تفسير الميزان - السيد الطباطبائي ج 10
تفسير الميزان
السيد الطباطبائي ج 10
[ 1 ]
الميزان في تفسير القرآن 10
[ 3 ]
تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره
[ 4 ]
الميزان في تفسير القران كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره الجزء العاشر منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة
[ 5 ]
بسم الله الرحمن الرحيم (سورة يونس وهي مائة وتسع آيات) بسم الله الرحمن الرحيم الر تلك آيات الكتاب الحكيم - 1. أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين - 2. إن ربكم الله الذى خلق السموات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الامر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون - 3. إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزى
الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون - 4. هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الايات لقوم يعلمون - 5. إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والارض لايات لقوم يتقون - 6. إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحيوه الدنيا
[ 6 ]
واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون - 7. أولئك مأويهم النار بما كانوا يكسبون - 8. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجرى من تحتهم الانهار في جنات النعيم - 9. دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين - 10. (بيان) السورة - كما يلوح من آياتها - مكية من السور النازلة في أوائل البعثة وقد نزلت دفعة للاتصال الظاهر بين كرائم آياتها، وقد استثنى بعضهم قوله تعالى: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرئون الكتاب من قبلك) إلى تمام ثلاث آيات فذكر أنها مدنية، وبعضهم قوله تعالى: (ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين) فذكر أنها نزلت في اليهود بالمدينة، ولا دليل من جهة اللفظ على شئ من القولين. وغرض السورة وهو الذى أنزلت لاجل بيانه هو تأكيد القول في التوحيد من طريق الانذار والتبشير كأنها أنزلت عقيب إنكار المشركين الوحى النازل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتسميتهم القرآن بالسحر فرد الله سبحانه ذلك عليهم ببيان أن القرآن
كتاب سماوي نازل بعلمه تعالى، وأن الذى يتضمنه من معارف التوحيد كوحدانيته تعالى وعلمه وقدرته وانتهاء الخلقة إليه وعجائب سننه في خلقه ورجوعهم جميعا إليه بأعمالهم التى سيجزون بها خيرا أو شرا كل ذلك مما تدل عليه آيات السماء والارض ويهتدى إليه العقل السليم فهى معان حقة ولا يدل على مثلها إلا كلام حكيم لا سحر مزوق باطل.
[ 7 ]
والدليل على ما ذكرنا افتتاح السورة بالكلام على تكذيبهم القرآن: (أكان للناس عجبا أن اوحينا - إلى قوله - قال الكافرون إن هذا لساحر مبين) واختتامها بمثل قوله: (واتبع ما يوحى إليك واصبر) الاية ثم عوده تعالى إلى مسألة الايحاء بالقرآن وتكذيبهم له في تضاعيف الايات مرة بعد مرة كقوله: (وإذا تتلى عليهم آياتنا) الاية، وقوله: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله) الاية، وقوله: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة) الاية، وقوله: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك) الاية. فتكرر هذه الايات والافتتاح والاختتام بها يدل على أن الكلام مبنى على تعقيب إنكارهم لكلام الله وتكذيبهم الوحى ولذلك كان من عمدة الكلام في هذه السورة الوعيد على مكذبى آيات الله من هذه الامة بعذاب يقضى بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبينهم وأن ذلك من سنة الله في خلقه، وعلى تعقيبه تختتم السورة حتى كاد يكون بيان هذه الحقيقة من مختصات هذه السورة فمن الحرى أن تعرف السورة بأنها سورة الانذار بالقضاء العدل بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين أمته وقد اختتمت بقوله: (واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين). قوله تعالى: (الر تلك آيات الكتاب الحكيم) الاشارة باللفظ الدال على البعد للدلالة على ارتفاع مكانة القرآن وعلو مقامه فإنه كلام الله النازل من عنده وهو العلى
الاعلى رفيع الدرجات ذو العرش. والاية - ومعناها العلامة - وإن كان من الجائز أن يسمى بها ما هو من قبيل المعاني أو الاعيان الخارجية كما في قوله: (أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بنى اسرائيل) الشعراء: 197 وفي قوله: (وجعلناها وابنها آية للعالمين) الانبياء: 91 وكذا ما هو من قبيل القول كما في قوله ظاهرا: (وإذا بدلنا آية مكان آية) النحل: 101 ونحو ذلك لكن المراد بالايات ههنا هي أجزاء الكلام الالهى قطعا فإن الكلام في الوحى النازل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو كلام متلو مقرو بأى معنى من المعاني صورنا نزول الوحى. فالمراد بالايات أجزاء الكتاب الالهى، وتتعين في الجملة من جهة المقاطع التى
[ 8 ]
تفصل الايات بعضها من بعض مع إعانة ما من ذوق التفاهم، ولذلك ربما وقع الخلاف في عدد آيات بعض السور بين علماء الاحصاء كالكوفيين والبصريين وغيرهم. والمراد بالكتاب الحكيم هو الكتاب الذى استقرت فيه الحكمة، وربما قيل: إن الحكيم من الفعيل بمعنى المفعول والمراد به المحكم غير القابل للانثلام والفساد، والكتاب الذى هذا شأنه - وقد وصفه تعالى في الاية التالية بأنه من الوحى - هو القرآن المنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وربما قيل: إن الكتاب الحكيم هو اللوح المحفوظ، وكون الايات آياته هو أنها نزلت منه وهى محفوظة فيه، وهو وإن لم يخل عن وجه بالنظر إلى أمثال قوله تعالى: (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) البروج: 22 وقوله: (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون) الواقعة: 78 لكن الاظهر من الاية التى نحن فيها وسائر ما في سياقها من آيات أوائل هذه السور المفتتحة بالحروف (الر) وسائر الايات المشابهة لها أو الناظرة إلى وصف القرآن ان المراد بالكتاب وباياته هو هذا القرآن
المتلو المقرو وآياته المتلوة المقروة بما أنه من اللوح المحفوظ من التغيير والبطلان كالكتاب المأخوذ بوجه من الكتاب كما يستفاد من مثل قوله تعالى: (تلك آيات الكتاب وقرآن مبين) الحجر: 1، وقوله: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) هود: 1، وغير ذلك. قوله تعالى: (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم) إلى آخر الاية الاستفهام للانكار فهو إنكار لتعجبهم من إيحاء الله إلى رجل منهم ما اشتملت عليه الدعوة القرآنية. وقوله: (أن أنذر الناس) الخ تفسير لما أوحاه إليه، ويتبين به أن الذى ألقاه إليه من الوحى هو بالنسبة إلى عامة الناس إنذار وبالنسبة إلى الذين آمنوا منهم خاصة تبشير فهو لا محالة يضر الناس على بعض التقادير وهو تقدير الكفر والعصيان وينفعهم على تقدير الايمان والطاعة. وقد فسر البشرى الذى أمره أن يبشر به المؤمنين بقوله: (أن لهم قدم صدق عند ربهم) والمراد بقدم الصدق هو المنزلة الصادقة كما يشير إليه قوله: (في
[ 9 ]
مقعد صدق عند مليك مقتدر) القمر: 55 فإن الايمان لما استتبع الزلفى والمنزلة عند الله كان الصدق في الايمان يستتبع الصدق في المنزلة التى يستتبعها فلهم منزلة الصدق كما أن لهم إيمان الصدق. فإطلاق القدم على المنزلة والمكانة من الكناية ولما كان إشغال المكان عادة إنما هو بالقدم استعملت القدم في المكان إن كان في الماديات، في المكانة والمنزلة إن كان في المعنويات ثم أضيفت القدم إلى الصدق، وهو صدق صاحب القدم في شأنه أي قدم منسوبة إلى صدق صاحبها أو قدم هي صادقة لصدق صاحبها في شأنه. وهناك معنى آخر وهو أن يراد بالصدق طبيعته كأن للصدق قدما وللكذب
قدما وقدم الصدق هي التى تثبت ولا تزول. وقوله: (قال الكافرون إن هذا لساحر مبين) أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقرئ: (إن هذا لسحر مبين) أي القرآن ومال القراءتين واحد فإنهم إنما كانوا يرمونه صلى الله عليه وآله وسلم بالسحر من جهة القرآن الكريم. والجملة كالتعليل لقوله: (كان للناس عجبا) يمثل به معنى تعجبهم وهو أنهم لما سمعوا ما تلاه عليهم من القرآن وجدوه كلاما من غير نوع كلامهم خارقا للعادة المألوفة في سنخ الكلام يأخذ بمجامع القلوب وتتوله إليه النفوس فقالوا: إنه لسحر مبين، وإن الجائى به لساحر مبين. قوله تعالى: (إن ربكم الله الذى خلق السماوات والارض في ستة أيام) لما ذكر في الاية السابقة عجبهم من نزول الوحى وهو القرآن على النبي صلى اله عليه وآله وسلم وتكذيبهم له برميه بالسحر شرع تعالى في بيان ما كذبوا به من الجهتين أعنى من جهة أن ما كذبوا به من المعارف المشتمل عليها القرآن حق لا ريب فيه، ومن جهة أن القرآن الذى رموه بالسحر كتاب إلهى حق وليس من السحر الباطل في شئ. فقوله: (إن ربكم الله) الخ، شروع في بيان الجهة الاولى وهى أن ما يدعوكم إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يعلمكم القرآن حق لا ريب فيه ويجب عليكم أن تتبعوه. والمعنى: إن ربكم معاشر الناس هو الله الذى خلق هذا العالم المشهود كله
[ 10 ]
سماواته وأرضه في ستة أيام ثم استوى على عرش قدرته وقام مقام التدبير الذى إليه ينتهى كل تدبير وإدارة فشرع يدبر امر العالم، وإذا انتهى إليه كل تدبير من دون الاستعانة بمعين أو الاعتضاد بأعضاد لم يكن لشئ من الاشياء أن يتوسط في تدبير أمر من الامور - وهو الشفاعة - إلا من بعد إذنه تعالى فهو سبحانه هو السبب الاصلى الذى لا سبب بالاصالة دونه، ومن دونه من الاسباب أسباب بتسبيبه
وشفعاء من بعد إذنه. وإذا كان كذلك كان الله تعالى هو ربكم الذى يدبر امركم لا غيره مما اتخذتموها أربابا من دون الله وشفعاء عنده، وهو المراد بقوله: (ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون) أي هلا انتقلتم انتقالا فكريا إلى ما يستنير به أن الله هو ربكم لا رب غيره بالتأمل في معنى الالوهيه والخلقة والتدبير. وقد تقدم الكلام في معنى العرش والشفاعة والاذن وغير ذلك في ذيل قوله: (إن ربكم الله) الاعراف: 54 في الجزء الثامن من الكتاب. قوله تعالى: (إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا) تذكير بالمعاد بعد التذكير بالمبدء، وقوله: (وعد الله حقا) من قيام المفعول المطلق مقام فعله، والمعنى: وعده الله وعدا حقا. والحق هو الخبر الذى له أصل في الواقع يطابق الخبر فكون وعده تعالى بالمعاد حقا معناه كون الخلقة الالهية بنحو لا تتم خلقة إلا برجوع الاشياء - ومن جملتها الانسان - إليه تعالى وذلك كالحجر الهابط من السماء فإنه يعد بحركته السقوط على الارض فإن حركته سنخ أمر لا يتم إلا بالاقتراب التدريجي من الارض والسقوط والاستقرار عليها، والاشياء على حال كدح إلى ربها حتى تلاقيه، قال تعالى: (يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه) الانشقاق: 6 فافهم ذلك. قوله تعالى: (إنه يبدؤ الخلق ثم يعيده ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط) الخ تأكيد لقوله: (إليه مرجعكم جميعا) وتفصيل لاجمال ما يتضمنه من معنى الرجوع والمعاد. ويمكن أن يكون في مقام التعليل لما تقدمه من قوله: (إليه مرجعكم) الخ
[ 11 ]
أشير به إلى حجتين من الحجج المستعملة في القرآن لاثبات المعاد: أما قوله: (إنه
يبدؤ الخلق ثم يعيده) فلان الجارى من سنة الله سبحانه أنه يفيض الوجود على ما يخلقه من شئ ويمده من رحمته بما تتم له به الخلقة فيوجد ويعيش ويتنعم برحمة منه تعالى ما دام موجودا حتى ينتهى إلى اجل معدود. وليس انتهاؤه إلى أجله المعدود المضروب له فناء منه وبطلانا للرحمة الالهية التى كان بها وجوده وبقاؤه وسائر ما يلحق بذلك من حياة وقدرة وعلم ونحو ذلك بل بقبضه تعالى ما بسطه عليه من الرحمة فإن ما أفاضه الله عليه من عنده هو وجهه تعالى ولن يهلك وجهه. فنفاد وجود الاشياء وانتهائها إلى أجلها ليس فناء منها وبطلانا لها على ما نتوهمه بل رجوعا وعودا منها إلى عنده وقد كانت نزلت من عنده، وما عند الله باق فلم يكن إلا بسطا ثم قبضا فالله سبحانه يبدؤ الاشياء ببسط الرحمة، ويعيدها إليه بقبضها وهو المعاد الموعود. وأما قوله: (ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط) الخ فإن الحجة فيه أن العدل والقسط الالهى - وهو من صفات فعله - يأبى أن يستوى عنده من خضع له بالايمان به وعمل صالحا ومن استكبر عليه وكفر به وباياته، والطائفتان لا يحس بينهما بفرق في الدنيا فإنما السيطرة فيها للاسباب الكونية بحسب ما تنفع وتضر بإذن الله. فلا يبقى إلا أن يفرق الله بينهما بعدله بعد إرجاعهما إليه فيجزى المؤمنين المحسنين جزاء حسنا والكفار المسيئين جزاء سيئا من جهة ما يتلذذون به أو يتألمون. فالحجة معتمدة على تمايز الفريقين بالايمان والعمل الصالح وبالكفر وعلى قوله: (بالقسط) هذا، وقوله: (ليجزى) متعلق بقوله: (إليه مرجعكم جميعا) على ظاهر التقرير. ويمكن أن يكون قوله: (ليجزى) الخ متعلقا بقوله: (ثم يعيده)
ويكون الكلام مسوقا للتعليل وإشارة إلى حجة واحدة وهى الحجة الثانية المذكورة، والاقرب من جهة اللفظ هو الاخير.
[ 12 ]
قوله تعالى: (هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا) إلى آخر الاية، الضياء - على ما قيل - مصدر ضاء يضوء ضوء وضياء كعاذ يعوذ عوذا وعواذا، وربما كان جمع ضوء كسياط جمع سوط، واللفظ - على ما قيل - على تقدير مضاف والاصل جعل الشمس ذات ضياء والقمر ذا نور. وكذلك قوله: (وقدره منازل) أي وقدر القمر ذا منازل في مسيره ينزل كل ليلة منزلا من تلك المنازل غير ما نزله في الليلة السابقة فلا يزال يتباعد من الشمس حتى يوافيها من الجانب الاخر، وذلك في شهر قمرى كامل فترتسم بذلك الشهور وترتسم بالشهور السنون، ولذلك قال: (لتعلموا عدد السنين والحساب). والاية تنبئ عن حجة من الحجج الدالة على توحده تعالى في ربوبيته للناس وتنزهه عن الشركاء، والمعنى أنه هو الذى جعل الشمس ضياء تستفيدون منه في جميع شؤون حياتكم كما يستفيد منه ما في عالمكم الارضى من موجود مخلوق، وكذا جعل القمر نورا يستفاد منه، وقدره ذا منازل يؤدى اختلاف منازله إلى تكون الشهور والسنين فتستفيدون من ذلك في العلم بعدد السنين والحساب ولم يخلق ما خلق من ذلك بما يترتب عليه من الغايات والفوائد إلا بالحق فانها غايات حقيقية منتظمة تترتب على خلقة ما خلق فليست بلغو باطل ولا صدفة اتفاقية. فهو تعالى إنما خلق ذلك ورتبة على هذا الترتيب لتدبير شؤون حياتكم وإصلاح أمور معاشكم ومعادكم فهو ربكم الذى يملك أمركم ويدبر شأنكم لا رب سواه. وقوله: (يفصل الايات لقوم يعلمون) من المحتمل أن يراد به التفصيل بحسب التكوين الخارجي أو بحسب البيان اللفظى، ولعل الاول اقرب إلى
سياق الاية. قوله تعالى: (إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والارض لايات لقوم يتقون) قال في المجمع: الاختلاف ذهاب كل واحد من الشيئين في جهة غير جهة الاخر فاختلاف الليل والنهار ذهاب احدهما في جهة الضياء والاخر في جهة الظلام، انتهى. والظاهر أنه مأخوذ من الخلف، والاصل في معناه أخذ أحد الشيئين الاخر في جهة خلفه ثم اتسع فاستعمل في كل تغاير كائن بين شيئين
[ 13 ]
يقال: اختلفه أي جعله خلفه، واختلف الناس في كذا ضد اتفقوا فيه، واختلف الناس إليه أي ترددوا بالدخول عليه والخروج من عنده فجعل بعضهم بعضا خلفه. والمراد باختلاف الليل والنهار إما ورود كل منهما على الارض خلف الاخر وهو توالى الليل والنهار الراسم للاسابيع والشهور والسنين، وإما اختلاف كل من الليل والنهار في أغلب بقاع الارض المسكونة فالليل والنهار يتساويان في الاعتدال الربيعي ثم يأخذ النهار في الزيادة في المناطق الشمالية فيزيد النهار كل يوم على النهار السابق عليه حتى يبلغ اول الصيف فيأخذ في النقيصة حتى يبلغ الاعتدال الخريفى وهو اول الخريف فيتساويان. ثم يأخذ الليل في الزيادة على النهار إلى اول الشتاء وهو منتهى طول الليالى ثم يعود راجعا إلى التساوى حتى ينتهى إلى الاعتدال الربيعي وهو اول الربيع هذا في المناطق الشمالية والامر في المناطق الجنوبية بالخلاف منه فكلما زاد النهار طولا في احد الجانبين زاد الليل طولا في الجانب الاخر بنفس النسبة. والاختلاف الاول بالليل والنهار هو الذى يدبر أمر اهل الارض بتسليط حرارة الاشعة ثم بسط برد الظلمة ونشر الرياح وبعث الناس للحركة المعاشية ثم جمعهم للسكن والراحة، قال تعالى: (وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا
وجعلنا النهار معاشا) النبأ: 11. والاختلاف الثاني هو الذى يرسم الفصول الاربعة السنوية التى يدبر بها أمر الاقوات والارزاق كما قال تعالى: (وقدر فيها أقواتها في اربعة ايام سواء للسائلين) حم السجدة: 10. والنهار واليوم مترادفان إلا أن في النهار - على ما قيل - فائدة اتساع الضياء ولعله لذلك لا يستعمل النهار إلا بعناية مقابلته الليل بخلاف اليوم فانه يستعمل فيما لا عناية فيه بذلك كما في مورد الاحصاء يقال: عشرة ايام وعشرين يوما وهكذا، ولا يقال: عشرة نهارات وعشرين نهارا وهكذا. والاية تشتمل على حجة تامة على توحده تعالى في ربوبيته فان اختلاف الليل
[ 14 ]
والنهار وما خلق الله في السماوات والارض يحمل نظاما واحدا عاما متقنا يدبر به أمر الموجودات الارضية والسماوية وخاصة العالم الانساني تدبيرا واحدا يتصل بعض أجزائه ببعض على أحسن ما يتصور. وهو يكشف عن ربوبية واحدة ترب كل شئ ومنه الانسان فلا رب إلا الله سبحانه لا شريك له في ربوبيته. ومن المحتمل أن يكون قوله: (إن في اختلاف الليل والنهار) الخ، في مقام التعليل لقوله في الاية السابقة: (يفصل الايات لقوم يعلمون) لمكان إن، والانسب على هذا أن يكون المراد باختلاف الليل والنهار تواليهما على الارض دون الاختلاف بالمعنى الاخر فان هذا المعنى من الاختلاف هو الذى يسبق إلى الذهن من قوله في الاية السابقة: (جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل) وهو ظاهر. قوله تعالى: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها) إلى آخر الايتين. شروع في بيان ما يتفرع على الدعوة السابقة المذكورة بقوله:
(ذلكم الله ربكم فاعبدوه) من حيث عاقبة الامر في استجابته ورده وطاعته ومعصيته. فبدء سبحانه بالكافرين بهذا الامر فقال: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون) فوصفهم أولا بعدم رجائهم لقاءه، وهو الرجوع إلى الله بالبعث يوم القيامة، وقد تقدم الكلام في وجه تسميته بلقاء الله في مواضع من هذا الكتاب ومنها ما في تفسير آية الرؤية من سورة الاعراف فهؤلاء هم المنكرون ليوم الجزاء، وبإنكاره يسقط الحساب والجزاء فالوعد والوعيد والامر والنهى، وبسقوطها يبطل الوحى والنبوة وما يتفرع عليه من الدين السماوي. وبإنكار البعث والمعاد ينعطف هم الانسان على الحياه الدنيا فان الانسان وكذا كل موجود ذى حياة له هم فطرى ضروري في بقائه وطلب لسعادة تلك الحياة فان كان مؤمنا بحياة دائمة تسع الحياة الدنيوية والاخروية معا فهو، وإن لم يذعن إلا بهذه الحياة المحدودة الدنيوية علقت همته الفطرية بها، ورضى بها
[ 15 ]
وسكن بسببها عن طلب الاخرة، وهو المراد بقوله: (ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها). ومن هنا يظهر أن الوصف الثاني أعنى قوله: (ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها) من لوازم الوصف الاول أعنى قوله: (لا يرجون لقاءنا) وهو بمنزلة المفسر بالنسبة إليه، وأن الباء في قوله: (اطمأنوا بها) للسببية أي سكنوا بسببها عن طلب اللقاء وهو الاخرة. وقوله: (والذين هم عن آياتنا غافلون) في محل التفسير لما تقدمه من الوصف لمكان ما بينهما من التلازم فان نسيان الاخرة وذكر الدنيا لا ينفك عن الغفلة عن
آيات الله. والاية قريبة المضمون من قوله تعالى: (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله) الاية النجم: 30 حيث دل على ان الاعراض عن ذكر الله وهو الغفلة عن آياته يوجب قصر علم الانسان في الحياة الدنيا وشؤونها فلا يريد إلا الحياة الدنيا وهو الضلال عن سبيل الله، وقد عرف هذا الضلال بنسيان يوم الحساب في قوله: (إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) ص - 26. فقد تبين أن إنكار اللقاء ونسيان يوم الحساب يوجب رضى الانسان بالحياة الدنيا والاطمئنان إليها من الاخرة وقصر العلم عليه وانحصار الطلب فيه، وإذ كان المدار على حقيقة الذكر والطلب لم يكن فرق بين انكاره والرضى بالحياة الدنيا قولا وفعلا أو فعلا مع القول الخالى به. وتبين ايضا ان الاعتقاد بالمعاد أحد الاصول التى يتقوم بها الدين إذ بسقوطه يسقط الامر والنهى والوعد والوعيد والنبوة والوحى وهو بطلان الدين الالهى من رأس. وقوله: (أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون) بيان لجزائهم بالنار الخالدة قبال أعمالهم التى كسبوها.
[ 16 ]
قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم) إلى آخر الاية، هذا بيان لعاقبة أمر المؤمنين وما يثيبهم الله على استجابتهم لدعوته وطاعتهم لامره. ذكر سبحانه أنه يهديهم بإيمانهم، وإنما يهديهم إلى ربهم لان الكلام في عاقبة أمر من يرجو لقاء الله، وقد قال تعالى: (ويهدى إليه من أناب) الرعد: 27.
فإنما يهدى الايمان بإذن الله إلى الله سبحانه وكلما اهتدى المؤمنون إلى الحق أو إلى الصراط المستقيم أو غير ذلك مما يشتمل عليه كلامه فإنما هي وسائل ومدارج تنتهى بالاخرة إليه تعالى، قال تعالى: (وأن إلى ربك المنتهى) النجم: 42. وقد وصف المؤمنين بالايمان والاعمال الصالحة ثم نسب هدايتهم إليه إلى الايمان وحده فإن الايمان هو الذى يصعد بالعبد إلى مقام القرب، وليس للعمل الصالح إلا اعانة الايمان وإسعاده في عمله كما قال تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) المجادلة: 11 حيث ذكر للرفع الايمان والعلم وسكت عن العمل الصالح، وأوضحه منه في الدلالة قوله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) فاطر: 10. هذا في الهداية التى هي شأن الايمان، وأما نعم الجنة فإن للعمل الصالح دخلا فيها كما أن للعمل الطالح دخلا في أنواع العذاب وقد ذكر تعالى في المؤمنين قوله: (تجرى من تحتهم الانهار في جنات النعيم) كما ذكر في الكافرين قوله: (أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون). وليتنبه الباحث المتدبر أنه تعالى ذكر لهؤلاء المهتدين بإيمانهم من مسكن القرب جنات النعيم، ومن نعيمها الانهار التى تجرى من تحتهم فيها، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: (صراط الذين أنعمت عليهم) الحمد: 7 وقوله: (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم) الاية النساء: 69 أن النعيم بحقيقة معناه في القرآن الكريم هو الولاية الالهية، وقد خص الله أولياءه المقربين بنوع من شراب الجنة اعتنى به في حقهم كما قال: (إن الابرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا) الانسان: 6، وقال أيضا: (إن الابرار لفى
[ 17 ]
نعيم - إلى أن قال - يسقون من رحيق مختوم - إلى أن قال - عينا يشرب بها
المقربون) المطففين: 28، وعليك بالتدبر في الايات وتطبيق بعضها على بعض حتى ينجلى لك بعض ما أودعه الله سبحانه في كلامه من الاسرار اللطيفة. قوله تعالى: (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) أول ما يكرم به الله سبحانه أولياءه - وهم الذين ليس في قلوبهم إلا الله ولا مدبر لامرهم غيره - أنه يطهر قلوبهم عن محبه غيره فلا يحبون إلا الله فلا يتعلقون بشئ إلا الله وفي الله سبحانه فهم ينزهونه عن كل شريك يجذب قلوبهم إلى نفسه عن ذكر الله سبحانه، وعن أي شاغل يشغلهم عن ربهم. وهذا تنزيه منهم لربهم عن كل ما لا يليق بساحة قدسه من شريك في الاسم أو في المعنى أو نقص أو عدم، وتسبيح منهم له لا في القول واللفظ فقط بل قولا وفعلا ولسانا وجنانا، وما دون ذلك فإن له شوبا من الشرك، وقد قال تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) يوسف: 106. وهؤلاء الذين طهر الله قلوبهم عن قذارة حب غيره الشاغلة عن ذكره وملاها بحبه فلا يريدون إلا إياه وهو سبحانه الخير الذى لا شر معه قال: (والله خير) طه: 73. فلا يواجهون بقلوبهم التى هي ملاى بالخير والسلام أحدا إلا بخير وسلام اللهم إلا أن يكون الذى واجهوه بقلوبهم هو الذى يبدل الخير والسلام شرا وضرا كما أن القرآن شفاء لمن استشفى به لكنه لا يزيد الظالمين إلا خسارا. ثم إن هذه القلوب الطاهرة لا تواجه شيئا من الاشياء إلا وهى تجده وتشاهده نعمة لله سبحانه حاكية لصفات جماله ومعانى كماله واصفة لعظمته وجلاله فكلما وصفوا شيئا من الاشياء وهم يرونه نعمة من نعم الله ويشاهدون فيه جماله تعالى في أسمائه وصفاته ولا يغفلون ولا يسهون عن ربهم في شئ كان وصفهم لذلك الشئ وصفا منهم لربهم بالجميل من أفعاله وصفاته فيكون ثناء منهم عليه وحمدا منهم له
[ 18 ]
فليس الحمد إلا الثناء على الجميل من الفعل الاختياري. فهذا شأن اوليائه تعالى وهم قاطنون في دار العمل يجتهدون في يومهم لغد فإذا لقوا ربهم فوفى لهم بوعده وأدخلهم في رحمته وأسكنهم دار كرامته أتم لهم نورهم الذى كان خصهم به في الدنيا كما قال تعالى: (نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا) التحريم: 8. فسقاهم شرابا طهورا يطهر به سرائرهم من كل شرك جلى وخفى، وغشيهم بنور العلم واليقين، وأجرى من قلوبهم على ألسنتهم عيون التوحيد فنزهوا الله وسبحوه اولا وسلموا على رفقائهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ثم حمدوا الله سبحانه وأثنوا عليه بأبلغ الحمد وأحسن الثناء. وهذا هو الذى يقبل الانطباق عليه - والله اعلم - قوله في الايتين: (تجرى من تحتهم الانهار في جنات النعيم) وفيه ذكر جنة الولاية وتطهير قلوبهم: (دعواهم فيها سبحانك اللهم) وفيه تنزيهه تعالى وتسبيحه عن كل نقص وحاجة وشريك تنزيها على وجه الحضور لانهم غير محجوبين عن ربهم (وتحيتهم فيها سلام) وهو توسيم اللقاء بالامن المطلق، ولا يوجد في غيرها من الامن إلا اليسير النسبى (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) وفيه ذكر ثنائهم على الله بالجميل بعد تسبيحهم له وتنزيههم، وهذا آخر ما ينتهى إليه اهل الجنة في كمال العلم. وقد قدمنا في تفسير قوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين) الحمد: 2 أن الحمد توصيف، ولا يسع وصفه تعالى لاحد من خلقه إلا للمخلصين من عباده الذين أخلصهم لنفسه وخصهم بكرامة من القرب لا واسطة فيها بينهم وبينه قال تعالى: (سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين) الصافات: 160. ولذلك لم يحك في كلامه حمده إلا عن آحاد من كرام أنبيائه كنوح وإبراهيم ومحمد وداود وسليمان عليهم السلام كقوله فيما أمر به نوحا: (فقل الحمد لله الذى نجانا
من القوم الظالمين) المؤمنون: 28، وقوله حكاية عن إبراهيم: (الحمد لله الذى وهب لى على الكبر اسماعيل وإسحاق) ابراهيم: 39، وقوله فيما أمر به محمدا صلى الله عليه وآله وسلم
[ 19 ]
في عدة مواضع: (قل الحمد لله) النمل: 93، وقوله حكاية عن داود وسليمان: (وقالا الحمد لله) النمل: 15. وقد حكى سبحانه حمده عن أهل الجنة في عدة مواضع من كلامه كقوله: (وقالوا الحمد لله الذى هدانا لهذا) الاعراف: 43، وقوله ايضا: (وقالوا الحمد لله الذى أذهب عنا الحزن) فاطر: 34، وقوله ايضا: (وقالوا الحمد لله الذى صدقنا وعده) الزمر: 74، وقوله في هذه الاية: (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين). والاية تدل على أن الله سبحانه يلحق اهل الجنة من المؤمنين بالاخرة بعباده المخلصين ففيها وعد جميل وبشارة عظيمة للمؤمنين. (بحث روائي) في تفسير العياشي عن يونس بن عبد الرحمن عمن ذكره عن ابى عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) الاية قال: الولاية. وفي الكافي بإسناده عن إبراهيم بن عمر اليماني عمن ذكره عن ابى عبد الله عليه السلام في قول الله: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) قال: هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أقول: ورواه القمى في تفسيره مسندا والعياشي في تفسيره مرسلا عن إبراهيم بن عمر عمن ذكره عنه عليه السلام. والظاهر أن المراد به شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم. ويدل على ذلك ما رواه الطبرسي في المجمع حيث قال: قيل: قدم صدق شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قال: وهو المروى عن ابى عبد الله عليه السلام. وما رواه في الدر المنثورعن ابن مردويه عن على بن ابى طالب في قوله:
(قدم صدق عند ربهم) قال: محمد صلى الله عليه وآله وسلم شفيع لهم يوم القيامة. وفي تفسير العياشي عن زيد الشحام عن ابى عبد الله عليه السلام قال: سألته عن التسبيح قال: هو اسم من أسماء الله ودعوى اهل الجنة.
[ 20 ]
أقول: ومراده بالتسبيح قولنا: سبحان الله، ومعنى اسميته دلالته على تنزيهه تعالى. وفي الاختصاص بإسناده عن جعفر بن محمد عن ابيه عن جده الحسين بن على بن ابى طالب عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث طويل مع يهودى وقد سأله عن مسائل: قال صلى الله عليه وآله وسلم: إذا قال العبد: سبحان الله سبح كل شئ معه ما دون العرش فيعطى قائلها عشر أمثالها، وإذا قال: الحمد لله أنعم الله عليه بنعيم الدنيا حتى يلقاه بنعيم الاخرة، وهي الكلمة التي يقولها أهل الجنة إذا دخلوها، والكلام ينقطع في الدنيا ما خلا الحمدلله، وذلك قوله: تحيتهم يوم يلقونه سلام. اقول: وقوله: (والكلام ينقطع في الدنيا ما خلا الحمدلله) أي جميع الكلام المستعمل في الدنيا لمقاصد تعود إلى مستعمله كالكلام المستعمل لمقاصد المعاش كجميع المحاورات الانسانية والكلام المستعمل في العبادات لغرض الثواب ونحو ذلك ينقطع بانقطاع الدنيا إذ لا خبر بعد ذلك عن هذه المقاصد الدنيوية، ولا يبقى بعدئذ إلا الحمدلله والثناء عليه بالجميل وهو كلام اهل الجنة فيها. وقوله: وذلك قوله: (تحيتهم يوم يلقونه سلام) معناه أن كون التحية يومئذ هو السلام المطلق يدل على أن ليس هناك إلا موافقة كل شئ وملائمته لما يريده الانسان فكل ما يريده فهو له فلا يستعمل هناك كلام لتحصيل غاية من الغايات على حد الكلام الدنيوي إلا الثناء على جميل ما يشاهد منه تعالى فافهم ذلك. * * *
ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون - 11. وإذا مس الانسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره
[ 21 ]
مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون - 12. ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين - 13. ثم جعلناكم خلائف في الارض من بعدهم لننظر كيف تعملون - 14. (بيان) لما ذكر سبحانه الاصلين من أصول الدعوة الحقة وهما التوحيد والمعاد واحتج عليهما من طريق العقل الفطري ثم أخبر عن عاقبة الايمان والكفر بهما بحث عن سبب إمهال الناس وعدم تعجيل نزول العذاب بساحتهم مع تماديهم في غيهم وضلالتهم وعمههم في طغيانهم وما هو السبب الذى يوجب لهم ذلك فبين أن الامر بين لا ستر عليه، وقد بينه لهم رسل الله بالبينات لكن الشيطان زين لهؤلاء المسرفين أعمالهم فأغفلهم عن ذكر المعاد فذهلوا ونسوا بعد ما ذكروا ثم لم يعجل الله لهم العذاب بل أمهلهم في الدنيا إلى حين ليبتليهم ويمتحنهم فإنما الدار دار ابتلاء وامتحان. قوله تعالى: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) الخ، تعجيل الشئ الاتيان به بسرعة وعجلة، والاستعجال بالشئ طلب حصوله بسرعة وعجلة، والعمه شدة الحيرة. ومعنى الاية: ولو يعجل الله للناس الشر وهو العذاب كما يستعجلون بالخير كالنعمة لانزل عليهم العذاب بقضاء أجلهم لكنه تعالى لا يعجل لهم الشر فيذر
هؤلاء المنكرين للمعاد المارقين عن ربقة الدين يتحيرون في طغيانهم أشد التحير.
[ 22 ]
وتوضيحه أن الانسان عجول بحسب طبعه يستعجل بما فيه خيره ونفعه أي إنه يطلب من الاسباب أن تسرع في إنتاج ما يبتغيه ويريده فهو في الحقيقة يطلب الاسراع المذكور من الله سبحانه لانه السبب في ذلك بالحقيقة فهذه سنة الانسان وهى مبنية على الاهواء النفسانية فإن الاسباب الواقعة ليست في نظامها تابعة لهوى الانسان بل العالم الانساني هو التابع الجارى على ما يجريه عليه نظام الاسباب اضطرارا أحب ذلك أو كرهه. ولو أن السنة الالهية في خلق الاشياء والاتيان بالمسببات عقيب أسبابها اتبعت أو شابهت هذه السنة الانسانية المبنية على الجهل فعجلت المسببات والاثار عقيب أسبابها لاسرع الشر وهو الهلاك بالعذاب إلى الانسان فإن سببه قائم معه، وهو الكفر بعدم رجاء لقاالله والطغيان في الحياة الدنيا لكنه تعالى لا يعجل الشر لهم كاستعجالهم بالخير لان سنته مبنية على الحكمة بخلاف سنتهم المبنية على الجهالة فيذرهم في طغيانهم يعمهون. وقد بان بذلك اولا: أن في قوله (لقضى إليهم أجلهم) نوعا من التضمين فقد ضمن فيه (قضى) معنى مثل الانزال أو الابلاغ ولذا عدى بإلى. والمعنى قضى منزلا أو مبلغا إليهم أجلهم أو أنزل أو أبلغ إليهم أجلهم مقضيا وهو كناية عن نزول العذاب فالكلمة من الكناية المركبة. وثانيا: أن في قوله: (فنذر الذين) التفاتا من الغيبة إلى التكلم مع الغير، ولعل النكتة فيه الاشارة إلى توسيط الاسباب في ذلك فإن المذكور من أفعاله تعالى في الاية وما بعدها كتركهم في عمههم وكشف الضر والتزيين والاهلاك أمور يتوسل إليها بتوسيط الاسباب، والعظماء إذا أرادوا أن يشيروا إلى دخل أعوانهم وخدمهم
في بعض أمورهم أتوا بصيغة المتكلم مع الغير. قوله تعالى: (وإذا مس الانسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما) إلى آخر الاية. الضر بالضم ما يمس الانسان من الضرر في نفسه، وقوله: (دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما) أي دعانا منبطحا لجنبه الخ، والظاهر أن الترديد للتعميم أي دعانا على أي حال من أحواله فرض من انبطاح أو قعود أو قيام مصرا على دعائه لا
[ 23 ]
ينسانا في حال، ويمكن أن يكون (لجنبه) الخ، أحوالا ثلاثة من الانسان لا من فاعل دعانا والعامل فيه (مس) والمعنى إذا مس الانسان الضر وهو منبطح أو قاعد أو قائم دعانا في تلك الحال وهذا معنى ما ورد في بعض المرسلات: (دعانا لجنبه) العليل الذى لا يقدر أن يجلس (أو قاعدا) الذى لا يقدر أن يقوم (أو قائما) الصحيح. وقوله: (مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) كناية عن النسيان والغفلة عما كان لا يكاد ينساه. والمعنى: وإذا مس الانسان الضر لم يزل يدعونا لكشف ضره وأصر على الدعاء فإذا كشفنا عنه ضره الذى مسه نسينا وترك ذكرنا وانجذبت نفسه إلى ما كان يتمتع به من أعماله كذلك زين للمسرفين المفرطين في التمتع بالزخارف الدنيوية أعمالهم فأورثهم نسيان جانب الربوبية والاعراض عن ذكر الله تعالى. وفي الاية بيان السبب في تمادى منكري المعاد في غيهم وضلالتهم وخصوصية سببه وهو أن هؤلاء مثلهم كمثل الانسان يمسه الضر فيذكر ربه ويلح عليه بالدعاء لكشف ضره حتى إذا كشف عنه الضر - ولذلك كان يدعوه - مر لوجهه متوغلا في شهواته وقد نسى ما كان يدعوه ويذكره فلم يكن تركه لدعاء ربه بعد ذكره إلا معلولا لما زين له من عمله فأورثه النسيان بعد الذكر.
فكذلك هؤلاء المسرفون زين لهم أعمالهم فجذبتهم إلى نفسها فنسوا ربهم بعد ذكره، وقد ذكرهم الله مقامه بإرسال الرسل إلى من قبلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا وإهلاك القرون من قبلهم بظلمهم وهذه هي السنة الالهية يجزى القوم المجرمين. ومن هنا يظهر أن الاية التالية: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم) الخ، متمم للبيان في هذه الاية: (وإذا مس الانسان الضر دعانا) إلى آخر الايه. قوله تعالى: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم) إلى آخر الاية، قد ظهر معناه مما تقدم، وفي الاية التفات في قوله: (من قبلكم) من الغيبة إلى الخطاب،
[ 24 ]
وكأن النكتة فيه التشديد في الانذار لان الانذار و التخويف بالمشافهة أوقع أثرا وأبلغ من غيره. ثم في قوله: (كذلك نجزى القوم المجرمين) التفات آخر بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والنكتة فيه أنه إخبار عن السنة الالهية في أخذ المجرمين، والنبى صلى الله عليه وآله وسلم هو الاهل لفهمه والاذعان بصدقه دونهم ولو أذعنوا بصدقه لامنوا به ولم يكفروا، وهذا بخلاف قوله: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم... وجاءتهم رسلهم) فإنه خبر تاريخي لا ضير في تصديقهم به. قوله تعالى: (ثم جعلناكم خلائف في الارض من بعدهم لننظر كيف تعملون) معناه ظاهر، وفيه بيان أن سنة الامتحان والابتلاء عامة جارية. * * * وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسي إن اتبع إلا ما يوحى إلى إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم - 15. قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد
لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون - 16. فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب باياته إنه لا يفلح المجرمون - 17. و 30: 31: 09 يعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الارض سبحانه وتعالى عما يشركون - 18. وما كان الناس إلا أمة
[ 25 ]
واحدة فاختلفوا ولو لا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم فيما فيه يختلفون - 19. ويقولون لو لا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إنى معكم من المنتظرين - 20. وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون - 21. هو الذى يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين - 22. فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الارض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون - 23. إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض مما يأكل الناس والانعام حتى إذا أخذت الارض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالامس كذلك نفصل الايات لقوم يتفكرون - 24. والله يدعوا إلى دار السلام ويهدى
من يشاء إلى صراط مستقيم - 25.
[ 26 ]
(بيان) احتجاجات يلقنها الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ليرد بها ما قالوه في كتاب الله أو في آلهتهم أو اقترحوه في نزول الاية. قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله) هؤلاء المذكورون في الاية كانوا قوما وثنيين يقدسون الاصنام ويعبدونها، ومن سننهم التوغل في المظالم والاثام واقتراف المعاصي، والقرآن ينهى عن ذلك كله، ويدعو إلى توحيد الله تعالى ورفض الشركاء، وعبادة الله مع التنزه عن الظلم والفسق واتباع الشهوات. ومن المعلوم أن كتابا هذا شأنه إذا تليت آياته على قوم ذلك شأنهم لم يكن ليوافق ما تهواه أنفسهم بما يشتمل عليه من الدعوة المخالفة فلو قالوا: ائت بقرآن غير هذا دل على انهم يقترحون قرآنا لا يشتمل على ما يشتمل عليه هذا القرآن من الدعوة إلى رفض الشركاء واتقاء الفحشاء والمنكر، وإن قالوا: بدل القرآن كان مرادهم تبديل ما يخالف آراءهم من آياته إلى ما يوافقها حتى يقع منهم موقع القبول، وذلك كالشاعر ينشد من شعره أو القاص يقص القصة فلا تستحسنه طباع السامعين فيقولون: ائت بغيره أو بدله، وفي ذلك تنزيل القرآن أنزل مراتب الكلام وهو لهو الحديث الذى إنما يلقى لتلهو به نفس سامعه وتنشط به عواطفه ثم لا يستطيبه السامع فيقول: ائت بغير هذا أو بدله. فبذلك يظهر أن قولهم إذا تليت عليهم آيات القرآن: (ائت بقرآن غير هذا) يريدون به قرآنا لا يشتمل من المعارف على ما يتضمنه هذا القرآن بأن يترك هذا ويؤتى بذاك، وقولهم: (أو بدله) أن يغير ما فيه من المعارف المخالفة لاهوائهم
إلى معان يوافقها مع حفظ أصله فهذا هو الفرق بين الاتيان بغيره وبين تبديله. فما قيل: إن الفرق بينهما أن الاتيان بغيره قد يكون معه وتبديله لا يكون
[ 27 ]
إلا برفعه، غير سديد. فإنهم ما كانوا يريدون أن يأتيهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا القرآن وغيره معا قطعا. وكذا ما ذكره بعضهم أن قولهم: (ائت بقرآن غير هذا أو بدله) إنما ارادوا به أن يمتحنوه بذلك فيغروه حتى إذا أجابهم إلى ذلك كان ذلك نقضا منه لدعوى نفسه أنه كلام الله، وذلك أنهم لما سمعوا ما بلغهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من آيات القرآن وتلاه عليهم وتحداهم بالاتيان بمثله وعجزوا عن الاتيان بمثله، وكانوا في ريب من كونه كلام الله، وفي ريب من كونه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه ولم يكن يفوقهم في الفصاحة والبلاغة والعلم، بل كانوا يرونه دون كبار فصحائهم ومصاقع خطبائهم أرادوا أن يمتحنوه بهذا القول حتى إذا أتاهم بما سألوه كان ذلك ناقضا لاصل دعواه انه كلام الله. وكان قصارى أمره أنه امتاز عليهم بهذا النوع من البيان لقوة نفسية فيه كانت خفية عليهم كأسباب السحر لا بوحى. هذا. وفيه مضافا إلى مناقضة آخره أوله أنه مدفوع بما يلقنه الله سبحانه من الحجة فإن السؤال الذى لم يصدر إلا بداعي الامتحان والاختبار من غير داع جدى لا معنى للجواب عنه بالاثبات الجدى بحجة جدية وهو ظاهر. وفي قوله: (وإذا تتلى عليهم آياتنا) التفات من الخطاب إلى الغيبة، والظاهر أن النكتة فيه أن يكون توطئه إلى إلقاء الامر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (قل ما يكون لى أن أبدله) الخ، فان ذلك لا يتم إلا بصرف الخطاب عنهم وتوجيهه إليه صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: (قل ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلى) إلى آخر الاية التلقاء، بكسر التاء مصدر كاللقاء نظير التبيان والبيان
ويستعمل ظرفا. والله سبحانه على ما أجاب عن مقترحهم بقولهم: (ائت بقرآن غير هذا أو بدله) في أثناء كلامه بقوله (بينات) فإن الايات إذا كانت بينات ظاهرة الاستناد إلى الله سبحانه كشفت كشفا قطعيا عما يريده الله سبحانه منهم من رفض الاصنام والاجتناب من كل ما لا يرتضيه بما أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من تفصيل دينه، رد
[ 28 ]
سؤالهم إليهم تفصيلا بتلقين نبيه صلى الله عليه وآله وسلم الحجة في ذلك بقوله: (قل ما يكون لى) إلى آخر الايات الثلاث. فقوله: (قل ما يكون لى أن أبدله) الخ، جواب عن قولهم: (أو بدله) ومعناه: قل لا أملك - وليس لى بحق - أن أبدله من عند نفسي لانه ليس بكلامي وإنما هو وحى إلهى أمرنى ربى أن أتبعه ولا أتبع غيره، وإنما لا أخالف أمر ربى لانى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم وهو يوم لقائه. فقوله: (ما يكون لى أن أبدله) نفى الحق وسلب الخيرة، وقوله: (إن أتبع إلا ما يوحى إلى) في مقام التعليل بالنسبة إلى قوله: (ما يكون لى) وقوله: (إنى أخاف إن عصيت ربى) الخ، في مقام التعليل بالنسبة إلى قوله: (إن أتبع) الخ، بما يلوح منه أنه مما تعلق به الامر الالهى. وفي قوله: (إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) نوع محاذاة لما في صدر الكلام من قوله: (قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن) الخ فإن الاتيان بالوصف للاشعار بأن الباعث لهم أن يقولوا ما قالوا إنما هو إنكارهم للمعاد وعدم رجائهم لقاء الله فقابلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من ربه بقوله: (إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) فيؤول المعنى إلى أنكم تسألون ما تسألون لانكم لا ترجون لقاء الله لكننى لا أشك فيه فلا يمكننى إجابتكم إليه لانى أخاف عذاب يوم اللقاء،
وهو يوم عظيم. وفي تبديل يوم اللقاء بيوم عظيم فائدة الانذار مضافا إلى أن العذاب لا يناسب اللقاء تلك المناسبة. قوله تعالى: (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون) أدراكم به أي أعلمكم الله به، والعمر بضمتين أو بالفتح فالسكون هو البقاء، وإذا استعمل في القسم كقولهم: لعمري ولعمرك تعين الفتح. وهذه الاية تتضمن رد الشق الاول من سؤالهم وهو قولهم: (ائت بقرآن غير هذا) ومعناها على ما يساعد عليه السياق: أن الامر فيه إلى مشية الله لا إلى
[ 29 ]
مشيتى فإنما أنا رسول ولو شاء الله أن ينزل قرآنا غير هذا ولم يشأ هذا القرآن ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فإنى مكثت فيكم عمرا من قبل نزول القرآن وعشت بينكم وعاشرتكم وعاشرتمونى وخالطتكم وخالطتمونى فوجدتمونى لا خبر عندي من وحى القرآن، ولو كان ذلك إلى وبيدي لبادرت إليه قبل ذلك، وبدت من ذلك آثار ولاحت لوائحه، فليس إلى من الامر شئ، وإنما الامر في ذلك إلى مشية الله وقد تعلقت مشيته بهذا القرآن لا غيره أفلا تعقلون ؟ قوله تعالى: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب باياته انه لا يفلح المجرمون) استفهام إنكارى أي لا أحد أظلم وأشد إجراما من هذين الفريقين: المفترى على الله كذبا، والمكذب باياته فان الظلم يعظم بعظمة من يتعلق به وإذا اختص بجنب الله كان أشد الظلم. وظاهر سياق الاحتجاج في الايتين أن هذه الاية من تمامها والمعنى: لا أجيبكم إلى ما اقترحتم على من الاتيان بقرآن غير هذا أو تبديله فإن ذلك ليس إلى ولا لى حق فيه، ولو أجبتكم إليه لكنت أظلم الناس وأشدهم إجراما ولا يفلح المجرمون
فإنى لو بدلت القرآن وغيرت بعض مواضعه مما لا ترتضونه لكنت مفتريا على الله كذبا ولا أظلم منه، ولو تركت هذا القرآن وجئتكم بغيره مما ترتضونه لكنت مكذبا لايات الله، ولا أظلم منه. وربما احتمل كون الاستفهام الانكارى بشقيه تعريضا للمشركين أي أنتم أظلم الناس بإثباتكم لله شركاء وهو افتراء الكذب على الله وبتكذيبكم بنبوتي والايات النازلة على وهو تكذيب بايات الله ولا يفلح المجرمون. وذكر بعضهم أن الاول من شقى الترديد للنبى على تقدير إجابتهم والثانى للمشركين، أي لا أحد أظلم عند الله من هذين الفريقين: المفترين على الله والمكذبين باياته، وأنا أنعى عليكم الثاني منهما فكيف أرضى لنفسي بالاول وهو شر منه ؟ وأى فائدة لى من هذا الاجرام العظيم وأنا أريد الاصلاح. والذى ذكره من المعنى لا بأس به في نفسه لكن الشأن في استفادته من الاية
[ 30 ]
ودلالة لفظها عليه، وكذا الوجه السابق عليه بالنظر إلى السياق. قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) إلى آخر الاية، الكلام: موجه نحو عبدة الاصنام من المشركين وإن كان ربما شمل غيرهم كأهل الكتاب بحسب سعة معناه، وذلك لمكان (ما) وكون السورة مكية من أوائل ما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن. وقد كانت عبدة الاصنام يعبدون الاصنام ليتقربوا بعبادتها إلى أربابها وبأربابها إلى رب الارباب وهو الله سبحانه، ويقولون: (إننا على ما بنا من ألواث البشرية المادية وقذارات الذنوب والاثام لا سبيل لنا إلى رب الارباب لطهارة ساحته وقدسها ولا نسبة بيننا وبينه. فمن الواجب أن نتقرب إليه بأحب خلائقه إليه وهم أرباب الاصنام الذين
فوض الله إليهم أمر تدبير خلقه، ونتقرب إليهم بأصنامهم وتماثيلهم وإنما نعبد الاصنام لتكون شفعاء لنا عند الله لتجلب الينا الخير وتدفع عنا الشر فتقع العبادة للاصنام حقيقة، والشفاعة لاربابها وربما نسبت إليها. وقد وضع في الكلام قوله: (ما لا يضرهم ولا ينفعهم) موضع الاصنام للتلويح إلى موضع خطأهم في مزعمتهم، وهو أن هذا السعي إنما كان ينجح منهم لو كانت هذه الاصنام ضارة نافعة في الامور وكانت ذوات شعور بالعبادة والتقرب حتى ترضى عن عبادها بعبادتهم لها فتشفع أو يشفع اربابها لهم عند الله إن كان الله يرتضى شفاعتهم وهؤلاء اجسام ميتة لا تشعربشئ ولا تضر ولا تنفع شيئا. وقد أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يحتج على بطلان دعواهم الشفاعة - مضافا إلى ما يلوح إليه قوله: (لا يضرهم ولا ينفعهم) - بقوله: (قل أتنبؤون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الارض) ومحصله أن الله سبحانه لا علم له بهذه الشفعاء في شئ من السماوات والارض فدعواكم هذه إخبار منكم إياه بما لا يعلم، وهو من أقبح الافتراء وأشنع المكابرة، وكيف يكون في الوجود شئ لا يعلم به الله وهو يعلم ما في السماوات والارض ؟
[ 31 ]
فالاستفهام إنكارى، ونفى العلم بوجود الشفعاء كناية عن نفى وجودها، ولعل اختيار هذا التعبير لكون الشفاعة مما يتقوم بالعلم لذاته فإن الشفاعة إنما تتحقق إذا كان المشفوع عنده عالما بوجود الشافع وشفاعته فإذا فرض أنه لا يعلم بالشفعاء فكيف تتحقق الشفاعة عنده وهو لا يعلم. وقوله: (سبحانه وتعالى عما يشركون) كلمة تنزيه، وهى من كلام الله وليست مقولة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فان ظرف المشركين بالنسبة إليه هو الخطاب دون الغيبة فلو كان من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقيل: عما تشركون بالخطاب. قوله تعالى: (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا) قد تقدم في تفسير
قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم) البقرة: 213 أن الاية تكشف عن نوعين من الاختلاف بين الناس. أحدهما: الاختلاف من حيث المعاش وهو الذى يرجع إلى الدعاوى وينقسم به الناس إلى مدع ومدعى عليه وظالم ومظلوم ومتعد ومتعدي عليه وآخذ بحقه وضائع حقه، وهذا هو الذى رفعه الله سبحانه بوضع الدين وبعث النبيين وإنزال الكتاب معهم ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويعلمهم معارف الدين ويواجههم بالانذار والتبشير. وثانيهما: الاختلاف في نفس الدين وما تضمنه الكتاب الالهى من المعارف الحقة من الاصول والفروع، وقد صرح القرآن في مواضع من آياته أن هذا النوع من الاختلاف ينتهى إلى علماء الكتاب بغيا بينهم، وليس مما يقتضيه طباع الانسان كالقسم الاول، وبذلك ينقسم الطريق إلى طريقي الهداية والضلال فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق، وقد ذكر سبحانه في مواضع من كلامه بعد ذكر هذا القسم من الاختلاف أنه لو لا قضاء من الله سبق لحكم بينهم فيما اختلفوا فيه ولكن يؤخرهم إلى أجل، قال تعالى: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا
[ 32 ]
بينهم ولو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم) الشورى: 14 إلى غير ذلك من الايات. وسياق الاية السابقة أعنى قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم) الخ، لا يناسب من الاختلافين المذكورين إلا الاختلاف الثاني وهو الاختلاف في نفس الدين لانها تذكر ركوب الناس طريق الضلال بعبادتهم ما لا
يضرهم ولا ينفعهم واتخاذهم شفعاء عند الله، ومقتضى ذلك أن يكون المراد من كون الناس سابقا أمة واحدة كونهم على دين واحد وهو دين التوحيد ثم اختلفوا فتفرقوا فريقين موحد ومشرك. فذكر الله فيها أن اختلافهم كان يقضى أن يحكم الله بينهم باظهار الحق على الباطل وفيه هلاك المبطلين وإنجاء المحقين لكن السابق من الكلمد الالهية منعت من القضاء بينهم، والكلمة هي قوله تعالى لما أهبط الانسان إلى الدنيا: (ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين) البقرة: 36. وللمفسرين في الاية أقوال عجيبة منها: أن المراد بالناس هم العرب كانوا على دين واحد حق وهو دين إبراهيم عليه السلام إلى زمن عمرو بن لحى الذى زوج بينهم الوثنية فانقسموا إلى حنفاء مسلمين، وعبدة أصنام مشركين، وأنت خبير أنه لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة. ومنها: أن المراد بالناس جميعهم، والمراد من كونهم أمة واحدة كونهم على فطرة الاسلام وإن كانوا مختلفين دائما، فلفظة (كان) منسلخ الزمان، والاية تحكى عما عليه الناس بحسب الطبع وهو التوحيد، وما هم عليه بحسب الفعلية وهو الاختلاف فليس الناس بحسب الطبع الفطري إلا أمة واحدة موحدين لكنهم اختلفوا على خلاف فطرتهم. وفيه أنه خلاف ظاهر الاية والاية التى في سورة البقرة، وكذا ظاهر سائر الايات كقوله: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) الشورى: 14 وقوله: (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) آل عمران: 19.
[ 33 ]
على أن القول بوجود الاختلاف الدائم بين الناس مع عدم رجوعه إلى الفطرة
مما لا يجتمعان. ومنها: أن المراد أن الناس جميعا كانوا على ملة واحدة هي الكفر والشرك ثم اختلفوا فكان مسلم وكافر. وهذا أسخف الاقوال في الاية فإنه مضافا إلى كونه قولا بغير دليل يأباه ظاهر الايات فإن ظاهرها أن ظهور الاختلاف لانتهائه إلى بغى الناس من بعد ما جاءهم العلم أي ظهور الكفر والشرك عن بغى كان هو المقتضى للحكم بينهم والقضاء عليهم بنزول العذاب والهلاك فإذا كانوا جميعا على الكفر والشرك من غير سابقه هدى وإيمان فما معنى استناد الاقتضاء إلى البغى عن علم ؟ وما معنى خلق الجميع ووجود المقتضى لاهلاكهم جميعا إلا انتقاض الغرض الالهى ؟ وهذا القول أشبه بما قالته النصارى في مسألة التفدية أن الله خلق الانسان ليطعمه فيسكنه الجنة دائما لكنه عصاه ونقض بذلك غرض الخلقة فتداركه الله بتفدية المسيح. ومنها: قول بعضهم: إن المراد بالكلمة في قوله: (ولو لا كلمة سبقت من ربك) الخ قوله تعالى فهذه السورة: (إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) الاية 93. وفيه: أن المراد بالسبق إن كان هو السبق بحسب البيان فالاية متأخرة عن هذه الاية لوقوعها في أواخر السورة، والايات متصلة جارية. على ان الاية في بنى إسرائيل خاصة والضمير في قوله: (بينهم) راجع إليهم وهى قوله: (ولقد بوأنا بنى إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) يونس: 93. على أن قوله في بعض الايات: (ولو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم) الشورى: 14 لا يلائم هذا المعنى من السبق.
[ 34 ]
وإن كان المراد بالسبق السبق بحسب القضاء فينبغي أن يتبع في ذلك اول كلمة قالها الله تعالى في ضلال الناس وشركهم و معصيتهم، وليست إلا ما قاله عند أول ما أسكن الانسان الارض وهو ما قدمناه من الاية. قوله تعالى: (ويقولون لو لا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إنى معكم من المنتظرين) الاية كقوله قبلها: (ويعبدون من دون الله) وقوله قبله: (وإذا تتلى عليهم آياتنا) تعد أمورامن مظالم المشركين في أقوالهم وأعمالهم ثم ترد عليها بحجج تلقنها النبي صلى الله عليه واله وسلم ليقيمها عليهم كما مر في أول الايات فقوله: (ويقولون لو لا أنزل) الخ، عطف على قوله في أول الايات: (وإذا تتلى عليهم آياتنا). وفيها مع ذلك عود بعد عود إلى إنكارهم أمر القرآن فإن مرادهم بقولهم: (لو لا أنزل عليه آية من ربه) وإن كان طلب آية أخرى غير القرآن لكنهم إنما قالوه إزراء وتحقيرا لامر القرآن واستخفافا به لعدم عده آية إلهية والدليل عليه قوله تعالى: (فقل إنما الغيب لله) ولم يقل: (قل) كما قال في سائر الايات كأنه يقول: ويطلبون منك آية أخرى غير مكتفين بالقرآن ولا راضين به فإذا لم يكتفوا به آية فقل: إنما الايات من الغيب المختص بالله وليست بيدى فانتظروا إنى معكم من المنتظرين. فهذا هو المستفاد من الاية وفيها دلالة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ينتظر آية فاصلة بين الحق والباطل غير القرآن قاضية بينه وبين أمته، وسيجئ الوعد الصريح منه بهذه الاية - التى يأمر بانتظارها ههنا - في قوله: (وإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم) يونس: 46 إلى تمام عدة آيات. قوله تعالى: (وإذا أذقنا الناس رحمد من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا) إلى آخر الاية مضمون الاية وإن كان من المعاني العامة الجارية في أغلب الناس في اكثر الاوقات فإن الفرد من الانسان لا يخلو عن أن يمسه سراء بعد ضراء بل قلما
يتفق أن لا يتكرر في حقه ذلك لكن الاية من جهة السياق المتقدم كأنها مسوقة للتعريض للمشركين ومكرهم في آيات الله، والدليل عليه قوله: (قل الله أسرع مكرا) فقد كان النظر معطوفا على مكر طائفة خاصة وهم المخاطبون بهذه الايات
[ 35 ]
حيث كانوا يمكرون بايات السراء والضراء بعد ظهورها، ومن مكرهم مكرهم في القرآن الذى هو آية إلهية ورحمة أذاقهم الله إياها بعد ضراء الجهالة العالقة بهم وشمول ضنك العيش والذلة والتفرقة وتباعد القلوب وبغضائها لهم وهم يمكرون به فتارة يقولون: (ائت بقرآن غير هذا أو بدله) وتارة يقولون: (لو لا أنزل عليه آية من ربه). فالاية تبين لهم أن هذا كله مكر يمكرونه في آيات الله، وتبين لهم أن المكر بايات الله لا يعقب إلا السوء من غير أن ينفعهم شيئا فإن الله أسرع مكرا يأخذهم مكره قبل أن يأخذ مكرهم آياته فإن مكرهم بايات الله عين مكر الله بهم. فمعنى الاية: (وإذا أذقنا الناس) عبر عن الاصابة بالاذاقة للايماء إلى التذاذهم بالرحمة وعنايد بالقلة فإن الذوق يستعمل في القليل من التغذى (رحمة من بعد ضراء مستهم) والتعبير بالرحمة في موضع السراء للاشارة إلى أنها من الرحمة الالهية من غير أن يستوجبوا ذلك فكان من الواجب عليهم أن يقوموا بحقه، ويخضعوا لما تدعو إليه الاية وهو توحيد ربهم وشكر نعمته لكنهم يفاجئون بغير ذلك (اذالهم مكر في آياتنا) كتوجيه الحوادث بما تبطل به دلالة الايات كقولهم قد مس آباءنا السراء والضراء، والاعتذار بما لا يرتضيه الله كقولهم: (لو لا أنزل عليه آية) وقولهم: (إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا). فأمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان يجيبهم بقوله: (قل الله أسرع مكرا) ثم علله بقوله: (ان رسلنا يكتبون ما تمكرون) فلنا عليكم شهداء رقباء ارسلناهم اليكم يكتبون اعمالكم ويحفظونها، وبمجرد ما عملتم عملا حفظ عليكم وتعين جزاؤه
لكم قبل ان يؤثر مكركم اثره أو لا يؤثر كما فسروه. وهنا شئ وهو أن الظاهر من قوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) الجاثية: 29 على ما سيجئ من البيان في تفسير الاية أن شاء الله تعالى ان معنى كتابة الملائكة اعمال العباد هو اخراجهم الاعمال من كمون الاستعدادات إلى مرحلة الفعليد الخارجية ورسم نفس الاعمال في صحيفة الكون وبذلك تنجلي عليه كتابة الرسل لاعمالهم لكونه تعالى اسرع مكرا تمام الانجلاء فان حقيقة المعنى على هذا: أنا نحن نخرج اعمالكم التى تمكرون بها من
[ 36 ]
داخل ذواتكم ونضعها في الخارج فكيف يخفى علينا كونكم تريدون بنا المكر بذلك ؟ هل المكر إلا صرف الغير عما يتصده بحيلة وستر عليه بل ذاك الذى تزعمونه مكرابنا مكر منا بكم حيث نجعلكم تزعمونه مكرا وتقدمون على المكر بنا، وهذه المزعمة والاقدام ضلال منكم وإضلال منا لكم جزاء بما كسبته ايديكم، وسيأتى نظير هذا المعنى في قوله: (يا ايها الناس انما بغيكم على انفسكم) الاية 23 من السورة. وفي الاية التفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: (ان رسلنا يكتبون ما تمكرون) على قراءة تمكرون بتاء الخطاب وهى القراءة المشهورة، وهو من عجيب الالتفات الواقع في القرآن ولعل النكتة فيه تمثيل معنى قوله: (قل الله أسرع مكرا) في العين كأنه تعالى لما قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (قل الله اسرع مكرا) اراد ان يوضحه لهم عيانا ففاجأهم بتجليه لهم دفعة فكلمهم وأوضح لهم السبب في كونه اسرع مكرا ثم حجبهم عن نفسه فعادوا إلى غيبتهم وعاد الكلام إلى حاله، وخوطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببقية الخطاب: (هو الذى يسيركم) الخ، وهذا من لطيف الالتفات.
قوله تعالى: (هو الذى يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) إلى آخر الاية، الفلك السفينة وتستعمل مفردا وجمعا، والمراد بها ههنا الجمع بدليل قوله: (وجرين بهم) والريح العاصف: الشديدة الهبوب، وقوله: (أحيط بهم) كناية عن الاشراف على الهلاك، وتقديره احاط بهم البلاء أو الامواج، والاشارة بقوله: (من هذه) إلى الشدة. ومعنى الاية ظاهر. وفيها من عجيب الالتفات الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: (وجرين بهم بريح طيبة - إلى قوله - بغير الحق) ولعل النكتة فيه ارجاعهم إلى الغيبة وتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصف اعجب جزء من هذه القصة الموصوفة له ليسمعه ويتعجب منه، ويكون فيه مع ذلك اعراض عن الامر بمخاطبتهم لانهم لا يفقهون القول. قوله تعالى: (فلما انجاهم إذا هم يبغون في الارض بغير الحق) اصل البغى
[ 37 ]
هو الطلب ويكثر استعماله في مورد الظلم لكونه طلبا لحق الغير بالتعدي عليه ويقيد حينئذ بغير الحق، ولو كان بمعنى الظلم محضا لكان القيد زائدا. والجملة من تتمة الاية السابقة، والمجموع اعني قوله: (هو الذى يسيركم في البر والبحر - إلى قوله - بغير الحق) بمنزلة الشاهد والمثال بالنسبة إلى عموم قوله قبله: (وإذا اذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم) إلى آخر الاية، أو لخصوص قوله: (قل الله اسرع مكرا) وعلى أي حال فقوله: (يا ايها الناس انما بغيكم على انفسكم) الخ، مما يتوقف عليه تمام الغرض من الكلام في الاية السابقة وان لم يكن من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فافهم ذلك. قوله تعالى: (يا ايها الناس انما بغيكم على انفسكم متاع الحياد الدنيا ثم الينا مرجعكم) إلى آخر الاية، في الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب فقوله: (يا ايها
الناس) الخ، خطاب منه تعالى للناس بلا واسطة، وليس من كلام النبي عليه السلام مما امره الله سبحانه ان يخاطب به الناس. والدليل على ذلك قوله تعالى (ثم الينا مرجعكم) إلى آخر الاية، فانه لا يصلح ان يكون من خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والنكتة في هذا الالتفات هي نظير النكتة التى قدمنا ذكرها في قوله تعالى في اول الكلام: (ان رسلنا يكتبون ما تمكرون) فكأنه سبحانه يفاجئهم بالاطلاع عليهم اثناء ما يخاطبهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم يحسبون ان ربهم غائب عنهم غافل عن نياتهم ومقاصدهم في اعمالهم فيشرف عليهم ويمثل بذلك كونه معهم في جميع احوالهم واحاطته بهم ويقول لهم: انا اقرب اليكم وإلى اعمالكم منكم فما تعملونه من عمل تريدون به ان تبتغوا علينا وتمكروا بنا انما توجد بتقديرنا وتجرى بأيدينا فكيف يمكنكم ان تبغوا بها علينا ؟ بل هي بغى منكم على انفسكم فانها تبعدكم منا وتكتب آثامها في صحائف اعمالكم فبغيكم على انفسكم وهو متاع الحياة الدنيا تتمتعون به اياما قلائل ثم الينا مرجعكم فنخبركم ونوضح لكم هناك حقائق اعمالكم. وقوله: (متاع الحياة الدنيا) بالنصب في قراءة حفص عن عاصم والتقدير:
[ 38 ]
تتمتعون متاع الحياة الدنيا، وبالرفع في قراءة غيره وهو خبر لمبتدء محذوف، والتقدير هو أي بغيكم وعملكم متاع الحياة الدنيا. وعلى كلتا القراءتين فقوله: (متاع الحياة الدنيا) إلى آخر الاية، تفصيل لاجمال قوله: (انما بغيكم على انفسكم) فقوله (متاع) الخ، في مقام التعليل بالنسبة إلى كون بغيهم على انفسهم من قبيل تعليل الاجمال بالتفصيل وبيانه به. قوله تعالى: (انما مثل الحياة الدنيا كماء انزلناه من السماء فاختلط به نبات
الارض) إلى آخر الاية، لما ذكر سبحانه في الاية السابقة متاع الحياة الدنيا مثل له بهذا المثل يصف فيه من حقيقة امره ما يعتبر به المعتبرون، وهو من الاستعارة التمثيلية وليس من تشبيه المفرد بالمفرد من شئ وان اوهم ذلك قوله: (كماء انزلناه) ابتداء، ونظائره شائعة في امثال القرآن، والزخرف الزينة والبهجة، وقوله: (لم تغن) من غنى في المكان إذا اقام فيه فأطال المقام، والباقى ظاهر. قوله تعالى: (والله يدعوا إلى دار السلام ويهدى من يشاء إلى صراط مستقيم) الدعاء والدعوة عطف نظر المدعو إلى ما يدعى إليه وجلب توجهه وهو اعم من النداء فان النداء يختص بباب اللفظ والصوت، والدعاء يكون باللفظ والاشارة وغيرهما، والنداء انما يكون بالجهر ولا يقيد به الدعاء. والدعاء في الله سبحانه تكويني وهو ايجاد ما يريده لشئ كأنه يدعوه إلى ما يريده، قال تعالى: (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده) اسرى: 52 أي يدعوكم إلى الحياة الاخروية فتستجيبون إلى قبولها، وتشريعي وهو تكليف الناس بما يريده من دين بلسان آياته، والدعاء من العبد لربه عطف رحمته وعنايته إلى نفسه بنصب نفسه في مقام العبودية والمملوكية، ولذا كانت العبادة في الحقيقة دعاء لان العبد ينصب فيها نفسه في مقام المملوكية والاتصال بمولاه بالتبعية والذلة ليعطفه بمولويته وربوبيته إلى نفسه وهو الدعاء. وإلى ذلك يشير قوله تعالى: (وقال ربكم ادعوني استجب لكم ان الذين
[ 39 ]
يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) المؤمن 60 حيث عبر اولا بالدعاء ثم بدله ثانيا العبادة. وقد التبس الامر على صاحب المنار فقال في تفسيره: ان قول بعض المفسرين وغيرهم: ان من معاني الدعاء العبادة لا يصح على اطلاقه في العبادة الشرعية التكليفية
فان الصيام لا يسمى دعاء لغة ولا شرعا وانما الدعاء هو مخ العبادة الفطرية واعظم اركان التكليفية منها كما ورد في الحديث فكل دعاء شرعى عبادة وما كل عبادة شرعية دعاء. انتهى ومنشأ خطأه زعمه ان معنى الدعاء هو النداء للطلب وغفلته عما تقدم من تحليل معناه. والاصل في معنى السلام على ما ذكره الراغب في المفردات هو التعري عن الافات الظاهرة والباطنة، واليه يرجع معناه في جميع مشتقاته، والسلام والسلامة واحد كالرضاع والرضاعة، والظاهر ان السلام والامن متقاربان معنى، وانما الفارق ان السلام هو الامن مأخوذا في نفسه، والامن هو السلام مضافا إلى ما يسلم منه يقال: هو في سلام، وهو في أمن من كذا وكذا. والسلام من اسمائه تعالى لان ذاته المتعالية نفس الخير الذى لا شر فيه، وتسمى الجنة دار السلام حيث لا شر فيها ولا ضر على ساكنها، وقيل: انما سميت دار السلام، لانها دار الله الذى هو السلام والمال واحد في الحقيقة لانه تعالى إنما سمى سلاما لبراءته من كل شر وسوء، وفي سياق الاية ما يشعر بكون معنى السلام الوصفى مقصودا في الكلام. وقد أطلق سبحانه السلام ولم يقيده بشئ ولا ورد في كلامه ما يقيده ببعض الحيثيات فهو دار السلام على الاطلاق وليست إلا الجنة فإن ما يوجد عندنا في الدنيا من السلام إنما هو الاضافي دون المطلق فما من شئ إلا وهو مزاحم ممنوع من بعض ما يحبه ويهواه، وما من حال إلا وفيه مقارنات من الاضداد والانداد. فإذا أخذت معنى السلام مطلقا غير نسبي تحصل عندك ما عليه الجنة من الوصف، وانكشف أن توصيفها بهذه الصفة نظير توصيفها في قوله: (لهم ما يشاءون
[ 40 ]
فيها) ق: 35، فإن سلامة الانسان من كل ما يكرهه ولا يحبه تلازم سلطانه على
كل ما يشاؤه ويحبه. وفي تقييد دار السلام بكونها عند ربهم دلالة على قرب الحضور وعدم غفلتهم عنه سبحانه هناك أصلا، وقد تقدم الكلام في معنى الهداية ومعنى الصراط المستقيم في مواضع من الابحاث السابقة كتفسير سورة الحمد وغيره. (بحث روائي) في تفسير القمى في قوله تعالى: (قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا) الاية، قال: فإن قريشا قالت: يا رسول الله ائتنا بقرآن غير هذا فإن هذا شئ تعلمته من اليهود والنصارى، قال الله: قل لهم: لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم اربعين سنة قبل أن يوحى إلى، ولم أتكلم بشئ منه حتى أوحى إلى. إقول: وفي انطباق مضمونه على الاية خفاء، على ما فيه من مخاطبتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة. وفي تفسير العياشي عن منصور بن حازم عن ابى عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لم يزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: انى اخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم حتى نزلت سورة الفتح فلم يعد إلى ذلك الكلام. إقول: والرواية لا تخلو عن شئ. وفي الدر المنثور أخرج البيهقى في الدلائل عن عروة قال: فر عكرمة بن ابى جهل يوم الفتح فركب البحر فأخذته الريح فنادى باللات والعزى، فقال اصحاب السفينة: لا يجوز ههنا أحد يدعو شيئا إلا الله وحده مخلصا، فقال عكرمة: والله لئن كان في البحر وحده إنه لفى البر وحده، فأسلم.
[ 41 ]
أقول: والرواية مروية بطرق كثيرة مختلفة. وفي تفسير العياشي عن منصور بن يونس عن ابى عبد الله عليه السلام ثلاث يرجعن
على صاحبهن: النكث والبغى والمكر، قال الله: يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم. أقول: وهو مروى عن انس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث هن رواجع على اهلها: النكث والمكر والبغى. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس إنما بغيكم على انفسكم) (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله) (ومن نكث فإنما ينكث على نفسه). أورده في الدر المنثور. وفي الدر المنثور اخرج أبو نعيم في الحلية عن ابى جعفر محمد بن على قال: ما من عبادة أفضل من أن تسأل، وما يدفع القضاء إلا الدعاء، وإن أسرع الخير ثوابا البر، وأسرع الشر عقوبة البغى وكفى بالمرء عيبا أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه، وأن يأمر الناس بما لا يستطيع التحول عنه، وأن يؤذى جليسه بما لا يعنيه. وفيه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو بغى جبل على جبل لدك الباغى منهما. وفي تفسير البرهان عن ابن بابويه بإسناده عن العلاء بن عبد الكريم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول في قول الله عزوجل: (والله يدعوا إلى دار السلام) فقال: إن السلام هو الله عزوجل وداره التى خلقها لاوليائه الجنة. وفيه عن ابن شهر آشوب عن على بن عبد الله بن عباس عن أبيه وزيد بن على بن الحسين عليه السلام في قوله تعالى: (والله يدعوا إلى دار السلام) يعنى به الجنة (ويهدى من يشاء إلى صراط مستقيم) يعنى ولاية على بن أبى طالب. أقول: إن كانت الرواية موقوفة فهى من الجرى أو من الباطن من معنى القرآن، وفي معناها روايات أخر.
[ 42 ]
* * * للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون - 26. والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون - 27. ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون - 28. فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين - 29. هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون - 30. (بيان) استئناف يعود فيه إلى ذكر جزاء الاعمال وعود الجميع إلى الله الحق، وقد تقدم إيماء إلى ذلك، وفيه إثبات توحيد الربوبية. قوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) الخ، الحسنى مؤنث أحسن والمراد المثوبة الحسنى، والمراد بالزيادة الزيادة على الاستحقاق بناء على أن الله جعل من فضله للعمل مثلا من الجزاء والثواب ثم جعله حقا للعامل في مثل قوله: (لهم أجرهم عند ربهم) آل عمران: 199 ثم ضاعفه وجعل المضاعف منه أيضا حقا للعامل كما في قوله: (من جاء بالحسنة فله عشر
[ 43 ]
أمثالها) الانعام: 160 وعند ذلك كان مفاد قوله: (للذين أحسنوا الحسنى) استحقاقهم للجزاء والمثوبة الحسنى، وتكون الزيادة هي الزيادة على مقدار الاستحقاق من المثل أو العشرة الامثال نظير ما يفيده قوله: (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات
فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله) النساء: 173. ولو كان المراد بالحسنى في قوله: (للذين أحسنوا الحسنى) العاقبة الحسنى، وليس فيما يعقل فوق الحسنى شئ كان معنى قوله: (وزيادة) الزيادة على ما يعقله الانسان من الفضل الالهى كما يشير إليه قوله: (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين) الم السجدة: 17 وما في قوله: (لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد) ق: 35 فإن من المعلوم أن كل أمر حسن يشاؤه الانسان فالمزيد على ما يشاؤه أمر فوق ما يدركه فافهم ذلك. والرهق بفتحتين اللحوق والغشيان يقال: رهقه الدين أي لحق به وغشيه، والقتر الدخان الاسود أو الغبار الاسود، وفي توصيفهم بقوله: (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) محاذاة لما في الاية التالية من وصف أهل النار بسواد وجوههم بالقتر وهو سواد صوري والذلة وهى سواد معنوى. والمعنى: للذين أحسنوا في الدنيا المثوبة الحسنى وزيادة من فضل الله - أو العاقبة الحسنى وزيادة لا تخطر ببالهم - ولا يغشى وجوههم سواد من قتر ولا ذلة، وأولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون. قوله تعالى: (والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة) إلى آخر الاية، جملة (جزاء سيئة بمثلها) مبتدء لخبر محذوف والتقدير: لهم جزاء سيئة بمثلها من العذاب، والجملة خبر للمبتدء الذى هو قوله: (الذين كسبوا السيئات) والمراد أن الذين كسبوا السيئات لا يجزون إلا مثل ما عملوه من العقوبات السيئة فجزاء فعلة سيئة عقوبة سيئة. وقوله: (ما لهم من الله من عاصم) أي ما لهم عاصم يعصمهم من الله أي من عذابه وفيه نفى لشركائهم الذين يظنونهم شفعاء على وجه ينفى كل عاصم مانع سواء كان شريكا شفيعا أو ضدا قويا ممانعا أو أي عاصم غيرهما.
[ 44 ]
وقوله: (كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما) القطع جمع قطعة ومظلما حال من الليل، والمراد كأن الليل المظلم قسم إلى قطع فاغشيت وجوههم تلك القطع فاسودت بالتمام، والمتبادر منه أن يغشى وجه كل من المشركين بقطعة من تلك القطع لا كما فسره بعضهم أن المراد أن الوجوه أغشيت تلك القطع قطعة بعد قطعة فصارت ظلمات بعضها فوق بعض. فليس في الكلام ما يدل على ذلك. وقوله: (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) يدل على دوام بقائهم في النار للدلالة الصحابة والخلود عليه كما أن نظيره في أصحاب الجنة يدل على نظيره. قوله تعالى: (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم) إلى آخر الاية. المراد حشر جميع من سبق ذكره من المؤمنين والمشركين وشركائهم فإنه تعالى يذكر المشركين وشركاءهم في هذه الاية وما يتلوها ثم يشير إلى الجميع بقوله في الاية التالية: (هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت). وقوله: (ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم) أي الزموا مكانكم أنتم وليلزم شركاؤكم مكانهم وتفرع على هذا الخطاب أن زيلنا بينهم، وقطعنا الرابطة التى كانت تربطهم بشركائهم وهى رابطة الوهم والحسبان التى يتصلون بسببها بشركائهم فانقطعوا عن شركائهم وانقطع شركاؤهم عنهم فبان أن عبادتهم لم تقع عليهم ولم تتعلق بهم لانهم إنما عبدوا الشركاء وهم ليسوا بشركاء. والدليل على هذا الذى ذكرناه قوله تعالى بعده: (وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون) فالكلام على ظاهره من النفى الجدى الصادق لعبادتهم إياهم، وليسوا يكذبون في كلامهم هذا بدليل استنادهم إلى شهادة الله سبحانه، ولا أنهم يريدون أنا لم نكن ندعوكم إلى عبادتنا فإن الكلام لا يلائم هذا المعنى، ولا أن مرادهم التعريض لهم بأنكم كنتم تعبدون أهواءكم وشياطينكم المغوين لكم في الحقيقة فإن ذلك لا يلائم دعواهم الغفلة، وكذا لا يلائمه قوله بعده: (هنالك تبلوا
كل نفس ما أسلفت) الخ، على ما سيجئ من معناه بل مرادهم نفى العبادة حقيقة بنفى حقيقة الشركة، والاستشهاد على ذلك بشهادة الله وعلمه بغفلتهم عن عبادتهم.
[ 45 ]
والعبادة التى هي اتصال ما بالمملوكية والتذلل من العابد بالمعبود إنما تكون عبادة إذا اتصلت وارتبطت بالمعبود - حتى يتم به معنى اللام في قولنا: العبادة له - ولا يكون ذلك إلا بشعور من المعبود وعلم منه بذلك فإذا لم يتحقق هناك علم لم تتحقق عبادة حقيقة، وإنما هي صورة عبادة. فقد تبين أن المراد بقوله: (ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم) إظهاره وإبرازه تعالى يومئذ حقيقة الامر الذى سترت عليه الاوهام وحجبته الاهواء في الدنيا وهو أن حقيقة المولوية ومالكية زمان التدبير لله سبحانه وليس لغيره من المولوية والربوبية شئ حتى يصح الالتجاء إليه وتصدق عبادته. فإذا كشف الله الغطاء عن وجه هذه الحقيقد يومئذ بأن للمشركين أن شركاءهم لم يكونوا شركاء ولا معبودين لهم في الحقيقة - لغفلتهم عن عبادتهم، وإنما كانوا يأتون لهم بصورة العبادة التى كان الوهم والهوى يصور انها عبادة وليست بها. وإليه يشير أيضا قوله تعالى: (وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون) النحل: 86. وقد تبين بذلك أيضا أن قوله: (وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون) قول من شركائهم لهم على الجد والحقيقه، ويظهر به فساد قول بعضهم: المراد أنكم لم تعبدونا بأمرنا ودعائنا لا أنكم لم تعبدونا أصلا لان ذلك كذب لا يجوز أن يقع في الاخرة لكونهم ملجئين فيها إلى ترك القبيح. فإن نفى أصل العبادة بما عرفت من معناه هو حق الصدق، وإثبات العبادة وإن لم يكن كذبا إلا أنه لا يخلو عن مجاز في الجملة بالنظر إلى حقيقة الامر على أن
ما ذكره أن المراد نفى العبادة بأمرهم ودعوتهم معنى لا دليل عليه من جهة اللفظ. على أن الكذب إنما لا يقع في الاخرة إذا كان عملا وكسبا وأما بمعنى نتيجة الملكات الدنيوية فلا مانع من إمكانه بل هو واقع كما يحكيه تعالى في قوله: (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم) الانعام: 24 وغيره من الايات.
[ 46 ]
وكذا قول بعضهم: إن المراد ما كنتم تخصوننا بالعبادة، وإنما كنتم تعبدون اهواءكم وشهواتكم وشياطينكم المغوية لكم - فإن صدق عبادة الاهواء والشيطان على عملهم من جهة انه اتباع للهوى والشيطان لا ينفى عنه صدق كونه عبادة للاصنام كما انه تعالى يصدق في كلامه الجهات الثلاث جميعا، قال تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم) يونس: 18، وقال: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) الجاثية: 23، وقال: (أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين) يس: 60. ومن المعلوم أن الشركاء يحتجون لنفى كونهم معبودين لهم لا لاثبات كون الهوى والشيطان معبودين لهم مع الشركاء فإن هذا لا ينفعهم في الحجة البتة، ويستلزم لغوية إثباتهم الغفلة لانفسهم في قولهم: (إن كنا عن عبادتكم لغافلين) لان الاهواء أيضا ما كانت شاعرة بعبادتهم كما أن الاصنام وهى أجسام ميتة كذلك. ولعل القائل اعتمد في قوله على الحصر المفهوم من قوله: (ما كنتم إيانا تعبدون) بتقديم المفعول على فعله، وظاهره أنه قصر قلب مدلوله نفى المعبودية عن أنفسهم وإثباته لغيرهم، ليس نفيا لاصل العبادة فإنهم يثبتونها في قولهم: (عن عبادتكم) فإن إضافة المصدر إلى معموله يفيد الثبوت. لكن الحق أن هؤلاء الشركاء إنما قالوا لهم: (ما كنتم إيانا تعبدون) تجاه ما قاله المشركون على ما حكاه الله: (ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك)
النحل: 86 فنفوا عبادتهم عن الله سبحانه وأثبتوها للشركاء، والشركاء لم يكن ينفعهم إلا نفى عبادة المشركين عن أنفسهم، وأما أنها ثابتة لمن ؟ فلا غرض لهم يتعلق بذلك وإنما همهم تنزيه أنفسهم عن دعوى الشركة، وقد احتجوا على ذلك بإثبات الغفلة عن ذلك لانفسهم، ولو كانوا شاعرين بعبادتهم وعبدوهم كان لزمهم أعنى الشركاء دعوى الشركة. قوله تعالى: (فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم) إلى آخر الاية، ظهر معناه بما مر من التقرير، والفاء في قوله: (فكفى بالله) يفيد التعليل كقولنا: ا عبد الله فهو ربك، وهو شائع في الكلام. قوله تعالى: (هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت) إلى آخر الاية، البلاء
[ 47 ]
الاختبار، والاشارة بقوله: (هنالك) الى الموقف الذى ذكره بقوله: (ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم). فذلك الموقف موقف تختبر وتمتحن كل نفس ما أسلفت وقدمت من الاعمال فتنكشف لها حقيقة أعمالها وتشاهدها مشاهدة عيان لا مجرد الذكر أو البيان، وبمشاهدة الحق من كل شئ عيانا ينكشف أن المولى الحق هو الله سبحانه، وتسقط وتنهدم جميع الاوهام، وتضل جميع الدعاوى التى يفتريها الانسان بأوهامه وأهوائه على الحق. فهذه الافتراءات والدعاوى جميعا إنما نشأت من حيث الروابط التى نضعها في هذه الدنيا بين الاسباب والمسببات والاستقلال والمولوية التى نعطيها الاسباب ولا إله إلا الله ولا مولى حقا إلا هو سبحانه فإذا انجلت حقيقة الامر، وانكشف غيم الوهم وانهتك حجاب الدعاوى ظهر أن لا مولى حقا إلا هو سبحانه، وبطل جميع الالهة التى إنما أثبتها الافتراء من الانسان، وسقطت وحبطت جميع الاعمال
إلا ما عبد به الله سبحانه عبادة حق. فالفقرات الثلاث من الاية أعنى قوله: (تبلوا كل نفس) الخ، وقوله: (ردوا إلى الله) الخ، وقوله: (وضل عنهم) الخ، كل منها تعين الاخريين على إفادة حقيقة معناها، ومحصل مفاد المجموع ظهور حقيقة الولاية الالهية يومئذ ظهور عيان وأن ليس لغيره تعالى إلا الفقر والمملوكية المحصنة فيبطل عند ذلك كل دعوى باطلة وينهدم بنيان الاوهام. كما يشير إلى ذلك قوله: (هنالك الولاية لله الحق) الكهف: 44، وقوله: (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) المؤمن: 16، وقوله: (والامر يومئذ لله) الانفطار: 19، إلى غير ذلك.
[ 48 ]
(بحث روائي) في أمالى المفيد بإسناده إلى ابى إسحاق الهمداني عن امير المؤمنين عليه السلام فيما كتب إلى محمد بن ابى بكر حين ولاه مصر وأمره أن يقرأه على الناس، وفيما كتب: قال الله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) والحسنى هي الجنة والزيادة هي الدنيا. وفي تفسير القمى في رواية ابى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام في الاية: فأما الحسنى فهى الجنة، وأما الزيادة فالدنيا ما أعطاهم الله في الدنيا يحاسبهم الله في الاخرة، ويجمع الله لهم ثواب الدنيا والاخرة. الحديث. أقول: والروايتان ناظرتان إلى المعنى الاول الذى قدمناه في البيان المتقدم وروى ما في معنى الثاني الطبرسي في المجمع عن الباقر عليه السلام. وفي تفسير البرهان روى في نهج البيان عن على بن إبراهيم قال: قال: الزيادة هبة الله عزوجل.
وفي الدر المنثور أخرج الدار قطني وابن مردويه عن صهيب في الاية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الزيادة النظر إلى وجه الله. أقول: وروى هذا المعنى بعدة طرق من طرق أهل السنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد تقدم توضيح معناها في تفسير قوله تعالى: (رب أرنى أنظر إليك) الاعراف: 143 في الجزء الثامن من الكتاب. وفي الكافي بإسناده عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليه السلام في قوله: (كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما) قال: أما ترى البيت إذا كان الليل كان أشد سوادا من خارج فكذلك وجوههم يزدادون سوادا. أقول: ورواه العياشي عن أبى بصير عنه عليه السلام وكأنه عليه السلام يريد تفسير القطع من الليل الواقعة في الاية.
[ 49 ]
وفي الدر المنثور أخرج أبو الشيخ عن السدى في قوله: (وردوا إلى الله مولاهم الحق) قال: نسختها قوله: (مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم). أقول: وهو من أسخف القول بل الايتان ناظرتان إلى جهتين مختلفتين من المعنى وهما الظاهر والباطن. * * * قل من يرزقكم من السماء والارض امن يملك السمع والابصار ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ومن يدبر الامر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون - 31. فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون - 32. كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون 33. قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده قل الله يبدؤا الخلق ثم
يعيده فأنى تؤفكون - 34. قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق قل الله يهدى للحق أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع امن لا يهدى إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون - 35. وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغنى من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون - 36.
[ 50 ]
حجج ساطعة على توحيده تعالى في الربوبية يأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بإقامتها على المشركين، وهى ثلاث حجج مرتبة بحسب الدقة والمتانة فالحجة الاولى تسلك من الطريق الذى يعتبره الوثنيون وعبدة الاصنام فإنهم إنما يعبدون أرباب الاصنام بأصنامهم من جهة تدبيرهم للكون فيعبدون كلا منهم لاجل ما يخص به من الشأن، وما يرجع إليه من التدبير ليرضى بذلك عمن يعبده فيفيض عليه بركاته أو ليؤمنه فلا يرسل إليه سخطه وعقابه كما كان يعبد سكان السواحل رب البحر، وأهل الجبال وأهل البر وأهل العلوم والصنائع وأهل الحروب والغارات وغيرهم كل يعبد من يناسب تدبيره الشأن الذى يهمه ليرضى عنه ربه فيبارك عليه برضاه أو يكف عنه غضبه. ومحصل الحجة ان تدبير العالم الانساني وسائر الموجودات جميعا يقوم به الله سبحانه لا غير على ما يعترفون به فمن الواجب ان يوحدوه بالربوبية ولا يعبدوا إلا اياه. والحجة الثانية ما يعتبره عامة المؤمنين، وذلك انهم لا يلتفتون كثيرا إلى زخارف هذه النشأة من لذائذ المادة، وانما جل اعتنائهم بالحياة الدائمة الاخروية التى تتعين سعادتها وشقاوتها بالجزاء الالهى بأعمالهم فإذا قامت البينة العقلية على الاعادة كالبدء كان من الواجب ان لا يعبد إلا الله سبحانه، ولا يتخذ ارباب من دونه طمعا في ثوابه وخوفا من عقابه.
والحجة الثالثة وهى التى تحن إليها قلوب الخاصة من المؤمنين وهى ان المتبع عند العقل هو الحق، ولما كان الحق سبحانه هو الهادى إلى الحق دون ما يدعونه من الارباب من دون الله فليكن هو المتبع دون ما يدعونه من الارباب، وسيأتى في تفسير الايات توضيح هذه الحجج الثلاث بما تنجلي به مزيد انجلاء ان شاء الله. ولو لا اعتبار هذه النكتة كان الظاهر ان تذكر اولا الحجة الثانية ثم الثالثة ثم الاولى أو تذكر الثانية ثم يجمع بين الاولى والثالثة فيذكر بعدها.
[ 51 ]
قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والارض أمن يملك السمع والابصار) إلى آخر الاية. الرزق هو العطاء الجارى، ورزقه تعالى للعالم الانساني من السماء هو نزول الامطار والثلوج ونحوه، ومن الارض هو بانباتها نباتها وتربيتها الحيوان ومنهما يرتزق الانسان، وببركة هذه النعم الالهية يبقى النوع الانساني و المراد بملك السمع والابصار كونه تعالى متصرفا في الحواس الانسانية التى بها ينتظم له انواع التمتع من الارزاق المختلفة التى اذن الله تعالى ان يتمتع بها فانما هو يشخص ويميز ما يريده مما لا يريده باعمال السمع والبصر واللمس و الذوق والشم فيتحرك نحو ما يريده، ويتوقف أو يفر مما يكرهه بها. فالحواس هي التى تتم بها فائده الرزق الالهى، وانما خص السمع والبصر من بينها بالذكر لظهور آثارهما في الاعمال الحيوية اكثر من غيرهما، والله سبحانه هو الذى يملكهما ويتصرف فيهما بالاعطاء والمنع والزيادة والنقيصة. وقوله: (ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى) الحياة بحسب النظر البادئ في الانسان هي المبدء الذى يظهر به العلم والقدرة في الشئ فيصدر اعماله عن العلم والقدرة ما دامت الحياة، وإذا بطلت بطل الصدور كذلك. ثم اكتشف من طريق النظر العلمي ان ذلك لا يختص باقسام الحيوان كما كان
يعطيه النظر الابتدائي فان الملاك الذى كان يوجب للحيوان كونه ذا حياة - وهو كونه ذا نفس يصدر عنها اعمال مختلفة لا على وتيرة واحدة طبيعية كحركته إلى جهات مختلفة بحركات مختلفة وسكونه من غير حركة - موجود في النبات. وكذلك الابحاث الجارية على الطرق الحديثة تعطى ذلك فان جراثيم الحياة الموجودة في الحيوان التى إليها تنتهى اعماله الحيوية توجد في النبات نظيرها فهو ذو حياة كمثل الحيوان فالنظر العلمي على أي حال يهدى إلى عموم الحياة لجميع انواع الحيوان والنبات. ثم الحياة وهى تقابل الموت الذى هو بطلان مبدء الاعمال الحيوية تعود بحسب التحليل إلى كون الشئ بحيث تترتب عليه آثاره المطلوبة منه كما ان الموت عدم كونه كذلك فحياة الارض هي كونها نابتة مخضرة وموتها خلافه، وحياة العمل
[ 52 ]
كونه بحيث ينتهى إلى الغرض الذى اتى به لاجله وموته خلافه، وحياة الكلمة كونها بحيث تؤثر في السامع اثرا مطلوبا وموتها خلافه، وحياة الانسان كونه جاريا على ما تهدى إليه الفطرة الانسانية ككونه ذا عقل سليم ونفس زاكية، ولذا عد القرآن الشريف الدين حياة للانسان لانه يرى ان الدين الحق وهو الاسلام هو الفطرة الالهية. إذا تبين هذا اتضح أن خروج الحى من الميت وخروج الميت من الحى يختلف معناه بحسب اختلاف المراد بالحياة والموت فعلى النظرتين الاوليين هو خروج الحيوان أو الحيوان والنبات بالكينونة من غيرها كالمني والبيضة والبذر فان الحى كما لا تدوم له هذه الحياة بقاء إلى غير النهاية لا تذهب ايضا بحسب البدء في حياة غير متناهية ولا طريق إلى اثباته، وخروج اجزاء غير ذات حياة من الحيوان أو الحيوان والنبات بالانفصال.
وعلى النظرة الاخيرة اعني نظرة تعميم الحياة لكل ما يترتب عليه آثارها المطلوبة منها هو ان يخرج من الامور غير المفيدة في باب امور مفيدة في ذلك الباب بالكينونة والتولد كخلق الانسان الحى والحيوان الحى والنبات الحى من التراب الميت وبالعكس، وكخروج الانسان العاقل الصالح من الانسان الذى لا عقل له ولا صلاح وبالعكس، وخروج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن. وظاهر الاية الكريمة بالنظر إلى سياقها ومقام المخاطبة فيها ان يكون المراد باخراج الحى من الميت وبالعكس فيها هو هذا المعنى الاخير، وذلك أن الاية تقيم الحجة على المشركين من المسلك الذى كانوا يسلكونه في الاحتجاج على اتخاذ الالهة المختلفة وهو ان العالم المشهود مجموعة من موجودات مختلفة متشتة علوية وسفلية والسفلية من انسان وحيوان ونبات وبحر وبر وامور وراء ذلك كثيرة، وكل منها تحت تدبير مدبر شفيع عند الله نعبده بعبادة صنمه ليقربنا إلى الله زلفى وبالجملة انتهاء التدبيرات على اختلافها إلى مدبرات مختلفة يوجب وجود ارباب من دون الله كثيرة. والاية ترد عليهم حجتهم ببيان انتهاء التدبيرات المختلفة إليه تعالى وان ذلك
[ 53 ]
يدل على أن الله سبحانه رب كل شئ وحده، فهى تخاطبهم بأنكم تعترفون بأن ما يخصكم من التدبير كرزقكم وما يعمكم وغيركم منه ينتهى إلى الله سبحانه فهو المدبر لامركم وأمر غيركم فهو الرب لا رب سواه. وقد بدأت في التعداد بما يخص الانسان أعنى قوله: (قل من يرزقكم من السماء والارض) وختمت بمايعمه وغيره اعني قوله: (ومن يدبر الامر) وظاهر السياق أن يكون المراد بقوله: (أمن يملك السمع والابصار ومن يخرج الحى من الميت) هو التدبير الخاص بالانسان فيكون المراد ملك السمع والابصار التى لافراد
الانسان، وكذا اخراج الحى من الانسان من ميته وبالعكس، وقد تبين ان الحياة المخصوصة بالانسان هو كونه ذا نعمة العقل والدين. فالمراد باخراج الحى من الميت وبالعكس - والله اعلم - اخراج الانسان الحى بالسعادة الانسانية من الانسان الميت الذى لا سعادة له وبالعكس. فالله سبحانه يلقن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم الحجة على توحيده بالربوبية فأمره بقوله: (قل) ان يقول لهم في سياق الاستفهام (من يرزقكم من السماء والارض) بالامطار والانبات والتكوين (أمن يملك السمع والابصار) منكم فتتم بهما فائدة رزقكم حيث ترتزقون بتشخيصهما من طيبات الرزق، ولولاهما لم توفقوا لذلك وفنيتم عن آخركم (ومن يخرج الحى من الميت) أي كل امر مفيد في بابه من غيره (ويخرج الميت من الحى) فيتولد الانسان السعيد من الشقى والشقى من السعيد (ومن بر الامر) في جميع الخليقة. (فسيقولون الله) اعترافا بأنه الذى ينتهى إليه جميع هذه التدبيرات في الانسان وغيره لان الوثنيين يعتقدون ذلك فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يوبخهم اولا على ترك تقوى الله بعبادة غيره مع ظهور الحجة ثم يستنتج لهم من الحجة وجوب توحيده تعالى فقال: (فقل أفلا تتقون) ثم قال: (فذلكم الله ربكم). قوله تعالى: (فذلكم الله ربكم الحق فما ذابعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون) الجملة الاولى نتيجة الحجة السابقة، وقد وصف الرب بالحق ليكون توضيحا لمفاد الحجة، وتوطئة وتمهيدا لقوله بعده: (فما ذا بعد الحق إلا الضلال).
[ 54 ]
وقوله: (فما ذا بعد الحق إلا الضلال) أخذ بلازم الحجة السابقة لاستنتاج أنهم ضالون في عبادة الاصنام فانه إذا كانت ربوبيته تعالى حقة فان الهدى في اتباعه وعبادته فان الهدى مع الحق لا غير فلا يبقى عند غيره الذى هو الباطل إلا الضلال.
فتقدير الكلام: فماذا بعد الحق الذى معه الهدى إلا الباطل الذى معه الضلال فحذف من كل من الطرفين شئ وأقيم الباقي مقامه ايجازا، وقيل: فماذا بعد الحق إلا الضلال، ولذا قال بعضهم: ان في الاية احتباكا - وهو من المحسنات البديعية - وهو أن يكون هناك متقابلان فيحذف من كل منهما شئ يدل عليه الاخر فان تقدير الكلام: فما ذا بعد الحق إلا الباطل ؟ وما ذا بعد الهدى إلا الضلال ؟ فحذف الباطل من الاول والهدى من الثاني وبقى قوله: فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ والوجه هو الذى قدمناه. ثم تمم الاية بقوله: (فأنى تصرفون) أي إلى متى تصرفون عن الحق الذى معه الهدى إلى الضلال الذى مع الباطل. قوله تعالى: (كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا انهم لا يؤمنون) ظاهر السياق ان الكلمة التى تكلم الله سبحانه بها على الفاسقين هي انهم لا يؤمنون أي أنه سبحانه قضى عليهم قضاء حتما وهو ان الفاسقين - وهم على فسقهم - لا يؤمنون ولا تنالهم الهداية الالهية إلى الايمان، وقد قال تعالى: (والله لا يهدى القوم الفاسقين) المائدة: 108. وعلى هذا فالاشارة بقوله: (كذلك) إلى ما تحصل من الاية السابقة: ان المشركين صرفوا عن الحق وفسقوا عنه فوقعوا في الضلال إذ ليس بعد الحق إلا الضلال. فمعنى قوله: (كذلك حقت كلمة ربك) الخ، ان الكلمة الالهية والقضاء الحتمى الذى قضى به في الفاسقين - هو أنهم لا يؤمنون - هكذا حقت وثبتت في الخارج واخذت مصداقها وهو انهم خرجوا عن الحق فوقعوا في الضلال أي إنا لم نقض عدم هدى الفاسقين وعدم إيمانهم ظلما ولا جزافا وانما قضينا ذلك لانهم صرفوا عن الحق وفسقوا فوقعوا في الضلال ولا واسطة بينهما فافهم ذلك.
[ 55 ]
وفي الاية دلالة على ان الامور الضرورية والاحكام والقوانين البينة التى تجرى في النظام المشهود كقولنا: لا واسطة بين الحق والباطل ولا بين الهدى والضلال لها نوع استناد إلى القضاء الالهى، وليست ثابتة في ملكه تعالى من تلقاء نفسها. وربما ذكر بعض المفسرين: أن المراد بالكلمة في الاية كلمة العذاب وقوله: (أنهم لا يؤمنون) في موضع التعليل بتقدير لامه، والتقدير كثبوت هذه الحجة عليهم حقت كلمة ربك على الذين فسقوا وهى وعيدهم بالعذاب وانما حقت عليهم العذاب لانهم لا يؤمنون. ولا يخلو عن سقم فان وجه الشبه غير ظاهر ولا متفق فيهما فالحجة ثابتة عليهم بذاتها وأما العذاب فليس ثبوته كذلك بل لامر آخر وهو انهم لا يؤمنون. والحجة - كما سمعت في البيان المتقدم - حجة ساذجة يعترف بحقيتها الوثنية، وقد صرفوها عن وجهها وأقاموا على ما يدعونها من ربوبية اربابهم واستحقاقها للعبادة من دون الله حيث قالوا: ان تدبير كل شأن من شؤون العالم العامة إلى واحد من هذه الارباب فهو رب ذلك الشأن، وانما نعبد اصنامها وتماثيلها لنرضيها بذلك فتشفع لنا عند الله بما لها من القرب عنده. فأخذت الاية اعترافهم بأن هذه التدابير لله سبحانه - وكيف لا تكون له وهو خالق الكل ومبقيها ؟ - فله سبحانه وحده حقيقة الربوبية وهو المستحق للعبادة لا غيره. قوله تعالى: (قل هل من شركائكم من يبدء الخلق ثم يعيده) إلى آخر الاية. تلقين للاحتجاج من جهة المبدء والمعاد فان الذى يبدء كل شئ ثم يعيده يستحق ان يعبده الانسان اتقاء من يوم لقائه ليأمن من أليم عذابه وينال عظيم ثوابه يوم المعاد. ولما كان المشركون - وهم المخاطبون بالحجة - غير قائلين بالمعاد أمر تعالى
نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان يتصدى جواب سؤاله بنفسه وقال: (قل الله يبدء الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون) وإلى متى تصرفون عن الحق.
[ 56 ]
وليس اعتماد الاية على مسألة الابداء والاعادة في احتجاجها اعتمادا على مقدمة غير بينة ولا مبينة فقد احتج عليها في كلامه تعالى من طرق مختلفة كالاحتجاج من طريق لزوم الغاية في فعله، ومن طريق وجوب الجزاء على الاعمال في العدل وغير ذلك وقد نفى سبحانه الريب عن البعث والقيامة فيما يبلغ عشر مواضع من كلامه. والحجة - كما تقدم الايماء إليه - حجة عامة المؤمنين الذين يعبدونه تعالى خوفا من العقاب أو رغبة في الثواب الذى اعد لهم يوم القيامة. قوله تعالى: (قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق قل الله يهدى للحق) إلى آخر الاية، يهدى للحق وإلى الحق بمعنى واحد فالهداية تتعدى بكلتا الحرفين، وقد ورد تعديتها باللام في مواضع كثيرة من كلامه تعالى كقوله: (أو لم يهدلهم) الم السجدة: 26، وقوله: (يهدى للتى هي اقوم) اسرى: 9 إلى غير ذلك فما ذكره بعضهم من كون اللام في قوله: (يهدى للحق) للتعليل ليس بشئ. لقن سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم هذه الحجة وهى ثالثة الحجج، وهى حجة عقلية يعتمد عليها الخاصة من المؤمنين، وتوضيحها ان من المرتكز في الفطرة الانسانية وبه يحكم عقله ان من الواجب على الانسان ان يتبع الحق حتى انه ان انحرف في شئ من اعماله عن الحق واتبع غيره لغلط أو شبهة أو هوى فانما اتبعه لحسبانه اياه حقا والتباس الامر عليه، ولذا يعتذر عنه بما يحسبه حقا فالحق واجب الاتباع على الاطلاق ومن غير قيداو شرط. والهادي إلى الحق واجب اتباعه لما عنده من الحق، ومن الواجب ترجيحه على من لا يهدى إليه أو يهدى إلى غيره لان اتباع الهادى إلى الحق اتباع لنفس الحق
الذى معه وجوب اتباعه ضروري. وقد اعتمد في الحجة على هذه المقدمة الضرورية فافتتح الكلام فيها بسؤالهم عن شركائهم هل فيهم من يهدى إلى الحق ؟ ومن البين ان لا جواب للمشركين في ذلك مثبتا إذ شركاؤهم سواء أكانوا جمادا غير ذى حياة كالاوثان والاصنام ام كانوا من الاحياء كالملائكة وأرباب الانواع والجن والطواغيت من فرعون ونمرود وغيرهما لا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.
[ 57 ]
واذ لم يكن لهم في ذلك جواب مثبت فانهم لا يجيبون، ولذلك امر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يخلفهم في الجواب فيجيب في ذلك - اعني الهداية إلى الحق - باثباتها لله سبحانه فقيل: (قل الله يهدى للحق) فان الله سبحانه هو الذى يهدى كل شئ إلى مقاصده التكوينية والامور التى يحتاج إليها في بقائه كما في قوله: (ربنا الذى اعطى كل شئ خلقه ثم هدى) طه: 50، وقوله: (الذى خلق فسوى والذى قدر فهدى) الاعلى: 3 وهو الذى يهدى الانسان إلى سعادة الحياة ويدعوه إلى الجنة والمغفرة باذنه بارسال الرسل وانزال الكتب وتشريع الشرائع، وأمرهم ببث الدعوة الحقة الدينية بين الناس. وقد مر في تفسير قوله تعالى: (الحق من ربك فلا تكن من الممترين) آل عمران: 60 أن الحق من الاعتقاد والقول والفعل انما يكون حقا بمطابقة السنة الجارية في الكون للذى هو فعله فالحق بالحقيقة انما يكون حقا بمشيته وارادته. واذ تحقق انه ليس من شركائهم من يهدى إلى الحق، وان الله سبحانه يهدى إلى الحق سألهم بقوله: (أفمن يهدى إلى الحق أحق ان يتبع امن لا يهدى إلا ان يهدى) ؟ ان يقضوا في الترجيح بين اتباعه تعالى واتباع شركائهم وهو تعالى يهدى إلى الحق وهم لا يهدون ولا يهتدون إلا بغيرهم، ومن المعلوم ان الرجحان لمن يهدى
على من لا يهدى أي لاتباعه تعالى على اتباعهم، والمشركون يحكمون بالعكس، ولذلك لامهم ووبخهم بقوله: (فما لكم كيف تحكمون) ؟ والتعبير في الترجيح في قوله: (أحق أن يتبع) بأفعل التفضيل الدال على مطلق الرجحان دون التعين والانحصار مع أن اتباعه تعالى حق لا غير واتباعهم لا نصيب له من الحق انما هو بالنظر إلى مقام الترجيح، وليسهل بذلك قبولهم للقول من غير إثارة لعصبيتهم وتهييج لجهالتهم. وقد أبدع تعالى في قوله (أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى إلا أن يهدى والقراءة الدائرة: (لا يهدى) بكسر الهاء وتشديد الدال وأصله يهتدى، وظاهر قوله: (لا يهدى إلا أن يهدى) وقد حذف متعلقات الفعل فيه أنه إنما يهتدى بغيره لا بنفسه.
[ 58 ]
والكلام قد قوبل فيه قوله: (يهدى إلى الحق) بقوله: (من لا يهدى) مع أن الهداية إلى الحق يقابلها عدم الهداية إلى الحق، وعدم الاهتداء إلى الحق يقابله الاهتداء إلى الحق فلازم هذه المقابلة الملازمة بين الاهتداء بالغير وعدم الهداية إلى الحق، وكذا الملازمة بين الهدايد إلى الحق والاهتداء بالذات فالذي يهدى إلى الحق يجب أن يكون مهتديا بنفسه لا بهداية غيره والذى يهتدى بغيره ليس يهدى إلى الحق أبدا. هذا ما تدل عليه الاية بحسب ظاهرها الذى لا ريب فيه وهو أعدل شاهد على أن الكلام موضوع فيها على الحقيقة دون التجوزات المبنية على المساهلة التى نبنى عليها ونداولها فيما بيننا معاشر أهل العرف فننسب الهدايد إلى الحق إلى كل من تكلم بكلمة حق ودعا إليها وإن لم يعتقد بها أو اعتقد ولم يعمل بها أو عمل ولم يتحقق بمعناها، وسواء اهتدى إليها بنفسه أو هداه إليها غيره.
بل الهداية إلى الحق أعنى الايصال إلى صريح الحق ومتن الواقع ليس إلا لله سبحانه أو لمن اهتدى بنفسه أي هداه الله سبحانه من غير واسطة تتخلل بينه وبينه فاهتدى بالله وهدى غيره بأمر الله سبحانه، وقد تقدمت نبذة من الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) الاية البقرة: 124. وقد تبين بما قدمناه في معنى الاية أمور: أحدها: أن المراد بالهداية إلى الحق ما هو بمعنى الايصال إلى المطلوب دون ما هو بمعنى إراءة الطريق المنتهى إلى الحق فإن من الضرورى أن وصف طريق الحق يتأتى من كل أحد سواء اهتدى إلى الحق بنفسه أو بغيره أو لم يهتد. وثانيها: أن المراد بقوله: (من لا يهدى إلا أن يهدى) من لا يهتدى بنفسه، وهذا أعم من أن يكون ممن يهتدى بغيره أو يكون ممن لا يهتدى أصلا، لا بنفسه ولا بغيره كالاوثان والاصنام التى هي جماد لا يقبل هداية من غيره، وذلك أن قوله: (إلا أن يهدى) استثناء من قوله: (من لا يهدى) الاعم من أن لا يهتدى أصلا أو يهتدى بغيره، والمأخوذ في قوله: (أن يهدى) فعل دخلت عليه أن المصدرية
[ 59 ]
المؤولة إلى المصدر، والجملة الفعلية المؤولة إلى المصدر كذلك لا يدل على التحقق بخلاف المصدر المضاف إلى معموله ففرق بين قوله: (أن تصوموا خير لكم) البقرة: 184 فلا يدل على الوقوع وبين نحو قوله: (إن كنا عن عبادتكم لغافلين) يونس: 29 فيدل على الوقوع، ويقال: ضربك زيدا عجيب إذا ضربته، وأن تضرب زيدا عجيب إذا هممت أن تضربه. فقوله: (من لا يهدى إلا أن يهدى) معناه من لا يكون هداه من نفسه إلا أن تأتيه الهداية من ناحية الغير، ومن المعلوم أنها إنما تأتيه من الغير إذا كان في طبعه
أن يقبل ذلك، وأما إذا لم يقبل فإنما يبقى له من الوصف أنه لا يهتدى فافهم ذلك. وللمفسرين في معنى هذا الاستثناء أقوال عجيبة: منها: أنه استثناء مفرغ من أعم الاحوال لان من نفى عنهم الهداية: ممن اتخذوا شركاء لله تعالى يشمل المسيح عيسى بن مريم وعزيرا والملائكة عليهم السلام، وهؤلاء كانوا يهدون إلى الحق بهداية الله ووحيه كما قال تعالى في الانبياء من سورتهم: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) الانبياء: 73. وفيه: أن محصله: أن المعنى لا يهدى إلا أن يهديه الله تعالى فيهدى غيره بعد اهتدائه بهدايته تعالى، وقد اختل عليه معنى الاية من أصله فإن من لا يهتدى إلى الحق بنفسه لا يتأتى له أن يهدى إلى الحق فإنه إنما يماس الحق من وراء حجاب فكيف يوصل إليه ؟ على ان ما ذكره لا ينطبق على الاصنام التى هي مورد الاحتجاج في الاية فانها لا تقبل الهدايد من اصلها، وقد ذكر المسيح وعزيرا وهما ممن قدسته النصارى واليهود وليس وجه الكلام في الاية إليهم وان شملتهما وغيرهما الاية بحسب عموم الملاك. ومنها: ان الاستثناء منقطع والمراد بمن لا يهدى الاصنام التى لا تقبل الهداية اصلا فحسب، والمعنى: ام من لا يهتدى اصلا كالاصنام إلا ان يهديه الله فيهتدى حينئذ.
[ 60 ]
وفيه: أنه لا يفى بتوجيه المقابلة التى بين قوله: (من يهدى إلى الحق) وقوله: (من لا يهدى) فان الهداية إلى الحق والاهتداء إليه لا يتقابلان إلا ان يؤول المعنى إلى مثل قولنا: أفمن يهدى إلى الحق أحق ان يتبع ام من لا يهتدى أصلا إلا ان يهديه الله فيهتدى فيهدى غيره، ويرد عليه انه لا وجه حينئذ لتخصيصه بمثل الاصنام ممن لا يهتدى اصلا حتى يصير الاستثناء منقطعا بل يعم ما لا يهتدى
اصلا لا بنفسه ولا بغيره، ومن لا يهتدى بنفسه ويهتدى بغيره كالملائكة مثلا، ويرد عليه ما ورد على الوجه السابق. ومنها: أن المراد بمن لا يهدى الاصنام التى لا تقبل الهداية و (إلا) بمعنى حتى والمعنى لا يهتدى ولا يقبل الهداية حتى يهدى. وفيه: ان الترديد يرجع حينئذ إلى مثل قولنا: أفمن يهدى إلى الحق أحق ان يتبع ام من لا يهتدى اصلا حتى يهدى إلى الحق، ويعود الاستثناء مستدركا لا يتعلق به غرض في الكلام. مضافا إلى أن مجئ إلا بمعنى حتى غير ثابت وعلى تقدير ثبوته قليل في الكلام لا يحمل على مثله افصح الكلام. ومنها: أن المراد بمن لا يهدى إلا ان يهدى الملائكة والجن ممن يعبدون من دون الله وهم يقبلون الهداية من الله وان لم يهتدوا من عند انفسهم أو المراد الرؤساء المضلون الذين يدعون إلى الكفر فانهم وان لم يهتدوا لكنهم يقبلون الهداية ولو هدوأ إلى الحق لهدوا إليه. وفيه: ان الايات واقعة في سياق الاحتجاج على عبدة الاصنام، والقول بأن المراد بمن لا يهدى إلا ان يهدى الملائكة والجن أو الرؤساء المضلون يخرجها عن صلاحية الانطباق على المورد. وثالثها: أن الهداية إلى الحق بمعنى الايصال إليه انما هي شأن من يهتدى بنفسه أي لا واسطة بينه وبين الله سبحانه في أمر الهداية اما من بادئ أمره أو بعناية خاصة من الله سبحانه كالانبياء والاوصياء من الائمة، وأما الهداية بمعنى اراءة
[ 61 ]
الطريق ووصف السبيل فلا يختص به تعالى ولا بالائمة من الانبياء والاوصياء كما يحكيه الله تعالى عن مؤمن آل فرعون إذ يقول: (وقال الذى آمن يا قوم اتبعونى اهدكم سبيل الرشاد) المؤمن: 38، وقال: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما
كفورا) الانسان: 3. وأما قوله تعالى خطابا للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وهو امام: (إنك لا تهدى من احببت ولكن الله يهدى من يشاء) القصص: 56 وغيره من الايات فهى مسوقة لبيان الاصالة والتبع كما في آيات التوفى وعلم الغيب ونحو ذلك مما سيقت لبيان ان الله سبحانه هو المالك لها بالذات والحقيقة، وغيره يملكها بتمليك الله ملكا تبعيا أو عرضيا، ويكون سببا لها باذن الله، قال تعالى: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) الانبياء: 73 وفي الاحاديث اشارة إلى ذلك وان الهداية إلى الحق شأن النبي وأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم وقد مر بعض الكلام في الهداية فيما تقدم. وقوله في ذيل الاية: (فما لكم كيف تحكمون) استفهام للتعجيب استغرابا لحكمهم باتباع شركائهم مع حكم العقل الصريح بعدم جواز اتباع من لا يهتدى ولا يهدى إلى الحق. قوله تعالى: (وما يتبع اكثرهم إلا ظنا ان الظن لا يغنى من الحق شيئا) أغنى يغنى يتعدى بمن وعن كلتيهما وقد جاء في الكلام الالهى بكل من الوجهين فعدى بمن كما في الاية، وبعن كما في قوله: (ما أغنى عنى ماليه) الحاقة: 29. وإنما نسب اتباع الظن إلى أكثرهم لان الاقل منهم وهم أئمة الضلاله على يقين من الحق، ولم يؤثروا عليه الباطل و يدعواإليه إلا بغيا كما قال تعالى: (وما اختلف فيه إلا الذين اوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم) البقرة: 213. وأما الاكثرون فإنما اتبعوا آباءهم تقليدا لهم لحسن ظنهم بهم. وقوله: (إن الله عليم بما يفعلون) تعليل لقوله: (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا) والمعنى أن الله عليم بما يأتونه من الاعمال يعلم أنها اتباع للظن
[ 62 ]
* * *
وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين - 37. أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين - 38. بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين - 39. ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين - 40. وإن كذبوك فقل لى عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون - 41. ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون - 42. ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدى العمى ولو كانوا لا يبصرون - 43. إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون - 44. ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين - 45.
[ 63 ]
(بيان) رجوع إلى أمر القرآن وأنه كتاب منزل من عند الله لا ريب فيه وتلقين الحجة في ذلك، وللايات اتصال بما تقدمها من قوله: (قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق قل الله يهدى للحق) الاية، فقد تقدم أن من هدايته تعالى إلى الحق هدايته الناس إلى دينه الذى يرتضيه من طريق الوحى إلى انبيائه والكتب التى أنزلها إليهم ككتب نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، وهذه الايات تذكرها وتقيم الحجة على أن القرآن منها هاد إلى الحق، ولذلك أشير إليها معه حيث قيل:
(ولكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين). وفي آخر الايات الرجوع إلى ذكر الحشر وهو من مقاصد السورة كما تقدم. قوله تعالى: (وما كان هذا القرآن ان يفترى من دون الله) إلى آخر الاية، قد تقدمت الاشارة إلى ان نفى صفة أو معنى بنفى الكون يفيد نفى الشأن والاستعداد، وهو أبلغ من نفيه نفسه ففرق بين قولنا: ما كان زيد ليقوم، وقولنا: لم يقم أو ما قام زيد إذ الاول يدل على أن القيام لم يكن من شأن زيد ولا استعد له استعدادا والثانى ينفى القيام عنه فحسب وفي القرآن منه شئ كثير كقوله: (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) يونس: 74، وقوله: (ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الايمان) الشورى: 53، وقوله: (وما كان الله ليظلمهم) العنكبوت: 40. فقوله: (وما كان هذا القرآن ان يفترى من دون الله) نفى لشأنية الافتراء عن القرآن كما قيل وهو أبلغ من نفى فعليته، والمعنى ليس من شأن هذا القرآن ولا في صلاحيته أن يكون افتراء من دون الله يفتريه على الله سبحانه. وقوله: (ولكن تصديق الذى بين يديه) أي تصديقا لما هو حاضر منزل من الكتاب وهو التوراة والانجيل كما حكى عن المسيح قوله: (يا بنى اسرائيل انى رسول الله اليكم مصدقا لما بين يدى من التوراة) الصف: 6، وإنما وصفهما بما بين
[ 64 ]
يديه مع تقدمهما لان هناك كتابا غير الكتابين ككتاب نوح وكتاب ابراهيم عليهما السلام فإذا لوحظ تقدم جميعها عليه كان الاقرب منها زمانا إليه وهو التوراة والانجيل موصوفا بأنه بين يديه. وربما قيل: إن المراد بما بين يديه هو ما يستقبل نزوله من الامور كالبعث والنشور والحساب والجزاء، وليس بشئ.
وقوله: (وتفصيل الكتاب) عطف على (تصديق) والمراد بالكتاب بدلالة من السياق جنس الكتاب السماوي النازل من عند الله سبحانه على انبيائه، والتفصيل إيجاد الفصل بين أجزائها المندمجة بعضها في بعض المنطوية جانب منها في آخر بالايضاح والشرح. وفيه دلالة على أن الدين الالهى المنزل على أنبيائه عليهم السلام واحد لا اختلاف فيه إلا بالاجمال والتفصيل، والقرآن يفصل ما أجمله غيره كما قال تعالى: (إن الدين عند الله الاسلام) آل عمران: 19. وأن القرآن الكريم مفصل لما أجمله الكتب السماوية السابقة مهيمن عليها جميعا كما قال تعالى: (وأنزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه) المائدة: 48. وقوله: (لا ريب فيه من رب العالمين) أي لا ريب فيه هو من رب العالمين، والجملة الثانية كالتعليل للاولى. قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله) إلى آخر الاية، أم منقطعة والمعنى بل يقولون افتراه، والضمير للقرآن، واتصاف السورة بكونها مثل القرآن شاهد على أن القرآن يصدق على الكثير منه والقليل. والمعنى قل للذين يقولون افتراه: إن كنتم صادقين في دعواكم فأتوا بسورة مثل هذا القرآن المفترى وادعوا كل من استطعتم من دون الله مستمدين مستظهرين فانه لو كان كلاما مفترى كان كلاما بشريا وجاز ان يؤتى بمثله وفي ذلك تحد ظاهر بسورة واحدة من سور القرآن طويلة كانت أو قصيرة. ومن هنا يظهر أولا: أن التحدي ليس بسورة معينة فإنهم لم يرموا بالافتراء
[ 65 ]
بعض القرآن دون بعض بل جميعه، وهو يكلفهم أن يأتوا بسورة مثل ما يدعون أنه افتراه، وإنما ادعوه لجميع القرآن دون بعضه. ولا يصغى إلى قول من يقول: إن التنكير (في سورة) للتعظيم أو للتنويع
والمراد سورة من السور يذكر فيها قصص الانبياء وأخبار وعيد الدنيا والاخرة لان الافتراء إنما يتهم به الاخبار دون الانشاء. أو يقول: المراد سورة طويلة مثل هذه السورة سورة يونس - في اشتمالها على أصول الدين والوعد والوعيد. وذلك أن القرآن بجميع آياته منسوب إلى الله سبحانه، ولا يختلف في ذلك ما يتضمن الاخبار وما يتضمن الانشاء، وما كانت سورة طويلة أو قصيرة حتى الاية الواحدة، والرمى بالافتراء يصح أن يتعلق بالجميع لانه تكذيب للنسبة المتعلقة بالجميع. وثانيا: أن الاية لا تتحدى ببلاغة القرآن وفصاحته فحسب بل السياق في هذه الاية وفي سائر الايات التى وردت مورد التحدي يشهد على أن التحدي إنما هو بما عليه القرآن من صفة الكمال ونعت الفضيلة من اشتماله على مخ المعارف الالهية، وجوامع الشرائع من الاحكام العبادية والقوانين المدنية السياسية والاقتصادية والقضائية والاخلاق الكريمة والاداب الحسنة، وقصص الانبياء، والامم الماضية، والملاحم والاخبار الغيبية، ووصف الملائكة والجن والسماء والارض والحكمة والموعظة والوعد والوعيد، وأخبار البدء والعود، وقوة الحجة وجذالة البيان والنور والهداية من غير أن يختلف جزء منه عن جزء، أضف إلى ذلك وقوعه في بلاغته وفصاحته موقعا يقصر عن البلوغ إليه أيدى البشر. ولقد قصر الباحثون من علماء الصدر الاول ومن يتلونهم إذ قصروا إعجازه على بلاغته وفصاحته، وكتبوا في ذلك كتبا وألفوا رسائل فصرفهم ذلك عن التدبر في حقائقه والتعمق في معارفه، وأنهاهم إلى أن عدوا المعاني أمورا مطروحة في الطريق يستوى فيه البدوى والحضرى والعامي والخاصى والجاهل والعالم، وأن الفضل لنظم اللفظ على نظم المعنى ولا قيمة لما وراء ذلك.
[ 66 ]
وقد وصفه الله تعالى بكل وصف جميل دخيل في التحدي كوصفه بأنه نور
ورحمة وهدى وحكمة وموعظة وبرهان وتبيان لكل شئ وتفصيل الكتاب وشفاء للمؤمنين وقول فصل وما هو بالهزل، وأنه مواقع للنجوم، وأنه لا اختلاف فيه ولم يصرح ببلاغته بعينها. وأطلق القول بأنهم لا يأتون بمثله ولو دعوا من استطاعوا من دون الله، ولو اجتمع على ذلك الجن والانس وكان بعضهم لبعض ظهيرا ولم يقيد الكلام بالبلاغة والفصاحة. وقد فصلنا القول في إعجاز القرآن في تفسير قوله: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) البقرة: 23 في الجزء الاول من الكتاب. قوله تعالى: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) إلى آخر الاية. الاية تبين وجه الحقيقة في عدم إيمانهم به وقولهم إنه افتراء وهو أنهم كذبوا من القرآن بما لم يحيطوا بعلمه أو كذبوا بالقرآن الذى لم يحيطوا بعلمه ففيه معارف حقيقية من قبيل العلوم الواقعية لا يسعها علمهم، ولم يأتهم تأويله بعد أي تأويل ذاك الذى كذبوا به حتى يضطرهم إلى تصديقه. هذا ما يقتضيه السياق من المعنى فقوله: (ولما يأتهم تأويله) يشير إلى يوم القيامة كما يؤيده قوله تعالى: (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذى كنا نعمل) الاعراف: 53. وهذا يؤيد ما قدمناه في تفسير قوله: (ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله) آل عمران: 7 في الجزء الثالث من الكتاب أن المراد بالتأويل في عرف القرآن هو الحقيقة التى يعتمد عليها معنى من المعاني من حكم أو معرفة أو قصة أو غير ذلك من الحقائق الواقعية من غير أن يكون من قبيل المعنى، وأن لجميع القرآن وما يتضمنه من معرفة أو حكم أو خبر أو غير ذلك تأويلا.
ويؤيد ذلك أيضا قوله بعد: (كذلك كذب الذين من قبلهم) فإن التشبيه
[ 67 ]
يعطى أن المراد أن الذين من قبلهم من المشركين أيضا كذبوا بما دعاهم إليه أنبياؤهم لكونهم لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله، فلما جاء به سائر الانبياء من أجزاء الدعوة الدينية من معارف وأحكام تأويل كما أن لمعارف القرآن وأحكامه تأويلا من غير ان يكون من قبيل المفاهيم ومعانى الالفاظ كما توهموه. فمحصل المعنى ان هؤلاء المشركين الرامين للقرآن بأنه افتراء مثل المشركين والكفار من الامم السابقة استقبلتهم من الدعوة الدينية بمعارفها وأحكامها أمور لم يحيطوا بها علما حتى يوقنوا بها ويصدقوا، فحملهم الجهل على التكذيب بها ولما يأتهم اليوم الذى يظهر لهم فيه تأويلها وحقيقة أمرها ظهورا يضطرهم على الايقان والتصديق بها وهو يوم القيامة الذى يكشف لهم فيه الغطاء عن وجه الحقائق بواقعيتها فهؤلاء كذبوا وظلموا كما كذب الذين من قبلهم وظلموا فانظر كيف كان عاقبة اولئك الظالمين حتى تحدس بما سيصيب هؤلاء. هذا ما يعطيه دقيق البحث في معنى الاية، وللمفسرين فيها أقوال شتى مختلفة مبنية على ما ذهبوا إليه من معنى التأويل لا جدوى في التعرض لها وقد استقصينا اقوالهم سابقا. قوله تعالى: (ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين) قسمهم قسمين من يؤمن بالقرآن ومن لا يؤمن به ثم كنى عمن لا يؤمن به أنهم مفسدون فتحصل من ذلك ان الذين يكذبون بما في القرآن انما كذبوا به لانهم مفسدون. فالاية لبيان حالهم الذى هم عليه من ايمان البعض وكفر البعض وأن الكفر ناش من رذيلة الافساد.
وأما ما ذكره بعضهم في تفسير الاية: ان المراد ان قومك لن يكونوا كاولئك الظالمين من قبلهم الذين كذبوا رسلهم إلا قليلا منهم فكان عاقبتهم عذاب الاستئصال بل سيكون قومك قسمين قسم سيؤمن بهذا القرآن وقسم لا يؤمن به ابدا فهو معنى خارج عن مدلول الاية البتة.
[ 68 ]
قوله تعالى: (وان كذبوك فقل لى عملي ولكم عملكم) إلى آخر الاية، تلقين للتبرى على تقدير تكذيبهم له، وهو من مراتب الانتصار للحق ممن انتهض لاحيائه فالطريق هو حمل الناس عليه ان حملوا وإلا فالتبري منهم لئلا يحملوه على باطلهم. وقوله: (انتم بريئون مما اعمل وأنا برئ مما تعملون) تفسير لقوله: (لى عملي ولكم عملكم). قوله تعالى: (ومنهم من يستمعون اليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون) الاستفهام للانكار، وقوله: (ولو كانوا لا يعقلون) قرينة على ان المراد بنفى السمع نفى ما يقارنه من تعقل ما يدل عليه الكلام المسموع وهو المسمى بسمع القلب. والمعنى: ومنهم الذين يستمعون اليك وهم صم لا سمع لقلوبهم، ولست انت قادرا على إسماعهم ولا سمع لهم. قوله تعالى: (ومنهم من ينظر اليك) إلى آخر الاية الكلام فيها نظير الكلام في سابقتها. قوله تعالى: (ان الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس انفسهم يظلمون) مسوق للاشارة إلى ان ما ابتلى به هؤلاء المحرومون من السمع والبصر من جهة الصمم والعمى من آثار ظلمهم انفسهم من غير ان يكون الله تعالى ظلمهم بسلب السمع والبصر عنهم فانهم انما أوتوا ما أوتوا من قبل أنفسهم.
قوله تعالى: (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم) (الخ) ظاهر الاية ان يكون (يوم) ظرفا متعلقا بقوله: (قد خسر) الخ، وقوله: (كأن لم يلبثوا إلا ساعة) الخ، حالا من ضمير الجمع في (يحشرهم) وقوله: (يتعارفون بينهم) حالا ثانيا مبينا للحال الاول. والمعنى قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله في يوم يحشرهم إليه حالكونهم يستقلون هذه الحياة الدنيا فيعدونها كمكث ساعة من النهار وهم يتعارفون بينهم من غير ان
[ 69 ]
ينكر بعضهم بعضا أو ينساه. وقد ذكر بعضهم ان قوله: (كأن لم يلبثوا) صفة ليوم أو صفة للمصدر المحذوف المدلول عليه بقوله: (يحشرهم)، وذكر بعض آخر أن قوله: (يتعارفون بينهم) صفة لساعة، وهما من الاحتمالات البعيدة التى لا يساعد عليها اللفظ. وكيف كان ففى الاية رجوع إلى حديث اللقاء المذكور في أول السورة وانعطاف على ما ذكره آنفا أن من المتوقع أن يأتيهم تأويل الدين. فكأنها تقول: إنهم وإن لم يأتهم تأويل القرآن بعد لا ينبغى لهم أن يغتروا بالجمود على مظاهر هذه الحياة الدنيا ويستكثروا الامد ويستبطئوا الاجل فإنهم سوف يحشرون إلى الله فيشاهدون أن ليست الحياة الدنيا إلا متاعا قليلا، ولا اللبث فيها إلا لبثا يسيرا كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم. فيومئذ يظهر لهم خسرانهم في تكذبيهم بلقاء الله ظهور عيان وذلك بإتيان تأويل الدين وانكشاف حقيقة الامر وظهور نور التوحيد على ما كان، ووضوح أن الملك يومئذ لله الواحد القهار جل شأنه. * * * وإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم
الله شهيد على ما يفعلون - 46. ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون - 47. ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين - 48. قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون - 49. قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا
[ 70 ]
يستعجل منه المجرمون - 50. أثم إذا ما وقع آمنتم به ء الان وقد كنتم به تستعجلون - 51. ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون - 52. ويستنبؤنك أحق هو قل أي وربى إنه لحق وما أنتم بمعجزين - 53. ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الارض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون - 54. ألا إن لله ما في السماوات والارض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون - 55. هو يحيى ويميت وإليه ترجعون - 56. (بيان) الايات تنبئ عن سنة إلهية جارية، وهى أن الله سبحانه قضى قضاء حق لا يرد ولا يبدل أن يرسل إلى كل أمة رسولا يبلغهم رسالته ثم يحكم بينه وبينهم حكما فصلا بإنزال العذاب عليهم وإنجاء المؤمنين وإهلاك المكذبين. ثم تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يخبرهم أن هذه الامة يجرى فيهم ما جرى في الامم الماضية من السنة الالهيد من غير أن يستثنوا من كليته غير انه صلى الله عليه وآله وسلم لم يذكر لهم فيما لقنه الله من جواب سؤالهم عن وقت العذاب إلا أن القضاء حتم وللامة عمرا وأجلا كالفرد ينتهى إليه أمد حياتها، وأما وقت النزول فقد أبهم إبهاما.
وقد قدمنا في قوله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) الانفال: 33 أن الاية لا تخلو عن إشعار بأن الامة ستنتزع منهم نعمة الاستغفار بعد زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فينزل عليهم العذاب، وقد تقدم أن
[ 71 ]
الشواهد قائمة على كون الاية مدنية فهى بعد هذه الايات المكية من قبيل الايضاح في الجملة بعد الابهام ومن ملاحم القرآن. وقد حمل بعض المفسرين ما وقع من حديث العذاب في هذه الايات على عذاب الاخرة، وسياق الايات يأبى ذلك. قوله تعالى: (وإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون) إما نرينك أصله: إن نرك، زيد عليه ما والنون الثقيلة للتأكيد، والترديد بين الارادة والتوفى للتسوية واستيعاب التقادير، والمعنى الينا مرجعهم على أي تقدير، ولفظة ثم للتراخي بحسب ترتيب الكلام دون الزمان والاية مسوقة لتطييب نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولتكون كالتوطئة لحديث قضاء العذاب الذى ستفصله الايات التالية لهذه الاية. والمعنى طب نفسا فإنا موقعون بهم ما نعدهم سواء أريناك بعض ذاك أو توفيناك قبل أن نريك ذاك فإن أمرهم الينا ونحن شاهدون لافعالهم المستوجبة للعذاب لا تغيب عنا ولا ننساها. والالتفات من قوله: (نرينك) إلى قوله: (ثم الله شهيد) للدلالة على علة الحكم فإن الله سبحانه شهيد على كل فعل بمقتضى ألوهيته. قوله تعالى: (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) قضاء إلهى منحل إلى قضاءين أحدهما: أن لكل أمة من الامم رسولا يحمل رسالة الله إليهم ويبلغها إياهم، وثانيهما: أنه إذا جاءهم وبلغهم رسالته فاختلفوا من مصدق له ومكذب فإن الله يقضى ويحكم بينهم بالقسط والعدل من غير أن يظلمهم.
هذا ما يعطيه سياق الكلام من المعنى. ومنه يظهر أن قوله: (فإذا جاء رسولهم) فيه إيجاز بالحذف والاضمار والتقدير: فإذا جاء رسولهم إليهم وبلغ الرسالة فاختلف قومه بالتكذيب والتصديق، ويدل على ذلك قوله: (قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) فإن القضاء إنما يكون فيما اختلف فيه، ولذا كان السؤال عن القسط وعدم الظلم في القضاء في مورد العذاب
[ 72 ]
والضرار أسبق إلى الذهن. وقد تقدم الفرق بين الرسول والنبى في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب، وهذا القضاء المذكور في الاية من خواص الرسالة دون النبوة. قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) سؤال منهم عن وقت هذا القضاء الموعود، وهو القضاء بينهم في الدنيا، والسائلون هم بعض المشركين من معاصري النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والدليل عليه أمره أن يجيبهم بقوله: (قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل) الخ، فقول بعضهم: إن السؤال عن عذاب يوم القيامة أو إن السائلين بعض المشركين من الامم السابقة لا يلتفت إليه. قوله تعالى: (قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل) إلى آخر الاية، لما كان قولهم: (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) في معنى قولنا: أي وقت يفى ربك بما وعدك أو يأتي بما أوعدنا به أنه يقضى بيننا وبينك فيهلكنا وينجيك والمؤمنين بك فيصفو لكم الجو ويكون لكم الارض وتخلصون من شرنا ؟ فهلا عجل لكم ذلك - وذلك أن كلامهم مسوق سوق الاستعجال تعجيزا واستهزاء كما تدل على استعجالهم الايات التالية وهذا نظير قولهم: (لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين) الحجر: 7. لقن سبحانه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبدأهم في الجواب ببيان أنه لا يملك لنفسه ضرا
حتى يدفعه عنها ولا نفعا حتى يجلبه إليها ويستعجل ذلك إلا ما شاء الله ان يملكه من ضر ونفع فالامر إلى الله سبحانه جميعا، واقتراحهم عليه بأن يعجل لهم القضاء والعذاب من الجهل. ثم يجيب عن سؤالهم عن أصل تعيين الوقت جوابا اجماليا بالاعراض عن تعيين الوقت والاقبال على ذكر ضرورة الوقوع، أما الاول فإنه من الغيب الذى لا يعلمه إلا الله، وأمره الذى لا يتسلط عليه إلا هو، وقد تقدم قوله في آيات السورة: (ويقولون لو لا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا انى معكم من المنتظرين) الاية 20 من السورة.
[ 73 ]
وأما الثاني أعنى ذكر ضرورة الوقوع فقد بين ذلك بالاشارة إلى حقيقة هي من النواميس العامة الجارية في الكون تنحل بها العقدة وتندفع بها الشبهة، وهى أن لكل أمة أجلا لا يتخطاهم ولا يتخطونه فهو آتيهم لا محالة، وإذا أتاهم لم يخبط في وقوعه موقعه ولا ساعة، وهو قوله تعالى: (لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) أي وأنتم أمة من الامم فلا محالة لكم أيضا أجل كمثلهم إذا جاءكم لا تستأخرون ساعة ولا تستقدمون. فإذا فقهوا هذا الكلام وتدبروه بأن لهم أن لكل امة حياة اجتماعية وراء الحياة الفردية التى لكل واحد من أفرادها ولحياتها من البقاء والعمر ما قضى به الله سبحانه لها، ولها من السعادة والشقاوة والتكليف والرشد والغى والثواب والعقاب نصيبها، وهى مما اعتنى بها التدبير الالهى نظير الفرد من الانسان حذو النعل بالنعل. ويدلهم على ذلك ما يحدثهم به التاريخ ويفصح عنه الاثار من ديارهم الخربة ومساكنهم الخالية، وقد قص عليهم القرآن أخبار بعضهم كقوم نوح، وعاد قوم هود، وثمود قوم صالح، وكلدة قوم ابراهيم وأهل سدوم وسائر المؤتفكات قوم لوط
والقبط قوم فرعون وغيرهم. فهؤلاء أمم منقرضة سكنت أجراسهم وخمدت أنفاسهم ولم ينقرضوا إلا بعذاب وهلاك، ولم يعذبوا إلا بعد ما جاءتهم رسلهم بالبينات ولم يأت قوما منهم رسوله إلا واختلفوا في الحق الذى جاءهم فمنهم من آمن به ومنهم من كذب به وهم الاكثرون. فهذا يدلهم على أن هذه الامة - وقد اختلفوا في الحق لما جاءهم - سيقضى الله بين رسوله وبينهم فيأخذهم بما أخذ به من خلت من قبلهم من الامم وإن الله لبالمرصاد. وعلى الباحث المتدبر أن يتنبه لان الله سبحانه وإن بدء في وعيده بالمشركين غير أنه هدد في أثناء كلامه المجرمين فتعلق الوعيد بهم، ومن أهل القبلة مجرمون كغيرهم فلينتظروا عذابا واصبا يفصل به الله بينهم وبين نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ولينسوا ما يلقيه الشيطان في روعهم أن أمتهم هذه أمة مرحومة رفع الله عنهم عذاب الدنيا
[ 74 ]
إكراما منه لنبيهم نبى الرحمة فهم في أمن من عذاب الله وإن انهمكوا في كل إثم وخطيئة وهتكوا كل حجاب مع أنه لا كرامة عند الله إلا بالتقوى وقد خاطب المؤمنين من هذه الامة بمثل قوله: (ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به) النساء: 123. وربما تعدى المتعدى فعطف عذاب الاخرة على عذاب الدنيا فذكر أن الامة مغفور لهم محسنهم ومسيئهم فلا يبقى لهم في الدنيا إلا كرامة أن لهم أن يفعلوا ما شاءوا فقد أسدل الله عليهم حجاب الامن، ولا في الاخرة إلا المغفرة والجنة. ولا يبقى على هذا للملة والشريعة إلا أنها تكاليف وأحكام جزافية لعب بها رب العالمين ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون تعالى عما يقولون علوا كبيرا.
فهذا كله من الاعراض عن ذكر الله وهجر كتابه، وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا. قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ما ذا يستعجل منه المجرمون) إلى آخر الايتين، البيات والتبييت الاتيان ليلا ويغلب في الشر كقصد العدو عدوه ليلا. ولما كان قولهم: (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) في معنى استعجال آية العذاب التى يلجئهم إلى الايمان رجع بعد بيان تحقق الوقوع إلى توبيخهم وذمهم من الجهتين فوبخهم أولا على استعجالهم بالعذاب، وهو عذاب فجاءى من الحزم أن يكون الانسان منه على حذر لا أن يستعجل فيه فقال تعالى ملقنا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (قل أرأيتم) وأخبروني (إن أتاكم عذابه بياتا) ليلا (أو نهارا) فإنه عذاب لا يأتيكم إلا بغتة إذ لستم تعلمون وقت نزوله (ما ذا يستعجل منه) من العذاب (المجرمون) أي ما ذا تستعجلون منه وأنتم مجرمون لا يتخطاكم إذا أتاكم. ففى قوله: (ما ذا يستعجل منه المجرمون) التفات من الخطاب إلى الغيبة وكأن النكتة فيه رعاية حالهم ان لا يشافهوا بصريح الشر وليكون تعرضا لملاك نزول العذاب عليهم وهو إجرامهم.
[ 75 ]
ووبخهم ثانيا على تأخير إيمانهم إلى حين لا ينفعهم الايمان فيه وهو حين نزول العذاب فإن آية العذاب يلجئهم إلى الايمان قطعا على ما هو المجرب من إيمان الانسان عند إشراف الهلكة، ومن جهة أخرى الايمان توبة والتوبة غير مقبولة عند ظهور آية العذاب والاشراف على الموت. فقال تعالى: (أثم إذا ما وقع) العذاب (آمنتم به) أي بالقرآن أو بالدين أو بالله (الان) أي أتؤمنون به في هذا الان والوقت (وقد كنتم به تستعجلون)
وكان معنى استعجالهم عدم الاعتناء بشأن هذا العذاب وتحقيره بالاستهزاء به. قوله تعالى: (ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا ما كنتم تكسبون) الاشبه أن تكون الاية متصلة بقوله تعالى: (لكل أمة أجل) الخ، فتكون الاية الاولى تبين تحقق وقوع العذاب عليهم وإهلاكه إياهم، والاية الثانية تبين أنه يقال لهم بعد الوقوع والهلاك: ذوقوا عذاب الخلد وهو عذاب الاخرة ولا تجزون إلا أعمالكم التى كنتم تكسبونها وذنوبكم التى تحملونها، والخطاب تكويني كنى به عن شمول العذاب لهم ونيله إياهم، وعلى هذا المعنى فالايتان: (قل أرأيتم - إلى قوله - تستعجلون) واردتان مورد الاعتراض. قوله تعالى: (ويستنبؤنك أحق هو قل إى وربى إنه لحق وما أنتم بمعجزين) إلى آخر الاية - يستنبؤنك أي يستخبرونك، وقوله: (أحق هو) بيان له، والضمير على ما يفيده السياق راجع إلى القضاء أو العذاب، والمال واحد، وقد أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يؤكد القول في إثباته من جميع جهاته، وبعبارة أخرى أن يجيبهم بوجود المقتضى وعدم المانع. فقوله: (قل إى وربى إنه لحق) إثبات لتحققه وقد أكد الكلام بالقسم والجملة الاسمية وإن واللام، وقوله: (وما أنتم بمعجزين) بيان أنه لا مانع هناك يمنع من حلول العذاب بكم. قوله تعالى: (ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الارض لافتدت به) إلى آخر الاية، إشارة إلى شدة العذاب أهمية التخلص منه عندهم، وإسرار الندامة إخفاؤها
[ 76 ]
وكتمانها خشية ه الشماتة ونحوها، والظاهر أن المراد بالقضاء والعذاب في الاية هو القضاء ولعذاب الدنيويان لا غير. قوله تعالى: (أالا إن لله ما في السماوات والارض ألا إن وعد الله حق ولكن
أكثرهم لا يعلمون) الاية وما بعدها بيان برهانى على حقية ما ذكره من كونه حقا واقعا لا يمنع عنه مانع فإن كل شئ مما في السماوات والارض إذا كان مملوكا لله وحده لا شريك له كان كل تصرف مفروض فيها إليه تعالى، ولم يكن لغيره شئ من التصرف إلا بإذنه فإذا تصرف في شئ كان مستندا إلى إرادته فقط من غير أن يستند إلى مقتض آخر خارج يتصرف في ذاته المقدسة فيحمله على الفعل، أو يتقيد بعدم مانع خارجي إذا وجد تصرف فيه سبحانه بمنعه عن الفعل، فهو تعالى يفعل ما يفعل عن نفسه من غير أن يرتبط إلى مقتض من خارج أو مانع من خارج فإذا أراد سبحانه شيئا فعله من غير ممد أو عائق، وإذا وعد وعدا كان حقا لا مرد له من غير ان يتغير عن وعده بصارف. فإمعان النظر في ملكه تعالى المطلق الحقيقي يهدى إلى العلم بأن وعده حق لا يمازجه باطل ولكن أكثرهم وهم العامة من الناس لا يعلمون لعجزهم عن الامعان في هذه الابحاث الحقيقية أو إعجابهم بسذاجة الفهم وانسلاكهم في سلك العامة. فهم على ذلك يقيسون ملكه تعالى إلى ملك العظماء المستعلين من الانسان فإنهم يجدون الواحد من عظمائهم وقد أوتى ملكا وسلطانا ومن كل ما يتنافس فيه فيرون له القدرة المطلقة يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ثم يجدونه ربما يهم ويسعى ولا يقع ما اهتم به أو وعد وعدا ثم لم يف به رعاية لمصلحة شخصه أو غيره أو لمانع عائق فيقيسون أمره تعالى إلى امره، ووعده إلى وعده. على أن الوعد عندهم قول من شأنه جواز أن ينطبق على الخارج وأن لا ينطبق. مع أن حقيقة معنى ملكه وسلطانه وسعة قدرته ونفوذ إرادته أن الناس يعتقدون له ذلك ويتصورونه عظيما فيهم ولو طحنته نازلات الدهر يوما فأهلكته
[ 77 ]
أو تغيرت عليه عقائد الناس بسبب من الاسباب سلبته ما عنده من ملك وقدرة،
ومعنى وقوع ما أراده أو أحبه أن الاسباب الكونية ساعدته على ذلك ووافقته على ما أحبه، ولو لم تساعده ولم توافقه كلية الاسباب لم يكن له أن يضطرها إلى الخضوع لما يتوهم لنفسه من القدرة كما لا توافقه على مثل الموت والحياة والشباب والشيب والصحة والمرض وأمور أخرى كثيرة فليس له من الامر شئ. لكنه سبحانه مالك لخلقه بمعنى أن وجود كل شئ قائم به متكون متحول بأمره منوط باذنه، وما تصرف فيه من شئ فإنما يتصرف عن نفسه لا عن اقتضاء من مقتض خارج مؤثر فيه أو عدم مانع يعوقه عن فعله فلا ينتسب شئ إلا إليه تعالى نفسه أو إلى غيره بإذنه بمقدار ما أذن فكيف يمكن أن يتخلف عن مشيته شئ فيرجع إلى غيره ولا غير هناك يرجع نحوه وينتسب إليه ؟ وقوله تعالى فعله بما يدل بنفسه على مراده فكيف يتسرب إليه الكذب وهو متن الخارج، والعين الخارجي لا كذب فيه ؟ وإنما الكذب والخطأ شأن المفاهيم الذهنية من حيث انطباقها على الخارج، وكيف يكون وعده باطلا ووعده لنا هو فعله الغائب عن نظرنا المستقبل لنا، وقد وجه كليه الاسباب إليه ولا مرد له ؟ فإمعان النظر في هذه الحقائق ينور للباحث المتدبر معنى ملكه تعالى لما في السماوات والارض، وأن لازم ذلك أن وعد الله حق، وأن الارتياب فيه إنما هو من الجهل بمقامه تعالى. ولذلك قال تعالى أولا: (ألا إن لله ما في السماوات والارض) ثم عقبه بقوله كالاستنتاج منه: (ألا إن وعد الله حق) ثم استدرك فقال: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) ثم بين ملكه بقوله: (هو يحيى ويميت) الخ في الاية التالية. قوله تعالى: (هو يحيى ويميت واليه ترجعون) احتجاج على ما تقدم في الاية السابقة من ملكه تعالى بالنسبة إلى نوع الانسان كأنه تعالى يقول: إن أمركم جميعا من حياة وموت ورجوع إليه تعالى فكيف لا تكونون ملكا له.
[ 78 ]
(بحث روائي) في تفسير القمى وفي رواية أبى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام في قوله: (قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا) يعنى ليلا (أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون) فهذا عذاب ينزل في آخر الزمان على فسقة أهل القبلة وهم يجحدون نزول العذاب عليهم. أقول: والرواية تتأيد بالايات وتؤيد ما أسلفناه من البيان. وفيه بإسناده عن الحسن بن موسى الخشاب، عن رجل عن حماد بن عيسى عمن رواه، عن أبى عبد الله عليه السلام قال: سئل عن قوله تبارك وتعالى: (وأسروا الندامة لما راوا العذاب) قال: قيل له ما ينفعهم إسرار الندامة وهم في العذاب ؟ قال: كرهوا شماتة الاعداء. يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين - 57. قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون - 58. قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ء الله أذن لكم أم على الله تفترون - 59. وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون - 60. وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال
[ 79 ]
ذرة في الارض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين - 61. ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون - 62. الذين آمنوا وكانوا يتقون - 63. لهم البشرى في
الحياة الدنيا وفي الاخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم - 64. ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم - 65. ألا إن لله من في السماوات ومن في الارض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون - 66. هو الذى جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لايات لقوم يسمعون - 67. قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغنى له ما في السماوات وما في الارض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون - 68. قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون - 69. متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون - 70. (بيان) عاد الكلام في الايات إلى وصف القرآن الكريم بما له من كرائم الاوصاف ويتلوه متفرقات ترتبط بسابق القول في غرض السورة، وفيها موعظة وحكمة وحجة على مقاصد شتى، وفيها وصف أولياء الله وبشارتهم.
[ 80 ]
قوله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم) إلى آخر الاية. قال الراغب في المفردات: الوعظ زجر مقترن بتخويف، وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب، والعظة والموعظة الاسم، انتهى. والصدر معروف والناس لما وجدوا القلب في الصدر وهم يرون أن الانسان إنما يدرك ما يدرك بقلبه وبه يعقل الامور ويحب ويبغض ويريد ويكره ويشتاق ويرجو ويتمنى، عدوا الصدر خزانة لما في القلب من أسراره والصفات الروحية التى في باطن الانسان من فضائل ورذائل، وفي الفضائل صحة القلب واستقامته، وفي الرذائل سقمه ومرضه،
والرذيلة داء يقال: شفيت صدري بكذا إذا ذهب به ما في صدره من ضيق وحرج، ويقال: شفيت قلبى، فشفاء الصدور وشفاء ما في الصدور كناية عن ذهاب ما فيها من الصفات الروحية الخبيثة التى تجلب إلى الانسان الشقاء وتنغص عيشته السعيدة وتحرمه خير الدنيا والاخرة. والهدى هي الدلالة على المطلوب بلطف على ما ذكره الراغب، وقد تقدم في ذيل قوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام) الانعام: 125 في الجزء السابع من الكتاب بحث فيها. والرحمة تأثر خاص في القلب عن مشاهدة ضر أو نقص في الغير يبعث الراحم إلى جبر كسره وإتمام نقصه، وإذا نسبت إليه تعالى كان بمعنى النتيجة دون أصل التأثر لتنزهه تعالى عن ذلك فينطبق على مطلق عطيته تعالى وإفاضته الوجود على خلقه. وعطيته إذا نسبت إلى مطلق خلقه كانت هي ما ينسب إليه تعالى من وجودهم وبقائهم ورزقهم الذى يمد به بقاؤهم وسائر ما ينعم به عليهم من نعمه التى لا تحصى كثرة وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، وإذا نسبت إلى المؤمنين خاصة كانت هي ما يختص بهم من سعادة الحياة الانسانية بمظاهرها المختلفة التى ينعم الله بها عليهم من المعارف الحقة الالهية والاخلاق الكريمة والاعمال الصالحة، والحياة الطيبة في الدنيا والاخرة والجنة والرضوان. ومن ثم إذا وصف القرآن بأنه رحمة للمؤمنين كان معناه أنه يغشى المؤمنين
[ 81 ]
أنواع الخيرات والبركات التى كنزها الله فيه لمن تحقق بحقائقها وتلبس بمعانيها، قال تعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) أسرى: 82.
وإذا أخذت هذه النعوت الاربعة التى عدها الله سبحانه للقرآن في هذه الاية أعنى أنه موعظة وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة، وقيس بعضها إلى بعض ثم اعتبرت مع القرآن كانت الاية بيانا جامعا لعامة أثره الطيب الجميل وعلمه الزاكى الطاهر الذى يرسمه في نفوس المؤمنين منذ أول ما يقرع أسماعهم إلى آخر ما يتمكن من نفوسهم ويستقر في قلوبهم. فإنه يدركهم أول ما يدركهم وقد غشيهم يم الغفلة وأحاطت بهم لجة الحيرة فأظلمت باطنهم بظلمات الشك والريب، وأمرضت قلوبهم بأدواء الرذائل وكل صفة أو حالة ردية خبيثة فيعظهم موعظة حسنة ينبههم بها عن رقدة الغفلة، ويزجرهم عما بهم من سوء السريرة والاعمال السيئة، ويبعثهم نحو الخير والسعادة. ثم يأخذ في تطهير سرهم عن خبائث الصفات، ولا يزال يزيل آفات العقول وأمراض القلوب واحدا بعد آخر حتى يأتي على آخرها. ثم يدلهم على المعارف الحقة والاخلاق الكريمة والاعمال الصالحة دلالة بلطف برفعهم درجة بعد درجة، وتقريبهم منزلة فمنزلة حتى يستقروا في مستقر المقربين، ويفوزوا فوز المخلصين. ثم يلبسهم لباس الرحمة وينزلهم دار الكرامة ويقرهم على أريكة السعادة حتى يلحقهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، ويدخلهم في زمرة عباده المقربين في أعلى عليين. فالقرآن واعظ شاف لما في الصدور هاد إلى مستقيم الصراط مفيض للرحمة بإذن الله سبحانه، وإنما يعظ بما فيه ويشفى الصدور ويهدى ويبسط الرحمة بنفسه لا بأمر آخر فإنه السبب الموصول بين الله وبين خلقه فهو موعظة وشفاء لما في
[ 82 ]
الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين. فافهم ذلك.
وقد افتتح سبحانه الاية بقوله: (يا أيها الناس) وهو خطاب لعامة الناس دون المشركين أو مشركي مكة خاصة وإن كانت الاية واقعة في سياق الكلام معهم وذلك لان النعوت المذكورة فيها بقوله: (قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) تتعلق بعامتهم دون قبيل خاص منهم. ومن غريب التفسير قول بعضهم: إن المراد بالرحمة ما يتصف به المؤمنون من الرحمة والرأفة فيما بينهم وهو خطأ يدفعه السياق البتة. قوله تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) الفضل هو الزيادة، وتسمى العطية فضلا لان المعطى إنما يعطى غالبا ما لا يحتاج إليه من المال ففى تسمية ما يفيضه الله على عباده فضلا إشارة إلى غناه تعالى وعدم حاجته في إفاضته إلى ما يفيضه ولا إلى من يفيض عليه. وليس من البعيد أن يكون المراد بالفضل ما يبسطه الله من عطائه على عامة خلقه، وبالرحمة خصوص ما يفيضه على المؤمنين فإن رحمة السعادة الدينية إذا انضمت إلى النعمة العامة من حياة ورزق وسائر البركات العامة كان المجموع منهما أحق بالفرح والسرور وأحرى بالانبساط والابتهاج. ومن الممكن أن يتأيد ذلك بقوله: (بفضل الله وبرحمته) حيث أدخلت باء السببية على كل من الفضل والرحمة، وهو مشعر بكون كل واحد منهما سببا مستقلا وإن جمع بينهما ثانيا بقوله: (فبذلك فليفرحوا) للدلالة على استحقاق مجموعهما لان ينحصر فيه الفرح. ويمكن ان يكون المراد بالفضل غير الرحمة من الامور المذكورة في الاية السابقة اعني الموعظة وشفاء ما في الصدر والهدى، والمراد بالرحمة: الرحمة بمعناها المذكور في الاية السابقة وهى العطية الخاصة الالهية التى هي سعادة الحياة في الدنيا والاخرة.
والمعنى على هذا: ان ما تفضل الله به عليهم من الموعظة وشفاء ما في الصدور
[ 83 ]
والهدى، وما رحم المؤمنين به من الحياة الطيبة ذلك احق ان يفرحوا به دون ما يجمعونه من المال. وربما تأيد هذا الوجه بقوله سبحانه: (ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من احد ابدا ولكن الله يزكى من يشاء) النور: 21 حيث نسب زكاتهم إلى الفضل والرحمة معا واستناد الزكاة إلى الفضل بمعنى العطية العامة بعيد عن الفهم، ومما يؤيد هذا الوجه ملائمته لما ورد في الرواية من تفسير الاية بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى عليه السلام أو بالقرآن والاختصاص به وسيجئ ان شاء الله. وقوله: (فبذلك فليفرحوا) ذكروا ان الفاء في قوله: (فليفرحوا) زائدة كقول الشاعر: (فإذا قتلت فعند ذلك فاجزعى) والظرف اعني قوله: (فبذلك) بدل من قوله: (بفضل الله وبرحمته) ومتعلق بقوله: (فليفرحوا) قدم عليه لافادة الحصر، وقوله: (هو خير مما يجمعون) بيان ثان لمعنى الحصر. فظهر بذلك كله ان الاية تفريع على مضمون الاية السابقة فانه تعالى لما خاطب الناس امتنانا عليهم بأن هذا القرآن موعظة لهم وشفاء لما في صدورهم وهدى ورحمة للمؤمنين منهم فرع عليه انه ينبغى لهم حينئذ ان يفرحوا بهذا الذى امتن به عليهم من الفضل والرحمة لا بالمال الذى يجمعونه فان ذلك - وفيه سعادتهم وما تتوقف عليه سعادتهم - خير من المال الذى ليس إلا فتنة ربما اهلكتهم واشقتهم. قوله تعالى: (قل أرأيتم ما انزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا) إلى آخر الاية. نسبة الرزق وهو ما يمد الانسان في بقائه من الامور الارضية من مأكول ومشروب وملبوس وغيرها إلى الانزال مبنى على حقيقة يفيدها القرآن وهى ان الاشياء لها خزائن عند الله تتنزل من هناك على حسب ما قدرها الله سبحانه، قال
تعالى: (وان من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) الحجر: 21 وقال تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) الذاريات: 22 وقال: (وأنزل لكم من الانعام ثمانية ازواج) الزمر: 6 وقال: (وانزلنا الحديد) الحديد: 25. واما ما قيل: ان التعبير بالانزال انما هو لكون ارزاق العباد من المطر الذى
[ 84 ]
ينزله الله من السماء، فوجه بسيط لا يطرد على تقدير صحته في جميع الموارد التى عبر فيها عن كينونتها بالانزال كما في الانعام وفي الحديد، والرزق الذى تذكر الاية ان الله انزله لهم فجعلوا منه حراما وحلالا هو الانعام من الابل والغنم كالوصيلة والسائبة والحام وغيرها. واللام في قوله: (لكم) للغاية وتفيد معنى النفع أي انزل الله لاجلكم ولتنتفعوا به، وليست للتعدية فان الانزال انما يتعدى بعلى أو إلى، ومن هنا افاد الكلام معنى الاباحة والحل أي انزلها الله فأحلها، وهذا هو النكتة في تقديم التحريم على الاحلال في قوله: (فجعلتم منه حراما وحلالا) أي كان الله احله لكم بانزاله رزقا لكم تنتفعون به في حياتكم وبقائكم ولكنكم قسمتموه قسمين من عند انفسكم فحرمتم قسما وأحللتم آخر فالمعنى: قل لهم يا محمد: اخبروني عما انزل الله لكم ولاجلكم من الرزق الحلال فقسمتموه قسمين وجعلتم بعضه حراما وبعضه حلالا ما هو السبب في ذلك ؟ ومن البين انه افتراء على الله لا عن إذن منه تعالى. وقوله: (قل آلله اذن لكم ام على الله تفترون) سؤال عن سبب تقسيمهم الرزق إلى حرام وحلال، واذ كان من البين انه ليس ذلك عن اذن منه تعالى لعدم اتصالهم بربهم بوحى أو رسول كان من المتعين انه افتراء فالاستفهام في سياق الترديد كناية عن اثبات الافتراء لهم وتوبيخ وذم.
والذى يقضى به النظر الابتدائي ان الترديد في الاية غير حاصر إذ كما يجوز ان يكون تقسيمهم رزق الله إلى حرام وحلال عن اذن من الله أو افتراء عليه تعالى كذلك يجوز ان يكون عن مصلحة احرزوها أو زعموها في ذلك أو عن هوى لهم فيه من غير أن ينسبوه إلى الله تعالى فيكون افتراء عليه. ومن وجه آخر الترديد في الاية بين إذن الله والافتراء على الله يشعر بأن الحكم إنما هو لله فالحكم بكون بعض الرزق حراما وبعضه حلالا وهو دائر بينهم إما أن يكون من الله أو افتراء عليه، ومن الممكن أن يمنع ذلك في بادئ النظر فكثير من السنن الدائرة بين الناس كونتها طبيعة مجتمعهم أو عادتهم القومية وغير ذلك.
[ 85 ]
لكن التدبر في كلامه تعالى والبحث العميق يدفع ذلك فإن القرآن يرى أن الحكم يختص بالله تعالى، وليس لاحد من خلقه أن يبادر إلى تشريع حكم ووضعه في المجتمع الانساني، قال تعالى: (إن الحكم الا لله) يوسف: 40. وقد أشار تعالى إلى لم ذلك في قوله: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) الروم: 30 فتبين به أن معنى كون الحكم لله كونه معتمدا على الخلقة والفطرة منطبقا عليها غير مخالف لما ينطق به الكون والوجود. وذلك أن الله سبحانه لم يخلق الخلق عبثا كما قال: (أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا) المؤمنون: 115 بل خلقهم لاغراض إلهية وغايات كمالية يتوجهون إليها بحسب جبلتهم ويسيرون نحوها بفطرتهم بما جهزهم به من الاسباب والادوات وهداهم إليه من السبيل الميسر لهم كما قال: (أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) طه: 50، وقال: (ثم السبيل يسره) عبس: 20. فوجود الاشياء في بدء خلقها مناسب لما هيئ لها من منزلة الكمال مجهز بقوى
وأدوات يتوسل بها إلى غايتها، ولا يسير شئ منها إلى كماله المهيأ له إلا من طريق الصفات الاكتسابية والاعمال، فمن الواجب بالنظر إلى ذلك أن يكون الدين أعنى القوانين الجارية في الصفات والاعمال الاكتسابية منطبقا على الخلقة والفطرة فإن الفطرة لا تنسى غايتها ولا تتخطاها، ولا تبعث نحو فعل ولا تزجر عن فعل إلا لدعوة ما جهزت به إليه، ولا يدعو الجهاز إلا لاجل ما جهز لاجله وهو الغاية. فالانسان لما كان مجهزا بجهاز التغذية والنكاح كان حكمه الحقيقي في دين الفطرة هو التغذى والنكاح دون الجوكية والرهبانية مثلا، ولما كان مطبوعا على الاجتماع والتعاون كان من حكمه أن يشارك سائر الناس في مجتمعهم ويقوم بالاعمال الاجتماعية، وعلى هذا القياس. فالذي يتعين للانسان من الاحكام والسنن هو الذى يدعوه إليه الكون العالمي الذى هو جزء حقير منه، وقد جهز وجوده بما يسوقه إليه من مرحلة الكمال، فهذا
[ 86 ]
الكون العام المرتبط بعض أجزائه ببعض، وهو مركب إرادة الله تعالى هو الحامل للشريعة الفطرية الانسانية، والداعى إلى دين الله الحنيف. فالدين الحق هو حكم الله سبحانه لا حكم إلا له، وهو المنطبق على الخلقة الالهية، وما وراءه من حكم هو باطل لا يسوق الانسان إلا إلى الشقاء والهلاك ولا يهديه إلا إلى عذاب السعير. ومن هنا ينحل ما تقدم من العقدتين فإن الحكم لما كان لله سبحانه وحده كان كل حكم دائر بين الناس إما حكما لله حقيقة مأخوذا من لدنه بوحى أو رسالة أو حكما مفترى على الله، ولا ثالث للقسمين. على أن المشركين كانوا ينسبون أمثال هذه الاحكام التى ابتدعوها واستنوا بها فيما بينهم إلى الله سبحانه كما يشير إليه قوله تعالى: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا
عليها آباءنا والله أمرنا بها) الاية الاعراف: 28. قوله تعالى: (وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة) إلى آخر الاية، لما كان جواب الاستفهام المتقدم: (آلله أذن لكم أم على الله تفترون) معلوما من المورد، وهو أنه افتراء، استعظم وخامة عاقبته فإنه افتراء على الله سبحانه والافتراء من الاثام والذنوب بحكم البداهة فلا محاله له أثر سئ، ولذلك قال تعالى إيعادا وتهديدا: (وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة). وأما قوله: (إن الله لذو فضل على الناس ولكن اكثرهم لا يشكرون) فهو شكوى وعتبى يشار به إلى ما اعتاد عليه الناس من كفران اكثرهم لنعمة الله، وعدم شكرهم قبال عطيته ونعمته، والمراد بالفضل ههنا هو العطية الالهية فإن الكلام في الرزق الذى أنزله الله لهم وهو الفضل، وتحريمهم بعضه وهو الكفران وعدم الشكر. وبرجوع ذيل الاية إلى صدرها يكون الافتراء على الله من مصاديق كفران نعمته، والمعنى أن الله ذو فضل وعطاء على الناس ولكن اكثرهم كافرون لنعمته وفضله فما ظن الذين يكفرون بنعمة الله ورزقه بتحريمه افتراء على الله الكذب يوم القيامة.
[ 87 ]
قوله تعالى: (وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا) إلى آخر الاية، قال الراغب: الشأن الحال والامر الذى يتفق ويصلح، ولا يقال إلا فيما يعظم من الاحوال والامور قال: (كل يوم هو في شأن). انتهى. وقوله: (وما تتلوا منه من قرآن) الظاهر أن الضمير إلى الله سبحان ومن الاولى للابتداء والنشوء والثانية للبيان، والمعنى: ولا تتلو شيئا هو القرآن ناشئا
ونازلا من قبله تعالى، والافاضة في الفعل الخوض فيه جمعا. وقد وقع في قوله: (إلا كنا عليكم شهودا) التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير، والنكتة فيه الاشارة إلى كثرة الشهود فإن لله شهودا على أعمال الناس من الملائكة والناس والله من ورائهم محيط، والعظماء يتكلمون عنهم وعن غيرهم للدلالة على أن لهم أعوانا وخدمة. وليس ينبغى أن يغفل عن أن اصل الالتفات يبدأ من اول الايه فإن الايات السابقة كانت تخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتأخذ المشركين على الغيبة وتكلمهم بوساطته من غير أن تواجهه بشئ من الخطاب يخص نفسه، وقد حولت هذه الاية وجه الكلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يخص به نفسه فقالت: (وما تكون من شأن وما تتلوا منه من قرآن) ثم جمعته والمشركين وغيرهم جميعا في خطاب واحد فقالت: (ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا) وذلك بضمهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم على غيبتهم وبسط الخطاب على الجميع بنوع من التغليب كما تقول لمخاطبك: أنت وقومك تفعلون كذا وكذا. والدليل على أن هذا الخطاب بنحو الضم والتغليب قوله بعده: (وما يعزب عن ربك) الخ، فإنه يكشف عن كون الخطاب معه صلى الله عليه وآله وسلم جاريا على ما كان. وعلى أي حال فالتحول المذكور في خطاب الاية للاشارة إلى أن السلطنة والاحاطة التامة الالهية واقعة على الاعمال شهادة وعلما على أتم ما يكون من كل جهة من غير أن يستثنى منه نبى ولا مؤمن ولا مشرك أو يغفل عن عمل من الاعمال فلا يتوهمن احد أن الله يخفى عليه شئ من أمره فلا يحاسبه عليه يوم القيامة،
[ 88 ]
وليكن هذا هو ظنه بربه يوم القيامة وليأخذ حذره. وذكر تلاوة القرآن مستقلا مع دخوله في قوله قبلا: (وما تكون في شأن)
فإنه احد شؤنه صلى الله عليه وآله وسلم للايماء إلى أهمية أمرها ومزيد العناية بها. وفي الاية اولا تشديد في العظة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أمته، وثانيا: أن الذى يتلوه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن للناس من وحى الله وكلامه لا يطرقه تغيير ولا يدب فيه باطل لا في تلقيه من الله ولا في تلاوته للناس فالاية قريبة المضمون من قوله: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه احدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم ان قد أبلغوا رسالات ربهم) الجن: 28. وقوله: (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة) إلى آخر الاية العزوب الغيبة والتباعد والخفاء، وفيه إشارة إلى حضور الاشياء عنده تعالى من غير غيبة وحفظه لها في كتاب من غير زوال، وقد تقدم بعض ما يتعلق به من الكلام في ذيل قوله: (وعنده مفاتح الغيب) الانعام: 59 في الجزء السابع من الكتاب. قوله تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) استئناف في الكلام غير أنه متعلق بغرض السورة وهو الدعوة إلى الايمان بكتاب الله والندب إلى توحيد الله تعالى بمعناه الوسيع. وللدلالة على أهمية المطلب افتتح بلفظة (ألا) التنبيهية، والله سبحانه يذكر في هذه الاية والايتين بعدها أولياءه ويعرفهم ويصف آثار ولايتهم وما يختصون به من الخصيصة. والولاية وإن ذكروا لها معاني كثيرة لكن الاصل في معناها ارتفاع الواسطة الحائلة بين الشيئين بحيث لا يكون بينهما ما ليس منهما، ثم استعيرت لقرب الشئ من الشئ بوجه من وجوه القرب كالقرب نسبا أو مكانا أو منزلة أو بصداقة أو غير ذلك ولذلك يطلق الولى على كل من طرفي الولاية، وخاصة بالنظر إلى أن كلا منهما يلى من الاخر ما لا يليه غيره فالله سبحانه ولى عبده المؤمن لانه يلى أمره ويدبر شأنه فيهديه إلى صراطه المستقيم ويأمره وينهاه فيما ينبغى له أو لا ينبغى وينصره
في الحياة الدنيا وفي الاخرة.
[ 89 ]
والمؤمن حقا ولى ربه لانه يلى منه إطاعته في أمره ونهيه ويلى منه عامة البركات المعنوية من هداية وتوفيق وتأييد وتسديد وما يعقبها من الاكرام بالجنة والرضوان. فأولياء الله - على أي حال - هم المؤمنون فان الله يعد نفسه وليا لهم في حياتهم المعنوية حيث يقول: (والله ولى المؤمنين) آل عمران: 68. غير أن الاية التالية لهذه الاية المفسرة للكلمة تأبى أن تكون الولاية شاملة لجميع المؤمنين وفيهم أمثال الذين يقول الله سبحانه فيهم: (وما يؤمن اكثرهم بالله إلا وهم مشركون) يوسف: 106 فإن قوله في الاية التالية: (الذين آمنوا وكانوا يتقون) يعرفهم بالايمان والتقوى مع الدلالة على كونهم على تقوى مستمر سابق على إيمانهم من حيث الزمان حيث قيل: (آمنوا) ثم قيل عطفا عليه: (وكانوا يتقون) فدل على أنهم كانوا يستمرون على التقوى قبل تحقق هذا الايمان منهم ومن المعلوم أن الايمان الابتدائي غير مسبوق بالتقوى بل هما متقاربان أو هو قبل التقوى وخاصة التقوى المستمر. فالمراد بهذه الايمان مرتبة أخرى من مراتب الايمان غير المرتبة الاولى منه. فقد تقدم في الجزء الاول من الكتاب آية 130 من البقرة أن لكل من الايمان والاسلام وكذا الشرك والكفر مراتب مختلفة بعضها فوق بعض فالمرتبة الاولى من الاسلام إجراء الشهادتين لسانا والتسليم ظاهرا، وتليه المرتبة الاولى من الايمان وهو الاذعان بمؤدى الشهادتين قلبا إجمالا وإن لم يسر إلى جميع ما يعتقد في الدين من الاعتقاد الحق، ولذا كان من الجائز أن يجتمع مع الشرك من بعض الجهات، قال تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) يوسف: 106.
ولا يزال إسلام العبد يصفو وينمو حتى يستوعب تسليمه لله سبحانه في كل ما يرجع إليه واليه مصير كل أمر، وكلما ارتفع الاسلام درجة ورقى مرتبة كان الايمان المناسب له الاذعان بلوازم تلك المرتبة حتى يسلم العبد لربه حقيقة معنى ألوهيتة، وينقطع عنه السخط والاعتراض فلا يسخط لشئ من أمره من قضاء وقدر وحكم، ولا يعترض على شئ من إرادته، وبإزاء ذلك الايمان باليقين بالله وجميع
[ 90 ]
ما يرجع إليه من أمر، وهو الايمان الكامل الذى تتم به للعبد عبوديته. قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) النساء: 65، والاشبه أن تكون هذه المرتبة من الايمان أو ما يقرب منه هو المراد بالاية أعنى قوله: (الذين آمنوا وكانوا يتقون) فإنه الايمان المسبوق بتقوى مستمر دون الايمان بمرتبته الاولى كما تقدم. على أن توصيفه أهل هذا الايمان بأنهم (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) يدل على أن المراد منه الدرجة العالية من الايمان الذى يتم معه معنى العبودية والمملوكية المحضة للعبد الذى يرى معه أن الملك لله وحده لا شريك له، وأن ليس إليه من الامر شئ حتى يخاف فوته أو يحزن لفقده. وذلك أن الخوف إنما يعرض للنفس عن توقع ضرر يعود إليها، والحزن إنما يطرء عليها لفقد ما تحبه أو تحقق ما تكرهه مميعود إليها نفعه أو ضرره، ولا يستقيم تحقق ذلك إلا فيما يرى الانسان لنفسه ملكا أو حقا متعلقا بما يخاف عليه أو يحزن لفقده من ولد أو مال أو جاه أو غير ذلك. وأما ما لا علقه للانسان به بوجه من الوجوه اصلا فلا يخاف الانسان عليه ولا يحزن لفقده البتة. والذى يرى كل شئ ملكا طلقا لله سبحانه لا يشاركه في ملكه احد لا يرى لنفسه ملكا أو حقا بالنسبة إلى شئ حتى يخاف في امره أو يحزن، وهذا هو الذى
يصفه الله من اوليائه إذ يقول: (الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) فهؤلاء لا يخافون شيئا ولا يحزنون لشئ لا في الدنيا ولا في الاخرة إلا ان يشاء الله وقد شاء ان يخافوا من ربهم وان يحزنوا لما فاتهم من كرامته ان فاتهم وهذا كله من التسليم لله فافهم ذلك. فاطلاق الاية يفيد اتصافهم بهذين الوصفين: عدم الخوف وعدم الحزن في النشأتين الدنيا والاخرة، واما مثل قوله تعالى: (إلا المتقين يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين) الزخرف: 70 فان ظاهر الايات وان كان هو انها تريد الاولياء بالمعنى الذى تصفه الاية التى نحن فيها إلا ان اثبات عدم الخوف والحزن لهم يوم القيامة لا ينفى ذلك عنهم في غيره. نعم
[ 91 ]
هناك فرق من جهة اخرى وهو خلوص النعمة والكرامة وبلوغ صفائها يوم القيامة وكونها مشوبة غير خالصة في غيره. ونظيرها قوله تعالى: (ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة الا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التى كنتم توعدون نحن اولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الاخرة) فصلت: 31 فان الايات وان كانت ظاهرة في كون هذا التنزل والقول والبشارة يوم الموت لمكان قوله: (كنتم توعدون) وقوله: (ابشروا) غير ان الاثبات في وقت لا يكفى للنفي في وقت آخر كما عرفت. هذا ما يدل عليه الاية بحسب إطلاق لفظها وتأييد سائر الايات لها، وقد قيد اكثر المفسرين قوله: (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) - بالاستناد إلى آيات الاخرة - بيوم الموت والقيامة، واهملوا ما تفيده خصوصية اللفظ في قوله: (الذين آمنوا وكانوا يتقون) وأخذوا الايمان والتقوى امرين متقارنين فرجع المعنى إلى ان أولياء الله هم المتقون من اهل الايمان ولا خوف عليهم في الاخرة ولا هم يحزنون
وهذا - كما عرفت - من التقييد من غير مقيد. وعمم بعضهم نفى الخوف والحزن فذكر انهم متصفون به في الدنيا والاخرة غير انه أفسد المعنى من جهة اخرى فقال: ان المراد بالاولياء على ما تفسرهم به الاية الثانية جميع المتقين من المؤمنين، والمراد بعدم خوفهم وحزنهم انهم لا يخافون في الاخرة مما يخاف منه الكافرون والفاسقون والظالمون من اهوال الموقف وعذاب الموقف وعذاب الاخرة ولا هم يحزنون على ما تركوا وراءهم وأنهم لا يخافون في الدنيا كخوف الكفار ولا يحزنون كحزنهم. قال: واما اصل الخوف والحزن فهو من الاعراض البشرية التى لا يسلم منها احد في الدنيا، وانما يكون المؤمنون الصالحون اصبر الناس وأرضاهم بسنن الله اعتقادا وعلما بأنه إذا ابتلاهم بشئ مما يخيف أو يحزن فانما يربيهم بذلك لتكميل نفوسهم وتمحيصها بالجهاد في سبيله الذى يزداد به أجرهم كما صرحت بذلك الايات الكثيرة. انتهى. اما تقييده الاية بأن المنفى عن الاولياء هو الخوف والحزن اللذين يعرضان
[ 92 ]
للكفار دون ما يعرض لعامة المؤمنين بحسب الطبع البشرى واستناده في ذلك إلى الايات الكثيرة فهو من التقييد من غير مقيد، وأما قوله: إن اصل الخوف والحزن ما لا يسلم منه احد أصلا فهو من عدم تحصيل المراد بالكلام لعدم تعمقه في البحث عن الاخلاق العالية والمقامات المعنوية الانسانية فحمله ذلك على ان يقيس حال المكرمين من عباد الله المقربين من الانبياء والاولياء إلى ما يجده من حال المتوسطين من عامة الناس فزعم ان ما يغشى العامة من الاعراض التى سماها أحوالا طبيعية يغشى الخاصة لا محالة، وان ما يتعذر أو يتعسر على المتوسطين من الاحوال فهو كذلك عند الكاملين، ولا يبقى حينئذ للمقامات المعنوية والدرجات الحقيقية إلا
انها اسماء ليس وراءها حقيقة، واعتبارات وضعية اصطلح عليها نظير المقامات الوهمية والدرجات الرسمية الاجتماعية التى نتداولها في مجتمعاتنا لمصلحة الاجتماع. فلا وفى حق البحث العلمي حتى يهديه إلى حق النتيجة فيتبين ان التوحيد الكامل يقصر حقيقة الملك في الله سبحانه فلا يبقى لغيره شئ من الاستقلال في التأثير حتى يتعلق به لنفسه حب أو بغض أو خوف أو حزن ولا فرح ولا أسى ولا غير ذلك، وإنما يخاف هذا الذى غشيه التوحيد ويحزن أو يحب أو يكره بالله سبحانه، ويرتفع التناقض حينئذ بين قولنا: إنه لا يخاف شيئا إلا الله وبين قولنا: إنه يخاف كثيرا مما يضره ويحذر أمورا يكرهها فافهم ذلك. ولا البحث القرآني اتقن واستفرغ فيه الوسع حتى يظهر له ان قوله تعالى: (ألا إن اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) أطلق فيه نفى الخوف والحزن من غير تقييد بشئ أو حال إلا ما صرح به آيات من وجوب مخافة الله فهؤلاء لا يخافون من شئ في دنيا ولا آخرة إلا من الله سبحانه ولا يحزنون. وأما الايات الكثيرة التى تصف المؤمنين بعدم الخوف والحزن عند الموت أو يوم القيامة فهى إنما تصف أحوالهم في ظرف ولا يستوجب نفى شئ أو إثباته في مورد خلافه في غيره وهو ظاهر. والاية مع ذلك تدل على ان هذا الوصف إنما هو لطائفة خاصة من المؤمنين
[ 93 ]
يمتازون عن غيرهم بمرتبة خاصة من الايمان تخصهم دون غيرهم من عامة المؤمنين وذلك بما يفسرها من قوله: (الذين آمنوا وكانوا يتقون) بما تقدم من تقرير دلالته. وبالجملة ارتفاع الخوف من غير الله والحزن عن الاولياء ليس معناه أن الخير والشر والنفع والضرر والنجاة والهلاك والراحة والعناء واللذة والالم والنعمة والبلاء متساوية عندهم ومتشابهة في إدراكهم فإن العقل الانساني بل الشعور العام الحيوانى
لا يقبل ذلك. بل معناه أنهم لا يرون لغيره تعالى استقلالا في التأثير أصلا، ويقصرون الملك والحكم فيه تعالى فلا يخافون إلا إياه أو ما يحب الله ويريد أن يحذروا منه أو يحزنوا عليه. قوله تعالى: (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الاخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم) يبشرهم الله تعالى بشارة إجمالية بماتقر به أعينهم فإن كان قوله: (لهم البشرى) إنشاء للبشارة كان معناه وقوع ما بشر به في الدنيا وفي الاخرة كلتيهما، وإن كان اخبارا بأن الله سيبشرهم بشرى كانت البشارة واقعة في الدنيا وفي الاخرة، وأما المبشر به فهل يقع في الاخرة فقط أو في الدنيا والاخرة معا ؟ الاية ساكتة عن ذلك. وقد وقع في كلامه تعالى بشارات للمؤمنين بما ينطبق على أوليائه تعالى كقوله تعالى: (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) الروم: 47 وقوله: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد) المؤمن: 51 وقوله: (بشراكم اليوم جنات تجرى من تحتها الانهار) الحديد: 12 إلى غير ذلك. وقوله: (لا تبديل لكلمات الله) إشارة إلى ان ذلك من القضاء المحتوم الذى لا سبيل للتبدل إليه، وفيه تطييب لنفوسهم. قوله تعالى: (ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم) تأديب للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بتعزيته وتسليته فيما كانوا يؤذونه به بالوقوع في ربه والطعن في دينه والاعتزاز بشركائهم وآلهتهم كما يشعر به القول في الاية التالية فكاد يحزن لله فسلاه
[ 94 ]
الله وطيب نفسه بتذكيره ما يسكن وجده وهو أن العزة لله وأنه سميع لمقالهم عليهم بحاله وحالهم وإذ كان له تعالى كل العزة فلا يعبأ بما اعتزوا به من العزة الوهمية
فهذوا ما هذوا، وإذ كان سميعا عليما فلو شاء لاخذهم بالنكال وإذ كان لا يأخذهم فإنما في ذلك مصلحة الدعوة وخير العاقبة. ومن هنا يظهر ان كلا من قوله: (إن العزة لله) وقوله: (هو السميع العليم) علة مستقلة للنهى ولذا جئ بالفصل من غير عطف. قوله تعالى: (ألا إن لله من في السماوات ومن في الارض) إلى آخر الاية فيه بيان مالكيته تعالى لكل من في السماوات والارض التى بها يتم للاله معنى الربوبية فإن الرب هو المالك المدبر لامر مملوكه، وهذا الملك لله وحده لا شريك له فما يدعون له من الشركاء ليس لهم من معنى الشركة إلا ما في ظن الداعين وفي خرصهم من المفهوم الذى لا مصداق له. فالاية تقيس شركاءهم إليه تعالى وتحكم ان نسبتهم إليه تعالى نسبة الظن والخرص إلى الحقيقة والحق، والباقى ظاهر. وقد قيل: (من في السماوات ومن في الارض) ولم يقل: ما في السماوات وما في الارض لان الكلام في ربوبيه العباد من ذوى الشعور والعقل وهم الملائكة والثقلان. قوله تعالى: (هو الذى جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا) الاية. الاية تتمم البيان الذى أورد في الاية السابقة لاثبات ربوبيته تعالى والربوبية - كما تعلم - هي الملك والتدبير، وقد ذكر ملكه تعالى في الاية السابقة، فبذكر تدبير من تدابيره العامة في هذه الاية تصلح به عامة معيشة الناس وتستبقى به حياتهم يتم له معنى الربوبية. وللاشارة إلى هذا التدبير ذكر مع الليل سكنهم فيه، ومع النهار إبصارهم فيه الباعث لهم إلى انواع الحركات والتنقلات لكسب مواد الحياة واصلاح شؤون المعاش فليس يتم أمر الحياة الانسانية بالحركة فقط أو بالسكون فقط فدبر الله
[ 95 ]
سبحانه الامر في ذلك بظلمة الليل الداعية إلى تجديد تجهيز القوى بعد ما لحقها من العى والتعب والنصب وإلى الارتياح والانس بالاهل والتمتع مما جمع واكتسب بالنهار والفراغ للعبودية، وبضوء النهار الباعث إلى الرؤية فالاشتياق فالطلب. قوله تعالى: (قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغنى له ما في السماوات وما في الارض) إلى آخر الاية. الاستيلاد بمعناه المعروف عند الناس هو ان يفصل الموجود الحى بعض اجزاء مادته فيربيه بالحمل أو البيض تربية تدريجية حتى يتكون فردا مثله، والانسان من بينها خاصة ربما يطلب الولد ليكون عونا له على نوائب الدهر وذخرا ليوم الفاقة، وهذا المعنى بجميع جهاته محال عليه تعالى فهو عز اسمه منزه عن الاجزاء متعال عن التدريج في فعله برئ عن المثل والشبه مستغن عن غيره بذاته. وقد نفى القرآن الولد عنه بالاحتجاج عليه من كل من الجهات المذكورة كما تعرض لنفيه من جميعها في قوله: (وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والارض كل له قانتون بديع السماوات والارض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) البقرة: 117 وقد مرت الاشارة إلى ذلك في تفسير الايات في الجزء الاول من الكتاب. واما الاية التى نحن فيها فهى مسوقة للاحتجاج على نفى الولد من الجهة الاخيرة فحسب وهو ان الغرض من وجوده الاستعانة به عند الحاجة وذلك انما يتصور فيمن كان بحسب طبعه محتاجا فقيرا، والله سبحانه هو الغنى الذى لا يخالطه فقر فانه المالك لما فرض في السماوات والارض من شئ. وقوله: (ان عندكم من سلطان) أي برهان (بهذا) اثبات لكونهم انما قالوه جهلا من غير دليل فيكون محصل المعنى انه لا دليل لكم على ما قلتموه بل
الدليل على خلافه وهو انه تعالى غنى على الاطلاق، والولد انما يطلبه من به فاقة وحاجة، والكلام على ما اصطلح عليه في فن المناظرة من قبيل المنع مع السند. وقوله: (أتقولون على الله ما لا تعلمون) توبيخ لهم في قولهم ما ليس لهم به
[ 96 ]
علم، وهو مما يستقبحه العقل الانساني ولا سيما في ما يرجع إلى رب العالمين عز اسمه. قوله تعالى: (قل ان الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) تخويف وانذار بشؤم العاقبة، وفي الايتين من لطيف الالتفات ما هو ظاهر فقد حكى الله اولا عنهم من طريق الغيبة قولهم: (اتخذ الله ولدا) ثم خاطبهم خطاب الساخط الغضبان مما نسبوا إليه وافتروا عليه فقال: (ان عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون) وانما خاطبهم متنكرا من غير ان يعرفهم نفسه حيث قال: (على الله) ولم يقل: على أو علينا صونا لعظمة مقامه ان يخالطهم معروفا ثم اعرض عنهم تنزها عن ساحة جهلهم ورجع إلى خطاب رسوله قائلا: (قل ان الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) لانه إنذار والانذار شأنه. قوله تعالى: (متاع في الدنيا ثم الينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون) خطاب للنبى صلى الله عليه وآله وسلم فيه بيان وجه عدم فلاحهم بأنه كفر بالله ليس بحذائه إلا متاع قليل في الدنيا ثم الرجوع إلى الله والعذاب الشديد الذى يذوقونه. (بحث روائي) في أمالى الشيخ قال: اخبرنا أبو عمرو قال: اخبرنا احمد قال: حدثنا يعقوب ابن يوسف بن زياد قال: حدثنا نصر بن مزاحم قال: حدثنا محمد بن مروان عن الكلبى عن ابى صالح عن ابن عباس قال: (بفضل الله وبرحمته) بفضل الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبرحمته على عليه السلام. أقول: ورواه الطبرسي وابن الفارسى عنه مرسلا، ورواه أيضا في الدر
المنثورعن الخطيب وابن عساكر عنه. وفي المجمع قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: فضل الله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورحمته على بن ابى طالب عليه السلام. إقول: وذلك ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم نعمة أنعم الله بها على العالمين بما جاء به من
[ 97 ]
الرسالة ومواد الهداية، وعلى عليه السلام هو أول فاتح لباب الولاية وفعلية التحقق بنعمة الهداية فهو الرحمد فينطبق الخبر على ما قدمناه في تفسير الاية. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبى شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقي عن ابن عباس: (قل بفضل الله) القرآن و (برحمته) حين جعلهم من أهل القرآن. أقول: أي الفضل مواد المعارف والاحكام التى فيه، والرحمة فعلية تحقق ذلك في العاملين به فيرجع إلى ما قدمناه في تفسير الاية فتبصر، ولا مخالفة بين هذه الرواية والرواية السابقة حينئذ بحسب الحقيقة. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: (وما تكون في شأن) الاية قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قرأ هذه الاية بكى بكاء شديدا. أقول: ورواه في المجمع عن الصادق عليه السلام. وفي أمالى المفيد بإسناده عن عباية الاسدي عن ابن عباس قال: سئل أمير المؤمنين على بن أبى طالب عليه السلام عن قوله تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) فقيل له: من هؤلاء الاولياء ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: قوم أخلصوا لله في عبادته، ونظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها فعرفوا آجلها حين غرت الخلق سواهم بعاجلها فتركوا ما علموا أنه سيتركهم، وأماتوا منها ما علموا أنه سيميتهم.
ثم قال: أيها المطل نفسه بالدنيا الراكض على حبائلها المجتهد في عمارة ما سيخرب منها ألم تر إلى مصارع آبائك في البلاد ومصارع أبنائك تحت الجنادل والثرى ؟ كم مرضت ببدنك وعللت بكفنك تستوصف لهم الاطباء، وتستغيث لهم الاحباء فلم تغن عنهم غناءك، ولا ينجع عنهم دواؤك ؟ وفتفسير العياشي عن مرثد العجلى عن أبى جعفر عليه السلام قال: وجدنا في كتاب على بن الحسين عليه السلام: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
[ 98 ]
قال: إذا أدوا فرائض الله، وأخذوا بسنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتورعوا عن محارم الله، وزهدوا في عاجل زهرة الدنيا، ورغبوا فيما عند الله، واكتسبوا الطيب من رزق الله، ولا يريدون هذا التفاخر والتكاثر ثم أنفقوا فيما يلزمهم من حقوق واجبة فاولئك الذين بارك الله لهم فيما اكتسبوا ويثابون على ما قدموا لاخرتهم. وفي الدر المنثور أخرج أحمد والحكيم والترمذي عن عمرو بن الجموح أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنه لا يحق العبد حق صريح الايمان حتى يحب لله ويبغض لله تعالى فإذا أحب الله وأبغض الله فقد استحق الولاء من الله. الحديث. أقول: والروايات الثلاث في معنى الولاية يرجع بعضها إلى بعض وينطبق الجميع على ما قدمناه في تفسير الاية. وفيه اخرج ابن المبارك وابن ابى شيبة وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعيد بن جبير عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) قال: يذكر الله لرؤيتهم. أقول: ينبغى أن يحمل إلى أن من آثار ولايتهم ذلك لا أن كل من كان كذلك كان من اهل الولاية إلا أن يراد أنهم كذلك في جميع أحوالهم وأعمالهم، وفي معناها ما روى عن ابى الضحى وسعد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الاية قال: إذا رأوا
ذكر الله. وفيه أخرج ابن ابى الدنيا في ذكر الموت وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو القاسم بن منده في كتاب سؤال القبر من طريق ابى جعفر عن جابر بن عبد الله قال: أتى رجل من اهل البادية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أخبرني عن قول الله: (الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الاخرة) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما قوله: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) فهى الرؤيا الحسنة ترى للمؤمن فيبشر بها في دنياه، وأما قوله: (وفي الاخرة) فإنها بشارة المؤمن عند الموت ان الله قد غفر لك ولمن حملك إلى قبرك. أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة من طرق اهل السنة ورواها الصدوق
[ 99 ]
مرسلا وقوله: (ترى للمؤمن) بصيغة المجهول أعم من أن يراها هو نفسه أو غيره وقوله: (عند الموت) قد أضيف إليه في بعض الروايات البشرى يوم القيامة بالجنة. وفي المجمع في قوله: (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الاخرة) عن ابى جعفر عليه السلام في معنى البشارة في الدنيا: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن لنفسه أو ترى له، وفي الاخرة الجنة وهى ما يبشرهم به الملائكة عند خروجهم من القبور، وفي القيامة إلى أن يدخلوا الجنة يبشرونهم حالا بعد حال. أقول: وقال بعد ذلك: وروى ذلك في حديث مروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انتهى وروى مثله عن الصادق عليه السلام ورواه القمى في تفسيره مضمرا. وفي تفسير البرهان عن ابن شهراشوب عن زريق عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) قال: هو أن يبشراه بالجنة عند الموت يعنى محمدا وعليا عليهما السلام. وفي الكافي بإسناده عن أبان بن عثمان عن عقبة أنه سمع أبا عبد الله عليه السلام
يقول: إن الرجل إذا وقعت نفسه في صدره رأى. قلت: جعلت فداك وما يرى ؟ قال: يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقول له رسول الله. أنا رسول الله أبشر، ثم قال: ثم يرى على بن ابى طالب عليه السلام فيقول: أنا على بن ابى طالب الذى كنت تحب أما لانفعنك اليوم. قال: قلت له: أيكون أحد من الناس يرى هذا ثم يرجع إلى الدنيا ؟ قال: إذا رأى هذا أبدا مات وأعظم ذلك قال: وذلك في القرآن قول الله عزوجل: (الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الاخرة لا تبديل لكلمات الله). أقول: وهذا المعنى مروى عن أئمة أهل البيت عليهم السلام بطرق كثيرة جدا وقوله: (وأعظم ذلك) أي عده عظيما. وقد أخذ في الحديث قوله تعالى: (الذين آمنوا وكانوا يتقون) كلاما مستقلا ففسره بما فسر، وتقدم نظيره في رواية الدر المنثورعن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم مع أن ظاهر السياق كون الاية مفسرة لقوله قبلها: (ألا إن أولياء الله) الاية وهو يؤيد ما قدمناه في بعض الابحاث
[ 100 ]
السابقة أن جميع التقادير من التركيبات الممكنة في كلامه تعالى حجة يحتج بها كما في قوله: (قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) الانعام: 91 وقوله: (قل الله ثم ذرهم في خوضهم) وقوله: (قل الله ثم ذرهم) وقوله: (قل الله). وفي الدر المنثور أخرج ابن ابى شيبة وأحمد والترمذي وصححه وابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدى ولا نبى ولكن المبشرات. قالوا: يا رسول الله وما المبشرات قال: رؤيا المسلم وهى جزء من أجزاء النبوة. أقول: وروى ما في معناه عن أبى قتادة وعائشة عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه أخرج ابن أبى شيبة ومسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجه عن أبى
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا، ورؤيا المسلم جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة، والرؤيا ثلاث: فالرؤيا الصالحة بشرى من الله، والرؤيا من تحزن والرؤيا مما يحدث بها الرجل نفسه. وإذا رأى احدكم ما يكره فليقم وليتفل ولا يحدث به الناس. الحديث. وفيه أخرج ابن أبى شيبة عن عوف بن مالك الاشجعى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الرؤيا على ثلاثة: تخويف من الشيطان ليحزن به ابن آدم ومنه الامر يحدث به نفسه في اليقظة فيراه في المنام، ومنه جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة. أقول: أما انقسام الرؤيا إلى الاقسام الثلاثة كما ورد في الروايتين وفي معناهما روايات أخرى من طرق أهل السنة وأخرى من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام فسيجئ توضيحه في تفسير سورة يوسف إن شاء الله تعالى. وأما كون الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة فقد وردت به روايات كثيرة من طرق أهل السنة رواها عنه صلى الله عليه وآله وسلم جمع من الصحابة كأبى هريرة وعبادد بن الصامت وأبى سعيد الخدرى وأبى رزين، وروى أنس وأبو قتادة و عائشة عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنها من أجزاء النبوة كما تقدم.
[ 101 ]
وعن الصفدى أنه وجه الرواية بأن مدة نبوه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث وعشرون سنة دعا فيها إلى ربه ثلاث عشرة سنة قبل الهجرة، وعشر سنين بعدها، وقد ورد أن الوحى كان يأتيه ستة أشهر من أولها من طريق الرؤيا الصالحة حتى نزل القرآن، والنسبة بين الستة الاشهر وبين الثلاث وعشرين سنة نسبة الواحد إلى الستة والاربعين. وقد روى عن ابن عمر وأبى هريرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنها جزء من سبعين جزء من النبوة فإن صحت هذه الرواية كان المراد بالتعداد مجرد التكثير من غير خصوصية
لعدد السبعين. واعلم أن الرؤيا ربما أطلقت في لسان القرآن والحديث على ما يشاهده الرائى ما لا يشاهده غيره وإن لم ينم نومه الطبيعي، وقد نبهنا عليه في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب وأحسن كلمة في تفسيرها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: تنام عينى ولا ينام قلبى. * * * واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلى ولا تنظرون - 71. فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجرى إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين - 72. فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين - 73. ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل
[ 102 ]
كذلك نطبع على قلوب المعتدين - 74. (بيان) تذكر الايات إجمال قصة نوح عليه السلام ومن بعده من الرسل إلى زمن موسى وهارون عليهما السلام، وما عامل به الله سبحانه أممهم المكذبين لرسلهم حيث أهلكهم ونجا رسله والمؤمنين بهم ليعتبر بها أهل التكذيب من هذه الامة. قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ نوح) إلى آخر الاية المقام مصدر ميمى واسم زمان ومكان من القيام، والمراد به الاول أو الثالث أي قيامى بأمر الدعوة إلى
توحيد الله أو مكانتي ومنزلتي وهى منزلة الرسالة، والاجماع العزم وربما يتعدى بعلى قال الراغب: وأجمعت كذا اكثر ما يقال فيما يكون جمعا يتوسل إليه بالفكرة نحو فأجمعوا كيدكم وشركاءكم. والغمة هي الكربة والشدة وفيه معنى التغطية كأن الهم يغطى القلب، ومنه الغمام للغيم سمى به لتغطيته وجه السماء، والقضاء إلى الشئ إتمام أمره بقتل وإفناء ونحو ذلك. ومعنى الاية: (واتل) يا محمد (عليهم نبأ نوح) وخبره العظيم حيث واجه قومه وهو واحد يتكلم عن نفسه، وهو مرسل إلى أهل الدنيا فتحدى عليهم بأن يفعلوا به ما بدا لهم إن قدروا على ذلك، وأتم الحجة على مكذبيه في ذلك (إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي) ونهضتي لامر الدعوة إلى التوحيد أو منزلتي من الرسالة (وتذكيري بآيات الله) وهو داعيكم لا محالة إلى قتلى وإيقاع ما تقدرون عليه من الشر بى لاراحة أنفسكم منى (فعلى الله توكلت) قبال ما يهددني من تحرج صدوركم وضيق نفوسكم على بإرجاع أمرى إليه وجعله وكيلا يتصرف في شؤوني ومن غير أن أشتغل بالتدبير (فأجمعوا أمركم وشركاءكم) الذين تزعمون أنهم ينصرونكم في الشدائد، واعزموا على بما بدا لكم، وهذا أمر تعجيزى (ثم لا يكن
[ 103 ]
أمركم عليكم غمة إن لم تكونوا اجتهدتم في التوسل إلى كل سبب في دفعي (ثم اقضوا إلى) بدفعى وقتلى (ولا تنظرون) ولا تمهلونى. وفي الاية تحديه عليه السلام على قومه بأن يفعلوا به ما بدا لهم، وإظهار أن ربه قدير على دفعهم عنه وإن أجمعوا عليه وانتصروا بشركائهم وآلهتهم. قوله تعالى: (فإن توليتم فما سألتكم من أجر) إلى آخر الاية. تفريع على توكله بربه، وقوله: (فما سألتكم) الخ، بمنزلة وضع السبب موضع المسبب
والتقدير فإن توليتم وأعرضتم عن استجابة دعوتي فلا ضير لى في ذلك فإنى لا أتضرر في إعراضكم شيئا لانى إنما كنت أتضرر بإعراضكم عنى لو كنت سألتكم أجرا على ذلك يفوت بالاعراض وما سألتكم عليه من أجر إن أجرى إلا على الله. وقوله: (وأمرت أن أكون من المسلمين) أي الذين يسلمون الامر إليه فيما أراده لهم وعليهم، ولا يستكبرون عن امره بالتسليم لسائر الاسباب الظاهرة حتى يخضعوا لها ويتوقعوا به ايصال نفع أو دفع شر. قوله تعالى: (فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف) إلى آخر الاية، الخلائف جمع خليفة أي جعلنا هؤلاء الناجين خلائف في الارض والباقين من بعدهم يخلفون سلفهم ويقومون مقامهم، والباقى ظاهر. قوله تعالى: (ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم) إلى آخر الاية، يريد بالرسل من جاء منهم بعد نوح إلى زمن موسى عليهم السلام. وظاهر السياق أن المراد بالبينات الايات المعجزة التى اقترحتها الامم على انبيائهم بعد مجيئهم ودعوتهم وتكذيبهم لهم فأتوا بها وكان فيها القضاء بينهم وبين اممهم، ويؤيده قوله بعده: (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) الخ، فإن السابق إلى الذهن أنهم جاءوهم بالايات البينات لكن الله قد كان طبع على قلوبهم لاعتدائهم فلم يكن في وسعهم أن يؤمنوا ثانيا بما كذبوا به أولا. ولازم ذلك أن يكون تكذيبهم بذلك قبل مجئ الرسل بتلك الايات البينات فقد كانت الرسل بثوا دعوتهم فيهم ودعوهم إلى توحيد الله فكذبوا به وبهم ثم اقترحوا
[ 104 ]
عليهم آية معجزة فجاءوهم بها فلم يؤمنوا. وقد أسلفنا بعض البحث عن هذه الاية في تفسير قوله: (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل) الاعراف: 101 في الجزء الثامن من الكتاب، وبينا هناك أن
في الاية إشارة إلى عالم الذر غير أنه لا ينافى إفادتها لما قدمناه من المعنى آنفا فليراجع. (بحث روائي) في الكافي عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن اسماعيل عن صالح بن عقبة عن عبد الله بن محمد الجعفي وعقبة جميعا عن ابى جعفر عليه السلام قال: إن الله عزوجل خلق الخلق فخلق من أحب مما أحب فكان مما (1) أحب أن خلقه من طين الجنة وخلق من أبغض مما أبغض وكان ما أبغضه أن خلقه من طينة النار ثم بعثهم في الظلال، فقلت: وأى شئ الظلال ؟ فقال: ألم تر إلى ظلك في الشمس شئ وليس بشئ. ثم بعث منهم النبيين فدعوهم إلى الاقرار بالله عزوجل: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) ثم دعوهم إلى الاقرار بالنبيين فأقر بعض وأنكر بعض، ثم دعوهم إلى ولايتنا فأقر بها والله من أحب وأنكرها من أبغض، وهو قوله: (ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل). ثم قال أبو جعفر عليه السلام: كان التكذيب من قبل. أقول: ورواه في العلل بإسناده إلى محمد بن اسماعيل عن صالح عن عبد الله وعقبه عنه عليه السلام، ورواه العياشي عن الجعفي عنه عليه السلام. وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام: خلق الخلق وهم أظلة فأرسل رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمنهم من آمن به ومنهم من كذبه ثم بعثه في الخلق الاخر فامن به من كان آمن به في الاظلة وجحده من جحده يومئذ
(1) ما ظ. (*)
[ 105 ]
فقال: (ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل). أقول: قد فصلنا القول في ما يسمى عالم الذفى تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) الاية. وأوضحنا هناك أن آيات الذر تثبت عالما إنسانيا آخر غير هذا العالم الانساني
المادى التدريجي المشوب بالالام والمصائب والمعاصي والاثام المشهود لنا من طريق الحس. وهو مقارن لهذا العالم المحسوس نوعا من المقارنة لكنه غير محكوم بهذه الاحكام المادية، وليس تقدمه على عالمنا هذا تقدما بالزمان بل بنوع آخر من التقدم نظير التقدم المستفاد من قوله: (أن يقول له كن فيكون) يس: 82 فإن (كن) و (يكون) يحكيان عن مصداق واحد وهو وجود الشئ خارجا لكن هذا الوجود بعينه بوجهه الذى إلى الله متقدم عليه بوجهه الاخر، وهو بوجهه الربانى غير تدريجي ولا زماني ولا غائب عن ربه ولا منقطع عنه بخلاف وجهه إلى الخلق على التفصيل الذى تقدم هناك. والذى اوردناه من الرواية في هذا البحث الروائي تشير إلى عالم الذر كالذى مرت سابقا غير أنها تختص بمزية وهى ما فيها من لطيف التعبير بالظلال فإن بإجادة التأمل في هذا التعبير يتضح المراد احسن الاتضاح فإن في الاشياء الكونية امورا هي كالظلال في أنها لازمة لها حاكية لخصوصيات وجودها، وآثار وجودها ومع ذلك فهى هي وليست هي. فإنا إذا نظرنا إلى الاشياء وجردنا النظر ومحضناه في كونها صنع الله وفعله المحض غير المنفك منه ولا المنفصل عنه - وهى نظرة حقة واقعية - لم يتحقق فيها إلا التسليم لله والخضوع لارادته والتذلل لكبريائه والتعلق برحمته وأمر ربوبيته والايمان بوحدانيته وبما أرسل به رسله وأنزله إليهم من دينه. وهذه الوجودات ظلال - اشياء وليست بأشياء - إذا قيست إلى وجودات الاشياء المادية، وأخذ العالم المادى اصلا مقيسا إليه وهو الذى بنت عليه الايات من جهة كون غرضها بيان ثبوت التكليف بالتوحيد تكليفا لا محيص عنه مسؤولا عنه يوم القيامة.
[ 106 ]
ولو أخذت جهة الرب تعالى اصلا وقيس إليه هذا العالم المادى بما فيه من الموجودات المادية - وهو ايضا نظر حق - كان هذا العالم هو الظل وكانت جهة الرب تعالى هو الاصل والشخص الذى له الظل كما يشير إليه قوله تعالى: (كل شئ هالك إلا وجهه) القصص: 88، وقوله: (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك) الرحمن: 27. وأما ما رواه العياشي عن ابى بصير عن ابى عبد الله عليه السلام في قوله: (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل قال: (بعث الله الرسل إلى الخلق وهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء فمن صدق حينئذ صدق بعد ذلك، ومن كذب حينئذ كذب بعد ذلك). فظاهره أن للبعث تعلقا بالنطف التى في الاصلاب والارحام. وهم أحياء عقلاء مكلفون، وهذا مما يدفعه الضرورة كما تقدم في الكلام على آية الذر اللهم إلا أن يحمل على أن المراد كون عالم الذر محيطا بهذا العالم المادى التدريجي الزمانى من جهة كونه غير زماني فلا يتعلق الوجود الذرى بزمان دون زمان، وهو مع ذلك محمل بعيد. * * * ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملائه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين - 75. فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين - 76. قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون - 77. قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الارض وما نحن لكما بمؤمنين - 78. وقال فرعون ائتونى بكل ساحر
[ 107 ]
عليم - 79. فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون
- 80. فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين - 81. ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون - 82. فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملائهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الارض وإنه لمن المسرفين - 83. وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين - 84. فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين - 85. ونجنا برحمتك من القوم الكافرين - 86. وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلوة وبشر المؤمنين - 87. وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملاه زينة وأموالا في الحيوة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم - 88. قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون - 89. وجاوزنا ببنى إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذى آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين - 90. ء الآن وقد عصيت قبل وكنت
[ 108 ]
من المفسدين - 91. فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون - 92. ولقد بوأنا بنى إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون - 93.
(بيان) ثم ساق الله سبحانه نبأ موسى وأخيه ووزيره هارون مع فرعون وملاه وقد أوجز في القصة غير أنه ساقها سوقا ينطبق بفصولها على المحصل من حديث بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته عتاة قومه والطواغيت من قريش وغيرهم، وعدم إيمانهم به إلا ضعفاؤهم الذين كانوا يفتنونهم حتى التجأوا إلى الهجرة فهاجر هو صلى الله عليه وآله وسلم وجمع من المؤمنين به إلى المدينة فعقبه فراعنة هذه الامة وملؤهم فأهلكهم الله بذنوبهم وبوأ الله المؤمنين ببركة الاسلام مبوأ صدق ورزقهم من الطيبات ثم اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم وسيقضى الله بينهم. فكان ذلك كله تصديقا لما أسر الله سبحانه إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الايات فيما سيستقبله وقومه من الحوادث، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم يخاطب أصحابه وأمته: لتتبعن سنة بنى إسرائيل حتى أنهم لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قوله تعالى: (ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون) الخ، أي ثم بعثنا من بعد نوح والرسل الذين من بعده موسى وأخاه هارون باياتنا إلى فرعون والجماعة الذين يختصون به من قومه وهم القبط فاستكبروا عن آياتنا وكانوا مستمرين على الاجرام. قوله تعالى: (فلما جاءهم الحق من عندنا) الخ، الظاهر أن المراد بالحق هو الاية الحقة كالثعبان واليد البيضاء، وقد جعلهما الله آية لرسالته بالحق فلما جاءهم
[ 109 ]
الحق قالوا وأكدوا القول: إن هذا - يشيرون إلى الحق من الاية - لسحر مبين واضح كونه سحرا، وانما سمى الاية حقا قبال تسميتهم إياها سحرا. قوله تعالى: (قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا) الخ، أي فلما سمع مقالتهم تلك ورميهم الحق بأنه سحر مبين قال لهم منكرا لقولهم في صورة الاستفهام: (أتقولون للحق لما جاءكم) إنه لسحر ؟ ثم كرر الانكار مستفهما
بقوله: (أسحر هذا) ؟ فمقول القول في الجملة الاستفهامية محذوف إيجازا لدلالة الاستفهام الثاني عليه، وقوله: (ولا يفلح الساحرون) يمكن أن يكون جملة حالية معللة للانكار الذى يدل عليه قوله: (أسحر هذا)، ويمكن أن يكون إخبارا مستقلا بيانا للواقع يبرئ به نفسه من أن يقترف السحر لانه يرى لنفسه الفلاح وللساحرين أنهم لا يفلحون. قوله تعالى: (قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا) الخ، اللفت هو الصرف عن الشئ، والمعنى: قال فرعون وملاه لموسى معاتبين له: (أجئتنا لتلفتنا) وتصرفنا (عما وجدنا عليه آباءنا) يريدون سنة قدمائهم وطريقتهم وتكون لكما الكبرياء في الارض يعنون الرئاسه والحكومه وانبساط القدره ونفوذ الارادة يؤمون بذلك انكما اتخذتما الدعوة الدينية وسيلة إلى إبطال طريقتنا المستقرة في الارض، ووضع طريقة جديدة أنتما واضعان مبتكران لها موضعها تحوزان بإجرائها في الناس وإيماننا بكما وطاعتنا لكما الكبرياء والعظمة في المملكة. وبعبارة أخرى إنما جئتما لتبدلا الدولة الفرعونية المتعرقة في القبط إلى دولة إسرائيلية تدار بإمامتكما وقيادتكما، وما نحن لكما بمؤمنين حتى تنالا بذلك أمنيتكما وتبلغا غايتكما من هذه الدعوة المزورة. قوله تعالى: (وقال فرعون ائتونى بكل ساحر عليم) كان يأمر به ملاه فيعارض بسحر السحرة معجزة موسى كما فصل في سائر الايات القاصة للقصة وتدل عليه الايات التالية. قوله تعالى: (فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا) الخ، أي لما جاءوا وواجهوا موسى وتهيؤوا لمعارضته قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقوه من الحبال
[ 110 ]
والعصى، وقد كانوا هيؤوها ليلقوها فيظهروها في صور الحيات والثعابين بسحرهم. قوله تعالى: فلما ألقوا قال لهم موسى ما جئتم به السحر) ما قاله عليه السلام
بيان لحقيقة من الحقائق لينطبق عليها ما سيظهره الله من الحق على يديه من صيرورة العصا ثعبانا يلقف ما ألقوه من الحبال والعصى وأظهروه في صور الحيات و الثعابين بسحرهم. والحقيقة التى بينها لهم أن الذى جاءوا به سحر والسحر شأنه إظهار ما ليس بحق واقع في صورة الحق الواقع لحواس الناس وأنظارهم، واذ كان باطلا في نفسه فان الله سيبطله لان السنة الالهية جارية على إقرار الحق واحقاقه في التكوين وإزهاق الباطل وإبطاله فالدولة للحق وان كانت للباطل جولة أحيانا. ولذا علل قوله: (إن الله سيبطله) بقوله: (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) فان الصلاح والفساد شأنان متقابلان، وقد جرت السنة الالهية أن يصلح ما هو صالح ويفسد ما هو فاسد أي ان يرتب على كل منهما أثره المناسب له المختص به وأثر العمل الصالح ان يناسب ويلائم سائر الحقائق الكونية في نظامها الذى تجرى هي عليه، ويمتزج بها ويخالطها فيصلحه الله سبحانه ويجريه على ما كان من طباعه، وأثر العمل الفاسد ان لا يناسب ولا يلائم سائر الحقائق الكونية فيما تقتضيه بطباعها وتجرى عليه بجبلتها فهو امر استثنائي في نفسه، ولو اصلحه الله في فساده كان ذلك إفسادا للنظام الكونى. فيعارضه سائر الاسباب الكونية بما لها من القوى والوسائل المؤثرة، وتعيده إلى السيرة الصالحة إن أمكن وإلا أبطلته وأفنته ومحته عن صحيفة الوجود البتة. وهذه الحقيقة تستلزم أن السحر وكل باطل غيره لا يدوم في الوجود وقد قررها الله سبحانه في كلامه في مواضع مختلفة كقوله: (والله لا يهدى القوم الظالمين) وقوله: (والله لا يهدى القوم الفاسقين) وقوله: (إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب) المؤمن: 28، ومنها قوله في هذه الاية: (إن الله لا يصلح عمل المفسدين). وأكده بتقريره في جانب الاثبات بقوله في الاية التالية: (ويحق الله الحق
[ 111 ]
بكلماته ولو كره المجرمون) كما سيأتي توضيحه. قوله تعالى: (ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون) لما كشف الله عن الحقيقة المتقدمة في جانب النفى بقوله: (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) أبان عنه في جانب الاثبات أيضا في هذه الاية بقوله: (ويحق الله الحق بكلماته) وقد جمع تعالى بين معنيى النفى والاثبات في قوله: (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) الانفال: 8. ومن هنا يقوى احتمال أن يكون المراد بالكلمات في الاية أقسام الاقضية الالهية في شؤون الاشياء الكونية الجارية على الحق فإن قضاء الله ماض وسنته جارية أن يضرب الحق والباطل في نظام الكون ثم لا يلبث الباطل دون أن يفنى ويعفى أثره ويبقى الحق على جلائه، وذلك قوله تعالى: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض) الرعد: 17، وسيجئ استيفاء البحث فيه في ذيل الاية إن شاء الله تعالى. والحاصل أن موسى عليه السلام إنما ذكر هذه الحقيقة لهم ليوقفهم على سنة إلهية حقة غفلوا عنها، وليهيئ نفوسهم لما سيظهره عملا من غلبة الاية المعجزة على السحر وظهور الحق على الباطل، ولذا بادروا إلى الايمان حين شاهدوا المعجزة، وألقوا أنفسهم على الارض ساجدين على ما فصله الله سبحانه في مواضع أخرى من كلامه. وقوله: (ولو كره المجرمون) ذكر الاجرام من بين أوصافهم لان فيه معنى القطع فكأنهم قطعوا سبيل الحق على أنفسهم وبنوا على ذلك بنيانهم فهم على كراهية من ظهور الحق، ولذلك نسب الله كراهة ظهور الحق إليهم بما هم مجرمون في قوله:
(ولو كره المجرمون) وفي معناه قوله في اول الايات: (فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين). قوله تعالى: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملاهم) إلى آخر الايتين ذكر بعض المفسرين أن الضمير في (قومه) راجع إلى فرعون،
[ 112 ]
والذرية الذين آمنوا من قومه كانت أمهاتهم من بنى إسرائيل وآباؤهم من القبط فتبعوا أمهاتهم في الايمان بموسى، وقيل: الذرية بعض أولاد القبط، وقيل: أريد بها امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون، وقد ذكرا في القرآن وجارية وامرأة هي مشاطة امرأة فرعون. وذكر آخرون أن الضمير لموسى عليه السلام والمراد بالذرية جماعة من بنى إسرائيل تعلموا السحر وكانوا من أصحاب فرعون، وقيل: هم جميع بنى إسرائيل وكانوا ستمائة الف نسمة سماهم ذرية لضعفهم، وقيل: ذرية آل إسرائيل ممن بعث إليهم موسى وقد هلكوا بطول العهد، وهذه الوجوه - كما ترى - لا دليل على شئ منها في الايات من جهة اللفظ. والذى يفيده السياق وهو الظاهر من الاية أن يكون الضمير راجعا إلى موسى والمراد بالذرية من قوم موسى بعض الضعفاء من بنى إسرائيل دون ملاهم الاقوياء والشرفاء، والاعتبار يساعد على ذلك فإنهم جميعا كانوا أسراء للقبط محكومين بحكمهم بأجمعهم، والعادة الجارية في أمثال هذه الموارد أن يتوسل الشرفاء و الاقوياء بأى وسيلة أمكنت إلى حفظ مكانتهم الاجتماعية وجاههم القومي، ويتقربوا إلى الجبار المسيطر عليهم بإرضائه بالمال والتظاهر بالخدمة ومراءاة النصح والتجنب عما لا يرتضيه فلم يكن في وسع الملا من بنى اسرائيل أن يعلنوا موافقة موسى على بغيته، ويتظاهروا بالايمان به.
على أن قصص بنى اسرائيل في القرآن أعدل شاهد على أن كثيرا من عتاة بنى اسرائيل ومستكبريهم لم يؤمنوا بموسى إلى أواخر عهده وإن كانوا يتسلمون له ويطيعونه في عامة اوامره التى كان يصدرها لبذل المساعى في سبيل نجاد بنى اسرائيل لما كان فيها صلاح قوميتهم وحرية شعبهم ومنافع اشخاصهم، فالاطاعة في هذه الامور أمر والايمان بالله وما جاء به الرسول أمر آخر. ويستقيم على هذا معنى قوله: (وملاهم) بأن يكون الضمير إلى الذرية ويفيد الكلام أن الذرية الضعفاء كانوا في ايمانهم يخافون الملا والاشراف من بنى اسرائيل فانهم ربما كانوا يمنعونهم لعدم إيمانهم انفسهم أو تظاهروا بذلك ليرضوا به فرعون وقومه
[ 113 ]
ويطيبوا أنفسهم فلا يضيقوا عليهم وينقصوا من إيذائهم والتشديد عليهم. وأما ما قيل: إن الضمير راجع إلى فرعون لانه ذو اصحاب أو للذرية لانهم كانوا من القبط فمما لا يصار إليه البتة وخاصة أول الوجهين. وقوله: (أن يفتنهم) أي يعذبهم ليعودوا إلى ملته، وقوله: (وإن فرعون لعال في الارض) أي والظرف هذا الظرف وهو أن فرعون عال في الارض مسرف في الامر. فالمعنى - والله أعلم - فتفرع على قصة بعثهما واستكبار فرعون وملاه أنه لم يؤمن بموسى إلا ضعفاء من بنى اسرائيل وهم يخافون ملاهم ويخافون فرعون أن يعذبهم لايمانهم وكان ينبغى لهم ومن شأنهم أن يخافوا فإن فرعون كان يومئذ عاليا في الارض مسلطا عليهم وأنه كان من المسرفين لا يعدل فيما يحكم ويجاوز الحد في الظلم والتعذيب. ولو صح أن يراد بقومه كل من بعث إليهم موسى وبلغهم الرسالة وهم القبط وبنو اسرائيل استقام الكلام من طريق آخر من غير حاجد إلى ما تقدم من تكلفاتهم.
قوله تعالى: (وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين) ما كان الايمان بالله بما يفيده للمؤمن من العلم بمقام ربه ولو إجمالا وأنه سبب فوق الاسباب إليه ينتهى كل سبب، وهو المدبر لكل أمر، يدعوه إلى تسليم الامر إليه والتجنب عن الاعتماد بظاهر ما يمكنه التسبب به من الاسباب فإنه من الجهل، ولازم ذلك إرجاع الامر إليه والتوكل عليه، وقد أمرهم في الاية بالتوكل على الله، علقه أولا على الشرط الذى هو الايمان ثم تمم الكلام بالشرط الذى هو الاسلام. فالكلام في تقدير: إن كنتم آمنتم بالله ومسلمين له فتوكلوا عليه. وقد فرق بين الشرطين ولعله لم يجمع بينهما فيقول: (إن كنتم آمنتم وأسلمتم فتوكلوا) لاختلاف الشرطين بحسب الحال فقد كان الايمان واقعا محرزا منهم، وأما الاسلام فهو من كمال
[ 114 ]
الايمان، وليس من الواجب الضرورى ان يكون كل مؤمن مسلما بل من الاولى الاحرى أن يكمل إيمانه بالاسلام. فالتفريق بين الشرطين للاشعار بكون احدهما واجبا واقعا منهم، والاخر مما ينبغى لهم أن يتحققوا به فالمعنى: يا قوم إن كنتم آمنتم بالله - وقد آمنتم - وكنتم مسلمين له - وينبغى أن تكونوا كذلك - فتوكلوا على الله، ففى الكلام من لطيف الصنعة ما لا يخفى. قوله تعالى: (فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) إلى آخر الايتين، إنما توكلوا على الله لينجيهم من فرعون وملاه فدعاؤهم بما دعوا به من قولهم: (ربنا لا تجعلنا فتنة) الخ، سؤال منهم نتيجة توكلهم وهو ان ينزع الله منهم لباس الضعف والذلة، وينجيهم من القوم الكافرين. أما الاول فقد اشاروا إليه بقولهم: (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين)
وذلك أن الذى يغرى الاقوياء الظالمين على الضعفاء المظلومين هو ما يشاهدون فيهم من الضعف فيفتتنون به فيظلمونهم فالضعيف بما له من الضعف فتنة للقوى الظالم كما أن الاموال والاولاد بما عندها من جاذبة الحب فتنة للانسان، قال تعالى: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) التغابن: 15. والدنيا فتنة لطالبها فسؤالهم ربهم أن لا يجعلهم فتنة للقوم الظالمين سؤال منهم أن يسلبهم الضعف والذلة بسلب الغرض منه وهو سلب الشئ بسلب سببه. وأما الثاني أعنى التنجية فهو الذى ذكره حكاية عنهم في الاية الثانية: (ونجنا برحمتك من القوم الكافرين). قوله تعالى: (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا) الخ، التبوى أخذ المسكن والمنزل، ومصر بلد فرعون، والقبلة في الاصل بناء نوع من المصدر كجلسة أي الحالد التى يحصل بها التقابل بين الشئ وغيره فهو مصدر بمعنى الفاعل أي اجعلوا بيوتكم متقابلة يقابل بعضها بعضا وفي جهة واحدة وكان الغرض أن يتمكنا منهم بالتبليغ ويتمكنوا من إقامة الصلاة جماعة كما يدل عليه أو يشعر به قوله بعده: (واقيموا الصلاة) لوقوعه بعده.
[ 115 ]
وأما قوله: (وبشر المؤمنين) فالسياق يدل على أن المراد به البشارة بإجابة ما سألوه في دعائهم المذكور آنفا: (ربنا لا تجعلنا فتنة) إلى آخر الايتين. والمعنى: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن اتخذا لقومكما مساكن من البيوت في مصر - وكأنهم لم يكونوا إلى ذاك الحين إلا كهيئة البدويين يعيشون في الفساطيط أو عيشة تشبهها - واجعلا أنتما وقومكما بيوتكم متقابلة وفي جهة واحدة يتصل بذلك بعضكم ببعض ويتمشى أمر التبليغ والمشاورة والاجتماع في الصلوات، وأقيموا الصلاة وبشر يا موسى أنت المؤمنين بأن الله سينجيهم من فرعون وقومه.
قوله تعالى: (وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملاه زينة وأموالا) الخ، الزينة بناء نوع من الزين وهى الهيئة التى تجذب النفس إلى الشئ، والنسبة بين الزينة والمال العموم من وجه فبعض الزينة ليس بمال يبذل بإزائه الثمن كحسن الوجه واعتدال القامة، وبعض المال ليس بزينة كالانعام والاراضي، وبعض المال زينة كالحلي والتقابل الواقع بين الزينة والمال يعطى أن يكون المراد بالزينة جهة الزينة من غير نظر إلى المالية كالحلي والرياش والاثاث والابنيه الفاخرة وغيرها. وقوله: (ربنا ليضلوا عن سبيلك) قيل اللام للعاقبة، والمعنى وعاقبة أمرهم أنهم يضلون عن سبيلك، ولا يجوز أن يكون لام الغرض لانا قد علمنا بالادلة الواضحة أن الله سبحانه لا يبعث الرسول ليأمر الخلق بالضلال ولا يريد أيضا منهم الضلال، وكذلك لا يؤتيهم المال ليضلوا. انتهى. وهو حق لكن في الاضلال الابتدائي المستحيل عليه تعالى، وأما الاضلال بعنوان المجازاة ومقابلة السوء بالسوء فلا دليل على امتناعه على الله سبحانه بل يثبته كلامه في موارد كثيرة، وقد كان فرعون وملؤه مصرين على الاستكبار والافساد ملحين على الاجرام فلا مانع من أن يؤتيهم الله بذلك زينة وأموالا ليضلوا عن سبيله جزاء بما كسبوا. وربما قيل: إن اللام في (ليضلوا) للدعاء، وربما قيل: إن الكلام بتقدير لا أي لئلا يضلوا عن سبيلك، والسياق لا يساعد على شئ من الوجهين.
[ 116 ]
والطمس - كما قيل - تغير إلى الدثور والدروس فمعنى (اطمس على أموالهم) غيرها إلى الفناء والزوال، وقوله: (واشدد على قلوبهم) من الشد المقابل للحل أي أقس قلوبهم واربط عليها ربطا لا ينشرح للحق فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم فهو الطبع على القلوب، وقول بعضهم: إن المراد بالشد تثبيتهم على المقام
بمصر بعد الطمس على أموالهم ليكون ذلك أشد عليهم وآلم، وكذا قول آخرين: إنه كناية عن إماتتهم وإهلاكهم من الوجوه البعيدة. فمعنى الاية: وقال موسى - وكان ذلك بعد يأسه من إيمان فرعون وملئه ويقينه بأنهم لا يدومون إلا على الضلال والاضلال كما يدل عليه سياق كلامه في دعائه - ربنا إنك جازيت فرعون وملاه على كفرهم وعتوهم جزاء السوء فاتيتهم زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا إرادة منك لان يضلوا من اتبعهم عن سبيلك، وإرادتك لا تبطل وغرضك لا يلغو ربنا ادم على سخطك عليهم واطمس على أموالهم وغيرها عن مجرى النعمة إلى مجرى النقمة، واجعل قلوبهم مشدودة مربوطة فلا يؤمنوا حتى يقفوا موقفا لا ينفعهم الايمان وهو زمان يرون فيه العذاب الالهى. وهذا الدعاء من موسى عليه السلام على فرعون وملئه إنما هو بعد يأسه التام من إيمانهم، وعلمه أنه لا يترقب منهم في الحياة إلا أن يضلوا ويضلوا كدعاء نوح على قومه فيما حكاه الله: (رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) نوح: 27، وحاشا ساحة الانبياء عليهم السلام أن يتكلموا على الخرص والمظنة في موقف يشافهون فيه رب العالمين جلت كبرياؤه وعز شأنه. قوله تعالى: (قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون) الخطاب - على ما يدل عليه السياق - لموسى وهارون ولم يحك الدعاء في الاية السابقة إلا عن موسى، وهذا يؤيد ما ذكره المفسرون: أن موسى عليه السلام كان يدعو، وكان هارون يؤمن له وآمين دعاء فقد كانا معا يدعوان وإن كان متن الدعاء لموسى عليه السلام وحده. والاستقامة هو الثبات على الامر، وهو منهما عليهما السلام الثبات على الدعوة
[ 117 ]
إلى الله وعلى إحياء كلمة الحق، والمراد بالذين لا يعلمون الجهلة من شعب إسرائيل وقد وصفهم موسى عليه السلام بالجهل كما في قوله: (قال إنكم قوم تجهلون) الاعراف: 138. والمعنى: (قال) الله مخاطبا لموسى هارون (قد أجيبت دعوتكما) من سؤال العذاب الاليم لفرعون وملئه، والطمس على أموالهم والشد على قلوبهم (فاستقيما) واثبتا على ما أمرتما به من الدعوة إلى الله وإحياء كلمة الحق (ولا تتبعان) البتة (سبيل الذين لا يعلمون) بإجابة ما يقترحون عليكما عن أهواء أنفسهم ودواعى شهواتهم، وفيه نوع تلويح إلى أنهم سيسألون أمورا فيها إحياء سنتهم القومية وسيرتهم الجاهلية. وبالجملة فالاية تذكر إجابة دعوتهما المتضمنة لعذاب فرعون وملئه وعدم توفيقهم للايمان ووعدهما بذلك، ولذلك ذكر في الاية التالية وفاؤه تعالى بهذا الوعد بخصوصيته التى فيه. ولم يكن في الدعاء ما يدل على مسألة الفور أو التراخي في القضاء عليهم بالعذاب وعلى ذلك جرى أيضا سياق الاية الدالة على القبول والاجابة وكذا الاية المخبرة عن كيفية إنجازه، وقد نقل في المجمع عن ابن جريح أن فرعون مكث بعد هذا الدعاء أربعين سنة قال: وروى ذلك عن أبى عبد الله عليه السلام، ورواه عنه عليه السلام في الاحتجاج وكذا في الكافي وتفسير العياشي عن هشام بن سالم عنه عليه السلام وفي تفسير القمى عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عنه عليه السلام. قوله تعالى: (وجاوزنا ببنى إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا) إلى آخر الاية، البغى والعدو كالعدوان الظلم وإدراك الشئ اللحوق به والتسلط عليه كما أن اتباع الشئ طلب اللحوق به. وقوله: (آمنت أنه لا إله إلا الذى آمنت به بنوا إسرائيل) أي آمنت بأنه. وقد وصف الله بالذى آمنت به بنو إسرائيل ليظفر بما ظفروا به بإيمانهم وهو مجاوزة
البحر والامان من الغرق، ولذلك أيضا جمع بين الايمان والاسلام ليزيل بذلك أثر ما كان يصر عليه من المعصية وهو الشرك بالله والاستكبار على الله، والباقى ظاهر.
[ 118 ]
قوله تعالى: (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) الآن بالمد أصله ءالان أي أتؤمن بالله الان وهو حين أدركك العذاب ولا إيمان وتوبة حين غشيان العذاب ومجئ الموت من كل مكان، وقد عصيت قبل هذا وكنت من المفسدين، وأفنيت أيامك في معصيته، ولم تقدم التوبة لوقتها فما ذا ينفعك الايمان بعد فوت وقته وهذا هو الذى كان موسى وهارون سألاه ربهما ان يأخذه بعذاب أليم ويسدسبيله إلى الايمان إلا حين يغشاه العذاب فلا ينفعه الايمان ولا تغنى عنه التوبة شيئا. قوله تعالى: (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون) التنجية والانجاء تفعيل وإفعال من النجاة كالتخليص الاخلاص من الخلاص وزنا ومعنى. وتنجيته ببدنه تدل على أن له امرا آخر وراء البدن فقده بدنه بغشيان العذاب وهو النفس التى تسمى ايضا روحا، وهذه النفس المأخوذة هي التى يتوفاها الله ويأخذها حين موتها كما قال تعالى: (الله يتوفى الانفس حين موتها) الزمر: 42، وقال: (قل يتوفاكم ملك الموت الذى وكل بكم) الم السجدة: 11، وهى التى يخبر عنها الانسان بقوله: (أنا) وهى التى بها تتحقق للانسان إنسانيتة، وهى التى تدرك وتريد وتفعل الافعال الانسانية بواسطة البدن بما له من القوى والاعضاء المادية، وليس للبدن إلا أنه آلة وأداة تعمل بها النفس أعمالها المادية. ولمكان الاتحاد الذى بينها وبين البدن يسمى بإسمها البدن وإلا فأسماء الاشخاص في الحقيقة لنفوسهم لا لابدانهم، وناهيك في ذلك التغير المستمر الذى يعرض البدن مدة الحياة، والتبدل الطبيعي الذى يطرء عليه حينا بعد حين حتى ربما تبدل البدن
بجميع أجزائه إلى أجزاء أخر تتركب بدنا آخر فلو كان زيد هو البدن الذى ولدته امه يوم ولدته والاسم له لكان غيره وهو ذو سبعين وثمانين قطعا والاسم لغيره حتما، ولم يثب ولم يعاقب الانسان وهو شائب على ما عمله وهو شاب لان الطاعة والمعصية لغيره. فهذه وأمثالها شواهد قطعية على أن إنسانية الانسان بنفسه دون بدنه، والاسماء للنفوس لا للابدان يدركها الانسان ويعرفها إجمالا وإن كان ربما أنكرها
[ 119 ]
في مقام التفصيل. وبالجملة فالاية: (اليوم ننجيك ببدنك) كالصريح أو هو صريح في أن النفوس وراء الابدان، وأن الاسماء للنفوس دون الابدان إلا ما يطلق على الابدان بعناية الاتحاد. فمعنى (ننجيك ببدنك) نخرج بدنك من اليم وننجيه، وهو نوع من تنجيتك - لما بين النفس والبدن من الاتحاد القاضى بكون العمل الواقع على أحدهما واقعا بنحو على الاخر - لتكون لمن خلفك آية، وهذا بوجه نظير قوله تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم) طه: 55 فإن الذى يعاد إلى الارض هو جسد الانسان دون الانسان التام فليست نسبة الاعادة إلى الانسان إلا لما بين نفسه وبدنه من الاتحاد. وقد ذكر المفسرون أن الانجاء والتنجية لما كان دالا بلفظه على سلامة الذى أنجى إنجاء كان مفاد قوله: (ننجيك) أن يكون فرعون خارجا من اليم حيا وقد أخرجه الله ميتا فالمتعين أخذ قوله: (ننجيك) من النجوة وهى الارض المرتفعة التى لا يعلوها السيل، والمعنى اليوم نخرج بدنك إلى نجوة من الارض. وربما قال بعضهم: إن المراد بالبدن الدرع، وقد كان لفرعون درع من ذهب يعرف به فأخرجه الله فوق الماء بدرعه ليكون لمن خلفه آية وعبرة، وربما قال
بعضهم إن التعبير بالتنجية تهكم به. والحق أن هذا كله تكلف لا حاجة إليه، ولم يقل: (ننجيك) وإنما قيل (ننجيك ببدنك) ومعناه ننجي بدنك، والباء للالية أو السببية، والعناية هي الاتحاد الذى بين النفس والبدن. على أن جعل (ننجيك ببدنك) بمعنى نجعلك على نجوة من الارض لا يفى بدفع الاشكال من أصله فإن الذى جعل على نجوة هو بدن فرعون على قولهم، وهو غير فرعون قطعا وإلا كان حيا سالما، ولا مناص إلا أن يقال: إن ذلك بعناية الاتحاد الذى بين الانسان وبدنه، ولو صححت هذه العناية إطلاق اسم الانسان على بدنه من غير نفس لكان لها أن تصحح نسبة التنجية إلى الانسان من جهة وقوع
[ 120 ]
التنجية ببدنه، وخاصة مع وجود القرينة الدالة على أن المراد بالتنجية هي التى للبدن دون التى للانسان المستتبع لحفظ حياته وسلامته نفسا وبدنا، والقرينة هي قوله: (ببدنك). قوله تعالى: (ولقد بوأنا بنى إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات) أي أسكناهم مسكن صدق، وإنما يضاف الشئ إلى الصدق نحو وعد صدق وقدم صدق ولسان صدق ومدخل صدق ومخرج صدق للدلالة على أن لوازم معناه وآثاره المطلوبة منه موجودة فيه صدقا من غير أن يكذب في شئ من آثاره التى يعدها بلسان دلالته الالتزامية لطالبه فوعد صدق مثلا هو الوعد الذى سيفى به واعده، ويسر بالوفاء به موعوده، ويحق أن يطمع فيه ويرجى وقوعه. فإن لم يكن كذلك فليس بوعد صدق بل وعد كذب كأنه يكذب في معناه ولوازم معناه. وعلى هذا فقوله: (مبوأ صدق) يدل على أن الله سبحانه بوأهم مبوءا يوجد فيه جميع ما يطلبه الانسان من المسكن من مقاصد السكنى كطيب الماء والهواء
وبركات الارض ووفور نعمها والاستقرار فيها وغير ذلك، وهذه هي نواحى بيت المقدس والشام التى أسكن الله بنى إسرائيل فيها وسماها الارض المقدسة المباركة وقد قص القرآن دخولهم فيها. وأما قول بعضهم: إن المراد بهذا المبوء مصر دخلها بنو إسرائيل واتخذوا فيها بيوتا فأمر لم يذكره القرآن. على أنهم لو فرض دخولهم فيها ثانيا لم يستقروا فيها استقرارا مستمرا، وتسمية ما هذا شأنه مبوء صدق مما لا يساعد عليه معنى اللفظ. والاية أعنى قوله: (ولقد بوأنا بنى إسرائيل - إلى قوله - من الطيبات) مسوقة سوق الشكوى والعتبى، ويشهد به تذييلها بقوله: (فما اختلفوا حتى جاءهم العلم، وقوله: (إن ربك يقضى بينهم) إلى آخر الاية بيان لعاقبة اختلافهم عن علم وبمنزلة أخذ النتيجة من القصة. والمعنى: أنا أتممنا على بنى إسرائيل النعمة وبوأناهم مبوء صدق ورزقناهم من الطيبات بعد حرمانهم من ذلك مدة طويلة كانوا فيها في أسارة القبط فوحدنا
[ 121 ]
شعبهم وجمعنا شملهم فكفروا النعمة وفرقوا الكلمة واختلفوا في الحق، ولم يكن اختلافهم عن عذر الجهل وإنما اختلفوا عن علم إن ربك يقضى بينهم فيما كانوا فيه يختلفون. * * * فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين - 94. ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين - 95. إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون - 96. ولو جاءتهم
كل آية حتى يروا العذاب الاليم - 97. فلو لا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين - 98. ولو شاء ربك لامن من في الارض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين - 99. وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون - 100. قل انظروا ما ذا في السماوات والارض وما تغنى الايات والنذر عن قوم لا يؤمنون - 101. فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إنى معكم من المنتظرين - 102. ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين - 103.
[ 122 ]
(بيان) تتضمن الايات الاستشهاد على حقية ما أنزله الله في السورة من المعارف الراجعة إلى المبدء والمعاد وما قصه من قصص الانبياء وأممهم - ومنهم نوح وموسى ومن بينهما من الانبياء عليهم السلام وأممهم - إجمالا بما قرأه أهل الكتب السماوية فيها قبل نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ثم تذكر ما هو كالفذلكة والمعنى المحصل من البيانات السابقة وهو أن الناس لن يملكوا من انفسهم أن يؤمنوا بالله وآياته إلا بإذن الله، وانما يأذن الله في إيمان من لم يطبع على قلبه ولم يجعل الرجس عليه وإلا فمن حقت عليه كلمة الله لن يؤمن بالله وآياته حتى يرى العذاب. فالسنة الجارية أن الناس منذ خلقوا واختلفوا بين مكذب بايات الله ومصدق لها، وقد جرت سنة الله على ان يقضى فيهم بالحق بعد مجيئ رسلهم إليهم فينجى
الرسل والمؤمنين بهم، ويأخذ غيرهم بالهلاك. قوله تعالى: (فان كنت في شك مما أنزلنا اليك) إلى آخر الاية الشك الريب، والمراد بقوله: (مما أنزلنا اليك) المعارف الراجعة إلى المبدء والمعاد والسنة الالهية في القضاء على الامم مما تقدم في السورة، وقوله: (يقرءون الكتاب من قبلك) (يقرءون) فعل مضارع استعمل في الاستمرار (ومن قبلك) حال من الكتاب عامله متعلقة المقدر، والتقدير منزلا من قبلك. كل ذلك على ما يعطيه السياق. والمعنى (فان كنت) أيها النبي (في ريب) وشك (مما أنزلنا اليك) من المعارف الراجعة إلى المبدء والمعاد وما قصصنا عليك إجمالا من قصص الانبياء الحاكية لسنة الله الجارية في خلقه من الدعوة أولا ثم القضاء بالحق (فاسأل) اهل الكتاب (الذين) لا يزالون (يقرءون) جنس (الكتاب) منزلا من السماء (من قبلك) أقسم (لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) المترددين. وهذا لا يستلزم وجود ريب في قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا تحقق شك منه فان
[ 123 ]
هذا النوع من الخطاب كما يصح أن يخاطب من يجوز عليه الريب والشك كذلك يصح أن يخاطب به من هو على يقين من القول وبينة من الامر على نحو التكنية عن كون المعنى الذى أخبر به المخبر مما تعاضدت عليه الحجج وتجمعت عليه الايات فان فرض من المخاطب أو السامع شك في واحدة منها كان له ان يأخذ بالاخرى. وهذه طريقة شائعة في عرف التخاطب والتفاهم يأخذ بها العقلاء فيما بينهم جريا على ما تدعوهم إليه قرائحهم ترى الواحد منهم يقيم الحجة على أمر من الامور ثم يقول: فان شككت في ذلك أو سلمنا أنها لا توجب المطلوب فهناك حجة اخرى على ذلك وهى أن كذا كذا، وذلك كناية عن أن الحجج متوفرة متعاضدة
كالدعائم المضروبة على ما لا يحتاج إلى أزيد من واحد منها لكن الغرض من تكثيرها هو أن تكون العريشة قائمة عليها على تقدير قيام الكل والبعض. فيؤل معنى الكلام إلى أن هذه معارف بينها الله لك بحجج تضطر العقول إلى قبولها وقصص تحكى سنة الله في خلقه والاثار تدل عليها، بينها في كتاب لا ريب فيه، فعلى ما بينه حجة وهناك حجة أخرى وهى أن أهل الكتب السماوية الموفين لها حق قراءتها يجدون ذلك فيما يقرءونه من الكتاب فهناك مبدء ومعاد، وهناك دين الهى بعث به رسله يدعون إليه، ولم يدعوا أمة من الامم إلا انقسموا قبيلين مؤمن ومكذب فأنزل الله آية فاصلة بين الحق والباطل وقضى بينهم. وهذا أمر لا يسع أهل الكتاب أن ينكروه، وإنما كانوا ينكرون بشارات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعض ما يختص به الاسلام من المعارف وماغيروه في الكتب من الجزئيات، ومن لطيف الاشارة أن الله سبحانه لم يذكر في القصص المذكورة في هذه السورة قصة هود وصالح لعدم تعرض التوراة الموجودة عندهم لقصتهما وكذا قصة شعيب وقصة المسيح لعدم توافق أهل الكتاب عليها وليس إلا لمكان أن يستشهد في هذه الاية بما لا يمتنعون من تصديقه. فهذه الاية في القاء الحجة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزانها وزان قوله تعالى: (أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بنى إسرائيل) الشعراء: 197 في القاء الحجة إلى الناس. على أن السورة من اوائل السور النازلة بمكة، ولم تشتد الخصومة يومئذ بين
[ 124 ]
المسلمين وأهل الكتاب وخاصة اليهود اشتدادها بالمدينة، ولم يركبوا بعد من العناد واللجاج ذاك المركب الصعب الذى ركبوه بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونشوب الحروب بينهم وبين المسلمين حتى بلغوا المبلغ الذى قالوا: (ما أنزل الله على بشر من شئ) الانعام: 91.
فهذا ما يعطيه سياق الاية من المعنى، وأظنك إن أمعنت في تدبر الاية وسائر الايات التى تناسبها مما يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحقية ما نزل إليه من ربه، ويتحدى على البشر بعجزهم عن إتيان مثله، وما يصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه على بصيرة من أمره، وأنه على بينة من ربه أقنعك ذلك فيما قدمناه من المعنى، وأغناك عن التمحلات التى ارتكبوها في تفسير الاية بما لا جدوى في نقلها والبحث عنها. قوله تعالى: (ولا تكونن من الذين كذبوا بايات الله فتكون من الخاسرين) نهى عن الارتياب والامتراء أولا ثم ترقى إلى النهى عن التكذيب بايات الله وهو العناد مع الحق استكبارا على الله فإن الاية لا تكون آية إلا مع وضوح دلالتها وظهور بيانها وتكذيب ما هذا شأنه لا يكون مبينا إلا على العناد واللجاج. وقوله: (فتكون من الخاسرين) تفريع على التكذيب بايات الله فهو نتيجته وعاقبته فهو المنهى عنه بالحقيقة. والمعنى: ولا تكن من الخاسرين، والخسران زوال رأس المال بانتقاصه أو ذهاب جميعه، وهو الايمان بالله وآياته الذى هو رأس مال الانسان في سعادة حياته في الدنيا والاخرة على ما يستفاد من الاية التالية حيث يعلل خسرانهم بأنهم لا يؤمنون. قوله تعالى: (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية) الخ، تعليل للنهى السابق ببيان ما للمنهى عنه من الشأن فإن اصل النظم بحسب المعنى المستفاد من السياق أن يقال: لا تكونن من المكذبين لان المكذبين لا يؤمنون فيكونون خاسرين لان رأس مال السعادة هو الايمان فوضع قوله (الذين حقت عليهم كلمة ربك) موضع (المكذبين) للادلة على سبب الحكم وأن المكذبين إنما يخسرون لان كلمة الله سبحانه تحق عليهم فالامر على كل حال إلى الله سبحانه. والكلمة الالهية التى حقت على المكذبين بايات الله هي قوله يوم شرع الشريعة
[ 125 ]
العامة لادم وزوجته فمن بعدهما من ذريتهما: (قلنا اهبطوا منها جميعا - إلى قوله - والذين كفروا وكذبوا باياتنا اولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة: 39. وهذا هو الذى يريده بقوله في مقام بيان سبب خسران المكذبين: إن الذين حقت عليهم كلمة ربك) وهم المكذبون حقت عليهم كلمة العذاب فهم (لا يؤمنون) ولذلك كانوا خاسرين لانهم ضيعوا رأس مال سعادتهم وهو الايمان فحرموه وحرموا بركاته في الدنيا والاخرة، وإذ حق عليهم أنهم لا يؤمنون فلا سبيل لهم إلى الايمان ولو جاءتهم كل آية (حتى يروا العذاب الاليم) ولا فائدة في الايمان الاضطراري. وقد كرر الله سبحانه في كلامه هذا القول واستتباعه للخسران وعدم الايمان كقوله: (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون) يس: 7، وقوله: (لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين) يس: 70 أي بتكذيبهم بالايات المستتبع لعدم إيمانهم فخسرانهم، وقوله: (وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والانس إنهم كانوا خاسرين) حم السجدة: 25 إلى غير ذلك. وقد ظهر من الايات اولا: أن العناد مع الحق والتكذيب بايات الله يحق كلمة العذاب الخالد على الانسان. وثانيا: أن رأس مال سعادة الحياة للانسان هو الايمان. وثالثا: أن كل إنسان فهو مؤمن لا محالة إما إيمانا اختياريا مقبولا يسوقه إلى سعادة الحياة الدنيا والاخرة، وإما إيمانا اضطراريا غير مقبول حيثما يرى العذاب الاليم. قوله تعالى: (فلو لا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى) الخ، ظاهر السياق أن لو لا للتحضيض، وأن المراد بقوله: (آمنت) الايمان الاختياري الصحيح كما يشعر به قوله بعده: (فنفعها إيمانها) ولوقوع التحضيض على أمر ماض لم يتحقق أفادت الجملة معنى اليأس المساوق
للنفي فاستقام الاستثناء الذى في قوله: (إلا قوم يونس). والمعنى: هلا كانت قرية - من هذه القرى التى جاءتهم رسلنا فكذبوهم -
[ 126 ]
آمنت قبل نزول العذاب إيمانا اختياريا فنفعها إيمانها. لا ولم يؤمن إلا قوم يونس لما آمنت كشفنا عنهم عذاب الخزى في الحياة الدنيا ومتعناهم بالحياة إلى حين آجالهم العادية الطبيعية. ومنه يعلم أن الاستثناء متصل. وذكر بعضهم أن المعنى: لم يكن فيما خلا أن يؤمن أهل قرية بأجمعهم حتى لا يشذ منهم أحد إلا قوم يونس فهلا كانت القرى كلها هكذا. وفيه أنه في نفسه معنى لا بأس فيه إلا أن الاية بلفظها لا تنطبق عليه بما فيه من الخصوصيات وهو ظاهر. وذكر بعض آخر: أن المعنى لم يكن معهودا من حال قرية من القرى أن يكفر ثم يؤمن فينفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنت كشفنا عنهم العذاب ومتعناهم. والاشكال عليه كالاشكال على سابقه. قوله تعالى: (ولو شاء ربك لامن من في الارض كلهم جميعا) أي لكنه لم يشأ ذلك فلم يؤمن جميعهم ولا يؤمن فالمشيئة في ذلك إلى الله سبحانه ولم يشأ ذلك فلا ينبغى لك أن تطمع فيه ولا أن تجتهد لذلك لانك لا تقدر على إكراههم وإجبارهم على الايمان، والايمان الذى نريده منهم هو ما كان عن حسن الاختيار لا ما كان عن إكراه وإجبار. ولذلك قال بعد ذلك في صورة الاستفهام الانكارى: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) أي بعد ما بينا أن أمر المشية إلى الله وهو لم يشأ إيمان جميع الناس فلا يؤمنون باختيارهم البتة لم يبق لك إلا أن تكره الناس وتجبرهم على الايمان، وأنا أنكر ذلك عليك فلا أنت تقدر على ذلك ولا أنا أقبل الايمان الذى هذا نعته.
قوله تعالى: (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) لما ذكر في الاية السابقة أن الامر إلى الله سبحانه لو شاء أن يؤمن أهل الارض جميعا لامنوا لكنه لم يشأ فلا مطمع في إيمان الجميع زاد في هذه الاية في بيان ذلك ما محصله أن الملك - بالكسر - لله فله أصالة التصرف في كل أمر لا يشاركه في ذلك مشارك إلا أن يأذن لبعض ما خلقه في بعض التصرفات.
[ 127 ]
والايمان بالله عن اختيار والاهتداء إليه أمر من الامور يحتاج في تحققه إلى سبب يخصه، ولا يؤثر هذا السبب ولا يتصرف في الكون بإيجاد مسببه إلا عن إذن من الله سبحانه في ذلك لكن الله سبحانه بجعل الرجس والضلال على أهل العناد والجحود لم يأذن في إيمانهم، ولا رجاء في سعادتهم. ولو أنه تعالى أذن في ذلك لاحد لاذن في إيمان غير أولئك المكذبين فقوله: (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) حكم عام حقيقي ينيط تملك النفوس للايمان إلى إذن الله، وقوله: (ويجعل الرجس) الخ، يسلب عن الذين لا يعقلون استعداد حصول الاذن فيبقى غيرهم. وقد أريد في الاية بالرجس ما يقابل الايمان من الشك والريب بمعنى أنه هو المصداق المنطبق عليه الرجس في المقام لما قوبل بالايمان، وقد عرف في قوله تعالى: (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) الانعام: 125. وقد أريد ايضا بقوله: (الذين لا يعقلون) أهل التكذيب بايات الله من جهة أنهم ممن حقت عليه كلمة العذاب فإنهم الذين طبع الله على قلوبهم فهم لا يعقلون قال: (وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون) التوبة: 93. قوله تعالى: (قل انظروا ما ذا في السماوات والارض) أي من المخلوقات
المختلفة المتشتة التى كل واحد منها آية من آيات الله تعالى تدعو إلى الايمان، وقوله: (وما تغنى الايات والنذر عن قوم لا يؤمنون) ظاهره أن (ما) استفهامية والجملة مسوقة بداعي الانكار وإظهار الاسف كقول الطبيب: بماذا أعالج الموت ؟ أي إنا أمرناك أن تنذرهم بقولنا: (قل انظروا ما ذا في السماوات) الخ، لكن أي تأثير للنذر فيهم أو للايات فيهم وهم لا يؤمنون أي عازمون مجمعون على أن لا يؤمنوا بالطبع الذى على قلوبهم وربما قيل: إن ما نافية. قوله تعالى: (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم) تفريع على ما في الاية السابقة من قوله: (وما تغنى الايات والنذر عن قوم لا يؤمنون) أي إذا لم تغن الايات والنذر عنهم شيئا وهم لا يؤمنون البتة فهم لا ينتظرون إلا مثل ايام
[ 128 ]
الذين خلوا من قبلهم، وإنما يحبسون نفوسهم لاية العذاب الالهى التى تفصل بينك وبينهم فتقضى عليهم لانهم حقت عليهم كلمة العذاب. ولذا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبلغهم ذلك بقوله: (قل فانتظروا) أي مثل ايام الذين خلوا من قبلكم يعنى يوم العذاب الذى يفصل بينى وبينكم فتؤمنون ولا ينفعكم إيمانكم (إنى معكم من المنتظرين). وقد تبين بما مر أن الاستفهام في الاية إنكارى. قوله تعالى: (ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا) الجملة تتمة صدر الاية السابقة وقوله: (قل فانتظروا) الخ، جملة معترضة والنظم الاصلى بحسب المعنى (فهل ينتظرون) أي قومك هؤلاء (إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم) من الامم الذين كانت تحق عليهم كلمة العذاب فنرسل إليهم آية العذاب (ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا). وإنما اعترض بقوله: (قل فانتظروا إنى معكم من المنتظرين) بين الكلام لانه يتعلق بالجزء الذى يتقدمه من مجموع الكلام المستفهم عنه فإنه المناسب لان يجعل جوابا
لهم، وهو يتضمن انتظار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقضاء بينه وبينهم، وأما تنجيته وتنجية المؤمنين به فإن المنتظر لها هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون لا هو وحده، ولا يتعلق هذا الانتظار بفصل القضاء بل بالنجاة من العذاب، وهو مع ذلك لا يتعلق به غرض في المقام الذى سيق فيه الكلام لانذار المشركين لا لتبشير النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين فافهم ذلك. وأما قوله: (كذلك حقا علينا ننج المؤمنين) فمعناه كما كنا ننجي الرسل والذين آمنوا في الامم السابقة عند نزول العذاب كذلك ننجي المؤمنين بك من هذه الامة حق علينا ذلك حقا، فقوله: (حقا علينا) مفعول مطلق قام مقام فعله المحذوف، واللام في (المؤمنين) للعهد والمراد به مؤمنو هذه الامة، وهذا هو الوعد الجميل للنبى صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من هذه الامة بالانجاء. وليس من البعيد أن يستفاد من قوله: (ننج المؤمنين) أن فيه تلويحا إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يدرك هذا القضاء، وإنما يقع بعد ارتحاله حيث ذكر المؤمنون ولم يذكر
[ 129 ]
معهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه تعالى ذكر في السابقين رسله مع المؤمنين بهم كما ربما يخطر بالبال من تكرر قوله تعالى في كلامه: (فإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون) أو ما في معناه. (بحث روائي) في تفسير العياشي عن محمد بن سعيد الاسدي أن موسى بن محمد بن الرضا أخبره أن يحيى بن أكثم كتب إليه يسأله عن مسائل: أخبرني عن قول الله تبارك وتعالى: (فإن كنت في شك مما أنزلنا اليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) من المخاطب بالاية ؟ فإن كان المخاطب فيها النبي فقد شك فيما أنزل الله، وإن كان المخاطب بها غيره فعلى غيره إذا نزل الكتاب. قال موسى: فسألت أخى عن ذلك. قال: فأما قوله: (فإن كنت في شك
مما أنزلنا اليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) فإن المخاطب بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن في شك مما أنزل الله، ولكن قالت الجهلة: كيف لم يبعث الينا نبيا من الملائكة ؟ إنه لم يفرق بينه وبين غيرفى الاستغناء في الماكل والمشرب والمشى في الاسواق فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك بمحضر الجهلة هل بعث الله رسولا من قبلك إلا وهو يأكل الطعام ويشرب ويمشى في الاسواق ؟ ولك بهم أسوة. وإنما قال: فإن كنت في شك، ولم يكن ولكن ليتبعهم كما قال له: (قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين)، ولو قال: تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم لم يكونوا يجيئون للمباهلة، وقد عرف أن نبيه مؤد عنه رسالته وما هو من الكاذبين، كذلك عرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه صادق فيما يقول ولكن أحب أن ينصف من نفسه. أقول: ورواه الصدوق في المعاني بإسناده عن موسى بن محمد بن على، وهو
[ 130 ]
يرجع إلى ما قدمناه، وقد ورد في بعض الروايات أن الاية نزلت ليلة المعراج فأمره الله أن يسأل أرواح الانبياء عن ذلك، وهم الذين أرادهم بقوله: (الذين يقرءون الكتاب من قبلك) وروى الوجه ايضا عن الزهري لكن في انطباقه على لفظ الاية خفاء. وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في الاية قال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا أشك ولا أسأل. وفي تفسير العياشي عن معمر قال: قال أبو الحسن الرضا عليه السلام: إن يونس أمره الله بما أمره فأعلم قومه فأظلهم العذاب ففرقوا بينهم وبين أولادهم وبين البهائم وأولادها ثم عجوا إلى الله وضجوا فكف الله العذاب عنهم. الحديث.
أقول: وسيأتى إن شاء الله قصة يونس وقومه في ذيل بعض الايات المتعرضة لتفصيل قصته عليه السلام. وفي الدر المنثور اخرج ابن ابى حاتم واللالكائى في السنة عن على بن ابى طالب قال: إن الحذر لا يرد القدر، وإن الدعاء يرد القدر، وذلك في كتاب الله: (إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى) الاية. أقول: وروى ما في معناه عن ابن النجار عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي الكافي والبصائر مسندا عن ابى بصير عن ابى عبد الله عليه السلام قال: الرجس هو الشك ولا نشك في ديننا ابدا. * * * قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من دينى فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أ عبد الله الذى يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين - 104. وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا
[ 131 ]
تكونن من المشركين - 105. ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذن من الظالمين - 106. وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم - 107. قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل - 108. واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين - 109. (بيان) الايات، ختام السورة تفرغ المحصل من بياناتها فتشير إجمالا إلى التوحيد والمعاد
والنبوة، وتأمر باتباع القرآن والصبر في انتظار حكم الله بينه وبين أمته. قوله تعالى: (قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من دينى) الخ، قد تقدم غير مرة أن الدين هو السنة المعمول بها في الحياة لنيل سعادتها وفيه معنى الطاعة كما في قوله تعالى: (وأخلصوا دينهم لله) النساء: 146 وربما استعمل بمعنى الجزاء. وقوله: (إن كنتم في شك من دينى) أي في طريقتي التى أسلكها وأثبت عليها وشك الانسان في دين غيره وطريقته المعمولة له إنما يكون في ثباته عليه هل يستقر عليه ويستقيم ؟ وقد كان المشركون يطمعون في دينه صلى الله عليه وآله وسلم وربما رجوا أن يحولوه عنه فينجوا من دعوته إلى التوحيد ورفض الشرك بالالهة. فالمعنى: إن كنتم تشكون فيما أدين به وأدعو إليه هل أستقيم عليه ؟ أو شككتم في دينى ما هو ؟ ولم تحصلوا الاصل الذى يبتنى عليه فإنى أصرح لكم القول فيه
[ 132 ]
وأبينه لكم وهو أنى لا أعبد آلهتكم وأ عبد الله وحده. وقد أخذ في قوله: (ولكن أ عبد الله الذى يتوفاكم) له تعالى وصف توفيهم دون غيره من أوصافه تعالى لانهم إنما كانوا يعبدون الاله لزعمهم الحاجة إليه في دفع الضرر وجلب النفع، والتوفى أمر لا يشكون أنه سيصيبهم وأنه لله وحده فمساس الحاجة إلى الامن من ضرره يوجب عبادة الله سبحانه. على أن اختيار التوفى للذكر ليكون في الكلام تلويح إلى تهديدهم فإن الايات السابقة وعدتهم العذاب وعدا قطعيا، ووفاة المشركين ميعاد عذابهم، ويؤيد ذلك إتباع قوله: (ولكن أ عبد الله الذى يتوفاكم) بقوله: (أمرت أن أكون من المؤمنين) فإن نجاتهم من العذاب جزء الوعد الذى ذكره الله في الايتين السابقتين على هذه الاية: (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبل - إلى قوله - ننج المؤمنين). والمعنى: فاعلموا واستيقنوا أنى لا أعبد آلهتكم ولكن أ عبد الله الذى وعد
عذاب المكذبين منكم وإنجاء المؤمنين وأمرني أن أكون منهم كما أمرنى أن أجتنب عبادة الالهة. قوله تعالى: (وأن أقم وجهك للدين حنيفا) عطف على موضع قوله: (وأمرت أن) الخ، فإنه في معنى وكن من المؤمنين، وقد مر الكلام في معنى إقامة الوجه للدين الحنيف غير مرة. قوله تعالى: (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك) نهى بعد نهى عن الشرك، وبيان أن الشرك يدخل الانسان في زمرة الظالمين فيحق عليه ما أوعد الله به الظالمين في كلامه. ومن لطيف التعبير قوله حين ذكر الدعاء: (ما لا ينفعك ولا يضرك) وحين ذكر العبادة: (الذين تعبدون من دون الله) فإن العبادة بالطبع يعطى للمعبود شعورا وعقلا فناسب أن يعبر عنه بنحو (الذين) المستعمل في ذوى العلم والعقل، والدعاء وإن كان كذلك لمساوقته العبادة غير أنه لما وصف المدعو بما لا ينفع ولا يضر، وربما توهم أن ذوى العلم والعقل يصح أن تنفع وتضر، عبر بلفظه (ما) ليلوح إلى أنها جماد لا يتخيل في حقهم إرادة نفع أو ضرر.
[ 133 ]
وفي التعبير نفسه أعنى قوله: (ما لا ينفعك ولا يضرك) إعطاء الحجة على النهى عن الدعاء. قوله تعالى: (إن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو) الخ، الجملة حالية وهى تتمة البيان في الاية السابقة، والمعنى: ولا تدع من دون الله ما لا نفع لك عنده ولا ضرر، والحال أن ما مسك الله به من ضر لا يكشفه غيره وما أرادك به من خير لا يرده غيره فهو القاهر دون غيره يصيب بالخير عباده بمشيئته وإرادته، وهو مع ذلك غفور رحيم يغفر ذنوب عباده ويرحمهم، واتصافه بهذه الصفات
الكريمة وكون غيره صفر الكف منها يقتضى تخصيص العبادة والدعوة به. قوله تعالى: (قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم) وهو القرآن أو ما يشتمل عليه من الدعوة الحقة، وقوله: (فمن اهتدى) إلى آخر الاية، إعلام لهم بكونهم مختارين فيما ينتخبونه لانفسهم من غير أن يسلبوا الخيرد ببيان حقيقة هي ان الحق - وقد جاءهم - من حكمه ان من اهتدى إليه فإنما يهتدى ونفعه عائد إليه، ومن ضل عنه فإنما يضل وضرره على نفسه فلهم ان يختاروا لانفسهم ما يحبونه من نفع أو ضرر، وليس هو صلى الله عليه وآله وسلم وكيلا لهم يتصدى من الفعل ما هو لهم فالاية كناية عن وجوب اهتدائهم إلى الحق لان فيه نفعهم. قوله تعالى: (واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) أمر باتباع ما يوحى إليه والصبر على ما يصيبه في جنب هذا الاتباع من المصائب والمحن، ووعد بأن الله سبحانه سيحكم بينه وبين القوم، ولا يحكم إلا بما فيه قرة عينه فالاية تشتمل على أمره بالاستقامة في الدعوة وتسليته فيما يصيبه، ووعده بأن العاقبة الحسنى له. وقد اختتمت الاية بحكمه تعالى، وهو الذى عليه يعتمد معظم آيات السورة في بيانها. والله اعلم
[ 134 ]
بسم الله الرحمن الرحيم (سورة هود مكية وهى مائة وثلاث وعشرين آية) بسم الله الرحمن الرحيم الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير - 1. ألا تعبدوا إلا الله إننى لكم منه نذير وبشير - 2. وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذى فضل فضله وإن تولوا فإنى
أخاف عليكم عذاب يوم كبير - 3. إلى الله مرجعكم وهو على كل شئ قدير - 4. (بيان) السورة كما يظهر من مفتتحها ومختتمها والسياق الذى يجرى عليه آياتها تبين غرض الايات القرآنية على كثرتها وتشتتها، وتصف المحصل من مقاصدها على اختلافها والملخص من مضامينها. فتذكر أنها على احتوائها معارف الدين المختلفة من أصول المعارف الالهية والاخلاق الكريمة الانسانية، والاحكام الشرعية الراجعة إلى كليات العبادات والمعاملات والسياسات والولايات ثم وصف عامة الخليقة كالعرش والكرسي واللوح والقلم والسماء والارض والملائكة والجن والشياطين والنبات والحيوان والانسان، ووصف بدء الخليقة وما ستعود إليه من الفناء والرجوع إلى الله سبحانه.
[ 135 ]
وهو يوم البعث بما يتقدمه من عالم القبر وهو البرزخ ثم القيام لرب العالمين والحشر والجمع والسؤال والحساب والوزن وشهادة الاشهاد ثم فصل القضاء ثم الجنة أو النار بما فيهما من الدرجات والدركات. ثم وصف الرابطة التى بين خلقة الانسان وبين عمله، وما بين عمله وما يستتبعه من سعادة أو شقاوة ونعمة أو نقمة ودرجة أو دركة، وما يتعلق بذلك من الوعد والوعيد والانذار والتبشير بالموعظة والمجادلة الحسنة و الحكمة. فالايات القرآنية على احتوائها تفاصيل هذه المعارف الالهية والحقائق الحقة تعتمد على حقيقة واحدة هي الاصل وتلك فروعه، وهى الاساس الذى بنى عليه بنيان الدين وهو توحيده تعالى توحيد الاسلام بأن يعتقد أنه تعالى هو رب كل شئ لا رب غيره ويسلم له من كل وجهة فيوفى له حق ربوبيته، ولا يخشع في قلب ولا
يخضع في عمل إلا له جل أمره. وهذا أصل يرجع إليه على إجماله جميع تفاصيل المعاني القرآنية من معارفها وشرائعها بالتحليل، وهو يعود إليها على ما بها من التفصيل بالتركيب. فالسورة تبين ذلك بنحو الاجمال في هذه الايات الاربع التى افتتحت بها ثم تأخذ في بيانه التفصيلي بسمة الانذار والتبشير بذكر ما لله من السنة الجارية في عباده، وايراد أخبار الامم الماضية، وقصص أقوام نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليه السلام، وما ساقهم إليه الاستكبار عن إجابة الدعوة الالهية والافساد في الارض والاسراف في الامر، ووصف ما وعد الله به الذين آمنوا وعملوا الصالحات وما أوعد الله به الذين كفروا وكذبوا بالايات، وتبين في خلال ذلك أمورا من المعارف الالهية الراجعة إلى التوحيد والنبوة والمعاد. ومما تقدم يظهر ما في قول بعضهم عند ما ذكر غرض هذه السورة: أنها في معنى سورة يونس وموضوعها، وهو أصول عقائد الاسلام في الالهيات والنبوات والبعث والجزاء وعمل الصالحات، وقد فصل فيها ما أجمل في سورة يونس من قصص الرسل عليهم السلام. انتهى. وقد عرفت أن السورتين مسوقتان لغرضين مختلفين لا يرجع أحدهما إلى الاخر
[ 136 ]
البتة فسورة يونس تبين أن السنة الالهية جارية على القضاء بين الرسل وبين أممهم المكذبين لهم، ثم توعد هذه الامة بما جرى مثله على الذين من قبلهم، وسورة هود تبين أن المعارف القرآنية ترجع بالتحليل إلى التوحيد الخالص كما أن التوحيد يعود بحسب التركيب إلى تفاصيل المعارف الاصلية والفرعية. والسورة - على ما تشهد به آياتها بمضامينها والاتصال الظاهر بينها - مكية نازلة دفعة واحدة، وقد روى عن بعضهم استثناء قوله تعالى: (فلعلك تارك بعض
ما يوحى اليك) الاية 12 فذكر أنها مدنية. واستثنى بعضهم قوله: (أفمن كان على بينة من ربه) الاية 17، وبعضهم قوله تعالى: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل) الاية 114، ولا دليل على شئ من ذلك من طريق اللفظ، وظاهر اتصالها أنها جميعا مكية. قوله تعالى: (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) المقابلة بين الاحكام والتفصيل الذى هو ايجاد الفصل بين أجزاء الشئ المتصل بعضها ببعض، والتفرقة بين الامور المندمجة كل منها في آخر تدل على أن المراد بالاحكام ربط بعض الشئ ببعضه الاخر وإرجاع طرف منه إلى طرف آخر بحيث يعود الجميع شيئا واحدا بسيطا غير ذى أجزاء وأبعاض. ومن المعلوم أن الكتاب إذا اتصف بالاحكام والتفصيل بهذا المعنى الذى مر فإنما يتصف بهما من جهة ما يشتمل عليه من المعنى والمضمون لا من جهة ألفاظهه أو غير ذلك، وأن حال المعاني في الاحكام والتفصيل والاتحاد والاختلاف غير حال الاعيان فالمعاني المتكثرة إذا رجعت إلى معنى واحد كان هذا الواحد هو الاصل المحفوظ في الجميع وهو بعينه على إجماله هذه التفاصيل، وهى بعينها على تفاصيلها ذاك الاجمال وهذا كله ظاهر لا ريب فيه. وعلى هذا فكون آيات الكتاب محكمة اولا ثم مفصلة ثانيا معناه أن الايات الكريمة القرآنية على اختلاف مضامينها وتشتت مقاصدها وأغراضها ترجع إلى معنى واحد بسيط، وغرض فارد أصلى لا تكثر فيه ولا تشتت بحيث لا تروم آية من الايات الكريمة مقصدا من المقاصد ولا ترمى إلى هدف إلا والغرض الاصلى هو الروح
[ 137 ]
السارى في جثمانه والحقيقة المطلوبة منه. فلا غرض لهذا الكتاب الكريم على تشتت آياته وتفرق ابعاضه إلا غرض
واحد متوحد إذا فصل كان في مورد أصلا دينيا وفي آخر أمرا خلقيا وفي ثالث حكما شرعيا وهكذا كلما تنزل من الاصول إلى فروعها ومن الفروع إلى فروع الفروع لم يخرج من معناه الواحد المحفوظ، ولا يخطى غرضه فهذا الاصل الواحد بتركبه يصير كل واحد واحد من أجزاء تفاصيل العقائد والاخلاق والاعمال، وهى بتحليلها وإرجاعها إلى الروح السارى فيها الحاكم على أجسادها تعود إلى ذاك الاصل الواحد. فتوحيده تعالى بما يليق بساحه عزه وكبريائه مثلا في مقام الاعتقاد هو إثبات أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وفي مقام الاخلاق هو التخلق بالاخلاق الكريمة من الرضا والتسليم والشجاعة والعفة والسخاء ونحو ذلك والاجتناب عن الصفات الرذيلة، وفي مقام الاعمال والافعال الاتيان بالاعمال الصالحة والورع عن محارم الله. وإن شئت فقل: إن التوحيد الخالص يوجب في كل من مراتب العقائد والاخلاق والاعمال ما يبينه الكتاب الالهى من ذلك كما أن كلا من هذه المراتب وكذلك أجزاؤها لا تتم من دون توحيد خالص. فقد تبين أن الاية في مقام بيان رجوع تفاصيل المعارف والشرائع القرآنية إلى أصل واحد هو بحيث إذا ركب في كل مورد من موارد العقائد والاوصاف والاعمال مع خصوصية ذلك المورد أنتج حكما يخصه من الاحكام القرآنية، وبذلك يظهر: أولا: أن قوله: (كتاب) خبر لمبتدء محذوف والتقدير: هذا كتاب، والمراد بالكتاب هو ما بأيدينا من القرآن المقسم إلى السور والايات، ولا ينافى ذلك ما ربما يذكر أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ أو القرآن بما هو في اللوح فإن هذا الكتاب المقرو متحد مع ما في اللوح اتحاد التنزيل مع التأويل. وثانيا: أن لفظة (ثم) في قوله: (ثم فصلت) الخ، لافادة التراخي بحسب ترتيب الكلام دون التراخي الزمانى إذ لا معنى للتقدم والتأخر الزمانى بين المعاني المختلفة بحسب الاصلية والفرعية أو بالاجمال والتفصيل.
[ 138 ]
ويظهر ايضا ما في بعض ما ذكره أرباب التفاسير في معنى الاية كقول بعضهم: إن معناها أحكمت آياته فلم تنسخ منها كما نسخت الكتب والشرائع ثم فصلت ببيان الحلال والحرام وسائر الاحكام. وفيه: أن الواجب على هذا المعنى ان يقيد عدم النسخ بعدم النسخ بكتاب غير القرآن ينسخ القرآن بعده كما نسخ القرآن غيره فإن وجود النسخ بين الايات القرآنية نفسها مما لا ينبغى الارتياب فيه. والتقييد المذكور لا دلالة عليه من جهة لفظ الاية. وكقول بعضهم: إن المراد أحكمت آياته بالامر والنهى ثم فصلت بالوعد والوعيد والثواب والعقاب. وفيه أنه تحكم لا دليل عليه أصلا. وكقول بعضهم: إن المراد إحكام لفظها بجعلها على أبلغ وجوه الفصاحة حتى صار معجزا، وتفصيلها بالشرح والبيان. والكلام في هذا الوجه كسابقه. وكقول بعضهم: المراد بإحكام آياته جعلها محكمة متقنة لا خلل فيها ولا باطل، والمراد بتفصيلها جعلها متتابعة بعضها إثر بعض. وفيه: ان التفصيل بهذا المعنى غير معهود لغة إلا ان يفسر بمعنى التفرقة والتكثير ويرجع حينئذ إلى ما قدمناه من المعنى. وكقول بعضهم: إن المراد أحكمت آياته جملة ثم فرقت في الانزال آية بعد آية ليكون المكلف أمكن من النظر والتأمل. وفيه: أن الاحرى بهذا الوجه أن يذكر في مثل قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) الدخان: 3، وقوله: (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا) أسرى: 106 وما في هذا المعنى من الايات مما يدل على أن للقرآن مرتبة عند الله هي اعلى من سطح الافهام ثم نزل إلى مرتبة تقبل التفهم والتفقه
رعاية لحال الافهام العادية كما يشير إليه ايضا قوله: (والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلى حكيم) الزخرف: 4. وأما آيتنا التى نحن فيها: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت) الخ، فقد علق
[ 139 ]
فيها الاحكام والتفصيل معا على الايات، وليس ذلك إلا من جهة معانيها فتفيد أن الاحكام والتفصيل هما في معاني هذه الايات المتكثرة فلها جهة وحدة وبساطة وجهة كثرة وتركب، وينطبق على ما قدمناه من المعنى لا على ما ذكره الراجع إلى مسألة التأويل والتنزيل فافهم ذلك. وكقول بعضهم: إن المراد بالاحكام والتفصيل إجمال بعض الايات وتبيين البعض الاخر، وقد مثل لذلك بقوله تعالى في هذه السورة: (مثل الفريقين كالاعمى والاصم والبصير والسميع) الاية: 24، فإنه مجمل محكم يتبين بما ورد فيها من قصة نوح وهود وصالح. وهكذا. وفيه: أن ظاهر الاية أن الاحكام والتفصيل متحدان من حيث المورد بمعنى ان الايات التى ورد عليها الاحكام بعينها هي التى ورد عليها التفصيل لا أن الاحكام وصف لبعض آياته والتفصيل وصف بعضها الاخر كما هو لازم ما ذكره. وقوله تعالى: (من لدن حكيم خبير) الحكيم من اسمائه الحسنى الفعلية يدل على اتقان الصنع، وكذا الخبير من اسمائه الحسنى يدل على علمه بجزئيات احوال الامور الكائنة ومصالحها، وإسناد إحكام الايات وتفصيلها إلى كونه تعالى حكيما خبيرا لما بينهما من النسبة. قوله تعالى: (أن لا تعبدوا إلا الله إننى لكم منه نذير وبشير وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) الاية، وما بعدها تفسير لمضمون الاية الاولى: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) وإذ كانت الاية تتضمن أنه كتاب من الله
إلى... له آيات محكمة ثم مفصلة كانت العناية في تفسيرها متوجهة إلى إيضاح هذه الجهات. ومن المعلوم ان هذا الكتاب الذى انزله الله تعالى من عنده إلى رسوله ليتلوه على الناس ويبلغهم له وجه خطاب إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ووجه خطاب إلى الناس بوساطته اما وجه خطابه إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذى يتلقاه الرسول من وحى الله فهو ان انذر وبشر وادع الناس إلى كذا وكذا، وهذا الوجه هو الذى عنى به في اول سورة يونس حيث قال تعالى: (اوحينا إلى رجل منهم ان انذر الناس وبشر
[ 140 ]
الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) يونس: 2. واما وجه خطابه إلى الناس وهو الذى يتلقاه الناس من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فهو ما يلقيه إلى الناس من المعنى في ضمن تلاوته كلام الله عليهم بعنوان الرسالة أنى ادعوكم إلى الله دعوة نذير وبشير، وهذا الوجه من الخطاب هو الذى عنى به في قوله: (ان لا تعبدوا إلا الله اننى لكم منه نذير وبشير) الخ. فالاية من كلام الله تفسر معنى إحكام آيات الكتاب ثم تفصيلها بحكاية ما يتلقاه الناس من دعود الرسول اياهم بتلاوة كتاب الله عليهم، وليس كلاما للرسول بطريق الحكاية ولا بتقدير القول ولا من الالتفات في شئ، ولا ان التقدير: امركم بأن لا تعبدوا أو: (فصلت آياته لان لا تعبدوا إلا الله) بأن يكون قوله: (لا تعبدوا) نفيا لا نهيا فإن قوله بعد: (وان استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) معطوف على قوله: ان لا تعبدوا الا الله، وهو يشهد بأن (لا تعبدوا) نهى لا نفى. على ان التقدير لا يصار إليه من غير دليل فافهم ذلك فإنه من لطيف صنعة البلاغة في الاية. وعلى هذا فقوله: (ان لا تعبدوا الا الله) دعوة إلى توحيد العبادة بالنهي
عن عبادة غير الله من الالهة المتخذة شركاء لله، وقصر العبادة فيه تعالى، وقوله: (وان استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) امر بطلب المغفرة من الله وقد اتخذوه ربا لهم برفض عبادة غيره ثم امر بالتوبة والرجوع إليه بالاعمال الصالحة، ويتحصل من الجميع سلوك الطريق الطبيعي الموصل إلى القرب والزلفى منه تعالى، وهو رفض الالهة دون الله ثم طلب المغفرة والطهارة النفسانية للحضور في حظيرة القرب ثم الرجوع إليه تعالى بالاعمال الصالحة. وقد جئ بأن التفسيرية ثانيا في قوله: (وأن استغفروا) الخ، لاختلاف ما بين المرحلتين اللتين يشير إليهما قوله: أن لا تعبدوا إلا الله) وهى مرحلة التوحيد بالعبادة مخلصا، وقوله: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) وهى مرحلة العمل الصالح وإن كانت الثانية من نتائج الاولى وفروعها. ولكون التوحيد هو الاصل الاساسى والاستغفار والتوبة نتيجة وفرعا متفرعا
[ 141 ]
عليه أورد النذر والبشارة بعد ذكر التوحيد، والوعد الجميل الذى يتضمنه قوله: (يمتعكم) الخ، بعد ذكر الاستغفار والتوبة فقال: (أن لا تعبدوا إلا الله إننى لكم منه نذير وبشير) فبين به أن النذر والبشرى كائنين ما كانا يرجعان إلى التوحيد و يتعلقان به ثم قال: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا) الخ فإن الاثار القيمة والنتائج الحسنة المطلوبة إنما تترتب على الشئ بعد ما تم في نفسه وكمل بصفاته وفروعه ونتائجه، والتوحيد وإن كان هو الاصل الوحيد للدين على سعته لكن شجرته لا تثمر ما لم تقم على ساقها ويتفرع عليها فروعها وأغصانها، (كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها). والظاهر أن المراد بالتوبة في الاية الايمان كما في قوله تعالى: (فاغفر للذين
تابوا واتبعوا سبيلك) المؤمنون: 7 فيستقيم الجمع بين الاستغفار والتوبة مع عطف التوبة عليه بثم، والمعنى اتركوا عبادة الاصنام بعد هذا واطلبوا من ربكم غفران ما قدمتم من المعصية ثم آمنوا بربكم. وقيل: إن المعنى اطلبوا المغفرة واجعلوها غرضكم ثم توصلوا إليه بالتوبة وهو غير جيد ومن التكلف ما ذكره بعضهم أن المعنى: استغفروا من ذنوبكم الماضية ثم توبوا إليه كلما أذنبتم في المستقبل وكذا قول آخر: إن (ثم) في الاية بمعنى الواو لان التوبة والاستغفار واحد. وقوله: (يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى) الاجل المسمى هو الوقت الذى ينتهى إليه الحياة لا تتخطاه البتة، فالمراد هو التمتيع في الحياه الدنيا بل بالحياة الدنيا لان الله سبحانه سماها في مواضع من كلامه متاعا، فالمتاع الحسن إلى أجل مسمى ليس إلا الحياة الدنيا الحسنة. فيؤول معنى قوله: (يمتعكم متاعا حسنا) على تقدير كون (متاعا) مفعولا مطلقا إلى نحو من قولنا: يمتعكم تمتيعا حسنا بالحياة الحسنة الدنيوية، ومتاع الحياة إنما يكون حسنا إذا ساق الانسان إلى سعادته الممكنة له، وهداه إلى أمانى الانسانية من التنعم بنعم الدنيا في سعة وأمن ورفاهية وعزة وشرافة فهذه الحياة الحسنة تقابل
[ 142 ]
المعيشة الضنك التى يشير إليها في قوله: (ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا) طه: 124. ولا حسن لمتاع الحياة الدنيا ولا سعة في المعيشة لمن أعرض عن ذكر الله ولم يؤمن بربه فإن البعض من الناس وإن أمكن أن يؤتى سعة من المال وعلوا في الارض ثم يحسب أن لا أمنية من أمانى الانسانية إلا وقد أوتيها لكنه في غفلة عن ابتهاج من تحقق بحقيقة الايمان بالله ودخل في ولاية الله فاتاه الله الحياة الطيبة الانسانية،
وآمنه من ذلة الحياة الحيوانية التى لا حكومة فيها إلا للحرص والشره والافتراس والتكلب والجهالة، فالنفس الحرة الانسانية تذم من الحياة ما يستأثره النفوس الرذيلة الخسيسة وان استتبع الذلة والمسكنة وكل شناعة. فالحياة الحسنة لمجتمع صالح حر أن يشتركوا في التمتع من مزايا النعم الارضية التى خلقها الله لهم اشتراكا عن تراحم بينهم وتعاون وتعاضد من غير تعد وتزاحم بحيث يطلب كل خير نفسه ونفعها في خير مجتمعه ونفعه من غير ان يعبد نفسه ويستعبد الاخرين. وبالجملة التمتع بالحياة الحسنة إلى أجل مسمى هو تمتع الفرد بالحياة على ما تستحسنه الفطرة الانسانية وهو الاعتدال في التمتعات المادية في ضوء العلم النافع والعمل الصالح هذا إذا نسب إلى الفرد، وأما إذا نسب إلى المجتمع فهو الانتفاع العام من نعم الحياة الارضية الطيبة بتخصيص ما يناله الافراد بكدهم وسعيهم بالمجتمع الملتئم الاجزاء من غير تضاد بين أبعاضه أو تناقض. وقوله: (ويؤت كل ذى فضل فضله) الفضل هو الزيادة وإذ نسب الفضل في قوله: (كل ذى فضل) إلى من عنده الفضل من الافراد كان ذلك قرينة على كون الضمير في (فضله) راجعا إلى ذى الفضل دون اسم الجلالة كما احتمله بعضهم والفضل والزيادة من المعاني النسبية التى إنما تتحقق بقياس شئ إلى شئ وإضافته إليه. فالمعنى: ويعطى كل من زاد على غيره بشئ من صفاته وأعماله وما يقتضيه من الاختصاص بمزيد الاجر وخصوص موهبة السعادة تلك الزيادة من غير أن يبطل حقه أو يغصب فضله أو يملكه غيره كما يشاهد في المجتمعات غير الدينية وإن كانت مدنية
[ 143 ]
راقية فلم تزل البشرية منذ سكنت الارض وكونت أنواع المجتمعات الهمجية أو الراقية وما هي أرقي تنقسم إلى طائفتين مستعلية مستكبرة قاهرة، ومستذلة
مستعبدة مقهورة، وليس يعدل هذا الافراط والتفريط ولا يسوى هذا الاختلاف إلا دين التوحيد. فدين التوحيد هو السنة الوحيدة التى تقصر المولوية والسيادة في الله سبحانه وتسوى بين القوى والضعيف والمتقدم والمتأخر والكبير والصغير والابيض والاسود والرجل والمرأة وتنادى بمثل قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم) الحجرات: 13، وقوله: (أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) آل عمران: 195. ثم إن وقوع قوله: (ويؤت كل ذى فضل فضله) الحاكى عن الاعتناء بفضل كل ذى فضل بعد قوله: (يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى) الدال على تمتيع الجميع مشعر: اولا: بأن المراد بالجملة الاولى المتاع العام المشترك بين أفراد المجتمع وبعبارة أخرى حياة المجتمع العامة الحسنة، وبالجملة الثانية المزايا التى يؤتاها بعض الافراد قبال ما يختصون به من الفضل. وثانيا: أن الجملة الاولى تشير الى التمتيع بمتاع الحياة الدنيا والثانية إلى ايتاء ثواب الاخرة قبال الاعمال الصالحة القائمة بالفرد أو ايتاء كل ذى فضل فضله في الدنيا والاخرة معا بتخصيص كل من جاء بزيادة في جهة دنيوية بما تقتضيه زيادته من المزية في جهات الحياة بإقامة كل ذى فضيلة في صفة أو عمل مقامه الذى تقتضيه صفته أو عمله و وضعه موضعه من غير أن يسوى بين الفاضل والمفضول في دينهما أو تزاح الخصوصيات وتبطل الدرجات والمنازل بين الاعمال والمساعي الاجتماعية فلا يتفاوت حال الناشط في عمله والكسلان، ولا يختلف أمر المجتهد في العمل الدقيق المهم في بابه واللاعب بالعمل الحقير الهين وهكذا.
وقوله: (وفإن تولوا فإنى أخاف عليكم عذاب يوم كبير) أي فإن تتولوا
[ 144 ]
الخ بالخطاب، والدليل عليه قوله: (عليكم) وما تقدم في الايتين من الخطابات المتعددة فلا يصغى إلى قول من يأخذ قوله: (تولوا) جمعا مذكرا غائبا من الفعل الماضي فإنه ظاهر الفساد وقد أغرب بعض المفسرين حيث قال في قوله تعالى: (يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى): والاية تتضمن نجاة هذه الامة المحمدية من عذاب الاستئصال كما بيناه في تفسير سورة يونس ايضا انتهى، ولست أدرى كيف استفاد من الاية ما ذكره ولعله بنى ذلك على ان الاية اشترطت للامة الحياة الحسنة من غير استئصال إن آمنوا بالله وآياته ثم إنهم آمنوا وانتشر الاسلام في الدنيا، لكن من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مرسل إلى اهل الدنيا عامة ولم يؤمن به عامتهم، ولا أن المؤمنين به أخلصوا جميعا إيمانهم من النفاق وسرى الايمان من ظاهرهم إلى باطنهم ومن لسانهم إلى جنانهم. ولو كان مجرد إيمان بعض الامة مع كفر الاخرين كافيا في تحقق الشرط وارتفاع عذاب الاستئصال لكفى في أمة نوح وهود عليهما السلام وغيرهما وقد دعوا أممهم إلى ما دعا إليه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، واشترطوا لهم مثل ما اشترط لامته ثم عمهم الله بعذاب الاستئصال وكان حقا عليه نصر المؤمنين. وقد حكى الله سبحانه عن نوح قوله لقومه في ضمن دعوته: (استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) نوح: 12 وحكى عن هود قوله: (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين) هود: 52، وحكى جملة عن نوح وهود وصالح والذين من بعدهم قولهم: (أفى الله
شك فاطر السماوات والارض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم و يؤخركم إلى اجل مسمى) إبراهيم: 10. واما قوله: (وقد بيناه في سورة يونس ايضا) فلم يأت هناك إلا بدعوى خالية وقد قدمنا هناك ان آيات سورة يونس صريحة في ان الله سيقضى بين هذه الامة بين نبيها صلى الله عليه وآله وسلم فيعذبهم وينجى المؤمنين سنة الله التى قد خلت في عباده
[ 145 ]
ولن تجد لسنة الله تبديلا. قوله تعالى: (إلى الله مرجعكم وهو على كل شئ قدير) في مقام التعليل لما يفيده قوله: (فإن تولوا فإنى اخاف عليكم عذاب يوم كبير) من المعاد، وذيل الاية، مسوق لازاحة ما يمكن ان يختلج في صدورهم من استبعاد البعث بعد عروض الموت، والمعنى وان تتولوا عن إخلاص العبادة له ورفض الشركاء فإنى اخاف عليكم عذاب يوم كبير سيستقبلكم فتواجهونه وهو يوم البعث بعد الموت لان مرجعكم إلى الله والله على كل شئ قدير فلا يعجز عن إحيائكم بعد الاماته فإياكم ان تستبعدوا ذلك. فالاية قرينة على ان المراد باليوم الكبير يوم القيامة، وروى القمى في تفسيره مضمرا ان المراد بعذاب يوم كبير: الدخان والصيحة. * * * ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور - 5. وما من دابه في الارض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين - 6. وهو الذى خلق السماوات والارض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن
قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين - 7. ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة
[ 146 ]
ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون - 8. ولئن أذقنا الانسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤس كفور - 9. ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عنى إنه لفرح فخور - 10. إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير - 11. فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لو لا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شئ وكيل - 12. أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين - 13. فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون - 14. من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون - 15. أولئك الذين ليس لهم في الاخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون - 16. (بيان) جمل وفصول من أعمال المشركين وأقوالهم في الرد على نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما نزل عليه من الكتاب تذكرها الايات وتجيب عنها بإلقاء الحجة كاستخفائهم من الله،
[ 147 ]
وقولهم: ما يحبس العذاب عنا، وقولهم: لو لا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك،
وقولهم: إنه افترى القرآن. وفيها بعض معارف أخر. قوله تعالى: (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه) إلى آخر الاية، ثنى الشئ يثناه ثنيا كفتح يفتح فتحا أي عطفه وطواه ورد بعضه على بعض قال في المجمع: أصل الثنى العطف تقول: ثنيته عن كذا أي عطفته، ومنه الاثنان لعطف أحدهما على الاخر في المعنى، ومنه الثناء لعطف المناقب في المدح، ومنه الاستثناء لانه عطف عليه بالاخراج منه، انتهى. وقال ايضا: الاستخفاء طلب خفاء الشئ يقال: استخفى وتخفى بمعنى، وكذلك استغشى وتغشى، انتهى. فالمراد بقوله: (يثنون صدورهم ليستخفوا منه) أنهم يميلون بصدورهم إلى خلف ويطأطئون رؤوسهم ليتخفوا من الكتاب أي من استماعه حين تلاوته وهو كناية عن استخفائهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن حضر عنده حين تلاوة القرآن عليهم للتبليغ لئلا يروا هناك فتلزمهم الحجة. وقوله: (ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم) الخ، كأنهم كانوا يسترون رؤوسهم ايضا بثيابهم عند استخفائهم بثنى الصدور فذكر الله سبحانه ذلك وأخبر أنه تعالى يعلم عند ذلك ما يسرون وما يعلنون فما يغنيهم التخفي عن استماع القرآن والله يعلم سرهم وعلانيتهم. وقيل: إن المراد باستغشائهم ثيابهم هو الاستغشاء في بيوتهم ليلا عند أخذ المضاجع للنوم، وهو أخفى ما يكون فيه الانسان وأخلى أحواله، والمعنى: أنهم يثنون صدورهم ليستخفوا من هذا الكتاب عند تلاوته عليهم، والله يعلم سرهم وعلانيتهم في أخفى ما يكونون عليه من الحال وهو حال تغشيهم بثيابهم للنوم، ولا يخلو الوجه من ظهور. هذا ما يفيده السياق في معنى الاية، وربما ذكر لها معان أخر بعيدة من السياق منها قولهم: إن الضمير في (ليستخفوا منه) راجع إليه تعالى أو إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ومنها قول بعضهم: (يثنون صدورهم) أي يطوونها على الكفر، وقول آخرين: أي يطوونها على عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى غير ذلك من المعاني المذكورة وهى جميعا معان بعيدة.
[ 148 ]
قوله تعالى: (وما من دابة في الارض إلا على الله) رزقها إلى آخر الاية، الدابة على ما في كتب اللغة كل ما يدب ويتحرك، ويكثر استعماله في النوع الخاص منه، وقرينة المقام تقتضي كون المراد منه العموم لظهور أن الكلام مسوق لبيان سعة علمه تعالى، ولذلك عقب به قوله: (ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور). وهذا المعنى أعنى كون ذكر وجوب رزق كل دابة على الله لبيان سعة علمه لكل دابة في جميع احوالها يستوجب أن يكون قوله: (ويعلم مستقرها ومستودعها) بمنزلة عطف التفسير لقوله: (على الله رزقها) فيعود المعنى إلى أن كل دابة من دواب الارض على الله أن يرزقها - ولن تبقى بغير رزق - فهو تعالى عليم بها خبير بحالها أينما كانت فإن كانت في مستقر لا تخرج منه كالحوت في الماء وكالصدف فيما وقعت واستقرت فيه من الارض رزقها هناك وإن كانت خارجة من مستقرها وهى في مستودع ستتركه إلى مستقرها كالطير في الهواء أو كالمسافر الغارب عن وطنه أو كالجنين في الرحم رزقها هناك وبالجملة هو تعالى عالم بحال كل دابة في الارض وكيف لا وعليه تعالى رزقها ولا يصيب الرزق المرزوق إلا بعلم من الرازق بالمرزوق وخبرة منه بما حل فيه من محل دائم أو معجل ومستقر أو مستودع. ومن هنا يظهر أن المراد بالمستقر والمستودع المحل الذى تستقر فيه الدابة ما دامت دابة تدب في الارض وتعيش عيشة دنيوية والمحل الذى تحل فيه ثم تودعه وتفارقه، وأما ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالمستقر والمستودع أماكنها في
الحياة وبعد الممات أو أن المراد بهما الاصلاب والارحام أو أن المراد بهما مساكنها من الارض حين وجدت بالفعل ومودعها من المواد والمقار حين كانت بعد بالقوة فمعان بعيدة عن سياق الاية اللهم إلا أن يجعل قوله: (ويعلم مستقرها ومستودعها) كلاما مستأنفا بحياله غير مفسر لما قبله. وقد تقدم في قوله تعالى: (وهو الذى أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع) الانعام 98 ما يناسب هذا المقام فليراجع إليه من شاء. وأما قوله: (على الله رزقها) فهو دال على وجوب الرزق عليه تعالى وقد
[ 149 ]
تكرر في القرآن أن الرزق من أفعاله تعالى المختصة به وأنه حق للخلق عليه تعالى قال تعالى: (أمن هذا الذى يرزقكم إن أمسك رزقه) الملك: 21، وقال تعالى: (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) الذاريات: 58 وقال تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون فو رب السماء والارض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) الذاريات: 23. ولا ضير في أن يثبت عليه تعالى حق لغيره إذا كان تعالى هو الجاعل الموجب لذلك على نفسه من غير أن يداخل فيه غيره، ولذلك نظائر في كلامه تعالى كما قال: (كتب على نفسه الرحمة) الانعام: 12، وقال: (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) الروم: 47 إلى غير ذلك من الايات. والاعتبار العقلي يؤيد ذلك فإن الرزق هو ما يديم به المخلوق الحى وجوده وإذ كان وجوده من فيض جوده تعالى فما يتوقف عليه من الرزق من قبله، وإذ لا شريك له تعالى في إيجاده لا شريك له في ما يتوقف عليه وجوده كالرزق. وقد تقدم بعض الكلام في معنى الكتاب المبين في سورة الانعام آية: 59 وفي سورة يونس آية: 61 فليراجع.
قوله تعالى: (وهو الذى خلق السماوات والارض في ستة ايام وكان عرشه على الماء) الكلام المستوفى في توصيف خلق السماوات والارض على ما يظهر من كلامه تعالى ويفسره ما ورد في ذلك عن اهل العصمة عليهم السلام موكول إلى ما سيأتي من تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله تعالى. وإجمال القول الذى يظهر به معنى قوله: (ستة أيام) وقوله: (وكان عرشه على الماء) هو أن الظاهر أن ما يذكره تعالى من السماوات - بلفظ الجمع - ويقارنها بالارض ويصف خلقها في ستة أيام طبقات من الخلق الجسماني المشهود تعلو أرضنا فكل ما علاك وأظلك فهو سماء على ما قيل والعلو والسفل من المعاني الاضافية. فهى طبقات من الخلق الجسماني المشهود تعلو أرضنا وتحيط بها فإن الارض
[ 150 ]
كروية الشكل على ما يفيده قوله تعالى: (يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا) الاعراف 54. والسماء الاولى هي التى تزينه مصابيح النجوم والكواكب فهى الطبقة التى تتضمنها أو هي فوقها وتتزين بها كالسقف يتزين بالقناديل والمشاكى وأما ما فوق السماء الدنيا فلم يرد في كلامه شئ من صفتها غير ما في قوله تعالى: (سبع سماوات طباقا) الملك: 3، وقوله: (ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا) نوح: 16 حيث يدل على مطابقة بعضها بعضا. وقد ذكر الله سبحانه في صفة خلقها أنها كانت رتقاء ففتقها ومتفرقة متلاشية فجمعها وركمها وأنها كانت دخانا فصيرها سماوات، قال تعالى: (أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والارض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شئ حى أفلا يؤمنون) الانبياء: 30 وقال: (ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللارض ائتيا
طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها) حم السجدة 12 فأفاد أن خلق السماوات إنما تم في يومين، واليوم مقدار معتد به من الزمان وليس من الواجب أن يطابق اليوم في كل ظرف ووعاء يوم أرضنا الحاصل من دورة واحدة من حركتها الوضعية كما أن اليوم الواحد في القمر الذى لهذه الارض يعدل تسعة وعشرين يوما ونصفا تقريبا من أيام الارض واستعمال اليوم في البرهة من الزمان شائع في الكلام. فقد خلق الله سبحانه السماوات السبع في برهتين من الزمان كما قال في الارض: (خلق الارض في يومين - إلى أن قال - وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام) حم السجدة: 10 فأنبأ عن خلقها في يومين وهما عهدان وطوران وجعل الاقوات في أربعة ايام وهى الفصول الاربعة. فالمتحصل من الايات أولا: أن خلق السماوات والارض على ما هي عليه اليوم من الصفة والشكل لم يكن عن عدم بحت بل هي مسبوقة الوجود بمادة متشابهة
[ 151 ]
مركومة مجتمعة ففصل بعض أجزائها عن بعض فجعلت أرضا في برهتين من الزمان وقد كانت السماء دخانا ففصلت وقضيت سبع سماوات في برهتين من الزمان. وثانيا: أن ما نراه من الاشياء الحية إنما جعلت من الماء فمادة الماء هي مادة الحياة. وبما قدمنا يظهر معنى الاية التى نحن فيها فقوله: (هو الذى خلق السماوات والارض في ستة أيام) المراد بخلقها جمع أجزائها وفصلها وفتقها من سائر ما يختلط بها من المادة المتشابهة المركومة، وقد تم أصل الخلق والرتق في السماوات في يومين وفي الارض أيضا في يومين ويبقى من الستة الايام يومان لغير ذلك. وأما قوله: (وكان عرشه على الماء) فهو حال والمعنى وكان عرشه يوم خلقهن على الماء وكون العرش على الماء يومئذ كناية عن أن ملكه تعالى كان مستقرا يومئذ
على هذا الماء الذى هو مادة الحياة فعرش الملك مظهر ملكه، واستقراره على محل هو استقرار ملكه عليه كما ان استواءه على العرش احتواءه على الملك وأخذه في تدبيره. وقول بعضهم: إن المراد بالعرش البناء أخذا من قوله تعالى: (مما يعرشون) النحل: 68 أي يبنون كلام بعيد عن الفهم. قوله تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) اللام للغاية والبلاء الامتحان والاختبار، وقوله: (أيكم أحسن عملا) بيان للاختبار والامتحان في صورة الاستفهام والمراد أنه تعالى خلق السماوات والارض على ما خلق لغاية امتحانكم وتمييز المحسنين منكم من المسيئين. ومن المعلوم أن البلاء والامتحان أمر مقصود لغيره وهو تمييز الجيد من الردى والحسن من السيئ، وكذلك الحسنة والسيئة إنما يراد تمييزهما لاجل ما يترتب عليهما من الجزاء، وكذلك الجزاء إنما يراد لاجل ما فيه من إنجاز الوعد الحق ولذلك نجده تعالى يذكر كل واحد من هذه الامور المترتبة غاية للخلقة فقال في كون الابتلاء غاية للخلقة: (إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) الكهف: 7، وقال في معنى التمييز والتمحيص: (ليميز الله الخبيث من الطيب) الانفال: 37،
[ 152 ]
وقال في خصوص الجزاء: (وخلق الله السماوات والارض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون) الجاثية: 22 وقال في كون الاعادة لانجاز الوعد: (كما بدأنا اول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين) الانبياء: 104 إلى غير ذلك من الايات، وقال في كون العبادة غرضا في خلق الثقلين: (وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون) الذاريات: 56. وعد العمل الصالح أو الانسان المحسن غاية للخلقة لا ينافى اشتمال الخلقة على
غايات أخرى بعد ما كان الانسان أحد تلك الغايات حقيقة لان الوحدة والاتصال الحاكم على العالم يصحح كون كل واحد من أنواع الموجودات غاية للخلقة بما أنه محصول الارتباط ونتيجة الازدواج العام بين أجزائه فمن الجائز أن يخاطب كل نوع من أنواع الخليقة أنه المطلوب المقصود من خلق السماوات والارض بما أنها تؤدى إليه. على أن الانسان أكمل وأتقن المخلوقات الجسمانية من السماوات والارض وما فيهما صنعا ولئن نمى في جانب العلم والعمل نماء حسنا كان أفضل ذاتا مما سواه وأرفع مقاما وأعلى درجة من غيره وإن كان بعض الخليقة كالسماء أشد منه خلقا كما ذكره الله تعالى ومن المعلوم أن كمال الصنع هو المقصود منه إذا اشتمل على ناقص ولذا كنا نعد مراحل وجود الانسان المختلفة من المنوية والجنينية والطفولية وغيرها مقدمة لوجود الانسان السوى الكامل وهكذا. وبهذا البيان يظهر أن أفضل افراد الانسان - إن كان فيهم من هو أفضل مطلقا - غاية لخلق السماوات والارض، ولفظ الاية ايضا لا يخلو عن إشارة أو دلالة على ذلك فإن قوله: (أيكم أحسن عملا) يفيد أن القصد إلى تمييز من هو أحسن عملا من غيره سواء كان ذلك الغير محسنا أو مسيئا فمن كان عمله أحسن من سائر الافراد سواء كانوا محسنين وأعمالهم دون عمله أو مسيئين كان تمييزه منهم هو الغرض المقصود من الخلقة، وبذلك يستصح ما ورد في الحديث القدسي من خطابه تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (لولاك لما خلقت الافلاك) فإنه صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الخلق. وفي المجمع: قال الجبائى وفي الاية دلالة على أنه كان قبل خلق السماوات
[ 153 ]
والارض والملائكة لان خلق العرش على الماء لا وجه لحسنه إلا أن يكون فيه لطف لمكلف يمكنه الاستدلال به فلا بد حينئذ من حى مكلف، وقال على بن عيسى:
لا يمتنع أن يكون في الاخبار بذلك مصلحة للمكلفين فلا يجب ما قاله الجبائى وهو الذى اختاره المرتضى قدس الله روحه. انتهى. أقول: وما ذكراه مبنى على ما ذهب إليه المعتزلة: أن أفعال الله سبحانه معللة بالاغراض وتابعة للمصالح وجهات الحسن ولو كان ذلك بأن يخلق خلقا ليخبر بذلك المكلفين فيعتبروا به ويؤمنوا له فيتم بذلك مصلحة من مصالحهم، وقد تقدم في أبحاثنا السابقة أن الله سبحانه لا يحكم عليه ولا يؤثر فيه غيره سواء كان ذلك الغير مصلحة أو أي شئ آخر مفروض وأن غيره أي شئ فرض مخلوق له مدبر بأمره إن كان أمرا ذا واقعية ووجود إن الحكم إلا لله والله خالق كل شئ. فجهات الحسن والمصلحة وهى التى تحكم علينا وتبعثنا نحو افعالنا أمور خارجة عن أفعالنا مؤثرة فينا من جهة كوننا فاعلين نروم بها إلى سعادة الحياة، وأما هو سبحانه فإنه أجل من ذلك. وذلك أن جهات الحسن والمصلحة هذه إنما هي قوانين عامة مأخوذة من نظام الكون والروابط الدائرة بين أجزاء الخلقة، ومن الضرورى أن الكون وما فيه من النظام الجارى فعله سبحانه، ومن الممتنع جدا أن يتقدم المفهوم المنتزع على ما انتزع منه من الفعل ثم يتخطاه ولا يقنع حتى يتقدم على فاعله الموجد له. وأما ما في الاية من تعليل خلق السماوات والارض بقوله: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) ونظائره الكثيرة في القرآن فإنما هو وأمثاله من قبيل التعليل بالفوائد المترتبة والمصالح المتفرعة وقد أخبر تعالى أن فعله لا يخلو من الحسن إذ قال: (الذى أحسن كل شئ خلقه) الم السجدة: 7، فهو سبحانه هو الخير لا شر فيه وهو الحسن لا قبح عنده وما كان كذلك لم يصدر عنه شر ولا قبيح البتة. وليس مقتضى ما تقدم أن يكون معنى الحسن هو ما صدر عنه تعالى أو الذى أمر به وإن استقبحه العقل، ومعنى القبيح هو ما لا يصدر عنه أو الذى نهى عنه
[ 154 ]
وإن استحسنه العقل واستصوبه فإن ذلك يأباه أمثال قوله تعالى: (قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) الاعراف: 28. قوله تعالى: (ولئن قلت انكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا ان هذا الا سحر مبين) لما كان قوله: (ليبلوكم) الخ، يشير إلى المعاد أشار إلى ما كان يواجه به الكفار ذكره صلى الله عليه وآله وسلم للمعاد برميه بأنه سحر من القول. فظاهر الاية أنهم كما كانوا يسمون لفظ القرآن الكريم بما فيه من الفصاحة وبلاغة النظم سحرا، كذلك كانوا يسمون ما يخبر به القرآن أو النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حقائق المعارف التى لا يصدقه أحلامهم كالبعث بعد الموت سحرا، وعلى هذا فهو من مبالغتهم في الافتراء على كتاب الله والتعنت والعناد مع الحق الصريح حيث تعدوا عن رمى اللفظ لفصاحته وبلاغته بالسحر إلى رمى المعنى لصحته واستقامته بالسحر. ومن الممكن أن يكون المراد بالسحر المغالطة والتمويه بإظهار الباطل في صورة الحق على نحو إطلاق الملزوم وإرادة اللازم لكن لا يلائمه ظاهر قوله تعالى في نظير المورد: (قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه ان كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون) المؤمنون: 89. قوله تعالى: (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه) إلى آخر الاية. اللام في صدر الاية للقسم ولذلك أكد الجواب أعنى قوله: (ليقولن) باللام والنون و المعنى: وأقسم لئن أخرنا عن هؤلاء الكفار ما يستحقونه من العذاب قالوا مستهزئين: ما الذى يحبس هذا العذاب الموعود عنا ولماذا لا ينزل علينا ولا يحل بنا. وفي هذا إشارة أو دلالة على أنهم سمعوا من كلامه تعالى أو من كلام النبي
صلى الله عليه وآله وسلم ما يوعدهم بعذاب لا محيص منه وأن الله أخر ذلك تأخيرا رحمه لهم فاستهزئوا به وسخروا منه بقولهم: (ما يحبسه) ويؤيده قوله تعالى عقيب ذلك: (ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم) الخ.
[ 155 ]
وبهذا يتأيد أن السورة - سورة هود - نزلت بعد سورة يونس لمكان قوله تعالى فيها: (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط) إلى آخر الايات. وقوله: (إلى أمة معدودة) الامة الحين والوقت كما في قوله تعالى: (وقال الذى نجا منهما وادكر بعد أمه يوسف: 45 أي بعد حين ووقت. وربما أمكن أن يراد بالامة الجماعة فقد وعد الله سبحانه أن يؤيد هذا الدين بقوم صالحين لا يؤثرون على دينه شيئا ويمكن عند ذلك للمؤمنين دينهم الذى ارتضى لهم قال: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) المائدة: 54، وقال: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم - إلى أن قال - يعبدونني لا يشركون بى شيئا) النور: 55. وهذا وجه لا بأس به. وقيل: إن المراد بالامة الجماعة وهم قوم يأتي الله بهم بعد هؤلاء فيصرون على الكفر فيعذبهم بعذاب الاستئصال كما فعل بقوم نوح، أو هم قوم يأتون بعد هؤلاء فيصرون على معصية الله فتقوم عليهم القيامة. والوجهان سخيفان لبنائهما على كون المعذبين غير هؤلاء المستهزئين من الكفار وظاهر قوله تعالى: (ألا يوم يأتيهم) الخ، أن المعذبين هم المستهزئون بقولهم: (ما يحبسه). وقوله: (ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون)
بمنزلة الجواب عن قولهم: (ما يحبسه) الواقع موقع الاستهزاء فإنه في معنى الرد على ما أو عدوا به من العذاب، ومحصله أن هذا العذاب الذى يهددنا لو كان حقا لم يكن لحبسه سبب فإنا كافرون غير عادلين عن الكفر ولا تاركين له فتأخر نزول العذاب من غير موجب لتأخره بل مع الموجب لتعجيله كاشف عن كونه من قبيل الوعد الكاذب.
[ 156 ]
فأجاب الله عن ذلك بأنه سيأتيهم ولا يصرفه يومئذ عنهم صارف ويحيق بهم هذا العذاب الذى كانوا به يستهزئون. وبما تقدم يظهر أن هذا العذاب الذى يهددون به عذاب دنيوى سيحيق بهم وينزل عليهم دون عذاب الاخرة، وعلى هذا فهذه الاية والتى قبلها يذكر كل منهما شيئا من ما تهوس به الكفار بجهالتهم فالاية السابقة تذكر أنهم إذا ذكر لهم البعث وأنذروا بعذاب يوم القيامة قالوا: إن هذا إلا سحر مبين، وهذه الاية تذكر أن الله إذا أخر عنهم العذاب إلى أمة وأخبروا بذلك قالوا مستهزئين: ما يحبسه. قوله تعالى: (ولئن أذقنا الانسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤس كفور) قال في المجمع: الذوق تناول الشئ بالفم لادراك الطعم، وسمى الله سبحانه إحلال اللذات بالانسان إذاقة لسرعة زوالها تشبيها بما يذاق ثم يزول كما قيل: أحلام نوم أو كظل زائل والنزع قلع الشئ عن مكانه، واليؤس فعول من يئس - صيغة مبالغة - واليأس القطع بأن الشئ المتوقع لا يكون ونقيضه الرجاء. انتهى. وقد وضعت الرحمة في الاية مكان النعمة للاشعار بأن النعم التى يؤتيها الله الانسان عنوانها الرحمة وهى رفع حاجة الانسان فيما يحتاج إليه من غير استحقاق وإيجاب والمعنى: إنا إن آتينا الانسان شيئا من النعم التى يتنعم بها ثم نزعناها يئس منها واشتد يأسه حتى كة نه لا يرى عودها إليه ثانيا ممكنا وكفر بنعمتنا كأنه يرى
تلك النعمة من حقه الثابت علينا ويرانا غير مالكين لها فالانسان مطبوع على اليأس عما أخذ منه والكفران، وقد أخذ في الاية لفظ الانسان - وهو لفظ دال على نوعه - للدلالة على أن الذى يذكر من صفته من طبع نوعه. قوله تعالى: (ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عنى إنه لفرح فخور) قال في المجمع: النعماء إنعام يظهر أثره على صاحبه والضراء مضرة يظهر الحال بها لانهما أخرجتا مخرج الاحوال الظاهرة مثل حمراء وعيناء مع ما فيهما من المبالغة، والفرح والسرور من النظائر وهو انفتاح القلب بما يلتذ به وضده الغم - إلى أن قال: - والفخور الذى يكثر فخره وهو التطاول بتعديد المناقب وهى
[ 157 ]
صفة ذم إذا أطلقت لما فيها من التكبر على من لا يجوز أن يتكبر عليه. انتهى. والمراد بالسيئات بقرينة المقام المصائب والبلايا التى يسوء الانسان نزولها عليه، والمعنى: ولئن أصبناه بالنعمة بعد الضراء ليقولن ذهب الشدائد عنى، وهو كناية عن الاعتقاد بأن هاتيك الشدائد والنوازل لا تعود بعد زوالها ولا تنزل بعد ارتفاعها ثانيا. وقوله: (إنه لفرح فخور) بمنزلة التعليل لقوله: (ذهب السيئات عنى) فإنه يفرح ولا يزال على ذلك لما ذاقه من النعماء بعد الضراء، ولو كان يرى أن ما عنده من النعماء جائز الزوال لا وثوق على بقائه ولا اعتماد على دوامه، وأن الامر ليس إليه بل إلى غيره ومن الجائز أن يعود إليه ما تركه من السيئات لم يكن فرحا بذلك فإنه لا فرح في أمر مستعار غير ذى قرار. وانه ليفخر بما أوتى من النعماء على غيره، ولا فخر إلا بكرامة أو منقبة يملكها الانسان فهو يرى ما عنده من النعمة أمرا بيده زمامه ليس لغيره أن يسلبه وينزعه منه ويعيد إليه ما ذهب عنه من السيئات ولذلك يفخر ويكثر من الفخر. قوله تعالى: (إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات اولئك لهم مغفرة وأجر
كبير) ذكر سبحانه ما الانسان مطبوع عليه عند الشدة والبلاء من اليأس والكفر وعند الرخاء والنعماء من الفرح والفخر، ومغزى الكلام أنه مخلوق كليل البصر قصير النظر إنما يرى ما يجده في حاله الحاضرة، ويذهل عما دون ذلك فإن زالت عنه نعمه لم ير لها عودة وأنها كانت من عند الله سبحانه، د وله تعالى ان يعيدها إليه إن شاء حتى يصبر على بلائه ويتعلق قلبه به بالرجاء والمسألة، وإن عادت إليه نعمة بعد زوالها رأى أنه يملكها ففرح وفخر ولم ير لله تعالى صنعا في ذلك حتى يشكره عليها ويكف عن الفرح وعن التطاول على غيره بالفخر. استثنى سبحانه طائفة من الانسان ووصفهم بقوله (الذين صبروا وعملوا الصالحات) ثم وعدهم وعدا حسنا بقوله: (أولئك لهم مغفرة وأجر كبير) وذلك أن التخلص من هذا الطبع المذموم إنما يتمشى من الصابرين الذين يصبرون عند
[ 158 ]
الضراء فلا يحملهم الجزع على اليأس والكفر، ويعملون الصالحات من الشكر بثنائه تعالى على ما كشف الضراء وأعقب بالنعماء وصرف نعمه في ما يرضيه ويريح خلقه فلا يحملهم الاستغناء على الفرح والفخر. وهؤلاء هم المتخلصون الناجون يغفر لهم ربهم بإمحاء آثار ذلك الطبع المذموم ووضع الخصال المحمودة موضعه ولهم عند ربهم مغفرة وأجر كبير. وفي الاية دلالة على أن الصبر مع العمل الصالح لا ينفك عن الايمان فإنها تعد هؤلاء الصابرين مغفرة وأجرا كبيرا، والمغفرة لا تنال المشركين، قال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) النساء: 116. وقد ورد الوعد بعين ما ذكر في هذه الاية أعنى المغفرة والاجر الكبير للمؤمنين في قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير) فاطر: 7، وقوله تعالى: (إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير) الملك: 12.
واتصال الايات الثلاث بما قبلها ظاهر فإن الكلام كان في الايات السابقة مسوقا في كفر الكافرين ورميهم الوعد بالبعث بالسحر ومقابلتهم الايعاد بنزول العذاب بالاستهزاء، فذكر سبحانه أنهم على حالهم الطبعى لا يرون لما عندهم من نعمة الله زوالا بنزول العذاب ولا لما بهم من رث الحال تبدلا إلى العيش الهنئ والمتاع الحسن الذى وعدهم الله به في صدر السورة. قوله تعالى: (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك) إلى آخر الاية، لما كانت رساله النبي صلى الله عيله وآله وسلم بما أيدت به من القرآن الكريم والايات البينات والحجج والبراهين مما لا يسع لذى عقل إنكارها ولا لانسان صحيح المشاعر ردها والكفر بها كان ما حكى من كفر الكافرين وإنكار المشركين أمرا مستبعدا بحسب الطبع، وإذا كان وقوع أمر على صفة من الصفات مستبعدا أخد الانسان في تقرير ذلك الامر من غير مجرى الاستبعاد طلبا للمخرج من نسبة الوقوع إلى ما يستبعده الطبع.
[ 159 ]
ولما كان المقام في الاية الكريمة هذا المقام وكان ما حكاه الله سبحانه من كفر المنكرين وإنكار المشركين لما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم من الحق الصريح وما أنزل إليه من كلام الله تعالى مع ما يتلوه من البينات والحجج مما لا ينبغى أن يذعن به لبعده طبعا بين تعالى لذلك وجها بعد وجه على سبيل الترجي فقال: (ولعلك تارك بعض ما يوحى اليك) الخ، (أم يقولون افتراه) الخ. فكأنه قيل: من المستبعد أن تهديهم إلى الحق الواضح ويسمعوا منك كلامي ثم لا يستجيبوا دعوتك ويكفروا بالحق بعد وضوحه فلعلك تارك بعض ما يوحى اليك وغير داعيهم إليه ولذلك جبهوك بالانكار أم يقولون إن القرآن ليس من كلام الله بل هو افتراء افتريته على الله ولذلك لم يؤمنوا به. فإن كنت تركت بعض
الوحى خوفا من اقتراحهم عليك الايات فإنما أنت نذير وليس لك إلا ما شاء الله، وان يقولوا افتراه فقل لهم يأتوا بعشر سور مثله مفتريات (الخ). ومما تقدم يظهر أن ايراد الكلام مورد الترجي والاحتمال لرعاية ما يقتضيه المقام من طبع الاستبعاد فالمقام مقام الاستبعاد ومقتضاه ذكر كل سبب محتمل التأثير في الحادثة المستبعدة، اعتبر ذلك في ملك ينتهى إليه تمرد بعض ضعفاء رعيته فيبعث بعض عماله إلى دعوتهم إلى السمع والطاعة ويكتب في ذلك كتابا يأمره أن يقرأه عليهم ويلومهم على تمردهم واستكبارهم على ما بهم من الضعف والذلة ولمولاهم من القوة والسطوة والعزة ثم يبلغ الملك أنهم ردوا على رسوله ما بلغهم من قبله، ويكتب إليه كتابا ثانيا يأمره بقراءته عليهم وإذا فيه: لعلك لم تقرأ كتابي عليهم مخافة أن يقترحوا عليك بما لا تقدر عليه أو أنهم زعموا أن الكتاب ليس من قبلى وإنما افتريته على افتراء فإن كان الاول فإنك رسول ليس عليك إلا البلاغ وان كان الثاني فإن الكتاب بخطى كتبته بيدى وختمت عليه بخاتمي ولا يقدر أحد غيرى أن يقلدنى في ذلك. والتأمل في هذا المثال يعطى أن المقام فيما يتضمنه الكتاب الثاني من الخطاب مقام الاستبعاد وأن القصد من ذكر الاحتمالين ترك الابلاغ وزعم الافتراء ليس هو توبيخ الرسول جدا أو احتمال زعمهم الكذب والفرية جدا، وإنما ذكر الوجهان
[ 160 ]
لداعى أن يكونا كالمقدمة لذكر ما يزول به الشبهتان وهو أن الرسول ليس له من الامر شئ حتى يقترح عليه بما يقترح، وأن الكتاب للملك ليس فيه ريب ولا شك. ومن هنا يظهر أن قوله تعالى: (فلعلك تارك بعض ما يوحى اليك وضائق به صدرك) الخ، ليس يفيد الترجي الجدى ولا مسوقا لتوبيخ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا مرادا به تسليته وتطييب نفسه إثر ما كان يناله من الحزن والاسى بكفرهم وجحودهم
لما أتى به من الحق الصريح بل الكلام مسوق ليتوصل به إلى ذكر قوله: (إنما أنت نذير والله على كل شئ وكيل). فما ذكره بعض المفسرين أن الكلام مسرود لنهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الحزن وضيق الصدر بما كانوا يواجهونه به من الكفر والجحود، والنهى نهى تسلية وتطييب للنفس نظير ما في قوله: (ولا تحزن عليهم ولاتك في ضيق مما يمكرون) النحل: 127، وقوله: (لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) الشعراء: 4 كلام ليس في محله. ويظهر أيضا أن قوله: (فلعلك تارك) الخ، وقوله: (أم يقولون افتراه) الخ، كشقى الترديد ويتصلان معا بما قبلهما من وجه واحد كما ذكرناه. وقوله: (تارك بعض ما يوحى اليك) إنما ذكر البعض لان الايات السابقة متضمنة لتبليغ الوحى في الجملة أي لعلك تركت بعض ما أوحينا اليك من القرآن فما تلوته عليهم فلم ينكشف لهم الحق كل الانكشاف حتى لا يجبهوك بما جبهوك به من الرد والجحود، وذلك أن القرآن بعضه يوضح بعضا وشطرا منه يقرب شطرا منه من القبول كايات الاحتجاج توضح الايات المشتملة على الدعاوى، وآيات الثواب والعقاب تقرب الحق من القبول بالتطميع والتخويف، وآيات القصص والعبر تستميل النفوس وتلين القلوب. وقوله: (وضائق به صدرك أن يقولوا) الخ، قال في المجمع: ضائق وضيق بمعنى واحد إلا أن ضائق ههنا أحسن لوجهين: أحدهما: أنه عارض والاخر أنه أشكل بقوله تارك انتهى.
[ 161 ]
والظاهر أن ضمير (به) راجع إلى قوله: (بعض ما يوحى) وإن ذكر بعضهم أن الضمير راجع إلى قولهم: (لو لا أنزل عليه كنز) الخ، أو إلى اقتراحهم
وهذا أوفق بكون قوله (أن يقولوا) الخ، بدلا من الضمير في (به) وما ذكرناه أوفق بكونه مفعولا له لقوله: (تارك) والتقدير: لعلك تارك ذلك مخافة أن يقولوا: لو لا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك. وقوله: (إنما أنت نذير) جواب عن اقتراحهم بقولهم: لو لا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك، وقد تكرر في مواضع من كلامه تعالى ذكر ما اقترحوه اقتصر في بعضها على ذكر مجئ الملك وزيد في بعضها عليه غيره كاقتراح الاتيان بالله سبحانه ليشهد على الرسالة وأن يكون له جنة يأكل منها وأن ينزل من السماء كتابا يقرءونه. وقد أجاب الله سبحانه عنها جميعا بمثل ما أجاب به ههنا وهو أن رسوله ليس له إلا الرسالة فليس بيده وهو بشر رسول أن يجيبهم إلى ما اقترحوا به عليه إلا أن يشاء الله في ذلك شيئا ويأذن في إتيان آية كما قال: (وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله) المؤمن: 78. ثم عقب قوله: (إنما أنت نذير) بقوله: (والله على كل شئ وكيل) لتتميم الجواب عن اقتراحهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات ومحصله: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشر مثلهم ولم يؤمر إلا بالانذار وهو الرسالة بإعلام الخطر، والقيام بالامور كلها وتدبيرها سواء كانت جارية على العادة أو خارقة لها إنما هو إلى الله سبحانه فلا وجه لتعلقهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما ليس إليه. وذلك أن الله سبحانه هو الموجد للاشياء كلها وفاطرها وهو القائم على كل شئ فيما يجرى عليه من النظام فما من شئ إلا وهو تعالى المبدء في أمره وشأنه والمنتهى سواء الامور الجارية على العادة والخارقة لها فهو تعالى الذى يسلم إليه أمره ويدبر شأنه فهو تعالى الوكيل عليه فإن الوكيل هو الذى يسلم إليه الامر وينفذ فيه منه الحكم فهو تعالى على كل شئ وكيل.
[ 162 ]
وبذلك يظهر أن قوله: (والله على كل شئ وكيل) بمعونة من قوله: (إنما إنت نذير) يفيد قصر القلب فإنهم سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمراليس إليه وإنما هو إلى الله تعالى. قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور) قد تقدم من الكلام ما يصح به أخذ (أم) متصلة لكون قوله: (فلعلك تارك) الخ، في معنى الاستفهام، والتقدير: أفأنت تارك بعض ما يوحى اليك خوفا من اقتراحهم المعجزة أم يقولون إنك افتريته علينا فإن من المستبعد أن يقرء عليهم كلامي ثم لا يؤمنوا به وقيل: إن أم مقطعة والمعنى: بل يقولون افتراه. وقوله: (قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) في الكلام تحد ظاهر والضمير راجع إلى القرآن أو إلى السورة بما أنها قرآن والفاء في (فأتوا) تفيد تفريع الامر على قوله: (افتراه) وفي الكلام حذف وإيصال رعاية للايجاز، والتقدير: قل لهم: إن كان هذا القرآن مما افتريته على الله كان من عندي وكان من الجائز أن يأتي بمثله غيرى فإن كنتم صادقين في دعواكم ومجدين غير هازلين فأتوا بعشر سور مثله مفتريات واستعينوا في ذلك بدعوة كل من تستطيعون من دون الله من اوثانكم الذين تزعمون انهم آلهة تتسرعون إليهم في الحاجات وغيرهم من سائر الخلق حتى يتم لكم جميع الاسباب والوسائل ولا يبقى أحد ممن يطمع في تأثير إعانته ويرجى نفعه في ذلك فلو كان من عندي لا من عند الله جاز أن تأتوا حينئذ بمثله. وقد بان بهذا البيان ان التحدي بالقرآن في الاية الكريمة ليس من حيث نظمه وبلاغته فحسب فإنه تعالى يأمرهم بالاستمداد من كل من استطاعوا دعوته من دون الله سواء في ذلك آلهتهم وغير آلهتهم وفيهم من لا يعرف الكلام العربي أو جزالة نظمه وصفة بلاغته فالتحدي عام لكل ما يتضمنه القرآن الكريم من معارف حقيقية والحجج والبراهين الساطعة والمواعظ الحسنة والاخلاق الكريمة والشرائع الالهية
والاخبار الغيبية والفصاحة والبلاغة نظير ما في قوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا)
[ 163 ]
أسرى: 88، وقد تقدمت الاشارة إلى ذلك في الكلام على إعجاز القرآن في الجزء الاول من الكتاب. وبذلك يظهر فساد ما قيل إن جهة إعجاز القرآن انما هي البلاغة والفصاحة في هذا النظم المخصوص لانه لو كان جهة الاعجاز غير ذلك لما قنع في المعارضة بالافتراء والاختلاق لان البلاغة ثلاث طبقات فأعلى طبقاتها معجز وأدناها وأوسطها ممكن فالتحدي في الاية انما وقع في الطبقة العليا منها، ولو كان وجه الاعجاز الصرفة لكان الركيك من الكلام ابلغ في باب الاعجاز. والمثل المذكور في الاية لا يجوز أن يكون المراد به مثله في الجنس لان مثله في الجنس يكون حكايته فلا يقع بها التحدي، وإنما يرجع في ذلك إلى ما هو متعارف بين العرب في تحدى بعضهم بعضا كما اشتهر من مناقضات امرئ القيس وعلقمة وعمر بن كلثوم والحارث بن حلزة وجرير والفرزدق وغيرهم. انتهى. فإن فيه أولا: أن لو كانت جهة الاعجاز في القرآن هي بلاغته فحسب وهى امر لا يعرفه غير العرب لم يكن لتشريك غيرهم في التحدي معنى، ولم يرجع قوله: (وادعوا من استطعتم من دون الله) على ما فيه من العموم وكذا قوله: (لئن اجتمعت الانس والجن) الاية إلى معنى محصل ولكان من الواجب أن يقال: (لئن اجتمعت العرب) وادعوا من استطعتم من آلهتكم ومن أهل لغتكم. وثانيا: أنه لو كانت جهة الاعجاز هي البلاغة فقط لم يصح الاحتجاج بمثل قوله: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) النساء: 82، الظاهر في نفى مطلق الاختلاف فإن اكثر الاختلافات وهى التى يرجع إلى المعاني
لا تضر بلاغة اللفظ. وثالثا: أنه تعالى يتحدى بمثل قوله: (فليأتوا بحديث مثله) الطور: 34، وبقوله في سورة يونس: (فإتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله) آية 38، وقد استفدنا فيما تقدم أن سورة يونس قبل سورة هود في ترتيب النزول
[ 164 ]
ويؤيده الاثر، ثم بقوله في هذه السورة: (فإتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله) ولو كان جهة الاعجاز هي البلاغة خاصة لكانت هذه التحديات خارجة عن النظم الطبيعي إذ لا يصح أن يكلف البلغاء من العرب المنكرين لكون القرآن من عند الله بإتيان مثل سورة منه ثم بعده بإتيان عشر سور مفتريات بل مقتضى الطبع أن يتحدى بتكليفهم بإتيان مثل القرآن أجمع فإن عجزوا فبإتيان عشر سور مثله مفتريات فإن عجزوا فبإتيان سورة مثله. وقد ذكر بعضهم في التفصى عن هذا الاشكال أن الترتيب بين السور ونزول بعضها قبل بعض لا يستلزم الترتيب بين آيات السور فكم من آية مكية موضوعة في سورة مدنية وبالعكس فمن الجائز حينئذ أن تكون آيات التحدي بتمام القرآن نازلة قبل غيرها مطلقا ثم تكون آية التحدي بعشر سور مفتريات نازلة بعدها، وآية التحدي بسورة واحدة نازلة بعد الجميع. وفيه: أنه إنما ينفع لو صح نزول الايات على ما صوره وإلا فالاشكال على حاله والحق أن القرآن معجز في جميع صفاته المختصة به من بلاغة وفصاحة وما فيه من المعارف الحقيقية والاخلاق الكريمة والشرائع الالهية والقصص والعبر والاخبار بالمغيبات وما له من السلطان على القلوب والجمال الحاكم في النفوس. وأما الوجه في التحدي بعشر سور مع ما في سورة يونس من التحدي بواحدة فقد قال في المجمع: فإن قيل: لم ذكر التحدي مرة بعشر سور ومرة بسورة ومرة
بحديث مثله ؟ فالجواب: أن التحدي إنما يقع بما يظهر فيه الاعجاز من منظوم الكلام فيجوز أن يتحدى مرة بالاقل ومرة بالاكثر. انتهى. أقول: وهو يصلح وجها لاصل التحدي بالواحد والكثير وأما التحدي بالعشر بعد الواحدة ولا سيما على ما يراه من كون إعجازه بالبلاغة فحسب فلا. وذكر بعضهم في توجيه ذلك أن القرآن الكريم معجز في جميع ما يتضمنه من المعارف والاخلاق والاحكام والقصص وغيرها وينعت به من الفصاحة والبلاغة
[ 165 ]
وانتفاء الاختلاف، وإنما يظهر صحة المعارضة والاتيان بالمثل عند إتيان عدة من السور يظهر به ارتفاع الاختلاف وخاصة من بين القصص المودعة فيها مع سائر الجهات كالفصاحة والبلاغة والمعارف وغيرها. وإنما يتم ذلك بإتيان أمثال السور الطويلة التى تشتمل على جميع الشؤون المذكورة وتتضمن المعرفة والقصة والحجة وغير ذلك كسورتي الاعراف والانعام. والتى نزلت من السور الطويلة القرآنية مما يشتمل على جميع الفنون المذكورة قبل سورة هود على ما ورد في الرواية هي سورة الاعراف وسورة يونس وسورة مريم وسورة طه وسورة الشعراء وسورة النمل وسورة القصص وسورة القمر وسورة ص فهذه تسع من السور عاشرتها سورة هود، وهذا الوجه هو في التحدي بأمرهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، انتهى بتلخيص منا وقد أطنب في كلامه. أقول: فيه أولا: أن لا تعويل على الاثر الذى عول عليه في ترتيب نزول السور فإنما هو من الاحاد التى لا تخلو عن ضعف ولا ينبغى بناء البحث التفسيرى على أمثالها. وثانيا: أن ظاهر قوله: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) أن رميهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالافتراء على الله سبحانه قول تقولوه بالنسبة إلى
جميع السور القرآنية طويلتها وقصيرتها من غير أن يخصوا به سورة دون سورة فمن الواجب أن يجابوا بما يحسم مادة الشبهة بالنسبة إلى كل سورة قرآنية، والتحدى بما يفى بذلك، وعجزهم عن إتيان عشرسور مفتريات طويلة تجمع الفنون القرآنية لا يثبت به كون الجميع حتى السور القصار كسورتي الكوثر والعصر من عند الله اللهم إلا ببيان آخر يضم إليه واللفظ خال من ذلك. وثالثا: أن قوله: (بعشر سور مثله) إن كان ما فيه من الضمير راجعا إلى القرآن كما هو ظاهر كلام هذا القائل أفاد التحدي بإتيان عشر سور مفتريات مثله مطلقا سواء في ذلك الطوال والقصار فتخصيص التحدي بعشر سور طويلة جامعة
[ 166 ]
تقييد للفظ الاية من غير مقيد وهو تحكم وأشد منه تحكما القول بأن المراد بالمثل مثل السور العشر التى عدها. وإن كان الضمير راجعا إلى سورة هود كان مستبشعا من القول وكيف يستقيم أن يقال لمن يقول: إن سورة الكوثر والمعوذتين من الافتراء على الله: ائت بعشر سور مفتريات مثل سورة هود ويقتصر على ذلك ؟ اللهم إلا أن يهذروا بأن سورة هود وحدها من الافتراء على الله تعالى فيتحدى عندئذ بأن يأتوا بمثلها، ولم نسمع أحدا منهم تفوه بذلك. ويمكن أن يقال في وجه الاختلاف الذى يلوح من آيات التحدي كقوله: (فأتوا بسورة مثله) يونس: 38 الظاهر في التحدي بسورة واحدة وقوله: (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) الظاهر في التحدي بعدد خاص فوق الواحد وقوله: (فليأتوا بحديث مثله) الطور: 34 الظاهر في التحدي بحديث يماثل القرآن وإن كان دون السورة أن كل واحدة من الايات تؤم غرضا خاصا في التحدي. بيان ذلك: أن جهات القرآن وشؤونه التى تتقوم به حقيقته وهو كتاب إلهى
مضافا إلى ما في لفظه من الفصاحة وفي نظمه من البلاغة إنما ترجع إلى معانيه ومقاصده لست أعنى من المعنى ما يقصده علماء البلاغة في قولهم: إن البلاغة من صفات المعنى والالفاظ مطروحة في الطريق يعنون به المفاهيم من جهة ترتبها الطبعى في الذهن فإن الذى يعنون به من المعنى موجود في الكذب الصريح من الكلام وفي الهزل وفي الفحش والهجو والفرية إذا جرت على أسلوب البلاغة وتوجد في الكلام الموروث من البلغاء نظما ونثرا شئ كثير من هذه الامور. بل المراد من معنى القرآن ومقصده ما يصفه تعالى بأنه كتاب حكيم، ونور مبين، وقرآن عظيم، وفرقان، وهاد يهدى الى الحق وإلى طريق مستقيم، وقول فصل وليس بالهزل، وكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وذكر وأنه يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأنه شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا، وأنه تبيان لكل شئ ولا يمسه إلا المطهرون.
[ 167 ]
فمن البين أن هذه كلها صفات لمعنى القرآن. وليست صفات لما يقصده علماء البلاغة بالمعنى البليغ الذى ربما يشتمل عليه الباطل من الكلام الذى يسميه القرآن الكريم لغوا من القول وإثما وينهى الانسان عن تعاطيه والتفوه به وإن كان بليغا بل المعنى المتصف بهذه الصفات هو شئ من المقاصد الالهية التى تجرى على الحق الذى لا يخالطه باطل، وتقع في صراط الهداية، ويكون الكلام المشتمل على معنى هذا نعته وغرض هذا شأنه هو الذى تتعلق العناية الالهية بتنزيله وجعله رحمة للمؤمنين وذكرا للعالمين. وهذا هو الذى يصح أن يتحدى به بمثل قوله: (فليأتوا بحديث مثله) فأنا لا نسمى الكلام حديثا إلا إذا اشتمل على غرض هام يتحدث به فينقل من ضمير إلى ضمير، وكذا قوله: (فأتوا بسورة مثله) فإن الله لا يسمى جماعة من آيات كتابه
وإن كانت ذات عدد سورة إلا إذا اشتملت على غرض إلهى تتميز بها من غيرها. ولو لا ذلك لم يتم التحدي بالايات القرآنية وكان للخصم أن يختار من مفردات الايات عددا ذا كثرة كقوله تعالى: (والضحى) (والعصر) (والطور) (في كتاب مكنون) (مدهامتان) (الحاقة ما الحاقة) (وما أدراك ماالحاقة) (الرحمن) (ملك الناس) (إله الناس) (وخسف القمر) (كلا والقمر) (سندع الزبانية) إلى غير ذلك من مفردات الايات ثم يقابل كلا منها بما يناظرها من الكلام العربي من غير أن يضمن ارتباط بعضها ببعض واشتمالها على غرض يجمعها ويخرجها في صورة الوحدة. فالذي كلف به الخصم في هذه التحديات هو أن يأتي بكلام يماثل القرآن مضافا إلى بلاغة لفظه في بيان بعض المقاصد الالهية المشتملة على أغراض منعوتة بالنعوت التى ذكرها الله سبحانه. والكلام الالهى مع ما تحدى به في آيات التحدي يختلف بحسب ما يظهر من خاصته فمجموع القرآن الكريم يختص بأنه كتاب فيه ما يحتاج إليه نوع الانسان إلى يوم القيامة من معارف أصلية وأخلاق كريمة وأحكام فرعية، والسورة من القرآن تختص ببيان جامع لغرض من الاغراض الالهية المتعلقة بالهدى ودين الحق على بلاغتها
[ 168 ]
الخارقة، وهذه خاصة غير الخاصة التى يختص بها مجموع القرآن الكريم، والعدة من السور كالعشر والعشرين منها تختص بخاصة أخرى وهى بيان فنون من المقاصد والاغراض والتنوع فيها فإنها أبعد من احتمال الاتفاق فإن الخصم إذا عجز عن الاتيان بسورة واحدة كان من الممكن أن يختلج في باله أن عجزه عن الاتيان بها إنما يدل على عجز الناس عن الاتيان بمثلها لا على كونها نازلة من عند الله موحاة بعلمه فمن الجائز أن يكون كسائر الصفات والاعمال الانسانية التى من الممكن في كل منها أن يتفرد به فرد من بين أفراد النوع اتفاقا لتصادق أسباب موجبة لذلك كفرد
من الانسان موصوف بأنه اطول الافراد أو اكبرهم جثة أو أشجعهم أو أسخاهم أو أجبنهم أو أبخلهم. وهذا الاحتمال وإن كان مدفوعا عن السورة الواحدة من القرآن أيضا التى يقصدها الخصم بالمعارضة فإنها كلام بليغ مشتمل على معان حقة ذات صفات كريمة خالية عن مادة الكذب، وما هذا شأنه لا يقع عن مجرد الاتفاق والصدفة من غير أن يكون مقصودا في نفسه ذا غرض يتعلق به الارادة. إلا أنه أعنى ما مر من احتمال الاتفاق والصدفة عن السور المتعددة أبعد لان إتيان السورة بعد السورة وبيان الغرض بعد الغرض والكشف عن خبيئ بعد خبيئ لا يدع مجالا لاحتمال الاتفاق والصدفة وهو ظاهر. إذا تبين ما ذكرناه ظهر أن من الجائز أن يكون التحدي بمثل قوله: (قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) أسرى: 88 واردا مورد التحدي بجميع القرآن لما جمع فيه من الاغراض الالهية ويختص بأنه جامع لعامة ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة ; وقوله: (قل فأتوا بسورة مثله) لما فيها من الخاصة الظاهرة وهى أن فيها بيان غرض تام جامع من أغراض الهدى الالهى بيانا فصلا من غير هزل ; وقوله: (قل فأتوا بعشر سور) تحديا بعشر من السور القرآنية لما في ذلك من التفنن في البيان والتنوع في الاغراض من جهة الكثرة، والعشرة من ألفاظ الكثرة كالمأة والالف
[ 169 ]
قال تعالى: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) البقرة: 96. فالمراد بعشر سور - والله أعلم - السور الكثيرة الحائزة لبعض مراتب الكثرة المعروفة بين الناس فكأنه قيل: فأتوا بعدة من سورها ولتكن عشرا ليظهر به أن تنوع الاغراض القرآنية في بيانه المعجز ليس إلا من قبل الله.
وأما قوله: (فليأتوا بحديث مثله) فكأنه تحد بما يعم التحديات الثلاثة السابقة فإن الحديث يعم السورة والعشر سور والقرآن كله فهو تحد بمطلق الخاصة القرآنية وهو ظاهر. بقى هنا أمران أحدهما: أنه لم يقع في شئ من آيات التحدي المذكورة توصيف ما يأتي به الخصم بالافتراء إلا في هذه الاية إذ قيل فيها: (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) بخلاف قوله: (فأتوا بسورة مثله) فلم يقل فيه: (فأتوا بسورة مثله مفتراة) وكذا في سائر آيات التحدي. ولعل الوجه في ذلك أن نوع العناية في الاية المبحوث عنها غير نوع العناية في سائر آيات التحدي فإن العناية في سائر الايات متعلقة بأنهم لا يقدرون على الاتيان بمثل القرآن أو بمثل السورة لما أنه قرآن مشتمل على جهات لا تتعلق بها قدرة الانسان ولا يظهر عليها غيره تعالى وقد أطلق القول فيها إطلاقا. وأما هذه الاية فلما عقبت بقوله: (فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله) دل ذلك على أن التحدي فيها إنما هو بكون القرآن متضمنا لما يختص علمه بالله تعالى ولا سبيل لغيره إليه، وهذا أمر لا يقبل الافتراء بذاته فكأنه قيل: إن هذا القرآن لا يقبل بذاته افتراء فإنه متضمن لامور من العلم الالهى الذى لا سبيل لغيره تعالى إليه، وإن ارتبتم في ذلك فأتوا بعشر سور مثله مفتريات تدعون أنها افتراء، واستعينوا بمن استطعتم من دون الله فإن لم تقدروا عليه فاعلموا أنه من العلم المخصوص به تعالى. فافهم ذلك. وثانيهما: معنى التحدي بالمثل حيث قيل: (بمثل هذا القرآن) (بحديث
[ 170 ]
مثله) بسورة مثله) (بعشر سور مثله) والوجه الظاهر فيه أن الكلام لما كان آية معجزة فلو أتى إنسان بما يماثله لكفى في إبطال كونه آية معجزة ولم يحتج إلى
الاتيان بما يترجح عليه في صفاته ويفضل عليه في خواصه. وربما يورد عليه أن عدم قدره غيره صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك لا يدل على كونه معجزة غير مستندة إليه لان صفات الكمال التى توجد في النوع الانساني كالبلاغة والكتابة والشجاعة والسخاء و غيرها لها مراتب متفاوتة مختلفة يفضل بعضها على بعض، وإذا كان كذلك كان من المراتب ما هو فوق الجميع وهو غاية ما يمكن أن ترتقى إليه النفس الانسانية البتة. فكل صفة من صفات الكمال يوجد بين الافراد الموصوفين بها من هو حامل للدرجة العليا والغاية القصوى منها بحيث لا يعدله غيره ولا يعارضه أحد ممن سواه فبالضرورة بين أفراد الانسان عامة من هو أبلغهم أو أكتبهم أو أشجعهم أو أسخاهم كما أن بينهم من هو أطولهم قامة وأكبرهم جثة، ولم لا يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفصح الناس جميعا وأبلغهم والقرآن من كلامه الذى لا يسع لاحد أن يعارضه فيه لوقوفه موقفا ليس لغيره فيه موضع قدم ؟ فلا يكون عندئذ عجز غيره عن الاتيان دليلا على كونه كلاما إلهيا غير بشرى لجواز كونه كلاما بشريا مختصا به صلى الله عليه وآله وسلم مضنونا عن غيره. هذا. ويدفعه أن الصفات الانسانية التى يقع فيها التفاضل وإن كانت على ما ذكر لكنها أياما كانت فهى مما تسمح بها الطبيعة الانسانية بما أودع الله فيها من الاستعداد من غير أن تنشأ عن اتفاق ومن غير سبب يمكن الفرد الموصوف من الاتصاف بها. وإذا كان كذلك وفرض فرد من الانسان اختص بصفة فاضلة لا يعدله غيره ولا يفوقه سواه كان لغيره أن يسلك ما مهده من السبيل ويتعود بالتمرن والتدرب والارتياض بما يأتيه من الاعمال التى تصدر عما عنده من صفة الكمال فيأتى بما يماثل بعض ما يختص به من الكمال ويقلده في نبذه من أعماله وان لم يقدر على أن يزاحمه في الجميع ويماثله في الكل، ويبقى للفرد النابغ المذكور مقام الاصالة والسبقة والتقدم
[ 171 ]
في ذلك فالحاتم مثلا وإن كان هو المتفرد غير المعارض في سخائه وجوده من غير أن يسع غيره أن يتقدم عليه ويسبقه لكن من الممكن أن يرتاض مرتاض في سبيله فيتمرن ويتدرب فيه فيأتى بشئ من نوع سخائه وجوده وان لم يقدر على مزاحمته في الجميع وفي أصل مقامه، والكمالات الانسانية التى هي منابع للاعمال سبيلها جميعا هذا السبيل، ويتمكن الانسان بالتمرن والتدرب على سلوك سبيل السابقين المبدعين فيها والاتيان بشئ من أعمالهم وإن لم يسع مزاحمتهم في أصل موقفهم. فلو كان القرآن من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم على فرض أنه أبلغ إنسان وأفصحه كان من الجائز أن يهتم غيره فيتمرن على سلوك ما أبدعه في كلامه من النظم البديع فيقدر على تقليده في شئ من الكلام وإتيان شئ من القول بسورة مثله وإن لم يقدر على تقليد القرآن كله والاتيان بجميعه. ولم يقل فيما تحدى به: فليأتوا بحديث أبلغ منه أو أحسن أو بسورة هي أبلغ أو أحسن حتى يقال: إن القرآن أبلغ كلام بشرى أو أحسنه ليس هناك ما هو أبلغ أو أحسن منه حتى يأتي به آت فلا يدل عدم القدرة على الاتيان بذلك على كونه كلاما لغير البشر، بل إنما قال: (فليأتوا بحديث مثله) (قل فأتوا بسورة مثله) وهكذا وفي وسع البشر الاتيان بمثل كلام غيره من البشر وإن فرض كون ذلك الغير ذا موقف من الكلام لا يعارضه غيره على ما بيناه فالشبهة مندفعة بقوله تعالى (مثله). قوله تعالى: (فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون) إجابة الدعوة واستجابتها بمعنى. والظاهر من السياق ان الخطاب في الاية للمشركين، وأنه من تمام كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذى أمر بقوله تعالى: (قل) أن يلقيه إليهم، وعلى هذا فضمير الجمع
في قوله: (لم يستجيبوا) راجع إلى الالهة وكل من استعانوا به المدلول عليهم بقوله: (وادعوا من استطعتم من دون الله). والمعنى: فإن لم يستجب لكم معاشر المشركين هؤلاء الذين دعوتموهم من
[ 172 ]
آلهتكم ومن بلغاء أهل لسانكم العارفين بأساليب الكلام وعلماء اهل الكتاب الذين عندهم الكتب السماوية وأخبار الانبياء والامم والكهنة المستمدين من إلقاء شياطين الجن، وجهابذة العلم والفهم من سائر الناس المتعمقين في المعارف الانسانية بأطرافها فاعلموا أنما أنزل هذا القرآن بعلم الله ولم يختلق عن علمي أنا ولا غيرى ممن تزعمون أنه يعلمنى ويملى على، واعلموا أيضا ان ما ادعوكم إليه من التوحيد حق فإنه لو كان هناك إله من دون الله لنصركم على ما دعوتموه إليه فهل انتم ايها المشركون مسلمون لله تعالى منقادون لامره ؟ فقوله تعالى: (فإن لم يستجيبوا لكم) في معنى قولنا: فإن لم تقدرو على المعارضة بعد الاستعانة والاستمداد بمن استطعتم أن تدعوهم من دون الله، وذلك أن الاسباب التى توجب قدرتهم على المعارضة هي ما عندهم من قدرة البيان وقريحة البلاغة وهم يرون أن ذلك من مواهب آلهتهم من دون الله وكذا ما عند آلهتهم مما لم يهبوهم بعد، ولهم أن يؤيدوهم به إن شاءوا على زعمهم، وأيضا ما عند غير آلهتهم من المدد، وإذا لم يستجبهم الذين يدعونهم في معارضة القرآن فقد ارتفع جميع الاسباب الموجبة لقدرتهم وارتفعت بذلك قدرتهم فعدم إجابته الشركاء على معارضة القرآن ملازم لعدم قدرتهم عليها حتى بما عند أنفسهم من القدرة ففى الكلام كناية. وقوله: (فاعلموا أنما أنزل بعلم الله) الظاهر أن المراد بعلم الله هو العلم المختص به وهو الغيب الذى لا سبيل لغيره تعالى إليه إلا بإذنه كما قال تعالى: (لكن الله يشهد بما أنزل اليك أنزله بعلمه) النساء: 166، وقال: (ذلك من
أنباء الغيب نوحيه اليك) يوسف: 102، وقال: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول) الجن: 27، وقال: (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين) الواقعة: 80. فالمعنى: فإن لم تقدروا على معارضته بأى سبب ممد تعلقتم به من دون الله فتيقنوا أنه لم ينزل إلا عن سبب غيبي وأنه من أنباء الغيب الذى يختص به تعالى فهو الذى أنزله على وكلمني به وأراد تفهيمى وتفهيمكم بما فيه من المعارف الحقة وذخائر الهداية.
[ 173 ]
وذكر بعضهم أن المراد به أنه إنما أنزل على علم من الله بنزوله وشهادة منه له، وذكر آخرون أن المراد أنه إنما أنزل بعلم من الله أنه لا يقبل المعارضة أو بعلم من الله بنظمه وترتيبه ولا يعلم غيره ذلك، وهذه معان واهيه بعيدة عن الفهم. والجملة أعنى قوله: (إنما أنزل بعلم الله) احدى النتيجتين المأخوذتين من عدم استجابة شركائهم لهم. والنتيجة الاخرى قوله: (وأن لا إله إلا هو) ولزوم هذه النتيجة من وجهين: احدهما: أنهم إذا دعوا آلهتهم لما يهمهم من الامور فلم يجيبوهم كشف ذلك عن أنهم ليسوا بالهة فليس الاله إلا من يجيب المضطر إذا دعاه وخاصة إذا دعاه لما فيه نفع الاله المدعو فإن القرآن الذى أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقطع دابرهم ويميت ذكرهم ويصرف الناس عن التوجه إليهم فإذا لم يجيبوا أولياءهم اذادعوهم لمعارضة كتاب هذا شأنه كان ذلك من اوضح الدليل على نفى ألوهيتهم. وثانيهما: أنه إذا صح ان القرآن حق نازل من عند الله صادق فيما يخبر به، ومما يخبر به أنه ليس مع الله إله آخر علم بذلك أنه لا إله إلا الله سبحانه. وقوله: (فهل أنتم مسلمون) أي لما علمتم واتضح لكم من جهة عدم
استجابة شركائكم من دون الله وعجزكم عن المعارضة فهل أنتم مسلمون لما وقع عليه علمكم هذا من توحيد الله سبحانه وكون هذا القرآن كتابا نازلا بعلمه ؟ وهو أمر بالاسلام في صورة الاستفهام. هذا كله ما يقتضيه ظاهر الاية. وقيل: إن الخطاب في قوله: (فإن لم يستجيبوا لكم) الخ، للنبى صلى الله عليه وآله وسلم خوطب بلفظ الجمع تعظيما له وتفخيما لشأنه وضمير الجمع الغائب راجع إلى المشركين أي فإن لم يستجب المشركون لما دعوتهم أيها النبي إليه من المعارضة فاعلم أنه منزل بعلم الله وأن الله واحد فهل أنت مسلم لامره. وفيه أنه قد صح أن التعظيم بلفظ الجمع والكثرة يختص في الكلام العربي بالمتكلم واما الخطاب والغيبة فلا تعظيم فيها بلفظ الجمع.
[ 174 ]
مضافا إلى ان استناد الوحى الالهى والتكليم الربانى إليه تعالى استناد ضروري لا يقبل الشك حتى يستعان عليه بالدليل فما يتلقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم دلالته على كونه كلاما من الله دلالة ضرورية غير محتاجة إلى حجة حتى يحتج عليه بعدم إجابة المشركين إلى معارضة القرآن وعجزهم عنها بخلاف كلام المخلوقين من الانسان والجن والملك وأى هاتف آخر فإنه يحتاج في حصول العلم باستناده إلى متكلمه إلى دليل خارجي من حسن أو عقل، وقد تقدمت إشارة إلى ذلك في قصة زكريا من سورة آل عمران، وسيجئ البحث المستوفى عن ذلك فيما يناسبه من المورد إنشاء الله تعالى. على أن خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمثل قوله: (وأنه لا إله إلا هو)، وقوله: (فهل أنتم مسلمون) لا يخلو عن بشاعة. على أن نفس الاستدلال ايضا غير تام كما سنبين. وقيل: إن الخطاب في الاية للنبى صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين جميعا أو للمؤمنين خاصة لان المؤمنين يشاركونه صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة الدينية والتحدى بالقرآن الذى هو كتاب
ربهم المنزل عليهم والمعنى: فإن لم يستجب المشركون لكم في المعارضة فاعلموا أن القرآن منزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل تسلمون أنتم لله ؟ ولما تفطن بعضهم أن لا معنى لدعوة المؤمنين وهم مؤمنون بالله وحده وبكتابه إلى العلم بأنه كتاب نازل من عند الله وبأنه تعالى واحد لا شريك له أصلحه بأن المراد فاثبتوا على علمكم أنه إنما أنزل بعلم الله وازدادوا به ايمانا ويقينا وأنه لا إله إلا هو ولا يستحق العبادة سواه فهل أنتم ثابتون على إسلامكم والاخلاص فيه ؟ وفيه أنه تقييد للاية من غير مقيد والحجة غير تامة وذلك أن المشركين لو كانوا وقفوا موقف المعارضة بما عندهم من البضاعة واستعانوا عليها بدعوة آلهتهم وسائر من يطمعون فيه من الجن والانس ثم عجزوا كان ذلك دليلا واضحا يدلهم على أن القرآن فوق كلام البشر وتمت بذلك الحجة عليهم، وأما عدم استجابة الكفار للمعارضة فليس يدل على كونه من عند الله لانهم لم يأتمروا بما أمروا به بقوله: (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) إما لعلمهم بأنه كلام الله الحق وإنما كان قولهم:
[ 175 ]
(افتراه) قولا ناشئا عن العناد واللجاج لا عن إذعان به أو شك فيه، أو لانهم كانوا آئسين من استجابة شركائهم للدعوة على المعارضة، أو لانهم كانوا هازلين في قولهم ذلك يهذرون هذرا. وبالجملة عدم استجابة المشركين للنبى صلى الله عليه وآله وسلم أو للمؤمنين أو لهم جميعا لا يدل بنفسه على كون القرآن نازلا من عند الله إلا إذا كان عدم الاستجابة المذكورة بعد تحقق دعوتهم شركاءهم إلى المعارضة وعدم استجابتهم لهم، ولم يتحقق من المشركين دعوة على هذه الصفة، ومجرد عدم استجابة المشركين انفسهم لا ينفع شيئا، ولا يبقى إلا أن يقال: إن معنى الاية: فإن دعا المشركون من استطاعوا من دون الله فلم يستجيبوا لهم ولم يستجب المشركون لكم أيها النبي ومعاشر المؤمنين فاعلموا أنما
أنزل بعلم الله الخ، وهذا هو الذى أومأنا إليه آنفا أنه تقييد للاية من غير مقيد. على أن فيه امرا للمؤمنين أن يهتدوا في ايمانهم ويقينهم بأمر فرضى غير واقع وكلامه تعالى يجل عن ذلك، ولو أريدت الدلالة على أنهم غير قادرين على ذلك وإن دعوا شركاءهم إلى المعارضة كان من حق الكلام أن يقال: فإن لم يستجيبوا لكم ولن يستجيبوا فاعلموا الخ، كما قيل كذلك في نظيره قال تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التى وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين) البقرة: 24. قوله تعالى: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون) التوفية إيصال الحق إلى صاحبه وإعطاؤه له بكماله، والبخس نقص الاجر. وفي الاية تهديد لهؤلاء الذين لا يخضعون للحق لما جاءهم ولا يسلمون له إيثارا للحياة الدنيا ونسيانا للاخرة، وبيان لشئ من سنة الاسباب القاضية عليهم باليأس من نعيم الحياة الاخرة. وذلك أن العمل كيفما كان فإنما يسمح للانسان بالغاية التى ارادها به وعمله
[ 176 ]
لاجلها، فإن كانت غاية دنيوية تصلح شؤون الحياة الدنيا من مال وجمال وحسن حال ساقه العمل - إن أعانته سائر الاسباب العاملة - إلى ما يرجوه بالعمل وأما الغايات الاخروية فلا خبر عنها لانها لم تقصد حتى تقع، ومجرد صلاحية العمل لان يقع في طريق الاخرة وينفع في الفوز بنعيمها كالبر والاحسان وحسن الخلق لا يوجب الثواب وارتفاع الدرجات ما لم يقصد به وجه الله ودار ثوابه. ولذلك عقبه بقوله تعالى: (أولئك الذين ليس لهم في الاخرة إلا النار وحبط
ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) فأخبر أنهم إذا وردوا الحياة الاخرة وقعوا في دار حقيقتها أنها نار تأكل جميع أعمالهم في الحياة كما تأكل النار الحطب وتبير وتهلك كل ما تطيب به نفوسهم من محاسن الوجود، وتحبط جميع ما صنعوا فيها وتبطل ما أسلفوا من الاعمال في الدنيا، ولذلك سماها سبحانه في موضع آخر بدار البوار أي الهلاك فقال تعالى: (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها) إبراهيم: 29، وبذلك يظهر أن كلا من قوله: (وحبط ما صنعوا فيها) وقوله: (وباطل ما كانوا يعملون) يفسر قوله: (أولئك الذين ليس لهم في الاخرة إلا النار) نوعا ما من التفسير. وبما تقدم يظهر اولا: أن المراد من توفية أعمالهم إليهم توفية نتائجها وإيصال الاثار التى لها بحسب نظام الاسباب والمسببات لا ما يقصده الفاعل بفعله ويرجوه بمسعاه فإن الذى يناله الفاعل في هذه النشأة بفعله هو نتيجة الفعل التى يعينه سائر الاسباب العاملة عليها لا ما يؤمه الفاعل كيفما كان فما كل ما يتمنى المرء يدركه. وقد عبر تعالى عن هذه الحقيقة في موضع آخر بقوله: (ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الاخرة من نصيب) الشورى: 20، فقال تعالى: (نؤته منها) ولم يقل: نؤته إياها، وقال في موضع آخر: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا) أسرى: 18 فذكر ما يريده الانسان من الدنيا ويناله منها وزاد بيانا أنه ليس كل من يريد أمرا يناله ولا كل ما يراد ينال بل الامر إلى الله سبحانه يعطى ما يشاء ويمنع ما يشاء ويقدم من يريد ويؤخر من يريد على ما تجرى عليه سنة الاسباب.
[ 177 ]
وثانيا: أن الايتين أعنى قوله: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم) إلى آخر الايتين تبينان حقيقة من الحقائق الالهية.
(بحث روائي) في الكافي في قوله تعالى: (ألا إنهم يثنون صدورهم) الاية بإسناده عن ابن محبوب عن جميل بن صالح عن سدير عن أبى جعفر عليه السلام قال: أخبرني جابر بن عبد الله أن المشركين كانوا إذا مروا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حول البيت طأطأ احدهم رأسه وظهره هكذا وغطى رأسه بثوب لا يراه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله: (ألا إنهم يثنون) الاية. وفي الدر المنثور اخرج ابن أبى شيبة وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن أبى رزين قال: كان أحدهم يحنى ظهره ويستغشى بثوبه. وفي المجمع روى عن على بن الحسين وأبى جعفر وجعفر بن محمد عليهم السلام يثنوني على يعفوعل. وفي تفسير العياشي عن محمد بن الفضيل عن جابر عن أبى جعفر عليه السلام قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجل من أهل البادية فقال: يا رسول الله إن لى بنين وبنات وإخوة وأخوات وبنى بنين وبنى بنات وبنى إخوة وبنى أخوات والمعيشة علينا خفيفة فإن رأيت يا رسول الله أن تدعو الله أن يوسع علينا. قال: وبكى فرق له المسلمون فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من دابة في الارض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين) من كفل بهذه الافواه المضمونة على الله رزقها صب الله عليه الرزق صبا كالماء المنهمر إن قليل فقليلا وإن كثير فكثيرا. قال: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمن له المسلمون. قال: قال أبو جعفر عليه السلام: فحدثني من رأى الرجل في زمن عمر فسأله عن
[ 178 ]
حاله فقال: من أحسن من خوله حلالا وأكثرهم مالا. وفي الدر المنثور اخرج الحكيم الترمذي في نوادر الاصول والحاكم وصححه
وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا كان أجل أحدكم بأرض أتيحت له إليها حاجة حتى إذا بلغ أقصى أثره منها فيقبض فتقول الارض يوم القيامة: هذا ما استودعتني. أقول: والرواية غير ظاهرة في تفسير الاية. وفي الكافي بإسناده عن ابى حمزة الثمالى عن ابى جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع: ألا إن الروح الامين نفث في روعى أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء شئ من الرزق أن تطلبوه بشئ من معصية الله فإن الله تعالى قسم الارزاق بين خلقه حلالا ولم يقسمها حراما فمن اتقى الله وصبر أتاه رزقه من حله، ومن هتك حجاب ستر الله عزوجل وأخذه من غير حله قص به من رزقه الحلال وحوسب عليه. أقول: الرواية من المشهورات رواها العامة والخاصة بطرق كثيرة. وفي تفسير العياشي عن ابى الهذيل عن ابى عبد الله عليه السلام قال: إن الله قسم الارزاق بين عباده وأفضل فضلا كبيرا لم يقسمه بين أحد قال الله: (واسألوا الله من فضله). أقول: والرواية مروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تقدمت بعض ما في هذا المعنى من الاخبار في ذيل قوله تعالى: (وترزق من تشاء بغير حساب) سورة آل عمران آية 27، وقوله تعالى: (واسألوا الله من فضله) سورة النساء: آية 32. وفي الكافي عن ابى عبد الله عليه السلام قال: كان امير المؤمنين عليه السلام كثيرا ما يقول: اعلموا علما يقينا أن الله عزوجل لم يجعل للعبد وإن اشتد جهده، وعظمت حيلته وكثرت مكايده أن يسبق ما سمى له في الذكر الحكيم. أيها الناس إنه لن يزداد امرؤ نقيرا بحذقه، ولن ينقص امرؤ نقيرا لحمقه فالعالم بهذا العامل به أعظم الناس راحة في منفعته والعالم بهذا التارك له اعظم الناس شغلا في مضرته، ورب
[ 179 ]
منعم عليه مستدرج بالاحسان إليه ورب مغرور في الناس مصنوع له. فاتق الله أيها الساعي عن سعيك، وقصر من عجلتك، وانتبه من سنة غفلتك وتفكر فيما جاء عن الله عزوجل على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. الحديث. وفي الكافي بإسناده عن ابن ابى عمير عن عبد الله بن الحجاج عن ابى عبد الله عليه السلام قال: إن محمد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أظن أن على بن الحسين يدع خلقا أفضل منه حتى رأيت ابنه محمد بن على فأردت أن أعظه فوعظني فقال له اصحابه: بأى شئ وعظك ؟ فقال: خرجت إلى بعض نواحى المدينة في ساعة حاره فلقينى أبو جعفر محمد بن على وكان رجلا بادنا ثقيلا وهو متكئ على غلامين اسودين أو موليين فقلت في نفسي: سبحان الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على مثل هذه الحالة في طلب الدنيا أما إنى لاعظنه. فدنوت منه وسلمت عليه فرد على بنهر وهو ينصاب عرقا فقلت: أصلحك الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحالة في طلب الدنيا أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحال ؟ فقال: لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعة الله عزوجل أكف بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف إن جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله. فقلت: صدقت يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني. وفيه بإسناده عن عبد الاعلى مولى آل سام قال: استقبلت أبا عبد الله في بعض طرق المدينة في يوم صائف شديد الحر فقلت: جعلت فداك حالك عند الله عز وجل وقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنت تجهد نفسك في مثل هذا اليوم ؟ فقال: يا عبد الاعلى خرجت في طلب الرزق لاستغنى به عن مثلك. أقول: ولا منافاه بين القضاء بالرزق وبين الامر بطلبه. وهو ظاهر.
وفي الدر المنثور أخرج الطيالسي وأحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقي في الاسماء والصفات عن ابى رزين قال: قلت: يا رسول الله اين كان ربنا قبل ان يخلق خلقه ؟ قال: كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء، وخلق عرشه على الماء.
[ 180 ]
أقول: العماء الغيم الذى يمنع نفوذ البصر فيه، و (ما) في قوله: (ما تحته هواء وما فوقه هواء) موصولة والمراد بالهواء هو الخالى من كل شئ كما في قوله تعالى: (وأفئدتهم هواء) أو أنها نافية والمراد بالهواء معناه المعروف، والمراد به أنه كان عماء لا يحيط به الهواء على خلاف سائر العماءات. والرواية من أخبار التجسم ولذا وجه بأن قوله: في عماء (الخ) كناية عن غيب الذات الذى تكل عنه الابصار وتتحير فيه الالباب. وفيه أخرج احمد والبخاري والترمذي والنسائي وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقي في الاسماء والصفات عن عمران بن حصين قال: قال أهل اليمن: يا رسول الله أخبرنا عن اول هذا الامر كيف كان ؟ قال: كان الله قبل كل شئ، وكان عرشه على الماء، وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شئ، وخلق السماوات الارض. فنادى مناد: ذهبت ناقتك يا بن الحصين فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السراب فو الله لوددت أنى تركتها. أقول: وروى عدة من رجال الحديث هذه الرواية عن بريدة وقال بريدة في آخرها: (ثم أتانى آت فقال: هذه ناقتك قد ذهبت فخرجت والسراب ينقطع دونها فلوددت أنى كنت تركتها) وهذا مما يوهن الحديثين. وفيه في قوله تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) أخرج داود بن المحبر في كتاب العقل وابن جرير وابن أبى حاتم والحاكم في التاريخ وابن مردويه عن ابن عمر
قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الاية: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) فقلت: ما معنى ذلك يا رسول الله ؟ قال: ليبلوكم أيكم أحسن عقلا. ثم قال: وأحسنكم عقلا أورعكم عن محارم الله وأعلمكم (1) بطاعة الله. وفي الكافي مسندا عن سفيان بن عيينة عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) قال: قال: ليس يعنى اكثر [ كم ظ ] عملا ولكن أصوبكم عملا، وإنما الاصابة خشية الله والنية الصادقة. (1) اعملكم ظ. (*)
[ 181 ]
ثم قال: الابقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص: الذى لا تريد أن يحمدك عليه احد إلا الله عزوجل والنية أفضل من العمل ألا إن النية هي العمل ثم تلا قوله عزوجل: (قل كل يعمل على شاكلته) يعنى على نيته. أقول: قوله ألا إن النية هي العمل يعنى ليس للعمل أثر إلا لما معه من النية. وفي تفسير النعماني بإسناده عن إسحاق بن عبد العزيز عن أبى عبد الله عليه السلام في قوله: (لئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة) قال: العذاب خروج القائم عليه السلام والامة المعدودة أهل بدر وأصحابه. أقول: وروى هذا المعنى الكليني في الكافي والقمى والعياشي في تفسيريهما عن على والباقر والصادق عليهم السلام. وفي المجمع قيل: إن الامة المعدودة هم اصحاب المهدى ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا كعدة أهل بدر يجتمعون ساعة واحدة كما يجتمع قزع الخريف قال: وهو المروى عن ابى جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام. وفي تفسير القمى في قوله: (إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات) قال: قال: صبروا في الشدة وعملوا الصالحات في الرخاء. وفي الدر المنثور في قوله: (من كان يريد الحياة الدنيا) اخرج البيهقى في
الشعب عن انس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة صارت أمتى ثلاث فرق: فرقة يعبدون الله خالصا، وفرقة يعبدون الله رياء، وفرقة يعبدون الله يصيبون به دنيا فيقول للذى كان يعبد الله للدنيا: بعزتي وجلالى ما أردت بعبادتي ؟ فيقول: الدنيا فيقول: لا جرم لا ينفعك ما جمعت ولا ترجع إليه انطلقوا به إلى النار، ويقول للذى يعبد الله رياء: بعزتي وجلالى ما أردت بعبادتي ؟ قال: الرياء فيقول: إنما كانت عبادتك التى كنت ترائى بها لا يصعد إلى منها شئ ولا ينفعك اليوم انطلقوا به إلى النار. ويقول للذى كان يعبد الله خالصا: بعزتي وجلالى ما أردت بعبادتي ؟ فيقول: بعزتك وجلالك لانت اعلم به منى كنت اعبدك لوجهك ولدارك قال: صدق عبدى
[ 182 ]
انطلقوا به إلى الجنة. * * * أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الاحزاب فالنار موعده فلا تك في مريه منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون - 17. ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الاشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين - 18. الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالاخرة هم كافرون - 19. أولئك لم يكونوا معجزين في الارض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون - 20. أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون - 21.
لا جرم أنهم في الاخرة هم الاخسرون - 22. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات واخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون - 23. مثل الفريقين كالاعمى والاصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون - 24.
[ 183 ]
(بيان) ظاهر الايات أنها واقعة موقع التطييب لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقوية إيمانه بكتاب الله وتأكيد ما عنده من البصيرة في أمره فالكلام جار على ما كان عليه من خطابه صلى الله عليه وسلم فقد كان وجه الكلام إليه حتى انتهى إلى ما اتهموه به من الافتراء على الله سبحانه فأمره أن يتحدى عليهم بإتيان عشر سور مثله مفتريات ثم أمره أن يطيب نفسا ويثبت على ما عنده من العلم بأنه منزل من عند الله فإنما هو على الحق وليس بمفتر فلا يستوحش من إعراض الاكثرين ولا يرتاب. قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة) الجملة تفريع على ما مضى من الكلام الذى هو في محل الاحتجاج على كون القرآن كتابا منزلا من عند الله سبحانه، و (من) مبتدء خبره محذوف والتقدير: كغيره، أو ما يؤدى معناه، والدليل عليه قوله تلوا: (اولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الاحزاب فالنار موعده). والاستفهام إنكارى والمعنى: ليس من كان كذا وكذا كغيره ممن ليس كذلك وأنت على هذه الصفات فلا تك في مرية من القرآن. وقوله: (على بينة من ربه) البينة صفة مشبهة معناها الظاهرة الواضحة غير أن الامور الظاهرة الواضحة ربما أوضحت ما ينضم إليها ويتعلق بها كالنور الذى هو بين ظاهر ويظهر به غيره، ولذلك كثر استعمال البينة فيما يتبين به غيره كالحجة
والاية، ويقال للشاهد على دعوى المدعى بينة. وقد سمى الله تعالى الحجة بينة كما في قوله: (ليهلك من هلك عن بينة) الانفال: 42 وسمى آيته بينة كما في قوله: (قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية) الاعراف: 73 وسمى البصيرة الخاصة الالهية التى أوتيها الانبياء بينة كما في قوله حكاية عن نوح عليه السلام: (يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى وآتاني رحمة من عنده) هود: 28 أو مطلق البصيرة الالهية كما هو ظاهر قوله تعالى:
[ 184 ]
(أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم) سورة محمد: 14 وقد قال تعالى في معناه: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) الانعام: 122. والظاهر ان المراد بالبينة في المقام هو هذا المعنى الاخير العام بقرينة قوله بعد: (اولئك يؤمنون به) وإن كان المراد به بحسب المورد هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن الكلام مسوق ليتفرع عليه قوله: (فلا تك في مرية منه). فالمراد بها البصيرة الالهية التى اوتيها النبي عليه السلام لا نفس القرآن النازل عليه فإنه لا يحسن ظاهرا ان يتفرع عليه قوله: (فلا تك في مرية منه) وهو ظاهر ولا ينافيه كون القرآن في نفسه بينة من الله من جهة كونه آية منه تعالى كما في قوله: (قل انى على بينة من ربى وكذبتم به) الانعام: 57، فإن المقام غير المقام. وبما مر يظهر ان قول من يقول: إن المراد بمن كان الخ، النبي خاصة إرادة استعمالية ليس في محله وإنما هو مراد بحسب انطباق المورد. وكذا قول من قال: إن المراد به المؤمنون من اصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا دليل على التخصيص. ويظهر ايضا فسادالقول بأن المراد بالبينة هو القرآن، وكذا القول بأنها حجة العقل واضيفت إلى الرب تعالى لانه ينصب الادلة العقلية والنقلية. ووجه
فساده أنه لا دليل على التخصيص ولا تقاس البينة القائمة للنبى عليه السلام من ناحيته تعالى بالتعريف الالهى القائم لنا من ناحية العقول. وقوله تعالى: (ويتلوه شاهد منه) المراد بالشهادة تأدية الشهادة التى تفيد صحة الامر المشهود له دون تحملها فإن المقام مقام تثبيت حقية القرآن وهو إنما يناسب الشهادة بمعنى التأدية لا بمعنى التحمل. والظاهر أن المراد بهذا الشاهد بعض ما أيقن بحقية القرآن وكان على بصيرة إلهية من امره فامن به عن بصيرته وشهد بأنه حق منزل من عند الله تعالى كما يشهد بالتوحيد والرسالة فإن شهادة الموقن البصير على امر تدفع عن الانسان مرية الاستيحاش وريب التفرد فإن الانسان إذا أذعن بأمر وتفرد فيه ربما اوحشه التفرد فيه إذا لم يؤيده احد في القول به اما إذا قال به غيره من الناس وأيد نظره في ذلك زالت
[ 185 ]
عنه الوحشة وقوى قلبه وارتبط جأشه وقد احتج تعالى بما يماثل هذا المعنى في قوله: (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بنى اسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم) الاحقاف: 10. وعلى هذا فقوله: (يتلوه) من التلو لا من التلاوة، والضمير فيه راجع إلى (من) أو إلى (بينة) باعتبار انه نور أو دليل، ومال الوجهين واحد فإن الشاهد الذى يلى صاحب البينة يلى بينته كما يلى نفسه والضمير في قوله: (منه) راجع إلى (من) دون قوله: (ربه) وعدم رجوعه إلى البينة ظاهر ومحصل المعنى: من كان على بصيرة إلهية من امر ولحق به من هو من نفسه فشهد على صحة امره واستقامته. وعلى هذا الوجه ينطبق ما ورد في روايات الفريقين ان المراد بالشاهد على عليه السلام إن اريد به انه المراد بحسب انطباق المورد لا بمعنى الارادة الاستعمالية. وللقوم في معنى الجملة اقوال شتى فقيل: إن (يتلو) من التلاوة كما قيل:
إنه من التلو، وقيل: إن الضمير في (يتلوه) راجع إلى (البينة) كما قيل: إنه راجع إلى (من). وقيل: المراد بالشاهد القرآن: وقيل: جبرائيل يتلو القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولعله مأخوذ من قوله تعالى: (لكن الله يشهد بما أنزل اليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون) النساء: 166، وقيل: الشاهد مل ك يسدد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويحفظه القرآن، ولعله لنوع من الاستناد إلى الاية المذكورة. وقيل: الشاهد هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد قال تعالى: (يا ايها البنى إنا ارسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا) الاحزاب: 45، وقيل: شاهد منه لسانه أي يتلو القرآن بلسانه. وقيل: الشاهد على بن ابى طالب عليه السلام، وقد وردت به عدة روايات من طرق الشيعة واهل السنة. والتأمل في سياق الاية وظاهر جملها يكفى مؤنة إبطال هذه الوجوه غير ما قدمناه من معنى الاية فلا نطيل الكلام بالبحث عنها والمناقشة فيها.
[ 186 ]
وقوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة) الضمير راجع إلى الموصول أو إلى البينة على حد ما ذكرناه في ضمير (يتلوه) والجملة حال بعد حال أي أفمن كان على بصيرة إلهية ينكشف له بها ان القرآن حق منزل من عند الله والحال ان معه شاهدا منه يشهد بذلك عن بصيرة والحال أن هذا الذى هو على بينة سبقه كتاب موسى إماما ورحمة أو قبل بينته التى منها القرآن أو هي القرآن المشتمل على المعارف والشرائع الهادية إلى الحق كتاب موسى إماما فليس هو أو ما عنده من البينة ببدع من الامر غير مسبوق بمثل ونظير بل هناك طريق مسلوك من قبل يهدى إليه كتاب موسى. ومن هنا يظهر وجه توصيف كتاب موسى وهو التوراة بالامام والرحمة فإنه
مشتمل على معارف حقة وشريعة إلهية يؤتم به في ذلك ويتنعم بنعمته، وقد ذكره الله بهذا الوصف في موضع آخر من كلامه فقال: (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بنى إسرائيل على مثله فامن واستكبرتم - إلى أن قال - وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين) الاحقاف: 12. والايات - كما ترى - أقرب الايات مضمونا من الاية المبحوث عنها تذكر اولا: أن القرآن بينة إلهية أو أمر قامت عليه بينة إلهية ثم تذكر شهادة الشاهد من بنى إسرائيل عليه وتأيده بها ثم تذكر أنه سبوق فيما يتضمنه من المعارف والشرائع بكتاب موسى الذى كان إماما ورحمة يأتم به الناس ويهتدون، وطريقا مسلوكا مجربا، والقرآن كتاب مثله مصدق له منزل من عند الله لانذار الظالمين وتبشير المحسنين. ومن هنا يظهر أيضا: أن قوله: (إماما ورحمة) حال من كتاب موسى لا من قوله: (شاهد منه) على ما ذكره بعضهم. قوله تعالى: (أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الاحزاب فالنار موعده) المشار إليهم بقوله: (أولئك) بناء على ما تقدم من معنى صدر الاية هم الذين كانوا
[ 187 ]
على بينة من ربهم المدلول عليهم بقوله: (أفمن كان) الخ، وأما إرجاع الاشارة إلى المؤمنين لدلالة السياق عليهم فبعيد عن الفهم. وكذا الضمير في قوله: (به) راجع إلى القرآن من جهة أنه بينة منه تعالى أو امر قامت عليه البينة، وأما إرجاعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يلائم ما قررناه من معنى الاية فإن في صدر الاية بيان حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنحو العموم حتى يتفرع عليه
قوله: (فلا تك في مرية منه) كأنه قيل: إنك على بينة كذا ومعك شاهد وقبلك كتاب موسى، ومن كان على هذه الصفة يؤمن بما اوتى من كتاب الله، ولا يصح أن يقال: ومن كان على هذه الصفة يؤمن بك، والكلام في الضمير في (ومن يكفر به) كالكلام في ضمير (يؤمنون به). وأمر الاية فيما يحتمله مفردات ألفاظها وضمائرها عجيب فضرب بعضها في بعض يرقى إلى الوف من المحتملات بعضها صحيح وبعضها خلافه. قوله تعالى: (فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن اكثر الناس لا يؤمنون) المرية كجلسة النوع من الشك، والجملة تفريع على صدر الاية، والمعنى أن من كان على بينة من ربه في امر وقد شهد عليه شاهد منه وقبله إمام ورحمة ككتاب موسى ليس كغيره من لناس الغافلين المغفلين فهو يؤمن بما عنده من امر الله ولا يوحشه إعراض اكثر الناس عما عنده، وأنت كذلك فإنك على بينة من ربك ويتلوك شاهد ومن قبلك كتاب موسى إماما ورحمة وإذا كان كذلك فلا تك في مرية من امر ما أنزل اليك من القرآن إنه محض الحق من جانب الله ولكن اكثر الناس لا يؤمنون. وقوله: (إنه الحق من ربك) تعليل للنهى وقد اكد بأن ولام الجنس للدلالة على توافر الاسباب النافية للمرية وهى قيام البينة وشهادة الشاهد وتقدم كتاب موسى إماما ورحمة. قوله تعالى: (ومن اظلم ممن افترى على الله كذبا) إلى آخر الاية، من الممكن أن يكون ذيلا للسياق السابق من حيث كان تطييبا لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيؤل المعنى إلى أنك إذ كنت على بينة من ربك لست بظالم فحاشاك أن تكون مفتريا على الله
[ 188 ]
الكذب لان المفترى على الله كذبا من أظلم الظالمين، ولهم من وبال كذبهم كذا وكذا.
وكيف كان فالمراد بافتراء الكذب على الله سبحانه توصيفه تعالى بما ليس فيه أو نسبة شئ إليه بغير الحق أو بغير علم، والافتراء من أظهر أفراد الظلم والاثم، ويعظم الظلم بعظم متعلقه حتى إذا انتهى إلى ساحة العظمة والكبرياء كان من أعظم الظلم. والكلام واقع موقع قلب الدعوى عليهم إذ كانوا يقولون للنبى صلى الله عليه وآله وسلم: إنه افترى على الله كذبا بنسبة القرآن إليه فقلب القول عليهم أنهم هم الذين افتروا على الله كذبا إذا أثبتوا له شركاء بغير علم وهو الله لا إله إلا هو، وإذ صدوا عن سبيل الله ومعناه نفى كونه سبيلا لله وهو افتراء، وإذ طلبوا سبيلا أخرى فاستنوا بها في حياتهم وكان ذلك تغييرا لسبيل الله التى تهدى إليها الفطرة والنبوة، وإذ كفروا بالاخرة فنفوها وذلك إثبات مبدء من غير معاد ونسبة اللغو وفعل الباطل إليه تعالى وهو افتراء عليه. وبالجملة انتحالهم بغير دين الله ونحلته، وأخذهم بالعقائد الباطلة في المبدء والمعاد واستنانهم بغير سنة الله في حياتهم الدنيوية الاجتماعية - والذى من الله إنما هو الحق ولا سنة عند الله إلا دين الحق - افتراء على الله، وسيشهد عليهم الاشهاد بذلك يوم يعرضون على ربهم. وقوله تعالى: (اولئك يعرضون على ربهم) العرض إظهار الشئ ليرى ويوقف عليه، ولما كان ارتفاع الحجب بينهم وبين ربهم يوم القيامة بظهور آياته ووضوح الحق الصريح من غير شاغل يشغل عنه حضورا اضطراريا منهم لفصل القضاء سماه عرضا لهم على ربهم كما سمى بوجه آخر بروزا منهم لله فقال: (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ) المؤمن: 16، وقال: (وبرزوا لله الواحد القهار) إبراهيم: 48 فقال: (اولئك يعرضون على ربهم) أي يأتي بهم الملائكة الموكلون بهم فيوقفونهم موقفا ليس بينهم وبين ربهم حاجب حائل لفصل القضاء. وقوله: (ويقول الاشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم) الاشهاد جمع شهيد
كأشراف جمع شريف وقيل: جمع شاهد كأصحاب جمع صاحب، ويؤيد الاول قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد) النساء: 41 وقوله: (وجاءت
[ 189 ]
كل نفس معها سائق وشهيد) ق: 21. وقول الاشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم شهادة منهم عليهم بالافتراء على الله أي سجل عليهم بأنهم المفترون من جهة شهادة الاشهاد عليهم بذلك في موقف لا يذكر فيه إلا الحق ولا مناص فيه عن الاعتراف والقبول كما قال تعالى: (لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا) النبأ: 38 وقال تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو ان بينها وبينه أمدا بعيدا) آل عمران: 30. قوله تعالى: (ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله) الخ، تتمة قول الاشهاد، والدليل عليه قوله تعالى: (فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالاخرة كافرون) الاعراف: 45. وهذا القول منهم المحكى في كلامه تعالى تثبيت منهم للبعد واللعن على الظالمين وتسجيل للعذاب، وليس اللعن والرحمة يوم القيامة كاللعن والرحمة في الدنيا كما في قوله تعالى: (اولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) البقرة: 159 وذلك أن الدنيا دار عمل ويوم القيامة يوم جزاء فما فيه من لعنة أو رحمة هو إيصال ما ادخر لهم إليهم فلعن اللاعن احدا يوم القيامة طردة من رحمة الله الخاصة بالمؤمنين وتسجيل عذاب البعد عليه. ثم فسر سبحانه الظالمين بقوله حكاية عنهم: (الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالاخرة هم كافرون) فهم الذين لا يذعنون بيوم الحساب حتى يعملوا له وإنما يعملون للدنيا ويسلكون من طريق الحياة ما يتمتعون به للدنيا
المادية فحسب، وهو السنة الاجتماعية غير المعتنية بما يريده الله من عباده من دين الحق وملة الفطرة فهؤلاء سواء اعتقدوا بصانع وعملوا بسنة محرفة منحرفة عن دين الفطرة وهو الاسلام ام لم يعتقدوا به ممن يقول: ان هي الا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا الا الدهر، ظالمون مفترون على الله الكذب، وقد تقدم بعض الكلام المتعلق بهذه المعاني في سورة الاعراف آية 44 - 45. وقد بان مما تقدم من البحث في الايتين اولا: ان الدين في عرف القرآن هو
[ 190 ]
السنة الاجتماعية الدائرة في المجتمع. وثانيا: ان السنن الاجتماعية إما دين حق فطرى وهو الاسلام أو دين محرف عن الدين الحق وسبيل الله عوجا. قوله تعالى: (أولئك لم يكونوا معجزين في الارض وما كان لهم من دون الله من اولياء) إلى آخر الاية. الاشارة إلى المفترين على الله الموصوفين بما مر في الايتين السابقتين. والمقام يدل على ان المراد من كونهم غير معجزين في الارض انهم لم يكونوا معجزين لله سبحانه في حياتهم الارضية حيث خرجوا عن زى العبودية فأخذوا يفترون على الله الكذب ويصدون عن سبيله ويبغونها عوجا فكل ذلك لا لان قدرتهم المستعارة فاقت قدرة الله سبحانه ومشيتهم سبقت مشيته، ولا لانهم خرجوا من ولاية الله فدخلوا في ولاية غيره وهم الذين اتخذوهم اولياء من اصنامهم وكذا سائر الاسباب التى ركنوا إليها، وذلك قوله: (وما كان لهم من دون الله من اولياء). وبالجملة لا قدرتهم غلبت قدرة الله سبحانه ولا شركاؤهم الذين يسمونهم اولياء لانفسهم اولياء لهم بالحقيقة يدبرون امرهم ويحملونهم على ما يأتون به من البغى
والظلم بل الله سبحانه هو وليهم وهو المدبر لامرهم يجازيهم على سوء نياتهم واعمالهم بما يجرهم إلى سوء العذاب ويستدرجهم من حيث لا يشعرون كما قال تعالى: (فلما زاغوا ازاغ الله قلوبهم) الصف: 5، وقال: يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين) البقرة: 26. وقوله: (يضاعف لهم العذاب) ذلك لانهم فسقوا ثم لجوا عليه أو لانهم عصوا الله بأنفسهم وحملوا غيرهم على معصية الله فيضاعف لهم العذاب كما ضاعفوا المعصية قال تعالى: (ليحملوا اوزارهم كاملة يوم القيامة ومن اوزار الذين يضلونهم بغير علم) النحل: 25 وقال: (ونكتب ما قدموا وآثارهم) يس 12. وقوله: (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) في مقام التعليل ولذا جئ بالفصل يقول تعالى إنهم لم يكفروا ولم يعصوا لظهور إرادتهم على إرادة
[ 191 ]
الله ولا لان لهم اولياء من دون الله يستظهرون بهم على الله بل لانهم ما كانوا يستطيعون ان يسمعوا ما يأتيهم من الانذار والتبشير من ناحيته أو يذكر لهم من البعث والزجر من قبله وما كانوا يبصرون آياته حتى يؤمنوا بها كما وصفهم في قوله: (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم اعين لا آذان لا يسمعون بها أولئك كالانعام بل هم اضل) الاعراف: 179، وفى قوله: (ونقلب افئدتهم وابصارهم كما لم يؤمنوا به اول مرة) الانعام: 110، وقوله: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى ابصاهم غشاوة) البقرة: 7، وآيات اخرى كثيرة تدل على انه تعالى سلبهم عقولهم واعينهم وآذانهم غير انه تعالى يحكى عنهم مثل قولهم: (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في اصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم)، الملك: 11، واعترفوا بأن عدم سمعهم وعقلهم كان ذنبا منهم مع ان ذلك مستند إلى سلبه تعالى منهم ذلك يدل على انهم انفسهم توسلوا إلى سلب هذه النعم بالذنوب
كما يدل عليه ما تقدم من قوله تعالى: (وما يضل به إلا الفاسقين) البقرة: 26 غيره. وذكروا في معنى قوله: (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) وجوها اخرى: منها: أن قوله: ما كانوا (الخ)، في محل النصب بنزع الخافض وهو متعلق بقوله: يضاعف (الخ)، والاصل: بما كانوا يستطيعون السمع وبما كانواا يبصرون، والمعنى يضاعف لهم العذاب بما كاانوا يستطيعون السمع فلا يسمعون وبما كانوا يستطيعون الابصار فلا يبصرون. ومنها: أنه عنى بقوله: (ما كانوا يستطيعون) الخ، نفى السمع والبصر عن آلهتهم وأوثانهم، وتقدير الكلام أولئك الكفار وآلهتهم لم يكونوا معجزين في الارض، وقال مخبرا عن الالهة: ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون. ومنها: أن لفظة ما في (ما كانوا) ليست للنفي بل تجرى مجرى قولهم: لاواصلنك ما لاح نجم، والمعنى انهم معذبون ما داموا احياء. ومنها: ان نفى السمع والبصر بمعنى نفى الفائدة فإنهم لاستثقالهم استماع آيات الله والنظر فيها وكراهيتهم لذلك أجروا مجرى من لا يستطيع السمع ولا يبصر
[ 192 ]
فالكلام على الكناية. وأعدل الوجوه آخرها وهى جميعا سخيفة ظاهرة السخافة. والوجه ما قدمناه. قوله تعالى: (اولئك الذين خسروا انفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون) اما خسرانهم فإن الانسان لا يملك بالحقيقة - وذلك بتمليك من الله تعالى - إلا نفسه وإذا اشترى لنفسه ما فيه هلاكها وضيعتها بالكفر والمعصية فقد خسر في هذه المعاملة التى اقدم عليها نفسه فخسران النفس كناية عن الهلاك، وأما ضلال ما كانوا يفترون فإنه كان كذبا وافتراء ليس له وجود في الخارج من اوهامهم ومزاعمهم التى
زينتها لهم الاهواء والهوسات الدنيوية وبانطواء بساط الحياة الدنيا يزول وينمحى تلك الاوهام ويضل ما لاح واستقر فيها من الكذب والافتراء ويومئذ يعلمون ان الله هو الحق المبين، ويبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون. قوله تعالى: (لا جرم أنهم في الاخرة هم الاخسرون) عن الفراء: أن (لا جرم) في الاصل بمعنى لا بد ولا محالة ثم كثرت فحولت إلى معنى القسم وصارت بمعنى (حقا) ولهذا تجاب باللام نحو لا جرم لافعلن كذا. انتهى، وقد ذكروا أن (جرم) بفتحتين بمعنى القطع فلعلها كانت في الاصل تستعمل في نتائج الكلام كلفظة (لا محالة) وتفيد أنه لا يقطع هذا القول قاطع إن كذا كذا كما يتصور نظير المعنى في (لا محالة) فمعنى الاية على هذا: حقا إنهم في الاخرة هم الاخسرون. ووجه كونهم في الاخرة هم الاخسرين إن فرض أنهم أخسر بالنسبة إلى غيرهم من أهل المعاصي هو أنهم خسروا أنفسهم بإهلاكها وإضاعتها بالكفر والعناد فلا مطمع في نجاتهم من النار في الاخرة كما لا مطمع في أن يفوزوا في الدنيا ويسعدوا بالايمان ما داموا على العناد، قال تعالى: (الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) الانعام: 12. وقال تعالى في هؤلاء المختوم على سمعهم وأبصارهم وقلوبهم: (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) يس: 10. وقال أيضا في سبب عدم إمكان إيمانهم: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله) الجاثية: 23.
[ 193 ]
وان فرض أنهم أخسر بالنسبة إلى الدنيا فذلك لكونهم بكفرهم وصدهم عن سبيل الله حرموا سعادة الحياة التى يمهدها لهم الدين الحق فخسروا في الدنيا كما خسروا في الاخرة لكنهم في الاخرة أخسر لكونها دائمة مخلدة وأما الدنيا فليست
إلا قليلا، قال تعالى: (كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار) الاحقاف: 35. على أن الاعمال تشتد وتتضاعف في الاخرة بنتائجها كما قال تعالى: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الاخرة أعمى وأضل سبيلا) أسرى: 72، وأحسن الوجهين أولهما لان ظاهر الاية حصر الاخسرين فيهم دون إثبات أخسريتهم في الاخرة قبال الدنيا. قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم) إلى آخر الاية، قال الراغب في المفردات: الخبت المطمئن من الارض وأخبت الرجل قصد الخبت أو نزله نحو أسهل وأنجد ثم استعمل الاخبات في استعمال اللين والتواضع قال الله تعالى: وأخبتوا إلى ربهم، وقال: وبشر المخبتين أي المتواضعين نحو لا يستكبرون عن عبادته، وقوله: فتخبت له قلوبهم أي تلين وتخشع. انتهى. فالمراد بإخباتهم إلى الله اطمئنانهم إليه بحيث لا يتزلزل ما في قلوبهم من الايمان به فلا يزيغون ولا يرتابون كالارض المطمئنة التى تحفظ ما استقر فيها فلا وجه لما قيل ان الاصل، أخبتوا لربهم فإن ما في معنى الاطمئنان يتعدى بإلى دون اللام. وتقييده تعالى الايمان والعمل الصالح بالاخبات إليه يدل على أن المراد بهم طائفة خاصة من المؤمنين وهم المطمئنون منهم إلى الله ممن هم على بصيرة من ربهم، وهو الذى أشرنا إليه في صدرالايات عند قوله: (أفمن كان على بينة من ربه) الخ أن الايات تقيس ما بين فريقين خاصين من الناس وهم أهل البصيرة الالهية ومن عميت عين بصيرته. ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين أن هذه الايات السبع يعنى
[ 194 ]
قوله: (أفمن كان على بينة من ربه - إلى قوله - أفلا تذكرون) بيان لحال الفريقين
وهم الذين يكفرون بالقرآن والذين يؤمنون به. قوله تعالى: (مثل الفريقين كالاعمى والاصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون المثل هو الوصف، وغلب في المثل السائر وهو بيان معنى من المعاني الخفية على المستمع بأمر محسوس أو كالمحسوس يأنس به ذهنه ويتلقاه فهمه لينتقل به إلى المعنى المعقول المقصود بيانه، والمراد بالفريقين من بين حالهما في الايات السابقة، والباقى واضح. (بحث روائي) في الكافي بإسناده عن أحمد بن عمر الخلال قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن قول الله عزوجل: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) فقال: أمير المؤمنين عليه السلام هو الشاهد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورسول الله على بينة من ربه. وفي أمالى الشيخ بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده على بن الحسين عن الحسن عليهم السلام في خطبة طويلة خطبها بمحضر معاوية - منها - فأدت الامور وأفضت الدهور إلى أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم للنبوة واختاره للرسالة، وأنزل عليه كتابه ثم أمره بالدعاء إلى الله عزوجل فكان أبى أول من استجاب لله عزوجل ولرسله وأول من آمن وصدق الله ورسوله، وقد قال الله عزوجل في كتابه المنزل على نبيه المرسل: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذى على بينة من ربه، وأبى الذى يتلوه وهو شاهد منه. الخطبة. أقول: وكلامه عليه السلام أحسن شاهد على ما قدمناه في معنى الاية أن إرادته عليه السلام بالشاهد من باب الانطباق. وفي بصائر الدرجات بإسناده عن الاصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: لو كسرت لى الوسادة فقعدت عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم وأهل
[ 195 ]
الانجيل بإنجيلهم وأهل الفرقان بفرقانهم بقضاء يصعد إلى الله يزهر، والله ما نزلت آية في كتاب الله في ليل أو نهار إلا وقد علمت فيمن أنزلت، ولا احد ممن مر على رأسه المواسى إلا وقد أنزلت آية فيه من كتاب الله تسوقه إلى الجنة أو النار. فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين ما الاية التى نزلت فيك ؟ قال: أما سمعت الله يقول: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بينة من ربه وأنا الشاهد له ومنه. أقول: وروى هذا المعنى المفيد في الامالى مسندا وفي كشف الغمة مرسلا عن عباد بن عبد الله الاسدي عنه عليه السلام، والعياشي في تفسيره مرسلا عن جابر عن عبد الله بن يحيى عنه عليه السلام وكذا ابن شهراشوب عن الطبري بإسناده عن جابر بن عبد الله عنه عليه السلام وكذا عن الاصبغ وعن زين العابدين والباقر والصادق عليهم السلام عنه عليه السلام. وفي الدر المنثور أخرج ابن ابى حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن على بن أبى طالب رضى الله عنه قال: ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفه من القرآن فقال له رجل: ما نزل فيك ؟ قال: أما تقرأ سورة هود (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بينة من ربه، وأنا شاهد منه. أقول: وفي تفسير البرهان عن تفسير الثعلبي بإسناده عن الشعبى يرفعه إلى على عليه السلام مثله وفيه عن ابن المغازلى يرفعه إلى عباد بن عبد الله عن على عليه السلام مثله وكذا عن كنوز الرموز للرسعنى مثله. وفيه أخرج ابن مردويه من وجه آخر عن على رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أفمن كان على بينة من ربه) أنا (ويتلوه شاهد منه) قال: على. أقول: وفي تفسير البرهان عن ابن المغازلى في تفسير الاية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله.
وفي تفسير البرهان عن ابن المغازلى بإسناده عن على بن حابس قال: دخلت أنا وأبو مريم: على عبد الله بن عطاء قال أبو مريم حدث علينا الحديث الذى حدثتني به عن ابى جعفر قال: كنت عند ابى جعفر جالسا إذ مر علينا ابن عبد الله بن سلام
[ 196 ]
قلت: جعلت فداك هذا ابن الذى عنده علم الكتاب، قال: لا ولكنه صاحبكم على بن ابى طالب الذى نزلت فيه آيات من كتاب الله تعالى: (من عنده علم الكتاب) (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا). وفيه عن ابن شهراشوب عن الحافظ ابى نعيم بثلاثة طرق عن ابن عباس قال: قال: سمعت عليا يقول: قول الله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بينة وأنا الشاهد. وفيه أيضا عن موفق بن احمد قال: قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) قال ابن عباس: هو على يشهد للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وهو منه. أقول: ورواه عن الثعلبي في تفسيره يرفعه إلى ابن عباس (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) على خاصة. أقول: قال صاحب المنارفى تفسير الاية عند ذكر معاني الشاهد: ومنها: أنه على رضى الله عنه ترويه الشيعة ويفسرونه بالامامة، وروى: أنه كرم الله وجهه سئل عنه فأنكره وفسره بأنه لسانه صلى الله عليه وآله وسلم، وقابلهم خصومهم بمثلها فقالوا: إنه أبو بكر، وهما من التفسير بالهوى. انتهى أما قوله: (إن الشيعة ترويه) فقد عرفت أن رواته من أهل السنة اكثر من الشيعة، وأما قوله: (إنه مثل تفسيره بأبى بكر من التفسير بالهوى) فيكفيك في ذلك ما تقدم في معنى الاية فراجع. وفي الكافي بإسناده عن زيد الشحام عن ابى عبد الله عليه السلام قال: قلت له: إن عندنا رجلا يقال له: كليب فلا يجئ عنكم شئ إلا قال: أنا أسلم فسميناه كليب
تسليم قال: فترحم عليه ثم قال: أتدرون ما التسليم ؟ فسكتنا فقال: هو والله الاخبات قول الله عزوجل: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم). أقول: وروى مثله العياشي في تفسيره والكشى وكذا صاحب البصائر عن ابى أسامة زيد الشحام عنه عليه السلام.
[ 197 ]
* * * ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إنى لكم نذير مبين - 25. أن لا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم عذاب يوم أليم - 26. فقال الملاء الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين - 27. قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون - 28. ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون - 29. ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون - 30. ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إنى ملك ولا أقول للذين تزدرى أعينكم لن يؤتيهم. الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إنى إذا لمن الظالمين - 31. قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين - 32. قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين - 33. ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم
[ 198 ]
إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم إليه ترجعون - 34. أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى إجرامي وأنا برئ مما تجرمون - 35. (بيان) شروع في قصص الانبياء عليه السلام وقد بدأ بنوح وعقبه بجماعة ممن بعده كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام. وقد قسم قصة نوح إلى فصول اولها احتجاجه عليه السلام على قومه في التوحيد فهو عليه السلام اول الانبياء الناهضين للتوحيد على الوثنية على ما ذكره الله تعالى في كتابه، وأكثر ما قص من إحتجاجه عليه السلام مع قومه من المجادلة بالتى هي أحسن وبعضه من الموعظة وقليل منه من الحكمة وهو الذى يناسب تفكر البشر الاولى والانسان القديم الساذج، وخاصة تفكرهم الاجتماعي الذى لا ظهور فيه إلا للمركوم من أفكار الافراد المتوسطين في الفهم. قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إنى لكم نذير مبين) القراءة المعروفة (إنى) بكسر الهمزة على تقدير القول وقرئ أنى بفتح الهمزة بنزع الخافض والتقدير بأنى لكم نذير مبين، والجملة أعنى قوله: (إنى لكم نذير مبين) على أي حال بيان اجمالي لما أرسل به فإن جميع ما بلغه قومه عن ربه وأرسل به إليهم إنذار مبين فهو نذير مبين. فكما أنه لو قال: ما سالقيه اليكم من القول إنذار مبين كان بيانا لجميع ما أرسل به إليهم بأوجز كلمة كذا قوله: إنى لكم نذير مبين بيان لذلك بالاجمال غير أنه يزيد على سابقه ببيان سمة نفسه وهى أنه رسول من الله إليهم لينذرهم بعذاب الله، وليس له من الامر شئ أزيد من أنه واسطة يحمل الرسالة. قوله تعالى: (ألا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم عذاب يوم أليم). بيان ثان لما ارسل به أو بيان لقوله: (إنى لكم نذير مبين) ومال الوجهين واحد، وأن
[ 199 ]
على أي حال مفسرة، والمعنى أن محصل رسالته النهى عن عبادة غير الله تعالى من طريق الانذار والتخويف. وذكر بعض المفسرين أن الجملة أعنى قوله: (أن لا تعبدوا) الخ، بدل من قوله: (إنى لكم نذير مبين) أو مفعول لقوله مبين. ولعل السياق يؤيد ما قدمناه. والظاهر أن المراد بعذاب يوم أليم عذاب الاستئصال دون عذاب يوم القيامة أو الاعم من العذابين يدل على ذلك قولهم له فيما سيحكيه الله تعالى عنهم: (يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما يأتيكم به الله إن شاء) الاية فإنه ظاهر في عذاب الاستئصال. فهو عليه السلام كان يدعوهم إلى رفض عبادة الاوثان ويخوفهم من يوم ينزل عليهم من الله عذاب أليم أي مؤلم ونسبة الايلام إلى اليوم دون العذاب في قوله: (عذاب يوم أليم) من قبيل وصف الظرف بصفة المظروف. وبما تقدم يندفع ما ربما قيل: إن تعذيب المشركين مقطوع لا محتمل فما الوجه في خوفه عليه السلام من تعذيبهم المقطوع ؟ والخوف إنما يستقيم في محتمل الوقوع لا مقطوعه. وبالجملة كان عليه السلام يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه بتخويفهم من العذاب، وإنما كان يخوفهم لانهم كانوا يعبدون الاوثان خوفا من سخطهم فقابلهم نوح عليه السلام بأن الله سبحانه هو الذى خلقهم ودبر شؤون حياتهم وأمور معاشهم بخلق السماوات والارض وإشراق الشمس والقمر وإنزال الامطار وإنبات الارض وإنشاء الجنات وشق الانهار على ما يحكيه تعالى عنه عليه السلام في سورة نوح. وإذ كان كذلك كان الله سبحانه هو ربهم لا رب سواه فليخافوا عذابه وليعبدوه وحده.
وهذه الحجة في الحقيقة حجة برهانية مبنية على اليقين لكنهم إنما كانوا يتلقونها حجة جدلية مبنية على الظن لانهم لسذاجة أفهامهم كانوا يتوقعون سخط الرب وعذابه على المخالفة لانهم يرونه وليا لامرهم مصلحا لشأنهم فيقيسون امره بأمر الاولياء من
[ 200 ]
الانسان الحاكمين في من دونهم من افراد المجتمع الذين يجب الخضوع لمقامهم والتسليم لارادتهم ولو استكبر عن الخضوع لهم والتسليم لارادتهم من دونهم سخطوا عليهم وعاقبوهم بما أجرموا وتمردوا. وعلى هذا القياس يجب إرضاء الرب أو الارباب الذين يرجع إليهم امر الكون وولاية النظام الجارى فيه فيجب إرضاؤه وإخماد نار غضبه بالخضوع له والتقرب إليه بتقديم القرابين والتضحية وسائر انحاء العبادة فهكذا كانوا يعتقدون وهو مبنى على الظن. لكن مسألة نزول العذاب على الاستنكاف عن عبادة الله تعالى والاستكبار عن التسليم والخضوع لساحة الربوبية مسألة حقيقية يقينية فإن من النواميس الكلية الجارية في الكون لزوم خضوع الضعيف للقوى والمتأثر المقهور للمؤثر القاهر فما قولك في الله الواحد القهار الذى إليه مصير الامور. وقد أبدع الله سبحانه أجزاء الكون وربط بعضها ببعض ثم أجرى الحوادث على نظام الاسباب وعلى ذلك يجرى كل شئ في نظام وجوده فلو انحرف عما يخطه له سائر الاسباب من الخط أدى ذلك إلى اختلال نظامها وكان ذلك منازعة منه لها وعند ذلك ينتهض سائر الاسباب الكونية من أجزاء الوجود لتعديل أمره وإرجاعه إلى خط يلائمها تدفع بذلك الشر عن نفسها فإن استقام هذا الجزء المنحرف عن خطه المخطوط له فهو وإلا حطمتها حاطمات الاسباب ونازلات النوائب والبلايا، وهذا ايضا من النواميس الكلية.
والانسان الذى هو احد اجزاء الكون له في حياته خط خطه له الصنع والايجاد فإن سلكه هداه إلى سعادته ووافق بذلك سائر اجزاء الكون وفتحت له ابواب السماء ببركاتها وسمحت له الارض بكنوز خيراتها، وهذا هو الاسلام الذى هو الدين عند الله تعالى المدعو إليه بدعوة نوح ومن بعده من الانبياء والرسل عليهم السلام. وإن تخطاه وانحرف عنه فقد نازع اسباب الكون وأجزاء الوجود في نظامها الجارى وزاحمها في شؤون حياتها فليتوقع مر البلاء ولينتظر العذاب والعناء فإن استقام في امره وخضع لارادة الله سبحانه وهى ما تحطمه من الاسباب العامة فمن
[ 201 ]
المرجو أن تتجدد له النعمة بعد النقمة وإلا فهو الهلاك والفناء وإن الله لغنى عن العالمين، وقد تقدم هذا البحث في بعض اجزاء الكتاب السابقة. قوله تعالى: (فقال الملاء الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا) إلى آخر الاية، الفاء في صدر الاية لتفريع جوابهم عن قول نوح عليه السلام، وفيه إشارة إلى انهم بادروه بالرد والانكار من دون ان يفكروا في انفسهم فيختاروا ما هو أصلح لهم. والمجيبون هم الملا من قومه والاشراف والكبراء الذين كفروا به ولم يتعرضوا في جوابهم لما ألقى إليهم من حجة التوحيد بل إنما اشتغلوا بنفى رسالته والاستكبار عن طاعته فإن قوله: (إنى لكم نذير مبين) إلى آخر الايتين، كان مشتملا على دعوى الرسالة وملوحا إلى وجوب الاتباع وقد صرح به فيما حكى عنه في موضع آخر، قال تعالى: (قال يا قوم إنى لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون) نوح: 3. ومحصل ما نقله الله تعالى من جوابهم هو أنه لا دليل على لزوم اتباعك بل الدليل على خلافه فهو في الحقيقة حجتان منظومتان على طريق الاضراب والترقى
ولذلك أخر قولهم: (بل نظنكم كاذبين). والحجة الاولى التى مدلوها عدم الدليل على وجوب اتباعه مبينة بطرق ثلاث هي قوله: (ما نراك إلا بشرا) الخ، وقوله: (وما نراك اتبعك) الخ، وقوله: (وما نرى لكم علينا). الخ. والحجة بجميع أجزائها مبنية على إنكار ما وراء الحس كما سنبين ولذلك كرروا فيه قولهم: ما نراك وما نرى. فقوله: (ما نراك إلا بشرا مثلنا) أول جوابهم عما يدعيه نوح عليه السلام من الرسالة، وقد تمسكوا فيه بالمماثلة كما هو دأب سائر الامم مع أبنيائهم على ما حكاه الله تعالى في كتابه وتقريره: أنك مثلنا في البشرية ولو كنت رسولا الينا من عند الله لم تكن كذلك ولا نشاهد منك إلا أنك بشر مثلنا، وإذ كنت بشرا مثلنا لم يكن هناك موجب لاتباعك.
[ 202 ]
ففى الكلام تكذيب لرسالته عليه السلام بإنه ليس إلا بشرا مثلهم ثم استنتاج من ذلك أنه لا دليل على لزوم اتباعه، والدليل على ما ذكرنا قول نوح عليه السلام فيما سيحكيه الله تعالى من كلامه: (يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى) الخ. وقد اشتبه الامر على بعض المفسرين فقرر قولهم: (ما نراك إلا بشرا مثلنا) بأنهم ساووه بأنفسهم في الزنة الاجتماعية واستنتجوا منها أنه لا وجه لاتباعهم له، قال في تفسير الاية: أجابوه بأربع حجج داحضة. إحداها: أنه بشر مثلهم فساووه بأنفسهم في الجملة، وهذا يدل على أنه عليه السلام كان من طبقتهم أو ما يقرب منها في بيته وفي شخصه وهكذا كان كل رسول من وسط قومه، ووجه الجواب أن المساواة تنافى دعوى تفوق أحد المتساويين على الاخر بجعل أحدهما تابعا طائعا والاخر متبوعا مطاعا لانه ترجيح بغير مرجح. انتهى.
ولو كان المعنى ما ذكره لكان من حق الكلام أن يقال: أنت مثلنا أو نراك مثلنا دون أن يقال: ما نراك إلا بشرا مثلنا فيذكر انه بشر ولا حاجة إلى الاشارة إلى بشريته، ولكان معنى الكلام عائدا إلى المراد من قولهم بعد: وما نرى لكم علينا من فضل، وكان فضلا من الكلام. ومن العجب استفادته من الكلام مساواته عليه السلام لهم في البيت والشخصية ثم قوله: (وهكذا كان كل رسول من وسط قومه) وفي الرسل مثل إبراهيم وسليمان وأيوب عليهم السلام. وقوله: (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى) قال في المفردات: الرذل - بفتح الرا - والرذال - بكسرها - المرغوب عنه لرداءته قال تعالى: (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) وقال: (إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى) وقال: (قالوا انؤمن لك واتبعك الارذلون) جمع الارذل. وقال في المجمع: الرذل الخسيس الحقير من كل شئ والجمع ارذل ثم يجمع على اراذل كقولك: كلب واكلب واكالب، ويجوز ان يكون جمع الارذل فيكون مثل اكابر جمع اكبر. وقال: والرأى الرؤية من قوله: (يرونهم مثليهم رأى العين) أي رؤية العين
[ 203 ]
والرأى ايضا ما يراه الانسان في الامر وجمعه آراء. انتهى. وقال في المفردات: وقوله: (بادئ الرأى) أي ما يبدء من الرأى وهو الرأى الفطير، وقرئ: بادى بغير همزة أي الذى يظهر من الرأى ولم يترو فيه. انتهى. وقوله: (بادئ الرأى) يحتمل أن يكون قيدا لقوله: (هم أراذلنا) أي كونهم أراذل وسفلة فينا معلوم في ظاهر الرأى والنظر أو في اول نظرة. ويحتمل كونه قيدا لقوله: (اتبعك) أي اتبعوك في ظاهر الرأى أو في
اوله من غير تعمق وتفكر ولو تفكروا قليلا وقلبوا أمرك ظهرا لبطن ما اتبعوك، وهذا الاحتمال لا يستغنى عن تكرار الفعل ثانيا والتقدير: اتبعوك بادى الامر وإلا اختل المعنى لو لم يتكرر وقيل: ما نراك اتبعك في بادى الرأى إلا الذين هم أراذلنا. وبالجملة معنى الاية: أنا نشاهد أن متبعيك هم الاراذل والاخساء من القوم ولو اتبعناك ساويناهم ودخلنا في زمرتهم وهذا ينافى شرافتنا ويحط قدرنا في المجتمع، وفي الكلام إيماء إلى بطلان رسالته عليه السلام بدلالة الالتزام فإن من معتقدات العامة أن القول لو كان حقا نافعا لتبعه الشرفاء والعظماء وأولوا القوة والطول فلو استنكفوا عنه أو اتبعه الاخساء والضعفاء كالعبيد والمساكين والفقراء ممن لا حظ له من مال أو جاه ولا مكانة له عند العامة فلا خير فيه. وقوله: (وما نرى لكم علينا من فضل) المراد نفى مطلق الفضل من متاع دنيوى يختصون بالتنعم به أو شئ من الامور الغيبية كعلم الغيب أو التأيد بقوة ملكوتية وذلك لكون النكرة - فضل - واقعة في سياق النفى فتفيد العموم. وقد أشركوا أتباع نوح عليه السلام والمؤمنين به منهم في دعوته إذ قالوا: (ولا نرى لكم علينا) ولم يقولوا: (ولا نرى لك) لانهم كانوا يحثونهم ويرغبونهم في اتباع ما اتبعوه من الطريقة. والمعنى أن دعوتكم إيانا - وعندنا ما نتمتع به من مزايا الحياة الدنيا كالمال والبنين والعلم والقوة - إنما يستقيم ويؤثر أثره لو كان لكم شئ من الفضل تفضلون به علينا من زينة الحياة الدنيا أو علم من الغيب أو قوة من الملكوت حتى يوجب
[ 204 ]
ذلك خضوعا منا لكم ولا نرى شيئا من ذلك عندكم فأى موجب يوجب علينا اتباعكم ؟ وإنما عممنا الفضل في كلامه للفضل من حيث الجهات المادية وغيره كعلم الغيب والقوة الملكوتية خلافا لاكثر المفسرين حيث فسروا الفضل بالفضل المادى كالمال
والكثرة وغيرهما، لما يستفاد من كلامهم من العموم لوقوع النكرة في سياق النفى. مضافا إلى أن ما يحاذي قولهم هذا من جواب نوح عليه السلام يدل على ذلك وهو قوله: (ولا اقول لكم عندي خزائن الله ولا اعلم الغيب ولا اقول إنى ملك) الخ على ما سيأتي. وقوله تعالى: (بل نظنكم كاذبين) إضراب في الاحتجاج كما تقدمت الاشارة إليه فمحصله انا لا نرى معكم امرا يوجب اتباعنا لكم بل هناك امر يوجب عدم الاتباع وهو انا نظنكم كاذبين. ومعناه على ما يعطيه السياق - والله اعلم - انه لما لم يكن عندكم ما يشاهد معه صحة دعوتكم وإنكم تلحون علينا بالسمع والطاعة وانتم صفر الايدى من مزايا الحياة من مال وجاه وهذه الحال تستدعى الظن بأنكم كاذبون في دعواكم تريدون بها نيل ما بأيدينا من اماني الحياة بهذه الوسيلة وبالجملة هذه امارة توجب عادة الظن بأنها اكذوبة يتوسل بها إلى اقتناء الاموال والقبض على ثروة الناس والاستعلاء عليهم بالحكم والرئاسة، وهذا كما حكى الله سبحانه عنهم في مثل القصة إذ قال: (فقال الملاء الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم) المؤمنون: 24. وبهذا يظهر وجه تعليقهم الكذب بالظن دون الجزم، وأن المراد بالكذب الكذب المخبرى دون الخبرى. قوله تعالى: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى) إلى آخر الاية بيان لما أجاب به نوح عليه السلام عن حجتهم إلى تمام اربع آيات، والتعمية الاخفاء فمعنى عميت عليكم بالبناء للمفعول أخفيت عليكم من ناحية جهلكم وكراهتكم للحق. وقرئ: عميت بالتخفيف والبناء للفاعل أي خفيت عليكم تلك الرحمة. لما كانت حجتهم مبنية على الحس ونفى ما وراءه وقدا ستنتجوا منها اولا
[ 205 ]
عدم الدليل على وجوب طاعته واتباعه ثم اضربوا عنه بالترقى إلى استنتاج الدليل على عدم الوجوب بل على وجوب العدم اجابهم عليه السلام بإثبات ما حاولوا نفيه من رسالته وما يتبعه، ونفى ما حاولوا اثباته باتهامه واتهام اتباعه بالكذب غير انه استعطفهم بخطاب يا قوم - بالاضافة إلى ضمير التكلم - مرة بعد مرة ليجلبهم إليه فيقع نصحه موقع القبول منهم. وقد ابدع الايات الكريمة في تقرير حجته عليه السلام في جوابهم فقطعت حجتهم فصلا فصلا وأجابت عن كل فصل بوجهيه أعنى من جهة انتاجه أن لا دليل على اتباعه عليه السلام وأن الدليل على خلافه وذلك قوله: (يا قوم أرأيتم ان كنت على بينة) الخ، وقوله: (وما انا بطارد الذين آمنوا) الخ، وقوله: (ولا اقول لكم عندي خزائن الله) الخ، ثم اخذت من كل حجة سابقة شيئا يجرى مجرى التلخيص فإضافته إلى الحجة اللاحقة بادئة به فامتزجت الحجة بالحجة على ما لكل منها من الاستقلال والتمام. فتمت الحجج ثلاثا كل واحدة منها مبدوة بالخطاب وهى قوله: (يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة) الخ، وقوله: (ويا قوم لا أسألكم عليه أجرا) الخ، وقوله: (ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم) الخ، فتدبر فيها. فقوله: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى) جواب عن قولهم: (ما نراك إلا بشرا مثلنا) يريدون به أنه ليس معه إلا البشرية التى يماثلهم فيها ويماثلونه فبأى شئ يدعى وجوب اتباعهم له ؟ بل هو كاذب يريد بما يدعيه من الرسالة أن يصطادهم فيقتنص بذلك اموالهم ويترأس عليهم. وإذ كان هذا القول منهم متضمنا لنفى رسالته وسندهم في ذلك أنه بشر لا أثر ظاهر معه يدل على الرسالة والاتصال بالغيب كان من الواجب تنبيههم على ما يظهر به صدقه في دعوى الرسالة وهو الاية المعجزة الدالة على صدق الرسول في
دعوى الرسالة فإن الرسالة نوع من الاتصال بالغيب خارق للعادة الجارية لا طريق إلى العلم بتحققه إلا بوقوع امر غيبي آخر خارق للعادة يوقن به كون الرسول صادقا في دعواه الرسالة، ولذلك اشار عليه السلام بقوله: (يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من
[ 206 ]
ربى) إلى أن معه بينة من الله وآية معجزة تدل على صدقه في دعواه. ومن هنا يظهر أن المراد بالبينة الاية المعجزة التى تدل على ثبوت الرسالة لان ذلك هو الذى يعطيه السياق فلا يعبأ بما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالبينة في الاية العلم الضرورى الذى يعلم به النبي أنه نبى وذلك لكونه معنى اجنبيا عن السياق. وقوله: (وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم) الظاهر انه عليه السلام يشير به إلى ما آتاه الله تعالى من الكتاب والعلم، وقد تكرر في القرآن الكريم تسمية الكتاب وكذا تسمية العلم بالله وآياته رحمة قال تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة) هود: 17، وقال: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة) النحل: 89، وقال: (فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا) الكهف: 65، وقال: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة) آل عمران: 8. وأما قوله: (فعميت عليكم) فالظاهر ان ضميره راجع إلى الرحمة، والمراد أن ما عندي من العلم والمعرفة اخفاها عليكم جهلكم وكراهتكم للحق بعد ما ذكرتكم به وبثثته فيكم. وقوله: (أنلزمكموها وانتم لها كارهون) الالزام جعل الشئ مع الشئ بحيث لا يفارقه ولا ينفك منه، والمراد بإلزامهم الرحمة وهم لها كارهون إجبارهم على الايمان بالله وآياته والتلبس بما يستدعيه المعارف الالهية من النور والبصيرة.
ومعنى الاية - والله اعلم - اخبروني إن كانت عندي آية معجزة تصدق رسالتي مع كونى بشرا مثلكم وكانت عندي ما تحتاج إليه الرسالة من كتاب وعلم يهديكم الحق لكن لم يلبث دون ان اخفاه عليكم عنادكم واستكباركم أيجب علينا عندئذ ان نجبركم عليها ؟ أي عندي جميع ما يحتاج إليه رسول من الله في رسالته وقد أوقفتكم عليه لكنكم لا تؤمنون به طغيانا واستكبارا وليس على ان أجبركم عليها، إذ لا إجبار في دين الله سبحانه. ففى الكلام تعريض لهم أنه قد تمت عليهم الحجة وبانت لهم الحقيقة فلم يؤمنوا
[ 207 ]
لكنهم مع ذلك يريدون امرا يؤمنون لاجله وليس إلا الاجبار والالزام على كراهية، فهم في قولهم: لا نراك إلا بشرا مثلنا، لا يريدون إلا الاجبار، ولا إجبار في دين الله. والاية، من جملة الايات النافية للاكراه في الدين تدل على ان ذلك من الاحكام الدينية المشرعة في أقدم الشرائع وهى شريعة نوح عليه السلام وهو باق على اعتباره حتى اليوم من غير نسخ. وقد ظهر مما تقدم ان الاية، اعني قوله: (يا قوم أرأيتم إن كنت) الخ، جواب عن قولهم: (ما نراك إلا بشرا مثلنا) ويظهر بذلك فساد قول بعضهم: إنه جواب عن قولهم: (بل نظنكم كاذبين) وقول آخرين: إنه جواب عن قولهم: (ما نراك اتبعك إلا الذين هم اراذلنا بادئ الرأى) وقول طائفة أخرى إنه جواب عن قولهم: (وما نرى لكم علينا من فضل) ولا نطيل الكلام بالتعرض لتوضيحها وردها. قوله تعالى: (ويا قوم لا اسألكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله) يريد به الجواب عما اتهموه به من الكذب و لازمه ان تكون دعوته طريقا إلى جلب اموالهم واخذ ما في ايديهم طمعا فيه فإنه إذا لم يسألهم شيئا من اموالهم لم يكن لهم ان يتهموه بذلك.
قوله تعالى: (وما انا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني اراكم قوما تجهلون) جواب عن قولهم: (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادئ الرأى) وقد بدل لفظة الاراذل - وهى لفظة إرزاء وتحقير - من قوله: الذين آمنوا تعظيما لامر إيمانهم وإشارة إلى ارتباطهم بربهم. نفى في جوابه ان يكون يطردهم وعلل ذلك بقوله: (إنهم ملاقوا ربهم) إيذانا بأن لهم يوما يرجعون فيه إلى الله فيحاسبهم على اعمالهم فيجازيهم على ما عملوه من خير أو شر فحسابهم على ربهم وليس لغيره من الامر شئ، فليس على نوح عليه السلام ان يحاسبهم فيجازيهم بشئ لكن القوم لجهالتهم يتوقعون على الفقراء والمساكين والضعفاء ان يطردوا من مجتمع الخير ويسلبوا النعمة والشرافة والكرامة. فظهر ان المراد بقوله: (إنهم ملاقوا ربهم) الايمان إلى محاسبة الله سبحانه
[ 208 ]
إياهم يوم يرجعون فيه إليه فيلاقونه كما وقع في نظير هذا المعنى في قوله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين) الانعام: 57. وأما قول من قال: إن معنى قوله: (إنهم ملاقوا ربهم) أنه لا يطردهم لانهم ملاقوا ربهم فيجازى من ظلمهم وطردهم، أو أنهم ملاقوا ثواب ربهم فكيف يكونون أراذل وكيف يجوز طردهم وهم لا يستحقون ذلك، فبعيد عن الفهم. على أن أول المعنيين يجعل الاية التالية أعنى قوله: (ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم) الاية زائدة مستغنى عنها كما هو ظاهر. وظهر أيضا أن المراد بقوله: (ولكني أراكم قوما تجهلون) جهلهم بأمر المعاد وأن الحساب والجزاء إلى الله لا إلى غيره، وأما ما ذكره بعضهم أن المراد به الجهالة المضادة للعقل والحلم أي تسفهون عليهم أو المراد أنكم تجهلون أن حقيقة
الامتياز بين إنسان وإنسان باتباع الحق وعمل البر والتحلى بالفضائل لا بالمال والجاه كما تظنون فهو معنى بعيد عن السياق. قوله تعالى: (ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون) النصر مضمن معنى المنع أو الانجاء ونحوهما والمعنى من يمنعنى أو من ينجيني من عذاب الله إن طردتهم أفلا تتذكرون أنه ظلم، والله سبحانه ينتصر للمظلوم من الظالم وينتقم منه، والعقل جازم بأن الله سبحانه لا يساوى بين الظالم والمظلوم، ولا يدع الظالم يظلم دون أن يجازيه على ظلمه بما يسوءه ويشفى به غليل صدر المظلوم والله عزيز ذو انتقام. قوله تعالى: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إنى ملك) جواب عن قولهم: (وما نرى لكم علينا من فضل) يرد عليهم قولهم بأنى لست أدعى شيئا من الفضل الذى تتوقعون منى أن أدعيه بما أنى أدعى الرسالة فإنكم تزعمون أن على الرسول أن يملك خزائن الرحمة الالهية فيستقل بإغناء الفقير وشفاء العليل وإحياء الموتى والتصرف في السماء والارض وسائر أجزاء الكون بما شاء وكيف شاء.
[ 209 ]
وأن يملك علم الغيب فيحصل على كل خير محجوب عن العيون مستور عن الابصار فيجلبه إلى نفسه، ويدفع كل شر مستقبل كامن عن نفسه وبالجملة يستكثر من الخيرات ويصان من المكاره. وأن يرتفع عن درجة البشرية إلى مقام الملكية أي يكون ملكا منزها من ألواث الطبيعة ومبري من حوائج البشرية ونقائصها فلا يأكل ولا يشرب ولا ينكح ولا يقع في تعب اكتساب الرزق واقتناء لوازم الحياة وأمتعتها. فهذه هي جهات الفضل التى تزعمون أن الرسول يجب أن يؤتاها ويمتلكها
فيستقل بها، وقد أخطأتم فليس للرسول إلا الرسالة وإنى لست أدعى شيئا من ذلك فلا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إنى ملك، وبالجملة لست أدعى شيئا من الفضل الذى تتوقعونه حتى تكذبوني بفقده، وإنما أقول إنى على بينة من ربى تصدق رسالتي وآتاني رحمة من عنده. والمراد بقوله: (خزائن الله) جميع الذخائر والكنوز الغيبية التى ترزق المخلوقات منها ما يحتاجون إليه في وجودهم وبقائهم ويستعينون به على تتميم نقائصهم وتكميلها. فهاتيك هي التى تزعم العامة أن الانبياء والاولياء يؤتون مفاتيحها ويمتلكون بها من القدرة ما يفعلون بها ما يشاءون ويحكمون ما يريدون كما اقترح على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد حكاه الله تعالى إذ يقول: (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الانهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتى بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا) أسرى: 93. وإنما قال: (ولا أعلم الغيب) ولم يقل: ولا أقول إنى أعلم الغيب لان هذا النوع من العلم لما كان ممايضن به ولا يسمح بإظهاره لم يكن قول القائل: لا أقول
[ 210 ]
إنى أعلم الغيب نافيا لوجوده عند القائل بل يحتاج إلى أن يقال: لا أعلم الغيب ليفيد النفى بخلاف قوله: (لا أقول لكم عندي خزائن الله) وقوله: (ولا أقول إنى ملك)، ولم يكرر قوله: (لكم) لحصول الكفاية بالواحدة. وقد أمر الله سبحانه نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يخاطب قومه بما خاطب به نوح عليه السلام قومه ثم ذيله بما يظهر به المراد إذ قال: (قل لا أقول لكم عندي خزائن
الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إنى ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلى قل هل يستوى الاعمى والبصير أفلا تتفكرون) الانعام: 50. أنظر إلى قوله: (لا أقول لكم) الخ، ثم إلى قوله: (إن أتبع إلا ما يوحى إلى) ثم إلى قوله: (قل هل يستوى الاعمى والبصير) الخ، فهو ينفى أولا الفضل الذى يتوقعه عامة الناس من نبيهم ثم يثبت للرسول الرسالة فحسب ثم يبادر إلى إثبات الفضل من جهة أخرى غير الجهة التى يتوقعها الناس وهو أنه بصير بإبصار الله تعالى وأن غيره بالنسبة إليه كالاعمى بالنسبة إلى البصير وهذا هو الموجب لاتباعهم له كما يتبع الاعمى البصير، وهو المجوز له أن يدعوهم إلى اتباعه. (كلام في قدرة الانبياء والاولياء فلسفي قرآني) الناس في جهل بمقام ربهم وغفلة عن معنى إحاطته وهيمنته فهم مع ما تهديهم الفطرة الانسانية إلى وجوده وأحديته يسوقهم الابتلاء بعالم المادة والطبيعة والتوغل في الاحكام والقوانين الطبيعية ثم السنن والنواميس الاجتماعية والانس بالكثرة والبينونة إلى قياس العالم الربوبى بما ألفوا من عالم المادة فالله سبحانه عندهم مع خلقه كجبار من جبابرة البشر مع عبيده ورعيته. فهناك فرد من الانسان نسميه مثلا ملكا أو جبارا دونه وزراء وأمراء والجنديون والجلاوزة يجرون ما يأمر به أو ينهى انه وله عطايا ومواهب لمن شاء وارادة وكراهة وأخذ ورد وقبض وإطلاق ورحمة وسخط وقضاء ونسخ إلى غير ذلك.
[ 211 ]
وكل من الملك وخدمه وأياديه العمالة ورعاياه وما يدور بأيديهم من النعم وأمتعة الحياة أمر موجود محدود مستقل الوجود منفصلة عن غيره إنما يرتبط بعضهم ببعض بأحكام وقوانين وسنن اصطلاحية لا موطن لها سوى ذهن الذاهن واعتقاد المعتقد.
وقد طبقوا العالم الربوبى أعنى ما يخبر به النبوة من مقام الرب تعالى وصفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله على هذا النظام فهو تعالى يريد ويكره ويعطى ويمنع ويدبر نظام الخلقة كما يفعل ذلك الواحد منا المسمى ملكا، وهو محدود الوجود منعزل الكون وكل من ملائكته وسائر خليقته مستقل الوجود يملك ما عنده من الوجود والنعم الموهوبة دون الله سبحانه، وقد كان تعالى في أزل الزمان وحده لا شئ معه من خلقه ثم أبدع في جانب الابد الخلق فكانوا معه. فقد أثبتوا - كما ترى - موجودا محدودا منطبق الوجود على الزمان غير أن وجوده الزمانى دائمي، وله قدرة على كل شئ، وعلم بكل شئ، وإرادة لا تنكسر وقضاء لا ترد، يستقل بما عنده من الصفات والاعمال كما يستقل الواحد منا فيملك ما عنده من الحياة والعلم والقدرة وغير ذلك فحياته حياة له وليست لله، وعلمه علمه لا علم الله، وقدرته قدرته لا قدره الله وهكذا، وإنما يقال لوجودنا أو حياتنا أو علمنا أو قدرتنا إنها لله كما يقال لما عند الرعية من النعمة إنها للملك بمعنى أنها كانت عنده فأخرجها من عنده ووضعها عندنا نتصرف فيها فجميع ذلك - كما ترى - يقوم على اساس المحدودية والانعزال. لكن البراهين اليقينية تقضى بفساد ذلك كله فإنها تحكم بسريان الفقر والحاجة إلى الموجودات الممكنة في ذواتها وآثار ذواتها وإذا كانت الحاجة إليه تعالى في مقام الذات استحال الاستقلال عنه والانعزال منه على الاطلاق إذ لو فرض استقلال لشئ منه تعالى في وجوده أو شئ من آثار وجوده - بأى وجه فرض في حدوث أو بقاء - استغنى عنه من تلك الجهة وهو محال. فكل ممكن غير مستقل في شئ من ذاته وآثار ذاته، والله سبحانه هو الذى يستقل في ذاته وهو الغنى الذى لا يفتقر في شئ ولا يفقد شيئا من الوجود و كمال
[ 212 ]
الوجود كالحياة والقدرة والعلم فلا حد له يتحدد به. وقد تقدم بعض التوضيح لهذه المسألة في ذيل تفسير قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) المائدة: 73. وعلى ما تقدم كان ما للممكن من الوجود أو الحياة أو القدرة أو العلم متعلق الوجود به تعالى غير مستقل منه بوجه، ولا فرق في ذلك بين القليل والكثير ما كانت خصيصة عدم الاستقلال محفوظة فيه فلا مانع من فرض ممكن له علم بكل شئ أو قدرة على كل شئ أو حياة دائمة ما دام غير مستقل الوجود عن الله سبحانه ولا منعزل الكون منه كما لا مانع من تحقق الممكن مع وجود موقت ذى أمد أو علم أو قدرة متعلقين ببعض الاشياء دون بعض. نعم فرض الاستقلال يبطل الحاجة الامكانية ولا فرق فيه بين الكثير والقليل كما عرفت، هذا من جهة العقل. وأما من جهة النقل فالكتاب الالهى وإن كان ناطقا باختصاص بعض الصفات والافعال به تعالى كالعلم بالمغيبات والاحياء والاماتة والخلق كما في قوله: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) الانعام: 59، وقوله: (وأنه هو أمات وأحيا) النجم: 44، وقوله: (الله يتوفى الانفس حين موتها) الزمر: 42، وقوله: (الله خالق كل شئ) الزمر: 62، إلى غير ذلك من الايات لكنها جميعا مفسرة بآيات أخر كقوله: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه احدا إلا من ارتضى من رسول) الجن: 27، وقوله: (قل يتوفاكم ملك الموت) الم السجدة: 11، وقوله عن عيسى عليه السلام: (وأحيى الموتى بإذن الله) آل عمران: 49، وقوله: (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذنى فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذنى) المائدة: 110 إلى غير ذلك من الايات. وانضمام الايات إلى الايات لا يدع شكا في أن المراد بالايات النافية اختصاص هذه الامور به تعالى بنحو الاصالة والاستقلال والمراد بالايات المثبتة إمكان تحققها
في غيره تعالى بنحو التبعية وعدم الاستقلال. فمن أثبت شيئا من العلم المكنون أو القدرة الغيبية أعنى العلم من غير طريق الفكر والقدرة من غير مجراها العادى الطبيعي لغيره تعالى من أنبيائه وأوليائه
[ 213 ]
كما وقع كثيرا في الاخبار والاثار ونفى معه الاصالة والاستقلال بأن يكون العلم والقدرة مثلا له تعالى وإنما ظهر ما ظهر منه بالتوسيط ووقع ما وقع منه بإفاضته وجوده فلا حجر عليه. ومن أثبت شيئا من ذلك على نحو الاصالة والاستقلال طبق ما يثبته الفهم العامي وإن أسنده إلى الله سبحانه وفيض رحمته لم يخل من غلو وكان مشمولا لمثل قوله: (لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق) النساء: 171. قوله تعالى: (ولا أقول للذين تزدرى أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إنى إذا لمن الظالمين) قال في المفردات: زريت عليه عبته وأزريت به قصدت به وكذلك ازدريت به وأصله افتعلت قال: تزدرى أعينكم أي تستقلهم تقديره تزدريهم أعينهم أي تستقلهم وتستهين بهم. انتهى. وهذا الفصل من كلامه عليه السلام إشارة إلى ما كان يعتقده الملا الذين كفروا من قومه وبنوا عليه سنة الاشرافية وطريقة السيادة، وهو أن أفراد الانسان تنقسم إلى قسمين الاقوياء والضعفاء، أما الاقوياء فهم أولوا الطول وأرباب القدرة المعتضدون بالمال والعدة، وأما الضعفاء فهم الباقون. والاقوياء هم السادة في المجتمع الانساني لهم النعمة والكرامة، ولاجلهم انعقاد المجتمع، وغيرهم من الضعفاء مخلوقون لاجلهم مقصودون لهم أضاحى منافعهم كالرعية بالنسبة إلى كرسى الحكومة المستبدة، والعبيد بالنسبة إلى الموالى، و الخدم والعملة بالنسبة إلى المخدومين والنساء بالنسبة إلى الرجال، وبالاخرة كل ضعيف بالنسبة إلى القوى
المستعلى عليه. وبالجملة كان معتقدهم أن الضعيف في المجتمع إنسان منحط أو حيوان في صورة إنسان إنما يرد داخل المجتمع ويشاركهم في الحياة ليستفيد الشريف من عمله وينتفع من كد يمينه لحياته من غير عكس بل هو محروم من الكرامة مطرود عن حظيرة الشرافة آئس من الرحمة والعناية. فهذا هو الذى كانوا يرونه وكان هو المعتمد عليه في مجتمعهم، وقد رد نوح عليه السلام ذلك إليهم بقوله: (ولا أقول للذين تزدرى أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا).
[ 214 ]
ثم بين خطأهم في معتقدهم بقوله: (الله أعلم بما في نفوسهم) أي إن أعينكم إنما تزدريهم وتستحقرهم وتستهين أمرهم لما تحس ظاهر ضعفهم وهوانهم، وليس هو الملاك في إحراز الخير ونيل الكرامة بل الملاك في ذلك وخاصة الكرامات والمثوبات الالهية أمر النفس وتحليها بحلى الفضيلة والمنقبة المعنوية، ولا طريق لى ولا لكم إلى العلم ببواطن النفوس وخبايا القلوب إلا لله سبحانه فليس لى ولا لكم أن نحكم بحرمانهم من الخير والسعادة. ثم بين بقوله: (إنى إذا لمن الظالمين) السبب في تحاشيه عن هذا القول ومعناه أنه قول بغير علم، وتحريم الخير على من يمكن أن يستحقه جزافا من غير دليل ظلم لا ينبغى أن يرومه الانسان فيدخل بذلك في زمرة الظالمين. وهذا المعنى هو الذى يشير تعالى إليه فيما يحكيه من كلام أهل الاعراف يوم القيامة خطابا لهؤلاء الطاغين إذ يقول: (ونادى أصحاب الاعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة) الاعراف: 49. وفي الكلام أعنى قول نوح عليه السلام: (ولا أقول للذين تزدرى أعينكم) الخ،
تعريض لهم أنهم كما كانوا يحرمون على ضعفاء المجتمع المزايا الحيوية الاجتماعية كذلك كانوا يحرمون عليهم الكرامة الدينية ويقولون: إنهم لا يسعدون بدين وإنما يسعد به أشراف المجتمع وأقوياؤهم، وفيه أيضا تعريض بأنهم ظالمون. وإنما عقب نوح عليه السلام قوله: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إنى ملك) وهو ينفى فيه جهات الامتياز التى كانوا يتوقعونها في الرسول عن نفسه، بقوله: (ولا أقول للذين تزدرى أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا) الخ، مع أنه راجع إلى الضعفاء الذين آمنوا به من قومه لان الملا ألحقوهم به في قولهم: (وما نرى لكم علينا من فضل). وتوضيحه أن معنى قولهم هذا أن اتباعنا لك ولمن آمن بك من هؤلاء الاراذل إنما يستقيم لفضل يتم لكم علينا ولا نرى لكم علينا من فضل أما أنت فليس معك ما يختص به الرسول من قدرة ملكوتية أو علم بالغيب أو أن تكون
[ 215 ]
ملكا منزها من ألواث المادة والطبيعة، وأما المؤمنون بك فإنما هم أراذلنا الائسون من كرامة الانسانية المحرومون من الرحمة والعناية. فأجاب عنهم نوح بما معناه: أما أنا فلا أدعى شيئا مما تتوقعون من رسالتي فليست للرسول إلا الرسالة وأما هؤلاء الضعفاء الذين لهم هوان عندكم فمن الجائز أن يعلم الله من نفوسهم خيرا فيؤتيهم خيرا وفضلا فهو أعلم بأنفسهم، وملاك الكرامة الدينية والرحمة الالهية زكاء النفس وسلامة القلب دون الظاهر الذى تزدريه أعينكم فلست أقول: لن يؤتيهم الله خيرا، فإنه ظلم يدخلنى في زمرة الظالمين. قوله تعالى: (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) كلام ألقوه إلى نوح عليه السلام بعد ما عجزوا عن دحض حجته
وإبطال ما دعا إليه من الحق، وهو مسوق سوق التعجيز والمراد بقولهم: (ما تعدنا) ما أنذرهم به في أول دعوته من عذاب يوم أليم. وقد أورد الله سبحانه قولهم هذا فصلا من غير تفريع لانهم إنما قالوه بعد ما لبث فيهم أمدا بعيدا يدعوهم إلى التوحيد ويخاصمهم ويحاجهم بفنون الخصام والحجاج حتى قطع جميع معاذيرهم وأنار الحق لهم كما يدل عليه قوله تعالى فيما يحكى عنه عليه السلام في دعائه: (قال رب إنى دعوت قومي ليلا ونهارا - إلى أن قال - ثم إنى دعوتهم جهارا ثم إنى أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا) نوح: 9 وفي سورة العنكبوت: (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) العنكبوت: 14. فهذا الذى أورده الله من حجاجه قومه وجوابهم في شكل محاورة واحدة إنما وقع في مآت من السنين، وهو كثير النظير في القرآن الكريم ولا بدع فيه فإن الذى يقتص ذلك هو الله سبحانه المحيط بالدهر وبكل ما فيه والذى يسمعها بالوحى هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد أوتى من سعة النظر ما يجتمع عنده أشتات الامم وأطراف الزمان. والمعنى - والله أعلم - يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا حتى سئمنا ومللنا وما نحن لك بمؤمنين فأتنا بما تعدنا من العذاب، وهم لا يعترفون بالعجز عن خصامه وجداله بل يؤيسونه من أنفسهم في الحجاج ويطلبون منه أن يشتغل بما يشتغل
[ 216 ]
الداعي الائس من السمع والطاعة وهو الشر الذى يهددهم به ويذكره وراء نصحه. قوله تعالى: (قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين) لما كان قولهم: (فأتنا بما تعدنا) الخ، طلبا منه أن يأتيهم بالعذاب وليس ذلك إليه فإنما هو رسول، أجاب عن اقتراحهم هذا أيضا - في سياق قصر القلب - أن الاتيان بالعذاب ليس إلى بل إنما هو إلى الله فهو الذى يملك أمركم فيأتيكم بالعذاب الذى وعدتكموه بأمره فهو ربكم واليه مرجع أمركم كله، ولا يرجع إلى من أمر.
التدبير شئ حتى أن وعدى إياكم بالعذاب واقتراحكم على بطلبه لا يؤثر في ساحة كبريائه شيئا فإن يشأ يأتكم به وإن لم يشأ فلا. ومن هنا يظهر أن قوله عليه السلام: (إن شاء) من ألطف القيود في هذا المقام أفيد به حق التنزيه وهو أن الله سبحانه لا يحكم فيه شئ ولا يقهره قاهر يفعل ما يشاء ولا يفعل ما يشاء غيره نظير ما سيأتي في آخر السورة من الاستثناء في قوله: (خالدين فيها ما دامت السماوات والارض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ) هود: 108. وقوله: (وما انتم بمعجزين) تنزيه آخر لله سبحانه وهو مع ذلك جواب عن الامر التعجيزى الذى ألقوه إليه عليه السلام فإن ظاهره أنهم لا يعبأون بما هددهم به من العذاب كأنهم معجزون لا يقدر عليهم. قوله تعالى: (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد ان أغويكم) الخ، قال في المفردات: النصح تجرى فعل أو قول فيه صلاح صاحبه - قال - وهو من قولهم: نصحت له الود أي أخلصته وناصح العسل خالصه أو من قولهم: نصحت الجلد خطته و الناصح الخياط والنصاح الخيط. وقال أيضا: الغى جهل من اعتقاد فاسد، وذلك أن الجهل قد يكون من الانسان غير معتقد اعتقادا لا صالحا ولا فاسدا، وقد يكون من اعتقاد شئ فاسد، وهذا النحو الثاني يقال له غى قال تعالى: ما ضل صاحبكم وما غوى، وقال: وإخوانهم يمدونهم في الغى. انتهى. وعلى هذا فالفرق بين الاغواء والاضلال أن الاضلال إخراج من الطريق مع
[ 217 ]
بقاء المقصد في ذكر الضال، والاغواء إخراجه منه مع زواله عن ذكره لاشتغاله بغيره جهلا.
والارادد والمشية كالمترادفتين، وهى من الله سبحانه تسبيب الاسباب المؤدية لوجود شئ بالضرورة فكون الشئ مرادا له تعالى أنه تمم أسباب وجوده وأكملها فهو كائن لا محالة، وأما اصل السببية الجارية فهى مرادة بنفسها ولذا قيل: خلق الله الاشياء بالمشية والمشية بنفسها. وبالجملة قوله: (ولا ينفعكم نصحي) الخ، كأحد شقى الترديد والشق الاخر قوله: (وما أنتم بمعجزين) كأنه عليه السلام يقول: أمركم إلى الله إن شاء أن يعذبكم أتاكم بالعذاب ولا يدفع عذابه ولا يقهر مشيته شئ فلا أنتم معجزوه، ولا نصحي ينفعكم إن أردت أن أنصح لكم بعد ما أراد الله أن يغويكم لتكفروا به فيحق عليكم كلمه العذاب، وقيد نصحه بالشرط لانهم لم يكونوا يسلمون له أنه ينصحهم. والاغواء كالاضلال وإن لم يجز نسبته إليه تعالى إذا كان إغواء ابتدائيا لكنه جائز إذا كان بعنوان المجازاة كأن يعصى الانسان ويستوجب به الغواية فيمنعه الله أسباب التوفيق ويخليه ونفسه فيغوى ويضل عن سبيل الحق، قال تعالى: (يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين) البقره: 26. وفي الكلام إشارة إلى أن نزول عذاب الاستئصال عليهم مسبوق بالاغواء الالهى كما يلوح إليه قوله تعالى: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) أسرى: 16، وقال: (وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول) حم السجدة: 25. وقوله: (هو ربكم وإليه ترجعون) تعليل لقوله: (ولا ينفعكم نصحي) الخ، أو لقوله: (إنما يأتيكم به الله إن شاء - إلى قوله - يريد أن يغويكم) جميعا ومحصله أن أمر تدبير العباد إلى الرب الذى إليه يرجع الامور، والله سبحانه هو ربكم وإليه ترجعون فليس لى أن آتيكم بعذاب موعود، وليس لكم أن تعجزوه إن شاء أن يأتيكم بالعذاب فأتاكم به لاستئصالكم وليس لنصحي أن ينفعكم
إن أراد هو أن يغويكم ليعذبكم.
[ 218 ]
وقد ذكروا في قوله: (إن كان الله يريد أن يغويكم) وجوها من التأويل: منها: أن المعنى يعاقبكم على كفركم، وقد سمى الله تعالى العذاب غيا في قوله: (فسوف يلقون غيا) مريم: 59. ومنها: أن المراد إن كان الله يريد عقوبة إغوائكم الخلق وإضلالكم إياهم ومن عادة العرب أن يسمى العقوبة باسم الشئ المعاقب عليه، ومن هذا الباب قوله: (الله يستهزئ بهم) أي يعاقبهم على استهزائهم وقوله: (ومكروا ومكر الله) آل عمران: 54 أي عذبهم على مكرهم إلى غير ذلك. ومنها: أن الاغواء بمعنى الاهلاك فالمعنى يريد أن يهلككم فهو من قولهم: غوى الفصيل إذا فسد من كثرة شرب اللبن. ومنها: أن قوم نوح كانوا يعتقدون أن الله تعالى يضل عباده عن الدين، وأن ما هم عليه بإرادة الله، ولو لا ذلك لغيره وأجبرهم على خلافه فقال لهم نوح على وجه التعجب لقولهم والانكار لذلك إن نصحي لا ينفعكم إن كان القول كما تقولون. وأنت بالتأمل فيما قدمناه تعرف أن الكلام في غنى من هذه التأويلات. قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى إجرامي وأنا برئ مما تجرمون) أصل الجرم - على ما ذكره الراغب في مفرداته - قطع الثمرة من الشجرة وأجرم أي صار ذا جرم، واستعير لكل اكتساب مكروه فالجرم بضم الجيم وفتحها بمعنى الاكتساب المكروه وهو المعصية. والاية واقعة موقع الاعتراض، والنكتة فيه أن دعوة نوح واحتجاجاته على وثنية قومه وخاصة ما أورده الله تعالى في هذه السورة من احتجاجه أشبه شئ بدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واحتجاجه على وثنية أمته.
وإن شئت زيادة تصديق في ذلك فارجع إلى سورة الانعام - وهى في الحقيقة سورة الاحتجاج - وقابل ما حكاه الله تعالى عن نوح في هذه السورة ما أمر الله به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلك السورة بقوله: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إنى ملك - إلى أن قال - ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة
[ 219 ]
والعشي - إلى أن قال - قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين قل إنى على بينة من ربى وكذبتم به). ولك أن تطبق سائر ما ذكر من حججه عليه السلام في سورة نوح والاعراف على ما ذكر من الحجج في سورة الانعام وفي هذه السورة فتشاهد صدق ما ادعيناه. ولهذه المشابهة والمناسبة ناسب أن يعطف بعد ذكر حجج نوح عليه السلام في إنذاره قومه بأمر من الله سبحانه على ما اتهموا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورموه بالافتراء على الله، وهو لا ينذرهم ولا يلقى إليهم من الحجج إلا كما أنذر به نوح عليه السلام وألقاه من الحجج إلى قومه، وهذا كما ينذر رسول الملك قومه والمتمردين المستنكفين عن الطاعة ويلقى إليهم النصح ويتم عليهم الحجة فيرمونه بأنه مفتر على الملك ولا طاعة ولا وظيفة فيرجع إليهم بالنصح ثانيا، ويذكر لهم قصة رسول ناصح آخر من الملك إلى قوم آخرين نصح لهم بمثل ما نصح هو لهم فلم يتبصروا به فهلكوا فحيثما يذكر لهم حججه ومواعظه يبعثه الوجد والاسف إلى أن يتذكر رميهم إياه بالافتراء فيأسف لذلك قائلا: إنكم ترموننى بالافتراء ولم أذكر لكم إلا ما بثه هذا الرسول في قومه من كلمة الحكمة والنصيحة لا جرم إن افتريته فعلى إجرامي ولا تقبلوا قولى غير أنى برئ من عملكم. وقد عاد سبحانه إلى الامر بمثل هذه المباراة ثانيا في آخر السورة بعد إيراد قصص عدة من الرسل حيث قال: (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت
به فؤادك - إلى أن قال - وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون) هود: 122. وذكر بعض المفسرين أن الاية، من تمام القصة والخطاب فيها لنوح، والمعنى أم يقول قوم نوح افتراه نوح قل يا نوح إن افتريته فعلى إجرامي وأنا برئ مما تجرمون، وعلى هذا فالكلام مشتمل على نوع التفات من الغيبة إلى الخطاب وهذا بعيد عن سياق الكلام غايته. وفي قوله: (وأنا برئ مما تجرمون) إثبات إجرام مستمر لهم وقد أرسل إرسال المسلمات كما في قوله: (فعلى إجرامي) من إثبات الجرم وذلك أن الذى
[ 220 ]
ذكر من حجج نوح إن كان من الافتراء كان كذبا من حيث إن نوحا عليه السلام لم يحتج بهذه الحجج وهى حقة، لكنها من حيث إنها حجج عقلية قاطعة لا تقبل الكذب وهى تثبت لهؤلاء الكفار إجراما مستمرا في رفض ما يهديهم إليه من الايمان والعمل الصالح فهم في خروجهم عن مقتضى هذه الحجج مجرمون قطعا، والنبى صلى الله عليه وآله وسلم مجرم لا قطعا بل على تقدير أن يكون مفتريا وليس بمفتر. (بحث روائي) في تفسير العياشي عن ابن ابى نصر البزنطى عن ابى الحسن الرضا عليه السلام قال: قال الله في نوح عليه السلام (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم) قال: الامر إلى الله يهدى ويضل. أقول: قد مر بيانه. وفي تفسير البرهان في قوله تعالى: (أم يقولون افتراه) الاية، الشيباني في نهج البيان عن مقاتل قال: إن كفار مكة قالوا: إن محمدا افترى القرآن. قال: وروى مثل ذلك عن ابى جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام.
* * * وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون - 36. واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون - 37. ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملا من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون - 38. فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم - 39. حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا
[ 221 ]
احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل - 40. وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربى لغفور رحيم - 41. وهى تجرى بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين - 42. قال ساوى إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين - 43. وقيل يا أرض ابلعى ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء وقضى الامر واستوت على الجودى وقيل بعدا للقوم الظالمين - 44. ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلى وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين - 45. قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إنى أعظك أن تكون من الجاهلين - 46. قال رب إنى أعوذ بك أن أسألك ما ليس لى به علم وإلا تغفر لى وترحمني أكن من الخاسرين - 47. قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك
وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم - 48. تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين - 49.
[ 222 ]
(بيان) تتمة قصة نوح عليه السلام وهى تشتمل على فصول كإخباره عليه السلام بنزول العذاب على قومه، وأمره بصنع الفلك، وكيفية نزول العذاب وهو الطوفان، وقصة ابنه الغريق، وقصة نجاته ونجات من معه لكنها جميعا ترجع من وجه إلى فصل واحد وهو فصل القضاء بينه عليه السلام وبين قومه. قوله تعالى: (وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) الا بتئاس من البؤس وهو حزن مع استكانة. وقوله: (لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) إيئاس وإقناط له عليه السلام من إيمان الكفار من قومه بعد ذلك، ولذلك فرع عليه قوله: (فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) لان الداعي إلى أمر إنما يبتئس ويغتم من مخالفة المدعوين وتمردهم ما دام يرجو منهم الايمان والاستجابة لدعوته، وأما إذا يئس من إجابتهم فلا يهتم بهم ولا يتعب نفسه في دعوتهم إلى السمع والطاعة والالحاح عليهم بالاقبال إليه ولو دعاهم بعدئذ فإنما يدعوهم لغرض آخر كإتمام الحجة وإبراز المعذرة. وعلى هذا ففى قوله: (فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) تسلية من الله لنوح عليه السلام وتطيب لنفسه الشريفة من جهة ما في الكلام من الاشارة إلى حلول حين فصل القضاء بينه وبين قومه، وصيانة لنفسه من الوجد والغم لما كان يشاهد من فعلهم به وبالمؤمنين به من قومهم من إيذائهم إياهم في دهر طويل (مما يقرب من ألف سنة) لبث فيه بينهم.
ويظهر من كلام بعضهم أنه استفاد من قوله: (لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) أن من كفر منهم فليس يؤمن بعد هذا الحين أبدا كما أن الذين آمنوا به ثابتون على إيمانهم دائمون عليه. وفيه أن العناية في الكلام إنما تعلقت ببيان عدم إيمان الكفار بعد ذلك فحسب وأما إيمان المؤمنين فلم يعن به إلا بمجرد التحقق سابقا ولا دلالة في الاستثناء على أزيد من ذلك، وأما ثباتهم ودوامهم على الايمان فلا دليل عليه.
[ 223 ]
ويستفاد من الاية أولا: أن الكفار لا يعذبون ما كان الايمان مرجوا منهم فإذا ثبتت فيهم ملكة الكفر ورجس الشرك حق عليهم كلمة العذاب. وثانيا: أن ما حكاه الله سبحانه من دعاء نوح بقوله: (وقال نوح رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عباد ك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) نوح: 27 كان واقعا بين قوله: (إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) الخ، وبين قوله: (واصنع الفلك - إلى قوله - إنهم مغرقون). وذلك لانه - كما ذكر بعضهم - لا سبيل إلى العلم بعدم إيمان الكفار في المستقبل من طريق العقل وإنما طريقه السمع بالوحى فهو عليه السلام علم أولا من وحيه تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن أن أحدا منهم لا يؤمن بعد ذلك ولا في نسلهم من سيؤمن بالله ثم دعا عليهم بالعذاب وذكر في دعائه ما أوحى إليه فلما استجاب الله دعوته وأراد إهلاكهم أمره عليه السلام باتخاذ السفينة أخبره أنهم مغرقون. قوله تعالى: (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) الفلك هي السفينة مفردها وجمعها واحد والاعين جمع قلة للعين وإنما جمع للدلالة على كثرة المراقبة وشدتها فإن الجملة كناية عن المراقبة في الصنع. وذكر الاعين قرينة على أن المراد بالوحى ليس هو هذا الوحى أعنى قوله:
(واصنع الفلك) الخ، حتى يكون وحيا للحكم بل وحى في مقام العمل وهو تسديد وهداية عملية بتأييده بروح القدس الذى يشير إليه أن افعل كذا وافعل كذا كما ذكره تعالى في الائمة من آل ابراهيم عليهما السلام بقوله: (وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) الانبياء: 73، قد تقدمت الاشارة إليه في المباحث السابقة وسيجئ ان شاء الله في تفسير الاية. وقوله: (ولا تخاطبني في الذين ظلموا) أي لا تسألني في امرهم شيئا تدفع به الشر والعذاب وتشفع لهم لتصرف عنهم السوء لان القضاء فصل والحكم حتم وبذلك يظهر أن قوله: (إنهم مغرقون) في محل التعليل لقوله: (ولا تخاطبني) الخ، أو لمجموع قوله: (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا) ويظهر ايضا أن قوله: (ولا تخاطبني) الخ، كناية عن الشفاعة
[ 224 ]
والمعنى: واصنع السفينة تحت مراقبتنا الكاملد وتعليمنا إياك ولا تسألني صرف العذاب عن هؤلاء الذين ظلموا فإنهم مقضى عليهم الغرق قضاء حتم لا مرد له. قوله تعالى: (ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملا من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون) قال في المجمع: السخرية إظهار خلاف الابطان على وجه يفهم منه استضعاف العقل، ومنه التسخير لتذليل يكون استضعافا بالقهر، والفرق بين السخرية واللعب أن في السخرية خديعة واستنقاصا ولا تكون إلا في الحيوان وقد يكون اللعب بجماد، انتهى. وقال الراغب في المفردات: سخرت منه واستسخرته للهزء منه قال تعالى: (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون) (بل عجبت ويسخرون) وقيل: رجل سخرة - بالضم فالفتح - لمن سخر وسخرة - بالضم فالسكون - لمن يسخر منه، والسخرية - بالضم - والسخرية - بالكسر - لفعل
الساخر، انتهى. وقوله: (ويصنع الفلك) حكاية الحال الماضية يمثل بها ما يجرى على نوح عليه السلام من إيذاء قومه وقيام طائفة منهم بعد طائفة على إهانته والاستهزاء به في عمل السفينة وصبره عليه في جنب الدعوة الالهية وإقامة الحجة عليهم من غير ان يفشل وينثنى. وقوله: (كلما مر عليه ملا من قومه سخروا منه) حال من فاعل يصنع والملا ههنا الجماعة الذين يعبأ بهم، وفي الكلام دلالة على أنهم كانوا يأتونه وهو يصنع الفلك جماعة بعد جماعة بالمرور عليه ساخرين، وأنه عليه السلام كان يصنعها في مرأى منهم وممر عام. وقوله: (قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون) في موضع الجواب لسؤال مقدر كأن قائلا قال: فما ذا قال نوح عليه السلام ؟ فقيل: (قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم) ولذا فصل الكلام من غير عطف. ولم يقل عليه السلام: إن تسخروا منى فإنى أسخر منكم ليدفع به عن نفسه وعن عصابة المؤمنين به وكأنه كان يستمد من أهله وأتباعه في ذلك وكانوا يشاركونه في
[ 225 ]
عمل السفينة وكانت السخرية تتناولهم جميعا فظاهر الكلام أن الملا كانوا يواجهون نوحا ومن معه في عمل السفينة بسخرية نوح ورميه عليه السلام بالخبل والجنون فيشمل هزؤهم نوحا ومن معه وإن كانوا لم يذكروا في هزئهم إلا نوحا فقط. على أن الطبع والعادة يقضيان أن يكونوا يسخرون من أتباعه ايضا كما كانوا يسخرون منه فهم أهل مجتمع واحد تربط المعاشرة بعضهم ببعض وإن كانت سخريتهم من أتباعه سخرية منه في الحقيقة لانه هو الاصل الذى تقوم به الدعوة، ولذا قيل: (سخروا منه) ولم يقل: سخروا منه ومن المؤمنين.
والسخرية وإن كانت قبيحة ومن الجهل إذا كانت ابتدائية لكنها جائزة إذا كانت مجازاة وبعنوان المقابلة وخاصة إذا كانت تترتب عليها فائدة عقلائية كإنفاذ العزيمة وإتمام الحجة، قال تعالى: (فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم) التوبة: 79، ويدل على اعتبار المجازاة والمقابلة بالمثل في الاية قوله: (كما تسخرون). قوله تعالى: (فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) السياق يقضى أن يكون قوله: (فسوف تعلمون) تفريعا على الجملة الشرطية السابقة (ان تسخروا منا فإنا نسخر منكم) وتكون الجملة المتفرعة هو متن السخرية التى أتى بها نوح عليه السلام، ويكون قوله: (من يأتيه عذاب يخزيه) الخ، متعلقا بتعلمون على أنه معلوم العلم. والمعنى: ان تسخروا منا فإنا نسخر منكم فنقول لكم: سوف تعلمون من يأتيه العذاب ؟ نحن أو انتم ؟ وهذه سخرية بقول حق. وقوله: (من يأتيه عذاب يخزيه) المراد به عذاب الاستئصال في الدنيا وهو الغرق الذى أخزاهم وأذلهم، والمراد بقوله: (ويحل عليه عذاب مقيم) أي ينزل عليه عذاب ثابت لازم لا يفارق، هو عذاب النار في الاخرة، والدليل على ما ذكرنا من كون العذاب الاول هو الذى في الدنيا والثانى هو عذاب الاخرة هو المقابلة وتكرر العذاب - منكرا - في اللفظ وتوصيف الاول بالاخزاء والثانى بالاقامة.
[ 226 ]
وربما أخذ بعضهم قوله: (فسوف تعلمون) تاما من غير ذكر متعلق العلم وقوله: (من يأتيه عذاب يخزيه) الخ، ابتداء كلام من نوح عليه السلام وهو بعيد عن السياق. قوله تعالى: (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور) إلى آخر الاية، يقال:
فار القدر يفور فورا وفورانا إذا غلا واشتد غليانه، وفارت النار إذا اشتعلت وارتفع لهيبها، والتنور تنور الخبز، وهو مما اتفقت فيه اللغتان: العربية والفارسية أو الكلمة فارسية في الاصل. وفوران التنور نبع الماء وارتفاعه منه، وقد ورد في الروايات: أن أول ما ابتدأ الطوفان يومئذ كان ذلك بتفجر الماء من تنور، وعلى هذا فاللام في التنور للعهد يشار بها إلى تنور معهود في الخطاب، ويحتمل اللفظ أن يكون كناية عن اشتداد غضب الله تعالى فيكون من قبيل قولهم: (حمى الوطيس) إذا اشتد الحرب. فقوله: (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور): أي كان الامر على ذلك حتى إذا جاء أمرنا أي تحقق الامر الربوبى وتعلق بهم وفار الماء من التنور أو اشتد غضب الرب تعالى قلنا له كذا وكذا. وفي التنور أقوال أخر بعيدة من الفهم كقول من قال: إن المراد به طلوع الفجر وكان عند ذلك أول ظهور الطوفان، وقول بعضهم: إن المراد به أعلى الارض وأشرفها أي انفجر الماء من الامكنة المرتفعة ونجود الارض، وقول آخرين: ان التنور وجه الارض هذا. وقوله: (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين) أي أمرنا نوحا عليه السلام أن يحمل في السفينة من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين وهى الذكر والانثى. وقوله: (وأهلك الا من سبق عليه القول) أي واحمل فيها أهلك وهم المختصون به من زوج وولد وأزواج الاولاد وأولادهم الا من سبق عليه قولنا وتقدم عليه عهدنا أنه هالك، وكان هذا المستثنى زوجته الخائنة التى يذكرها الله
[ 227 ]
تعالى في قوله: (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما) التحريم: 10. وابن نوح الذى يذكره الله تعالى في الايات التالية وكان نوح عليه السلام يرى أن المستثنى هو امرأته فحسب حتى بين الله سبحانه أن ابنه ليس من أهله وأنه عمل غير صالح فعند ذلك علم أنه من الذين ظلموا. وقوله: (ومن آمن وما آمن معه الا قليل) أي واحمل فيها من آمن بك من قومك غير اهلك لان من آمن به من اهله أمر بحمله بقوله: (وأهلك) ولم يؤمن به من القوم الا قليل. في قوله: (وما آمن معه) دون ان يقال: وما آمن به تلويح إلى أن المعنى: وما آمن بالله مع نوح الا قليل، وذلك أنسب بالمقام وهو مقام ذكر من أنجاه الله من عذاب الغرق، والملاك فيه هو الايمان بالله والخضوع لربوبيته، وكذا في قوله: (إلا قليل) دون أن يقال: إلا قليل منهم بلوغا في استقلالهم أن من آمن كان قليلا في نفسه لا بالقياس إلى القوم فقد كانوا في نهاية القلة. قوله تعالى: (وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربى لغفور رحيم) قرئ مجراها بفتح الميم وهو مجرى السفينة وسيرها، ومجراها بضم الميم وهو إجراء السفينة وسياقها، ومرساها بضم الميم مصدر ميمى مرادف الارساء، والارساء الاثبات والايقاف، قال تعالى: (والجبال أرساها) النازعات: 32. وقوله: (وقال اركبوا فيها) معطوف على قوله في الاية السابقة: (جاء أمرنا) أي حتى إذا قال نوح الخ، وخطابه لاهله وسائر المؤمنين أو لجميع من في السفينة. وقوله: (بسم الله مجراها ومرساها) تسمية منه عليه السلام يجلب به الخير والبركة لجرى السفينة وإرسائها فإن في تعليق فعل من الافعال أو أمر من الامور على اسم الله تعالى وربطه به صيانة له من الهلاك والفساد واتقاء من الضلال والخسران لما أنه
تعالى رفيع الدرجات منيع الجانب لا سبيل للدثور والفناء والعى والعناء إليه فما تعلق به مصون لا محالة من تطرق عارض السوء. فهو عليه السلام يعلق جرى السفينة وإرساءها باسم الله وهذان هما السببان
[ 228 ]
الظاهران في نجاة السفينة ومن فيها من الغرق، وإنما ينجح هذان السببان لو شملت العناية الالهية من ركبها، وإنما تشمل العناية بشمول المغفرة الالهية لخطايا ركابها والرحمة الالهية لهم لينجوا من الغرق ويعيشوا على رسلهم في الارض، ولذلك علل عليه السلام تسميته بقوله: (إن ربى لغفور رحيم) أي إنما أذكر اسم الله على مجرى سفينتي ومرساها لانه ربى الغفور الرحيم، له أن يحفظ مجراها ومرساها من الاختلال والتخبط حتى ننجو بذلك من الغرق بمغفرته ورحمته. ونوح عليه السلام اول إنسان حكى الله سبحانه عنه التسمية باسمه الكريم فيما أوحاه من كتابه فهو عليه السلام اول فاتح فتح هذا الباب كما أنه اول من أقام الحجة على التوحيد، وأول من جاء بكتاب وشريعة وأول من انتهض لتعديل الطبقات ورفع التناقض عن المجتمع الانساني. وما قدمناه من معنى قوله: (بسم الله مجراها ومرساها) مبنى على ما هو الظاهر من كون الجملة تسمية من نوح عليه السلام والمجرى والمرسى مصدرين ميميين وربما احتمل كونه تسمية ممن مع نوح بأمره أو كون مجراها ومرساها اسمين للزمان أو المكان فيختلف المعنى. قال في الكشاف في الاية: يجوز أن يكون كلاما واحدا وكلامين: فالكلام الواحد أن يتصل باسم الله باركبوا حالا من الواو بمعنى اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين بسم الله وقت إجرائها ووقت إرسائها إما لان المجرى والمرسى للوقت واما لانهما مصدران كالاجراء والارساء حذف منهما الوقت المضاف كقولهم: خفوق النجم
ومقدم الحاج، ويجوز أن يراد مكانا الاجراء والارساء، وانتصابهما بما في بسم الله من معنى الفعل أو بما فيه من ارادة القول. والكلامان أن يكون بسم الله مجراها ومرساها جملد من مبتدء وخبر مقتضبة (1) أي بسم الله اجراؤها وارساؤها، يروى أنه كان إذا أراد أن تجرى قال: بسم الله
(1) اقتضاب الكلام ارتجاله والمراد من كون الجملة مقتضبة كونه ابتدائية أي كونها كلاما ابتدائيا من نوح مقطوعا عما قبله. (*)
[ 229 ]
فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال: بسم الله فرست، ويجوز أن يقحم (1) الاسم كقوله: ثم اسم السلام عليكما ويراد بالله اجراؤها وارساءها. قال: وقرى مجراها ومرساها (2) بفتح الميم من جرى ورسى اما مصدرين أو وقتين أو مكانين، وقرأ مجاهد: مجريها ومرسيها بلفظ اسم الفاعل مجرورى المحل صفتين لله. قوله تعالى: (وهى تجرى بهم في موج كالجبال) الضمير للسفينة، والموج اسم جنس كتمر أو جمع موجة - على ما قيل - وهى قطعة عظيمة ترتفع عن جملة الماء وفي الاية اشعار بأن السفينة كانت تسير على الماء ولم تكن تسبح جوف الماء كالحيتان كما قيل. قوله تعالى: (ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين) المعزل اسم مكان من العزل وقد عزل ابنه نفسه عن ابيه والمؤمنين في مكان لا يقرب منهم، ولذلك قال: (ونادى نوح ابنه) ولم يقل: وقال نوح لابنه. والمعنى: ونادى نوح ابنه وكان ابنه في مكان منعزل بعيد منهم وقال في ندائه: يا بنى - بالتصغير والاضافة دلالة على الاشفاق والرحمة - اركب معنا السفينة ولا تكن
مع الكافرين فتشاركهم في البلاء كما شاركتهم في الصحبه وعدم ركوب السفينة، ولم يقل عليه السلام: ولا تكن من الكافرين لانه لم يكن يعلم نفاقه وأنه غير مؤمن الا باللفظ، ولذلك دعاه إلى الركوب. قوله تعالى: (قال ساوى إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من الله) الخ، قال الراغب: المأوى مصدر أوى يأوى أويا ومأوى تقول: أوى إلى كذا: انضم إليه يأوى أويا ومأوى وآواه غيره يؤويه ايواء، انتهى. والمعنى: قال ابن نوح مجيبا لابيه رادا لامره: سأنضم إلى جبل يعصمني
(1) التقحيم إدخال الكلمة بين الكلمتين المتلازمتين المتصلتين كالمضاف والمضاف إليه والمراد كون الاسم معترض بين (ثم) و (السلام) وكذا بين الباء ولفظ الجلالة في قوله: بسم الله. (2) قراءة مرساها بفتح الميم من الشواذ منسوب إلى ابن محيصن. (*)
[ 230 ]
ويقينى من الماء فلا أغرق، قال نوح: لا عاصم اليوم - وهو يوم اشتد غضب الله وقضى بالغرق لاهل الارض الا من التجأ منهم إلى الله - من الله لا جبل ولا غيره، وحال بين نوح وابنه الموج فكان ابنه من المغرقين ولو لم يحل الموج بينهما ولم ينقطع الكلام بذلك لعرف كفره وتبرأ منه. وفي الكلام اشارة إلى ان ارضهم كانت ارضا جبليه لا مؤند زائدة في صعود الانسان إلى بعض جبال كانت هناك. قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعى ماءك ويا سماء أقلعى وغيض الماء وقضى الامر واستوت على الجودى وقيل بعدا للقوم الظالمين) البلع اجراء الشئ في الحلق إلى الجوف، والاقلاع الامساك وترك الشئ من أصله، والغيض جذب الارض المائع الرطب من ظاهرها إلى باطنها وهو كالنشف يقال: غاضت الارض الماء أي نقصته.
والجودى مطلق الجبل والارض الصلبة، وقيل: هو جبل بأرض موصل في سلسلة جبال تنتهى إلى ارمينية وهى المسماة (آرارات). وقوله: (وقيل يا أرض ابلعى ماءك ويا سماء أقلعى) نداء صادر من ساحة العظمة والكبرياء لم يصرح باسم قائله وهو الله عز اسمه للتعظيم، والامر تكويني تحمله كلمة (كن) الصادرة من ذى العرش تعالى يترتب عليه من غير فصل أن تبتلع الارض ما على وجهها من الماء المتفجر من عيونها، وأن تكف السماء عن امطارها. وفيه دلالة على أن الارض والسماء كانتا مشتركتين في اطغاء الماء بأمر الله كما يبينه قوله تعالى: (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الارض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر) القمر: 12. وقوله: (وغيض الماء) أي نقص الماء ونشف عن ظاهر الارض وانكشف البسيط، وذلك انما يكون بالطبع باجتماع ما يمكن اجتماعه منه في الغدران وتشكيل البحار والبحيرات، وانتشاف ما على سائر البسيطة. وقوله: (وقضى الامر) أي أنجز ما وعد لنوح عليه السلام من عذاب القوم وأنفذ الامر الالهى بغرقهم وتطهر الارض منهم أي كان ما قيل له كن كما قيل
[ 231 ]
فقضاء الامر كما يقال على جعل الحكم واصداره كذلك يقال على امضائه وانفاذه وتحقيقه في الخارج، غير أن القضاء الالهى والحكم الربوبى الذى هو عين الوجود الخارجي جعله وانفاذه واحد، وانما الاختلاف بحسب التعبير. وقوله: (واستوت على الجودى) أي استقرت السفينة على الجبل أو على جبل الجودى المعهود، وهو اخبار عن اختتام ما كان يلقاه نوح ومن معه من أمر الطوفان. و قوله: (وقيل بعدا للقوم الظالمين) أي قال الله عز اسمه: بعدا للقوم
الظالمين أي ليبعدوا بعدا فأبعدهم بذلك من رحمته وطردهم عن دار كرامته، والكلام في ترك ذكر فاعل (قيل) ههنا كالكلام فيه في (قيل) السابق. والامر أيضا في قوله: (بعدا للقوم الظالمين) كالامرين السابقين: (يا أرض ابلعى ماءك ويا سماء أقلعى) تكويني فهو عين ما أنفذه الله فيهم من الغرق المؤدى إلى خزيهم في الدنيا وخسرانهم في الاخرة، وان كان من وجه آخر من جنس الامر التشريعي لتفرعه على مخالفتهم الامر الالهى بالايمان والعمل، وكونه جزاء لهم على استكبارهم واستعلائهم على الله عزوجل. وللصفح عن ذكر الفواعل في قوله: (وقيل يا أرض) الخ، وقوله: (وقضى الامر) وقوله: (وقيل بعدا) الخ، في الاية وجه آخر مشترك وهو أن هذه الامور العظيمة الهائلة المدهشة لن يقدر عليها إلا الواحد القاهر الذى لا شريك له في أمره فلا يذهب الوهم إلى غيره لو لم يذكر على فعله فما هو إلا فعله ذكر أم لم يذكر. ولمثل هذه النكتة حذف فاعل (غيض الماء) وهو الارض، وفاعل (استوت على الجودى) وهو السفينة، ولم يعين القوم الظالمون بأنهم قوم نوح، ولا الناجون بأنهم نوح عليه السلام ومن معه في السفينة فإن الاية بلغت في بلاغتها العجيبة من حيث سياق القصة مبلغا ليس فيه الا سماء تنزل امطارها، وارض انفجرت بعيونها وانغمرت بالماء وسفينة تجرى في امواجه، وامر مقضى، وقوم ظالمون هم قوم نوح وامر الهى بوعد القوم بالهلاك فلو غيض الماء فإنما تغيضه الارض، ولو استقر شئ واستوى فإنما هي السفينة تستقر على الارض كما انه لو قيل: يا ارض ابلعى ماءك ويا سماء اقلعي
[ 232 ]
وقيل: بعدا للقوم الظالمين فإنما القائل هو الله عز اسمه والقوم الظالمون هم المقضى عليهم بالعذاب، ولو قيل: قضى الامر فإنما القاضى هو الله سبحانه، والامر هو ما وعده نوحا ونهاه ان يراجعه في ذلك وهو انهم مغرقون، ولو قيل للسماء: اقلعي
بعد ما قيل للارض: ابلعى ماءك فإنما يراد اقلاعها وامساكها ماءها. ففى الاية الكريمة اجتماع عجيب من اسباب الايجاز وتوافق لطيف فيما بينها كما أن الاية واقفة على موقف عجيب من بلاغة القرآن المعجزة يبهر العقول ويدهش الالباب وان كانت الايات القرآنية كلها معجزة في بلاغتها. وقد اهتم بأمرها رجال البلاغة وعلماء البيان فغاصوا لجى بحرها واخرجوا ما استطاعوا نيله من لئاليها، وما هو - وقد اعترفوا بذلك - الا كغرفة من بحر أو حصاة من بر. قوله تعالى: (ونادى نوح ربه فقال رب ان ابني من أهلى وان وعدك الحق وأنت احكم الحاكمين) دعاء نوح عليه السلام لابنه الذى تخلف عن ركوب السفينة وقد كان آخر عهده به يوم ركب السفينة فوجده في معزل فناداه وامره بركوب السفينة فلم يأتمر ثم حال بينهما الموج فوجد نوح عليه السلام وهو يرى انه مؤمن بالله من اهله وقد وعده الله بإنجاء اهله. ولما به من الوجد والحزن رفع صوته بالدعاء كما يدل عليه قوله تعالى: (ونادى نوح ربه) ولم يقل: سأل أو قال أو دعا، ورفع الصوت بالاستغاثة من المضطر الذى اشتد به الضر وهاج به الوجد امر طبعي. والدعاء اعني نداء نوح عليه السلام ربه في ابنه وان ذكر في القصة بعد ذكر انجاز غرق القوم وظاهره كون النداء بعد تمام الامر واستواء الفلك لكن مقتضى ظاهر الحال ان يكون النداء بعد حيلولة الموج بينهما وعلى هذا فذكره بعد ذكر انقضاء الطوفان انما هو لمكان العناية ببيان جميع ما في القصة من الهيئة الهائلة في محل واحد لتكميل تمثيل الواقعة ثم الاخذ ببيان بعض جهاته الباقية. وقد كان عليه السلام رسولا احد الانبياء أولى العزم عالما بالله عارفا بمقام ربه بصيرا بموقف نفسه في العبودية، والظرف ظهرت فيه آية الربوبية والقهر الالهى
[ 233 ]
اكمل ظهورها فأغرقت الدنيا واهلها، ونودى من ساحة العظمة والكبرياء على الظالمين بالبعد، فأخذ نوح عليه السلام يدعو لابنه والظرف هذا الظرف لم يجترء عليه السلام - على ما يقتضيه ادب النبوة - على ان يسأل ما يريده من نجاة ابنه بالتصريح، بل اورد القول كالمستفسر عن حقيقة الامر، وابتدر بذكر ما وعده الله من نجاة اهله حين أمره أن يجمع الناجين معه في السفينة فقال له: (احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك). وكان أهله - غير امرإته - حتى ابنه هذا مؤمنين به ظاهرا ولو لم يكن ابنه هذا على ما كان يراه نوح عليه السلام مؤمنا لم يدعه البتة إلى ركوب السفينة فهو عليه السلام الداعي على الكافرين السائل هلاكهم بقوله: (رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا) فقد كان يرى ابنه هذا مؤمنا ولم يكن مخالفته لامر أبيه إذ أمره بركوب السفينة كفرا أو مؤديا إلى الكفر وانما هي معصية دون الكفر. ولذلك كله قال عليه السلام: (رب إن ابني من أهلى وإن وعدك الحق) فذكر وعد ربه وضم إليه أن ابنه من أهله - على ما في الكلام من دلالة (ربى) على الاسترحام، ودلالة الاضافة في (ابني) على الحجة في قوله: (من أهلى) ودلالة التأكيد بأن ولام الجنس في قوله: (وإن وعدك الحق) على أداء حق الايمان. وكانت الجملتان: (إن ابني من أهلى) (وإن وعدك الحق) ينتجان بانضمام بعضهما إلى بعض الحكم بلزوم نجاة ابنه لكنه عليه السلام لم يأخذ بما ينتجه كلامه من الحكم أدبا في مقام العبودية فلا حكم إلا لله بل سلم الحكم الحق والقضاء الفصل إلى الله سبحانه فقال: (وأنت أحكم الحاكمين). فالمعنى: رب إن ابني من أهلى، وان وعدك حق كل الحق، وان
ذلك يد على أن لا تأخذه بعذاب القوم بالغرق ومع ذلك فالحكم الحق اليك فأنت أحكم الحاكمين كأنه عليه السلام يستوضح ما هو حقيقة الامر ولم يذكر نجاة ابنه ولا زاد على هذا الذى حكاه الله عنه شيئا وسيوافيك بيان ذلك. قوله تعالى: (قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن
[ 234 ]
ما ليس لك به علم) الخ. بين سبحانه لنوح عليه السلام وجه الصواب فيما ذكره بقوله: (إن ابني من أهلى وان وعدك) الخ، وهو يستوجب به نجاة ابنه فقال تعالى: (إنه ليس من أهلك) فارتفع بذلك اثر حجته. والمراد بكونه ليس من اهله - والله اعلم - أنه ليس من اهله الذين وعده الله بنجاتهم لان المراد بالاهل في قوله: (وأهلك إلا من سبق عليه القول) الاهل الصالحون، وهو ليس بصالح وان كان ابنه ومن أهله بمعنى الاختصاص، ولذلك علل قوله: (انه ليس من اهلك) بقوله: (إنه عمل غير صالح). فإن قلت: لازم ذلك ان يكون امرأته الكافرة من اهله لانها انما خرجت من الحكم بالاستثناء وهى داخلة موضوعا في قوله: (وأهلك) ويكون ابنه ليس من اهله وخارجا موضوعا لا بالاستثناء وهو بعيد. قلت: المراد بالاهل في قوله: (وأهلك الا من سبق عليه القول) هم الاهل بمعنى الاختصاص وبالمستثنى - من سبق عليه القول - غير الصالحين ومصداقه امرأته وابنه هذا، واما الاهل الواقع في قوله هذا: (إنه ليس من اهلك) فهم الصالحون من المختصين به عليه السلام طبقا لما وقع في قوله: (رب ان ابني من اهلي) فإنه عليه السلام لا يريد بالاهل في قوله هذا غير الصالحين من اولي الاختصاص وإلا شمل امرأته وبطلت حجته فافهم ذلك. فهذا هو الظاهر من معنى الاية، ويؤيده بعض ما ورد عن أئمة أهل البيت
عليهم السلام مما سيأتي في البحث الروائي التالى ان شاء الله. وذكروا في تفسير الاية معان أخر: منها: ان المراد أنه ليس على دينك فكأن كفره أخرجه عن ان يكون له أحكام اهله. ونسب إلى جماعة من المفسرين. وفيه انه في نفسه معنى لا بأس به إلا انه غير مستفاد من سياق الاية لان الله سبحانه ينفى عنه الاهلية بالمعنى الذى كان يثبتها له به نوح عليه السلام ولم يكن نوح يريد بأهليته انه مؤمن غير كافر بل انما كان يريد انه اهله بمعنى الاختصاص والصلاح وان كان لازمه الايمان. اللهم الا ان يرجع إلى المعنى المتقدم.
[ 235 ]
ومنها: أنه لم يكن ابنه على الحقيقة وانما ولد على فراشه فقال نوح عليه السلام: إنه ابني على ظاهر الامر فأعلمه الله أن الامر على خلاف ذلك، ونبهه على خيانة امرأته. وينسب إلى الحسن ومجاهد. وفيه: أنه على ما فيه من نسبة العار والشين إلى ساحة الانبياء عليهم السلام، والذوق المكتسب من كلامه تعالى يدفع ذلك عن ساحتهم وينزه جانبهم عن أمثال هذه الاباطيل، أنه ليس مما يدل عليه اللفظ بصراحة ولا ظهور فليس في القصة إلا قوله: (إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) وليس بظاهر فيما تجرؤوا عليه وقوله في امرأة نوح: (امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما) التحريم: 10 وليس إلا ظاهرا في أنهما كانتا كافرتين تواليان أعداء زوجيهما وتسران إليهم بأسرارهما وتستنجدانهم عليهما. ومنها: أنه كان ابن امرأته عليه السلام وكان ربيبه لا ابنه من صلبه. وفيه أنه مما لا دليل عليه من جهة اللفظ. على انه لا يلائم قوله في تعليل انه ليس من اهله: (إنه عمل غير صالح) ولو كان كذلك كان من حق الكلام ان يقال: إنه ابن المرأة.
على ان من المستبعد جدا أن لا يكون نوح عليه السلام عالما بأنه ربيبه وليس بابنه حتى يخاطب ربه بقوله: (إن ابني من اهلي) أو يكون عالما بذلك ويتكلم بالمجاز ويحتج على ربه العليم الخبير بذلك فينبه انه ليس ابنه وإنما هو ربيب. وقوله: (إنه عمل غير صالح) ظاهر السياق أن الضمير لابن نوح عليه السلام فيكون هو العمل غير الصالح، وعده عملا غير صالح نوع من المبالغة نحو زيد عدل أي ذو عدل، وقولها: فإنما هي إقبال وإدبار، أي ذات إقبال وإدبار. فالمعنى: ان ابنك هذا ذو عمل غير صالح فليس من اهلك الذين وعدتك ان أنجيهم. ويؤيد هذا المعنى قراءة من قرأ: (انه عمل غير صالح) بالفعل الماضي أي عمل عملا غير صالح. وذكر بعضهم: ان الضمير راجع إلى سؤال نوح عليه السلام المفهوم من قوله: (رب ان ابني من اهلي) أي ان سؤالك نجاة ابنك عمل غير صالح لانه سؤال لما ليس لك به علم ولا ينبغى لنبى ان يخاطب ربه بمثل ذلك.
[ 236 ]
وهو من اسخف التفسير فإنه معنى لا يلائم شيئا من الجملتين المكتنفتين به لا قوله: (انه ليس من اهلك) ولا قوله: (فلا تسألني ما ليس لك به علم) وهو ظاهر، ولو كان كذلك كان من حق الكلام أن يتقدم على قوله: (انه ليس من اهلك) ويتصل بقول نوح عليه السلام. على انك عرفت ان قول نوح عليه السلام: (رب إن ابني من اهلي) الخ، لا يتضمن سؤالا وإنما كان يسوقه - لو جرى في كلامه - إلى السؤال لكن العناية الالهية حالت بينه وبين السؤال. وقوله: (فلا تسألن ما ليس لك به علم) كأن قول نوح عليه السلام: (رب إن ابني من اهلي وإن وعدك الحق) في مظنة أن يسوقه إلى سؤال نجاة ابنه وهو لا يعلم
انه ليس من اهله فأخذته العناية الالهية، وحال التسديد الغيبي بينه وبين السؤال فأدركه النهى بقوله: (لا تسألن ما ليس لك به علم) بتفريع النهى على ما تقدم أي فإذ ليس من اهلك لكونه عملا غير صالح وأنت لا سبيل لك إلى العلم بذلك فإياك أن تبادر إلى سؤال نجاته لانه سؤال ما ليس لك به علم. والنهى عن السؤال بغير علم لا يستلزم تحقق سؤال ذلك منه عليه السلام لا مستقلا ولا في ضمن قوله: (رب إن اابنى من اهلي) لان النهى عن الشى لا يستلزم الارتكاب قبلا، وقد قال تعالى: (لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم) الحجر: 88 فنهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حب الدنيا والافتتان بزينتها وحاشاه عن ذلك. وإنما يفتقر النهى في صحة تعلقه بفعل م ا ان يكون فعلا اختياريا يمكن ان يبتلى به المكلف، وما نهى عنه الانبياء عليهم السلام على هذه الصفة وإن كانوا ذوى عصمة الهية وتسديد غيبي، فإن من العصمة والتسديد ان يراقبهم الله سبحانه في اعمالهم وكلما اقتربوا مما من شأنه أن يزل فيه الانسان نبههم على وجه الصواب ويدعوهم إلى السداد والتزام طريق العبودية، قال تعالى: (ولو لا ان ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لاذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا) أسرى: 75 فأنبأ تعالى أنه هو الذى ثبته ولم يدعه يقترب من الركون إليهم فضلا عن نفس الركون.
[ 237 ]
وقال تعالى: (ولو لا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون الا أنفسهم وما يضرونك من شئ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) النساء: 113. ومن الدليل على أن النهى - (فلا تسألن) الخ - نهى عما لم يقع بعد قول نوح عليه السلام بعد استماع هذا النهى: (رب إنى أعوذ بك أن أسألك ما ليس لى به
علم) ولو كان سأل شيئا لقيل: أعوذ بك من سؤالي ذلك ليفيد المصدر المضاف إلى المعمول التحقق والارتكاب. ومن الدليل أيضا على انه عليه السلام لم يسأل ذلك تعقيب قوله: (فلا تسألن ما ليس لك به علم) بقوله: (انى اعظك ان تكون من الجاهلين) فإن معناه: انى انصح لك في القول ان لا تكون بسؤالك ذلك من الجاهلين، ولو كان نوح سأل ذلك لكان من الجاهلين لانه سأل ما ليس له به علم. فإن قلت: إنه تعالى قال: (ان تكون من الجاهلين) أي ممن استقرت فيه صفة الجهل، و استقرارها إنما يكون بالتكرار لا بالمرة والدفعة، وبذلك يعلم أنه سأل ما سأل وتحقق منه الجهل مرة وإنما وعظه الله تعالى بما وعظ لئلا يعود إلى مثله فيتكرر منه ذلك فيدخل في زمرة الجاهلين. قلت: زنة الفاعل كجاهل لا تدل على الاستقرار والتكرر وإنما تفيده الصفة المشبهة كجهول على ما ذكروه، ويشهد لذلك قوله تعالى في قصة البقرة: (قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) البقرة: 67، وقوله في قصة يوسف: (وإن لا تصرف عنى كيدهن أصب اليهن وأكن من الجاهلين) يوسف: 33 وقوله خطابا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين) الانعام: 35. وأيضا لو كان المراد من النهى عن السؤال أن لا يتكرر منه ذلك بعد ما وقع مرة لكان الانسب أن يصرح بالنهي عن العود إلى مثله دون النهى عن أصله كما وقع في نظير المورد من قوله تعالى: (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم - إلى ان قال - يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا) النور: 17.
[ 238 ]
قوله تعالى: (قال رب إنى أعوذ بك أن أسألك ما ليس لى به علم وإلا
تغفر لى وترحمني أكن من الخاسرين) لما تبين لنوح عليه السلام أنه لو ساقه طبع الخطاب الذى خاطب به ربه إلى السؤال كان سائلا ما ليس له به علم وكان من الجاهلين وان عناية الله حالت بينه وبين الهلكة، شكرربه فاستعاذ بمغفرته ورحمته عن ذلك السؤال المخسر فقال: (رب إنى أعوذ بك أن أسألك ما ليس لى به علم). والكلام في الاستعاذة مما لم يقع بعد من الامور المهلكة والمعاصي الموبقة كالنهي عما لم يقع من الذنوب والاثام وقد تقدم الكلام فيه وقد امر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالاستعاذة من الشيطان وهو معصوم لا سبيل للشيطان إليه، قال تعالى: (قل أعوذ برب الناس - إلى ان قال - من شر الوسواس الخناس الذى يوسوس في صدور الناس) الناس: 5 وقال: (وأعوذ بك رب أن يحضرون) المؤمنون: 98 والوحى مصون عن مس الشياطين كما قال تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم) الجن: 28. وقوله: (وإلا تغفر لى وترحمني أكن من الخاسرين) كلام صورته صورة التوبة وحقيقته الشكر على ما أنعم الله عليه من التعليم والتأديب. أما صورة توبته فإن في ذلك رجوعا إلى ربه تعالى بالاستعاذة ولازمها طلب مغفرة الله ورحمته أي ستره على الانسان ما فيه زلته وهلاكته وشمول عنايته لحاله وقد تقدم في أواخر الجزء السادس من الكتاب بيان أن الذنب أعم من مخالفة الامر التشريعي بل كل وبال وأثر سيئ الانسان بوجه، وأن المغفرة أعم من الستر على المعصية المعروفة عند المتشرعة بل كل ستر إلهى يسعد الانسان ويجمع شمله. وأما حقيقة الشكر فإن العناية الالهية التى حالت بينه وبين السؤال الذى كان يوجب دخوله في زمرة الجاهلين وعصمته ببيان وجه الصواب كانت سترا إلهيا على زلة في طريقه ورحمة ونعمة أنعم الله سبحانه بها عليه فقوله عليه السلام: (وإلا تغفر لى وترحمني أكن من الخاسرين) أي إن لم تعذنى من الزلات لخسرت، ثناء
وشكر لصنعه الجميل.
[ 239 ]
قوله تعالى: (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك) الخ، السلام هو السلامة أو التحية غير ان ذكر مس العذاب في آخر الاية يؤيد كون المراد به في صدرها السلامة من العذاب وكذا تبديل البركة في آخر الاية إلى التمتع يدل على ان المراد بالبركات ليس مطلق النعم وأمتعة الحياة بل النعم من حيث تسوق الانسان إلى الخير والسعادة والعاقبة المحمودة. فقوله: (قيل - ولم يذكر القائل وهو الله سبحانه للتعظيم - يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك) معناه - والله أعلم - يا نوح انزل مع سلامة من العذاب - الطوفان - ونعم ذوات بركات وخيرات نازلة منا عليك، أو انزل بتحية وبركات نازلة منا عليك. وقوله: (وعلى امم ممن معك) معطوف على قوله: (عليك) وتنكير أمم يدل على تبعيضهم لان من الامم من يذكره تعالى بعد في قوله: (وأمم سنمتعهم). والخطاب أعنى قوله تعالى: (يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك) إلى آخر الاية بالنظر إلى ظرف صدوره وليس وقتئذ متنفس على وجه الارض من انسان أو حيوان وقد أغرقوا جميعا ولم يبق منهم إلا جماعة قليلة في السفينة وقد رست واستوت على الجودى، وقد قضى أن ينزلوا إلى الارض فيعمروها ويعيشوا فيها إلى حين. خطاب عام شامل للبشر من لدن خروجهم منها إلى يوم القيامة نظير ما صدر من الخطاب الالهى يوم أهبط آدم عليه السلام من الجنة إلى الارض وقد حكاه الله تعالى في موضع بقوله: (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين - إلى أن قال - قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى
فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة: 39 وفي موضع آخر بقوله: (قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون) الاعراف: 25. وهذا الخطاب خطاب ثان مشابه لذاك الخطاب الاول موجه الى نوح عليه السلام ومن معه من المؤمنين - وإليهم ينتهى نسل البشر اليوم - متعلق بهم وبمن يلحق بهم
[ 240 ]
من ذراريهم إلى يوم القيامة، وهو يتضمن تقدير حياتهم الارضية والاذن في نزولهم إليها واستقرارهم فيها وإيوائهم إياها. وقد قسم الله هؤلاء المأذون لهم قسمين فعبر عن إذنه لطائفة منهم بالسلام والبركات وهم نوح عليه السلام وأمم ممن معه، ولطائفة أخرى بالتمتيع، وعقب التمتيع بمس العذاب لهم كما كلمتي السلام والبركات لا تخلوان من بشرى الخير والسعادة بالنسبة إلى من تعلقتا به. فقد بان من ذلك أن الخطاب بالهبوط في هذه الاية مع ما يرتبط به من سلام وبركات وتمتيع موجه إلى عامة البشر من حين هبوط أصحاب السفينة إلى يوم القيامة، ووزانه وزان خطاب الهبوط الموجه إلى آدم وزوجته عليهما السلام، وفي هذا الخطاب إذن في الحياة الارضية ووعد لمن أطاع الله سبحانه ووعيد لمن عصاه كما أن في ذلك الخطاب ذلك طابق النعل بالنعل. وظهر بذلك أن المراد بقوله: (وعلى أمم ممن معك) الامم الصالحون من أصحاب السفينة ومن سيظهر من نسلهم من الصالحين، والظاهر على هذا أن يكون (من) في قوله (ممن معك) ابتدائية لا بيانية، والمعنى وعلى أمم يبتدى تكونهم ممن معك، وهم أصحاب السفينة والصالحون من نسلهم. وظاهر هذا المعنى أن يكون أصحاب السفينة كلهم سعداء ناجين، والاعتبار
يساعد ذلك فإنهم قد محصوا بالبلاء تمحيصا وآثروا ما عند الله من زلفى وقد صدق الله سبحانه إيمانهم مرتين في أثناء القصة حيث قال عز من قائل: (إلا من قد آمن) آية: 36 من السورة، وقال: (ومن آمن وما آمن معه إلا قليل) آية: 40 من السورة. وقوله: (وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) كأنه مبتدء لخبر محذوف والتقدير: وممن معك أمم أو وهناك أمم سنمتعهم الخ، وقد أخرجهم الله سبحانه من زمرة المخاطبين بخطاب الاذن فلم يقل: ومتاع لامم آخرين سيعذبون طردا لهم من موقف الكرامة، فأخبر أن هناك أمما آخرين سنمتعهم ثم نعذبهم وهم غير مأذون لهم في التصرف في أمتعة الحياة إذن كرامة وزلفى. وفي الاية جهات من تعظيم القائل لا تخفى كالبناء للمفعول في (قيل) وتخصيص نوح
[ 241 ]
عليه السلام بخطاب الهبوط والتكلم مع الغير في قوله: (منا) في موضعين (سنمتعهم) وغير ذلك. وظهر أيضا: أن ما فسروا به قوله: (على أمم ممن معك) إن معناه: على أمم من ذرية من معك ليس على ما ينبغى مع ما فيه من خروج من معه من الخطاب وكذا قول من قال: يعنى بالامم سائر الحيوان الذين كانوا معه لان الله جعل فيهم البركة. وفساده أظهر. قوله تعالى: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك) أي هذه القصص أو هذه القصة من أنباء الغيب نوحيها اليك. وقوله: (ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا) أي كانت وهى على محوضة الصدق والصحة مجهولة لك ولقومك من قبل هذا، والذى عند أهل الكتاب منها محرف مقلوب عن وجه الصواب كما سيوافيك ما في التوراة الحاضرة من قصته عليه السلام.
وقوله: (فاصبر إن العاقبة للمتقين) أمر منتزع عن تفصيل القصة أي إذا علمت ما آل إليه أمر نوح عليه السلام وقومه من هلاك قومه ونجاته ونجاة من معه من المؤمنين وقد ورثهم الله الارض على ما صبروا، ونصر نوحا على أعدائه على ما صبر فاصبر على الحق فإن العاقبة للمتقين، وهم الصابرون في جنب الله سبحانه. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس قال: إن نوحا عليه السلام كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه قد مات ثم يخرج فيدعوهم حتى إذا أيس من إيمان قومه جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكأ على عصا فقال: يا بنى أنظر هذا الشيخ لا يغرنك قال: يا أبت أمكنى من العصا ثم
[ 242 ]
أخذ العصا ثم قال: ضعني في الارض فوضعه فمشى إليه فضربه فشجه موضحة في رأسه وسالت الدماء. قال نوح عليه السلام: رب قد ترى ما يفعل بى عبادك فإن يكن لك في عبادك حاجة فاهدهم، وإن يكن غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين فأوحى الله إليه وآيسه من إيمان قومه وأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن قال: يا نوح إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون يعنى لا تحزن عليهم واصنع الفلك. قال: يا رب وما الفلك ؟ قال: بيت من خشب يجرى على وجه الماء فأغرق أهل معصيتى وأطهر أرضى منهم. قال: يا رب وأين الماء ؟ قال: إنى على ما أشاء قدير. وفي الكافي بإسناده عن المفضل قال: كنت عند أبى عبد الله عليه السلام بالكوفة أيام قدم على أبى العباس فلما انتهينا إلى الكناسة قال: ههنا صلب عمى زيد رحمه الله، ثم مضى حتى انتهى إلى طاق الزياتين وهو آخر السراجين فنزل وقال: انزل
فإن هذا الموضع كان مسجد الكوفة الاول الذى كان خطه آدم وأنا أكره أن أدخله راكبا. قلت: فمن غيره عن خطته ؟ قال، أما أول ذلك فالطوفان في زمن نوح ثم غيره أصحاب كسرى والنعمان ثم غيره بعد زياد بن أبى سفيان فقلت: وكانت الكوفة ومسجدها في زمن نوح ؟ فقال لى: نعم يا مفضل وكان منزل نوح وقومه في قرية على منزل من الفرات مما يلى غربي الكوفة. قال: وكان نوح رجلا نجارا فجعله الله عزوجل نبيا وانتجبه، ونوح اول من عمل سفينة تجرى على ظهر الماء. قال: ولبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله عزوجل فيهزءون به ويسخرون منه فلما رأى ذلك منهم دعا عليهم فقال: رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا، فأوحى الله عزوجل إلى نوح أن اصنع سفينة وأوسعها وعجل عملها فعمل نوح سفينة في مسجد الكوفة بيده، فأتى بالخشب من بعد حتى فرغ منها. قال المفضل: ثم انقطع حديث ابى عبد الله عليه السلام عند زوال الشمس فقام
[ 243 ]
أبو عبد الله عليه السلام فصلى الظهر والعصر ثم انصرف من المسجد فالتفت عن يساره وأشار بيده إلى موضع دار الدارين وهى موضع دار ابن حكيم وذلك فرات اليوم فقال: يا مفضل وههنا نصبت أصنام قوم نوح: يغوث ويعوق ونسر. ثم مضى حتى ركب دابته. فقلت: جعلت فداك في كم عمل نوح سفينته ؟ قال: في دورين. قلت: وكم الدوران ؟ قال: ثمانين (1) سنة. قلت: فإن العامة يقولون عملها في خمس مائة سنة ؟ فقال: كلا. كيف ؟ والله يقول: (ووحينا) قال: قلت: فأخبرني عن قول الله
عزوجل: (حتى إذا جاء امرنا وفار التنور) فإين كان موضعه ؟ وكيف كان ؟ فقال: كان التنور في بيت عجوز مؤمنة في دبر قبلة ميمنة المسجد. قلت له: فأين ذلك ؟ قال: موضع زاوية باب الفيل اليوم. ثم قلت له: وكان بدؤ خروج الماء من ذلك التنور ؟ فقال: نعم إن الله عزوجل أحب أن يرى قوم نوح آية ثم إن الله تبارك وتعالى ارسل عليهم المطر يفيض فيضا والعيون كلهن فيضا فغرقهم الله وأنجا نوحا ومن معه في السفينة - الحديث. أقول: والرواية على طولها غير متعلقة بالتفسير غير أنا أوردناها لتكون كالانموذجة من روايات كثيرة وردت في هذه المعاني من طرق الشيعة وأهل السنة ولتكون عونا لفهم قصص الايات من طريق الروايات. وفي الرواية استفادة التعجيل في صنع السفينة من قوله تعالى: (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا) الاية، وفي الرواية نسبة زياد إلى ابى سفيان ولعل الوارد في لفظ الامام (زياد) فاضيف إليه (ابن ابى سفيان) في لفظ بعض الرواة. وفيه بإسناده عن ابى رزين الاسدي عن امير المؤمنين عليه السلام قال: إن نوحا عليه السلام لما فرغ من السفينة وكان ميعاده فيما بينه وبين ربه في إهلاك قومه أن يفور التنور ففار التنور في بيت امرأة فقالت: إن التنور قد فار فقام إليه فختمه فقام الماء وأدخل من اراد أن يدخل وأخرج من اراد أن يخرج ثم جاء إلى
(1) ثمانون ظ. (*)
[ 244 ]
خاتمه فنزعه، يقول الله عزوجل: ففتحنا ابواب السماء بماء منهمر وفجرنا الارض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر. قال: وكان نجره في وسط مسجدكم. ولقد نقص عن ذرعه سبعمائة ذراع.
أقول: وكون فوران التنور علامة له عليه السلام يعلم به اقتراب الطوفان من الوقوع واقع في عدة من روايات الخاصة والعامة وسياق الاية: (فلما جاء امرنا وفار التنور قلنا احمل) الاية، لا يخلو من ظهور في كونه ميعادا. وفيه بإسناده عن اسماعيل الجعفي عن ابى جعفر عليه السلام قال: كان شريعة نوح أن يعبد الله بالتوحيد والاخلاص وخلع الانداد وهى الفطرة التى فطر الناس عليها وأخذ الله ميثاقه على نوح والنبيين أن يعبدوا الله تبارك وتعالى ولا يشركوا به شيئا وأمر بالصلاة والامر بالمعروف والنهى عن المنكر والحلال والحرام، ولم يفرض عليه أحكام حدود ولا فرائض مواريث فهذه شريعته. فلبث فيهم نوح ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم سرا وعلانية فلما أبوا وعتوا قال: (رب إنى مغلوب فانتصر) فأوحى الله عزوجل إليه: (لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) فذلك قول نوح: (ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) فأوحى الله إليه: أن اصنع الفلك. أقول: ورواه العياشي عن الجعفي مرسلا وظاهر الرواية أن له عليه السلام دعاءين على قومه أحدهما وهو أولهما قوله: (رب إنى مغلوب فانتصر) الواقع في سورة القمر، وثانيهما بعد ما أيأسه الله من إيمان قومه وهو قوله: (رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) الواقع في سورة نوح. وفي معاني الاخبار بإسناده عن حمران عن ابى جعفر عليه السلام في قول الله عز وجل (وما آمن معه إلا قليل) قال: كانوا ثمانية. أقول: ورواه العياشي أيضا عن حمران عنه عليه السلام، وللناس في عددهم أقوال أخر: ستة أو سبعة أو عشرة أو اثنان وسبعون أو ثمانون ولا دليل على شئ منها. وفي العيون بإسناده عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: قال الرضا عليه السلام
[ 245 ]
لما هبط نوح إلى الارض كان نوح وولده ومن تبعه ثمانين نفسا فبنى حيث نزل قرية فسماها قرية الثمانين. أقول: ولا تنافى بين الروايتين لجواز كون ما عدا الثمانية من أهل نوح عليه السلام وقد عمر ما يقرب من الف سنة يومئذ. وفيه بإسناده عن الحسن بن على الوشاء عن الرضا عليه السلام قال: سمعته يقول: قال أبى: قال أبو عبد الله عليه السلام: إن الله عزوجل قال لنوح: (إنه ليس من أهلك) لانه كان مخالفا له، وجعل من اتبعه من أهله. قال: وسألني كيف يقرؤن هذه الاية في ابن نوح ؟ فقلت: يقرؤها الناس على وجهين: إنه عمل غير صالح، وإنه عمل غير صالح. فقال: كذبوا هو ابنه ولكن الله نفاه عنه حين خالفه في دينه. أقول: ولعله عليه السلام يشير بقوله: (وجعل من اتبعه من أهله) إلى قوله تعالى (فنجيناه وأهله من الكرب العظيم) الانبياء: 76. فإن الظاهر أن المراد بأهله جميع من نجا معه. وكأن المراد من قراءة الاية تفسيرها والراوي يشير بايراد القراءتين إلى تفسير من فسر الاية بأن المراد أن امرأة نوح حملت الابن من غيره فألحقه بفراشه ولذلك قرأ بعضهم: (ونادى نوح ابنها) أو (ونادى نوح ابنه) بفتح الهاء مخفف ابنها ونسبوا القراءتين إلى على وبعض الائمة من ولده عليهم السلام. قال في الكشاف: وقرأ على رضى الله عنه (ابنها) والضمير لامرأته، وقرأ محمد بن على وعروة بن الزبير (ابنه) بفتح الهاء يريدان (ابنها) فاكتفيا بالفتحة عن الالف وبه ينصر مذهب الحسن قال قتادة: سألته فقال: والله ما كان ابنه فقلت: إن الله حكى عنه (إن ابني من اهلي) وأنت تقول: لم يكن ابنه، وأهل
الكتاب لا يختلفون أنه كان ابنه ! فقال: ومن يأخذ دينه من اهل الكتاب ؟ واستدل بقوله من اهلي ولم يقل: منى. انتهى. واستدلاله بما استدل به سخيف فإن الله وعده بنجاة أهله ولم يعده بنجاة من
[ 246 ]
كان منه حتى يضطر إلى قول: إن ابني منى عند سؤال نجاته، وقد تقدم بيان أن لفظ الايات لا يلائم هذا الوجه. وما ذكر من عدم الخلاف بين أهل الكتاب منظور فيه فإن التوراة ساكتة عن قصة ابن نوح هذا الغريق. وفي الدر المنثور أخرج ابن الانباري في المصاحف وأبو الشيخ عن على رضى الله عنه أنه قرأ: (ونادى نوح ابنها). وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وأبو الشيخ عن ابى جعفر محمد ابن على في قوله: (ونادى نوح ابنه) قال هي بلغة طئ لم يكن ابنه وكان ابن امرأته. أقول: ورواه العياشي في تفسيره عن محمد بن مسلم عنه عليه السلام. وفي تفسير العياشي عن موسى عن العلاء بن سيابة عن ابى عبد الله عليه السلام في قول الله: (ونادى نوح ابنه) قال ليس بابنه إنما هو ابن امرأته وهى لغة طئ يقولون لابن امرأته: ابنه. الحديث. وفيه عن زرارة عن ابى جعفر عليه السلام في قول نوح: (يا بنى اركب معنا) قال: ليس بابنه. قال: قلت: إن نوحا قال: يا بنى ؟ قال: فإن نوحا قال ذلك وهو لا يعلم. أقول: والمعتمد ما تقدم من رواية الوشاء عن الرضا عليه السلام. وفيه عن إبراهيم بن أبى العلاء عن أحدهما عليهما السلام قال: لما قال الله: (يا أرض ابلعى ماءك ويا سماء أقلعى) قالت الارض: إنما أمرت أن أبلع مائى
أنا فقط، ولم أؤمر أن أبلع ماء السماء فبلعت الارض ماءها وبقى ماء السماء فصير بحرا حول الدنيا وفيه عن أبى بصير عن أبى الحسن موسى عليه السلام في حديث ذكر فيه الجودى قال: وهو جبل بالموصل. وفيه عن المفضل بن عمر عن أبى عبد الله عليه السلام (استوت على الجودى) هو
[ 247 ]
فرات الكوفة. أقول: ويؤيد الرواية السابقة روايات أخر. وفيه عن عبد الحميد بن أبى الديلم عن ابى عبد الله عليه السلام قال: لما ركب نوح عليه السلام في السفينة قيل: بعدا للقوم الظالمين. وفي المجمع في قوله تعالى: (قيل يا أرض ابلعى ماءك) الاية، قال: ويروى أن كفار قريش أرادوا ان يتعاطوا معارضة القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفو أذهانهم فلما أخذوا فيما أرادوا سمعوا هذه الاية فقال بعضهم لبعض هذا كلام لا يشبهه شئ من الكلام، ولا يشبه كلام المخلوقين وتركوا ما أخذوا فيه وافترقوا. أبحاث حول قصة نوح في فصول وهى أبحاث قرآنية وروائية وتاريخية وفلسفية 1 - الاشارة إلى قصته: ذكر اسمه عليه السلام في القرآن في بضع وأربعين موضعا يشار فيها إلى شئ من قصته إجمالا أو تفصيلا، ولم تستوف قصته عليه السلام في شئ منها استيفاء على نهج الاقتصاص التاريخي بذكر نسبه وبيته ومولده ومسكنه ونشوئه وشغله وعمره ووفاته ومدفنه وسائر ما يتعلق بحياته الشخصية لما أن القرآن لم ينزل كتاب تاريخ يقتص تواريخ الناس من بر أو فاجر.
وإنما هو كتاب هداية يصف للناس ما فيه سعادتهم، ويبين لهم الحق الصريح ليأخذوا به فيفوزوا في حياتهم الدنيا والاخرة، وربما أشار إلى طرف من قصص الانبياء والامم لتظهر به سنة الله في عباده، ويعتبر به من شملته العناية ووفق للكرامة، وتتم به الحجة على الباقين. وقد فصلت قصة نوح عليه السلام في ست من السور القرآنية وهى سورة الاعراف وسورة هود، وسورة المؤمنون، وسورة الشعراء، وسورة القمر، وسورة نوح
[ 248 ]
وأكثرها تفصيلا سورة هود التى ذكرت قصته عليه السلام فيها في خمس وعشرين آية (25 - 49). 2 - قصته عليه السلام في القرآن. بعثه وارساله: كان الناس بعد آدم عليه السلام يعيشون أمة واحدة على بساطة وسذاجة، وهم على الفطرة الانسانية حتى فشا فيهم روح الاستكبار وآل إلى استعلاء البعض على البعض تدريجيا واتخاذ بعضهم بعضا أربابا وهذه هي النواة الاصلية التى لو نشأت واخضرت وأينعت لم تثمر إلا دين الوثنية والاختلاف الشديد بين الطبقات الاجتماعية باستخدام القوى للضعيف، واسترقاق العزيز واستدراره للذليل، وحدوث المنازعات والمشاجرات بين الناس. فشاع في زمن نوح عليه السلام الفساد في الارض، وأعرض الناس عن دين التوحيد وعن سنة العدل الاجتماعي وأقبلوا على عبادة الاصنام، وقد سمى الله سبحانه منها ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا (سورة نوح). وتباعدت الطبقات فصار الاقوياء بالاموال والاولاد يضيعون حقوق الضعفاء الجبابرة يستضعفون من دونهم ويحكمون عليهم بما تهواه أنفسهم (الاعراف هود - نوح).
فبعث الله نوحا عليه السلام وأرسله إليهم بالكتاب و الشريعة يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه وخلع الانداد والمساواة فيما بينهم (البقرة آية 213) بالتبشير والانذار. دينه وشريعته عليه السلام: كان عليه السلام يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه ورفض الشركاء (كما يظهر من جميع قصصه القرآنية) والاسلام لله (كما يظهر من سورتي نوح ويونس وسورة آل عمران آية 19) والامر بالمعروف والنهى عن المنكر (كما يظهر من سورة هود آية 27) والصلاة (كما يظهر من آية 103 من سورة النساء وآية 8 من سورة الشورى)
[ 249 ]
والمساواة والعدالة وأن لا يقربوا الفواحش والمنكرات وصدق الحديث والوفاء بالعهد (سورة الانعام آية 151 - 152) وهو عليه السلام أول من حكى عنه في القرآن التسمية باسم الله في الامور الهامة (سورة هود آية 41). اجتهاده عليه السلام في دعوته: وكان عليه السلام يدعو قومه إلى الايمان بالله وآياته، ويبذل في ذلك غاية وسعه فيندبهم إلى الحق ليلا ونهارا وإعلانا وإسرارا فلا يجيبونه إلا بالعناد والاستكبار وكلما زاد في دعائهم زادوا في عتوهم وكفرهم، ولم يؤمن به غير أهله وعدة قليلة من غيرهم حتى أيس من إيمانهم وشكا ذلك إلى ربه وطلب منه النصر (سورة نوح والقمر والمؤمنون). لبثه في قومه: لبث عليه السلام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله سبحانه فلم يجيبوه إلا بالهزء والسخرية ورميه بالجنون وأنه يقصد به أن يتفضل عليهم حتى استنصر ربه (سورة العنكبوت) فأوحى إليه ربه أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن وعزاه فيهم (سورة هود) فدعا عليهم بالتبار والهلاك، وأن يطهر الله الارض منهم عن آخرهم (سورة نوح) فأوحى الله إليه أن اصنع الفلك بأعيننا
ووحينا (سورة هود). صنعه عليه السلام الفلك: أمره الله تعالى أن يصنع الفلك بتأييده سبحانه وتسديده فأخذ في صنعها وكان القوم يمرون عليه طائفة بعد طائفة فيسخرون منه وهو يصنعها على بسيط الارض من غير ماء، ويقول عليه السلام: إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم (سورة هود) وقد نصب الله لنزول العذاب علما وهو ان يفور الماء من التنور (سورتا هود و المؤمنون).
[ 250 ]
نزول العذاب ومجئ الطوفان: حتى إذا تمت صنعة الفلك وجاء أمر الله وفار التنور أوحى الله تعالى إليه ان يحمل في السفينة من كل من الحيوان زوجين اثنين وأن يحمل اهله إلا من سبق عليه القول الالهى بالغرق وهو امرأته الخائنة وابنه الذى تخلف عن ركوب السفينة، وأن يحمل الذين آمنوا (سورتا هود والمؤمنون) فلما حملهم وركبوا جميعا فتح الله أبواب السماء بماء منهمر وفجر الارض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر (سورة القمر) وعلا الماء وارتفعت السفينة عليه وهى تسير في موج كالجبال (سورة هود) فأخذ الناس الطوفان وهم ظالمون وقد امره الله تعالى إذا استوى هو ومن معه على الفلك ان يحمد الله على ما نجاه من القوم الظالمين وان يسأله البركة في نزوله فيقول: الحمد لله الذى نجانا من القوم الظالمين، ويقول: رب أنزلنى منزلا مباركا وأنت خير المنزلين. قضاء الامر ونزوله ومن معه إلى الارض: فلما عم الطوفان وأغرق الناس (كما يظهر من سورة الصافات آية 77) أمر الله الارض أن تبلع ماءها والسماء أن تقلع وغيض الماء واستوت السفينة على جبل الجودى وقيل بعدا للقوم الظالمين، وأوحى إلى نوح عليه السلام أن اهبط إلى الارض
بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك فلا يأخذهم بعد هذا طوفان عام، ومنهم أمم سيمتعهم الله بأمتعة الحياة ثم يمسهم عذاب أليم فخرج هو ومن معه ونزلوا الارض يعبدون الله بالتوحيد والاسلام، وتوارثت ذريته عليه السلام الارض وجعل الله ذريته هم الباقين (سورتا هود والصافات). قصة ابن نوح الغريق: كان نوح عليه السلام عند ما ركب السفينة لم يركبها واحد من أبنائه، وكان لا يصدق أباه في أن من تخلف عنها فهو غريق لا محالة فرآه ابوه وهو في معزل فناداه: يا بنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين فرد على ابيه قائلا: سآوى إلى جبل يعصمني من الماء قال نوح عليه السلام: لا عاصم اليوم من الله إلا من رحم - يريد أهل
[ 251 ]
السفينة - فلم يلتفت الابن إلى قوله وحال بينهما الموج فكان من المغرقين. ولم يكن نوح عليه السلام يعلم منه إبطان الكفر كما كان يعلم ذلك من امرأته ولو كان علم ذلك لم يحزنه أمره وهو القائل في دعائه: (رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) الدعاء نوح: 27 وهو القائل: (فافتح بينى وبينهم فتحا ونجنى ومن معى من المؤمنين) الشعراء: 118 وقد مع قوله تعالى فيما اوحى إليه: (ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) هود: 37. فوجد نوح عليه السلام وحزن فنادى ربه من وجده قائلا: رب إن ابني من أهلى وإن وعدك الحق وعدتني بإنجاء أهلى وأنت احكم الحاكمين لا تجور في حكمك ولا تجهل في قضائك، فما الذى جرى على ابني ؟ فأخذته العناية الالهية وحالت بينه وبين أن يصرح بالسؤال في نجاة ابنه - وهو سؤال لما ليس له به علم - وأوحى الله إليه: يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فإياك أن تواجهني فيه بسؤال
النجاة فيكون سؤالا فيما ليس لك به علم إنى اعظك أن تكون من الجاهلين. فانكشف الامر لنوح عليه السلام والتجأ إلى ربه تعالى قائلا رب إنى أعوذ بك أن أسألك ما ليس لى به علم أسألك أن تشملنى بعنايتك وتستر على بمغفرتك، وتعطف على برحمتك، ولو لا ذلك لكنت من الخاسرين. 3 - خصائص نوح عليه السلام: هو عليه السلام اول اولى العزم سادة الانبياء أرسله الله إلى عامة البشر بكتاب وشريعة فكتابه اول الكتب السماوية المشتملة على شرائع الله، وشريعته اول الشرائع الالهية. وهو عليه السلام الاب الثاني للنسل الحاضر من الانسان إليه ينتهى أنسابهم والجميع ذريته لقوله تعالى: (وجعلنا ذريته هم الباقين) الصافات: 77 وهو عليه السلام أبو الانبياء المذكورين في القرآن ما عدا آدم وإدريس عليهما السلام قال تعالى: (وتركنا عليه في الاخرين) الصافات: 78. وهو عليه السلام اول من فتح باب التشريع وأتى بكتاب وشريعة وكلم الناس
[ 252 ]
بمنطق العقل وطريق الاحتجاج مضافا إلى طريق الوحى فهو الاصل الذى ينتهى إليه دين التوحيد في العالم فله المنة على جميع الموحدين إلى يوم القيامة، ولذلك خصه الله تعالى بسلام عام لم يشاركه فيه أحد غيره فقال عز من قائل: (سلام على نوح في العالمين) الصافات: 79. وقد اصطفاه الله على العالمين (آل عمران آية 33) وعده من المحسنين (الانعام 84 الصافات 80) وسماه عبدا شكورا (أسرى آية 3) وعده من عباده المؤمنين (الصافات 81) وسماه عبدا صالحا (التحريم 10). وآخر ما نقل من دعائه قوله: (رب اغفر لى ولوالدي ولمن دخل بيتى مؤمنا
وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا) نوح: 28. 4 - قصته عليه السلام في التوراة الحاضرة: وحدث (1) لما ابتدأ الناس يكثرون على الارض وولد لهم بنات أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات. فاتخذوا لانفسهم نساء من كل ما اختاروا. فقال الرب لا يدين روحي في الانسان إلى الابد. لزيغانه هو بشر وتكون أيامه مائة وعشرين سنة. كان في الارض طغاة في تلك الايام. وبعد ذلك أيضا إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم. ورأى الرب أن شر الانسان قد كثر في الارض. وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شر ير كل يوم. فحزن الرب أنه عمل الانسان في الارض. وتأسف في قلبه. فقال الرب: أمحو عن وجه الارض الانسان الذى خلقته. الانسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء. لانى حزنت أنى عملتهم. وأما نوح فوجد نعمة في عين الرب. هذه مواليد نوح. كان نوح رجلا بارا كاملا في أجياله - وسار نوح مع الله. وولد نوح ثلاثة بنين ساما وحاما ويافث. وفسدت الارض أمام الله وامتلات الارض ظلما. ورأى الله الارض فإذا هي قد فسدت. إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه على الارض.
(1) الاصحاح السادس من سفر التكوين. (*)
[ 253 ]
فقال الله لنوح نهاية كل بشر قد أتت أمامى. لان الارض امتلات ظلما منهم. فها أنا مهلكهم مع الارض. اصنع لنفسك فلكا من خشب جفر، تجعل الفلك مساكن. وتطليه من داخل ومن خارج بالقار. وهكذا تصنعه. ثلاث مائة ذراع يكون طول الفلك وخمسين ذراعا عرضه وثلاثين ذراعا ارتفاعه. وتصنع كوا للفلك وتكمله إلى حد ذراع من فوق. وتضع باب الفلك في جانبه. مساكن
سفلية ومتوسطة وعلوية تجعله. فها أنا آت بطوفان الماء على الارض لاهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء. كل ما في الارض يموت. ولكن أقيم عهدي معك. فتدخل الفلك انت وبنوك امرأتك ونساء بنيك معك. ومن كل حى من كل ذى جسد اثنين من كل تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك. تكون ذكرا وانثى. من الطيور كأجناسها. ومن البهائم كأجناسها ومن كل دبابات الارض كأجناسها. اثنين من كل تدخل اليك لاستبقائها. وأنت فخذ لنفسك من كل طعام يؤكل واجمعه عندك. فيكون لك ولها طعاما. ففعل نوح حسب كل ما أمره به الله. هكذا فعل. وقال (1) الرب لنوح: ادخل أنت وجميع بنيك إلى الفلك. لانى إياك رأيت بارا لدى في هذا الجيل. من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكرا وانثى. ومن البهائم التى ليست بطاهرة اثنين ذكر وانثى. ومن طيور السماء ايضا سبعة سبعة ذكرا وانثى. لاستبقاء نسل على وجه كل الارض. لانى بعد سبعة ايام ايضا أمطر على الارض اربعين يوما وأربعين ليلة. وأمحو عن وجه الارض كل قائم عملته. ففعل نوح حسب كل ما أمره به الرب. ولما كان نوح ابن ستمائة سنة صار طوفان الماء على الارض. فدخل نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه إلى الفلك من وجه مياه الطوفان. ومن البهائم الطاهرة والبهائم التى ليست بطاهرة ومن الطيور وكل ما يدب على الارض. دخل اثنان اثنان إلى نوح إلى الفلك ذكر وانثى. كما أمر الله نوحا.