص بها ذوى القربى أو

[ 333 ]

اليتامى والمساكين تقضى بالفرق. على ان الاية لا قرينة واضحة فيها على كون المراد بالايتاء هو الاحسان ثم بالاحسان مطلق الاحسان والله اعلم. قوله تعالى: " وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون " قال في المفردات الفحش والفحشاء والفاحشة ما عظم قبحه من الافعال والاقوال. انتهى ولعل الاصل في معناه الخروج عن الحد فيما لا ينبغى يقال غبن فاحش أي خارج عن حد التحمل والصبر والسكوت. والمنكر ما لا يعرفه الناس في مجتمعهم من الاعمال التى تكون متروكة عندهم لقبحها أو اثمها كالمواقعة أو كشف العورة في مشهد من الناس في المجتمعات الاسلامية. والبغى الاصل في معناه الطلب وكثر استعماله في طلب حق الغير بالتعدي عليه فيفيد معنى الاستعلاء والاستكبار على الغير ظلما وعتوا وربما كان بمعنى الزنا والمراد به في الاية هو التعدي على الغير ظلما. وهذه الثلاثة اعني الفحشاء والمنكر والبغى وان كانت متحدة المصاديق غالبا فكل فحشاء منكر وغالب البغى فحشاء ومنكر لكن النهى انما تعلق بها بما لها من العناوين لما ان وقوع الاعمال بهذه العناوين في مجتمع من المجتمعات يوجب ظهور الفصل الفاحش بين الاعمال المجتمعة فيه الصادرة من اهله فينقطع بعضها من بعض ويبطل الالتيام بينها ويفسد بذلك النظم وينحل المجتمع في الحقيقة وان كان على ساقه صورة وفي ذلك هلاك سعادة الافراد. فالنهى عن الفحشاء والمنكر والبغى امر بحسب المعنى باتحاد مجتمع تتعارف اجزاؤه وتتلاءم اعماله لا يستعلى بعضهم على بعض بغيا ولا يشاهد بعضهم من بعض الا الجميل الذى يعرفونه لا فحشاء ولا منكرا وعند ذلك تستقر عليهم الرحمة والمحبة والالفة وترتكز فيهم القوة والشدة وتهجرهم السخطة والعداوة والنفرة وكل خصلة سيئة تؤدى إلى التفرق والتهلكة. ثم ختم سبحانه الاية بقوله يعظكم لعلكم تذكرون أي تتذكرون فتعلمون ان الذى يدعوكم إليه فيه حياتكم وسعادتكم.

[ 334 ]

قوله تعالى: " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها " الخ قال في المفردات العهد حفظ الشئ ومراعاته حالا بعد حال وسمى الموثق الذى يلزم مراعاته عهدا قال وعهد فلان إلى فلان يعهد أي القى إليه العهد وأوصاه بحفظه انتهى. وظاهر اضافة العهد إلى الله تعالى في قوله وأوفوا بعهد الله ان المراد به هو العهد الذى يعاهد فيه الله على كذا دون مطلق العهد ويأتى نظير الكلام في نقض اليمين. وقوله ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها نقض اليمين نكثه ومخالفة مقتضاه والمراد باليمين هو اليمين بالحلف بالله سبحانه كأن ما عدا ذلك ليس بيمين والدليل عليه قوله بعد وقد جعلتم الله عليكم كفيلا. والمراد بتوكيدها احكامها بالقصد والعزم وكونها لامر راجح بخلاف قولهم لا والله وبلى والله وغيره من لغو الايمان فالتوكيد في هذه الاية يفيد ما يفيده التعقيد في قوله تعالى: " لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان " المائدة: 89. ونقض اليمين بحسب الاعتبار اشنع من نقض العهد وان كان منهيا عنهما جميعا على إن العناية بالحلف في الشرع الاسلامي اكثر كما في باب القضاء. وتوضيح شناعة نقضه إن حقيقة معنى اليمين ايجاد ربط خاص بين النسبة الكلامية من خبر أو انشاء وبين امر ذى بال شريف بحيث يستوجب بطلان النسبة من جهة ظهور كذبه ان كان خبرا ومخالفة مقتضاه ان كان عزما أو امرا أو نهيا كقولنا والله لافعلن كذا وبالله عليك افعل أو لا تفعل كذا أن يذهب بذلك ما يعتقده المقسم من الكرامة والعزة للمقسم به فيؤول الامر إلى إن المقسم به بما له من الكرامة والعزة هو المسئول عن صحة النسبة الكلامية والمقسم هو المسئول عند المقسم به بما علق صحة النسبة على كرامته وعزته كمن يعقد عقدا أو يتعهد عملا ثم يعطى لمن عاقده أو تعهد له موثقا يثق به من مال أو ولد أو غير ذلك أو يضمن له ذلك شريف بشرافته. وبهذا يظهر معنى قوله تعالى: " وقد جعلتم الله عليكم كفيلا " فان الحالف إذا قال والله لافعلن كذا أو لا تركن كذا فقد علق ما حلف عليه نوعا من التعليق

[ 335 ]

على الله سبحانه وجعله كفيلا عنه في الوفاء بما عقد عليه اليمين فان نكث ولم يف كان لكفيله ان يؤديه إلى الجزاء والعقوبة ففى نكث اليمين اهانة وارزاء بساحة العزة والكرامة مضافا إلى ما في نقض اليمين والعهد معا من الانقطاع والانفصال عنه سبحانه بعد توكيد الاتصال. فقوله: " وقد جعلتم الله " الخ حال من ضمير الجمع في قوله ولا تنقضوا وقوله ان الله يعلم بما تفعلون في معنى تأكيد النهى بان العمل مبغوض وهو به عليم. قوله تعالى: " ولا تكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا " إلى آخر الاية النقض ويقابله الابرام افساد ما احكم من حبل أو غزل بالفتل فنقض الشئ المبرم كحل الشئ المعقود والنكث النقض قال في المجمع وكل شئ نقض بعد الفتل فهو انكاث حبلا كان أو غزلا والدخل بفتحتين في الاصل كل ما دخل الشئ وليس منه ويكنى به عن الدغل والخدعة والخيانة كما قيل واربى افعل من الربا وهو الزيادة. وقوله: " ولا تكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا " في معنى التفسير لقوله في الاية السابقة: " ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها " وهو تمثيل بمرأة تغزل الغزل بقوة ثم تعود فتنقض ما اتعبت نفسها فيه وغزلته من بعد قوة وتجعله انكاثا لا فتل فيه ولا ابرام. ونقل عن الكلبى انها امرأة حمقاء من قريش كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار ثم تأمرهن ان ينقضن ما غزلن ولا يزال ذلك دأبها واسمها ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مره وكانت تسمى خرقاء مكة. وقوله: " تتخذون ايمانكم دخلا بينكم ان تكون امة هي اربى من امة " أي تتخذون ايمانكم وسيلة للغدر والخدعة والخيانة تطيبون بها نفوس الناس ثم تخونون وتخدعونهم بنقضها وانما يفعلون ذلك لتكون امة وهم الحالفون اربى وازيد سهما من زخارف الدنيا من امة وهم المحلوف لهم. فالمراد بالدخل وسيلته من تسمية السبب باسم المسبب وان تكون امة مفعول له بتقدير اللام والكلام نوع بيان لنقض اليمين أو لكونهم كالتى نقضت غزلها

[ 336 ]

من بعد قوة انكاثا ومحصل المعنى انكم كمثلها إذ تتخذون ايمانكم دخلا بينكم فتؤكدونها وتعقدونها ثم تخونون وتخدعون بنقضها ونكثها والله ينهاكم عنه. وذكر بعضهم ان قوله تتخذون ايمانكم الخ جملة استفهامية محذوفة الاداة والاستفهام للانكار. وقوله انما يبلوكم الله به الخ أي ان ذلك امتحان الهي يمتحنكم به واقسم ليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون فتعلمون عند ذلك ما حقيقة ما انتم عليه اليوم من التكالب على الدنيا وسلوك سبيل الباطل لاماطة الحق ودحضه ويتبين لكم يومئذ من هو الضال ومن هو المهتدى. قوله تعالى: " ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدى من يشاء " الخ لما انجر الكلام إلى ذكر اختلافهم عقب ذلك ببيان ان اختلافهم ليس بناقض للغرض الالهى في خلقهم ولا انهم معجزون له سبحانه ولو شاء لجعلهم امة واحدة لا اختلاف بينهم ولكن الله سبحانه جعلهم مختلفين بالهداية والاضلال فهدى قوما واضل آخرين. وذلك انه تعالى وضع سعادة الانسان وشقاءه على اساس الاختيار وعرفهم الطاعة المفضية إلى غاية السعادة والمعصية المؤدية إلى غاية الشقاء فمن سلك مسلك المعصية واجتاز للضلال جازاه الله ذلك ومن ركب سبيل الطاعة واختار الهدى جازاه الله ذلك وسيسألهم جميعا عما عملوا واختاروا. وبما تقدم يظهر ان المراد بجعلهم امة واحدة رفع الاختلاف من بينهم وحملهم على الهدى والسعادة وبالاضلال والهداية ما هو على سبيل المجازاة لا الضلال والهدى الابتدائيان فان الجميع على هدى فطرى فالذي يشاء الله ضلاله فيضله هو من اختار المعصية على الطاعة من غير رجوع ولا ندم والذى شاء الله هداه فهداه هو من بقى على هداه الفطري وجرى على الطاعة أو تاب ورجع عن المعصية صراطا مستقيما وسنة الهية ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا. وان قوله: " ولتسألن عما كنتم تعملون " لدفع ما يسبق إلى الوهم ان استناد الضلال والهدى إليه سبحانه يبطل تأثير اختيارهم في ذلك وتبطل بذلك الرسالة وتلغو

[ 337 ]

الدعوة فاجيب بان السؤال باق على حاله لما ان اختياركم لا يبطل بذلك بل الله سبحانه يمد لكم من الضلال والهدى ما انتم تختارونه بالركون إلى معصيته أو بالاقبال إلى طاعته. قوله تعالى: " ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها " إلى آخر الاية قال في المفردات الصدود والصد قد يكون انصرافا عن الشئ وامتناعا نحو يصدون عنك صدودا وقد يكون صرفا ومنعا نحو وزين لهم الشيطان اعمالهم فصدهم عن السبيل انتهى. والاية نهى عن اتخاذ الايمان دخلا بعد النهى عن اصل نقص الايمان لان لخصوص اتخاذها دخلا مفسدة مستقلة هي ملاك النهى غير المفسدة التى لاصل نقض الايمان وقد اشار إلى مفسدة اصل النقض بقوله وقد جعلتم الله عليكم كفيلا الخ ويشير في هذه الاية إلى مفسدة اتخاذها دخلا بقوله: " فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ". والملاكان كما هو ظاهر متغايران نعم احدهما كالمقدمة للاخر كما ان نقض الايمان كالمقدمة لاتخاذها دخلا فان الانسان إذا نقض اليمين لسبب من الاسباب لاول مرة هان عليه امر النقض ومهد ذلك السبيل إلى النقض ثانيا وثالثا وجعل الحلف ثم النقض وسيلة خدعة وخيانة فلا يلبث دون ان تكون حليف دغل وخدعة وخيانة وغرور ومكر وكيد وكذب وزور لا يبالى ما قال وما فعل ويعود جرثومة فساد يفسد المجتمع الانساني اينما توجه ويقع في سبيل غير سبيل الله الذى خطته الفطرة السليمة. وكيف كان فظاهر قوله ولا تتخذوا ايمانكم دخلا بينكم نهى استقلالي عن الخدعة باليمين بعد النهى الضمنى عنه في الاية السابقة وقوله: " فتزل قدم بعد ثبوتها " تفريع على المنهى عنه دون النهى أي يتفرع على اتخاذها دخلا ان تزل قدم بعد ثبوتها الخ وزلة القدم بعد ثبوتها مثل لنقض اليمين بعد العقد والتوكيد والزوال عن الموقف الذى ارتكز فيه فان ثبات الانسان واستقامته على ما عزم عليه واهتم به من كرائم الانسانية واصول فضائلها وعليه بناء الدين الالهى وحفظ اليمين على توكيده

[ 338 ]

قدم من الاقدام التى يتم بها هذا الاصل الوسيع وكأنه لذلك جئ بالقدم نكرة في قوله فتزل قدم الخ. وقوله: " وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم " معطوف على قوله تزل قدم الخ وبيان نتيجته كما انه بيان نتيجة وعاقبة لقوله تتخذوا ايمانكم دخلا وبذلك يظهر ان قوله بما صددتم عن سبيل الله بمنزلة التفسير لقوله فتزل قدم بعد ثبوتها. والمراد بالصدود عن سبيل الله الاعراض والامتناع عن السنة الفطرية التى فطر الله الناس عليها ودعت الدعوة النبوية إليها من التزام الصدق والاستقامة ورعاية العهود والمواثيق والايمان والتجنب عن الدغل والخدعة والخيانة والكذب والزور والغرور. والمراد بذوق السوء العذاب وقوله ولكم عذاب عظيم حال عن فاعل تذوقوا ويمكن ان يكون المراد بذوق السوء ما ينالهم من آثار الضلال السيئة في الدنيا وقوله ولكم عذاب عظيم اخبارا عما يحل بهم في الاخرة هذا ما يستفاد من ظاهر الاية الكريمة. فالمعنى ولا تتخذوا ايمانكم وسيلة دخل بينكم حتى يؤديكم ذلك إلى الزوال عما ثبتم عليه ونقض ما ابرمتموه وفيه اعراض عن سبيل الله الذي هو التزام الفطرة والتحرز عن الغدر والخدعة والخيانة والدغل وبالجملة الافساد في الارض بعد اصلاحها ويؤديكم ذلك إلى أن تذوقوا السوء والشقاء في حياتكم الدنيا ولكم عذاب عظيم في الاخرى. وذكر بعضهم أن الاية مختصة بالنهي عن نقض بيعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما استقرت عليه السنة في صدر الاسلام وأن الاية نزلت في الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على نصرة الاسلام وأهله فنهاه الله عن نقض تلك البيعة وعلى هذا فالمراد بالصد عن سبيل الله صرف الناس ومنعهم عن اتباع دين الله كما ان المراد بزلة قدم بعد ثبوتها الردة بعد الاسلام والضلال بعد الرشد. وفيه أن السياق لا يساعد على ذلك وعلى تقدير التسليم خصوص المورد لا ينافى عموم الاية.

[ 339 ]

قوله تعالى: " ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إن ما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون " قال في المفردات كل ما يحصل عوضا عن شئ فهو ثمنه انتهى. والظاهر أن الاية نهي عن نقض العهد بعدما تقدم الامر بالوفاء به اعتناء بشأنه كما جرى مثل ذلك في نقض الايمان والاية مطلقة والمراد بعهد الله العهد الذي عوهد به الله مطلقا والمراد بالاشتراء به ثمنا قليلا بقرينة ذيل الاية أن يبدل العهد من شئ من حطام الدنيا فينقض لنيله فسمى المبدل منه ثمنا لانه عوض كما تقدم والباقي ظاهر. قوله: " ما عندكم ينفد وما عند الله باق " في مقام التعليل لقوله في الاية السابقة: " ما عند الله هو خير لكم " وقد وجهه بأن الذي عندكم أي في الحياة الدنيا التي هي حياة مادية قائمة على أساس التبدل والتحول منعوتة بنعت الحركة والتغير زائل نافد وما عند الله سبحانه مما يعد المتقين منكم باق لا يزول ولا يفنى والباقى خير من النافد بصريح حكم العقل. واعلم ان قوله: " ما عندكم ينفد وما عند الله باق " على ما في لفظه من الاطلاق قاعدة كلية غير منقوضة باستثناء تحتها جزئيات كثيرة من المعارف الحقيقية. قوله تعالى: " ولنجزين الذين صبروا اجرهم باحسن ما كانوا يعملون " لما كان الوفاء بالعهد مستلزما للصبر على مر مخالفة هوى النفس في نقضه والاسترسال فيما تشتهيه صرف الكلام عن ذكر اجر خصوص الموفين بالعهد إلى ذكر اجر مطلق الصابرين في جنب الله. فقوله ولنجزين الذين صبروا اجرهم وعد مؤكد على مطلق الصبر سواء كان صبرا على الطاعة أو عن المعصية أو عند المصيبة غير انه يجب ان يكون صبرا في جنب الله ولوجه الله فان السياق لا يساعد على غيره. وقوله باحسن ما كانوا يعملون الباء للمقابلة كما في قولنا بعت هذا بهذا وليس المراد باحسن ما كانوا يعملون الاحسن من اعمالهم في مقابل الحسن منها بان يميز الله سبحانه بين اعمالهم الحسنة فيقسمها إلى حسن واحسن ثم يجزيهم باحسنها ويلغى الحسن كما ذكره بعضهم فان المقام لا يؤيده وآيات الجزاء تنفيه والرحمة الواسعة الالهية تأباه.

[ 340 ]

وليس المراد به الواجبات والمستحبات من اعمالهم قبال المباحات التى اتوا بها فانها لا تخلو من حسن كما ذكره آخرون. فان الكلام ظاهر في ان المراد بيان الاجر على الاعمال الماتى بها في ظرف الصبر مما يرتبط به ارتباطا وواضح ان المباحات التى ياتي بها الصابر في الله لا ارتباط لها بصبره فلا وجه لاعتبارها بين الاعمال ثم اختيار الاحسن من بينها. على انه لا مطمع لعبد في ان يثيبه الله على ما اتى به من المباحات حتى يبين له أن الثواب في مقابل ما اتى به من الواجبات والمستحبات التى هي احسن مما اتى به من المباحات فيكون ذكر الحسن مستدركا زائدا. ومن هنا يظهر ان ليس المراد به النوافل بناء على عدم الالزام فيها فتكون احسن ما عمل فان كون الواجب مشتملا من المصلحة الموجبة للحسن على ازيد من النقل معلوم من الخطابات التشريعية بحيث لا يرتاب فيه. بل المراد بذلك ان العمل الذى ياتون به وله في نوعه ما هو حسن وما هو احسن فالله سبحانه يجزيه من الاجر على ما اتى به ما هو اجر الفرد الاحسن من نوعه فالصلاة التى يصليها الصابر في الله يجزيه الله سبحانه لها اجر الفرد الاحسن من الصلاة وان كانت ما صلاها غير احسن وبالحقيقة يستدعى الصبر ان لا يناقش في العمل ولا يحاسب ما هو عليه من الخصوصيات المقتضية لخسته ورداءته كما يفيده قوله تعالى: " انما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب ". ويستفاد من الاية ان الصبر في الله يوجب كمال العمل وفي قوله ولنجزينهم الخ التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير كما قيل والذى اظنه انه رجوع إلى السياق السابق في الايات وكان سياق التكلم مع الغير وانما الالتفات في قوله تعالى قبل بضع آيات ان الله يامر بالعدل والاحسان والوجه فيه ان هذه الاية وما بعدها من الايات المسرودة إلى هذه الغاية مشتملة على عدة من الاوامر والنواهي الالهية والانسب بالامر والنهى ان يستندا إلى اعظم مقامات مصدرهما واقواها ليتأيدا بذلك وهذه صناعة معمولة في المحاورات فيقال ان الملك يأمر بكذا وان مولاك يقول لك كذا ولا يقال فلان ابن فلان يأمر أو يقول.

[ 341 ]

فكان من الانسب ان يسند هذه التكاليف إلى مقام الجلالة ويقال بالالتفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة ان الله يأمر بالعدل والاحسان الخ ولذلك استمر السياق على هذا النسق في التكاليف التالية ايضا فقيل: " واوفوا بعهد الله " الخ انما يبلوكم الله الخ ولو شاء الله الخ ولا تشتروا بعهد الله الخ وما عند الله باق. ثم رجع إلى السياق السابق وهو التكلم مع الغير فقال: " ولنجزين الذين صبروا " وجرى على ذلك حتى إذا بلغ قوله فإذا قرأت القرآن وهو حكم التفت ثانيا فقال فاستعذ بالله واحسن ما يجلى المعنى الذى ذكرناه قوله تعالى بعده وإذا بدلنا آية مكان آية والله اعلم بما ينزل حيث جمع بين الامرين فاسند تبديل آية مكان آية إلى ضمير التكلم والاعلمية إلى الله عز اسمه. قوله تعالى: " من عمل صالحا من ذكر أو انثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة " إلى آخر الاية. وعد جميل للمؤمنين ان عملوا عملا صالحا وبشرى للاناث ان الله لا يفرق بينهن وبين الذكور في قبول ايمانهن ولا اثر عملهن الصالح الذى هو الاحياء بحياة طيبة والاجر باحسن العمل على الرغم مما بنى عليه اكثر الوثنية واهل الكتاب من اليهود والنصارى من حرمان المرأة من كل مزية دينية أو جلها وحط مرتبتها من مرتبة الرجل ووضعها وضعا لا يقبل الرفع البتة. فقوله من عمل صالحا من ذكر أو انثى وهو مؤمن حكم كلى من قبيل ضرب القاعدة لمن عمل صالحا أي من كان وقد قيده بكونه مؤمنا وهو في معنى الاشتراط فان العمل ممن ليس مؤمنا حابط لا يترتب عليه اثر كما قال تعالى: " ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله " المائدة: 5 وقال: " وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون " هود: 16. وقوله فلنحيينه حياة طيبة الاحياء القاء الحياة في الشئ وافاضتها عليه فالجملة بلفظها دالة على ان الله سبحانه يكرم المؤمن الذى يعمل صالحا بحياة جديدة غير ما يشاركه سائر الناس من الحياة العامة وليس المراد به تغيير صفة الحياة فيه وتبديل الخبيثة من الطيبة مع بقاء اصل الحياة على ما كانت عليه ولو كان كذلك

[ 342 ]

لقيل فلنطيبن حياته. فالاية نظيرة قوله: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس " الانعام: 122 وتفيد ما يفيده من تكوين حياة ابتدائية جديدة. وليس من التسمية المجازية لان الايات المتعرضة لهذا الشأن ترتب عليه آثار الحياة الحقيقية كقوله تعالى: " اولئك كتب في قلوبهم الايمان وايدهم بروح منه " المجادلة: 22 وكقوله في آية الانعام المنقولة آنفا: " وجعلنا له نورا يمشى به في الناس " فان المراد بهذا النور العلم الذى يهتدى به الانسان إلى الحق في الاعتقاد والعمل قطعا. وكما ان له من العلم والادراك ما ليس لغيره كذلك له من موهبة القدرة على احياء الحق واماطة الباطل ما ليس لغيره وقد قال سبحانه: " وكان حقا علينا نصر المؤمنين " الروم: 47 وقال: " من آمن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " المائدة: 69. وهذا العلم والقدرة الحديثان يمهدان له ان يرى الاشياء على ما هي عليها فيقسمها قسمين حق باق وباطل فان فيعرض بقلبه عن الباطل الفاني الذى هو الحياة الدنيا بزخارفها الغارة الفتانة ويعتز بعزة الله فلا يستذله الشيطان بوساوسه ولا النفس بأهوائها وهوساتها ولا الدنيا بزهرتها لما يشاهد من بطلان امتعتها وفناء نعمتها. ويتعلق قلبه بربه الحق الذى هو يحق كل حق بكلماته فلا يريد الا وجهه ولا يحب الا قربه ولا يخاف الا سخطه وبعده يرى لنفسه حياة طاهرة دائمة مخلدة لا يدبر امرها الا ربه الغفور الودود ولا يواجهها في طول مسيرها الا الحسن الجميل فقد احسن كل شئ خلقه ولا قبيح الا ما قبحه الله من معصيته. فهذا الانسان يجد في نفسه من البهاء والكمال والقوة والعزة واللذة والسرور ما لا يقدر بقدر وكيف لا ؟ وهو مستغرق في حياة دائمة لا زوال لها ونعمة باقية لا نفاد لها ولا ألم فيها ولا كدورة تكدرها وخير وسعادة لا شقاء معها هذا ما يؤيده الاعتبار وينطق به آيات كثيرة من القرآن لا حاجة إلى ايرادها على كثرتها. فهذه آثار حيوية لا تترتب الا على حياة حقيقية غير مجازية وقد رتبها الله

[ 343 ]

سبحانه على هذه الحياة التى يذكرها ويخصها بالذين آمنوا وعملوا الصالحات فهى حياة حقيقية جديدة يفيضها الله سبحانه عليهم. وليست هذه الحياة الجديدة المختصة بمنفصلة عن الحياة القديمة المشتركة وان كانت غيرها فانما الاختلاف بالمراتب لا بالعدد فلا يتعدد بها الانسان كما ان الروح القدسية التى يذكرها الله سبحانه للانبياء لا توجب لهم الا ارتفاع الدرجة دون تعدد الشخصية. هذا ما يعطيه التدبر في الاية الكريمة وهو حقيقة قرآنية وبه يظهر وجه توصيفها بالطيب في قوله حياة طيبة كأنها كما اتضح حياة خالصة لا خبث فيها يفسدها في نفسها أو في اثرها. وللمفسرين في الاية وجوه من التفسير منها ان الحياة الطيبة هي الحياة التى تكون في الجنة فلا موت فيها ولا فقر ولا سقم ولا أي شقاء آخر. ومنها انها الحياة التى تكون في البرزخ ولعل التخصيص من حمل ذيل الاية على جنة الاخرة. ومنها انها الحياة الدنيوية المقارنة للقناعة والرضا بما قسم الله سبحانه فانها اطيب الحياة. ومنها انها الرزق الحلال إذ لا عقاب عليه. ومنها انها رزق يوم بيوم. ووجوه المناقشة فيها لا تكاد تخفى على الباحث المتدبر فلا نطيل بايرادها. وقوله: " ولنجزينهم اجرهم باحسن ما كانوا يعملون " تقدم الكلام فيه في الاية السابقة وفي معنى الاية قوله تعالى: " ومن عمل صالحا من ذكر أو انثى وهو مؤمن فاولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب " المؤمن: 40. قوله تعالى: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم " الاستعاذة طلب المعاذ والمعنى إذا قرأت القرآن فاطلب منه تعالى ما دمت تقرؤه ان يعيذك من الشيطان الرجيم ان يغويك فالاستعاذة المأمور بها حال نفس القارئ ما دام يقرأ وقد أمر ان يوجدها لنفسه ما دام يقرأ واما قول القارئ اعوذ بالله من الشيطان

[ 344 ]

الرجيم أو ما يشابهه من اللفظ فهو سبب لايجاد معنى الاستعاذة في النفس وليس بنفسها الا بنوع من المجاز وقد قال سبحانه استعذ بالله ولم يقل قل اعوذ بالله. وبذلك يظهر ان قول بعضهم ان المراد بالقراءة ارادتها فهى مجاز مرسل من قبيل اطلاق المسبب وارادة السبب لا يخلو عن تساهل. قوله تعالى: " انه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون " في مقام التعليل للامر الوارد في الاية السابقة أي استعذ بالله حين القراءة ليعيذك منه لانه ليس له سلطان على من آمن بالله وتوكل عليه. ويظهر من الاية اولا ان الاستعاذة بالله توكل عليه فانه سبحانه بدل الاستعاذة في التعليل من التوكل ونفى سلطانه عن المتوكلين. وثانيا ان الايمان والتوكل ملاك صدق العبودية كقوله تعالى لابليس: " ان عبادي ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين " الحجر: 42 فنفى سلطانه عن عباده وقد بدل العباد في هذه الاية من الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والاعتبار يساعد عليه فان التوكل وهو القاء زمام التصرف في امور نفسه إلى غيره والتسليم لما يؤثره له منها اخص آثار العبودية. قوله تعالى: " انما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون " ضمائر الافراد الثلاثة للشيطان أي ينحصر سلطان الشيطان في الذين يتخذونه وليا لهم يدبر امورهم كما يريد وهم يطيعونه وفي الذين يشركون به إذ يتخذونه وليا من دون الله وربا مطاعا غيره فان الطاعة عبادة كما يشير إليه قوله: " ألم اعهد اليكم يا بنى آدم ان لا تعبدوا الشيطان انه لكم عدو مبين وان اعبدوني " يس: 61. وبذلك يظهر اولا ان ذيل الاية يفسر صدرها وان تولى من لم يأذن الله في توليه شرك بالله وعبادة لغيره. وثانيا ان لا واسطة بين التوكل على الله وتولى الشيطان وعبادته فمن لم يتوكل على الله فهو من اولياء الشيطان. وربما قيل ان ضمير الافراد في قوله: " والذين هم به مشركون " راجع إليه

[ 345 ]

تعالى وتفيد الاية حينئذ ان سلطانه على طائفتين المشركين والذين يتولونه من الموحدين هذا ولزوم اختلاف الضمائر يدفعه. قوله تعالى: " وإذا بدلنا آية مكان آية والله اعلم بما ينزل قالوا انما انت مفتر بل اكثرهم لا يعلمون " اشارة إلى النسخ وحكمته وجواب عما اتهموه صلى الله عليه وآله وسلم به من الافتراء على الله والظاهر من سياق الايات ان القائلين هم المشركون وان كانت اليهود هم المتصلبين في نفى النسخ ومن المحتمل ان تكون الكلمة مما تلقفه المشركون من اليهود فكثيرا ما كانوا يراجعونهم في امر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقوله: " وإذا بدلنا آية مكان آية " قال في المفردات الابدال والتبديل والتبدل والاستبدال جعل شئ مكان آخر وهو اعم من العوض فان العوض هو ان يصير لك الثاني باعطاء الاول والتبديل قد يقال للتغيير مطلقا وان لم يأت ببدله قال تعالى: " فبدل الذين ظلموا قولا غير الذى قيل لهم " إلى ان قال وقال تعالى: " فمن بدله بعد ما سمعه " وإذا بدلنا آية مكان آية و " بدلناهم بجنتيهم جنتين " " ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة " انتهى موضع الحاجة. فالتبديل بمعنى التغيير يخالف التبديل بمعناه المعروف في ان مفعوله الاول هو المأخوذ والمطلوب بخلافه بالمعنى المعروف فمعنى قوله وإذا بدلنا آية مكان آية معناه وضعنا الاية الثانية مكان الاولى بالتغيير فكانت الثانية المبدلة هي الباقية المطلوبة. وقوله: " والله اعلم بما ينزل " كناية عن ان الحق لم يتعد مورده وان الذين انزله هو الحقيق بان ينزل فان الله اعلم به منهم والجملة حالية. وقوله قالوا انما انت مفتر القول للمشركين يخاطبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتهمونه بانه يفترى على الله الكذب فان تبديل قول مكان قول والثبات على رأي ثم العدول عنه مما يتنزه عنه ساحة رب العزة. وقد بالغوا في قولهم إذ لم يقولوا افتريت في هذا التبديل والنسخ بل قالوا انما انت مفتر فقصروه صلى الله عليه وآله وسلم في الافتراء واتوا بالجملة الاسمية وسموه مفتريا وقد بنوا ذلك على ان ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من سنخ واحد وهو يسند الجميع إلى ربه ويقول انما انا نذير فإذا كان مفتريا في واحد كان مفتريا في الجميع فليس الا مفتريا.

[ 346 ]

وقوله: " بل اكثرهم لا يعلمون " أي اكثر هؤلاء المشركين الذين يتهمونك بقولهم انما انت مفتر لا يعلمون حقيقة هذا التبديل والحكمة المؤدية إليه على ما سينكشف في الجواب ان الاحكام الالهية تابعة لمصالح العباد ومن المصالح ما يتغير بتغير الاوضاع والاحوال والازمنة فمن الواجب ان يتغير الحكم بتغير مصلحته فينسخ الحكم الذى ارتفعت مصلحته الموجبة له بحكم آخر حدثت مصلحته. فاكثر هؤلاء غافلون عن هذا الامر واما الاقل منهم فهم واقفون على حقيقة الامر ولو اجمالا غير انهم مستكبرون على الحق معاندون له وانما يلقون القول القاء من غير رعاية جانب الحق. قوله تعالى: " قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين " قد تقدمت في اول السورة اشارة إلى معنى الروح والقدس الطهارة والنزاهة والظاهر ان الاضافة للاختصاص أي روح طاهرة عن قذارات المادة نزيهة عن الخطأ والغلط والضلال وهو المسمى في موضع آخر من كلامه تعالى بالروح الامين وفي موضع آخر بجبريل من الملائكة قال تعالى: " نزل به الروح الامين على قلبك " الشعراء: 194 وقال: " من كان عدوا لجبريل فانه نزله على قلبك " البقرة: 97. فقوله قل نزله روح القدس من ربك امر بالجواب والاسبق إلى الذهن ان يكون الضمير راجعا إلى القرآن من جهة كونه ناسخا أي الاية الناسخة ويمكن ان يكون راجعا إلى مطلق القرآن وفي التعبير بالتنزيل دون الانزال اشارة إلى التدريج. وكان من طبع الكلام ان يقال من ربى لكن عدل عنه إلى قوله من ربك للدلالة على كمال العناية والرحمة في حقه صلى الله عليه وآله وسلم كأنه لا يرضى بانقطاع خطابه فيغتنم الفرصة لتكليمه اينما امكن وليدل على ان المراد بالقول المأمور به اخبارهم بذلك لا مجرد التلفظ بهذه الالفاظ فافهم. وقوله: " ليثبت الذين آمنوا " التثبيت تحكيم الثبات وتأكيده بالقاء الثبات بعد الثبات عليهم كأنهم بأصل ايمانهم بالله ورسوله واليوم الاخر ثبتوا على الحق وبتجدد الحكم حسب تجدد المصلحة يؤتون ثباتا على ثبات من غير ان يضعف ثباتهم الاول بالمضي

[ 347 ]

على اعمال لا تطابق مصلحه الوقت فان من الواضح ان من امر بسلوك سبيل لمصلحة غاية فاخذ بسلوكه عن ايمان بالآمر الهادى فقطع قطعة منه على حسب ما يأمره به رعاية لمصلحة الغاية بسرعة أو بطء أو في ليل أو نهار ثم تغير نحو المصلحة فلو لم يغير الآمر الهادى نحو السلوك واستمر على امره السابق لضعف ايمان السالك وانسلب اركانه لكن لو امر بنحو جديد من السلوك يوافق المصلحة ويضمن السعادة زاد ايمانه ثباتا على ثبات. ففى تنزيل القرآن بالنسخ وتجديد الحكم حسب تجدد المصلحة تثبيت للذين آمنوا واعطاء لهم ثباتا على ثبات. وقوله وهدى وبشرى للمسلمين وهم الذين يسلمون الحكم لله من غير اعتراض فالاية الناسخة بالنسبة إليهم اراءة طريق وبشارة بالسعادة والجنة. وتفريق الاثار بتخصيص التثبيت بالمؤمنين والهدى والبشرى بالمسلمين انما هو لما بين الايمان والاسلام من الفرق فالايمان للقلب ونصيبه التثبت في العلم والاذعان والاسلام في ظاهر العمل ومرحلة الجوارح ونصيبها الاهتداء إلى واجب العمل والبشرى بأن الغاية هي الجنة والسعادة. وقد مر بعض الكلام في النسخ في تفسير قوله تعالى: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " البقرة: 106 في الجزء الاول من الكتاب. قوله تعالى: " ولقد نعلم انهم يقولون انما يعلمه بشر " افتراء آخر منهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو قولهم انما يعلمه بشر وهو كما يلوح إليه سياق اعتراضهم وما ورد في الجواب عنه انه كان هناك رجل اعجمي غير فصيح في منطقه عنده شئ من معارف الاديان واحاديث النبوة ربما لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاتهموه بانه ياخذ ما يدعيه وحيا منه والرجل هو الذى يعلمه وهو الذى حكاه الله تعالى من قولهم انما يعلمه بشر وفي القول ايجاز وتقديره انما يعلمه بشر وينسب من تعلمه منه إلى الله افتراء عليه وهو ظاهر. ومن المعلوم ان الجواب عنه بمجرد ان لسان الرجل اعجمي والقرآن عربي مبين لا يحسم مادة الشبهة من اصلها لجواز ان يلقى إليه المطالب بلسانه الاعجمي ثم يسبكها

[ 348 ]

هو صلى الله عليه وآله وسلم ببلاغة منطقه في قالب العربية الفصيحة بل هذا هو الاسبق إلى الذهن من قولهم انما يعلمه بشر حيث عبروا عن ذلك بالتعليم دون التلقين والاملاء والتعليم اقرب إلى المعاني منه إلى الالفاظ. وبذلك يظهر ان قوله لسان الذى يلحدون إليه إلى قوله مبين ليس وحده جوابا عن شبهتهم بل ما يتلوه من الكلام إلى تمام آيتين من تمام الجواب. وملخص الجواب مأخوذ من جميع الايات الثلاث ان ما اتهمتموه به ان بشرا يعلمه ثم هو ينسبه إلى الله افتراء ان اردتم انه يعلمه القرآن بلفظه بالتلقين عليه وان القرآن كلامه لا كلام الله فجوابه ان هذا الرجل لسانه اعجمي وهذا القرآن عربي مبين. وان اردتم ان الرجل يعلمه معاني القرآن واللفظ لا محالة للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وهو ينسبه إلى الله افتراء عليه فالجواب عنه ان الذى يتضمنه القرآن معارف حقة لا يرتاب ذو لب فيها وتضطر العقول إلى قبولها قد هدى الله النبي إليها فهو مؤمن بايات الله إذ لو لم يكن مؤمنا لم يهده الله والله لا يهدى من لا يؤمن باياته واذ كان مؤمنا بايات الله فهو لا يفترى على الله الكذب فانه لا يفترى عليه الا من لا يؤمن باياته فليس هذا القرآن بمفترى ولا مأخوذا من بشر ومنسوبا إلى الله سبحانه كذبا. فقوله: " لسان الذى يلحدون إليه اعجمي وهذا لسان عربي مبين " جواب عن اول شقى الشبهة وهو ان يكون القرآن بلفظه مأخوذا من بشر على نحو التلقين والمعنى ان لسان الرجل الذى يلحدون أي يميلون إليه وينوونه بقولهم انما يعلمه بشر اعجمي أي غير فصيح بين وهذا القرآن المتلو عليكم لسان عربي مبين وكيف يتصور صدور بيان عربي بليغ من رجل اعجمي اللسان ؟ وقوله ان الذين لا يؤمنون إلى آخر الايتين جواب عن ثانى شقى الشبهة وهو ان يتعلم منه المعاني ثم ينسبها إلى الله افتراء. والمعنى ان الذين لا يؤمنون بايات الله ويكفرون بها لا يهديهم الله إليه وإلى معارفه الحقة الظاهرة ولهم عذاب أليم والنبى صلى الله عليه وآله وسلم مؤمن بايات الله لانه مهدى بهداية الله وانما يفترى الكذب وينسبه إلى الله الذين لا يؤمنون بايات الله واولئك هم الكاذبون المستمرون على الكذب واما مثل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المؤمن بايات الله فانه لا

[ 349 ]

يفترى الكذب ولا يكذب فالايتان كنايتان عن ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهدى بهداية الله مؤمن باياته ومثله لا يفترى ولا يكذب. والمفسرون قطعوا الايتين عن الاية الاولى وجعلوا الاية الاولى هي الجواب الكامل عن الشبهة وقد عرفت انها لا تفى بتمام الجواب. ثم حملوا قوله وهذا لسان عربي مبين على التحدي باعجاز القرآن في بلاغته وانت تعلم ان لا خبر في لفظ الاية عن ان القرآن معجز في بلاغته ولا اثر عن التحدي ونهاية ما فيه انه عربي مبين لا وجه لان يفصح عنه ويلفظه اعجمي. ثم حملوا الايتين التاليتين على تهديد اولئك الكفرة بايات الله الرامين لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالافتراء ووعيدهم بالعذاب الاليم وقلب الافتراء والكذب إليهم بانهم اولى بالافتراء والكذب بما انهم لا يؤمنون بايات الله فان الله لم يهدهم. ثم تكلموا بالبناء عليه في مفردات الايتين بما يزيد في الابتعاد عن حق المعنى. وقد عرفت ان ذلك يؤدى إلى عدم كفاية الجواب في حسم الاشكال من اصله. (بحث روائي) في الدر المنثور اخرج احمد عن عثمان بن ابى العاصى قال كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا إذ شخص بصره فقال - اتانى جبريل فأمرني ان اضع هذه الاية بهذا الموضع من السورة: " ان الله يأمر بالعدل والاحسان إلى قوله تذكرون ". اقول ورواه ايضا عن ابن عباس عن عثمان بن مظعون رضى الله عنه. وفي المجمع وجاءت الرواية ان عثمان بن مظعون قال كنت اسلمت استحياء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - لكثرة ما كان يعرض على الاسلام ولم يقر الاسلام في قلبى فكنت ذات يوم عنده حال تأمله - فشخص بصره نحو السماء كأنه يستفهم شيئا - فلما سرى عنه سألته عن حاله فقال: نعم بينا انا احدثك إذ رأيت جبرائيل في الهواء فأتاني بهذه الاية: " ان الله يأمر بالعدل والاحسان " فقرأها علي إلى آخرها فقر الاسلام في قلبى. واتيت عمه ابا طالب فاخبرته فقال: يا آل قريش اتبعوا محمدا ترشدوا فانه لا

[ 350 ]

يأمركم الا بمكارم الاخلاق وأتيت الوليد بن المغيره وقرأت عليه هذه الاية فقال: ان كان محمد قاله فنعم ما قال وان قاله ربه فنعم ما قال. قال فانزل الله: " أفرأيت الذى تولى واعطى قليلا واكدى " الحديث. وفيه عن عكرمة قال ان النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الاية على الوليد بن المغيرة فقال يا بن اخى اعد فأعاد فقال ان له لحلاوة وان له لطلاوة وان اعلاه لمثمر وان اسفله لمعذق وما هو قول البشر. وفي تفسير القمى باسناده عن اسماعيل بن مسلم عن الصادق عليه السلام في الاية ليس لله في عباده أمر الا العدل والاحسان. وفي تفسير البرهان عن ابن بابويه باسناده عن عمرو بن عثمان قال خرج علي عليه السلام على اصحابه وهم يتذاكرون المروءة فقال اين انتم من كتاب الله ؟ قالوا يا امير المؤمنين في أي موضع ؟ فقال في قوله عز وجل: " ان الله يأمر بالعدل والاحسان " فالعدل الانصاف والاحسان التفضل. اقول ورواه العياشي عن عمرو بن عثمان العاصى عنه عليه السلام ورواه في الدر المنثور عن ابن النجار في تاريخه من طريق العكلى عن ابيه عنه عليه السلام ولفظه مر على بن ابى طالب بقوم يتحدثون فقال فيم انتم ؟ فقالوا نتذاكر المروءة فقال أو ما كفاكم الله عز وجل ذاك في كتابه إذ يقول الله إن الله يامر بالعدل والاحسان فالعدل الانصاف والاحسان التفضل. اقول وقد ورد في عدة روايات تفسير العدل بالتوحيد أو بالشهادتين وتفسير الاحسان بالولاية وفي اخرى ارجاع تحريم نقض العهد بوجوب الثبات على الولاية. وفي تفسير القمى في قوله تعالى من عمل صالحا من ذكر أو انثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة الاية قال قال عليه السلام: القنوع وفي المعاني باسناده عن ابن ابى عمير عن بعض اصحابه عن ابى عبد الله عليه السلام قال: قيل له ان ابا الخطاب يذكر عنك انك قلت - إذا عرفت الحق فاعمل بما شئت فقال لعن الله ابا الخطاب والله ما قلت هكذا - ولكني قلت له إذا عرفت الحق فاعمل ما شئت من خير يقبل منك - ان الله عز وجل يقول من عمل صالحا من

[ 351 ]

ذكر أو انثى - وهو مؤمن فاولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ويقول من عمل صالحا من ذكر أو انثى - وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة. اقول وهو ما قدمناه في معنى الاية. وفي الكافي باسناده عن ابى بصير عن ابى عبد الله عليه السلام قال: قلت له فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله - إلى قوله يتوكلون فقال يا محمد يسلط والله من المؤمن على بدنه ولا يسلط على دينه قد سلط على ايوب فشوه خلقه ولم يسلط على دينه وقد يسلط من المؤمنين على ابدانهم ولا يسلط على دينهم. قلت له قوله عز وجل انما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون قال الذين هم بالله مشركون يسلط على ابدانهم وعلى اديانهم. اقول ورواه العياشي عن ابى بصير عنه عليه السلام وارجاع ضمير به إلى الله احد المعنيين في الاية. وفي الدر المنثور اخرج الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الايمان عن ابن عباس ": في قوله انما يعلمه بشر قال قالوا - انما يعلم محمدا عبدة بن الحضرمي وهو صاحب الكتب فقال الله لسان الذى يلحدون إليه اعجمي وهذا لسان عربي مبين وفي تفسير العياشي عن محمد بن عزامة الصيرفى عمن اخبره عن ابى عبد الله عليه السلام قال: ان الله عز وجل خلق روح القدس - فلم يخلق خلقا اقرب إلى الله منها وليست بأكرم خلقه عليه فإذا اراد امرا القاه إليها فألقاه إلى النجوم فجرت به قوله تعالى (1) ولقد نعلم انهم يقولون - انما يعلمه بشر لسان الذى يلحدون إليه وهو لسان ابى فكيهة مولى بنى الحضرمي - كان اعجمي اللسان - وكان قد اتبع نبى الله وآمن به وكان من اهل الكتاب فقالت قريش - هذا والله يعلم محمدا علمه بلسانه يقول الله وهذا لسان عربي مبين.


(1) هذا الذيل مذكور في تفسير البرهان نقلا عن العياشي لكنه غير موجود في النسخة المطبوعة اخيرا من التفسير. (*)

[ 352 ]

اقول والروايات في هذا الرجل مختلفة ففى هذه الرواية انه أبو فكيهة مولى بنى الحضرمي وفي الرواية السابقة انه عبدة بن الحضرمي وعن قتادة انه عبدة بن الحضرمي وكان يسمى مقيص وعن السدى انه كان عبدا لبنى الحضرمي نصرانيا كان قد قرأ التوراة والانجيل يقال له أبو بشر وعن مجاهد انه ابن الحضرمي كان اعجميا يتكلم بالرومية وعن ابن عباس ايضا في رواية انه كان قينا بمكة اسمه بلعام وكان عجمى اللسان فكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدخل عليه ويخرج من عنده فقالوا انما يعلمه بلعام. والمتيقن من مضامينها انه كان رجلا روميا مولى لبنى الحضرمي يسكن مكة نصرانيا له خبرة بكتب اهل الكتاب رموه بانه يعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم عن الضحاك في الاية قال: كانوا يقولون انما يعلمه سلمان الفارسى فأنزل الله لسان الذى يلحدون إليه اعجمي اقول وهو لا يلائم كون الاية مكية. وفيه اخرج ابن الخرائطي في مساوى الاخلاق وابن عساكر في تاريخه عن عبد الله ابن جراد انه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل يزنى المؤمن ؟ قال - قد يكون ذلك قال هل يسرق المؤمن ؟ قال قد يكون ذلك قال هل يكذب المؤمن ؟ قال لا ثم اتبعها نبى الله صلى الله عليه وآله وسلم انما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون وفي تفسير العياشي عن العباس بن الهلال عن ابى الحسن الرضا عليه السلام: انه ذكر رجلا كذابا ثم قال قال الله انما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون * * * من كفر بالله من بعد ايمانه إلا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم - 106 ذلك بانهم استحبوا الحياة الدنيا على

[ 353 ]

الاخرة وان الله لا يهدى القوم الكافرين - 107 اولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وابصارهم واولئك هم الغافلون - 108 لا جرم انهم في الاخرة هم الخاسرون - 109 ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا ان ربك من بعدها لغفور رحيم - 110 يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون - 111 (بيان) في الايات وعيد على الكفر بعد الايمان وهو الارتداد ووعد جميل للمهاجرين من بعد ما فتنوا المجاهدين الصابرين في الله وفيها تعرض لحكم التقية. قوله تعالى: " من كفر بالله من بعد ايمانه إلا من اكره " الاطمئنان السكون والاستقرار والشرح البسط قال في المفردات اصل الشرح بسط اللحم ونحوه يقال شرحت اللحم وشرحته ومنه شرح الصدر أي بسطه بنور الهى وسكينة من جهة الله وروح منه قال تعالى: " رب اشرح لى صدري ألم نشرح لك صدرك " أفمن شرح الله صدره وشرح المشكل من الكلام بسطه واظهار ما يخفى من معانيه انتهى. وقوله من كفر بالله من بعد ايمانه شرط جوابه قوله فعليهم غضب من الله وعطف عليه قوله ولهم عذاب عظيم وضمير الجمع في الجزاء عائد إلى اسم الشرط من لكونه بحسب المعنى كليا ذا افراد. وقوله إلا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان استثناء من عموم الشرط والمراد

[ 354 ]

بالاكراه الاجبار على كلمة الكفر والتظاهر به فان القلب لا يقبل الاكراه والمراد استثنى من اكره على الكفر بعد الايمان فكفر في الظاهر وقلبه مطمئن بالايمان وقوله ولكن من شرح بالكفر صدرا أي بسط صدره للكفر فقبله قبول رضى ووعاه والجملة استدراك من الاستثناء فيعود إلى معنى المستثنى منه فان المعنى ما اريد بقولى من كفر بالله من بعد ايمانه من اكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن اريد به من شرح بالكفر صدرا وفي مجموع الاستثناء والاستدراك بيان كامل للشرط وهذه هي النكتة لاعتراض الاستثناء بين الشرط والجزاء وعدم تأخيره إلى ان تتم الشرطية. وقيل قوله من كفر بدل من الذين لا يؤمنون بآيات الله في الاية السابقة وقوله واولئك هم الكاذبون جملة معترضة وقوله الا من اكره استثناء من ذلك وقوله ولكن من شرح مبتدأ خبره أو القائم مقام خبره قوله فعليهم غضب من الله. والمعنى على هذا انما يفترى الكذب الذين كفروا من بعد ايمانهم إلا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان وعند ذلك تم الكلام ثم بدأ فقال ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله. والذوق السليم يكفى مؤنة هذا الوجه على ما به من السخافة. قوله تعالى: " ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الاخرة وان الله لا يهدى القوم الكافرين " بيان لسبب حلول غضب الله بهم وثبوت العذاب العظيم عليهم وهو انهم اختاروا الحياة الدنيا وهى الحياة المادية التى لا غاية لها الا التمتع الحيوانى والاشتغال بمشتهيات النفس على الاخرة التى هي حياة دائمة مؤبدة في جوار رب العالمين وهى غاية الحياة الانسانية. وبعبارة اخرى هؤلاء لم يريدوا الا الدنيا وانقطعوا عن الاخرة وكفروا بها والله لا يهدى القوم الكافرين واذ لم يهدهم الله ضلوا عن طريق السعادة والجنة والرضوان فوقعوا في غضب من الله وعذاب عظيم. قوله تعالى: " اولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وابصارهم واولئك

[ 355 ]

هم الغافلون اشارة إلى ان اختيار الحياة الدنيا على الاخرة والحرمان من هداية الله سبحانه هو الوصف الذى يوصف به الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وابصارهم والذين يسمون غافلين. فانهم باختيارهم الحياة الدنيا غاية لانفسهم وحرمانهم من الاهتداء إلى الاخرى انقطعوا عن الاخرة وتعلقوا بالدنيا وجعلوها غاية لانفسهم فوقف حسهم وعقلهم فيها دون ان يتعدياها إلى ما وراءها وهو الاخرة فليسوا يبصرون ما يعتبرون به ولا يسمعون عظة يتعظون بها ولا يعقلون حجة يهتدون بها إلى الاخرة. فهم مطبوع على قلوبهم وسمعهم وابصارهم فلا تنال قلوبهم ولا سمعهم وابصارهم ما يدلهم على الاخرة وهم غافلون عنها لا يتنبهون لشئ من امرها. فظهر ان ما في الاية السابقة من الوصف بمنزلة المعرف لما في هذه الاية من الطبع ومن الغفلة فعدم هداية الله اياهم اثر ما تعلقوا بالدنيا هو معنى الطبع والغفلة والطبع صنع الهى منسوب إليه تعالى فعله بهم مجازاة والغفلة صفة منسوبة إليهم انفسهم. قوله تعالى: " لا جرم انهم في الاخرة هم الخاسرون لانهم ضيعوا رأس مالهم في الدنيا فبقوا لا زاد لهم يعيشون به في اخراهم وقد وقع في نظير المقام من سورة هود: " لا جرم انهم في الاخرة هم الاخسرون " هود: 22 ولعل وجه التشديد هناك انه تعالى اضاف إلى صفاتهم هناك انهم صدوا عن سبيل الله فراجع. قوله تعالى: " ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا ان ربك من بعدها لغفور رحيم " الفتنة في الاصل ادخال الذهب النار ليظهر جودته ثم استعمل في مطلق البلاء والتعذيب وقد كانت قريش ومشركو مكة يفتنون المؤمنين ليردوهم عن دينهم ويعذبونهم بانواع العذاب حتى ربما كانوا يموتون تحت العذاب كما فتنوا عمارا وأباه وامه فقتل ابواه وارتد عمار ظاهرا فتفصى منهم بالتقية وفي ذلك نزلت الايات السابقة كما سيأتي ان شاء الله في البحث الروائي. ومن هنا يظهر ان للاية اتصالا بما قبلها من قوله الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان وهى في معنى قولنا وبعد ذلك كله ان الله غفور رحيم للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا.

[ 356 ]

فقوله ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا وعد جميل للمهاجرين من بعد ما فتنوا بالمغفرة والرحمة يوم القيامة قبال ما اوعد غيرهم بالخسران التام يومئذ وقد قيد ذلك بالجهاد والصبر بعد المهاجرة وقوله ان ربك من بعدها لغفور رحيم بمنزلة تلخيص صدر الكلام لطوله ليلحق به ذيله ويفيد فائدة التأكيد كقولنا زيد في الدار زيد في الدار كذا وكذا ويفيد ان لما ذكر من قيود الكلام دخلا في الحكم فالله سبحانه لا يرضى عنهم الا أن يهاجروا ولا عن هجرتهم الا ان يجاهدوا بعدها ويصبروا. قوله تعالى: " يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون " اتيان النفس يوم القيامة كناية عن حضورها عند الملك الديان كما قال فانهم لمحضرون " الصافات - 127 والضمير في قوله عن نفسها للنفس ولا ضير في اضافة النفس إلى ضمير النفس فان النفس ربما يراد بها الشخص الانساني كقوله " من قتل نفسا بغير نفس " المائدة: 22 وربما يراد بها التأكيد ويتحدد معناها بما تقدمها من المؤكد سواء كان انسانا أو غيره كما يقال الانسان نفسه والفرس نفسه والحجر نفسه والسواد نفسه ويقال نفس الانسان ونفس الفرس ونفس الحجر ونفس السواد وقوله عن نفسها المراد فيه بالمضاف المعنى الثاني وبالمضاف إليه المعنى الاول وقد دفع التعبير بالضمير بشاعة تكرار اللفظ بالاضافة وفي هذا المقدار كفاية عن الابحاث الطويلة التى اوردها المفسرون. وقوله يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها الظرف متعلق بقوله في الاية السابقة لغفور رحيم ومجادلة النفس عن نفسها دفاعها عن نفسها وقد نسيت كل شئ وراء نفسها على خلاف ما كانت عليه في الدنيا من التعلق بكل شئ دون نفسها بنسيانها وليس ذلك الا لظهور حقيقة الامر عليها وهى ان الانسان لا سبيل له إلى ما وراء نفسه وليس له في الحقيقة الا ان يشتغل بنفسه. فاليوم تأتى النفس وتحضر للحساب وهى تجادل وتصر على الدفاع عن نفسها بما تقدر عليه من الاعذار. وقوله وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون التوفية اعطاء الحق تاما

[ 357 ]

من غير تنقيص وقد علق التوفية على نفس العمل إذ قيل ما عملت فأفيد ان الذى اعطيته نفس العمل من غير ان يتصرف فيه بتغيير أو تعويض وفيه كمال العدل حيث لم يضف إلى ما استحقته شئ ولا نقص منه ولذلك عقبه بقوله وهم لا يظلمون ففى الاية اشارة اولا إلى ان نفسا لا تدافع يوم القيامة ولا تجادل عن غيرها بل انما تشتغل بنفسها لا فراغ لها لغيرها كما قال: " يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا " الدخان - 41 وقال: " يوم لا ينفع مال ولا بنون " الشعراء - 88 وقال: " يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " البقرة: 254. وثانيا إلى ان الجدال لا ينفعها في صرف ما استحقتها من الجزاء شيئا فان الذى تجزاه هو عين ما عملت ولا سبيل إلى تغيير هذه النسبة وليس من الظلم في شئ. (بحث روائي) في الدر المنثور اخرج ابن المنذر وابن ابى حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال ": لما اراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان يهاجر إلى المدينة قال لاصحابه - تفرقوا عنى فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل - ومن لم تكن به قوة فليذهب في اول الليل - فإذا سمعتم بى قد استقرت بى الارض فالحقوا بى. فأصبح بلال المؤذن وخباب وعمار - وجاريه من قريش كانت اسلمت فاصبحوا بمكة فاخذهم المشركون وابو جهل فعرضوا على بلال - ان يكفر فأبى فجعلوا يضعون درعا من حديد في الشمس - ثم يلبسونها اياه فإذا البسوها اياه قال أحد أحد واما خباب فجعلوا يجرونه في الشوك - واما عمار فقال لهم كلمه اعجبتهم تقية - واما الجارية فوتد لها أبو جهل اربعة اوتاد ثم مدها فادخل الحربة في قلبها حتى قتلها ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - فاخبروه بالذى (كان) من امرهم واشتد على عمار الذى كان تكلم به فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - كيف كان قلبك حين قلت الذى قلت ؟ أكان منشرحا بالذى قلت ام لا ؟ قال لا قال - وانزل الله الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان.

[ 358 ]

اقول والجارية المذكورة في الرواية هي سمية ام عمار وكان معهم ياسر أبو عمار وقيل وكان أبو عمار اول شهيدين في الاسلام وقد استفاضت الروايات على قتلهما بالفتنة واظهار عمار الكفر تقية ونزول الاية فيه. وفيه اخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن ابى حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل من طريق ابى عبيدة بن محمد بن عمار عن ابيه قال ": اخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه. فلما اتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ما وراءك شئ ؟ قال شر ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير - قال كيف تجد قلبك ؟ قال مطمئن بالايمان قال ان عادوا فعد فنزلت الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان وفي المجمع عن ابن عباس وقتاده ": ان الاية نزلت في جماعة اكرهوا - وهم عمار وياسر ابوه وامه سمية وصهيب وبلال وخباب عذبوا وقتل أبو عمار وامه وأعطاهم عمار بلسانه - ما ارادوا منه ثم اخبر سبحانه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال قوم كفر عمار فقال صلى الله عليه وآله وسلم كلا ان عمارا ملئ ايمانا من قرنه إلى قدمه - واختلط الايمان بلحمه ودمه. وجاء عمار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يبكى - فقال صلى الله عليه وآله وسلم ما وراءك ؟ فقال شر يا رسول الله - ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح عينيه ويقول ان عادوا لك فعد لهم بما قلت فنزلت الاية وفي الدر المنثور اخرج ابن سعد عن عمر بن الحكم قال كان عمار بن ياسر يعذب حتى لا يدرى ما يقول - وكان صهيب يعذب حتى لا يدرى ما يقول - وكان أبو فكيهة يعذب حتى لا يدرى ما يقول - وبلال وعامر وابن فهيرة وقوم من المسلمين - وفيهم نزلت هذه الاية " ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ". اقول وسمى منهم في بعض الروايات عباس بن ابى ربيعة وفي بعضها الاخر هو والوليد بن ابى ربيعة والوليد بن الوليد بن المغيرة وابو جندل بن سهيل بن عمرو واجمع رواية في ذلك ما عن ابن عباس ان هذه الاية نزلت فيمن كان يفتن من اصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم - ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا

[ 359 ]

وفي الكافي باسناده عن ابى عمرو الزبيري عن ابى عبد الله عليه السلام في حديث قال: فاما ما فرض على القلب من الايمان - الاقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بأن لا اله الا الله وحده لا شريك له الها واحدا - لم يتخذ صاحبة ولا ولدا - وان محمدا عبده ورسوله - والاقرار بما جاء به من عند الله من نبى أو كتاب - فذلك ما فرض الله على القلب من الاقرار والمعرفة - وهو عمله وهو قول الله عز وجل " الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان - ولكن من شرح بالكفر صدرا " وفيه باسنادة عن مسعدة بن صدقة قال: قيل لابي عبد الله عليه السلام ان الناس يروون إن عليا عليه السلام قال على منبر الكوفة - يا ايها الناس انكم ستدعون إلى سبى فسبوني ثم تدعون إلى البراءة منى فلا تبرؤوا منى - قال ما اكثر ما يكذبون الناس على علي عليه السلام ثم قال انما قال انكم ستدعون إلى سبى فسبوني - ثم تدعون إلى البراءة وانى لعلى دين محمد - ولم يقل ولا تبرؤوا منى. فقال له السائل أرايت ان اختار القتل دون البراءة ؟ قال والله ما ذاك عليه وما له - الا ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث اكرهه اهل مكة - وقلبه مطمئن بالايمان فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندها يا عمار ان عادوا فعد فقد انزل الله عذرك الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان وأمرك ان تعود إن عادوا اقول وروى هذا المعنى العياشي في تفسيره عن معمر بن يحيى بن سالم عن ابى جعفر عليه السلام وقوله عليه السلام وامرك ان تعود ان عادوا يستفاد ذلك من الاية حيث لم يرد الاستثناء فيها من الشخص بل وردت على العنوان وهو اكراه من اطمأن قلبه بالايمان واما كونه امرا منه تعالى كما امر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلعل الوجه ان صريح الاستثناء هو الجواز ومع جواز ذلك لا مساغ للاباء الذى هو عرض النفس للقتل والقاؤها في التهلكة فيجامع هذا الجواز الوجوب دون الاباحة. وفي تفسير العياشي عن عمرو بن مروان قال سمعت ابا عبد الله عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رفع عن امتى اربعة خصال - ما اخطأوا وما نسوا وما اكرهوا عليه وما لم يطيقوا وذلك في كتاب الله " الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان " * * *

[ 360 ]

وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون - 112 ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون - 113 فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله ان كنتم اياه تعبدون - 114 انما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما اهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فان الله غفور رحيم - 115 ولا تقولوا لما تصف السنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ان الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون - 116 متاع قليل ولهم عذاب أليم - 117 وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا انفسهم يظلمون - 118 ثم ان ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك واصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم - 119 إن ابراهيم كان امة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين - 120 شاكرا لانعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم - 121 وآتيناه في الدنيا حسنة وانه في الاخرة لمن الصالحين - 122 ثم اوحينا اليك ان اتبع ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين - 123

[ 361 ]

انما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وان ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون - 124 ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هي احسن ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين - 125 وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين - 126 واصبر وما صبرك الا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون - 127 ان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون - 128 (بيان) تتمة آيات الاحكام السابقة تذكر فيها محرمات الاكل ومحللاته ونهى عن التحليل والتحريم ابتداعا بغير اذن الله وذكر بعض ما شرع لليهود من الاحكام التى نسخت بعد وفي ذلك عطف على ما تقدم من حديث النسخ في قوله وإذا بدلنا آية مكان آية واشارة إلى ان ما انزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم انما هو دين ابراهيم عليه السلام المبنى على الاعتدال والتوحيد مرفوعا عنه ما في دين اليهود من التشديد عليهم قبال ظلمهم. وفي آخرها امر بالعدل في المعاقبة وندب إلى الصبر والاحتساب ووعد جميل بالنصرة والكفاية ان اتقوا واحسنوا. قوله تعالى: " ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا " إلى آخر الاية الرغد من العيش هو الواسع الطيب. هذا مثل ضربه الله تعالى فوصف فيه قرية آتاها ما تحتاج إليه من نعم الحياة وأتم ذلك كله بنبى بعثه إليهم يدعوهم إلى ما فيه صلاح دنياهم واخراهم فكفروا بأنعمه وكذبوا رسوله فبدل الله نعمته نقمة وعذبهم بما ظلموا بتكذيب رسوله وفي المثل

[ 362 ]

تحذير عن كفران نعمة الله بعد إذ بذلت والكفر باياته بعد إذ انزل وفيه توطئة وتمهيد لما سيذكره من محللات الاكل ومحرماته وينهى عن تشريع الحلال والحرام بغير اذن الله كل ذلك بالاستفادة من سياق الايات فان كل سابقة منها تسوق النظر إلى اللاحقة. وقيل ان هذه القرية هي مكة عذبهم الله بالجوع سبع سنين لما كفروا بأنعم الله وقد وسعها عليهم وكذبوا رسوله وقد ارسله إليهم فابتلوا بالقحط وكان يغار عليهم قوافلهم بسخط من الله سبحانه لما دعا عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكره في المجمع ونسبه إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة. وفيه ان لا اشكال في انه في نفسه يقبل الانطباق على ما ذكر لكن سياق الايات انما يلائم كونه مثلا عاما مذكورا توطئة وتمهيدا لما بيناه. فقوله ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا وصف القرية بثلاثة اوصاف متعاقبة غير ان الاوسط منها وهى الاطمئنان كالرابط بين الطرفين فان القرية إذا أمنت المخاطرات كمهاجمة الاشرار وشن الغارات وقتل النفوس وسبى الذرارى ونهب الاموال وكذا أمنت الحوادث الطبيعية كالزلازل وغيرها اطمأنت وسكنت فلم يضطر اهلها إلى الجلاء والتفرق. ومن كمال اطمئنانها ان يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ولا يلجأ اهلها إلى الاغتراب وقطع الفيافي وركوب البحار وتحمل المشاق البالغة في طلب الرزق وجلبه إليها. فاتصاف القرية بصفاتها الثلاث المذكورة الامن والاطمئنان واتيان رزقها إليها من كل مكان يتم ويكمل لها جميع النعم المادية الصورية وسيضيف سبحانه إليها النعم المعنوية في الاية التالية ولقد جاءهم رسول منهم فهى قرية أتم اللة نعمة عليها واكملها. وقوله فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف التعبير بأنعم الله وهو جمع قلة للاشارة بها إلى الاصناف المذكورة وهى ثلاثة الامن والاطمئنان واتيان الرزق والاذاقة استعارة للايصال اليسير فاذاقة الجوع والخوف مشعر بأن الذى يوصلهما قادر على تضعيف ذلك وتكثيره بما لا يقدر بقدر كيف لا ؟ وهو الله الذى له القدرة كلها.

[ 363 ]

ثم اضافة اللباس إلى الجوع والخوف وفيها دلالة على الشمول والاحاطة كما يشمل اللباس البدن ويحيط به تشعر بأن هذا المقدار اليسير من الجوع والخوف الذى اذاقهم شملهم كما يشمل اللباس بدن الانسان وهو سبحانه قادر على ان يزيد على ذلك فهو المتناهى في قهره وغلبته وهم المتناهون في ذلتهم وهوانهم. ثم ختم الاية بقوله بما كانوا يصنعون للدلالة على ان سنة المجازاة في الشكر والكفر قائمة على ساق. والمعنى ضرب الله مثلا مثل قرية كان اهلها آمنين من كل شر وسوء يهددهم في نفوسهم واعراضهم واموالهم ساكنين غير مضطرين يأتيهم رزقهم طيبا واسعا من كل مكان من غير أن يضطروا إلى السفر والاغتراب فكفر اهلها بهذه النعم الالهية ولم يشكروه سبحانه فأنالهم الله شيئا يسيرا من نقمته بسلب هذه النعم وهو الجوع والخوف اللذان عماهم وشملاهم قبال ما استمروا عليه بكفران الانعم جزاء لكفرانهم. قوله تعالى: " ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون " وهذا هو النعمة المعنوية التى اضافها إلى نعمه المادية المذكورة وكان فيها صلاح معاشهم ومعادهم وتحذير لهم من الكفران بأنعم الله وشرح ما فيه من الشؤم والشقاء لكنهم كذبوا رسولهم الذى هو منهم يعرفونه ويدرون انه انما يدعوهم لامر الهى ويهديهم إلى سبيل الرشاد وسعادة الجد فظلموا ذلك فأخذهم العذاب بظلمهم. وبهذا التقرير يظهر ما في القيود المأخوذة في الاية من النكات. قوله تعالى: " فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا " إلى آخر الاية تفريع على ما تحصل من المثل نتيجة والتقدير إذا كان الحال هذا الحال وكان في كفران هذا الرزق الرغد عذاب وفي تكذيب الدعوة عذاب فكلوا مما رزقكم الله حال كونه حلالا طيبا أي لستم بممنوعين منه وانتم تستطيبونه فكلوا منه واشكروا نعمة الله ان كنتم إياه تعبدون. وقد ظهر بذلك اولا ان الاية مسوقة لتحليل طيبات الرزق مطلقا فلا سبيل إلى ما ذكره بعضهم إن المراد فكلوا مما رزقكم الله من الغنائم رزقا حلالا طيبا بناء على ان الاية

[ 364 ]

نزلت بعد وقعة بدر والمثل السابق مثل مضروب لاهل مكة والمراد بالرسول الذى كذبوه هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالعذاب الذى اخذهم هو القتل الذريع لصناديدهم يوم بدر. وهذا كله مما لا دليل عليه من طريق لفظ الايات على انه قد تأيد سابقا انها مكية. وثانيا ان المراد بالحل والطيب كون الرزق بحيث لم يحرم منه الانسان طبعا وطبعه يستطيبه أي الحل والطيب بحسب الطبع وذلك ملاك الحلية الشرعية التى تتبع الحلية بحسب الفطرة فان الدين فطرى لان الله سبحانه فطر الانسان مجهزا بجهاز التغذية وجعل اشياء ارضية من الحيوان والنبات ملائمة لقوامه يميل إليها طبعه من غير نفرة فله ان يأكل منها وهو الحل. وثالثا ان قوله فكلوا امرمقدمى بالنسبة إلى قوله واشكروا نعمة الله وذكر النعمة تلويح إلى سبب الحكم فان كون الشئ نعمة هو السبب في وجوب الشكر عليه. ورابعا ان قوله ان كنتم اياه تعبدون خطاب للمؤمنين فانهم هم الذين يعبدون الله ولا يعبدون غيره والقصر في الجملة الذى يدل عليه تقديم المفعول على الفعل قصر القلب وغيرهم وهم المشركون انما يعبدون الاصنام والالهة من دون الله. وجعل الخطاب للمشركين ودعوى ان المراد بالعبادة في قوله ان كنتم إياه تعبدون الاطاعة أو ان المعنى ان صح زعمكم انكم تقصدون بعبادتكم لآلهتكم عبادته تعالى لا يرجع إلى طائل فان جعل العبادة بمعنى الاطاعة يحتاج إلى قرينة ولا قرينة والمشركون لا يعبدون الله سبحانه ولو باشراكه في العبادة ولا يقصدون بعبادة آلهتهم عبادته تعالى بل ينزهونه تعالى عن عبادتهم لكونه اجل من ان يناله ادراك أو ينتهى إليه توجه. وكون الخطاب في الاية للمؤمنين يوجب كون المثل مضروبا لاجلهم ورجوع سائر الخطابات التشريعية فيما قبل الاية وما بعدها متوجهة إليهم وربما قيل ان الخطاب لعامة الناس أعم من المؤمن والكافر وتطبيقه على الايات لا يخلو من تكلف وان كان دون تخصيص الخطاب بالمشركين اشكالا.

[ 365 ]

قوله تعالى: " انما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما اهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فان الله غفور رحيم " تقدم الكلام في معنى الاية في تفسير سورة البقرة الاية 173 وسورة المائدة الاية 3 وسورة الانعام الاية 145. والاية بمعناها على اختلاف ما في لفظها واقعة في اربعة مواضع من القرآن في سورتي الانعام والنحل وهما مكيتان من اوائل ما نزلت بمكة وأواخرها وفي سورتي البقرة والمائدة وهما من اوائل ما نزلت بالمدينة واواخرها وهى تدل على حصر محرمات الاكل في الاربع المذكورة الميتة والدم ولحم الخنزير وما اهل لغير الله به كما نبه عليه بعضهم. لكن بالرجوع إلى السنة يظهر ان هذه هي المحرمات الاصلية التى عنى بها في الكتاب وما سوى هذه الاربع من المحرمات مما حرمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من ربه وقد قال تعالى: " ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " الحشر: 7 وقد تقدم بعض الروايات الدالة على هذا المعنى. قوله تعالى ولا تقولوا لما تصف السنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب الخ ما في قوله لما تصف مصدرية والكذب مفعول تصف أي لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام بسبب وصف السنتكم لغاية افتراء الكذب على الله. وكون الخطاب في الايات للمؤمنين على ما يؤيده سياقها كما مر أو لعامة الناس يؤيد ان يكون المراد بقوله ولا تقولوا لما تصف السنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام النهى عن الابتداع بادخال حلال أو حرام في الاحكام الجارية في المجتمع المعمولة بينهم من دون ان ينزل به الوحى فان ذلك من ادخال ما ليس من الدين في الدين وافتراء على الله وان لم ينسبه واضعه إليه تعالى وذلك ان الدين في عرف القرآن هو سنة الحياة وقد تكرر منه سبحانه قوله يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أو ما يقرب منه فالدين لله ومن زاد فيه شيئا فقد نسبه إليه تعالى افتراء عليه وان سكت عن الاسناد أو نفي ذلك بلسانه. وذكر الجمهور ان المراد بالاية النهى عما كان المشركون يحلونه كالميتة والدم وما

[ 366 ]

أهل لغير الله به أو يحرمونه كالبحيرة والسائبة وغيرهما والسياق كما مر لا يؤيده. ثم قال سبحانه في مقام تعليل النهى ان الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ثم بين حرمانهم من الفلاح بقوله متاع قليل ولهم عذاب اليم. قوله تعالى: " وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل " الخ المراد بقوله ما قصصنا عليك من قبل كما قيل ما قصه تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في سورة الانعام وقد نزلت قبل سورة النحل بلا اشكال بقوله: " وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر " إلى آخر الاية الانعام: 146. والاية في مقام دفع الدخل وفيها عطف على مسألة النسخ المذكورة سابقا كأن قائلا يقول فإذا كانت محرمات الاكل منحصرة في الاربع المذكورة الميتة والدم ولحم الخنزير وما اهل لغير الله به وكان ما وراءها حلالا فما هذه الاشياء المحرمة على بنى اسرائيل من قبل ؟ هل هذا إلا ظلم بهم ؟ فأجاب عنه بأنا حرمنا عليهم ذلك وما ظلمناهم في تحريمه ولكنهم كانوا يظلمون انفسهم فنحرم عليهم بعض الاشياء أي انه كان محللا لهم مأذونا فيه لكنهم ظلموا انفسهم وعصوا ربهم فجزيناهم بتحريمه عقوبة كما قال سبحانه في موضع آخر فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات احلت لهم الاية ولو انهم بعد ذلك كله رجعوا إلى ربهم وتابوا عن معاصيهم تاب الله عليهم ورفع الحظر عنهم وأذن لهم فيما منعهم عنه انه لغفور رحيم. فقد ظهر إن الاية متصلة بما قبلها من حديث التحليل والتحريم وانها كالجواب عن سؤال مقدر وان ما بعدها من قوله ثم ان ربك للذين عملوا السوء الاية متصل بها متمم لمضمونها. قوله تعالى: " ثم ان ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك واصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم الجهالة والجهل واحد وهو في الاصل ما يقابل العلم لكن الجهالة كثيرا ما تستعمل بمعنى عدم الانكشاف التام للواقع وان لم يخل المحل عن علم ما مصحح للتكليف كحال من يقترف المحرمات وهو يعلم بحرمتها لكن الاهواء النفسانية تغلبه وتحمله على المعصية ولا تدعه يتفكر في حقيقة هذه المخالفة

[ 367 ]

والمعصية فله علم بما ارتكب ولذلك يؤاخذ ويعاقب على ما فعل وهو مع ذلك جاهل بحقيقة الامر ولو تبصر تمام التبصر لم يرتكب والمراد بالجهالة في الاية هذا المعنى إذ لو كان المراد هو الاول وكان ما ذكر من عمل السوء مجهولا من حيث حكمه أو من حيث موضوعه لم يكن العمل معصية حتى يحتاج إلى التوبة فالمغفرة والرحمة. والاية كما تقدمت الاشارة إليه متصلة بما قبلها متممة لمضمونها ومعنى الايتين انا لم نظلم بنى اسرائيل في تحريم الطيبات التي حرمناها لهم بل هم الذين ظلموا انفسهم حيث ارتكبوا المعاصي واصروا عليها فأدى ذلك إلى تحريم الطيبات عليهم وبعد ذلك كله باب المغفرة والرحمة مفتوح وان ربك للذين عملوا السوء أي عملوا عملا سوء وهو السيئة بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك واصلحوا حتى يتبين التوبة وتستقر إن ربك من بعدها أي من بعد التوبة لغفور رحيم. وفي تقييد التوبة أولا بالاصلاح ثم ارجاع الضمير اخيرا إليها وحدها في قوله إن ربك من بعدها لغفور دلالة على إن شمول المغفرة والرحمة من تبعات التوبة واما الاصلاح فانما هو لتبيين التوبة وظهور كونها توبة حقيقية ورجوعا جديا لا مجرد صورة خالية عن المعنى. وقوله في ذيل الاية ان ربك من بعدها تلخيص لتفصيل قوله في صدرها إن ربك للذين الخ وفائدته حفظ فهم السامع عن التشوش والضلال وابراز العناية ببعدية المغفرة والرحمة بالنسبة إلى التوبة نظير ما مر من قوله ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا ان ربك من بعدها لغفور رحيم. قوله تعالى: " إن ابراهيم كان امة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين " الاية وما يتلوها على اتصالها بما تقدم من حصر محرمات الاكل في الاربع وتحليل ما وراءها وهذه الاية إلى تمام اربع آيات بمنزلة التفصيل لما تقدمها كأنه قيل هذا حال ملة موسى التي حرمنا فيها على بنى اسرائيل بعض ما احل لهم من الطيبات واما هذه الملة التي انزلناها اليك فانما هي الملة التي تحقق بها ابراهيم فاجتباه الله وهداه إلى صراط مستقيم واصلح بها دنياه وآخرته وهي ملة معتدلة جارية على الفطرة تحلل الطيبات

[ 368 ]

وتحرم الخبائث يجلب العمل بها من الخير ما جلبه لابراهيم عليه السلام منه. فقوله إن ابراهيم كان امة قال في المفردات وقوله ان ابراهيم كان امة قانتا لله أي قائما مقام جماعة في عبادة الله نحو قولهم فلان في نفسه قبيلة انتهى وهو قريب مما نقل عن ابن عباس وقيل معناه الامام المقتدى به وقيل انه كان أمة منحصرة في واحد مدة من الزمان لم يكن على الارض موحد يوحد الله غيره. وقوله قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين القنوت الاطاعة والعبادة أو دوامها والحنف الميل من الطرفين إلى حاق الوسط وهو الاعتدال. قوله تعالى: " شاكرا لانعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم " الاجتباء من الجباية وهو الجمع واجتباء الله الانسان هو اخلاصه لنفسه وجمعه من التفرق في المذاهب المختلفة وفي تعقيب قوله شاكرا لانعمه بقوله اجتباه الخ مفصولا اشعار بالعلية وذلك يؤيد ما تقدم في سورة الاعراف في تفسير قوله: " ولا تجد اكثرهم شاكرين " الاعراف: 17 إن حقيقة الشكر هو الاخلاص في العبودية. قوله تعالى: " وآتيناه في الدنيا حسنة وانه في الاخرة لمن الصالحين " الحسنة هي المعيشة الحسنة فقد كان عليه السلام ذا مال كثير ومروة عظيمة. وقد بسطنا الكلام في معنى الاجتباء في تفسير سورة يوسف عند الاية 6 وفي معنى الهداية والصراط المستقيم في تفسير الفاتحة عند قوله " اهدنا الصراط المستقيم " الاية: 6 وفي معنى قوله: " وانه في الاخرة لمن الصالحين " البقرة: 130 فراجع. وفي توصيفه تعالى ابراهيم عليه السلام بما وصفه من الصفات اشارة إلى انها من مواهب هذا الدين الحنيف فان انتحل به الانسان ساقه إلى ما ساق إليه ابراهيم عليه السلام. قوله تعالى: " ثم اوحينا اليك أن اتبع ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين " تكرار اتصافه بالحنف ونفي الشرك لمزيد العناية به. قوله تعالى: " انما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه " إلى آخر الاية قال في المفردات اصل السبت القطع ومنه سبت السير قطعه وسبت شعره حلقه وأنفه اصطلمه وقيل سمى يوم السبت لان الله تعالى ابتدأ بخلق السماوات والارض يوم

[ 369 ]

الاحد فخلقها في ستة ايام كما ذكره فقطع عمله يوم السبت فسمى بذلك. وسبت فلان صار في السبت وقوله يوم سبتهم شرعا قيل يوم قطعهم للعمل ويوم لا يسبتون قيل معناه لا يقطعون العمل وقيل يوم لا يكونون في السبت وكلاهما اشارة إلى حالة واحدة وقوله انما جعل السبت أي ترك العمل فيه وجعلنا نومكم سباتا أي قطعا للعمل وذلك اشارة إلى ما قال في صفة الليل لتسكنوا فيه انتهى. فالمراد بالسبت على ما ذكره نفس اليوم لكن معنى جعله جعل ترك العمل فيه وتشريعه ويمكن ان يكون المراد به المعنى المصدرى دون اليوم المجعول فيه ذلك كما هو ظاهر قوله: " تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم " الاعراف: 163. وكيف كان فقد كان من طبع الكلام ان يقال انما جعل السبت للذين حتى يفيد نوعا من الاختصاص والملك وان الله شرع لهم في كل اسبوع ان يقطعوا العمل يوما يفرغون فيه لعبادة ربهم وهو يوم السبت كما جعل للمسلمين في كل اسبوع يوما يجتمعون فيه للعبادة والصلاة وهو يوم الجمعة. فقوله انما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه بتعدية جعل بعلى دون اللام من قبيل قولهم لى عليك دين وهذا عليك لا لك فتفيد معنى التكليف والتشديد والابتلاء أي انما جعل للتشديد عليهم وابتلائهم وامتحانهم فقد كان هذا الجعل عليهم لا لهم كما انجر امرهم فيه إلى لعن طائفة منهم ومسخ آخرين وقد اشير إلى ذلك في سورة البقرة الاية 65 وسورة النساء الاية 47. والانسب على هذا ان يكون المراد بقوله اختلفوا فيه أي في السبت اختلافهم فيه بعد التشريع فانهم تفرقوا فيه فرقا ممن قبله وممن رده وممن احتال للعمل فيه على ما اشير إلى قصصهم في سور البقرة والنساء والاعراف لا اختلافهم فيه قبل التشريع بأن يعرض عليهم أن يسبتوا في كل اسبوع يوما للعبادة ثم يجعل ذلك اليوم هو الجمعة فيختلفوا فيه فيجعل عليهم يوم السبت كما وقع في بعض الروايات.

[ 370 ]

والمعنى انما جعل يوم السبت أو قطع العمل للعبادة يوما في كل اسبوع تشديدا وابتلاء وفتنة وكلفة على اليهود الذين اختلفوا فيه بعد تشريعه بين من قبله ومن رده ومن احتال فيه للعمل مع التظاهر بقبوله وان ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. وبالبناء على هذا يكون وزان الاية وزان قوله السابق وعلى الذين هادوا حرمنا الخ في انها في معنى الجواب عن سؤال مقدر عطفا على ما مر من حديث النسخ والتقدير واما جعل السبت لليهود فانما جعل لا لهم بل عليهم ليبتليهم الله ويفتنهم به ويشدد عليهم كما قد تكرر نظائره فيهم لكونهم عاتين معتدين مستكبرين وبالجملة الاية ناظرة إلى الاعتراض بتشريع بعض الاحكام غير الفطرية على اليهود ونسخه في هذه الشريعة. وانما لم يضم إلى قوله سابقا وعلى الذين هادوا حرمنا الخ لكون مسألة السبت مغايرة لسنخ مسألة تحليل الطيبات واستثناء محرمات الاكل وقد عرفت ان الكلام على اتصاله من قوله وعلى الذين هادوا إلى قوله وما كان من المشركين سبع آيات تامة ثم اتصلت بها هذه الاية وهي ثامنتها الملحقة بها. ومن هنا يظهر الجواب عما اعترض به ان توسيط جعل السبت بين حكاية امر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باتباع ملة ابراهيم عليه السلام وبين امره صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة إليها وبعبارة اخرى وقوع قوله انما جعل السبت الخ بين قوله ثم اوحينا اليك الخ وقوله ادع إلى سبيل ربك الخ كالفصل بين الشجر ولحائه. ومحصل الجواب ان قوله ثم اوحينا اليك ان اتبع ملة ابراهيم الاية من تمام السياق السابق وقوله انما جعل السبت الاية متصل بما تقدمه كما عرفت واما قوله ادع إلى سبيل ربك الاية فهو استئناف وامر بالدعوة إلى سبيل الله بفنون الخطاب لا إلى ملة ابراهيم حتى يتصل بالاية السابقة نوع اتصال وان كان سبيل الله هو ملة ابراهيم بعينها لكن للفظ حكم وللمعنى بحسب المآل حكم آخر فافهم. وللقوم في تفسير الاختلاف اختلاف عميق فمنهم من قال ان المراد انما جعل السبت على الذين اختلفوا على نبيهم فيه حيث امرهم بتعظيم الجمعة فعدلوا عنه واخذوا

[ 371 ]

السبت فجعله الله عليهم تشديدا فالاختلاف اختلاف سابق على الجعل لا لاحق به وربما جعل في للتعليل فان الاختلاف على هذا لم يقع في السبت بل من اجل السبت. وربما قيل الاختلاف بمعنى المخالفة فانهم خالفوا نبيهم في السبت ولم يختلفوا فيه. وربما قيل انهم امروا باتخاذ الجمعة من غير تعيين ووكل ذلك إلى اجتهادهم فاختلفت احبارهم في تعيينه ولم يهدهم الله إليه ووقعوا في السبت. وربما قيل ان المراد انهم اختلفوا فيما بينهم في شأن السبت فطائفة منهم فضلته على الجمعة وطائفة منهم عكست الامر وفضلت الجمعة عليه إلى غير ذلك مما قيل والاصل في ذلك ما ورد في بعض الروايات من القصة. وانت خبير بأن شيئا من الاقوال لا ينطبق على لفظ الاية ذاك الانطباق فالمصير إلى ما قدمناه. قوله تعالى: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هي احسن " إلى آخر الآية لا شك في انه يستفاد من الاية إن هذه الثلاثة الحكمة والموعظة والمجادلة من طرق التكليم والمفاوضة فقد امر بالدعوة بأحد هذه الامور فهى من انحاء الدعوة وطرقها وإن كان الجدال لا يعد دعوة بمعناها الاخص. وقد فسرت الحكمة كما في المفردات باصالة الحق بالعلم والعقل والموعظة كما عن الخليل بانه التذكير بالخير فيما يرق له القلب والجدال كما في المفردات بالمفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة. والتأمل في هذه المعاني يعطى ان المراد بالحكمة والله اعلم الحجة التي تنتج الحق الذى لا مرية فيه ولا وهن ولا ابهام والموعظة هو البيان الذى تلين به النفس ويرق له القلب لما فيه من صلاح حال السامع من الغبر والعبر وجميل الثناء ومحمود الاثر ونحو ذلك. والجدال هو الحجة التي تستعمل لفتل الخصم عما يصر عليه وينازع فيه من غير أن يريد به ظهور الحق بالمؤاخذة عليه من طريق ما يتسلمه هو والناس أو يتسلمه هو وحده في قوله أو حجته.

[ 372 ]

فينطبق ما ذكره تعالى من الحكمة والموعظة والجدال بالترتيب على ما اصطلحوا عليه في فن الميزان بالبرهان والخطابة والجدل غير انه سبحانه قيد الموعظة بالحسنة والجدال بالتى هي احسن ففيه دلالة على إن من الموعظة ما ليست بحسنة ومن الجدال ما هو احسن وما ليس بأحسن ولا حسن والله تعالى يأمر من الموعظة بالموعظة الحسنة ومن الجدال بأحسنه. ولعل ما في ذيل الاية من التعليل بقوله ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين يوضح وجه التقييد فمعناه انه سبحانه اعلم بحال اهل الضلال في دينه الحق وهو اعلم بحال المهتدين فيه فهو يعلم ان الذى ينفع في هذا السبيل هو الحكمة والموعظة الحسنة والجدال الاحسن لا غير. والاعتبار الصحيح يؤيد ذلك فان سبيله تعالى هو الاعتقاد الحق والعمل الحق ومن المعلوم ان الدعوة إليه بالموعظة مثلا ممن لا يتعظ بما يعظ به دعوة عملا إلى خلاف ما يدعو إليه القول والدعوة إليه بالمجادلة مثلا بالمسلمات الكاذبة التي يتسلمها الخصم لاظهار الحق احياء لحق باحياء باطل وان شئت فقل احياء حق باماتة حق إلا أن يكون الجدال على سبيل المناقضة. ومن هنا يظهر ان حسن الموعظة انما هو من حيث حسن اثره في الحق الذى يراد به بأن يكون الواعظ نفسه متعظا بما يعظ ويستعمل فيها من الخلق الحسن ما يزيد في وقوعها من قلب السامع موقع القبول فيرق له القلب ويقشعر به الجلد ويعيه السمع ويخشع له البصر. ويتحرز المجادل مما يزيد في تهييج الخصم على الرد والعناد وسوقه إلى المكابرة واللجاج واستعمال المقدمات الكاذبة وان تسلمها الخصم إلا في المناقضة ويحترز سوء التعبير والازراء بالخصم وبما يقدسه من الاعتقاد والسب والشتم وأي جهالة اخرى فان في ذلك احياء للحق باحياء الباطل أي اماتة الحق كما عرفت. والجدال احوج إلى كمال الحسن من الموعظة ولذلك اجاز سبحانه من الموعظة حسنتها ولم يجز من المجادلة إلا التي هي احسن.

[ 373 ]

ثم إن في قوله بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هي احسن اخذا بالترتيب من حيث الافراد فالحكمة مأذون فيها بجميع افرادها والموعظة منقسمة إلى حسنة وغير حسنة والمأذون فيها منهما هي الموعظة الحسنة والمجادلة منقسمة إلى حسنة وغير حسنة ثم الحسنة إلى التي هي احسن وغيرها والمأذون فيها منها التي هي احسن والاية ساكتة عن توزيع هذه الطرق بحسب المدعوين بالدعوة فالملاك في استعمالها من حيث المورد حسن الاثر وحصول المطلوب وهو ظهور الحق. فمن الجائز ان يستعمل في مورد جميع الطرق الثلاث وفي آخر طريقان أو طريق واحد حسب ما تستدعيه الحال ويناسب المقام. ومنه يظهر ان قول بعضهم ان ظاهر الاية ان يجمع صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته بين الطرق الثلاث ليس في محله إذ لا دليل على لزوم الجمع بينها بالنسبة إلى كل مدعو واما بالنسبة إلى جميع المدعوين فهو حاصل. وكذا ما ذكره بعضهم ان الطرق الثلاث المذكورة في الاية مترتبة حسب ترتب افهام الناس في استعدادها لقبول الحق فمن الناس الخواص وهم اصحاب النفوس المشرقة القوية الاستعداد لادراك الحقائق العقلية وشديدة الانجذاب إلى المبادئ العالية وكثيرة الالفة بالعلم واليقين فهؤلاء يدعون بالحكمة وهي البرهان. ومنهم عوام وهم اصحاب نفوس كدرة واستعداد ضعيف مع شدة ألفتهم بالمحسوسات وقوة تعلقهم بالرسوم والعادات قاصرة عن تلقى البراهين من غير أن يكونوا معاندين للحق وهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة. ومنهم اصحاب العناد واللجاج الذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق ويكابرون ليطفؤا نور الله بأفواههم رسخت في نفوسهم الاراء الباطلة وغلب عليهم تقليد اسلافهم في مذاهبهم الخرافية لا ينفعهم المواعظ والعبر ولا يهديهم سائق البراهين وهؤلاء هم الذين امر بمجادلتهم بالتى هي احسن. وفيه انه لا يخلو من دقة لكن لا ينتج اختصاص كل طريق بما يناسبه من مرتبة الفهم فربما انتفع الخواص بالموعظة والمجادلة وربما انتفعت العوام وهم الفاء العادات والرسوم بالمجادلة بالتى هي احسن ولا دلالة في لفظ الاية على ما ذكر من التخصيص.

[ 374 ]

وكذا ما ذكره بعضهم إن المجادلة بالتى هي احسن ليست من الدعوة في شئ بل الغرض منها شئ آخر مغاير لها وهو الالزام والافحام قال ولذلك لم يعطف الجدال في الاية على ما تقدمه بل غير السياق وقيل وجادلهم بالتى هي احسن. وفيه غفلة عن حقيقة القياس الجدلي فالافحام وان كان غاية للقياس الجدلي لكنه ليس غاية دائمية فكثيرا ما يتألف قياس من مقدمات مقبولة أو مسلمة وخاصة في الامور العملية والعلوم غير اليقينية كالفقه والاصول والاخلاق و الفنون الادبية ولا يراد به الالزام والافحام. على ان في الالزام والافحام دعوة كما ان في الموعظة دعوة وان اختلفت صورتها باختلاف الطرق نعم تغيير السياق لما في الجدال من معنى المنازعة والمغالبة. قوله تعالى: " وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين " قال في المفردات العقوبة والعقاب والمعاقبة تختص بالعذاب انتهى. والاصل في معناه العقب وهو مؤخر الرجل وعقيب الشئ وعاقبة الامر ما يليه من ورائه أو آخره والتعقيب الاتيان بشئ عقيب شئ ومعاقبتك غيرك أن تأتى بما يسوؤه عقيب اتيانه بما يسوؤك فينطبق على المجازاة والمكافأة بالعذاب. فقوله وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به الخطاب فيه للمسلمين على ما يفيده السياق ولازمه ان يكون المراد بالمعاقبة مجازاة المشركين والكفار وبقوله عوقبتم به عقاب الكفار اياهم ومجازاتهم لهم بما آمنوا بالله ورفضوا آلهتهم. والمعنى وان اردتم مجازاة الكفار وعذابهم فجازوهم على ما فعلوا بكم بمثل ما عذبوكم به مجازاة لكم على ايمانكم وجهادكم في الله. وقوله ولئن صبرتم لهو خير للصابرين أي صبرتم على مر ما عوقبتم به ولم تعاقبوا ولم تكافؤا لهو خير لكم بما انكم صابرون لما فيه من ايثار رضى الله وثوابه فيما اصابكم من المحنة والمصيبة على رضى انفسكم بالتشفى بالانتقام فيكون العمل خالصا لوجهه الكريم ولما في الصفح والعفو من اعمال الفتوة ولها آثارها الجميلة. قوله تعالى: " واصبر وما صبرك إلا بالله " إلى آخر الاية أمر للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر وبشرى له إن الله قواه على الصبر على مر ما يلقاه في سبيله فانه تعالى يذكر إن

[ 375 ]

صبره انما هو بحول وقوة من ربه ثم يأمره بالصبر ولازم الامر قدرة المأمور على المأمور به ففي قوله وما صبرك إلا بالله اشارة إلى إن الله قواك على ما أمرك به. وقوله: " ولا تحزن عليهم " أي على الكافرين لكفرهم وقد تقدم تفسير هذا المعنى سابقا في السورة وغيرها. وقوله ولا تك في ضيق مما يمكرون الظاهر ان المراد النهى عن التحرج من مكرهم في الحال أو على سبيل الاستمرار دون مجرد الاستقبال. قوله تعالى: " إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون " أي ان التقوى والاحسان كل منهما سبب مستقل في موهبة النصرة الالهية وابطال مكر اعداء الدين ودفع كيدهم فالاية تعليل لقوله ولاتك في ضيق مما يمكرون ووعد بالنصر. وهذه الايات الثلاث اشبه مضمونا بالايات المدنية منها بالمكية وقد وردت روايات من طرق الفريقين انها نزلت في منصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أحد وسياتى في البحث الروائي وان كان من الممكن توجيه اتصالها بما قبلها بوجه كما تصدى له بعضهم. ومما يجب ان يتنبه له ان الاية التي قبل الثلاثة اجمع لغرض السورة من هذه الثلاث وان لايات السورة مع الاغماض عن قوله والذين هاجروا الاية وقوله " من كفر بعد ايمانه " إلى تمام بضع آيات وقوله وان عاقبتم إلى آخر السورة سياقا واحدا متصلا. (بحث روائي) في تفسير القمى في قوله تعالى: " وضرب الله مثلا " الاية قال قال عليه السلام نزلت في قوم كان لهم نهر يقال له الثرثار وكانت بلادهم خصبة كثيرة الخير - وكانوا يستنجون بالعجين ويقولون هو ألين لنا فكفروا بأنعم الله واستخفوا فحبس الله عنهم الثرثار - فجدبوا حتى احوجهم الله إلى أكل ما يستنجون به حتى كانوا يتقاسمون عليه اقول ورواه في الكافي عنه باسناده عن عمرو بن شمر عن ابى عبد الله عليه السلام مفصلا والعياشي عن حفص وزيد الشحام عنه

[ 376 ]

وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن انس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من عبد يشهد له امة إلا قبل الله شهادتهم والامة الرجل فما فوقه ان الله يقول ان ابراهيم كان امة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين. اقول وقد تقدم في تفسير آيات الشهادة ما له تعلق بالحديث. وفي تفسير العياشي عن سماعة بن مهران قال سمعت ابا عبد الله عليه السلام يقول: لقد كانت الدنيا وما كان فيها إلا واحد يعبد الله ولو كان معه غيره لاضافه إليه حيث يقول ان ابراهيم كان امة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين فصبر بذلك ما شاء الله ثم ان الله تبارك وتعالى آنسه باسماعيل واسحاق فصاروا ثلاثة اقول ورواه في الكافي باسناده عن سماعة عن عبد صالح وفي الدر المنثور اخرج الشافعي في الام والبخاري ومسلم عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحن الاخرون السابقون يوم القيامة بيد إنهم اوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ثم هذا يومهم الذى فرض عليهم يوم الجمعة فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد اقول وروى مثله عن احمد ومسلم عن ابى هريرة وحذيفة عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ولم ترد الرواية في تفسير الاية. وفيه اخرج ابن مردويه عن ابى ليلى الاشعري إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: تمسكوا بطاعة ائمتكم ولا تخالفوهم فان طاعتهم طاعة الله ومعصيتهم معصية الله فان الله انما بعثنى - ادعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة - فمن خالفني في ذلك فهو من الهالكين - وقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله ومن ولى من امركم شيئا فعمل بغير ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " وجادلهم بالتى هي احسن " قال قال عليه السلام بالقرآن وفي الكافي عنه باسناده عن ابى عمر والزبيرى عن ابى عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هي احسن " قال بالقرآن الهالكين - وقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله ومن ولى من امركم شيئا فعمل بغير ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " وجادلهم بالتى هي احسن " قال قال عليه السلام بالقرآن وفي الكافي عنه باسناده عن ابى عمر والزبيرى عن ابى عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هي احسن " قال بالقرآن

[ 377 ]

اقول ظاهره انه تفسير بالتى هي احسن ومحصله الجدال على سنة القرآن الذى فيه ادب الله. وفي تفسير العياشي عن الحسن بن حمزة قال سمعت ابا عبد الله عليه السلام يقول: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما صنع بحمزه بن عبد المطلب قال اللهم لك الحمد واليك المشتكى وأنت المستعان على ما ارى ثم قال: لئن ظفرت لامثلن ولامثلن ولامثلن قال فأنزل الله " وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين " فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - اصبر اصبر وفي الدر المنثور اخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم قتل حمزة ومثل به لئن ظفرت بقريش لامثلن بسبعين رجلا منهم فأنزل الله وإن عاقبتم الاية فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل نصبر يا رب فصبر ونهى عن المثلة. اقول وروى ايضا ما في معناه عن ابى بن كعب وابى هريرة وغير هما عنه صلى الله عليه وآله وسلم - تم والحمد لله -

مكتبة مكتبة شبكة أمل