تفسير الميزان - السيد الطباطبائي ج 9

تفسير الميزان

السيد الطباطبائي ج 9


[ 1 ]

الميزان في تفسير القرآن 1

[ 3 ]

تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره

[ 4 ]

الميزان في تفسير القران كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره المجلد التاسع منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة

[ 5 ]

بسم الله الرحمن الرحيم (سورة الانفال مدنية وهي خمس وسبعون آيه) بسم الله الرحمن الرحيم يسئلونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين - 1. انما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون - 2. الذين يقيمون الصلوة ومما رزقناهم ينفقون - 3. اولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم - 4. كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون - 5. يجادلونك في الحق بعد ما تبين لهم كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون - 6. (بيان) سياق الايات في السورة يعطي أنها مدنية نزلت بعد وقعة بدر، وهي تقص بعض أخبار بدر، وتذكر مسائل متفرقه تتعلق بالجهاد والغنائم والانفال ونحوها، وامورا اخرى تتعلق بالهجرة، وبها تختتم السورة. قوله تعالى: (يسألونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول) إلى آخر الايه. الانفال جمع نفل بالفتح وهو الزيادة على الشئ، ولذا يطلق النفل والنافلة على التطوع

[ 6 ]

لزيادتة على الفريضة، وتطلق الانفال على ما يسمى فيئا أيضا وهي الاشياء من الاموال التي لا مالك لها من الناس كرؤوس الجبال، وبطون الاودية، والديار الخربة، والقرى التي باد أهلها، وتركة من لا وارث له، وغير ذلك كأنها زيادة على ما ملكه الناس فلم يملكها احد وهي لله ولرسوله، وتطلق على غنائم الحرب كأنها زيادة على ما قصد منها فإن المقصود بالحرب والغزوة الظفر على الاعداء واستئصالهم فإذا غلبوا وظفر بهم فقد حصل المقصود، والاموال التي غنمه المقاتلون والقوم الذين أسروهم زيادة على أصل الغرض. و (ذات) في الاصل مؤنث (ذا) بمعنى الصاحب من الالفاظ اللازمة الاضافة غير أنه كثر استعماله في نفس الشئ بمعنى ما به الشئ هو هو فيقال: ذات الانسان اي ما به الانسان إنسان وذات زيد أي النفس الانسانية الخاصة التي سميت بزيد، وكان الاصل فيها النفس ذات أعمال كذا ثم أفردت بالذكر فقيل ذات الاعمال أو ما يؤدي مؤداه ثم قيل ذات، وكذلك الامر في ذات البين فلكون الخصومة لا تتحقق إلا بين طرفين نسب إليها البين فقيل ذات البين اي الحالة والرابطة السيئة التي هي صاحبة البين فالمراد بقوله: أصلحوا ذات بينكم أي أصلحوا الحالة الفاسدة والرابطة السيئة التي بينكم. وقال الراغب في المفردات: (ذو) على وجهين: أحدهما يتوصل به إلى الوصف بأسماء الاجناس والانواع، ويضاف إلى الظاهر دون المضمر، ويثنى ويجمع، ويقال في التثنية: ذواتاو في الجمع ذوات ولا يستعمل شئ منها إلا مضافا. قال: وقد استعار أصحاب المعاني الذات فجعلوه عبارة عن عين الشئ جوهرا كان أو عرضا واستعملوها مفردة ومضافة إلى المضمر وبالالف واللام، وأجروها مجرى النفس والخاصة فقالوا: ذاتة ونفسه وخاصته وليس ذلك من كلام العرب، والثاني في لفظ ذو لغة لطيئ يستعملونه استعمال (الذي) ويجعل في الرفع والنصب والجر والجمع والتأنيث على لفظ واحد نحو: وبئري ذو حفرت وذو طويت أي التي حفرت والتي طويت انتهى.

[ 7 ]

والذي ذكره من عدم إضافته إلى الضمير منقول عن الفراء ولازمه كون استعماله مضافا إلى الضمير من كلام المولدين والحق أنه قليل لا متروك وقد وقع في كلام علي عليه السلام في بعض خطبه كما في نهج البلاغة. وقد اختلف المفسرون في معنى الآية وموقعها اختلافا شديدا من جهات: من جهة معنى قوله: (يسألونك عن الانفال) وقد نسب إلى أهل البيت (ع) وبعض آخر كعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن مصرف أنهم قرأوا: (يسالونك الانفال) فقيل عن زائدة في القراءة المشهورة، وقيل: بل مقدرة في القراءة الشاذة وقيل: إن المراد بالانفال غنائم الحرب وقيل: غنائم غزوة بدر خاصة بجعل اللام في الانفال للعهد وقيل: الفئ الذي لله والرسول والامام، وقيل: إن الاية منسوخة بآية الخمس وقيل: بل محكمة وقد طالت المشاجرة بينهم كما يعلم بالرجوع إلى مطولات التفاسير كتفسيري الرازي والالوسي وغيرهما. والذي ينبغي أن يقال بالاستمداد من السياق: أن الاية بسياقها تدل على أنه كان بين هؤلاء المشار إليهم بقوله: (يسألونك) تخاصم خاصم به بعضهم بعضا بأخذ كل جانبا من القول لا يرضى به خصمه، والتفريع الذي في قوله: (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) يدل على أن الخصومة كانت في أمر الانفال، ولازم ذلك أن يكون السؤال الواقع منهم الحكي في صدر الاية إنما وقع لقطع الخصومة، كأنهم تخاصموا في أمر الانفال ثم راجعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسألونه عن حكمها لتنقطع بما يجيبه الخصومة وترتفع عما بينهم. وهذا - كما ترى - يؤيد أولا القراءة المشهورة: (يسألونك عن الانفال) فإن السؤال إذا تعدى بمن كان بمعنى استعلام الحكم والخبر، وأما إذا استعمل متعديا بنفسه كان بمعنى الاستعطاف ولا يناسب المقام إلا المعنى الاول. وثانيا: أن الانفال بحسب المفهوم وإن كان يعم الغنيمة والفئ جميعا إلا ان مورد الاية هي الانفال بمعنى غنائم الحرب لاغنائم غزوة بدر خاصة إذ لا وجه للتخصيص فإنهم إذ تخاصموا في غنائم بدر لم يتخاصموا فيها لانها غنائم بدر خاصة بل لانها غنائم مأخوذة من أعداء الدين في جهاد ديني، وهو ظاهر.

[ 8 ]

واختصاص الاية بحسب موردها بغنيمة الحرب لا يوجب تخصيص الحكم الوارد فيها بالمورد، فان المورد لا يخصص، فإطلاق حكم الاية بالنسبة إلى كل ما يسمى بالنفل في محله، وهي تدل على ان الانفال جميعا لله ولرسوله لا يشارك الله ورسوله فيها احد من المؤمنين سواء في ذلك الغنيمة والفئ. ثم الظاهر من قوله: (قل الانفال لله والرسول) وما يعظهم الله به بعد هذه الجملة ويحرضهم على الايمان هو ان الله سبحانه فصل الخصومة بتشريع ملكها لنفسه ولرسوله، ونزعها من ايديهم وهو يستدعي ان يكون تخاصمهم من جهة دعوى طائفة الاخرى ذلك، ففصل الله سبحانه خصومتهم فيها بسلب ملكهم منها وإثبات ملك نفسه ورسوله، وموعظتهم ان يكفوا عن المخاصمة والمشاجرة، وأما قول من يقول: ان الغزاة يملكون ما اخذوه من الغنيمة بالاجماع فأحرى به ان يورد في الفقه دون التفسير. وبالجملة فنزاعهم في الانفال يكشف عن سابق عهد لهم بأن الغنيمة لهم أو ما في معناه غير انه كان حكما مجملا اختلف فيه المتخاصمان وكل يجر النار إلى قرصته، والايات الكريمة تؤيد ذلك. توضيحه: ان ارتباط الايات في السورة والتصريح بقصة وقعة بدر فيها يكشف ان السورة بأجمعها نزلت حول وقعة بدر وبعيدها حتى ان ابن عباس - على ما نقل عنه - كان يسميها سورة بدر، والتي تتعرض لامر الغنيمة من آياتها خمس آيات في مواضع ثلاثة من السورة هي بحسب ترتيب السورة، قوله تعالى: (يسألونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول) الاية، وقوله تعالى: (واعلموا ان ما غنمتم من شئ فان لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ان كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شي قدير)، وقوله تعالى: (ما كان لنبي ان يكون له اسرى حتى يثخن في الارض تريدون عرض الدنيا والله يريد الاخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما اخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله ان الله غفور رحيم). وسياق الاية الثانية يفيد انها نزلت بعد الاية الاولى والايات الاخيرة جميعا

[ 9 ]

لمكان قوله فيها: (ان كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان) فهي نازلة بعد الوقعة بزمان. ثم الايات الاخيرة تدل على انهم كلموا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في امر الاسرى وسألوه ان لا يقتلهم ويأخذ الفدية وفيها عتابهم على ذلك ثم تجويز ان يأكلوا مما غنموا وكأنهم فهموامن ذلك انهم يملكون الغنائم والانفال على إبهام في امره: هل يملكه جميع من حضر الوقعة أو بعضهم كالمقاتلين دون القاعدين مثلا ؟ وهل يملكون ذلك بالسوية فيقسم بينهم كذلك أو يختلفون فيه بالزيادة والنقيصة كأن يكون سهم الفرسان منها ازيد من المشاة أو نحو ذلك. وكان ذلك سبب التخاصم بينهم فتشاجروا في الامر، ورفعوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت الاية الاولى: (قل الانفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) الاية فخطأتهم الاية فيما زعموا انهم مالكوا الانفال بما استفادوا من قوله: (فكلوا مما غنمتم) الاية وأقرت ملك الانفال لله والرسول ونهتهم عن التخاصم والتشاجر، فلما انقطع بذلك تخاصمهم ارجعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم وقسمتها بينهم بالسوية وعزل السهم لعدة من اصحابه لم يحضروا الوقعة ولم يقدم مقاتلا على قاعد، ولا فارسا على ماش ثم نزلت الاية الثانية: (واعلموا أنما غنمتم من شئ فان لله خمسه) الاية بعد حين فأخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما رد إليهم من السهام الخمس وبقي لهم الباقي. هذا ما يتحصل من انضمام الايات المربوطة بالانفال بعضها ببعض. فقوله تعالى (يسالونك عن الانفال) يفيد بما ينضم إليه من قرائن السياق انهم سألوا النبي صلى الله عليه وآله عن حكم غنائم الحرب بعد ما زعموا انهم يملكون الغنيمة، واختلفوا فيمن يملكها، أو في كيفية ملكها وانقسامها بينهم، أو فيهما معا، وتخاصموا في ذلك. وقوله: (قل الانفال لله والرسول) جواب عن مسألتهم وفيه بيان انهم لا يملكونها وإنما هي أنفال يملكها الله ورسوله فيوضع حيثما اراد الله ورسوله وقد قطع ذلك اصل ما نشب بينهم من الاختلاف والتخاصم. ويظهر من هذا البيان ان الاية غير ناسخة لقوله تعالى: (فكلوا مما غنمتم)

[ 10 ]

إلى آخر الاية، وإنما تبين معناها بالتفسير وان قوله (كلوا) ليس بكناية عن ملكهم للغنيمة بحسب الاصل وإنما المراد هو التصرف فيها والتمتع منها إلا ان يمتلكوا بقسمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إياها بينهم. ويظهر ايضا ان قوله تعالى: (واعلموا ان ما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) الايه ليس بناسخ لقوله: (قل الانفال لله والرسول) الايه فإن قوله: (واعلموا انما غنمتم) الاية إنما يؤثر بالنسبة إلى المجاهدين منعهم عن اكل تمام الغنيمة والتصرف فيه إذ لم يكن لهم بعد نزول قوله: (الانفال لله والرسول) إلا ذلك وأما قوله: (الانفال لله والرسول) فلا يفيد إلا كون اصل ملكها لله والرسول من دون ان يتعرض لكيفية التصرف وجواز الاكل والتمتع فلا يناقضه في ذلك قوله: (واعلموا انما غنمتم) الاية حتى يكون بالنسبة إليه ناسخا فيتحصل من مجموع الايات الثلاث: ان اصل الملك في الغنيمة لله والرسول ثم يرجع اربعة اخماسها إلى المجاهدين يأكلونها ويمتلكونها ويرجع خمس منها إلى الله والرسول وذي القربى وغيرهم لهم التصرف فيها والاختصاص بها. ويظهر بالتأمل في البيان السابق ايضا: ان في التعبير عن الغنائم بالانفال وهو جمع نفل بمعنى الزيادة إشارة إلى تعليل الحكم بموضوعه الاعم كأنه قيل: يسألونك عن الغنائم وهي زيادات لا مالك لها من بين الناس وإذا كان كذلك فأجبهم بحكم الزيادات والانفال وقل: الانفال لله والرسول ولازم ذلك كون الغنيمة لله والرسول. وبذلك ربما تأيد كون اللام في لفظ الانفال الاول للعهد وفي الثاني للجنس أو الاستغراق وتبين وجه الاظهار في قوله: (قل الانفال) الاية حيث لم يقل قل هي لله والرسول. ويظهر بذلك ايضا: ان قوله: (قل الانفال لله والرسول) حكم عام يشمل بعمومه الغنيمة وسائر الاموال الزائدة في المجتمع نظير الديار الخالية والقرى البائدة ورؤوس الجبال وبطون الاودية وقطائع الملوك وتركة من لا وارث له أما الانفال بمعنى الغنائم فهي متعلقة بالمقاتلين من المسلمين بعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبقي الباقي تحت ملك الله ورسوله.

[ 11 ]

هذا ما يفيده التأمل في كرائم الايات وللمفسرين فيها اقاويل مختلفة تعلم بالرجوع إلى مطولات التفاسير لا جدوى في نقلها والتعرض المنقض والابرام فيها. قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) إلى آخر الايتين الايتان والتي بعدهما بيان ما يتميز به المؤمنون بحقيقة الايمان ويختصون به من الاوصاف الكريمة والثواب الجزيل بينت ليتأكد به ما يشتمل عليه قوله تعالى: (فاتقوا الله واصلحوا ذات بينكم) إلى آخر الاية. وقد ذكر الله تعالى لهم خمس صفات اختارها من بين جميع صفاتهم التي ذكرها في كلامه لكونها مستلزمة لكرائم صفاتهم على كثرتها وملازمة لحق الايمان، وهي بحيث إذا تنبهوا لها وتأملوها كان ذلك مما يسهل لهم توطين النفس على التقوى وإصلاح ذات بينهم، وإطاعة الله ورسوله. وهاتيك الصفات الخمس هي: وجل القلب عند ذكر الله، وزيادة الايمان عند استماع آيات الله، والتوكل، وإقامه الصلاة والانفاق مما رزقهم الله ومعلوم ان الصفات الثلاث الاول من اعمال القلوب والاخيرتان من اعمال الجوارح وقد روعي في ذكرها الترتيب الذي بينها بحسب الطبع فإن نور الايمان إنما يشرق على القلب تدريجا فلا يزال يشتد ويضاعف حتى يتم ويكمل بحقيقته فأول ما يشرق يتأثر القلب بالوجل والخشية إذا تذكر بالله عند ذكره وهو قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم). ثم لا يزال ينبسط الايمان ويتعرق وينمو ويتفرع بالسير في الايات الدالة عليه تعالى والهادية إلى المعارف الحقة فكلما تأمل المؤمن في شئ منها زادته ايمانا فيقوى الايمان ويشتد حتى يستقر في مرحلة اليقين وهو قوله تعالى: (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا. وإذا زاد الايمان وكمل كمالا عرف عندئذ مقام ربه وموقع نفسه معرفة تطابق واقع الامر وهو أن الامر كله إلى الله سبحانه فإنه تعالى وحده هو الرب الذي إليه يرجع كل شئ فالواجب الحق على الانسان ان يتوكل عليه ويتبع ما يريده منه بأخذه وكيلا في جميع ما يهمه في حياته فيرضى بما يقدر له في مسير الحياة

[ 12 ]

ويجري على ما يحكم عليه من الاحكام ويشرعه من الشرائع فيأتمر بأوامره وينتهي عن نواهيه وهو قوله تعالى: (وعلى ربهم يتوكلون). ثم إذا استقر الايمان على كماله في القلب استوجب ذلك أن ينعطف العبد بالعبودية إلى ربه وينصب نفسه في مقام العبودية وإخلاص الخضوع وهو الصلاة وهي أمر بينه وبين ربه وأن يقوم بحاجة المجتمع في نواقص مساعيهم بالانفاق على الفقراء مما رزقه الله من مال أو علم أو غير ذلك وهو أمر بينه وبين سائر أفراد مجتمعه وهو قوله تعالى: (الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون). وقد ظهر مما تقدم أن قوله تعالى: (زادتهم إيمانا) إشارة إلى الزيادة من حيث الكيفية وهو الاشتداد والكمال دون الكمية وهي الزيادة من حيث عدد المؤمنين كما احتمله بعض المفسرين. قوله تعالى: (اولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم) قضاء منه تعالى بثبوت الايمان حقا فيمن اتصف بما عده تعالى من الصفات الخمس ولذلك أطلق ما ذكره لهم من كريم الاجر في قوله: (لهم درجات عند ربهم) الاية فلهؤلاء من صفات الكمال وكريم الثواب وعظيم الاجر ما لكل مؤمن حقيقي. وأما قوله: (لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم) فالمغفرة هي الصفح الالهي عند ذنوبهم والرزق الكريم ما يرتزقون به من نعم الجنة وقد أراد الله سبحانه بالرزق الكريم الجنة ونعمها في مواضع من كلامه كقوله تعالى: فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين اولئك أصحاب الجحيم) الحج: 51 وغير ذلك. وبذلك يظهر أن المراد بقوله: (لهم درجات عند ربهم) مراتب القرب والزلفى ودرجات الكرامة المعنوية وهو كذلك فإن المغفرة والجنة من آثار مراتب القرب من الله سبحانه وفروعه البتة. والذي يشتمل عليه الاية من إثبات الدرجات لهؤلاء المؤمنين هو ثبوت جميع الدرجات لجميعهم لا ثبوت جميعها لكل واحد منهم فإنها من لوازم الايمان والايمان مختلف ذو مراتب فالدرجات الموهوبة بإزائه كذلك لا محالة فمن المؤمنين من له

[ 13 ]

درجة واحدة ومنهم ذو الدرجتين ومنهم ذو الدرجات على اختلاف مراتبهم في الايمان. ويؤيده قوله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) المجادلة 11 وقوله تعالى: (أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون) آل عمران: 163. وبما تقدم يظهر أن تفسير بعضهم ما في الاية من الدرجات بدرجات الجنة ليس على ما ينبغي وان المتعين كون المراد بها درجات القرب كما تقدم وإن كان كل منهما يلازم الاخر. قوله تعالى: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) إلى آخر الايتين ظاهر السياق أن قوله: (كما أخرجك) متعلق بما يدل عليه قوله تعالى: (قل الانفال لله والرسول) والتقدير: أن الله حكم بكون الانفال له ولرسوله بالحق مع كراهتهم له كما أخرجك من بيتك بالحق مع كراهة فريق منهم له فللجميع حق يترتب عليه من مصلحة دينهم ودنياهم ما هم غافلون عنه. وقيل إنه متعلق بقوله: (يجادلونك في الحق) وقيل: إن العامل فيه معنى الحق والتقدير: هذا الذكر من الحق كما أخرجك ربك من بيتك بالحق والمعنيان - كما ترى - بعيدان عن سياق الاية. والمراد بالحق ما يقابل الباطل وهو الامر الثابت الذي يترتب عليه آثاره الواقعية المطلوبة وكون الفعل - وهو الاخراج - بالحق هو أن يكون هو المتعين الواجب بحسب الواقع وقيل: المراد به الوحي وقيل: المراد به الجهاد وقيل غير ذلك وهي معان بعيدة. والاصل في معنى الجدل شدة الفتل يقال: زمام جديل أي شديد الفتل وسمي الجدال جدالا لان فيه نزاعا بالفتل عن مذهب إلى مذهب كما ذكره في المجمع. ومعنى الايتين: ان الله تعالى حكم في امر الانفال بالحق مع كراهتهم لحكمه كما اخرجك من بيتك بالمدينة إخراجا يصاحب الحق والحال ان فريقا من المؤمنين

[ 14 ]

لكارهون لذلك ينازعونك في الحق بعد ما تبين لهم اجمالا والحال انهم يشبهون جماعة يساقون إلى الموت و هم ينظرون إلى ما أعد لهم من أسبابه وادواته. (بحث روائي) في جامع الجوامع للطبرسي: قرأ ابن مسعود وعلي بن الحسين زين العابدين والباقر والصادق عليه السلام: يسألونك الانفال أقول: ورواه عن ابن مسعود وكذا عن السجاد و الباقر والصادق (ع) غيره وفي الكافي بإسناده عن العبد الصالح عليه السلام قال: الانفال كل أرض خربة قد باد أهلها وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ولكن صالحوا صلحا وأعطوا بأيديهم على غير قتال - فقال -: وله - يعني الوالي - رؤوس الجبال وبطون الاودية والاجام وكل أرض ميتة لا رب لها وله صوافي الملوك: ما كان في أيديهم من غير وجه الغصب لان الغصب كله مردود، وهو وارث من لا وارث له ويعول من لا حيلة له وفيه: بإسناده عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: (يسألونك عن الانفال) قال: من مات وليس له مولى فماله من الانفال اقول: وفي معنى الروايتين روايات كثيرة مروية من طرق اهل البيت عليهم السلام ولا ضير في عدم ذكرها الانفال بمعنى غنائم الحرب فإن الاية بموردها تدل عليه على ما يفيده سياقها. وفي الدر المنثور: اخرج الطيالسي والبخاري في الادب المفرد ومسلم والنحاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن سعد بن ابي وقاص قال: نزلت في اربع آيات من كتاب الله: كانت امي حلفت ان لا تأكل ولا تشرب حتى افارق محمدا صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله: وإن جاهداك على ان تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا. والثانية: انى كنت اخذت سيفا اعجبني فقلت: يا رسول الله هب لي هذا فنزلت: يسالونك عن الانفال.

[ 15 ]

والثالثة: اني مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله اني اريد ان اقسم مالي أفأوصي بالنصف ؟ قال: لا فقلت: الثلث ؟ فسكت فكان الثلث بعده جائزا والرابعة: اني شربت الخمر مع قوم من الانصار فضرب رجل منهم انفي بلحيي جمل فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله تحريم الخمر. اقول: الرواية لا تخلو عن شئ أما اولا فلان قوله تعالى: (وإن جاهداك على ان تشرك بي) الاية ذيل قوله تعالى: (ووصينا الانسان بوالديه) لقمان 14 وهي بسياقها تأبى ان تكون نازلة عن سبب خاص على انه قد تقدم في ذيل قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ان لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) الايات الانعام: 151 ان الاحسان بالوالدين من الاحكام العامة غير المختصة بشريعة دون شريعة. وأما ثانيا: فلان ما ذكر من اخذ السيف واستيهابه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما يناسب قراءة (يسألونك الانفال) لا قراءة: (يسألونك عن الانفال) وقد تقدم توضيحه في البيان المتقدم. واما ثالثا: فلان استقرار السنة على الايصاء بالثلث لم يكن بآية نازلة بل بسنة نبوية. وأما رابعا: فلان قصة شربه الخمر مع جماعة من الصحابة وشج انفه بلحيي بعير وإن كانت حقة لكنه إنما شرب الخمر مع جماعة مختلطة من المهاجرين والانصار وقد شج انفه عمر بن الخطاب ثم انزل الله آية المائدة ولم ينزل للتحريم بل لتشديده وقد تقدم ذلك كله في ذيل قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان) المائدة: 90. وفيه: اخرج احمد وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم والبيهقي في سننه عن ابي أمامة قال: سألت عبادة بن الصامت عن الانفال فقال: فينا اصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل فساءت فيه أحلامنا فانتزعه الله من

[ 16 ]

ايدينا وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقسمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين، عن براء يقول: عن سواء وفيه: اخرج سعيد بن منصور وأحمد وابن المنذر وابن ابي حاتم وابن حبان وأبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي وابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشهدت معه بدرا فالتقى الناس فهزم الله العدو فانطلقت طائفة في آثارهم منهزمين يقتلون، وأكبت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تصيب العدو منه غرة حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها، فليس لاحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق بها منا، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لستم بأحق منا نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخفنا ان يصيب العدومنه غرة واشتغلنا به فنزلت: (يسألونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول فاتقوا الله واصلحوا ذات بينكم) فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين، الحديث وفيه: اخرج ابن ابي شيبة وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر قال النبي: من قتل قتيلا فله كذا وكذا ومن أسر اسيرا فله كذا وكذا فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان فتسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت المشيخة للشبان: أشركونا معكم فإنا كنا لكم ردء ولو كان منكم شئ للجأتم الينا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت: (يسألونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول) فقسم الغنائم بينهم بالسوية اقول: وفي هذه المعاني روايات أخر، وهنا روايات تدل على تفصيل القصة تتضح بها معنى الايات سنوردها في ذيل الايات التالية. وفي بعض الروايات ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدهم ان يعطيهم السلب والغنيمة ثم نسخه الله تعالى: (بقوله قل الانفال لله والرسول) وإلى ذلك يشير ما في هذه الرواية ولذلك ربما قيل: انه لا يجب على الامام ان يفي بما وعد به المحاربين لكن يبعده

[ 17 ]

اختلافهم في امر الغنائم يوم بدر إذ لو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدهم بذلك لم يختلفوا مع صريح بيانه. وفيه: اخرج ابن جرير عن مجاهد: انهم سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الخمس بعد الاربعة الاخماس: فنزلت (يسألونك عن الانفال). اقول: وهو لا ينطبق على ما تقدم من مضمون الاية على ما يعطيه السياق وفي بعض ما ورد عن المفسرين السلف كسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وكذا عن ابن عباس ان قوله تعالى: (يسالونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول) الاية منسوخة بقوله: (واعلموا ان ما غنمتم من شئ فان لله خمسه وللرسول) الاية وقد تقدم في بيان الاية ما ينتفي به احتمال النسخ. وفيه اخرج مالك وابن ابي شيبة وأبو عبيد وعبد بن حميد وابن جرير والنحاس وابن المنذر وابن ابي حاتم وابو الشيخ وابن مردويه عن القاسم بن محمد قال: سمعت رجلا يسأل ابن عباس عن الانفال: فقال الفرس من النفل والسلب من النفل فأعاد المسألة فقال ابن عباس ذلك ايضا. ثم قال الرجل: الانفال التي قال الله في كتابه ما هي ؟ فلم يزل يسأله حتى كاد يحرجه فقال ابن عباس: هذا مثل صبيغ الذي ضربه عمر وفي لفظ: ما احوجك إلى من يضربك كما فعل عمر بصبيغ العراقي وكان عمر ضربه حتى سالت الدماء على عقبيه وفيه: في قوله تعالى: (اولئك هم المؤمنون حقا) اخرج الطبراني عن الحارث ابن مالك الانصاري انه مر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: كيف اصبحت يا حارث ؟ قال اصبحت مؤمنا حقا قال: انظر ما تقول فان لكل شئ حقيقة فما حقيقة ايمانك ؟ فقال: عرفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمات نهاري وكأني انظر إلى اهل الجنه يتزاورون فيها، وكأني انظر الى اهل النار يتضاغون فيها، قال يا حارث عرفت فالزم ثلاثا. اقول: والحديث مروي من طرق الشيعة بأسانيد عديدة

[ 18 ]

* * * وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين - 7. ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون - 8. إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين - 9 وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم - 10 إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الاقدام - 11 إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الاعناق واضربوا منهم كل بنان - 12 ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب - 13 ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار - 14 (بيان) تشير الايات إلى قصة بدر وهي أول غزوة في الاسلام وظاهر سياق الايات أنها نزلت بعد انقضائها على ما سيتضح.

[ 19 ]

قوله تعالى: (واذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، أي واذكروا إذ يعدكم الله، وهو بيان منن الله وعد نعمه عليهم ليكونوا على بصيرة من ان الله سبحانه لا يستقبلهم بأمر ولا يأتيهم بحكم إلا بالحق وفيه حفظ مصالحهم وإسعاد جدهم فلا يختلفوا فيما بينهم ولا يكرهوا ما يختاره لهم ويكلوا أمرهم إليه فيطيعوه ورسوله. والمراد بالطائفتين العير والنفير والعير قافلة قريش وفيها تجارتهم وأموالهم وكان عليها أربعون رجلا منهم أبو سفيان بن حرب، والنفير جيش قريش وهم زهاء الف رجل. وقوله (إحدى الطائفتين) مفعول ثان لقوله: (يعدكم) وقوله: (أنها لكم) بدل منه وقوله (وتودون) الاية في موضع الحال، والمراد بغير ذات الشوكة: الطائفة غير ذات الشوكة وهي العير الذي كان أقل عدة وعدة من النفير، والشوكة الحدة، استعارة من الشوك. وقوله: و (يريد الله أن يحق الحق بكلماته) في موضع الحال والمراد باحقاق الحق إظهاره وإثباته بترتيب آثاره عليه، وكلمات الله هي ما قضى به من نصرة أنبيائه وإظهار دينه الحق، قال تعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) الصافات 173 وقال تعالى: (يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) الصف: 9. وقرئ: (بكلمته): وهو اوجه وأقرب والدابر ما يأتي بعد الشئ مما يتعلق به ويتصل إليه وقطع دابر الشئ، كناية عن إفنائه واستئصاله بحيث لا يبقى بعده شئ من آثاره المتفرعة عليه المرتبطة به. ومعنى الاية: واذكروا إذ يعدكم الله أن إحدى الطائفتين لكم تستعلون عليها بنصر الله إما العير وإما النفير وأنتم تودون أن تكون تلك الطائفة هي العير لما تعلمون من شوكة النفير، وقوتهم وشدتهم مع ما لكم من الضعف والهوان، والحال

[ 20 ]

ان الله يريد خلاف ذلك وهو أن تلاقوا النفير فيظهركم عليهم ويظهر ما قضى ظهوره من الحق، ويستأصل الكافرين ويقطع دابرهم. قوله تعالى: (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) ظاهر السياق ان اللام للغاية، وقوله: (ليحق) الاية متعلق بقوله: (يعدكم الله) أي إنما وعدكم الله ذلك وهو لا يخلف الميعاد ليحق بذلك الحق ويبطل الباطل ولو كان المجرمون يكرهونه ولا يريدونه. وبذلك يظهر ان قوله: (ليحق الحق) الاية ليس تكرارا لقوله: (ويريد الله ان يحق الحق بكلماته وإن كان في معناه. قوله تعالى: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) الاستغاثة طلب الغوث وهو النصرة كما في قوله: (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) القصص: 15 والامداد معروف، وقوله: (مردفين) من الارداف وهو ان يجعل الراكب غيره ردفا له، والردف التابع، قال الراغب: الردف التابع، وردف المرأة عجيزتها، والترادف التتابع، والرادف: المتأخر، والمردف المقدم الذي اردف غيره. انتهى. وبهذا المعنى تلائم. الاية ما في قوله تعالى فيما يشير به إلى هذه القصة في سورة آل عمران: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم اذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم ان يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى ان تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) آل عمران: 126. فإن تطبيق الايات من السورتين يوضح ان المراد بنزول الف من الملائكة مردفين نزول الف منهم يستتبعون آخرين فينطبق الالف المردفون على الثلاثة آلاف المنزلين. وبذلك يظهر فساد ما قيل: ان المراد بكون الملائكة مردفين كون الالف متبعين الفا آخر لان مع كل واحد منهم ردفا له فيكونون الفين، وكذا ما قيل:

[ 21 ]

ان المراد كون بعضهم إثر بعض، وكذا ما قيل: إن إلمراد مجيئهم على أثر المسلمين بأن يكون مردفين بمعنى رادفين، وكذا ما قيل: إن المراد إردافهم المسلمين بأن يتقدموا عسكر المسلمين فيلقوا في قلوب الذين كفروا الرعب. قوله تعالى: (وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم) الضميران في قوله: (جعله) وقوله: (به) للامداد بالملائكة على ما يدل عليه السياق، والمعنى ان الامداد بالملائكة إنما كان لغرض البشرى واطمئنان نفوسكم لا ليهلك بأيديهم الكفار كما يشير إليه قوله تعالى بعد: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة اني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب). وبذلك يتأيد ما ذكره بعضهم: ان الملائكة لم ينزلوا ليقتلوا المشركين ولا قتلوا منهم احدا فقد قتل ثلث المقتولين منهم أو النصف علي عليه السلام والثلثين الباقين أو النصف سائر المسلمين. وإنما كان للملائكة تكثير سواد المسلمين حينما اختلطوا بالقوم وتثبيت قلوب المسلمين، وإلقاء الرعب في قلوب المشركين، وسيجئ بعض الكلام في ذلك. وقوله: (وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم) بيان انحصار حقيقة النصر فيه تعالى وأنه لو كان بكثرة العدد والقوة والشوكه كانت الدائرة يومئذ للمشركين بما لهم من الكثرة والقوة على المسلمين على ما بهم من القلة والضعف. وقد علل بقوله: (إن الله عزيز حكيم) جميع مضمون الاية وما يتعلق به من الاية السابقة فبعزته نصرهم وامدهم، وبحكمته جعل نصره على هذه الشاكلة. قوله تعالى: (إذ يغشيكم النعاس امنة منه) إلى آخر الاية. النعاس اول النوم وهو خفيفه والتغشية الاحاطة، والامنة الامان، وقوله: (منه) أي من الله وقيل: أي من العدو، والرجز هو الرجس والقذارة، والمراد برجز الشيطان القذارة التي يطرأ القلب من وسوسته وتسويله. ومعنى الاية: ان النصر والامداد بالبشرى واطمئنان القلوب كان في وقت يأخذكم النعاس للامن الذي افاضه الله على قلوبكم فنمتم ولو كنتم خائفين مرتاعين لم

[ 22 ]

يأخذكم نعاس ولا نوم، وينزل عليكم المطر ليطهركم به ويذهب عنكم وسوسة الشيطان وليربط على قلوبكم ويشد عليها - وهو كناية عن التشجيع - وليثبت بالمطر اقدامكم في الحرب بتلبد الرمل أو بثبات القلوب. والاية تؤيد ما ورد ان المسلمين سبقهم المشركون إلى الماء فنزلوا على كثيب رمل، وأصبحوا محدثين ومجنبين، وأصابهم الظما، ووسوس إليهم الشيطان فقال: إن عدوكم قد سبقكم إلى الماء، وأنتم تصلون مع الجنابة، والحدث، وتسوخ أقدامكم في الرمل فأمطر عليهم الله حتى اغتسلوا به من الجنابة، وتطهروا به من الحدث، وتلبدت به أرضهم، وأوحلت أرض عدوهم قوله تعالى: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب) إلى آخر الاية حال الظرف في اول الاية كحال الظرف في قوله: (إذ تستغيثون ربكم) وقوله: (إذ يغشيكم النعاس) ومعنى الاية ظاهر. وأما قوله: (فاضربوا فوق الاعناق واضربو منهم كل بنان) فالظاهر أن يكون المراد بفوق الاعناق الرؤوس وبكل بنان جميع الاطراف من اليدين والرجلين أو أصابع الايدي لئلا يطيقوا حمل السلاح بها والقبض عليه. ومن الجائز أن يكون الخطاب بقوله: (فاضربوا) الخ للملائكة كما هو المتسابق إلى الذهن، والمراد بضرب فوق الاعناق وكل بنان ظاهر معناه، أو الكناية عن إذلالهم وإبطال قوة الامساك من أيديهم بالارعاب، وأن يكون الخطاب للمؤمنين والمراد به تشجيعهم على عدوهم بتثبيت أقدامهم والربط على قلوبهم، وحثهم وإغراؤهم بالمشركين. قوله تعالى: (ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب) المشاقة المخالفة وأصله الشق بمعنى البعض كأن المخالف يميل إلى شق غير شق من يخالفه، والمعنى إن هذا العقاب للمشركين بما أوقع الله بهم، لانهم خالفوا الله ورسوله وألحوا وأصروا على ذلك ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب. قوله تعالى: (ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار) خطاب تشديدي للكفار يشير إلى ما نزل بهم من الخزي ويأمرهم بأن يذوقوه، ويذكر لهم أن وراء ذلك عذاب النار.

[ 23 ]

(بحث روائي) في المجمع قال ابن عباس: لما كان يوم بدر واصطف القوم للقتال قال أبو جهل: اللهم أولانا بالنصر فانصره، واستغاث المسلمون فنزلت الملائكة ونزل قوله: (إذ تستغيثون ربكم) إلى آخره وقيل: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما نظر إلى كثرة عدد المشركين وقلة عدد المسلمين استقبل القبلة وقال: اللهم انجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الارض فما زال يهتف ربه مادا يديه حتى سقط رداؤه من منكبيه فأنزل الله: (إذ تستغيثون ربكم) الاية: عن عمر بن الخطاب والسدي وأبي صالح وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام. قال: ولما أمسى رسول الله وجنه الليل ألقى الله على أصحابه النعاس وكانوا قد نزلوا في موضع كثير الرمل لا تثبت فيه قدم فأنزل الله عليهم المطر رذاذاحتى لبد الارض وثبت أقدامهم وكان المطر على قريش مثل العزالى، وألقى الله في قلوبهم الرعب كما قال الله تعالى: (سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب). أقول: لفظ الاية (إذ تستغيثون ربكم) الخ لا يلائم نزولها يوم بدر عقيب استغاثتهم بل السياق يدل على نزولها مع قوله تعالى: (يسألونك عن الانفال) والايات التالية له وهي تدل على حكاية حال ماضية وامتنانه تعالى على المسلمين بما أنزل عليهم من آيات النصر وتفاريق النعم ليشكروا له ويطيعوه فيما يأمرهم وينهاهم. ولعل المراد من ذكر نزول الاية بعد ذكر استغاثتهم انطباق مضمون الاية على الواقعة، وهو كثير النظير في الروايات المشتملة على أسباب النزول. وفي تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العريش: اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد بعد هذا اليوم فنزل: (إذ تستغيثون ربكم) فخرج يقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر فأيده الله بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، وكثرهم في أعين المشركين، وقلل المشركين في أعينهم فنزل: (وهم بالعدوة القصوى من الوادي خلف العقنقل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعدوة الدنيا عند القليب.

[ 24 ]

أقول: والكلام فيه كالكلام في سابقه. وفي المجمع: ذكر البلخي عن الحسن: أن قوله: (وإذ يعدكم الله) الاية نزلت قبل قوله: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق) وهي في القراءة بعدها.) أقول: وتقدم مدلول إحدى الايتين على مدلول الاخرى بحسب الوقوع لا يلازم سبقها نزولا، ولا دليل من جهة السياق يدل على ما ذكره. وفي تفسير العياشي عن محمد بن يحيى الخثعمي عن ابى عبد الله عليه السلام: في قوله تعالى: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين انها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، فقال: الشوكة التي فيها القتال. أقول: وروى مثله القمى في تفسيره وفي المجمع قال أصحاب السير وذكر أبو حمزة وعلي بن ابراهيم في تفسيرهما - دخل حديث بعضهم في بعض - أقبل أبو سفيان بعير قريش من الشام وفيها أموالهم وهي اللطيمة، وفيها أربعون راكبا من قريش فندب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه للخروج إليها ليأخذوها، وقال: لعل الله أن ينفلكموها فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم، ولم يظنوا ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلقى كيدا ولا حربا فخرجوا لا يريدون إلا أبا سفيان والركب لا يرونها إلا غنيمة لهم. فلما سمع أبو سفيان بمسير النبي صلى الله عليه وآله استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة، وأمره ان يأتي قريشا فيستنفرهم - ويخبرهم ان محمدا قد تعرض لعيرهم في أصحابه فخرج ضمضم سريعا إلى مكة. وكانت عاتكة بنت عبد المطلب رأت فيما يرى النائم قبل مقدم ضمضم بن عمرو بثلاث ليال أن رجلا أقبل على بعير له ينادى يا آل غالب اغدوا إلى مصارعكم ثم وافى بجمله على أبي قبيس فأخذ حجرا فدهدهه من الجبل فما ترك دارا من دور قريش إلا أصابته منه فلذة فانتبهت فزعة من ذلك وأخبرت العباس بذلك فأخبر العباس عتبة بن ربيعة فقال عتبة: هذه مصيبة تحدث في قريش، وفشت الرؤيا فيهم وبلغ ذلك أبا جهل فقال: هذه نبية ثانية في بني عبد المطلب، واللات والعزى

[ 25 ]

لننظرن ثلاثة أيام فإن كان ما رأت حقا وإلا لنكتبن كتابا بيننا: انه ما من اهل بيت من العرب أكذب رجالا ونساء من بني هاشم. فلما كان اليوم الثالث أتاهم ضمضم يناديهم بأعلى الصوت: يا آل غالب يا آل غالب. اللطيمة اللطيمة. العير العير. ادركوا وما أراكم تدركون إن محمدا والصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرضون لعيركم فتهيأوا للخروج، وما بقي احد من عظماء قريش إلا أخرج مالا لتجهيز الجيش، وقالوا من لم يخرج نهدم داره، وخرج معهم العباس بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وعقيل بن ابي طالب، وأخرجوا معهم القيان يضربن الدفوف. وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا فلما كان بقرب بدر اخذ عينا للقوم فأخبره بهم، وفي حديث ابى حمزة بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ايضا عينا له على العير اسمه عدى فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره اين فارق العير نزل جبرائيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بنفير المشركين من مكة فاستشار اصحابه في طلب العير وحرب النفير فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله انها قريش وخيلاؤها ما آمنت منذ كفرت، ولا ذلت منذ عزت، ولم نخرج على هيئه الحرب، وفي حديث ابي حمزة: أنا عالم بهذا الطريق فارق عدي العير بكذا وكذا، وساروا وسرنا فنحن والقوم على ماء بدر يوم كذا وكذا كأنا فرسا رهان فقال صلى الله عليه وآله وسلم: اجلس فجلس. ثم قام عمر بن الخطاب فقال مثل ذلك فقال صلى الله عليه وآله وسلم: اجلس فجلس. ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله انها قريش وخيلاؤها، وقد آمنا بك وصدقنا وشهدنا ان ما جئت به حق، والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه، معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكنا نقول: إمض لامر ربك فإنا معك مقاتلون، فجزاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيرا على قوله ذاك. ثم قال: اشيروا علي أيها الناس وإنما يريد الانصار لان أكثر الناس منهم، ولانهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: إنا برآء من ذمتك حتى تصل إلى دارنا ثم انت في ذمتنا نمنعك مما نمنع ابناءنا ونساءنا، فكان صلى الله عليه وآله وسلم يتخوف ان لا يكون الانصار ترى عليها نصرته إلا على من دهمه بالمدينة من عدو، وأن ليس عليهم ان ينصروه خارج المدينة.

[ 26 ]

فقام سعد بن معاذ فقال: بأبي انت وامي يا رسول الله كأنك اردتنا. فقال: نعم. قال: بأبي انت وامي يا رسول الله إنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا ان ما جئت به حق من عند الله فمرنا بما شئت، وخذ من اموالنا ما شئت، واترك منها ما شئت، والله لو أمرتنا ان نخوض هذا البحر لخضناه معك ولعل الله عز وجل ان يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله. ففرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: سيروا على بركة الله فان الله عز وجل قد وعدني احدى الطائفتين ولن يخلف الله وعده، والله لكأنى انظر إلى مصرع ابى جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وفلان وفلان (1). وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرحيل، وخرج إلى بدر وهو بئر، وفي حديث ابي حمزة الثمالى: بدر رجل من جهينة والماء ماؤه فإنما سمى الماء باسمه، وأقبلت قريش وبعثوا عبيدها ليستقوا من الماء فأخذهم اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا لهم: من انتم ؟ قالوا: نحن عبيد قريش. قالوا: فأين العير ؟ قالوا: لا علم لنا بالعير فأقبلوا يضربونهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلى فانفتل من صلاته وقال: ان صدقوكم ضربتموهم وان كذبوكم تركتموهم، فأتوه بهم فقال لهم: من انتم ؟ قالوا: يا محمد نحن عبيد قريش، قال: كم القوم ؟ قالوا: لا علم لنا بعددهم، قال: كم ينحرون في كل يوم من جزور ؟ قالوا: تسعة إلى عشرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: القوم تسعمائة إلى الف رجل، وأمر صلى الله عليه وآله وسلم بهم فحبسوا وبلغ ذلك قريشا ففزعوا وندموا على مسيرهم. ولقى عتبة بن ربيعة ابا البخترى بن هشام فقال: اما ترى هذا البغى والله ما أبصر موضع قدمى خرجنا لنمنع عيرنا وقد افلتت فجئنا بغيا وعدوانا، والله ما افلح قوم بغوا قط، ولوددت ان ما في العير من اموال بني عبد مناف ذهبت ولم نسر هذا المسير، فقال له أبو البخترى: انك سيد من سادات قريش فسر في الناس وتحمل العير التى اصابها محمد وأصحابه بنخلة (2) ودم ابن الحضرمي فانه حليفك.


(1) وقد كان صلى الله عليه وآله يشير بذلك إلى لقاء النفير وهم يرجون لقاء العير. (2) وقد تقدمت الرويات في قصته في الجزء الثاني من الكتاب في ذيل قوله تعالى: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) الاية، البقرة آية 217. (*)

[ 27 ]

فقال له: على ذلك، وما على احد منا خلاف إلا ابن الحنظلية يعنى أبا جهل فصر إليه وأعلمه انى حملت العيرودم ابن الحضرمي وهو حليفي وعلى عقله. قال: فقصدت خباءه وأبلغته ذلك، فقال ان عتبة يتعصب لمحمد فانه من بنى عبد مناف وابنه معه يريد ان يخذل بين الناس لا واللات والعزى حتى نقحم عليهم يثرب أو نأخذهم اسارى فندخلهم مكة وتتسامع العرب بذلك، وكان أبو حذيفة بن عتبة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وكان أبو سفيان لما جاز بالعير بعث إلى قريش: قد نجى الله عيركم فارجعوا ودعوا محمدا والعرب، وادفعوه بالراح ما اندفع، وإن لم ترجعوا فردوا القيان فلحقهم الرسول في الجحفة، فأراد عتبة ان يرجع فأبى أبو جهل وبنو مخزوم وردوا القيان من الجحفة. قال: وفزع اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما بلغهم كثرة قريش، واستغاثوا وتضرعوا، فأنزل الله عز وجل: (إذ تستغيثون ربكم) وما بعده. قال الطبرسي: ولما اصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر عبأ اصحابه، فكان في عسكره فرسان: فرس للزبير بن عوام، وفرس للمقداد بن الاسود، وكان في عسكره سبعون جملا كانوا يتعاقبون عليها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن ابى طالب عليه السلام ومرثد بن ابى مرثد الغنوى يتعاقبون على جمل لمرثد بن ابى مرثد، وكان في عسكر قريش اربعمائة فرس، وقيل: مائتا فرس. فلما نظرت قريش إلى قلة اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال أبو جهل: ما هم إلا أكلة رأس لو بعثنا إليهم عبيدنا لاخذوهم اخذا باليد، فقال عتبة بن ربيعة: أترى لهم كمينا أو مددا ؟ فبعثوا عمير بن وهب الجمحى وكان فارسا شجاعا فجال بفرسه حتى طاف على عسكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم رجع فقال: ليس لهم كمين ولا مدد ولكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع أما ترونهم خرسا لا يتكلمون ويتلمظون تلمظ الافاعى ما لهم ملجأ إلا سيوفهم، وما أراهم يولون حتى يقتلوا، ولا يقتلون حتى يقتلوا بعددهم فارتأوا رأيكم فقال له أبو جهل: كذبت وجبنت. فأنزل الله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) فبعث إليهم رسول الله

[ 28 ]

صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا معشر قريش انى اكره ان ابدأ بكم فخلونى والعرب وارجعوا فقال عتبة: ما رد هذا قوم قط فأفلحوا، ثم ركب جملا له احمر فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يجول بين العسكرين وينهى عن القتال فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ان يك عند احد خير فعند صاحب الجمل الاحمر وإن يطيعوه يرشدوا. وخطب عتبة فقال في خطبته: يا معشر قريش اطيعونى اليوم واعصوني الدهر إن محمدا له إل وذمة وهو ابن عمكم فخلوه والعرب فإن يك صادقا فأنتم أعلى عينا به وإن يك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب امره فغاظ ابا جهل قوله وقال له: جبنت وانتفخ سحرك فقال: يا مصفر إسته مثلى يجبن ؟ وستعلم قريش أينا ألام وأجبن ؟ وأينا المفسد لقومه. ولبس درعه وتقدم هو وأخوه شيبة وابنه الوليد، وقال: يا محمد اخرج إلينا أكفاءنا من قريش فبرز إليهم ثلاثة نفر من الانصار وانتسبوا لهم فقالوا: ارجعوا إنما نريد الاكفاء من قريش فنظر رسول الله صلى الله عيله وآله وسلم إلى عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب - وكان له يومئذ سبعون سنة - فقال: قم يا عبيدة، ونظر إلى حمزة فقال: قم يا عم ثم نظر إلى على بن ابى طالب فقال: قم يا على - وكان اصغر القوم - فاطلبوا بحقكم الذى جعله الله لكم فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها تريد ان تطفئ نور الله ويأبى الله إلا ان يتم نوره. ثم قال: يا عبيدة عليك بعتبة ابن ربيعة، وقال لحمزة عليك بشيبة، وقال لعلي: عليك بالوليد. فمروا حتى انتهوا إلى القوم فقالوا: أكفاء كرام فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ضربة فلقت هامته، وضرب عتبة عبيدة على ساقه فأطنها فسقطا جميعا، وحمل شيبة على حمزة فتضاربا بالسيفين حتى انثلما، وحمل أمير المؤمنين على عليه السلام على الوليد فضربه على حبل عاتقه فأخرج السيف من إبطه قال على: لقد اخذ الوليد يمينه بيساره فضرب بها هامتي فظننت ان السماء وقعت على الارض. ثم اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون: يا علي أما ترى ان الكلب قد نهز عمك فحمل عليه على عليه السلام ثم قال: يا عم طأطئ رأسك وكان حمزة اطول من شيبة فأدخل حمزة رأسه في صدره فضربه على فطرح نصفه، ثم جاء إلى عتبة وبه رمق فأجهز عليه.

[ 29 ]

وفي رواية اخرى انه برز حمزة لعتبة، وبرز عبيدة لشيبة وبرز على للوليد فقتل حمزة عتبة، وقتل عبيدة شيبة، وقتل علي عليه السلام الوليد، فضرب شيبة رجل عبيدة فقطعها فاستنقذه حمزة وعلى، وحمل عبيدة حمزة وعلى حتى اتيا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستعبر فقال: يا رسول الله ألست شهيدا ؟ قال: بلى انت اول شهيد من اهل بيتى. وقال أبو جهل لقريش: لا تعجلوا ولا تبطروا كما بطر ابناء ربيعة عليكم بأهل يثرب فاجزروهم جزرا، وعليكم بقريش فخذوهم اخذا حتى ندخلهم مكة فنعرفهم ضلالتهم التى هم عليها. وجاء إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جشعم فقال لهم: أنا جار لكم ادفعوا إلى رايتكم فدفعوا إليه رأية الميسرة، وكانت الراية مع بنى عبد الدار فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لاصحابه: غضوا ابصاركم، وعضوا على النواجذ، ورفع يده فقال: اللهم ان تهلك هذه العصابة لا تعبد ثم اصابه الغشي فسري عنه وهو يسلك العرق عن وجهه فقال: هذا جبرائيل قد اتاكم بألف من الملائكة مردفين. وفي الامالى بإسناده عن الرضا عن آبائه عليه السلام: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سافر إلى بدر في شهر رمضان وافتتح مكة في شهر رمضان. اقول: وعلى ذلك اطبق اهل السير والتواريخ، قال اليعقوبي في تاريخه: وكانت وقعة بدر يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان بعد مقدمه صلى الله عليه وآله وسلم - يعنى إلى المدينة - بثمانية عشر شهرا. وقال الواقدي: ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وادى بدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من شهر رمضان فبعث عليا والزبير وسعد بن ابى وقاص وبسبس بن عمرو يتجسسون على الماء فوجدوا روايا قريش فيها سقاؤهم فأسروهم وأفلت بعضهم وأتوا بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو قائم يصلى فسألهم المسلمون فقالوا: نحن سقاء قريش بعثونا نسقيهم من الماء فضربوهم فلما أن لقوهم بالضرب قالوا: نحن لابي سفيان ونحن في العير، وهذا العير بهذا القوز فكانوا إذا قالوا ذلك يمسكون عن ضربهم. فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته ثم قال: إن صدقوكم ضربتموهم وإن كذبوكم تركتموهم.

[ 30 ]

فلما أصبحوا عدل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصفوف وخطب المسلمين فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنى أحثكم على ما حثكم الله عليه، وأنهاكم عما نهاكم الله عنه فإن الله عظيم شأنه، يأمر بالحق، ويحب الصدق، ويعطى على الخير أهله على منازلهم عنده به يذكرون، وبه يتفاضلون، وإنكم قد أصبحتم بمنزل من منازل الحق لا يقبل الله فيه من أحد إلا ما ابتغى به وجهه، وإن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله به الهم وينجى به من الغم تدركون به النجاة في الاخرة فيكم نبى الله يحذركم ويأمركم فاستحيوا اليوم أن يطلع الله على شئ، من أمركم يمقتكم عليه فإنه تعالى يقول: لمقت الله أكبر من أنفسكم انظروا في الذى أمركم به من كتابه، وأراكم من آياته وما أعزكم به بعد الذلة فاستكينوا له يرض ربكم عنكم، وأبلوا ربكم في هذه المواطن أمرا تستوجبوا به الذى وعدكم من رحمته ومغفرته فإن وعده حق، وقوله صدق، وعقابه شديد، وإنما أنا وأنتم بالله الحى القيوم، إليه ألجأنا ظهورنا، وبه اعتصمنا، وعليه توكلنا، وإليه المصير، ويغفر الله لى للمسلمين وفي المجمع: ذكر جماعة من المفسرين كابن عباس وغيره: أن جبرائيل قال للنبى صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر خذ قبضة من تراب فارمهم بها فقال رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم لما التقى الجمعان لعلي: أعطني قبضة من حصا الوادي فناوله كفا من حصا عليه تراب فرمى به في وجوه القوم وقال: شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا دخل في عينه وفمه ومنخريه منها شئ ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، وكانت تلك الرمية سبب هزيمة القوم. وفي الامالى بإسناده عن ابن عباس قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على قتلى بدر فقال: جزاكم الله من عصابة شرا لقد كذبتموني صادقا وخونتم أمينا، ثم التفت إلى أبى جهل بن هشام فقال: إن هذا أعتى على الله من فرعون إن فرعون لما أيقن بالهلاك وحد الله، وإن هذا لما أيقن بالهلاك دعا باللات والعزى. وفي المغازى للواقدي: وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر بالقليب أن تغور ثم أمر بالقتلى فطرحوا فيها كلهم إلا أمية بن خلف فإنه كان مسمنا انتفخ من يومه فلما

[ 31 ]

أرادوا أن يلقوه تزايل لحمه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أتركوه، فأقروه وألقوا عليه من التراب والحجارة ما غيبه. ثم وقف على أهل القليب فناداهم رجلا رجلا: هل وجدتم ما وعد ربكم حقا فإنى قد وجدت ما وعدني ربى حقا بئس القوم كنتم لنبيكم كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس. فقالوا يا رسول الله أتنادى قوما قد ماتوا ؟ فقال: لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق، وفي رواية أخرى: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني. قال: وكان انهزام قريش حين زالت الشمس فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر وأمر عبد الله بن كعب بقبض الغنائم وحملها، وأمر نفرا من أصحابه أن يعينوه فصلى العصر ببدر ثم راح فمر بالاثيل قبل غروب الشمس فنزل به وبات، وبأصحابه جراح وليست بالكثيرة، وأمر ذكوان بن عبد قيس أن يحرس المسلمين حتى كان آخر الليل فارتحل. وفي تفسير القمى في خبر طويل: وخرج أبو جهل من بين الصفين وقال: اللهم إن محمدا أقطعنا للرحم، وأتانا بما لا نعرفه فأحنه الغداة فأنزل الله على رسوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغنى عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وإن الله مع المؤمنين). ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفا من حصى ورمى به في وجوه قريش وقال: شاهت الوجوه فبعث الله رياحا تضرب في وجوه قريش فكانت الهزيمة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم لا يفلتن فرعون هذه الامة أبو جهل بن هشام فقتل منهم سبعين، واسر منهم سبعين. وألتقى عمرو بن الجموع مع أبى جهل فضرب عمرو أبا جهل على فخذه وضرب أبو جهل عمرا على يده فأبانها من العضد فتعلقت بجلده فاتكى عمرو على يده برجله ثم تراخى إلى السماء حتى انقطعت الجلدة ورمى بيده. وقال عبد الله بن مسعود: انتهيت إلى أبى جهل وهو يتشحط بدمه فقلت:

[ 32 ]

الحمد لله الذى أخزاك فرفع رأسه فقال: إنما اخزى الله عبدا، ابن ام عبد لمن الدبرة ويلك ؟ قلت: لله ولرسوله وإنى قاتلك، ووضعت رجلى على عنقه فقال: ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعى الغنم أما انه ليس شئ أشد من قتلك اياى في هذا اليوم ألا تولى قتلى رجل من المطلبيين أو رجل من الاحلاف ؟ فاقتلعت بيضة كانت على رأسه فقتلته وأخذت رأسه وجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقلت: يا رسول الله البشرى هذا رأس ابى جهل بن هشام فسجد لله شكرا. وفي الارشاد للمفيد ثم بارز امير المؤمنين عليه السلام العاص بن سعيد بن العاص بعد ان احجم عنه من سواه فلم يلبث ان قتله، وبرز إليه حنظلة بن ابى سفيان فقتله، وبرز إليه بعده طعيمة بن عدى فقتله، وقتل بعده نوفل بن خويلد وكان من شياطين قريش، ولم يزل يقتل واحدا منهم بعد واحد حتى أتى على شطر المقتولين منهم وكانوا سبعين رجلا، تولى كافة من حضر بدرا من المسلمين مع ثلاثة آلاف من الملائكة المسومين قتل الشطر منهم، وتولى امير المؤمنين عليه السلام قتل الشطر الاخر وحده. وفي الارشاد أيضا: قد أثبتت رواة العامة والخاصة معا اسماء الذين تولى امير المؤمنين عليه السلام قتلهم ببدرمن المشركين على اتفاق فيما نقلوه من ذلك واصطلاح فكان ممن سموه: الوليد بن عتبة كما قدمنا وكان شجاعا جريا وقاحا فتاكا تهابه الرجال، والعاص بن سعيد وكان هولا عظيما تهابه الابطال، وهو الذى حاد عنه عمر بن الخطاب وقصته فيما ذكرناه مشهورة نحن نبينها فيما نورده، وطعيمة بن عدى بن نوفل وكان من رؤوس اهل الضلال، ونوفل بن خويلد وكان من اشد المشركين عداوة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت قريش تقدمه وتعظمه وتطيعه، وهو الذى قرن أبا بكر وطلحة قبل الهجرة بمكة وأوثقهما بحبل وعذبهما يوما إلى الليل حتى سئل في امرهما، ولما عرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حضوره بدرا سأل الله ان يكفيه امره فقال: اللهم اكفني نوفل بن خويلد فقتله أمير المؤمنين عليه السلام. وزمعة بن الاسود (1)، والحارث بن زمعة، والنضر بن الحارث بن عبد الدار، وعمير بن عثمان بن كعب بن تيم عم طلحة بن عبيد الله، وعثمان ومالك ابنا عبيد الله


(1) في بعض النسخ: وعقيل بن الاسود وفيه فذلك ستة وثلاثون. (*)

[ 33 ]

أخوا طلحة بن عبيد الله، ومسعود بن ابى امية بن المغيرة، وقيس بن الفاكه بن المغيرة وحذيفة بن ابى حذيفة بن المغيرة، و [ أبو ] قيس (1) بن الوليد بن المغيرة، وحنظلة بن أبى سفيان، وعمرو بن مخزوم، وأبو منذر بن ابى رفاعة، ومنبه بن الحجاج السهمى، والعاص بن منبه، وعلقمة بن كلدة، وأبو العاص بن قيس بن عدى ومعاوية بن المغيرة بن ابى العاص، ولوذان بن ربيعة، وعبد الله بن المنذر بن ابى رفاعة، ومسعود بن امية بن المغيرة، وحاجب بن السائب بن عويمر، وأوس بن المغيرة بن لوذان، وزيد بن مليص، وعاصم بن ابى عوف، وسعيد بن وهب حليف بنى عامر، ومعاوية بن [ عامر بن ] عبد القيس، وعبد الله بن جميل بن زهير بن الحارث بن أسد، والسائب بن مالك، وأبو الحكم بن الاخنس، وهشام بن ابى امية بن المغيرة. فذلك خمسة وثلاثون رجلا سوى من اختلف فيه أو شرك امير المؤمنين عليه السلام فيه غيره وهم اكثر من شطر المقتولين ببدر على ما قدمناه. أقول: وذكر غيره كما في المجمع انه قتل يوم بدر سبعة وعشرين رجلا، وذكر الواقدي: ان الذى اتفق عليه قول النقلة والرواة من قتلاه تسعة رجال والباقى مختلف فيه. لكن البحث العميق عن القصة وما يحتف بها من أشعارهم والحوادث المختلفة التى حدثت بعدها تسئ الظن بهذا الاختلاف، وقد نقل عن محمد بن اسحاق ان اكثر قتلى المشركين يوم بدر كان لعلي عليه السلام. وقد عد الواقدي فيما ذكره ابن ابى الحديد من قتلى المشركين في وقعة بدر اثنين وخمسين رجلا ونسب قتل اربعة وعشرين منهم إليه عليه السلام ممن انفرد بقتله أو شارك غيره. ومن شعر اسيد بن ابى اياس يحرض مشركي قريش على علي عليه السلام على ما في الارشاد والمناقب قوله:


(1) هو أخو خالد بن الوليد، والثلاثة الذين قتلوا ابناء اعمامه. (*)

[ 34 ]

في كل مجمع غاية أخزاكم جزع أبر على المذاكى القرح لله دركم ألما تنكروا قد ينكر الحر الكريم ويستحى هذا ابن فاطمة الذى أفناكم ذبحا وقتلة قعصة لم تذبح اعطوه خرجا واتقوا تضريبه فعل الذليل وبيعة لم تربح أين الكهول وأين كل دعامة في المعظلات وأين زين الابطح أفناهم قعصا وضربا يفترى بالسيف يعمل حده لم يصفح وفي الارشادروى شعبة عن ابى اسحاق عن حارث بن مضرب قال: سمعت على بن ابى طالب عليه السلام يقول: لقد حضرنا بدرا وما فينا فارس غير المقداد بن الاسود، ولقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا من نام غير رسول الله صلى الله عليه وآله فإنه كان منتصبا في اصل شجرة يصلى فيها ويدعو حتى الصباح. اقول: والروايات في قصة بدر كثيرة جدا وقد اقتصرنا منها على ما يتضح به فهم مضامين الايات، ومن الاخبار ما سيأتي إن شاء الله في تضاعيف البحث عن الايات التالية المشيرة الى بعض اطراف القصة. (فهرس اسماء شهداء بدر (رض) في البحار عن الواقدي قال: حدثنى عبد الله بن جعفر قال: سألت الزهري كم استشهد من المسلمين ببدر ؟ قال: اربعة عشر: ستة من المهاجرين، وثمانية من الانصار. قال: فمن بنى المطلب بن عبد مناف، عبيدة بن الحارث قتله عتبه وفى غير رواية الواقدي قتله شيبة فدفنه النبي صلى الله عليه وآله بالصفراء، ومن بنى زهرة عمير بن ابى وقاص قتله عمرو بن عبدود فارس الاحزاب، وعمير بن عبد ود ذو الشمالين حليف لبنى زهرة قتله أبو اسامة الجشمى، ومن بنى عدى عاقل بن ابى البكير حليف لهم من بنى سعد قتله مالك بن زهير، ومهجع مولى عمر بن الخطاب قتله عامر بن الحضرمي ويقال: إن مهجعااول من قتل من المهاجرين، ومن بنى الحارث بن فهر صفوان بن بيضاء قتله طعيمة بن عدى.

[ 35 ]

ومن الانصار ثم من بنى عمرو بن عوف، مبشر بن عبد المنذر قتله أبو ثور، وسعد بن خيثمة قتله عمرو بن عبد ود، ويقال: طعيمة بن عدى، ومن بنى عدى بن النجار حارثة بن سراقة رماه حنان بن العرقة بسهم فأصاب حنجرته فقتله، ومن بنى مالك بن النجار عوف ومعوذ ابنا عفراء قتلهما أبو جهل، ومن بنى سلمة عمير بن الحمام بن الجموح قتله خالد بن الاعلم، ويقال: انه اول قتيل قتل من الانصار وقد روى: ان اول قتيل منهم حارثة بن سراقة، ومن بنى زريق رافع بن المعلى قتله عكرمة بن ابى جهل، ومن بنى الحارث بن الخزرج يزيد بن الحارث قتله نوفل ابن معاوية فهؤلاء الثمانية من الانصار. وروى عن ابن عباس: ان أنسة مولى النبي صلى الله عليه وسلم قتل ببدر، وروى: ان معاذ بن ماعص جرح ببدر فمات من جراحته بالمدينة، وابن [ ان ظ ] عبيد بن السكن جرح فاشتكى جرحه فمات منه. * * * يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار - 15. ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير - 16. فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم - 17. ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين - 18. إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغنى عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين - 19. يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون - 20. ولا تكونوا

[ 36 ]

كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون - 21. إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون - 22. ولو علم الله فيهم خيرا لاسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون - 23. يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون - 24. واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب - 25. واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الارض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون - 26. يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون - 27. واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم - 28. يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيأتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم - 29. (بيان) أوامر ونواه متعلقة بالجهاد الاسلامي مما يناسب سوق القصة، وحث على تقوى الله وإنذار وتخويف من مخالفة الله ورسوله والتعرض لسخطه سبحانه، وفيها اشارة إلى بعض ما جرى في وقعة بدر من منن الله وأياديه على المؤمنين. قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم

[ 37 ]

الادبار) اللقاء مصدر لقى يلقى من المجرد ولاقى. يلاقى من المزيد فيه، قال الراغب في مفردات القرآن: اللقاء مقابلة الشئ ومصادفته معا، وقد يعبر به عن كل واحد منهما يقال: لقيه يلقاه لقاء ولقيا ولقية، ويقال ذلك في الادراك بالحس وبالبصر وبالبصيرة قال: لقد كنتم تمنون الموت من قبل ان تلقوه، وقال: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، وملاقاة الله عبارة عن القيامة وعن المصير إليه قال: واعلموا انكم ملاقوه، وقال: الذين يظنون انهم ملاقوا الله، واللقاء الملاقاة قال: وقال الذين لا يرجون لقاءنا، وقال: إلى ربك كدحا فملاقيه. انتهى. وقال في المجمع: اللقاء الاجتماع على وجه المقاربة لان الاجتماع قد يكون على غير وجه المقاربة فلا يكون لقاء كاجتماع الاعراض في المحل الواحد. انتهى. وقال فيه: الزحف الدنو قليلا قليلا، والتزاحف التدانى يقال: زحف يزحف زحفا وأزحفت للقوم إذا دنوت لقتالهم وثبت لهم. قال الليث: الزحف جماعة يزحفون إلى عدو لهم بمرة وجمعه زحوف. انتهى. وتولية الاعداء الادبار جعلهم يلونها وهو استدبار العدو واستقبال جهة الهزيمة. وخطاب الاية عام غير خاص بوقت دون وقت ولا غزوة دون غزوة فلا وجه لتخصيصها بغزوة بدر وقصر حرمة الفرار من الزحف بها كما يحكى عن بعض المفسرين. على انك عرفت أن ظاهر سياق الايات انها نزلت بعد غزوة بدر لا يومها، وان الايات ذيل ما في صدر السورة من قوله: (يسألونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول) الاية، وللكلام تتمة ستوافيك في البحث الروائي إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة) إلى آخر الاية. التحرف: الزوال عن جهة الاستواء إلى جهة الحرف وهو طرف الشئ وهو أن ينحرف وينعطف المقاتل من جهة إلى جهة أخرى ليتمكن من عدوه ويبادر إلى إلقاء الكيد عليه، والتحيز هو أخذ الحيز وهو المكان، والفئة القطعة من جماعة الناس، والتحيز إلى فئة أن ينعطف المقاتل عن الانفراد بالعدو إلى فئة من قومه فيلحق بهم ويقاتل معهم. والبواء الرجوع إلى مكان واستقرار فيه، ولذا قال الراغب: أصل البواء

[ 38 ]

مساواة الاجزاء في المكان خلاف النبوة الذى هو منافاة الاجزاء. انتهى فمعنى قوله: باء بغضب من الله أي رجع ومعه غضب من الله. فمعنى الايتين: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا لقاء زحف أو زاحفين للقتال فلا تفروا منهم ومن يفر منهم يومئذ أي وقتئذ فقد رجع ومعه غضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير إلا أن يكون فراره للتحرف لقتال أو التحيز إلى فئة فلا بأس به. قوله تعالى: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) إلى آخر الاية التدبر في السياق لا يدع شكا في أن الاية تشير إلى وقعة بدر وما صنعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من رميهم بكف من الحصا، والمؤمنون بوضع السيف فيهم وقتلهم القتل الذريع، وذيل الاية أعنى قوله: وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا يدل على أن الكلام جار مجرى الامتنان منه تعالى، وقد أثبت تعالى عين ما نفاه في جملة واحدة أعنى قوله: (وما رميت إذ رميت). فمن جميع هذه الشواهد يتحصل أن المراد بقوله: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) نفى أن تكون وقعة بدر وما ظهر فيها من استئصال المشركين والظهور عليهم والظفر بهم جارية على مجرى العادة والمعروف من نواميس الطبيعة، وكيف يسع لقوم هم شرذمة قليلون ما فيهم على ما روى الا فرس أو فرسان وبضعة أدرع وبضعة سيوف، أن يستأصلوا جيشا مجهزا بالافراس والاسلحة والرجال والزاد والراحلة، هم أضعافهم عدة ولا يقاسون بهم قوة وشدة، وأسباب الغلبة عندهم، وعوامل البأس معهم، والموقف المناسب للتقدم لهم. إلا ان الله سبحانه بما أنزل من الملائكة ثبت أقدام المؤمنين وأرعب قلوب المشركين، وألقى الهزيمة بما رماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحصاة عليهم فشملهم المؤمنين قتلا وأسرا فبطل بذلك كيدهم وخمدت أنفاسهم وسكنت أجراسهم. فبالحري أن ينسب ما وقع عليهم من القتل بأيدى المؤمنين والرمى الذى شتت شملهم وألقى الهزيمة فيهم إليه سبحانه دون المؤمنين. فما في الاية من النفى جار مجرى الدعوى بنوع من العناية، بالنظر إلى استناد

[ 39 ]

القتل بأطرافها إلى سبب إلهى غير عادى، ولا ينافى ذلك استنادها بما وقع فيها من الوقائع إلى اسبابها القريبة المعهودة في الطبيعة بأن يعد المؤمنون قاتلين لمن قتلوا منهم، والنبى صلى الله عليه وآله وسلم راميا لما رماه من الحصاة. وقوله: (وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا) الظاهران ضمير (منه) راجع إلى الله تعالى، والجملة لبيان الغاية وهى معطوفة على مقدر محذوف، والتقدير: إنما فعل الله ما فعل من قتلهم ورميهم لمصالح عظيمة عنده، وليبلى المؤمنين ويمتحنهم بلاء وامتحانا حسنا أو لينعم عليهم بنعمة حسنة، وهو إفناء خصمهم وإعلاء كلمة التوحيد بهم وإغناؤهم بما غنموا من الغنائم. وقوله: (ان الله سميع عليم) تعليل لقوله: (وليبلى المؤمنين) أي إنه تعالى يبليهم لانه سميع باستغاثتهم عليم بحالهم فيبليهم منه بلاء حسنا. والتفريع الذى في صدر الاية: (فلم تقتلوهم) الخ متعلق بما يتضمنه الايات السابقة: (إذ تستغيثون ربكم) إلى آخرالايات من المعنى، فإنها تعد منن الله عليهم من انزال الملائكة وامدادهم بهم وتغشيه النعاس اياهم وامطار السماء عليهم وما أوحى إلى الملائكة من تأييدهم وتثبيت أقدامهم والقاء الرعب في قلوب أعدائهم، فلما بلغ الكلام هذا المبلغ فرع عليه قوله: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى). وعلى هذا فقوله: (يا ايها الذين آمنوا إذ القيتم) إلى قوله و (بئس المصير) معترضة متعلقة بقوله: (فاضربوا فوق الاعناق واضربوا منهم كل بنان) أو بمعناه المفهوم من الجمل المسرودة، وقوله: (فلم تقتلوهم) الخ متصل بما قبله بحسب النظم. وربما يذكر في نظم الاية وجهان آخران: احدهما: ان الله سبحانه لما امرهم بالقتل في الاية المتقدمة ذكر عقيبها ان ما كان من الفتح يوم بدر وقهر المشركين انما كان بنصرته ومعونته تذكيرا للنعمة. ذكره أبو مسلم. والثانى: انهم لما أمروا بالقتال ثم كان بعضهم يقول: أنا قتلت فلانا وأنا فعلت كذا نزلت الاية على وجه التنبيه لهم لئلا يعجبوا بأعمالهم. وربما قيل: ان الفاء في

[ 40 ]

قوله فلم تقتلوهم) لمجرد ربط الجمل بعضها ببعض. والوجه ما قدمناه. قوله تعالى: (ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين) قال في المجمع: (ذلكم) موضعه رفع، وكذلك (أن الله) في موضع رفع، والتقدير: الامر ذلكم والامر ان الله موهن، وكذلك الوجه فيما تقدم من قوله: (ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار)، ومن قال: ان (ذلكم) مبتدء و (فذوقوه) خبره فقد أخطأ لان ما بعد الفاء لا يكون خبرا لمبتدء، ولا يجوز: زيد فمنطلق، ولا: زيد فاضربه إلا ان تضمر (هذا) تريد: هذا زيد فاضربه. انتهى. فمعنى الاية: الامر ذلكم الذي ذكرناه والامر ان الله موهن كيد الكافرين. قوله تعالى: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) إلى آخر الاية. ظاهر الاية بما تشتمل عليه من الجمل المسرودة كقوله: (وإن تنتهوا فهو خير لكم) وقوله: (وإن تعودوا نعد) الخ ان تكون الخطاب فيه للمشركين دون المؤمنين باشتمال الكلام على الالتفات للتهكم، وهو المناسب لقوله في الاية السابقة: (وأن الله موهن كيد الكافرين). فالمعنى: إن طلبتم الفتح وسألتم الله ايها المشركون ان يفتح بينكم وبين المؤمنين فقد جاءكم الفتح بما أظهر الله من الحق يوم بدر فكانت الدائرة للمؤمنين عليكم، وإن تنتهوا عن المكيدة على الله ورسوله فهو خير لكم وان تعودوا إلى مثل ما كدتم نعد إلى مثل ما أوهنا به كيدكم، ولن تغنى عنكم جماعتكم شيئا ولو كثرت كما لم تغن في هذه المرة وان الله مع المؤمنين ولن يغلب من هو معه. وبهذا يتأيد ما ورد ان ابا جهل قال يوم بدر حين اصطف الفريقان أو حين التقى الفئتان: اللهم ان محمدا اقطعنا للرحم وأتانا بما لا نعرف فانصر عليه، وفى بعض الروايات - وهو الانسب - كما في المجمع عن ابى حمزة قال أبو جهل: اللهم ربنا ديننا القديم ودين محمد الحديث فأى الدينين كان احب اليك وأرضى عندك فانصر اهله اليوم. وذكر بعضهم: ان الخطاب في الاية للمؤمنين، ووجهوا مضامين جملها بما لا يرتضيه الذوق السليم، ولا جدوى للاطالة بذكرها والمناقشة فيها فمن أراد ذلك فعليه بالمطولات. قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون) الضمير على ما يفيده السياق راجع الى الرسول صلى الله عليه وآله، والمعنى: ولا تولوا عن الرسول

[ 41 ]

وأنتم تسمعون ما يلقيه اليكم من الدعوة الحقة وما يأمركم به وينهاكم عنه مما فيه صلاح دينك ودنياكم. ومصب الكلام اوامره الحربية وإن كان لفظه اعم. قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) المعنى ظاهر وفيه نوع تعريض للمشركين إذ قالوا: سمعنا، وهو لا يسمعون، وقد حكى الله عنهم ذلك إذ قال بعد عدة آيات: (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا) الانفال: 31، لكنهم كذبوا ولم يسمعوا ولو سمعوا لاستجابوا كما قال الله تعالى: (ولهم آذان لا يسمعون بها) الاعراف: 179، وقال تعالى حكاية عن اصحاب السعير (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في اصحاب السعير) الملك: 10 فالمراد بالسمع في الاية الاولى تلقى الكلام الحق الذى هو صوت من طريق الاذن، وفى الاية الثانية الانقياد لما يتضمنه الكلام الحق المسموع. والايتان - كما ترى - خطاب متعلق بالمؤمنين متصل نوع اتصال بالاية السابقة عليهما وتعريض للمشركين، فهو تعالى لما التفت إلى المشركين فذمهم وتهكم عليهم بسؤالهم الفتح، وذكر لهم ان الغلبة دائما لكلمة الايمان على كلمة الكفر ولدعوة الحق على دعوة الباطل، التفت إلى حزبه وهم المؤمنون فأمرهم بالطاعة له ولرسوله، وحذرهم عن التولي عنه بعد استماع كلمة الحق، وأن يكونوا كاولئك إذ قالوا: سمعنا وهم لا يسمعون. ومن الممكن ان يكون في الاية إشارة الى عدة من أهل مكة آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولما تخلص قلوبهم من الشك خرجوا مع المشركين إلى بدر لحرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فابتلوا بما ابتلى به مشركوا قريش، فقد ورد في الخبر: ان فئة من قريش اسلموا بمكة واحتبسهم آباؤهم فخرجوا مع قريش، يوم بدر، وهم قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلى بن امية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج، والحارث بن زمعة، وقيس بن الفاكه بن المغيرة ولما رأوا قلة المسلمين قالوا: مساكين هؤلاء غرهم دينهم، وسيذكرهم الله بعد عدة آيات بقوله: (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غرهؤلاء دينهم) الاية). وربما قيل: ان المراد بالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون هم اهل الكتاب من يهود قريظة والنضير. وهو بعيد.

[ 42 ]

قوله تعالى: (ان شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) إلى آخر الايتين. تعريض وذم للذين سبق ذكرهم من الكفار على ما يعطيه سياق الكلام وما اشتملت عليه الاية من الموصول والضمائر المستعملة في اولى العقل، وعلى هذا فالظاهر ان اللام في قوله: (الصم البكم) للعهد الذكرى، ويؤول المعنى إلى ان شر جميع ما يدب على الارض من اجناس الحيوان وأنواعها هؤلاء الصم البكم الذين لا يعقلون، وإنما لم يعقلوا لانه لا طريق لهم إلى تلقى الحق لفقدهم السمع والنطق فلا يسمعون ولا ينطقون. ثم ذكر تعالى ان الله إنما ابتلاهم بالصمم والبكمة فلا يسمعون كلمة الحق ولا ينطقون بكلمة الحق، وبالجملة حرمهم نعمة السمع والقبول، لانه تعالى لم يجد عندهم خيرا ولم يعلم به ولو كان لعلم، لكن لم يعلم فلم يوفقهم للسمع والقبول، ولو انه تعالى رزقهم السمع والحال هذه لم يثبت السمع والقبول فيهم بل تولوا عن الحق وهم معرضون. ومن هنا يعلم ان المراد بالخير حسن السريرة الذى يثبت به الاستعداد لقبول الحق ويستقر في القلب، وان المراد بقوله: (ولو أسمعهم) الاسماع على تقدير عدم الاستعداد الثابت المستقر فافهم ذلك فلا يرد انه تعالى لو أسمعهم ورزقهم قبول الحق استلزم ذلك تحقق الخير فيهم ولا وجه مع ذلك لتوليهم وإعراضهم وذلك ان الشرط في قوله: (ولو اسمعهم) على تقدير فقدهم الخير على ما يفيده السياق. قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) لما دعاهم في قوله: (اطيعوا الله ورسوله) الخ إلى إطاعة الدعوة الحقة وعدم التولى عنها بعد استماعها اكده ثانيا بالدعوة الى استجابة الله والرسول في دعوة الرسول، ببيان حقيقة الامر والركن الواقعي الذى تعتمد عليه هذه الدعوة وهو ان هذه الدعوة دعوة إلى ما يحيى الانسان بإخراجه من مهبط الفناء والبوار، وموقفه في الوجود، ان الله سبحانه اقرب إليه من قلبه وانه سيحشر إليه فليأخذ حذره وليجمع همه ويعزم عزمه. الحياة أنعم نعمة وأعلى سلعة يعتقدها الموجود الحى لنفسه كيف لا ؟ وهو لا يرى وراءه الا العدم والبطلان، وأثرها الذى هو الشعور والارادة هو الذى ترام

[ 43 ]

لاجله الحياة ويرتاح إليه الانسان ولا يزال يفر من الجهل وافتقاد حرية الارادة والاختيار وقد جهز الانسان وهو احد الموجودات الحية بما يحفظ به حياته الروحية التى هي حقيقة وجوده كما جهز كل نوع من انواع الخليقة بما يحفظ به وجوده وبقاءه. وهذا الجهاز الانساني يشخص له خيراته ومنافعه، ويحذره من مواطن الشر والضر. واذ كان هذه الهداية الالهية التى يسوق النوع الانسان إلى نحو سعادته وخيره ويندبه نحو منافع وجوده هداية بحسب التكوين وفي طور الخلقة، ومن المحال ان يقع خطأ في التكوين، كان من الحتم الضرورى ان يدرك الانسان سعادة وجوده إدراكا لا يقع فيه شك كما ان سائر الانواع المخلوقة تسيرالى ما فيه خير وجوده ومنافع شخصه من غير ان يسهو فيه من حيث فطرته، وإنما يقع الخبط فيما يقع من جهة تأثير عوامل وأسباب أخر مضادة تؤثر فيه اثرا مخالفا ينحرف فيه الشئ عما هو خير له إلى ما هو شر، وعما فيه نفعه الى ما فيه ضرر يعود إليه، وذلك كالجسم الثقيل الارضى الذى يستقر بحسب الطبيعة الارضية على بسيط الارض ثم انه يبتعد عن الارض بالحركة الى جهة العلو بدفع دافع يجبره على خلاف الطبع فإذا بطل أثر الدفع عاد إلى مستقره بالحركة نحو الارض على الاستقامة إلا ان يمنعه مانع فيخرجه عن السير الاستقامى إلى انحراف وأعوجاع. وهذا هو الذي يصر عليه القرآن الكريم ان الانسان لا يخفى عليه ما فيه سعادته في الحياة من علم وعمل، وأنه يدرك بفطرته ما هو حق الاعتقاد والعمل قال تعالى: (فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) الروم: 30، وقال تعالى: (الذى خلق فسوى والذى قدر فهدى - إلى ان قال - فذكر ان نفعت الذكرى سيذكر من يخشى ويتجنبها الاشقى) الاعلى: 11، وقال تعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها) الشمس: 10. نعم ربما اخطأ الانسان طريق الحق في اعتقاد أو عمل وخبط في مشيته لكن لا لان الفطرة الانسانية والهداية الالهية اوقعته في ضلالة وأوردته في تهلكة بل لانه اغفل عقله ونسى رشده واتبع هوى نفسه وما زينه جنود الشياطين في عينه، قال

[ 44 ]

تعالى: (ان يتبعون إلا الظن وما تهوى الانفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) النجم: 23 وقال: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم) الجاثية: 23. فهذه الامور التى تدعو إليها الفطرة الانسانية من حق العلم والعمل لوازم الحياة السعيدة الانسانية وهى الحياة الحقيقية التى بالحرى ان تختص باسم الحياة، والحياة السعيدة تستتبعها كما انها تستلزم الحياة وتستتبعها، وتعيدها إلى محلها لو ضعفت الحياة في محلها بورود ما يضادها ويبطل رشد فعلها. فإذا انحرف الانسان عن سوى الصراط الذى تهديه إليه الفطرة الانسانية وتسوقه إليه الهداية الالهية، فقد فقد لوازم الحياة السعيدة من العلم النافع والعمل الصالح، ولحق بحلول الجهل وفساد الارادة الحرة والعمل النافع بالاموات ولا يحييه إلا علم حق وعمل حق، وهما اللذان تندب اليهما الفطرة وهذا هو الذى تشير إليه الاية التى نبحث عنها: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله ولرسول إذا دعاكم لما يحييكم). واللام في قوله: (لما يحييكم) بمعنى إلى، وهو شائع في الاستعمال، والذى يدعو إليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الدين الحق وهو الاسلام الذى يفسره القرآن الكريم باتباع الفطرة فيما تندب إليه من علم نافع وعمل صالح. وللحياة بحسب ما يراه القرآن الكريم معنى آخر أدق مما نراه بحسب النظر السطحي الساذج فإنا إنما نعرف من الحياة في بادئ النظر ما يعيش به الانسان في نشأته الدنيوية إلى ان يحل به الموت، وهى التى تصاحب الشعور والفعل الارادي، ويوجد مثلها أو ما يقرب منها في غير الانسان ايضا من سائر الانواع الحيوانية لكن الله سبحانه يقول: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وان الدار الاخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون) العنكبوت 64 ويفيد ذلك ان الانسان متمتع بهذه الحياة غير مشتغل الا بالاوهام، وأنه مشغول بها عما هو أهم وأوجب من غايات وجوده وأغراض روحه فهو في حجاب مضروب عليه يفصل بينه وبين حقيقة ما يطلبه ويبتغيه من الحياة. وهذا هو الذى يشير إليه قوله تعالى وهو من خطابات يوم القيامة: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) ق: 22.

[ 45 ]

فللانسان حياة اخرى أعلى كعبا وأغلى قيمة من هذه الحياة الدنيوية التى يعدها الله سبحانه لعبا ولهوا، وهى الحياة الاخروية التى سينكشف عن وجهها الغطاء، وهى الحياة التى لا يشوبها اللعب واللهو، ولا يدانيها اللغو و التأثيم، لا يسير فيها الانسان الا بنور الايمان وروح العبودية قال تعالى: (اولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه) المجادلة: 22 وقال تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) الانعام: 122. فهذه حياة اخرى ارفع قدرا وأعلى منزلة من الحياة الدنيوية العامة التى ربما شارك فيها الحيوان العجم الانسان، ويظهر من امثال قوله تعالى: (وأيدناه بروح القدس) البقرة: 253) وقوله: (وكذلك اوحينا اليك روحا من امرنا) الاية الشورى: 52 ان هناك حياة اخرى فوق هاتين الحياتين المذكورتين سيوافيك البحث عنها فيما يناسبها من المورد ان شاء الله. وبالجملة فللانسان حياة حقيقية اشرف وأكمل من حياته الدينية الدنيوية يتلبس بها إذا تم استعداده بالتحلى بحلية الدين والدخول في زمرة الاولياء الصالحين كما تلبس بالحياة الدنيوية حين تم استعداده للتلبس بها وهو جنين انسانى. وعلى ذلك ينطبق قوله تعالى في الاية المبحوث عنها: (يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) فالتلبس بما تندب إليه الدعوة الحقة من الاسلام يجر إلى الانسان هذه الحياة الحقيقية كما ان هذه الحياة منبع ينبع منه الاسلام وينشأ منه العلم النافع والعمل الصالح، وفي معنى هذه الاية قوله تعالى: (من عمل صالحا من ذكر أو انثى وهو مؤمن فلنحيينه حياه طيبة ولنجزينهم اجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) النحل: 97. والاية اعني قوله فيها: (إذا دعاكم لما يحييكم) مطلق لا يأبى الشمول لجميع دعوته صلى الله عليه وآله وسلم المحيية للقلوب، أو بعضها الذى فيه طبيعة الاحياء أو لنتائجها التى هي انواع الحياة السعيدة الحقيقية كالحياة السعيدة في جوار الله سبحانه في الاخرة. ومن هنا يظهر أن لا وجه لتقييد الاية بما قيدها به اكثر المفسرين فقد قال بعضهم: ان المراد بقوله: (إذا دعاكم لما يحييكم) بالنظر إلى مورد النزول: إذا دعاكم إلى الجهاد إذ فيه احياء امركم واعزاز دينكم.

[ 46 ]

وقيل: المعنى إذا دعاكم إلى الشهادة في سبيل الله في جهاد عدوكم فإن الله سبحانه عد الشهداء احياء كما في قوله: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون) آل عمران: 169. وقيل: المعنى إذا دعاكم إلى الايمان، فإنه حياة القلب والكفر موته، أو إذا دعاكم إلى الحق. وقيل: المعنى إذا دعاكم إلى القرآن والعلم في الدين لان العلم حياة والجهل موت والقرآن نور وحياة وعلم. وقيل: المعنى إذا دعاكم إلى الجنة لما فيها من الحياة الدائمة والنعمة الباقية الابدية. وهذه الوجوه المذكورة يقبل كل واحد منها انطباق الاية عليه غير ان الاية كما عرفت مطلقة لا موجب لصرفها عما لهامن المعنى الوسيع. قوله تعالى: (واعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه وانه إليه تحشرون) الحيلولة هي التخلل وسطا، والقلب العضو المعروف. ويستعمل كثيرا في القرآن الكريم في الامر الذى يدرك به الانسان ويظهر به أحكام عواطفه الباطنة كالحب والبغض والخوف والرجاء والتمنى والقلق ونحو ذلك فالقلب هو الذى يقضى ويحكم، وهو الذى يحب شيئا ويبغض آخر، وهو الذى يخاف ويرجو ويتمنى ويسر ويحزن، وهو في الحقيقة النفس الانسانية تفعل بما جهزت به من القوى والعواطف الباطنة. والانسان كسائر ما ابدعه الله من الانواع التى هي أبعاض عالم الخلقة مركب من اجزاء شتى مجهز بقوى وأدوات تابعة لوجوده يملكها ويسخدمها في مقاصد وجوده، والجميع مربوطة به ربطا يجعل شتات الاجزاء والابعاض على كثرتها وتفاريق القوى والادوات على تعددها، واحدا تاما يفعل ويترك، ويتحرك ويسكن، بوحدته وفردانيته. غير ان الله سبحانه لما كان هو المبدع للانسان وهو الموجد لكل واحد واحد من اجزاء وجوده وتفاريق قواه وأدواته كان هو الذى يحيط به وبكل واحد من اجزاء وجوده وتوابعه، ويملك كلا منها بحقيقة معنى الملك يتصرف فيه كيف يشاء، ويملك الانسان ما شاء منها كيف شاء فهو المتوسط الحائل بين الانسان وبين كل

[ 47 ]

جزء من اجزاء وجوده وكل تابع من توابع شخصه: بينه وبين قلبه، بينه وبين سمعه، بينه وبين بصره، بينه ومن بدنه، بينه وبين نفسه. يتصرف فيها بإيجادها، ويتصرف فيها بتمليك الاسنان ما شاء منها كيف شاء، واعطائه ما اعطى، وحرمانه ما حرم. ونظير الانسان في ذلك سائر الموجودات فما من شئ في الكون وله ذات وتوابع ذات من قوى وآثار وأفعال إلا والله سبحانه هو المالك بحقيقة معنى الكلمة لذاته ولتوابع ذاته، وهو المملك اياه كلا من ذاته وتوابع ذاته فهو الحائل المتوسط بينه وبين ذاته وبينه وبين توابع ذاته من قواه وآثاره وأفعاله. فالله سبحانه هو الحائل المتوسط بين الانسان وبين قلبه وكل ما يملكه الانسان ويرتبط ويتصل هو به نوعا من الارتباط والاتصال وهو اقرب إليه من كل شئ كما قال تعالى: (ونحن اقرب إليه من حبل الوريد) ق: 16. والى هذه الحقيقة يشير قوله: (واعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه وانه إليه تحشرون) فهو تعالى لكونه مالكا لكل شئ ومن جملتها الانسان ملكا حقيقيا لا مالك حقيقة سواه، أقرب إليه حتى من نفسه وقوى نفسه التى يملكها لانه سبحانه هو الذى يملكه اياها فهو حائل متوسط بينه وبينها يملكه اياها ويربطها به فافهم ذلك. ولذلك عقب الجملة بقوله: (وانه إليه تحشرون) فإن الحشر والبعث هو الذى ينجلى عنده ان المك الحق لله وحده لا شريك له، ويبطل عند ذلك كل ملك صوري وسلطنة ظاهرية الا ملكه الحق جل ثناؤه كما قال سبحانه: (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) المؤمن: 16، وقال: (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والامر يومئذ لله) الانفطار: 19. فكان الاية تقول: واعلموا ان الله هو المالك بالحقيقة لكم ولقلوبكم وهو أقرب اليكم من كل شئ، وانه ستحشرون إليه فيظهر حقيقة ملكه لكم وسلطانه عليكم يومئذ فلا يغنى عنكم منه شئ. وأما اتصال الكلام اعني ارتباط قوله: (واعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه) الخ بقوله: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) فلان حيلولته سبحانه بين المرء وقلبه، يقطع منبت كل عذر في عدم استجابته لله والرسول إذا دعاه لما

[ 48 ]

يحييه، وهو التوحيد الذى هو حقيقة الدعوة الحقة فإن الله سبحانه لما كان اقرب إليه من كل شئ حتى من قلبه الذى يعرفه بوجدانه قبل كل شئ فهو تعالى وحده لا شريك له أعرف إليه من قلبه الذى هو وسيلة ادراكه وسبب اصل معرفته وعلمه. فهو يعرف الله إلها واحدا لا شريك له قبل معرفته قلبه وكل ما يعرفه بقلبه، فمهما شك في شئ اوارتاب في امر فلن يشك في إلهه الواحد الذى هو رب كل شئ ولن يضل في تشخيص هذه الكلمة الحقة. فإذا دعاه داعى الحق إلى كلمة الحق ودين التوحيد الذى يحييه لو استجاب له، كان عليه ان يستجيب داعى الله فإنه لا عذر له في ترك الاستجابة معللا بأنه لم يعرف حقية ما دعى إليه، أو اختلط عليه، أو أعيته المذاهب في الاقبال على الحق الصريح فإن الله سبحانه هو الحق الصريح الذى لا يحجبه حاجب، ولا يستره ساتر إذ كل حجاب مفروض فالله سبحانه اقرب منه إلى الانسان، وكل ما يختلج في القلب من شبهة أو وسوسة فالله سبحانه متوسط متخلل بينه مع ما له من ظرف وهو القلب - وبين الانسان فلا سبيل للانسان إلى الجهل بالله والشك في توحده. وايضا فان الله سبحانه لما كان حائلا بين المرء وقلبه فهو اقرب إلى قلبه منه كما انه اقرب إليه من قلبه فان الحائل المتوسط اقرب إلى كل من الطرفين من الطرف الاخر، وإذا كان تعالى اقرب إلى قلب الانسان منه فهو اعلم بما في قلبه منه. فعلى الانسان إذا دعاه داعى الحق إلى ما يحييه من الحق ان يستجيب دعاءه بقلبه كما يستجيبه بلسانه، ولا يضمر في قلبه ما لا يوافق ما لباه بلسانه وهو النفاق فان الله اعلم بما في قلبه منه وسيحشر إليه فينبؤه بحقيقة عمله ويخبره بما طواه في قلبه قال تعالى: (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ) المؤمن: 16، وقال: (ولا يكتمون الله حديثا) النساء: 42. وايضا فان الله سبحانه لما كان هو الحائل بين الانسان وقلبه وهو المالك للقلب بحقيقة معنى الملك كان هو المتصرف في القلب قبل الانسان وله ان يتصرف فيه بما شاء فما يجده الانسان في قلبه من إيمان أو شك أو خوف أو رجاء أو طمأنينة أو قلق واضطراب أو غير ذلك مما ينسب إليه باختيار أو اضطرار، فله انتساب إليه

[ 49 ]

تعالى بتصرفه فيما هو اقرب إليه من كل شئ تصرفا بالتوفيق أو الخذلان أو أي نوع من انواع التربية الالهية، يتصرف بما شاء ويحكم بما اراد من غيران يمنعه مانع اويهدده ذم أو لوم كما قال تعالى: (والله يحكم لا معقب لحكمه) الرعد: 41، وقال تعالى: (له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير) التغابن: 1. فمن الجهل ان يثق الانسان بما يجد في قلبه من الايمان بالحق أو التلبس بنيه حسنة أو عزيمة على خير اوهم بصلاح وتقوى، بمعنى ان يرى استقلاله بملك قلبه وقدرته المطلقة على ما يهم به فان القلب بين اصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء وهو المالك له بحقيقة معنى الملك والمحيط به بتمام معنى الكلمة، قال تعالى: (ونقلب افئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به اول مرة) الانعام: 110، فمن الواجب عليه ان يؤمن بالحق ويعزم على الخير على مخافة من الله تعالى ان يقلبه من السعادة إلى الشقاء ويحول قلبه من حال الاستقامة إلى حال الانتكاس والانحراف، ولا يأمن مكر الله، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. وكذلك الانسان إذا وجد قلبه غير مقبل على كلمة الحق والعزم على الخير وصالح العمل، عليه ان يبادر إلى استجابة الله ورسوله فيما يدعوه إلى ما يحييه، ولا ينهزم عما يهجم عليه من اسباب اليأس وعوامل القنوط من ناحية قلبه فان الله سبحانه يحول بين المرء وقلبه، وهو القادر على ان يصلح سره ويحول قلبه إلى احسن حال ويشمله بروح منه ورحمه فإنما الامر إليه، وقد قال: (انه لا ييأس من روح الله إلاالقوم الكافرون) يوسف: 87، وقال: (ومن يقنط من رحمة ربه الا الضالون) الحجر: 56. فالاية الكريمة - كما ترى - من اجمع الايات القرآنية تشتمل على معرفة حقيقية من المعارف الالهية - مسألة الحيلولة - وهى تقطع عذر المتجاهلين في معرفة الله سبحانه من الكفار والمشركين، وتقلع غرة النفاق من اصلها بتوجيه نفوس المنافقين إلى مقام ربهم وأنه اعلم بما في قلوبهم منهم، ويلقى إلى المسلمين والذين هم في طريق الايمان بالله وآياته مسألة نفسية تعلمهم انهم غير مستقلين في ملك قلوبهم ولا منقطعون في ذلك من ربهم فيزول بذلك رذيلة الكبر عمن يرى لنفسه استقلالا وسلطنة فيما يملكه فلا يغره ما يشاهده من تقوى القلب وايمان السر، ورذيله اليأس والقنوط عمن يحيط بقلبه

[ 50 ]

دواهي الهوى ودواعى اعراض الدنيا فيتثاقل عن الايمان بالحق والاقبال على الخير، ويورثه ذلك اليأس والقنوط. ومما تقدم يظهران قوله: (واعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه) الخ تعليل لقوله تعالى: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) على جميع التقادير من وجوه معناه. وبذلك يظهر ايضا ان الاية اوسع معنى مما اورده المفسرون من تفسيرها: كقول من قال: ان المراد ان الله سبحانه اقرب إلى المرء من قلبه نظير قوله: ونحن اقرب إليه من حبل الوريد، وفيه تحذير شديد. وقول من قال: ان المراد ان القلب لا يستطيع ان يكتم الله حديثا فان الله اقرب إلى قلب الانسان من نفسه، فما يعلمه الانسان من قلبه يعلمه الله قبله. وقول من قال: إن المراد انه يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بالموت فلا يمكنه استدراك ما فات فبادروا إلى الطاعات قبل الحيلولة ودعوا التسويف، وفيه حث على الطاعة قبل حلول المانع. وقول من قال: معناه ان الله سبحانه يملك تقليب القلوب من حال إلى حال فكأنهم خافوا من القتال فأعلمهم الله سبحانه انه يبدل خوفهم أمنا بأن يحول بينهم وبين ما يتفكرون فيه من اسباب الخوف. وقد ورد في الحديث عن ائمة اهل البيت عليه السلام ان المراد بذلك ان الله سبحانه يحول بين الانسان وبين ان يعلم ان الحق باطل أو ان الباطل حق، وسيجئ في البحث الروائي ان شاء الله تعالى. قوله تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا ان الله شديد العقاب) قرأ على والباقر عليهما السلام من أئمة اهل البيت وكذا زيد بن ثابت والربيع بن انس وأبو العالية على ما في المجمع: لتصيبن باللام ونون التأكيد الثقيلة، والقراءة المشهورة: لا تصيبن بلا الناهية ونون التأكيد الثقيلة. وعلى أي تقدير كان، تحذر الاية جميع المؤمنين عن فتنة تختص بالظالمين منهم، ولا يتعداهم إلى غيرهم من الكفار والمشركين، واختصاصها بالظالمين من المؤمنين وأمر

[ 51 ]

عامتهم مع ذلك باتقائها يدل على انها وإن كانت قائمة ببعض الجماعة لكن السيئ من أثرها يعم الجميع ثم قوله تعالى: (واعلموا ان الله شديد العقاب) تهديد للجميع بالعقاب الشديد ولا دليل يدل على اختصاص هذا العقاب بالحياة الدنيا وكونه من العذاب الدنيوي من قبيل الاختلافات القومية وشيوع القتل والفساد وارتفاع الامن والسلام ونحو ذلك. ومقتضى ذلك ان تكون الفتنة المذكورة على اختصاصها ببعض القوم مما يوجب على عامة الامة ان يبادروا على دفعها، ويقطعوا دابرها ويطفؤا لهيب نارها بما اوجب الله عليهم من النهى عن المنكر والامر بالمعروف. فيؤول معنى الكلام إلى تحذير عامة المسلمين عن المساهلة في امر الاختلافات الداخلية التى تهدد وحدتهم وتوجب شق عصاهم واختلاف كلمتهم، ولا تلبث دون ان تحزبهم احزابا وتبعضهم أبعاضا، ويكون الملك لمن غلب منهم، والغلبة لكلمة الفساد لا لكلمة الحق والدين الحنيف الذى يشترك فيه عامة المسلمين. فهذه فتنة تقوم بالبعض منهم خاصة وهم الظالمون غير ان سيئ أثره يعم الكل ويشمل الجميع فيستوعبهم الذلة والمسكنة وكل ما يترقب من مر البلاء بنشوء الاختلاف فيما بينهم، وهم جميعا مسئولون عند الله والله شديد العقاب. وقد ابهم الله تعالى امر هذه الفتنة ولم يعرفها بكمال اسمها ورسمها غير ان قوله فيما بعد: (لا تصيبن الذين ظلموامنكم خاصة) وقوله: (واعلموا ان الله شديد العقاب) - كما تقدم - يوضحها بعض الايضاح، وهو انها اختلاف البعض من الامة مع بعض منها في امر يعلم جميعهم وجه الحق فيه فيجمح البعض عن قبول الحق ويقدم إلى المنكر بظلمه فلا يرد عونه عن ظلمه ولا ينهونه عن ما يأتيه من المنكر، وليس كل ظلم، بل الظلم الذى يسرى سوء أثره إلى كافه المؤمنين وعامة الامة لمكان امره سبحانه الجميع بإتقائه، فالظلم الذى هو لبعض الامة ويجب على الجميع ان يتقوه، ليس الا ما هو من قبيل التغلب على الحكومة الحقة الاسلامية، والتظاهر بهدم القطعيات من الكتاب والسنة التى هي من حقوقها. وأيا ما كان ففى الفتن الواقعة في صدر الاسلام ما ينطبق عليه الاية اوضح

[ 52 ]

انطباق وقد انهدمت بها الوحده الدينية، وبدت الفرقة ونفدت القوة، وذهبت الشوكة على ما اشتملت عليه من القتل والسبي والنهب وهتك الاعراض والحرمات وهجر الكتاب وإلغاء السنة، وقال الرسول: يا رب ان قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا. ومن شمول مشأمتها وتعرق فسادها ان الامه لا تستطيع الخروج من أليم عذابها حتى بعد التنبه منهم لسوء فعالهم وتفريطهم في جنب الله كلما أرادوا ان يخرجوا منها اعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق. وقد تفطن بعض المفسرين بأن الاية تحذر الامة وتهددهم بفتنه تشمل عامتهم وتفرق جمعهم، وتشتت شملهم، وتوعدهم بعذاب الله الشديد، وقد احسن التفطن غير انه تكلف في توجيه العذاب بالعذاب الدنيوي، وتمحل في تقييد ما في الاية من إطلاق العقاب، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد. ولنرجع إلى لفظ الاية: أما على قراءة اهل البيت عليه السلام وزيد: و (اتقوا فتنة لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) فاللام في (لتصيبن) للقسم والنون الثقيله لتأكيده، والتقدير: واتقوا فتنة اقسم لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، وخاصة حال من الفتنة، والمعنى اتقوا فتنة تختص إصابته بالذين ظلموا منكم أيها المخاطبون وهم الذين آمنوا، وعليك ان تتذكر ما سلف بيانه ان لفظ: (الذين آمنوا) في القرآن خطاب تشريفي للمؤمنين في اول البعثة وبدء انتشار الدعوة لو لا قرينة صارفة عن ذلك، ثم تذكر ان فتن صدر الاسلام تنتهى إلى اصحاب بدر، والاية على أي حال يأمر الجميع ان يتقوا فتنة تثيرها بعضهم، وليس إلا لان أثرها السئ يعم الجميع كما تقدم. وأما على قراءة المشهور: (واتقوا فتنه لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) فقد ذكروا: ان لا في (لا تصيبن) ناهية والنون لتأكيد النهى، وليس (لا تصيبن) جوابا للامر في (اتقوا) بل الكلام جار مجرى الابتداء والاستيناف كقوله تعالى: (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده) النمل: 18 فقد قال اولا: (واتقوا فتنة) ثم استأنف وقال: (لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) لاتصال الجملتين معنى.

[ 53 ]

وربما جوز بعض النحاة ان يكون (لا تصيبن) ونهيا واردا في جواب الامر كما يقال: اتق زيدا لا يضربك أو لا يضربنك والتقدير: اتق زيدا فإنك إن اتقيته لا يضربك ولم يشترط في نون التأكيد أن لا يدخل الخبر. وربما قال بعضهم: ان لا زائدة والمعنى: اتقوا فتنة تصيبن الاية. وربما ذكر آخرون: (ان أصل لا تصيبن) (لتصيبن) اشبعت فتحة اللام حتى تولدت الالف، وإشباع الفتحة ليس بعزيز في الشعر قال: فأنت من الغوائل حين ترمى ومن ذم الرجال بمنتزاح يريد: بمنتزح، والوجهان بعيدان لا يحمل على مثلهما كلامه تعالى. ومال المعنى على هذا الوجه أي على قراءة الاولى (لا تصيبن) أيضا إلى ما تفيده القراءة الاولى (لتصيبن) كما عرفت. والاية - كما عرفت - تتضمن خطابا اجتماعيا متوجها إلى مجموع الامة وذلك يؤيد كون الخطاب في الاية السابقة: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) خطابا اجتماعيا متوجها إلى كافة المؤمنين، ويتفرع عليه ان المرا بالدعوة إلى ما يحييهم الدعوة إلى الاتفاق على الاعتصام بحبل الله وإقامة الدين وعدم التفرق فيه كما قال: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) آل عمران: 103 وقال: (أن اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) الشورى: 13 وقوله: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) الانعام: 153. وبهذا يتأيد بعض الوجوه المذكورة سابقا في قوله: (إذا دعاكم لما يحييكم) وكذا في قوله: (ان الله يحول بين المرء وقلبه) وتختص الاية به بحسب السياق وإن كانت تفيد معنى اوسع من ذلك باعتبار اخذها في نفسها مفردة عن السياق، والباحث الناقد لا يعوز عليه تمييز ذلك والله الهادى. قوله تعالى: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الارض تخافون أن يتخطفكم الناس) إلى آخر الاية. الاستضعاف عد الشئ ضعيفا بتوهين امره، والتخطف والخطف والاختطاف أخذ الشئ بسرعة انتزاع، والايواء جعل الانسان ذا مأوى ومسكن يرجع إليه ويأوى، والتأييد من الايد وهو القوة.

[ 54 ]

والسياق يدل على ان المراد بقوله: (إذ انتم قليل مستضعفون في الارض) الزمان الذى كان المسلمون محصورين بمكة قبل الهجرة وهم قليل مستضعفون، وبقوله: تخافون ان يتخطفكم الناس) مشركوا العرب وصناديد قريش، وبقوله (فآواكم) أي بالمدينة وبقوله (وأيدكم بنصره) ما اسبغ عليهم من نعمة النصر ببدر، وبقوله: (ورزقكم من الطيبات) ما رزقهم من الغنائم وأحلها لهم. وما عده في الاية من احوال المؤمنين ومننه عليهم بالايواء وإن كانت مما يختص بالمهاجرين منهم دون الانصار إلا ان المراد الامتنان على جميعهم من المهاجرين والانصار فإنهم امة واحدة يوحدهم دين واحد. على ان فيما ذكره الله في الاية من مننه التأييد بالنصر والرزق من الطيبات وهما يعمان الجميع، هذا بحسب ما تقتضيه الاية من حيث وقوعها في سياق آيات بدر، ولكن هي وحدها وباعتبار نفسها تعم جميع المسلمين من حيث انهم امة واحدة يرجع لاحقهم إلى سابقهم فقد بدأ ظهور الاسلام فيهم وهم قليل مستضعفون بمكة يخافون ان يتخطفهم الناس فآواهم بالمدينة وكثرهم بالانصار وأيدهم بنصره في بدر وغيره ورزقهم من جميع الطيبات الغنائم وغيرها من سائر النعم لعلهم يشكرون. قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا اماناتكم وأنتم تعلمون) آخر الايتين. الخيانة نقض الامانة التى هي حفظ الامن لحق من الحقوق بعهد أو وصية ونحو ذلك، قال الراغب: الخيانة والنفاق واحد إلا ان الخيانة تقال اعتبارا بالعهد والامانة، والنفاق يقال اعتبارا بالدين ثم يتداخلان فالخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر، ونقيض الخيانة الامانة يقال: خنت فلانا، وخنت امانة فلان وعلى ذلك قوله: لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم. انتهى. وقوله: (وتخونوا اماناتكم) من الجائز ان يكون مجزوما معطوفا على تخونوا السابق، والمعنى: ولا تخونوا اماناتكم، وأن يكون منصوبا بحذف أن والتقدير: وأن تخونوا اماناتكم ويؤيد الوجه الثاني قوله بعده: (وأنتم تعلمون). وذلك ان الخيانة وإن كانت إنما يتعلق النهى التحريمي بها عند العلم فلا نهى مع جهل بالموضوع ولا تحريم غير ان العلم من الشرائط العامة التى لا ينجز تكليف من التكاليف المولوية إلا به فلا نكتة ظاهرة في تقييد النهى عن الخيانة بالعلم مع

[ 55 ]

ان العلم لكونه شرطا عاما مستغنى عن ذكره، وظاهر قوله: (وأنتم تعلمون) بحذف متعلقات الفعل ان المراد: ولكم علم بأنه خيانة لا ما قيل: إن المعنى: وأنتم تعلمون مفاسد الخيانة وسوء عاقبتها وتحريم الله اياها فا ذلك لا دليل عليه من جهة اللفظ ولا من جهه السياق. فالوجه ان تكون الجملة بتقدير: وأن تخونوا اماناتكم، ويكون مجموع قوله: (لا تخونوا الله والرسول وتخونوا اماناتكم) نهيا واحدا متعلقا بنوع خيانة هي خيانة امانة الله ورسوله وهى بعينها خيانة لامانة المؤمنين انفسهم فان من الامانة ما هي امانة الله سبحانه عند الناس كأحكامه المشرعة من عنده ومنها ما هي امانة الرسول كسيرته الحسنه، ومنها ما هي امانة الناس بعضهم عند بعض كالامانات من اموالهم أو اسرارهم، ومنها ما يشترك فيه الله ورسوله والمؤمنون، وهى الامور التى امر بها الله سبحانه وأجراها الرسول وينتفع بها الناس ويقوم بها صلب مجتمعهم كالاسرار السياسية والمقاصد الحربية التى تضيع بإفشائها آمال الدين وتضل بإذاعتها مساعي الحكومة الاسلامية فيبطل به حق الله ورسوله ويعود ضرره إلى عامة المؤمنين. فهذا النوع من الامانة خيانته خيانة لله ورسوله وللمؤمنين فالخائن بهذه الخيانة من المؤمنين يخون الله والرسول وهو يعلم ان هذه الامانة التى يخونها امانة لنفسه ولسائر اخوانه المؤمنين وهو يخون امانة نفسه، ولن يقدم عاقل على الخيانة لامانة نفسه فان الانسان بعقله الموهوب له يدرك قبح الخيانة للامانة فكيف يخون امانة نفسه ؟ فالمراد بقوله: (وتخونوا اماناتكم وإنتم تعلمون) - والله اعلم - وتخونوا في ضمن خيانة الله والرسول اماناتكم والحال انكم تعلمون انها امانات انفسكم وتخونونها، وأى عاقل يقدم على خيانة ذ امانة نفسه والاضرار بما لا يعود إلا إلى شخصه فتذييل النهى بقوله: (وأنتم تعلمون) لتهييج العصبية الحقة وإثارة قضاء الفطرة لا لبيان شرط من شرائط التكليف. فكأن بعض افراد المسلمين كان يفشى امورا من عزائم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المكتومة من المشركين أو يخبرهم ببعض اسراره فسماه الله تعالى خيانة. ونهى عنه، وعدها خيانة لله والرسول والمؤمنين. ويؤيد ذلك قوله بعد هذا النهى: (واعلموا انما اموالكم وأولادكم فتنة) الخ

[ 56 ]

فان ظاهر السياق انه متصل بما قبله غير مستقل عنه، ويفيد حينئذ ان موعظتهم في امر الاموال والاولاد مع النهى عن خيانة الله والرسول وأماناتهم انما هو لاخبار المخبر منهم المشركين بأسرار رسول الله المكتومة، استمالة منهم مخافة ان يتعدوا على اموالهم وأولادهم الذين تركوهم بمكة بالهجرة إلى المدينة، فصاروا يخبرونهم بالاخبار إلقاء للمودة واستبقاء للمال والولد أو ما يشابه ذلك نظير ما كان من ابى لبابة مع بنى قريظة. وهذا يؤيد ما ورد في سبب النزول ان ابا سفيان خرج من مكة بمال كثير فأخبر جبرئيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخروجه وأشار عليه بالخروج إليه وكتمان أمره فكتب إليه بعضهم بالخبر فأنزل الله: (يا ايها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا اماناتكم وأنتم تعلمون) وفي نزول الاية بعض احاديث أخر سيأتي ان شاء الله في البحث الروائي التالى. قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا ان تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم) الفرقان ما يفرق به بين الشئ والشئ، وهو في الاية بقرينة السياق وتفريعه على التقوى الفرقان بين الحق والباطل سواء كان ذلك في الاعتقاد بالتفرقة بين الايمان والكفر وكل هدى وضلال أو في العمل بالتمييز بين الطاعة والمعصية وكل ما يرضى الله أو يسخطه، أو في الرأى والنظر بالفصل بين الصواب والخطأ فان ذلك كله مما تثمره شجرة التقوى، وقد اطلق الفرقان في الاية ولم يقيده وقد عد جمل الخير والشر في الايات السابقة والجميع يحتاج إلى الفرقان. ونظير الاية بحسب المعنى قوله تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه) وقد تقدم الكلام في معنى تكفير السيئات والمغفرة، والاية بمنزلة تلخيص الكلام في الاوامر والنواهي التى تتضمنها الايات السابقة أي ان تتقوا الله لم يختلط عندكم ما يرضى الله في جميع ما تقدم بما يسخطه ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم. (بحث روائي) في الكافي بإسناده عن عقيل الخزاعى: ان امير المؤمنين عليه السلام قال: ان الرعب والخوف من جهاد المستحق للجهاد والمتوازرين على الضلال، ضلال في الدين وسلب للدنيا مع الذل والصغار، وفيه استيجاب النار بالفرار من الزحف عند

[ 57 ]

حضرة القتال يقول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار). وفي الفقيه والعلل بإسناده عن ابن شاذان: ان ابا الحسن الرضا عليه السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: حرم الله الفرار من الزحف لما فيه من الوهن في الدين، والاستخفاف بالرسل والائمة العادلة، وترك نصرتهم على الاعداء، والعقوبة لهم على ترك ما دعوا إليه من الاقرار بالربوبية وإظهار العدل، وترك الجور وإماتة الفساد، لما في ذلك من جرأة العدو على المسلمين، وما يكون في ذلك من السبى والقتل وإبطال دين الله عز وجل وغيره من الفساد. اقول: وقد استفاضت الروايات عن ائمة اهل البيت عليهم السلام ان الفرار من الزحف من المعاصي الكبيرة الموبقة، وقد تقدم طرف منها في البحث عن الكبائر في تفسير قوله تعالى: (ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) النساء: 31 في الجزء الرابع من الكتاب. وعلى ذلك روايات من طرق اهل السنة كما في صحيحي البخاري ومسلم عن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: وما هن يا رسول الله ؟ قال: الشرك بالله وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولى يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وهناك روايات اخرى عن ابن عباس وغيره تدل على كون الفرار من الزحف من الكبائر. نعم قوله تعالى: (اليوم خفف الله عنكم وعلم ان فيكم ضعفا فان يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) الاية يقيد إطلاق آية تحريم الفرار بما دون الثلاثة لواحد. وقد روى من طرقهم عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن عباس وأبى هريرة وأبى سعيد الخدرى وغيرهم كما في الدر المنثور: ان تحريم الفرار من الزحف في هذه الاية خاص بيوم بدر. وربما وجه ذلك بأن الاية نزلت يوم بدر، وأن الظرف في قوله (ومن يولهم يومئذ دبره) إشارة إلى يوم بدر، وقد عرفت ان سياق الايات يشهد بنزولها بعد يوم بدر، وأن المراد بقوله: (يومئذ) هو يوم الزحف لا يوم بدر. على انه لو

[ 58 ]

فرض نزولها يوم بدر لم يوجب خصوص السبب في عموم مدلول الاية شيئا كما في سائر الايات التى جمعت بين عموم الدلالة وخصوص السبب. قال صاحب المنار في تفسيره: وإنما قد يتجه بناء التخصيص على قرينة الحال لو كانت الاية قد نزلت قبل اشتباك القتال - خلافا للجمهور - مع ما لغزوة بدر من الخصائص ككونها اول غزوة في الاسلام لو انهزم فيها المسلمون والنبى صلى الله عليه وآله وسلم فيهم لكانت الفتنة كبيرة. وتأييد المسلمين بالملائكة يثبتونهم، ووعده تعالى بنصرهم وإلقاء الرعب في قلوب اعدائهم. فإذا نظرنا إلى مجموع الخصائص وقرينة الحال في النهى اتجه كون التحريم المقرون بالوعيد الشديد الذى في الاية خاصا بها. اضف إلى ذلك ان الله تعالى امتحن الصحابة (رض) بالتولي والادبار في القتال مرتين مع وجوده صلى الله عليه وآله وسلم معهم: يوم أحد وفيه يقول الله تعالى (3: 155 ان الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم ان الله غفور حليم) ويوم حنين، وفيه يقول الله تعالى (9: 25 لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ اعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين 26، ثم انزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) الخ، وهذا لا ينافى كون التولى حراما ومن الكبائر، ولا يقتضى ان يكون كل تول لغير السببين المستثنيين في آية الانفال يبوء صاحبه بغضب عظيم من الله ومأواه جهنم وبئس المصير بل قد يكون دون ذلك، ويتقيد بآية رخصة الضعف الاتية في هذه السورة، وبالنهى عن إلقاء النفس في التهلكة من حيث عمومها كما تقدم في سورة البقرة وسيأتى تفصيله قريبا. وقد روى احمد وأصحاب السنن إلا النسائي من حديث ابن عمر قال: (كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحاص الناس حيصة وكنت فيمن حاص فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب ؟ ثم قلنا: لو دخلنا المدينة فبتنا، ثم قلنا: لو عرضنا نفوسنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فإن كان لنا توبة وإلا ذهبنا، فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال: من الفرارون ؟ فقلنا: نحن الفرارون. قال: بل أنتم العكارون انا فئتكم وفئه المسلمين. قال: فأتينا حتى قبلنا يده.

[ 59 ]

(ولفظ ابى داود) فقلنا: ندخل المدينة فنبيت فيها لنذهب ولا يرانا أحد فدخلنا فقلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فان كانت لنا توبة أقمنا وان كان غير ذلك ذهبنا فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا إليه فقلنا: نحن الفرارون الخ. تأول بعضهم هذا الحديث بتوسع في معنى التحيز إلى فئة لا يبقى معه للوعيد معنى ولا للغة حكم، وقد قال الترمذي فيه: حسن لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن ابى زياد أقول: وهو مختلف فيه ضعفه الكثيرون، وقال ابن حبان كان صدوقا إلا انه لما كبر ساء حفظه وتغير فوقعت المناكير في حديثه فمن سمع منه قبل التغير فسماعه صحيح، وجملة القول: أن هذا الحديث لا وزن له في هذه المسألة لا متنا ولا سندا، وفي معناه أثر عن عمر هو دونه فلا يوضع في ميزان هذه المسألة. انتهى. أقول: والذى نقله في إول كلامه من الوجوه والقرائن المحتفة بغزوة بدر من كونه اول غزوة في الاسلام، وكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهم ونحو ذلك مشتركه بحسب حقيقة الملاك بينها وبين أمثال غزوة أحد والخندق وخيبر وحنين، والاسلام أيامئذ في حاجة شديدة إلى الرجال المقاتلين ثباتهم في الزحوف، والنبى صلى الله عليه وآله وسلم بينهم، والله وعدهم بالنصرو أنزل في بعضها الملائكة لتأييدهم وإلقاء الرعب في قلوب اعدائهم. والذى ذكره من الايات النازلة في فرارهم يوم أحد ويوم حنين لا دلالة فيها على عدم شمول وعيد آية الانفال لهم إذ ذاك وإى مانع يمنع من ذلك والاية مطلقة وليس هناك مقيد يقيدها. ومن العجيب تسليمه كون فرارهم في اليومين كبيرة محرمة ثم قوله: إن ذلك لا يقتضى كونه مما يبوء صاحبه بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير بل قد يكون دون ذلك مع ان الكبائر الموبقة هي المعاصي التى أوعد الله عليها النار. وأعجب منه قوله: إنه يتقيد بآية رخصة الضعف الاتية في هذه السورة، وبالنهى عن إلقاء النفس في التهلكة من حيث عمومها ! مع ان آية رخصة الضعف إنما تدل على الرخصة في الفرار إذا كان يربو عدد الزاحفين من الاعداء على الضعف. وآية النهى عن إلقاء النفس في التهلكة لو دلت بعمومها على أزيد مما يدل عليه

[ 60 ]

آية رخصة الضعف لغت آية الانفال وبقيت بلا مصداق كما ان التأول في قوله تعالى: (أو متحيزا إلى فئة) على حسب ما تقتضيه رواية ابن عمر يوجب إلغاء الاية كما ذكره صاحب المنار فقد تلخص ان لا مناص عن إبقاء الاية على ظاهر إطلاقها. وفي تفسير العياشي عن موسى بن جعفر عليه السلام في الاية: (إلا متحرفا لقتال) قال متطردا يريد الكرة عليهم (أو متحيزا إلى فئة) يعنى متأخرا إلى أصحابه من غير هزيمة، من انهز حتى يجوز صف أصحابه فقد باء بغضب من الله. أقول: تشير الرواية إلى نكتة مهمة في لفظ الاية، وهى ان النهى انما تعلقت في الاية على تولى الادبار وهى أعم من الانهزام فإذا استثنى الموردان أعنى التحرف لقتال والتحيز إلى فئة وهى غير موارد الفرار عن هزيمة، بقيت موارد الهزيمة تحت النهى فكل انهزام عن اعداء الدين إذا لم يجوزوا الضعف عددا حرام محرم. وفي تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب عن الثعلبي عن ضحاك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: (وما رميت إذ رميت) ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلى: ناولنى كفا من حصى وناوله ورمى به في وجوه قريش فما بقى احد إلا امتلات عيناه من الحصى. أقول: ورواه في الدر المنثور عن الطبراني وابى الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس وروى العياشي في فسيره حديث المناولة عن محمد بن كليب الاسدي عن ابيه عن الصادق عليه السلام، وفي خبر آخر عن على عليه السلام. وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير عن محمد بن قيس ومحد بن كعب رضى الله عنهما قالا لما دنا القوم بعضهم من بعض اخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم، وقال: شاهت الوجوه فدخلت في اعينهم كلهم، وأقبل اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم، وكانت هزيمتهم في رمية رسول االله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: (وما رميت إذ رميت - إلى قوله - سميع عليم). أقول: والمراد بنزول الاية نزولها بعد ذلك وهى تقص القصة لا نزولها وقتئد، وهو شائع في اسباب النزول. وقد ذكر ابن هشام في سيرته: ان النبي صلى الله عليه وسلم رماهم بالتراب ثم امر اصحابه بالكرة فكانت الهزيمة.

[ 61 ]

وفيه اخرج ابن ابى شيبة وأحمد وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وابن منده والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن شهاب عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير: ان ابا جهل قال حين التقى القوم: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة فكان ذلك استفتاحا منه فنزلت: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) الاية. وفي المجمع في قوله تعالى: (إن شر الدواب عند الله) الاية قال: قال الباقر عليه السلام: هم بنو عبد الدار لم يكن اسلم منهم غير مصعب بن عمير وحليف لهم يقال له: سويبط. وفي جامع الجوامع: قال الباقر عليه السلام هم بنو عبد الدار لم يسلم منهم غير مصعب بن عمير وسويد بن حرملة، وكانوا يقولون: نحن صم بكم عمى عما جاء به محمد، وقد قتلوا جميعا باحد وكانوا اصحاب اللواء. أقول: وروى في الدر المنثورما في معناه بطرق عن ابن عباس وقتادة، والرواية من قبيل الجرى والانطباق، والاية عامة. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) الاية. قال: قال الحياة الجنة. وفي الكافي بإسناده عن ابى الربيع الشامي قال: سألت ابا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل: (يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) قال: نزلت في ولاية على عليه السلام. أقول: ورواه في تفسير البرهان عن ابن مردويه عن رجاله مرفوعا إلى الامام محمد بن على الباقر عليه السلام، وكذا عن ابى الجارود عنه عليه السلام كما رواه القمى في تفسيره، والرواية من قبيل الجرى وكذا الرواية السابقة عليها، وقد قدمنا في الكلام على الاية انها عامة. وفي تفسير القمى عن أبى الجارود عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى: (واعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه) يقول: بين المرء ومعصيته ان يقوده إلى النار، ويحول بين الكافر وطاعته ان يستكمل بها الايمان، واعلموا ان الاعمال بخواتيمها.

[ 62 ]

وفي المحاسن بإسناده عن على بن الحكم عن هشام بن سالم عن الصادق عليه السلام في قول الله تبارك وتعالى: (واعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه) قال: يحول بينه وبين ان يعلم ان الباطل حق. أقول: ورواه الصدوق في المعاني عن ابن ابى عمير عن هشام بن سالم عنه عليه السلام. وفي تفسير العياشي عن يونس بن عمار عن ابى عبد الله عليه السلام قال: لا يستيقن القلب ان الحق باطل ابدا، ولا يستيقن ان الباطل حق ابدا. وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الاية: (يحول بين المرء وقلبه) قال: يحول بين المؤمن والكفر، ويحول بين الكافر وبين الهدى. أقول: وهو قريب من الخبر المقتدم عن أبى الجارود عن الباقر عليه السلام في معنى الاية. وفي تفسير العياشي عن حمزة الطيار عن أبى عبد الله عليه السلام (و اعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه) قال: هو أن يشتهى الشئ بسمعه وبصره ولسانه ويده أما انه لا يغشى شيئا منها وإن كان يشتهيه فإنه لا يأتيه إلا وقلبه منكر لا يقبل الذى يأتي: يعرف ان الحق ليس فيه. أقول: ورواه البرقى في المحاسن بإسناده عن حمزة الطيار عنه عليه السلام وروى ما يقرب منه العياشي في تفسيره عن جابر عن ابى جعفر عليه السلام، ويؤول معنى الرواية إلى الروايتين المتقدمتين عن هشام بن سالم ويونس بن عمار عن الصادق عليه السلام. وفي تفسير العياشي عن الصيقل: سئل أبو عبد الله عليه السلام (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) قال: اخبرت انهم اصحاب الجمل. وفي تفسير القمى قال: قال: نزلت في الطلحة والزبير لما حاربا امير المؤمنين عليه السلام وظلماه. وفي المجمع عن الحاكم بإسناده عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الاية (واتقوا فتنة) قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من ظلم عليا مقعدي هذا بعد وفاتي فكأنما جحد نبوتى ونبوة الانبياء من قبلى.

[ 63 ]

وفي الدر المنثور اخرج ابن ابى شيبة وعبد بن حميد ونعيم بن حماد في الفتن وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن الزبير رضى الله عنه قال: لقد قرأنا زمانا وما نرى أنا من اهلها فإذا نحن المعنيون بها: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة). وفيه اخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن السدى في الاية قال: هذه نزلت في اهل بدر خاصة فإصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا فكان من المقتولين طلحة والزبير وهما من اهل بدر. وفيه اخرج احمد والبزاز وابن المنذر وابن مردويه وابن عساكر عن مطرف قال: قلنا للزبير: يا ابا عبد الله ضيعتم الخليفة حتى قتل ثم جئتم تطلبون بدمه ؟ فقال الزبير رضى الله عنه: إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) ولم نكن نحسب انا اهلها حتى وقعت فينا حيث وقعت. وفيه اخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة رضى الله عنه في الاية قال: علم والله ذووا الالباب من اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم انه سيكون فتن. وفيه: اخرج أبو الشيخ وأبو نعيم والديلمي في مسند الفردوسي عن ابن عباس رضى الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الارض تخافون ان يتخطفكم الناس) قيل: يا رسول الله ومن الناس ؟ قال: اهل فارس. اقول: والرواية لا تلائم سياق الاية. وفيه في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول) الاية اخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه ان ابا سفيان خرج من مكة فأتى جبرائيل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ان ابا سفيان بمكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا فكتب رجل من المنافقين إلى ابى سفيان ان محمدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله: (لا تخونوا الله والرسول) الاية. اقول: ومعنى الرواية قريب الانطباق على ما استفدناه من الاية في البيان المتقدم.

[ 64 ]

وفيه: اخرج ابن جرير عن المغيرة بن شعبة قال: نزلت هذه الاية في قتل عثمان رضى الله عنه. اقول: والاية لا تنطبق عليه بسياقها البتة. وفي المجمع عن الباقر والصادق عليهما السلام والكلبي والزهرى: نزلت في ابى لبابة بن عبد المنذر الانصاري، وذلك ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصلح على ما صالح عليه اخوانهم من بنى النضير على ان يسيروا إلى اخوانهم إلى اذرعات وأريحات من ارض الشام فأبى ان يعطيهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فقالوا: ارسل الينا أبا لبابة وكان مناصحا لهم لان عياله وماله وولده كانت عندهم فبعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتاهم فقالوا: ما ترى يا أبا لبابة ؟ أننزل على حكم سعد بن معاذ ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه: انه الذبح فلا تفعلوا فأتاه جبرائيل فأخبره بذلك. قال أبو لبابة: فو الله ما زالت قدماى عن مكانهما حتى عرفت انى قد خنت الله ورسوله فنزلت الاية فيه فلما نزلت شد نفسه على سارية من سوارى المسجد، وقال: والله لا اذوق طعاما ولا شرابا حتى اموت أو يتوب الله على فمكث سبعة ايام لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه ثم تاب الله عليه فقيل له: يا ابا لبابة قد تيب عليك فقال: لا والله لا احل نفسي حتى يكون رسول الله هو الذى يحلنى فجاءه وحله بيده. ثم قال أبو لبابة: ان من تمام توبتي ان اهجر دار قومي التى أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالى. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يجزيك الثلث ان تصدق به. اقول: قصة ابى لبابة وتوبته صحيحة قابلة الانطباق على مضمون الايتين غير انها وقعت بعد قصة بدر بكثير، وظاهر الايتين إذا اعتبرتا وقيستا إلى الايات السابقة عليهما ان الجميع في سياق واحد نزلت بعد وقعة بدر بقليل. والله اعلم.

[ 65 ]

وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين - 30. وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الاولين - 31. وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم - 32. وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون - 33. وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن اكثرهم لا يعلمون - 34. وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون - 35. إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون - 36. ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون - 37. قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الاولين - 38. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير - 39. وإن تولوا فاعلموا أن الله موليكم نعم المولى ونعم النصير - 40.

[ 66 ]

(بيان) الايات في سياق الايات السابقة وهى متصلة بها ومنعطفة على آيات اول السورة إلا قوله: (وإذ قالوا اللهم ان كان هذا هو الحق) الاية والاية التى تليها، فان ظهور اتصالها دون بقية الايات، وسيجئ الكلام فيها ان شاء الله تعالى. قوله تعالى: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) إلى آخر الاية، قال الراغب: المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة، وذلك ضربان: ضرب محمود وذلك ان يتحرى به فعل جميل وعلى ذلك قال: والله خير الماكرين، ومذموم وهو ان يتحرى به فعل قبيح قال: ولا يحيق المكر السيئ الا بأهله. واذ يمكر بك الذين كفروا. فانظر كيف كان عاقبة مكرهم، وقال في الامرين: ومكروا مكرا ومكرنا مكرا، وقال بعضهم: من مكر الله امهال العبد وتمكينه من اعراض الدنيا، ولذلك قال امير المؤمنين رضى الله عنه: من وسع عليه دنياه ولم يعلم انه مكر به فهو مخدوع عن عقله. انتهى. وفي المجمع: الاثبات الحبس يقال: رماه فأثبته أي حبسه مكانه، وأثبته في الحرب أي جرحه جراحة مثقلة. انتهى. ومقتضى سياق الايات ان يكون قوله: (واذ يمكر بك الذين كفروا) الاية معطوفة على قوله سابقا: (واذ يعدكم الله احدى الطائفتين انها لكم) فالاية مسوقة لبيان ما اسبغ الله عليهم من نعمته، وأيدهم به من اياديه التى لم يكن لهم فيها صنع. ومعنى الاية: واذكر أو وليذكروا إذ يمكر بك الذين كفروا من قريش لابطال دعوتك ان يوقعوا بك احد أمور ثلاثة: إما ان يحبسوك واما ان يقتلوك واما ان يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. والترديد في الاية بين الحبس والقتل والاخراج بيانا لما كانوا يمكرونه من مكر يدل انه كان منهم شورى يشاور فيها بعضهم بعضا في امر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما كان يهمهم ويهتمون به من اطفاء نور دعوته، وبذلك يتأيد ما ورد من اسباب النزول ان الاية تشير إلى قصة دار الندوة على ما سيجئ في البحث الروائي التالى ان شاء الله تعالى.

[ 67 ]

قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا) إلى آخر الاية الاساطير الاحاديث جمع اسطورة ويغلب في الاخبار الخرافية، وقوله حكاية عنهم: (قد سمعنا) وقوله: (لو نشاء لقلنا) وقوله: (مثل هذا) ولم يقل: مثل هذه أو مثلها كل ذلك للدلالة على اهانتهم بآيات الله وإزرائهم بمقام الرسالة، ونظيرها قولهم: (ان هذا الا اساطير الاولين). والمعنى: وإذا تتلى عليهم آياتنا التى لا ريب في دلالتها على انها من عندنا وهى تكشف عن ما نريده منهم من الدين الحق لجوا واعتدوا بها وهونوا امرها وأزروا برسالتنا وقالوا قد سمعنا وعقلنا هذا الذى تلى علينا لا حقيقة له الا انه من أساطير الاولين، ولو نشاء لقلنا مثله غير انا لا نعتني به ولا نهتم بأمثال هذه الاحاديث الخرافية. قوله تعالى: (وان قالوا اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك) إلى آخر الايتين. الامطار هو انزال الشئ من فوق، وغلب في قطرات الماء من المطر أو هو استعارة امطار المطر لغيره كالحجارة وكيف كان فقولهم: امطر علينا حجارة من السماء بالتصريح باسم السماء للدلالة على كونه بنحو الاية السماوية والاهلاك الالهى محضا. فإمطار الحجارة من السماء عليهم على ما سألوا احد اقسام العذاب ويبقى الباقي تحت قولهم: (أو ائتنا بعذاب أليم) ولذلك نكر العذاب وأبهم وصفه ليدل على باقى اقسام العذاب، ويفيد مجموع الكلام: ان امطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب آخر غيره يكون أليما، وانما افرد امطار الحجارة من بين افراد العذاب الاليم بالذكر لكون الرضخ بالحجارة مما يجتمع فيه عذاب الجسم بما فيه من تألم البدن وعذاب الروح بما فيه من الذلة والاهانة. ثم قوله: (ان كان هذا هو الحق من عندك) يدل بلفظه على ان الذى سمعوه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلسان القال أو الحال بدعوته هو قوله: (هذا هو الحق من عند الله) وفيه شئ من معنى الحصر، وهذا غير ما كان يقوله لهم: هذا حق من عند الله فان القول الثاني يواجه به الذى لا يرى دينا سماويا ونبوة إلهية كما كان يقوله المشركون وهم الوثنية: ما انزل الله على بشر من شئ، واما القول الاول فإنما يواجه به من يرى ان هناك دينا حقا من عند الله ورسالة إلهية يبلغ الحق من عنده ثم ينكر كون ما أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بعض ما أتى به هو الحق من عند الله تعالى فيواجه بأنه هو

[ 68 ]

الحق من عند الله لا غيره، ثم يرد بالاشتراط في مثل قوله: اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فالاشبه ان لا يكون هذا حكاية عن بعض المشركين بنسبته إلى جميعهم لاتفاقهم في الرأى أو رضا جميعهم بما قاله هذا القائل بل كأنه حكاية عن بعض اهل الردة ممن اسلم ثم ارتد أو عن بعض اهل الكتاب المعتقدين بدين سماوي حق فافهم ذلك. ويؤيد هذا الاية التالية لهذه الاية: (وما كان الله ليعذبهم وإنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) اما قوله: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) فان كان المراد به نفى تعذيب الله كفار قريش بمكة قبل الهجرة والنبى فيهم كان مدلوله ان المانع من نزول العذاب يومئذ هو وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهم، والمراد بالعذاب غير العذاب الذى جرى عليهم بيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل والاسر كما سماه الله في الايات السابقة عذابا، وقال في مثلها: (قل هل تربصون بنا إلا احد الحسنيين ونحن نتربص بكم ان يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا) التوبة: 52، بل عذاب الاستئصال بآية سماوية كما جرى في امم الانبياء الماضين لكن الله سبحانه هددهم بعذاب الاستئصال في آيات كثيرة كقوله تعالى: (فان اعرضوا فقل انذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) حم السجدة: 13، وكيف يلائم امثال هذه التهديدات قوله: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) لو كان المراد بالمعذبين هم كفار قريش ومشركوا العرب ما دام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة. ولو كان المراد بالمعذبين جميع العرب أو الامة، والمراد بقوله: (وأنت فيهم) حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى: ولا يعذب الله هذه الامة وأنت فيهم حيا كما ربما يؤيده قوله بعده: (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) كان ذلك نفيا للعذاب عن جميع الامة ولم يناف نزوله على بعضهم كما سمى وقوع القتل بهم عذابا كما في الايات السابقة، وكما ورد ان الله تعالى عذب جمعا منهم كأبى لهب والمستهزئين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى هذا لا تشمل الاية القائلين: (اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك) إلى آخر الاية، وخاصة باعتبار ما روى ان القائل به أبو جهل كما في صحيح البخاري أو النضر بن الحارث بن كلدة كما في بعض روايات أخر وقد حقت عليهما كلمة العذاب وقتلا يوم بدر فلا ترتبط الاية: (وما كان الله ليعذبهم) الاية، بهؤلاء القائلين: اللهم ان

[ 69 ]

كان هذا هو الحق من عندك) الاية مع انها مسوقة سوق الجواب عن قولهم. ويشتد الاشكال بناء على ما وقع في بعض اسباب النزول انهم قالوا: اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فنزل قوله تعالى: (سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع) وسيجئ الكلام فيه وفي غيره من اسباب النزول المروية في البحث الروائي التالى ان شاء الله. والذى تمحل به بعض المفسرين في توجيه مضمون الاية بناء على حملها على ما مر من المعنى ان الله سبحانه ارسل محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين ونعمة لهذه الامة لا نقمة وعذابا. فيه انه ليس مقتضى الرحمة للعالمين ان يهمل مصلحة الدين، ويسكت عن مظالم الظالمين وان بلغ ما بلغ وأدى إلى شقاء الصالحين واختلال نظام الدنيا والدين، وقد حكى الله سبحانه عن نفسه بقوله: (ورحمتي وسعت كل شئ) ولم يمنع ذلك من حلول غضبه على من حل به من الامم الماضية والقرون الخالية كما ذكره في كلامه. على انه تعالى سمى ما وقع على كفار قريش من القتل والهلاك في بدر وغيره عذابا ولم يناف ذلك قوله: (وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين) الانبياء: 107، وهدد هذه الامة بعذاب واقع قطعي في سور يونس والاسراء والانبياء والقصص والروم والمعارج وغيرها ولم يناف ذلك كونه صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين فما بال نزول العذاب على شرذمة تفوهت بهذه الكلمة: (اللهم إن كان هذا هو الحق) الخ، ينافى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبى الرحمة مع ان من مقتضى الرحمة ان يوفى لكل ذى حق حقه، وأن يقتص للمظلوم من الظالم وأن يؤخذ كل طاغية بطغيانه. وأما قوله تعالى: (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) فظاهره النفى الاستقبالي على ما هو ظاهر الصفة: (معذبهم) وكون قوله: (يستغفرون) مسوقا لافادة الاستمرار والجملة حالية، والمعنى: ولا يستقبلهم الله بالعذاب ما داموا يستغفرونه. والاية كيفما أخذت لا تنطبق على حال مشركي مكة وهم مشركون معاندون لا يخضعون لحق ولا يستغفرون عن مظلمة ولا جريمة، ولا يصلح الامر بما ورد في بعض الاثار انهم قالوا ما قالوا ثم ندموا على ما قالوا فاستغفروا الله بقولهم: (غفرانك اللهم). وذلك - مضافا إلى عدم ثبوته - انه تعالى لا يعبأ في كلامه باستغفار المشركين

[ 70 ]

ولا سيما أئمة الكفر منهم، واللاغى من الاستغفار لا أثر له، ولو لم يكن استغفارهم لاغيا وارتفع به ما أجرموه بقولهم: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء الاية لم يكن وجه لذمهم وتأنيبهم بقوله تعالى: (وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق) في سياق هذه الايات المسوقة لذمهم ولومهم وعد جرائمهم ومظالمهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين. على ان قوله تعالى بعد الايتين: (وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام) الاية لا يلائم نفى العذاب في هاتين الايتين فإن ظاهر الاية ان العذاب المهدد به هو عذاب القتل بأيدى المؤمنين كما يدل عليه قوله بعده: (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وحينئذ فلو كان القائلون: (اللهم إن كان هذا هو الحق الاية مشركي قريش أو بعضهم وكان المراد من العذاب المنفى العذاب السماوي لم يستقم إنكار وقوع العذاب عليهم بالقتل ونحوه فان الكلام حينئذ يؤول إلى معنى التشديد: ومحصله: انهم كانوا احق بالعذاب ولهم جرم آخر وراء ما اجرموه وهو الصد عن المسجد الحرام، وهذا النوع من الترقي انسب بإثبات العذاب لهم لا لنفيه عنهم. وإن كان المراد بالعذاب المنفى هو القتل ونحوه كان عدم الملاءمه بين قوله: (وما لهم أن لا يعذبهم الله وقوله: (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) وبين قوله: (وما كان الله ليعذبهم) الخ، أوضح وأظهر. وربما وجه الاية بهذا المعنى بعضهم بان المراد بقوله: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) عذاب اهل مكة قبل الهجرة، وبقوله: (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) عذاب الناس كافة بعد هجرته صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وإيمان جمع واستغفارهم ولذا قيل: إن صدر الاية نزلت قبل الهجرة، وذيلها بعد الهجرة ! وهو ظاهر الفساد فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما كان فيهم بمكة قبل الهجرة كان معه جمع ممن يؤمن بالله ويستغفره، وهو صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة كان في الناس فما معنى تخصيص صدر الاية بقوله: (وأنت فيهم) وذيلها بقوله: (وهم يستغفرون). ولو فرض ان معنى الاية ان الله لا يعذب هذه الامة ما دمت فيهم ببركة وجودك، ولا يعذبهم بعدك ببركة استغفارهم لله والمراد بالعذاب عذاب الاستئصال لم يلائم الايتين التاليتين: (وما لهم الا يعذبهم الله) الخ مع ما تقدم من الاشكال عليه.

[ 71 ]

فقد ظهر من جميع ما تقدم - على طوله - ان الايتين أعنى قوله: (وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة) إلى آخر الايتين لا تشاركان الايات السابقة واللاحقة المسرودة في الكلام على كفار قريش في سياقها الواحد فهما لم تنزلا معها. والاقرب ان يكون ما حكى فيهما من قولهم والجواب عنه بقوله: (وما كان الله ليعذبهم) غير مرتبط بهم وإنما صدر هذا القول من بعض اهل الكتاب أو بعض من آمن ثم ارتد من الناس. ويتايد بذلك بعض ما ورد ان القائل بهذا القول الحارث بن النعمان الفهرى، وقد تقدم الحديث نقلا عن تفسيرى الثعلبي والمجمع في ذيل قوله تعالى: (يا ايها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك) الاية المائدة: 67 في الجزء السادس من الكتاب. وعلى هذا التقدير فالمراد بالعذاب المنفى العذاب السماوي المستعقب للاستئصال الشامل للامة على نهج عذاب سائر الامم، والله سبحانه ينفى فيها العذاب عن الامة ما دام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم حيا، وبعده ما داموا يستغفرون الله تعالى. ويظهر من قوله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) بضمه إلى الايات التى توعد هذه الامة بالعذاب الذى يقضى بين الرسول وبينهم كايات سورة يونس: (ولكل امة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) يونس: 47 إلى آخر الايات أن في مستقبل أمر هذه الامة يوما ينقطع عنهم الاستغفار ويرتفع من بينهم المؤمن الالهى فيعذبون عند ذاك. قوله تعالى: (وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا اولياءه) إلى آخر الاية استفهام في معنى الانكار أو التعجب، وقوله: (وما لهم) بتقدير فعل يتعلق به الظرف ويكون قوله: (ان لا يعذبهم) مفعوله أو هو من التضمين نظير ما قيل في قوله: (هل لك إلى ان تزكى) النازعات: 18. والتقدير على أي حال نحو من قولنا: (وما الذى يثبت ويحق لهم عدم تعذيب الله اياهم والحال انهم يصدون عن المسجد الحرام ويمنعون المؤمنين من دخوله وما كانوا اولياءه). فقوله: (وهم يصدون) الخ حال عن ضمير (يعذبهم) وقوله:

[ 72 ]

(وما كانوا اولياءه) حال عن ضمير (يصدون). وقوله: (إن أولياؤه إلا المتقون) تعليل لقوله: (وما كانوا اولياءه) أي ليس لهم ان يلوا امر البيت فيجيزوا ويمنعوا من شاؤوا لان هذا المسجد مبنى على تقوى الله فلا يلى امره إلا المتقون وليسوا بهم. فقوله: (إن أولياؤه إلا المتقون) جملة خبرية تعلل القول بامر بين يدركه كل ذى لب، وليست الجملة إنشائية مشتملة على جعل الولاية للمتقين، ويشهد لما ذكرناه قوله بعد: (ولكن اكثرهم لا يعلمون) كما لا يخفى. والمراد بالعذاب العذاب بالقتل أو الاعم منه على ما يفيده السياق باتصال الاية بالاية التالية، وقد تقدم ان الاية غير متصلة ظاهرا بما تقدمها أي ان الايتين: (وإذ قالوا اللهم) الخ (وما كان الله ليعذبهم) الخ خارجتان عن سياق الايات، ولازم ذلك ما ذكرناه. قال في المجمع: ويسأل فيقال: كيف يجمع بين الايتين وفي الاولى نفى تعذيبهم، وفي الثانية إثبات ذلك ؟ وجوابه على ثلاثة اوجه: أحدها: ان المراد بالاول عذاب الاصطلام والاستئصال كما فعل بالامم الماضية، وبالثانى عذاب القتل بالسيف والاسر وغير ذلك بعد خروج المؤمنين من بينهم. والاخر: انه اراد: وما لهم أن لا يعذبهم الله في الاخرة، ويريد بالاول عذاب الدنيا. عن الجبائى. والثالث: ان الاول استدعاء للاستغفار. يريد انه لا يعذبهم بعذاب دنيا ولا آخرة إذا استغفروا وتابوا فإذا لم يفعلوا عذبوا ثم بين ان استحقاقهم العذاب بصدهم عن المسجد الحرام. انتهى. وفيه: ان مبنى الاشكال على اتصال الاية بما قبلها وقد تقد انها غير متصلة. هذا إجمالا. وأما تفصيلا فيرد على الوجه الاول: ان سياق الاية وهو كما تقدم سياق التشدد والترقى، ولا يلاءم ذلك نفى العذاب في الاولى مع إثباته في الثانية وإن كان العذاب غير العذاب.

[ 73 ]

وعلى الثاني ان سياق الاية ينافى كون المراد بالعذاب فيها عذاب الاخرة، وخاصة بالنظر إلى قوله في الاية الثالثة - وهى في سياق الاية الاولى - (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون). وعلى الثالث: ان ذلك خلاف ظاهر الاية بلا شك حيث ان ظاهرها إثبات الاستغفار لهم حالا مستمرا لاستدعاؤه وهو ظاهر. قوله تعالى: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) المكاء بضم الميم الصفير، والمكاء بصيغة المبالغة طائر بالحجاز شديد الصفير، ومنه المثل السائر: بنيك حمرى ومكئكينى. والتصدية التصفيق بضرب اليد على اليد. وقوله: (وما كان صلاتهم) الضمير لهؤلاء الصادين المذكورين في الاية السابقة وهم المشركون من قريش، وقوله: (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) بيان إنجاز العذاب الموعد لهم بقرينة التفريع بالفاء. ومن هنا يتايد ان الايتين متصلتان كلاما واحدا، وقوله: (وما كان) الخ جملة حالية والمعنى: وما لهم ان لا يعذبهم الله والحال انهم يصدون العباد من المؤمنين عن المسجد الحرام وما كان صلاتهم عند البيت إلا ملعبة من المكاء والتصدية فإذا كان كذلك فليذوقوا العذاب بما كانوا يكفرون، والالتفات في قوله: (فذوقوا العذاب) عن الغيبة إلى الخطاب لبلوغ التشديد. ويستفاد من الايتين ان الكعبه المشرفة لو تركت بالصد استعقب ذلك المؤاخذة الالهية بالعذاب قال على عليه السلام في بعض وصاياه: (الله الله في بيت ربكم فانه إن ترك لم تنظروا (1). قوله تعالى: (إن الذين كفروا ينفقون اموالهم ليصدوا عن سبيل الله) إلى آخر الاية يبين حال الكفار في ضلال سعيهم الذى يسعونه لابطال دعوة الله والمنع عن سلوك السالكين لسبيل الله، ويشرح ذلك قوله: (فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون) الخ.


(1) نهج البلاغة في باب الوصايا. (*)

[ 74 ]

وبهذا السياق يظهر ان قوله: (والذين كفروا إلى جهنم يحشرون) بمنزلة التعليل، ومحصل المعنى ان الكفر سيبعثهم - بحسب سنة الله في الاسباب - إلى ان يسعوا في إبطال الدعوة والصد عن سبيل الحق غير ان الظلم والفسق وكل فساد لا يهدى إلى الفلاح والنجاح فسينفقون اموالهم في سبيل هذه الاغراض الفاسدة فتضيع الاموال في هذا الطريق فيكون ضيعتها موجبة لتحسرهم، ثم يغلبون فلا ينتفعون بها، وذلك ان الكفار يحشرون إلى جهنم ويكون ما يأتون به في الدنيا من التجمع على الشر والخروج إلى محاربة الله ورسوله بحذاء خروجهم محشورين إلى جهنم يوم القيامة. وقوله: (فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون) إلى آخر الاية من ملاحم القرآن والاية من سورة الانفال النازلة بعد غزوة بدر فكأنها تشير إلى ما سيقع من غزوة أحد أو هي وغيرها، وعلى هذا فقوله: (فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة) اشارة إلى غزوة أحد أو هي وغيرها، وقوله: (ثم يغلبون) إلى فتح مكة، وقوله: (والذين كفروا إلى جهنم يحشرون) إلى حال من لا يوفق للاسلام منهم. قوله تعالى: (ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم اولئك هم الخاسرون) الخباثة والطيب معنيان متقابلان وقد مر شرحهما والتمييز إخراج الشئ عما يخالفه وإلحاقه بما يوافقه بحيث ينفصل عما يخالفه، والركم جمع الشئ فوق الشئ ومنه سحاب مركوم أي مجتمع الاجزاء بعضها إلى بعض ومجموعها وتراكم الاشياء تراكب بعضها بعضا. والاية في موضع التعليل لما أخبر به في الاية السابقة من حال الكفار بحسب السنة الكونيه، وهو انهم يسعون بتمام وجدهم ومقدرتهم إلى ان يطفؤوا نور الله ويصدوا عن سبيل الله فينفقون في ذلك الاموال ويبذلون في طريقه المساعى غير انهم لا يهتدون إلى مقاصدهم ولا يبلغون آمالهم بل تضيع اموالهم، وتحبط اعمالهم وتضل مساعيهم، ويرثون بذلك الحسرة والهزيمة. وذلك ان هذه الاعمال والتقلبات تسير على سنة إلهية وتتوجه إلى غاية تكوينية ربانية، وهى ان الله سبحانه يميز في هذا النظام الجارى الشر من الخير والخبيث من الطيب ويركم الخبيث بجعل بعضه على بعض، ويجعل ما اجتمع منه وتراكم في جهنم

[ 75 ]

وهى الغاية التى تسير إليها قافلة الشر والخبيث يحلها الجميع وهى دار البوار كما ان الخير والطيب إلى الجنة، والاولون هم الخاسرون كما ان الاخرين هم الرابحون المفلحون. ومن هنا يظهر ان قوله: (ليميز الله الخبيث من الطيب) الخ قريب المضمون من قوله تعالى في مثل ضربه للحق والباطل: (أنزل من السماء ماء فسالت اودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فاما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض) الرعد: 17 والاية تشير إلى قانون كلى إلهى وهو إلحاق فرع كل شى باصله. قوله تعالى: (قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) إلى آخر الاية الانتهاء الاقلاع عن الشئ لاجل النهى، والسلوف التقدم، والسنة هي الطريقة والسيرة. امر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يبلغهم ذلك وفي معناه تطميع وتخويف وحقيقته دعوة إلى ترك القتال والفتنة ليغفر الله لهم بذلك ما تقدم من قتلهم وإيذائهم للمؤمنين فان لم ينتهوا عما نهوا عنه فقد مضت سنة الله في الاولين منهم بالاهلاك والابادة وخسران السعي. قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فان انتهوا فان الله بما يعملون بصير) الاية وما بعدها يشتملان على تكليف المؤمنين بحذاء ما كلف به الكفار في الاية السابقة، والمعنى: قل لهم إن ينتهوا عن المحادة لله ورسوله يغفر لهم ما قد سلف وان يعودواالى مثل ما عملوا فقد علموا بما جرى على سابقتهم قل لهم كذا وأما انت والمؤمنون فلا تهنوا فيما يهمكم من إقامه الدين وتصفية جو صالح للمؤمنين، وقاتلوهم حتى تنتهى هذه الفتن التى تفاجئكم كل يوم، ولا تكون فتنه بعد فإن انتهوا فإن الله يجازيهم بما يرى من اعمالهم، وإن تولوا عن الانتهاء فأديموا القتال والله مولاكم فاعلموا ذلك ولا تهنوا ولا تخافوا. والفتنة ما يمتحن به النفوس وتكون لا محالة مما يشق عليها، وغلب استعمالها في المقاتل وارتفاع الامن وانتقاض الصلح، وكان كفار قريش يقبضون على المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة وبعدها الى مدة في مكة ويعذبونهم ويجبرونهم على ترك الاسلام والرجوع إلى الكفر، وكانت تسمى فتنة. وقد ظهر بما يفيده السياق من المعنى السابق ان قوله: (وقاتلوهم حتى لا تكون

[ 76 ]

فتنة) كناية عن تضعيفهم بالقتال حتى لا يغتروا بكفرهم ولا يلقوا فتنة يفتتن بها المؤمنون، ويكون الدين كله لله لا يدعو إلى خلافه احد، وان قوله: (فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير) المراد به الانتهاء عن القتال ولذلك اردفه بمثل قوله: (فإن الله بما يعملون بصير) أي عندئذ يحكم الله فيهم بما يناسب اعمالهم وهو بصير بها، وان قوله: (وإن تولوا) الخ أي ان تولوا عن الانتهاء، ولم يكفوا عن القتال ولم يتركوا الفتنة فاعلموا ان الله مولاكم وناصركم و قاتلوهم مطمئنين بنصر الله نعم المولى ونعم النصير. وقد ظهر ان قوله: (ويكون الدين كله لله) لا ينافى إقرار اهل الكتاب على دينهم ان دخلوا في الذمة واعطوا الجزية فلا نسبة للاية مع قوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (التوبه: 29. بالناسخية والمنسوخية. ولبعض المفسرين وجوه في معنى الانتهاء والمغفرد وغيرهما من مفردات الايات الثلاث لا كثير جدوى في التعرض لها تركناها. وقد ورد في بعض الاخبار كون (نعم المولى ونعم النصير) من اسماء الله الحسنى والمراد بالاسم حينئذ لا محالة غير الاسم بمعناه المصطلح بل كل ما يخص بلفظه شيئا من المصاديق كما ورد نظيره في قوله تعالى: (لا تأخذه سنة ولا نوم) وقد مر استيفاء الكلام في الاسماء الحسنى في ذيل قوله تعالى: (ولله الاسماء الحسنى) الاعراف 180 في الجزء الثامن من الكتاب. (بحث روائي) في تفسير القمى في قوله تعالى: (وإذ يمكر بك الذين كفروا) الاية انها نزلت بمكة قبل الهجرة. وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريح (رض) (وإذ يمكر بك الذين كفروا) قال: هي مكية. اقول: وهو ظاهر ما رواه ايضا عن عبد بن حميد عن معاوية بن قرة، لكن عرفت ان سياق الايات لا يساعد عليه.

[ 77 ]

وفيه اخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل والخطيب عن ابن عباس رضى الله عنهما في قوله: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك) قال: تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم: إذا اصبح فاثبتوه بالوثائق - يريدون النبي صلى لله عليه وسلم - وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم بل اخرجوه فاطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فبات على رضى الله عنه على فراش النبي صلى الله عليه وسلم وخرج النبي (ص) حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا رضى الله عنه يحسبونه النبي (ص) فلما اصبحوا ثاروا عليه فلما رأوه عليا رضى الله عنه رد الله مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا ؟ قال: لا أدرى فاقتصوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث ثلاث ليال. وفي تفسير القمى: كان سبب نزولها انه لما أظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة بمكة قدمت عليه الاوس والخزرج فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تمنعوني وتكونون لى جارا حتى أتلو كتاب الله عليكم وثوابكم على الله الجنة ؟ فقالوا: نعم خذ لربك ولنفسك ما شئت فقال لهم: موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالى التشريق فحجوا ورجعوا إلى منى وكان فيهم ممن قد حج بشر كثير. فلما كان اليوم الثاني من أيام التشريق قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا كان الليل فاحضروا دار عبد المطلب على العقبة، ولا تنبهوا نائما، ولينسل واحد فواحد فجاء سبعون رجلا من الاوس والخزرج فدخلوا الدار فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تمنعوني وتجيرونى حتى أتلو عليكم كتاب ربى وثوابكم على الله الجنة. فقال أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وعبد الله بن حرام: نعم يا رسول الله اشترط لربك ونفسك ما شئت. فقال: أما ما أشترط لربى فان تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وما أشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون أنفسكم وتمنعون أهلى مما تمنعون اهليكم واولادكم. فقالوا فما لنا على ذلك ؟ فقال: الجنة في الاخرة، وتملكون العرب، ويدين لكم العجم في الدنيا، وتكونون ملوكا في الجنة فقالوا: قد رضينا. فقال: اخرجوا إلى منكم اثنى عشر نقيبا يكونون شهداء عليكم بذلك كما أخذ موسى من بنى إسرائيل اثنى عشر نقيبا فأشار إليهم جبرائيل فقال: هذا نقيب

[ 78 ]

وهذا نقيب تسعة من الخزرج وثلاثة من الاوس: فمن الخزرج أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وعبد الله بن حرام أبو جابر بن عبد الله ورافع بن مالك وسعد بن عبادة والمنذر بن عمر وعبد الله بن رواحة وسعد بن ربيع وعبادة بن صامت ومن الاوس أبو الهيثم بن التيهان وهو من اليمن وأسيد بن حصين وسعد بن خيثمة. فلما اجتمعوا وبايعوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاح إبليس: يا معشر قريش والعرب هذا محمد والصباة من أهل يثرب على جمرة العقبة يبايعونه على حربكم فأسمع أهل منى، وهاجت قريش فأقبلوا بالسلاح، وسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النداء فقال للانصار: تفرقوا فقالوا: يا رسول الله إن أمرتنا ان نميل عليهم بأسيافنا فعلنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لم اؤمر بذلك ولم يأذن الله لى في محاربتهم. قالوا: فتخرج معنا ؟ قال: أنتظر أمر الله. فجاءت قريش على بكرة أبيها قد أخذوا السلاح وخرج حمزة وأمير المؤمنين عليه السلام بالسلاح ومعهما السيوف فوقفا على العقبة فلما نظرت قريش إليهما قالوا: ما هذا الذى اجتمعتم له ؟ فقال حمزة: ما اجتمعنا وما ههنا أحد والله لا يجوز هذه العقبة أحد إلا ضربته بسيفي. فرجعوا إلى مكة وقالوا: لا نأمن أن يفسد أمرنا ويدخل واحد من مشائخ قريش في دين محمد فاجتمعوا في دار الندوة، وكان لا يدخل دار الندوة إلا من أتى عليه اربعون سنة فدخلوا أربعين رجلا من مشائخ قريش، وجاء إبليس في صورة شيخ كبير فقال له البواب: من أنت ؟ فقال: أنا شيخ من أهل نجد لا يعدمكم منى رأى صائب إنى حيث بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرجل جئت لاشير عليكم فقال: أدخل فدخل إبليس. فلما أخذوا مجلسهم قال أبو جهل: يا معشر قريش إنه لم يكن احد من العرب أعز منا نحن أهل الله تفد إلينا العرب في السنة مرتين ويكرموننا، ونحن في حرم الله لا يطمع فينا طامع فلم نزل كذلك حتى نشأ فينا محمد بن عبد الله فكنا نسميه الامين لصلاحه وسكونه وصدق لهجته حتى إذا بلغ ما بلغ وأكرمناه ادعى انه رسول الله وان اخبار السماء تأتيه فسفه أحلامنا، وسب آلهتنا، وأفسد شباننا، وفرق جماعتنا، وزعم انه من مات من أسلافنا ففى النار، ولم يرد علينا شئ أعظم من

[ 79 ]

هذا، وقد رأيت فيه رأيا. قالوا: وما رأيت ؟ قال: رأيت ان ندس إليه رجلا منا ليقتله فإن طلبت بنو هاشم بديته أعطيناهم عشر ديات. فقال الخبيث: هذا رأى خبيث قالوا: وكيف ذلك ؟ قال: لان قاتل محمد مقتول لا محالة فمن هذا الذى يبذل نفسه للقتل منكم ؟ فانه إذا قتل محمدا تعصبت بنو هاشم وحلفاؤهم من خزاعة ان بنى هاشم لا ترضى ان يمشى قاتل محمد على الارض فتقع بينكم الحروب في حرمكم وتتفانون. فقال آخر منهم: فعندي رأى آخر. قال: وما هو ؟ قال: نثبته في بيت ونلقى عليه قوته حتى يأتي عليه ريب المنون فيموت كما مات زهير والنابغة وامرؤ القيس. فقال إبليس: هذا أخبث من الاخر. قالوا: وكيف ذاك ؟ قال: لان بنى هاشم لا ترضى بذلك فإذا جاء موسم من مواسم العرب استغاثوا بهم فاجتمعوا عليكم فأخرجوه. قال آخر منهم: لا ولكنا نخرجه من بلادنا ونتفرغ لعبادة آلهتنا. قال إبليس: هذا اخبث من ذينك الرأيين المتقدمين، قالوا: وكيف ؟ قال: لانكم تعمدون إلى أصبح الناس وجها، وأتقن الناس لسانا وأفصحهم لهجة فتحملوه إلى بوادي العرب فيخدعهم ويسحرهم بلسانه فلا يفجؤكم إلا وقد ملاها خيلا ورجلا. فبقوا حائرين. ثم قالوا لابليس: فما الرأى يا شيخ ؟ قال: ما فيه إلا رأى واحد. قالوا: وما هو ؟ قال: يجتمع من كل بطن من بطون قريش فيكون معهم من بنى هاشم رجل فيأخذون سكينا أو حديدة أو سيفا فيدخلون عليه فيضربونه كلهم ضربة واحدة حتى يتفرق دمه في قريش كلها فلا يستطيع بنو هاشم ان يطلبوا بدمه فقد شاركوه فيه فإن سألوكم ان تعطوكم الدية فأعطوهم ثلاث ديات. قالوا: نعم وعشر ديات. قالوا: الرأى رأى الشيخ النجدي فاجتمعوا فيه، ودخل معهم في ذلك أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فنزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره ان قريشا قد اجتمعت في دار الندوة يدبرون عليك فأنزل الله عليه في ذلك: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين). واجتمعت قريش ان يدخلوا عليه ليلا فيقتلوه، وخرجوا إلى المسجد يصفرون ويصفقون ويطوفون بالبيت فأنزل الله: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية

[ 80 ]

فالمكاء التصفير والتصدية صفق اليدين وهذه الاية معطوفة على قوله: (وإذ يمكر بك الذين كفروا) قد كتبت بعد آيات كثيرة. فلما امسى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاءت قريش ليدخلوا عليه فقال أبو لهب: لا أدعكم ان تدخلوا عليه بالليل فإن في الدار صبيانا ونساء ولا نأمن ان يقع بهم يد خاطئة فنحرسه الليلة فإذا اصبحنا دخلنا عليه فناموا حول حجره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان يفرش له فرش فقال لعلى بن أبى طالب عليه السلام: افدني بنفسك قال: نعم يا رسول الله قال: نم على فراشي والتحف ببردتى فنام على عليه السلام على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتحف ببردته. وجاء جبرئيل فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخرجه على قريش وهم نيام وهو يقرأ عليهم: (وجعلنا من بين ايديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون) وقال له جبرئيل: خذ على طريق ثور - وهو جبل على طريق منى له سنام كسنام الثور فدخل الغار وكان من امره ما كان. فلما اصبحت قريش وأتوا إلى الحجرة وقصدوا الفراش فوثب على عليه السلام في وجوههم فقال: ما شأنكم ؟ قالوا: أين محمد ؟ قال: أجعلتمونى عليه رقيبا ؟ ألستم قلتم نخرجه من بلادنا ؟ فقد خرج عنكم فأقبلوا على ابى لهب يضربونه ويقولون: انت تخدعنا منذ الليل. فتفرقوا في الجبال، وكان فيهم رجل من خزاعة يقال له: أبو كرز يقفوا الاثار فقالوا: يا أبا كرز اليوم اليوم فوقف بهم على باب حجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال لهم: هذه قدم محمد والله انها لاخت القدم التى في المقام، وكان أبو بكر بن ابى قحافة استقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فردة معه فقال أبو كرز: وهذه قدم ابن ابى قحافة أو ابيه ثم قال: وههنا غير ابن ابى قحافة، ولا يزال يقف بهم حتى اوقفهم على باب الغار. ثم قال: ما جاوزوا هذا المكان إما ان يكونوا صعدوا إلى السماء أو دخلوا تحت الارض، وبعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار، وجاء فارس من الملائكة ثم قال: ما في الغار أحد فتفرقوا في الشعاب، وصرفهم الله عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ثم أذن لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم في الهجرة. أقول: وروى ما يقرب من هذا المعنى ملخصا في الدر المنثور عن ابن اسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وأبى نعيم والبيهقي معا في الدلائل عن ابن

[ 81 ]

عباس لكن نسب فيه إلى ابى جهل ما نسب في هذه الرواية إلى الشيخ النجدي ثم ذكر ان الشيخ النجدي صدق ابا جهل في رأيه واجتمع القوم على قوله. وقد روى دخول ابليس عليهم في دار الندوة في زى شيخ نجدى في عدة روايات من طرق الشيعة وأهل السنة. وأما ما في الرواية من قول ابى كرز لما اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هذه قدم محمد، وهذه قدم ابن ابى قحافة، وههنا غير ابن ابى قحافة) فقد ورد في الروايات ان ثالثهما هند بن ابى هالة ربيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وامه خديجة بنت خويلد رضى الله عنها. وقد روى الشيخ في إماليه بإسناده عن ابى عبيدد بن محمد بن عمار بن ياسر عن ابيه وعبد الله بن ابى رافع جميعا عن عمار بن ياسر وأبى رافع وعن سنان بن ابى سنان عن ابن هند بن ابى هالة، وقد دخل حديث عمار وأبى رافع وهند بعضه في بعض، وهو حديث طويل في هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه: واستتبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر بن ابى قحافة وهند بن ابى هالة فأمرهما ان يقعدا له بمكان ذكره لهما من طريقه الى الغار، وثبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكانه مع على يأمره في ذلك بالصبر حتى صلى العشائين ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في فحمة العشاء والرصد من قريش قد اطافوا بداره ينتظرون ان ينتصف الليل وتنام الاعين. فخرج وهو يقرأ هذه الاية: (وجعلنا من بين ايديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون) وكان بيده قبضة من تراب فرمى بها في رؤوسهم فما شعر القوم به حتى تجاوزهم ومضى حتى اتى إلى هند وأبى بكر فنهضا معه حتى وصلوا إلى الغار. ثم رجع هند إلى مكة بما امره به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر الغار. قال بعد سوق القصة الليلة: حتى إذا اعتم من الليلة القابلة انطلق هو - يعنى عليا عليه السلام - وهند بن ابى هالة حتى دخلا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الغار فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هندا ان يبتاع له ولصاحبه بعيرين فقال أبو بكر قد كنت اعددت لى ولك يا نبى الله راحلتين نرتحلهما إلى يثرب فقال: انى لا آخذهما ولا احدهما إلا بالثمن قال: فهى لك بذلك فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام فأقبضه الثمن ثم وصاه بحفظ ذمته وأداء أمانته.

[ 82 ]

وكانت قريش قد سموا محمدا في الجاهلية: الامين، وئكانت تودعه وتستحفظه اموالها وأمتعتها، وكذلك من يقدم مكة من العرب في الموسم، وجاءت النبوة والرسالة والامر كذلك فأمر عليا عليه السلام ان يقيم صارخا بالابطح غدوة وعشيا: من كان له قبل محمد أمانه أو دين فليأت فلنؤد إليه أمانته. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انهم لن يصلوا من الان اليك يا على بأمر تكرهه حتى تقدم على فأد أمانتى على أعين الناس ظاهرا ثم انى مستخلفك على فاطمة ابنتى ومستخلف ربى عليكما ومستحفظه فيكما فأمر ان يبتاع رواحل له وللفواطم (1) ومن أزمع الهجرة معه من بنى هشام. قال أبو عبيدة: فقلت لعبيد الله يعنى ابن ابى رافع: ا وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجد ما ينفقه هكذا ؟ فقال: انى سألت ابى عما سألتنى وكان يحدث لى هذا الحديث. فقال: وأين يذهب بك عن مال خديجة عليه السلام. قال عبيد الله بن ابى رافع: وقد قال على بن ابى طالب عليه السلام يذكر مبيته على الفراش ومقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الغار ثلاثا نظما: وقيت بنفسى خير من وطئ الحصا - ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر محمد لما خاف أن يمكروا به - فوقاه ربى ذو الجلال من المكر وبت أراعيهم متى ينشروننى - وقد وطنت نفسي على القتل والاسر وبات رسول الله في الغار آمنا - هناك وفي حفظ الاله وفي ستر أقام ثلاثا ثم زمت قلائص - قلائص يفرين الحصا أينما تفرى وقد روى الابيات عنه عليه السلام بتفاوت يسير في الدر المنثور عن الحاكم عن على بن الحسين عليه السلام. وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران عن ابى جعفر وابى عبد الله عليهما السلام قوله: (خير الماكرين) قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد كان لقى من قومه بلاء شديدا حتى أتوه ذات يوم وهو ساجد حتى طرحوا عليه رحم شاة فأتته ابنته وهو ساجد لم يرفع رأسه فرفعته عنه ومسحته ثم أراه الله بعد ذلك الذى يحب. انه كان ببدر

[ 83 ]

وليس معه غير فارس واحد ثم كان معه يوم الفتح اثنا عشر الفا حتى جعل أبو سفيان والمشركون يستغيثون. الحديث. وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم عن السدى رضى الله عنه قال: كان النضر بن الحارث يختلف إلى الحيرة فيسمع سجع اهلها وكلامهم فلما قدم إلى مكة سمع كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن فقال: قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ان هذا إلا اساطير الاولين. اقول: وهناك بعض روايات أخر في ان القائل بهذا القول كان هو النضر بن الحارث وقد قتل يوم بدر صبرا. وفيه اخرج البخاري وابن ابى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن انس بن مالك رض قال: قال أبو جهل بن هشام: اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فنزلت: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم - وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون. اقول: وروى القمى هذا المعنى في تفسيره وروى السيوطي ايضا في الدر المنثور عن ابن جرير الطبري وابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير وعن ابن جرير عن عطاء: ان القائل: اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك الاية النضر بن الحارث وقد تقدم في البيان السابق ما يقتضيه سياق الاية. وفيه اخرج ابن جرير عن يزيد بن رومان ومحمد بن قيس قالا: قالت قريش بعضها لبعض: محمد اكرمه الله من بيننا ؟ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء الاية فلما امسوا ندموا على ما قالوا فقالوا: غفرانك اللهم فانزل الله: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون إلى قوله لا يعلمون. وفيه اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم وأبو الشيخ عن ابن ابزى (ر ض) قال: كان رسول الله (ص) بمكة فانزل الله: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم فخرج رسول الله (ص) إلى المدينة فانزل الله: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فلما خرجوا انزل الله: وما لهم ان لا يعذبهم الله الاية فاذن في فتح مكه فهو العذاب الذى وعدهم. وفيه اخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وأبو الشيخ

[ 84 ]

عن عطية (رض) في قوله: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم يعنى المشركين حتى يخرجك منهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون قال: يعنى المؤمنين: ثم اعاد المشركين فقال: وما لهم ان لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام. وفيه اخرج ابن ابى حاتم عن السدى (رض) في قوله: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون يقول: لو استغفروا وأقروا بالذنوب لكانوا مؤمنين، وفي قوله: وما لهم ان لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام يقول: وكيف لا اعذبهم وهم لا يستغفرون. وفيه اخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد (رض) في قوله: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) قال: بين اظهرهم (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) قال: يسلمون. وفيه اخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ابى مالك (رض) (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) يعنى اهل مكة وما كان الله معذبهم - وفيهم المؤمنون يستغفرون. وفيه اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم عن عكرمة والحسن رضى عنهما في قوله: (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) قالا: نسختها الاية التى تليها: (وما لهم ان لا يعذبهم الله) فقوتلوا بمكة فأصابهم فيها الجوع والحصر. اقول: عدم انطباقها على الاية بظاهرها المؤيد بسياقها ظاهر، وإنما دعاهم إلى هذه التكلفات الاحتفاظ باتصال الاية في التأليف بما قبلها وما قبلها من الايات المتعرضة لحال مشركي اهل مكة، ومن عجيب ما فيها تفسير العذاب في الاية بفتح مكة، ولم يكن إلا رحمة للمشركين والمؤمنين جميعا. وفيه اخرج الترمذي عن ابى موسى الاشعري (رض) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انزل الله على امانين لامتي - وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم - وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة. اقول: مضمون الرواية مستفاد من الاية، وقد روى ما في معناها عن ابى هريرة وابن عباس عنه صلى الله عليه وآله وسلم ورواها في نهج البلاغة عن على عليه السلام. وفي ذيل هذه الرواية شئ، وهو انه لا يلائم ما مر في البيان المتقدم من إيعاد

[ 85 ]

القرآن هذه الامة بعذاب واقع قبل يوم القيامة، ولازمه ان يرتفع الاستغفار من بينهم قبل يوم القيامة. وفيه اخرج احمد عن فضالة بن عبيد رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله وفي الكافي عن على بن ابراهيم عن ابيه عن حنان بن سدير عن ابيه عن ابى جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقامي بين أظهركم خير لكم فإن الله يقول: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، ومفارقتي إياكم خير لكم. فقالوا: يا رسول الله مقامك: بين اظهرنا خير لنا فكيف يكون مفارقتك خير لنا ؟ فقال: أما مفارقتي لكم خير لكم فإن اعمالكم تعرض على كل خميس واثنين - فما كان من حسنة حمدت الله عليها، وما كان من سيئة استغفر الله لكم. أقول: وروى هذا المعنى العياشي في تفسيره والشيخ في اماليه عن حنان بن سدير عن ابيه عنه عليه السلام، وفي روايتهما ان السائل هو جابر بن عبد الله الانصاري عليه السلام، ورواه ايضا في الكافي باسناده عن محمد بن ابى حمزة وغير واحد عن ابى عبد الله عليه السلام. وفي الدر المنثور اخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن جبير (رض) قال: كانت قريش تعارض النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الطواف يستهزئون ويصفرون ويصفقون فنزلت: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية). وفيه أخرج أبو الشيخ عن نبيط وكان من الصحابة (رض) في قوله: (وما كان صلاتهم عند البيت) الاية قال: كانوا يطوفون بالبيت الحرام وهم يصفرون وفيه اخرج الطستى عن ابن عباس رضى الله عنهما: ان نافع بن الازرق قال له: أخبرني عن قوله عز وجل: (إلا مكاء وتصدية) قال: المكاء صوت القنبرة، والتصدية صوت العصافير وهو التصفيق، وذلك ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قام إلى الصلاة وهو بمكة كان يصلى قائما بين الحجر والركن اليماني فيجئ رجلان من بنى سهم يقوم احدهما عن يمينه والاخر عن شماله، ويصيح أحدهما كما يصيح المكاء، والاخر يصفق بيده تصدية العصافير ليفسد عليه صلاته. وفي تفسير العياشي عن إبراهيم بن عمر اليماني عمن ذكره عن ابى عبد الله عليه السلام

[ 86 ]

في قول الله: (وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا اولياءه) يعنى اولياء البيت يعنى المشركين (إن اولياؤه إلا المتقون) حيث ما كانوا هم اولى به من المشركين (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) قال: التصفير والتصفيق. وفي الدر المنثور اخرج ابن اسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم والبيهقي في الدلائل كلهم من طريقه (1) قال: حدثنى الزهري ومحمد بن يحيى بن حيان وعاصم ابن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمان بن عمر قال: لما أصيبت قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره مشى عبد الله بن ربيعة وعكرمة بن ابى جهل وصفوان بن امية في رجال من قريش إلى من كان معه تجارة فقالوا: يا معشر قريش ان محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه فلعلنا ان ندرك منه ثارا ففعلوا - ففيهم كما ذكر عن ابن عباس أنزل الله: إن الذين كفروا ينفقون اموالهم ليصدوا عن سبيل الله - إلى قوله - والذين كفروا إلى جهنم يحشرون. وفيه اخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضى الله عنهما في قوله: (إن الذين كفروا ينفقون اموالهم ليصدوا عن سبيل الله قال نزلت في ابى سفيان بن حرب. وفيه اخرج ابن سعد وعبد بن حميد وابن جرير وابن ابى حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن سعيد بن جبير في قوله: (ان الذين كفروا ينفقون اموالهم ليصدوا عن سبيل الله) الاية قال: نزلت في ابى سفيان بن حرب استأجر يوم أحد ألفين من الاحابيش من بنى كنانه يقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سوى من استجاش من العرب فأنزل الله فيه هذه الاية. وهم الذين قال فيهم كعب بن مالك رضى الله عنه: وجئنا إلى موج من البحر وسطه. أحابيش منهم حاسر ومقنع. ثلاثة آلاف ونحن نصية. ثلاث مئين إن كثرن فأربع أقول ورواه ملخصا عن ابن اسحاق وابن ابى حاتم عن عباد بن عبد الله بن الزبير.


(1) يعني طريق محمد بن اسحاق. (*)

[ 87 ]

وفى المجمع في قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) الاية، قال: روى زرارة وغيره عن ابى عبد الله عليه السلام انه قال: لم يجئ تأويل هذه الاية ولو قام قائمنا بعد سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الاية وليبلغن دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما بلغ الليل حتى لا يكون مشرك على ظهر الارض. أقول: ورواه العياشي في تفسيره عن زراره عنه عليه السلام، وفي معناه ما في الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السلام، وروى هذا المعنى ايضا العياشي عن عبد الاعلى الحلبي عن ابى جعفر عليه السلام في رواية طويلة. وقد تقدم حديث ابراهيم الليثى في تفسير قوله: (ليميز الله الخبيث من الطيب) الاية مع بعض ما يتعلق به من الكلام في ذيل قوله: (كما بدأكم تعودون) الاعراف: 29 في الجزء الثامن من الكتاب. * * * واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شئ قدير - 41. إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضى الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة وإن الله لسميع عليم - 42. إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أرايكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الامر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور - 43. وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا يقللكم في أعينهم ليقضى

[ 88 ]

الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الامور - 44. يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون - 45. وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين - 46. ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط - 47. وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إنى برئ منكم إنى أرى ما لا ترون إنى أخاف الله والله شديد العقاب - 48. إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم - 49. ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق 50. ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد - 51. كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بايات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوى شديد العقاب - 52. ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم - 53. كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بايات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين - 54.

[ 89 ]

(بيان) تشتمل الايات على الامر بتخميس الغنائم وبالثبات عند اللقاء وتذكرهم، وتقص عليهم بعض ما نكب الله به اعداء الدين وأخزاهم بالمكر الالهى، وأجرى فيهم سنة آل فرعون ومن قبلهم من المكذبين لايات الله الصادين عن سبيله. قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شئ فان لله خمسه وللرسول) إلى آخر الاية. الغنم والغنيمة إصابة الفائدة من جهة تجارة أو عمل أو حرب وينطبق بحسب مورد نزول الاية على غنيمة الحرب، قال الراغب: الغنم - بفتحتين - معروف قال: ومن البقر والغنم ما حرمنا عليهم شحومهما، والغنم - بالضم فالسكون - إصابته والظفر به ثم استعمل في كل مظفور به من جهة العدى وغيرهم قال: واعلموا أنما غنمتم من شئ، فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا. والمغنم ما يغنم وجمعه مغانم قال: فعند الله مغانم كثيرة، انتهى. وذو القربى القريب والمراد به قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو خصوص اشخاص منهم على ما يفسره الاثار القطعية، واليتيم هو الانسان الذى مات ابوه وهو صغير، قالوا: كل حيوان يتيم من قبل امه إلا الانسان فان يتمه من قبل ابيه. وقوله: (فأن لله خمسه) الخ قرئ بفتح أن، ويمكن ان يكون بتقدير حرف الجر والتقدير: واعلموا ان ما غنمتم من شئ فعلى أن لله خمسه أي هو واقع على هذا الاساس محكوم به، ويمكن ان يكون بالعطف على أن الاولى، وحذف خبر الاولى لدلالة الكلام عليه، والتقدير: اعلموا أن ما غنمتم من شئ يجب قسمته فاعلموا ان خمسه لله، أو يكون الفاء لاستشمام معنى الشرط فان مال المعنى إلى نحو قولنا: إن غنمتم شيئا فخمسه لله الخ فالفاء من قبيل فاء الجزاء، وكرر أن للتأكيد، والاصل: اعلموا أن ما غنمتم من شئ أن خمسه لله الخ، والاصل الذى تعلق به العلم هو: ما غنمتم من شئ خمسه لله وللرسول الخ، وقد قدم لفظ الجلالة للتعظيم. وقوله: (إن كنتم آمنتم بالله) الخ قيد للامر الذى يدل عليه صدر الاية أي أدوا خمسه إن كنتم آمنتم بالله وما انزلنا على عبدنا، وربما قيل: انه متصل بقوله

[ 90 ]

تعالى في الاية السابقة: (فاعلموا ان الله مولاكم) هذا والسياق الذى يتم بحيلولة قوله: (واعلموا أنما غنمتم من شئ) الخ لا يلائم ذلك. وقوله تعالى: (وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان) الظاهر ان المراد به القرآن بقرينة تخصيص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالانزال، ولو كان المراد به الملائكة المنزلون يوم بدر - كما قيل - لكان الانسب اولا: ان يقال: ومن أنزلنا على عبدنا، أو ما يؤدى هذا المعنى وثانيا: ان يقال: عليكم لا على عبدنا فان الملائكة كما أنزلت لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنزلت لنصرة المؤمنين معه كما يدل عليه قوله: (فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملائكة مردفين) الانفال: 9. وقوله بعد ذلك: (إذ يوحى ربك إلى الملائكة أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا) الخ الانفال: 12. ونظيرهما قوله: (إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكين منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) آل عمران: 125. وفي الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: (إن كنتم آمنتم بالله وما انزلنا على عبدنا) من بسط اللطف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واصطفائه بالقرب ما لا يخفى. ويظهر بالتأمل فيما قدمناه من البحث في قوله تعالى في اول السورة: (يسألونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول) الاية أن المراد بقوله: (وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان) هو قوله تبارك وتعالى: فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا) بما يحتف به من الايات. والمراد بقوله: (يوم الفرقان) يوم بدر كما يشهد به قوله بعده: (يوم التقى الجمعان) فان يوم بدر هو اليوم الذى فرق الله فيه بين الحق والباطل فأحق الحق بنصرته، وأبطل الباطل بخذلانه. وقوله تعالى: (والله على كل شئ قدير) بمنزلة التعليل لقوله: (يوم الفرقان) بما يدل عليه من تمييزه تعالى بين الحق والباطل كأنه قيل: والله على كل شئ قدير فهو قادر ان يفرق بين الحق والباطل بما فرق. فمعنى الاية - والله اعلم - واعلموا ان خمس ما غنمتم أي شئ كان هو لله ولرسوله ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فردوه إلى اهله ان كنتم آمنتم بالله وما أنزله على عبده محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر، وهو ان الانفال وغنائم الحرب لله ولرسوله لا يشارك

[ 91 ]

الله ورسوله فيها احد، وقد أجاز الله لكم أن تأكلوا منها وأباح لكم التصرف فيها فالذي اباح لكم التصرف فيها يأمركم ان تؤدوا خمسها إلى اهله. وظاهر الاية أنها مشتملة على تشريع مؤبد كما هو ظاهر التشريعات القرآنية، وأن الحكم متعلق بما يسمى غنما وغنيمة سواء كان غنيمة حربية مأخوذة من الكفار أو غيرها مما يطلق عليه الغنيمة لغة كأرباح المكاسب والغوص والملاحة والمستخرج من الكنوز والمعادن، وإن كان مورد نزول الاية هو غنيمة الحرب فليس للمورد أن يخصص. وكذا ظاهر ما عد من موارد الصرف بقوله: (لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) انحصار الموارد في هؤلاء الاصناف، وأن لكل منهم سهما بمعنى استقلاله في اخذ السهم كما يستفاد مثله من آية الزكاة من غيران يكون ذكر الاصناف من قبيل التمثيل. فهذا كله مما لا ريب فيه بالنظر الى المتبادر من ظاهر معنى الاية، وعليه وردت الاخبار من طرق الشيعة عن أئمة اهل البيت عليهم السلام وقد اختلفت كلمات المفسرين من اهل السنة في تفسير الاية وسنتعرض لها في البحث الروائي التالى إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (إذ انتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب اسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضى الله امرا كان مفعولا) العدوة بالضم وقد يكسر شفير الوادي، والدنيا مؤنث أدنى كما ان القصوى وقد يقال: القصيا مؤنث اقصى والركب كما قيل هو العير الذى كان عليه أبو سفيان بن حرب. والظرف في قوله: (إذ أنتم بالعدوة) بيان ثان لقوله في الاية السابقة: (يوم الفرقان كما أن قوله: (يوم التقى الجمعان) بيان اول له متعلق بقوله: (أنزلنا على عبدنا) واما ما يظهر من بعضهم إنه بيان لقوله: (والله على كل شئ قدير) بما يفيده بحسب المورد، والمعنى: والله قدير على نصركم وأنتم أذله إذ انتم نزول بشفير الوادي الاقرب، فلا يخفى بعده ووجه التكلف فيه. وقوله تعالى: (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد)، سياق ما تقدمه من الجمل الكاشفة عن تلاقى الجيشين، وكون الركب اسفل منهم، وان الله بقدرته التى قهرت كل شئ فرق بين الحق والباطل، وأيد الحق على الباطل، وكذا قوله بعد: (ولكن

[ 92 ]

ليقضى الله امرا كان مفعولا) كل ذلك يشهد على أن المراد بقوله: (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد) بيان ان التلاقي على هذا الوجه لم يكن إلا بمشية خاصة من الله سبحانه حيث نزل المشركون وهم ذووا عدة وشدة بالعدوة القصوى وفيها الماء والارض الصلبه، والمؤمنون على قله عددهم وهوان امرهم بالعدوة الدنيا ولا ماء فيها والارض رملية لا تثبت تحت اقدامهم، وتخلص العير منهم إذ ضرب أبو سفيان في الساحل أسفل، وتلاقي الفريقان لا حاجز بينهما ولا مناص عندئذ عن الحرب، فالتلاقى والمواجهة على هذا الوجه ثم ظهور المؤمنين على المشركين، لم يكن عن اسباب عادية بل لمشية خاصة إلهية ظهرت بها قدرته وبانت بها عنايته الخاصة ونصره وتأييده للمؤمنين. فقوله: (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد) بيان ان هذا التلاقي لم يكن عن سابق قصد وعزيمة، ولا روية أو مشورة، ولهذا المعنى عقبه بقوله: (ولكن ليقضى الله امرا كان مفعولا) بما فيه من الاستدراك. وقوله: (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة) لتعليل ما قضى به من الامر المفعول أي إن الله إنما قضى هذا الذى جرى بينكم من التلاقي والمواجهة ثم تأييد المؤمنين وخذلان المشركين ليكون ذلك بينة ظاهرة على حقية الحق وبطلان الباطل فيهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة. وبذلك يظهر ان المراد بالهلاكة والحياة هو الهدى والضلال لان ذلك هو الذى يرتبط به وجود الاية البينة ظاهرا. وكذا قوله: (وأن الله لسميع عليم) عطف على قوله: (ليهلك من هلك عن بينة) الخ، أي وإن الله إنما قضى ما قضى وفعل ما فعل لانه سميع يسمع دعاءكم عليم يعلم ما في صدوركم، وفيه إشارة إلى ما ذكره في صدر الايات: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم) إلى آخر الايات. وعلى هذا السياق - أي لبيان أن مرجع الامر في هذه الواقعة هو القضاء الخاص الالهى دون الاسباب العادية - سيق قوله تعالى بعد: (إذ يريكهم الله في منامك قليلا) الخ، وقوله: (وإذ زين لهم الشيطان اعمالهم) الخ، وقوله: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم) الخ.

[ 93 ]

ومعنى الاية يوم الفرقان هو الوقت الذى انتم نزول بالعدوه الدنيا وهم نزول بالعدوة القصوى، وقد توافق نزولكم بها ونزولهم بها بحيث لو تواعدتم بينكم ان تلتقوا بهذا الميعاد لاختلفتم فيه ولم تتلاقوا على هذه الوتيرة فلم يكن ذلك منكم ولا منهم ولكن ذلك كان امرا مفعولا والله قاضيه وحاكمه، وإنما قضى ما قضى ليظهر آية بينة فتتم بذلك الحجة، ولانه قد استجاب بذلك دعوتكم بما سمع من استغاثتكم وعلم به من حاجة قلوبكم. قوله تعالى: (إذ يريكهم الله في منامك قليلا) إلى آخر الآية، الفشل هو الضعف مع الفزع، والتنازع هو الاختلاف وهو من النزع نوع من القلع كأن المتنازعين ينزع كل منهما الاخر عما هو فيه، والتسليم هو النتيجة. والكلام على تقدير اذكر أي اذكر وقتا يريكهم الله في منامك قليلا، وإنما أراكهم قليلا ليربط بذلك قلوبكم وتطمئن نفوسكم ولو اراكهم كثيرا ثم ذكرتها للمؤمنين افزعكم الضعف واختلفتم في امر الخروج إليهم ولكنه تعالى نجاكم بإراءتهم قليلا عن الفشل والتنازع انه عليم بذات الصدور وهى القلوب يشهد ما يصلح به حال القلوب في اطمئنانها وارتباطها وقوتها. والاية تدل على ان الله سبحانه أرى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا مبشرة رأى فيها ما وعده الله من إحدى الطائفتين انها لهم، وقد أراهم قليلا لا يعبأ بشأنهم، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر ما رآه للمؤمنين ووعدهم وعد تبشير فعزموا على لقائهم. والدليل على ذلك قوله: (ولو أراكهم كثيرا لفشلتم) الخ وهو ظاهر. قوله تعالى: (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في اعينكم قليلا ويقللكم في اعينهم إلى آخر الاية). معنى الاية ظاهر، ولا تنافى بين هذه الاية وقوله تعالى: (قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين والله يؤيد بنصره من يشاء) آل عمران: 13 بناء على ان الاية تشير إلى وقعة بدر. وذلك ان التقليل الذى يشير إليه في الاية المبحوث عنها مقيد بقوله: (إذ التقيتم) وبذلك يرتفع التنافى كأن الله سبحانه أرى المؤمنين قليلا في اعين المشركين في بادئ الالتقاء ليستحقروا جمعهم ويشجعهم ذلك على القتال والنزال حتى إذا زحفوا

[ 94 ]

واختلطوا، كثر المؤمنين في أعينهم فرأوهم مثليهم رأى العين فأوهن بذلك عزمهم وأطار قلوبهم فكانت الهزيمة فاية الانفال تشير إلى اول الوقعة، وآية آل عمران إلى ما بعد الزحف والاختلاط وقوله: (ليقضى الله امرا كان مفعولا) متعلق بقوله: (يريكموهم) تعليل لمضمونه. قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) إلى آخر الايات الثلاث. قال الراغب في المفردات: الثبات - بفتح الثاء - ضد الزوال انتهى فهو في المورد ضد الفرار من العدو، وهو بحسب ما له من المعنى اعم من الصبر الذى يأمر به في قوله: (واصبروا إن الله مع الصابرين) فالصبر ثبات قبال المكروه بالقلب بأن لا يضعف ولا يفزع ولا يجزع، وبالبدن بأن لا يتكاسل ولا يتساهل ولا يزول عن مكانه ولا يعجل فيما لا يحمد فيه العجل فالصبر ثبات خاص. والريح على ما قيل، العز والدولة، وقد ذكر الراغب ان الريح في الاية بمعنى الغلبة استعارة كأن من شان الريح ان تحرك ما هبت عليه وتقلعه وتذهب به، والغلبة على العدو يفعل به ما تفعله الريح بالشئ كالتراب فاستعيرت لها. وقال الراغب: البطر دهش يعترى الانسان من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها وصرفها إلى غير وجهها قال عزوجل: (بطرا ورئاء الناس) وقال: (بطرت معيشتها) وأصله: بطرت معيشته فصرف عنه الفعل ونصب، ويقارب البطر الطرب، وهو خفة أكثر ما يعترى من الفرح وقد يقال ذلك في الترح، والبيطرة معالجة الدابة. انتهى. والرئاء المراءاة. وقوله: (فاثبتوا) أمر بمطلق الثبوت امام العدو، وعدم الفرار منه فلا يتكرر بالامر ثانيا بالصبر كما تقدمت الاشاره إليه. وقوله: (واذكروا الله كثيرا) أي في جنانكم ولسانكم فكل ذلك ذكر، ومن المعلوم أن الاحوال القلبية الباطنة من الانسان هي التى تميز مقاصده وتشخصها سواء وافقها اللفظ كالفقير المستغيث بالله من فقره وهو يقول: يا غنى والمريض المستغيث به من مرضه وهو يقول: يا شافي ولو قال الفقير في ذلك: يا الله أو قال المريض فيه ذلك لكان معناه: يا غنى ويا شافي لانهما بمقتضى الحال الباعث لهما على الاستغاثة

[ 95 ]

والدعوة لا يريدان إلا ذلك كما هو ظاهر. والذى يخرج إلى قتال عدوه، ثم لقيه واستعد الظرف للقتال، وليس فيه إلا زهاق النفوس، وسفك الدماء ونقص الاطراف وكل ما يهدد الانسان بالفناء في ما يحبه فان حاله يحول فكرته ويصرف إرادته إلى الظفر بما يريده بالقتال، والغلبة على العدو الذى يهدده بالفناء، والذى حاله هذا الحال وتفكيره هذا التفكير انما يذكر الله سبحانه بما يناسب حاله وتنصرف إليه فكرته. وهذا اقوى قرينة على ان المراد بذكر الله كثيرا ان يذكر المؤمن ما علمه تعالى من المعارف المرتبطة بهذا الشأن وهو انه تعالى إلهه وربه الذى بيده الموت والحياة وهو على نصره لقدير، وأنه هو مولاه نعم المولى ونعم النصير، وقد وعده النصر إذ قال: إن تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم، وأن الله لا يضيع أجر من احسن عملا، وأن مال امره في قتاله إلى احدى الحسنيين إما الظفر على عدوه ورفع راية الاسلام وإخلاص الجو لسعادته الدينية، وإما القتل في سبيل الله والانتقال بالشهادة إلى رحمته، والدخول في حظيرة كرامته، ومجاورة المقربين من اوليائه، وما في هذا الصف من المعارف الحقيقية التى تدعو إلى السعادة الواقعية والكرامة السرمدية. وقد قيد الذكر بالكثير لتتجدد به روح التقوى كلما لاح للانسان ما يصرف نفسه إلى حب الحياة الفانية والتمتع بزخارف الدنيا الغارة والخطورات النفسانية التى يلقيها الشيطان بتسويله. وقوله (وأطيعوا الله ورسوله) ظاهر السياق ان المراد بها إطاعه ما صدر من ناحيته تعالى وناحية رسوله من التكاليف والدساتير المتعلقة بالجهاد والدفاع عن حومة الدين وبيضة الاسلام مما تشتمل عليه آيات الجهاد والسنة النبوية كالابتداء بإتمام الحجة وعدم التعرض للنساء والذراري والكف عن تبييت العدو وغير ذلك من احكام الجهاد. وقوله: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) أي ولا تختلفوا بالنزاع فيما بينكم حتى يورث ذلكم ضعف ارادتكم وذهاب عزتكم ودولتكم أو غلبتكم فان اختلاف الاراء يخل بالوحدة ويوهن القوة. وقوله: (واصبروا ان الله مع الصابرين) أي الزموا الصبر على ما يصيبكم

[ 96 ]

من مكاره القتال مما يهددكم به العدو، وعلى الاكثار من ذكر الله، وعلى طاعة الله ورسوله من غير ان يهزهزكم الحوادث أو يزجركم ثقل الطاعة أو تغويكم لذة المعصية أو يضلكم عجب النفس وخيلاؤها. وقد أكد الامر بالصبر بقوله: (إن الله مع الصابرين) لان الصبر اقوى عون على الشدائد وأشد ركن تجاه التلون في العزم وسرعة التحول في الارادة، وهو الذى يخلى بين الانسان وبين التفكير الصحيح المطمئن حيث يهجم عليه الخواطر المشوشة والافكار الموهنة لارادته عند الاهوال والمصائب من كل جانب فالله سبحانه مع الصابرين. وقوله: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس) الاية نهى عن اتخاذ طريقة هؤلاء البطرين المرائين الصادين عن سبيل الله، وهم على ما يفيده سياق الكلام في الايات، كفار قريش، وما ذكره من اوصافهم أعنى البطر ورئاء الناس والصد عن سبيل الله هو الذى أوجب النهى عن التشبه بهم واتخاذ طريقتهم بدلالة السياق، وقوله: (والله بما يعملون محيط) ينبئ عن إحاطته تعالى بأعمالهم وسلطنته عليها وملكه لها، ومن المعلوم أن لازم ذلك كون أعمالهم داخلة في قضائه متمشية بإذنه ومشيته وما هذا شأنه لا يكون مما يعجز الله سبحانه فالجملة كالكناية عما يصرح به بعد عدة آيات بقوله: (ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون) الانفال: 59. وظاهر أن أخذ هذه القيود أعنى قوله: (بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله) يوجب تعلق النهى بها والتقدير: ولا تخرجوا من دياركم إلى قتل اعداء الدين بطرين ومرائين بالتجملات الدنيوية، وصد الناس عن سبيل الله بدعوتهم بأقوالكم وأفعالكم إلى ترك تقوى الله والتوغل في معاصيه والانخلاع عن طاعة اوامره ودساتيره فإن ذلك يحبط اعمالكم ويطفئ نور الايمان ويبطل أثره عن جمعكم فلا طريق إلى نجاح السعي والفوز بالمقاصد الهامة إلا سوى الصراط الذى يمهده الدين القويم وتسهله الملة الفطرية والله لا يهدى القوم الفاسقين إلى مقاصدهم الفاسدة. وقد اشتملت الايات الثلاث على امور ستة أوجب الله سبحانه على المؤمنين رعايتها في الحروب الاسلامية عند اللقاء وهى الثبات، وذكر الله كثيرا، وطاعة الله ورسوله، وعدم التنازع، وأن لا يخرجوا بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله. ومجموع الامور الستة دستور حربى جامع لا يفقد من مهام الدستورات الحربية

[ 97 ]

شيئا، والتأمل الدقيق في تفاصيل الوقائع في تاريخ الحروب الاسلامية الواقعة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كبدر وأحد والخندق وحنين وغير ذلك يوضح أن الامر في الغلبة والهزيمة كان يدور مدار رعاية المسلمين مواد هذا الدستور الالهى وعدم رعايتها، والمراقبة لها والمساهلة فيها. قوله تعالى: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم) إلى آخر الاية، تزيين الشيطان للانسان عمله هو إلقاؤه في قلبه كون العمل حسنا جميلا يستلذ به وذلك بتهييج قواه الباطنة وعواطفه الداخلة المتعلقة بذلك العمل فينجذب إليه قلبه، ولا يجد فراغا يعقل ما له من سوء الاثرو شؤم العاقبة. وليس من البعيد ان يكون قوله: (وقال لا غالب لكم اليوم) الاية مفسرا أو بمنزلة المفسر للتزيين الشيطاني على ان يكون المراد بالاعمال نتائجها وهى ما هيؤوه من قوة وسلاح وعدة وما اخرجوه من القيان والمعازف والخمور، وما تظاهروا به من نظام الجيش والجنائب تساق بين أيديهم، ويمكن أن يكون المراد بها نفس الاعمال وهى أنواع تماديهم في الغى والضلال وإصرارهم في محادة الله ورسوله، واسترسالهم في الظلم والفسق فيكون قوله المحكى: (لا غالب لكم اليوم من الناس) مما يتم به تزيين الشيطان، وتطيب به نفوسهم فيما اهتموا به من قتال المسلمين، وقد اكمل ذلك بقوله: (وإنى جار لكم). والجوار من سنن العرب في الجاهلية التى كانت تعيش عيشة القبائل، ومن حقوق الجوار نصرة الجار للجار إذا دهمه عدو، وله آثار مختلفة بحسب السنن الجارية في المجتمعات الانسانية. وقوله: (فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه) النكوص الاحجام عن الشئ و (على عقبيه) حال والعقب مؤخر القدم أي أحجم وقد رجع القهقرى منهزما وراءه. وقوله (إنى أرى ما لا ترون) الاية تعليل لقوله: (إنى برئ منكم) ولعله إشارة إلى نزول الملائكة المردفين الذين نصر الله المسلمين بهم، وكذا قوله: (إنى أخاف الله والله شديد العقاب) تعليل لقوله: (إنى برئ منكم) ومفسر للتعليل السابق. والمعنى ويوم الفرقان هو الوقت الذى زين الشيطان للمشركين ما كانوا يعملونه لمحادة الله ورسوله وقتال المؤمنين، ويتلبسون به للتهئ على إطفاء نور الله، فزين ذلك

[ 98 ]

في أنظارهم، وطيب نفوسهم بقوله: لا غالب لكم اليوم من الناس، وإنى مجير لكم أذب عنكم فلما تراءت الفئتان فرأى المشركون المؤمنين والمؤمنون المشركين رجع الشيطان القهقرى منهزما وراءه وقال للمشركين إنى برئ منكم إنى أرى ما لا ترونه من نزول ملائكة النصر للمؤمنين وما عندهم من العذاب الذى يهددكم انى اخاف عذاب الله والله شديد العقاب. وهذا المعنى - كما ترى - يقبل الانطباق على وسوسة الشيطان لهم في قلوبهم وتهييجهم على المؤمنين وتشجيعهم على قتالهم وتطييب نفوسهم بما استعدوا به حتى إذا تراءت الفئتان ونزل النصر واستولى الرعب على قلوبهم انتكست اوهامهم وتبدلت افكارهم وعادت مزعمة الغلبة وامنية الفتح والظفر مخافة مستولية على نفوسهم وخيبة ويأسا شاملة لقلوبهم. ويقبل الانطباق على تصور شيطاني يبدو لهم فتنجذب إليه حواسهم بأن يكون قد تصور لهم في صورة انسان ويقول لهم ما حكاه الله من قوله: (لا غالب لكم اليوم من الناس وانى جار لكم) فيغويهم ويسيرهم ويقربهم من القتال حتى إذا تقاربت الفئتان وتراءتا فلما تراءت الفئتان ورأى الوضع على خلاف ما كان يؤمله ويطمع فيه نكص على عقبيه وقال: انى برئ منكم انى ارى ما لا ترون من نزول النصر والملائكة انى اخاف الله والله شديد العقاب، وقد ورد في روايات القصة من طرق الشيعه وأهل السنة ما يؤيد هذا الوجه. وهو ان الشيطان تصور للمشركين في صورة سراقة بن مالك بن جشعم الكنانى ثم المدلجى وكان من أشراف كنانة وقال لهم ما قال وحمل رايتهم حتى إذا تلاقى الفريقان فر منهزما وهو يقول: (انى برئ منكم انى أرى ما لا ترون) إلى آخر ما حكاه الله تعالى، وستجئ الرواية في البحث الروائي التالى ان شاء الله تعالى. وقد أصر بعض المفسرين على الوجه الاول، ورد الثاني بتزييف الاثار المروية وتضعيف أسناد الاخبار، وهى وإن لم تكن متواترة ولا محفوفة ببعض القرائن القطعية الموجبة للوثوق التام لكن اصل المعنى ليس من المستحيل الذى يدفعه العقل السليم، ولا من اللقصص التى تدفعها آثار صحيحة، ولا مانع من ان يتمثل لهم الشيطان فيوردهم مورد الضلال والغى حتى إذا تم له ما اراد تركهم في تهلكتهم أو حتى شاهد

[ 99 ]

عذابا إلهيا نكص على عقبيه هاربا. على ان سياق الاية الكريمة اقرب إلى إفادة هذا الوجه الثاني منه إلى الوجه الاول، وخاصة بالنظر إلى قوله: (وإنى جار لكم) وقوله: حتى إذا تراءت الفئتان نكص على عقبيه) وقوله: (إنى أرى ما لا ترون) الاية فان إرجاع معنى قوله: (إنى أرى) الخ مثلا إلى الخواطر النفسانية بنوع من العناية الاستعارية بعيد جدا. قوله تعالى: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم) إلى آخر الاية، أي يقول المنافقون وهم الذين أظهروا الايمان وأبطنوا الكفر، والذين في قلوبهم مرض وهم الضعفاء في الايمان ممن لا يخلو نفسه من الشك والارتياب. يقولون - مشيرين إلى المؤمنين إشارة تحقير واستذلال -: غرهؤلاء دينهم إذ لو لا غرور دينهم لم يقدموا على هذه المهلكة الظاهرة، وهم شرذمة أذلاء لا عدة لهم ولا عدة، وقريش على ما بهم من العدة والقوة والشوكة. قوله تعالى: (ومن يتوكل على الله فان الله عزيز حكيم) في مقام الجواب عن قولهم وإبانه غرورهم انفسهم. وقوله: (فان الله عزيز حكيم) من وضع السبب موضع المسبب، والمعنى: وقد أخطا هؤلاء المنافقون والذين في قلوبهم مرض في قولهم فان المؤمنين توكلوا على الله ونسبوا حقيقة التأثير إليه وضموا انفسهم إلى قوته وحوله، ومن يتوكل امره على الله فان الله يكفيه لانه عزيز ينصر من استنصره حكيم لا يخطا في وضع كل امر موضعه الذى يليق به. وفي الاية دليل على حضور جمع من المنافقين وضعفاء الايمان ببدر حين تلاقى الفئتين. اما المنافقون وهم الذين كانوا يظهرون الاسلام ويبطنون الكفر فلا معنى لكونهم بين المشركين فلم يكونوا إلا بين المسلمين لكن الشأن في العامل الذى اوجب منهم الثبات واليوم يوم شديد. وأما الضعفاء الايمان أو لشاكون في حقيقة الاسلام فمن الممكن ان يكونوا بين المومنين أو في فئة المشركين وقد قيل: انهم كانوا فئة من قريش أسلموا بمكة واحتبسهم آباؤهم، واضطروا إلى الخروج مع المشركين إلى بدر حتى إذا حضروها وشاهدوا ما عليه المسلمون من القلة والذلة قالوا: مساكين هؤلاء غرهم دينهم،

[ 100 ]

وسيجئ في البحث الروائي التالى ان شاء الله تعالى. وعلى أي حال ينبغى إمعان النظر في البحث عما تفيده هذه الاية من حضور جمع من المنافقين والذين في قلوبهم مرض يوم بدر عند القتال، واستخراج حقيقة السبب الذى اوجب لهؤلاء المنافقين والضعفاء حضور هذه الغزوة، والوقوف في ذلك الموقف الصعب الهائل الذى لا يساعد عليه الاسباب العادية ولا يقف فيه إلا رجال الحقيقة الذين امتحن الله قلوبهم للايمان. وأنهم لماذا حضروها ؟ وكيف ولماذا صبروا مع الصابرين من فئة الاسلام ؟ ولعلنا نوفق لبعض البحث في ذلك فيما سيوافى من آيات سورة التوبة في شأن المنافقين والذين في قلوبهم مرض إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة) إلى تمام الايتين. التوفى اخذ الحق بتمامه، ويستعمل في كلامه تعالى كثيرا بمعنى قبض الروح، ونسبة قبض ارواحهم إلى الملائكة مع ما في بعض الايات من نسبته إلى ملك الموت، وفي بعض آخر إلى الله سبحانه كقوله: (قل يتوفاكم ملك الموت الذى وكل بكم) الم السجدة: 11، وقوله: (الله يتوفى الانفس حين موتها) الزمر: 42 دليل على ان لملك الموت اعوانا يتولون قبض الارواح هم بمنزلة الايدى العمالة له يصدرون عن إذنه ويعملون عن امره، كما انه يصدر عن إذن مالله ويعمل عن امر منه، وبذلك يصح نسبة التوفى إلى الملائكة الاعوان، وإلى ملك الموت، وإلى الله سبحانه. وقوله: (يضربون وجوههم وأدبارهم) ظاهره انهم يضربون مقاديم ابدانهم وخلاف ذلك فيكنى به عن إحاطتهم واستيعاب جهاتهم بالضرب، وقيل: إن الادبار كناية عن الاستاه فبالمناسبة يكون المراد بوجوههم مقدم رؤوسهم، وضرب الوجوه والادبار بهذا المعنى يراد به الازراء والاذلال. وقوله: (وذوقوا عذاب الحريق) أي يقول لهم الملائكة: ذوقوا عذاب الحريق وهو النار. وقوله: (ذلك بما قدمت ايديكم) تتمة لقولهم المحكى أو إشاره إلى مجموع ما يفعل بهم وما يقول لهم الملائكة، والمعنى إنما نذيقكم عذاب الحريق بما قدمت ايديكم أو: نضرب وجوهكم وأدباركم ونذيقكم عذاب الحريق بما قدمت ايديكم.

[ 101 ]

وقوله: (وأن الله ليس بظلام للعبيد) معطوف على موضع قوله (ما قدمت) أي وذلك بأن الله ليس بظلام للعبيد أي لا يظلم احدا من عبيده فإنه تعالى على صراط مستقيم لا تخلف ولا اختلاف في فعله فلو ظلم احدا لظلم كل احد، ولو كان ظالما لكان ظلاما للعبيد فافهم ذلك. وسياق الايات يشهد على ان المراد بهؤلاء الذين يصفهم الله سبحانه بأن الملائكة يتوفاهم ويعذبهم هم المقتولون ببدر من مشركي قريش. قوله تعالى: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله) إلى آخر الاية. الدأب والديدن: العادة وهى العمل الذى يدوم ويجرى عليه الانسان، والطريقة التى يسلكها والمعنى كفر هؤلاء يشبه كفر آل فرعون والذين من قبلهم من الامم الخالية الكافرة كفروا بايات الله وأذنبوا بذلك فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوى لا يضعف عن اخذهم شديد العقاب إذا اخذ. قوله تعالى: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الخ أي ان العقاب الذى يعاقب به الله سبحانه إنما يعقب نعمة إلهية سابقة بسلبها واستخلافها، ولا تزول نعمة من النعم الالهية ولا تتبدل نقمة وعقابا إلا مع تبدل محله وهو النفوس الانسانية، فالنعمة التى انعم بها على قوم إنما أفيضت عليهم لما استعدوا لها في انفسهم، ولا يسلبونها ولا تتبدل بهم نقمة وعقابا إلا لتغييرهم ما بانفسهم من الاستعداد وملاك الافاضة وتلبسهم باستعداد العقاب. وهذا ضابط كلى في تبدل النعمة إلى النقمة والعقاب، وأجمع منه قوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الرعد: 11 وإن كان ظاهره اظهر انطباقا على تبدل النعمة إلى النقمة. وكيف كان فقوله: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا) الخ من قبيل التعليل بأمر عام وتطبيقه على مورده الخاص أي اخذ مشركي قريش بذنوبهم، وعقابهم بهذا العقاب الشديد، وتبديل نعمة الله عليهم عقابا شديدا إنما هو فرع من فروع سنة جارية إلهية هي ان الله لا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وقوله: (وان الله سميع عليم) تعليل آخر بعد التعليل بقوله: (ذلك بأن

[ 102 ]

الله لم يك مغيرا) الخ وظاهره - بمقتضى إشعار السياق - ان المراد به: وذلك بأن الله سميع لدعواتكم عليم بحاجاتكم سمع استغاثتكم وعلم بحاجتكم فاستجاب لكم فعذب أعداءكم الكافرين بايات الله، ويحتمل أن يكون المراد: ذلك بأن الله سميع لاقوالهم عليم بأفعالهم فعذبهم على ذلك، ويمكن الجمع بين المحتملين قوله تعالى: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بايات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم) الخ كرر التنظير السابق لمشابهة الفرض مع ما تقدم فقوله: (كدأب آل فرعون) الخ السابق تنظير لقوله: (ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد) كما ان قوله: (كدأب آل فرعون - إلى قوله - وكل كانوا ظالمين) ثانيا تنظير لقوله: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة) الخ. غير ان التنظير الثاني يشتمل على نوح من الالتفات في قوله: (فأهلكناهم بذنوبهم) وقد وقع بحذائه في التنظير الاول: (فأخذهم الله بذنوبهم) من غير التفات ولعل الوجه فيه ان التنظير الثاني لما كان مسبوقا بإفاده ان الله هو المفيض بالنعم على عباده ولا يغيرها إلا عن تغييرهم ما بأنفسهم، وهذا شأن الرب بالنسبة إلى عبيده اقتضى ذلك ان يعد هؤلاء عبيدا غير جارين على صراط عبودية ربهم و لذلك غير بعض سياق التنظير فقال في الثاني: (كذبوا بايات ربهم) وقد كان بحذائه في الاول قوله: (كفروا بايات الله) ولذلك التفت ههنا من الغيبة إلى التكلم مع الغير فقال: (فأهلكناهم بذنوبهم) للدلالة على انه سبحانه هو ربهم وهو مهلكهم، وقد أخذ المتكلم مع الغير للدلالة على عظمة الشأن وجلالة المقام، وان له وسائط يعملون بأمره ويجرون بمشيتة. وقوله: (وأغرقنا آل فرعون) أظهر المفعول ولم يقل: وأغرقناهم ليؤمن الالتباس برجوع الضمير إلى آل فرعون والذين من قبلهم جميعا. وقوله تعالى: (وكل كانوا ظالمين) أي جميع هؤلاء الذين أخذهم العذاب الالهى من كفار قريش وآل فرعون والذين من قبلهم كانوا ظالمين في جنب الله. وفيه بيان ان الله سبحانه لا يأخذ بعقابه الشديد احدا، ولا يبدل نعمته على احد نقمة إلا إذا كان ظالما ظلما يبدل نعمة الله كفرا باياته فهو لا يعذب بعذابه إلا مستحقه.

[ 103 ]

(بحث روائي) في الكافي عن على بن ابراهيم عن أبيه عن ابن أبى عمير عن الحسين بن عثمان عن سماعة قال: سألت ابا الحسن عليه السلام عن الخمس فقال: في كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير. وفيه عن على بن ابراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح قال: الخمس في خمسة اشياء: من الغنائم والغوص ومن الكنوز ومن المعادن والملاحة يؤخذ من كل هذه الصنوف الخمس فيجعل لمن جعل الله له، ويقسم اربعة أخماس بين من قاتل عليه وولى ذلك. ويقسم بينهم الخمس على ستة اسهم: سهم لله، وسهم لرسوله، وسهم لذى القربى وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابناء السبيل فسهم الله وسهم رسوله لاولى الامر من بعد رسول الله وراثة فله ثلاثة أسهم: سهمان وراثة، وسهم مقسوم له من الله فله نصف الخمس كلا، ونصف الخمس الثاني بين اهل بيتة: فسهم ليتاماهم، وسهم لمساكينهم، وسهم لابناء سبيلهم يقسم بينهم على الكتاب والسنة ما يستغنون به في سنتهم فإن فضل منهم شئ فهو للوالى، وإن عجز أو نقص عن استغنائهم كان على الوالى ان ينفق من عنده ما يستغنون به، وإنما صار عليه ان يمونهم لان له ما فضل عنهم، وإنما جعل الله هذا الخمس خاصة لهم دون مساكين الناس وأبناء سبيلهم عوضا لهم عن صدقات الناس تنزيها من الله لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكرامة من الله لهم من اوساخ الناس فجعل لهم خاصة من عنده وما يغنيهم به، ان يصيرهم في موضع الذل والمسكنة، ولا بأس بصدقة بعضهم على بعض. وهؤلاء الذين جعل الله لهم الخمس هم قرابة النبي صلى الله عليه وآله الذين ذكرهم الله فقال: (وانذر عشيرتك الاقربين) وهم بنو عبد المطلب أنفسهم الذكر منهم والانثى ليس فيهم من أهل بيوتات قريش ولا من العرب أحد، ولا فيهم ولا منهم في هذا الخمس من مواليهم، وقد تحل صدقات الناس لمواليهم، وهم والناس سواء. ومن كانت أمه من بنى هاشم وأبوه من سائر قريش فإن الصدقات تحل له، وليس له من الخمس شئ لان الله يقول، (ادعوهم لابائهم).

[ 104 ]

وفي التهذيب بإسناده عن على بن مهزيار قال: قال لى على بن راشد: قلت له: أمرتنى بالقيام بأمرك وأخذ حقك فأعلمت مواليك بذلك فقال لى بعضهم: وأى شئ حقه ؟ فلم أدر ما اجيبه ! فقال: يجب عليهم الخمس فقلت: ففى أي شئ ؟ فقال: في أمتعتهم وضياعهم قلت: والتاجر عليه والصانع بيده ؟ فقال: ذلك إذا امكنهم بعد مؤنتهم. وفيه بإسناده عن زكريا بن مالك الجعفي عن ابى عبد الله عليه السلام انه سئل عن قول الله: (واعلموا ان ما غنمتم من شئ - فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) فقال: خمس الله عز وجل للامام، وخمس الرسول للامام، وخمس ذى القربى لقرابة الرسول للامام، واليتامى يتامى آل الرسول، والمساكين منهم، وأبناء السبيل منهم فلا يخرج منهم إلى غيرهم. وفيه باسناده عن أحمد بن محمد بن أبى نصر عن ابى عبد الله عليه السلام قال: قال له ابراهيم بن ابى البلاد: وجب عليك زكاة ؟ قال: لا ولكن يفضل ونعطى هكذا، وسئل عن قول الله عزوجل: (واعلموا انما غنمتم من شئ فان لله خمسه وللرسول ولذي القربى) فقيل له: فما كان لله فلمن هو ؟ قال: للرسول، وما كان للرسول فهو للامام. قيل: أفرأيت إن كان صنف اكثر من صنف، وصنف اقل من صنف ؟ فقال: ذلك للامام. قيل أفرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف يصنع ؟ قال: إنما كان يعطى على ما يرى هو وكذلك الامام. أقول: والاخبار عن أئمه اهل البيت عليهم السلام متواترة في اختصاص الخمس بالله ورسوله والامام من اهل بيته ويتامى قرابته ومساكينهم وأبناء سبيلهم لا يتعداهم إلى غيرهم، وانه يقسم ستة اسهم على ما مر في الروايات، وانه لا يختص بغنائم الحرب بل يعم كل ما كان يسمى غنيمة لغة من ارباح المكاسب والكنوز والغوص والمعادن والملاحة، وفي رواياتهم - كما تقدم - ان ذلك موهبة من الله لاهل البيت بما حرم عليهم الزكوات والصدقات. وفي الدر المنثور اخرج ابن ابى شيبة وابن المنذر من وجه آخر عن ابن عباس رضى الله عنهما: ان نجدة الحروري أرسل يسأله عن سهم ذى القربى الذين ذكر الله فكتب إليه: إنا كنا نرى أناهم فأبى ذلك علينا قومنا، وقالوا: ويقول لمن تراه ؟ فقال ابن عباس رضى الله عنهما: هو لقربي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسمه لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

[ 105 ]

وقد كان عمر (رض) عرض علينا من ذلك عرضا رأيناه دون حقنا فرددناه عليه وأبينا ان نقبله. وكان عرض عليهم ان يعين ناكحهم، وأن يقضى عن غارمهم، وأن يعطى فقيرهم، وأبى ان يزيدهم على ذلك. أقول: وقوله في الرواية: (قالوا ويقول لمن تراه) معناه: قال الذين ارسلهم نجدة الحروري لابن عباس: ويقول نجدة لمن ترى الخمس أي يسألك عن فتواك فيمن يصرف إليه الخمس. وقوله: هو لقربي رسول الله قسمها لهم (الخ) ظاهره انه فسر ذى القربى باقرباء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وظاهر الروايات السابقة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام انهم فسروا ذى القربى بالامام من اهل البيت، وظاهر الاية يؤيد ذلك حيث عبر بلفظ المفرد ! وفيه اخرج ابن المنذر عن عبد الرحمان بن ابى ليلى قال: سألت عليا رضى الله عنه فقلت: يا امير المؤمنين اخبرني كيف كان صنع ابى بكر وعمر رضى الله عنهما في الخمس نصيبكم ؟ فقال: اما أبو بكر (رض) فلم يكن في ولايته اخماس، وأما عمر (رض) فلم يزل يدفعه إلى في كل خمس حتى كان خمس السوس وجند نيسابور فقال وأنا عنده، هذا نصيبكم أهل البيت من الخمس وقدأحل ببعض المسلمين واشتدت حاجتهم. فقلت، نعم، فوثب العباس بن عبد المطلب فقال، لا تعرض في الذى لنا. فقلت، ألسنا من ارفق المسلمين، وشفع أمير المؤمنين، فقبضه فو الله ما قبضناه ولا قدرت عليه في ولاية عثمان رضى الله عنه. ثم أنشأ على رضى الله عنه يحدث فقال: ان الله حرم الصدقة على رسوله (ص) فعوضه سهما من الخمس عوضا مما حرم عليه، وحرمها على اهل بيته خاصة دون أمته فضرب لهم مع رسول الله (ص) سهما عوضا مما حرم عليهم. وفيه أخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قال رسول الله (ص) رغبت لكم عن غسالة الايدى لان لكم في خمس الخمس مايغنيكم أو يكفيكم. أقول: وهو مبنى على كون سهم اهل البيت هو ما لذى القربى فحسب. وفيه أخرج ابن ابى شيبة عن جبير بن مطعم رضى الله عنه قال: قسم رسول الله (ص) سهم ذى القربى على بنى هاشم وبنى المطلب. قال: فمشيت انا وعثمان بن

[ 106 ]

عفان حتى دخلنا عليه - فقلنا: يا رسول الله هؤلاء إخوانك من بنى هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك الذى وضعك الله به منهم. أ رأيت إخواننا من بنى المطلب اعطيتهم دوننا، وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة في النسب ؟ فقال: إنهم لم يفارقونا في الجاهلية والاسلام. وفيه اخرج ابن مردويه عن زيد بن ارقم رضى الله عنه قال: آل محمد الذين أعطوا الخمس: آل على وآل عباس وآل جعفر وآل عقيل. أقول: والروايات في هذا الباب كثيرة من طرق اهل السنة وقد اختلفت الروايات الحاكية لعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طرقهم بين ما مضمونه انه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقسم الخمس على اربعة اسهم وبين ما مضمونه التقسيم على خمسة اسهم. غير انه يقرب من المسلم فيها ان من سهام الخمس ما يختص بقرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم المعنيون بذى القربى في آية الخمس على خلاف ما في الروايات المروية عن أئمه اهل البيت (ع). ومما يقرب من المسلم فيها ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقسمه بين المطلبيين ما دام حيا، وانه انقطع عنهم على هذا الوصف في زمن الخلفاء الثلاث ثم جرى على ذلك الامر بعدهم. ومن المسلم فيها ايضا ان الخمس يختص بغنائم الحرب - على خلاف ما عليه الروايات من طرق أئمه اهل البيت (ع) - ولا يتعداها إلى كل ما يصدق عليه اسم الغنيمة لغة. وما يتعلق بالاية من محصل البحث التفسيرى هو الذى قدمناه وهناك ابحاث أخر كلامية أو فقهية خارجة عن غرضنا. وهناك بحث حقوقي اجتماعي في ما يؤثره الخمس من الاثر في المجتمع الاسلامي سيوافيك في ضمن الكلام على الزكاة. بقى الكلام فيما تتضمنه الروايات ان الله سبحانه اراد بتشريع الخمس إكرام اهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسرته وترفيعهم من ان يأخذوا اوساخ الناس في اموالهم، والظاهر ان ذلك مأخوذ من قوله تعالى في آية الزكاة خطابا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (خذ من اموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم) التوبه: 103 فان التطهير والتزكية إنما يتعلق بما لا يخلو من دنس ووسخ ونحوهما ولم يقع في آية الخمس ما يشعر بذلك. وفي الدر المنثور اخرج عبد الرزاق وابن جرير عن عروة بن الزبير (رض) قال: أمر رسول الله (ص) بالقتل في آى من القرآن فكان اول مشهد شهده رسول الله (ص)

[ 107 ]

بدرا، وكان رئيس المشركين يومئذ عتبة بن ربيعة بن عبد شمس فالتقوا يوم الجمعة ببدر لسبع أو ست عشرة ليلة مضت من رمضان، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث مائة وبضعة عشر رجلا، والمشركون بين الالف والتسعمائة، وكان ذلك يوم الفرقان يوم فرق الله بين الحق والباطل فكان اول قتيل قتل يومئذ مهجع مولى عمرو رجل من الانصار، وهزم الله يومئذ المشركين فقتل منهم زيادة على سبعين رجلا، وأسر منهم مثل ذلك. وفيه اخرج ابن مردويه عن على بن ابى طالب رضى الله عنه قال: كانت ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان في صبيحتها ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان. اقول: وروى مثل ذلك عن ابن جرير عن الحسن بن على وعن ابن ابى شيبة عن جعفر عن ابيه، وأيضا عنه عن ابى بكر عن عبد الرحمن بن هشام، وعنه عن عامر بن ربيعة البدرى مثله لكن فيه، كان يوم بدر يوم الاثنين لسبع عشرة من رمضان. وربما أطلق في بعض اخبار أئمة اهل البيت عليهم السلام على التسعة عشر من رمضان يوم يلتقى الجمعان لما عد ليلته في اخبارهم من ليلة القدر، وهذا معنى آخر غير ما اريد في الاية من (يوم الفرقان يوم التقى الجمعان) ففى تفسير العياشي عن إسحاق بن عمار عن ابى عبد الله عليه السلام قال: في تسعة عشر من شهر رمضان يلتقى الجمعان. قلت: ما معنى قوله: يلتقى الجمعان ؟ قال: يجتمع فيها ما يريد من تقديمه وتأخيره وإرادته وقضائه. وفي تفسير العياشي عن محمد بن يحيى عن ابى عبد الله عليه السلام في قوله: (والركب اسفل منكم) قال: أبو سفيان وأصحابه. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة) الاية قال: قال: يعلم من بقى ان الله نصره. وفي الدر المنثور في قوله تعالى: (وإذ يريكموهم إذ التقيتم) الاية اخرج ابن ابى شيبة وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: لقد قللوا في اعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبى: تراهم سبعين ؟ قال: لا بل مائة. وفيه في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم) الخ اخرج الحاكم وصححه عن ابى موسى رضى الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يكره الصوت عند القتال.

[ 108 ]

وفيه اخرج ابن ابى شيبة عن النعمان بن مقرن رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان عند القتال لم يقاتل اول النهار، وأخره إلى ان تزول الشمس وتهب الرياح وتنزل النصر. وفي تفسير البرهان في قوله تعالى: (وإذ زين لهم الشيطان اعمالهم) الاية بإسناده عن يحيى بن الحسن بن فرات قال: حدثنا أبو المقدم ثعلبة بن زيد الانصاري قال: سمعت جابر بن عبد الله بن حرام الانصاري رحمه الله يقول: تمثل إبليس في اربع صور: تمثل يوم بدر في صورة سراقة بن مالك بن جشعم المدلجى فقال لقريش: لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم فلما وتراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إنى برئ منكم. وتصور يوم العقبة في صورة منبه بن الحجاج فنادى: إن محمدا والصباة معه عند العقبة فأدركوهم. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للانصار: لا تخافوا فإن صوته لن يعدوه. وتصور في يوم اجتماع قريش في دار الندوة في صورة شيخ من اهل نجد وأشار عليهم في امرهم فأنزل الله تعالى: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين). وتصور في يوم قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صورة المغيرة بن شعبة فقال: أيها الناس لا تجعلوا كسروانية ولا قيصرانية وسعوها تتسع فلا تردوا إلى بنى هاشم فينظر بها الحبالى. وفي المجمع قيل: إنهم لما التقوا كان إبليس في صف المشركين اخذ بيده الحارث بن هشام فنكص على عقبيه فقال له الحارث بن هشام: يا سراقة إلى أين ؟ أتخذلنا في هذه الحالة ؟ فقال: انى أرى ما لا ترون، فقال: والله ما نرى إلا جعاميس يثرب فدفع في صدر الحارث وانطلق وانهزم الناس. فلما قدموا مكة قالوا: هزم الناس سراقة فبلغ ذلك سراقة فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم فقالوا: انك أتيتنا يوم كذا فحلف لهم فلما اسلموا علموا ان ذلك كان الشيطان. قال: وروى ذلك عن ابى جعفر وأبى عبد الله عليهم السلام.

[ 109 ]

اقول: وروى مثله ابن شهر آشوب عنهما عليهما السلام، وفي معنى هاتين الروايتين روايات كثيرة من طرق اهل السنة عن ابن عباس وغيره. وقد مر في البيان المتقدم استبعاد بعض المفسرين ذلك وتضعيفه ما ورد فيه من الروايات، وهى إنما تثبت امرا ممكنا غير مستحيل، والاستبعاد الخالى لا يبنى عليه في الابحاث العلمية، والتمثلات البرزخية ليست بشاذة نادرة فلا موجب للاصرار على النفى كما ان الاثبات كذلك غير أن ظاهر الاية اوفق للاثبات. وفي الدر المنثور في قوله تعالى: (وإذ زين لهم الشيطان) الايتين اخرج ابن ابى حاتم عن ابن إسحاق في قوله: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض) قال: هم الفئة الذين خرجوا مع قريش احتبسهم آباؤهم فخرجوا وهم على الارتياب فلما رأوا قلة اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: غر هؤلاء دينهم حين قدموا على ما قدموا عليه من قلة عددهم وكثرة عدوهم. وهم فئة من قريش مسمون خمسة: قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة المخزوميان، والحارث بن زمعة، وعلى بن امية بن خلف، والعاصي بن منبه. اقول: وهذا يقبل الانطباق بوجه على قوله تعالى: (والذين في قلوبهم مرض) فحسب، وفي بعض التفاسير ان القائل: (غر هؤلاء دينهم) هم المنافقون والذين في قلوبهم مرض من اهل المدينة، ولم يخرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسياق الاية الظاهر في حضورهم وقولهم ذلك عند التقاء الفئتين يأبى ذلك. وفي رواية ابى هريرة - على ما رواه في الدر المنثور عن الطبراني في الاوسط عنه - ما لفظه، وقال عتبة بن ربيعة وناس معه من المشركين يوم بدر غر هؤلاء دينهم) فأنزل الله، (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم). والذى ذكره لا ينطبق على الاية البتة فالقرآن الكريم لا يسمى المشركين منافقين ولا الذين في قلوبهم مرض. وفي تفسير العياشي عن ابى على المحمودى عن ابيه رفعه في قول الله، يضربون وجوههم وأدبارهم قال، إنما اراد أستاههم. إن الله كريم يكنى. وفي تفسير الصافى عن الكافي عن الصادق عليه السلام ان الله بعث نبيا من انبيائه إلى

[ 110 ]

قومه، وأوحى إليه، أن قل لقومك انه ليس من اهل قرية ولا ناس كانوا على طاعتي فأصابهم فيها سراء فتحولوا عما أحب إلى ما اكره إلا تحولت لهم عما يحبون إلى ما يكرهون، وانه ليس من اهل قرية ولا اهل بيت كانوا على معصيتى فأصابهم فيها ضراء فتحولوا عما اكره إلى ما أحب إلا تحولت لهم عما يكرهون إلى ما يحبون. وفيه ايضا عنه عليه السلام انه قال، كان ابى يقول، ان الله عزوجل قضى قضاء حتما، لا ينعم على العبد بنعمه فيسلبها اياه حتى يحدث العبد ذنبا يستحق بذلك النقمة. إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون - 55. الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون - 56. فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون - 57. وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين - 58. ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون - 59. وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شئ في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون - 60. وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم - 61. وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذى أيدك بنصره وبالمؤمنين - 62. وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الارض جميعا

[ 111 ]

ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم - 63. يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين - 64. يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون - 65. الان خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين - 66. (بيان) أحكام ودستورات في الحرب والسلم والمعاهدات ونقضها وغير ذلك، وصدر الايات يقبل الانطباق على طوائف اليهود التى كانت في المدينة وحولها وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاهدهم بعد هجرته إلى المدينة ان لا يضروه ولا يغدروا به ولا يعينوا عليه عدوا ويقروا على دينهم ويأمنوا في انفسهم فنقضوا العهد نقضا بعد نقض حتى أمر الله سبحانه بقتالهم فآل امرهم إلى ما آل إليه، وسيجئ بعض اخبارهم في البحث الروائي التالى إن شاء الله تعالى. وعلى هذا فالايات الاربع الاول غير نازلة مع ما سبقها من الايات ولا متصلة بها كما يعطيه سياقها وأما السبع الباقية فليست بواضحة الاتصال بما قبلها من الايات الاربع ولا بما قبل ما قبلها. قوله تعالى: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون) الكلام مسوق لبيان كون هؤلاء شر جميع الموجودات الحية من غير شك في ذلك لمافى تقييد الحكم بقوله: (عند الله) من الدلالة عليه فان معناه الحكم، وما يحكم ويقضى به الله سبحانه لا يتطرق إليه خطأ وقد قال تعالى: (لا يضل ربى ولا ينسى) طه: 52.

[ 112 ]

وقد افتتح هذه القطعه من الكلام المتعلق بهم بكونهم شر الدواب عنده لان مغزى الكلام التحرز منهم ودفعهم، ومن المغروز في الطباع ان الشر الذى لا يرجى معه خير يجب دفعه بأى وسيلة صحت وأمكنت فناسب ما سيأمره في حقهم بقوله: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) الخ الافتتاح ببيان كونهم شر الدواب. وعقب قوله: (الذين كفروا) بقوله: (فهم لا يؤمنون) مبتدأ بفاء التفريع أي ان من وصفهم الذى يتفرع على كفرهم انهم لا يؤمنون، ولا يتفرع عدم الايمان على الكفر إلا إذا رسخ في النفس رسوخا لا يرجى معه زواله فلا مطمع حينئذ في دخول الايمان في قلب هذا شأنه لمكان المضادة التى بين الكفر والايمان. ومن هنا يظهر ان المراد بقوله: (الذين كفروا) الذين ثبتوا على الكفر، وعند هذا يرجع معنى هذه الاية إلى نظيرتها السابقة: (ان شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لاسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) الانفال: 23. على ان الايتين لما دلتا على حصر الشر عند الله في طائفة معينة من الدواب كانت الاية الاولى مع دلالتها على كون اهلها ممن لا يؤمنون البتة دالة على ان المراد بقوله في الاية الثانية: (الذين كفروا فهم لا يؤمنون) كونهم ثابتين على كفرهم لا يزولون عنه البته. قوله تعالى: (الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون) بيان للذين كفروا في الاية السابقة أو بدل منهم بدل البعض من الكل، ويتفرع عليه أن (من) في قوله (منهم) تبعيضية والمعنى: الذين عاهدتهم من بين الذين كفروا، وأما احتمال ان يكون من زائدة والمعنى: الذين عاهدتهم، أو بمعنى مع والمعنى: الذين عاهدت معهم: فليس بشئ. والمراد بكل مرة مرات المعاهدة اي ينقضون عهدهم في كل مرة عاهدتهم وهم لا يتقون الله في نقض العهد أو لا يتقونكم ولا يخافون نقض عهدكم، وفيه دلالة على تكرر النقض منهم. قوله تعالى: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون)

[ 113 ]

قال في المجمع الثقف الظفر والادراك بسرعة، والتشريد التفريق على اضطراب. انتهى، وقوله: (فإما تثقفنهم) أصله إن تثقفهم دخل (ما) التأكيد على ان الشرطية ليصحح دخول نون التأكيد على الشرط والكلام مسوق للتأكيد في ضمن والشرط. والمراد بتشريد من خلفهم بهم ان يفعل بهم من التنكيل والتشديد ما يعتبر به من خلفهم، ويستولى الرعب والخوف على قلوبهم فيتفرقوا وينحل عقد عزيمتهم واتحاد ارادتهم على قتال المؤمنين وإبطال كلمة الحق. وعلى هذا فالمراد بقوله: (لعلهم يذكرون) رجاء ان يتذكروا ما لنقض العهد والافساد في الارض والمحادة مع كلمة الحق من التبعة السيئة والعاقبة المشؤومة فان الله لا يهدى القوم الفاسقين وإن الله لا يهدى كيد الخائنين. ففى الاية إيماء إلى الامر بقتالهم ثم التشديد عليهم والتنكيل بهم عند الظفر بهم وثقفهم، وإيماء إلى ان وراءهم من حاله حالهم في نقض العهد وتربص الدوائر على الحق وأهله. قوله تعالى: (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) الخيانة - على ما في المجمع - نقض العهد فيما يؤتمن عليه، وهذا معنى الخيانة في العهود والمواثيق، وأما الخيانة بمعناها العام فهى نقض ما أبرم من الحق في عهد أو امانة 7 والنبذ هو الالقاء ومنه قوله: (فنبذوه وراء ظهورهم) آل عمران: 187 والسواء بمعنى الاستواء والعدل. وقوله: (وإما تخافن) كقوله في الاية السابقة: (فإما تثقفنهم) ومعنى الخوف ظهور امارات تدل على وقوع ما يجب التحرز منه والحذر عنه وقوله: (إن الله لا يحب الخائنين) تعليل لقوله: (فانبذ إليهم على سواء). ومعنى الاية: وإن خفت من قوم بينك وبينهم عهد ان يخونوك وينقضوا عهدهم ولاحت آثار دالة على ذلك فانبذ وألق إليهم عهدهم وأعلمهم إلغاء العهد لتكونوا انتم وهم على استواء من نقض عهد أو تكون مستويا على عدل فإن من العدل المعاملة بالمثل والسواء لانك إن قاتلتهم قبل إعلام إلغاء العهد كان ذلك منك خيانة والله لا يحب الخائنين.

[ 114 ]

وملخص الايتين دستوران إلهيان في قتال الذين لا عهد لهم بالنقض أو بخوفه فان كان اهل العهد من الكفار لا يثبتون على عهدهم بنقضه في كل مرة فعلى ولى الامر ان يقاتلهم ويشدد عليهم، وإن كانوا بحيث يخاف من خيانتهم ولا وثوق بعهدهم فيعلمون إلغاء عهدهم ثم يقاتلون ولا يبدأ بقتالهم قبل الاعلام فإنما ذلك خيانة، وأما إن كانوا عاهدوا ولم ينقضوا ولم يخف خيانتهم فمن الواجب حفظ عهدهم واحترام عقدهم وقد قال تعالى: (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) التوبة: 4. وقال: (اوفوا بالعقود) المائدة: 1. قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا انهم لا يعجزون) القراءة المشهورة (تحسبن) بتاء الخطاب، وهو خطاب للنبى صلى الله عليه وآله وسلم تطييبا لنفسه وتقوية لقلبه كالخطاب الاتى بعد عدة آيات: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) وكالخطاب الملقى بعده لتحريض المؤمنين: (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال). والسبق تقدم الشى على طالب اللحوق به، والاعجاز إيجاد العجز، وقوله: (انهم لا يعجزون) تعليل لقوله: (ولا تحسبن) الخ، والمعنى: يا أيها النبي لا تحسبن ان الذين كفروا سبقونا فلا ندركهم، لانهم لا يعجزون الله وله القدرة على كل شئ. قوله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل). إلى آخر الاية الاعداد تهيئة الشئ للظفر بشئ آخر وإيجاد ما يحتاج إليه الشئ المطلوب في تحققه كإعداد الحطب والوقود للايقاد وإعداد الايقاد للطبخ، والقوة كل ما يمكن معه عمل من الاعمال، وهى في الحرب كل ما يتمشى به الحرب والدفاع من انواع الاسلحة، والرجال المدربين والمعاهد الحربية التى تقوم بمصلحة ذلك كله، والرباط مبالغة في الربط وهو أيسر من العقد يقال: ربطه يربطه ربطا ورابطه يرابطه مرابطة ورباطا فالكل بمعنى غير ان الرباط ابلغ من الربط، والخيل هو الفرس، والارهاب قريب المعنى من التخويف. وقوله: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل) امر عام بتهيئة المؤمنين مبلغ استطاعتهم من القوى الحربية ما يحتاجون إليه قبال ما لهم من الاعداء في الوجود أو في الفرض والاعتبار فان المجتمع الانساني لا يخلو من التألف من أفراد أو أقوام مختلفى الطباع ومتضادى الافكار لا ينعقد بينهم مجتمع على سنة قيمة ينافعهم إلا وهناك مجتمع آخر يضاده في منافعه، ويخالفه في سنته، ولا يعيشان

[ 115 ]

معا برهة من الدهر إلا وينشب بينهما الخلاف ويؤدى ذلك إلى التغلب والقهر. فالحروب المبيدة والاختلافات الداعية إليها مما لا مناص عنها في المجتمعات الانسانية والمجتمعات هي هذه المجتمعات، ويدل على ذلك ما نشاهده من تجهز الانسان في خلقه بقوى لا يستفاد منها إلا للدفاع كالغضب والشدة في الابدان، والفكر العامل في القهر والغلبة، فمن الواجب الفطري على المجتمع الاسلامي أن يتجهز دائما بإعداد ما استطاع من قوة ومن رباط الخيل بحسب ما يفترضه من عدو لمجتمعه الصالح. والذى اختاره الله للمجتمع الاسلامي بما أنزل عليهم من الدين الفطري الذى هو الدين القيم هي الحكومة الانسانية التى يحفظ فيها حقوق كل فرد من أفراد مجتمعها، ويراعى فيها مصلحة الضعيف والقوى والغنى والفقير والحر والعبد والرجل والمرأة والفرد والجماعة والبعض والكل على حد سواء دون الحكومة الفردية الاستبداديد التى لا تسير إلا على ما تهواه نفس الفرد المتولي لها الحاكم في دماء الناس وأعراضهم وأموالهم بما شاء وأراد، ولا الحكومة الاكثرية التى تطابق أهواء الجمهور من الناس وتبطل منافع آخرين وترضى الاكثرين (النصف + واحد) وتضطهد وتسخط الاقلين (النصف - واحد). ولعل هذا هو السر في قوله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) حيث وجه الخطاب إلى الناس بعد ما كان الخطاب في الايات السابقة موجها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كقوله: (فاما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) وقوله: (فانبذ إليهم على سواء) وقوله: (ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا) وكذا في الايات التالية كقوله: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) إلى غير ذلك. وذلك ان الحكومة الاسلامية حكومة إنسانية بمعنى مراعاة حقوق. كل فرد وتعظيم ارادة البعض واحترام جانبه أي من كان من غير اختصاص الارادة المؤثرة بفرد واحد أو بأكثر الافراد. فالمنافع التى يهددها عدوهم هي منافع كل فرد فعلى كل فرد ان يقوم بالذب عنها، ويعد ما استطاع من قوة لحفظها من الضيعة، والاعداد وان كان منه ما لا يقوم بأمره إلا الحكومات بما لهامن الاستطاعة القوية والامكانات البالغة لكن منها ما يقوم بالافراد بفرديتهم كتعلم العلوم الحربية والتدرب بفنونها فالتكليف تكليف الجميع.

[ 116 ]

وقوله تعالى: (ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) في مقام التعليل لقوله: (وأعدوا لهم) أي وأعدوا لهم ذلك لترهبوا وتخوفوا به عدو الله وعدوكم، وفي عدهم عدوا لله ولهم جميعا بيان للواقع وتأكيد في التحريض. وفي قوله: (وآخرين من دونهم) لا تعلمونهم) دلالة على ان المراد بالاولين هم الذين يعرفهم المؤمنون بالعداوة لله ولهم، والمراد بهؤلاء الذين لا يعلمهم المؤمنون - على ما يعطيه إطلاق اللفظ - كل من لا خبرة للمؤمنين بتهديده إياهم بالعداوة من المنافقين الذين هم في كسوة المؤمنين وصورتهم يصلون ويصومون ويحجون ويجاهدون ظاهرا، ومن غير المنافقين من الكفار الذين لم يبتل بهم المؤمنون بعد. والارهاب باعداد القوة، وان كان في نفسه من الاغراض الصحيحة التى تتفرع عليها فوائد عظيمة ظاهرة غير أنه ليس تمام الغرض المقصود من إعداد القوة، ولذلك أردفه بقوله: (وما تنفقوا من شئ في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) ليدل على جماع الغرض. وذلك ان الغرض الحقيقي من إعداد القوى هو التمكن من الدفع مبلغ الاستطاعة، وحفظ المجتمع من العدو الذى يهدده في نفوسه وأعراضه وأمواله، وباللفظ المناسب لغرض الدين إطفاء نائرة الفساد الذى يبطل كلمة الحق ويهدم بنيان دين الفطرة الذى به يعبد الله في أرضه ويقوم ملاك العدل في عباده. وهذا أمر ينتفع به كل فرد من أفراد المجتمع الدينى فما أنفقه فرد أو جماعة في سبيل الله، وهو الجهاد لاحياء أمره فهو بعينه يرجع إلى نفسه وان كان في صورة اخرى فان أنفق في سبيله مالا أو جاها أو اي نعمة من هذا القبيل فهو من الانفاق في سبيل الضروريات الذى لا يلبث دون ان يرجع إليه نفسه نفعه وما استعقبه من نماء في الدنيا والاخرة، وان أنفق في سبيله نفسافهو الشهادة في سبيل الله التى تستتبع حياة باقية خالدة حقة لمثلها فليعمل العاملون لا كما يغر به آحاد الفادين في سبيل المقاصد الدنيوية ببقاء الاسم وخلود الذكر وتمام الفخر فهؤلاء وان تنبهوا اليوم لهذا التعليم الاسلامي، وأن المجتمع كنفس واحدة تشترك أعضاؤها فيما يعود إليها من نفع وضرر لكنهم خبطوا في مسيرهم واشتبه عليهم الامر في تشخيص الكمال الانساني الذى لاجله تندبه الفطرة وتدعوه إلى الاجتماع، وهو التمتع من الحياة الدائمة، فحسبوه الحياة الدنيا

[ 117 ]

الدائرة فضاق عليهم المسلك في أمثال التفدية بالنفس لاجل تمتع الغير بلذائذ المادة. وبالجملة فاعداد القوة إنما هو لغرض الدفاع عن حقوق المجتمع الاسلامي ومنافعة الحيوية، والتظاهر بالقوة المعدة ينتج إرهاب العدو، وهو أيضا من شعب الدفع ونوع معه، فقوله تعالى: (ترهبون به عدو الله) الخ يذكر فائدة من فوائد الاعداد الراجعة إلى افراد المجتمع، وقوله: (وما تنفقوا من شئ في سبيل الله يوف اليكم وأنتم لا تظلمون) يذكر ان ما أنفقوه في سبيله لا يبطل ولا يفوت بل يرجع إليهم من غير ان يفوت عن ذى حق حقه. وهذا اعني قوله: (وما تنفقوا من شئ في سبيل الله) الخ اعم فائدة من مثل قوله: (وما تنفقوا من خير يوف اليكم) البقره: 272 فإن الخير منصرف إلى المال فلا يشمل النفس بخلاف قوله ههنا: (وما تنفقوا من شئ). قوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) في المجمع: الجنوح الميل، ومنه جناح الطائر لانه يميل به في احد شقيه، ولا جناح عليه أي لا ميل إلى مأثم. انتهى 7 والسلم بفتح السين وكسرها الصلح. وقوله: (وتوكل على الله) من تتمة الامر بالجنوح فالجميع في معنى امر واحد، والمعنى: وإن مالوا الى الصلح والمسالمة فمل إليها وتوكل في ذلك على الله ولا تخف من ان يضطهدك أسباب خفية عنك على غفلة منك وعدم تهيؤ لها فإن الله هو السميع العليم لا يغفله سبب ولا يعجزه مكر بل ينصرك ويكفيك وهذا هو الذى يثبته قوله في الاية التالية (وإن يريدوا ان يخدعوك فإن حسبك الله). وقد تقدم فيما اسلفناه من معنى التوكل على الله انه ليس اعتمادا عليه سبحانه بإلغاء الاسباب الظاهرية بل سلب الاعتماد القطعي على الاسباب الظاهرية لان الذى يبدو للانسان منها بعض يسير منها دون جميعها، والسبب التام الذى لا يتخلف عن مسببه هو الجميع الذى يحمل إرادته سبحانه. فالتوكل هو توجيه الثقة والاعتماد إلى الله سبحانه الذى بمشيته يدور رحى الاسباب عامة، ولا ينافيه ان يتوسل المتوكل بما يمكنه التوسل به من الاسباب اللائحة عليه من غير ان يلغى شيئا منها فيركب مطية الجهل.

[ 118 ]

قوله تعالى: (وإن يريدوا ان يخدعوك فإن حسبك الله هو الذى ايدك بنصره وبالمؤمنين الاية متصلة بما قبلها وهى بمنزلة دفع الدخل، وذلك ان الله سبحانه لما امر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالجنوح للسلم ان جنحوا له ولم يرض بالخديعة لانها من الخيانة في حقوق المعاشرة والمواصلة للعامة والله لا يحب الخائنين كان امره بالجنوح المذكور مظنة سؤال وهو ان من الجائز ان يكون جنوحهم للسلم خديعة منهم يضلون بها المؤمنين ليغيروا عليهم في شرائط وأحوال مناسبة فأجاب سبحانه بأنا امرناك بالتوكل فإن أرادوا بذلك ان يخدعوك فإن حسبك الله وقد قال تعالى: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ امره). وهذا مما يدل على ان هناك أسبابا وراء ما ينكشف لنا من الاسباب الطبيعية العادية تجرى على ما يوافق صلاح العبد المتوكل إذا خانته الاسباب الطبيعية العادية ولم تساعده على مطلوبه الحق. وقوله: (هو الذى ايدك بنصره وبالمؤمنين) بمنزلة الاحتجاج على قوله: (فإن حسبك الله) بذكر شواهد تدل على كفايته تعالى وهى انه ايده بنصره وأيده بالمؤمنين وألف بين قلوبهم وهى شئ متباغضة. قوله تعالى: (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الارض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) الخ، قال الراغب: الالف اجتماع مع التيام يقال: ألفت بينهم، ومنه الالفة ويقال: للمألوف إلف وآلف قال تعالى (إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم) انتهى. أورد سبحانه في جملة ما استشهدعلى كفايته لمن توكل عليه انه كفى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بتأليف قلوب المؤمنين بعد ذكرتأييده بهم، والكلام مطلق والملاك المذكور فيه عام يشمل جميع المؤمنين وإن كانت الاية اظهر انطباقا على الانصار حيث ايد الله بهم نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فآووه ونصروه وألف الله سبحانه بدينه بينهم أنفسهم وقد نشبت فيهم الحروب المبيدة وكانت قائمة على ساقها دهرا طويلا وهى حرب (بغاث) بين الاوس والخزرج حتى اصطلحوا بنزول الاسلام في دارهم وأصبحوا بنعمته إخوانا. وقد امتن الله بتأليفه بين قلوب المسلمين في مواضع من كلامه وبين أهمية موقعه

[ 119 ]

بمثل قوله: (لو أنفقت ما في الارض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم انه عزيز حكيم). وذلك أن الانسان مفطور على حب النعم الحيوية التى تتم بها حياته لا بغية له دونها ولا يريد في الحقيقة شيئا ولا يقصده إلا لينتفع به في نفسه وما ربما يلوح انه يريد نفعا عائدا إلى غيره فالتأمل الدقيق يكشف عن اشتماله على نفع عائد إليه نفسه، وإذ كان يحب الوجدان فهو يبغض الفقدان. وبهذين الوصفين الغريزيين أعنى الحب والبغض يتم له امر الحياة ولو انه احب كل شئ ومنها الاضداد والمتناقضات لبطلت الحياة ولو انه أبغض كل شئ حتى المتنافيات لبطلت الحياة، وقد فطره الله سبحانه على الحياة الاجتماعية، لقصور ما عنده من القوى والادوات عن القيام بجميع ما يحتاج إليه من ضروريات حياته ومن الضرورى ان الاجتماع لا يتم إلا باختصاص كل فرد بما يحرم عنه آخرون من مال أو جاه أو زينة أو جمال أو كل ما يتنافس فيه الطباع الانساني أو يتعلق به الهوى النفساني على اختلاف فيه بالزيادة والنقيصة. وهذا اول ما يودع انواع العداوة والبغضاء في القلوب والشح في النفوس ثم ما ينبسط بينهم من وجوه الحرمان بالظلم والعدوان وبغى البعض على البعض في دم أو عرض أو مال أو غير ذلك مما يتنعمون به ويتنافسون فيه ويعلمون لاجله، تثير في داخل نفوسهم كل بغضاء وشنان. وهذا كله اوصاف وغرائز باطنية في الجماعة لا تلبث دون ان تظهر في اعمالهم وتتلاقى في افعالهم ويماس بعضها بعضا بينهم في مسير حياتهم وفيه البلوى التى تتعقب الفتن والمصائب الاجتماعية التى تبيد النفوس وتهلك الحرث والنسل، وقدشهدت بذلك الحوادث الجارية على توالى القرون والاجيال. ومهما ظنت الامم المجتمعة ان بغيتها في اجتماعها هي التمتع من العيشة المادية المحدودة بالحياة الدنيوية فلا سبيل إلى قلع مادة هذا الفساد من اصلها وقطع منابته فإن الدار دار التزاحم، والمجتمع قائم على قاعدة الاختصاص، والنفوس مختلفة في الاستعداد، والحوادث الواقعة والعوامل المؤثرة والاحوال الخارجة دخيلة في معايشهم وحياتهم.

[ 120 ]

قال تعالى: (إن الانسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا) المعارج: 21، وقال: (إن النفس لامارة بالسوء) يوسف: 53، وقال: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) هود: 119، إلى غير ذلك من الايات. وغاية ما يمكن الانسان في بسط الالفة وإرضاء القلوب المشحونة بالعداوة والبغضاء ان يقنعهم أو يسكتهم ببذل ما يحبون من مال أو جاه أو سائر النعم الدنيوية المحبوبة عندهم غير انه إنما ينفع في موارد جزئية خاصة، وأما العداوة والبغضاء العامتان فلا سبيل إلى إزالتهما عن القلوب ببذل النعمة فإنه لا يبطل غريزة الاستزادة والشح الملتهب في كل نفس بما يشاهد من المزايا الحيوية عند غيره. على ان من النعم ما لا يقبل إلا الاختصاص والانفراد كالملك والرئاسة العالية وأمور أخرى تجرى مجراهما حتى ان الامم الراقية ذوى المدنية والحضارة لم يتمكنوا من معالجة هذا الداء إلا بما يزول به بعض شدته، ويستريح جثمان المجتمع من بعض عذابه، وأما البغضاءات المتعلقة بالامور التى تختص به بعض مجتمعهم كالرئاسة والملك فهى على حالها تتقد بشررها القلوب ولا يزال يأكل بعضها بعضا. على ان ذلك ينحصر فيما بينهم وأما المجتمعات الخارجة من مجتمعهم فلا يعبا بحالهم ولا يعتنى من منافعهم الحيوية إلا بما يوافق منافع اولئك وإن اعيتهم طوارق البلاء وعفاهم الدهر بالعناء. وقد من الله على الامة الاسلامية إذ أزال الشح عن نفوسهم وألف بين قلوبهم بمعرفة إلهية علمه إياهم وبثه فيما بينهم ببيان ان الحياة الانسانية حياة خالدة غير محصورة في هذه الايام القلائل التى ستفنى ويبقى الانسان ولاخبر عنها، وان سعادة هذه الحياة الدائمة غير التمتع بلذائذ المادة والرعى في كلا الخسة بل هي حياة واقعية وعيشة حقيقية يحيى ويعيش بها الانسان في كرامة عبودية الله سبحانه، ويتنعم بنعم القرب والزلفى ثم يتمتع بما تيسر له من متاع الحياة الدنيا مما ساقه إليه الحظ أو الاكتساب عارفا بحقوق النعمة ثم ينتقل إلى جوار الله ويدخل دار رضوانه ويخالط هناك الصالحين من عباده، ويحيى حق الحياة قال تعالى: (وما الحياة الدنيا في الاخرة إلا متاع) الرعد: 26، وقال تعالى: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الاخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون) العنكبوت: 64 وقال: (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا

[ 121 ]

ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى) النجم: 30. فعلى المسلم ان يؤمن بربه ويتربى بتربيته، ويعزم عزمه ويجمع بغيته على ما عند ربه فانما هو عبد مدبر لا يملك ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ومن كان هذا وصفه لم يكن له شغل إلا بربه الذى بيده الخير والشر والنفع والضر والغنى والفقر والموت والحياة، وكان عليه ان يسير مسير الحياة بالعلم النافع والعمل الصالح فما سعد به من مزايا الحياة الدنيا فموهبة من عند ربه، وما حرم منه احتسب عند ربه أجره، وما عند الله خير وأبقى. وليس هذا من الغاء الاسباب في شئ ولا إبطالا للفطرة الانسانية الداعية إلى العمل والاكتساب، النادبة الى التوسل بالفكر والارادة، المحرضة إلى الاجتهاد في تنظيم العوامل والعلل، الموصلة إلى المقاصد الانسانية والاغراض الصحيحة الحيوية فقد فصلنا القول في توضيح ذلك في موارد متفرقة من هذا الكتاب. وإذا تسنن المسلمون بهذه السنة الالهية، وحولوا هوى قلوبهم عن ذلك التمتع المادى الذى ليس إلا بغية حيوانية وغرضا ماديا إلى هذا التمتع المعنوي الذى لا تزاحم فيه ولا حرمان عنده، ارتفعت عن قلوبهم العداوة والبغضاء، وخلصت نفوسهم من الشح والرين، وأصبحوا بنعمة الله اخوانا، وأفلحوا حق الفلاح، قال: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم اعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) آل عمران: 103 وقال: (ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون) الحشر: 9. قوله تعالى: (يا ايها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) تطييب لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال تعالى قبله: (فان حسبك الله هو الذى أيدك بنصره وبالمؤمنين) فالمراد - والله اعلم - يكفيك الله بنصره وبمن اتبعك من المؤمنين، وليس المراد ان هناك سببين كافيين أو سببا كافيا ذا جزئين يتألف منهما سبب واحد كاف فالتوحيد القرآني يأبى ذلك. وربما قيل: ان المعنى حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين بعطف قوله: (من اتبعك) على موضع الكاف من (حسبك).

[ 122 ]

والكلام على أي حال مسوق للتحريض على القتال على ما يفيده السياق والقرائن الخارجة فان تأثير المؤمنين في كفايتهم له صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو في القتال على ما يسبق إلى الذهن. وذكر بعضهم: ان الاية نزلت بالبيداء قبل غزوة بدر، وعلى هذا لا اتصال لها بما بعدها، وأما اتصالها بما قبلها فغير مقطوع به. قوله تعالى: (يا ايها النبي حرض المؤمنين على القتال) إلى آخر الاية. التحريض والتحضيض والترغيب والحض والحث بمعنى والفقه ابلغ وأغزر من الفهم، وقوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) أي من الذين كفروا كما قيد به الالف بعدا، وكذلك قوله: (وإن يكن منكم مائة) أي مائة صابرة كما قيد بها (عشرون) قبلا. وقوله: (بأنهم قوم لا يفقهون) الباء للسببية أو الالة، والجملة تعليلية متعلقة بقوله: (يغلبوا) أي عشرون صابرون منكم يغلبون مائتين من الذين كفروا، ومائة صابرة منكم يغلبون الفا من الذين كفروا كل ذلك بسبب ان الكفار قوم لا يفقهون. وفقدان الفقه في الكفار وبالمقابلة ثبوته في المؤمنين هو الذى اوجب ان يعدل الواحد من العشرين من المؤمنين اكثر من العشرة من المائتين من الذين كفروا حتى يغلب العشرون من هؤلاء المائتين من اولئك على ما بنى عليه الحكم في الاية فان المؤمنين انما يقدمون فيما يقدمون عن ايمان بالله وهو القوة التى لا يعادله ولا يقاومه أي قوة اخرى لابتنائه على الفقه الصحيح الذى يوصفهم بكل سجية نفسانية فاضلة كالشجاعة والشهامة والجرأة والاستقامة والوقار والطمأنينة والثقة بالله واليقين بأنه على احدى الحسنيين ان قتل ففى الجنة وإن قتل ففى الجنة، وأن الموت بالمعنى الذى يراه الكفار وهو الفناء لا مصداق له. وأما الكفار فإنما اتكاؤهم على هوى النفس، واعتمادهم على ظاهر ما يسوله لهم الشيطان، والنفوس المعتمدة على اهوائها لا تتفق للغاية وإن اتفقت احيانا فإنما تدوم عليه ما لم يلح لائح الموت الذى تراه فناء، وما اندر ما تثبت النفس على هواها حتى حال ما تهدد بالموت وهى على استقامة من الفكر بل تميل بأدنى ريح مخالف، وخاصة في المخاوف العامة والمهاول الشاملة كماأثبته التاريخ من انهزام المشركين يوم بدر وهم

[ 123 ]

ألف بقتل سبعين منهم، ونسبة السبعين إلى الالف قريبة من نسبة الواحد إلى اربعة عشر فكان انهزامهم في معنى انهزام الاربعة عشر مقاتلا من مقاتل واحد، وليس ذلك إلا لفقه المؤمنين الذى يستصحب العلم والايمان، وجهل الكفار الذى يلازمه الكفر والهوى. قوله تعالى: (الان خفف الله عنكم وعلم ان فيكم ضعفا فإن يكن) الخ أي إن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين من الذين كفروا وإن يكن منكم ألف صابر يغلبوا الفين من الذين كفروا على وزان ما مر في الاية السابقة. وقوله: (وعلم ان فيكم ضعفا) المراد به الضعف في الصفات الروحية ولا محالة ينتهى إلى الايمان فإن الايقان بالحق هو الذى ينبعث عنه جميع السجايا الحسنة الموجبة للفتح والظفر كالشجاعة والصبر والرأى المصيب وأما الضعف من حيث العدة والقوة فمن الضرورى ان المؤمنين لم يزالوا يزيدون عدة وقوة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقوله: (بإذن الله) تقييد لقوله: (يغلبوا) أي إن الله لا يشاء خلافه والحال انكم مؤمنون صابرون، وبذلك يظهر ان قوله: (والله مع الصابرين) يفيد فائدة التعليل بالنسبة إلى الاذن. وقوله تعالى في الاية السابقة تعليلا للحكم: (بأنهم قوم لا يفقهون) وكذا في هذه الاية: (وعلم ان فيكم ضعفا) (والله مع الصابرين) وعدم الفقه والضعف الروحي والصبر من العلل والاسباب الخارجية المؤثرة في الغلبة والظفر والفوز بلا شك يدل على ان الحكم في الايتين مبنى على ما اعتبر من الاوصاف الروحية في الفئتين: المؤمنين والكفار، وأن القوى الداخلة الروحية التى اعتبرت في الاية الاولى ما في المؤمن الواحد منها غالبة على القوى الداخلة الروحية في عشر من الكفار عادت بعد زمان يسير يشير إليه بقوله: (الان خفف الله عنكم) لا يربو ما في المؤمن الواحد منها - من متوسطي المؤمنين - إلا على اثنين من الكفار فقد فقدت القوة من أثرها بنسبة الثمانين في المائة وتبدلت العشرون والمائتان في الاية الاولى إلى المائة والمائتين في الاية الثانية، والمائة والالف في الاولى إلى الالف والالفين في الثانية. والبحث الدقيق في العوامل المولدة للسجايا النفسانية بحسب الاحوال الطارئة على الانسان في المجتمعات يهدى إلى ذلك فإن المجتمعات المنزلية والاحزاب المنعقدة

[ 124 ]

في سبيل غرض من الاغراض الحيوية دنيوية أو دينية في اول تكونها ونشأتها تحس بالموانع المضادة والمحن الهادمة لبنيانها من كل جانب فتتنبه قواها الدافعة للجهاد في سبيل هدفها المشروع عندها، ويستيقظ ما نامت من نفسانياتها للتحذر من المكاره والتفدية في طريق مطلوبها بالمال والنفس. ولا تزال تجاهد وتفدى ليلها ونهارها، وتتقوى وتتقدم حتى تمهد لنفسها حياة فيها بعض الاستقلال، ويصفو لها الجو بعض الصفاء ويكثر جمعها ويضرب بجرانها الارض اخذت بالاستفادة من فوائد جهدها والتنعم بنعمة الراحة، والتوسع في متسع الامن، وشرعت القوى الروحية الباسطة الباعثة للعمل في الخمود. على ان المجتمع وان قلت افراده لا يخلو من اختلاف في الايمان، والسجايا الروحية الجميلة من قوى فيها وضعيف، وكلما كثرت الافراد ازداد ضعفاء الايمان والذين في قلوبهم مرض والمنافقون فتنزلت القوى الروحية في الفرد المتوسط وارتفعت كفه الميزان عما كانت عليه من الثقل. والجماعات الدينية والاحزاب الدنيوية في ذلك على السواء والسنة الطبيعية الجارية في النظام الانساني تجرى على الجميع على نسق واحد، وقد اثبتت التجربة القطعية ان المجتمعات المؤتلفة لغرض هام كلما قلت افرادها وقويت رقباؤها ومزاحموها، وأحاطت بها المحن والفتن كانت اكثر نشاطا للعمل وأحد في الاثر وكلما كثرت افرادها وقلت مزاحماتها والموانع الحائلة بينها وبين مقاصدها ومطالبها كانت اكثر خمودا وأقل تيقظا وأسفه حلما. والتدبر الكافي في مغازى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينور ذلك فهذه غزوة بدر غلب فيها المسلمون وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا على ما بهم من رثاثة الحال وقلة العدة وفقد السلاح والقوة كفار قريش وهم يعدلون ثلاثة امثال المسلمين أو يزيدون على ما لهم من العزة والشوكة والقوة ثم ما جرى على المسلمين في غزوة أحد ثم في غزوة الخندق ثم في غزوة خيبر ثم في غزوة حنين وهى أعجبها وقد ذكرها الله سبحانه بما لا يبقى لباحث ريبا في ذلك إذ قال: (ويوم حنين إذ اعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين) إلى آخر الايات. فالاية تدل اولاعلى ان الاسلام كان كلما زاد في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عزة وشوكة

[ 125 ]

ظاهرا زادت نقصا وخمودا في قوى المسلمين الروحية العامة ودرجة إيمانهم وسجاياهم الجميلة النفسانية المعنوية باطنا حتى استقرت بعد غزوه بدر - بقليل أو كثير - على خمس ما كانت عليه قبلها كما يشير إليه بعض الاشارة قوله تعالى في الايات التالية: (ما كان لنبى ان يكون له أسرى حتى يثخن في الارض تريدون عرض الدنيا والله يريد الاخرة والله عزيز حكيم لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) الايات. وثانيا: ان الظاهر ان الايتين نزلتا دفعة واحدة فإنهما وان كانتا تخبران عن حال المؤمنين في زمانين مختلفين كما يشير إليه قوله في الاية الثانية: (الان خفف الله عنكم) لكن الايتين تقيسان كما مر طبع قوى المؤمنين الروحية في زمانين مختلفين، وسياق الثانية بالنظر إلى هذا القياس بحيث لا يستقل عن الاولى، ووجود حكمين مختلفين في زمانين لا يوجب ان ينزل الاية المتضمنة لاحدهما في زمان غير زمان نزول الاخرى المتضمنة للاخر. نعم لو كانت الايتان مقصورتين في بيان الحكم التكليفى فحسب كان الظاهر نزول الثانية بعد زمان نزلت فيه الاولى. وثالثا: ان ظاهر قوله تعالى: (الان خفف الله عنكم) كما قيل كون الايتين مسوقتين لبيان الحكم التكليفى لان التخفيف لا يكون الا بعد التكليف فاللفظ لفظ الخبر والمراد به الامر ومحصل المراد في الاية الاولى: ليثبت الواحد منكم للعشرة من الكفار وفي الاية الثانية: الان خفف الله في امره فليثبت الواحد منكم للاثنين من الكفار. واختصاص التخفيف بباب التكاليف - كما قيل - وان امكنت المناقشة فيه لكن ظهور الايتين في وجود حكمين مختلفين مترتبين بحسب الزمان احدهما اخف من الاخر لا ينبغى الارتياب فيه. ورابعا: ان ظاهر التعليل في الاية الاولى بالفقه، وفي الاية الثانية بالصبر مع تقييد المقاتل من المؤمنين في الايتين جميعا بالصبر يدل على ان الصبر يرجح الواحد في قوة الروح على مثليه، والفقه يرجحه فيها على خمسة أمثاله فإذا اجتمعا في واحد يرجح على عشرة امثال نفسه، والصبر لا يفارق الفقه وان جاز العكس. وخامسا: ان الصبر واجب في القتال على أي حال.

[ 126 ]

(بحث روائي) في تفسير البيضاوى في قوله تعالى: (الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة) هم يهود بنى قريظة عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان لا يمالؤوا عليه فأعانوا المشركين بالسلاح وقالوا: نسينا، ثم عاهدهم فنكثوا ومالؤوهم عليه يوم الخندق، وركب كعب بن الاشرف إلى مكة فحالفهم. أقول: وروى ذلك عن ابن عباس ومجاهد، وروى عن سعيد بن جبير ان الاية نزلت في ستة رهط من اليهود منهم ابن تابوت. وايضاح ما تشير إليه الاية من نقض اليهود ميثاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرة بعد مرة وما قاساه من المحن من ناحيتهم يحتاج إلى سير اجمالي فيما جرى بينه صلى الله عليه وآله وسلم وبينهم من الامر بعد هجرته صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة إلى سبع سنين من الهجرة. وقد كانت طوائف من اليهود هاجرت من بلادها إلى الحجاز وتوطنوا بها وبنوا فيها الحصون والقلاع، وزادت نفوسهم وكثرت اموالهم وعظم امرهم وقد مرت في ذيل قوله تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) البقره: 89 في الجزء الاول من الكتاب روايات في بدء مهاجرتهم إلى الحجاز وكيفية نزولهم حول المدينة وبشارتهم الناس بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ودعاهم الى الاسلام استنكفوا عن الايمان به فصالح يهود المدينة وعاهدهم بكتاب كتب بينه وبينهم وهم ثلاثة رهط حول المدينة: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة أما بنو قينقاع فنكثوا العهد في غزوة بدر فسار إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منتصف شوال في السنة الثانية من الهجرة بعد بضعة وعشرين يوما من وقعة بدر فتحصنوا في حصونهم فحاصرهم أشد الحصار، وبقوا على ذلك خمسة عشر يوما. ثم نزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نفوسهم وأموالهم ونسائهم وذراريهم فأمر بهم فكتفوا، وكلم عبد الله بن ابى بن سلول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم وألح عليه وكانوا حلفاءه فوهبهم له، وأمرهم ان يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها فخرجوا إلى أذرعات الشام ومعهم نسائهم وذراريهم، وقبض منهم أموالهم غنيمة الحرب، وكانوا ستمأة مقاتل من أشجع اليهود.

[ 127 ]

وأما بنو النضير فانهم كادوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ خرج إليهم في نفر من أصحابه بعد أشهر من غزوة بدر، وكلمهم ان يعينوه في دية نفر أو رجلين من الكلابيين قتلهم عمرو بن أمية الضمرى فقالوا: نفعل يا أبا القاسم اجلس هنا حتى نقضى حاجتك، وخلا بعضهم ببعض فتأمروا بقتله واختاروا من بينهم عمرو بن جحاش ان يأخذ حجر رحى فيصعد فيلقه على رأسه ويشدخه به وحذرهم سلام بن مشكم وقال لهم: لا تفعلوا ذلك فو الله ليخبرن بما هممتم به، وإنه لنقض العهد الذى بيننا وبينه. فجاءه الوحى وأخبره ربه بما هموا به فقام صلى الله عليه وآله وسلم من مجلسه مسرعا وتوجه إلى المدينة ولحقه أصحابه واستفسروه عن قيامه وتوجهه فأخبرهم بما همت به بنو النضير، وبعث إليهم من المدينة ان اخرجوا من المدينة ولا تساكنونى بها، وقد أجلتكم فمن وجدته بعد ذلك بها، منكم ضربت عنقه فأقاموا اياما يتجهزون للخروج. وأرسل إليهم المنافق عبد الله بن أبى ان لا تخرجوا من دياركم فان معى ألفين يدخلون معكم حصنكم ويموتون دونكم، وينصركم بنو قريظة وحلفاؤكم من غطفان، وأرضاهم بذلك. فبعث رئيسهم حيى بن أخطب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكبر أصحابه، وأمر عليا عليه السلام بحمل الراية والسير إليهم فساروا وأحاطوا بديارهم، وغدر بهم عبد الله بن أبى، ولم ينصرهم بنو قريظة ولا حلفاؤهم من غطفان. وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها فجزعوا من ذلك وقالوا: يا محمد لا تقطع فان كان لك فخذه، وان كان لنا فاتركه لنا. ثم قالوا له بعد ايام: يا محمد نخرج من بلادك فأعطنا أموالنا قال: لا ولكن تخرجون ولكم ما حملت الابل فلم يقبلوا ذلك وبقوا أياما على ذلك ثم رضوا وسألوه ذلك قال: لا ولكن تخرجون ولا يحمل أحد منكم شيئا، ومن وجدنا معه شيئا من ذلك قتلناه فخرجوا فوقع قوم منهم إلى فدك ووادى القرى، وقوم إلى أرض الشام، وكان مالهم فيئا لله ورسوله من غير ان ينال شيئا من ذلك جيش الاسلام، وقصتهم مذكورة في سورة الحشر، ومن كيد بنى النضير للنبى صلى الله عليه وآله وسلم تخريب الاحزاب من قريش وغطفان وغيرهم عليه صلى الله عليه وآله وسلم. وأما بنو قريظة فقد كانوا على الصلح والسلم حتى وقعت غزوة الخندق وقد كان

[ 128 ]

حيى بن أخطب رئيس بنى النضير ركب إلى مكة وحث قريشا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحزب الاحزاب، وفي ذلك ركب إلى بنى قريظة وجاءهم في ديارهم فلم يزل يوسوس إليهم ويعزهم ويلح عليهم ويكلم رئيسهم كعب بن أسد في ذلك ونقض العهد ومناجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى أرضاهم بذلك واشترطوا عليه ان يدخل في حصنهم فيصيبه ما أصابهم فقبل ودخل. فنقضوا العهد ومالوا إلى الاحزاب الذين حاصروا المدينة وأظهروا سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحدثوا ثلمة اخرى. فلما فرغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أمر الاحزاب أتاه جبرئيل بوحى من الله يأمره بالمسير إليهم فسار إليهم ويحمل رايته على عليه السلام ونازل حصون بنى قريظة، وحصرهم خمسة وعشرين يوما. فلما اشتد عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن اسد ان يختاروا احد ثلاث خصال: إما أن يسلموا ويدخلوا في دين محمد، وإما ان يقتلوا زراريهم ويخرجوا إليه بسيوفهم مصلتة يناجزونه حتى يظفروا به أو يقتلوا عن آخرهم، وإما ان يهجموا عليه ويكسبوه يوم السبت لانهم - يعنى المسلمين - قد أمنوا ان يقاتلوهم فيه ! فأبوا عليه ان يجيبوه إلى واحدة منهن فبعثوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ارسل الينا ابا لبابة بن عبد المنذر نستشيره في الامر، وكان أبو لبابة مناصحا لهم لان عياله وذريته وماله كانت عندهم. فأرسله إليهم فلما رأوه قاموا إليه يبكون، وقالوا له: كيف ترى ان ننزل على حكم محمد ؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه: انه الذبح، قال أبو لبابة: فو الله ما زلت قدماى حتى علمت انى خنت الله ورسوله، وأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في امر ابى لبابة. فندم أبو لبابة ومضى على وجهه حتى اتى المسجد وربط نفسه على سارية من سوارى المسجد تائبا لله، وحلف ألا يحله إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو يموت، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: دعوه حتى يتوب الله عليه، ثم ان الله تاب عليه وأنزل توبته وحله النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ثم ان بنى قريظة نزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا موالى أوس فكلمته أوس في امرهم مستشفعين وآل الامر إلى تحكيم سعد بن معاذ الاوسي في امرهم ورضوا

[ 129 ]

ورضى به النبي (ص) فاحضر سعد وكان جريحا. ولما كلم سعد رحمه الله في امرهم قال: لقد آن لسعد ان لا يأخذه في الله لومة لائم ثم حكم فيهم بقتل الرجال وسبى النساء والذراري وأخذ الاموال فاجرى عليهم ما حكم به سعد فضربت اعناقهم عن آخرهم، وكانوا ستمائة مقاتل أو سبعمائة، وقيل اكثر، ولم ينج منهم إلا نفر يسير آمنوا قبل تقتيلهم، وهرب عمرو بن سعدى منهم ولم يكن داخلا معهم في نقض العهد، وسبيت النساء إلا امرأة واحدة ضربت عنقها وهى التى طرحت على رأس خلاد بن السويد بن الصامت رحى فقتلته. ثم أجلى النبي (ص) من كان بالمدينة من اليهود ثم سار (ص) إلى يهود خيبر لما كان من كيدهم وسعيهم في حث الاحزاب عليه وتأليفهم من جميع القبائل العربية لحربه فنازل حصونهم وحصرهم اياما، وأرسل النبي (ص) إلى قتالهم ابا بكر في جمع يوما فانهزم، ثم عمر بن الخطاب في جمع يوما فانهزم. وعند ذلك قال النبي (ص): (لاعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرارلا يرجع حتى يفتح الله على يديه) ولما كان من غد اعطى الراية عليا عليه السلام وأرسله إلى قتال القوم فتقدم إليهم وقتل مرحبا الفارس المعروف منهم، وهزمهم وقلع بيده باب حصنهم وفتح الله على يده الحصن، وكان ذلك بعد صلح الحديبية في المحرم سنة سبع من الهجرة. ثم اجلى النبي (ص) من بقى من اليهود وقد نصح لهم قبل ذلك ان يبيعوا اموالهم ويأخذوا اثمانها. انتهى ما اردنا تلخيصه من قصة اليهود مع النبي (ص). وفي تفسير العياشي عن جابر في قوله تعالى: (ان شر الدواب عند الله) الاية نزلت في بنى امية هم شر خلق الله هم (الذين كفروا) في باطن القرآن، وهم (الذين لا يؤمنون). أقول: وروى مثله القمى عن ابى حمزة عنه عليه السلام، وهو من باطن القرآن كما صرح به في الرواية ليس بالظاهر. وفي الكافي بإسناده عن سهل بن زياد عن بعض اصحابه عن عبد الله بن سنان

[ 130 ]

عن ابى عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله (ص): ثلاث من كن فيه كان منافقا وإن صام وصلى وزعم انه مسلم: من اذاائتمن خان، وإن حدث كذب، وإذا وعد أخلف ان الله عز وجل قال في كتابه: (ان الله لا يحب الخائنين) وقال: (ان لعنة الله على الكاذبين) وفي قوله عز وجل: (واذكر في الكتاب اسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا). وفي تفسير القمى في قوله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) الاية قال: قال: السلاح. وفي التفسير العياشي عن محمد بن عيسى عمن ذكره عن ابى عبد الله عليه السلام في الاية قال: سيف وترس. وفي الفقيه عن الصادق عليه السلام مرسلا في الاية قال: منه الخضاب بالسواد. وفي الكافي بإسناده عن جابر عن ابى جعفر عليه السلام: دخل قوم على الحسين بن على عليه السلام فرأوه مختضبا بالسواد فسألوه عن ذلك فمد يده إلى لحيته ثم قال: امر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزاة غزاها ان يختضبوا بالسواد ليقووا به على المشركين. وفي تفسير العياشي عن جابر الانصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) قال: الرمى. اقول: ورواه في الكافي بإسناده عن عبد الله بن المغيرة رفعه عنه صلى الله عليه وآله وسلم، والزمخشري في ربيع الابرارعن عقبة بن عامر عنه، والسيوطي في الدر المنثورعن احمد ومسلم وأبى داود وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وأبى الشيخ وأبى يعقوب إسحاق بن ابراهيم والبيهقي عن عقبة بن عامر الجهنى عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الدر المنثور اخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي عن عقبة بن عامر الجهنى رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه الذى يحتسب في صنعتة الخير والذى يجهز به في سبيل الله والذى يرمى به في سبيل الله. وقال: ارموا واركبوا، وأن ترموا خير من ان تركبوا، وقال: كل شئ يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا ثلاثة: رميه عن قوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته

[ 131 ]

اهله فإنهن من الحق ومن علم الرمى ثم تركه فهى نعمة كفرها. أقول: وفي هذه المعاني روايات أخر، وخاصة في الخيل والرمى والروايات على أي حال من باب عد المصاديق. وفي الدر المنثور اخرج سعد والحارث بن ابى اسامة وأبو يعلى وابن المنذر وابن ابى حاتم وابن قانع في معجمه والطبراني وأبو الشيخ وابن منده والرويانى في مسنده وابن مردويه وابن عساكر عن يزيد بن عبد الله بن غريب عن ابيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: في قوله: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) قال: هم الجن، ولا تخبل الشيطان انسانا في داره فرس عتيق. أقول وفي معناها روايات أخر، ومحصل الروايات ربط قوله: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) بقوله: (ومن رباط الخيل) وهى من قبيل الجرى وليس من التفسير في شئ، والمراد من الاية بظاهرها العدو من الانسان كالكفار والمنافقين. وفيه اخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن أبزى ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ: وإن جنحوا للسلم. وفيه اخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن ابى حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) قال: نسختها هذه الاية: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر - إلى قوله - صاغرون). أقول: وروى نسخها بآية البراءة: (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) والاية لا تخلو عن إيماء إلى كون الحكم مؤجلا حيث قال: (وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله انه هو السميع العليم). وفي الكافي بإاسناده عن الحلبي عن ابى عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) قلت: ما السلم ؟ قال: الدخول في امرنا، وفي رواية اخرى: الدخول في امرك. أقول: وهو من الجرى. وفي الدر المنثور اخرج ابن عساكر عن ابى هريرة قال: مكتوب على العرش:

[ 132 ]

لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لى محمد عبدى ورسولي أيدته بعلى، وذلك قوله: (هو الذى أيدك بنصره وبالمؤمنين). أقول: ورواه الصدوق في المعاني بإسناده عن ابى هريرة، وأبو نعيم في حلية الاولياء بإسناده عنه، وكذا ابن شهر آشوب مسندا عن انس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي تفسير البرهان عن شرف الدين النجفي قال: تأويله ذكره أبو نعيم في حلية الاولياء بطريقه عن ابى هريرة قال: نزلت هذه الاية في على بن ابى طالب، وهو المعنى بقوله: المؤمنين. أقول: ولفظ الاية لا يساعد على ذلك اللهم إلا ان يكون المراد بالاتباع تمام الاتباع الذى لا يشذ عنه شأن من الشؤون، ومن للتبعيض دون البيان ان ساعد عليه السياق. وفي الدر المنثور اخرج البزار عن ابن عباس قال: لما اسلم عمر قال المشركون: قد انتصف القوم منا اليوم، وأنزل الله: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين). أقول: وروى هذا المعنى في روايات أخر، والاعتبار لا يساعد عليه فإن الزمان الذى أسلم فيه لم يكن على نعت يصحح الخطاب بمثل قوله: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) واليوم يوم الفتنة والعسرة، وقد دام الحال على ذلك بعده سنين متمادية، وما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ يحتاج إلى شئ يعينه العدة، وفي هذه الروايات انه كان تمام الاربعين أو رابع أربعين. على ان الظاهر ان الاية مدنية من جملة آيات سورة الانفال. وفيه أخرج ابن اسحاق وابن ابى حاتم عن الزهري في قوله: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) قال: نزلت في الانصار. أقول: وسياق الاية في عدم المساعدة عليه كالروايتين السابقتين اللهم إلا ان يكون المراد نزولها يوم آمن به الانصار أو يوم تابعوه، والظاهر ان الاية نزلت في تطييب نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجميع من كان معه من المؤمنين: مهاجريهم وأنصارهم، وهى توطئة وتمهيد لما في الاية التالية من الامر بتحريض المؤمنين على القتال. وفي تفسير القمى قال: قال، كان الحكم في اول النبوة في أصحاب رسول الله

[ 133 ]

صلى الله عليه وآله وسلم ان الرجل الواحد وجب عليه ان يقاتل عشرة من الكفارفان هرب منهم فهو الفار من الزحف، والمائة يقاتلون ألفا. ثم علم الله ان فيهم ضعفا لا يقدرون على ذلك فأنزل الله: (الان خفف الله عنكم وعلم ان فيكم ضعفا فان يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) ففرض عليهم ان يقاتل اقل رجل من المؤمنين رجلين من الكفارفان فر منهما فهو الفار من الزحف فإن كانوا ثلاثة من الكفار وواحدا من المسلمين ففر المسلم منهم فليس هو الفار من الزحف. أقول: وفي تفسير العياشي عن الحسين بن صالح عن الصادق عن على عليهما السلام ما يقرب منه، وروى ما في معناها في الدر المنثور بطرق عديدة عن ابن عباس وغيره. وفي الدر المنثور أخرج الشيرازي في الالقاب وابن عدى والحاكم وصححه عن ابن عمران رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ: (الان خفف الله عنكم وعلم ان فيكم ضعفا) رفع. ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض تريدون عرض الدنيا والله يريد الاخرة والله عزيز حكيم - 67. لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم - 68. فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم - 69. يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم - 70. وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم - 71.

[ 134 ]

(بيان) عتاب من الله سبحانه لاهل بدر حين اخذوا الاسرى من المشركين ثم اقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان لا يقتلهم ويأخذ منهم الفداء ليصلح به حالهم ويتقووا بذلك على أعداء الدين، وقد شدد سبحانه في العتاب إلا انه اجابهم إلى مقترحهم وأباح لهم التصرف من الغنائم. وهى تشتمل الفداء. وفي آخر الايات ما هو بمنزلة التطميع والوعد الجميل للاسرى ان أسلموا والاستغناء عنهم ان أرادوا خيانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: (وما كان لنبى ان يكون له اسرى حتى يثخن في الارض) إلى آخر الايات الثلاث، الاسر: الشد على المحارب بما يصير به في قبضة الاخذ له كما قيل والاسير هو المشدود عليه، وجمعه الاسرى والاسراء والاسارى والاسارى، وقيل الاسارى جمع جمع وعلى هذا فالسبي أعم موردا من الاسر لصدقه على اخذ من لا يحتاج إلى شد كالذرارى. والثخن بالكسر فالفتح الغلظ، ومنه قولهم: أثخنته الجراح وأثخنه المرض قال الراغب في المفردات: يقال: ثخن الشئ فهو ثخين إذا غلظ فلم يسل ولم يستمر في ذهابه، ومنه استعير قولهم: أثخنته ضربا واستخفافا قال الله تعالى: (ما كان لنبى ان يكون له أسرى حتى يثخن في الارض) (حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق) فالمراد بإثخان النبي في الارض استقرار دينه بين الناس كأنه شئ غليظ انجمد فثبت، بعد ما كان رقيقا سائلا مخشى الزوال بالسيلان. والعرض ما يطرأ على الشئ ويسرع فيه الزوال، ولذلك سمى به متاع الدنيا لدثوره وزواله عما قليل، والحلال وصف من الحل مقابل العقد والحرمة كأن الشئ الحلال كان معقودا عليه محروما منه فحل بعد ذلك، وقد مر معنى الطيب وهو الملائمة للطبع. وقد اختلف المفسرون في تفسير الايات بعد اتفاقهم على انها إنما نزلت بعد وقعة بدر تعاتب أهل بدر وتبيح لهم الغنائم. والسبب في اختلاف ما ورد في سبب نزولها ومعانى جملها من الاخبار المختلفة،

[ 135 ]

ولو صحت الروايات لكان التأمل فيها قاضيا بتوسع عجيب في نقل الحديث بالمعنى حتى ربما اختلفت الروايات كالاخبار المتعارضة. فاختلفت التفاسير بحسب اختلافها فمن ظاهر في ان العتاب والتهديد متوجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين جميعا، أو إلى النبي والمؤمنين ما عدا عمر، أو ما عدا عمر وسعد بن معاذ، أو إلى المؤمنين دون النبي أو إلى شخص أو اشخاص اشاروا إليه بالفداء بعد ما استشارهم. ومن قال: ان العتاب انما هو على اخذهم الفداء، أو على استحلالهم الغنيمة قبل الاباحة من جانب الله، والنبى صلى الله عليه وآله وسلم يشاركهم في ذلك لما انه بدأ باستشارتهم مع ان القوم انما اخذوا الفداء بعد نزول الايات لا قبله حتى يعاتبوا عليه، والنبى صلى الله عليه وآله وسلم أجل من ان يجوز في حقه استحلال شئ قبل ان يأذن الله له فيه ويوحى بذلك إليه، وحاشا ساحة الحق سبحانه ان يهدد نبيه بعذاب عظيم ليس من شأنه ان ينزل عليه من غير جرم أجرمه وقد عصمه من المعاصي، والعذاب العظيم ليس ينزل إلا على جرم عظيم لا كما قيل: ان المراد به الصغائر. فالذي ينبغى ان يقال: ان قوله تعالى: (ما كان لنبى ان يكون له اسرى حتى يثخن في الارض) ان السنة الجارية في الانبياء الماضين عليهما السلام انهم كانوا إذا حاربوا اعداءهم وظفروا بهم ينكلونهم بالقتل ليعتبر به من وراءهم فيكفوا عن محادة الله ورسوله، وكانوا يأخذون اسرى حتى يثخنوا في الارض، ويستقر دينهم بين الناس فلا مانع بعد ذلك من الاسر ثم المن أو الفداء كما قال تعالى فيما يوحى إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما علا امرالاسلام واستقر في الحجاز واليمن: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء) سورة محمد: 4. والعتاب على ما يهدى إليه سياق الكلام في الاية الاولى إنما هو على اخذهم الاسرى كما يشهد به ايضا قوله في الاية الثانية: (لمسكم فيما اخذتم عذاب عظيم) أي في اخذكم وإنما كانوا اخذوا عند نزول الايات الاسرى دون الفداء وليس العتاب على استباحة الفداء أو اخذه كما احتمل. بل يشهد قوله في الاية التالية: (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله ان الله

[ 136 ]

غفور رحيم) - حيث افتتحت بفاء التفريع التى تفرع معناها على ما تقدمها -: على ان المراد بالغنيمة ما يعم الفداء، وأنهم اقترحوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان لا يقتل الاسرى ويأخذ منهم الفداء كما سألوه عن الانفال أو سألوه ان يعطيهموها كما في آية صدر السورة وكيف يتصور ان يسألوه الانفال، ولا يسألوه ان يأخذ الفداء وقد كان الفداء المأخوذ - على ما في الروايات - يقرب من مائتين وثمانين الف درهم ؟ فقد كانوا سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يعطيهم الغنائم، ويأخذ لهم منهم الفداء فعاتبهم الله من رأس على اخذهم الاسرى ثم أباح لهم ما اخذوا الاسرى لاجله وهو الفداء لا لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاركهم في استباحة الفداء واستشارهم في الفداء والقتل حتى يشاركهم في العتاب المتوجه إليهم. ومن الدليل من لفظ الاية على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يشاركهم في العتاب أن العتاب في الاية متعلق بأخذ الاسرى وليس فيها ما يشعر بأنه استشارهم فيه أو رضى بذلك ولم يرد في شئ من الاثار أنه صلى الله عليه وآله وسلم وصاهم بإخذ الاسرى ولا قال قولا يشعر بالرضا بذلك بل كان ذلك مما إقدمت عليه عامة المهاجرين والانصار على قاعدتهم في الحروب إذا ظفروا بعدوهم أخذوا الاسرى للاسترقاق أو الفداء فقد ورد في الاثار أنهم بالغوا في الاسر وكان الرجل يقى أسيره ان يناله الناس بسوء إلا على عليه السلام فقد أكثر من قتل الرجال ولم يأخذ أسيرا. فمعنى الايات: (ما كان لنبى) ولم يعهد في سنة الله في أنبيائه (أن يكون له أسرى) ويحق له ان يأخذهم ويستدر على ذلك شيئا (حتى يثخن) ويغلظ (في الارض) ويستقر دينه بين الناس (تريدون) انتم معاشر اهل بدر - وخطاب الجميع بهذا العموم المشتمل على عتاب الجميع لكون أكثرهم متلبسين باقتراح الفداء على النبي صلى الله عليه وآآله وسلم - (عرض الدنيا) ومتاعها السريع الزوال (والله يريد الاخرة) بتشريع الدين والامر بقتال الكفار، ثم في هذه السنة التى أخبر بها في كلامه، (والله عزيز) لا يغلب (حكيم) لا يلغو في أحكامه المتقنة. (ولو لا كتاب من الله سبق) يقتضى ان لا يعذبكم ولا يهلككم، وإنما أبهم لان الابهام أنسب في مقام المعاتبة ليذهب ذهن السامع كل مذهب ممكن، ولا يتعين له فيهون عنده أمره (لمسكم فيما أخذتم) أي في أخذكم الاسرى فإن الفداء والغنيمة لم

[ 137 ]

يؤخذا قبل نزول الايات وإخبارهم بحليتها وطيبها (عذاب عظيم) وهو كما تقدم يدل على عظم المعصية لان العذاب العظيم إنما يستحق بالمعصية العظيمة (فكلوا مما غنمتم) وتصرفوا فيما أحرزتم من الفائدة سواء كان مما تسلطتم عليه من أموال المشركين أو مما أخذتم منهم من الفداء (حلالا طيبا) أي حالكونه حلالا طيبا بإباحة الله سبحانه (واتقوا الله ان الله غفور رحيم) وهو تعليل لقوله: (فكلوا مما غنمتم) الخ أي غفرنا لكم ورحمناكم فكلوا مما غنمتم أو تعليل لجميع ما تقدم أي لم يعذبكم الله بل أباحه لكم لانه غفور رحيم. قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى) إلى آخر الاية كون الاسرى بأيديهم استعارة لتسلطهم عليهم تمام التسلط كالشئ يكون في يد الانسان يقلبه كيف يشاء. وقوله: (إن يعلم الله في قلوبكم خيرا) كناية عن الايمان أو اتباع الحق الذى يلازمه الايمان فإنه تعالى يعدهم في آخر الاية بالمغفرة، ولا مغفرة مع شرك قال تعالى: (إن الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النساء: 48. ومعنى الاية: يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى الذين تسلطتم عليهم وأخذت منهم. الفداء: إن ثبت في قلوبكم الايمان وعلم الله منكم ذلك - ولا يعلم إلا ما ثبت وتحقق - يؤتكم خيرا مما أخذ منكم من الفداء ويغفر لكم والله غفور رحيم. قوله تعالى: (وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم) الخ أمكنه منه أي أقدره عليه، وإنما قال اولا: (خيانتك) ثم قال: (خانوا الله) لانهم أرادوا بالفدية ان يجمعوا الشمل ثانيا ويعودوا إلى محاربته صلى الله عليه وآله وسلم، وأما خيانتهم لله من قبل فهى كفرهم وإصرارهم على ان يطفؤوا نور الله وكيدهم ومكرهم. ومعنى الاية: إن آمنوا بالله وثبت الايمان في قلوبهم آتاهم الله خيرا مما أخذ منهم وغفر لهم، وإن أرادوا خيانتك والعود إلى ما كانوا عليه من العناد والفساد فإنهم خانوا الله من قبل فأمكنك منهم وأقدرك عليهم وهو قادر على ان يفعل بهم ذلك ثانيا، والله عليم بخيانتهم لو خانوا حكيم في إمكانك منهم.

[ 138 ]

(بحث روائي) في المجمع ": في قوله تعالى: (ما كان لنبى ان يكون له أسرى) الخ - قال كان: القتلى من المشركين يوم بدر سبعين قتل منهم على بن ابى طالب عليه السلام سبعة وعشرين (1)، وكان الاسرى ايضا سبعين، ولم يؤسر احد من اصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجمعوا الاسارى، وقرنوهم في الحبال، وساقوهم على أقدامهم، وقتل من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسعة رجال منهم سعد بن خيثمة وكان من النقباء من الاوس. قال: وعن محمد بن إسحاق قال: استشهد من المسلمين يوم بدر أحد عشر رجلا: أربعة من قريش، وسبعة من الانصار، وقيل: ثمانية، وقتل من المشركين بضعة وأربعون رجلا (2). قال: وعن ابن عباس: قال: لما أمسى الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدرو الناس محبوسون بالوثاق بات ساهرا أول الليلة فقال له أصحابه: ما لك لا تنام ؟ فقال عليه السلام: سمعت أنين عمى العباس في وثاقه، فأطلقوه فسكت فنام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: وروى عبيدة السلمانى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لاصحابه يوم بدر في الاسارى: إن شئتم قتلتموهم، وان شئتم فاديتموهم - واستشهد منكم بعدتهم، وكانت الاسارى سبعين فقالوا: بل نأخذ الفداء فنستمتع به ونتقوى به على عدونا، وليستشهد منا بعدتهم قال عبيدة طلبوا الخيرتين كلتيهما (3) فقتل منهم يوم أحد سبعون. وفي كتاب على بن ابراهيم: لما قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النضر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط خافت الانصار ان يقتل الاسارى فقالوا: يا رسول الله قتلنا سبعين وهم قومك وأسرتك أتجد أصلهم فخذ يا رسول الله منهم الفداء، وقد كانوا أخذوا ما وجدوه من الغنائم في عسكر قريش فلما طلبوا إليه وسألوه نزلت الاية: (ما كان لنبى ان يكون له أسرى) الايات فأطلق لهم ذلك.


(1). لم يأسر احدا على ما في الروايات. (2) وهؤلاء هم الذين ضبط علماء الاثار أسماءهم غير من لم يضبط اسمه. (3) لكن قوله تعالى في عتابهم (تريدون عرض الدنيا) يخطئ عبيدة في قوله. (*)

[ 139 ]

وكان أكثر الفداء أربعة آلاف درهم وأقله ألف درهم فبعثت قريش بالفداء أولا فأولا فبعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فداء زوجها أبى العاص بن الربيع، وبعثت قلائد لها كانت خديجة جهزتها بها، وكان أبو العاص ابن أخت خديجة، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلك القلائد قال: رحم الله خديجة هذه قلائد هي جهزتها بها فأطلقه رسول الله صلى الله عليه آله وسلم بشرط ان يبعث إليه زينب، ولا يمنعها من اللحوق به فعاهده على ذلك ووفى له. قال: وروى ان النبي صلى الله عليه آله وسلم كره أخذ الفداء حتى رأى سعد بن معاذ كراهية ذلك في وجهه فقال: يا رسول الله هذا أول حرب لقينا فئة المشركين، والاثخان في القتل أحب إلى من استبقاء الرجال، وقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك فقدمهم واضرب أعناقهم، ومكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، ومكنى من فلان أضرب عنقه فان هؤلاء أئمة الكفر، وقال أبو بكر: أهلك وقومك استان بهم واستبقهم وخذ منهم فدية فيكون لنا قوة على الكفار قال ابن زيد فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو نزل عذاب من السماء ما نجا منكم أحد غير عمر وسعد بن معاذ. وقال أبو جعفر الباقر عليه السلام: كان الفداء يوم بدر كل رجل من المشركين باربعين أوقية، والاوقية أربعون مثقالا إلا العباس فان فداءه كان مائة أوقية، وكان أخذ منه حين أسر عشرون أوقية ذهبا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ذلك غنيمة ففاد نفسك وابنى أخيك نوفلا وعقيلا فقال: ليس معى شئ. فقال: أين الذهب الذى سلمته إلى أم الفضل وقلت: ان حدث بى حدث فهو لك وللفضل وعبد الله وقثم. فقال: من أخبرك بهذا ؟ قال: الله تعالى فقال: أشهد أنك رسول الله والله ما اطلع على هذا أحد إلا الله تعالى. أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق الفريقين تركنا إيرادها إيثارا للاختصار. وفي قرب الاسناد للحميري عن عبد الله بن ميمون عن جعفر عن أبيه عليه السلام قال: اوتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمال دراهم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للعباس: يا عباس ابسط رداء وخذ من هذا المال طرفا فبسط رداء وأخذ منه طائفة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عباس هذا من الذى قال الله تبارك وتعالى: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى ان يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم) قال: نزلت في العباس ونوفل وعقيل.

[ 140 ]

وقال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى يوم بدران يقتل أحد من بنى هاشم وأبو البخترى فأسروا عليا فقال: انظر من ههنا من بنى هاشم ؟ قال: فمر على عقيل بن ابى طالب فحاد عنه قال فقال له: يابن أم على أما والله لقد رأيت مكاني. قال: فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: هذا أبو الفضل في يد فلان، وهذا عقيل في يد فلان، وهذا نوفل في يد فلان يعنى نوفل بن الحارث فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتهى إلى عقيل فقال: يا أبا يزيد قتل أبو جهل ! فقال: إذا لا تنازعوا في تهامة. قال: ان كنتم أثخنتم القوم وإلا فاركبوا أكتافهم. قال فجئ بالعباس فقيل له: افد نفسك وافد ابن [ ابني ظ ] اخيك فقال: يا محمد تتركني أسال قريشا في كفى ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم له: أعط مما خلفت عند ام الفضل وقلت لها إن اصابني شئ في وجهى فأنفقيه على ولدك ونفسك. قال: يا ابن اخى من اخبرك بهذا ؟ قال: أتانى به جبرئيل. فقال: ومحلوفة ما علم بهذا إلا انا وهى. أشهد انك رسول الله. قال: فرجع الاسارى كلهم مشركين إلا العباس وعقيل ونوفل ابن الحارث، وفيهم نزلت هذه الايه: (قل لمن في ايديكم من الاسرى). الايه. اقول: وروى في الدر المنثور هذه المعاني بطرق مختلفه عن الصحابة وروى نزول الاية في العباس وابنى اخيه عن ابن سعد وابن عساكر عن ابن عباس، وروى مقدار الفدية التى فدى بها عن كل رجل من الاسارى، وقصة فدية العباس عنه وعن ابني اخيه الطبرسي في مجمع البيان عن الباقر عليه السلام كما في الحديث. إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا باموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا اولئك بعضهم اولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما

[ 141 ]

تعملون بصير - 72. والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الارض وفساد كبير - 73. والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفره ورزق كريم - 74. والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فاولئك منكم وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شئ عليم - 75. (بيان) الايات تختم السورة، ويرجع معناها نوع رجوع إلى ما افتتحت به السورة وفيها إيجاب الموالاة بين المؤمنين إلا إذا اختلفوا بالمهاجرة وعدمها وقطع موالاة الكافرين. قوله تعالى: (ان الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا) إلى قوله: (اولياء بعض) المراد بالذين آمنوا وهاجروا: الطائفة الاولى من المهاجرين قبل نزول السورة بدليل ما سيذكر من المهاجرين في آخر الايات، والمراد بالذين آووا ونصروا: هم الانصار الذين آووا النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين المهاجرين ونصروا الله ورسوله، وكان ينحصر المسلمون يومئذ في هاتين الطائفتين إلا قليل ممن آمن بمكة ولم يهاجر. وقد جعل الله بينهم ولاية بقوله: (اولئك بعضهم اولياء بعض) والولاية اعم من ولاية الميراث وولاية النصرة ولاية الامن، فمن آمن منهم كافرا كان نافذا عند الجميع، فالبعض من الجميع ولى البعض من الجميع كالمهاجر هو ولى كل مهاجر وأنصاري، والانصاري ولى كل أنصارى ومهاجر، كل ذلك بدليل إطلاق الولاية في الاية. فلا شاهد على صرف الاية إلى ولاية الارث بالمواخاة التى كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعلها في بدء الهجره بين المهاجرين والانصار وكانوا يتوارثون بها زمانا حتى نسخت. قوله تعالى: (والذين آمنوا ولم يهاجروا) إلى آخر الاية، معناه واضح وقد نفيت

[ 142 ]

فيها الولاية بين المؤمنين المهاجرين والانصار وبين المؤمنين غير المهاجرين إلا ولاية النصرة إذا استنصروهم بشرط ان يكون الاستنصار على قوم ليس بينهم وبين المؤمنين ميثاق. قوله تعالى: (والذين كفروا بعضهم اولياء بعض) أي ان ولايتهم بينهم لا تتعداهم إلى المؤمنين فليس للمؤمنين ان يتولوهم، وذلك ان قوله ههنا في الكفار: (بعضهم اولياء بعض) كقوله في المؤمنين: (أولئك بعضهم اولياء بعض) إنشاء وتشريع في صورة الاخبار، وجعل الولاية بين الكفار أنفسهم لا يحتمل بحسب الاعتبار إلا ما ذكرناه من نفى تعديه عنهم إلى المؤمنين. قوله تعالى: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الارض وفساد كبير) اشارة إلى مصلحة جعل الولاية على النحو الذى جعلت، فان الولاية مما لا غنى عنها في مجتمع من المجتمعات البشرية سيما المجتمع الاسلامي الذى أسس على اتباع الحق وبسط العدل الالهى كما ان تولى الكفار وهم أعداء هذا المجتمع يوجب الاختلاط بينهم فيسرى فيه عقائدهم وأخلاقهم، وتفسد سيرة الاسلام المبنية على الحق بسيرهم المبنية على اتباع الهوى وعبادة الشيطان، وقد صدق جريان الحوادث في هذه الاونة ما أشارت إليه هذه الاية. قوله تعالى: (والذين آمنوا وهاجروا) إلى آخر الاية اثبات لحق الايمان على من اتصف باثاره اتصافا حقا، ووعد لهم بالمغفرة والرزق الكريم. قوله تعالى: (والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فاولئك منكم) خطاب للمهاجرين الاولين والانصار وإلحاق من آمن وهاجر وجاهد معهم بهم فيشاركونهم في الولاية. قوله تعالى: (وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) إلى آخر الاية. جعل للولاية بين أولى الارحام والقرابات، وهى ولاية الارث فان سائر أقسام الولاية لا ينحصر فيما بينهم. والاية تنسخ ولاية الارث بالمواخاة التى أجراها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين في اول الهجرة، وتثبت الارث بالقرابة سواء كان هناك ذو سهم أو لم يكن أو كان عصبة أو لم يكن فالاية مطلقة كما هو ظاهر.

[ 143 ]

(بحث روائي) في المجمع عن الباقر عليه السلام انهم كانوا يتوارثون بالمواخاة. أقول: ولا دلالة فيه على ان الاية نزلت في ولاية الاخوة. في الكافي باسناده عن ابى بصير عن ابى جعفر عليه السلام قال: الخال والخالة يرثان إذا لم يكن معهما احد ان الله يقول: (وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله). أقول: ورواه العياشي عن ابى بصير عنه مرسلا. وفي تفسير العياشي عن زرارة عن ابى جعفر عليه السلام، في قول الله: (واولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) ان بعضهم أولى بالميراث من بعض لان أقربهم إليه أولى به. ثم قال أبو جعفر عليه السلام، إنهم أولى بالميت، وأقربهم إليه أمه وأخوه واخته لامه وابنه أليس الام أقرب إلى الميت من إخوانه وأخواته ؟ وفيه عن ابن سنان عن ابى عبد الله عليه السلام قال: لما اختلف على بن ابى طالب عليه السلام وعثمان بن عفان في الرجل يموت وليس له عصبة يرثونه وله ذوو قرابة لا يرثونه: ليس له بينهم مفروض، فقال على عليه السلام ميراثه لذوى قرابته لان الله تعالى يقول: واولوا الارحام بعضهم اولى ببعض في كتاب الله) وقال عثمان اجعل ميراثه في بيت مال المسلمين ولا يرثه احد من قرابته. أقول: والروايات في نفى القول بالعصبة والاستناد في ذلك إلى الاية كثيرة من أئمة اهل البيت عليه السلام. وفي الدر المنثور أخرج الطيالسي والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين اصحابه وورث بعضهم من بعض حتى نزلت هذه الاية (وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) فتركوا ذلك وتوارثوا بالنسب وفي المعاني باسناده فيه رفع عن موسى بن جعفر عليه السلام: فيما جرى بينه وبين هارون وفيه: قال هارون: فلم ادعيتم أنكم ورثتم رسول الله والعم يحجب ابن العم، وقبض رسول الله وقد توفى أبو طالب قبله والعباس عمه حى - إلى ان قال - فقلت: إن

[ 144 ]

النبي لم يورث من لم يهاجر ولا أثبت له ولاية حتى يهاجر فقال: ما حجتك فيه ؟ قلت: قول الله تبارك وتعالى: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا) وإن عمى العباس لم يهاجر فقال: إنى سائلك يا موسى هل أفتيت بذلك احدا من أعدائنا أم أخبرت احدا من الفقهاء في هذه المسالة بشئ ؟ فقلت: اللهم لا وما سألني عنها إلا أمير المؤمنين. الحديث. أقول: ورواه المفيد في الاختصاص. (سورة التوبة مدنية وهى مائة وتسع وعشرون آية) براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين - 1. فسيحوا في الارض أربعه أشهر واعلموا أنكم غير معجزى الله وأن الله مخزي الكافرين - 2. وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الاكبر أن الله برئ من المشركين ورسوله فان تبتم فهو خير لكم وأن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزى الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم - 3. إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فاتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين - 4. فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فان تابوا وأقاموا الصلوة وآتوا الزكوة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم - 5. وإن أحد من المشركين استجارك فاجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه

[ 145 ]

مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون - 6. كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين - 7. كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون - 8. اشتروا بايات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون - 9. لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون - 10. فإن تابوا وأقاموا الصلوة وآتوا الزكوة فإخوانكم في الدين ونفصل الايات لقوم يعلمون - 11. وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون - 12. ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين - 13. قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين - 14. ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم - 15. أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون - 16.

[ 146 ]

(بيان) الايات مفتتح قبيل من الايات سموها سورة التوبة أو سورة البراءة، وقد اختلفوا في كونها سورة مستقلة أو جزء من سورة الانفال، واختلاف المفسرين في ذلك ينتهى إلى اختلاف الصحابة ثم التابعين فيه، وقد اختلف في ذلك الحديث عن ائمة اهل البيت (ع) غير ان الارجح بحسب الصناعة ما يدل من حديثهم على انها ملحقة بسورة الانفال. والبحث عن معاني آياتها وما اشتملت عليه من المضامين لا يهدى إلى غرض واحد متعين على حد سائر السور المشتملة على أغراض مشخصة تؤمها اوائلها وتنعطف إليها أواخرها، فاولها آيات تؤذن بالبراءة وفيها آيات القتال مع المشركين، والقتال مع اهل الكتاب، وشطر عظيم منها يتكلم في أمر المنافقين، وآيات في الاستنهاض على القتال وما يتعرض لحال المخلفين، وآيات ولاية الكفار، وآيات الزكاة وغير ذلك، ومعظمها ما يرجع إلى قتال الكفار وما يرجع إلى المنافقين. وعلى أي حال لا يترتب من جهة التفسير على هذا البحث فائدة مهمة وإن امكن ذلك من جهة البحث الفقهى الخارج عن غرضنا. قوله تعالى: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) قال الراغب: أصل البرء والبراء والتبرى: التفصى مما يكره مجاورته، ولذلك قيل: برأت من المرض وبرأت من فلان وتبرأت، وأبرأته من كذا وبرأته، ورجل برئ وقوم براء وبريؤون قال تعالى: براءة من الله ورسوله. انتهى. والاية بالنسبة إلى الايات التالية كالعنوان المصدر به الكلام المشير إلى خلاصة القول على نهج سائر السور المفصلة التى تشير الاية والايتان من اولها على إجمال الغرض المسرود لاجل بيانه آياتها. والخطاب في الاية للمؤمنين أو للنبى صلى الله عليه وآله وسلم ولهم على ما يدل عليه قوله: (عاهدتم) وقد أخذ الله تعالى ومنه الخطاب ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الواسطة، والمشركون وهم الذين أريدت البراءة منهم، ووجه الخطاب ليبلغ إليهم جميعا في الغيبة، وهذه الطريقة في الاحكام والفرامين المراد إيصالها إلى الناس نوع تعظيم لصاحب الحكم والامر.

[ 147 ]

والاية تتضمن إنشاء الحكم والقضاء بالبراءة من هؤلاء المشركين وليس بتشريع محض بدليل تشريكه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في البراءة فان دأب القرآن ان ينسب الحكم التشريعي المحض إلى الله سبحانه وحده، وقد قال تعالى: (ولا يشرك في حكمه احدا) الكهف: 26 ولا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا الحكم بالمعنى الذى في الولاية والسياسة وقطع الخصومة. فالمراد بالاية القضاء برفع الامان عن الذين عاهدوهم من المشركين وليس رفعا جزافيا وإبطالا للعهد من غير سبب يبيح ذلك فان الله تعالى سيذكر بعد عدة آيات أنهم لا وثوق بعهدهم الذى عاهدوه وقد فسق اكثرهم ولم يراعوا حرمة العهد ونقضوا ميثاقهم، وقد أباح تعالى عند ذلك إبطال العهد بالمقابلة نقضا بنقض حيث قال: (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ان الله لا يحب الخائنين) الانفال: 58 فأباح إبطال العهد عند مخافة الخيانة ولم يرض مع ذلك إلا بابلاغ النقض إليهم لئلا يؤخذوا على الغفلة فيكون ذلك من الخيانة المحظورة. ولو كان إبطالا لعهدهم من غير سبب مبيح لذلك من قبل المشركين لم يفرق بين من دام على عهده منهم وبين من لم يدم عليه، وقد قال تعالى مستثنيا: (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم احدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين). ولم يرض تعالى بنقض عهد هؤلاء المعاهدين الناقضين لعهدهم دون ان ضرب لهم أجلا ليفكروا في أمرهم ويرتاؤا رأيهم ولا يكونوا مأخوذين بالمباغتة والمفاجأة. فمحصل الاية الحكم ببطلان العهد ورفع الامان عن جماعة من المشركين كانوا قد عاهدوا المسلمين ثم نقضه اكثرهم ولم يبق إلى من بقى منهم وثوق تطمئن به النفس إلى عهدهم وتعتمد على يمينهم وتأمن شرهم وانواع مكرهم. قوله تعالى: (فسيحوا في الارض اربعة اشهر واعلموا انكم غير معجزى الله وان الله مخزي الكافرين) السياحة هي السير في الارض والجرى ولذلك يقال للماء الدائم الجرية في ساحة: السائح. وامرهم بالسياحة اربعة اشهر كناية عن جعلهم في مأمن في هذه البرهة من الزمان وتركهم بحيث لا يتعرض لهم بشر حتى يختاروا ما يرونه أنفع بحالهم من البقاء أو

[ 148 ]

الفناء مع ما في قوله: (واعلموا أنكم غير معجزى الله وأن الله مخزي الكافرين) من إعلامهم ان الاصلح بحالهم رفض الشرك، والاقبال إلى دين التوحيد، وموعظتهم ان لا يهلكوا أنفسهم بالاستكبار والتعرض للخزى الالهى. وقد وجه في الاية الخطاب إليهم بالالتفات من الغيبة إلى الخطاب لمافى توجيه الخطاب القاطع والارادة الجازمة إلى الخصم من الدلالة على بسط الاستيلاء والظهور عليه واستذلاله واستحقار ما عنده من قوة وشدة. وقد اختلفت أقوال المفسرين في المراد بقوله: (أربعة أشهر) والذى يدل عليه السياق ويؤيده اعتبار إصدار الحكم وضرب الاجل ليكونوا في فسخة لاختيار ما وجدوه من الحياة أو الموت أنفع بحالهم: ان تبتدئ الاربعة الاشهر من يوم الحج الاكبر الذى يذكره الله تعالى في الاية التالية فإن يوم الحج الاكبر هو يوم الابلاغ والايذان والانسب بضرب الاجل الذى فيه نوع من التوسعة للمحكوم عليهم وإتمام الحجة، أن تبتدئ من حين الاعلام والايذان. وقد اتفقت كلمة اهل النقل أن الايات نزلت سنة تسع من الهجرة فإذا فرض ان يوم الحج الاكبر هو يوم النحر العاشر من ذى الحجة كانت الاربعة الاشهر هي عشرون من ذى الحجة والمحرم وصفر وربيع الاول وعشرة أيام من ربيع الاخر. وعند قوم ان الاربعة الاشهر تبتدئ من يوم العشرين من ذى القعدة وهو يوم الحج الاكبر عندهم فالاربعة الاشهر هي عشرة أيام من ذى القعدة وذو الحجة والمحرم وصفر وعشرون من ربيع الاول، وسيأتى ما فيه. وذكر آخرون: ان الايات نزلت اول شوال سنة تسع من الهجرة فتكون الاربعة الاشهر هي شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم فتنقضى بانقضاء الاشهر الحرم، وقد حداهم إلى ذلك القول بأن المراد بقوله تعالى فيما سيأتي: (فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا) الاشهر الحرم المعروفة: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم فيوافى انسلاخ الاشهر الحرم انقضاء الاربعة الاشهر، وهذا قول بعيد عن الصواب لا يساعد عليه السياق وقرينة المقام كما عرفت. قوله تعالى: (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الاكبر أن الله برئ

[ 149 ]

من المشركين ورسوله) الاذان هو الاعلام، وليست الاية تكرارا لقوله تعالى السابق (براءة من الله ورسوله) فإن الجملتين وان رجعتا إلى معنى واحد وهو البراءة من المشركين إلا ان الاية الاولى إعلام البراءة وإبلاغه إلى المشركين بدليل قوله في ذيل الاية: (إلى الذين عاهدتم من المشركين) بخلاف الاية الثانية فإن وجه الخطاب فيه إلى الناس ليعلموا براءة الله ورسوله من المشركين، ويستعدوا ويتهيأوا لانفاذ أمر الله فيهم بعد انسلاخ الاشهر الحرم بدليل قوله: (إلى الناس) وقوله تفريعا: (فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) إلى آخر الاية. وقد اختلفوا في تعيين المراد بيوم الحج الاكبر على أقوال: منها: أنه يوم النحر من سنة التسع من الهجرة لانه كان يوما اجتمع فيه المسلمون والمشركون ولم يحج بعد ذلك العام مشرك، وهو المؤيد بالاحاديث المروية عن أئمة اهل البيت عليهما السلام والانسب بأذان البراءة، والاعتبار يساعد عليه لانه كان اكبر يوم اجتمع فيه المسلمون والمشركون من اهل الحج عامة بمنى وقد ورد من طرق اهل السنة روايات في هذا المعنى غير ان مدلول جلها أن الحج الاكبر اسم يوم النحر فيتكرر على هذا كل سنة ولم يثبت من طريق النقل تسمية على هذا النحو. ومنها: أنه يوم عرفة لان فيه الوقوف، والحج الاصغر هو الذى ليس فيه وقوف وهو العمرة، وهو استحسان لا دليل عليه، ولا سبيل إلى تشخيص صحته. ومنها: أنه اليوم الثاني ليوم النحر لان الامام يخطب فيه وسقم هذا الوجه ظاهر. ومنها: أنه جميع ايام الحج كما يقال: يوم الجمل، ويوم صفين، ويوم بغاث، ويراد به الحين والزمان، وهذا القول لا يقابل سائر الاقوال كل المقابلة فانه انما يبين أن المراد باليوم جميع ايام الحج، وأما وجه تسمية هذا الحج بالحج الاكبر فيمكن أن يوجه ببعض ما في الاقوال السابقة كما في القول الاول. وكيف كان فالاعتبار لا يساعد على هذا القول لان وجود يوم بين ايام الحج يجتمع فيه عامة اهل الحج يتمكن فيه من أذان براءة كل التمكن كيوم النحر يصرف قوله: (يوم الحج الاكبر) إلى نفسه، ويمنع شموله لسائر ايام الحج التى لا يجتمع فيها الناس ذاك الاجتماع.

[ 150 ]

ثم التفت سبحانه إلى المشركين ثانيا وذكرهم أنهم غير معجزين لله ليكونوا على بصيرة من امرهم كما ذكرهم بذلك في الاية السابقة بقوله: (واعلموا انكم غير معجزى) الله وأن الله مخزي الكافرين) غير انه زاد عليه في هذه الاية قوله: (فان تبتم فهو خير لكم) ليكون تصريحا بما لوح إليه في الاية السابقة فان التذكير بأنهم غير معجزى الله انما كان بمنزلة العظة وبذل النصح لهم لئلا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة باختيار البقاء على الشرك والتولى عن الدخول في دين التوحيد ففى الترديد تهديد ونصيحة وعظة. ثم التفت سبحانه إلى رسوله فخاطبه ان يبشر الذين كفروا بعذاب أليم فقال: (وبشر الذين كفروا بعذاب أليم) والوجه في الالتفات الذى في قوله: (فان تبتم فهو خير لكم) الخ ما تقدم في قوله: (فسيحوا في الارض) الخ، وفي الالتفات الذى في قوله: (وبشر الذين كفروا) الخ أنه رسالة لا تتم إلا من جهة مخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم احدا) الخ، استثناء من عموم البراءة من المشركين، والمستثنون هم المشركون الذين لهم عهد لم ينقضوه لا مستقيما ولا غير مستقيم فمن الواجب الوفاء بميثاقهم وإتمام عهدهم إلى مدتهم. وقد ظهر بذلك أن المراد من اضافة قولة: (ولم يظاهروا عليكم احدا) إلى قوله: (لم ينقصوكم شيئا) استيفاء قسمي النقض وهما النقض المستقيم كقتلهم بعض المسلمين، والنقض غير المستقيم نظير مظاهرتهم بعض اعداء المسلمين عليهم كإمداد مشركي مكة بنى بكر على خزاعد بالسلاح، وكانت بنو بكر في عهد قريش وخزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحاربوا فأعانت قريش بنى بكر على خزاعة ونقضت بذلك عهد حديبية الذى عقدوه بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان ذلك من اسباب فتح مكة سنة ثمان. وقوله تعالى: (إن الله يحب المتقين) في مقام التعليل لوجوب الوفاء بالعهدما لم ينقضه المعاهد المشرك، وذلك يجعل احترام العهد وحفظ الميثاق احد مصاديق التقوى المطلق الذى لا يزال يأمر به القرآن وقد صرح به في نظاهر هذا المورد كقوله تعالى: (ولا يجر منكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى) المائدة: 8 وقوله: (ولا يجر منكم شنآن قوم ان صدوكم عن المسجد الحرام ان تعتدوا، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم العدوان واتقوا الله) المائدة: 2.

[ 151 ]

وبذلك يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالمتقين الذين يتقون نقض العهد من غير سبب، وذلك أن التقوى بمعنى الورع عن محارم الله عامة كالحقيقة الثانية في القرآن فيحتاج إرادة خلافه إلى قرينة صارفة. قوله تعالى: (فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) أصل الانسلاخ من سلخ الشاة وهو نزع جلدها عنها، وانسلاخ الشهر نوع كناية عن خروجه، والحصر هو المنع من الخروج عن محيط، والمرصد اسم مكان من الرصد بمعنى الاستعداد للرقوب. قال الراغب: الرصد الاستعداد للترقب يقال: رصد له وترصد وأرصدته له، قال عز وجل: (وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل)، وقوله عز وجل: (إن ربك لبالمرصاد) تنبيها أنه لا ملجا ولا مهرب، والرصد يقال للراصد الواحد والجماعة الراصدين وللمرصود واحدا كان أو جمعا، وقوله تعالى: (يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا) يحتمل كل ذلك، والمرصد موضع الرصد. انتهى. والمراد بالاشهر الحرم هي الاربعة الاشهر: أشهر السياحة التى ذكرها الله سبحانه في قوله: (فسيحوا في الارض أربعه أشهر) وجعلها أجلا مضروبا للمشركين لا يتعرض فيها لحالهم وأما الاشهر الحرم المعروفة أعنى ذا القعدة وذا الحجة والمحرم فإنها لا تنطبق على أذان براءة الواقع في يوم النحر عاشر ذى الحجة بوجه كما تقدمت الاشارة إليه. وعلى هذا فاللام في الاشهر الحرم للعهد الذكرى أي إذا انسلخ هذه الاشهر التى ذكرناها حرمناها للمشركين لا يتعرض لحالهم فيها فاقتلوا المشركين الخ. ويظهر بذلك ان لا وجه لحمل قوله: (فإذا انسلخ الاشهر الحرم) على انسلاخ ذى القعدة وذى الحجة والمحرم بأن يكون انسلاخ الاربعة الاشهر بانسلاخ الاشهر الثلاثة منطبقا عليه أو يكون انسلاخ الاشهر الحرم مأخوذا على نحو الاشارة إلى انقضاء الاربعة الاشهر وان لم ينطبق الاشهر على الاشهر فان ذلك كله مما لا سبيل إليه بحسب السياق وان كان لفظ الاشهر الحرم في نفسه ظاهرا في شهور رجب وذى القعدة وذى الحجة والمحرم. وقوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) محقق للبراءة منهم ورفع الاحترام

[ 152 ]

عن نفوسهم باهدار الدماء فلا مانع من أي نازلة نزلت بهم، وفي قوله: (حيث وجدتموهم) تعميم للحكم فلا مانع حاجب عن وجوب قتلهم حيثما وجدوا في حل أو حرم بل ولو ظفر بهم في الشهر الحرام - بناء على تعميم (حيث) للزمان والمكان كليهما - فيجب على المسلمين كائنين من كانوا إذا ظفروا بهم ان يقتلوهم، كان ذلك في الحل أو الحرم في الشهر الحرام أو غيره. وانما امر بقتلهم حيث وجدوا للتوسل بذلك إلى إيرادهم مورد الفناء والانقراض، وتطييب الارض منهم، وإنجاء الناس من مخالطتهم ومعاشرتهم بعد ما سمح وأبيح لهم ذلك في قوله: (فسيحوا في الارض اربعة اشهر). ولازم ذلك أن يكون كل من قوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) وقوله: (وخذوهم) وقوله: (واحصروهم) وقوله: (واقعدوا لهم كل مرصد) بيانا لنوع من الوسيلة إلى افناء جمعهم وانفاد عددهم، ليتفصى المجتمع من شرهم. فان ظفر بهم وأمكن قتلهم قتلوا، وان لم يمكن ذلك قبض عليهم وأخذوا، وان لم يمكن أخذهم حصروا وحبسوا في كهفهم ومنعوا من الخروج إلى الناس ومخالطتهم وان لم يعلم محلهم قعد لهم في كل مرصد ليظفر بهم فيقتلوا أو يؤخذوا. ولعل هذا المعنى هو مراد من قال: ان المراد: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم أو خذوهم واحصروهم على وجه التخيير في اعتبار الاصلح من الامرين، وان كان لا يخلو عن تكلف من جهة اعتبار الاخذ والحصر والقعود في كل مرصد امرا واحدا في قبال القتل، وكيف كان فالسياق إنما يلائم ما قدمناه من المعنى. واما قول من قال: ان في قوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم، تقديما وتاخيرا، والتقدير: فخذوا المشركين حيث وجدتموهم واقتلوهم فهو من التصرف في معنى الاية من غير دليل مجوز، والاية وخاصة ذيلها يدفع ذلك سياقا. ومعنى الاية: فإذا انسلخ الاشهر الحرم وانقضى الاربعة الاشهر التى امهلناهم بها بقولنا: (فسيحوا في الارض اربعة اشهر) فأفنوا المشركين بأى وسيلة ممكنة رأيتموها اقرب وأوصل إلى إفناء جمعهم وإمحاء رسمهم من قتلهم اينما وجدتموهم من حل أو حرم

[ 153 ]

ومتى ما ظفرتم بهم في شهر حرام أو غيره، ومن أخذهم أو حصرهم أو القعود لهم في كل مرصد حتى يفنوا عن آخرهم. قوله تعالى: (فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ان الله غفور رحيم) اشتراط في معنى الغاية للحكم السابق، والمراد بالتوبة معناها اللغوى وهو الرجوع أي ان رجعوا من الشرك إلى التوحيد بالايمان ونصبوا لذلك حجة من اعمالهم وهى الصلاة والزكاة والتزموا احكام دينكم الراجعة إلى الخالق جميعا فخلوا سبيلهم. وتخلية السبيل كناية عن عدم التعرض لسالكيه وان عادت مبتذلة بكثرة التداول كأن سبيلهم مسدودة مشغولة بتعرض المتعرضين فإذا خلى عنها كان ذلك ملازما أو منطبقا على عدم التعرض لهم. وقوله: (ان الله غفور رحيم) تعليل لقوله: (فخلوا سبيلهم) إما من جهة الامر الذى يدل عليه بصورته أو من جهة المأمور به الذى يدل عليه بمادته اعني تخلية سبيلهم والمعنى على الاول: وإنما امر الله بتخلية سبيلهم لانه غفور رحيم يغفر لمن تاب إليه ويرحمه. وعلى الثاني: خلوا سبيلهم لان تخليتكم سبيلهم من المغفرة والرحمة، وهما من صفات الله العليا فتتصفون بذلك بصفة ربكم، وأظهر الوجهين هو الاول. قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) إلى آخر الاية، الاية تتضمن حكم الاجارة لمن استجار من المشركين لان يسمع كلام الله، وهى بما تشتمل عليه من الحكم وان كانت معترضة أو كالمعترضة بين ما يدل على البراءة ورفع الامان عن المشركين إلا أنها بمنزلة دفع الدخل الواجب الذى لا يجوز إهماله فان أساس هذه الدعوة الحقة وما يصاحبها من الوعد والوعيد والتبشير والانذار، وما يترتب عليه من عقد العقود وإبرام العهود أو النقض والبراءة واحكام القتال كل ذلك انما هو لصرف الناس عن سبيل الغى والضلال إلى صراط الرشد والهدى، وانجائهم من شقاء الشرك إلى سعادة التوحيد. ولازم ذلك الاعتناء التام بكل طريق يرجى فيه الوصول إلى هداية ضال والفوز باحياء حق وان كان يسيرا قليلا فان الحق حق وان كان يسيرا والمشرك غير المعاهد

[ 154 ]

وإن أبرء الله منه الذمة وأهدر دمه ورفع الحرمة عن كل ما يعود إليه من مال وعرض لكنه تعالى إنما فعل به ذلك ليحيى حق ويبطل باطل فإذا رجى منه الخير منع ذلك من أي قصد سيئ يقصد به حتى يحصل اليأس من هدايته وانجائه. فإذا استجار المشرك لينظر فيما تندب إليه الدعوة الحقة ويتبعها ان اتضحت له كان من الواجب اجارته حتى يسمع كلام الله ويرتفع عنه غشاوة الجهل وتتم عليه الحجة فإذا تمادى بعد ذلك في ضلاله وأصر في استكباره صار ممن ارتفع عنه الامان وبرأت منه الذمة ووجب تطييب الارض من قذارة وجوده بأية وسيلة امكنت واى طريق كان اقرب واسهل وهذا هو الذى يفيده قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم ابلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) الاية بما يكتنف به من الايات. فمعنى الاية: ان طلب منك بعض هؤلاء المشركين الذين رفع عنهم الامان أن تأمنه في جوارك ليحضر عندك ويكلمك فيما تدعو إليه من الحق الذى يتضمنه كلام الله فأجره حتى يسمع كلام الله ويرتفع عنه غشاوة الجهل ثم أبلغه مأمنة حتى يملك منك امنا تاما كاملا، وإنما شرع الله هذا الحكم وبذل لهم هذا الامن التام لانهم قوم جاهلون ولا بأس على جاهل إذا رجى منه الخير بقبول الحق لو وضح له. وهذا غاية ما يمكن مراعاته من اصول الفضيلة وحفظ الكرامة ونشر الرحمة والرأفة وشرافة الانسانية اعتبره القرآن الكريم، وندب إليه الدين القويم. وقد بان بما قدمناه اولا: ان الاية مخصصة لعموم قوله في الاية السابقة: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم). وثانيا: أن قوله: (حتى يسمع كلام الله) غاية للاستجارة والاجارة فيتغيا به الحكم، فالاستئمان إنما كان لسمع كلام الله واستفسار ما عند الرسول من مواد الرسالة فيتقدر الامان الذى يعطاه المستجير المستأمن بقدره فإذا سمع من كلام الله ما يتبين به الرشد من الغى ويتميز به الهدى من الضلال انتهت مدة الاستجارة وحان أن يرد المستجير إلى مأمنه والمكان الخاص به الذى هو في أمن فيه، لا يهدده فيه سيوف المسلمين ليرجع إلى حاله الذى فارقه، ويختار لنفسه ما يشاء على حرية من المشية والارادة.

[ 155 ]

وثالثا: أن المراد بكلام الله مطلق آيات القرآن الكريم، نعم يتقيد بما ينفع المستجير من الايات التى توضح له أصول المعارف الالهية ومعالم الدين والجواب عما يختلج في صدره من الشبهات كل ذلك بدلالة المقام والسياق. وبذلك يظهر فساد ما قيل: إن المراد بكلام الله آيات التوحيد من القرآن، وكذا ما قيل ان المراد به سورة براءة أو خصوص ما بلغوه في الموسم من آيات صدر السورة فان ذلك كله تخصيص من غير مخصص. ورابعا: أن المراد بسمع كلام الله الوقوف على أصول الدين ومعالمه وإن امكن أن يقال: إن لاستماع نفس كلام الله فيما إذا كان المستجير عربيا يفهم الكلام الالهى دخلا في ذلك أما إذا كان غير عربي ولا يفهم الكلام العربي فالمستفاد من السياق أن الغاية في حقه مجرد تفقه اصول الدين ومعالمه. وخامسا أن الاية محكمة غير منسوخة ولا قابلة له لان من الضرورى البين من مذاق الدين، وظواهر الكتاب والسنة ان لا مؤاخذة قبل تمام الحجة، ولا تشديد أي تشديد كان إلا بعد البيان فالجاهل السالك في سبيل الفحص أو المستعلم للحق المستفهم للحقيقة لا يرد خائبا ولا يؤخذ غافلا فعلى الاسلام والمسلمين ان يعطواكل الامان لمن استامنهم ليستحضر معارف الدين ويستعلم اصول الدعوة حتى يتبعها إن لاحت له فيها لوائح الصدق، وهذا اصل لا يقبل بطلانا ولا تغييرا ما دام الاسلام إسلاما فالاية محكمة غير قابلة للنسخ إلى يوم القيامة. ومن هنا يظهر فساد قول من قال: أن قوله: (وإن احد من المشركين استجارك فاجره حتى يسمع كلام الله) الاية منسوخة بالاية الاتية: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) الاية. وسادسا: أن الاية إنما توجب أجارة المستجير إذا استجار لامر دينى يرجى فيه خير الدين، واما مطلق الاستجارة لا لغرض دينى ولا نفع عائد إليه فلا دلالة لها عليه أصلا بل الايات السابقة الامرة بالتشديد عليهم في محلها. وسابعا: أن قوله في تتميم الامر بالاجارة: (ثم أبلغه مامنه) مع تمام قوله: (فاجره حتى يسمع) بدونه في الدلالة على المقصد يدل على كمال العناية بفتح باب

[ 156 ]

الهداية على وجوه الناس، والتحفظ على حرية الناس في حياتهم وأعمالهم الحيوية، والاغماض في طريقة عن كل حكم حتمي وعزيمة قاطعة ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة، ولا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وثامنا: أن الاية - كما قيل - تدل على ان الاعتقاد باصل الدين يجب ان يكون عن علم يقيني لا يداخله شك ولا يمازجه ريب ولا يكفى فيه غيره ولو كان الظن الراجح، وقد ذم الله تعالى اتباع الظن، وندب إلى اتباع العلم في آيات كثيرة كقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) أسرى: 36 وقوله: (إن يتبعون إلا الظن وان الظن لا يغنى من الحق شيئا) النجم: 28 وقوله: (ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون) الزخرف: 20. ولو كفى في اصل الدين الاعتقاد التقليدي لم يستقم الحكم باجارة من استجار لتفهم أصول الدين ومعارفة لجواز ان يكلف بالتقليد والكف عن البحث عن انه حق أو باطل هذا. ولكن المقدار الواجب في ذلك ان يكون عن علم قطعي سواء كان حاصلا عن الاستدلال بطرق فنية أو بغير ذلك من الوجوه المفيدة للعلم ولو على سبيل الاتفاق، وهذا غير القول بان الاستدلال على اصول المعارف لا يصح إلا من طريق العقل فان صحة الاستدلال أمر، وجواز الاعتماد على العلم باى طريق حصل أمر آخر. قوله تعالى: (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله) الاية، تبيين وتوضيح لما مر إجمالا من الحكم بنقض عهد المشركين ممن لا وثوق بوفائه بعهده، وقتلهم إلى ان يؤمنوا بالله ويخضعوا لدين التوحيد، واستثناء من لم ينقض العهد وبقى على الميثاق حتى ينقضى مدة عهدهم. فالاية وما يتلوها إلى تمام ست آيات تبين ذلك وتوضح الحكم واستثناء ما استثنى منه والغاية والمغيى جميعا. فقوله: (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله) استفهام في مقام الانكار، وقد بادرت الاية إلى استثناء الذين عاهدوهم من المشركين عند المسجد الحرام لكونهم لم ينقضوا عهدا ولم يساهلوا فيما واثقوا به بدليل قوله تعالى: (فما استقاموا

[ 157 ]

لكم فاستقيموا لهم) وذلك أن الاستقامة لمن استقام والسلم لمن يسالم من لوازم التقوى الدينى، ولذلك علل قوله ذلك بقوله: (إن الله يحب المتقين) كما جاء مثله بعينه في الاية السابقة: (فاتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين). قوله تعالى: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) إلى آخر الاية، قال الراغب في المفردات: الال كل حالة ظاهرة من عهدحلف، وقرابة تئل: تلمع فلا يمكن انكاره، قال تعالى: لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، وأل الفرس: اسرع، حقيقته لمع، وذلك استعارة في باب الاسراع نحو برق وطار. انتهى. وقال ايضا: الذمام - بكسر الذال - ما يذم الرجل على إضاعته من عهد، وكذلك الذمة والمذمة، وقيل: لى مذمة فلا تهتكها، وأذهب مذمتهم بشئ: أي اعطهم شيئا لما لهم من الذمام. انتهى. وهو ظاهر في أن الذمة ماخوذة من الذم بالمعنى الذى يقابل المدح. ولعل إلقاء المقابلة في الاية بين الال والذمة للدلالة على انهم لا يحفظون في المؤمنين شيئا من المواثيق التى يجب رقوبها وحفظها سواء كانت مبنية على اصول واقعية تكوينية كالقرابة التى توجب بوجه على القريب رعاية حال قريبه، أو على الجعل والاصطلاح كالعهود والمواثيق المعقودة بحلف ونحوه. وقد كررت لفظة (كيف) للتأكيد ولرفع الابهام في البيان الناشئ من تخلل قوله: (إلا الذين عاهدتم) الاية بطولها بين قوله: (كيف يكون للمشركين) الاية وقوله: (وإن يظهروا عليكم) الاية. فمعنى الاية: كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله والحال أنهم إن يظهروا عليكم ويغلبوكم على الامر لا يحفظوا ولا يراعوا فيكم قرابة ولا عهدا من العهود يرضونكم بالكلام المدلس والقول المزوق، ويابى ذلك قلوبهم، واكثرهم فاسقون. ومن هنا ظهر أن قوله: (يرضونكم بافواههم) من المجاز العقلي نسب فيه الارضاء إلى الافواه وهو في الحقيقة منسوب إلى القول والكلام الخارج من الافواه المكون فيها. وقوله: (يرضونكم) الاية تعليل لانكار وجود العهد للمشركين ولذلك

[ 158 ]

جئ به بالفصل، والتقدير: كيف يكون لهم عهد وهم يرضونكم بافواههم وتابى قلوبهم وأكثرهم فاسقون. وأما قوله: (وأكثرهم فاسقون) ففيه بيان أن أكثرهم ناقضون للعهد والميثاق بالفعل من غير ان ينتظروا ظهورهم جميعا عليكم فالاية توضح حال آحادهم وجميعهم بان اكثرهم فاسقون بنقض العهد من غير ان يرقبوا في مؤمن إلا ولا ذمة، ولو انهم ظهروا عليكم جميعا لم يرقبوا فيكم الال والذمة. قوله تعالى: (اشتروا بايات الله ثمنا قليلا) إلى آخر الآيتين، بيان وتفسير لقوله في الاية السابقة: (وأكثرهم فاسقون) وكان قوله: (اشتروا بايات الله ثمنا قليلا) إلى آخر الاية توطئة وتمهيد لقوله في الاية الثانية (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة.) وبذلك يظهر أن الاقرب أن المراد بالفسق الخروج عن العهد والذمة دون الفسق بمعنى الخروج عن زى عبودية الله سبحانه وإن كان الامر كذلك. وقوله: (واولئك هم المعتدون) كالتفسير لجميع ما مر من أحوالهم الروحية وأعمالهم الجسمية، وتفيد الجملة مع ذلك جوابا عن سؤال مقدر أو ما يجرى مجراه والمعنى: إذا كان هذا حالهم وهذه افعالهم فلا تحسبوا ان لو نقضتم عهدهم اعتديتم عليهم فاولئك هم المعتدون عليكم لما اضمروه من العداوة والبغضاء ولما اظهره اكثرهم في مقام العمل من الصد عن سبيل الله، وعدم رعاية قرابة ولا عهد في المؤمنين. قوله تعالى: (فان تابوا واقاموا الصلاة) إلى آخر الايتين، الايتان بيان تفصيلي لقوله فيما تقدم: (فان تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا انكم غير معجزى الله). والمراد بالتوبه بدلالة السياق الرجوع الى الايمان بالله وآياتة، ولذلك لم يقتصر على التوبة فقط بل عطف عليها إقامة الصلاة التى هي أظهر مظاهر عبادة الله، وإيتاء الزكاة الذى هو اقوى اركان المجتمع الدينى، وقد أشير بهما إلى نوع الوظائف الدينية التى باتيانها يتم الايمان بايات الله بعد الايمان بالله عز اسمه فهذا معنى قوله: (تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة). واما قوله: (فاخوانكم في الدين) فالمراد به بيان التساوى بينهم وبين سائر المؤمنين

[ 159 ]

في الحقوق التى يعتبرها الاسلام في المجتمع الاسلامي: لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين. وقد عبر في الاية عن ذلك بالاخوة في الدين، وقال في موضع آخر: (انما المؤمنون إخوة) الحجرات: 10 اعتبارا بما بينهم من التساوى في الحقوق الدينية فان الاخوين شقيقان اشتقا من مادة واحدة وهما لذلك متساويان في الشؤون الراجعة إلى ذلك في مجتمع المنزل عند والدهما الذى هو رب البيت، وفي مجتمع القرابة عند الاقرباء والعشيرة. بيان واذ كان لهذا المعنى المسمى بلسان الدين أخوة أحكام وآثار شرعية اعتنى بها قانون الاسلام فهو اعتبار حقيقة لنوع من الاخوة بين افراد المجتمع الاسلامي لها آثار مترتبة كما أن الاخوة الطبيعية فيما اعتبرها الاسلام لها آثار مترتبة عقلائية ودينية وليست تسمية ذلك أخوة مجرد استعارة لفظية عن عناية مجازية، وفيما نقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قوله (المؤمنون إخوة يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد واحدة على من سواهم. وقوله: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا ائمة الكفر إنهم لا أيمان لهم) الاية يدل السياق أنهم غير المشركين الذين أمر الله سبحانه في الاية السابقة بنقض عهدهم وذكر انهم هم المعتدون لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة فانهم ناكثون للايمان ناقضون للعهد، فلا يستقيم فيهم الاشتراط الذى ذكره الله سبحانه بقوله: (وإن نكثوا أيمانهم) الاية. فهؤلاء قوم آخرون لهم مع ولى الامر من المسلمين عهود وأيمان ينكثون أيمانهم من بعد عهدهم، أي ينقضون عهودهم من بعد عقدها فامر الله سبحانه بقتالهم وألغى أيمانهم وسماهم أئمة الكفر لانهم السابقون في الكفر بايات الله يتبعهم غيرهم ممن يليهم، يقاتلون جميعا لعلهم ينتهون عن نكث الايمان ونقض العهود. قوله تعالى: (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول) الاية وما بعدها إلى تمام اربع آيات تحريض للمؤمنين وتهييج لهم على قتال المشركين ببيان ما اجرموا به في جنب الله وخانوا به الحق والحقيقة، وعد خطاياهم وطغياناتهم من نكث الايمان والهم بإخراج الرسول والبدء بالقتال اول مرة. ثم بتعريف المؤمنين أن لازم إيمانهم بالله الذى يملك كل خير وشر ونفع وضر

[ 160 ]

أن لا يخشوا إلا إياه ان كانوا مؤمنين به ففى ذلك تقوية لقلوبهم وتشجيعهم عليهم، وينتهى إلى بيان أنهم ممتحنون من عند الله باخلاص الايمان له والقطع من المشركين حتى يؤجروا بما يؤجر به المؤمن المتحقق في ايمانه. قوله تعالى: (قاتلوهم يعذبهم الله بايديكم) إلى آخر الايتين. أعاد الامر بالقتال لانه صار من جهة ما تقدم من التحريض والتحضيض اوقع في القبول فان الامر الاول كان ابتدائيا غير مسبوق بتمهيد وتوطئة بخلاف الامر الثاني الوارد بعد اشتداد الاستعداد وكمال التهيؤ من المأمورين. على ان ما أتبع به الامر من قوله: (يعذبهم الله بايديكم ويخزهم) إلى قوله: (ويذهب غيظ قلوبهم) يؤكد الامر ويغرى المأمورين على امتثاله وإجرائه على المشركين فان تذكرهم أن قتل المشركين عذاب إلهى لهم بايدى المؤمنين، وأن المؤمنين أياد مجرية لله سبحانه وأن في ذلك خزيا للمشركين ونصرة من الله للمؤمنين عليهم وشفاء لصدور قوم مؤمنين وإذهابا لغيظ قلوبهم، يجرئهم للعمل وينشطهم ويصفى إرادتهم. وقوله: (ويتوب الله على من يشاء) الاية بمنزلة الاستثناء لئلا يجرى حكم القتال على إطلاقه. قوله تعالى: (أم حسبتم ان تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) إلى آخر الاية بمنزلة تعليل آخر لوجوب قتالهم لينتج تحريضهم على القتال وفيه بيان حقيقة الامر، ومحصله أن الدار دار الامتحان والابتلاء فان نفوس الادميين تقبل الخير والشر والسعادة والشقاوة فهى في اول كينونتها ساذجة مبهمة، ومراتب القرب والزلفى إنما تبذل بازاء الايمان الخالص بالله وآياته، ولا يظهر صفاء الايمان إلا بالامتحان الذى يورد المؤمن مقام العمل، ليميز الله بذلك الطيب من الخبيث، والصافى الايمان ممن ليس عنده إلا مجرد الدعوى أو المزعمة. فمن الواجب أن يمتحن هؤلاء المدعون أنهم باعوا أنفسهم وأموالهم لله بان لهم الجنة، ويبتلوا بمثل القتال الذى يميز به الصادق من الكاذب ويفصل الذى قطع روابط المحبة والصلة من أعداء الله سبحانه ممن في قلبه بقايا من ولايتهم ومودتهم حتى يحيى هؤلاء ويهلك أولئك.

[ 161 ]

فعلى المؤمنين أن يمتثلوا امر القتال بل يتسارعوا إليه ويتسابقوا فيه ليظهروا بذلك صفاء جوهرهم وحقيقة إيمانهم ويحتجوا به على ربهم يوم لا نجاح فيه إلا بحجة الحق. فقوله: (أم حسبتم أن تتركوا) أي بل أظننتم ان تتركوا على ما أنتم عليه من الحال ولما تظهر حقيقة صدقكم في دعوى الايمان بالله وبآياته. وقوله: (ولما يعلم الله) الاية أي ولما يظهر في الخارج جهادكم وعدم اتخاذكم من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة فان تحقق الاشياء علم منه تعالى بها وقد مر نظير الكلام مع بسط ما في تفسير قوله تعالى: (أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) الاية آل عمران: 142 في الجزء الرابع من الكتاب. ومن الدليل على هذا الذى ذكرنا في معنى العلم قوله في ذيل الاية: (والله خبير بما تعملون). والوليجة على ما في مفردات الراغب كل ما يتخذه الانسان معتمدا عليه وليس من اهله. (بحث روائي) في تفسير القمى في قوله تعالى: (براءة من الله ورسوله) حدثنى ابى عن محمد بن الفضل عن ابن أبى عمير عن ابى الصباح الكنانى عن ابى عبد الله عليه السلام قال: نزلت هذه الاية بعد ما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة تبوك في سنة تسع من الهجرة. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما فتح مكة لم يمنع المشركين الحج في تلك السنة، وكان سنة من العرب في الحج انه من دخل مكة وطاف البيت في ثيابه لم يحل له إمساكها، وكانوا يتصدقون بها ولا يلبسونها بعد الطواف فكان من وافى مكة يستعير ثوبا ويطوف فيه ثم يرده، ومن لم يجده عارية ولا كرى و لم يكن له إلا ثوب واحد طاف بالبيت عريانا. فجاءت امرأة من العرب وسيمة جميلة فطلبت ثوبا عارية أو كرى فلم تجده فقالوا لها: إن طفت في ثيابك احتجت ان تتصدقى بها فقالت: كيف أتصدق وليس لى غيرها ؟ فطافت بالبيت عريانة وأشرف لها الناس فوضعت إحدى يديها على قبلها والاخرى على دبرها وقالت شعرا:

[ 162 ]

اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا احله فلما فرغت من الطواف خطبها جماعة فقالت: إن لى زوجا. وكانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل نزول سورة براءة ان لا يقاتل إلا من قاتله ولا يحارب إلا من حاربه وأراده، وقد كان أنزل على [ في ] ذلك (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا اليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يقاتل احدا قد تنحى عنه واعتزله حتى نزلت عليه سورة براءة وأمره بقتل المشركين من اعتزله ومن لم يعتزله إلا الذين قد عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة إلى مدة: منهم صفوان بن امية وسهيل بن عمرو فقال الله عزوجل: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الارض اربعة اشهر) ثم يقتلون حيثما وجدوا بعد. هذه اشهر السياحة: عشرين من ذى الحجة والمحرم وصفرو شهر ربيع الاول وعشرا من ربيع الاخر. فلما نزلت الايات من سورة براءة دفعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ابى بكرو أمره ان يخرج إلى مكة ويقرأها على الناس بمنى يوم النحر فلما خرج أبو بكر نزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد لا يؤدى عنك إلا رجل منك. فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امير المؤمنين عليه السلام في طلب ابى بكر فلحقه بالروحاء وأخذ منه الايات فرجع أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله: أنزل الله في شيئا ؟ فقال: لاإن الله أمرنى ان لا يؤدى عنى إلا انا أو رجل منى. وفي تفسير العياشي عن حرير عن ابى عبد الله عليه السلام أن رسول الله بعث ابا بكر مع براءة إلى الموسم ليقرأها على الناس فنزل جبرئيل فقال: لا يبلغ عنك إلا على فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا وامر ان يركب ناقته العضباء، وأمره ان يلحق ابا بكر فيأخذ منه براءة ويقرأها على الناس بمكة فقال أبو بكر: أسخط ؟ فقال: لا إلا انه أنزل عليه انه لا يبلغ إلا رجل منك. فلما قدم على مكة وكان يوم النحر بعد الظهر وهو يوم الحج الاكبر قام ثم قال: إنى رسول رسول الله اليكم فقرأها عليهم: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الارض اربعة اشهر) عشرين من ذى الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الاول وعشرا من شهر ربيع الاخر، وقال: لا يطوف بالبيت عريان ولا عريانة

[ 163 ]

ولا مشرك بعد هذا العام، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمدته إلى هذه الاربعة اشهر. أقول: المراد تعيين المدة للعهود التى لا مدة لها بقرينة ما سيأتي من الرواية، وأما العهود التى لها مدة فاعتبارها إلى مدتها مدلول لنفس الايات الكريمة. وفي تفسيرى العياشي والمجمع عن ابى بصير عن ابى جعفر عليه السلام قال: خطب على عليه السلام بالناس واخترط سيفه وقال: لا يطوفن بالبيت عريان، ولا يحجن بالبيت مشرك، ومن كانت له مدة فهو إلى مدته، ومن لم يكن له مدة فمدته اربعة اشهر، وكان خطب يوم النحر، وكانت عشرون من ذى الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الاول وعشر من شهر ربيع الاخر، وقال: يوم النحر يوم الحج الاكبر. أقول: والروايات من طرق أئمة اهل البيت عليهم السلام في هذه المعاني فوق حد الاحصاء. وفي الدر المنثور اخرج عبد الله بن احمد بن حنبل في زوائد المسند وأبو الشيخ وابن مردويه عن على رضى الله عنه قال: لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا أبا بكر رضى الله عنه ليقرأها على اهل مكة ثم دعاني فقال لى: ادرك ابا بكر فحيثما لقيته فخذ الكتاب منه. ورجع أبو بكر رضى الله عنه فقال: يا رسول الله نزل في شئ ؟ قال: لا ولكن جبرئيل جاءني فقال: لا يؤدى عنك إلا انت أو رجل منك. وفيه اخرج ابن مردويه عن سعد بن ابى وقاص رضى الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا بكر رضى الله عنه ببراءة إلى اهل مكة ثم بعث عليا رضى الله عنه على أثره فأخذها منه فكأن أبا بكر وجد في نفسه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا أابا بكر إنه لا يؤدى عنى إلا أنا أو رجل منى. وفيه اخرج ابن مردويه عن ابى رافع رضى الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابا بكر رضى الله عنه ببراءة إلى الموسم فأتى جبرئيل عليه السلام فقال: انه لا يؤديها إلا انت أو رجل منك فبعث عليا رضى الله عنه على أثره حتى لحقه بين مكة والمدينة فأخذها فقرأها على الناس في الموسم.

[ 164 ]

وفيه اخرج ابن حبان وابن مردويه عن ابى سعيد الخدرى قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابا بكر رضى الله عنه يؤدى عنه براءة فلما ارسله بعث إلى على رضى الله عنه فقال: يا على لا يؤدى عنى إلا أنا أو انت، فحمله على ناقته العضباء فسار حتى لحق بأبى بكر رضى الله عنه فأخذ منه براءة. فأتى أبو بكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد دخله من ذلك مخافة ان يكون قد انزلت فيه شئ فلما اتاه قال: ما لى يا رسول الله ؟ قال: خير انت أخى وصاحبى في الغار وأنت معى على الحوض غير انه لا يبلغ عنى إلا رجل منى. أقول: وهناك روايات أخرى في معنى ما تقدم، وقد نقل في تفسير البرهان عن ابن شهر اشوب انه رواه الطبرسي، والبلاذري، والترمذي، والواقدى، والشعبى، والسدى، والثعلبي، والواحدي، والقرطبى، والقشيري، والسمعاني، وأحمد بن حنبل، وابن بطة، ومحمد بن اسحاق، وأبو يعلى الموصلي، والاعمش، وسماك بن حرب في كتبهم عن عروة بن الزبير، وأبى هريرة، وانس، وأبى رافع، وزيد بن نفيع، وابن عمر، وابن عباس، واللفظ له: انه لما نزل: (براءة من الله ورسوله) إلى تسع آيات أنفذ النبي صلى الله عليه وآله سلم ابا بكر إلى مكة لادائها فنزل جبرئيل وقال: انه لا يؤديها إلا انت أو رجل منك فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لامير المؤمنين: اركب ناقتي العضباء والحق ابا بكر وخذ براءة من يده. قال: ولما رجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم جزع وقال: يا رسول الله انك أهلتنى لامر طالت الاعناق فيه فلما توجهت إليه رددتني منه ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: الامين هبط إلى عن الله تعالى: انه لا يؤدى عنك إلا انت أو رجل منك، وعلى منى ولا يؤدى عنى إلا على. وفيما نقلناه من الروايات وما تركناه منها وهو اكثر وفيما سيجئ في هذا الباب نكتتان أصليتان. إحداهما: ان بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا ببراءة وعزله ابا بكر انما كان بأمر من ربه بنزول جبرئيل: (انه لا يؤدى عنك الا أنت أو رجل منك) ولم يقيد الحكم في شئ من الروايات ببراءة أو نقض العهد فلم يرد في شئ منها: لا يؤدى براءة أو لا ينقض العهد الا أنت أو رجل منك فلا دليل على تقييده ببراءة على ما وقع في كثير

[ 165 ]

من التفاسير، ويؤيد الاطلاق ما سيأتي. وثانيتهما: ان عليا عليه السلام كما كان ينادى ببراءة، كذلك كان ينادى بحكم آخر وهو ان من كان له مدة فهو إلى مدته ومن لم يكن له مدة فمدته اربعة أشهر: وهذا أيضا مما يدل عليه آيات براءة. وبحكم آخر وهو انه لا يطوفن بالبيت عريان، وهو ايضا حكم إلهى مدلول عليه بقوله تعالى: (يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) الاعراف: 31 وقد ورد في بعض الروايات ذكر الاية مع الحكم كما سيجئ. وحكم آخر انه لا يطوف أو لا يحج البيت مشرك بعد هذا العام وهو مدلول قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) التوبه: 28. وهناك أمر خامس ذكر في بعض روايات الباب انه عليه السلام كان ينادى به وهو انه لا يدخل الجنه إلا مؤمن وهذا وان لم يذكر في سائر الروايات، والاعتبار لا يساعد على ذلك لنزول آيات كثيرة مكية ومدنية في ذلك وخفاء الامر في ذلك على المشركين إلى سنة تسع من الهجرة كالمحال عادة لكن ذلك ايضا مدلول للايات الكريمة (1)، وعلى أي حال لم تكن رسالة على عليه السلام مقصورا على تأدية آيات براءة بل لها ولتبليغ ثلاثة أو اربعة أحكام قرآنية أخرى، والجميع مشمول لما أنزل به جبرئيل عن الله سبحانه على رسوله صلى الله عليه وآله سلم: انه لا يؤدى عنك إلا انت أو رجل منك، إذ لا دليل على تقييد الكلام على إطلاقه أصلا. وفى الدر المنثور أخرج الترمذي وحسنه وابن ابى حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضى الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا بكر رضى الله عنه وأمره ان ينادى بهؤلاء الكلمات ثم اتبعه عليا رضى الله عنه وأمره ان ينادى بها فانطلقا فحجا فقام على رضى الله عنه في ايام التشريق فنادى: ان الله برئ من المشركين ورسوله فسيحوا في الارض اربعة اشهر ولا يحجن بعد العام مشرك،


(1) واما على ما في بعضها بدلا من ذلك: (لا يدخل الكعبة - أو البيت - الا مومن) فالحكم المستفاد منه نظير الحكم بأمه لا يطوفن بالبيت مشرك حكم ابتدائي. (*)

[ 166 ]

ولا يطوفن بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن فكان على رضى الله عنه ينادى بها. أقول: والخبر قريب المضمون مما استفدناه من الروايات. وفيه اخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن ابى حاتم من طريق سعيد بن المسيب عن ابى هريرة ان ابا بكر رضى الله عنه أمره ان يؤذن ببراءة في حجة ابى بكر. قال أبو هريره: ثم اتبعنا النبي صلى الله عليه وآله سلم عليا رضى الله عنه أمره ان يؤذن ببراءة وابو بكر رضى الله عنه على الموسم كما هو - أو قال: على هيئته -. أقول: وقد ورد في عدة من طرق اهل السنة: ان النبي استعمل ابا بكر على الحج عامه ذلك فكان هو امير الحاج وعلى ينادى ببراءة وقد روت الشيعة انه صلى االله عليه وآله وسلم استعمل للامارة عليا كما انه حمله تأدية آيات براءة وقد ذكر ذلك الطبرسي في مجمع البيان ورواه العياشي عن زرارة عن ابى جعفر عليه السلام، وربما تأيد ذلك بما ورد أن عليا كان يقضى في سفره ذلك، وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا له في ذلك إذ من المعلوم ان مجرد الرسالة بتأدية براءة لا تتضمن الحكم بالقضاء بين الناس، وأوفق ما يكون ذلك في تلك الايام بالامارة، والرواية ما سيأتي. في تفسير العياشي عن الحسن عن على عليه السلام ان النبي (ص) حين بعثه ببراءة قال: يا نبى الله إنى لست بلسن ولا بخطيب قال صلى الله عليه وآله وسلم: يأبى الله ما بى إلا ان أذهب بها أو تذهب أنت قال: فإن كان لا بد فسأذهب أنا قال: فانطلق فإن الله يثبت لسانك ويهدي قلبك ثم وضع يده على فمه فقال: انطلق واقرأها على الناس، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: الناس سيتقاضون الهك قإذا أتاك الخصمان فلا تقض لواحد حتى تسمع الاخر فانه أجدر ان تعلم الحق. أقول: وهذا المعنى مروي من طرق الهل السنة كما في الدر المنثور عن ابي الشيخ عن على رضى الله عنه قال: بعثنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن ببراءة فقلت: يا رسول الله تبعثني وأنا غلام حديث السن وأسال عن القضاء ولا أدرى ما اجيب ؟ قال: ما بد من ان تذهب بها أو اذهب بها. قلت: إن كان لابد انا اذهب، قال: انطلق فان الله يثبت لسانك ويهدى قلبك، ثم قال: انطلق واقراها على الناس. إلا أن اشتمال الرواية على لفظ اليمن يسئ الظن بها إذ من البين من لفظ آيات براءة أنها مقرة على اهل مكة يوم الحج الاكبر بمكة وأين ذلك من اليمن وأهلها

[ 167 ]

وكان لفظ الرواية كان: (إلى مكة) فوضع موضعه (إلى اليمن) تصحيحا لما اشتملت عليه من حديث القضاء. وفى الدر المنثور اخرج احمد والنسائي وابن المنذر وابن مردويه عن ابى هريرة قال: كنت مع على رضى الله عنه حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بعث عليا بااربع: لا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد فهو إلى عهده، وان الله ورسوله برئ من المشركين. أقول: وهذا المعنى مروى عن ابى هريرة بعدة طرق بألفاظ مختلفة لا تخلو من شئ في متنها - على ما سيجئ - وأمتن الروايات متنا هذه التى أوردناها. وفيه اخرج احمد والنسائي وابن المنذر وابن مردويه عن ابى هريرة قال: كنت مع على حين بعثه رسول الله إلى اهل مكة ببراءة فكنا ننادى أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد فإن أمره أو أجله إلى اربعة اشهر فإذا مضت الاربعة اشهر فإن الله برئ من المشركين ورسوله ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك. أقول: وفي متن الرواية اضطراب بين، أما اولا: فلاشتمالها على النداء بأنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وقد سبق أنه نزلت في معناه آيات كثيرة مكية ومدنية منذ سنين وقد سمعها الحضرى والبدوي والمشرك والمؤمن فأى حاجة متصورة إلى إبلاغها اهل الجمع. وأما ثانيا: فلان النداء الثاني أعنى قوله: ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد الخ، لا ينطبق لا على مضامين الايات ولا على مضامين الروايات المتظافرة السابقة، على أنه قد جعل فيه البراءة بعد مضى اربعة اشهر. وأما ثالثا: فلما سنذكره ذيلا. وفيه اخرج البخاري ومسلم وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابى هريرة قال: بعثنى أبو بكر رضى الله عنه في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ثم اردف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعلى بن ابى طالب رضى الله عنه فأمره ان يؤذن ببراءة فأذن معنا على في اهل منى يوم النحر ببراءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.

[ 168 ]

وفي تفسير المنارعن الترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث ابا بكر - إلى ان قال - فقام على ايام التشريق فنادى: ذمة الله وذمة رسوله كل مشرك فسيحوا في الارض اربعة اشهر، ولا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا كل مؤمن فكان على ينادى بها فإذا بح قام أبو هريرة فنادى بها. وفيه ايضا عن احمد والنسائي - من طريق محرز بن ابى هريرة عن ابيه قال: كنت مع على حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة ببراءة فكنا ننادى ان لا يدخل الجنة إلا كل نفس مسلمة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج بعد العام مشرك فكنت انادى حتى صحل صوتي. أقول: قد عرفت أن الذى وقع في الروايات على كثرتها في قصة بعث على وعزل ابى بكر من كلمة الوحى الذى نزل به جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو قوله: (لا يؤدى عنك إلا انت أو رجل منك) وكذا ما ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين أجاب ابا بكر لما سأله عن سبب عزله، إنما هو متن ما أوحى إليه الله سبحانه، أو قوله - وهو في معناه -: (لا يؤدى عنى إلا انا أو رجل منى). وكيفما كان فهو كلام مطلق يشمل تأدية براءة وكل حكم إلهى احتاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ان يؤديه عنه مؤد غيره، ولا دليل لا من متون الروايات ولا غيرها يدل على اختصاص ذلك ببراءة، وقد اتضح ان المنع عن طواف البيت عريانا والمنع عن حج المشركين بعد ذلك العام وكذا تأجيل من له عهد إلى مدة أو من غير مدة كل ذلك أحكام إلهية نزل بها القرآن فما معنى ارجاع امرها إلى ابى بكر أو نداء ابى هريرة بها وحده أو ندائه ببراءة وسائر الاحكام المذكورة في الجمع إذا بح على عليه السلام حتى يصحل صوته من كثرة النداء ؟ ولو جاز لابي هريرة ان يقوم بها والحال هذه فلم لم يجز لابي بكرذلك ؟ نعم أبدع بعض المفسرين كإبن كثير وأترابه هنا وجها وجهوا به ما تتضمنه هذه الروايات انتصارا لها وهو ان قوله: (لا يؤدى عنى إلا انا أو رجل منى) مخصوص بتأدية براءة فقط من غير ان يشمل سائر الاحكام التى كان ينادى بها على عليه السلام، وأن تعيينه صلى الله عليه وآله وسلم عليا بتبليغ آيات براءة اهل الجمع إنما هو لما كان من عادة العرب أن لا ينقض العهد إالا عاقده أو رجل من اهل بيته ومراعاة هذه العادة الجارية هي

[ 169 ]

التى دعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يأخذ براءة - وفيها نقض ما للمشركين من عهد - من ابى بكر ويسلمها إلى على ليستحفظ بذلك السنة العربية فيؤديها عنه بعض اهل بيته. قالوا: وهذا معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم لما سأله أبو بكر قائلا: يا رسول الله هل نزل في شئ ؟ قال: (لا ولكن لا يؤدى عنى إلا انا أو رجل منى) ومعناه انى إنما عزلتك ونصبت عليا لذلك لئلا انقض هذه السنة العربية الجارية. ولذلك لم ينفصل أبو بكر من شأنه فقد كان قلده إمارة الحاج وكان لابي بكر مؤذنون يؤذنون بهذه الاحكام كأبى هريرة وغيره من الرجال الذين لم يذكر أسماؤهم في الروايات، وكان على احد من عنده لهذا الشأن، ولذا ورد في بعضها: انه خطب بمنى ولما فرغ من خطبته التفت إلى على وقال: قم يا على وأد رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا ما ذكروه ووجهوا به الروايات. والباحث الناقد إذا راجع هذه الايات والروايات ثم تأمل ما جرت من المشاجرات الكلامية بين الفريقين: أهل السنة والشيعة في باب الافضلية لم يرتب في انهم خلطوا بين البحث التفسيرى الذى شانه تحصيل مداليل الايات القرآنية، والبحث الروائي الذى شانه نقد معاني الاحاديث وتمييز غثها من سمينها، وبين البحث الكلامي الناظر في ان ابا بكر افضل من على أو عليا افضل من ابى بكر ؟ وفي أن إمارة الحاج افضل أو الرسالة في تبليغ آيات براءة ؟ ولمن كان إماره الحج إذ ذاك لابي بكر أو لعلى ؟ أما البحث الكلامي فلسنا نشتغل به في هذا المقام فهو خارج عن غرضنا، وأما البحث الروائي أو التفسيرى فيما يرتبط به الايات إلى اسباب نزولها مما يتعلق بمعاني الايات فالذي ينبغى ان يقال بالنظر إليه انهم أخطاوا في هذا التوجيه. فليت شعرى من اين تسلموا ان هذه الجملة التى نزل بها جبرئيل: (انه لا يؤدى عنك إلا انت أو رجل منك) مقيدة بنقض العهد لا يدل على ازيد من ذلك، ولا دليل عليه من نقل أو عقل فالجملة ظاهرة أتم ظهور في أن ما كان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان يؤديه لا يجوز ان يؤديه إلا هو أو رجل منه سواه، كان نقض عهد من جانب الله كما في مورد براءة أو حكما آخر إلهيا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يؤديه ويبلغه. وهذا غير ما كان من اقسام الرسالة منه صلى الله عليه وآله وسلم مما ليس عليه ان يؤديه بنفسه

[ 170 ]

الشريفة كالكتب التى ارسل بها إلى الملوك والامم والاقوام في الدعوة إلى الاسلام وكذا سائر الرسالات التى كان يبعث بها رجالا من المؤمنين إلى الناس في امور يرجع إلى دينهم والامارات والولايات ونحو ذلك. ففرق جلى بين هذه الامور وبين براءة ونظائرها فان ما تتضمنه آيات براءة وأمثال النهى عن الطواف عريانا، والنهى عن حج المشركين بعد العام أحكام إلهية ابتدائية لم تبلغ بعد ولم تؤد إلى من يجب ان تبلغه، وهم المشركون بمكة والحجاج منهم، ولا رسالة من الله في ذلك إلا لرسوله، وأما سائر الموارد التى كان يكتفى النبي (ص) ببعث الرسل للتبليغ فقد كانت مما فرغ (ص) فيها من اصل التبليغ والتادية، بتبليغه من وسعه تبليغه ممن حضر كالدعوة إلى الاسلام وسائر شرائع الدين وكان يقول: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب) ثم إذا مست الحاجة إلى تبليغه بعض من لا وثوق عادة ببلوغ الحكم إليه أو لا أثر لمجرد البلوغ إلا ان يعتنى لشانه بكتاب أو رسول أو توسل عند ذلك إلى رسالة أو كتاب كما في دعوة الملوك. وليتامل الباحث المنصف قوله: (لا يؤدى عنك إلا انت أو رجل منك) فقد قيل: (لا يؤدى عنك إلا انت) ولم يقل: (لا يؤدى إلا انت أو رجل منك) حتى يفيد اشتراك الرسالة، ولم يقل: (لا يؤدى منك إلارجل منك) حتى يشمل سائر الرسالات التى كان (ص) يقلدها كل من كان من صالحي المؤمنين فانما مفاد قوله: (لا يؤدى عنك إلا انت أو رجل منك) أن الامور الرسالية التى يجب عليك نفسك ان تقوم بها لا يقوم بها غيرك عوضا منك إلا رجل منك أي لا يخلفك فيما عليك كالتادية الابتدائية إلا رجل منك. ثم ليت شعرى ما الذى دعاهم إلى ان اهملوا كلمة الوحى التى هي قول الله نزل به جبرئيل على النبي (ص): (لا يؤدى عنك إلا انت أو رجل منك وذكروا مكانها أنه (كانت السنة الجارية عند العرب ان لا ينقض العهد إلا عاقده أو رجل من اهل بيته) تلك السنة العربية التى لا خبر عنها في ايامهم ومغازيهم ولا أثر إلا ما ذكره ابن كثير ونسبه إلى العلماء عند البحث عن آيات براءة. ! ثم لو كانت سنة عربية جاهلية على هذا النعت فما وزنها في الاسلام وما هي قيمتها عند النبي (ص) وقد كان ينسخ كل يوم سنة جاهلية وينقض كل حين عادة قومية، ولم تكن من جملة الاخلاق الكريمة أو السنن والعادات النافعة بل سليقة قبائلية تشبه

[ 171 ]

سلائق الاشراف وقد قال (ص) يوم فتح مكة عند الكعبة على ما رواه اصحاب السير: (ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمى هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج). ثم لو كانت سنة عربية غير مذمومة فهل كان رسول الله (ص) ذهل عنها ونسيها حين اسلم الايات إلى ابى بكر وأرسله، وخرج هو إلى مكة حتى إذا كان في بعض الطريق ذكر (ص) ما نسيه أو ذكره بعض من عنده بما اهمله وذهل عنه من أمر كان من الواجب مراعاته ؟ وهو (ص) المثل الاعلى في مكارم الاخلاق واعتبار ما يجب ان يعتبر من الحزم وحسن التدبير، وكيف جاز لهؤلاء المذكرين ان يغفلواعن ذلك وليس من الامور التى يغفل عنها وتخفى عادة فإنما الذهول عنه كغفلة المقاتل عن سلاحه ؟ وهل كان ذلك بوحى من الله إليه أنه يجب له ان لا يلغى هذه السنة العربية الكريمة، وأن ذلك أحد الاحكام الشرعية في الباب وأنه يحرم على ولى أمر المسلمين ان ينقض عهدا إلا بنفسه أو بيد احد من اهل بيته ؟ وما معنى هذا الحكم ؟ أو أنه حكم اخلاقي اضطر إلى اعتباره لما أن المشركين ما كانوا يقبلون هذا النقض إلا بأن يسمعوه من النبي (ص) نفسه أو من احد من اهل بيته ؟ وقد كانت السيطرة يومئذ له (ص) عليهم، والزمام بيده دونهم، والابلاغ إبلاغ. أو أن المؤمنين المخاطبين بقوله: (عاهدتم) وقوله: (وأذان من الله ورسوله إلى الناس) وقوله: (فاقتلوا المشركين) ما كانوا يعتبرون هذا النقض نقضا دون ان يسمعوه منه صلى الله عليه وآله وسلم أو من واحد من اهل بيته وإن علموا بالنقض إذا سمعوا الايات من ابى بكر ؟ ولو كان كذلك فكيف قبله واعتبره نقضا من سمعه من ابى هريرة الذى كان ينادى به حتى صحل صوته ؟ وهل كان أبو هريرة أقرب إلى على وأمس به من ابى بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فالحق أن هذه الروايات الحاكية لنداء ابى هريرة وغيره غير سديدة لا ينبغى الركون إليها. قال صاحب المنار في تفسيره: جملة الروايات تدل على أن النبي (ص) جعل ابا بكر أميرا على الحج سنة تسع، وأمره ان يبلغ المشركين الذين يحضرون الحج أنهم يمنعون منه بعد ذلك العام ثم اردفه بعلى ليبلغهم عنه نبذ عهودهم المطلقة وإعطاءهم مهلة اربعة اشهر لينظروا في أمرهم، وأن العهود الموقتة أجلها نهاية وقتها، ويتلو عليهم الايات المتضمنة لمسألة نبذ العهود وما يتعلق بها من اول سورة براءة.

[ 172 ]

وهى اربعون أو ثلاث وثلاثون آية، وما ذكر في بعض الروايات من التردد بين ثلاثين وأربعين فتعبير بالاعشار مع إلغاء كسرها من زيادة ونقصان. وذلك لان من عادة العرب أن العهود ونبذها إنما تكون من عاقدها أو احد عصبته القريبة، وأن عليا كان مختصا بذلك مع بقاء إمارة الحج لابي بكر الذى كان يساعده على ذلك ويأمر بعض الصحابة كأبى هريرة بمساعدته. انتهى. وقال ايضا: إن بعض الشيعة يكبرون هذه المزية لعلى عليه السلام كعادتهم ويضيفون إليها ما لا تصح به رواية، ولا تؤيده دراية فيستدلون بها على تفضيله على أبى بكر رضى الله عنهما وكونه أحق بالخلافه منه، ويزعمون ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عزل ابا بكر من تبليغ سورة براءة لان جبرئيل أمره بذلك، وانه لا يبلغ عنه إلا هو أو رجل منه ولا يخصون هذا النفى بتبليغ نبذ العهود وما يتعلق به بل يجعلونه عاما لامر الدين كله. مع استفاضة الاخبار الصحيحة بوجوب تبليغ الدين على المسلمين كافة كالجهاد في حمايته والدفاع عنه، وكونه فريضة لا فضيلة فقط ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع على مسمع الالوف من الناس: (ألا فليبلغ الشاهد الغائب) وهو مكرر في الصحيحين وغيرهما، وفي بعض الروايات عن ابن عباس: فو الذى نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته (فليبلغ الشاهد الغائب) الخ وحديث: (بلغوا عنى ولو آية) رواه البخاري في صحيحه والترمذي، ولو لا ذلك لما انتشر الاسلام ذلك الانتشار السريع في العالم. بل زعم بعضهم - كما قيل - انه صلى الله عليه وآله وسلم عزل ابا بكر من إمارة الحج وولاها عليا، وهذا بهتان صريح مخالف لجميع الروايات في مسالة عملية عرفها الخاص والعام. والحق ان عليا كرم الله وجهه كان مكلفا بتبليغ أمر خاص، وكان في تلك الحجة تابعا لابي بكر في إمارته العامة في إقامة ركن الاسلام الاجتماعي العام حتى كان أبو بكر يعين له الوقت الذى يبلغ ذلك فيه فيقول: يا على قم فبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدم التصريح به في الروايات الصحيحة كما أمر بعض الصحابة بمساعدته على هذا التبليغ كما تقدم في حديث ابى هريرة في الصحيحين وغيرهما. ثم ساق الكلام واستدل بإمارة ابى بكر في تلك الحجة - وضم إليها صلاته موضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبيل وفاته - على تقدمه وأفضليته من جميع الصحابة على من سواه انتهى.

[ 173 ]

أما قوله: مع استفاضة الاخبار بوجوب تبليغ الدين على المسلمين كافة إلى آخر ما قال فيكشف عن انه لم يحصل معنى كلمة الوحى: (لا يؤدى عنك إلا انت أو رجل منك) حق التحصيل، ولم يفرق بين قولنا: (لا يؤدى منك إلا رجل منك) وبين قوله: (لا يؤدى عنك إلا أنت أو رجل منك) فزعم ان الكلام بإطلاقه يمنع عن كل تبليغ دينى يتصداه غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو رجل منه فدفع ذلك باستفاضة الاخبار بوجوب تبليغ الدين على المسلمين كافة وقيد به إطلاق قوله: (لا يؤدى عنك) الخ فجعله خاصا بتبليغ نبذ العهد بعد تحويل الحكم الالهى إلى سنة عربية جاهلية. وقد ساقه اشتباه معنى الكلمة إلى ان زعم ان إبقاء الكلام على إطلاقه منشأه الغفلة عن أمر هو كالضروري عند عامة المسلمين أعنى وجوب التبليغ العام حتى استدل على ذلك بما في الصحيحين وغيرهما من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فليبلغ الشاهد الغائب)، وقد عرفت ما هو حق المعنى لكلمة الوحى. وأما قوله: (بل زعم بعضهم كما قيل انه عزل ابا بكر من إمارة الحج وولاها عليا وهذا بهتان صريح مخالف لجميع الروايات في مسألة عملية عرفها العام والخاص) فليس ذلك زعما من البعض ولا بهتانا كما بهته بل رواية روتها الشيعة وقد أوردناها في ضمن الروايات المتقدمة. وليس التوغل في مسألة الامارة مما يهمنا في تفهم معنى قوله: (لا يؤدى عنك إلا انت أو رجل منك) فإمارة الحاج سواء صحت لابي بكر أو لعلى، دلت على فضل أو لم تدل إنما هي من شعب الولاية الاسلامية العامة التى شأنها التصرف في امور المجتمع الاسلامي الحيوية، وإجراء الاحكام والشرائع الدينية، ولا حكومة لها على المعارف الالهية ومواد الوحى النازلة من السماء في أمر الدين. إنما هي ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينصب يوما أبا بكر أو عليا لامارة الحاج، ويؤمر يوما أسامة على أبى بكر وعامة الصحابة في جيشه، ويولى يوما ابن ام مكتوم على المدينة وفيها من هو أفضل منه، ويولى هذا مكة بعد فتحها، وذاك اليمن، وذلك أمر الصدقات، وقد استعمل صلى الله عليه وآله وسلم ابا دجانة الساعدي أو سباع بن عرفطة الغفاري على ما في سيرة ابن هشام على المدينة عام حجة الوداع، وفيها أبو بكر لم يخرج إلى الحج على ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم وإنما تدل على إذعانه صلى الله عليه وآله وسلم بصلاحية من نصبه لامر لتصديه وإدارة رحاه.

[ 174 ]

وأما الوحى السماوي بما يشتمل عليه من المعارف والشرائع فليس للنبى صلى الله عليه وآله وسلم ولا لمن دونه صنع فيه، ولا تأثير فيه مما له من الولاية العامة على امور المجتمع الاسلامي بإاطلاق أو تقييد أو امضاء أو نسخ أو غير ذلك، ولا تحكم عليه سنة قومية أو عادة جارية حتى توجب تطبيقه على ما يوافقها أو قيام العصبة مقام الانسان فيما يهمه من امر. والخلط بين البابين يوجب نزول المعارف الالهية من أوج علوها وكرامتها إلى حضيض الافكار الاجتماعية التى لا حكومة فيها إلا للرسوم والعادات والاصطلاحات، فيعود الانسان يفسر حقائق المعارف بما يسعه الافكار العامية ويستعظم ما استعظمه المجتمع دون ما عظمه الله، ويستصغر ما استصغره الناس حتى يقول القائل في معنى كلمة الوحى إنه عادة عربية محترمة. وأنت إذا تأملت هذه القصة - اخذ آيات براءة من ابى بكر وإعطاءها عليا على ما تقصها الروايات - وجدت فيها من مساهلة الرواة وتوسعهم في حفظ القصة بما لها من الخصوصيات - إن لم يستند إلى غرض آخر - امرا عجيبا ففى بعضها - وهو الاكثر - انه صلى الله عليه وآله وسلم بعث ابا بكر بالايات ثم بعث عليا وأمره ان يأخذها منه ويتلوها على الناس فرجع أبو بكر الخ، وفي بعضها انه بعث ابا بكر بإمارة الحج ثم بعث عليا بعده بآيات براءة، وفي بعضها: ان ابا بكر امره بالتبليغ وأمر بعض الصحابة ان يشاركه في النداء حتى آل الامر إلى مثل ما رواه الطبري وغيره عن مجاهد في قوله تعالى: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) إلى اهل العهد خزاعة ومدلج ومن كان له عهد وغيرهم. أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ منها فأراد الحج ثم قال: انه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة فلا احب ان احج حتى لا يكون ذلك فأرسل أبا بكر وعليا فطافا في الناس بذى المجاز وبأمكنتهم التى كانوا يبيعون بها وبالموسم كله فآذنوا اصحاب العهد ان يأمنوا اربعة اشهر وهى الاشهر الحرم المنسلخات المتواليات: عشرون من آخر ذى الحجة إلى عشر تخلو من ربيع الاول (1) ثم عهد لهم وآذن الناس كلهم بالقتال إلى ان يموتوا. وإذا كان هذا هو الحال فما معنى قوله: (بهتان صريح مخالف لجميع الروايات


(1) كذا. (*)

[ 175 ]

في مساله عمليه - عرفها العام والخاص فان كان يعنى عرفها العام والخاص في عصر النبي ص ممن شاهد الامر أو سمع ذلك ممن شاهده ووصفه فما ذا ينفعنا ذلك. وان كان يعنى ان العام والخاص ممن يلى عهد النبي ص أو يلى من يليه عرفا ذلك ولم يشك احد في ذلك فهذا حال الروايات المنقولة عنهم لا يجتمع على كلمه. منها ما يحكى ان عليا اختص بتاديه براءه واخرى تدل على ان ابا بكر شاركه فيه واخرى تدل على ان ابا هريره شاركه في التاديه ورجال آخرون لم يسموا في الروايات. ومنها ما يدل على ان الايات كانت تسع آيات واخرى عشرا واخرى ست عشره واخرى ثلاثين واخرى ثلاثا وثلاثين واخرى سبعا و ثلاثين واخرى اربعين واخرى سوره براءه. ومنها ما يدل على ان ابا بكر ذهب لوجهه اميرا على الحاج واخرى على انه رجع حتى اوله بعضهم كابن كثير انه رجع بعد اتمام الحج وآخرون انه رجع ليسال النبي ص عن سبب عزله وفي روايه انس الاتية انه ص بعث ابا بكر ببراءه ثم دعاه فاخذها منه. ومنها ما يدل على ان الحجه وقعت في ذى الحجه وان يوم الحج الاكبر تمام ايام تلك الحجه أو يوم عرفه أو يوم النحر أو اليوم التالى ليوم النحر أو غير ذلك و اخرى ان ابا بكر حج في تلك السنه في ذى القعدة. ومنها ما يدل على ان اشهر السياحه تأخذ من شوال واخرى من ذى القعدة واخرى من عاشر ذى الحجه واخرى من الحادى عشر من ذى الحجه وغير ذلك. ومنها ما يدل على ان الاشهر الحرم هي ذو القعدة وذو الحجه والمحرم من تلك السنه واخرى على انها اشهر السياحه تبتدئ من يوم التبليغ أو يوم النزول. فهذا حال اختلاف الروايات ومع ذلك كيف يستقيم دعوى انه امر عرفه العام والخاص وبعض المحتملات السابقة و ان كان قولا من مفسري السلف الا ان المفسرين يعاملون اقوالهم معامله الروايات الموقوفة. واما قوله والحق ان عليا كان مكلفا بتبليغ امر خاص و كان في تلك الحجه

[ 176 ]

تابعا لابي بكر في امارته إلى آخر ما قال فلا ريب ان الذى بعث به النبي ص عليا من الاحكام كان امرا خاصا وهو تلاوه آيات براءه وسائر ما يلحق بها من الامور الاربعة المتقدمه غير ان الكلام في ان كلمه الوحى لا يؤدى عنك الا انت أو رجل منك لا تختص في دلالتها بتاديه آيات براءه على ما تقدم بيانه فلا ينبغى الخلط بين ما يدل عليه الكلمه وبين ما امر به على في خصوص تلك السفره. واما قوله وكان في تلك الحجه تابعا الخ فامر استفاده من كلام ابى هريره وما يشبه وقد عرفت الكلام فيه. وفي الدر المنثور اخرج ابن ابى شيبه واحمد والترمذي وحسنه وابو الشيخ وابن مردويه عن انس رضى الله عنه قال: بعث النبي ص ببراءه مع ابى بكر رضى الله عنه - ثم دعاه فقال لا ينبغى لاحد ان يبلغ هذا - الا رجل من اهلي فدعا عليا فاعطاه اياه. اقول ذكر صاحب المنار في بعض كلامه ان قوله ص أو رجل منى في روايه السدى قد فسرتها الروايات الاخرى عند الطبري وغيره بقوله ص أو رجل من اهل بيتى وهذا النص الصريح يبطل تأويل كلمه منى بان معناها ان نفس على كنفس رسول الله ص وانه مثله وانه افضل من كل اصحابه انتهى. و الذى اشار إليه من الروايات هو ما رواه قبلا بقوله واخرج احمد بسند حسن عن انس ان النبي ص بعث ببراءه مع ابى بكر فلما بلغ ذا الحليفه قال لا يبلغها الا انا أو رجل من اهل بيتى فبعث بها مع على. وهذه بعينها على ما لا يخفى هي الرواية السابقة التى اوردناها عن انس وقد وقع فيها أو رجل من اهلي وان اختلف لفظا الروايتين بما عملت فيهما يد النقل بالمعنى. واول ما في كلامه ان اللفظ أو رجل منى لم يقع الا في روايه واحده موقوفه هي روايه السدى التى استضعفها قبيل ذلك بل الاصل في ذلك كلمه الوحى التى اثبتتها معظم الروايات الصحيحه على بلوغ كثرتها والروايات الاخر المشتملة على قوله من اهل بيتى وهو يستكثرها انما هي روايه انس على ما عثرنا عليها وقد وقع في بعض الفاظها قوله من اهلي مكان من اهل بيتى.

[ 177 ]

والثانى ان الرواية كما اتضح لك منقوله بالمعنى ومع ذلك لا يصلح ما وقع فيها من بعض الالفاظ لتفسير ما اتفقت عليه معظم الروايات الصحيحه الواردة من طرق الفريقين من لفظ الوحى المنقول فيها. على ان قوله من اهل بيتى في هذه لو صلح لتفسير ما وقع في سائر الروايات من لفظ رجل منك أو رجل منى لكان الواقع في روايه في سائر الروايات من لفظ رجل منك أو رجل منى لكان الواقع في روايه ابى سعيد الخدرى السابقة من قوله ع يا على انه لا يؤدى عنى الا انا أو انت مفسرا لما في روايه انس الا رجل من اهل بيتى أو الا رجل من اهلي و ما في سائر الروايات الا رجل منك أو الا رجل منى. فيعود هذه الالفاظ كنايه عن شخص على ع بل الكنايه بما لها من المعنى مشيره إلى انه من نفس النبي ع و من اهله ومن اهل بيته جميعا وهذا عين ما فر منه وزياده. والثالث ان استفاده كونه ع بمنزله نفسه ع ليست بمستنده إلى مجرد قوله ص رجل منى كما حسبه فان مجرد قول القائل فلان منى لا يدل على تنزيله منزلته في جميع شؤون وجوده ومماثلته اياه وانما يدل على نوع من الاتصال والاتباع كما في قول ابراهيم ع فمن تبعني فانه منى: ابراهيم - 36 الا بنوع من القرينه الداله على عنايه كلاميه كقوله تعالى ومن يتولهم منكم فانه منهم. بل انما استفيد ذلك من قوله رجل منى أو رجل منك بمعونة قوله لا يؤدى عنك الا انت على البيان الذى تقدم وعلى هذا فلو كان هناك قوله لا يؤدى عنى الا رجل من اهلي أو رجل من اهل بيتى لاستفيد منه عين ما استفيد من قوله لا يؤدى عنك الا انت أو رجل منك وقوله لا يؤدى عنى الا انا أو رجل منى مضافا إلى انه ص عده منه في خطابه ابا بكر وهو ايضا منه بالاتباع.

[ 178 ]

والرابع انه اهمل في البحث الروايات الصحيحه المستفيضه أو المتواتره التى تدل على ان اهل بيت النبي ص هم على وفاطمة والحسنان على ما تقدم في اخبار آيه المباهلة وسيجئ معظمها في اخبار آيه التطهير ان شاء الله تعالى. ولا رجل في اهل بيته ص الا على ع فيؤول الامر إلى كون اللفظ كنايه عن على ع فيرجع إلى ما تقدم من الوجه. واما ما احتمله من المعنى فهو ان المراد باهل بيته عامه اقربائه من بنى هاشم أو بنو هاشم ونساؤه فينزل اللفظ منزله عاديه من غير ان يحمل شيئا من المزية والمعنى لا يؤدى نبذ العهد عنى الا رجل من بنى هاشم والقوم يرجعون غالبا في مفاهيم امثال هذه الالفاظ إلى ما يعطيه العرف اللغوى في ذلك من غير توجه إلى ما اعتبره الشرع وقد تقدم نظير ذلك في معنى الابن والبنت حيث حسبوا ان كون ابن البنت ابنا للرجل و عدمه مرجعه إلى بحث لغوى يعين كون الابن يصدق بحسب الوضع اللغوى على ابن البنت مثلا أو لا يصدق عليه وجميع ذلك يرجع إلى الخلط بين الابحاث اللفظيه والابحاث المعنوية وكذا الخلط بين الانظار الاجتماعية والانظار الدينيه السماوية على ما تقدمت الاشاره إليه. واعجب من الجميع قوله وهذا النص الصريح يبطل تأويل كلمه منى فان مراده بدلاله السياق ان كلمه من اهل بيتى نص صريح في ان المراد برجل منى رجل من بنى هاشم ولا ندرى أي نصوصيه أو صراحه لكلمه اهل البيت في بنى هاشم بعد ما تكاثرت الروايات ان اهل بيت النبي ص هم على وفاطمة والحسنان ع ثم في قوله اهل بيتى بمعنى بنى هاشم ان المراد بكلمه منى هو ذلك. وفي تفسير العياشي عن زراره وحمران ومحمد بن مسلم عن ابى جعفر وابى عبد الله ع: فسيحوا في الارض اربعه اشهر - قال عشرين من ذى الحجه والمحرم و صفر - وشهر ربيع الاول وعشرا من ربيع الاخر. اقول وقد استفاضت الروايات من طرق الشيعه عن ائمه اهل البيت ع ان المراد من الاربعة الاشهر هو ذلك روى ذلك الكليني والصدوق والعياشي والقمى وغيرهم في كتبهم وروى ذلك من طرق اهل السنه وهناك روايات اخرى

[ 179 ]

من طرقهم في غير هذا المعنى حتى وقع في بعضها ان ابا بكر حج بالناس عام تسع في شهر ذى القعدة وهى غير متايده ولذلك اغمضنا عنها. وفي تفسير العياشي عن حكيم بن جبير عن على بن الحسين ع: في قوله تعالى و اذان من الله ورسوله - قال الاذان امير المؤمنين ع اقول وروى هذا المعنى ايضا عن حريز عن ابى عبد الله ع وعن جابر عن جعفر بن محمد وابى جعفر ع ورواه القمى عن ابيه عن فضاله عن ابان بن عثمان عن حكيم بن جبير عن على بن الحسين ع قال وفي حديث آخر قال: كنت انا الاذان في الناس: ورواه الصدوق ايضا باسناده عن حكيم عنه ع ورواه في الدر المنثور عن ابن ابى حاتم عن حكيم بن حميد عن على بن الحسين ع وقال في تفسير البرهان قال السدى وابو مالك وابن عباس وزين العابدين: الاذان هو على بن ابى طالب فادى به وفي تفسير البرهان عن الصدوق باسناده عن الفضيل بن عياض عن ابى عبد الله ع قال: سألته عن الحج الاكبر - فقال عندك فيه شئ فقلت نعم - كان ابن عباس يقول الحج الاكبر يوم عرفه - يعنى انه من ادرك يوم عرفه - إلى طلوع الشمس من يوم النحر فقد ادرك الحج - ومن فاته ذلك فاته الحج - فجعل ليله عرفه لما قبلها ولما بعدها - والدليل على ذلك - انه من ادرك ليله النحر إلى طلوع الفجر - فقد ادرك الحج واجزي عنه من عرفه - فقال أبو عبد الله ع قال امير المؤمنين ع - الحج الاكبر يوم النحر واحتج بقول الله عز وجل - فسيحوا في الارض اربعه اشهر - فهى عشرون من ذى الحجه والمحرم وصفر - وشهر ربيع الاول وعشر من شهر ربيع الاخر - ولو كان الحج الاكبر يوم عرفه لكان السيح اربعه اشهر ويوما - واحتج بقوله عزوجل - واذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الاكبر - وكنت انا الاذان في الناس - قلت فما معنى هذه اللفظه الحج الاكبر - فقال انما سمى الاكبر - لانها كانت سنه حج فيها المسلمون و المشركون - ولم يحج المشركون بعد تلك السنه بيان وفيه عنه باسناده عن معاويه بن عمار قال: سالت ابا عبد الله ع عن يوم

[ 180 ]

الحج الاكبر - فقال يوم النحر والاصغر العمرة. اقول وفي الرواية مضافا إلى تفسير اليوم بيوم النحر اشاره إلى وجه تسميه الحج بالاكبر وقد اطبقت الروايات عن ائمه اهل البيت ع الا ما شذ على ان المراد بيوم الحج الاكبر في الايه هو يوم الاضحى عاشر ذى الحجه وهو يوم النحر ورووا ذلك عن على ع. و روى هذه الرواية الكليني في الكافي عن على بن ابراهيم عن ابيه عن ابن ابى عمير عن معاويه بن عمار عن ابى عبد الله ع وروى ذلك ايضا باسناده عن ذريح عنه ع وكذا الصدوق باسناده إلى ذريح عنه ع ورواه العياشي عن عبد الرحمن و ابن اذينه والفضيل بن عياض عنه ع. وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن ابن ابى اوفى عن النبي ص: انه قال يوم الاضحى هذا يوم الحج الاكبر وفيه ايضا اخرج البخاري تعليقا وابو داود وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابو الشيخ وابن مردويه وابو نعيم في الحليه عن ابن عمر: ان رسول الله ص وقف يوم النحر بين الجمرات - في الحجه التى حج فقال أي يوم هذا - قالوا يوم النحر - قال هذا يوم الحج الاكبر. اقول وروى ذلك بطرق مختلفه عن على ع وابن عباس ومغيره بن شعبه وابى جحيفه وعبد الله بن ابى اوفى وقد روى بطرق مختلفه اخرى عن النبي ص انه يوم عرفه و كذا روى ذلك عن على وابن عباس وابن الزبير وروى عن سعيد بن المسيب انه اليوم التالى ليوم النحر وروى انه ايام الحج كلها وروى انه الحج في العام الذى حج فيها أبو بكر وهذا الوجه الاخير لا يابى الانطباق على ما تقدم من الحديث عن الصادق ع: انه سمى الحج الاكبر - لما حج في تلك السنه المسلمون والمشركون جميعا وفي تفسير العياشي عن زراره عن ابى جعفر ع: في قول الله فإذا انسلخ الاشهر الحرم - فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم - قال هي يوم النحر إلى عشر مضين من شهر ربيع الاخر

[ 181 ]

وفي الدر المنثور: في قوله تعالى فان تابوا واقاموا الصلاه وآتوا الزكاة: اخرج الحاكم وصححه عن مصعب بن عبد الرحمن عن ابيه رضى الله عنه قال: افتتح رسول الله ص مكه - ثم انصرف إلى الطائف فحاصرهم ثمانيه أو سبعه - ثم ارتحل غدوه وروحه ثم نزل ثم هجر - ثم قال ايها الناس انى لكم فرط - وانى اوصيكم بعترتي خيرا موعدكم الحوض - والذى نفسي بيده لتقيمن الصلاه - ولتؤتن الزكاة أو لابعثن عليكم رجلا منى أو كنفسي - فليضربن اعناق مقاتلهم وليسبين ذراريهم - فراى الناس انه يعنى ابا بكر أو عمر رضى الله عنهما - فاخذ بيد على رضى الله عنه فقال هذا. اقول يعنى ص به الكفر. وفي تفسير العياشي في حديث جابر عن ابى جعفر ع: فان تابوا يعنى فان آمنوا فاخوانكم في الدين وفي تفسير القمى: في قوله تعالى - وان احد من المشركين استجارك فاجره الايه - قال قال اقرا عليه وعرفه - ثم لا تتعرض له حتى يرجع إلى مامنه وفي تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب عن تفسير القشيرى: ان رجلا قال لعلى يا ابن ابى طالب - فمن اراد منا ان يلقى رسول الله في بعض الامر - من بعد انقضاء الاربعة فليس له عهد - قال على بلى لان الله قال - وان احد من المشركين استجارك فاجره الايه وفي الدر المنثور ": في قوله تعالى - وان نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم الايه ": اخرج ابن ابى شيبه وابن ابى حاتم وابو الشيخ وابن مردويه عن حذيفه رضى الله عنه ": انهم ذكروا عنده هذه الايه - فقال ما قوتل اهل هذه الايه بعد وفيه اخرج ابن ابى شيبه والبخاري وابن مردويه عن زيد بن وهب: في قوله فقاتلوا ائمه الكفر - قال كنا عند حذيفه رضى الله عنه فقال - ما بقى من اصحاب هذه الايه الا ثلاثه - ولا من المنافقين الا اربعه - فقال اعرابي انكم اصحاب محمد - تخبروننا بامور لا ندرى ما هي - فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا ويسرقون اعلاقنا - قال اولئك الفساق - اجل لم يبق منهم الا اربعه - احدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده

[ 182 ]

وفي قرب الاسناد للحميري حدثنى عبد الحميد وعبد الصمد بن محمد جميعا عن حنان بن سدير قال سمعت ابا عبد الله ع يقول: دخل على اناس من اهل البصره - فسألوني عن طلحه والزبير - فقلت لهم كانوا من ائمه الكفر - ان عليا يوم البصره لما صف الخيل - قال لاصحابه لا تعجلوا على القوم - حتى اعذر فيما بينى وبين الله وبينهم - فقام إليهم فقال يا اهل البصره - هل تجدون على جورا في حكم قالوا لا - قال فحيفا في قسم قالوا لا - قال فرغبه في دنيا اخذتها لى ولاهل بيتى دونكم - فنقمتم على فنكثتم بيعتى قالوا لا - قال فاقمت فيكم الحدود و عطلتها في غيركم قالوا لا - قال فما بال بيعتى تنكث وبيعه غيرى لا تنكث - انى ضربت الامر انفه وعينه - فلم اجد الا الكفر أو السيف - ثم ثنى إلى اصحابه فقال - ان الله تبارك وتعالى يقول في كتابه - وان نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر انهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون) فقال امير المؤمنين عليه السلام: والذى فلق الحبة وبرء النسمة واصطفى محمدا بالنبوة إنهم لاصحاب هذه الاية وما قوتلوا مذ نزلت. أقول: ورواه العياشي عن حنان بن سدير عنه عليه السلام. وفي أمالى المفيد بإسناده عن ابى عثمان مؤذن بنى قصى قال: سمعت على بن ابى طالب عليه السلام حين خرج طلحة والزبير على قتاله: عذرني الله من طلحة والزبير، بايعانى طائعين غير مكرهين ثم نكثا بيعتى من غير حدث احدثته ثم تلا هذه الاية: (وان نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر انهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون). أقول: ورواه العياشي في تفسيره عن ابى عثمان المؤذن وابى الطفيل والحسن البصري مثله، ورواه الشيخ في اماليه عن ابى عثمان المؤذن. وفي حديثه قال بكير: فسألت عنها ابا جعفر عليه السلام فقال: صدق الشيخ هكذا قال على. هكذا كان. وفي الدر المنثور اخرج ابن اسحاق والبيهقي في الدلائل عن مروان بن الحكم


(1) كانا ظ.

[ 183 ]

والمسور بن مخرمة قالا: كان في صلح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية بينة وبين قريش ان من شاء ان يدخل في عقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعهده دخل فيه، ومن شاء ان يدخل في عهد قريش وعقدهم دخل فيه فتواثبت خزاعة فقالوا: ندخل في عهد محمد وعقده. وتواثبت بنو بكر فقالوا: ندخل في عقد قريش وعهدهم فمكثوا في تلك الهدنة نحو السبعة عشر أو الثمانية عشر شهرا. ثم ان بنى بكر الذين كانوا دخلوا في عقد قريش وعهدهم وثبوا على خزاعة الذين دخلوا في عقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعهده ليلا بماء لهم يقال له: الوتير قريب من مكة فقالت قريش ما يعلم بنا محمد وهذا الليل وما يرانا احد فأعانوهم عليهم بالكراع والسلاح فقاتلوهم معهم للضغن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وركب عمرو بن سالم عند ما كان من امر خزاعة وبنى بكر بالوتير حتى قدم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأبيات انشده اياها: يا رب (1) انى ناشد محمدا * حلف أبينا وأبيه الا تلدا قد كنتم ولدا وكنا والدا * ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا فانصر هداك الله نصرا أعتدا * وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا * إن سيم خسفا وجهه تربدا في فيلق كالبحر يجرى مزبدا * إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا * وجعلوا لى في كداء رصدا وزعموا أن لست أدعو أحدا * وهم أذل وأقل عددا هم بيتونا بالوتير هجدا * وقتلونا ركعا وسجدا (2) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نصرت يا عمرو بن سالم فما برح حتى مرت غمامة في السماء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن هذه السحابة لتشهد (3) بنصر بنى كعب، وأمر رسول الله صلى الله عليه السلام الناس بالجهاد وكتمهم مخرجه، وسأل الله ان يعمى على قريش خبره حتى يبغتهم في بلادهم.


(1) في الدر المنثور: لاهم. (2) الابيات منقولة على ما يطابق نسخة السيرة لابن هشام لكثرة الغلط في نسخة الدر المنثور. (3) لتستهل. نسخة سيرة النبي. (*)

[ 184 ]

أقول: أورد الرواية في الدر المنثور بعد ما روى بطرق عن مجاهد وعكرمة ان قصة نقض قريش عهد الحديبية وإعانتهم بنى بكر على خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان هو السبب لنزول قوله تعالى: (ألا تقاتلون قوما) إلى قوله: (ويشف صدور قوم مؤمنين) وهم خزاعة. ولو كان الامر على ما ذكروا كانت الاية: (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم) - إلى تمام ثلاث آيات بل اربع - على ما يعطيه السياق مما نزل قبل فتح مكة فتكون نازلة قبل آيات براءة لا محالة. لكن القصة التى رواها ابن اسحاق والبيهقي على اعتبارها لمكان المسور بن مخرمة لا تصرح بنزول الايات في ذلك، وما رواها مجاهد وعكرمة لا اعتماد عليه لمكان الوقف والانقطاع، وسياق الايات لا يأبى نزولها مع ما تقدم عليها واتصالها بها على ما لا يخفى. والذى ذكر فيها من قوله: (نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم اول مرة) وإن كان يشير إلى صفات قريش الخاصة بهم لكن من الجائز ان تكون الاية مشيرة إلى حلفاء قريش وجيرانهم ممن لم يؤمنوا بعد فتح مكة وهم لاتحادهم مع قريش واتصالهم بهم وصفوا بما يوصف به قريش بالاصالة. واعلم أن هناك روايات متفرقة من طرق اهل البيت عليهم السلام تطبق الايات على ظهور المهدى عليه السلام، وهى من الجرى. (كلام في معنى العهد وأقسامه وأحكامه) قدمنا في اوائل الجزء السادس من الكتاب كلاما في معنى العقد والعهد ونستأنف البيان ههنا في معنى ما تقدم وما يستتبعه من الاقسام والاحكام بتقرير آخر في فصول: 1 - قد لاح لك من تضاعيف الابحاث المتقدمة في هذا الكتاب أن الانسان في مسير حياته لا يزال يصور اعماله وما يتعلق به اعماله من المادة تصور الامور الكونية ويمثلها بها ويجرى بينها احكام الامور الكونية وآثارها من القوانين العامة الجارية في الكون بحسب ما يناسب اغراضه الحيوية كما انه يأخذ مثلا اصواتا متفرقة هي الزاى

[ 185 ]

والياء والدال، ويؤلفها بشكل مخصوص ويعمل لفظ (زيد) ثم يفترض انه زيد الانسان الخارجي فيسميه به ثم كلما اراد ان يحضر زيدا في ذهن مخاطبه ألقى إليه لفظ (زيد) فكان ممثلا لعين زيد عنده، وحصل بذلك غرضه. إذا أراد ان يدير امرا لا يدور إلا بعمل عدة مؤتلفة من الناس اختار جماعة وافترضهم واحدا كالانسان الواحد، وفرض واحدا منهم للباقين كما يفرض الرأس لبدن الانسان ويسميه رئيسا، وفرض كلا من الباقين كما يفرض العضو من البدن ذى الاعضاء ويسميه عضوا ثم يرتب على الرأس أحكام الرأس الخارجي، وعلى العضو آثار العضو الخارجي وعلى هذا القياس. وإلى هذا يؤول جميع أفكار الانسان الاجتماعية بلا واسطه أو بواسطة أو وسائط من التصورات والتصديقات إذا حللت تحليلا صحيحا كما تؤول إليه أنظاره الفردية فيما يرتبط بأعماله وأفعاله. الانسان شديد الاهتمام بعقد العقود وتمثيل العهود وما يرتبط بها من الحلف واليمين والبيعة ونحو ذلك، والعامل الاولى في ذلك أن الانسان لا هم له إلا التحفظ على حياته والوصول إلى مزاياها والتمتع بالسعادة التى تستعقبها لو جرت على حقيقة مجراها. فأى بغية من مبتغياته وجدها وسلط عليها أخذ في التمتع منها بما يناسبها من التمتع كالاكل والشرب وغيرهما بما جهز به من أدوات التمتع، ودفع كل ما يمنعه من التمتع لو عرض هناك مانع عارض ورأى انه إنما وفق لذلك في ضوء ما أوتيه من السلطة. وقد أوتى الانسان سلعة الفكر وبذلك يدبر أمر حياته ويصلح شأن معاشه فيعمل ليومه ويمهد لغده، وأعماله التى هي تصرفات منه في المادة أو عائدة إلى ذلك في عين انها جميعا متوقفة على انبساط سلطته على الفعل وإحاطته بكل ما يتعلق به عمله، مختلفة في ان بعضها يتم بالسلطة المقصورة على الفعل مقدار زمانه كمن صادف غذاء وهو جوعان فتناوله فأكله، فإنه لا يتوقف على سلطة أوسع من زمان العمل، ولا على تمهيد وتقدمة. وبعضها - وهو جل الاعمال الانسانية الاجتماعية - يتوقف على سلطة وسيعة تنبسط على العمل في وقته وعلى زمان قبله فقط أو على زمان قبله وبعده، لحاجته

[ 186 ]

إلى مقدمات يمهدها له، وتدبير سابق يقدمه لوجوده، فما كل عمل يعمله الانسان بصدفة، بل جل الامور الحيوية من شأنها ان يتهيأ الانسان له قبل أوانه. ومن التهيؤ له ان يتهيأ لجمع أسبابه ونظم الوسائل التى يتوسل بها إليه وان يتهيأ لرفع موانعه التى من شأنها ان تزاحمه في وجوده وعند حصوله، فالانسان لا يوفق لعمل ولا ينجح في مسعاه الا إذا كان في أمن من ان تفوته الاسباب أو تعارضه الموانع والمزاحمات. والتنبه لهذه الحقيقة هو الذى بعث الانسان إلى ان يأخذ أمنا من رقبائه في الحياة: ان يعينوه فيما يحتاج من الامور إلى معين مشارك، أو ان لا يمانعوه من العمل فيما يتوقف إلى ارتفاع الموانع وزوالها. فالانسان وهو يريد أن يتخذ لباسا يلبسه من مادة بسيطة كالقطن أو الصوف، والامر متوقف على أعمال كثيرة يعملها الغزال والنساج والخياط ومن يصنع لهم أدوات الغزل والنسج والخياطة، لا يتم له ما يريده من اتخاذ اللباس ولا ينجح سعيه الا إذا كان في أمن من ناحية هؤلاء الرقباء: ان يعملوا على ما يريده ولا يخلوه وحده فيخيب سعيه يخسر في عمله. وكذا الانسان القاطن في أرض أو الساكن في دار لا يتم له سكناه الا مع الامن من ممانعة الناس ومزاحمتهم له في سكناه والتصرف فيه بما يصلح به لذلك. وهذا هو الذى هدى الانسان إلى اعتبار العقد وإبرام العهد، فهو يأخذ ما يريده من العمل ويربطه بما يعينه عليه من عمل غيره ويعقدهما: يمثل به عقد الحبال الذى يفيد اتصال بعض أجزائها ببعض وعدم تخلف بعضها عن بعض، ومثله العهد الذى يعهده إليه غيره ان يساعده في ما يريده من الامر أو ان لا يمانعه في ذلك. وإلى ذلك يؤول أمر عامة العقود لعقد النكاح وعقد البيع والشرى وعقد الاجارة، ويصدق عليها العهد بمعناها العام وهو ان يعطى الانسان لغيره قولا أو كتابا ان يعينه على كذا أو ان لا يمنعه من كذا إلى اجل. والكلام في المقام في العهد الذى لم يختص باسم خاص كعقد البيع والنكاح وغيرهما من عقود المعاملات فهى خارجة من غرضنا ولها في المجتمعات الانسانية أحكام

[ 187 ]

خاصة وآثار وخواص مخصوصة بل الكلام في العهد بمعنى ما يعقده الانسان لغيره من الاعانة أو عدم الممانعة في متفرقات المقاصد الاجتماعية، وما يجعله لذلك من الاثار كمن يعاهد غيره ان يعطيه كل سنة كذا مالا ليستعين به على حوائجه، ويأخذ منه كذا مالا أو نفعا، أو يعاهده ان لا يزاحمه في عمله أو لا يمانعه في مسيره إلى اجل كذا أو لا إلى اجل، وهو نوع احكام وإبرام لا ينتقض إلا بنقض احد الطرفين أو بنقضهما معا. وربما زيد على إحكام العهد بالحلف وهو ان يقيد المعاهد ما يعطيه من العهد ويربطه بأمر عظيم شأنه يقدسه ويحترمه كأنه يجعل ما له من الحرمة والعزة رهنا يرهن به عهده يمثل به انه لو نقضه فقد أذهب حرمته يقول المعاهد: والله لا اخوننك، ولعمري لاساعدنك، وأقسم لانصرنك، يمثل به انه لو اخلف وعده ونقض عهده فقد ابطل حرمة ربه، أو حرمة عمره أو حرمة قسمه فلا مروة له. وربما أبرم العهد والميثاق بالبيعة والصفقة: يضع المعاهد يده في يد معاهده يمثل به انه اعطاه يده التى بها يفعل ما يفعل فلا يفعل ما يكره معاهده لان يده قبضة يده. 2 - العهود والمواثيق كما تمسها حياة الانسان الذى هو فرد المجتمع كذلك تمسها حياة المجتمع فليس المجتمع إلا المجتمع من افراد الانسان، حياته مجموع حياة اجزائه، وأعماله الحيوية مجموع اعمال اجزائه وله من الخير والشر والنفع والضر والصحة والسقم والنشوء والرشد والاستقامة والانحراف والسعادة والشقاوة والبقاء والزوال مجموع ما لاجزائه من ذلك. فالمجتمع انسان كبير له من مقاصد الحياة ما للانسان الصغير، ونسبة المجتمع إلى المجتمع تقرب من نسبة الانسان الفرد إلى الانسان الفرد فهو يحتاج في ركوب مقاصده وإتيان اعماله من الامن والسلامة إلى مثل ما يحتاج إليه الانسان الفرد بل الحاجة فيه أشد وأقوى لان العمل يعظم بعظمة فاعله وعظمة غرضه، والمجتمع في حاجة إلى الامن والسلام من قبل اجزائه لئلا يتلاشى ويتفرق، وإلى الامن والسلام من قبل رقبائه من سائر المجتمعات. وعلى هذا جرى ديدن المجتمعات الانسانية على ما بأيدينا من تاريخ الامم والاقوام الماضية، وما نسمعه أو نشاهده من الملل الحاضرة فلم يزل ولا يزال المجتمع من المجتمعات الانسانية في حاجة قائمة إلى ان يعاهد غيره في بعض شؤون حياته السياسية والاقتصادية

[ 188 ]

أو الثقافية أو غيرها، فلا يصفو الجو للاقدام على شئ من مقاصد الحياة أو التقدم في شئ من مأربها إلا بالاعتضاد بالاعضاد والامن من معارضة الموانع. 3 - الاسلام بما أنه متعرض لامر المجتمع كالفرد، ويهتم بإصلاح حياة الناس العامة كاهتمامة بإصلاح حياة الفرد الخاصة قنن فيه كليات ما يرجع إلى شؤون الحياة الاجتماعية كالجهاد والدفاع ومقاتلة اهل البغى والنكث والصلح والسلم والعهود والمواثيق وغير ذلك. والعهد الذى نتكلم فيه قد اعتبره اعتبارا تاما وأحكمه إحكاما يعد نقضه من طرف اهله من اكبر الاثم إلا ان ينقضه المعاهد الاخر فيقابل بالمثل فإن الله سبحانه أمر بالوفاء بالعهود، والعقود وذم نقض العهود والمواثيق ذما بالغا في آيات كثيرة جدا قال تعالى: (يا ايها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) المائدة: 1، وقال: (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه - إلى ان قال - اولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) الرعد: 25، وقال: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا) أسرى: 34 إلى غير ذلك. ولم يبح نقض العهود والمواثيق إلا فيما يبيحه حق العدل وهو ان ينقضه المعاهد المقابل نقضا بالبغى والعتو أو لا يؤمن نقضه لسقوطه عن درجة الاعتبار، وهذا مما لا اعتراض فيه لمعترض ولا لوم للائم، قال تعالى: (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) الانفال: 58 فأجاز نقض العهد عند خوف الخيانة ولم يرض بالنقض من غير إخبارهم به واغتيالهم وهم غافلون دون ان قال: (فانبذ إليهم على سواء) فأوجب ان يخبروهم بالنقض المتقابل احترازا من رذيلة الخيانة. وقال: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الارض أربعة أشهر) براءة: 2 فلم يرض بالبراءة دون ان وسع عليهم اربعة اشهر حتى يكونوا على مهل من التفكر في أمرهم والتروى في شأنهم فيروا رأيهم على حرية من الفكر فإن شاؤوا آمنوا ونجوا وإن لم يشاؤا قتلوا وفنوا، وقد كان من حسن أثر هذا التأجيل أن آمنوا فلم يفنوا. وقد تمم سبحانه هذه الفائدة أحسن إتمام بقوله بعد إعلام البراءة: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون، التوبة: 6. وقال مستثنيا الموفين بعهدهم من المشركين: (كيف يكون للمشركين عهد عند

[ 189 ]

الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ان الله يحب المتقين، كيف وان يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم واكثرهم فاسقون) التوبة: 8 وقد علل الاستقامة لمن استقام بأنه من التقوى - ذاك التقوى الذى لا دعوه في الدين إلا إليه - وان الله يحب المتقين، وهذا تعليل حى إلى يوم القيامة. وقال تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) البقرة: 194 وقال: (ولا يجرمنكم شنآن قوم ان صدوكم عن المسجد الحرام ان تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان) المائدة: 2. واما النقض الابتدائي من غير نقض من العدو المعاهد فلا مجوز له في هذا الدين الحنيف اصلا، وقد تقدم قوله تعالى: (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) الاية وقال: (ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين) البقرة: 190. وعلى ذلك جرى عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ايام حياته فقد عاهد بنى قينقاع وبنى قريظة وغيرهم من اليهود ولم ينقض الا بعد ما نقضوا، وعاهد قريشا في الحديبية ولم ينقض حتى نقضوا باظهار بنى بكر على خزاعة وقد كانت خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبنو بكر في عهد قريش. وأما النقض من غير نقض فلا مبيح له في الاسلام وإن كان الوفاء مما يفوت على المسلمين بعض منافعهم، ويجلب إليهم بعض الضرر وهم على قدرة من حفظ منافعهم بالبأس والقوة أو امكنهم الاعتذار ببعض ما تصور لهم الحجة ظاهرا وتصرف عنهم اللوم والعذل فان مدار الامر على الحق، والحق لا يستعقب شرا لا ضرا إلا على من انحرف عنه وآوى إلى غيره. 4 - المجتمعات الانسانية سيما الراقية المتمدنة منها غير المجتمع الدينى لا هدف لاجتماعهم ولا غرض لسننهم الجارية إلا التمتع من مزايا الحياة المادية ما قدروا عليه فلا موجب لهم للتحفظ على شئ أزيد مما بأيديهم من القوانين العملية الناظمة لشتات مقاصدهم الحيوية. ومن الضرورى ان الظرف الذى هذا شأنه لا قيمة فيها للمعنويات إلا بمقدار

[ 190 ]

ما يوافق المقاصد الحيوية المادية فالفضائل والرذائل المعنوية كالصدق والفتوة والمروة ونشر الرحمة والرأفة والاحسان وأمثال ذلك لا اعتبار لها إلا بمقدار ما درت بها منافع المجتمع، ولم يتضرروا بها لو لم تعتبر، وأما فيما ينافى منافع القوم فلا موجب للعمل بها بل الموجب لخلافها. ولذلك ترى المؤتمرات الرسمية وأولياء الامور في المجتمعات لا يرون لانفسهم وظيفة إلا التحفظ على منافع المجتمع الحيوية، وما يعقد فيها من العهود والمواثيق انما يعقد على حسب مصلحة الوقت، ويوزن بزنة ما عليه الدولة المعاهدة من القوة والعدة، وما عليه المعاهد المقابل من القوة والعدة في نفسه وبما يضاف إليه من سائر المقتضيات المنضمة إليه المعينة له. فما كان التوازن على حالة التعادل كان العهد على حاله، وإذا مالت كفة الميزان للدولة المعاهدة على خصمه ابطلت اعتبار العهد بأعذار مصطنعة واتهامات مفتعلة للتوسل إلى نقضه، وانما يراد بتقديم الاعذار ان يتحفظ على ظاهر القوانين العالمية التى لا عقبى لنقضها والتخلف عنها إلا ما يهدد حياة المجتمع أو بعض منافع حياتهم، ولو لا ذلك لم يكن ما يمنع النقض ولو من غير عذر إذا اقتضته منافع المجتمع القوى الحيوية. واما الكذب أو الخيانة أو التعدي لما يتخذه الغير منافع لنفسه فليس مما يمنع مجتمعا من المجتمعات من حيازة ما يراه نافعا لشأنه إذ الاخلاق والمعنويات لا أصالة لها عندهم وانما تعتبر على حسب ما تقدره غاية المجتمع وغرضه الحيوى وهو التمتع من الحياة. وانت إذا تتبعت الحوادث العامة بين المجتمعات سابقها ولاحقها وخاصة الحوادث العالمية الجارية في هذا العصر الاخير عثرت على شئ كثير من العهود الموثقة ونقوضها على ما وصفناه. وأما الاسلام فلم يعد حياة الانسان المادية حياة له حقيقية، ولا التمتع من مزاياها سعادة له واقعية، وانما يرى حياته الحقيقية حياته الجامعة بين المادة والمعنى، وسعادته الحقيقية اللازم إحرازها ما يسعده في دنياه وأخراه. ويستوجب ذلك ان يبنى قوانين الحياة على الفطرة والخلقة دون ما يعده الانسان صالحا لحال نفسه، ويؤسس دعوته الحقة على اتباع الحق والاهتداء به دون اتباع الهوى

[ 191 ]

والاقتداء بما يميل إليه الاكثرية بعواطفهم وإحساساتهم الباطنة قال تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) الروم: 30 وقال: (هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين (1) الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) التوبه: 33، وقال: (بل أتيناهم بالحق) المؤمنون: 90، وقال: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والارض ومن فيهن) المؤمنون: 71. ومن لوازم ذلك ان يراعى حق الاعتقاد وفضيلة الخلق وصالح العمل جميعا فلا غنى للمادة عن المعنى ولا غنى للمعنى عن المادة فمن الواجب رعاية جانب الفضائل الانسانية نفعت أو ضرت والتجنب عن الرذائل نفعت أو ضرت لان ذلك من اتباع الحق، وحاشا ان يضر الا من انحرف عن ميزانه وتخطى ما يخط له الحق. ومن هنا ما نرى ان الله سبحانه ينقض عهد المشركين لنقضهم عهده ويستعمل الرحمة بإمهالهم أربعة أشهر، ويأمر بالاستقامة لمن استقام في عهده من المشركين وقد استذلهم الحوادث يومئذ وضعفوا دون شوكة الاسلام وكذا يأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان خاف من قوم خيانة ان ينقض عهدهم لكن يأمره بإعلامهم ذلك ويعلله بأنه لا يحب الخيانة. (كلام في نسبة الاعمال إلى الاسباب طولا) تقدم في مواضع من هذا الكتاب ان الذى تنتجه الابحاث العقلية ان الحوادث كما ان لها نسبة إلى اسبابها القريبة المتصلة بها كذلك لها نسبة إلى اسبابها القصوى التى هي اسباب لهذه الاسباب فالحوادث افعال لها في عين أنها من افعال اسبابها القريبة المباشرة للعمل فان الفعل كالحركة مثلا يتوقف على فاعله المحرك ويتوقف على محرك محركه بعين ما يتوقف على محركه، نظير العجلة المحركة للاخرى المحركة لثالثة وليست من الحركة بالعرض. فللفعل نسبة إلى فاعله، وله انتساب إلى فاعل فاعله بعين هذه النسبة التى إلى فاعله لا بنسبة اخرى منفصلة عنها مستقلة بنفسها غير انه إذا انتسب إلى فاعل الفاعل عاد الفاعل القريب بمنزلة الالة بالنسبة إلى فاعل الفاعل أي واسطة محضة لا استقلال لها


(1) ظاهر الاية كون الاضافة حقيقية ل من اضافة الموصوف إلى صفته. (*)

[ 192 ]

في العمل بمعنى أنه لا يستغنى في تأثيره عن فاعل الفاعل إذ فرض عدمه يساوق انعدام الفاعل وانعدام أثره. وليس من شرط الواسطة ان تكون غير ذات شعور بفعلها أو غير مختارة فان الشعور الذى يؤثر به الفاعل الشاعر في فعله لم يوجده هو لنفسه وانما اوجده فيه فاعله الذى اوجد الفاعل وشعوره، وكذلك الاختيار لم يوجده الفاعل المختار لنفسه وانما أوجده الفاعل الذى أوجد الفاعل المختار، وكما يتوقف الفعل في غير موارد الشعور والاختيار إلى فاعله، ويتوقف بعين هذا التوقف إلى فاعل فاعله، كذلك يتوقف الفعل الشعورى والفعل الاختياري إلى فاعله ويتوقف بعين هذا التوقف إلى فاعل فاعله الذى اوجد لفاعله الشعور والاختيار. ففاعل الفاعل الشاعر أو المختار اراد من الفاعل الشاعر أو المختار ان يفعل من طريق شعوره فعلا كذا أو يفعل باختياره فعلا اختياريا كذا فقد أريد الفعل من طريق الاختيار لانه أريد الفعل وأهمل الاختيار الذى ظهر به فاعله فافهم ذلك فلا تزل قدم بعد ثبوتها. وعلى هذه الحقيقة يجرى الناس بحسب فهمهم الغريزى فينسبون الفعل إلى السبب البعيد كما ينسبونه إلى السبب القريب المباشر بما انه أثر مترشح منه يقال: بنى فلان دارا، وحفر بئرا وانما باشر ذلك البناء والحفار، ويقال: جلد الامير فلانا، وقتل فلانا، وأسر فلانا، وحارب قوما كذا، وانما باشر الجلد جلاده، والقتل سيافه، والاسر جلاوزته، والمحاربة جنده، ويقال، أحرق فلان ثوب فلان، وإنما احرقه النار، وشفى فلان مريضا كذا وانما شفاه الدواء الذى ناوله وأمره بشربه واستعماله. ففى جميع ذلك يعتبر امر الامر أو توسل المتوسل تأثيرا منه في الفاعل القريب ثم ينسب الفعل المنسوب إلى الفاعل القريب إلى الفاعل البعيد، وليس اصل النسبة إلا نسبة حقيقة من غير مجاز قطعا. ومن قال من علماء الادب وغيرهم ان ذلك كله من المجاز في الكلمة لصحة سلب الفعل عن الفاعل البعيد فان مالك البناء لم يضع لبنة على لبنة وإنما هو شأن البناء الذى باشر العمل ! انما اراد الفعل بخصوصية صدوره عن الفعل المباشر ومن المسلم ان المباشرة انما هو شأن الفاعل القريب، ولا كلام لنا فيه، وانما الكلام فيما يتصور له

[ 193 ]

من الوجود المتوقف إلى فاعل موجد، وهذا المعنى كما يقوم بالفاعل المباشر كذلك يقوم بعين هذا القيام بفاعل الفاعل. واعتبار هذه النكتة هو الذى اوجب لهم ان يميزوا بين الاعمال وينسبوا بعضها إلى الفاعل القريب والبعيد معا، ولا ينسبوا بعضها إلا إلى الفاعل القريب المباشر للعمل فما كان منها يكشف بمفهومه عن خصوصيات المباشرة والاتصال بالعمل كالاكل بمعنى الالتقام والبلع والشرب بمعنى المص والتجرع والقعود بمعنى الجلوس ونحو ذلك لم ينسب إلا إلى الفاعل المباشر فإذا أمر السيد خادمه ان يأكل غذاء كذا ويشرب شرابا كذا ويقعد على كرسى كذا، قيل: أكل الخادم وشرب وقعد ولا يقال: أكله سيده وشربه وقعد عليه، وإنما يقال: تصرف في كذا إذا استعمل كذا أو أنفق كذا ونحو ذلك لما ذكرناه. وأما الاعمال التى لا تعتبر فيها خصوصيات المباشرة والحركات المادية التى تقوم بالفاعل المباشر للحركة كالقتل والاسر والاحياء والاماتة والاعطاء والاحسان والاكرام ونظائر ذلك فانها تنسب إلى الفاعل القريب والبعيد على السوية بل ربما كانت نسبتها إلى الفاعل البعيد اقوى منها إلى الفاعل القريب كما إذا كان الفاعل البعيد اقوى وجودا وأشد سلطة وإحاطة. فهذا ما ينتجه البحث العقلي ويجرى عليه الانسان بفهمه الغريزى، والقرآن الكريم يصدق ذلك اوضح تصديق كقوله تعالى في الايات السابقة: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم) الايتان. حيث نسب التعذيب الذى تباشره ايدى المؤمنين إلى نفسه بجعل ايديهم بمنزلة الالة. ونظيره قوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) الصافات: 96 فان المراد بما تعملون إما الاصنام التى كانوا يعملونها من الحجارة أو الاخشاب أو الفلزات فإنما أريد به المادة بما عليها من عمل الانسان ففيه نسبة الخلق إلى الاعمال كنسبته إلى فواعلها، وأما نفس الاعمال فالامرأوضح. ويقرب من ذلك قوله تعالى: (وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون)

[ 194 ]

الزخرف 12، ففيه نسبة الخلق إلى الفلك والفلك بما هي من عمل الانسان. هذا فيما نسب فيه الخلق إلى الاعمال الصادرة عن الشعور والارادة، وأما الافعال التى لا تتوقف في صدورها على شعور وإرادة كالافعال الطبيعية فقد ورد نسبتها إلى الله سبحانه في آيات كثيرة جدا لا حاجة إلى إحصائها كإحياء الارض وإنبات النبات وإخراج الحب وإمطار السماء وإجراء الانهار وتسيير الفلك التى تجرى في البحر بأمره إلى غير ذلك. ولا منافاة في جميع هذه الموارد بين انتساب الامر إليه تعالى وانتسابه إلى غيره من الاسباب والعلل الطبيعية وغيرها إذ ليست النسبة عرضية تزاحم احدى النسبتين الاخرى بل هي طولية لا محذور في تعلقها بأزيد من طرف واحد. وقد تقدم في مطاوى أبحاثنا السابقة دفع ما اشتبه على الماديين من إسناد الحوادث العامة كالسيول والزلازل والجدب والوباء والطاعون إلى الله سبحانه مع الحصول على اسبابها الطبيعية اليوم حيث خلطوا بين العلل والاسباب العرضية والطولية، وحسبوا أن استنادها إلى عللها الطبيعية يبطل ما أثبته الكتاب العزيز وأذعن به الالهيون من استنادها إلى مسبب الاسباب الذى إليه يرجع الامر كله. وللاشاعرة والمعتزلة بحث غريب في الاية السابقة: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) وما يناظرها من الايات، اورده الرازي في تفسيره نورده ملخصا. قال: استدلت الاشاعرة بقوله تعالى: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) الاية على أن افعال العباد مخلوقة لله، وأن الناس مجبرون في افعالهم غير مختارين فان الله سبحانه يخبر فيها انه هو الذى يعذب المشركين بقتل بعضهم وجرح آخرين بأيدى المؤمنين ويدل ذلك على ان ايدى المؤمنين كسيوفهم ورماحهم آلات محضة لا تأثير لها أصلا وإنما الفعل لله سبحانه، وأن الكسب الذى يعد مناطا للتكليف اسم لا مسمى له. وهذه الاية اقوى دلالة على المطلوب من دلالة مثل قوله تعالى: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) إذ فيه إثبات الرمى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وإن كان مع ذلك نفى عنه - وإثبات لاسناده إلى الله سبحانه لكن الاية أعنى قوله: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) إثبات للتعذيب على الله سبحانه وجعل ايدى المؤمنين التى لهم آلات

[ 195 ]

في الفعل لا تأثير لها وفيها اصلا. وأجاب عنه الجبائى من المعتزلة: بأنه لو جاز ان يقال: ان الله يعذب الكافرين بأيدى المؤمنين بحقيقة ما ادعى له من المعنى لجاز ان يقال: انه يعذب المؤمنين بأيدى الكافرين، وإنه تعالى يكذب انبياءه بألسنتهم، ويلعن المؤمنين ويسبهم بأفواههم لانه تعالى خالق لذلك كله، وإذ لم يجز ذلك علمنا انه تعالى لم يخلق أعمال العباد، وإنما أعمالهم خلق انفسهم. وبذلك يعلم ان إسناد التعذيب في الاية إليه تعالى بنوع من التوسع لانه إنما تحقق عن امره ولطفه كما انه تعالى ينسب جميع الطاعات والحسنات إلى نفسه لتحققها عن امره وتوفيقه. وأجاب عنه الرازي بأن اصحابنا يلتزمون جميع ما ألزم به الجبائى وأصحابه من لزوم إسناد القبائح إليه تعالى ويعتقدون به لبا وإن كانوا لا ينطقون به لسانا ادبا مع الله سبحانه، انتهى ملخصا. والابحاث التى قدمناها في هذا الكتاب حول هذه المعاني تكفى لايضاح الحق وإنارته في هذا المقام، والكشف عما وقع فيه الفريقان جميعا. أما ما ذكرته الاشاعرة والتزموا به فإنما اوقعهم في ذلك ما ذهبوا إليه من نفى رابطة العلية والمعلولية من بين الاشياء وقصرها فيما بينه تعالى وبين خلقه عامة فلا سبب في الوجود لا استقلالا ولا بالوساطة غيره تعالى، وأما رابطة السببية التى بين الاشياء انفسها فإنما هي سببية بالاسم فقط لا بالحقيقة، وإنما هي العادة الالهية جرت بإيجاد ما نسميها مسببات عقيب ما نسيمها اسبابا فما بينها وبينه تعالى سببية حقيقية، وما بينها انفسها يعود إلى الاتفاق الدائم أو الاكثرى. ولازم ذلك إبطال العلية والسببية من اصلها، و ببطلانها يبطل ما أثبتوه من انحصار السببية فيه تعالى إذ لو جاز ان يكون نسبة كل شئ إلى كل شئ نسبة واحدة من غير اختلاف بالتأثير والتأثر لم يبق للانسان ما يتنبه به لاصل معنى السببية فلا سبيل له إلى اثبات سببيته تعالى لكل شئ. على ان الانسان يترقب حوادث من حوادث اخرى، ويقطع بالنتائج عن

[ 196 ]

مقدماتها ويبنى حياته على التعليم والتربية، وعلى تقديم الاسباب طمعا في مسبباتها سواء اعترف بالصانع أو لم يعترف، ولا يتم له شئ من ذلك إلا عن إذعان فطري باصل العلية والمعلولية، ولو أجازت الفطرة الانسانية بطلان ذلك وجريان الحوادث على مجرد الاتفاق اختل نظام حياته ببطلان سعيه الفكري والعملي، وانسد طريق إثبات سبب ما فوق طبيعة الحوادث. على أن الكتاب العزيز يجري في بياناته على تصديق اصل العلية والمعلولية، وينسب كل حسنة إليه تعالى وينفي استناد السيئات والمعاصي إليه ويسميه بكل اسم أحسن ويصفه بكل وصف جميل، وينفي عنه كل هزل وعبث ولغو ولهو وجزاف، ولا يتم شئ من ذلك إلا على اصل العلية والمعلولية، وقد تقدم في الابحاث السابقة ما يتبين به ذلك كله. وقد ذهب طائفة من الماديين وخاصة اصحاب المادية المتحولة إلى عين ما ذهب إليه الاشاعرة من ثبوت الجبر ونفي الاختيار عن الافعال الانسانية، وانما الفارق بين قولى الطائفتين هو ان الاشاعرة بنوا ذلك على سببية الواجب تعالى المنحصرة واستنتجوا من ذلك بطلان السببية الاختيارية وانتفاءها عن الانسان، والماديون بنوه على معلولية الفعال الانسانية لمجموع الحوادث الحتفة بالفعل التى هي علة حدوثه، ولا معنى للعلية الا بالايجاب، فالانسان موجب في فعله مجبر عليه. وقد فات منهم ان الذي نسبة المعلول إليه بالايجاب انما هو العلة التامة، وهى مجموع الحوادث المتقدمة على المعلول التى لا يتوقف هو في وجوده على شئ وراءها، وبوجودها جميعا لا يبقى له إلا ان يوجد، وأما بعض اجزاء العلة التامة فانما نسبة المعلول إليه بالامكان لا بالوجوب لتوقف وجوده على اشياء أخر وراءه فلا يتحقق بوجود الجزء المفروض جميع ما يتوقف عليه وجوده حتى يعود واجبا وجوده. الافعال الانسانية يتوقف في وجودها على الانسان وارادته وعلى امور غير محصورة اخرى من المادة والشرائط الزمانية والمكانية فهى إذا نسبت إليها جميعا كانت النسبة الحاصلة نسبة الوجوب والضرورة، واما إذا نسبت إلى الانسان وحده أو إلى الانسان المريد فقد نسبت إلى جزء العلة التامة وعادت النسبة إلى الامكان دون الوجوب، فالافعال الارادية الانسانية اختيارية أي انه يمكنه ان يفعل وان لا يفعل فان فعل

[ 197 ]

فبمشيته وارادته، وان لم يفعل فلم يختره ولم يرده وانما اختار واراد شيئا آخر، لكنها لا تقع في الخارج الا واجبة لاستنادها حينئذ إلى جميع اجزاء عللها. فهؤلاء خلطوا في كلامهم بين النسبتين فوضعوا النسبة الوجوبية التى للفعل إلى مجموع اجزاء علتها التامه موضع النسبة الامكانية التى للفعل إلى بعض اجزاء علته التامة وهى التى تسمى في الانسان بالاختيار على نحو من العناية. وأما ما ذكره المعتزلة انه لو جاز كونه تعالى هو الفاعل للفعل الذى اتى به المؤمنون وهو التعذيب، وليس لهم إلا مقام الالية المحضة من غير تأثير لجاز إسناد تعذيب الكفار للمؤمنين وتكذيبهم للانبياء ولعنهم المؤمنين ايضا إليه، وهو باطل قطعا فافعال العباد مخلوقة لهم لا صنع لله تعالى فيها. ففيه ان الملازمة حقة لكن بطلان التالى لا يستلزم كون الافعال مخلوقة لهم لا نسبة لها إلى الله سبحانه اصلا لجواز كونها منسوبة إليه تعالى بعين ما ينتسب به إليهم فإنهم فاعلون لها وهو فاعل الفاعلين فينتسب إليهم بالصدور عن الفاعل المباشر، و ينتسب إليه بالصدور عن الفاعل الذى هو فاعله والنسبتان في الحقيقة نسبة واحدة مختلفة بالقرب والبعد وانتفاء الواسطة وثبوتها، ولا يستلزم ذلك اجتماع فاعلين مستقلين على فعل واحد لكونهما طوليين لا عرضيين. فان قلت: فيبقى محذور استناد الحسنات والسيئات والايمان والكفر إليه تعالى في محله. قلت: كلا وإنما ينتسب إليه اصل وجودها، وأما عنوان الفعل الذى يشير إلى جهة قيام الحركة والسكون بالموضوع المتحرك كالنكاح والزنا والاكل المحرم والمحلل فإنما ينسب إلى الانسان لكونه هو الموضوع المادى الذى يتحرك بهذه الحركات: وأما الذى يوجد هذا المتحرك الذى من جملة آثاره حركته وليس بنفسه متحركا بها وإنما يوجدها إيجادا إذا تمت شرائطها وأسبابها فلا يتصف بأنواع هذه الحركات حتى يتصف بفعل النكاح أو الزنا أو أي فعل قائم بالانسان. نعم هناك عناوين عامة لا تستتبع معنى الحركة والمادة، لا مانع من إسنادها إلى الانسان واليه سبحانه إذا لم يستلزم محذورا كالهداية والاضلال إذا لم يكن اضلالا ابتدائيا، وكالتعذيب والابتلاء، فقتل المؤمن للكافر تعذيب إلهى للكافر، وقتل

[ 198 ]

الكافر للمؤمن بلاء حسن للمؤمن يستوجب به أجرا حسنا عند الله، وعلى هذا القياس. على ان الذى ذهب إليه المعتزلة يوقعهم فيما وقعت فيه الاشاعرة وهو انسداد طريق إثبات الصانع عليهم فانه لو جاز ان يوجد في العالم حادث من الحوادث عن سبب له وينقطع عما وراء سببه ذلك انقطاعا تاما لا تأثير له فيه جاز في كل ما فرض من الحوادث أن يستند إلى ما يليه من غير ان يرتبط بشئ آخر وراءه، ومن الجائز ان يفنى الفاعل ويبقى أثره فمن الجائز ان يستند كل ما فرض معلولا إلى فاعل له غير واجب الوجود ومن الجائز أن يستند كل عالم مفروض إلى عالم قبله هو فاعله وقد فنى قبله على ما هو المشهود من حوادث هذا العالم المولد بعضها بعضا: والمتولد بعضها من بعض، ولا يلزم محذور التسلسل لعدم تحقق سلسلة ذات أجزاء في وقت من الاوقات إلا في الذهن. وفي كلامهم مفاسد كثيرة أخرى مبينة في المحل المربوط به، وقد تقدم في الكلام على نسبة الخلق إليه تعالى في الجزء السابع من الكتاب ما ينفع في هذا المقام. وكيف يسع لمسلم موحد أن يثبت مع الله سبحانه خالقا آخر بحقيقة معنى الخلق والايجاد وقد قال الله سبحانه: (ذلكم الله ربكم خالق كل شئ لا إله إلا هو) المؤمن: 62 وقد كرر ذلك في كلامه، وليس في تجاهة إلا نسبة أفعال الانسان إليه من غير قطع رابطتها إليه تعالى بل مع إثبات النسبة بدليل آيات القدر ودلالة العقل على ان لفعل الفاعل نسبة إلى فاعل فاعله بحسب ما يليق بساحته. فالحق ان للافعال الانسانية نسبة إلى فواعلها بالمباشرة، ونسبة إليه تعالى بما يليق بساحة قدسه، قال تعالى: (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا) أسرى: 20. * * * ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون - 17. إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الاخر وأقام الصلوة وآتى الزكوة

[ 199 ]

ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين - 18. أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله و اليوم الاخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدى القوم الظالمين - 19. الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون - 20. يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم - 21. خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم - 22. يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الايمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون - 23. قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين - 24. (بيان) آيات تبين أن الاعمال إنما تكون حية مرضية إذا صدرت عن حقيقة الايمان بالله ورسوله واليوم الاخر وإلا فإنما هي حبط لا تهدى صاحبها إلى سعادة، وان من لوازم الايمان بحقيقته قصر الولاية والحب والوداد في الله ورسوله. وهى ظاهرة الاتصال والارتباط فيما بينها أنفسها، وأما اتصالها بما تقدمها من الايات فليس بذاك الوضوح، وما ذكره بعض المفسرين في وجه اتصالها بما قبلها لا يخلو من تكلف.

[ 200 ]

قوله تعالى: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر) العمارة ضد الخراب يقال: عمر الارض إذا بنى بها بناء، وعمر البيت إذا اصلح ما أشرف منها على الفساد، والتعمير بمعناه ومنه العمر لانه عمارة البدن بالروح، والعمرة بمعنى زيارة البيت الحرام لان فيها تعميره. والمسجد اسم مكان بمعنى المحل الذى يتعلق به السجدة كالبيت الذى يبنى ليسجد فيه الله تعالى، وأعضاء السجدة التى تتعلق بها السجدة نوع تعلق وهى الجبهة والكفان والركبتان و رؤوس إبهامى القدمين. وقوله: (ما كان للمشركين) الاية لنفى الحق والملك فإن اللام للملك والحق، والنفى الحالى للكون السابق يفيد أنه لم يتحقق منهم سبب سابق يوجب لهم أن يملكوا هذا الحق وهو حق ان يعمروا مساجد الله ويرموا ما استرم منها أو يزوروها كقوله تعالى: (ما كان لنبى أن يكون له أسرى) الانفال: 67 وقوله: (وما كان لنبى أن يغل) آل عمران: 161. والمراد بالعمارة في قوله: (أن يعمروا) إصلاح ما أشرف على الخراب من البناء ورم ما استرم منه دون عمارة المسجد بالزيارة فإن المراد بمساجد الله هي المسجد الحرام وكل مسجد لله ولا عمرة في غير المسجد الحرام، والدخول في المساجد للعبادة فيها وإن أمكن ان يسمى عمارة وزيارة لكن التعبير المعهود من القرآن فيه الدخول. على أن في قوله في الاية الاتية: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام) تأييدا ما لكون المراد بالعمارة هو إصلاح البناء دون زيارة البيت الحرام. والمراد بمساجد الله بيوت العبادة المبنية لله لكن السياق يدل على أن المراد نفى جواز عمارتهم للمسجد الحرام، ويؤيده قراءة من قرأ (أن يعمروا مسجد الله) بالافراد. ولا ضير في التعبير بالجمع والمقصود الاصيل بيان حكم فرد خاص من أفراده لان الملاك عام، والتعليل الوارد في الاية غير مقيد بخصوص المسجد الحرام فالكلام في معنى: ما كان لهم ان يعمروا المسجد الحرام لانه مسجد و المساجد من شأنها ذلك. وقوله: (شاهدين على أنفسهم بالكفر) المراد بالشهادة أداؤها وهو الاعتراف إما قولا كمن يعترف بالكفر لفظا، وإما فعلا كمن يعبد الاصنام ويتظاهر بكفره

[ 201 ]

فكل ذلك من الشهادة والملاك واحد. فمعنى الاية: لا يحق ولا يجوز للمشركين أن يرموا ما استرم من المسجد الحرام كسائر مساجد الله والحال أنهم معترفون بالكفر بدلالة قولهم أو فعلهم. قوله تعالى: (أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون) في مقام التعليل لما أفيد من الحكم في قوله: (ما كان) الخ ولذلك جئ به بالفصل دون الوصل. والمراد بالجملة الاولى بيان بطلان الاثر وارتفاعه عن أعمالهم، والعمل إنما يؤتى به للتوسل به إلى أثر مطلوب، وإذ كانت أعمالهم حابطة لا أثر لها لم يكن ما يجوز لهم الاتيان بها، والاعمال العبادية كعمارة مساجد الله إنما تقصد لما يطمع فيه و يرجى من أثرها وهو السعادة والجنة، والعمل الحابط لا يتعقب سعادة ولا جنة البتة. والمراد بالجملة الثانية بيان ظرفهم الذى يستقرون فيه لو لا السعادة و الجنة وهو النار فكأنه قيل: اولئك لا يهديهم أعمالهم العبادية إلى الجنة بل هم في النار الخالدة، ولا تفيد لهم سعادة بل هم في الشقاوة المؤبدة. وفي الاية دلالة على أصلين لطيفين من أصول التشريع: أحدهما: أن تشريع الجواز بالمعنى الاعم الشامل للواجبات والمستحبات والمباحات يتوقف على أثر في الفعل ينتفع به فاعله فلا لغو مشروعا في الدين، وهذا أصل يؤيده العقل، وهو منطبق على الناموس الجارى في الكون: أن لا فعل إلا لنفع عائد إلى فاعله. و ثانيهما: ان الجواز في جميع موارده مسبوق بحق مجعول من الله لفاعله في أن يأتي بالفعل من غير مانع. قوله تعالى: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الاخر) الاية السياق كاشف عن ان الحصر من قبيل قصر الافراد كأن متوهما يتوهم أن للمشركين والمؤمنين جميعا أن يعمروا مساجد الله فافرد وقصر ذلك في المؤمنين، ولازم ذلك ان يكون المراد بقوله: (يعمر) إنشاء الحق والجواز في صورة الاخبار دون الاخبار، وهو ظاهر. وقد اشترط سبحانه في ثبوت حق العمارة وجوازها أن يتصف العامر بالايمان بالله واليوم الاخر قبال ما نفى عن المشركين ان يكون لهم ذلك ولم يقنع بالايمان بالله

[ 202 ]

وحده لان المشركين يذعنون به تعالى بل شفع ذلك بالايمان باليوم الاخر لان المشركين ما كانوا مؤمنين به، وبذلك يختص حق العمارة وجوازها بأهل الدين السماوي من المؤمنين. ولم يقنع بذلك ايضا بل ألحق به قوله: (وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله) لان المقام مقام بيان من ينتفع بعمله فيحق له بذلك ان يقترفه، ومن كان تاركا للفروع المشروعة في الدين وخاصة الركنين: الصلاة والزكاة فهو كافر بآيات الله لا ينفعه مجرد الايمان بالله واليوم الاخر وإن كان مسلما، إذا لم ينكرها بلسانه، ولو انكرها بلسانه ايضا كان كافرا غير مسلم. وقد خص من بينها الصلاة والزكاة بالذكر لكونهما الركنين الذين لا غنى عنهما في حال من الاحوال. وبما ذكرنا من اقتضاء المقام يظهر ان المراد بقوله: (ولم يخش إلا الله) الخشية الدينية وهى العبادة دون الخشية الغريزية التى لا يسلم منها إلا المقربون من اولياء الله كالانبياء قال تعال: (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون احدا إلا الله) الاحزاب: 39. والوجه في التكنية عن العبادة بالخشية ان الاعرف عند الانسان من علل اتخاذ الاله للعبادة الخوف من سخطه أو الرجاء لرحمته، ورجاء الرحمة ايضا يعود بوجه إلى الخوف من انقطاعها وهو السخط فمن عبد الله سبحانه أو عبد شيئا من الاصنام فقد دعاه إلى ذلك اما الخوف من شمول سخطه أو الخوف من انقطاع نعمته ورحمته فالعبادة ممثله للخوف والخشية مصداق لها لتمثيلها اياها، وبينهما حالة الاستلزام، ولذلك كنى بها عنها، فالمعنى - والله اعلم - ولم يعبد احدا من دون الله من الالهة. وقوله: (فعسى اولئك ان يكونوا من المهتدين) أي اولئك الذين آمنوا بالله واليوم الاخر ولم يعبدوا أحدا غير الله سبحانه يرجى في حقهم ان يكونوا من المهتدين، وهذا الرجاء قائم بأنفسهم أو بأنفس المخاطبين بالاية، وأما هو تعالى فمن المستحيل ان يقوم به الرجاء الذى لا يتم إلا مع الجهل بتحقق الامر المرجو الحصول. وانما أخذ الاهتداء مرجو الحصول لا محقق الوقوع مع أن من آمن بالله واليوم الاخر حقيقة وحققه اعماله العبادية فقد اهتدى حقيقة لان حصول الاهتداء مرة أو مرات لا يستوجب كون العامل من المهتدين، واستقرار صفة الاهتداء ولزومها له،

[ 203 ]

فالتلبس بالفعل الواقع مرة أو مرات غير التلبس بالصفة اللازمة فاولئك حصول الاهتداء لهم محقق، وأما حصول صفة المهتدين فهو مرجو التحقق لا محقق. وقد تحصل من الاية أن عمارة المساجد لا تحق ولا تجوز لغير المسلم أما المشركون فلعدم إيمانهم بالله واليوم الاخر، وأما اهل الكتاب فلان القرآن لا يعد ايمانهم بالله ايمانا قال تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله) ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون ان يتخذوا بين ذلك سبيلا اولئك هم الكافرون حقا) النساء: 151، وقال ايضا في آية 29 من السورة: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب) الاية. قوله تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الاخر وجاهد في سبيل الله) الاية، السقاية كالحكاية والجناية والنكاية مصدر يقال: سقى يسقى سقاية. والسقاية ايضا الموضع الذى يسقى فيه الماء، والاناء الذى يسقى به قال تعالى: (جعل السقاية في رحل اخيه) يوسف: 70، وقد رووا في الاثار ان سقاية الحاج كانت احدى الشؤونات الفاخرة والماثر التى يباهى بها في الجاهلية، وأن السقاية كانت حياضا من أدم على عهد قصى بن كلاب احد اجداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضع بفناء الكعبة، ويستقى فيها الماء العذب من الابار على الابل، ويسقى الحاج فجعل قصى امر السقاية عند وفاته لابنه عبد مناف ولم يزل في ولده حتى ورثه العباس بن عبد المطلب. وسقاية العباس هو الموضع الذى كان يسقى فيه الماء في الجاهلية والاسلام وهو في جهة الجنوب من زمزم بينهما اربعون ذراعا، وقد بنى عليه بناء هو المعروف اليوم بسقاية العباس. والمراد بالسقاية في الاية - على أي حال - معناها المصدرى وهو السقى، ويؤيده مقابلتها في الاية عمارة المسجد الحرام والمراد بها المعنى المصدرى قطعا بمعنى الشغل. وقد قوبل في الاية سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام بمن آمن بالله واليوم الاخر وجاهد في سبيل الله، ولا معنى لدعوى المساواة بين الانسان وبين عمل من الاعمال كالسقاية والعمارة أو نفيها فالمعادلة والمساواة إما بين عمل وعمل أو بين انسان ذى عمل وانسان ذى عمل.

[ 204 ]

ولذلك اضطر المفسرون إلى القول بأن تقدير الكلام: أجعلتم اهل سقاية الحاج وأهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الاخر حتى يستقيم السياق. وأوجب منه النظر في قيود الكلام المأخوذة في الاية الكريمة فقد أخذ في احد الجانبين سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وحدهما من غير أي قيد زائد، وفي الجانب الاخر الايمان بالله واليوم الاخر والجهاد في سبيل الله وإن شئت فقل: الجهاد في سبيل الله مع اعتبار الايمان معه. وهو يدل على أن المراد السقاية والعمارة خاليتين من الايمان، ويؤيده قوله تعالى في ذيل الاية: (والله لا يهدى القوم الظالمين) على تقدير كونه تعريضا لاهل السقاية والعمارة لا تعريضا لمن يسوى بينهما كما يتبادر من السياق. وهذا يكشف اولا عن أن هؤلاء الذين كانوا يسوون بين كذا وكذا وبين كذا إنما كانوا يسوون بين عمل جاهلي خال عن الايمان بالله واليوم الاخر كالسقاية والعمارة من غير ان يكون عن إيمان، وبين عمل دينى عن إيمان بالله واليوم الاخر كالجهاد في سبيل الله عن إيمان، أي كانوا يسوون بين جسد عمل لا حياة فيه وبين عمل حى طيب نفعه فأنكره الله عليهم. وثانيا: أن هؤلاء المسوين كانوا من المؤمنين يسوون بين عمل من غير إيمان، كان صدر عنهم قبل الايمان أو صدر عن مشرك غيرهم، وبين عمل صدر عن مؤمن بالله عن محض الايمان حال إيمانه كما يشهد به سياق الانكار وبيان الدرجات في الايات. بل يشعر بل يدل ذكر نفس السقاية والعمارة من غير ذكر صاحبهما على أن صاحبيهما كانا من اهل الايمان عند التسوية فلم يذكرا حفظا لكرامتهما وهما مؤمنان حين الخطاب ووقاية لهما بالنظر إلى التعريض الظاهر الذى في آخر الاية من ان يسميا ظالمين. بل يدل قوله تعالى في الاية التالية في مقام بيان أجر هؤلاء المجاهدين في سبيل الله عن إيمان: (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله) على أن طرفي التسوية في قوله: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن) الاية كانا من اهل مكة، وأن اهل احد الطرفين وهو الذى آمن وجاهد كان ممن اسلم وهاجر، وأهل الطرف الاخر اسلم ولم يهاجر فإن هذا هو الوجه في ذكره تعالى اولا الايمان والجهاد في

[ 205 ]

الطرفين ثم إضافة الهجرة إلى ذلك عند ما أعيد ثانيا، وقد ذكر تعالى السقاية والعمارة في الجانب الاخر ولم يزد على ذلك شيئا لا اولا ولا ثانيا فما هذه القيود بلاغية في قوله الفصل. وهذا كله يؤيد ما ورد في سبب نزول الاية أن الايات نزلت في العباس وشيبة وعلى عليه السلام حين تفاخروا فذكر العباس سقاية الحاج، وشيبة عمارة المسجد الحرام، وعلى الايمان والجهاد في سبيل الله فنزلت الايات وستجئ الرواية في البحث الروائي المتعلق بالايات. وكيف كان فالاية وما يتلوها من الايات تبين أن الزنة والقيمة إنما هو للعمل إذا كان حيا بولوج روح الايمان فيه وأما الجسد الخالى الذى لا روح فيه ولا حياة له فلا وزن له في ميزان الدين ولا قيمة له في سوق الحقائق فليس للمؤمنين ان يعتبروا مجرد هياكل الاعمال، ويجعلوها ملاكات للفضل وأسبابا للقرب منه تعالى إلا بعد اعتبار حياتها بالايمان والخلوص. ومن هذه الجهة ترتبط الاية: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام) وما بعدها من الايات بالايتين اللتين قبلها: (ما كان للمشركين ان يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر) إلى آخر الآيتين. وبذلك كله يظهر أولا ان قوله: (والله لا يهدى القوم الظالمين) جملة حالية تبين وجه الانكار لحكمهم بالمساواة في قوله: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن) الاية. وثانيا: ان المراد بالظلم هو ما كانوا عليه من الشرك في حال السقاية والعمارة لا حكمهم بالمساواة بين السقاية والعمارة وبين الجهاد عن ايمان. وثالثا: ان المراد نفى ان ينفعهم العمل ويهديهم إلى السعادة التى هي عظم الدرجة والفوز والرحمة والرضوان والجنة الخالدة. قوله تعالى: (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم) إلى آخر الاية بيان لحق الحكم الذى عند الله في المسألة بعد إنكار المساواة، وهو ان الذى آمن وهاجر وجاهد في سبيل الله ما استطاع ببذل ما عنده من مال ونفس، أعظم درجة عند الله وإنما عبر في صورة الجمع - الذين آمنوا الخ - إشارة إلى ان ملاك الفصل هو الوصف دون الشخص. وما تقدم من دلالة الكلام على أن الاعمال من غير إيمان بالله لا فضل لها ولا درجة

[ 206 ]

لصاحبها عند الله، قرينة على ان ليس المراد بالقياس الذى يدل عليه أفعل التفضيل في قوله: (اولئك أعظم درجة) الخ هو ان بين الفريقين اشتراكا في الدرجات غير ان درجة من جاهد عن إيمان أعظم ممن سقى وعمر. بل المراد بيان ان النسبة بينهما نسبة الافضل إلى من لا فضل له كالمقايسة المأخوذة بين الاكثر والاقل فإنها تستدعى وجود حد متوسط بينهما يقاسان إليه فهناك ثلاثة امور أمر متوسط يؤخذ مقياسا معدلا وآخر يكون أكثر منه، وآخر يكون أقل منه فإذا قيس الاكثر من الاقل كان الاكثر مقيسا إلى ما لا كثرة فيه أصلا. فقوله: (اولئك أعظم درجة عند الله) أي بالقياس إلى هؤلاء الذين لا درجة لهم أصلا، وهذا نوع من الكناية عن ان لا نسبة حقيقة بين الفريقين لان أحدهما ذو قدم رفيع فيما لا قدم للاخر فيه أصلا. ويدل على ذلك أيضا قوله: (واولئك هم الفائزون) بما يدل على انحصار الفوز فيهم وثبوتها لهم على نهج الاستقرار. قوله تعالى: (يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات) إلى آخر الايتين ظاهر السياق أن ما يعده من الفضل في حقهم بيان وتفصيل لما ذكر في الاية السابقة من فوزهم جئ به بلسان التبشير. فالمعنى (يبشرهم) أي هؤلاء المؤمنين (ربهم برحمة منه) عظيمة لا يقدر قدرها (ورضوان) كذلك (وجنات لهم فيها) في تلك الجنات (نعيم مقيم) لا يزول ولا ينفد حالكونهم (خالدين فيها أبدا) لا ينقطع خلودهم بأجل ولا أمد. ثم لما كان المقام مقام التعجب والاستبعاد لكونها بشارة بأمر عظيم لم يعهد في ما نشاهده من أنواع النعيم الذى في الدنيا، رفع الاستبعاد بقوله: (إن الله عنده أجر عظيم). و سيوافيك الكلام في توضيح معنى رحمته تعالى ورضوانه فيما سيمر من موضع مناسب وقد تقدم بعض الكلام فيهما. قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء) إلى آخر الاية نهى عن تولى الكفار ولو كانوا آباء وإخوانا فإن الملاك عام، والاية التالية

[ 207 ]

تنهى عن تولى الجميع غير أن ظاهر لفظ الاية النهى عن اتخاذ الاباء والاخوان أولياء إن استحبوا الكفر ورجحوه على الايمان. وإنما ذكر الاباء والاخوان دون الابناء والازواج مع كون القبيلين وخاصة الابناء محبوبين عندهم كالاباء والاخوان لان التولى يعطى للولى ان يداخل امور وليه ويتصرف في بعض شؤون حياته، وهذا هو المحذور الذى يستدعى النهى عن تولى الكفار حتى لا يداخلوا في امورهم الداخلية ولا يأخذوا بمجامع قلوبهم، ولا يكف المؤمنون ولا يستنكفوا عن الاقدام فيما يسوؤهم ويضرهم، ومن المعلوم ان النساء والذراري لا يترقب منهم هذا الاثر السيئ إلا بواسطة، فلذلك خص النهى عن التولى بالاباء والاخوان فهم الذين يخاف نفوذهم في قلوب المؤمنين وتصرفهم في شؤونهم. وقد ورد النهى عن اتخاذ الكفار اولياء في مواضع من كلامه تقدم بعضها في سورة المائدة وآل عمران والنساء والاعراف وفيها إنذار شديد وتهديدات بالغة كقوله تعالى: (ومن يتولهم منكم فانه منهم) المائدة: 51، وقوله: (ويحذركم الله نفسه) آل عمران: 28، وقوله: (ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ) آل عمران: 28، وقوله: (أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا) النساء: 144. وأنذرهم في الاية التى نحن فيها بقوله: (ومن يتولهم منكم فاولئك هم الظالمون) ولم يقل: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) إذ من الجائز ان يتوهم بعض هؤلاء انه منهم لانهم آباؤه وإخوانه فلا يؤثر فيه التهديد أثرا جديدا يبعثه نحو رفض الولاية. وكيف كان فقوله: (ومن يتولهم منكم فاولئك هم الظالمون) بما في الجملة من المؤكدات كإسمية الجملة، ودخول اللام على الخبر وضمير الفصل يفيد تحقق الظلم منهم واستقراره فيهم، وقد كرر الله في كلامه ان الله لا يهدى القوم الظالمين، وقال في نظير الاية من سورة المائدة: (ومن يتولهم منكم فانه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين) فهؤلاء محرومون من الهداية الالهية لا ينفعهم شئ من اعمالهم الحسنة في جلب السعادة إليهم، والسماحة بالفوز والفلاح عليهم. قوله تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم) إلى آخر الاية التفت من مخاطبتهم إلى مخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إيماء إلى الاعراض عنهم لما يستشعر من حالهم أن

[ 208 ]

قلوبهم مائلة إلى الاشتغال بما لا ينفع معه النهى عن تولى آبائهم وإخوانهم الكافرين، وإيجاد الداعي في نفوسهم إلى الصدور عن امر الله ورسوله، وقتال الكافرين جهادا في سبيل الله وإن كانوا آباءهم وإخوانهم. والذى يمنعهم من ذلك هو الحب المتعلق بغير الله ورسوله والجهاد في سبيل الله، وقد عد الله سبحانه اصول ما يتعلق به الحب النفساني من زينة الحياة الدنيا، وهى الاباء والابناء والاخوان والازواج والعشيرة - وهؤلاء هم الذين يجمعهم المجتمع الطبيعي بقرابة نسبية قريبة أو بعيدة أو سببية - والاموال التى اكتسبوها وجمعوها، والتجارة التى يخشون كسادها والمساكن التى يرضونها - وهذه اصول ما يقوم به المجتمع في المرتبة الثانية -. وذكر تعالى أنهم إن تولوا أعداء الدين، وقدموا حكم هؤلاء الامور على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله فليتربصوا ولينتظروا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين. ومن المعلوم أن الشرط أعنى قوله: (إن كان آباؤكم) إلى قوله: (في سبيله) في معنى أن يقال: إن لم تنتهوا عما ينهاكم عنه من اتخاذ الاباء والاخوان الكافرين اولياء باتخاذكم سببا يؤدى إلى خلاف ما يدعوكم إليه، وإهمالكم في أمر غرض الدين وهو الجهاد في سبيل الله. فقوله في الجزاء: (فتربصوا حتى يأتي الله بأمره) لا محالة إما أمر يتدارك به ما عرض على الدين من ثلمة وسقوط غرض في ظرف مخالفتهم، وإما عذاب يأتيهم عن مخالفة أمر الله ورسوله والاعراض عن الجهاد في سبيله. غير ان قوله تعالى في ذيل الاية: (والله لا يهدى القوم الفاسقين) يعرض لهم أنهم خارجون حينئذ عن زى العبودية، فاسقون عن أمر الله ورسوله فهم بمعزل من أن يهديهم الله بأعمالهم ويوفقهم لنصرة الله ورسوله، وإعلاء كلمة الدين وإمحاء آثار الشرك. فذيل الاية يهدى إلى أن المراد بهذا الامر الذى يأمرهم الله أن يتربصوا له حتى يأتي به أمر منه تعالى، متعلق بنصرة دينه وإعلاء كلمته فينطبق على مثل قوله تعالى

[ 209 ]

في سورة المائدة بعد آيات ينهى فيها عن تولى الكافرين: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومه لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) المائدة: 54. والاية بقيودها وخصوصياتها - كما ترى - تنطبق على ما تفيده الاية التى نحن فيها. فالمراد - والله اعلم - ان اتخذتم هؤلاء اولياء، واستنكفتم عن اطاعة الله ورسوله والجهاد في سبيل الله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، ويبعث قوما لا يحبون إلا الله، ولا يوالون اعداءه ويقومون بنصرة الدين والجهاد في سبيل الله افضل قيام فانكم إذا فاسقون لا ينتفع بكم الدين، ولا يهدى الله شيئا من اعمالكم إلى غرض حق وسعادة مطلوبة. وربما قيل: ان المراد بقوله: (فتربصوا حتى يأتي الله بأمره) الاشارة إلى فتح مكة، وليس بسديد فان الخطاب في الاية للمؤمنين من المهاجرين والانصار وخاصة المهاجرين، وهؤلاء هم الذين فتح الله مكة بأيديهم، ولا معنى لان يخاطبوا ويقال لهم: ان كان آباؤكم وابناؤكم (الخ) أحب اليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فواليتموهم واستنكفتم عن اطاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله فتربصوا حتى يفتح الله مكة بأيديكم والله لا يهدى القوم الفاسقين، أو فتربصوا حتى يفتح الله مكة والله لا يهديكم لمكان فسقكم فتأمل. (بحث روائي) في تفسير البرهان في قوله تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج) الاية عن أمالى الشيخ باسناده عن الاعمش عن سالم بن ابى الجعد يرفعه إلى ابى ذر - في حديث الشورى - فيما احتج به على عليه السلام على القوم: وقال لهم في ذلك: فهل فيكم احد نزلت فيه هذه الاية (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الاخر وجاهد في سبيل الله) غيرى ؟ قالوا: لا.

[ 210 ]

وفي تفسير القمى قال: وفي رواية أبى الجارود عن ابى جعفر عليه السلام قال: نزلت هذه الاية في على بن أبى طالب عليه السلام: (الذين آمنوا وهاجروا - إلى قوله - الفائزون) ثم وصف ما لعلى عليه السلام عنده فقال: يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم). وفي المجمع روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني باسناده عن ابى بريدة عن ابيه قال: بينما شيبة والعباس يتفاخران إذ مر عليهما على بن ابى طالب قال: بما تفتخران ؟ قال العباس: لقد اوتيت من الفضل ما لم يؤت احد سقاية الحاج، وقال شيبة: اوتيت عمارة المسجد الحرام، وقال على: وأنا اقول لكما لقد اوتيت على صغرى ما لم تؤتيا فقالا: وما اوتيت يا على ؟ قال: ضربت خراطيمكما بالسيف حتى آمنتما بالله تبارك وتعالى ورسوله. فقام العباس مغضبا يجر ذيله حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أما ترى ما استقبلني به على ؟ فقال: ادعوا لى عليا، فدعى له فقال: ما حملك يا على على ما استقبلت به عمك ؟ فقال: يا رسول الله صدقته الحق فان شاء فليغضب، وإن شاء فليرض. فنزل جبرئيل عليه السلام وقال: يا محمد ربك يقرأ عليك السلام ويقول: أتل عليهم: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الاخر) إلى قوله: (إن الله عنده أجر عظيم). وفي تفسير الطبري بإسناده عن محمد بن كعب القرظى قال: افتخر طلحة ابن شيبة والعباس وعلى بن ابى طالب فقال طلحة: انا صاحب البيت معى مفتاحه، وقال العباس: (وأنا صاحب السقاية والقائم عليها، فقال على: ما أدرى ما تقولان لقد صليت إلى القبلة ستة اشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد، فأنزل الله: (أجعلتم سقاية الحاج) الاية كلها. وفي الدر المنثور اخرج الفاريابى عن ابن سيرين قال: قدم على بن ابى طالب مكة فقال للعباس: أي عم ألا تهاجر ؟ ألا تلحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقال: أعمر المسجد الحرام وأحجب البيت فأنزل الله: (أجعلتم سقاية الحاج) الاية، وقال لقوم قد سماهم: ألا تهاجرون ؟ ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقالوا: نقيم مع إخواننا وعشائرنا ومساكننا فأنزل الله تعالى: (قل إن كان آباؤكم) الاية كلها.

[ 211 ]

وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم عن ابن عباس قال: قال العباس حين أسر يوم بدر: إن كنتم سبقتمونا بالاسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقى الحاج ونفك العانى (1) فأنزل الله: (أجعلتم سقاية الحاج) الاية، يعنى أن ذلك كان في الشرك فلا أقبل ما كان في الشرك. وفيه أخرج مسلم وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابن حبان والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نفر من اصحابه فقال رجل منهم: ما أبالى أن لا أعمل لله عملا بعد الاسلام إلا أن أسقى الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم. فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا اصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك يوم الجمعة، ولكن إذا صليتم الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل الله: (أجعلتم سقاية الحاج) إلى قوله: (والله لا يهدى القوم الظالمين). أقول: قال صاحب المنار في تفسيره بعد إيراد هذه الروايات الاربع الاخيرة: والمعتمد من هذه الروايات حديث النعمان لصحة سنده وموافقة متنه لما دلت عليه الايات من كون موضوعها في المفاضلة أو المساواة بين خدمة البيت وحجابته - من اعمال البر البدنية الهينة المستلذة - وبين الايمان والجهاد بالمال والنفس والهجرة، وهى أشق العبادات النفسية البدنية المالية، والايات تتضمن الرد عليها كلها. انتهى. اما ما ذكره من رجحان رواية النعمان على غيرها بصحة السند ففيه اولا أن رواية القرظى ايضا في مضمونها موافقة لرواية الحاكم في المستدرك وقد صححها. وثانيا: ان روايات التفسير إذا كانت آحادا لا حجية لها إلا ما وافق مضامين الايات بقدر ما يوافقها على ما بين في فن الاصول فإن الحجية الشرعية تدور مدار الاثار الشرعية المترتبة فتنحصر في الاحكام الشرعية واما ما وراءها كالروايات الواردة في القصص والتفسير الخالى عن الحكم الشرعي فلا حجية شرعية فيها. وأما الحجية العقلية أعنى العقلائية فلا مسرح لها بعد توافر الدس والجعل في


(1) العاني: الاسير. (*)

[ 212 ]

الاخبار سيما اخبار (1) التفسير والقصص إلا ما تقوم قرائن قطعية يجوز التعويل عليها على صحة متنه، ومن ذلك موافقة متنه لظواهر الايات الكريمة. فالذي يهم الباحث عن الروايات غير الفقهية ان يبحث عن موافقتها للكتاب فان وافقتها فهى الملاك لاعتبارها ولو كانت مع ذلك صحيحة السند فإنما هي زينة زينت بها وإن لم توافق فلا قيمة لها في سوق الاعتبار. وأما ترك البحث عن موافقة الكتاب، والتوغل في البحث عن حال السند - إلا ما كان للتوسل إلى تحصيل القرائن - ثم الحكم باعتبار الرواية بصحة سندها ثم تحميل ما يدل عليه متن الرواية على الكتاب، واتخاذه تبعا لذلك كما هو دأب كثير منهم فمما لا سبيل إليه من جهة الدليل. وأما ما ذكره من رجحان رواية النعمان على غيرها من جهة المتن مبينا ذلك بأن الايات تدل على ان موضوع المساواة أو المفاضلة كان بين خدمة البيت أو حجابته وهى من أعمال البر البدنية الهينة المستلذة، وبين الايمان والجهاد والهجرة وهى من أعمال البر النفسية والبدنية الشاقة، والايات تتضمن الرد عليها كلها. انتهى. ففيه اولا: إن الذى ذكره من مدلول الايات مشترك بين جميع ما أورده من الروايات: أما رواية ابن عباس التى مضمونها وقوع الكلام في المساواة أو المفاضلة حين أسر العباس يوم بدر بين العباس وبين المسلمين حيث عيروه فقد ذكر فيها صريحا المقايسة بين الاسلام والهجرة والجهاد وبين سقاية الحاج وعمارة المسجد وفك العانى، وهناك روايات أخر في معناه. وأما رواية ابن سيرين الدالة على وقوع النزاع بين على والعباس بمكة حين دعاه إلى الهجرة واللحوق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فأجابه بأن له عمارة المسجد الحرام وحجابة البيت وقد روى هذا المعنى ابن مردويه عن الشعبى وفيها: أن العباس قال لعلى: أنا عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنت ابن عمه، وإلى سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، فأنزل الله: (أجعلتم سقاية الحاج) الاية.


(1) وقد اعترف في كلامه ونقل عن احمد انه قال: لا اصل لها. (*)

[ 213 ]

ورواه ايضا ابن ابى شيبة وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد الله بن عبيدة وفيها: ان العباس قال لعلى: أو لست في افضل من الهجرة ؟ ألست أسقى الحاج وأعمر المسجد الحرام فنزلت هذه الاية. وعلى أي حال فالواقع في هذه الرواية ايضا المقايسة بين السقاية والعمارة وبين الهجرة وما يترتب عليا مما يستلزمه اللحوق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كالجهاد وغيره من الاعمال الشريفة الدينية. وأما رواية القرظى وما في معناها كالذى رواه الحاكم وصححه، وما رواه عبد الرزاق عن الحسن قال: نزلت في على والعباس وعثمان وشيبة (1) تكلموا في ذلك، وكذا رواية النعمان التى تقدمت فكون المنازعة فيها في السقاية والعمارة والايمان والجهاد ظاهر فإذا كان الحال هذا الحال فأى مزية في رواية النعمان بن بشير توجب اختصاصها بموافقة الكتاب من بين سائر الروايات. وثانيا: ان قوله: إن موضوع المفاضلة هي اعمال البر الهينة المستلذة كالسقاية والحجابة وأعمال البر الشاقة كالايمان والهجرء والجهاد لا يوافق ما يدل عليه الايات فإنها كما تقدم ظاهرة الدلالة على ان المقايسة كانت بينهم بين اجساد الاعمال الخالية عن روح الايمان وليست من البر حينئذ وبين اعمال حية بولوج روح الايمان فيها كالهجرة والجهاد عن ايمان بالله و اليوم الاخر. فالايات تدل على انهم كانوا يسوون أو يفضلون غير اعمال البر كالسقاية والعمارة من غير ايمان على اعمال البر كالجهاد عن ايمان وهجرة و الهجرة عن ايمان فأين ما ذكره من اعمال البر الهينة قبال اعمال البر الشاقة (2) ؟ ودلالة الايات - بما فيها من القيود المأخوذة - على ذلك بمكان من الظهور والجلاء فقد قيد الجهاد فيها بالايمان بالله واليوم الاخر، وأطلق السقاية و العمارة من غير تقييد بالايمان ثم قال تعالى: (لا يستوون عند الله) ثم زاد: (والله لا يهدى القوم الظالمين)


(1) ابن شيبة ظ. (2) نعم زعم هو ان السقاية والعمارة من العباس في حال شركه من اعمال البر كما زعمه العباس غير ان الايات بنزولها نبهت العباس انه كان قد اخطأفى مزعمته كما يشعر به ذيل رواية اابن عباس ولم يتنبه هو لما تنبه له العباس رضى الله عنه. (*)

[ 214 ]

وحاشا ان يكون الاتى بأعمال البر عند الله من القوم الظالمين المحرومين عن نعمة الهداية الالهية. حتى لو فرض ان المراد بالظالمين اولئك المسوون أو المفضلون من المؤمنين للسقاية والعمارة على الجهاد فإن المؤمن على ايمانه إذا حكم بمثل هذا الحكم فإنما هو خاط يهتدى إذا دل على الصواب لا ظالم محروم من الهداية فافهم ذلك. وثالثا: ما تقدم من ان قوله: (كمن آمن بالله) الاية وقوله: (لا يستوون) الاية دليل على ان للشخص دخلا فيما تتضمن الايات من الحكم. والتدبر في الايات الكريمة والتأمل فيما ذكرناه هنا وهناك يوضح للباحث الناقد ان اضعف الروايات وأبعدها من الانطباق على مضمون الايات هي رواية النعمان بن بشير فإنها لا تقبل الانطباق على الايات الكريمة بما فيها من القيود المأخوذة. ويليها في الضعف رواية ابن سيرين وما في معناها من الروايات فإن ظاهرها ان العباس إنما دعى إلى الهجرة وهو مسلم فافتخر بالسقاية والحجابة والايات لا تساعد على ذلك كما مر. على أن الواقع في رواية ابن سيرين ذكر العباس للسقاية وحجابة البيت ولم يكن له حجابة إنما هي السقاية. ويليها في الضعف رواية ابن عباس فظاهرها ان المقايسة إنما كانت بين الاعمال فقط والاية لا تساعد على ذلك. على أن فيها ان العباس ذكر فيما ذكر سقاية الحاج وعمارة المسجد وفك العانى وهو الاسير. ولو كان لذكر في الاية، وقد وقع في رواية ابن جرير وأبى الشيخ عن الضحاك في هذا المعنى قال: اقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك. فقال العباس: أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونفك العانى، ونحجب البيت ونسقى الحاج فأنزل الله: (أجعلتم سقاية الحاج) الاية، والكلام في فك العانى وحجابة البيت الواقعين فيها كالكلام في سابقها. فأسلم الروايات في الباب وأقربها إلى الانطباق على الايات مضمونا رواية القرظى وما في معناها كرواية الحاكم في المستدرك ورواية عبد الرزاق عن الحسن ورواية أبى

[ 215 ]

نعيم وابن عساكر عن انس الاتية، وقد تقدم توضيح ذلك. وفي الدر المنثور أخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة وابن عساكر عن انس قال: قعد العباس وشيبة صاحب البيت يفتخران فقال العباس: أنا أشرف منك أنا عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووصى أبيه، وساقى الحجيج، فقال شيبة: أنا أشرف منك أنا أمين الله على بيته وخازنه أفلا ائتمنك كما ائتمننى ؟ فاطلع عليهما على فأخبراه بما قالا فقال على: أنا أشرف منكما أنا أول من آمن وهاجر فانطلق ثلاثتهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبروه فما أجابهم بشئ فانصرفوا فنزل عليه الوحى بعد أيام فأرسل إليهم فقرأ عليهم: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام) إلى آخر العشر. وفي تفسير القمى عن أبيه عن صفوان عن ابن مسكان عن أبى بصير عن أبى جعفر عليه السلام: قال: نزلت في على والعباس وشيبة. قال العباس: أنا افضل لان سقاية الحاج بيدى، وقال شيبة: أنا أفضل لان حجابة البيت بيدى، وقال على: أنا أفضل فإنى آمنت قبلكما ثم هاجرت وجاهدت فرضوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله: (أجعلتم سقاية الحاج - إلى قوله - إن الله عنده أجر عظيم). أقول: ورواه العياشي عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليه السلام مثله، وفيه عثمان بن أبى شيبة مكان شيبة. وفي الكافي عن أبى على الاشعري عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان بن يحيى عن ابن مسكان عن أبى بصير عن أحدهما عليهما السلام في قول الله: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الاخر) نزلت في حمزة وعلى وجعفر والعباس وشيبة، إنهم فخروا بالسقاية والحجابة فأنزل الله عز ذكره: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الاخر) وكان على وحمزة وجعفر هم الذين آمنوا بالله واليوم الاخر وجاهدوا في سبيل الله. لا يستوون عند الله. أقول: ورواه أيضا العياشي في تفسيره عن أبى بصير عن أحدهما عليهما السلام مثله. والرواية لا تلائم ما يثبته النقل القطعي فقد كان حمزة من المهاجرين الاولين لحق برسول صلى الله عليه وآله وسلم ثم استشهد في غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة، وقد كان جعفر

[ 216 ]

هاجر إلى الحبشة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم رجع إلى المدينة أيام فتح خيبر وقد استشهد حمزة قبل ذلك بمدة فلو كان من الخمسة اجتماع على التفاخر فقد كان قبل الهجرة النبوية وحينئذ فما معنى ما وقع في الرواية: (وكان على وحمزة وجعفر هم الذين آمنوا بالله واليوم الاخر وجاهدوا في سبيل الله) ؟ وإن كان المراد بالنزول فيهم انطباق الاية عليهم على سبيل الجرى فقد كان العباس مثلهم فإنه آمن يوم أسر ببدر ثم حضر بعض غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي تفسير البرهان عن الجمع بين الصحاح الستة للعبدى في الجزء الثاني من صحيح النسائي بإسناده قال: افتخر طلحة بن شيبة من بنى عبد الدار والعباس بن عبد المطلب وعلى بن أبى طالب فقال طلحة: بيدى مفتاح البيت ولو أشاء بت فيه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها ولو أشاء بت في المسجد، وقال على: ما أدرى ما تقولان ؟ لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد فأنزل الله: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام) الاية. أقول: المراد بالصلاة ستة أشهر قبل الناس التقدم في الايمان بالله على ما تعرضت له الاية وإلا كان من الواجب أن تذكر في الاية، وقد ذكر ثالث القوم طلحة بن شيبة، وقد تقدم في بعضها أنه شيبة، وفي بعضها أنه عثمان بن أبى شيبة. وفي تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب عن أبى حمزة عن أبى جعفر عليه السلام في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الايمان) قال: الايمان ولاية على بن أبى طالب. أقول: هو من باطن القرآن مبنى على تحليل معنى الايمان إلى مراتب كماله. وفي تفسير القمى: لما أذن امير المؤمنين ان لا يدخل المسجد الحرام مشرك بعد ذلك جزعت قريش جزعا شديدا، وقالوا: ذهبت تجارتنا وضاعت عيالنا وخربت دورنا فأنزل الله في ذلك: (قل - يا محمد - إن كان آباؤكم وابناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم - إلى قوله - والله لا يهدى القوم الفاسقين). أقول: وعلى هذا كان من الجرى أن يفسر قوله في الاية: (حتى يأتي الله بأمره) بتدارك ما ينزل بهم من الكساد وفتح باب الرزق عليهم من وجه آخر كما

[ 217 ]

وقع مثله في قوله تعالى في ضمن الايات التالية: (يا ايها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يدخلوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وان خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ان الله عليم حكيم) التوبة: 28. بل اتحد حينئذ موردا الايتين، ولسان الرفق وكرامة الخطاب بمثل قوله: (يا ايها الذين آمنوا) يأبى ان يكون الخطاب بقوله: (ان كان آباؤكم وابناؤكم) الاية متوجها إليهم بأعيانهم على ما في آخرها من الخشونة في قوله: (والله لا يهدى القوم الفاسقين). على ان الاية تذكر حب الاباء والاخوان والعشيرة والاموال التى اقترفوها، ولم يذكر شئ منها في الرواية، ولا حسبت قريش ضيعة بالنسبة إليها فما معنى ذكرها في الاية والتهديد على اختيار حبها على حب الله ورسوله ؟ وما معنى ذكر الجهاد في سبيله في الاية ؟ فافهم ذلك. وفى الدر المنثور أخرج احمد والبخاري عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال: والله لانت يا رسول الله أحب إلى من كل شئ إلا من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا يؤمن احدكم حتى أكون احب إليه من نفسه. * * * لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين - 25. ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين - 26. ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم - 27. يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام

[ 218 ]

بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم - 28. (بيان) تشير الايات إلى قصة غزوة حنين وتمتن بما نصر الله فيه المؤمنين كسائر المواطن من الغزوات التى نصرهم الله بعجيب نصرته على ضعفهم وقلتهم، وأظهر اعاجيب آياته بتأييد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وإنزال جنود لم يروها وإنزال السكينة على رسوله والمؤمنين وتعذيب الكافرين بأيدى المؤمنين. وفيها الاية التى تحرم على المشركين أن يدخلوا المسجد الحرام بعد عام تسع من الهجرة، وهى العام الذى أذن فيه على عليه السلام ببراءة، ومنع طواف البيت عريانا، ودخول المشركين في المسجد الحرام. قوله تعالى: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين - إلى قوله - ثم وليتم مدبرين) المواطن جمع موطن وهو الموضع الذى يسكنه الانسان ويتوطن فيه. وحنين إسم واد بين مكة والطائف وقع فيه غزوة حنين قاتل فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هوازن وثقيف وكان يوما شديدا على المسلمين انهزموا اولا ثم أيدهم الله بنصره فغلبوا. والاعجاب الاسرار والعجب سرور النفس بما يشاهده نادرا، والرحب السعة في المكان وضده الضيق. وقوله: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) ذكر لنصرته تعالى لهم في مواطن كثيرة ومواضع متعددة يدل السياق على انها مواطن الحروب كوقائع بدر وأحد والخندق وخيبر وغيرها، ويدل السياق أيضا أن الجملة كالمقدمة الممهدة لقوله: (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم) الاية فإن الايات الثلاث مسوقة لتذكير قصة وقعة حنين، وعجيب ما أفاض الله عليهم من نصرته وخصهم به من تأييده فيها. وقد استظهر بعض المفسرين كون الاية وما يتلوها إلى تمام الايات الثلاث تتمة لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما أمره ربه أن يواجه به المؤمنين في قوله: (قل ان كان آباؤكم)

[ 219 ]

الاية وتكلف في توجيه الفصل الذى في قوله: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة). ولا دليل من جهة اللفظ على ذلك بل الدليل على خلافه فان قصة حنين وما يشتمل عليه من الامتنان بنصر الله وإنزال السكينة وإنزال الجنود وتعذيب الكافرين والتوبة على من يشاء أمر مستقل في نفسه ذو اهمية في ذاته وهو أهم هدفا من قوله تعالى: (قل ان كان آباؤكم وأبناؤكم) الاية أو هو مثله لا يقصر عنه فلا معنى لاتباعه إياه وعطفه عليه في المعنى. وحينئذ لو كان مما يجب ان يخاطب به القوم لكان من الواجب ان يقال: (وقل لهم لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) الاية، على ما جرى عليه القرآن في نظائره كقوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد - إلى ان قال - قل أئنكم لتكفرون بالذى خلق الارض في يومين) حم السجدة: 9 وغيره من الموارد. على ان سياق الايات وما يجب ان تشتمل عليه من الالتفات وغيره - لو كانت الايات مقولة للقول - لا تلائم كونها مقولة للقول السابق. والخطاب في قوله: (لقد نصركم الله) وما يتلوه من قوله: (إذ اعجبتكم كثرتكم) الاية، للمسلمين وهم الذين يؤلفون مجتمعا إسلاميا واحدا حضروا بوحدتهم هذه الوحدة امثال وقائع بدر وأحد والخندق وخيبرا وحنينا وغيرها. وهؤلاء فيهم المنافقون والضعفاء في الايمان والمؤمنون صدقا على اختلافهم في المنازل إلا أن الخطاب متوجه إلى الجميع باعتبار اشتماله على من يصح ان يخاطب بمثل قوله: (إذ اعجبتكم كثرتكم) إلى آخر الاية. وقوله: (ويوم حنين) أي ويوما وقعت فيه القتال بينكم ويسن اعدائكم بوادي حنين، وإضافة اليوم إلى امكنة الوقائع العظيمة شائع في العرف كما يقال: يوم بدر ويوم أحد ويوم الخندق نظير إضافته إلى الجماعة المتلبسين بذلك كيوم الحزاب ويوم تميم، وإضافته إلى نفس الحادثة كيوم فتح مكة. وقوله: (إذ أعجبتكم كثرتكم) اي أسرتكم الكثرة التي شاهدتموها في انفسكم فانقطعتم عن الاعتماد بالله والثقة بايده وقوته واستندتم إلى الكثرة فرجوتم ان ستدفع عنكم كيد العدو وتهزم جمعهم، وإنما هو سبب من الاسباب الظاهرية

[ 220 ]

لا أثر فيها إلا ما شاء الله الذي إليه تسبيب الاسباب. وبالنظر إلى هذا المعنى أردف قوله: (إذ اعجبتكم كثرتكم) بقوله: (فلم تغن عنكم شيئا) اي اتخذتموها سببا مستقلا دون الله فانساكم الاعتماد بالله، وركنتم إليها فبان لكم ما في وسع هذا السبب الموهوم وهو ان لا غنى عنده حتى يغنيكم فلم يغن عنكم شيئا لا نصرا ولا شيئا آخر. وقوله: (وضاقت عليكم الارض بما رحبت) اي مع ما رحبت، وهو كناية عن إحاطة العدو بهم احاطة لا يجدون مع ذلك مامنا من الارض يستقرون فيه ولا كهفا ياوون إليه فيقيهم من العدو، اي فررتم فرارا لا تلوون على شئ. فهو قريب المعنى من قوله تعالى في قصة الحزاب: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم واذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا) الحزاب: 10. وقول بعضهم: أي ضاقت عليكم الارض فلم تجدوا موضعا تفرون إليه. غير سديد. وقوله: (ثم وليتم مدبرين) أي جعلتم العدو يلي أدباركم وهو كنايه عن الانهزام وهذا هو الفرار من الزحف ساقهم إليه اطمئنانهم بكثرتهم والانقطاع من ربهم، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار ومن يولهم يومئذ دبره - إلى ان قال - فقد باء بغضب من الله وماواه جهنم وبئس المصير) الانفال: 16 وقال ايضا: (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار وكان عهد الله مسؤولا) الاحزاب: 15. فهذا كله اعني ضيق الارض عليهم بما رحبت ثم انهزامهم وفرارهم من الزحف على ما فيه من كبير الاثم، ووقوفهم هذا الموقف الذى يستتبع العتاب من ربهم إنما ساقهم إليه اعتمادهم واطمئنانهم إلى هذه الاسباب السرابية التى لا تغنى عنهم شيئا. والله سبحانه بسعة رحمته وعظم منه امتن عليهم بنصره وإنزال سكينته وإنزال جنود لم يروها، وتعذيب الكافرين، ووعد مجمل بمغفرته: وعدا ليس بالمقطوع وجوده حتى تبطل به صفة الخوف من قلوبهم ولا بالمقطوع عدمه حتى تزول صفة الرجاء من نفوسهم بل وعدا يحفظ فيهم الاعتدال والتوسط بين صفتي الخوف

[ 221 ]

والرجاء، ويربيهم تربية حسنة تعدهم وتهياهم للسعادة الواقعية. وقد اغرب بعض المفسرين في تفسير الاية مستظهرا بما جمع به بين الروايات على اختلافها فاصر على ما ملخصه ان المسلمين لم يفروا على جبن، وإنما انكشفوا عن موضعهم لما فاجاهم من شد كتائب ثقيف وهوازن عليهم شد رجل واحد فاضطربوا اضطرابة زلزلتهم وكشفتهم عن موضعهم دفعة واحدة وهذا امر طبيعي في الانسان إذا فاجاه الخطر ودهمته بلية دفعة ومن غير مهل اضطربت نفسه وخلى عن موضعه. ويشهد به نزول السكينة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم جميعا فقد كان الاضطراب شمله وإياهم جميعا، غير ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصابه ما أصابه من الاضطراب والقلق حزنا وأسفا مما وقع، والمسلمون شملهم ذلك لما فوجئوا به من حملة الكتائب حملة رجل واحد. ومن الشواهد انهم بمجرد ما سمعوا نداء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ونداء العباس بن عبد المطلب رجعوا من فورهم وهزموا الكفار بالسكينة النازلة عليهم من عند الله تعالى. ثم ذكر ما نزل من الايات في صفة الصحابة كاية بيعة الرضوان، وقوله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار) الاية، وقوله: (إن الله اشترى من المؤمنين انفسهم وأموالهم بان لهم الجنة) الاية، وما ورد من طريق الرواية في مدح صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. انتهى. والذى اورده من الخلط بين البحث التفسيرى الذى لا هم له إلا الكشف عما يدل عليه الايات الكريمة، وبين البحث الكلامي الذى يرام به إثبات ما يدعيه المتكلم في شئ من المذاهب من أي طريق أمكن من عقل أو كتاب أو سنة أو إجماع أو المختلط منها والبحث التفسيرى لا يبيح لباحثه شيئا من ذلك، ولا تحميل أي نظر من الانظار العلمية على الكتاب الذى أنزله الله تبيانا. أما قوله: إنهم لم يفروا جبنا ولا خذلانا للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وإنما كان انكشافا لامر فاجاهم فاضطربوا وزلزلوا ففروا ثم كروا فهذا مما لا يندفع به صريح قوله تعالى: (ثم وليتم مدبرين) مع اندراج هذا الفعل منهم تحت كلية قوله تعالى في آية تحريم الفرار من الزحف: (فلا تولوهم الادبار ومن يولهم يومئذ دبره - إلى ان قال - فقد باء بغضب من الله) الاية.

[ 222 ]

ولم يقيد سبحانه النهى عن تولية الادبار بانه يجب ان يكون عن جبن أو لغرض الخذلان، ولا استثنى من حكم التحريم كون الفرار عن اضطراب مفاجئ، ولا اورد في استثنائه إلا ما ذكره بقوله: (إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة) وليس هذان المستثنيان في الحقيقة من الفرار من الزحف. ولم يورد تعالى ايضا فيما حكى من عهدهم شيئا من الاستثناء إذ قال: (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار وكان عهد الله مسؤولا) الاحزاب: 15. وأما استشهاده على ذلك بان الاضطراب كان مشتركا بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واستدلاله على ذلك بقوله تعالى: (ثم انزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) حيث إن نزول السكينة بعد انكشافهم بزمان - على ما تدل عليه كلمة ثم - يلازم نزول الاضطراب عند ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان عن حزن وأسف إذ لا يتصور في حقه صلى الله عليه وآله وسلم التزلزل في ثباته وشجاعته. فلننظر فيما اعتبره للنبى صلى الله عليه وآله وسلم من الحزن والاسف هل كان ذلك حزنا وأسفا على ما وقع من الامر من انهزام المسلمين وما ابتلاهم الله به من الفتنة والمحنة جزاء لما أعجبوا من كثرة عددهم، وبالجملة حزنا مكروها عند الله ؟ فقد نزهه الله عن ذلك وأدبه بما نزل عليه من كتابه وعلمه من علمه، وقد أنزل عليه مثل قوله عز من قائل: (ليس لك من الامر شئ) آل عمران: 128، وقال: (سنقرؤك فلا تنسى) الاعلى: 6. ولم يرد في شئ من روايات القصة أنه صلى الله عليه وآله وسلم زال عن مكانه يومئذ أو اضطرب اضطرابا مما نزل على المسلمين من الوهن والانهزام. وإن كان ذلك حزنا وأسفا على المسلمين لما أصابهم من ناحية خطاهم في الاعتماد بغير الله والركون إلى سراب الاسباب الظاهرة، والذهول عن الاعتصام بالله سبحانه حتى أوقعهم في خطيئة الفرار من الزحف لما كان هو صلى الله عليه وآله وسلم عليه من الرافة والرحمة بالمؤمنين فهذا أمر يحبه الله سبحانه وقد مدح رسوله صلى الله عليه وآله وعليه به أذ قال: (بالمؤمنين رؤوف رحيم) التوبة: 128. وليس يزول مثل هذا الاسف والحزن بنزول السكينة عليه، ولا أن السكينة لو فرض نزولها لاجله مما حدث بعد وقوع الانهزام حتى يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاليا عنها

[ 223 ]

قبل ذلك بل كان صلى الله عليه وآله وسلم على بينة من ربه منذ بعثه الله إلى ان قبضه إليه، وكانت السكينة بهذا المعنى نازلة عليه حينا بعد حين. ثم السكينة التى نزلت على المؤمنين ما هي ؟ وما ذا يحسبها ؟ أكانت هي الحالة النفسانية التى تحصل من السكون والطمانينة كما فسرها بها واستشهد عليه بقول صاحب المصباح: إنها تطلق على الرزانة والمهابة والوقار حتى كانت ثبات الكفار وسكونهم في مواقفهم الحربية عن سكينة نازلة إليهم ؟ فان كانت السكينة هي هذه فقد كانت في أول الوقعة عند كفار هوازن وثقيف خصماء المسلمين ثم تركتهم ونزلت على عامة جيش المسلمين من مؤمن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن مؤمن لم يثبت واختار الفرار على القرار، ومن منافق ومن ضعيف الايمان مريض القلب فانهم جميعا رجعوا ثانيا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وثبتوا معه حتى هزموا العدو فهم جميعا أصحاب السكينة أنزلها الله إليهم فما باله تعالى يقصر إنزال السكينة على رسوله وعلى المؤمنين إذ يقول: (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) ؟ على انه إن كانت السكينة هي هذه، وهى مبتذلة مبذولة لكل مؤمن وكافر فما معنى ما امتن الله به على المؤمنين بما ظاهره انها عطية خاصة غير مبتذلة ؟ ولم يذكرها في كلامه إلا في موارد معدودة - بضعة موارد - لا تبلغ تمام العشرة. وبذلك يظهر ان السكينة أمر وراء السكون والثبات لا ان لها معنى في اللغة أو العرف وراء مفهوم الحالة النفسانية الحاصلة من السكون والطمانينة بل بمعنى ان الذى يريده تعالى من السكينة في كلامه له مصداق غير المصداق الذى نجده عند كل شجاع باسل له نفس ساكنة وجاش مربوط، وإنما هي نوع خاص من الطمأنينة النفسانية له نعت خاص وصفة مخصوصة. كيف ؟ وكلما ذكرها الله سبحانه في كلامه امتنانا بها على رسوله وعلى المؤمنين خصها بالانزال من عنده فهى حالة إلهية لا ينسى العبد معها مقام ربه لا كما عليه عامة الشجعان أولوا الشدة والبسالة المعجبون ببسالتهم المعتمدون على أنفسهم. وقد احتفت في كلامه باوصاف وآثار لا تعم كل وقار وطمانينة نفسانية كما قال في حق رسوله: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا فانزل الله سكينته عليه

[ 224 ]

وأيده بجنود لم تروها) التوبه: 40 وقال تعالى في المؤمنين (لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فانزل السكينة عليهم) الفتح: 18 فذكر انه إنما أنزل السكينة عليهم لما علمه من قلوبهم فنزولها يحتاج إلى حالة قلبية طاهرة سابقة يدل السياق على انها الصدق ونزاهة القلب عن أبطان نية الخلاف. وقال أيضا: (هو الذى أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا ايمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والارض) الفتح: 4 فذكر ان من اثرها زيادة الايمان مع الايمان وقال ايضا: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فانزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها) الفتح: 26، والاية - كما ترى - تذكر ان نزول السكينة من عنده تعالى مسبوق باستعداد سابق وأهلية وأحقية قبلية وهو الذى اشير إليه في الاية السابقة بقوله: (فعلم ما في قلوبهم فانزل السكينة). وتذكر أن من آثارها لزوم كلمة التقوى، وطهارة ساحة الانسان عن مخالفة الله ورسوله باقتراف المحارم وورود المعاصي. وهذا كالمفسر يفسر قوله في الاية الاخرى: (ليزدادوا إيمانا مع ايمانهم) فازدياد الايمان مع الايمان بنزول السكينة هو ان يكون الانسان على وقاية إلهية من اقتراف المعاصي وهتك المحارم مع ايمان صادق باصل الدعوة الحقة. وهذا نعم الشاهد يشهد أولا: ان المراد بالمؤمنين في قوله في الاية المبحوث عنها (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) غير المنافقين وغير مرضى القلوب وضعفاء الايمان، ولا يبقى إلا من ثبت من المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهم ثلاثة أو اربعة أو تسعة أو عشرة أو ثمانون أو دون المائة على اختلاف الروايات في احصائهم، ومن فر وانكشف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولا ثم رجع وقاتل ثانيا وفيهم جل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدة من خواصهم. فهل المراد بالمؤمنين الذين نزلت عليهم، جميع من ثبت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن فر أولا ثم رجع ثانيا، أو انهم هم الذين ثبتوا معه من المؤمنين حتى نزل النصر ؟ الذى يستفاد من آيات السكينة ان نزولها متوقف على طهارة قلبيه وصفاء نفسي سابق حتى يقرها الله تعالى بالسكينه، وهؤلاء كانوا مقترفين لكبيرة الفرار من الزحف

[ 225 ]

آثمين قلوبا، ولا محل لنزول السكينة على من هذا شانه فان كانوا ممن نزلت عليهم السكينة كان من الواجب ان يندموا على ما فعلوا، ويتوبوا إلى ربهم توبة نصوحا بقلوب صادقة حتى يعلم الله ما في قلوبهم فينزل السكينة عليهم فيكونون أذنبوا اولا ثم تابوا ورجعوا ثانيا، فانزل الله سكينته عليهم ونصرهم على عدوهم، ولعل هذا هو الذى يشير إليه التراخي المفهوم من قوله تعالى (ثم أنزل الله سكينته عليهم) حيث عبر ب (ثم). لكن يبقى عليه اولا، أنه كان من اللازم على هذا ان يتعرض في الكلام لتوبتهم فيختص حينئذ قوله: (ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم) على الكفار الذين اسلموا بعد منهم، ولا أثر من ذلك في الكلام ولا قرينة تخص قوله: (ثم يتوب الله) الخ بالكافرين الذين اسلموا بعد، فافهم ذلك. وثانيا: أن في ذلك غمضا عن جميل المسعى والمحنة الحسنة التى امتحن بها اولئك النفر القليل الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين تركه جموع المسلمين بين الاعداء وانهزموا فارين لا يلوون على شئ، ومن المستبعد من دأب القرآن ان يهمل امر من تحمل محنة في ذات الله، وألقى نفسه في أشق المهالك ابتغاء مرضاته - وهو شاكر عليم - فلا يحمده ولا يشكر سعيه. والمعهود من دأب القرآن أنه إذا عم قوما بعتاب أو توبيخ وذم، وفيهم من هو برئ من استحقاق اللوم أو العتاب أو طاهر من دنس الاثم والخطيئة ان يستثنيه منهم ويخصه بجميل الذكر، ويحمده على عمله وإحسانه كما نراه كثيرا في الخطابات التى تعمم اليهود أو النصارى عتابا أو ذما وتوبيخا فانه تعالى يخاطبهم بما يخاطب ويوبخهم وينسب إليهم الكفر باياته والتخلف عن أوامره ونواهيه، ثم يمدح منهم الاقلين الذين آمنوا به وباياته وأطاعوه فيما أراد منهم. وأوضح من ذلك ما يتعرض من الايات لوقعة أحد وتمتن على المؤمنين بما أنزل الله عليهم من النصرة والكرامة، ويعاتبهم على ما اظهروه من الوهن والفشل ثم يستثنى الثابتين منهم على أقدام الصدق، ويعدهم وعدا حسنا إذ قال مرة بعد مرة: (وسيجزى الله الشاكرين) آل عمران: 144، (وسنجزي الشاكرين) آل عمران: 145. ونجد مثله في ما يذكره الله سبحانه من أمر وقعة الاحزاب فان في كلامه عتابا

[ 226 ]

شديدا لجمع من المؤمنين، وتوبيخا وذما للمنافقين والذين في قلوبهم مرض حتى قال فيما قال: (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار وكان عهد الله مسؤولا) الاحزاب: 15، ثم إنه تعالى ختم القصة بمثل قوله: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) الاحزاب: 23. فما باله تعالى لم يتعرض لحالهم في قصة حنين، وليست باهون من غيرها، ولا خصهم بشئ من الشكر، ولا حمدهم بما يمتنون به من لطيف حمده تعالى كغيرهم في غيرها. فهذا الذى ذكرناه مما يقرب إلى الاعتبار أن يكون المراد بالمؤمنين الذين ذكر نزول السكينة عليهم هم الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأما سائر المؤمنين ممن رجع بعد الانكشاف فهم تحت شمول قوله: (ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم) يشمل من شملته العناية منهم كما يشمل من شملته العناية والتوفيق من كفار هوازن وثقيف ومن الطلقاء والذين في قلوبهم مرض. هذا ما يهدى إليه البحث التفسيرى، وأما الروايات فلها شانها وسياتى طرف منها. وأما ما ذكره من شهادة رجوعهم من فورهم حين سمعوا نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونداء العباس فذلك مما لا يبطل ما قدمناه من ظهور قوله تعالى: (ثم وليتم مدبرين) إذا انضم إلى قوله: (إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار) الاية في أن ما ظهر منهم في الوقعة من الفعل كان فرارا من الزحف فعلوه عن جبن أو تعمد في خذلان أو عن قلق واضطراب وتزلزل. وأما ما ذكره من الايات التى تمدحهم وتذكر رضى الرب عنهم واستحقاقهم جزيل الاجر من ربهم. ففيه أن هذه المحامد مقيدة فيها بقيود لا يتحتم معها لهم الامر فان الايات إنما تحمد من تحمده منهم لما به من نعوت العبودية كالايمان والاخلاص والصدق والنصيحة والمجاهدة الدينية فالحمد باق ما بقيت الصفات، والوعد الحسن على اعتباره ما لبثت فيهم النعوت والاحوال الموجبه له فإذا زالت لحادثة أو خطيئة زال بتبعه. وليس ما عندهم من مبادئ الخير والبركات باعظم ولا أهم مما عند الانبياء من صفة العصمة يستحيل معها صدور الذنب منهم، وقد قال الله تعالى بعد ثناء طويل عليهم: (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) الانعام: 88.

[ 227 ]

وقد قال تعالى قبال ما ظنوا أنهم مصونون عن ما يكرهونه من أقسام المجازاة كرامة لاسلامهم كما ظن نظيره أهل الكتاب: (ليس بامانيكم ولا أمانى اهل الكتاب من يعمل سوء يجز به) النساء: 123. والذى ورد في بيعة الرضوان من قوله: (لقد رضى الله) فانما رضاه تعالى من صفاته الفعلية التى هي عين أفعاله الخارجية منتزعة منها فهو عين ما أفاض عليهم من الحالات الطاهرة النفسية التى تستعقب بطباعها جزيل الجزاء وخير الثواب إن بقيت أعمالهم على ما هي عليها وأن تغيرت تغير الرضى سخطا والنعمة نقمة ولم ياخذ أحد عليه تعالى عهدا أن لا يخلف عهده فيحمله على السعادة والكرامة أحسن أو أساء، أطاع أو عصى، آمن أو كفر. وليس رضى الرب من صفاته الذاتية التى يتصف بها في ذاته فلا يعرضه تغير أو تبدل ولا يطرا عليه زوال أو دثور. قوله تعالى: (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) إلى آخر الاية السكينة - كما تقدم - حالة قلبية توجب سكون النفس وثبات القلب ملازمة لازدياد الايمان مع الايمان ولكلمة التقوى التى تهدى إلى الورع عن محارم الله على ما تفسرها الايات. وهى غير العدالة التى هي ملكة نفسانية تردع عن ركوب الكبائر والاصرار على الصغائر فان السكينة تردع عن الصغائر والكبائر جميعا. وقد نسب الله السكينة في كتابه إلى نفسه نسبة تشعر بنوع من الاختصاص كما نسب الروح إلى نفسه دون العدالة ووصفها بالانزال فلها اختصاص عندي به تعالى بل ربما يشعر بعض الايات بأنه عدها من جنوده كقوله تعالى: (هو الذى أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والارض) الفتح: 4. وفي غير واحد من الايات المشتملة على ذكر السكينة ذكر الجنود كقوله: (فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها) التوبة: 40، وكما في الاية المبحوث عنها: (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها). والذى يفهم من السياق ان هذه الجنود هي الملائكة النازلة إلى المعركة، أو أن يقال من جملتها الملائكة النازلة والذى ينتسب إلى السكينة والملائكة أن يعذب بهم

[ 228 ]

الكفار ويسدد ويسعد بهم المؤمنون كما اشتملت عليه آيات آل عمران القاصة قصة أحد، وآيات في أول سورة الفتح فراجعها حتى يتبين لك حقيقة الحال إن شاء الله تعالى. وقد تقدم في قوله تعالى: (فيه سكينة من ربكم) البقرة: 248 في الجزء الثاني من الكتاب بعض ما يتعلق بالسكينة الالهية من الكلام مما لا يخلو من نفع في هذا المقام. قوله تعالى: (ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم) قد تقدم مرارا أن التوبة من الله سبحانه هي الرجوع إلى عبده بالعناية والتوفيق اولا ثم بالعفو والمغفرة ثانيا، ومن العبد الرجوع إلى ربه بالندامة والاستغفار، ولا يتوب الله على من لا يتوب إليه. والاشارة في قوله: (من بعد ذلك) على ما يعطيه السياق إلى ما ذكره في الايتين السابقتين من خطيئتهم بالركون إلى غير الله سبحانه ومعصيتهم بالفرار والتولى ثم إنزال السكينة وإنزال الجنود وتعذيب الذين كفروا. والملائم لذلك ان يكون الموصول في (من يشاء) شاملا للمسلمين والكافرين جميعا فقد ذكر من الفريقين جميعا ما يصلح لان يتوب الله عليهم فيه إن تابوا، وهو من الكفار كفرهم ومن المسلمين خطيئتهم ومعصيتهم، ولا وجه لتخصيص التوبة على بعضهم مع ما في آيات التوبة من عموم الحكم وسعته ولم يقيد في هذه الاية المبحوث عنها بما يوجب اختصاصها بأحد الفريقين: المسلمين أو الكافرين مع وجود المقتضى فيهما جميعا. ومما ذكرنا يظهر فساد ما فسر به بعضهم الاية مع قصر الاشارة على التعذيب إذ قال: إن معناها ثم يتوب الله تعالى بعد هذا التعذيب الذى يكون في الدنيا على من يشاء من الكافرين فيهديهم إلى الاسلام وهم الذين لم يحط بهم خطيئات جهالة الشرك وخرافاته من جميع جوانب انفسهم، ولم يختم على نفوسهم بالاصرار على الجحود والتكذيب أو الجمود على ما ألفوا بمحض التقليد. انتهى. وقد عرفت أن تخصيص الاية بما ذكر والتصرف في سائر قيوده كقصر الاشارة على التعذيب وغير ذلك مما لا دليل عليه البتة. والوجه في التعبير بالاستقبال في قوله: (ثم يتوب الله) الاشارة إلى انفتاح باب التوبة دائما، وجريان العناية وفيضان العفو والمغفرة الالهية مستمرا بخلاف ما

[ 229 ]

يشير إليه قوله: (فأنزل الله سكينته) الاية، فإن ذلك امور محدودة غير جارية. قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) قال في المجمع: كل مستقذر نجس يقال: رجل نجس وامرأة نجس وقوم نجس لانه مصدر، وإذا استعملت هذه اللفظة مع الرجس قيل: رجس نجس - بكسر النون - قال: والعيلة الفقر يقال عال يعيل إذا افتقر. انتهى. والنهى عن دخول المشركين المسجد الحرام بحسب المتفاهم العرفي يفيد أمر المؤمنين بمنعهم عن دخول المسجد الحرام، وفي تعليله تعالى منع دخولهم المسجد بكونهم نجسا اعتبار نوع من القذارة لهم كاعتبار نوع من الطهارة والنزاهة للمسجد الحرام، وهى كيف كانت أمر آخر وراء الحكم باجتناب ملاقاتهم بالرطوبة وغير ذلك. والمراد بقوله: (عامهم هذا) سنة تسع من الهجرة، وهى السنة التى أذن فيها على عليه السلام بالبراءة، ومنع طواف البيت عريانا، وحج المشركين البيت. وقوله: (وإن خفتم عيلة) الاية، أي وإن خفتم في إجراء هذا الحكم أن ينقطعوا عن الحج، ويتعطل أسواقكم وتذهب تجارتكم فتفتقروا وتعيلوا فلا تخافوا فسوف يغنيكم الله من فضله، ويؤمنكم من الفقر الذى تخافونه. وهذا وعد حسن منه تعالى فيه تطييب نفوس أهل مكة ومن كان له تجارة هناك بالموسم، وكان حاضر العالم الاسلامي يبشرهم يومئذ بمضمون هذا الوعد فقد كان الاسلام تعلو كلمته، وينتشر صيته حالا بعد حال، وكانت عامة المشركين في عتبة الاستئصال بعد إيذان براءة لم يبق لهم إلا أربعة أشهر إلا شرذمة قليلة من العرب كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاهدهم عند المسجد الحرام إلى أجل ما بعده من مهل فالجميع كانوا في معرض قبول الاسلام. (بحث روائي) في الكافي عن على بن ابراهيم عن بعض أصحابه ذكره قال: لما سم المتوكل نذر إن عوفي ان يتصدق بمال كثير فلما عوفي سأل الفقهاء عن حد المال الكثير فاختلفوا عليه فقال بعضهم: مائة الف، وقال بعضهم: عشرة آلاف فقالوا فيه أقاويل مختلفة فاشتبه عليه الامر. فقال رجل من ندمائه يقال له صفوان: ألا تبعث إلى هذا الاسود فاسأله عنه ؟

[ 230 ]

فقال له المتوكل: من تعنى ويحك ؟ فقال: ابن الرضا. فقال له: وهو يحسن من هذا شيئا ؟ فقال: إن أخرجك من هذا فلى عليك كذا وكذا وإلا فاضربني مائة مقرعة فقال المتوكل: رضيت، يا جعفر بن محمود إذهب إلى ابى الحسن على بن محمد فاسأله عن حد المال الكثير، فسأله فقال له: الكثير ثمانون. فقال له جعفر بن محمود: يا سيدى إنه يسألنى عن العلة فيه فقال له أبو الحسن عليه السلام: إن الله عز وجل يقول: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) فعددنا تلك المواطن فكان ثمانين. أقول: ورواه القمى ايضا في تفسيره وبعض أصحابه الذى ذكر في الرواية أنه سماه هو محمد بن عمرو على ما ذكره في التفسير. ومعنى الرواية أن الثمانين من مصاديق الكثير بدلالة من الكتاب لا أن الكثير معناه الثمانون وهو ظاهر. وفي المجمع ذكر اهل التفسير وأصحاب السير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما فتح مكة خرج منها متوجها إلى حنين لقتال هوازن وثقيف في آخر شهر رمضان أو في شوال في سنة ثمان من الهجرة، وقد اجتمع رؤساء هوازن إلى مالك بن عوف النصرى، وساقوا معهم أموالهم ونساءهم وذراريهم ونزلوا بأوطاس. قال: وكان دريد بن الصمة في القوم، وكان رئيس جشم، وكان شيخا كبيرا قد ذهب بصره من الكبر فقال: بأى واد انتم ؟ قالوا: بأوطاس. قال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس، ولا سهل دهس، ما لى أسمع رغاء البعير ونهيق الحمير وخوار البقر وثغاء الشاة وبكاء الصبيان ؟ فقالوا: إن مالك بن عوف ساق مع الناس أبناءهم وأموالهم ونساءهم ليقاتل كل منهم عن أهله وماله فقال دريد: راعى ضأن ورب الكعبة. ثم قال: ائتونى بمالك فلما جاءه قال: يا مالك إنك أصبحت رئيس قومك، وهذا يوم له ما بعده، رد قومك إلى عليا بلادهم، والق الرجال على متون الخيل فإنه لا ينفعك إلا رجل بسيفه وفرسه فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك لا تكون قد فضحت في أهلك وعيالك، فقال له مالك: إنك قد كبرت وذهب علمك وعقلك. وعقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لواءه الاكبر ودفعه إلى على بن ابى طالب عليه السلام، وكل من دخل مكة براية أمره ان يحملها، وخرج بعد ان أقام بمكة خمسة عشر يوما، وبعث إلى صفوان بن أمية فاستعار منه مائة درع فقال صفوان: عارية أم غصب ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

[ 231 ]

عارية مضمونة مؤداة، فأعاره صفوان مائة درع وخرج معه، وخرج من مسلمة الفتح ألفا رجل، وكان صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة في عشرة آلاف رجل وخرج منها في اثنى عشر الفا. وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا من أصحابه فانتهى إلى مالك بن عوف وهو يقول لقومه: ليصير كل رجل منكم أهله وماله خلف ظهره، واكسروا جفون سيوفكم واكمنوا في شعاب هذا الوادي وفي السحر فإذا كان في غبش الصبح فاحملوا حملة رجل واحد فهدوا القوم فإن محمدا لم يلق احدا يحسن الحرب. ولما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه الغداة انحدر في وادى حنين فخرجت عليهم كتائب هوازن من كل ناحية، وانهزمت بنو سليم وكانوا على المقدمة وانهزم ما وراءهم، وخلى الله تعالى بينهم وبين عدوهم لاعجابهم بكثرتهم وبقى على عليه السلام ومعه الراية يقاتلهم في نفر قليل ومر المنهزمون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يلوون على شئ. وكان العباس بن عبد المطلب أخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والفضل عن يمينه، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب عن يساره، ونوفل بن الحارث وربيعة بن الحارث في تسعة من بنى هاشم، وعاشرهم أيمن بن ام أيمن، وفي ذلك يقول العباس: نصرنا رسول الله في الحرب تسعة وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا وقولى إذا ما الفضل كر بسيفه على القوم اخرى يا بنى ليرجعوا وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه لما ناله في الله لا يتوجع ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله سلم هزيمة القوم عنه قال للعباس - وكان جهوريا صيتا - اصعد هذا الظرب فناد: يا معشر المهاجرين والانصار يا اصحاب سورة البقرة يا اهل بيعة الشجرة إلى أين تفرون ؟ هذا رسول الله. فلما سمع المسلمون صوت العباس تراجعوا وقالوا: لبيك لبيك، وتبادر الانصار خاصة وقاتلوا المشركين حتى قال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: الان حمى الوطيس. أنا النبي لا كذب (1) أنا ابن عبد المطلب، ونزل النصر من عند الله، وانهزمت هوازن هزيمة قبيحة ففروا في كل وجه، ولم يزل المسلمون في آثارهم.


(1) غير كذب خ. (*)

[ 232 ]

وفر مالك بن عوف فدخل حصن الطائف، وقتل منهم زهاء مائة رجل، وأغنم الله المسلمين اموالهم ونساءهم، وأمر رسول الله بالذرارى والاموال ان تحدر إلى الجعرانة، وولى على الغنائم بديل بن ورقاء الخزاعى. ومضى صلى الله عليه وآله وسلم في أثر القوم فوافى الطائف في طلب مالك بن عوف فحاصر اهل الطائف بقية الشهر فلما دخل ذو القعدة انصرف وأتى الجعرانة، وقسم بها غنائم حنين وأوطاس. قال سعيد بن المسيب: حدثنى رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقفوا لنا حلب شاة فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم حتى إذ انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء يعنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتلقانا رجال بيض الوجوه فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا اكتافنا فكانوا إياها يعنى الملائكة. قال الزهري: وبلغني ان شيبة بن عثمان قال: استدبرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا اريد ان اقتله بطلحة بن عثمان وعثمان بن طلحة وكانا قد قتلا يوم أحد فأطلع الله رسوله على ما في نفسي فالتفت إلى وضرب في صدري، وقال: أعيذك بالله يا شيبة فأرعدت فرائصي فنظرت إليه وهو احب إلى من سمعي وبصرى فقلت: اشهد انك رسول الله، وأن الله اطلعك على ما في نفسي. وقسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الغنائم بالجعرانة، وكان معه من سبى هوازن ستة آلاف من الذرارى والنساء، ومن الابل والشاه ما لا يدرى عدته قال أبو سعيد الخدرى: قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمتألفين من قريش ومن سائر العرب ما قسم، ولم يكن في الانصار منها شئ قليل ولا كثير فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إن هذا الحى من الانصار وجدوا عليك في قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب ولم يكن فيهم من ذلك شئ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: فأين أنت من ذلك يا سعد ؟ فقال: ما أنا إلا امرؤ من قومي فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فاجمع لى قومك في هذه الحظيرة فجمعهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام فيهم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا معشر الانصار أو لم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله وأعداء فألف

[ 233 ]

بين قلوبكم ؟ قالوا: بلى يا رسول الله. ثم قال: ألا تجيبوني يا معشر الانصار ؟ فقالوا: وما نقول ؟ وبما ذا نجيبك ؟ المن لله ولرسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم: جئتنا طريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، وخائفا فآمناك، ومخذولا فنصرناك. فقالوا: المن لله ولرسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وجدتم في أنفسكم يا معشر الانصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الاسلام. أفلا ترضون يا معشر الانصار ان تذهب الناس إلى رحالهم بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم ؟ فو الذى نفسي بيده لو ان الناس سلكوا شعبا وسلكت الانصار شعبا لسلكت شعب الانصار ولو لا الهجرة لكنت امرءا من الانصار. اللهم ارحم الانصار وأبناء الانصار وأبناء ابناء الانصار فبكى القوم حتى اخضلت لحاهم، وقالوا: رضينا بالله ورسوله قسما ثم تفرقوا. وقال انس بن مالك: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امر مناديا فنادى يوم اوطاس: ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن، ولا غير الحبالى حتى يستبرأن بحيضة. ثم اقبلت وفود هوازن وقدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجعرانة مسلمين فقام خطيبهم وقال: يا رسول الله إنما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك اللاتى كن يكفلنك فلو أنا ملحنا ابن ابى شمر أو النعمان بن المنذر ثم أصابنا منهما مثل الذى اصابنا منك رجونا عائدتهما وعطفهما وأنت خير المكفولين ثم أنشد أبياتا. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أي الامرين أحب إليكم: السبى أو الاموال ؟ قالوا: يا رسول الله خيرتنا بين الحسب وبين الاموال، والحسب أحب إلينا ولا نتكلم في شاة ولا بعير فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما الذى لبنى هاشم فهو لكم وساكلم لكم المسلمين وأشفع لكم فكلموهم وأظهروا إسلامكم. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الهاجرة قاموا فتكلموا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قد رددت الذى لبنى هاشم والذى بيدى عليهم فمن أحب منكم أن يعطى غير مكره فليفعل ومن كره أن يعطى فليأخذ الفداء وعلى فداؤهم فأعطى الناس ما كان بأيديهم منهم إلا قليلا من الناس سألوا الفداء.

[ 234 ]

وأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مالك بن عوف وقال: ان جئتني مسلما رددت اليك أهلك ومالك ولك عندي مائة ناقة فخرج إليه من الطائف فرد عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الابل واستعمله على من أسلم من قومه. أقول: وروى القمى في تفسيره مثله ولم يرو ما نسب من الرجز إليه صلى الله عليه وآله وسلم وكذا ما أسنده إلى راو معين كالمسيب والزهرى وأنس وأبى سعيد، وروى هذه المعاني بطرق كثيرة من طرق أهل السنة. وفي رواية على بن إبراهيم القمى زيادة يسيرة هي ما يأتي: قال على بن ابراهيم: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الهزيمة ركض يحوم على بغلته قد شهر سيفه (1) فقال: يا عباس اصعد هذا الظرب وناد: يا أصحاب [ سورة ] البقرة يا أصحاب الشجرة إلى اين تفرون ؟ هذا رسول الله. ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده وقال: اللهم لك الحمد ولك الشكر واليك المشتكى وأنت المستعان فنزل إليه جبرئيل فقال: يا رسول الله دعوت بما دعا به موسى بن عمران حين فلق الله له البحر ونجاه من فرعون. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابي سفيان بن الحارث: ناولنى كفا من حصى فناوله فرماه في وجوه المشركين ثم قال: شاهت الوجوه. ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم ان تهلك هذه العصابة لم تعبد وإن شئت ان لا تعبد لا تعبد. فلما سمعت الانصار نداء العباس عطفوا وكسروا جفون سيوفهم وهم ينادون: لبيك ومروا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واستحيوا ان يرجعوا إليه ولحقوا بالراية فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للعباس: من هؤلاء يا أبا الفضل ؟ فقال: يا رسول الله هؤلاء الانصار فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الان حمى الوطيس فنزل النصر من السماء وانهزمت هوازن وفي الدر المنثور أخرج أبو الشيخ عن محمد بن عبيد الله بن عمير الليثى قال: كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعة آلاف من الانصار و ألف من جهينة، وألف من مزينة وألف من أسلم وألف من غفار وألف من أشجع وألف من المهاجرين وغيرهم فكان معه عشرة


(1) وفى نسخة البحار: ركض نحو على بغلته فرآه قد شهر سيفه. (*)

[ 235 ]

آلاف وخرج باثنى عشر ألفا وفيها قال الله تعالى في كتابه: (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا). وفي سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق قال ": فلما انهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن: فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهى هزيمتهم دون البحر. وإن الازلام لمعه في كنانته وصرخ جبلة بن الحنبل قال ابن هشام: كلدة بن الحنبل - وهو مع أخيه صفوان بن أميه مشرك في المدة التى جعل له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -: ألا بطل السحر اليوم، فقال له صفوان اسكت فض الله فاك فو الله لان يربنى رجل من قريش أحب إلى من ان يربنى رجل من هوازن. قال ابن إسحاق: وقال شيبة بن عثمان بن ابى طلحة أخو بنى عبد الدار: قلت: اليوم أدرك ثارى - وكان ابوه قتل يوم أحد - اليوم أقتل محمدا قال: فادرت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاقتله فاقبل شئ حتى تغشى فؤادى فلم أطق ذاك فعلمت انه ممنوع منى (فهرس أسماء شهداء حنين) في سيرة ابن هشام قال ابن اسحاق: وهذه تسمية من استشهد يوم حنين من المسلمين: من قريش ثم من بنى هاشم أيمن بن عبيد ومن بنى اسد بن عبد العزى يزيد بن زمعة بن الاسود بن المطلب بن اسد جمح به فرس يقال له الجناح فقتل. ومن الانصار سراقة بن الحارث بن عدى من بنى العجلان ومن الاشعريين أبو عامر الاشعري. أقول: وأما الثباة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد عدوا في بعض الروايات ثلاثة وفي بعضها اربعة وفي بعضها تسعة عاشرهم أيمن بن عبيد - وهو ابن ام أيمن - وفي بعضها ثمانين وفي بعضها: دون المائة. المتعمد من بينها ما روى عن العباس أنهم كانوا تسعة عاشرهم أيمن وله في ذلك شعر تقدم نقله وذلك انه كان ممن ثبت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم طول الوقعة وشاهد ما كان من الامر وهو الذى كان ينادى المنهزمين ويستلحقهم بامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد باهى بما قاله من الشعر.

[ 236 ]

ومن الممكن ان يثبت جمع بعد انهزام الناس هنيئة ثم يلحقوا بالمنهزمين أو يرجع جمع قبل رجوع غيرهم فيلحقوا بالراية فيعدوا ممن ثبت وقاتل فالحرب العوان لا يجرى على ما يجرى عليه السلم من النظم. ومن هنا يعلم ما في قول بعضهم: أن الارجح رواية الثمانين كما عن عبد الله ابن مسعود واليها يرجع ما رواه ابن عمر انهم كانوا دون المائة فان الحجة لمن حفظ على من لم يحفظ، انتهى ملخصا. وذلك ان كون الحجة لمن حفظ على من لم يحفظ حق لكن الحفظ في حال الحرب على ما فيه من التحول السريع في الاوضاع الحاضرة غير الحفظ في غيره فلا يعتمد إلا على ما شهدت القرائن لصحته وأيد الاعتبار وثاقة حفظه وقد كان العباس مامورا بما من شانه حفظ هذا الشان وما يرتبط به. * * * * قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزيه عن يد وهم صاغرون - 29. وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بافواههم يضاهؤن قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون - 30. اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون - 31. يريدون أن يطفؤوا نور الله بافواههم ويابى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون - 32. هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق

[ 237 ]

ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون - 33. يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الاحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم - 34. يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لانفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون - 35. (بيان) الايات تامر بقتال اهل الكتاب ممن يمكن تبقيته بالجزية وتذكر امورا من وجوه انحرافهم عن الحق في الاعتقاد والعمل. قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب) أهل الكتاب هم اليهود والنصارى على ما يستفاد من آيات كثيرة من القرآن الكريم وكذا المجوس على ما يشعر أو يدل عليه قوله تعالى: (ان الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين اشركوا ان الله يفصل بينهم يوم القيامة ان الله على كل شئ شهيد) الحج: 17 حيث عدوا في الاية مع سائر ارباب النحل السماوية في قبال الذين اشركوا، والصابئون كما تقدم طائفد من المجوس صبوا إلى دين اليهود فاتخذوا طريقا بين الطريقين. والسياق يدل على ان لفظه (من) في قوله: (من الذين اوتوا الكتاب) بيانية لا تبعيضية فان كلا من اليهود والنصارى والمجوس امد واحدة كالمسلمين في اسلامهم وان تشعبوا شعبا مختلفة وتفرقوا فرقا متشتتة اختلط بعضهم ببعض ولو كان المراد قتال البعض واثبات الجزية على الجميع أو على ذلك البعض بعينه لاحتاج المقام في افادة ذلك إلى بيان غير هذا البيان يحصل به الغرض. وحيث كان قوله: (من الذين اوتوا الكتاب) بيانا لما قبله من قوله: (الذين

[ 238 ]

لا يؤمنون) الاية فالاوصاف المذكورة اوصاف عامة لجميعهم وهى ثلاثة اوصاف وصفهم الله سبحانه بها: عدم الايمان بالله واليوم الاخر، وعدم تحريم ما حرم الله ورسوله، وعدم التدين بدين الحق. فاول ما وصفهم به قوله: (الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر) وهو تعالى ينسب إليهم في كلامه أنهم يثبتونه إلها وكيف لا ؟ وهو يعدهم اهل الكتاب، وما هو إلا الكتاب السماوي النازل من عند الله على رسول من رسله ويحكى عنهم القول أو لازم القول بالالوهية في مئات من آيات كتابه. وكذا ينسب إليهم القول باليوم الاخر في أمثال قوله: (وقالوا لن تمسنا النار إلا اياما معدودة) البقره: 80، وقوله: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) البقرة: 111. غير أنه تعالى لم يفرق في كلامه بين الايمان به والايمان باليوم الاخر فالكفر باحد الامرين كفر بالله والكفر بالله كفر بالامرين جميعا، وحكم فيمن فرق بين الله ورسله فامن ببعض دون بعض أنه كافر كما قال: (ان الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون ان يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون ان يتخذوا بين ذلك سبيلا اولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) النساء: 151. فعد اهل الكتاب ممن لم يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كفارا حقا وان كان عندهم ايمان بالله واليوم الاخر، لا بلسان أنهم كفروا باية من آيات الله وهى آية النبوة بل بلسان أنهم كفروا بالايمان بالله فلم يؤمنوا بالله واليوم الاخر كما ان المشركين ارباب الاصنام كافرون بالله إذ لم يوحدوه وان اثبتوا إلها فوق الالهة. على أنهم يقررون أمر المبدء والمعاد تقريرا لا يوافق الحق بوجه كقولهم بان المسيح ابن الله وعزيرا ابن الله يضاهؤون في ذلك قول الذين كفروا من ارباب الاصنام والاوثان ان من الالهة من هو إله اب إله ومن هو إله ابن إله، وقول اليهود في المعاد بالكرامة وقول النصارى بالتفدية. فالظاهر أن نفى الايمان بالله واليوم الاخر عن اهل الكتاب انما هو لكونهم لا يرون ما هو الحق من امر التوحيد والمعاد وان اثبتوا اصل القول بالالوهية لا لان

[ 239 ]

منهم من ينكر القول بالوهية الله سبحانه أو ينكر المعاد فانهم قائلون بذلك على ما يحكيه عنهم القرآن وان كانت التوراة الحاضرة اليوم لا خبر فيها عن المعاد اصلا. ثم وصفهم ثانيا بقوله: (ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله) وذلك كقول اليهود باباحة اشياء عدها وذكرها لهم القرآن في سورتي البقرة والنساء وغيرهما وقول النصارى بإباحة الخمر ولحم الخنزير، وقد ثبت تحريمهما في شرائع موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام وأكلهم اموال الناس بالباطل كما سينسبه إليهم في الاية الاتية: (إن كثيرا من الاحبار والرهبان ليأكلون اموال الناس بالباطل). والمراد بالرسول في قوله: (ما حرم الله ورسوله) اما رسول انفسهم الذى قالوا بنبوته كموسى عليه السلام بالنسبه إلى اليهود وعيسى عليه السلام بالنسبة إلى النصارى فالمعنى لا يحرم كل امة منهم ما حرمه عليهم رسولهم الذى قالوا بنبوته، واعترفوا بحقانيته وفي ذلك نهاية التجرى على الله ورسوله واللعب بالحق والحقيقة. وإما النبي محمد صلى لله عليه وآله وسلم الذى يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التى كانت عليهم. ويكون حينئذ توصيفهم بعدم تحريمهم ما حرم الله ورسوله بغرض تأنيبهم والطعن فيهم ولبعث المؤمنين وتهييجهم على قتالهم لعدم اعتنائهم بما حرمه الله ورسوله في شرعهم واسترسالهم في الوقوع في محارم الله وهتك حرماته. وربما أيد هذا الاحتمال أن لو كان المراد بقوله: (ورسوله) رسول كل أمة بالنسبة إليها كموسى بالنسبة إلى اليهود وعيسى بالنسبة إلى النصارى كان من حق الكلام ان يقال: (ولا يحرمون ما حرم الله ورسله) على ما هو دأب القرآن في نظائره للدلالة على كثرة الرسل كقوله: (ويريدون ان يفرقوا بين الله ورسله) النساء: 150، وقوله: (قالت رسلهم أفى الله شك) ابراهيم: 10، وقوله: (وجاءتهم رسلهم بالبينات) يونس: 13. على أن النصارى رفضوا محرمات التوراة الانجيل فلم يحرموا ما حرم موسى وعيسى (ع)، وليس من حق الكلام في مورد هذا شأنه: أنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله. على أن المتدبر في المقاصد العامة الاسلامية لا يشك في أن قتال اهل الكتاب حتى يعطوا الجزية ليس لغرض تمتع أولياء الاسلام ولا المسلمين من متاع الحياة الدنيا واسترسالهم

[ 240 ]

وانهما كهم في الشهوات على حد المترفين من الملوك والرؤساء المسرفين من أقوياء الامم. وإنما غرض الدين في ذلك ان يظهر دين الحق وسنة العدل وكلمة التقوى على الباطل والظلم والفسق فلا يعترضها في مسيرها اللعب والهوى فتسلم التربية الصالحة المصلحة من مزاحمة التربية الفاسدة المفسدة حتى لا ينجر إلى أن تجذب هذه إلى جانب، وتلك إلى جانب، فيتشوش أمر النظام الانساني إلا ان لا يرتضى واحد أو جماعة التربية الاسلامية لنفسه أو لانفسهم فيكونون أحرارا فيما يرتضونه لانفسهم من تربية دينهم الخاصة على شرط ان يكونوا على شئ من دين التوحيد، وهو اليهودية أو النصرانية أو المجوسية، وأن لا يتظاهروا بالمزاحمة، وهذا غاية العدل والنصفة من دين الحق الظاهر على غيره. وأما الجزية فهى عطية مالية مأخوذة منهم مصروفة في حفظ ذمتهم وحسن إدارتهم ولا غنى عن مثلها لحكومة قائمة على ساقها حقة أو باطلة. ومن هذا البيان يظهر أن المراد بهذه المحرمات: المحرمات الاسلامية التى عزم الله أن لا تشيع في المجتمع الاسلامي العالمي كما أن المراد بدين الحق هو الذى يعزم ان يكون هو المتبع في المجتمع. ولازم ذلك ان يكون المراد بالمحرمات: المحرمات التى حرمها الله ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصادع بالدعوة الاسلامية، وأن يكون الاوصاف الثلاثة: (الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر) الاية في معنى التعليل تفيد حكمة الامر بقتال اهل الكتاب. وبذلك كله يظهر فساد ما أورد على هذا الوجه أنه لا يعقل ان يحرم اهل الكتاب على أنفسهم ما حرم الله ورسوله علينا إلا إذا أسلموا، وإنما الكلام في اهل الكتاب لا في المسلمين العاصين. وجه الفساد أنه ليس من الواجب ان يكون الغرض من قتالهم ان يحرموا ما حرم الاسلام وهم أهل الكتاب بل أن لا يظهر في الناس التبرز بالمحرمات من غير مانع يمنع شيوعها والاسترسال فيها كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير وأكل المال بالباطل على سبيل العلن بل يقاتلون ليدخلوا في الذمه فلا يتظاهروا بالفساد، ويحتبس الشر فيما بينهم أنفسهم. ولعله إلى ذلك الاشارة بقوله: (وهم صاغرون) على ما سيجئ في الكلام على ذيل الاية.

[ 241 ]

ثم وصفهم ثالثا بقوله: (ولا يدينون دين الحق) أي لا يأخذونه دينا وسنة حيوية لانفسهم. وإضافة الدين إلى الحق ليست من إضافة الموصوف إلى صفته على ان يكون المراد الدين الذى هو حق بل من الاضافة الحقيقة، والمراد به الدين الذى هو منسوب إلى الحق لكون الحق هو الذى يقتضيه للانسان ويبعثه إليه، وكون هذا الدين يهدى إلى الحق ويصل متبعيه إليه فهو من قبيل قولنا طريق الحق وطريق الضلال بمعنى الطريق الذى هو للحق والطريق الذى هو للضلال إى ان غايته الحق أو غايته الضلال. وذلك أن المستفاد من مثل قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) الروم: 30، وقوله: (إن الدين عند الله الاسلام) آل عمران: 19، وسائر ما يجرى هذا المجرى من الايات أن لهذا الدين أصلا في الكون والخلقة والواقع الحق، يدعو إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويندب الناس إلى الاسلام والخضوع له ويسمى اتخاذه سنة في الحياة إسلاما لله تعالى فهو يدعو إلى ما لا مناص للانسان عن استجابته والتسليم له وهو الخضوع للسنة العملية الاعتبارية التى يهدى إليها السنة الكونية الحقيقية، وبعبارة اخرى التسليم لارادة الله التشريعية المنبعثة عن إرادته التكوينية. وبالجملة للحق الذى هو الواقع الثابت دين وسنة ينبعث منه كما ان للضلال والغى دينا يدعو إليه، والاول اتباع للحق كما ان الثاني اتباع للهوى، قال تعالى: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والارض). والاسلام دين الحق بمعنى انه ستة التكوين والطريقة التى تنطبق عليها الخلقة وتدعو إليها الفطرة فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم. فتلخص مما تقدم أولا: أن المراد بعدم إيمان اهل الكتاب بالله واليوم الاخر عدم تلبسهم بالايمان المقبول عند الله، وبعدم تحريمهم ما حرم الله ورسوله عدم مبالاتهم في التظاهر باقتراف المناهى التى يفسد التظاهر بها المجتمع البشرى ويخيب بها سعى الحكومة الحقة لجارية فيه، وبعدم تدينهم بدين الحق عدم استنانهم بسنة الحق المنطبقة على الخلقة والمنطبقة عليها الخلقة والكون.

[ 242 ]

وثانيا: أن قوله: (الذين لا يؤمنون بالله) إلى آخر الاوصاف الثلاثة مسوق لبيان الحكمة في الامر بقتالهم ويترتب عليه فائدة التحريض والتحضيض عليه. وثالثا: أن المراد قتال اهل الكتاب جميعا لا بعضهم بجعل (من) في قوله: (من الذين أوتوا الكتاب) للتبعيض. قوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) قال الراغب في المفردات: الجزية ما يؤخذ من أهل الذمة، وتسميتها بذلك للاجتزاء بها في حقن دمهم. انتهى. وفي المجمع: الجزية فعلة من جزى يجزى مثل العقدة والجلسة وهى عطية مخصوصة جزاء لهم على تمسكهم بالكفر عقوبة لهم. عن على بن عيسى. انتهى. والاعتماد على ما ذكره الراغب فانه المتأيد بما ذكرناه آنفا أن هذه عطية مالية مصروفة في جهة حفظ ذمتهم وحقن دمائهم وحسن إدارتهم. وقال الراغب ايضا: الصغر والكبر من الاسماء المتضادة التى تقال عند اعتبار بعضها ببعض فالشئ قد يكون صغيرا في جنب الشئ وكبيرا في جنب آخر - إلى ان قال - يقال: صغر صغرا - بالكسر فالفتح - في ضد الكبير وصغر صغرا وصغارا - بالفتحتين فيهما - في الذلة. والصاغر الراضي بالمنزلة الدنية: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) انتهى. والاعتبار بما ذكر في صدر الاية من اوصافهم المقتضية لقتالهم ثم إعطاؤهم الجزية لحفظ ذمتهم يفيد أن يكون المراد بصغارهم خضوعهم للسنة الاسلامية والحكومة الدينية العادلة في المجتمع الاسلامي فلا يكافؤوا المسلمين ولا يبارزوهم بشخصية مستقلة حرة في بث ما تهواه انفسهم وإشاعة ما اختلقته هوساتهم من العقائد والاعمال المفسدة للمجتمع الانساني مع ما في إعطاء المال بأيديهم من الهوان. فظاهر الاية أن هذا هو المراد من صغارهم لا إهانتهم والسخرية بهم من جانب المسلمين أو اولياء الحكومة الدينية فان هذا مما لا يحتمله السكينة والوقار الاسلامي وإن ذكر بعض المفسرين. واليد: الجارحة من الانسان وتطلق على القدرة والنعمة فان كان المراد به في

[ 243 ]

قوله: (حتى يعطوا الجزية عن يد) هو المعنى الاول فالمعنى حتى يعطوا الجزية متجاوزة عن يدهم إلى يدكم، وإن كان المراد هو المعنى الثاني فالمعنى: حتى يعطوا الجزية عن قدرة وسلطة لكم عليهم وهم صاغرون غير مستعلين عليكم ولا مستكبرين. فمعنى الاية - والله اعلم - قاتلوا اهل الكتاب لانهم لا يؤمنون بالله واليوم الاخر إيمانا مقبولا غير منحرف عن الصواب ولا يحرمون ما حرمه الاسلام مما يفسد اقترافه المجتمع الانساني ولا يدينون دينا منطبقا على الخلقة الالهية قاتلوهم ودوموا على قتالهم حتى يصغروا عندكم ويخضعوا لحكومتكم، ويعطوا في ذلك عطية مالية مضروبة عليهم يمثل صغارهم، ويصرف في حفظ ذمتهم وحقن دمائهم وحاجة إدارة امورهم. قوله تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله) إلى آخر الاية المضاهاة المشاكلة. والافك على ما ذكره الراغب كل مصروف عن وجهه الذى يحق ان يكون عليه فمعنى (يؤفكون) يصرفون في اعتقادهم عن الحق إلى الباطل. وقوله: (وقالت اليهود عزير ابن الله) عزير هذا هو الذى يسميه اليهود عزرا غيرت اللفظة عند التعريب كما غير لفظ (يسوع) فصار بالتعريب (عيسى) ولفظ (يوحنا) فصار كما قيل (يحيى). وعزرا هذا هو الذى جدد دين اليهود وجمع أسفار التوراة وكتبها بعد ما افتقدت في غائلة بخت نصر ملك بابل الذى فتح بلادهم وخرب هيكلهم وأحرق كتبهم وقتل رجالهم وسبى نساءهم وذراريهم والباقين من ضعفائهم وسيرهم معه إلى بابل فبقوا هنالك ما يقرب من قرن ثم لما فتح (كورش) ملك ايران بابل شفع لهم عنده عزرا وكان ذا وجه عنده فأجاز له ان يعيد اليهود إلى بلادهم وأن يكتب لهم التوراة ثانيا بعد ما افتقدوا نسخها وكان ذلك في حدود سنة 457 قبل المسيح على ما ذكروا فراجت بينهم ثانيا ما جمعه عزرا من التوراة وإن كانوا افتقدوا ايضا في زمن أنتيوكس صاحب سورية الذى فتح بلادهم حدود سنة 161 ق م وتتبع مساكنهم فأحرق ما وجده من نسخ التوراة وقتل من وجدت عنده أو اخذت عليه على ما في كتب التاريخ. ولما نالهم من خدمته عظموا قدره واحترموا امره وسموه ابن الله ولا ندرى أكان دعاؤه بالبنوة بالمعنى الذى يسمى به النصارى المسيح ابن الله - والمراد ان فيه شيئا من جوهر الربوبية أو هو مشتق منه أو هو هو - أو انها تسمية تشريفية كما

[ 244 ]

قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه ؟ وإن كان ظاهر سياق الاية التالية: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله والمسيح بن مريم) الاية يؤيد الثاني على ما سيأتي. وقد ذكر بعض المفسرين: ان هذا القول منهم: (عزير ابن الله) كلمة تكلم بها بعض اليهود ممن في عصره صلى الله عليه وآله وسلم لا جميع اليهود فنسب إلى الجميع كما ان قولهم: (إن الله فقير ونحن اغنياء) وكذا قولهم: (يد الله مغلولة) مما قاله بعض يهود المدينة ممن عاصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنسب في كلامه تعالى إلى جميعهم لان البعض منهم راضوان بما عمله البعض الاخر، والجميع ذو رأى متوافق الاجزاء وروية متشابهة التأثير. وقوله: (وقالت النصارى المسيح ابن الله) كلمة قالتها النصارى، وقد تقدم الكلام فيها وفي ما يتعلق بها في قصة المسيح عليه السلام من سورة آل عمران في الجزء الثالث من الكتاب. وقوله: (يضاهؤون قول الذين كفروا من قبل) تنبئ الاية عن ان القول بالبنوة منهم مضاهاة ومشاكلة لقول من تقدمهم من الامم الكافرة وهم الوثنيون عبدة الاصنام فإن من آلهتهم من هو إله أب إله ومن هو إله ابن إله، ومن هي إلهة ام إله أو زوجة إله، وكذا القول بالثالوث مما كان دائرا بين الوثنيين من الهند والصين ومصر القديم وغيرهم وقد مر نبذة من ذلك فيما تقدم من الكلام في قصة المسيح في ثالث اجزاء هذا الكتاب. وتقدم هناك ان تسرب العقائد الوثنية في دين النصارى ومثلهم اليهود من الحقائق التى كشف عنها القرآن الكريم في هذه الاية: (يضاهؤون قول الذين كفروا من قبل). وقد اعتنى جمع (1) من محققى هذا العصر بتطبيق ما تضمنته كتب القوم اعني العهدين: العتيق والجديد على ما حصل من مذاهب البوذيين والبرهمائيين فوجدوا معارف العهدين منطبقة على ذلك حذو النعل بالنعل حتى كثيرا من القصص والحكايات الموجودة في الاناجيل فلم يبق ذلك ريبا لاى باحث في أصالة قوله تعالى: (يضاهؤون) الاية في هذا الباب. ثم دعا عليهم بقوله: (قاتلهم الله أنى يؤفكون) وختم به الاية.


(1) ح. 1908) * (Budhist and Christian Gospels Edmuds A. J. V 2. philadelphia

[ 245 ]

قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم) الاحبار جمع حبر بفتح الحاء وكسرها وهو العالم وغلب استعماله في علماء اليهود والرهبان جمع راهب وهو المتلبس بلباس الخشية وغلب على المتنسكين من النصارى. واتخاذهم الاحبار والرهبان أربابا من دون الله هو إصغاؤهم لهم وإطاعتهم من غير قيد وشرط ولا يطاع كذلك الا الله سبحانه. وأما اتخاذهم المسيح بن مريم ربا من دون الله فهو القول بالوهيته بنحو كما هو المعروف من مذاهب النصارى، وفي اضافة المسيح إلى مريم إشارة إلى عدم كونهم محقين في هذا الاتخاذ لكونه إنسانا ابن مرأة. ولكون الاتخاذين مختلفين من حيث المعنى فصل بينهما فذكر اتخاذهم الاحبار والرهبان أربابا من دون الله أولا، ثم عطف عليه قوله: (والمسيح بن مريم). والكلام كما يدل على اختلاف الربوبيتين كذلك لا يخلو عن دلالة على أن قولهم ببنوة عزير وبنوة المسيح على معنيين مختلفين، وهو البنوة التشريفية في عزير والبنوة بنوع من الحقيقة في المسيح عليه السلام فإن الاية أهملت ذكر اتخاذهم عزيرا ربا من دون الله، ولم يذكر مكانه إلا اتخاذهم الاحبار والرهبان أربابا من دون الله. فهو رب عندهم بهذا المعنى إما لاستلزام التشريف بالبنوة ذلك أو لانه من أحبارهم وقد أحسن إليهم في تجديد مذهبهم ما لا يقاس به إحسان غيره، وأما المسيح فبنوته غير هذه البنوة. وقوله: (وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو) جملة حالية أي اتخذوا لهم أربابا والحال هذه. وفي الكلام دلالة أولا: على أن الاتخاذ بالربوبية بواسطة الطاعة كالاتخاذ بها بواسطة العبادة فالطاعة إذا كانت بالاستقلال كانت عبادة، ولازم ذلك ان الرب الذى هو المطاع من غير قيد وشرط وعلى نحو الاستقلال إله، فإن الاله هو المعبود الذى من حقه أن يعبد، يدل على ذلك كله قوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الها واحدا) حيث بدل الرب بالاله، وكان مقتضى الظاهر ان يقال وما أمروا إلا ليتخذوا ربا واحدا فالاتخاذ للربوبية بواسطة الطاعة المطلقة عبادة، واتخاذ الرب معبودا اتخاذ

[ 246 ]

له إلها فافهم ذلك. وثانيا: على ان الدعوة إلى عبادة الله وحده فيما وقع من كلامه تعالى كقوله تعالى: (لا إله إلا أنا فاعبدون) الانبياء: 25 وقوله: (فلا تدع مع الله إلها آخر) الشعراء: 213 وأمثال ذلك كما أريد بها قصر العبادة بمعناها المتعارف فيه تعالى كذلك أريد قصر الطاعة فيه تعالى، وذلك انه تعالى لم يؤاخذهم في طاعتهم لاحبارهم ورهبانهم إلا بقوله عز من قائل: (وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو). وعلى هذا المعنى يدل قوله تعالى: (ألم أعهد اليكم يا بنى آدم الا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم) يس 61، وهذا باب ينفتح منه ألف باب. وفي قوله: (لا إله إلا هو) تتميم لكلمة التوحيد التى يتضمنها قوله: (وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا) فإن كثيرا من عبدة الاصنام كانوا يعتقدون بوجود آلهة كثيرة، وهم مع ذلك لا يخصون بالعبادة إلا واحدا منها فعبادة إله واحد لا يتم به التوحيد الا مع القول بأنه لا إله إلا هو. وقد جمع تعالى بين العبادتين مع الاشارة إلى مغايرة ما بينهما وان قصر العبادة بكلا معنييها عليه تعالى هو معنى الاسلام له سبحانه الذى لا مفر منه للانسان، فيما أمر به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من دعوة اهل الكتاب بقوله: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ان لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فان تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) آل عمران: 64. وقوله تعالى في ذيل الاية: (سبحانه عما يشركون) تنزيه له تعالى عما يتضمنه قولهم بربوبية الاحبار والرهبان، وقولهم بربوبية المسيح عليه السلام من الشرك. و الاية بمنزلة البيان التعليلى لقوله تعالى في أول الايات: (الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر) فان اتخاذ إله أو آلهة دون الله سبحانه لا يجامع الايمان بالله، ولا الايمان بيوم لا ملك فيه إلا لله. قوله تعالى: (يريدون ان يطفؤوا نور الله بأفواههم) إلى آخر الاية، الاطفاء اخماد النار أو النور، والباء في قوله: (بأفواههم) للالة أو السببية. وإنما ذكر الافواه لان النفخ الذى يتوسل به إلى اخماد الانوار والسرج يكون

[ 247 ]

بالافواه، قال في المجمع: وهذا من عجيب البيان مع ما فيه من تصغير شأنهم وتضعيف كيدهم لان الفم يؤثر في الانوار الضعيفة دون الاقباس العظيمة. انتهى. وقال في الكشاف: مثل حالهم في طلبهم ان يبطلوا نبوه محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتكذيب بحال من يريد ان ينفخ في نور عظيم منبث في الافاق يريد الله ان يزيده، ويبلغه الغاية القصوى في الاشراق والاضاءة ليطفئه بنفخه ويطمسه. انتهى، والاية اشارة إلى حال الدعوة الاسلامية، وما يريده منه الكافرون، وفيها وعد جميل بأن الله سيتم نوره. قوله تعالى: هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) الهدى الهداية الالهية التى قارنها برسوله ليهدى بأمره، ودين الحق هو الاسلام بما يشتمل عليه من العقائد والاحكام المنطبقة على الواقع الحق. والمعنى أن الله هو الذى ارسل رسوله وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع الهداية - أو الايات والبينات - ودين فطرى ليظهر وينصر دينه الذى هو دين الحق على كل الاديان ولو كره المشركون ذلك. وبذلك ظهر أن الضمير في قوله: (ليظهره) راجع إلى دين الحق كما هو المتبادر من السياق، وربما قيل: ان الضمير راجع إلى الرسول، والمعنى ليظهر رسوله ويعلمه معالم الدين كلها وهو بعيد. وفي الايتين من تحريض المؤمنين على قتال اهل الكتاب والاشارة إلى وجوب ذلك عليهم ما لا يخفى فانهما تدلان على أن الله أراد انتشار هذا الدين في العالم البشرى فلا بد من السعي والمجاهدة في ذلك، وأن اهل الكتاب يريدون أن يطفؤوا هذا النور بأفواههم فلا بد من قتالهم حتى يفنوا أو يستبقوا بالجزية والصغار، وأن الله سبحانه يأبى إلا ان يتم نوره، ويريد ان يظهر هذا الدين على غيره فالدائرة بمشية الله لهم على اعدائهم فلا ينبغى لهم ان يهنوا ويحزنوا وهم الاعلون ان كانوا مؤمنين. قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا إن كثيرا من الاحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله) الظاهر أن الاية اشارة إلى بعض التوضيح لقوله في أول الايات: ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق) كما ان الاية السابقة كالتوضيح لقوله فيها: (الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر).

[ 248 ]

أما ايضاح قوله تعالى: (ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله) بقوله: (ان كثيرا من الاحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل) فهو إيضاح بأوضح المصاديق وأهمها تأثيرا في افساد المجتمع الانساني الصالح، وابطال غرض الدين. فالقرآن الكريم يعد لاهل الكتاب وخاصة لليهود جرائم وآثاما كثيرة مفصلة في سورة البقرة والنساء والمائدة وغيرها لكن الجرائم والتعديات المالية شأنها غير شأن غيرها، وخاصة في هذا المقام الذى تعلق الغرض بإفساد أهل الكتاب المجتمع الانساني الصالح لو كانوا مبسوطي اليد واستقلالهم الحيوى قائما على ساق، ولا مفسد للمجتمع مثل التعدي المالى. فإن أهم ما يقوم به المجتمع الانساني على أساسه هو الجهة المالية التى جعل الله لهم قياما فجل الماثم والمساوي والجنايات والتعديات والمظالم تنتهى بالتحليل إما إلى فقر مفرط يدعو إلى اختلاس اموال الناس بالسرقة وقطع الطرق وقتل النفوس والبخس في الكيل والوزن والغصب وسائر التعديات المالية، وإما إلى غنى مفرط يدعو إلى الاتراف والاسراف في الماكل والمشرب والملبس والمنكح والمسكن، والاسترسال في الشهوات وهتك الحرمات، وبسط التسلط على أموال الناس وأعراضهم ونفوسهم. وتنتهى جميع المفاسد الناشئة من الطريقين كليهما بالتحليل إلى ما يعرض من الاختلال على النظام الحاكم في حيازة الاموال واقتناء الثروة، والاحكام المشرعة لتعديل الجهات المملكة المميزة لاكل المال بالحق من أكله بالباطل، فإذا اختل ذلك وأذعنت النفوس بامكان القبض على ما تحتها من المال، وتتوق إليه من الثروة باى طريق امكن لقن ذلك اياها أن يظفر بالمال ويقبض على الثروة باى طريق ممكن حق أو باطل، وأن يسعى إلى كل مشتهى من مشتهيات النفس مشروع أو غير مشروع أدى إلى ما أدى، وعند ذلك يقوم البلوى بفشو الفساد وشيوع الانحطاط الاخلاقي في المجتمع، وانقلاب المحيط الانساني إلى محيط حيوانى ردى لا هم فيه إلا البطن وما دونه ولا يملك فيه إراده احد بسياسة أو تربية ولا تفقه فيه لحكمة ولا إصغاء إلى موعظة. ولعل هذا هو السبب الموجب لاختصاص أكل المال بالباطل بالذكر، وخاصة من الاحبار والرهبان الذين إليهم تربية الامة وإصلاح المجتمع. وقد عد بعضهم من أكلهم اموال الناس بالباطل ما يقدمه الناس إليهم من المال

[ 249 ]

حبا لهم لتظاهرهم بالزهد والتنسك، وأكل الربا والسحت، وضبطهم اموال مخالفيهم وأخذهم الرشا على الحكم، وإعطاء اوراق المغفرة وبيعها، ونحو ذلك. والظاهر أن المراد بها أمثال أخذ الرشوة على الحكم كما تقدم من قصتهم في تفسير قوله تعالى: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) الاية المائدة: 41، في الجزء الخامس من الكتاب. ولو لم يكن من ذلك إلا ما كانت تأتى به الكنيسة من بيع اوراق المغفرة لكفى به مقتا ولوما. وأما ما ذكره من تقديم الاموال إليهم لتزهدهم، وكذا تخصيصهم باوقاف ووصايا ومبرات عامة فليس بمعدود من أكل المال بالباطل، وكذا ما ذكره من أكل الربا والسحت فقد نسبه تعالى في كلامه إلى عامة قومهم كقوله تعالى: (وأخذهم الربا وقد نهوا عنه) النساء: 161، وقوله: (سماعون للكذب أكالون للسحت) المائدة: 42، وإنما كلامه تعالى في الاية التى نحن فيها فيما يخص أحبارهم ورهبانهم من أكل المال بالباطل لا ما يعمهم وعامتهم. إلا أن الحق ان زعماء الامة الدينية ومربيهم في سلوك طريق العبودية المعتنين باصلاح قلوبهم وأعمالهم إذا انحرفوا عن طريق الحق إلى سبيل الباطل كان جميع ما أكلوه لهذا الشان واستدروه من منافعه سحتا محرما لا يبيحه لهم شرع ولا عقل. وأما إيضاح قوله تعالى: (ولا يدينون دين الحق) بقوله: (ويصدون عن سبيل الله) فهو ايضا مبنى على ما قدمناه من النكتة في توصيفهم بالاوصاف الثلاثة التى ثالثها قوله: (ولا يدينون دين الحق) وهو بيان ما يفسد من صفاتهم وأعمالهم المجتمع الانساني ويسد طريق الحكومة الدينية العادلة دون البلوغ إلى غرضها من إصلاح الناس وتكوين مجتمع حى فعال بما يليق بالانسان الفطري المتوجه إلى سعادته الفطرية. ولذا خص بالذكر من مفاسد عدم تدينهم بدين الحق ما هو العمدة في إفساد المجتمع الصالح، وهو صدهم عن سبيل الله ومنعهم الناس عن ان يسلكوه بما قدروا عليه من طرقه الظاهرة والخفية، ولا يزالون مصرين على هذه السليقة منذ عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى اليوم.

[ 250 ]

قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) قال الراغب: الكنز جعل المال بعضه على بعض وحفظه، وأصله من كنزت التمر في الوعاء، وزمن الكناز وقت ما يكنز فيه التمر، وناقة كناز مكتنزة اللحم، وقوله: (والذين يكنزون الذهب والفضة) أي يدخرونها، انتهى. ففى مفهوم الكنز حفظ المال المكنوز وادخاره ومنعه من ان يجرى بين الناس في وجوه المعاملات فينمو نماء حسنا، ويعم الانتفاع به في المجتمع فينتفع به هذا بالاخذ، وذاك بالرد، وذلك بالعمل عليه وقد كان دابهم قبل ظهور البنوك والمخازن العامة أن يدفنوا الكنوز في الارض سترا عليها من أن تقصد بسوء. والاية وإن اتصلت في النظم اللفظى بما قبلها من الايات الذامة لاهل الكتاب والموبخة لاحبارهم ورهبانهم في أكلهم اموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله إلا أنه لا دليل من جهة اللفظ على نزولها فيهم واختصاصها بهم البتة. فلا سبيل إلى القول بان الاية إنما نزلت في اهل الكتاب وحرمت الكنز عليهم، وأما المسلمون فهم وما يقتنون من ذهب وفضة يصنعون باموالهم ما يشاؤون من غير باس عليهم. والاية توعد الكانزين إيعادا شديدا، ويهددهم بعذاب شديد غير أنها تفسر الكنز المدلول عليه بقوله: (الذين يكنزون الذهب والفضة) بقوله: (ولا ينفقونها في سبيل الله) فتدل بذلك على أن الذى يبغضه الله من الكنز ما يلازم الكف عن إنفاقة في سبيل الله إذا كان هناك سبيل. وسبيل الله على ما يستفاد من كلامه تعالى هو ما توقف عليه قيام دين الله على ساقه وأن يسلم من انهدام بنيانه كالجهاد وجميع مصالح الدين الواجب حفظها، وشؤون مجتمع المسلمين التى ينفسخ عقد المجتمع لو انفسخت، والحقوق المالية الواجبة التى أقام الدين بها صلب المجتمع الدينى، فمن كنز ذهبا أو فضة والحاجة قائمة والضرورة عاكفة فقد كنز الذهب والفضة ولم ينفقها في سبيل الله فليبشر بعذاب أليم فانه آثر نفسه على ربه وقدم حاجة نفسه أو ولده الاحتمالية على حاجة المجتمع الدينى القطعية. ويستفاد هذا مما في الاية التالية من قوله: (هذا ما كنزتم لانفسكم) فانه يدل

[ 251 ]

على أن توجه العتاب عليهم لكونهم خصوه بانفسهم وآثروها فيما خافوا حاجتها إليه على سبيل الله الذى به حياة المجتمع الانساني في الدنيا والاخرة، وقد خانوا الله ورسوله في ذلك من جهة اخرى وهى الستر والتغييب إذ لو كان ظاهرا جاريا على الايدى كان من الممكن ان يامره ولى الامر بانفاقه في حاجة دينية قائمة لكن إذا كنز كنزا وأخفى عن الانظار لم يلتفت إليه، وبقيت الحاجة الضرورية قائمة في جانب والمال المكنوز الذى هو الوسيلة الوحيدة لرفع الحاجة في جانب مع عدم حاجة من كنزه إليه. فالاية انما تنهى عن الكنز لهذه الخصيصة التى هي إيثار الكانز نفسه بالمال من غير حاجة إليه على سبيل الله مع قيام الحاجة إليه، وناهيك أن الاسلام لا يحد اصل الملك من جهة الكمية بحد فلو كان لهذا الكانز أضعاف ما كنزه من الذهب والفضة ولم يدخرها كنزا بل وضعها في معرض الجريان يستفيد به لنفسه الوفا والوفا، ويفيد غيره ببيع أو شراء أو عمل وغير ذلك لم يتوجه إليه نهى دينى لانه حيث نصبها على أعين الناس وأجراها في مجرى النماء الصالح النافع لم يخفها ولم يمنعها من ان يصرف في سبيل الله فهو وان لم ينفقها في سبيل الله إلا أنه بحيث لو أراد ولى أمر المسلمين لامره بالانفاق فيما يرى لزوم الانفاق فيه فليس هو إذا لم ينفق وهو بمراى ومسمع من ولى الامر بخائن ظلوم. فالاية ناظرة إلى الكنز الذى يصاحبه الامتناع عن الانفاق في الحقوق المالية الواجبة لا بمعنى الزكاة الواجبة فقط بل بمعنى يعمها وغيرها من كل ما يقوم عليه ضرورة المجتمع الدينى من الجهاد وحفظ النفوس من الهلكة ونحو ذلك. وأما الانفاق المستحب كالتوسعة على العيال، واعطاء المال وبذله على الفقراء في الزائد على ضرورة حياتهم فهو وإن أمكن أن يطلق عليه فيما عندنا الانفاق في سبيل الله إلا أن نفس أدلته المبينة لاستحبابه تكشف عن أنه ليس من هذا الانفاق في سبيل الله المذكور في هذه الايد فكنز المال وعدم إنفاقه انفاقا مندوبا مع عدم سبيل ضروري ينفق فيه ليس من الكنز المنهى عنه في هذه الاية فهذا ما تدل عليه الاية الكريمة، وقد طال فيها - لما يتعلق بها من بعض الابحاث الكلامية - المشاجرة بين المفسرين، وسنورد فيه كلاما بعد الفراغ عن البحث الروائي المتعلق بالايات ان شاء الله تعالى. وقوله في ذيل الاية: (فبشرهم بعذاب أليم) إيعاد بالعذاب يدل على تحريمه الشديد.

[ 252 ]

قوله تعالى: (يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم) إلى آخر الاية. إحماء الشئ جعله حارا في الاحساس، والاحماء عليه الايقاد ليتسخن والاحماء فوق التسخين، والكى إلصاق الشئ الحار بالبدن. والمعنى: أن ذلك العذاب المبشر به في يوم يوقد على تلك الكنوز في نار جهنم فتكون محماة بالنار فتلصق بجباههم وجنوبهم وظهورهم، ويقال لهم عند ذلك: (هذا ما كنزتم لانفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون): فقد عاد عذابا عليكم تعذبون به. ولعل تخصيص الجباه والجنوب والظهور لانهم خضعوا لها وهو السجدة التى تكون بالجباه ولاذوا إليها واللواذ بالجنوب، واتكؤوا عليها والاتكاء بالظهور، وقيل غير ذلك والله أعلم. (بحث روائي) في الكافي باسناده عن حفص بن غياث عن أبى عبد الله عليه السلام - في حديث الاسياف الذى ذكره عن أبيه قال: وأما السيوف الثلاثة المشهورة فسيف على مشركي العرب، قال الله عزوجل: (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم). قال: والسيف الثاني على أهل الذمة قال الله عز وجل: (وقولوا للناس حسنا) نزلت هذه الاية في اهل الذمة ثم نسخها قوله عز وجل: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) فمن كان منهم في دار الاسلام فلن يقبل منه إلا الجزية أو القتل وما لهم فئ وذراريهم سبى، وإذا قبلوا الجزية على انفسهم حرم علينا سبيهم، وحرمت أموالهم، وحلت لنا مناكحتهم. ومن كان منهم في دار الحرب حل لنا سبيهم وأموالهم ولم يحل مناكحتهم، ولم يقبل إلا الدخول في دار الاسلام أو الجزية أو القتل. وفيه باسناده عن طلحة بن زيد عن ابى عبد الله عليه السلام قال: جرت السنة ان لا تؤخذ الجزية من المعتوه ولا من المغلوب على عقله. وفيه باسناده عن ابى يحيى الواسطي عن بعض اصحابنا قال: سئل أبو عبد الله

[ 253 ]

عليه السلام عن المجوس أكان لهم شئ ؟ فقال: نعم أما بلغك كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اهل مكه: ان اسلموا وإلا نابذتكم بحرب فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ان خذ منا الجزية ودعنا على عبادة الاوثان. فكتب إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنى لست آخذ الجزية إلا من اهل الكتاب. فكتبوا إليه - يريدون بذلك تكذيبه -: زعمت انك لا تأخذ الجزية إلا من اهل الكتاب ثم اخذت الجزية من مجوس هجر. فكتب إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن المجوس كان لهم نبى فقتلوه وكتاب احرقوه. أتاهم نبيهم بكتابهم في اثنى عشر الف جلد ثور. أقول: وفي هذه المعاني روايات اخرى مودعة في جوامع الحديث واستيفاء الكلام في مسائل الجزية والخراج وغيرهما في الفقه. وفي الدر المنثور اخرج ابن عساكر عن ابى امامة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: القتال قتالان: قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وقتال الفئة الباغية حتى تفئ إلى امر الله فإذا فاءت أعطيت العدل. وفيه اخرج ابن ابى شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في سننه عن مجاهد في قوله: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) الاية قال: نزلت هذه حين أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بغزوة تبوك. أقول: وقد تقدمت الروايات في ذيل آية المباهلة ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم اقر الجزية على نصارى نجران، وكان ذلك على ما دل عليه امثل الروايات سنة ست من الهجرة قبل غزوة تبوك بسنين، وكذا دعوته صلى الله عليه وآله وسلم ملوك الروم ومصر والعجم وهم من اهل الكتاب كانت سنة ست. وفيه اخرج ابن ابى شيبة عن الزهري قال: اخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجزية من مجوس اهل هجر ومن يهود اليمن ونصاراهم من كل حالم دينار. وفيه اخرج مالك والشافعي وأبو عبيد في كتاب الاموال وابن ابى شيبة عن جعفر عن ابيه ان عمر بن الخطاب استشار الناس في المجوس في الجزية فقال عبد الرحمن ابن عوف سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: سنوا بهم سنة اهل الكتاب. وفيه اخرج عبد الرزاق في المصنف عن على بن ابى طالب: انه سئل عن اخذ

[ 254 ]

الجزية من المجوس فقال: والله ما على الارض اليوم احد اعلم بذلك منى ان المجوس كانوا اهل كتاب يعرفونه، وعلم يدرسونه فشرب اميرهم الخمر فسكر فوقع على اخته فرآه نفر من المسلمين فلما اصبح قالت اخته: إنك قد صنعت بها كذا وكذا، وقد رآك نفر لا يسترون عليك فدعا اهل الطمع ثم قال لهم قد علمتم ان آدم عليه السلام قد أنكح بنيه بناته. فجاء اولئك الذين راوه فقالوا: ويل للابعد إن في ظهرك حد الله فقتلهم اولئك الذين كانوا عنده ثم جاءت امراة فقالت له: بلى قد رايتك فقال لها: ويحا لبغى بنى فلان قالت: اجل والله قد كانت بغية ثم تابت فقتلها، ثم أسرى على ما في قلوبهم وعلى كتبهم فلم يصبح عندهم شئ. وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله) الاية عن عطية العوفى عن ابى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اشتد غضب الله على اليهود حين قالوا: عزير ابن الله، واشتد غضب الله على النصارى حين قالوا: المسيح ابن الله: واشتد غضب الله على من أراق دمى وآذاني في عترتي. وفي الدر المنثور اخرج البخاري في تاريخه عن ابى سعيد الخدرى قال: لما كان يوم أحد شج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وجهه وكسرت رباعيته فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ رافعا يديه يقول: إن الله عز وجل اشتد غضبه على اليهود أن قالوا: عزير ابن الله، واشتد غضبه على النصارى أن قالوا المسيح ابن الله وإن الله اشتد غضبه على من أراق دمى وآذاني في عترتي. أقول: وقد روى في الدر المنثورو غيره عن ابن عباس وكعب الاحبار والسدى وغيرهم روايات في قصة عزير هي أشبه بالاسرائيليات، والظاهر أن الجميع تنتهى إلى كعب. وفي الاحتجاج للطبرسي عن على عليه السلام قال: (قاتلهم الله أنى يؤفكون) أي لعنهم الله أنى يؤفكون فسمى اللعنة قتالا، وكذلك: (قتل الانسان ما أكفره) أي لعن الانسان. أقول: وروى ذلك من طرق اهل السنة عن ابن عباس وهو على أي حال تفسير يلازم المعنى لا بالمراد اللفظى. وفي الكافي باسناده عن ابى بصير، عن ابى عبد الله عليه السلام قال: قلت له: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) فقال: أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، ولكن أحلوا لهم حراما

[ 255 ]

وحرموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون. أقول: وروى هذا المعنى البرقى في المحاسن ورواه العياشي في تفسيره عن ابى بصير وعن جابر جميعا عن ابى عبد الله عليه السلام وعن حذيفة، ورواه في الدر المنثور عن عدة من اصحاب الطرق عن حذيفة. وفي تفسير القمى قال: وفي رواية ابى الجارود عن ابى جعفر عليه السلام في قوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) قال: اما المسيح فبعض عظموه في أنفسهم حتى زعموا انه إله وأنه ابن الله، وطائفة منهم قالوا: ثالث ثلاثة، وطائفة منهم قالوا: هو الله. وأما قوله: (أحبارهم ورهبانهم) فانهم أطاعوا وأخذوا بقولهم، واتبعوا ما أمروهم به، ودانوا بما دعوهم إليه فاتخذوهم أربابا بطاعتهم لهم وتركهم أمر الله وكتبه ورسله فنبذوه وراء ظهورهم، وما أمرهم به الاحبار والرهبان اتبعوهم وأطاعوهم وعصوا الله. الحديث. وفي تفسير البرهان عن المجمع قال: وروى الثعلبي باسناده عن عدى بن حاتم قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال لى: يا عدى اطرح هذا الربق. وفي تفسير البرهان عن الصدوق باسناده عن ابى بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام في قوله عز وجل: (هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق) الاية والله ما نزل تأويلها بعد ولا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم فإذا خرج القائم لم يبق كافر بالله ولا مشرك بالامام إلا كره خروجه حتى لو كان الكافر في بطن صخرة قالت: يا مؤمن في بطني كافر فاكسرني واقتله. أقول وروى ما في معناه العياشي عن ابى المقدام عن ابى جعفر عليه السلام وعن سماعة عن ابى عبد الله عليه السلام، وكذا الطبرسي مثله عن ابى جعفر عليه السلام، وفي تفسير القمى أنها نزلت في القائم من آل محمد (ع)، ومعنى نزولها فيه كونه تأويلها كما يدل عليه روايه الصدوق. وفي الدر المنثور اخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في سننه عن جابر في قوله: (ليظهره على الدين كله) قال: لا يكون ذلك حتى لا يبقى يهودى ولا نصراني صاحب ملة إلا الاسلام حتى تأمن الشاة الذئب، والبقرة الاسد، والانسان الحية، وحتى لا تقرض فارة جرابا، وحتى يوضع الجزية ويكسر الصليب ويقتل

[ 256 ]

الخنزير، وذلك إذا نزل عيسى بن مريم عليه السلام. أقول: والمراد بوضع الجزية ان تصير متروكة لا حاجة إليها لعدم الموضوع بقرينة صدر الحديث، وما دلت عليه هذه الروايات من عدم بقاء كفر ولا شرك يومئذ يؤيدها روايات اخرى، وهناك روايات اخرى تدل على وضع المهدى عليه السلام الجزية على اهل الكتاب بعد ظهوره. وربما أيده قوله تعالى في أهل الكتاب: (وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) المائدة: 64، (فاغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) المائدة: 14، وما في معناه من الايات فانها لا تخلو من ظهور ما في بقائهم إلى يوم القيامة إن لم تكن كناية عن ارتفاع المودة بينهم ارتفاعا ابديا، وقد تقدم في ذيل الايات بعض الكلام في هذا المعنى. وفي الدر المنثور ايضا أخرج ابن الضريس عن علباء بن احمر أن عثمان بن عفان لما اراد ان يكتب المصاحف ارادوا ان يلقوا الواو التى في براءة: (والذين يكنزون الذهب والفضة) قال أبى: لتلحقنها أو لاضعن سيفى على عاتقي فالحقوها. وفى أمالى الشيخ قال: اخبرنا جماعة عن أبى المفضل وساق إسناده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزلت هذه الاية: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) كل ما يؤدى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع ارضين، وكل مال لا يؤدى زكاته فهو كنز وإن كان فوق الارض. أقول: وروى ما في معناه في الدر المنثورعن ابن عدى والخطيب عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذا بطرق اخرى عن ابن عباس وغيره. وفيه ايضا باسناده عن ابى عبد الله عليه السلام عن ابيه أبى جعفر عليه السلام أنه سئل عن الدنانير والدراهم وما على الناس. فقال أبو جعفر عليه السلام: هي خواتيم الله في ارضه جعلها الله مصلحة لخلقه، وبها يستقيم شؤونهم ومطالبهم فمن اكثر له منها فقام بحق الله تعالى فيها ادى زكاتها فذاك الذى طلبه، وخلص له، ومن اكثر له منها فبخل بها ولم يؤد حق الله فيها واتخذ منها الابنية فذاك الذى حق عليه وعيد الله عز وجل في كتابه يقول الله تعالى (يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم

[ 257 ]

وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لانفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون). أقول: والرواية تؤيد ما استفدناه سابقا من الاية. وفي تفسير القمى قال: كان أبو ذر الغفاري يغدو كل يوم وهو في الشام فينادى بأعلى صوته: بشر اهل الكنوز بكى في الجباه، وكى في الجنوب، وكى في الظهور حتى يتردد الحر في أجوافهم. أقول: وقد استفاد الطبرسي في المجمع من الرواية الوجه في تخصيص الجباه والجنوب والظهور من بين اعضاء الانسان بالذكر في الاية، وأن الغرض من تعذيبهم بهذا الوجه إيراد حر النار في اجوافهم وهى داخل الرؤوس فتكوى جباههم وداخل الصدور والبطون فتكوى جنوبهم وظهورهم. ويمكن تتميم ما ذكره بأنهم يكبون على وجوههم ورؤوسهم منكوسة على ما يشعر به الاخبار وبعض الايات ثم تكوى أعضاؤهم من فوق فينتج ذلك كى الجباه والجنوب والظهور. وفي الدر المنثور اخرج عبد الرزاق في المصنف عن ابى ذر قال: بشر اصحاب الكنوز بكى في الجباه وفي الجنوب وفي الظهور. وفيه اخرج ابن سعد وابن ابى شيبة والبخاري وابن ابى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن زيد بن وهب قال: مررت على ابى ذر بالربذة فقلت: ما أنزلك بهذه الارض ؟ قال: كنا بالشام فقرأت: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) فقال معاوية: ما هذه فينا هذه في اهل الكتاب. قلت انا: انها لفينا وفيهم. وفيه اخرج مسلم وابن مردويه عن الاحنف بن قيس قال: جاء أبو ذر فقال: بشر الكانزين بكى من قبل ظهورهم يخرج من جنوبهم، وكى من جباههم يخرج من أقفائهم، فقلت: ماذا ؟ قال: ما قلت إلا ما سمعت من نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه اخرج احمد في الزهد عن ابى بكر المنكدر قال: بعث حبيب بن سامة إلى ابى ذر وهو امير الشام بثلاثمائة دينار، وقال: استعن بها على حاجتك، فقال

[ 258 ]

أبو ذر: ارجع بها إليه أما وجد احدا أغر بالله منا ما لنا إلا الظل نتوارى به، وثلاثة من غنم تروح علينا، ومولاة لنا تصدق علينا بخدمتها ثم انى لانا أتخوف الفضل. وفيه أخرج البخاري ومسلم عن الاحنف بن قيس قال: جلست إلى ملا من قريش فجاء رجل خشن الشعر والثياب والهيئة حتى قام عليهم فسلم ثم قال: بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم ثم يوضع على حلمة ثدى احدهم حتى يخرج من نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه فيتدلدل. ثم ولى وجلس إلى سارية فتبعته وجلست إليه وأنا لا ادرى من هو ؟ فقلت: لا أرى القوم إلا قد كرهوا ما قلت، قال: انهم لا يعقلون شيئا قال لى خليلي. قلت: من خليلك ؟ قال: النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أتبصر أحدا ؟ قلت: نعم. قال: ما أحب ان يكون لى مثل أحد ذهبا انفقه كله إلا ثلاثة دنانير وإن هؤلاء لا يعقلون إنما يجمعون للدنيا والله لا أسألهم دنيا، ولا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله عز وجل. وفي تاريخ الطبري عن شعيب عن سيف عن محمد بن عوف عن عكرمة عن ابن عباس أن أبا ذر دخل على عثمان وعنده كعب الاحبار فقال لعثمان: لا ترضوا من الناس بكف الاذى حتى يبذلوا المعروف، وقد ينبغى لمؤدى الزكاة أن لا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران والاخوان ويصل القرابات. فقال: كعب من أدى الفريضة فقد قضى ما عليه، فرفع أبو ذر محجنه فضربه فشجه فاستوهبه عثمان فوهبه له، وقال: يا ابا ذر اتق الله واكفف يدك ولسانك، وقد كان قال له: يابن اليهودية ما انت وما ههنا ؟ أقول: وقصص ابى ذر واختلافه مع عثمان ومعاوية معروفة مضبوطة في كتب التاريخ والتدبر فيما مر من احاديثه وما قاله لمعاوية إن الاية لا تختص بأهل الكتاب وما خاطب به عثمان وواجه به كعبا يدل على أنه إنما فهم من الاية ما قدمناه انها توعد على الكف عن الانفاق في السبيل الواجب. ويؤيده تحليل الحال الحاضر يومئذ فقد كان الناس يومئذ انقسموا قسمين وتبعضوا شطرين عامة لا يقدرون على قوت اليوم، ولا يجدون ما يستر عوراتهم وما لهم إلى اوجب حوائجهم سبيل، وخاصة أسكرتهم الدنيا بجماع ما فيها من مال ومنال

[ 259 ]

يكنزون مئات الالوف والوف الالوف من عطايا الخلافة وغنائم الحروب ومال الخراج. ويكفيك في التبصر فيه ان تراجع ما ضبطته التواريخ من اموال الصحابة من نقد ورقيق وضيعة وشامخات القصور وناجمات الدور، وما احدثه معاوية وسائر بنى امية بالشام وغيره من أزياء قيصرانية وكسروانية. والاسلام لا يرتضى شيئا من ذلك ولا ينفذ هذا الاختلاف لفاحش دون ان تتقارب الطبقات بالانفاق، وتصلح عامة الاوضاع بانعطاف الاغنياء على الفقراء، والاقوياء على الضعفاء. وربما قيل: ان ابا ذر كان يرى باجتهاد منه أن الزائد على القدر الواجب من المال الذى ينفق لسد الجوع وستر العورة كنز يجب إنفاقه في سبيل الله أو انه كان يدعو إلى الزهد في الدنيا. لكن الذى يوجد من بعض كلامه في الروايات يكذبه فانه لا يستند في شئ مما قاله إلى اجتهاده ورأى نفسه بل بقوله: ما قلت لهم إلا ما سمعت من نبيهم، وقال خليلي كذا وكذا، وقد صحت الرواية واستفاضت من طرق الفريقين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء ذا لهجة اصدق من ابى ذر). وبذلك يظهر فساد ما ذكره شداد بن أوس فيما روى عنه احمد والطبراني قال: (كان أبو ذر يسمع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم يخرج إلى باديته ثم يرخص فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك فيحفظ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرخصة فلا يسمعها أبو ذر فيأخذ أبو ذر بالامر الاول الذى سمع قبل ذلك). وذلك أن الذى ذكر من ابى ذر إنما هو قوله: إن آية الكنز لا تختص بأهل الكتاب بل يعمهم والمسلمين، وليس هذا مصداقا لما ذكره في الرواية من العزيمة والرخصة، وكذا قوله: إن تأدية الزكاة فحسب لا يكفى في جواز الكنز وعدم إنفاقه في الواجب من سبيل الله، وكيف يتصور في حقه ان لا يكون يسمع ان الانفاق منه مستحب كما ان منه واجبا وان لا يعلم أن أدلة الانفاق المندوب احسن مبين لاية الكنز. وأوهن من ذلك ما تعلق به الطبري في تاريخه فقد روى عن شعيب عن سيف عن عطية عن يزيد الفقعسى قال: لما ورد ابن السوداء الشام لقى أبا ذر فقال: يا

[ 260 ]

أبا ذر ألا تعجب إلى معاوية يقول: المال مال الله ألا إن كل شئ لله ؟ كأنه يريد ان يحتجبه دون المسلمين، ويمحو اسم المسلمين. فأتاه أبو ذر فقال: ما يدعوك إلى ان تسمى مال المسلمين مال الله ؟ قال: يرحمك الله يا أبا ذر ألسنا عباد الله والمال ماله والخلق خلقه والامر امره ؟ قال: فلا تقله، قال: فإنى لا اقول: إنه ليس لله، ولكن سأقول: مال المسلمين. قال: وأتى ابن السوداء أبا الدرداء فقال له: من انت ؟ اظنك والله يهوديا ؟ فأتى عبادة بن الصامت فتعلق به فأتى به معاوية فقال: هذا والله الذى بعث عليك أبا ذر. وقام أبو ذر بالشام وجعل يقول: يا معشر الاغنياء وأسوأ الفقراء - بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكان من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. الحديث. ومحصله ان أبا ذر إنما بادر إلى ما بادر وألح عليه بتسويل من ابن السوداء وهذان اللذان روى عنهما الحديث وعنهما يروى جل قصص عثمان اعني شعيبا وسيفا هما من الكذابين الوضاعين المشهورين ذكرهما علماء الرجال وقدحوا فيهما. والذى اختلقاه من حديث ابن السوداء وهو الذى سموه عبد الله بن سبأ، وإليهما ينتهى حديثه، من الاحاديث الموضوعة، وقد قطع المحققون من اصحاب البحث اخيرا ان ابن السوداء هذا من الموضوعات الخرافية التى لا اصل لها. وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من ذى كنز لا يؤدى حقه إلا جئ به يوم القيامة تكوى به جبينه وجبهته، وقيل له: هذا كنزك الذى بخلت به. وفيه اخرج الطبراني في الاوسط وأبو بكر الشافعي في الغيلانيات عن على قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله فرض على اغنياء المسلمين في اموالهم القدر الذى يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يمنع اغنياؤهم. ألا وإن الله يحاسبهم حسابا شديدا أو يعذبهم عذابا أليما. وفيه اخرج الحاكم وصححه وضعفه الذهبي عن ابى سعيد الخدرى عن بلال

[ 261 ]

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا بلال الق الله فقيرا ولا تلقه غنيا. قلت: وكيف لى بذلك ؟ قال: إذا رزقت فلا تخبأ، وإذا سئلت فلا تمنع، قلت: وكيف لى بذلك ؟ قال: هو ذاك وإلا فالنار. (كلام في معنى الكنز) لا ريب أن المجتمع الذى اوجده الانسان بحسب طبعه الاولى إنما يقوم بمبادلة المال والعمل، ولو لا ذلك لم يعش المجتمع الانساني ولا طرفة عين فإنما يتزود الانسان من مجتمعه بأن يحرز امورا من اوليات المادة الارضية ويعمل عليها ما يسعه من العمل ثم يقتنى من ذلك لنفسه ما يحتاج إليه، ويعوض ما يزيد على حاجته من سائر ما يحتاج إليه مما عند غيره من افراد المجتمع كالخباز يأخذ لنفسه من الخبز ما يقتات به ويعوض الزائد عليه من الثوب الذى نسجه النساج وهكذا فإنما اعمال المجتمعين في ظرف اجتماعهم بيع وشرى ومبادلة ومعاوضة. والذى يتحصل من الابحاث الاقتصادية أن الانسان الاولى كان يعوض في معاملاته العين بالعين من غير ان يكونوا متنبهين لازيد من ذلك غير ان النسب بين الاعيان كانت تختلف عندهم باشتداد الحاجة وعدمه، وبوفور الاعيان المحتاج إليها وإعوازها فكلما كانت العين أمس بحاجة الانسان أو قل وجودها توفرت الرغبات إلى تحصيلها، وارتفعت نسبتها إلى غيرها، وكلما بعدت عن مسيس الحاجة أو ابتذلت بالكثرة ه والوفور انصرفت النفوس عنها وانخفضت نسبتها إلى غيرها، وهذا هو اصل القيمة. ثم إنهم عمدوا إلى بعض الاعيان العزيزة الوجود عندهم فجعلوها اصلا في القيمة تقاس إليه سائر الاعيان المالية بمالها من مختلف النسب كالحنطة والبيضة والملح فصارت مدارا تدور عليها المبادلات السوقية، وهذه السليقة دائرة بينهم في بعض المجتمعات الصغيرة في القرى وبين القبائل البدوية حتى اليوم. ولم يزالوا على ذلك حتى ظفروا ببعض الفلزات كالذهب والفضة والنحاس ونحوها فجعلوها أصلا إليه يعود نسب سائر الاعيان من جهه قيمها، ومقياسا واحدا يقاس إليها غيرها فهى النقود القائمة بنفسها وغيرها يقوم بها.

[ 262 ]

ثم آل الامر إلى أن يحوز الذهب المقام اول والفضة تتلوه، ويتلوها غيرهما، وسكت الجميع بالسكك الملوكيه أو الدولية فصارت دينارا ودرهما وفلسا وغير ذلك بما يطول شرحه على خروجه من غرض البحث. فلم يلبث النقدان حتى عادا أصلا في القيمة بهما يقوم كل شئ، وإليهما يقاس ما عند الانسان من مال أو عمل، وفيهما يرتكز ارتفاع كل حاجة حيوية، وهما ملاك الثروة والوجد كالمتعلق بهما روح المجتمع في حياته يختل أمره باختلال أمرهما، إذا جريا في سوق المعاملات جرت المعاملات بجريانهما، وإذا وقفا وقفت. وقد أوضحت ما عليهما من الوظيفة المحولة إليهما في المجتمعات الانسانية من حفظ قيم الامتعة والاعمال، وتشخيص نسب بعضها إلى بعض، الاوراق الرسمية الدائرة اليوم فيما بين الناس كالبوند والدولار وغيرهما والصكوك البنجية المنتشرة فإنها تمثل قيم الاشياء من غير ان تتضمن عينية لها قيمة في نفسها فهى قيم خالصة مجردة تقريبا. فالتأمل في مكانة الذهب والفضة الاجتماعية بما هما نقدان حافظان للقيم ومقياسان يقاس إليهما الامتعة والاموال بما لها من النسب الدائرة بينها تنور أنهما ممثلان لنسب الاشياء بعضها إلى بعض، وإذ كانت بحسب الاعتبار ممثلات للنسب - وإن شئت فقل: نفس النسب - تبطل النسب ببطلان اعتبارها، وتحبس بحبسها ومنع جريانها، وتقف بوقوفها. وقد شاهدنا في الحربين العالميين الاخيرين ماذا اوجده بطلان اعتبار نقود بعض الدول ؟ كالمنات في الدولة التزارية والمارك في الجرمن من البلوى وسقوط الثروة واختلال أمر الناس في حياتهم، والحال في كنزهما ومنع جريانهما بين الناس هذا الحال. وإلى ذلك يشير قول أبى جعفر عليه السلام في رواية الامالى المتقدمة: (جعلها الله مصلحة لخلقه وبها يستقيم شئونهم ومطالبهم). ومن هنا يظهر أن كنزهما إبطال لقيم الاشياء وإماتة لما في وسع المكنوز منهما من إحياء المعاملات الدائرة وقيام السوق في المجتمع على ساقه، وببطلان المعاملات وتعطل الاسواق تبطل حياة المجتمع، وبنسبة ما لها من الركود والوقوف تقف وتضعف. لست أريد خزنهما في مخازن تختص بهما فإن حفظ نفاس الاموال وكرائم الامتعة

[ 263 ]

من الضيعة من الواجبات التى تهدى إليه الغريزة الانسانية ويستحسنه العقل السليم فكلما جرت وجوه النقد في سبيل المعاملات كيفما كان فهو وإذا رجعت فمن الواجب أن تختزن وتحفظ من الضيعة وما يهددها من أيادى الغصب والسرقة والغيلة والخيانة. وإنما أعنى به كنزهما وجعلهما في معزل عن الجريان في المعاملات السوقية والدوران لاصلاح أي شأن من شؤون الحياة ورفع الحوائج العاكفة على المجتمع كإشباع جائع وإرواء عطشان وكسوة عريان وربح كاسب وانتفاع عامل ونماء مال وعلاج مريض وفك أسير وإنجاء غريم والكشف عن مكروب والتفريج عن مهموم وإجابه مضطر والدفع عن بيضة المجتمع الصالح وإصلاح ما فسد من الجو الاجتماعي. وهى موارد لا تحصى واجبة أو مندوبة أو مباحة لا يتعدى فيها حد الاعتدال إلى جانبى الافراط والتفريط والبخل والتبذير، والمندوب من الانفاق وإن لم يكن في تركه مأثم ولا إجرام شرعا ولا عقلا غير أن التسبب إلى إبطال المندوبات من رأس والاحتيال لرفع موضوعها من أشد الجرم والمعصية. اعتبر ذلك فيما بين يديك من الحياة اليومية بما يتعلق به من شؤون المسكن والمنكح والمأكل والمشرب والملبس تجد ان ترك النفل المستحب من شؤون الحياة والمعاش والاقتصار دقيقا على الضرورى - منها الذى هو بمنزلة الواجب الشرعي - يوجب اختلال أمر الحياة اختلالا لا يجبره جابر ولا يسد طريق الفساد فيه ساد. وبهذا البيان يظهر أن قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها) في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) ليس من البعيد أن يكون مطلقا يشمل الانفاق المندوب بالعناية التى مرت فإن في كنز الاموال رفعا لموضوع الانفاق المندوب كالانفاق الواجب لا مجرد عدم الانفاق مع صلاحية الموضوع لذلك. وبذلك يتبين ايضا معنى ما خاطب به أبو ذر عثمان بن عفان لما دخل عليه على ما تقدم في رواية الطبري حيث قال له: (لا ترضوا من الناس بكف الاذى حتى يبذلوا المعروف، وقد ينبغى لمؤدى الزكاة أن لا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران والاخوان ويصل القرابات). فإن لفظه كالصريح أو هو صريح في أنه لا يرى كل إنفاق فيما يفضل من المؤنة

[ 264 ]

بعد الزكاة واجبا، وأنه يقسم الانفاق في سبيل الله إلى ما يجب وما ينبغى غير أنه يعترض بانقطاع سبيل الانفاق من غير جهة الزكاة وانسداد باب الخيرات بالكلية وفي ذلك إبطال غرض التشريع وإفساد المصلحة العامة المشرعة. يقول: ليست هي حكومة استبدادية قيصرانية أو كسروانية، لا وظيفة لها إلا بسط الامن وكف الاذى بالمنع عن إيذاء بعض الناس بعضا ثم الناس أحرار فيما فعلوا غير ممنوعين عن ما اشتهوا من عمل أفرطوا أو فرطوا، اصلحوا أو أفسدوا، اهتدوا أو ضلوا وتاهوا، والمتقلد لحكومتهم حر فيما عمل ولا يسأل عما يفعل. وإنما هي حكومة اجتماعية دينية لا ترضى عن الناس بمجرد كف الاذى بل تسوق الناس في جميع شؤون معيشتهم إلى ما يصلح لهم ويهيئ لكل من طبقات المجتمع من أميرهم ومأمورهم ورئيسهم ومرؤوسهم ومخدومهم وخادمهم وغنيهم وفقيرهم وقويهم وضعيفهم ما يسع له من سعادة حياتهم فترفع حاجة الغنى بإمداد الفقير وحاجة الفقير بمال الغنى وتحفظ مكانة القوى باحترام الضعيف وحياة الضعيف برأفة القوى ومراقبته، ومصدرية العالي بطاعة الدانى وطاعة الدانى بنصفة العالي وعدله، ولا يتم هذا كله إلا بنشر المبرات وفتح باب الخيرات، والعمل بالواجبات على ما يليق بها والمندوبات على ما يليق بها وأما القصر على القدر الواجب، وترك الانفاق المندوب من رأس فإن فيه هدما لاساس الحياة الدينية، وإبطالا لغرض الشارع، وسيرا حثيثا إلى نظام مختل وهرج ومرج وفساد عريق لا يصلحه شئ كل ذلك عن المسامحة في إحياء غرض الدين، والمداهنة مع الظالمين إلا تفعلوه تكن فتنه في الارض وفساد كبير. وكذلك قول أبى ذر لمعاوية فيما تقدم من رواية الطبري: (ما يدعوك إلى أن تسمى مال المسلمين مال الله ؟ قال: يرحمك الله يا أبا ذر ألسنا عباد الله والمال ماله والخلق خلقه والامر أمره قال: فلا تقله). فإن الكلمة التى كان يقولها معاوية وعماله ومن بعده من خلفاء بنى امية وإن كانت كلمة حق وقد رويت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويدل عليها كتاب الله لكنهم كانوا يستنتجون منه خلاف ما يريده الله سبحانه فان المراد به أن المال لا يختص به أحد بعزه أو قوة أو سيطرة وإنما هو لله ينفق في سبيله على حسب ما عينه من موارد

[ 265 ]

إنفاقه فإن كان مما اقتناه الفرد بكسب أو ارث أو نحوهما فله حكمه، وإن كان مما حصلته الحكومة الاسلامية من غنيمة أو جزيه أو خراج أو صدقات أو نحو ذلك فله ايضا موارد إنفاق معينه في الدين، وليس في شئ من ذلك لوالى الامر أن يخص نفسه أو واحدا من أهل بيته بشئ يزيد على لازم مؤنته فضلا أن يكنز الكنوز ويرفع به القصور ويتخذ الحجاب ويعيش عيشه قيصر وكسرى. وأما هؤلاء فإنما كانوا يقولونه دفعا لاعتراض الناس عليهم في صرف مال المسلمين في سبيل شهواتهم وبذله فيما لا يرضى الله، ومنعه اهليه ومستحقيه أن المال للمسلمين تصرفونه في غير سبيلهم ! فيقولون: إن المال مال الله ونحن امناؤه نعمل فيه بما نراه فيستبيحون بذلك اللعب بمال الله كيف شاؤوا ويستنتجون به صحة عملهم فيه بما أرادوا وهو لا ينتج إلا خلافه، ومال الله ومال المسلمين بمعنى واحد، وقد أخذوهما لمعنيين اثنيين يدفع أحدهما الاخر. ولو كان مراد معاوية بقوله: (المال مال الله) هو الصحيح من معناه لم يكن معنى لخروج أبى ذر من عنده وندائه في الملا من الناس: بشر الكانزين بكى في الجباه وكى في الجنوب وكى في الظهور. على أن معاوية قد قال لابي ذر إنه يرى ان آية الكنز خاصة بأهل الكتاب وربما كان من أسباب سوء ظنه بهم إصرارهم عند كتابة مصحف عثمان ان يحذفوا الواو من قوله: (والذين يكنزون الذهب) الخ حتى هددهم ابى بالقتال إن لم يلحقوا الواو فألحقوها وقد مرت الرواية. فالقصة في حديث الطبري عن سيف عن شعيب وإن سيقت بحيث تقضى على ابى ذر بأنه كان مخطئا في ما اجتهد به كما اعترف به الطبري في اول كلامه غير ان اطراف القصة تقضى بإصابته. وبالجملة فالاية تدل على حرمة كنز الذهب والفضة فيما كان هناك سبيل لله يجب إنفاقه فيه وضرورة داعية إليه لمستحقي الزكاة مع الامتناع من تأديتها، والدفاع الواجب مع عدم النفقة وانقطاع سبيل البر والاحسان بين الناس. ولا فرق في تعلق وجوب الانفاق بين المال الظاهر الجارى في الاسواق وبين

[ 266 ]

الكنز المدفون في الارض غير ان الكنز يختص بشئ زائد وهو خيانة ولى الامر في ستر المال وغروره كما تقدم ذكره في البيان المتقدم. * * * إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والارض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا ان الله مع المتقين - 36. إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما و يحرمونه عاما ليواطؤا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدى القوم الكافرين - 37. (بيان) في الايتين بيان حرمة الاشهر الحرم ذى القعدة وذى الحجة والمحرم ورجب الفرد وتثبيت حرمتها وإلغاء نسئ الجاهلية، وفيها الامر بقتال المشركين كافة. قوله تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والارض) الشهر كالسنة والاسبوع مما يعرفه عامة الناس منذ اقدم اعصار الانسانية، وكأن لبعضها تأثيرا في تنبههم للبعض فقد كان الانسان يشاهد تحول السنين ومرورها بمضي الصيف والشتاء والربيع والخريف وتكررها بالعود ثم العود ثم تنبهوا لانقسامها إلى اقسام هي اقصر منها مدة حسب ما ساقهم إليه مشاهدة اختلاف اشكال القمر من الهلال إلى الهلال، وينطبق على ما يقرب من ثلاثين يوما وتنقسم بذلك السنة إلى اثنى عشر شهرا. والسنة التى ينالها الحس شمسية تتألف من ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وبعض

[ 267 ]

يوم لا تنطبق على اثنى عشر شهرا قمريا هي ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما تقريبا إلا برعاية حساب الكبيسة غير ان ذلك هو الذى يناله الحس وينتفع به عامة الناس من الحاضر والبادى والصغير والكبير والعالم والجاهل. ثم قسموا الشهر إلى الاسابيع وإن كان هو ايضا لا ينطبق عليها تمام الانطباق لكن الحس غلب هناك ايضا الحساب الدقيق، وهو الذى أثبت اعتبار الاسبوع وأبقاه على حاله من غير تغيير مع ما طرء على حساب السنة من الدقه من جهة الارصاد، وعلى حساب الشهور من التغيير فبدلت الشهور القمرية شمسية تنطبق عليها السنة الشمسية تمام الانطباق. وهذا بالنسبة إلى النقاط الاستوائية وما يليها من النقاط المعتدلة أو ما يتصل بها من الارض إلى عرض سبع وستين الشمالي والجنوبى تقريبا، وفيها معظم المعمورة وأما ما وراء ذلك إلى القطبين الشمالي والجنوبى فيختل فيها حساب السنة والشهر والاسبوع، والسنة في القطبين يوم وليلة، وقد اضطر ارتباط بعض اجزاء المجتمع الانساني ببعض سكان هذه النقاط - وهم شرذمة قليلون - أن يراعوا في حساب السنة والشهر والاسبوع واليوم ما يعتبره عامة سكان المعمورة فحساب الزمان الدائر بيننا إنما هو بالنسبة إلى جل سكان المعمورة من الارض. على ان هذا إنما هو بالنسبة إلى ارضنا التى نحن عليها، وأما سائر الكواكب فالسنة وهى زمان الحركة الانتقالية من الكوكب حول الشمس دورة واحدة كاملة - فيها تختلف وتتخلف عن سنتنا نحن، وكذلك الشهر القمرى فيما كان له قمر أو اقمار منها على ما فصلوه في فن الهيئة. فقوله تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا) الخ ناظر إلى الشهور القمرية التى تتألف منها السنون وهى التى لها اصل ثابت في الحس وهو التشكلات القمرية بالنسبة إلى اهل الارض. والدليل على كون المراد بها الشهور القمرية - اولا - قوله بعد: (منها اربعة حرم) لقيام الضرورة على ان الاسلام لم يحرم إلا اربعة من الشهور القمرية التى هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، والاربعة من القمرية دون الشمسية.

[ 268 ]

وثانيا: قوله: (عند الله) وقوله: (في كتاب الله يوم خلق السموات والارض) فان هذه القيود تدل على ان هذه العدة لا سبيل للتغير والاختلاف إليها لكونها عند الله كذلك ولا يتغير علمه، وكونها في كتاب الله كذلك يوم خلق السماوات والارض فجعل الشمس تجرى لمستقر لها، والقمر قدره منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغى لها ان تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون فهو الحكم المكتوب في كتاب التكوين، ولا معقب لحكمه تعالى. ومن المعلوم ان الشهور الشمسية وضعية اصطلاحية وإن كانت الفصول الاربعة والسنة الشمسية على غير هذا النعت فالشهور الاثنا عشر التى هي ثابتة ذات اصل ثابت هي الشهور القمرية. فمعنى الاية ان عدة الشهور اثنا عشر شهرا تتالف منها السنون، وهذه العدة هي التى في علم الله سبحانه، وهى التى أثبتها في كتاب التكوين يوم خلق السماوات والارض وأجرى الحركات العامة التى منها حركة الشمس وحركة القمر حول الارض وهى الاصل الثابت في الكون لهذه العدة. ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين ان المراد بكتاب الله في الاية القرآن أو كتاب مكتوب فيه عدة الشهور على حد الكتب والدفاتر التى عندنا المؤلفة من قراطيس وأوراق يضبط فيها الالفاظ بخطوط خاصة وضعية. قوله تعالى: (منها اربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن انفسكم) الحرم جمع حرام وهو الممنوع منه، والقيم هو القائم بمصلحة الناس المهيمن على إدارة امور حياتهم وحفظ شؤونها. وقوله: (منها اربعة حرم) هي الاشهر الاربعة: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب بالنقل القطعي، والكلمة كلمة تشريع بدليل قوله: (ذلك الدين القيم) الخ. وإنما جعل الله هذه الاشهر الاربعة حرما ليكف الناس فيها عن القتال وينبسط عليهم بساط الامن، ويأخذوا فيها الاهبة للسعادة، ويرجعوا إلى ربهم بالطاعات والقربات. وكانت حرمتها من شريعة إبراهيم، وكانت العرب تحترمها حتى في الجاهلية

[ 269 ]

حينما كانوا يعبدون الاوثان غير أنهم ربما كانوا يحولون الحرمة من شهر إلى شهر سنة أو أزيد منها بالنسئ الذى تتعرض له الاية التالية. وقوله: (ذلك الدين القيم)، الاشارة إلى حرمة الاربعة المذكورة، والدين كما تطلق على مجموع ما أنزله الله على أنبيائه تطلق على بعضها فالمعنى ان تحريم الاربعة من الشهور القمرية هو الدين الذى يقوم بمصالح العباد. كما يشير إليه في قوله: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام) الاية المائدة: 97 وقد تقدم الكلام فيه في الجزء السادس من الكتاب. وقوله: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) الضمير إلى الاربعة إذ لو كان راجعا إلى (اثنا عشر) المذكور سابقا لكان الظاهر أن يقال (فيها) كما نقل عن الفراء، وأيضا لو كان راجعا إلى (اثنا عشر) وهى تمام السنة لكان قوله: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) كما قيل في معنى قولنا: فلا تظلموا أبدا أنفسكم، وكان الكلام متفرعا على كون عدة الشهور عند الله اثنى عشر شهرا، ولا تفرع له عليه ظاهرا فالمعنى لما كانت هذه الاربعة حرما تفرع على حرمتها عند الله أن تكفوا فيها عن ظلم أنفسكم رعاية لحرمتها وعظم منزلتها عند الله سبحانه. فالنهى عن الظلم فيها يدل على عظم الحرمة وتاكدها لتفرعها على حرمتها أولا ولانها نهى خاص بعد النهى العام كما يفيده قولنا: لا تظلم أبدا ولا تظلم في زمان كذا. والجملة أعنى قوله: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) وإن كانت بحسب إطلاق لفظها نهيا عن كل ظلم ومعصية لكن السياق يدل على كون المقصود الاهم منها النهى عن القتال في الاشهر الحرم. قوله تعالى: (و قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين) قال الراغب في المفردات: الكف كف الانسان وهى ما بها يقبض ويبسط، وكففته أصبت كفه، وكففته أصبته بالكف ودفعته بها، وتعورف الكف بالدفع على أي وجه كان، بالكف كان أو غيرها حتى قيل: رجل مكفوف لمن قبض بصره. وقوله: وما أرسلناك إلا كافة للناس أي كافا لهم عن المعاصي، والهاء فيه للمبالغة كقولهم: راوية وعلامة ونسابة، وقوله: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم

[ 270 ]

كافة) قيل: معناه كافين لهم كما يقاتلونكم كافين، وقيل: معناه جماعة كما يقاتلونكم جماعة، وذلك أن الجماعة يقال لهم: الكافة كما يقال لهم: الوازعة لقوتهم باجتماعهم، وعلى هذا قوله: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة). انتهى. وقال في المجمع: كافة بمعنى الاحاطة ماخوذ من كافة الشئ وهى حرفه وإذا انتهى الشئ إلى ذلك كف عن الزيادة، وأصل الكف المنع. انتهى. وقوله: (كافة) في الموضعين حال عن الضمير الراجع إلى المسلمين أو المشركين أو في الاول عن الاول وفي الثاني عن الثاني أو بالعكس فهناك وجوه أربعة، والمتبادر إلى الذهن هو الوجه الرابع للقرب اللفظى الذى بين الحال و ذى الحال حينئذ، ومعنى الاية على هذا: وقاتلوا المشركين جميعهم كما يقاتلونكم جميعكم. فالاية توجب قتال جميع المشركين فتصير نظيرة قوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) الاية ينسخ هذه ما ينسخ تلك وتتخصص أو تتقيد بما تخصص أو تقيد به هي. والاية مع ذلك إنما تتعرض لحال القتال مع المشركين وهم عبدة الاوثان غير أهل الكتاب فان القرآن وإن كان ربما نسب الشرك تصريحا أو تلويحا إلى أهل الكتاب لكنه لم يطلق المشركين على طريق التوصيف إلا على عبدة الاوثان، وأما الكفر فعلا أو وصفا فقد نسب إلى اهل الكتاب وأطلق عليهم كما نسب وأطلق إلى عبدة الاوثان. فالاية أعنى قوله: (وقاتلوا المشركين كافة) الاية لا هي ناسخة لاية أخذ الجزية من اهل الكتاب، ولا هي مخصصة أو مقيدة بها. وقد قيل في الاية بعض وجوه أخر تركناه لعدم جدوى في التعرض له. وقوله: (واعلموا أن الله مع المتقين) تعليم وتذكير وفيه حث على الاتصاف بصفة التقوى يترتب عليه من الفائدة: أولا: الوعد الجميل بالنصر الالهى والغلبة والظفر فان حزب الله هم الغالبون. وثانيا: منعهم ان يتعدوا حدود الله في الحروب والمغازى بقتل النساء والصبيان ومن ألقى إليهم السلام كما قتل خالد في غزوة حنين مراة فارسل إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهاه عن ذلك وقتل رجالا من بنى جذيمة وقد اسلموا فوداهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتبرأ إلى

[ 271 ]

الله من فعله ثلاثا (1)، وقتل اسامة يهوديا اظهر له الاسلام فنزل قوله تعالى: (ولا تقولوا لمن ألقى اليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة) النساء: 94 وقد تقدم. قوله تعالى: (إنما النسئ زيادة في الكفر) إلى آخر الاية يقال: نسا الشئ ينسؤه نسا ومنساة ونسيئا إذا اخره تأخيرا، وقد يطلق النسئ على الشهر الذى اخر تحريمه على ما كانت العرب تفعله في الجاهلية فانهم ربما كانوا يؤخرون حرمة بعض الاشهر الحرم إلى غيره وأما انه كيف كان ذلك فقد اختلف فيه كلام المفسرين كاهل التاريخ. و الذى يظهر من خلال الكلام المسرود في الاية أنه كانت لهم فيما بينهم سنة جاهلية في امر الاشهر الحرم وهى المسماة بالنسئ، وهو يدل بلفظه على تأخير الحرمة من شهر حرام إلى بعض الشهور غير المحرمة الذى بعده، وانهم انما كانوا يؤخرون الحرمة ولا يبطلونها برفعها من اصلها لارادتهم بذلك ان يتحفظوا على سنة قومية ورثوها عن اسلافهم عن ابراهيم عليه السلام. فكانوا لا يتركون أصل التحريم لغى و إنما يؤخرونه إلى غير الشهر سنة أو أزيد ليواطئوا عدة ما حرم الله، وهى الاربعة ثم يعودون ويعيدون الحرمة إلى مكانها الاول. وهذا نوع تصرف في الحكم الالهى بعد كفرهم بالله باتخاذ الاوثان شركاء له تعالى وتقدس، ولذا عده الله سبحانه في كلامه زيادة في الكفر. وقد ذكر الله سبحانه من الحكم الخاص بحرمة الاشهر الحرم النهى عن ظلم الانفس حيث قال: (فلا تظلموا فيهن انفسكم) واظهر مصاديقه القتال كما انه المصداق الوحيد الذى استفتوا فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحكاه الله سبحانه بقوله: (يسالونك عن الشهر الحرام قتال فيه) الاية البقرة: 217 وكذا ما في معناه من قوله: (لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام) المائدة: 2 وقوله: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس و الشهر الحرام والهدى والقلائد) المائدة: 97. وكذلك الاثر الظاهر من حرمة البيت أو الحرم هو جعل الامن فيه كما قال: (ومن دخله كان آمنا) آل عمران: 97 وقال: (أو لم نمكن لهم حرما آمنا) القصص: 57. فالظاهر ان النسئ الذى تذكره الاية عنهم إنما هو تأخير حرمة الشهر الحرام.


(1) القصتان الاوليان مذكورتان في كتب السير والمغازي والثالثة تقدمت في تفسير الاية سابقا.

[ 272 ]

للتوسل بذلك إلى قتال فيه لا لتاخير الحج الذى هو عبادة دينية مختصة ببعضها. وهذا كله يؤيد ما ذكروه: أن العرب كانت تحرم هذه الاشهر الحرم، وكان ذلك مما تمسكت به من ملة ابراهيم واسماعيل عليهما السلام، وهم كانوا أصحاب غارات وحروب فربما كان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة اشهر متوالية لا يغزون فيها فكانوا يؤخرون تحريم المحرم، إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم فيمكثون بذلك زمانا ثم يعود التحريم إلى المحرم، ولا يفعلون ذلك أي إنساء حرمة المحرم إلى صفر إلا في ذى الحجة. وأما ما ذكره بعضهم أن النسئ هو ما كانوا يؤخرون الحج من شهر إلى شهر فمها لا ينطبق على لفظ الاية البتة، وسيجئ تفصيل الكلام فيه في البحث الروائي الاتى ان شاء الله. ولنرجع إلى ما كنا فيه. فقوله تعالى: (إنما النسئ زيادة في الكفر) أي تأخير الحرمة التى شرعها الله لهذه الاشهر الحرم من شهر منها إلى شهر غير حرام زيادة في الكفر لانه تصرف في حكم الله المشروع وكفر باياته بعد الكفر بالله من جهة الشرك فهو زيادة في الكفر. وقوله: (يضل به الذين كفروا) أي ضلوا فيه باضلال غيرهم إياهم بذلك، وفي الكلام إشعار أو دلالة على أن هناك من يحكم بالنسئ، وقد ذكروا أن المتصدي لذلك كان بعض بنى كنانة، وسيجئ تفصيله في البحث الروائي إن شاء الله. وقوله: (يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله) في موضع التفسير للانساء، والضمير للشهر الحرام المعلوم من سياق الكلام أي وهو انهم يحلون الشهر الحرام الذى نسؤوه بتأخير حرمته عاما ويحرمونه عاما، أي يحلونه عاما بتأخير حرمته إلى غيره، ويحرمونه عاما باعادة حرمته إليه. وإنما يعملون على هذه الشاكلة بالتأخير سنة والاثبات اخرى ليواطئوا ويوافقوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله في حال حفظهم اصل العدد أي انهم يريدون ح التحفظ على حرمة الاشهر الاربعة بعددها مع التغيير في محل الحرمة ليتمكنوا مما يريدونه من الحروب والغارات مع الاستنان بالحرمة. وقوله: (زين لهم سوء اعمالهم والله لا يهدى القوم الكافرين) المزين هو الشيطان كما وقع في آيات من الكتاب، وربما نسب إلى الله سبحانه كما في آيات أخر،

[ 273 ]

ولا ينسب الشر إليه سبحانه إلا ما قصد به الجزاء على الشر كما قال تعالى: (يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين) البقرة: 26. وذلك بأن يفسق العبد فيمنعه الله الهداية فيكون ذلك إذنا لداعى الضلال وهو الشيطان ان يزين له سوء عمله فيغويه ويضله، ولذلك قال تعالى: (زين لهم سوء أعمالهم) ثم عقبه بقوله: (إن الله لا يهدى القوم الكافرين) كأنه لما قيل: زين لهم سوء أعمالهم قيل: كيف أذن الله فيه ولم يمنع ذلك قيل: إن هؤلاء كافرون والله لا يهدى القوم الكافرين. (بحث روائي) في تفسير العياشي عن ابى خالد الواسطي في حديث ثم قال - يعنى أبا جعفر عليه السلام - حدثنى ابى عن على بن الحسين عن امير المؤمنين عليهم السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما ثقل في مرضه قال: ايها الناس إن السنة اثنا عشر شهرا منها اربعة حرم ثم قال بيده: رجب مفرد وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثلاث متواليات. أقول: وقد ورد في عدة روايات تأويل الشهور الاثنى عشر بالائمة الاثنى عشر، وتأويل الاربعة الحرم بعلى امير المؤمنين وعلى بن الحسين وعلى بن موسى وعلى بن محمد عليهم السلام، وتأويل السنة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وانطباقها على الاية بما لها من السياق لا يخلو عن خفاء. وفي الدر المنثور اخرج احمد والبخاري ومسلم أبو داود وابن المنذر وابن ابى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن ابى بكرة: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب في حجته فقال: ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والارض السنة اثنا عشر شهرا منها اربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مفرد الذى بين جمادى وشعبان. أقول: وهى من خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم المشهورة، وقد رويت بطرق اخرى عن ابى هريرة وابن عمر وابن عباس وان ابى حمزة الرقاشى عن عمه وكانت له صحبة وغيرهم. والمراد باستدارة الزمان كهيئته يوم خلق الله السماوات والارض استقرار الاحكام الدينية على ما تقتضيه الفطرة والخلقة وتمكن الدين القيم من الرقابة في اعمال الناس، ومن

[ 274 ]

ذلك حرمة الاشهر الاربعة الحرم وإلغاء النسئ الذى هو زيادة في الكفر. وفيه اخرج ابن ابى حاتم وأبو الشيخ عن ابن عمر قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالعقبة فقال: إن النسئ من الشيطان زيادة في الكفر - يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما فكانوا يحرمون المحرم عاما ويحرمون صفر عاما ويستحلون وهو النسئ. وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان جنادة بن عوف الكنانى يوفى الموسم كل عام وكان يكنى أبا ثمادة فينادى: ألا إن ابا ثمادة لا يخاف ولا يعاب ألا إن صفر الاول حلال. وكان طوائف من العرب إذا ارادوا ان يغيروا على بعض عدوهم أتوه فقالوا: أحل لنا هذا الشهر يعنون صفر، وكانت العرب لا تقاتل في الاشهر الحرم فيحله لهم عاما، ويحرمه عليهم في العام الاخر، ويحرم المحرم في قابل ليواطؤوا عدة ما حرم الله يقول: ليجعلوا الحرم اربعة غير أنهم جعلوا صفر عاما حلالا وعاما حراما. وفيه اخرج ابن المنذر عن قتادة في قوله: (إنما النسئ زيادة في الكفر) الاية قال: عمد أناس من اهل الضلالة فزادوا صفر في الاشهر الحرم، وكان يقوم قائمهم في الموسم فيقول: إن آلهتكم قد حرمت صفر فيحرمونه ذلك العام، وكان يقال لهما الصفران. وكان أول من نسأ النسئ بنو مالك من كنانة، وكانوا ثلاثة أبو ثمامة صفوان بن أمية وأحد بنى فقيم بن الحارث، ثم أحد بنى كنانة. وفيه اخرج ابن ابى حاتم عن السدى في الايه قال: كان رجل من بنى كنانة يقال له جنادة بن عوف يكنى أبا أمامة ينسئ الشهور، وكانت العرب يشتد عليهم ان يمكثوا ثلاثة أشهر لا يغير بعضهم على بعض فإذا أراد ان يغير على أحد قام يوما بمنى فخطب فقال: إنى قد احللت المحرم وحرمت صفر مكانه فيقاتل الناس في المحرم فإذا كان صفر عمدوا ووضعوا الاسنة ثم يقوم في قابل فيقول: إنى قد احللت صفر وحرمت المحرم فيواطؤوا اربعة أشهر فيحلوا المحرم. وفيه اخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: (يحلونه عاما ويحرمونه عاما) قال: هو صفر كانت هوازن وغطفان يحلونه سنة ويحرمونه سنة.

[ 275 ]

أقول: محصل الروايات - كما ترى - أن العرب كانت تدين بحرمة الاشهر الحرم الاربعة رجب وذى القعدة وذى الحجة والمحرم ثم إنهم ربما كانوا يتحرجون من القعود عن الحروب والغارات ثلاثة أشهر متواليات فسألوا بعض بنى كنانة ان يحل لهم ثالث الشهور الثلاثة فقام فيهم بعض ايام الحج بمنى وأحل لهم المحرم ونسأ حرمته إلى صفر فذهبوا لوجههم عامهم ذلك يقاتلون العدو ثم رد الحرمة إلى مكانه في قابل وهذا هو النسئ. وكان يسمى المحرم صفر الاول وصفر الثاني وهما صفران كالربيعين والجماديين والنسئ إنما ينال صفر الاول ولا يتعدى صفر الثاني فلما أقر الاسلام الحرمة لصفر الاول عبروا عنه بشهر الله المحرم ثم لما كثر الاستعمال خففت وقيل: المحرم، واختص اسم صفر بصفر الثاني فالمحرم من الالفاظ الاسلامية كما ذكره السيوطي في المزهر. وفيه اخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن ابى حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: (إنما النسئ زيادة في الكفر) قال: فرض الله الحج في ذى الحجة، وكان المشركون يسمون الاشهر ذا الحجة والمحرم وصفر وربيع وربيع وجمادى وجمادى ورجب وشعبان ورمضان شوال وذو القعدة وذو الحجة ثم يحجون فيه. ثم يسكتون عن المحرم فلا يذكرونه ثم يعودون فيسمون صفر صفر ثم يسمون رجب جمادى الاخرة ثم يسمون شعبان رمضان ورمضان شوال، ويسمون ذا القعدة شوال ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة ثم يسمون المحرم ذا الحجة ثم يحجون فيه واسمه عندهم ذو الحجة. ثم عادوا إلى مثل هذه القصة فكانوا يحجون في كل شهر عاما حتى وافق حجة ابى بكر الاخرة من العام في ذى القعدة ثم حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجته التى حج فيها فوافق ذو الحجة فذلك حين يقول صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والارض. أقول: ومحصله على ما فيه من التشويش والاضطراب أن العرب كانت قبل الاسلام يحج البيت في ذى الحجة غير أنهم أرادوا ان يحجوا كل عام في شهر فكانوا يدورون بالحج الشهور شهرا بعد شهر وكل شهر وصلت إليه النوبة عامهم ذلك سموه ذا الحجة وسكتوا عن اسمه الاصلى.

[ 276 ]

ولازم ذلك ان يتألف كل سنة فيها حجة من ثلاثة عشر شهرا، وأن يتكرر اسم بعض الشهور مرتين أو أزيد كما يشعر به الرواية، ولذا ذكر الطبري أن العرب كانت تجعل السنة ثلاثة عشر شهرا، وفي رواية اثنى عشر شهرا وخمسة وعشرين يوما. ولازم ذلك ايضا ان تتغير أسماء الشهور كلها، وأن لا يواطئ اسم الشهر نفس الشهر إلا في كل اثنتى عشرة سنة مرة إن كان التأخير على نظام محفوظ، وذلك على نحو الدوران. ومثل هذا لا يقال له الانساء والتأخير فإن أخذ السنة ثلاثة عشر وتسمية آخرها ذا الحجة تغيير لاصل التركيب لا تأخير لبعض الشهور بحسب الحقيقة. على أنه مخالف لسائر الاخبار والاثار المنقولة، ولا مأخذ لذلك إلا هذه الرواية وما ضاهاها كرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت العرب يحلون عاما شهرا وعاما شهرين، ولا يصيبون الحج إلا في كل ستة وعشرين سنة مرة وهو النسئ الذى ذكر الله تعالى في كتابه فلما كان عام الحج الاكبر ثم حج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من العام المقبل فاستقبل الناس الاهلة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والارض. وهو في الاضطراب كخبر مجاهد. على أن الذى ذكره من حجة ابى بكر في ذى القعدة هو الذى ورد من طرق اهل السنة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل ابا بكر اميرا للحج عام تسع فحج بالناس، وقد ورد في بعض روايات أخر ايضا أن الحجة عامئذ كانت في ذى القعدة. وهذه الحجة على أي نعت فرضت كانت بأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإمضائه، ولا يأمر بشئ ولا يمضى أمرا إلا ما أمر به ربه تعالى، وحاشا ان يأمر الله سبحانه بحجة في شهر نسئ ثم يسميها زيادة في الكفر. فالحق أن النسئ هو ما تقدم أنهم كانوا يتحرجون من توالى شهور ثلاثة محرمة فينسؤون حرمة المحرم إلى صفر ثم يعيدونها مكانها في العام المقبل. وأما حجهم في كل شهر سنة أو في كل شهر سنتين أو في شهر سنة وفي شهر سنتين فلم يثبت عن مأخذ واضح يوثق به، وليس من البعيد ان تكون عرب الجاهلية مختلفين في ذلك لكونهم قبائل شتى وعشائر متفرقة كل متبع لهوى نفسه غير أن الحج كان عبادة ذات موسم لا يتخلفون عنه لحاجتها إلى أمن لنفوسهم وحرمة لدمائهم،

[ 277 ]

وما كانوا يتمكنون من ذلك لو كان أحل الشهر بعضهم وحرمه آخرون على اختلاف في شاكلة التحريم، وهو ظاهر. * * * يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الارض أرضيتم بالحيوة الدنيا من الاخرة فما متاع الحيوة الدنيا في الاخرة إلا قليل - 38. إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شئ قدير - 39. إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم - 40. انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون - 41. لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون - 42. عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين - 43. لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الاخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين - 44. إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الاخر وارتابت قلوبهم

[ 278 ]

فهم في ريبهم يترددون - 45. ولو أرادوا الخروج لاعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين - 46. لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولاوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين - 47. لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الامور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون - 48. (بيان) تعرض للمنافقين وفيه بيان لجمل أوصافهم وعلائمهم، وشرح ما لقى الاسلام والمسلمون من كيدهم ومكرهم وما قاسوه من المصائب من جهة نفاقهم، وفي مقدمها عتاب المؤمنين في تثاقلهم عن الجهاد، وحديث خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة وذكر الغار. قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الارض) الاية اثاقلتم أصله تثاقلتم على وزان اداركوا وغيره، وكأنه أشرب معنى الميل ونحوه فعدى بإلى وقيل: اثاقلتم إلى الارض أي ملتم إلى الارض متثاقلين أو تثاقلتم مائلين إلى الارض والمراد بالنفر في سبيل الله الخروج إلى الجهاد. وقوله: (أرضيتم بالحياة الدنيا من الاخرة) كأن الرضا اشرب معنى القناعة فعدى بمن كما يقال: رضيت من المال بطيبه، ورضيت من القوم بخلة فلان، وعلى هذا ففى الكلام نوع من العناية المجازية كأن الحياة الدنيا نوع حقير من الحياة الاخرة قنعوا بها منها، ويشعر بذلك قوله بعده: (فما متاع الحياة الدنيا في الاخرة إلا قليل). فمعنى الاية: يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قال لكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم - لم يصرح باسمه صونا وتعظيما - اخرجوا إلى الجهاد أبطاتم كأنكم لا تريدون الخروج أقنعتم بالحياة الدنيا راضين بها من الاخرة فما متاع الحياة الدنيا بالنسبة إلى الحياة الاخرة إلا قليل.

[ 279 ]

وفي الاية وما يتلوها عتاب شديد للمؤمنين وتهديد عنيف وهى تقبل الانطباق على غزوة تبوك كما ورد ذلك في اسباب النزول. قوله تعالى: (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم) إلى آخر الاية العذاب الذى أنذروا به مطلق غير مقيد فلا وجه لتخصيصه بعذاب الاخرة بل هو على إبهامه، وربما أيد السياق كون المراد به عذاب الدنيا أو عذاب الدنيا والاخرة جميعا. وقوله: (يستبدل قوما غيركم) أي يستبدل بكم قوما غيركم لا يتثاقلون في امتثال أوامر الله والنفر في سبيل الله إذا قيل لهم: انفروا، والدليل على هذا المعنى قرينة المقام. وقوله: (ولا تضروه شيئا) إشارة إلى هوان أمرهم على الله سبحانه لو أراد ان يذهب بهم ويأتى بآخرين فإن الله لا ينتفع بهم بل نفعهم لانفسهم فضررهم على أنفسهم، وقوله: (والله على كل شئ قدير) تعليل لقوله: (يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم). قوله تعالى: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ اخرجه الذين كفروا ثانى اثنين إذ هما في الغار) ثانى اثنين أي أحدهما، والغار الثقبة العظيمة في الجبل، والمراد به غار جبل ثور قرب منى وهو غير غار حراء الذى ربما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأوى إليه قبل البعثة للاخبار المستفيضة، والمراد بصاحبه هو أبو بكر للنقل القطعي. وقوله: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) أي لا تحزن خوفا مما تشاهده من الوحدة والغربة وفقد الناصر وتظاهر الاعداء وتعقيبهم إياى فإن الله سبحانه معنا ينصرني عليهم. وقوله: (فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها) أي أنزل الله سكينته على رسوله وأيد رسوله بجنود لم تروها يصرفون القوم عنهم بوجوه من الصرف بجميع العوامل التى عملت في انصراف القوم عن دخول الغار والظفر به صلى الله عليه وآله وسلم، وقد روى في ذلك أشياء ستأتي في البحث الروائي إن شاء الله تعالى. والدليل على رجوع الضمير في قوله: (فأنزل الله سكينته عليه) إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم اولا: رجوع الضمائر التى قبله وبعده إليه صلى الله عليه وآله وسلم كقوله: (إلا تنصروه) و (نصره) و (أخرجه) و (يقول) و (لصاحبه) و (أيده) فلا سبيل إلى رجوع ضمير (عليه) من بينها وحده إلى غيره من غير قرينة قاطعة تدل عليه.

[ 280 ]

وثانيا: أن الكلام في الاية مسوق لبيان نصر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم حيث لم يكن معه أحد ممن يتمكن من نصرته إذ يقول تعالى: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ) الاية وإنزال السكينة والتقوية بالجنود من النصر فذاك له صلى الله عليه وآله وسلم خاصة. ويدل على ذلك تكرار (إذ) وذكرها في الاية ثلاث مرات كل منها بيان لما قبله بوجه فقوله (إذ أخرجه الذين كفروا) بيان لوقت قوله: (فقد نصره الله) وقوله: (إذ هما في الغار) بيان لتشخيص الحال الذى هو قوله: (ثانى اثنين) وقوله: (إذ يقول لصاحبه) بيان لتشخيص الوقت الذى يدل عليه قوله: (إذ هما في الغار). وثالثا: أن الاية تجرى في سياق واحد حتى يقول: (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا) ولا ريب أنه بيان لما قبله، وأن المراد بكلمة الذين كفروا هي ما قضوا به في دار الندوة وعزموا عليه من قتله صلى الله عليه وآله وسلم وإطفاء نور الله، وبكلمة الله هي ما وعده من نصره وإتمام نوره، وكيف يجوز أن يفرق بين البيان والمبين وجعل البيان راجعا إلى نصره تعالى إياه صلى الله عليه وآله وسلم، والمبين راجعا إلى نصره غيره. فمعنى الاية: ان لم تنصروه أنتم ايها المؤمنون فقد اظهر الله نصره إياه في وقت لم يكن له احد ينصره ويدفع عنه وقد تظاهرت عليه الاعداء وأحاطوا به من كل جهة وذلك إذ هم المشركون به وعزموا على قتله فاضطر إلى الخروج من مكة في حال لم يكن إلا احد رجلين اثنين، وذلك إذ هما في الغار إذ يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصاحبه وهو أبو بكر: لا تحزن مما تشاهده من الحال ان الله معنا بيده النصر فنصره الله. حيث أنزل سكينته عليه وأيده بجنود غائبة عن ابصاركم، وجعل كلمة الذين كفروا - وهى قضاؤهم بوجوب قتله وعزيمتهم عليه - كلمة مغلوبة غير نافذة ولا مؤثرة، وكلمة الله - وهى الوعد بالنصر وإظهار الدين واتمام النور - هي العليا العالية القاهرة والله عزيز لا يغلب حكيم لا يجهل ولا يغلط في ما شاءه وفعله. وقد تبين مما تقدم أولا: ان قوله: (فأنزل الله سكينته عليه) متفرع على قوله: (فقد نصره الله) في عين انه متفرع على قوله: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن) فان الظرف ظرف للنصره على ما تقدم، والكلام مسوق لبيان نصره تعالى إياه صلى الله عليه وآله وسلم لا غيره فالتفريع تفريع على الظرف بمظروفه الذى هو قوله: (فقد نصره

[ 281 ]

الله) لا على قوله: (يقول لصاحبه لا تحزن). وربما استدل لذلك بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يزل على سكينة من ربه فانزال السكينة في هذا الظرف خاصة يكشف عن نزوله على صاحبه. ويدفعه أولا قوله تعالى: (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) في قصة حنين، والقول بأن نفسه الشريفة اضطربت بعض الاضطراب في وقعة حنين فناسب نزول السكينة بخلاف الحال في الغار. يدفعه أنه من الافتعال بغير علم فالاية لا تذكر منه صلى الله عليه وآله وسلم حزنا ولا اضطرابا ولا غير ذلك إلا ما تذكر من فرار المؤمنين. على أنه يبطل أصل الاستدلال ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يزل على سكينة من ربه لا يتجدد له شئ منها فكيف جاز له أن يضطرب في حنين فتنزل عليه سكينة جديدة اللهم إلا أن يريدوا به أنه لم يزل في الغار كذلك. ونظيرتها الاية الناطقة بنزول السكينة عليه صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المؤمنين في سورة الفتح: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) الفتح: 26. ويدفعه ثانيا: لزوم تفرع قوله: (وأيده بجنود لم تروها) على اثر تفرع قوله: (فأنزل الله سكينته عليه) لانهما في سياق واحد، ولازمه عدم رجوع التأييد بالجنود إليه صلى الله عليه وآله وسلم أو التفكيك في السياق الواحد من غير مجوز يجوزه. وربما التزم بعضهم - فرارا من شناعة لزوم التفكيك - أن الضمير في قوله تعالى: (وأيده) أيضا راجع إلى صاحبه، ولازمه كون إنزال السكينة والتأييد بالجنود عائدين إلى أبى بكر دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وربما أيده بعض آخر بأن الوقائع التى تذكر الايات فيها نزول جنود لم يروها كوقعة حنين والاحزاب وكذا نزول الملائكة لوقعة بدر وان لم تذكر نزولهم على المؤمنين ولم تصرح بتأييدهم بهم لكنهم حيث كانوا انما نزلوا للنصر وفيه نصر المؤمنين وإمدادهم فلا مانع من القول بأن الجنود التى لم يروها إنما أيدت أبا بكر، وتأييدهم المؤمنين جميعا أو ابا بكر خاصة تأييد منهم في الحقيقة للنبى صلى الله عليه وآله وسلم. والاولى على هذا البيان أن يجعل الفرع الثالث الذى هو قوله: (وجعل كلمة

[ 282 ]

الذين كفروا السفلى) الاية مترتبا على ما تقدمه من الفرعين لئلا يلزم التفكيك في السياق. ولا يخفى عليك أن هذا الذى التزموا به يخرج الاية عن مستقر معناها الوحداني إلى معنى متهافت الاطراف يدفع آخره أوله، وينقض ذيله صدره فقد بدأت الاية بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكرم على الله وأعز من أن يستذله ويحوجه إلى نصرة هؤلاء بل هو تعالى وليه القائم بنصره حيث لم يكن أحد من هؤلاء الحافين حوله المتبعين أثره ثم إذا شرعت في بيان نصره تعالى إياه بين نصره غيره بإنزال السكينة عليه وتأييده بجنود لم يروها إلى آخر الاية. هب أن نصره تعالى بعض المؤمنين به صلى الله عليه وآله وسلم أو جميعهم نصر منه له بالحقيقة لكن الاية في مساق يدفعه البتة فإن الاية السابقة يجمع المؤمنين في خطاب واحد - يا أيها الذين آمنوا - ويعاتبهم ويهددهم على التثاقل عن إجابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما أمرهم به من النفر في سبيل الله والخروج إلى الجهاد ثم الاية الثانية تهددهم بالعذاب والاستبدال إن لم ينفروا وتبين لهم أن الله ورسوله في غنى عنهم ولا يضرونه شيئا، ثم الاية الثالثة توضح ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غنى عن نصرهم لان ربه هو وليه الناصر له، وقد نصره حيث لم يكن لاحد منهم صنع فيه وهو نصره إياه إذ أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا. ومن البين الذى لا مرية فيه ان مقتضى هذا المقام بيان نصره صلى الله عليه وآله وسلم الخاص به المتعلق بشخصه من الله سبحانه خاصة من دون صنع لاحد من المؤمنين في ذلك لا بيان نصره إياه بالمؤمنين أو ببعضهم وقد جمعهم في خطاب المعاتبة، ولا بيان نصره بعض المؤمنين به ممن كان معه. ولا أن المقام مقام يصلح لان يشار بقوله: (إذ أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين) إشارة إجمالية إلى نصره العزيز لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ثم يؤخذ في تفصيل ما خص به صاحبه من الخصيصة بإنزال السكينة والتأييد بالجنود فإن المقام على ما تبين لك يأبى ذلك. ويدفعه ثالثا: أن فيه غفلة عن حقيقة معنى السكينة وقد تقدم الكلام فيها في ذيل قوله تعالى: (ثم أنزل الله سكينتة على رسوله وعلى المؤمنين) الاية: 26 من السورة. والامر الثاني: أن المراد بتأييده صلى الله عليه وآله وسلم بجنود لم يروها تأييده بذلك يومئذ على

[ 283 ]

ما يفيد السياق، وأما قول بعضهم: إن المراد به ما أيده بالجنود يوم الاحزاب ويوم حنين على ما نطقت به الايات فمما لا دليل عليه من اللفظ البتة. والامر الثالث: أن المراد بالكلمة في قوله: (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى) هو ما قضوا به في دار الندوة وعزموا عليه من قتله صلى الله عليه وآله وسلم وإبطال دعوته الحقة بذلك، وبقوله: (وكلمة الله هي العليا) هو ما وعد الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من النصر وإظهار دينه على الدين كله. ذلك أن هذه بما تتضمنه من قوله: (فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا) تشير إلى ما يقصه قوله تعالى: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين (الانفال: 30، والذى في ذيل الاية من إبطال كلمتهم وإحقاق الكلمة الالهية مرتبط بما في صدر الاية من حديث الاخراج أي الاضطرار إلى الخروج لا محالة، والذى اضطره صلى الله عليه وآله وسلم إلى الخروج هو عزمهم على قتله حسب ما اتفقوا عليه من القضاء بقتله فهذه هي الكلمة التى أبطلها الله سبحانه وجعلها السفلى وتقابلها كلمة الله وليست إلا النصر والاظهار. ومن هنا يظهر ان قول بعضهم إن المراد بكلمه الذين كفروا الشرك والكفر، وبكلمة الله تعالى التوحيد والايمان غير سديد فان الشرك وإن كان كلمة لهم، والتوحيد كلمة لله لكنه لا يستلزم كونهما المرادين كلما ذكرت الكلمتان حتى مع وجود القرينة على الخلاف قوله تعالى: (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا باموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) الخفاف والثقال جمعا خفيف وثقيل، والثقل بقرينة المقام كناية عن وجود الموانع الشاغلة الصارفة للانسان عن الخروج إلى الجهاد نظير كثرة المشاغل المالية وحب الاهل والولد والاقرباء والاصدقاء الذى يوجب كراهة مفارقتهم، وفقد الزاد والراحلة والسلاح ونحو ذلك، والخفة كناية عن خلاف ذلك. فالامر بالنفر خفافا وثقالا وهما حالان متقابلان في معنى الامر بالخروج على أي حال، وعدم اتخاذ شئ من ذلك عذرا يعتذر به لترك الخروج كما أن الجمع بين الاموال والانفس في الذكر في معنى الامر بالجهاد باى وسيلة أمكنت. وقد ظهر بذلك ان الامر في الاية مطلق لا يابى التقييد بالاعذار التى يسقط

[ 284 ]

معها وجوب الجهاد كالمرض والعمى والعرج ونحو ذلك فان المراد بالخفه والثقل امر وراء ذلك. قوله تعالى لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك إلى آخر الايه العرض ما يسرع إليه الزوال ويطلق على المال الدنيوي وهو المراد في الايه بقرينه السياق والمراد بقربه كونه قريبا من التناول و القاصد من القصد وهو التوسط في الامر والمراد بكون السفر قاصدا كونه غير بعيد المقصد سهلا على المسافر والشقه المسافه لما في قطعها من المشقه. و الايه كما يلوح من سياقها تعيير وذم للمنافقين المتخلفين عن الخروج مع النبي ص إلى الجهاد في غزوه تبوك إذ الغزوه التى خرج فيها النبي ص و تخلف عنه المنافقون وهى على بعد من المسافه هي غزوه تبوك لا غيرها. ومعنى الايه لو كان ما امرتهم به ودعوتهم إليه عرضا قريب التناول وغنيمه حاضره وسفرا قاصدا قريبا هينا لاتبعوك يا محمد وخرجوا معك طمعا في الغنيمة و لكن بعدت عليهم الشقه والمسافه فاستصعبوا السير وتثاقلوا فيه. وسيحلفون بالله إذا رجعتم إليهم ولمتموهم على تخلفهم لو استطعنا الخروج لخرجنا معكم يهلكون انفسهم بما اخذوه من الطريقة من الخروج إلى القتال طمعا في عرض الدنيا إذا استيسروا القبض عليه والتخلف عنه إذا شق عليهم ثم الاعتذار بالعذر الكاذب على نبيهم والحلف في ذلك بالله كاذبين أو يهلكون انفسهم بهذا الحلف الكاذب والله يعلم انهم لكاذبون. قوله تعالى عفا الله عنك لم اذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين الجمله الاولى دعاء للنبى ص بالعفو نظير الدعاء على الانسان بالقتل في قوله قتل الانسان ما اكفره: عبس - 17 وقوله فقتل كيف قدر: المدثر - 19 وقوله قاتلهم الله انى يؤفكون: التوبه - 30. والجمله متعلقه بقوله لم اذنت لهم أي في التخلف و القعود ولما كان الاستفهام للانكار أو التوبيخ كان معناه كان ينبغى ان لا تأذن لهم في التخلف والقعود ويستقيم به تعلق الغاية التى يشتمل عليها قوله حتى يتبين لك الذين

[ 285 ]

صدقوا الايه بقوله لم اذنت لهم فالتعلق انما هو بالمستفهم عنه دون الاستفهام والا افاد خلاف المقصود والكلام مسوق لبيان ظهور كذبهم وان ادنى الامتحان كالكف عن اذنهم في القعود يكشف عن فصاحتهم. ومعنى الايه عفا الله عنك لم اذنت لهم في التخلف والقعود ولو شئت لم تأذن لهم وكانوا احق به حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين فيتميز عندك كذبهم ونفاقهم. والايه كما ترى وتقدمت الاشاره إليه في مقام دعوى ظهور كذبهم ونفاقهم و انهم مفتضحون بادنى امتحان يمتحنون به ومن مناسبات هذا المقام القاء العتاب إلى المخاطب وتوبيخه والانكار عليه كانه هو الذى ستر عليهم فضائح اعمالهم وسوء سريرتهم وهو نوع من العناية الكلامية يتبين به ظهور الامر و وضوحه لا يراد ازيد من ذلك فهو من اقسام البيان على طريق اياك اعني و اسمعي يا جاره. فالمراد بالكلام اظهار هذه الدعوى لا الكشف عن تقصير النبي ص وسوء تدبيره في احياء امر الله وارتكابه بذلك ذنبا حاشاه واولويه عدم الاذن لهم معناها كون عدم الاذن انسب لظهور فضيحتهم وانهم احق بذلك لما بهم من سوء السريره وفساد النية لا لانه كان اولى واحرى في نفسه واقرب و امس بمصلحة الدين. والدليل على هذا الذى ذكرنا قوله تعالى بعد ثلاث آيات لو خرجوا فيكم ما زادوكم الا خبالا ولاوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنه وفيكم سماعون لهم إلى آخر الايتين فقد كان الاصلح ان يؤذن لهم في التخلف ليصان الجمع من الخبال وفساد الراى وتفرق الكلمه والمتعين ان يقعدوا فلا يفتنوا المؤمنين بالقاء الخلاف بينهم والتفتين فيهم وفيهم ضعفاء الايمان ومرضى القلوب وهم سماعون لهم يسرعون إلى المطاوعة لهم ولو لم يؤذن لهم فاظهروا الخلاف كانت الفتنه اشد والتفرق في كلمه الجماعه اوضح وابين. ويؤكد ذلك قوله تعالى بعد آيتين ولو ارادوا الخروج لاعدوا له عده ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين فقد كان تخلفهم ونفاقهم ظاهرا لائحا من عدم اعدادهم العده يتوسمه في وجوههم كل ذى لب ولا يخفى مثل ذلك على مثل النبي ص وقد نباه الله باخبارهم قبل نزول هذه السوره كرارا فكيف

[ 286 ]

يصح ان يعاتب ههنا عتابا جديا بانه لم لم يكف عن الاذن ولم يستعلم حالهم حتى يتبين له نفاقهم ويميز المنافقين من المؤمنين فليس المراد بالعتاب الا ما ذكرناه. ومما تقدم يظهر فساد قول من قال ان الايه تدل على صدور الذنب عنه ص لان العفو لا يتحقق من غير ذنب وان الاذن كان قبيحا منه ص ومن صغائر الذنوب لانه لا يقال في المباح لم فعلته انتهى. وهذا من لعبهم بكلام الله سبحانه ولو اعترض معترض على ما يهجون به في مثل المقام الذى سيقت الايه فيه لم يرضوا بذلك وقد اوضحنا ان الايه مسوقه لغرض غير غرض الجد في العتاب. على ان قولهم ان المباح لا يقال فيه لم فعلت فاسد فان من الجائز إذا شوهد من رجح غير الاولى على الاولى ان يقال له لم فعلت ذلك ورجحته على ما هو اولى منه على انك قد عرفت ان الايه غير مسوقه لعتاب جدى. ونظيره ما ذكره بعض آخر حيث قال ان بعض المفسرين ولا سيما الزمخشري قد اساؤوا الادب في التعبير عن عفو الله تعالى عن رسوله ص في هذه الايه وكان يجب ان يتعلموا اعلى الادب معه ص إذ اخبره ربه ومؤدبه بالعفو قبل الذنب وهو منتهى التكريم واللطف. وبالغ آخرون كالرازي في الطرف الاخر فارادوا ان يثبتوا ان العفو لا يدل على الذنب وغايته ان الاذن الذى عاتبه الله عليه هو خلاف الاولى. وهو جمود مع الاصطلاحات المحدثه والعرف الخاص في معنى الذنب وهو المعصية وما كان ينبغى لهم ان يهربوا من اثبات ما اثبته الله في كتابه تمسكا باصطلاحاتهم وعرفهم المخالف له والمدلول اللغه ايضا. فالذنب في اللغه كل عمل يستتبع ضررا أو فوت منفعه أو مصلحه ماخوذ من ذنب الدابه وليس مرادفا للمعصيه بل اعم منها والاذن المعفو عنه قد استتبع فوت المصلحة المنصوصة في الايه وهى تبين الذين صدقوا والعلم بالكاذبين وقد قال تعالى انا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر الايه: الفتح - 2. ثم ذكر في كلام له طويل ان ذلك كان اجتهادا منه ص فيما لا وحى فيه من

[ 287 ]

الله وهو جائز وواقع من الانبياء ع وليسوا بمعصومين من الخطاء فيه و انما العصمه المتفق عليها خاصه بتبليغ الوحى ببيانه والعمل به فيستحيل على الرسول ان يكذب أو يخطئ فيما يبلغه عن ربه أو يخالفه بالعمل. ومنه ما تقدم في سوره الانفال من عتابه تعالى لرسوله ص في اخذ الفديه من اسارى بدر حيث قال ما كان لنبى ان يكون له اسرى حتى يثخن في الارض تريدون عرض الدنيا والله يريد الاخرة: الانفال - 67 ثم بين انه كان مقتضيا لنزول عذاب اليم لو لا كتاب من الله سبق فكان مانعا انتهى كلامه بنوع من التلخيص. و ليث شعرى ما الذى زاد في كلامه على ما تفصى به الرازي وغيره حيث ذكروا ان ذلك من ترك الاولى ولا يسمونه ذنبا في عرف المتشرعين وهو الذى يستتبع عقابا وذكر هو انه من ترك الاصلح وسماه ذنبا لغه. على انك قد عرفت فيما تقدم انه لم يكن ذنبا لا عرفا ولا لغه بدلاله ناصه من الايات على ان عدم خروجهم كان هو الاصلح لحال جيش المسلمين لتخلصهم بذلك عن غائله وقوع الفتنه واختلاف الكلمه وكانت هذه العله بعينها موجوده لو لم ياذن لهم النبي ص وظهر منهم ما كانوا ابطنوه من الكفر والخلاف وان الذى ذكره الله بقوله ولو ارادوا الخروج لاعدوا له عده ان عدم اعدادهم العده كان يدل على عدم ارادتهم الخروج كان رسول الله ص اجل من ان يخفى عليه ذلك وهم بمرئى منه ومسمع. مضافا إلى انه ص كان يعرفهم في لحن القول كما قال تعالى ولتعرفنهم في لحن القول: سوره محمد - 30 وكيف يخفى على من سمع من احدهم مثل قوله ائذن لى ولا تفتني أو يقول للنبى ص هو اذن أو يلمزه في الصدقات ولا ينصح له ص ان ذلك من طلائع النفاق يطلع منهم وما وراءه الا كفر وخلاف. فقد كان النبي ص يتوسم منهم النفاق والخلاف ويعلم بما في نفوسهم ومع ذلك فعتابه ص بانه لم لم يكف عن الاذن ولم يستعلم حالهم ولم يميزهم من غيرهم ليس الا عتابا غير جدى للغرض الذى ذكرناه. واما قوله ان الاذن المعفو عنه قد استتبع فوت المصلحة المنصوصة في

[ 288 ]

الايه وهى تبين الذين صدقوا والعلم بالكاذبين ففيه ان الذى تشتمل عليه الايه من المصلحة هو تبين الذين صدقوا للنبى ص وعلمه هو بالكاذبين لا مطلق تبينهم ولا مطلق العلم بالكاذبين وقد ظهر مما تقدم انه ص لم يكن يخفى عليه ذلك وان حقيقه المصلحة انما كانت في الاذن وهى سد باب الفتنه و اختلاف الكلمه فانه ص كان يعلم من حالهم انهم غير خارجين البته سواء اذن لهم في القعود ام لم ياذن فبادر إلى الاذن حفظا على ظاهر الطاعه ووحده الكلمه. وليس لك ان تتصور انه لو بان نفاقهم يومئذ وظهر خلافهم بعدم اذن النبي لهم بالقعود لتخلص الناس من تفتينهم والقائهم الخلاف لما في الاسلام يومئذ وهو يوم خروج النبي ص إلى غزوه تبوك من الشوكه والقوه وله ص من نفوذ الكلمه. فان الاسلام يومئذ انما كان يملك القوة والمهابه في اعين الناس من غير المسلمين كانوا يرتاعون شوكته ويعظمون سواد اهله ويخافون حد سيوفهم واما المسلمون في داخل مجتمعهم وبين انفسهم فلم يخلصوا بعد من النفاق ومرض القلوب ولم يستول عليهم بعد وحده الكلمه وجد الهمه و العزيمة والدليل على ذلك نفس هذه الايات وما يتلوها إلى آخر السوره تقريبا. وقد كانوا تظاهروا بمثل ذلك يوم احد وقد هجم عليهم العدو في عقر دارهم فرجع ثلث الجيش الاسلامي من المعركة ولم يؤثر فيهم عظه ولا الحاح حتى قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم فكان ذلك احد الاسباب العاملة في انهزام المسلمين. واما قوله ومن عتابه تعالى لرسوله ص في خطائه في اجتهاده ما تقدم في سوره الانفال من عتابه في اخذ الفديه من اسارى بدر حيث قال ما كان لنبى ان يكون له اسرى حتى يثخن في الارض الايه. ففيه اولا انه من سوء الفهم فمن البين الذى لا يرتاب فيه ان الايه بلفظها لا تعاتب على اخذ الفديه من الاسرى وانما تعاتب على نفس اخذ الاسرى ما كان لنبى ان يكون له اسرى ولم تنزل آيه ولا وردت روايه في ان النبي ص كان امرهم بالاسر بل روايات القصه تدل على ان النبي ص لما امر بقتل بعض الاسرى خاف الناس ان يقتلهم عن آخرهم فكلموه والحوا عليه في اخذ الفديه منهم ليتقووا بذلك على

[ 289 ]

اعداء الدين وقد رد الله عليهم ذلك بقوله تريدون عرض الدنيا والله يريد الاخرة. وهذا من احسن الشواهد على ان العتاب في الايه متوجه إلى المؤمنين خاصه من غير ان يختص به النبي ص أو يشاركهم فيه وان اكثر ما ورد من الاخبار في هذا المعنى موضوعه أو مدسوسه. وثانيا ان العتاب في الايه لو اختص بالنبي ص أو شمله وغيره لم يكن من العتاب على ما ذكره على الذنب بمعناه اللغوى وهو تفويت المصلحة بوجه فان هذا العتاب مذيل بقوله تعالى في الايه التاليه لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما اخذتم عذاب عظيم: الانفال - 68 فلا يرتاب ذو لب في ان التهديد بالعذاب العظيم لا يتاتى الا مع كون المهدد عليه من المعصية المصطلحه بل ومن كبائر المعاصي وهذا ايضا من الشواهد على ان العتاب في الايه متوجه إلى غير النبي ص بيان قوله تعالى لا يستاذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الاخر إلى آخر الايتين تذكر الايتان احد ما يعرف به المنافق ويتميز به من المؤمن وهو الاستيذان في التخلف عن الجهاد في سبيل الله. وقد بين الله سبحانه ذلك بان الجهاد في سبيل الله بالاموال والانفس من لوازم الايمان بالله واليوم الاخر بحقيقه الايمان لما يورثه هذا الايمان من صفه التقوى والمؤمن لما كان على تقوى من قبل الايمان بالله واليوم الاخر كان على بصيره من وجوب الجهاد في سبيل الله بماله ونفسه ولا يدعه ذلك ان يتثاقل عنه فيستأذن في القعود لكن المنافق لعدم الايمان بالله واليوم الاخر فقد صفه التقوى فارتاب قلبه ولا يزال يتردد في ريبه فيحب التطرف ويستاذن في التخلف والقعود عن الجهاد. قوله تعالى ولو ارادوا الخروج لاعدوا له عده إلى آخر الايه العده الاهبه و الانبعاث على ما في المجمع الانطلاق بسرعة في الامر والتثبيط التوقيف عن الامر بالتزهيد فيه. والايه معطوفه على ما تقدم من قوله والله يعلم انهم لكاذبون بحسب المعنى أي هم كاذبون في دعواهم عدم استطاعتهم الخروج بل ما كانوا يريدونه ولو

[ 290 ]

ارادوه لاعدوا له عده لان من آثار من يريد امرا من الامور ان يتاهب له بما يناسبه من العده والاهبه ولم يظهر منهم شئ من ذلك. وقوله ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم أي جزاء بنفاقهم وامتنانا عليك وعلى المؤمنين لئلا يفسدوا جمعكم ويفرقوا كلمتكم بالتفتين والقاء الخلاف. وقوله وقيل اقعدوا مع القاعدين امر غير تشريعي لا ينافى الامر التشريعي بالنفر والخروج فقد امرهم الله بلسان نبيه ص بالنفر والخروج وهو امر تشريعي وامرهم من ناحيه سريرتهم الفاسدة والريب المتردد في قلوبهم وسجاياهم الباطنيه الخبيثه بالقعود وهو امر غير تشريعي ولا تنافى بينهما. ولم ينسب قول اقعدوا مع القاعدين إلى نفسه تنزيها لنفسه عن الامر بما لا يرتضيه وهناك اسباب متخلله آمره بذلك كالشيطان والنفس وانما ينسب إليه تعالى بالواسطة لانطباق معنى الجزاء والامتنان على المؤمنين عليه. وليتوافق الامران المتخالفان صوره في السياق اعني قوله قيل لكم انفروا في سبيل الله وقوله قيل اقعدوا مع القاعدين. قوله تعالى لو خرجوا فيكم ما زادوكم الا خبالا و لاوضعوا خلالكم الايه الخبال هو الفساد واضطراب الراى والايضاح الاسراع في الشر والخلال البين والبغى هو الطلب فمعنى يبغونكم الفتنه أي يطلبون لكم أو فيكم الفتنه على ما قيل والفتنة هي المحنه كالفرقه واختلاف الكلمه على ما يناسب الايه من معانيها والسماع السريع الاجابة والقبول. والايه في مقام التعليل لقوله ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم امتنانا ولذا جئ بالفصل من غير عطف والمعنى ظاهر. قوله تعالى لقد ابتغوا الفتنه من قبل وقلبوا لك الامور حتى جاء الحق وظهر امر الله وهم كارهون أي اقسم لقد طلبوا المحنه و اختلاف الكلمه وتفرق الجماعه من قبل هذه الغزوه وهى غزوه تبوك كما في غزوه احد حين رجع عبد الله بن ابى بن سلول بثلث القوم وخذل النبي ص و قلبوا لك الامور بدعوه الناس إلى الخلاف وتحريضهم على المعصية وخذلانهم عن الجهاد وبعث اليهود والمشركين

[ 291 ]

على قتال المؤمنين والتجسس وغير ذلك حتى جاء الحق وهو الحق الذى يجب ان يتبع وظهر امر الله وهو الذى يريده من الدين وهم كارهون لجميع ذلك. و الايه تستشهد على الايه السابقة بذكر الامثال كما يستدل على الامر بمثله و توجيه الخطاب إلى النبي ص خاصه بعد عمومه في الايه السابقة لاختصاص الامر فيه بالنبي ص اعني تقليب الامور عليه بخلاف ما في الايه السابقة من خروجهم في الناس. (بحث روائي) في الدر المنثور: في قوله تعالى الا تنصروه فقد نصره الله الايه: اخرج ابن مردويه وابو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: لما خرج رسول الله ص من الليل لحق بغار ثور - قال وتبعه أبو بكر - فلما سمع رسول الله ص حسه خلفه - خاف ان يكون الطلب فلما راى ذلك أبو بكر تنحنح - فلما سمع ذلك رسول الله ص عرفه - فقام له حتى تبعه فاتيا الغار -. فاصبحت قريش في طلبه فبعثوا إلى رجل من قافه بنى مدلج - فتبع الاثر حتى انتهى إلى الغار - وعلى بابه شجره فبال في اصلها القائف - ثم قال ما جاز صاحبكم الذى تطلبون هذا المكان - قال فعند ذلك حزن أبو بكر - فقال له رسول الله ص لا تحزن ان الله معنا -. قال فمكث هو وابو بكر في الغار ثلاثه ايام - يختلف إليهم بالطعام عامر بن فهيره وعلى يجهزهم - فاشتروا ثلاثه اباعر من ابل البحرين - واستاجر لهم دليلا فلما كان بعض الليل من الليله الثالثه - اتاهم على بالابل والدليل فركب رسول الله ص راحلته - وركب أبو بكر اخرى فتوجهوا نحو المدينة - وقد بعثت قريش في طلبه وفيه اخرج ابن سعد عن ابن عباس وعلى وعائشة بنت ابى بكر وعائشة بنت قدامه وسراقه بن جعشم دخل حديث بعضهم في بعض قالوا ": خرج رسول الله ص و القوم جلوس على بابه - فاخذ حفنه من البطحاء فجعل يذرها على رؤوسهم - ويتلو يس والقرآن الحكيم الايات ومضى -. فقال لهم قائل ما تنتظرون قالوا محمدا - قال قد والله مر بكم قالوا -

[ 292 ]

والله ما ابصرناه وقاموا ينفضون التراب من رؤوسهم - وخرج رسول الله ص وابو بكر إلى غار ثور - فدخلاه وضربت العنكبوت على بابه بعشاش بعضها على بعض -. وطلبته قريش اشد الطلب - حتى انتهوا إلى باب الغار فقال بعضهم - ان عليه لعنكبوتا قبل ميلاد محمد وفي اعلام الورى ": في حديث سراقه بن جعشم مع النبي ص قال - الذى اشتهر في العرب يتقاولون فيه الاشعار - ويتفاوضونه في الديار انه تبعه - وهو متوجه إلى المدينة طالبا لغرته ص ليحظى بذلك عند قريش - حتى إذا امكنته الفرصة في نفسه - وايقن ان قد ظفر ببغيته ساخت قوائم فرسه - حتى تغيبت باجمعها في الارض وهو بموضع جدب - وقاع صفصف فعلم ان الذى اصابه امر سماوي - فنادى يا محمد ادع ربك يطلق لى فرسى - وذمه الله ان لا ادل عليك احدا - فدعا له فوثب جواده كانه افلت من انشوطه وكان رجلا داهيه - وعلم بما راى انه سيكون له نبا فقال - اكتب لى امانا فكتب له وانصرف -. قال محمد بن اسحاق - ان ابا جهل قال في امر سراقه ابياتا فاجابه سراقه نظما - ابا حكم واللات لو كنت شاهدا. لامر جوادي إذ تسيخ قوائمه. عجبت ولم تشكك بان محمدا. نبى ببرهان فمن ذا يكاتمه. عليك بكف الناس عنه فانني. ارى امره يوما ستبدوا معالمه ": اقول ورواه في الكافي باسناده عن معاويه بن عمار عن ابى عبد الله ع وفي الدر المنثور بعده طرق واورده الزمخشري في ربيع الابرار وفي الدر المنثور اخرج ابن سعد وابن مردويه عن ابن مصعب قال ": ادركت انس بن مالك وزيد بن ارقم - والمغيره بن شعبه فسمعتهم يتحدثون - ان النبي ص ليله الغار امر الله شجره - فنبتت في وجه النبي ص فسترته - وامر الله العنكبوت فنسجت في وجه النبي ص فسترته - وامر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار -. واقبل فتيان قريش من كل بطن رجل - بعصيهم واسيافهم و هراويهم - حتى إذا

[ 293 ]

كانوا من النبي ص قدر اربعين ذراعا - فعجل بعضهم فنظر في الغار فرجع إلى اصحابه - فقالوا ما لك لم تنظر في الغار - فقال رايت حمامتين بفم الغار - فعرفت ان ليس فيه احد الحديث. وفي الدر المنثور اخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن الزهري ": في قوله إذ هما في الغار قال - الغار الذى في الجبل الذى يسمى ثورا. اقول وقد استفاضت الروايات بكون الغار المذكور في القرآن الكريم هو غار جبل ثور وهو على اربعه فراسخ من مكه تقريبا. وفي اعلام الورى وقصص الانبياء ": وبقى رسول الله ص في الغار ثلاثه ايام - ثم اذن الله تعالى له بالهجره - وقال اخرج من مكه يا محمد - فليس لك بها ناصر بعد ابى طالب فخرج رسول الله ص -. واقبل راع لبعض قريش يقال له ابن اريقط - فدعاه رسول الله ص فقال له - يا ابن اريقط اءتمنك على دمى فقال - اذن والله احرسك واحفظك ولا ادل عليك - فاين تريد يا محمد قال يثرب - قال لاسلكن بك مسلكا لا يهتدى فيها احد - فقال له رسول الله ص ائت عليا - و بشره بان الله قد اذن لى في الهجره فهيئ لى زادا وراحله -. وقال له أبو بكر ائت اسماء ابنتى - وقل لها تهيئي لى زادا وراحلتين - واعلم عامر بن فهيره امرنا - وكان من موالى ابى بكر وكان قد اسلم - وقل له ائتنا بالزاد والراحلتين -. فجاء ابن اريقط إلى على ع فاخبره بذلك - فبعث على بن ابى طالب إلى رسول الله ص بزاد وراحله - وبعث ابن فهيره بزاد وراحلتين - و خرج رسول الله ص من الغار - واخذ به ابن اريقط على طريق نخله بين الجبال - فلم يرجعوا إلى الطريق الا بقديد فنزلوا على ام معبد هناك -. قال وقد كانت الانصار بلغهم خروج رسول الله ص إليهم - وكانوا يتوقعون قدومه إلى ان وافى مسجد قبا - ونزل فخرج الرجال والنساء يستبشرون بقدومه. اقول والاخبار في تفاصيل قصص الهجره بالغه في الكثره رواها اصحاب

[ 294 ]

النقل وارباب السير من الشيعه واهل السنه وهى على كثرتها متدافعه مضطربه لا يسع نقدها واستخراج الصافى منها مجال هذا الكتاب وللدلاله على اجمال القصه فيما اوردناه كفايه وهو كالمتفق عليه بين اخبار الفريقين. وفي الدر المنثور اخرج خيثمه بن سليمان الطرابلسي في فضائل الصحابة وابن عساكر عن على بن ابى طالب قال: ان الله ذم الناس كلهم ومدح ابا بكر فقال - الا تنصروه فقد نصره الله - إذ اخرجه الذين كفروا ثانى اثنين إذ هما في الغار - إذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا بيان اقول نقد البحث في مضامين الايات الحافه بالقصه وما ينضم إليها من النقل الصحيح يوجب سوء الظن بهذه الرواية فان الايات التى تذم المؤمنين أو الناس كلهم كما في الرواية واليها تشير آيه الغار بما فيها من قوله الا تنصروه هي قوله تعالى يا ايها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الارض الايه والنقل القطعي يدل على ان التثاقل المذكور لم يكن من عامه المؤمنين وجميعهم وان كثيرا منهم سارع إلى اجابه الرسول ص فيما امر به من النفر وانما تثاقل جماعه من الناس من مؤمن و منافق. فخطاب يا ايها الذين آمنوا الشامل لجميع المؤمنين والذم المتعقب له انما هو من خطاب الجماعه بشان بعضهم كخطاب اليهود بقوله فلم تقتلون انبياء الله: البقره - 91 وغيره وهو كثير في القرآن غير ان ديدن القرآن في مثل هذه الموارد ان لا يضيع حق الصالحين ولا اجر المحسنين اعني الاقلين الذين تعمهم امثال هذه الخطابات العامه بالذم والتوبيخ فيتدارك امرهم و يستثنيهم ويذكرهم بالجميل كما فعل ذلك فيما سيأتي في هذه السوره من الايات المادحه للمؤمنين الشاكره لجميل مساعيهم بقوله والمؤمنون و المؤمنات بعضهم اولياء بعض الايه وغيره. وإذا كانت الايات وقد نزلت في غزوه تبوك تعم المؤمنين جميعا المسارعين في الخروج والمتثاقلين فيه من غير استثناء فهى تشمل عامه الصحابة والمؤمنين وفيهم أبو بكر نفسه غير انه تعالى تدارك ما لحق بالمسارعين في الطاعه والاجابه منهم في آيات تاليه و شكر سعيهم. فلو كان قوله في الايه الا تنصروه وهو يشير إلى ما تقدم من حديث

[ 295 ]

التثاقل ويؤمى إليه ذما للناس كلهم كان ذما لابي بكر كما هو ذم لغيره بعدم نصرتهم للنبى ص أو تثاقلهم في نصره ومع ذلك لا تسمح الايه بالدلالة على نصر ابى بكر له ص بما فيها من قوله فقد نصره الله إذ اخرجه الذين كفروا ثانى اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا بل لو دل لدل على نصر النبي ص لابي بكر حيث طيب قلبه وسلاه بقوله لا تحزن ان الله معنا. على انك قد عرفت في البيان السابق ان الايه بمقتضى المقام لا تتعرض الا لنصر الله سبحانه وحده نبيه ص بعينه وشخصه قبال ما يفرض من عدم نصر كافه المؤمنين له وخذلانهم اياه فدلاله الايه على ان النبي ص يوم الغار لم ينصره الا الله سبحانه وحده دلاله قطعيه. وهذا المعنى في نفسه ادل شاهد على ان الضمائر في تتمه جمل الايه فانزل الله سكينته عليه وايده بجنود لم تروها وجعل كلمه الذين كفروا السفلى وكلمه الله هي العليا للنبى ص والجمل مسوقه لبيان قيامه تعالى وحده بنصره نصرا عزيزا غيبيا لا صنع فيه لاحد من الناس وهو انزال السكينه عليه وتاييده بجنود غائبه عن الابصار وجعل كلمه الذين كفروا السفلى واعلاء كلمه الحق والله عزيز حكيم. واما غير نصره النبي ص من المناقب التى يمدح الانسان عليها فلو كان هناك شئ من ذلك لكان هو ما في قوله ثانى اثنين وما في قوله لصاحبه فلنسلم ان كون الانسان ثانيا لاثنين احدهما النبي ص وكونه صاحبا للنبى ص مذكورا في القرآن بالصحبه من المفاخر التى يتنفس لها لكنها من المناقب الاجتماعية التى تقدر لها في المجتمعات قيمه ونفاسه واما القرآن الكريم فللقيمه فيه ملاك آخر وللفضل والشرف في منطقه معنى آخر متكئ على حقيقه هي اعلى من المقاصد الوضعية الاجتماعية وهى كرامه العبودية ودرجات القرب والزلفى. ومجرد الصحابة الجسمانيه والدخول في العدد لا يدل على شئ من ذلك وقد تكرر في كلامه تعالى ان التسمى بمختلف الاسماء والتلبس بما يتنفس فيه عامه الناس ويستعظمه النظر الاجتماعي لا قيمه له عند الله سبحانه وان الحساب على ما في القلوب دون ما يتراءى من ظواهر الاعمال وتقدمه الاحساب والانساب. وقد افصح عنه في مورد اصحاب النبي ص وملازميه خاصه بابلغ الافصاح

[ 296 ]

قوله تعالى محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا إلى ان قال وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفره واجرا عظيما: الفتح - 29 فانظر إلى ما في صدر الايه من المدح وما في ذيله من القيد وتدبر. هذه نبذه مما يتعلق بالايه والروايه من البحث والزائد على هذا المقدار يخرجنا من البحث التفيسري الى البحث الكلامي الذي هو خارج عن غرضنا. وفي الدر المنثرو أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس في قوله: " فأنزل الله سكينته عليه " قال: على أبي بكر لان النبي (ص) لم يزل السكينة معه. وفيه أخرج الخطيب في تاريخه عن حبيب بن أبي ثابت: " فأنزل الله سكينته. عليه " قال: علي أبي بكر فأما النبي (ص) فقد كانت عليه السكينة. أقول: قد حقق فيما تقدم أن الضمير راجع الى النبي صلى الله عليه وسلم على ما يهدي إليه السياق، والروايتان على ما بهما من الوقف ضعيفتان، ولا حجية لقول ابن عباس ولا حبيب لغيرهما. وأما الحجة التي أورداهما فيهما وهي أن النبي (ص) لم تزل السكينة معه فمدخولة يدفعها قوله تعالى في قصة حنين: " ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين " الاية: التوبة: 26 ونظيرته آية سورة الفتح المشيرة إلى قصة آلحديبية وهما تصرحان بنزول السكينة عليه (ص) في خصوص المورد فليكن الامر على تلك الوتيرة في الغار. وكأن بعضهم (1) أحسن بالاشكال فحمل قولهما في الروايتين: أن السكينة لم تزل مع النبي (ص) على معنى آخر وهو كون السكينة ملازمة للنبي (ص) في الغار فيكون قرينة على كون التي نزلت فيه إنما نزلت على صاحبه دونه، ولعل رواية حبيب أقرب دلالة على ما ذكره. قال بعد إيراده رواية ابن عباس ثم رواية حبيب: وقد أخذ بهذه الرواية بعض مفسري اللغة والمعقول ووضحوا ما فيها من التعليل بأنه صلى الله عليه وسلم لم يحدث له وقتئذ


(1) صاحب النار في تفسير. (*)

[ 297 ]

اضطراب ولا خوف ولا حزن وقواها بعضهم بان الاصل في الضمير ان يعود إلى اقرب مذكور وليس هذا بشئ. وذهب آخرون إلى ان الضمير يعود إلى النبي ص وان انزال السكينه عليه لا يقتضى ان يكون خائفا أو مضطربا أو منزعجا وهذا ضعيف لعطف انزال السكينه على ما قبلها الدال على وقوعه بعده وترتبه عليه وان نزولها وقع بعد قوله لصاحبه لا تحزن انتهى. اما ما ذكروه من عدم طرو خوف واضطراب عليه ص وقتئذ فان كانوا استفادوه من عدم ذكر شئ من ذلك في الايه أو في روايه معتمد عليها فكلامه تعالى في قصه حنين والحديبيه ايضا خال عن ذكر النبي ص بخوف أو حزن أو اضطراب ولم ترد روايه معتمد عليها تدل على ذلك فكيف استقام ذكر نزول السكينه عليه ص فيهما. وان قالوا باستلزام انزال السكينه الاضطراب والخوف والحزن فهو ممنوع كما تقدم كيف ونزول نعمه من النعم الالهيه لا يتوقف على سبق الاتصاف بحاله مضاده لها و نقمه مقابله لها كنزول الرحمه بعد الرحمه والنعمة بعد النعمة والايمان و الهداية بعد الايمان والهدايه وغير ذلك وقد نص القرآن الكريم بامور كثيره من هذا القبيل. واما قوله ان رجوع الضمير إلى النبي ص ضعيف لعطف انزال السكينه على ما قبلها الدال على وقوعه بعده وترتبه عليه وان نزولها وقع بعد قوله لصاحبه لا تحزن انتهى. ففيه انه لا ريب ان فاء التفريع تدل على ترتب ما بعدها على ما قبلها ووقوعه بعده لكن بعديه رتبيه لا بعديه زمانيه ولم يقل احد بوجوب كونها زمانيه دائما. فمن الواجب فيما نحن فيه ان يترتب قوله فانزل الله سكينته عليه وايده على ما تقدم عليه من الكلام لا على ما هو اقرب إليه من غيره الا على القول بان الاصل في الضمير ان يعود إلى اقرب مذكور وقد ضعفه في سابق كلامه. والذى يصلح من سابق ليتعلق به التفريع المذكور هو قوله فقد نصره الله في كذا وكذا وقتا وتفرع هذه الفروع عليه من قبيل تفرع التفصيل على الاجمال والسياق على استقامته فقد نصره الله في وقت كذا فانزل سكينته عليه وايده

[ 298 ]

بجنود لم تروها وجعل كلمه الذين كفروا السفلى. فظهر ان ما اجاب به اخيرا هو عين ما ضعفه اولا من حديث اصل قرب المرجع من الضمير ذاك الاصل الذى لا اصل له كرره ثانيا بتغيير ما في اللفظ ومن هنا يظهر جهه المناقشة في روايه اخرى رواها في الدر المنثورعن ابن مردويه عن انس بن مالك قال: دخل النبي ص وابو بكر غار حراء - فقال أبو بكر للنبى ص - لو ان احدهم يبصر موضع قدمه لابصرني واياك - فقال ما ظنك باثنين الله ثالثهما - ان الله انزل سكينته عليك وايدنى بجنود لم تروها. على ان الرواية تذكر غار حراء وقد ثبت بالمستفيض المتكاثر من الاخبار ان الغار كان غار ثور لا غار حراء. على ان الرواية مشتمله على تفكيك السياق صريحا بما فيها من قوله انزل سكينته عليك وايدنى بجنود الخ. وقد اورد الالوسى في روح المعاني الرواية هكذا ان الله انزل سكينته عليك وايدك بجنود لم تروها فارجع الضميرين إلى ابى بكر دون النبي ص. ولا ندرى أي اللفظين هو الاصل وايهما المحرف غير انه يضاف على روايه وايدك بجنود لم تروها إلى ما ذكر من الاشكال آنفا اشكالات اخرى تقدمت في البيان السابق مضافا إلى اشكال آخر جديد من جهه قوله لم تروها بخطاب الجمع ولا مخاطب يومئذ جمعا. وفي تفسير القمى: في قوله تعالى لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا: في روايه ابى الجارود عن ابى جعفر ع: في قوله لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا يقول - غنيمه قريبه لاتبعوك وفي تفسير العياشي عن زراره وحمران ومحمد بن مسلم عن ابى جعفر وابى عبد الله ع: في قول الله لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك الايه - انهم يستطيعون وقد كان في علم الله - انه لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لفعلوا: اقول ورواه الصدوق في المعاني باسناده عن عبد الاعلى بن اعين عن ابى عبد الله ع مثله بيان وفي تفسير القمى ": في قوله تعالى ولكن بعدت عليهم الشقه - يعنى إلى

[ 299 ]

تبوك وسبب ذلك - ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يسافر سفرا أبعد منه ولا أشد منه. وكان سبب ذلك أن الصيافة كانوا يقدمون المدينة من الشام ومعهم الدرموك والطعام، وهم الانباط فأشاعوا بالمدينة أن الروم قد اجتمعوا يريدون غزو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عسكر عظيم، وأن هرقل قد سار في جمع جنوده، وجلب معهم غسان وجذام وبهراء وعاملة، وقد قدم عساكره البلقاء ونزل هو حمص. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه إلى تبوك وهى من بلاد البلقاء، وبعث إلى القبائل حوله، وإلى مكة، وإلى من أسلم من خزاعة ومزينة وجهينة فحثهم على الجهاد. وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعسكره فضرب في ثنية الوداع، وأمر اهل الجدة ان يعينوا من لا قوة به، ومن كان عنده شئ اخرجه، وحملوا وقووا وحثوا على ذلك. وخطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال بعد حمد الله والثناء عليه: أيها الناس ان اصدق الحديث كتاب الله، وأولى القول كلمة التقوى، وخير الملل ملة ابراهيم، وخير السنن سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الامور عزائمها وشر الامور محدثاتها، وأحسن الهدى هدى الانبياء، وأشرف القتلى الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير الاعمال ما نفع، وخير الهدى ما اتبع، وشر العمى عمى القلب واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة محضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا نزرا، ومنهم من لا يذكر الله إلا هجرا، ومن أعظم الخطايا اللسان الكذب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله، وخير ما ألقى في القلب اليقين، والارتياب من الكفر، والتباعد من عمل الجاهلية، والغلول من قيح جهنم، والسكر جمر النار، والشعر من إبليس، والخمر جماع الاثم، والنساء حبائل إبليس، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب كسب الربا، وشر الاكل أكل مال اليتيم، والسعيد من وعظ بغيره، والشقى من شقى في بطن امه، وإنما يصير احدكم إلى موضع اربعة أذرع، والامر إلى آخره وملاك الامر خواتيمه، وأربى الربا الكذب، وكلما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن توكل على الله كفاه، ومن صبر ظفر، ومن يعف يعف الله عنه، ومن كظم الغيظ

[ 300 ]

آجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، ومن تبع السمعة يسمع الله به، ومن يصم يضاعف الله له، ومن يعص الله يعذبه، اللهم اغفر لى ولامتى. اللهم اغفر لى ولامتى استغفر الله لى ولكم. قال: فرغب الناس في الجهاد لما سمعوا هذا من رسول الله، وقدمت القبائل من العرب ممن استنفرهم، وقعد عنه قوم من المنافقين وغيرهم، ولقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجد بن قيس فقال له: يا أبا وهب ألا تنفر معنا في هذه الغزاة ؟ لعلك ان تحتفد من بنات الاصفر فقال يا رسول الله: والله إن قومي ليعلمون ان ليس فيهم اشد عجبا بالنساء منى وأخاف إن خرجت معك ان لا اصبر إذا رأيت بنات الاصفر فلا تفتني وائذن لى ان أقيم. وقال للجماعة من قومه: لا تخرجوا في الحر. فقال ابنه: ترد على رسول الله وتقول له ما تقول ثم تقول لقومك: لا تنفروا في الحر والله لينزلن الله في هذا قرآنا يقرؤه الناس إلى يوم القيامة فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك: (ومنهم من يقول ائذن لى ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين). ثم قال الجد بن قيس: أيطمع محمد ان حرب الروم مثل حرب غيرهم. لا يرجع من هؤلاء احد ابدا. أقول: وقد روى هذه المعاني في روايات اخرى كثيرة من طرق الشيعة وأهل السنة. وفي العيون بإسناده عن على بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا على بن موسى عليه السلام فقال له: يا ابن رسول الله أليس من قولك: إن الانبياء معصومون ؟ قال: بلى، فقال له المأمون - فيما سأله - يا أبا الحسن فأخبرني عن قول الله تعالى: (عفا الله عنك لم أذنت لهم). قال الرضا عليه السلام: هذا مما نزل: إياك اعني واسمعي يا جارة، خاطب الله تعالى بذلك نبيه وأراد به امته، وكذلك قوله عز وجل: (لئن اشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين)، وقوله تعالى: (ولو لا ان ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا). قال: صدقت يا ابن رسول الله. أقول: ومضمون الرواية ينطبق على ما قدمناه في بيان الاية، دون ما ذكروه

[ 301 ]

من كون إذنه صلى الله عليه وآله وسلم لهم في القعود من قبيل ترك الاولى فإنه لا يستقيم معه كون الاية من قبيل (إياك أعنى واسمعي يا جارة). وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق في المصنف، وابن جرير، عن عمرو بن ميمون الاودى قال: اثنتان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يؤمر فيهما بشئ: إذنه للمنافقين، وأخذه من الاسارى فأنزل الله: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) الاية. أقول: وقد تقدم الكلام على مضمون الرواية. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: (ولو أرادوا الخروج لاعدوا له عدة) الاية وما بعدها قال: وتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اهل نيات وبصائر لم يكن يلحقهم شك ولا ارتياب ولكنهم قالوا: نلحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. منهم أبو خيثمة وكان قويا وكان له زوجتان وعريشان، وكانتا زوجتاه قد رشتا عريشتيه، وبردتا له الماء، وهيأتا له طعاما فأشرف على عريشتيه فلما نظر إليهما قال: لا والله ما هذا بإنصاف، رسول الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قد خرج في الفيح والريح، وقد حمل السلاح يجاهد في سبيل الله، وابو خيثمة قوى قاعد في عريشة وامرأتين حسناوين لا والله ما هذا بإنصاف. ثم أخذ ناقته فشد عليها رحله ولحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنظر الناس إلى راكب على الطريق فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كن أبا خيثمة فأقبل، وأخبر النبي بما كان منه فجزاه خيرا ودعا له. وكان أبو ذر تخلف عن رسول الله ثلاثة ايام وذلك ان جمله كان أعجف، فلحق بعد ثلاثة ايام به ووقف عليه جمله في بعض الطريق فتركه وحمل ثيابه على ظهره فلما ارتفع النهار نظر المسلمون إلى شخص مقبل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كن أبا ذر فقالوا: هو أبو ذر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أدركوه فانه عطشان فأدركوه بالماء. ووافى أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه إداوة فيها ماء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا ابا ذر معك ماء وعطشت ؟ قال: نعم يا رسول الله بأبى انت وامى انتهيت إلى صخرة عليها ماء السماء فذقته فإذا هو عذب بارد فقلت: لا أشربه حتى يشرب رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا ابا ذر رحمك الله، تعيش وحدك، وتموت وحدك،

[ 302 ]

وتبعث وحدك، وتدخل الجنة وحدك، يسعد بك قوم من اهل العراق يتولون غسلك وتجهيزك والصلاة عليك ودفنك. ثم قال: وقد كان تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوم من المنافقين وقوم من المؤمنين مستبصرين لم يعثر عليهم في نفاق: منهم كعب بن مالك الشاعر ومرارة بن الربيع وهلال بن امية الرافعى فلما تاب الله عليهم قال كعب: ما كنت قط اقوى منى في ذلك الوقت الذى خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك، وما اجتمعت لى راحلتان قط إلا في ذلك اليوم، وكنت اقول: اخرج غدا بعد غد فانى مقوى، وتوانيت وثقلت بعد خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم اياما ادخل السوق ولا اقضي حاجة فلقيت هلال بن امية ومرارة بن الربيع وقد كانا تخلفا ايضا فتوافقنا ان نبكر إلى السوق، فلم نقض حاجة فما زلنا نقول: نخرج غدا وبعد غد حتى بلغنا إقبال رسول الله (ص) فندمنا. فلما وافى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استقبلناه نهنئه السلامة فسلمنا عليه فلم يرد علينا السلام وأعرض عنا، وسلمنا على إخواننا فلم يردوا علينا السلام فبلغ ذلك اهلونا فقطعوا كلامنا، وكنا نحضر المسجد فلا يسلم علينا احد ولا يكلمنا فجاءت نساؤنا إلى رسول الله (ص) فقلن: قد بلغنا سخطك على ازواجنا أفنعتزلهم ؟ فقال رسول الله (ص): لا تعتزلنهم ولكن لا يقربوكن. فلما رأى كعب بن مالك وصاحباه ما قد حل بهم قالوا: ما يقعدنا بالمدينة ولا يكلمنا رسول الله (ص) ولا إخواننا ولا أهلونا ؟ فهلموا نخرج إلى هذا الجبل فلا نزال فيه حتى يتوب الله علينا أو نموت. فخرجوا إلى ذباب - جبل بالمدينة - فكانوا يصومون وكان أهلوهم يأتونهم بالطعام فيضعونه ناحية ثم يولون عنهم ولا يكلمونهم. فبقوا على هذا اياما كثيرة يبكون بالليل والنهار ويدعون الله ان يغفر لهم فلما طال عليهم الامر قال لهم كعب: يا قوم قد سخط الله علينا ورسوله، وقد سخط علينا أهلونا، وإخواننا قد سخطوا علينا فلا يكلمنا أحد فلم لا يسخط بعضنا على بعض ؟ فتفرقوا في الجبل وحلفوا أن لا يكلم أحد منهم صاحبه حتى يموت أو يتوب الله عليه فبقوا على ذلك ثلاثة أيام، وكل واحد منهم في ناحية من الجبل لا يرى أحد منهم صاحبه ولا يكلمه.

[ 303 ]

فلما كان في الليلة الثالثة، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيت أم سلمة نزلت توبتهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين والانصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة) قال الصادق عليه السلام: هكذا نزلت وهو أبو ذر وأبو خيثمة وعمير بن وهب الذين تخلفوا ثم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم قال في هؤلاء الثلاثة: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) فقال العالم عليه السلام: إنما أنزل: على الثلاثة الذين خالفوا ولو خلفوا لم يكن عليهم عيب (حتى إذا ضاقت عليهم الارض بما رحبت) حيث لا يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا إخوانهم ولا اهلوهم فضاقت عليهم المدينة حتى خرجوا منها (وضاقت عليهم أنفسهم) حيث حلفوا أن لا يكلم بعضهم بعضا فتفرقوا وتاب الله عليهم لما عرف من صدق نياتهم. أقول: (وسيأتى الكلام في الايتين وما ورد فيهما من الروايات. وفي تفسير العياشي عن المغيرة قال: سمعته يقول في قول الله عز وجل: (ولو أرادوا الخروج لاعدوا له عدة)، قال: يعنى بالعدة النية (يقول: (لو كان لهم نية لخرجوا. أقول: الرواية على ضعفها وإرسالها وإضمارها لا تنطبق على لفظ الاية والله أعلم. وفي الدر المنثور أخرج ابن إسحاق وابن المنذر عن الحسن البصري قال: كان عبد الله بن أبى وعبد الله بن نبتل ورفاعة بن زيد بن تابوت من عظماء المنافقين، وكانوا ممن يكيد الاسلام وأهله، وفيهم أنزل الله: (لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الامور) إلى آخر الاية. * * * ومنهم من يقول ائذن لى ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين - 49. إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون - 50. قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون - 51.

[ 304 ]

قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون - 52. قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين - 53. وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلوة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون - 54. فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحيوة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون - 55. ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون - 56. لو يجدون ملجا أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون - 57. ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون - 58. ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون - 59. إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم - 60. ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم - 61. يحلفون بالله لكم

[ 305 ]

ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين - 62. ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزى العظيم - 63. (بيان) الايات تعقب القول في المنافقين وبيان حالهم وفيها ذكر أشياء من أقوالهم وأفعالهم، والبحث عما يكشف عنه من خبائث اوصافهم الباطنة واعتقاداتهم المبنية على الضلال. قوله تعالى: (ومنهم من يقول ائذن لى ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا) الاية الفتنة ههنا - على ما يهدى إليه السياق - إما الالقاء إلى ما يفتتن ويغر به، وإما الالقاء في الفتنة والبلية الشاملة. والمراد على الاول: ائذن لى في القعود وعدم الخروج إلى الجهاد، ولا تلقني في الفتنة بتوصيف ما في هذه الغزوة من نفائس الغنائم ومشتهيات الانفس فافتتن بها وأضطر إلى الخروج، وعلى الثاني ائذن لى ولا تلقني إلى ما في هذه الغزوة من المحنة والمصيبة والبلية. فأجاب الله عن قولهم بقولهم: (ألا في الفتنة سقطوا) ومعناه أنهم يحترزون بحسب زعمهم عن فتنة مترقبة من قبل الخروج، وقد اخطأوا فإن الذى هم عليه من الكفر والنفاق وسوء السريرة، ومن آثاره هذا القول الذى تفوهوا به هو بعينه فتنة سقطوا فيها فقد فتنهم الشيطان بالغرور، ووقعوا في مهلكة الكفر والضلال وفتنته. هذا حالهم في هذه النشأة الدنيوية وأما في الاخرة فإن جهنم لمحيطة بالكافرين على حذو إحاطة الفتنة بهم في الدنيا وسقوطهم فيها فقوله: (ألا في الفتنة سقطوا) وقوله: (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) كأنهما معا يفيدان معنى واحدا وهو ان هؤلاء واقعون في الفتنة والتهلكة ابدا في الدنيا والاخرة.

[ 306 ]

ويمكن ان يفهم من قوله: (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) الاحاطة بالفعل دون الاحاطة الاستقبالية كما تهدى إليه الايات الدالة على تجسم الاعمال. قوله تعالى: (إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك سيئة يقولوا قد أخذنا امرنا من قبل) المراد بالحسنة والسيئة بقرينة السياق ما تتعقبه الحروب والمغازى لاهلها من حسنة الفتح والظفر والغنيمة والسبي، ومن سيئة القتل والجرح والهزيمة. وقوله: (يقولوا قد أخذنا امرنا من قبل) كناية عن الاحتراز عن الشر قبل وقوعه كأن أمرهم كان خارجا من ايديهم فأخذوه وقبضوا وتسلطوا عليه فلم يدعوه يفسد ويضيع. فمعنى الاية أن هؤلاء المنافقين هواهم عليك: إن غنمت وظفرت في وجهك هذا ساءهم ذلك، وإن قتلت أو جرحت أو اصبت بأى مصيبة اخرى قالوا قد احترزنا عن الشر من قبل وتولوا وهم فرحون. وقد أجاب الله سبحانه عن ذلك بجوابين اثنين في آيتين: قوله: (قل لن يصيبنا) الخ وقوله: (قل هل تربصون) الخ. قوله تعالى: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون) محصله أن ولاية امرنا إنما هي لله سبحانه فحسب - على ما يدل عليه قوله: (هو مولانا) من الحصر - لا إلى انفسنا ولا إلى شئ من هذه الاسباب الظاهرة، بل حقيقة الامر لله وحده وقد كتب كتابة حتم ما سيصيبنا من خير أو شر أو حسنة أو سيئة، وإذا كان كذلك فعلينا امتثال امره والسعى لاحياء امره والجهاد في سبيله ولله المشية فيما يصيبنا في ذلك من حسنة أو سيئة فما على العبيد إلا ترك التدبير وامتثال الامر وهو التوكل. وبذلك يظهر: ان المراد بقوله: (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) ليس كلاما مستأنفا بل معطوف على ما قبله متمم له، والمعنى ان ولاية امرنا لله ونحن مؤمنون به، ولازمه ان نتوكل عليه ونرجع الامر إليه من غير ان نختار لانفسنا شيئا من الحسنة والسيئة فلو اصابتنا حسنة كان المن له وإن اصابتنا سيئة كانت المشية والخيرة له، ولا لوم علينا ولا شماتة تتعلق بنا، ولا حزن ولا مساءة يطرء على قلوبنا.

[ 307 ]

وقد قال تعالى: (ما اصاب من مصيبة في الارض ولا في انفسكم إلا في كتاب من قبل ان نبرأها إن ذلك على الله يسير. لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم) الحديد: 23، وقال: (ما اصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه) التغابن: 11 وقال: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا) سورة محمد: 11، وقال: (والله ولى المؤمنين) آل عمران: 68، وقال: (فالله هو الولى) الشورى: 9. والايات - كما ترى - تتضمن اصول هذه الحقيقة التى تنبئ عنه الاية التى نتكلم فيها جوابا عن وهم المنافقين، وهى ان حقيقة الولاية لله سبحانه ليس إلى احد من دونه من الامر شئ فإذا آمن الانسان به وعرف مقام ربه علم ذلك وكان عليه ان يتوكل على ربه ويرجع إليه حقيقة المشية والخيرة فلا يفرح بحسنة اصابته، ولا يحزن لسيئة اصابته. ومن الجهل ان يسوء الانسان ما اصابت عدوه من حسنة أو يسره ما اصابته من سيئة فليس له من الامر شئ، وهذا هو الجواب الاول عن مساءتهم بما اصاب المؤمنين من الحسنة وفرحهم بما اصابتهم من السيئة. وظاهر كلام بعض المفسرين ان المولى في الاية بمعنى الناصر، وكذا ظاهر كلام بعضهم: ان قوله: (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) جملة مستأنفة امر الله فيها المؤمنين بالتوكل عليه، والسياق المشهود من الايتين لا يساعد عليه. قوله تعالى: (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم) الاية الحسنيان هما الحسنة والسيئة على ما يدل عليه الاية الاولى الحاكية انهم يسوئهم ما اصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حسنة، وتسرهم ما اصابه من سيئة فيقولون قد اخذنا امرنا من قبل فهم على حال تربص ينتظرون ما يقع به وبالمؤمنين من الحسنة أو السيئة. والحسنة والسيئة كلتاهما حسنيان كبحسب النظر الدينى فإن في الحسنة حسنة الدنيا وعظيم الاجر عند الله، وفي السيئة التى هي الشهادة أو أي تعب وعناء اصابهم مرضاة الله وثواب خالد دائم. ومعنى الاية أنا نحن وأنتم كل يتربص بصاحبه غير انكم تتربصون بنا إحدى خصلتين كل واحدة منهما خصلة حسنى وهما: الغلبة على العدو مع الغنيمة، والشهادة

[ 308 ]

في سبيل الله، ونحن نتربص بكم ان يعذبكم الله بعذاب من عنده كالعذاب السماوي أو بعذاب يجرى بأيدينا كأن يأمرنا بقتالكم وتطهير الارض من قذارة وجودكم فنحن فائزون على أي حال، إن وقع شئ مما تربصتم سعدنا، وإن وقع ما تربصنا سعدنا فتربصوا إنا معكم متربصون، وهذا جواب ثان عن المنافقين. وقد ذكر في الاية الاولى إصابة الحسنة والسيئة النبي صلى اله عليه وآله وسلم، وفي مقام الجواب في الايتين الثانية والثالثة إصابتهما النبي والمؤمنين جميعا لملازمتهم إياه ومشاركتهم إياه فيما أصابه من حسنة أو سيئة. قوله تعالى: (قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين) لفظ امر في معنى الشرط. والترديد للتعميم ولفظ الامر في هذه الموارد كناية عن عدم النهى وسد السبيل إيماء إلى ان الفعل لغو لا يترتب عليه أثر، وقوله: (لن يتقبل منكم) تعليل للامر كما ان قوله تعالى: (إنكم كنتم قوما فاسقين) تعليل لعدم القبول. ومعنى الاية: لا نمنعكم عن الانفاق في حال من طوع أو كره فإنه لغو غير مقبول لانكم فاسقون، ولا يقبل عمل الفاسقين، قال تعالى: (إنما يتقبل الله من المتقين) المائدة: 27 والتقبل أبلغ من القبول. قوله تعالى: (وما منعهم ان تقبل منهم نفقاتهم إلا انهم كفروا بالله وبرسوله) الخ الاية تعليل تفصيلي لعدم تقبل نفقاتهم، وبعبارة اخرى بمنزلة الشرح لفسقهم، وقد عدت الكفر بالله تعالى ورسوله والكسل في إقامة الصلاة والكره في الانفاق أركانا لنفاقهم. قوله تعالى: (فلا تعجبك اموالهم ولا اولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها) إلى آخر الاية، الاعجاب بالشئ السرور بما يشاهد فيه من جمال أو كمال أو نحوهما، والزهوق خروج الشئ بصعوبة وأصله الهلاك على ما قيل. وقد نهى الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم عن الاعجاب بأموال المنافقين وأولادهم أي بكثرتها على ما يعطيه السياق، وعلل ذلك بأن هذه الاموال والاولاد - وهى شاغلة للانسان لا محالة - ليست من النعمة التى تهتف لهم بالسعادة بل من النقمة التى تجرهم إلى الشقاء فإن الله وهو الذى خولهم إياها إنما أراد بها تعذيبهم في الحياة الدنيا، وتوفيهم وهم كافرون.

[ 309 ]

فإن الحياة التى يعدها الموجود الحى سعادة لنفسه وراحة لذاته إنما تكون سعادة فيها الراحة والبهجة إذا جرت على حقيقة مجراها وهو ان يتلبس الانسان بواقع آثارها من العلم النافع والعمل الصالح من غير ان يشتغل بغير ما فيه خيره ونفعه، فهذه هي الحياة التى لا موت فيها، والراحة التى لا تعب معها، واللذة التى لا ألم دونها، وهى الحياة في ولاية الله، قال تعالى: (ألا إن اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) يونس: 62. وأما من اشتغل بالدنيا وجذبته زيناتها من مال وبنين إلى نفسها وغرته الامال والاماني الكاذبة التى تتراءى له منها واستهوته الشياطين فقد وقع في تناقضات القوى البدنية وتزاحمات اللذائذ المادية، وعذب اشد العذاب بنفس ما يرى فيه سعادته ولذته فمن المشاهد المعاين ان الدنيا كلما زادت إقبالا على الانسان، ومتعته بكثرة الاموال والاولاد أبعدته عن موقف العبودية وقربته إلى الهلاكة وعذاب الروح فلا يزال يتقلب بين هذه الاسباب الموافقة والمخالفة، والاوضاع والاحوال الملائمة والمزاحمة، فالذي يسميه هؤلاء المغفلون سعة العيش هو بالحقيقة ضنك كما قال تعالى: (ومن اعرض عن ذكرى فإن له معيشه ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) طه: 126. فغايه إعراض الانسان عن ذكر ربه، وانكبابه على الدنيا يبتغى به سعادة الحياة وراحة النفس ولذة الروح ان يعذب بين اطباق هذه الفتن التى يراها نعما، ويكفر بربه بالخروج عن زى العبودية ذ كما قال: (إنما يريد الله ليعذبهم بها وتزهق أنفسهم وهم كافرون) وهو الاملاء والاستدراج الذين يذكرهما في قوله: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملى لهم إن كيدى متين): الاعراف: 183. قوله تعالى: (ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم) إلى آخر الايتين، الفرق انزعاج النفس من ضرر متوقع، والملجأ الموضع الذى يلتجأ إليه ويتحصن فيه، والمغار المحل الذى يغور فيه الانسان فيستره عن الانظار، ويطلق على الغار وهو الثقب الذى يكون في الجبال، والمدخل من الافتعال الطريق الذى يتدسس بالدخول فيه، والجماح مضى المار مسرعا على وجهه لا يصرفه عنه شئ، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن اعطوا منها رضوا وإن لم

[ 310 ]

يعطوا منها إذا هم يسخطون) اللمز العيب، وإنما كانوا يعيبونه فيها إذا لم يعطهم منها لعدم استحقاقهم ذلك أو لاسباب أخر كما يدل عليه ذيل الاية. قوله تعالى: (ولو انهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله) إلى آخر الاية، (لو) للتمني وقوله: (رضوا ما آتاهم الله) كأن الرضى ضمن معنى الاخذ ولذا عد بنفسه أي اخذوا ذلك راضين به أو رضوا آخذين ذلك، والايتاء الاعطاء وحسبنا الله أي كفانا فيما نرغب إليه ونأمله. وقوله: (سيؤتينا الله من فضله ورسوله) بيان لما يرغب إليه ويطمع فيه وليس اخبارا عما سيكون، وقوله: (إنا إلى الله راغبون) كالتعليل لقوله: (سيؤتينا الله) إلى آخر الاية. والمعنى وكان مما يتمنى لهم ان يكونوا اخذوا ما اعطاهم الله ورسوله بأمر منه من مال الصدقات أو غيره، وقالوا كفانا الله سبحانه من سائر الاسباب ونحن راغبون في فضله ونطمع ان يؤتينا من فضله ويؤتينا رسوله. وفي الاية ما لا يخفى من لطيف البيان حيث نسب الايتاء إلى الله وإلى رسوله وخص الكفاية والفضل والرغبة بالله على ما هو لازم دين التوحيد. قوله تعالى: إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل) الاية، بيان لموارد تصرف إليها الصدقات الواجبة وهى الزكوات بدليل قوله في آخر الاية: (فريضة من الله) وهى ثمانية. وارد على ظاهر ما يعطيه سياق الاية ولازمه أن يكون الفقير والمسكين موردين أحدهما غير الاخر. وقد اختلفوا في الفقير والمسكين أنهما صنف واحد أو صنفان، ثم على الثاني في معناهما على اقوال كثيرة لا ينتهى اكثرها إلى حجة بينة، والذى يعطيه ظاهر لفظهما ان الفقير هو الذى اتصف بالعدم وفقدان ما يرفع حوائجه الحيوية من المال قبال الغنى الذى اتصف بالغنى وهو الجده واليسار. وأما المسكين فهو الذى حلت به المسكنة والذلة مضافة إلى فقدان المال وذلك انما يكون بأن يصل فقره إلى حد يستذله بذلك كمن لا يجد بدا من ان يبذل ماء

[ 311 ]

وجهه ويسأل كل كريم ولئيم من شدة الفقر وكالاعمى والاعرج فالمسكين أسوء حالا من الفقير. والفقير والمسكين وإن كانا بحسب النسبة أعم وأخص فكل مسكين من جهة الحاجة المالية فقير ولا عكس غير ان العرف يراهما صنفين متقابلين لمكان مغايرة الوصفين في نفسهما فلا يرد أن ذكر الفقير على هذا المعنى مغن عن ذكر المسكين لمكان أعميته وذلك أن المسكنة هي وصف الذلة كالزمانة والعرج والعمى وان كان بعض مصاديقه نهاية الذلة من جهة فقد المال. وأما العاملون عليها أي على الصدقات فهم الساعون لجمع الزكوات وجباتها. وأما المؤلفة قلوبهم فهم الذين يؤلف قلوبهم بإعطاء سهم من الزكاة ليسلموا أو يدفع بهم العدو أو يستعان بهم على حوائج الدين. وأما قوله: (وفي الرقاب) فهو متعلق بمقدر والتقدير: والمصرف في الرقاب إى في فكها كما في المكاتب الذى لا يقدر على تأدية ما شرطه لمولاه على نفسه لعتقه أو الرق الذى كان في شدة. وقوله: (والغارمين) أي وللصرف في الغارمين الذين ركبتهم الديون فيقضى ديونهم بسهم من الزكاة. وقوله: (وفي سبيل الله) أي وللصرف في سبيل الله، وهو كل عمل عام يعود عائدته إلى الاسلام والمسلمين وتحفظ به مصلحة الدين ومن أظهر مصاديقه الجهاد في سبيل الله، ويلحق به سائر الاعمال التى تعم نفعه وتشمل فائدته كاصلاح الطرق وبناء القناطر ونظائر ذلك. وقوله: (وابن السبيل) أي وللصرف في ابن السبيل وهو المنقطع عن وطنه الفاقد لما يعيش به وإن كان غنيا ذا يسار في بلده فيرفع حاجته بسهم من الزكاة. وقد اختلف سياق العد فيما ذكر في الاية من الاصناف الثمانية فذكرت الاربعة الاول باللام: (للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم) ثم غير السياق في الاربعة الباقية فقيل: (وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل) فان ظاهر السياق الخاص بهذه الاربعة أن التقدير: وفي الرقاب وفي الغارمين وفي سبيل الله وفي ابن السبيل. اما الاربعة الاول: (للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم) فاللام

[ 312 ]

فيها للملك بمعنى الاختصاص في التصرف فان الاية بحسب السياق كالجواب عن المنافقين الذين كانوا يطمعون في الصدقات وهم غير مستحقين لها وكانوا يلمزون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حرمانهم منها فاجيبوا بالاية أن للصدقات مواضع خاصة تصرف فيها ولا تتعداها، والاية ليست بظاهرة في أزيد من هذا المقدار من الاختصاص. وأما كون ملكهم للصدقات هو الملك بمعناه المعروف فقها ؟ وكذا حقيقة هذا الملك مع كون المالكين أصنافا بعناوينهم الصنفية لا ذوات شخصية ؟ ونسبة سهم كل صنف إلى بقية السهام ؟ فإنما هي مسائل فقهية خارجة عن غرضنا، وقد اختلفت اقوال الفقهاء فيها اختلافا شديدا فليرجع إلى الفقه. وأما الاربعة الباقية: (وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل) فقد قيل في تغيير السياق فيها وفي تإخيرها عن الاربعة الاول وجوه: منها: ان الترتيب لبيان الاحق فالاحق من الاصناف، فأحق الاصناف بها الفقراء ثم المساكين وهكذا على الترتيب، ولكون الاربعة الاخيرة بحسب ترتيب الاحقية واقعة في المراتب الاربع الاخيرة وضع كل في موضعه الخاص، ولو لا هذا الترتيب لكان الانسب ان يذكر الاصناف ثم تذكر موارد المصالح فيقال: للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمين وابن السبيل ثم يقال: وفي الرقاب وسبيل الله. والحق أن دلالة الترتيب بما فيه من التقديم والتأخير على أهمية الملاك وقوة المصلحة في اجزاء الترتيب لا ريب فيه فان كان مراده بالاحق فالاحق الاهم ملاكا فالاهم فهو، ولو كان المراد التقدم والتأخر من حيث الاعطاء والصرف وما يشبه ذلك فلا دلالة من جهة اللفظ عليه البتة كما لا يخفى والذى أيده به من الوجه لا جدوى فيه. ومنها: ان العدول عن اللام في الاربعة الاخيرة إلى (في) للايذان بأنهم ارسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره لان (في) للوعاء فنبه على انهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها ومصبا، وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق والاسر، وفي فك الغارمين من الغرم والتخليص والانقاذ، ولجمع الغازى الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الاهل والمال. وتكرير (في) في قوله: (وفي سبيل الله وابن السبيل) فيه فضل ترجيح

[ 313 ]

لهذين على الرقاب والغارمين. كذا ذكره في الكشاف. وفيه: أنه معارض بكون الاربعة الاول مدخولة للام الملك فان المملوك اشد لزوما واتصالا بالنسبة إلى مالكه من المظروف بالنسبة إلى ظرفه، وهو ظاهر. ومنها: أن الاصناف الاربعة الاوائل ملاك لما عساه يدفع إليهم، وإنما يأخذونه ملكا فكان دخول اللام لائقا بهم، وأما الاربعة الاواخر فلا يملكون ما يصرف نحوهم بل ولا يصرف إليهم ولكن في مصالح تتعلق بهم. فالمال الذى يصرف في الرقاب انما يتناوله السادة المكاتبون والبائعون فليس نصيبهم مصروفا إلى ايديهم حتى يعبر عن ذلك باللام المشعرة بتملكهم لما يصرف نحوهم، وإنما هم محال لهذا الصرف والمصلحة المتعلقة به، وكذلك الغارمون انما يصرف نصيبهم لارباب ديونهم تخليصا لذممهم لا لهم، وأما سبيل الله فواضح ذلك فيه، وأما ابن السبيل فكأنه كان مندرجا في سبيل (1) الله، وإنما أفرد بالذكر تنبيها على خصوصيته مع انه مجرد من الحرفين جميعا وعطفه على المجرور باللام ممكن ولكنه على القريب منه أقرب. وهذا الوجه لا يخلو عن وجه غير أن اجراءه في ابن السبيل لا يخلو عن تكلف، وما ذكر من دخوله في سبيل الله هو وجه مشترك بينه وبين غيره. ولو قال قائل بكون الغارمين وابن السبيل معطوفين على المجرور باللام ثم ذكر الوجه الاول بالمعنى الذى ذكرناه وجها للترتيب والوجه الاخير وجها لاختصاص الرقاب وسبيل الله بدخول (في) لم يكن بعيدا عن الصواب. وقوله في ذيل الاية: (فريضة من الله والله عليم حكيم) إشارة إلى كون الزكاة فريضة واجبة مشرعة على العلم والحكمة لا تقبل تغيير المغير، ولا يبعد ان يتعلق الفرض بتقسمها إلى الاصناف الثمانية كما ربما يؤيده السياق فان الغرض في الاية إنما تعلق ببيان مصارف الصدقات لا بفرض اصلها فالانسب ان يكون قوله: (فريضة من الله) اشارة إلى ان تقسمها إلى الاصناف الثمانية امر مفروض من الله لا يتعدى عنه على خلاف ما كان يطمع فيه المنافقون في لمزهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.


(1) بل ايضا كالغارمين والرقاب لا يدفع إليه نصيبه وانما يصرف في المصلحة المتعلقة به من الزاد واكتراء الراحلة حتى يصل إلى وطنه (ب). (*)

[ 314 ]

ومن هنا يظهر ان الاية لا تخلو عن اشعار بكون الاصناف الثمانية على سهمها من غير اختصاص بزمان دون زمان خلافا لما ذكره بعضهم: أن المؤلفة قلوبهم كانوا جماعة من الاشراف في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألف قلوبهم بإعطاء سهم من الصدقات إياهم، وأما بعده صلى الله عليه وآله وسلم فقد ظهر الاسلام على غيره، وارتفعت الحاجة إلى هذا النوع من التإليفات، وهو وجه فاسد وارتفاع الحاجة ممنوع. قوله تعالى: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم) الاذن جارحة السمع المعروفة، وقد أطلقوا عليه صلى الله عليه وآله وسلم الاذن وسموه بها إشارة إلى أنه يصغى لكل ما قيل له ويستمع إلى كل ما يذكر له فهو أذن. وقوله: (قل أذن خير لكم) من الاضافة الحقيقية أي سماع يسمع ما فيه خيركم حيث يسمع من الله سبحانه الوحى وفيه خير لكم، ويسمع من المؤمنين النصيحة وفيها خير لكم ويمكن ان يكون من إضافة الموصوف إلى الصفة أي أذن هي خير لكم لانه لا يسمع إلا ما ينفعكم ولا يضركم. والفرق بين الوجهين أن اللازم على الاول ان يكون مسموعه خيرا لهم كالوحي من الله والنصيحة من المؤمنين، واللازم على الثاني ان يكون استماعه استماع خير وإن لم يكن مسموعه خيرا كأن يستمع إلى بعض ما ليس خيرا لهم لكنه يستمع إليه فيحترم بذلك قائله ثم يحمل ذلك القول منه على الصحة فلا يهتك حرمته ولا يسئ الظن به ثم لا يرتب أثر الخبر الصادق المطابق للواقع عليه فلا يؤاخذ من قيل فيه بما قيل فيه فيكون قد احترم إيمانه كما احترم إيمان القائل الذى جاءه بالخبر. ومن هنا يظهر أن الانسب بسياق الاية هو الوجه الثاني لما عقبه بقوله: (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) الاية. وذلك أن الايمان هو التصديق، وقد ذكر متعلق الايمان في قوله: (يؤمن بالله) وأما قوله: (ويؤمن للمؤمنين) فلم يذكر متعلقه وإنما ذكر أن هذا التصديق لنفع المؤمنين لمكان اللام، والتصديق الذى يكون فيه نفع المؤمنين حتى في الخبر الذى يتضمن ما يضرهم إنما هو التصديق بمعنى إعطاء الصدق المخبرى دون الخبرى أي فرض أن المخبر

[ 315 ]

صادق بمعنى أنه معتقد بصدق خبره وإن كان كاذبا لا يطابق الواقع. وهذا كما في قوله تعالى: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون: المنافقون: 1 فالله سبحانه يكذب المنافقين لا من حيث خبرهم برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل من حيث إخبارهم بخلاف ما يعتقدونه وهذا بخلاف قول المؤمنين فيما حكى الله سبحانه: (ولما رأى المؤمنون الاحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله) الاحزاب: 22 فهم يصدقون الله ورسوله في الخبر لا في الاعتقاد. وبالجملة ظاهر قوله: (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) أنه يصدق الله فيما أخبره به من الوحى، ويصدق لنفع المؤمنين كل من ألقى إليه منهم خبرا بحمل فعله على الصحة وعدم رميه بالكذب وسوء النية من غير ان يرتب أثرا على كل ما يسمعه ويستمع إليه وإلا لم يكن تصديقه لنفع المؤمنين واختل الامر، وهذا المعنى كما ترى يؤيد الوجه الثاني المذكور. وكأن المراد بالمؤمنين المجتمع المنسوب إليهم وإن اشتمل على أفراد من غيرهم كالمنافقين وعلى هذا كان المراد بالذين آمنوا منهم المؤمنون من قومهم حقا فمعنى الكلام أنه يصدق ربه ويصدق كل فرد من أفراد مجتمعكم احتراما لظاهر حاله من الانتساب إلى المؤمنين وهو رحمة للذين آمنوا منكم حقا لانه يهديهم إلى مستقيم الصراط. وإن كان المراد من الذين آمنوا هم الذين آمنوا في اول البعثة قبل الفتح - كما تقدم سابقا أن (الذين آمنوا) اسم تشريفي في القرآن للمؤمنين الاولين في الاسلام - كان المراد بالمؤمنين في قوله: (ويؤمن للمؤمنين) المؤمنون منهم حقا كما أطلق بهذا المعنى في قوله: (ولما رأى المؤمنون الاحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله) الاحزاب: 22. وربما قيل: إن اللام في قوله: (ويؤمن للمؤمنين) للتعدية كما في قوله: (يؤمن بالله) فالايمان يتعدى بالحرفين جميعا كما في قوله: (فآمن له لوط) العنكبوت: 26 وقوله: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه) يونس: 83 وقوله: (أنؤمن لك واتبعك الارذلون) الشعراء: 111. وربما قيل: إن اللفظ جار على طريقة التضمين بتضمين الايمان معنى الجنوح المتعدى باللام والمعنى يجنح للمؤمنين مؤمنا بهم أو يؤمن جانحا لهم.

[ 316 ]

والوجهان وإن كانا لا بأس بهما في نفسهما لكن يبعد ذلك لزوم التفكيك في قوله: (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) بين (يؤمن) الاول والثانى من غير نكتة ظاهرة إلا ان يحمل على التفنن في التعبير ومع ذلك فالنتيجة هي النتيجة السابقة فإن إيمانه بالمؤمنين لا يختص بالمخبرين خاصة حتى يصدق خبرهم ويؤاخذ آخرين إذا أخبر بما يضرهم بل إيمان يعم جميع المؤمنين فيصدق المخبر في خبره بمعنى إعطاء الصدق المخبرى ويصدق المخبر عنه بحمل فعله على الصحه فافهم ذلك. وعده تعالى نبيه في قوله: (ورحمة للذين آمنوا منكم) رحمة لقوم خاص في هذه الاية مع عده رحمة للناس كلهم في قوله عزوجل: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الانبياء: 107 إنما هو لاختلاف المراد بالرحمة في الايتين فالمراد بها ههنا الرحمة الفعلية وهناك الرحمة الشأنية. وبعبارة أخرى هو صلى الله عليه وآله وسلم رحمة لمن آمن به حقا بمعنى أن الله سبحانه أنقذه به من الضلالة وختم له بالسعادة والكرامة، ورحمة للناس كلهم مؤمنهم وكافرهم، من معاصريه وممن يأتي بعده بمعنى أن الله بعثه (ص) بملة بيضاء وسنة طيبة فحول المجتمع البشرى وصرفه عن مسيره المنحرف عن الاستقامة إلى طريق الشقاوة والهلاك، وأنار بمشعلته صراط الفطرة الالهية فمن راكب على السبيل فائز بالغاية المطلوبة، ومن خارج عن مسير الردى والهلكة ولما يركب متن الصراط الفطري، ومن قاصد للخروج والورود ولما يخرج وهذا حال المجتمع العام البشرى بعد طلوع الاسلام وبسطه معارفه بين الناس وإيصاله إلى سمع كل سامع وتأثيره في كل من السنن الاجتماعية بما في وسعه أن يتأثر به، وهذا مما لا يرتاب فيه باحث عن طبيعه المجتمع الانساني، وهذا الوجه قريب المأخذ من الوجه السابق أو راجع إليه بالحقيقة. قوله تعالى: (يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين) قال في المجمع: (الفرق بين الاحق والاصلح أن الاحق قد يكون من غير صفات الفعل كقولك: زيد أحق بالمال، والاصلح لا يقع هذا الموقع لانه من صفات الفعل وتقول: الله أحق بأن يطاع ولا تقول أصلح). انتهى. والسبب الاصلى فيه أن الصلاحية والصلوح يحمل معنى الاستعداد والتهيؤ، والحق يحمل معنى الثبوت واللزوم، والله سبحانه لا يتصف بشئ من معنى الاستعداد

[ 317 ]

والقبول المستلزم لتأثير الغير فيه وتأثره عنه. وقد حول الله الخطاب في الاية عن نبيه (ص) إلى المؤمنين التفاتا وكأن الوجه فيه التلويح لهم بما يشتمل عليه قوله: (والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين) من الحكم وهو ان من الواجب على كل مؤمن ان يرضى الله ورسوله، ولا يحاد الله ورسوله فإن فيه خزيا عظيما نار جهنم خالدا فيها. ومن أدب التوحيد في الاية ما في قوله: (أحق أن يرضوه) من إفراد الضمير ولم يقل: أحق ان يرضوهما صونا لمقامه تعالى من ان يعدل به أحد فإن أمثال هذه الحقوق وكذا الاوصاف التى يشاركه تعالى غيره من حيث الاطلاق والاجراء، له تعالى بالذات ولنفسه ولغيره بالتبع أو بالعرض ومن جهته كوجوب الارضاء والتعظيم والطاعة وغيرها، وكالاتصاف بالعلم والحياة والاحياء والاماتة وغيرها. وقد روعى نظير هذا الادب في القرآن في موارد كثيرة فيما يشارك النبي (ص) غيره من الامة من الشؤون فأخرج النبي (ص) من بينهم وأفرد بالذكر كما في قوله: (يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا) التحريم: 8 وقوله: (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) الفتح: 26 وقوله: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون) البقرة: 285 وغير ذلك. قوله تعالى: (ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم) إلى آخر الاية قال في المجمع: المحادة مجاوزة الحد بالمشاقة، وهى والمخالفة والمجانبة والمعاداة نظائر، وأصله المنع والمحادة ما يلحق الانسان من النزق لانه يمنعه من الواجب وقال: والخزى الهوان وما يستحيى منه. انتهى. والاستفهام في الاية للتعجيب، والكلام مسوق لبيان كونه تعالى وكون رسوله أحق بالارضاء ومحصله أنهم يعلمون أن محادة الله ورسوله والمشاقة والمعاداة مع الله ورسوله والاسخاط يوجب خلود النار، وإذا حرم إسخاط الله ورسوله وجب إرضاؤه وإرضاء رسوله على من كان مؤمنا بالله ورسوله.

[ 318 ]

(بحث روائي) في تفسير القمى عن ابى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام في قوله تعالى: (وإن تصبك حسنة تسؤهم وان تصبك مصيبة) الاية أما الحسنة فهى الغنيمة والعافية، واما المصيبة فالبلاء والشدة. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبى حاتم عن جابر بن عبد الله قال: جعل المنافقون الذين تخلفوا بالمدينة يخبرون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبار السوء، ويقولون: ان محمدا واصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا فبلغهم تكذيب حديثهم وعافية النبي (ص) وأصحابه فساءهم ذلك فانزل الله تعالى: (ان تصبك حسنة تسؤهم) الاية. وفي الكافي بإسناده عن أبى حمزة عن إبى جعفر عليه السلام قال: قلت له: قول الله عز وجل (هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) قال: إما موت في طاعة الامام أو إدراك ظهور إمام (ونحن نتربص بكم) مع ما نحن فيه من المشقة (أن يصيبكم الله بعذاب من عنده) قال: هو المسخ (أو بأيدينا) وهو القتل، قال الله عز وجل لنبيه: (فتربصوا إنا معكم متربصون). أقول: وهو من الجرى دون التفسير. في المحاسن بإسناده عن يوسف بن ثابت عن ابى عبد الله عليه السلام قال: لا يضر مع الايمان عمل، ولا ينفع مع الكفر عمل. ثم قال: ألا ترى أن الله تبارك وتعالى قال: (وما منعهم ان تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله). أقول: ورواه العياشي والقمى عنه وكذا الكليني في الكافي عنه في حديث مفصل والرواية تبينها آيات وروايات أخرى فالايمان ما دام باقيا لا يضره معصية بإيجاب خلود النار، والكفر ما دام كفرا لا ينفع معه حسنة. وفي المجمع في قوله تعالى: (مدخلا) الاية قال: سربا عن ابى جعفر عليه السلام. وفي الكافي بإسناده عن إسحاق بن غالب قال: قال أبو عبد الله عليه السلام يا إسحاق كم ترى إهل هذه الاية فإن اعطوا منها رضوا وان لم يعطوا منها إذا هم

[ 319 ]

يسخطون) قال: هم اكثر من ثلثى الناس. أقول: ورواه العياشي في تفسيره و الحسين بن سعيد في كتاب الزهد عن إسحاق عنه عليه السلام. وفي الدر المنثور أخرج البخاري والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وابو الشيخ وابن مردويه عن ابى سعيد الخدرى قال: بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقسم قسما إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي فقال: اعدل. يا رسول الله فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ائذن لى فأضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعه فان له اصحابا يحقر احدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فينظر في قذذه فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر في نضيه فلا يرى فيه شئ ثم ينظر في رصافه فلا يرى فيه شئ، ثم ينظر في نصله فلا يوجد فيه شئ، قد سبق الفرث والدم آيتهم رجل اسود احدى ثديه - أو قال: ثدييه - مثل ثدى المرأة أو مثل البضعة تدر در يخرجون على حين فرقة من الناس قال: فنزلت فيهم: (ومنهم من يلمزك في الصدقات) الاية. قال أبو سعيد: اشهد انى سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأشهد ان عليا حين قتلهم وانا معه جئ بالرجل على النعت الذى نعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفي تفسير القمى في الاية: أنها نزلت لما جاءت الصدقات وجاء الاغنياء وظنوا أن الرسول يقسمها بينهم فلما وضعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الفقراء تغامزوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولمزوه، وقالوا: نحن الذين نقوم في الحرب ونغزو معه ونقوى امره ثم يدفع الصدقات إلى هؤلاء الذين لا يعينونه ولا يغنون عنه شيئا فأنزل الله: (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون). ثم فسر الله عز وجل الصدقات لمن هي وعلى من يجب ؟ فقال: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم) فأخرج الله من

[ 320 ]

الصدقات جميع الناس إلا هذه الثمانية الاصناف الذين سماهم. وبين الصادق عليه السلام من هم ؟ فقال: الفقراء هم الذين لا يسألون وعليهم مؤنات من عيالهم، والدليل على انهم لا يسألون قول الله تعالى في سورة البقرة: (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الارض يحسبهم الجاهل اغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا). والمساكين هم اهل الزمانة من العميان والعرجان والمجذومين وجميع اصناف الزمنى من الرجال والنساء والصبيان. والعاملين عليها هم السعاة والجباة في اخذها وجمعها وحفظها حتى يؤديها إلى من يقسمها. والمؤلفة قلوبهم قوم وحدوا الله ولم يدخل المعرفة قلوبهم ان محمدا رسول الله فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتألفهم ويعلمهم كيما يعرفوا فجعل الله لهم نصيبا في الصدقات كى يعرفوا ويرغبوا. أقول: وقد وردت في تأييد هذا الذى ارسله من الرواية روايات كثيرة مسندة من طرق اهل البيت عليهم السلام. وفي بعض الروايات تعارض ما، وليرجع في تفصيل الروايات على كثرتها وتنقيح المطلب إلى جوامع الحديث وكتب الفقه. وفي الدر المنثور اخرج البخاري وابن ابى حاتم وابن مردويه عن ابى سعيد الخدرى قال: بعث على بن ابى طالب من اليمن إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذهبية فيها تربتها فقسمها بين اربعة من المؤلفة: الاقرع بن حابس الحنظلي وعلقمة بن علاثة العامري وعيينة بن بدر الفزارى وزيد الخيل الطائى، فقالت قريش والانصار: أتقسم بين صناديد اهل نجد وتدعنا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنما أتألفهم. وفي الدر المنثور اخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن ابى حاتم وابن مردويه عن يحيى بن ابى كثير قال: المؤلفة قلوبهم من بنى هاشم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ومن بنى امية أبو سفيان بن حرب، ومن بنى مخزوم الحارث بن هشام وعبد الرحمن بن يربوع ومن بنى اسد حكيم بن حزام، ومن بنى عامر سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى، ومن بنى جمح صفوان بن امية، ومن بنى سهم عدى بن

[ 321 ]

قيس، ومن ثقيف العلاء بن جارية أو حارثة، ومن بنى فزارة عيينة بن حصن، ومن بنى تميم الاقرع بن حابس، ومن بنى نصر مالك بن عوف، ومن بنى سليم العباس بن مرداس. اعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل رجل منهم مائة ناقة إلا عبد الرحمن بن يربوع وحويطب بن عبد العزى فإنه أعطى كل واحد منهما خمسين. وفي تفسير القمى في رواية ابى الجارود عن ابى جعفر عليه السلام قال: المؤلفة قلوبهم: أبو سفيان بن حرب بن امية، وسهيل بن عمرو وهو من بنى عامر بن لؤى، وهشام ابن عمرو اخوه: - اخو بنى عامر بن لؤى - وصفوان بن امية بن خلف القرشى ثم الجمحى، والاقرع بن حابس التميمي احد بنى حازم وعيينة بن حصن الفزارى ومالك بن عوف وعلقمة بن علاثة. بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعطى الرجل منهم مائة من الابل ورعاتها وأكثر من ذلك وأقل. أقول: وهؤلاء هم المؤلفة قلوبهم الذين اعطاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم تأليفا لقلوبهم، وليس المراد حصر المؤلفة قلوبهم وهم صنف من الاصناف الثمانية المذكور في الاية في هؤلاء الاشخاص بأعيانهم. وفي تفسير العياشي عن ابن اسحاق عن بعض اصحابنا عن الصادق عليه السلا م قال: سئل عن مكاتب عجز عن مكاتبتة وقد أدى بعضها، قال: يؤدى من مال الصدقة إن الله يقول في كتابه: (وفي الرقاب). وفيه عن زرارة قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: عبد زنى ؟ قال: يجلد نصف الحد، قال: قلت: فان هو عاد ؟ قال: يضرب مثل ذلك، قال: قلت: فان هو عاد ؟ قال: لا يزاد على نصف الحد. قال: قلت: فهل يجب عليه الرجم في شئ من فعله ؟ قال: نعم يقتل في الثامنة إن فعل ذلك ثمان مرات. قال: قلت: فما الفرق بينه وبين الحر وإنما فعلهما واحد ؟ فقال له: ان الله

[ 322 ]

رحمه ان يجمع عليه ربق الرق وحد الحر. قال: ثم قال: وعلى إمام المسلمين ان يدفع ثمنه إلى مولاه من سهم الرقاب. وفيه عن الصباح بن سيابة قال: أيما مسلم مات وترك دينا لم يكن في فساد وعلى إسراف فعلى الامام أن يقضيه فان لم يقض فعليه إثم ذلك إن الله يقول: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمين) فهو من الغارمين وله سهم عند الامام فان حبسه فإثمه عليه. وفيه عن محمد بن القسرى عن ابى عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الصدقة فقال: اقسمها فيمن قال الله، ولا يعطى من سهم الغارمين الذين يغرمون في مهور النساء ولا الذين ينادون نداء الجاهلية قال: قلت: وما نداء الجاهلية ؟ قال: الرجل يقول: يا آل بنى فلان فيقع بينهم القتل ولا يؤدى ذلك من سهم الغارمين، ولا الذين لا يبالون ما صنعوا بأموال الناس. وفيه عن الحسن بن محمد قال: قلت: لابي عبد الله عليه السلام إن رجلا أوصى لى في السبيل قال: فقال لى: اصرف في الحج قال: قلت: إنه اوصى في السبيل ! قال: اصرفه في الحج فانى لا اعلم سبيلا من سبله افضل من الحج. أقول: والروايات في الباب اكثر من ان تحصى، وإنما اوردنا منها ما يجرى مجرى الانموذج. وفي الدر المنثور في قوله تعالى: (ومنهم الذين يؤذون النبي) الاية، اخرج ابن اسحاق وابن المنذر وابن ابى حاتم عن ابن عباس قال: كان نبتل بن الحارث يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيجلس إليه فيسمع ثم ينقل حديثه إلى المنافقين، وهو الذى قال لهم: إنما محمد أذن من حدثه شيئا صدقه، فأنزل الله فيه: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن) الاية. وفي تفسير القمى في الاية قال: سبب نزولها ان عبد الله بن نبتل كان منافقا وكان يقعد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيسمع كلامه وينقله إلى المنافقين فينم عليه فنزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد إن رجلا من المنافقين ينم وينقل حديثك إلى المنافقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من هو ؟ قال: الرجل الاسود الوجه الكثير

[ 323 ]

شعر الرأس ينظر بعينين كأنهما قدران، وينطق بلسان شيطان. فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره فحلف انه لم يفعل فقال رسول الله صلى االله عليه وآله وسلم: قد قبلت منك فلا تفعل فرجع إلى اصحابه فقال: إن محمدا أذن. أخبره الله انى أنم عليه وأنقل اخباره فقبله، وأخبرته انى لم اقل ولم افعل فقبله ! فأنزل الله على نبيه: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) أي يصدق الله فيما يقول له، ويصدقكم فيما تعتذرون إليه ولا يصدقكم في الباطن، ويؤمن للمؤمنين يعنى المقرين بالايمان من غير اعتقاد. أقول: وروى ما يقرب منه في نهج البيان عن الصادق عليه السلام. وفي الدر المنثور اخرج ابن ابى حاتم عن السدى قال: اجتمع ناس من المنافقين فيهم جلاس بن سويد بن صامت وجحش بن حمير ووديعة بن ثابت فأرادوا أن يقعوا في النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنهى بعضهم بعضا، وقالوا: إنا نخاف أن يبلغ محمدا يقع بكم، وقال بعضهم: إن محمدا أذن نحلف له فيصدقنا فنزل: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن) الاية. وفي تفسير العياشي عن حماد بن سنان عن ابى عبد الله عليه السلام قال: انى أردت أن أستبضع فلانا بضاعة إلى اليمن فأتيت إلى ابى جعفر عليه السلام فقلت: انى اريد ان أستبضع فلانا فقال لى: أما علمت انه يشرب الخمر ؟ فقلت: قد بلغني من المؤمنين أنهم يقولون ذلك، فقال: صدقهم إن الله عزوجل يقول: (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) فقال: يعنى يصدق الله ويصدق للمؤمنين لانه كان رؤوفا رحيما بالمؤمنين. * * * يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزؤا إن الله مخرج ما تحذرون - 64. ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون - 65.

[ 324 ]

لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين - 66. المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يإمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون - 67. وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم - 68. كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وإكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذى خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والاخرة وأولئك هم الخاسرون - 69. ألم يإتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم أبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون - 70. والمؤمنون والمؤمنات بعضهم إولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم - 71. وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم - 72. يا أيها النبي جاهد الكفار

[ 325 ]

والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير - 73. يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والاخرة وما لهم في الارض من ولى ولا نصير - 74. (بيان) تذكر الايات شأنا آخر من شؤون المنافقين، وتكشف عن سوأة اخرى من سوأتهم ستروا عليها بالنفاق، وكانوا يحذرون ان تظهر عليهم وتنزل فيها سورة تقص ما هموا به منها. والايات تنبئ عن أنهم كانوا جماعة ذوي عدد كما يدل عليه قوله: (إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة) وأنه كان لهم بعض الاتصال والتوافق مع جماعة آخرين من المنافقين كما في قوله: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) الاية وأنهم كانوا على ظاهر الاسلام والايمان حتى اليوم وإنما نافقوا يومئذ أي تفوهوا بكلمة الكفر فيما بينهم وأسروا بها يومئذ كما في قوله: (قد كفرتم بعد إيمانكم). وأنهم تواطئوا على امر دبروه فيما بينهم فأظهروا عند ذلك كلمة الكفر وهموا على امر عظيم فحال الله بينهم وبينه فخاب سعيهم ولم يؤثر كيدهم كما في قوله: (ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد أسلامهم وهموا بما لم ينالوا). وأنه ظهر مما هموا به بعض ما يستدل عليه من الاثار والقرائن فسألوا عن ذلك فاعتذروا بما هو مثله قبحا وشناعة كما في قوله: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) والايات التالية لهذه الايات في سياق متصل منسجم تدل على ان هذه الوقعة أيا ما كانت وقعت بعد خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى غزوة تبوك ولما يرجع إلى المدينة كما يدل عليه قوله: (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم) الاية آية 83 من السورة: وقوله:

[ 326 ]

(سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم) آية 95 من السورة. الايات ان جماعة ممن خرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم تواطئوا على ان يمكروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأسروا عند ذلك فيما بينهم بكلمات كفروا بها بعد إسلامهم ثم هموا ان يفعلوا ما اتفقوا عليه بفتك أو نحوه فأبطل الله كيدهم وفضحهم وكشف عنهم فلما سئلوا عن ذلك قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب فعاتبهم الله بلسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه استهزاء بالله وآياته ورسوله، وهددهم بالعذاب إن لم يتوبوا، وأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان يجاهدهم ويجاهد الكافرين. فالايات - كما ترى - اوضح انطباقا على حديث العقبة منها على غيره من القصص التى تتضمنها الروايات الاخر الواردة في بيان سبب نزول الايات، وسنورد جلها في البحث الروائي الاتى إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (يحذر المنافقون ان تنزل عليهم سورة تنبؤهم بما في قلوبهم) إلى آخر الاية. كان المنافقون يشاهدون ان جل ما يستسرون به من شؤون النفاق، ويناجى به بعضهم بعضا من كلمة الكفر ووجوه الهمز واللمز والاستهزاء أو جميع ذلك لا يخفى على الرسول، ويتلى على الناس في آيات من القرآن يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه من وحى الله، ولا محالة كانوا لا يؤمنون بأنه وحى نزل به الروح الامين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويقدرون ان ذلك مما يتجسسه المؤمنون فيخبرون به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيخرجه لهم في صوره كتاب سماوي نازل عليهم وهم مع ذلك كانوا يخافون ظهور نفاقهم وخروج ما خبوه في سرائرهم الخبيثة لان السلطنة والظهور كانت للنبى صلى الله عليه وآله وسلم عليهم يجرى فيهم ما يأمر به ويحكم عليه. فهم كانوا يحذرون نزول سورة يظهر بها ما اضمروه من الكفر وهموا به من تقليب الامور على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقصده بما يبطل به نجاح دعوته وتمام كلمته فإمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان يبلغهم ان الله عالم بما في صدورهم مخرج ما يحذرون خروجه وظهوره بنزول سورة من عنده أي يخبرهم بأن الله منزل سورة هذا نعتها. وبهذا يستنير معنى الاية فقوله: (يحذر المنافقون ان تنزل عليهم سورة) الخطاب للنبى صلى الله عليه وآله وسلم ووجه الكلام إليه، وهو يعلم بتعليم الله ان هذا الكلام الذى

[ 327 ]

يتلوه على الناس كلام إلهى وقرآن منزل من عنده فيصف سبحانه الكلام الذى يخاف منه المنافقون بما له من الوصف عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو انه سورة منزلة من الله على الناس ومنهم المنافقون لا على ما يراه المنافقون انه كلام بشرى يدعى كونه كلام الله. فهم كانوا يحذرون ان يتلو النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم وعلى الناس كلاما هذا نعته الواقعي وهو انه سورة منزلة عليهم بما انها متوجهة بمضمونها إليهم قاصدة نحوهم ينبؤهم هذه السورة النازلة بما في قلوبهم فيظهر على الناس ويفشو بينهم ما كانوا يسرونه من كفرهم وسوء نياتهم، وهذا الظهور في الحقيقة هو الذى كانوا يحذرونه من نزول السورة. وقوله: (قل استهزؤا إن الله مخرج ما تحذرون) كإن المراد بالاستهزاء هو نفاقهم وما يلحق به من الاثار فإن الله سمى نفاقهم استهزاء حاكيا في ذلك قولهم حيث قال: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون) البقرة: 14 فالمراد بالاستهزاء هو ستر ما يحذرون ظهوره، والامر تعجيزى أي دوموا على نفاقكم وستركم ما تحذرون خروجه من عندكم إلى مرئى الناس ومسمعهم فإن الله مخرج ذلك وكاشف عن وجهه الغطاء، ومظهر ما اخفيتموه في صدوركم. فصدر الاية وإن كان يذكر انهم يحذرون تنزيل سورة كذا وكذا لكنهم إنما كانوا يحذرونها لما فيها من الانباء التى يحذرون ان يطلع عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتنجلى للناس، وهذا هو الذى يذكر ذيلها انهم يحذرونه فالكلام بمنزلة ان يقال: يحذر المنافقون تنزيل سورة قل إن الله منزلها، أو يقال: يحذر المنافقون انكشاف باطن امرهم وما في قلوبهم قل استهزؤا إن الله سيكشف ذلك وينبئ عما في قلوبكم. وبما تقدم يظهر سقوط ما أشكل على الاية اولا: بأن المنافقين لكفرهم في الحقيقة لم يكونوا يرون أن القرآن كلام منزل من عند الله فكيف يصح القول إنهم يحذرون أن تنزل عليهم سورة ؟ وثانيا: أنهم لما لم يكونوا مؤمنين في الواقع فكيف يصح أن يطلق أن سورة قرآنية نزلت عليهم ولا تنزل السورة إلا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو على المؤمنين ؟ وثالثا: أن حذرهم نزول السورة وهو حال داخلي جدى فيهم لا يجامع كونه استهزاء.

[ 328 ]

ورابعا: أن صدر الاية يذكر أنهم يحذرون أن تنزل سورة وذيلها يقول: إن الله مخرج ما تحذرون فهو في معنى أن يقال: إن الله مخرج سورة أو مخرج تنزيل سورة. وقد يجاب عن الاشكال الاول بأن قوله: يحذر المنافقون (الخ) إنشاء في صورة خبر أي ليحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة (الخ). وهو ضعيف إذ لا دليل عليه أصلا على أن ذيل الاية لا يلائم ذلك إذ لا معنى لقولنا: ليحذر المنافقون كذا قل استهزؤا إن الله مخرج ما تحذرون أي ما يجب عليكم حذره. وهو ظاهر. وقد يجاب عنه بأنهم إنما كانوا يظهرون الحذر استهزاء لا جدا وحقيقة. وفيه أن لازمه أنهم كانوا على ثقة بأن ما في قلوبهم من الانباء وما أبطنوه من الكفر والفسوق لا سبيل للظهور والانجلاء إليه، ولا طريق لاحد إلى الاطلاع عليه، ويكذبه آيات كثيرة في القرآن الكريم تقص ما عقدوا عليه القلوب من الكفر والفسوق وهموا به من الخدعة والمكيدة كالايات من سورة البقرة وسورة المنافقين وغيرهما، واذ كانوا شاهدوا ظهور أنبائهم ومطويات قلوبهم عيانا مرة بعد مرة فلا معنى لثقتهم بأنها لا تنكشف أصلا وإظهارهم الحذر استهزاء لا جدا، وقد قال تعالى: (يحسبون كل صيحه عليهم) المنافقون: 4. وقد يجاب عنه بأن أكثر المنافقين كانوا على شك من صدق الدعوة النبوية من غير أن يستيقنوا كذبه، وهؤلاء كانوا يجوزون تنزيل سورة تنبؤهم بما في قلوبهم احتمالا عقليا، وهذا الحذر والاشفاق كما ذكروه إثر طبيعي للشك والارتياب فلو كانوا موقنين بكذب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لما خطر لهم هذا الخوف على بال، ولو كانوا موقنين بصدقه لما كان هناك محل لهذا الخوف والحذر لا قلوبهم مطمئنة بالايمان. وهذا الجواب - وهو الذى اعتمد عليه جمهور المفسرين - وإن كان بظاهره لا يخلو عن وجه غير أن فيه أنه إنما يحسم مادة الاشكال لو كان الواقع من التعبير في الاية نحوا من قولنا: يخاف المنافقون إن تنزل عليهم سورة، ولذا قرروا الجواب بأن الخوف يناسب الشك دون اليقين. لكن الاية تعبر عن شأنهم بالحذر، ويخبر أنهم يحذرون أن تنزل عليهم سورة

[ 329 ]

(الخ) والحذر فيه شئ من معنى الاحتراز والاتقاء، ولا يتم ذلك إلا بالتوسل إلى اسباب ووسائل تحفظ الحاذر مما يحذره ويحترز منه، وتصونه من شر مقبل إليه من ناحية ما يخافة. ولو كان مجرد شك من غير مشاهدة اثر من الاثار وإصابة شئ مما يتقونه إياهم لما صح الاحتراز والاتقاء، فحذرهم يشهد أنهم كانوا يخافون ان يقع بهم هذه المرة نظير ما وقع بهم قبل ذلك من جهة آيات البقرة وغيرها، فهذا هو الوجه لحذرهم دون الشك والارتياب فالمعتمد في الجواب ما قدمناه. وقد يجاب عن الاشكال الثاني بأن (على) في قوله: (أن تنزل عليهم) بمعنى: في كما في قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) البقره: 102، والمعنى: يحذر المنافقون ان تنزل فيهم أي في شأنهم وبيان حالهم سورة تكشف عما في ضمائرهم. وفيه إنه لا بأس به لو لا قوله بعده: (تنبؤهم بما في قلوبهم) على ما سنوضحه. وقد يجاب عنه بأن الضمير في قوله: (عليهم) راجع إلى المؤمنين دون المنافقين و المعنى: يحذر المنافقون ان تنزل على المؤمنين سورة تنبؤ المنافقين بما في قلوب المنافقين أو تنبؤ المؤمنين بما في قلوب المنافقين. ورد عليه بأنه يستلزم تفكيك الضمائر. ودفع بأن تفكيك الضمائر غير ممنوع ولا أنه مناف للبلاغه إلا إذا كان المعنى معه غير مفهوم، وربما أيد بعضهم هذا الجواب بأنه ليس ههنا تفكيك للضمائر فإنه قد سبق ان المنافقين يحلفون للمؤمنين ليرضوهم ثم وبخهم الله بأن الله ورسوله أحق ان يرضوه ان كانوا مؤمنين فقد بين ههنا بطريقة الاستئناف أنهم يحذرون ان تنزل على المؤمنين سورة تنبئهم بما في قلوبهم فتبطل ثقتهم بهم فاعيد الضمير إلى المؤمنين لان سياق الكلام فيهم فلا اثر من التفكيك. وفيه إن من الواضح الذى لا يرتاب فيه أن موضوع الكلام في هذه الايات وآيات كثيرة مما يتصل بها من قبل ومن بعد، هم المنافقون، والسياق سياق الخطاب للنبى صلى الله عليه وآله وسلم لا غيره، وإنما كان خطاب المؤمنين في قوله: (يحلفون بالله لكم ليرضوكم خطابا التفاتيا للتنبيه على غرض خاص اومأنا إليه ثم عاد الكلام إلى سياقها الاصلى

[ 330 ]

من خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتبدل خطابهم إلى خطابه فلا معنى لقوله: إن سياق الكلام في المؤمنين. ولو كان السياق هو الذى ذكره لكان من حق الكلام أن يقال: أن تنزل عليكم سورة تنبؤكم بما في قلوبهم، فما معنى العدول إلى ضمير الغيبة، ولم يتقدم في سابق الكلام ذكر لهم على هذا النعت ؟ على إن قوله: إن الاية - يحذر المنافقون - بيان من طريق الاستئناف لسبب حلفهم للمؤمنين ليرضوهم، إخراج لهذه الطائفة من الايات من استقلال غرضها الاصلى الذى بحثنا عنه في اول الكلام، ويختل بذلك ما يتراءى من فقرات الايات من الاتصال والارتباط. فالاية - يحذر المنافقون الخ - ليست بيانا لسبب حلفهم المذكور سابقا بل استئناف مسوق لغرض آخر يهدى إليه مجموع الايات الاحدى عشرة. وبالجملة الايات السابقة على هذه الاية خالية عن ذكر المؤمنين ذكرا يوجب انعطاف الذهن إليه حينما يلقى ضميرا يمكن عوده إليهم وهذا هو التفكيك المذكور، وهو مع ذلك تفكيك ممنوع لايجابه ابهاما في البيان ينافى بلاغته. والحق أن الضمير في قوله: (أن تنزل عليهم) للمنافقين - كما تقدمت الاشارة إليه - ولا بأس بأن يسمى تنزيل سورة لبيان حالهم وذكر مثالبهم وتوبيخهم على نفاقهم تنزيلا للسورة عليهم وهم في جماعة المؤمنين غير متميزين منهم كما عبر بنظير التعبير في مورد المؤمنين حيث قال: (واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به) البقرة: 231. وقد أتى سبحانه بنظير هذا التعبير في أهل الكتاب حيث قال: (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء) النساء: 153، وفي المشركين حيث حكى عنهم قولهم: (ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه) أسرى: 93، وليست نسبة المنافقين وهم في المؤمنين إلى نزول القرآن عليهم بأبعد من نسبة المشركين وأهل الكتاب إلى نزوله عليهم، والنزول والانزال والتنزيل يقبل التعدي بإلى بعناية الانتهاء وبعلى بعناية الاستعلاء والاتيان من العلو، والتعدية بكل واحد منهما كثير

[ 331 ]

في تعبيرات القرآن، والمراد بنزول الكتاب إلى قوم وعلى قوم تعرضه لشؤونهم وبيانه لما ينفعهم في دنياهم وأخراهم. وقد يجاب عن الاشكال الثالث بأن قوله تعالى: (قل استهزؤا) دليل على أنهم كانوا يستهزءون بالحذر ولم يكن من جد الحذر في شئ. وفيه أن الايات الكثيرة النازلة في سورة البقرة والنساء وغيرها - وكل ذلك قبل هذه الايات نزولا - المخرجة لكثير من خبايا قلوبهم الكاشفة عن أسرارهم تدل على أن هذا الحذر كان منهم على حقيقته من غير استهزاء وسخرية. على أنه تعالى وصفهم في سورة المنافقون بمثل قوله: (يحسبون كل صيحة عليهم) المنافقون: 4، وقال في مثل ضربه لهم وفيهم: (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت) البقرة: 19 وقد ذكر في الاية التالية. والحق أن استهزاءهم إنما هو نفاقهم وقولهم في الظاهر خلاف ما في باطنهم كما يؤيده قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون) البقرة: 14. والجواب عن الاشكال الرابع أن الشئ الذى كانوا يحذرونه في الحقيقة هو ظهور نفاقهم وانكشاف ما في قلوبهم، وإنما كانوا يحذرون نزول السورة لاجل ذلك فالمحذور الذى ذكر في صدر الاية والذى في ذيل الاية أمر واحد، ومعنى قوله (إن الله مخرج ما تحذرون) أنه مظهر لما اخفيتموه من النفاق ومنبئ لما في قلوبكم. قوله تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون) الخوض - على ما في المجمع - دخول القدم فيما كان مائعا من الماء والطين ثم كثر حتى استعمل في غيره. وقال الراغب في المفردات: الخوض هو الشروع في الماء والمرور فيه، ويستعار في الامور، وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه. انتهى. ولم يذكر الله سبحانه متعلق السؤال وأن المسؤول عنه الذى إن سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأل عنه ما هو ؟ غير أن قوله: (ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) بما له من السياق

[ 332 ]

المصدر بإنما يدل على أنه كان فعلا صادرا منهم له نوع تعلق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان أمرا مرئيا يسئ الظن بهم، ولم يكن في وسعهم أن يعتذروا منه بعد ما تبين وانكشف للنبى صلى الله عليه وآله وسلم إلا بأنه إنما كان منهم خوضا ولعبا لم يريدوا به غير ذلك. والخوض واللعب الذين اعتذروا بهما من الاعمال السيئة التى لا يعترف بهما الناس في حالهم العادى وخاصة المؤمنون وسائر المتظاهرين بالايمان وخاصة إذا كان ذلك في أمر يرجع إلى الله ورسوله غير أنهم لم يجدوا وصفا يصفون به فعلهم لاخراجه عن ظاهر ما يدل عليه، دون أن يعنونوه بأنه كان خوضا ولعبا. ولذا أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يوبخهم على ما اعتذروا به فقال: (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون) ثم فسر عملهم في آخر الايات بقوله: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا) الاية. ويتحصل من مجموع هذه القرائن أن المنافقين كانوا أرادوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسوء كالفتك به ومفاجأته بما يهلكه وأقدموا على ما قصدوه وتكلموا عند ذلك بشئ من الكلام الردى لكنهم أخطأوا في ما أوقعوه عليه واندفع الشر عنه، ولم يصب السهم هدفه فلما خاب سعيهم وبان أمرهم سألهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك وما تصدوه به اعتذروا بأنهم كانوا يخوضون ويلعبون فوبخهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون) ورد الله سبحانه إليهم عذرهم الذى اعتذروا به وبين حقيقة ما قصدوا بذلك. وبالجملة معنى الاية: وأقسم لئن سألتهم عن فعلهم الذى شوهد منهم: ما الذى أرادوا به ؟ وكان ظاهره أنهم هموا بأمر فيك ليقولن: لم يكن قصد سوء ولا بالذى ظننت فأسأت الظن بنا، وإنما كنا نخوض ونلعب خوض الركب في الطريق لا على سبيل الجد ولكن لعبا. وهذا اعتذار منهم بالاستهزاء بالله وآياته ورسوله فإنهم يعترفون بأنهم فعلوا فيك ما فعلوه خوضا ولعبا فقد استهزءوا بالله ورسوله فقل: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون أي أتعتذرون عن سيئ فعلكم بسيئة أخرى هي الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، وهو كفر ؟ وليس من البعيد أن يكون الغرض الاصيل بيان كونه استهزاء بالرسول، وإنما

[ 333 ]

ذكر الله وآياته للدلالة على معنى الاستهزاء بالرسول، وأنه لما كان من آيات الله كان الاستهزاء به استهزاء بايات الله، والاستهزاء بايات الله استهزاء بالله العظيم فالاستهزاء برسول الله استهزاء بالله وآياته ورسوله. قوله تعالى: (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة) الاية، قال الراغب في المفردات: الطوف المشى حول الشئ ومنه الطائف لمن يدور حول البيوت حافظا - إلى أن قال - والطائفة من الناس جماعة منهم ومن الشئ القطعة منه. وقوله تعالى: (فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) قال بعضهم: قد يقع ذلك على الواحد فصاعدا، وعلى ذلك قوله: (وإن طائفتان من المؤمنين. إذ همت طائفتان منكم). والطائفة إذا أريد بها الجمع فجمع طائف، (وإذا اريد بها الواحد فيصح أن يكون جمعا ويكنى به عن الواحد، ويصح أن يجعل كراوية وعلامة ونحو ذلك. انتهى. وقد خطا بعضهم القول بجواز صدق الطائفة على الواحد والاثنين من الناس كما تصدق على الثلاثة فصاعدا، وبالغ في ذلك حتى عده غلطا ولا دليل له على ما ذكره، ومادة اللفظ لا يستوجب شيئا معينا من العدد، وإطلاقها على القطعة من الشئ يؤيد استعمالها في الواحد. وقوله: (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) نهى عن الاعتذار بدعوى أنه لغو كما يدل عليه قوله: (قد كفرتم بعد إيمانكم) فإن الاعتذار لا فائدة تترتب عليه بعد الحكم بكفرهم بعد إيمانهم. والمراد بإيمانهم هو ظاهر الايمان الذى كانوا يتظاهرون به لا حقيقة الايمان الذى هو من الهداية الالهية التى لا يعقبها ضلال، ويؤيده قوله تعالى في آخر هذه الايات: (ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) فبدل الايمان أسلاما وهو ظاهر الشهادتين. ويمكن ان يقال: إن من مراتب الايمان ما هو اعتقاد واذعان ضعيف غير آب عن الزوال كإيمان الذين في قلوبهم مرض وقد عدهم الله من المؤمنين وذكرهم مع

[ 334 ]

المنافقين لامنهم، ولا مانع من ان ينسلخوا هذا الايمان. وكيف لا ؟ وقد سلخ الله الايمان ممن هو ارسخ إيمانا منهم كالذى يقصه في قوله: (واتل عليهم نبأ الذى آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الارض واتبع هواه) الاعراف: 176. وقال أيضا: (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا) النساء: 137 وقد اكثر القرآن الكريم من ذكر الكفر بعد الايمان فلا مانع من زوال الاعتقاد القلبى قبل رسوخه وهو اعتقاد. نعم الايمان المستقر والاعتقاد الراسخ لا سبيل إلى عروض الزوال له قال تعالى: (من يهدي الله فهو المهتدى) الاعراف: 178 وقال: (فإن الله لا يهدى من يضل) النحل: 37. وقوله: (إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة) يدل على ان هؤلاء المنافقين المذكورين في الايات كانوا ذوى عدد وكثرة، وان كلمة العذاب وقعت عليهم لا بد لهم من العذاب فلو شمل بعضهم عفو إلهى لمصلحة في ذلك وقع العذاب على الباقين فهذا معنى الجملة: (إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة) بحسب ما يفهم من نظمه وسياقه. وبعبارة اخرى رابطة اللزوم بين الشرط والجزاء بترتب الجزاء وتفرعه على الشرط إنما هي بالتبع وأصله ترتب الجزاء ههنا على امر يتعلق به الشرط وهو ان العذاب وجب على جماعتهم فإن عفى عن بعضهم تعين الباقون من غير تخلف. وقد ظهر بما قدمناه اولا: وجه ترتب قوله: (نعذب طائفة) على قوله: (إن نعف عن طائفة) واندفع ما استشكله بعضهم على الاية انه لا ملازمة بين العفو عن البعض وعذاب البعض فما معنى الاشتراط ؟ والجواب: ان اللزوم بحسب الاصل بين وجوب نزول العذاب على الجماعة وبين نزوله على بعضهم ثم انتقل إلى ما بين العفو عن البعض وبين نزوله على بعضهم كما قررناه. وثانيا: ان المراد بالعفو هو ترك العذاب لمصلحة من مصالح الدين دون العفو

[ 335 ]

بمعنى المغفرة المستندة إلى التوبة إذ لا وجه ظاهرا لمثل قولنا: إن غفرنا لطائفة منكم لتوبتهم نعذب طائفة لجرمهم مع انهم لو تابوا جميعا لم يعذبوا قطعا. وقد ندب الله إليهم جميعا ان يتوبوا حيث قال في آخر الايات: (فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والاخرة. وثالثا: ان العفو في الاية بل والعذاب المذكور فيها هو العفو عن العذاب الدنيوي وتركها وكذا القول في العذاب فإن العفو من العذاب الاخروي على ما تنص عليه الايات القرآنية إنما يكون لتوبة أو شفاعة، ولا تحقق لواحد منهما فيما نحن فيه أما التوبة فلما تبين انها غير مرادة في الاية، وأما الشفاعة فلما ثبت بايات الشفاعة إن الشفاعة لا ينالها في الاخرة إلا مؤمن مرضى الايمان، وقد استوفينا البحث عنها في الجزء الاول من الكتاب. ورابعا: أنه لا مانع من كون الاية اعني قوله: (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة) الاية من تتمة كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن المراد بالعفو والعذاب، هو العذاب الدنيوي بالسياسة وتركه، ولا مانع من نسبتهما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. لكن ظاهر الايات التالية هو كونه من قول الله سبحانه خطابا للمنافقين فيكون التفاتا من خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى خطابهم والنكتة فيه اظهار كمال الغضب واشتداد السخط من صنعهم حتى كأنه لا يفى بإيذانه وإعلامه الرسالة فواجههم بنفسه وخاطبهم بشخصه فهددهم بعذاب واقع لا مرد له ولا مفر منه. قوله تعالى: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) إلى آخر الايتين، ذكروا أنه استئناف يتعرض لحال عامة المنافقين بذكر أوصافهم العامة الجامعة وتعريفهم بها وما يجازيهم الله في عاقبة أمرهم ثم يتعرض لحال عامة المؤمنين ويعرفهم بصفاتهم الجامعة ويذكر ما ينبئهم الله به على سبيل المقابلة استتماما للقسمة، ومن الدليل على هذا الاستيفاء ذكر جزاء الكفار مع المنافقين في قوله: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار) الاية. والظاهر أن الاية في مقام التعليل لقوله في الاية السابقة: (إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة) وسياق مخاطبة المنافقين جار لم ينقطع بعد. فالاية السابقة لما دلت على أنه تعالى لا يترك المنافقين حتى يعذبهم بإجرامهم

[ 336 ]

فإن ترك بعضا منهم لحكمة ومصلحة أخذ آخرين منهم بالعذاب كان هناك مظنة أن يسأل فيقال: ما وجه أخذ البعض إذا ترك غيره ؟ وهل هو إلا كأخذ الجار بجرم الجار فاجيب ببيان السبب وهو أن المنافقين جميعا بعضهم من بعض لاشتراكهم في خبائث الصفات والاعمال، واشتراكهم في جزاء أعمالهم وعاقبة حالهم. ولعله ذكر المنافقات مع المنافقين مع عدم سبق لذكرهن للدلالة على كمال الاتحاد والاتفاق بينهم في نفسيتهم، وليكون تلويحا على أن من النساء أيضا أجزاء مؤثرة في هذا المجتمع النفاقى الفاسد المفسد. فمعنى الاية لا ينبغى أن يستغرب أخذ بعض المنافقين إذا ترك البعض الاخر لان المنافقين والمنافقات يحكم عليهم نوع من الوحدة النفسية يوحد كثرتهم فيرجع بعضهم إلى بعض، فيشركهم في الاوصاف والاعمال وما يجازون به بوعد من الله تعالى. فهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويمسكون عن الانفاق في سبيل الله وبعبارة اخرى نسوا الله تعالى بالاعراض عن ذكره لانهم فاسقون خارجون عن زى العبودية فنسيهم الله فلم يثبهم بما أثاب عباده الذاكرين مقام ربهم. ثم ذكر ما وعدهم على ذلك فقال: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار - وعطف عليهم الكفار لانهم جميعا سواء - نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم) من الجزاء لا يتعدى فيهم إلى غيرها (ولعنهم الله) وأبعدهم (ولهم عذاب مقيم) ثابت لا يزول عنهم البتة. وقد ظهر بذلك أن قوله تعالى: (نسوا الله فنسيهم) (الخ) بيان لما تقدمه من قوله: (يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم). ويتفرع على ذلك أن الامر بالمعروف والنهى عن المنكر والانفاق في سبيل الله من الذكر. قوله تعالى: (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم) الخ، قال الراغب: الخلاق ما اكتسبه الانسان من الفضيلة بخلقه قال تعالى: (وما له في الاخرة من خلاق) انتهى وفسره غيره بمطلق النصيب. والاية من تتمة مخاطبة المنافقين التى في قوله: (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم)

[ 337 ]

الاية في سياق واحد متصل وفي الاية تشبيه حال المنافقين بحال من كان قبلهم من الكفار والمنافقين وقياسهم إليهم ليستشهد بذلك على ما قيل: ان المنافقين والمنافقات بعضهم من بعض وأنهم جميعا والكفار ذووا طبيعة واحدد في الاعراض عن ذكر الله والاقبال على الاستمتاع بما أوتوا من أعراض الدنيا من أموال وأولاد والخوض في آيات الله ثم في حبط أعمالهم في الدنيا والاخرة والخسران. ومعنى الاية - والله أعلم - أنتم كالذين من قبلكم كانت لهم قوة وأموال وأولاد بل أشدوا أكثر في ذلك منكم، فاستمتعوا بنصيبهم وقد تفرع على هذه المماثلد أنكم استمتعتم كما استمتعوا وخضتم كما خاضوا اولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والاخرة واولئك هم الخاسرون وأنتم أيضا أمثالهم في الحبط والخسران ولذا وعدكم النار الخالدة ولعنكم. وذكر كون قوة من قبلهم أشد وأموالهم وأولادهم أكثر للايماء إلى أنهم لم يعجزوا الله بذلك، ولم يدفع ذلك عنهم غائلة الحبط والخسران فكيف بكم وأنتم أضعف قوة وأقل أموالا وأولادا ؟ قوله تعالى: (ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات) الاية رجوع إلى السياق الاول وهو سياق مخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع افتراض الغيبة في المنافقين، وتذكير لهم بما قص عليهم القرآن من قصص الامم الماضين. فذاك قوم نوح عمهم الله سبحانه بالغرق، وعاد وهم قوم هود أهلكهم بريح صرصر عاتية، وثمود وهم قوم صالح عذبهم بالرجفة، وقوم ابراهيم اهلك ملكهم نمرود وسلب عنهم النعمة، والمؤتفكات وهى القرى المنقلبات على وجهها - من ائتفكت الارض إذا انقلبت - قرى قوم لوط جعل عاليها سافلها. وقوله: (أتتهم رسلهم بالبينات) أي بالواضحات من الايات والحجج والبراهين وهو بيان إجمالي لنبأهم أي كان نبأهم ان أتتهم رسلهم بالايات البينة فكذبوها فانتهى أمرهم إلى الهلاك، ولم يكن من شأن السنة الالهية ان يظلمهم لانه بين لهم الحق والباطل، وميز الرشد من الغى، والهدى من الضلال، ولكن كان اولئك الاقوام

[ 338 ]

والامم أنفسهم يظلمون بالاستمتاع من نصيب الدنيا والخوض في آيات الله وتكذيب رسله. قوله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض) إلى آخر الاية. ثم وصف الله سبحانه حال المؤمنين عامة محاذاة لما وصف به المنافقين فقال: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض) ليدل بذلك على انهم مع كثرتهم وتفرقهم من حيث العدد ومن الذكورة والانوثة ذوو كينونة واحدة متفقة لا تشعب فيها ولذلك يتولى بعضهم امر بعض ويدبره. ولذلك كان يأمر بعضهم بعضا بالمعروف وينهى بعضهم بعضا عن المنكر فلولاية بعض المجتمع على بعض ولاية سارية في جميع الابعاض دخل في تصديهم الامر بالمعروف والنهى عن المنكر فيما بينهم أنفسهم. ثم وصفهم بقوله: (ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) وهما الركنان الوثيقان في الشريعة فالصلاة ركن العبادات التى هن الرابطة بين الله وبين خلقه، والزكاة في المعاملات التى هي رابطة بين الناس أنفسهم. ثم وصفهم بقوله: (ويطيعون الله ورسوله) فجمع في إطاعة الله جميع الاحكام الشرعية الالهية وجمع في إطاعة رسوله جميع الاحكام الولائية التى يصدرها رسوله في إداره امور الامة وإصلاح شؤونهم كفرامينه في الغزوات، وأحكامه في القضايا وإجراء الحدود وغير ذلك. على أن إطاعه شرائع الله النازلة من السماء من جهة اخرى منطوية في إطاعة الرسول فان الرسول هو الصادع بالحق القائم بالدعوة إلى اصول الدين وفروعه. وقوله: (اولئك سيرحمهم الله) إخبار عما في القضاء الالهى من شمول الرحمة الالهية لهؤلاء القوم الموصوفين بما ذكر، وكأن في هذه الجملة محاذاة لما سرد في المنافقين من قوله تعالى: (نسوا الله فنسيهم) والظاهر ايضا أن قوله: (إن الله عزيز حكيم) تعليل لما ذكر من الرحمة فلا مانع من رحمته لعزته، ولا اختلال أو وهنا وجزافا في حكمته. قوله تعالى: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الانهار) إلى آخر الاية، العدن مصدر بمعنى الاقامة والاستقرار يقال: عدن بالمكان أي اقام فيه واستقر ومنه المعدن للارض التى تستقر فيه الجواهر والفلزات المعدنية، وعلى هذا فمعنى جنات عدن جنات إقامه واستقرار وخلود.

[ 339 ]

وقوله: (ورضوان من الله اكبر) أي رضى الله سبحانه عنهم اكبر من ذلك كله - على ما يفيده السياق - وقد نكر (رضوان) إيماء إلى انه لا يقدر بقدر ولا يحيط به وهم بشر أو لان رضوانا ما منه ولو كان يسيرا اكبر من ذلك كله لا لان ذلك كله مما يتفرع على رضاه تعالى ويترشح منه وإن كان كذلك في نفسه - بل لان حقيقة العبودية التى يندب إليها كتاب الله هي عبوديته تعالى حبا له: لا طمعا في جنة، أو خوفا من نار، وأعظم السعادة والفوز عند المحب ان يستجلب رضى محبوبه دون ان يسعى لارضاء نفسه. كأنه للاشارة إلى ذلك ختم الاية بقوله: (ذلك هو الفوز العظيم) وتكون في الجملة دلالة على معنى الحصر أي أن هذا الرضوان هو حقيقة كل فوز عظيم حتى الفوز العظيم بالجنة الخالدة إذ لو لا شئ من حقيقة الرضى الالهى في نعيم الجنة كان نقمة لا نعمة. قوله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير) جهاد القوم ومجاهدتهم بذل غاية الجهد في مقاومتهم وهو يكون باللسان وباليد حتى ينتهى إلى القتال، وشاع استعماله في الكتاب في القتال وإن كان ربما استعمل في غيره كما في قوله: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) الاية. واستعماله في قتال الكفار على رسله لكونهم متجاهرين بالخلاف والشقاق، وأما المنافقون فهم الذين لا يتظاهرون بكفر ولا يتجاهرون بخلاف، وإنما يبطنون الكفر ويقلبون الامور كيدا ومكرا ولا معنى للجهاد معهم بمعنى قتالهم ومحاربتهم ؟ ولذلك ربما يسبق إلى الذهن أن المراد بجهادهم مطلق ما تقتضيه المصلحة من بذل غاية الجهد في مقاومتهم فإن اقتضت المصلحة هجروا ولم يخالطوا ولم يعاشروا، وان اقتضت وعظوا باللسان، وان اقتضت أخرجوا وشردوا إلى غير الارض أو قتلوا إذا اخذ عليهم الردة، أو غير ذلك. وربما شهد لهذا المعنى اعني كون المراد بالجهاد في الاية مطلق بذل الجهد تعقيب قوله: (جاهد الكفار والمنافقين) بقوله: (واغلظ عليهم) أي شدد عليهم وعاملهم بالخشونة. وأما قوله: (و مأواهم جهنم وبئس المصير) فهو عطف على ما قبله من الامر، ولعل الذى هون الامر في عطف الاخبار على الانشاء هو كون الجملة السابقة في معنى قولنا: (ان هؤلاء الكفار والمنافقين مستوجبون للجهاد). والله أعلم. قوله تعالى: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم

[ 340 ]

وهموا بما لم ينالوا) الاية. سياق الاية يشعر بأنهم أتوا بعمل سيئ وشفعوه بقول تفوهوا به عند ذلك، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاتبهم على قولهم مؤاخذا لهم فحلفوا بالله ما قالوا كما تقدم في قوله: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) إلى آخر الاية أنهم كانوا يعتذرون بذلك عن عملهم أنه كان خوضا وعبا لا غير ذلك. والله سبحانه يكذبهم في الامرين جميعا: أما في إنكارهم القول فبقوله: (ولقد قالوا كلمة الكفر) وفسره ثانيا بقوله: (وكفروا بعد اسلامهم) للدلالة على جد القول فيتفرع عليه الكفر بعد الاسلام. و لعله قال ههنا: (وكفروا بعد إسلامهم) وقد قيل سابقا: (قد كفرتم بعد ايمانكم) لان القول السابق للنبى صلى الله عليه وآله وسلم الجارى على ظاهر حالهم وهو الايمان الذى كانوا يدعونه ويتظاهرون به، والقول الثاني لله العالم بالغيب والشهادة فيشهد بأنهم لم يكونوا مؤمنين ولم يتعدوا الشهادتين بلسانهم فهم كانوا مسلمين لا مؤمنين، وقد كفروا بقولهم وخرجوا عن الاسلام إلى الكفر، وفي هذا إيماء إلى ان قولهم كان كلمة فيه الرد على الشهادتين أو إحداهما، أو لان القول الاول في قبال عملهم الذى أرادوا ايقاع الشر بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والعمل الخالى من القول وهو لم يصب الغرض لا يضر بالاسلام الذى هو نصيب اللفظ والشهادة، وانما يضر بالايمان الذى هو نصيب الاعتقاد، والقول الثاني في قبال قولهم الذى تفوهوا به، وهو ينافى الاسلام الذى يكتسب باللفظ دون الايمان الذى هو نوع من الاعتقاد القلبى. واما في إنكارهم العمل السيئ الذى اتوا به وتأويلهم إياه إلى الخوض واللعب فبقوله: (وهموا بما لم ينالوا. ثم قال في مقام ذمهم وتعييرهم: (وما نقموا إلا أن اغناهم الله و رسوله من فضله) أي بسبب أن اغناهم الله ورسوله، أي كان سبب نقمتهم هذه ان الله اغناهم من فضله بما رزقهم من الغنائم وبسط عليهم الامن والرفاهية فمكنهم من توليد الثروة وانماء المال من كل جهة، وكذا رسوله حيث هداهم إلى عيشة صالحة تفتح عليهم أبواب بركات السماء والارض، وقسم بينهم الغنائم وبسط عليهم العدل. فهو من قبيل وضع الشئ موضع ضده: وضع فيه الاغناء وهو بحسب الطبع

[ 341 ]

سبب للرضى والشكر موضع سبب النقمة والسخطة كالظلم والغضب وان شئت قلت: وضع فيه الاحسان موضع الاساءة، ففيه نوع من التهكم المشوب بالذم نظير ما في قوله تعالى: (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) الواقعة: 82 أي تجعلون رزقكم سببا للتكذيب بايات الله وهو سبب بحسب الطبع لشكر النعمة والرضا بالموهبة على ما قيل: إن المعنى: وتجعلون بدل شكر رزقكم أنكم تكذبون. والضمير في قوله: (من فضله) راجع إلى الله سبحانه، قال في المجمع: وإنما لم يقل: من فضلهما لانه لا يجمع بين اسم الله واسم غيره في الكناية تعظيما لله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمن سمعه يقول: (من أطاع الله ورسوله فقد اهتدى ومن عصاهما فقد غوى): بئس خطيب القوم أنت فقال: كيف أقول يا رسول الله ؟ قال: قل: ومن يعص الله ورسوله، وهكذا القول في قوله سبحانه: (والله ورسوله أحق أن يرضوه) وقيل: إنما لم يقل من فضلهما لان فضل الله منه وفضل رسوله من فضله، انتهى كلامه. وهناك وراء التعظيم أمر آخر قدمنا القول فيه في تفسير قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) المائدة: 73 في الجزء السادس من الكتاب، وهو أن وحدته تعالى ليست من سنخ الوحدة العددية حتى يصح بذلك تأليفها مع وحدة غيره واستنتاج عدد من الاعداد منه. ثم بين الله سبحانه لهؤلاء المنافقين أن لهم مع هذه الذنوب المهلكة وصريح كفرهم بالله وهمهم بما لم ينالوا أن يرجعوا إلى ربهم، وبين عاقبة أمر هذه التوبة وعاقبة التولى والاعراض عنها فقال: (فان يتوبوا يك خيرا لهم) لادائه إلى المغفرة والجنة (وإن يتولوا) ويعرضوا عن التوبة (يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا) بالسياسة والنكال أو بإغراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم أو بالمكر والاستدراج، ولو لم يكن من عذابهم إلا أنهم مخالفون بنفاقهم نظام الاسباب المبنى على الصدق والايمان فتقادمهم سلسلة الاسباب وتحطمهم وتفضحهم لكان فيه كفاية، وقد قال الله: (والله لا يهدى القوم الفاسقين) التوبة: 24 (والاخرة) بعذاب النار. وقوله تعالى: (وما لهم في الارض من ولى ولا نصير) معناه أن هؤلاء لا ولى لهم في الارض يتولى امرهم ويصرف العذاب عنهم، ولا نصير ينصرهم ويمدهم بما يدفعون به العذاب الموعود عن انفسهم لان سائر المنافقين ايضا منهم وكلمة الفساد يجمعهم

[ 342 ]

وأصلهم الفاسد منقطع عن سائر الاسباب الكونية فلا ولى لهم يتولى امرهم ولا ناصر لهم ينصرهم ولعل هذه الجملة من الاية إشارة إلى ما أومأنا إليه في معنى عذاب الدنيا. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة) الاية، قيل: نزلت في اثنى عشر رجلا وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند رجوعه من تبوك فأخبر جبرئيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، وأمره أن يرسل إليهم ويضرب وجوه رواحلهم. وعمار كان يقود دابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحذيفة يسوقها فقال لحذيفة: اضرب وجوه رواحلهم، فضربها حتى نحاهم فلما نزل قال لحذيفة: من عرفت من القوم ؟ قال: لم أعرف منهم احدا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنه فلان وفلان حتى عدهم كلهم فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم ؟ فقال: أكره أن تقول العرب: لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم. عن ابن كيسان. وروى عن ابى جعفر الباقر عليه السلام مثله إلا أنه قال: ائتمروا بينهم ليقتلوه وقال بعضهم لبعض: إن فطن نقول: إنما كنا نخوض ونلعب، وإن لم يفطن نقتله. وقيل: إن جماعة من المنافقين قالوا في غزوة تبوك: يظن هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك فقال: احبسوا على الركب، فدعاهم فقال لهم: قلتم كذا وكذا. فقالوا: يا نبى الله إنما كنا نخوض ونلعب وحلفوا على ذلك فنزلت الاية: (ولئن سألتهم ليقولن) الخ، عن الحسن وقتادة. وقيل: كان ذلك عند منصرفه من غزوة تبوك إلى المدينة وكان بين يديه اربعة نفر أو ثلاثة يستهزءون ويضحكون، وأحدهم يضحك ولا يتكلم فنزل جبرئيل وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فدعا عمار بن ياسر وقال: إن هؤلاء يستهزءون بى وبالقرآن أخبرني جبرئيل بذلك، ولئن سألتهم ليقولن: كنا نتحدث بحديث الركب فاتبعهم عمار وقال: مم تضحكون ؟ قالوا: نتحدث بحديث الركب فقال عمار: صدق الله ورسوله احترقتم أحرقكم الله، فأقبلوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعتذرون فأنزل الله تعالى الايات. عن الكلبى وعلى بن ابراهيم وأبى حمزة.

[ 343 ]

وقيل: إن رجلا قال في غزوة تبوك: ما رأيت أكذب لسانا ولا أجبن عند اللقاء من هؤلاء يعنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فقال له عوف بن مالك: كذبت ولكنك منافق، وأراد ان يخبر رسول الله بذلك فجاء وقد سبقه الوحى فجاء الرجل معتذرا، وقال: إنما كنا نخوض ونلعب ففيه نزلت الاية، عن ابن عمر وزيد بن اسلم ومحمد بن كعب. وقيل: إن رجلا من المنافقين قال: يحدثنا محمد ان ناقة فلان بوادي كذا وكذا وما يدريه ما الغيب ؟ فنزلت الاية، عن مجاهد. وقيل: نزلت في عبد الله بن أبى ورهطه، عن الضحاك. وفي المجمع ايضا في قوله تعالى: (يحلفون بالله ما قالوا) الاية، اختلف في من نزلت فيه هذه الاية فقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان جالسا في ظل شجرة فقال: إنه سيأتيكم إنسان فينظر اليكم بعينى الشيطان، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: علا م تشتمني أنت وأصحابك ؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله: ما قالوا فأنزل الله هذه الاية، عن ابن عباس. وقيل: خرج المنافقون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك فكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وطعنوا في الدين فنقل ذلك حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهم: ما هذا الذى بلغني عنكم فحلفوا بالله: ما قالوا شيئا من ذلك. عن الضحاك. وقيل: نزلت في جلاس بن سويد بن الصامت، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطب ذات يوم بتبوك وذكر المنافقين فسماهم رجسا وعابهم، فقال الجلاس: والله لئن كان محمد صادقا فيما يقول فنحن شر من الحمير فسمعه عامر بن قيس فقال: أجل والله إن محمدا لصادق وأنتم شر من الحمير، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه آله وسلم إلى المدينة اتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس، فقال الجلاس: كذب يا رسول الله. فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان يحلفا عند المنبر فقام الجلاس عند المنبر فحلف بالله ما قال ثم قام عامر فحلف بالله: لقد قال، ثم قال: اللهم أنزل على نبيك الصادق منا الصدق، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون: آمين، فنزل جبرئيل عليه السلام قبل ان يتفرقا بهذه الاية حتى بلغ: (فان يتوبوا يك خيرا لهم).

[ 344 ]

فقام الجلاس فقال: يا رسول الله أسمع الله قد عرض على التوبة صدق عامر ابن قيس فيما قال لك لقد قلته وأنا استغفر الله وأتوب إليه، فقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك منه. عن الكلبى ومحمد بن اسحاق ومجاهد. وقيل: نزلت في عبد الله بن أبى بن سلول حين قال: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل). عن قتادة. وقيل: نزلت في اهل العقبة فانهم ائتمروا في ان يغتالوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عقبة عند مرجعهم من تبوك، وأرادوا ان يقطعوا أنساع راحلته ثم ينخسوا به فأطلعه الله على ذلك، وكان من جملة معجزاته لانه لا يمكن معرفد مثل ذلك إلا بوحى من الله تعالى. فسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة، وعمار وحذيفة معه، احدهما يقود ناقته والاخر يسوقها وأمر الناس كلهم بسلوك بطن الوادي، وكان الذين هموا بقتله اثنى عشر رجلا أو خمسة عشر رجلا على الخلاف فيه عرفهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسماهم واحدا واحدا، عن الزجاج والواقدى والكلبي، والقصة مشروحة في كتاب الواقدي. وقال الباقر عليه السلام: كانت ثمانيد منهم من قريش وأربعة من العرب. أقول: والذى ذكره رحمه الله مما جمعه واختاره من الروايات مروية في كتب التفسير بالمأثور وجوامع الحديث من كتب الفريقين وهناك روايات اخرى تركها وأحرى بها ان تترك فتركنا اكثرها كما ترك. وأما الذى أورده من الروايات فشئ منها لا ينطبق على الايات غير حديث العقبة الذى أورده تارة في تفسير الاية الاولى: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة الاية، وتارة في تفسير الاية: (يحلفون بالله ما قالوا) الاية. وأما سائر الروايات ألوارده فإنما هي روايات تتضمن من متفرقات القصص والوقائع ما لو صحت وثبتت كانت من قصص المنافقين من غير ان ترتبط بهذه الايات وهى كما عرفت في البيان السابق إحدى عشرة آية متصل بعضها ببعض مسرودة لغرض واحد، وهو الاشارة إلى قصة من قصص المنافقين هموا فيها باغتيال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتكلموا عند ذلك بكلمة الكفر فحال الله سبحانه بينهم وبين ان ينالوا ما هموا به فسألهم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم عن امرهم وما تفوهوا به فأولوا فعلهم وأنكروا قولهم وحلفوا على ذلك فكذبهم الله تعالى فيه.

[ 345 ]

فهذا إجمال ما يلوح من خلال الايات، ولا ينطبق من بين الروايات إلا على الروايات المشتملة على قصة العقبد في الجملد دون سائرها. ولا مسوغ للاستناد إليها في تفسير الايات إلا على مسلك القوم من تحكيم الروايات بحسب مضمونها على الايات سواء ساعدت على ذلك ألفاظ الايات أو لم تساعد على ما فيها - اعني الروايات - من الاختلاف الفاحش الذى يوجب سوء الظن بها كما يظهر لمن راجعها. على ان في الروايات مغمزا آخر وهو ظهورها في تقطع الايات وتشتت بعضها وانفصاله عن بعض بنزول كل لسبب آخر وتعقيبه غرضا آخر، وقد عرفت ان الايات ذات سياق واحد متصل ليس من شأنه إلا ان يعقب غرضا واحدا. وفي الدر المنثور اخرج عبد الرزاق وابن المنذر وأبو الشيخ عن الكلبى ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما اقبل من غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة رهط استهزءوا بالله ورسوله وبالقرآن قال: كان رجل منهم لم يمالئهم في الحديث يسير مجانبا لهم يقال له: يزيد بن وديعة فنزلت: (إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة) فسمى طائفة وهو واحد. أقول: (وهذا هو منشأ قول بعضهم: إن الطائفة تطلق على الواحد كما تطلق على الكثير مع ان الاية جارية مجرى الكناية دون التسميد ونظير ذلك كثير في الايات القرآنية كما تقدمت الاشارة إليه. وفيه اخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الاية في رهط من المنافقين من بنى عمرو بن عوف فيهم وديعة بن ثابت، ورجل من أشجع حليف لهم يقال له: مخشى بن حمير (*) كانوا يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو منطلق إلى تبوك فقال بعضهم لبعض: أتحسبون قتال بنى الاصفر كقتال غيرهم والله لكأنا بكم غدا تقادون في الحبال. قال مخشى بن حمير لوددت انى أقاضي على ان يضرب كل رجل منكم مائة على ان ينجو من ان ينزل فينا قرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمار بن ياسر: أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا فإن هم أنكروا وكتموا فقل: بلى قد قلتم كذا وكذا فأدركهم فقال لهم فجاءوا يعتذرون فأنزل الله: (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم (*) وقد مر في ص 323 نقلا عن المصدر نفسه جحش بن حمير وهو مصحف (ب).

[ 346 ]

إن نعف عن طائفة منكم) الاية فكان الذى عفا الله عنه مخشى بن حمير فتسمى عبد الرحمن، سأل الله ان يقتل شهيدا لا يعلم بمقتله فقتل باليمامة لا يعلم مقتله ولا من قتله ولايرى له أثر ولا عين. أقول: وقصة مخشى بن حمير وردت في عدة روايات غير انها على تقدير صحتها لا تستلزم نزول الايات فيها على ما بينها وبين مضامين الايات من البون البعيد. وليس من الواجب علينا إذا عثرنا على شئ من القصص الواقعة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي قصة كانت ان نلجم بها آية من آيات القرآن الكريم ثم نعود فنفسر الاية بالقصة ونحكمها عليها. وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: ما اشبه الليله بالبارحة كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة إلى قوله وخضتم كالذى خاضوا هؤلاء بنو إسرائيل أشبهناهم والذى نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل رجل جحر ضب لدخلتموه اقول: ورواه في المجمع ايضا عنه. وفي المجمع عن تفسير الثعلبي عن ابى هريرة عن ابى سعيد الخدرى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لتأخذن كما اخذت الامم من قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع حتى لو ان احدا من اولئك دخل جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله كما صنعت فارس والروم وأهل الكتاب ؟ قال: فهل الناس إلا هم ؟ وفيه أيضا عن تفسير الثعلبي عن حذيفة قال: المنافقون الذين فيكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قلنا: وكيف ؟ قال: اولئك كانوا يخفون نفاقهم وهؤلاء أعلنوه. وفي العيون بإسناده عن القاسم بن مسلم عن أخيه عبد العزيز بن مسلم قال: سألت الرضا عليه السلام عن قول الله عزوجل: (نسوا الله فنسيهم) فقال: إن الله تبارك وتعالى لا ينسى ولا يسهو، وإنما ينسى ويسهو المخلوق المحدث ألا تسمعه عز وجل يقول: (وما كان ربك نسيا)، وإنما يجازى من نسيه ونسى لقاء يومه ان ينسيهم أنفسهم كما قال عز وجل: (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم

[ 347 ]

اولئك هم الفاسقون) [ و ] قوله عز وجل (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) أي نتركهم كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم هذا. وفى تفسير العياشي عن جابر عن أبى جعفر عليه السلام (نسوا الله) قال: تركوا طاعة الله (فنسيهم) قال: فتركهم. وفيه عن ابى معمر السعدانى قال: قال على عليه السلام في قوله: (نسوا الله فنسيهم) فإنما يعنى أنهم نسوا الله في دار الدنيا فلم يعملوا له بالطاعة ولم يؤمنوا به وبرسوله فنسيهم في الاخرة أي لم يجعل لهم في ثوابه نصيبا فصاروا منسيين من الخير. أقول: ورواه الصدوق في المعاني بإسناده عن ابى معمر عنه عليه السلام. وفي الكافي بإسناده عن ابى بصير عن ابى عبد الله عليه السلام - في حديث - قلت: (والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات) قال: اولئك قوم لوط ائتفكت عليهم أي انقلبت وصارت عاليها سافلها. وفي التهذيب بإسناده عن صفوان بن مهران قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام تأتيني المرأة المسلمة قد عرفتني بعملي وأعرفها بإسلامها ليس لها محرم فأحملها ؟ قال: فاحملها فإن المؤمن محرم للمؤمنة. ثم تلا هذه الاية: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض). أقول: ورواه العياشي في تفسيره عن صفوان الجمال عنه عليه السلام. وفي تفسير العياشي عن ثوير عن على بن الحسين عليهما السلام قال: إذا صار اهل الجنة في الجنة ودخل ولى الله إلى جناته ومساكنه، واتكئ، كل مؤمن على اريكته حفته خدامه، تهدلت عليه الاثمار، وتفجرت حوله العيون، وجرت من تحته الانهار، وبسطت له الزاربى، ووضعت له النمارق، وأتته الخدام بما شاءت هواه من قبل أن يسألهم ذلك قال: وتخرج عليه الحور العين من الجنان فيمكثون بذلك ما شاء الله. ثم ان الجبار يشرف عليهم فيقول لهم: اوليائي واهل طاعتي وسكان جنتي في جواري الاهل انبؤكم بخير مما أنتم فيه ؟ فيقولون: ربنا وأى شئ خير مما نحن فيه: فيما اشتهت انفسنا ولذت أعيننا من النعم في جوار الكريم ؟ قال: فيعود عليهم القول فيقولون ربنا نعم فأتنا بخير مما نحن فيه فيقول تبارك وتعالى لهم: رضاى عنكم ومحبتى لكم خير وأعظم مما انتم فيه قال: فيقولون: نعم يا ربنا رضاك عناون محبتك لنا خير وأطيب لانفسنا.

[ 348 ]

ثم قرء على بن الحسين عليه السلام هذه الاية: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله اكبر ذلك هو الفوز العظيم). وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا دخل اهل الجنة الجنة قال الله: هل تشتهون شيئا فازيدكم ؟ قالوا: يا ربنا وهل بقى شئ ؟ إلا قد انلتناه ؟ فيقول: نعم رضائي فلا اسخط عليكم ابدا. اقول: وهذا المعنى وارد في روايات كثيرة من طرق الفريقين. وفي جامع الجوامع عن ابى الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: عدن دار الله التى لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلاثة: النبيون والصديقون والشهداء يقول الله: طوبى لمن دخلك. أقول: ولا ينافى خصوص سكنة الجنة في الرواية عمومهم في الاية لدلالة قوله تعالى: (والذين آمنوا بالله ورسله اولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم) الحديد: 19 على ان الله سبحانه سيلحق عامة المؤمنين بالصديقين والشهداء. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: (يا ايها النبي جاهد الكفار والمنافقين) الاية قال حدثنى أبى عن ابى عمير عن أبى بصير عن أبى جعفر بعليه السلام قال: جاهد الكفار والمنافقين بإلزام الفرائض. وفي الدر المنثور أخرج البيهقى في شعب الايمان عن ابن مسعود قال: لما نزلت: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين) أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجاهد بيده فإن لم يستطع فبقلبه فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فليلقه بوجه مكفهر. أقول: وفي الرواية تشويش من حيث ترتب أجزائها فالجهاد بالقلب بعد الجميع وقد تخلل بينها. * * * ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين - 75. فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم

[ 349 ]

معرضون - 76. فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون - 77. ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب - 78. الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم - 79. استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مره فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدى القوم الفاسقين - 80. (بيان) تذكر الايات طائفة أخرى من المنافقين تخلفوا عن حكم الصدقات فامتنعوا عن إيتاء الزكاة، وقد كانوا فقراء فعاهدوا الله إن أغناهم وآتاهم من فضله ليصدقن وليكونن من الصالحين فلما آتاهم مالا بخلوا به وامتنعوا. وتذكر آخرين من المنافقين يعيبون أهل السعة من المؤمنين بإيتاء الصدقات وكذلك يلمزون أهل العسرة منهم ويسخرون منهم والله سبحانه يسمى هؤلاء جميعا منافقين، ويقضى فيهم بعدم المغفرة البتة. قوله تعالى: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين) إلى آخر الايتين. الايتاء الاعطاء، وقد كثر أطلاق الايتاء من الفضل على إعطاء المال، ومن القرائن عليه في الاية قوله (لنصدقن) أي لنتصدقن مما آتانا من المال وكذلك ما في الاية التالية من ذكر البخل به. والسياق يفيد ان الكلام متعرض لامر واقع، والروايات تدل على ان الايات نزلت في ثعلبة في قصة سيأتي نقلها في البحث الروائي التالى إن شاء الله تعالى، ومعنى الايتين ظاهر.

[ 350 ]

قوله تعالى: (فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه) الاية. الاعقاب الايراث قال في المجمع: وأعقبه وأورثه وأداه نظائر وقد يكون أعقبه بمعنى جازاه. انتهى وهو مأخوذ من العقب، ومعناه الاتيان بشئ عقيب شئ. والضمير في قوله: (فأعقبهم) راجع إلى البخل أو إلى فعلهم الذى منه البخل، وعلى هذا فالمراد بقوله: (يوم يلقونه) يوم لقاء البخل أي جزاء البخل بنحو من العناية. ويمكن ان يرجع الضمير إليه تعالى والمراد بيوم يلقونه يوم يلقون الله وهو يوم القيامد على ما هو المعروف من كلامه تعالى من تسمية يوم القيامة بيوم لقاء الله أو يوم الموت كما هو الظاهر من قوله تعالى: (من كان يرجوا لقاء الله فإن اجل الله لات) العنكبوت: 5. وهذا الثاني هو الظاهر على الثاني لان الانسب عند الذهن ان يقال: فهم على نفاقهم إلى ان يموتوا. دون ان يقال: فهم على نفاقهم إلى ان يبعثوا إذ لا تغير لحالهم فيما بعد الموت على أي حال. وقوله: (بما اخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) الباء في الموضعين منه للسببية أي إن هذا البخل اورثهم نفاقا بما كان فيه من الخلف في الوعد والاستمرار على الكذب الموجبين لمخالفة باطنهم لظاهرهم وهو النفاق. ومعنى الاية: فأورثهم البخل والامتناع عن إيتاء الصدقات نفاقا في قلوبهم يدوم لهم ذلك ولا يفارقهم إلى يوم موتهم وإنما صار هذا البخل والامتناع سببا لذلك لما فيه من خلف الوعد لله والملازمة والاستمرار على الكذب. أو المعنى: جازاهم الله نفاقا في قلوبهم إلى يوم لقائه وهو يوم الموت لانهم أخلفوه ما وعدوه وكانوا يكذبون. وفي الاية دلالة اولا: على ان خلف الوعد وكذب الحديث من أسباب النفاق وأماراته. وثانيا: ان من النفاق ما يعرض الانسان بعد الايمان كما ان من الكفر ما هو كذلك وهو الردة، وقد قال الله سبحانه: (ثم كان عاقبة الذين اساءوا السوءى أن كذبوا بايات الله وكانوا بها يستهزءون) الروم: 10 فذكر ان الاساءة ربما أدى بالانسان إلى تكذيب آيات الله، والتكذيب ربما كان ظاهرا وباطنا معا وهو الكفر، أو باطنا فحسب وهو النفاق.

[ 351 ]

قوله تعالى: (ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم) الاية النجوى الكلام الخفى والاستفهام للتوبيخ والتأنيب. قوله تعالى: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم) الاية التطوع الاتيان بما لا تكرهه النفس ولا تحسبه شاقا ولذلك يستعمل غالبا في المندوبات لما في الواجبات من شائبة التحميل على النفس بعدم الرضى بالترك. ومقابلة المطوعين من المؤمنين في الصدقات بالذين لا يجدون الا جهدهم قرينة على أن المراد بالمطوعين فيها الذين يؤتون الزكاة على السعة والجدة كأنهم لسعتهم وكثرة مالهم يؤتونها على طوع ورغبة من غير ان يشق ذلك عليهم بخلاف الذين لا يجدون إلا جهدهم أي مبلغ جهدهم وطاقتهم أو ما يشق عليهم القنوع بذلك. وقوله: (الذين يلمزون) الاية كلام مستأنف أو هو وصف للذين ذكروا بقوله: (ومنهم من عاهد الله) الاية كما قالوا. والمعنى: الذين يعيبون الذين يتطوعون بالصدقات من المؤمنين الموسرين والذين لا يجدون من المال إلا جهد انفسهم من الفقراء المعسرين فيعيبون المتصدقين موسرهم ومعسرهم وغنيهم وفقيرهم ويسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم، وفيه جواب لاستهزائهم وإيعاد بعذاب شديد. قوله تعالى: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ان تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) الترديد بين الامر والنهى كناية عن تساوى الفعل والترك أي لغوية الفعل كما مر نظيره في قوله: (أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم) التوبة: 53. فالمعنى ان هؤلاء المنافقين لا تنالهم مغفرة من الله ويستوى فيهم طلب المغفرة وعدمها لان طلبها لهم لغو لا اثر له. وقوله: (ان تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) تأكيدا لما ذكر قبله من لغوية الاستغفار لهم، وبيان ان طبيعة المغفرة لا تنالهم البتة سواء سئلت المغفرة في حقهم أو لم تسأل، وسواء كان الاستغفار مرة أو مرات قليلا أو كثيرا. فذكر السبعين كناية عن الكثرة من غير ان يكون هناك خصوصية للعدد حتى يكون الواحد والاثنان من الاستغفار حتى يبلغ السبعين غير مؤثر في حقهم فإذا جاوز السبعين أثر اثره، ولذلك علله بقوله: (ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله) أي ان

[ 352 ]

المانع من شمول المغفرة هو كفرهم بالله ورسوله، ولا يختلف هذا المانع بعدم الاستغفار. ولا وجوده واحدا أو كثيرا فهم على كفرهم. ومن هنا يظهر أن قوله: (والله لا يهدى القوم الفاسقين) متمم لسابقه والكلام مسوق سوق الاستدلال القياسي والتقدير: انهم كافرون بالله ورسوله فهم فاسقون خارجون عن عبودية الله، والله لا يهدى القوم الفاسقين، لكن المغفرة هداية إلى سعادة القرب والجنة فلا تشملهم المغفرة ولا تنالهم البتة. واستعمال السبعين في الكثرة المجردة عن الخصوصية كاستعمال المائة والالف فيها كثير في اللغة. (بحث روائي) في المجمع قيل: نزلت في ثعلبة بن حاطب، وكان من الانصار فقال للنبى صلى الله عليه وآله وسلم: ادع الله ان يرزقنى مالا فقال: يا ثعلبة قليل تؤدى شكره خير من كثير لا تطيقه أما لك في رسول الله اسوة حسنة ؟ والذى نفسي بيده لو اردت ان تسير الجبال معى ذهبا وفضة لسارت. ثم اتاه بعد ذلك فقال: يا رسول الله ادع الله ان يرزقنى مالا والذى بعثك بالحق، لئن رزقني الله مالا لاعطين كل ذى حق حقه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم ارزق ثعلبة مالا فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل واديا من اوديتهاثم كثرت نموا حتى تباعد من المدينة فاشتغل بذلك عن الجمعة والجماعة، وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليه المصدق ليأخذ الصدقة فأبى وبخل وقال: ما هذه إلا اخت الجزية فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة، وأنزل الله الايات. عن أبى امامة الباهلى وروى ذلك مرفوعا. وقيل: إن ثعلبة أتى مجلسا من الانصار فأشهدهم فقال: لئن آتانى الله من فضله تصدقت منه وآتيت كل ذى حق حقه ووصلت منه القرابة فابتلاه الله فمات ابن عم له فورثه مالا فلم يف بما قال فنزلت. عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة. وقيل: نزلت في ثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير وهما من بنى عمرو بن عوف

[ 353 ]

قالا: لئن رزقنا الله مالا لنصدقن فلما رزقهما الله المال بخلا به. عن الحسن ومجاهد. أقول: ما ذكروه من الروايات لا يدفع بعضها البعض فمن الجائز ان يكون ثعلبة عاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك ثم أشهد عليه جماعة من الانصار، وان يكون معه في ذلك غيره فتتأيد الروايات بعضها ببعض. وتتأيد ايضا بما روى عن الضحاك ان الايات نزلت في رجال من المنافقين: نبتل بن الحارث، وجد بن قيس، وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير. واما ما رواه في المجمع عن الكلبى انها نزلت في حاطب بن ابى بلتعة كان له مال بالشام فأبطأ عنه وجهد لذلك جهدا شديدا فحلف لئن آتاه الله ذلك المال ليصدقن فاتاه الله تعالى ذلك فلم يفعل، فهو بعيد الانطباق على الايات لان إيصال المال إلى صاحبه لا يسمى إيتاء من الفضل، وانما هو الاعطاء والرزق. وفي تفسير القمى قال: وفي رواية ابى الجارود عن ابى جعفر عليه السلام - في الاية - قال: هو ثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عوف كان محتاجا فعاهد الله فلما آتاه بخل به. وفي الدر المنثور أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان. أقول: وهو مروى بغير واحد من الطرق عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، وقد تقدم بعضها. وفيه في قوله تعالى: (الذين يلمزون المطوعين) الاية أخرج البخاري ومسلم وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن ابن مسعود قال لما نزلت آية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا فجاء رجل فتصدق بشئ كثير فقالوا: مراء، وجاء أبو عقيل بنصف صاع فقال المنافقون: إن الله لغنى عن صدقة هذا فنزلت: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم) الاية. أقول: والروايات في سبب نزول الاية كثيرة وأمثلها ما أوردناه، وفي قريب من معناه روايات أخرى، وظاهرها أن الاية مستقلة عما قبلها مستأنفة في نفسها.

[ 354 ]

وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن ابى حاتم عن عروة ان عبد الله بن أبى قال لاصحابه: لو لا أنكم تنفقون على محمد وأصحابه لانفضوا من حوله، وهو القائل: ليخرجن الاعز منها الاذل فأنزل الله عز وجل: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لازيدن على السبعين فأنزل الله: سواء عليهم أستغفرت لهم ام لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم. وفيه أخرج ابن ابى شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال: لما نزلت: (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: سأزيد على سبعين فأنزل الله في السورة التى يذكر فيها المنافقون (لن يغفر الله لهم). وفيه أخرج ابن جرير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: - لما نزلت هذه الاية - أسمع ربى قد رخص لى فيهم فو الله لاستغفرن أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم فقال الله من شدة غضبه عليهم: (سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدى القوم الفاسقين). أقول: مما لا ريب فيه ان هذه الايات مما نزلت في أواخر عهد النبي عليه السلام وقد سبقتها في النزول السور المكية عامة وأكثر السور والايات المدنية قطعا، ومما لا ريب فيه لمن يتدبر كتاب الله أنه لا رجاء في نجاة الكفار والمنافقين وهم أشد منهم إذا ماتوا على كفرهم ونفاقهم، ولا مطمع في شمول المغفرة الالهية لهم فهناك آيات كثيرة مكية ومدنية صريحة قاطعة في ذلك. والنبى صلى الله عليه وآله وسلم أجل من أن يخفى عليه ما أنزله الله إليه أو أن لا يثق بما وعدهم الله من العذاب المخلد وعدا حتميا فيطمع في نقض القضاء المحتوم بالاصرار عليه تعالى والالحاح في طلب الغفران لهم. أو أن يخفى عليه أن الترديد في الاية لبيان اللغوية وأن لا خصوصية لعدد السبعين حتى يطمع في مغفرتهم لو زاد على السبعين. وليت شعرى ما ذا يزيد قوله تعالى في سورة المنافقون: (سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدى القوم الفاسقين) على قوله تعالى في هذه الاية (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر

[ 355 ]

الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدى القوم الفاسقين) وقد علل الله سبحانه نفى المغفرة نفيا مؤبدا فيهما بأنهم فاسقون والله لا يهدى القوم الفاسقين. فقد تلخص ان هذه الروايات وما في معناها موضوعة يجب طرحها. وفي الدر المنثور أخرج احمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن ابى حاتم والنحاس وابن حبان وابن مردويه وابو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: سمعت عمر يقول: لما توفى عبد الله بن أبى دعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة عليه فقام عليه فلما وقف قلت: أعلى عدو الله عبد الله بن أبى القائل كذا وكذا ؟ أعدد أيامه ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبسم حتى إذا أكثرت قال: يا عمر أخر عنى إنى قد خيرت قد قيل لى: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ان تستغفر لهم سبعين مرة) فلو أعلم انى إن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها. ثم صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومشى معه حتى قام على قبره حتى فرغ منه فعجبت لى ولجرأتي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والله ورسوله أعلم فو الله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الايتان: (ولا تصل على احد منهم مات ابدا ولا تقم على قبره) فما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على منافق بعده حتى قبضه الله عز وجل. أقول: قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الرواية: (فلو اعلم انى إن زدت على السبعين) الخ صريح في انه كان آئسا من شمول المغفرة له، وهو يشهد بأن المراد من قوله: (انى قد خيرت قد قيل لى استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) ان الله قد ردد الامر ولم ينهه عن الاستغفار لا انه خيره بين الاستغفار وعدمه تخييرا حقيقيا حتى ينتج تأثير الاستغفار في حصول المغفرة أو رجاء ذلك. ومن ذلك يعلم ان استغفاره صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله وصلاته عليه وقيامه على قبره إن ثبت شئ من ذلك لم يكن شئ من ذلك لطلب المغفرة والدعاء له جدا كما سيأتي في رواية القمى، وفي الروايات كلام سيأتي. وفيه عن ابن ابى حاتم عن الشعبى ان عمر بن الخطاب قال: لقد أصبت في الاسلام هفوة ما اصبت مثلها قط أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان يصلى على عبد الله بن أبى فأخذت بثوبه فقلت: والله ما امرك الله بهذالقد قال الله: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

[ 356 ]

قد خيرنى ربى فقال: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم فقعد رسول الله على شفير القبر فجعل الناس يقولون لابنه: يا حباب افعل كذا يا حباب افعل كذا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الحباب اسم شيطان انت عبد الله. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) الاية انها نزلت لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ومرض عبد الله بن أبى وكان ابنه عبد الله بن عبد الله مؤمنا فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبوه يجود بنفسه فقال: يا رسول الله بأبى انت وامى انك ان لم تأت ابى كان ذلك عارا علينا فدخل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمنافقون عنده فقال ابنه عبد الله بن عبد الله استغفر له فاستغفر له. فقال عمر: ألم ينهك الله يا رسول الله ان تصلى على احد أو تستغفر له ؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعاد عليه فقال له: ويلك انى قد خيرت فاخترت إن الله يقول: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم). فلما مات عبد الله جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: بأبى انت وامى يا رسول الله إن رأيت ان تحضر جنازته فحضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام على قبره فقال له عمر: يا رسول الله ألم ينهك الله ان تصلى على احد منهم مات ابداو أن تقيم على قبره ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ويلك وهل تدرى ما قلت ؟ إنما قلت: اللهم احش قبره نارا وجوفه نارا وأصله النار فبدا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يكن يحب. أقول: وفي الروايات تتمة كلام سيوافيك في ذيل الايات التالية. * * * فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون - 81. فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون - 82. فإن رجعك الله إلى طائفة منهم

[ 357 ]

فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معى أبدا ولن تقاتلوا معى عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين - 83. ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون - 84. ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون - 85. وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين - 86. رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون - 87. لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون - 88. أعد الله لهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم - 89. وجاء المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم - 90. ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم - 91. ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون - 92. إنما

[ 358 ]

السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون - 93. يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون - 94. سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون - 95. يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين - 96. (بيان) الايات تقبل الاتصال بالايات التى قبلها وهى تعقب غرضا يعقبه ما تقدمها. قوله تعالى: (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله) الاية الفرح والسرور خلاف الغم وهما حالتان نفسيتان وجدانيتان ملذة ومؤلمة، والمخلفون اسم مفعول من قولهم خلفه إذا تركه بعده والمقعد كالقعود مصدر قعد يقعد وهو كناية عن عدم الخروج إلى الجهاد. والخلاف كالمخالفة مصدر خالف يخالف، وربما جاء بمعنى بعد كما قيل ولعل منه قوله: (وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا) وكان قياس الكلام أن يقال: (خلافك) لان الخطاب فيه للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وإنما قيل: (خلاف رسول الله) للدلالة على أنهم إنما يفرحون على مخالفة الله العظيم فما على الرسول إلا البلاغ. والمعنى فرح المنافقون الذين تركتهم بعدك بعدم خروجهم معك خلافا لك

[ 359 ]

- أو بعدك - وكرهوا ان يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. وقوله تعالى: (وقالوا لا تنفروا في الحر) خاطبوا بذلك غيرهم ليخذلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويبطلوا مسعاه في تنفير الناس إلى الغزوة، ولذلك أمره الله تعالى ان يجيب عن قولهم ذلك بقوله: (قل نار جهنم اشد حرا) أي ان الفرار عن الحر بالقعود ان انجاكم منه لم ينجكم مما هو اشد منه وهو نار جهنم التى هي اشد حرا فان الفرار عن هذا الهين يوقعكم في ذاك الشديد. ثم أفاد بقوله: (لو كانوا يفقهون) المصدر بلو التمنى اليأس من فقههم وفهمهم. قوله تعالى: (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون) تفريع على تخلفهم عن الجهاد بالاموال والانفس وفرحهم با لقعود عن هذه الفريضة الالهية الفطرية التى لا سعادة للانسان في حياته دونها. وقوله: (جزاء بما كانوا يكسبون) والباء للمقابلة أو السببية دليل على ان المراد بالضحك القليل هو الذى في الدنيا فرحا بالتخلف والقعود ونحو ذلك، وبالبكاء الكثير ما كان في الاخرة في نار جهنم التى هي اشد حرا فان الذى فرع عليه الضحك والبكاء هو ما في الاية السابقة، وهو فرحهم بالتخلف وخروجهم من حر الهواء إلى حر نار جهنم. فالمعنى: فمن الواجب بالنظر إلى ما عملوه واكتبسوه ان يضحكوا ويفرحوا قليلا في الدنيا وان يبكوا ويحزنوا كثيرا في الاخرة فالامر بالضحك والبكاء للدلالة على ايجاب السبب وهو ما كسبوه من الاعمال لذلك. واما حمل الامر في قوله: (فليضحكوا) وقوله: (وليبكوا) على الامر المولوي لينتج تكليفا من التكاليف الشرعية فلا يناسبه قوله: (جزاء بما كانوا يكسبون). ويمكن ان يكون المراد الامر بالضحك القليل والبكاء الكثير معا ما هو في الدنيا جزاء لسابق اعمالهم فانها هدتهم إلى راحة وهمية في ايام قلائل وهى ايام قعودهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم إلى هوان وذلة عند الله ورسوله والمؤمنين ما داموا احياء في الدنيا ثم إلى شديد حر النار في الاخرة بعد موتهم. قوله تعالى: (فان رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج) إلى آخر

[ 360 ]

الاية المراد بالقعود اول مرة التخلف عن الخروج في اول مرة كان عليهم ان يخرجوا فيها فلم يخرجوا، ولعلها غزوة تبوك كما يهدى إليه السياق. والمراد بالخالفين المتخلفون بحسب الطبع كالنساء والصبيان والمرضى والزمنى وقيل: المتخلفون من غير عذر، وقيل: الخالفون هم اهل الفساد، والباقى واضح. وفي قوله: (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم) الاية دلالة على ان هذه الاية وما في سياقها المتصل من الايات السابقة اللاحقة نزلت ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفره ولما يرجع إلى المدينة، وهو سفره إلى تبوك. قوله تعالى: (ولا تصل على احد منهم مات ابدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) نهى عن الصلاة لمن مات من المنافقين والقيام على قبره وقد علل النهى بأنهم كفروا وفسقوا وماتوا على فسقهم، وقد علل لغوية الاستغفار لهم في قوله تعالى: السابق: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) آية 80 من السورة، وكذا في قوله (سواء عليهم أستغفرت لهم ام لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدى القوم الفاسقين) المنافقون: 6 بالكفر والفسق أيضا. ويتحصل من الجميع ان من فقد الايمان بالله باستيلاء الكفر على قلبه وإحاطته به فلا سبيل له إلى النجاة يهتدى به، وأن الايات الثلاث جميعا تكشف عن لغوية الاستغفار للمنافقين والصلاة على موتاهم والقيام على قبورهم للدعاء لهم. وفي الاية إشارة إلى ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلى على موتى المسلمين ويقوم على قبورهم للدعاء. قوله تعالى: (ولا تعجبك اموالهم وأولادهم) الاية تقدم بعض ما يتعلق بالاية من الكلام في الاية 55 من السورة. قوله تعالى: (وإذا أنزلت سورة ان آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله) إلى آخر الايتين. الطول القدرة والنعمة، والخوالف هم الخالفون والكلام فيه كالكلام فيه، والباقى ظاهر. قوله تعالى: (لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم) لما ذم المنافقين في الايتين السابقتين بالرضا بالقعود مع الخوالف والطبع على قلوبهم

[ 361 ]

استدرك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا معه - والمراد بهم المؤمنون حقا الذين خلصت قلوبهم من رين النفاق بدليل المقابلة مع المنافقين - ليمدحهم بالجهاد بأموالهم وأنفسهم أي انهم لم يرضوا بالقعود ولم يطبع على قلوبهم بل نالوا سعادة الحياة والنور الالهى الذى يهتدون به في مشيهم كما قال تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس) الانعام: 122. ولذلك عقب الكلام بقوله: (وأولئك لهم الخيرات أولئك هم المفلحون) فلهم جميع الخيرات - على ما يقتضيه الجمع المحلى باللام - من الحياة الطيبة ونور الهدى والشهادة وسائر ما يتقرب به إلى الله سبحانه، وهم المفلحون الفائزون بالسعادة. قوله تعالى: (أعد الله لهم جنات تجرى) الاية الاعداد هو التهيئة وقد عبر بالاعداد دون الوعد لان الامور بخواتيمها وعواقبها فلو كان وعدا وهو وعد لجميع من آمن معه لكان قضاء حتميا واجب الوفاء سواء بقى الموعودون على صفاء إيمانهم وصلاح اعمالهم أو غيروا والله لا يخلف الميعاد. والاصول القرآنية لا تساعد على ذلك، ولا الفطرة السليمة ترضى ان ينسب إلى الله سبحانه ان يطبع بطابع المغفرة والجنة الحتمية على احد لعمل عمله من الصالحات ثم يخلى بينه وبين ما شاء وأراد. ولذلك نجده سبحانه إذا وعد وعدا علقه على عنوان من العناوين العامة كالايمان والعمل الصالح يدور معه الوعد الجميل من غير ان يخص به اشخاصا بأعيانهم فيفيد التناقض بالجمع بين التكليف والتأمين كما قال تعالى: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات) الاية 72 من السورة، وقال تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم - إلى ان قال - وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) الفتح: 29. قوله تعالى: (وجاء المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم) الاية. الظاهر أن المراد بالمعذرين هم اهل العذر كالذى لا يجد نفقه ولا سلاحا بدليل قوله: (وقعد الذين كذبوا) الاية، والسياق يدل على ان في الكلام قياسا لاحدى الطائفتين إلى الاخرى ليظهر به لؤم المنافقين وخستهم وفساد قلوبهم وشقاء نفوسهم، حيث ان فريضة الجهاد الدينية والنصرة لله ورسوله هيج لذلك المعذرين من الاعراب وجاءوا

[ 362 ]

إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستأذنونه، ولم يؤثر في هؤلاء الكاذبين شيئا. قوله تعالى: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج) المراد بالضعفاء بدلالة سياق الاية: الذين لا قوة لهم على الجهاد بحسب الطبع كالزمني كما ان المرضى لا قوة لهم عليه بحسب عارض مزاجي، والذين لا يجدون ما ينفقون لا قوة لهم عليه من جهة فقد المال ونحوه. فهؤلاء مرفوع عنهم الحرج والمشقة أي الحكم بالوجوب الذى لو وضع كان حكما حرجيا، وكذا ما يستتبعه الحكم من الذم والعقاب على تقرير المخالفة. وقد قيد الله تعالى رفع الحرج عنهم بقوله: (إذا نصحوا لله ورسوله) وهو ناظر إلى الذم العقاب على المخالفة والقعود فإنما يرفع الذم والعقاب عن هؤلاء المعذورين إذا نصحوا لله ورسوله، وأخلصوا من الغش والخيانة ولم يجروا في قعودهم على ما يجرى عليه المنافقون المتخلفون من تقليب الامور وإفساد القلوب في مجتمع المؤمنين، وإلا فيجرى عليهم ما يجرى على المنافقين من الذم والعقاب. وقوله: (ما على المحسنين من سبيل) في مقام التعليل لنفى الحرج عن الطوائف المذكورين بشرط ان ينصحوا لله ورسوله أي لانهم يكونون حينئذ محسنين وما على المحسنين من سبيل فلا سبيل يتسلط عليهم يؤتون منه فيصابون بما يكرهونه. ففى السبيل كناية عن كونهم في مأمن مما يصيبهم من مكروه كأنهم في حصن حصين لا طريق إلى داخله يسلكه الشر إليهم فيصيبهم، والجملة عامة بحسب المعنى وإن كان مورد التطبيق خاصا قوله تعالى: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت) الاية قال في المجمع: الحمل إعطاء المركوب من فرس أو بعير أو غير ذلك تقول: حمله يحمله حملا إذا أعطاه ما يحمل عليه قال: ألا فتى عنده خفان يحملنى عليهما إننى شيخ على سفر قال: والفيض الجرى عن امتلاء من قولهم: فاض الاناء بما فيه، والحزن ألم في القلب لفوت امر مأخوذ من حزن الارض وهى الارض الغليظة المسلك. انتهى. وقوله: (ولا على الذين) الاية. موصول صلته قوله: (تولوا) الاية، وقوله: (إذا ما اتوك لتحملهم) كالشرك والجزاء والمجموع ظرف لقوله: تولوا) وحزنا

[ 363 ]

مفعول له، (والا يجدوا) منصوب بنزع الخافض. والمعنى: ولا حرج على الفقراء الذين إذا ما اتوك لتعطيهم مركوبا يركبونه وتصلح سائر ما يحتاجون إليه من السلاح وغيره قلت لا أجد ما احملكم عليه تولوا والحال ان اعينهم تمتلئ وتسكب دموعا للحزن من ان لا يجدوا - أو لان لا يجدوا - ما ينفقونه في سبيل الله للجهاد مع اعدائه. وعطف هذا الصنف على ما تقدمه من عطف الخاص على العام عناية بهم لانهم في أعلى درجة من النصح واحسانهم ظاهر. قوله تعالى: (إنما السبيل على الذين يستأذنوك وهم اغنياء) الاية، القصر للافراد والمعنى ظاهر. قوله تعالى: (يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم) إلى آخر الاية. خطاب الجمع للنبى صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين جميعا، وقوله: (لن نؤمن لكم) أي لن نصدقكم على ما تعتذرون به بناء على تعدية الايمان باللام كالباء - أو لن نصدق تصديقا ينفعكم - بناء على كون اللام للنفع - والجملة تعليل لقوله: (لا تعتذروا) كما أن قوله: (قد نبأنا الله من اخباركم) تعليل لهذه الجملة. والمعنى يعتذر المنافقون اليكم عند رجوعكم من الغزوة إليهم قل يا محمد لهم: لا تعتذروا الينا لانا لن نصدقكم فيما تعتذرون به لان الله قد اخبرنا ببعض اخباركم مما يظهر به نفاقكم وكذبكم فيما تعتذرون به، وسيظهر عملكم ظهور شهود لله ورسوله ثم تردون إلى الله الذى يعلم الغيب والشهادة يوم القيامة فيخبركم بحقائق اعمالكم. وفي قوله: (وسيرى الله عملكم ورسوله) الخ في إيضاحه كلام سيمر بك عن قريب. قوله تعالى: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم) الاية أي لتعرضوا عنهم فلا تتعرضوا لهم بالعتاب والتقريع وما يتعقب ذلك فأعرضوا عنهم لا تصديقا لهم فيما يحلفون له من الاعذار بل لانهم رجس ينبغى أن لا يقترب منهم ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون. قوله تعالى: (يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فان الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) أي هذا الحلف منهم كما كان للتوسل إلى صرفكم عنهم ليأمنوا

[ 364 ]

الذم والتقريع كذلك هو للتوسل إلى رضاكم عنهم أما الاعراض فافعلوه لانهم رجس لا ينبغى لنزاهة الايمان وطهارته ان تتعرض لرجس النفاق والكذب وقذارة الكفر والفسق، وأما الرضى فاعلموا انكم ان ترضوا عنهم فان الله لا يرضى عنهم لفسقهم والله لا يرضى عن القوم الفاسقين. فالمراد أنكم إن رضيتم عنهم فقد رضيتم عمن لم يرض الله عنه أي رضيتم بخلاف رضى الله، ولا ينبغى لمؤمن ان يرضى عما يسخط ربه فهو ابلغ كناية عن النهى عن الرضا عن المنافقين. (بحث روائي) في الدر المنثور في قوله تعالى: (فرح المخلفون) الاية أخرج ابن أبى حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه - عليهما السلام - قال: كانت غزوة تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهى غزوة الحر (قالوا لا تنفروا في الحر) وهى غزوة العسرة. وفيه أخرج ابن جرير وابن ابى حاتم وابن مردويه عن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر الناس ان ينبعثوا معه وذلك في الصيف فقال رجال: يا رسول الله ان الحر شديد ولا نستطيع الخروج فلا تنفروا في الحر فقال الله (قل نار جهنم اشد حرا لو كانوا يفقهون) فإمره بالخروج. أقول: ظاهر الاية أنهم إنما قالوه ليخذلوا الناس عن الخروج، وظاهر الحديث أنهم إنما قالوه إشارة فلا يتطابقان. وفيه أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظى وغيره قالوا: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حر شديد إلى تبوك فقال رجل من بنى سلمة: لا تنفروا في الحر فأنزل الله: (قل نار جهنم أشد حرا) الاية. أقول: تقدمت أخبار في قوله تعالى: (ومنهم من يقول ائذن لى ولا تفتني) الاية أن القائل لقوله: (لا تنفروا في الحر) هو جد بن قيس. وفي الدر المنثور ايضا في قوله تعالى: (ولا تصل على احد منهم) الاية أخرج البخاري ومسلم وابن أبى حاتم وابن المنذر وابو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل

[ 365 ]

عن ابن عمر قال: لما توفى عبد الله بن أبى بن سلول إتى ابنه عبد الله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأله أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه فأعطاه ثم سأله ان يصلى عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقام عمر بن الخطاب فأخذ ثوبه فقال: يا رسول الله أتصلى عليه وقد نهاك الله أن تصلى على المنافقين ؟ فقال: إن ربى خيرنى وقال: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم، وسأزيد على السبعين فقال: إنه منافق فصلى عليه فأنزل الله تعالى: (ولا تصل على احد منهم مات ابدا ولا تقم على قبره) فترك الصلاة عليهم. أقول: وفي هذا المعنى روايات أخرى رواها اصحاب الجوامع ورواة الحديث عن عمر بن الخطاب وجابر وقتادة، وفي بعضها انه كفنه في قميصه ونفث في جلده ونزل في قبره. وفيه اخرج احمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن ابى حاتم والنحاس وابن حبان وابن مردويه وابو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: سمعت عمر يقول: لما توفى عبد الله بن إبى دعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة عليه فقام عليه فلما وقف قلت: أتصلى على عدو الله عبد الله بن أبى القائل كذا وكذا والقائل كذا وكذا - أعدد أيامه - ورسول الله يتبسم حتى إذا اكثرت قال: يا عمر أخر عنى إنى قد خيرت قد قيل لى: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ان تستغفر لهم سبعين مرة، فلو أعلم انى ان زدت على السبعين غفر له لزدت عليها ثم صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشى معه حتى قام على قبره حتى فرغ منه. فعجبت لى ولجرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم فو الله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الايتان: (ولا تصل على احد منهم مات ابدا ولا تقم على قبره) فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق بعده حتى قبضه الله عزوجل. وفيه أخرج ابن ابى حاتم عن الشعبى ان عمر بن الخطاب قال: لقد أصبت في الاسلام هفوة ما أصبت مثلها قط أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يصلى على عبد الله بن أبى فأخذت بثوبه فقلت: والله ما امرك الله بهذا. لقد قال الله: (استغفر لهم أو لا تستغفر) لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم (فقال رسول الله صلى االله عليه وسلم: قد خيرنى ربى فقال (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم). فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على شفير القبر فجعل الناس يقولون لابنه، يا حباب افعل

[ 366 ]

كذا يا حباب افعل كذا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الحباب اسم شيطان انت عبد الله. وفيه اخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس ان ابن عبد الله بن أبى قال له ابوه: اطلب لى ثوبا من ثياب النبي صلى الله عليه وسلم فكفني فيه ومره ان يصلى على قال: فأتاه فقال: يا رسول الله قد عرفت شرف عبد الله وهو يطلب إليك ثوبا من ثيابك نكفنه فيه وتصلى عليه. فقال عمر: يا رسول الله قد عرفت عبد الله ونفاقه أتصلى عليه وقد نهاك الله ان تصلى عليه ؟ فقال: وأين ؟ فقال: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) قال: فإنى سأزيد على سبعين فأنزل الله: (ولا تصل على احد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره) الاية قال: فأرسل إلى عمر فأخبره بذلك، وإنزل الله: (سواء عليهم استغفرت لهم ام لم تستغفر لهم). أقول: وقد ورد استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبى وصلاته عليه في بعض المراسيل من روايات الشيعة ايضا اوردها العياشي والقمى في تفسيريهما، وقد تقدم خبر القمى. وهذه الروايات على ما فيها من بعض التناقض والتدافع واشتمالها على التعارض فيما بينها يدفعها الايات الكريمة دفعا بينا لا مرية فيه: اما اولا فلظهور قوله تعالى: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ان تستغفر لهم) سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ظهورا بينا في ان المراد بالاية بيان لغوية الاستغفار للمنافقين دون التخيير، وان العدد جئ به لمبالغة الكثرة لا لخصوصية في السبعين بحيث ترجى المغفرة مع الزائد على السبعين. والنبى صلى الله عليه وسلم اجل من ان يجهل هذه الدلالة فيحمل الاية على التخيير ثم يقول سأزيد على سبعين ثم يذكره غيره بمعنى الاية فيصر على جهله حتى ينهاه الله عن الصلاة وغيرها بآية اخرى ينزلها عليه. على ان جميع هذه الايات المتعرضة للاستغفار للمنافقين والصلاة عليهم كقوله: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) وقوله: (سواء عليهم استغفرت لهم ام لم تستغفر لهم) وقوله: (ولا تصل على احد منهم مات ابدا) تعلل النهى واللغوية بكفرهم وفسقهم، حتى قوله تعالى في النهى عن الاستغفار للمشركين: (ما كان للنبى والذين

[ 367 ]

آمنوا ان يستغفروا للمشركين ولو كانوا اولى قربى من بعد ما تبين لهم انهم اصحاب الجحيم) آية: 113 من السورة ينهى عن الاستغفار معللا ذلك بالكفر وخلود النار، وكيف يتصور مع ذلك جواز الاستغفار لهم والصلاة عليهم ؟ وثانيا: ان سياق الايات التى منها قوله: (ولا تصل على احد منهم مات ابدا) الاية صريح في ان هذه الاية إنما نزلت والنبى صلى الله عليه وسلم في سفره إلى تبوك ولما يرجع إلى المدينة، وذاك في سنة ثمان، وقد وقع موت عبد الله بن أبى بالمدينة سنة تسع من الهجرة كل ذلك مسلم من طريق النقل. فما معنى قوله في هذه الروايات: ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى على عبد الله وقام على قبره ثم انزل الله عليه: (ولا تصل على احد منهم مات ابدا) الاية ؟ واعجب منه ما وقع في بعض الروايات السابقة ان عمر قال للنبى صلى الله عليه وسلم: اتصلى عليه وقد نهاك عن الصلاة للمنافقين فقال: ان ربى خيرنى ثم انزل الله: (ولا تصل على احد منهم) الاية. واعجب منه ما في الرواية الاخيرة من نزول قوله: (سواء عليهم أستغفرت لهم ام لم تستغفر لهم) الاية، والاية من سورة المنافقون وقد نزلت بعد غزاة بنى المصطلق وكانت في سنة خمس وعبد الله بن أبى حى عندئذ وقد حكى في السورة قوله: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل. وقد اشتمل بعض هذه الروايات وتعلق به بعض من انتصر لها على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انما استغفر وصلى على عبد الله ليستميل قلوب رجال منافقين من الخزرج إلى الاسلام، وكيف يستقيم ذلك ؟ وكيف يصح ان يخالف النبي صلى الله عليه وآل وسلم النص الصريح من الايات استمالة لقلوب المنافقين ومداهنة معهم ؟ وقد هدده الله على ذلك بأبلغ التهديد في مثل قوله: (إذا لاذقناك ضعف الحياة وضعف المماة) الاية اسرى: 75. فالوجه ان هذه الروايات موضوعة يجب طرحها بمخالفة الكتاب. وفي الدر المنثور في قوله: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) الاية اخرج ابن مردويه عن سعد بن ابى وقاص ان على بن ابى طالب خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء ثنية الوداع يريد تبوك، وعلى يبكى ويقول تخلفنى مع الخوالف ؟ فقال رسول الله صى الله عليه وسلم: ألا ترضى ان تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة.

[ 368 ]

أقول: والرواية مرويد بطرق كثيرد من طرق الفريقين. وفي تفسير العياشي عن جابر عن ابى جعفر عليه السلام في قوله: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) قال: مع النساء. وفي الدر المنثور اخرج عبد الرزاق في المصنف وابن ابى شيبة وأحمد والبخاري وأبو الشيخ وابن مردويه عن انس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزود تبوك فأشرف على المدينة قال: لقد تركتم بالمدينة رجالا ما سرتم في مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم فيه. قالوا: يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة ؟ قال: حبسهم العذر. وفي المجمع في قوله تعالى: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى) الايتين قيل: إن الاية الاولى نزلت في عبد الله بن زائدة وهو ابن أم مكتوم وكان ضرير البصر جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبى الله إنى شيخ ضرير خفيف الحال نحيف الجسم وليس لى قائد فهل لى رخصة في التخلف عن الجهاد ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الاية. عن الضحاك، وقيل: نزلت في عائذ بن عمرو وأصحابه. عن قتادة. والاية الثانية نزلت في البكائين وهم سبعة نفر منهم: عبد الرحمن بن كعب وعلبة بن زيدو عمرو بن ثعلبة بن غنمة وهؤلاء من بنى النجار، وسالم بن عمير وهرمى بن عبد الله وعبد الله بن عمرو بن عوف [ أ ] وعبد الله بن مغفل من مزينة جاءوا إلى رسول الله فقالوا يا رسول الله احملنا فإنه ليس لنا ما نخرج عليه فقال: لا اجد ما احملكم عليه عن ابى حمزة الثمالى. وقيل: نزلت في سبعة من قبائل شتى اتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: احملنا على الخفاف والنعال. عن محمد بن كعب وابن إسحاق. وقيل: كانوا جماعة من مزينة. عن مجاهد، وقيل: كانوا سبعة من فقراء الانصار فلما بكوا حمل عثمان منهم رجلين، والعباس بن عبد المطلب رجلين، ويامين ابن كعب النضرى ثلاثة عن الواقدي قال: وكان الناس بتبوك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين الفا منهم عشرة آلاف فارس. أقول: والروايات في أسماء البكائين مختلفة اختلافا شديدا. وفي تفسير القمى قال: قال: وإنما سأل هؤلاء البكاؤن نعلا يلبسونها

[ 369 ]

وفي المعاني بإسناده عن ثعلبة عن بعض اصحابنا عن ابى عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: (عالم الغيب والشهادة) فقال: الغيب ما لم يكن والشهادة ما قد كان. أقول: وهو من باب إراءة بعض المصاديق واللفظ أعم. وفي تفسير القمى قال: ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك كان أصحابه المؤمنون يتعرضون المنافقين ويؤذونهم فأنزل الله: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم) إلى آخر الايتين. وفي المجمع قيل: نزلت الايات في جد بن قيس ومتعب بن قشير وأصحابهما من المنافقين وكانوا ثمانين رجلا، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة راجعا عن تبوك قال: لا تجالسوهم ولا تكلموهم. عن ابن عباس. * * * الاعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم - 97. ومن الاعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم - 98. ومن الاعراب من يؤمن بالله واليوم الاخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم - 99. والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجرى تحتها الانهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم - 100. وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون

[ 370 ]

إلى عذاب عظيم - 101. وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم - 102. خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم - 103. ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم - 104. وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون - 105. وآخرون مرجون لامر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم - 106. (بيان) الكلام جار على الغرض السابق يبين به حال الاعراب في كفرهم ونفاقهم وإيمانهم وفي خلال الايات آية الصدقة. قوله تعالى: (الاعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله) الاية، قال الراغب في المفردات: العرب ولد اسماعيل، والاعراب جمعه في الاصل، وصار ذلك اسما لسكان البادية: (قالت الاعراب آمنا. والاعراب أشد كفرا ونفاقا. ومن الاعراب من يؤمن بالله واليوم الاخر)، وقيل في جمع الاعراب: أعاريب، قال الشاعر: أعاريب ذوو فخر بإفك وألسنة لطاف في المقال والاعرابي في التعارف صار اسما للمنسوب إلى سكان البادية، والعربي المفصح والاعراب البيان، انتهى موضع الحاجة. يبين تعالى حال سكان البادية وأنهم أشد كفرا ونفاقا لانهم لبعدهم عن المدنية والحضارة، وحرمانهم من بركات الانسانية من العلم والادب أقسى وأجفى، فهم أجدر وأحرى أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله من

[ 371 ]

المعارف الاصلية والاحكام الشرعية من فرائض وسنن وحلال وحرام. قوله تعالى: (ومن الاعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر) الاية، قال في المجمع: المغرم الغرم وهو نزول نائبة بالمال من غير خيانة، وأصله لزوم الامر، ومنه قوله: إن عذابها كان غراما، وحب غرام أي لازم، والغريم يقال لكل واحد من المتداينين للزوم احدهما الاخر وغرمته كذا أي ألزمتة إياه في ماله، انتهى. والدائرة الحادثة وتغلب في الحوادث السوء كأن الحوادث السوء تدور بين الناس فتنزل كل يوم بقوم فتربص الدوائر بالمؤمنين انتظار نزول الحوادث السوء عليهم للتخلص من سلطتهم والرجوع إلى رسوم الشرك والضلال. وقوله: (يتخذ ما ينفق مغرما) أي يفرض الانفاق غرما أو المال الذى ينفقه مغرما - على أن يكون ما مصدرية أو موصولة - والمراد الانفاق في الجهاد أو أي سبيل من سبل الخير على ما قيل، ويمكن ان يكون المراد الانفاق في خصوص الصدقات ليكون الكلام كالتوطئة لما سيجئ بعد عدة آيات من حكم أخذ الصدقة من اموالهم، ويؤيده ما في الاية التالية من قوله: (ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول) فانه كالتوطئة لقوله في آية الصدقة: (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم). فمعنى الاية: ومن سكان البادية من يفرض الانفاق في سبيل الخير أو في خصوص الصدقات غرما وخسارة وينتظر نزول الحوادث السيئة بكم، عليهم دائرة السوء - قضاء منه تعالى أو دعاء عليهم - والله سميع للاقوال عليم بالقلوب. قوله تعالى: (ومن الاعراب من يؤمن بالله واليوم الاخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول) الخ، الظاهر أن قوله: (صلوات الرسول) عطف على قوله: (ما ينفق) وأن الضمير في قوله: (ألا أنها قربة) عائد إلى ما ينفق وصلوات الرسول. ومعنى الاية ومن الاعراب من يؤمن بالله فيوحده من غير شرك ويؤمن باليوم الاخر فيصدق الحساب الجزاء ويتخذ إنفاق المال لله وما يتبعه من صلوات الرسول ودعواته بالخير والبركة، كل ذلك قربات عند الله وتقربات منه إليه ألا إن هذا الانفاق وصلوات الرسول قربة لهم، والله يعدهم بأنه سيدخلهم في رحمته لانه غفور للذنوب رحيم بالمؤمنين به والمطيعين له.

[ 372 ]

قوله تعالى: (والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان) الخ القراءة المشهورة (والانصار) بالكسر عطفا على (المهاجرين) والتقدير: السابقون الاولون من المهاجرين والسابقون الاولون من الانصار والذين اتبعوهم بإحسان، وقرء يعقوب: والانصار بالرفع فالمراد به جميع الانصار دون السابقين الاولين منهم فحسب. وقد اختلفت الكلمة في المراد بالسابقين الاولين فقيل: المراد بهم من صلى إلى القبلتين، وقيل: من بايع بيعة الرضوان وهى بيعة الحديبية، وقيل: هم أهل بدر خاصة، وقيل: هم الذين أسلموا قبل الهجرة، وهذه جميعا وجوه لم يوردوا لها دليلا من جهة اللفظ. والذى يمكن أن يؤيده لفظ الاية بعض التأييد هو أن بيان الموضوع - السابقون الاولون - بالوصف بعد الوصف من غير ذكر أعيان القوم وأشخاصهم يشعر بأن الهجرة والنصرة هما الجهتان اللتان روعى فيهما السبق والاولية. ثم الذى عطف عليهم من قوله: (والذين اتبعوهم بإحسان، يذكر قوما ينعتهم بالاتباع ويقيده بأن يكون بإحسان والذى يناسب وصف الاتباع أن يترتب عليه هو وصف السبق دون الاولية فلا يقال: أول وتابع وإنما يقال: سابق وتابع، وتصديق ذلك قوله تعالى: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم) إلى ان قال: والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم) إلى ان قال: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون: (ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان) الايات الحشر: 10. فالمراد بالسابقين هم السابقون إلى الايمان من بين المسلمين من لدن طلوع الاسلام إلى يوم القيامة. ولكون السبق ويقابله اللحوق والاتباع من الامور النسبية، ولازمه كون مسلمى كل عصر سابقين في الايمان بالقياس إلى مسلمى ما بعد عصرهم كما أنهم لاحقون بالنسبة إلى من قبلهم قيد (السابقون) بقوله: (الاولون) ليدل على كون المراد بالسابقين هم الطبقة الاولى منهم. وإذ ذكر الله سبحانه ثالث الاصناف الثلاثة بقوله: (والذين اتبعوهم بإحسان) ولم يقيده بتابعي عصر دون عصر ولا وصفهم بتقدم وأولية ونحوهما وكان شاملا لجميع من يتبع السابقين الاولين كان لازم ذلك أن يصنف المؤمنون غير المنافقين من يوم البعثة إلى يوم البعث في الاية ثلاثة اصناف: السابقون الاولون من المهاجرين، و السابقون

[ 373 ]

الاولون من الانصار، والذين اتبعوهم بإحسان، والصنفان الاولان فاقدان لوصف التبعية وإنما هما إمامان متبوعان لغيرهما والصنف الثالث ليس متبوعا إلا بالقياس. وهذا نعم الشاهد على ان المراد بالسابقين الاولين هم الذين أسسوا أساس الدين ورفعوا قواعده قبل ان يشيد بنيانه ويهتز راياته صنف منهم بالايمان واللحوق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والصبر على الفتنة والتعذيب، والخروج من ديارهم وأموالهم بالهجرة إلى الحبشة والمدينة، وصنف بالايمان ونصرة الرسول وإيوائه وإيواء من هاجر إليهم من المؤمنين والدفاع عن الدين قبل وقوع الوقائع. وهذا ينطبق على من آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة ثم هاجر قبل وقعة بدر التى منها ابتدأ ظهور الاسلام على الكفر أو آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وآواه وتهيأ لنصرته عند ما هاجر إلى المدينة. ثم إن قوله: (والذين اتبعوهم بإحسان) قيد فيه اتباعهم بإحسان ولم يرد الاتباع في الاحسان بأن يكون المتبوعون محسنين ثم يتبعهم التابعون في إحسانهم ويقتدوا بهم فيه - على أن يكون الباء بمعنى في - ولم يرد الاتباع بواسطة الاحسان - على ان يكون الباء للسببية أو الالية - بل جئ بالاحسان منكرا، والانسب له كون الباء بمعنى المصاحبة فالمراد أن يكون الاتباع مقارنا لنوع ما من الاحسان مصاحبا له، وبعبارة اخرى يكون الاحسان وصفا للاتباع. وإنا نجده تعالى في كتابه لا يذم من الاتباع إلا ما كان عن جهل وهوى كاتباع المشركين آباءهم، واتباع اهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم وأسلافهم عن هوى واتباع الهوى واتباع الشيطان فمن اتبع شيئا من هؤلاء فقد أساء في الاتباع ومن اتبع الحق لا لهوى متعلق بالاشخاص وغيرهم فقد احسن في الاتباع، قال تعالى: (الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه اولئك الذين هداهم الله) الزمر: 18 ومن الاحسان في الاتباع كمال مطابقة عمل التابع لعمل المتبوع ويقابله الاساءة فيه. فالظاهر أن المراد بالذين اتبعوهم بإحسان ان يتبعوهم بنوع من الاحسان في الاتباع وهو ان يكون الاتباع بالحق - وهو اتباعهم لكون الحق معهم - ويرجع إلى اتباع الحق بالحقيقة بخلاف اتباعهم لهوى فيهم أو في اتباعهم، وكذا مراقبه التطابق. هذا ما يظهر من معنى الاتباع بإحسان، وأما ما ذكروه من ان المراد كون

[ 374 ]

الاتباع مقارنا لاحسان في المتبع عملا بأن يأتي بالاعمال الصالحة والافعال الحسنة فهو لا يلائم كل الملائمة التنكير الدال على النوع في الاحسان، وعلى تقدير التسليم لا مفر فيه من التقييد بما ذكرنا فإن الاتباع للحق وفي الحق يستلزم الاتيان بالاعمال الحسنة الصالحة دون العكس وهو ظاهر. فقد تلخص أن الاية تقسم المؤمنين من الامة إلى ثلاثة أصناف: صنفان هما السابقون الاولون من المهاجرين والانصار، والصنف الثالث هم الذين اتبعوهم بإحسان. وظهر مما تقدم إولا: ان الاية تمدح الصنفين الاولين، بالسبق إلى الايمان والتقدم في إقامة صلب الدين ورفع قاعدته، و تفضيلهم على غيرهم على ما يفيده السياق. وثانيا: أن (من) في قوله: (من المهاجرين والانصار) تبعيضية لا بيانية لما تقدم من وجه فضلهم، ولما ان الاية تذكر ان الله رضى عنهم ورضوا عنه، والقرآن نفسه يذكر ان منهم من في قلبه مرض ومنهم سماعون للمنافقين، ومنهم من يسميه فاسقا، ومنهم من تبرا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عمله ولا معنى لرضى الله عنهم، والله لا يرضى عن القوم الفاسقين. وثالثا: ان الحكم بالفضل ورضى الله سبحانه في الاية مقيد بالايمان والعمل الصالح على ما يعطيه السياق فإن الاية تمدح المؤمنين في سياق تذم فيه المنافقين بكفرهم وسيئات أعمالهم ويدل على ذلك سائر المواضع التى مدحهم الله فيها أو ذكرهم بخير ووعدهم وعدا جميلا فقد قيد جميع ذلك بالايمان والعمل الصالح كقوله تعالى: (للفقراء المهاجرين الذين إخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله) إلى آخر الايات الثلاث الحشر: 8. وقوله فيما حكاه من دعاء الملائكة لهم: (ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التى وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم) المؤمن: 8. وقوله: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم - إلى ان قال - وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأحرا عظيما) الفتح: 29. وقوله: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ كل امرء بما كسب رهين) الطور: 21 انظر إلى موضع قوله:

[ 375 ]

(بإيمان) وقوله: كل امرء (الخ). ولو كان الحكم في الاية غير مقيد بقيد الايمان والعمل الصالح وكانوا مرضيين عند الله مغفورا لهم أحسنوا أو أساءوا واتقوا أو فسقوا كان ذلك تكذيبا صريحا لقوله تعالى: (فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) التوبة: 96، وقوله: (والله لا يهدى القوم الفاسقين) التوبة: 80، وقوله: (والله لا يحب الظالمين) آل عمران: 57 إلى غير ذلك من الايات الكثيرة الدالة مطابقة أو التزاما ان الله لا يرضى عن الظالم والفاسق وكل من لا يطيعه في امر أو نهى، وليست الايات مما يقبل التقييد أو النسخ وكذا أمثال قوله تعالى خطابا للمؤمنين: (ليس بأمانيكم ولا اماني اهل الكتاب من يعمل سوء يجز به) النساء: 123. على ان لازم عدم تقييد الحكم في هذه الاية تقييد جميع الايات الدالة على الجزاء والمشتملة على الوعيد والتهديد، وهى آيات جمة في تقييدها اختلال نظام الوعد والوعيد وإلغاء معظم الاحكام والشرائع، وبطلان الحكمة، ولا فرق في ذلك بين ان نقول بكون (من) تبعيضية والفضل لبعض المهاجرين والانصار أو بيانية والفضل للجميع والرضى الالهى للكل، وهو ظاهر. وقوله تعالى: (رضى الله عنهم ورضوا عنه) الرضى منا موافقة النفس لفعل من الافعال من غير تضاد وتدافع يقال: رضى بكذا أي وافقه ولم يمتنع منه، ويتحقق بعدم كراهته إياه سواء احبه أو لم يحبه ولم يكرهه فرضى العبد عن الله هو ان لا يكره بعض ما يريده الله ولا يحب بعض ما يبغضه ولا يتحقق إلا إذا رضى بقضائه تعالى وما يظهر من أفعاله التكوينية، وكذا بحكمه وما أراده منه تشريعا، وبعبارة اخرى إذا سلم له في التكوين والتشريع وهو الاسلام والتسليم لله سبحانه. وهذا بعينه شاهد آخر على ما تقدم ان الحكم في الاية مقيد بالايمان والعمل الصالح بمعنى ان الله سبحانه إنما يمدح من المهاجرين والانصار والتابعين من آمن به وعمل صالحا، ويخبر عن رضاه عنه وإعداده له جنات تجرى تحتها الانهار. وليس مدلول الاية ان من صدق عليه أنه مهاجر أو انصاري أو تابع فإن الله قد رضى عنه رضا لا سخط بعده أبدا وأوجب في حقه المغفرة والجنة سواء احسن بعد ذلك أو اساء، اتقى أو فسق.

[ 376 ]

وأما رضاه تعالى فإنما هو من اوصافه الفعلية دون الذاتية فإنه تعالى لا يوصف لذاته بما يصير معه معرضا للتغيير والتبدل كأن يعرضه حال السخط إذا عصاه ثم الرضى إذا تاب إليه، وإنما يرضى ويسخط بمعنى انه يعامل عبده معاملة الراضي من إنزال الرحمة وإيتاء النعمة أو معاملة الساخط من منع الرحمة وتسليط النقمة والعقوبة. ولذلك كان من الممكن ان يحدث له الرضى ثم يتبدل إلى السخط أو بالعكس غير ان الظاهر من سياق الاية ان المراد بالرضى هو الرضى الذى لا سخط بعده فإنه حكم محمول على طبيعة أخيار الامة من سابقيهم وتابعيهم في الايمان والعمل الصالح، وهذا امر لا مداخلة للزمان فيه حتى يصح فرض سخط بعد رضى وهو بخلاف قوله تعالى: (لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) الاية الفتح: 18 فإنه رضى مقيد بزمان خاص يصلح لنفسه لان يفرض بعده سخط. قوله تعالى: (وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن اهل المدينة) الاية حول الشئ ما يجاوره من المكان من اطرافه وهو ظرف، والمرد العتو والخروج عن الطاعة، والممارسة والتمرين على الشر وهو المعنى المناسب لقوله في الاية: (مردوا على النفاق) أي مرنوا عليه ومارسوا حتى اعتادوه. ومعنى الاية: وممن في حولكم أو حول المدينة من الاعراب الساكنين في البوادى منافقون مرنوا على النفاق ومن اهل المدينة أيضا منافقون معتادون على النفاق لا تعلمهم انت يا محمد نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم. وقد اختلفت كلماتهم في المراد من تعذيبهم مرتين. ما هما المرتان ؟ فقيل: يعنى مرة في الدنيا بالسبي والقتل ونحوهما ومرة بعذاب القبر، وقيل: في الدنيا بأخذ الزكاة وفي الاخرة بعذاب القبر، وقيل بالجوع مرتين وقيل مرة عند الاحتضار ومرة في القبر وقيل: بإقامة الحدود وعذاب القبر، وقيل: مرة بالفضيحة في الدنيا ومرة بالعذاب في القبر، وقيل غير ذلك، ولا دليل على شئ من هذه الاقوال، وإن كان ولا بد فأولها أولاها. قوله تعالى: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا) الاية، أي ومن الاعراب جماعة آخرون مذنبون لا ينافقون مثل غيرهم بل اعترفوا بذنوبهم لهم عمل صالح وعمل آخر سيئ خلطوا هذا بذلك من المرجو ان يتوب الله عليهم إن الله غفور رحيم.

[ 377 ]

وفي قوله: (عسى الله ان يتوب عليهم) إيجاد الرجاء في نفوسهم لتكون نفوسهم واقعة بين الخوف والرجاء من غير ان يحيط بها اليأس والقنوط، وفي قوله: (إن الله غفور رحيم) ترجيح جانب الرجاء. قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم) التطهير إزالة الاوساخ والقذارات من الشئ ليصفى وجوده ويستعد للنشوء والنماء وظهور آثاره وبركاته، والتزكية إنماؤه وإعطاء الرشد له بلحوق الخيرات وظهور البركات كالشجرة بقطع الزوائد من فروعها فتزيد في حسن نموها وجودة ثمرتها فالجمع بين التطهير والتزكية في الاية من لطيف التعبير. فقوله: (خذ من أموالهم صدقة) أمر للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بأخذ الصدقة من اموال الناس ولم يقل: من مالهم ليكون اشارة إلى انها مأخوذة من أصناف المال، وهى النقدان: الذهب والفضة، والانعام الثلاثة: الابل والبقر والغنم، والغلات الاربع: الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وقوله: (تطهرهم وتزكيهم بها) خطاب للنبى صلى الله عليه وآله وسلم، وليس وصفا لحال الصدقة، والدليل عليه ضمير بها الراجع إلى الصدقة أي خذ يا محمد من اصناف اموالهم صدقة تطهرهم انت وتزكيهم بتلك الصدقة أي أخذها. وقوله: (وصل عليهم) الصلاة عليهم هي الدعاء لهم والسياق يفيد انه دعاء لهم ولاموالهم بالخير والبركة وهو المحفوظ من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان يدعو لمعطى الزكاة ولماله بالخير والبركة. وقوله: (إن صلاتك سكن لهم) السكن ما يسكن إليه الشئ والمراد به أن نفوسهم تسكن إلى دعائك وتثق به وهو نوع شكر لسعيهم في الله كما أن قوله تعالى في ذيل الاية: (والله سميع عليم) سكن يسكن إليه نفوس المكلفين ممن يسمع الاية أو يتلوها. والاية تتضمن حكم الزكاة المالية التى هي من أركان الشريعة والملة على ما هو ظاهر الاية في نفسها، وقد فسرتها بذلك اخبار متكاثرة من طرق أئمة أهل البيت عليهم لسلام وغيرهم. قوله تعالى: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم) استفهام إنكارى بداعي تشويق الناس إلى إيتاء الزكاة

[ 378 ]

وذلك أنهم إنما يؤتون الصدقة لله وإنما يسلمونها إلى الرسول أو إلى عامله وجابيه بما أنه مأمور من قبل الله في اخذها فإيتاؤه إيتاء لله، وأخذه أخذ من الله فالله سبحانه هو الاخذ لها بالحقيقة، وقد قال تعالى في أمثاله: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم) الفتح: 10 وقال: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) الانفال: 13 وقال قولا عاما: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) النساء: 80. فإذا ذكر الناس بمثل قوله: (ألم يعلموا أن الله) الاية، انبعثت رغباتهم واشتاقوا أن يعاملوا ربهم فيصافحوه ويمسوا بأيديهم يده تنزه عن عوارض الاجسام وتعالى عن ملابسة الحدثان. ومقارنته الصدقة بالتوبة لما أن التوبة تطهر وإيتاء الصدقة تطهر فالتصدق بصدقة توبة مالية كما ان التوبة بمنزلة الصدقة في الاعمال والحركات، ولذلك عطف على صدر الاية قوله ذيلا: (وأن الله هو التواب الرحيم) فذكر عباده باسميه التواب والرحيم، وجمع فيهما التوبه والتصدق. وقد بان من الاية ان التصدق وإيتاء الزكاة نوع من التوبة. قوله تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) الاية، الاية على ظاهر اتصالها بما قبلها كأنها تخاطب المؤمنين وتسوقهم وتحرضهم إلى إيتاء الصدقات. غير أن لفظها مطلق لا دليل على تخصيص خطابها بالمتصدقين من المؤمنين ولا بعامة المؤمنين بل هي تشمل كل ذى عمل من الناس من الكفار والمنافقين والمؤمنين ولا أقل من شمولها للمنافقين والمؤمنين جميعا. إلا أن نظير الاية الذى مر أعنى قوله في سياق الكلام على المنافقين: (وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبؤكم بما كنتم تعملون) التوبة: 94 حيث ذكر الله ورسوله في رؤية عملهم ولم يذكر المؤمنين لا يخلو من إيماء إلى أن الخطاب في الاية التى نحن فيها للمؤمنين خاصة فإن ضم إحدى الايتين إلى الاخرى يخطر بالبال ان حقيقة أعمال المنافقين أعنى مقاصدهم من أعمالهم لما كانت خفية على ملا الناس فإنما يعلم بها الله ورسوله بوحى من الله تعالى، وأما المؤمنون فحقائق أعمالهم أعنى مقاصدهم منها وآثارها وفوائدها التى تتفرع عليها وهى شيوع التقوى وإصلاح شؤون المجتمع الاسلامي وإمداد الفقراء في معايشهم وزكاة الاموال ونماؤها يعلمها الله

[ 379 ]

تعالى ورسوله ويشاهدها المؤمنون فيما بينهم. لكن ظهور الاعمال بحقائق آثارها وعامة فوائدها أو مضراتها في محيط كينونتها وتبدلها بأمثالها وتصورها في أطوارها زمانا بعد زمان وعصرا بعد عصر مما لا يختص بعمل قوم دون عمل قوم، ولا مشاهدتها والتأثر بها بقوم دون قوم. فلو كان المراد من رؤية المؤمنين أعمالا لعاملين ظهور آثارها ونتائجها وبعبارة أخرى ظهور أنفسها في ألبسة نتائجها لهم لم يختص المشاهدة بقوم دون قوم ولا بعمل قوم دون عمل قوم فما بال الاعمال يراها المؤمنون ولا يراها المنافقون وهم أهل مجتمع واحد ؟ وما بال أعمال المنافقين لا يشاهدها المؤمنون وقد كونت في مجتمعهم وداخلت أعمالهم ؟ وهذا مع ما في الاية من خصوص السياق مما يقرب الذهن أن يفهم من الاية معنى آخر فإن قوله: (وثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبؤكم بما كنتم تعملون) يدل أولا على أن قوله: (فسيرى الله عملكم) الاية ناظر إلى ما قبل البعث وهى الدنيا لمكان قوله: (وثم تردون) فإنه يشير إلى يوم البعث وما قبله هو الدنيا. وثانيا: أنهم انما يوقفون على حقيقة أعمالهم يوم البعث وأما قبل ذلك فإنما يرون ظاهرها، وقد نبهنا على هذا المعنى كرارا في أبحاثنا السابقة، وإذ قصر علمهم بحقائق أعمالهم على إنبائه تعالى إياهم بها يوم القيامة وذكر رؤية الله ورسوله والمؤمنين أعمالهم قبل يوم البعث في الدنيا وقد ذكر الله مع رسوله وغيره وهو عالم بحقائقها وله أن يوحى إلى نبيه بها كان المراد بها مشاهدة الله سبحانه ورسوله والمؤمنون حقيقة أعمالهم، وكان المراد بالمؤمنين شهداء الاعمال منهم لا عامة المؤمنين كما يدل عليه أمثال قوله تعالى (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) البقرة: 143 وقد مر الكلام فيه في الجزء الاول من الكتاب. وعلى هذا فمعنى الاية: وقل يا محمد اعملوا ما شئتم من عمل خيرا أو شرا فسيشاهد الله سبحانه حقيقة عملكم ويشاهدها رسوله والمؤمنون - وهم شهداء الاعمال - ثم تردون إلى الله عالم الغيب والشهادة يوم القيامة فيريكم حقيقة عملكم. وبعبارة اخرى: ما عملتم من عمل خير أو شر فإن حقيقته مرئية مشهودة لله عالم الغيب والشهادة ثم لرسوله والمؤمنين في الدنيا ثم لكم أنفسكم معاشر العاملين يوم القيامة.

[ 380 ]

فالاية مسوقة لندب الناس إلى مراقبة أعمالهم بتذكيرهم ان لاعمالهم من خير أو شر حقائق غير مستورة بستر، وأن لها رقباء شهداء سيطلعون عليها ويرون حقائقها وهم رسول الله وشهداء الاعمال من المؤمنين والله من ورائهم محيط فهو تعالى يراها وهم يرونها، ثم إن الله سبحانه سيكشف عنها الغطاء يوم القيامة للعاملين أنفسهم كما قال: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) ق: 22 ففرق عظيم بين أن يأتي الانسان بعمل في الخلوة لا يطلع عليه أحد، وبين أن يعمل ذلك العمل بعينه بين ملا من الناظرين جلوه وهو يرى أنه كذلك. هذا في الاية التى نحن فيها، وأما الاية السابقة: (يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبؤكم بما كنتم تعملون) فإن وجه الكلام فيها إلى أشخاص من المنافقين بأعيانهم يأمر الله فيها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان يرد إليهم اعتذارهم، ويذكر لهم أولا أن الله قد نبأهم أي النبي والذين معه من المؤمنين في جيش الاسلام اخبارهم بنزول هذه الايات التى تقص اخبار المنافقين وتكشف عن مساوى أعمالهم. ثم يذكر لهم ان حقيقة أعمالهم غير مستورة عن الله سبحانه ولا خفية عليه وكذلك رسوله وحده ولم يكن معه احد من شهداء الاعمال ثم الله يكشف لهم أنفسهم عن حقيقة اعمالهم يوم القيامة. فهذا هو الفرق بين الايتين مع اتحادهما في ظاهر السياق حيث ذكر في الايه التى نحن فيها: الله ورسوله والمؤمنون، وفي الاية السابقة: الله ورسوله، واقتصر على ذلك. فهذا ما يعطيه التدبر في معنى الاية ومن لم يقنع بذلك ولم يرض دون ان يصور للاية معنى ظاهريا فليقل إن ذكره تعالى (الله ورسوله) في خطاب المنافقين إنما هو لاجل انهم إنما يريدون ان يكيدوا الله ورسوله ولا هم لهم في المؤمنون، وأما ذكره تعالى: (الله ورسوله والمؤمنين) في الخطاب العام فإنما الغرض فيه تحريضهم على العمل الصالح في مشهد من الملا الصالح ولم يعبأ بحال غيرهم من الكفار والمنافقين. فتدبر. قوله تعالى: (وآخرون مرجون لامر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم) الارجاء التأخير والاية معطوفة على قوله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ومعنى إرجائهم إلى امر الله انهم لا سبب عندهم يرجح لهم جانب العذاب أو جانب

[ 381 ]

المغفرة فامرهم يؤول إلى امر الله ما شاء وأراد فيهم فهو النافذ في حقهم. و هذه الاية تنطبق بحسب نفسها على المستضعفين الذين هم كالبرزخ بين المحسنين و المسيئين، وإن ورد في أسباب النزول ان الاية نازلة في الثلاثة الذين خلفوا ثم تابوا فأنزل الله توبتهم على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وسيجئ إن شاء الله تعالى. وكيف كان فالاية تخفى ما يؤول إليه عاقبه امرهم وتبقيها على إبهامها حتى فيما ذيلت به من الاسمين الكريمين: العليم والحكيم الدالين على ان الله سبحانه يحكم فيهم بما يقتضيه علمه وحكمته، وهذا بخلاف ما ذيل قوله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) حيث قال: (عسى الله ان يتوب عليهم ان الله غفور رحيم). (بحث روائي) في تفسير العياشي عن داود بن الحصين عن ابى عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله: (ومن الاعراب من يؤمن بالله واليوم الاخرو يتخذ ما ينفق قربات عند الله) أيثيبهم عليه ؟ قال: نعم. وفيه عن ابى عمرو الزبيري عن ابى عبد الله عليه السلام قال: إن الله سبق بين المؤمنين كما سبق بين الخيل يوم الرهان. قلت: اخبرني عما ندب الله المؤمن من الاسباق إلى الايمان. قال: قول الله تعالى (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والارض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله) وقال: (السابقون السابقون اولئك المقربون). وقال: (والسابقون الاولون من المهاجرين والانصارو الذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه) فبدأ بالمهاجرين الاولين على درجة سبقهم ثم ثنى بالانصار ثم ثلث بالتابعين وأمر [ هم ] بإحسان فوضع كل قوم على قدر درجاتهم ومنازلهم عنده. وفي تفسير البرهان عن مالك بن انس عن ابى صالح عن ابن عباس قال: (والسابقون الاولون) نزلت في امير المؤمنين عليه السلام وهو أسبق الناس كلهم بالايمان وصلى على القبلتين، وبايع البيعتين بيعة بدر وبيعة الرضوان، وهاجر الهجرتين مع جعفر من مكة إلى الحبشة ومن الحبشة إلى المدينة. أقول: وفي معناها روايات اخر.

[ 382 ]

وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه من طريق الاوزاعي حدثنى يحيى بن كثير والقاسم ومكحول وعبدة بن ابى لبابة وحسان بن عطية انهم سمعوا جماعة من اصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقولون: لما أنزلت هذه الاية: (والسابقون الاولون - إلى قوله - ورضوا عنه) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا لامتي كلهم، وليس بعد الرضا سخط. أقول: معناه ان من رضى الله عنهم ورضوا عنه هم الذين جمعتهم الاية لا ان الاية تدل على رضاه تعالى عن الامة كلهم فهذا مما يدفعه الكتاب بالمخالفة القطعية، وكذا قوله: (وليس بعد الرضا سخط) مراده ليس بعد الرضا المذكور في الاية سخط، وقد قررناه فيما تقدم لا أنه ليس بعد مطلق رضى الله سخط فهو مما لا يستقيم البتة. وفيه اخرج أبو الشيخ وابن عساكر عن ابى صخر حميد بن زياد قال: قلت لمحمد بن كعب القرظى: اخبرني عن اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وانما اريد الفتن. فقال: ان الله قد غفر لجميع اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم. قلت: وفي أي موضع أوجب الله لهم الجنة في كتابه ؟ قال: ألا تقرا: (والسابقون الاولون) الاية اوجب لجميع اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والرضوان، وشرط على التابعين شرطا لم يشترطه فيهم. قلت: وما اشترط عليهم ؟ قال: اشترط عليهم ان يتبعوهم بإحسان يقول: يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدون بهم في غير ذلك. قال أبو صخر: فوالله لكأنى لم اقرأها قبل ذلك، وما عرفت تفسيرها حتى قرأها على محمد بن كعب. أقول: هو - كما ترى - يسلم ان في اعمالهم حسنة وسيئة وطاعة وفسقا غير ان الله رضى عنهم في جميع ذلك وغفرها لهم فلا يجازيهم بالسيئة سيئة، وهو الذى ذكرنا في البيان المتقدم ان مقتضاه تكذيب آيات كثيرة قرآنية تدل على ان الله لا يرضى عن القوم الفاسقين والظالمين وأنه لا يحبهم ولا يهديهم، وتقيد آيات أكثر من ذلك وهى أكثر الايات القرآنية الدالة على عموم جزاء الحسنة بالحسنة والسيئة بالسيئة من غير مقيد وعليها تعتمد آيات الامر والنهى وهى آيات الاحكام بجملتها. ولو كان مدلول الاية هذا الذى ذكره لكانت الصحابة على عربيتهم المحضة واتصالهم بزمان النبوة ونزول الوحى احق ان يفهموا من الاية ذلك، ولو كانوا فهموا منها ذلك لما عامل بعضهم بعضا بما ضبطه النقل الصحيح.

[ 383 ]

وكيف يمكن ان يتحقق كلهم بمضمون قوله: (رضى الله عنهم ورضوا عنه) ويفهموا ذلك منه ثم لا يرضى بعضهم عن بعض وقد رضى الله عنه، والراضي عن الله راض عما رضى الله عنه، ولا يندفع هذا الاشكال بحديث اجتهادهم فان ذلك لو سلم يكون عذرا في مقام العمل لا مصححا للجمع بين صفتين متضادتين وجدانا وهما الرضا عن الله وعدم الرضا عما رضى الله عنه والكلام طويل. وفيه اخرج أبو عبيد وسنيد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن حبيب الشهيد عن عمرو بن عامر الانصاري ان عمر بن الخطاب قرء (والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار الذين اتبعوهم بإحسان) فرفع الانصار ولم يلحق الواو في الذين فقال له زيد بن ثابت: والذين فقال عمر: الذين فقال زيد: امير المؤمنين اعلم فقال عمر: ائتونى بابى بن كعب فأتاه فسأله عن ذلك فقال أبى: والذين فقال عمر: فنعم إذن نتابع أبيا. أقول: ومقتضى قراءة عمر اختصاص المهاجرين بما يتضمنه قوله: (والسابقون الاولون) من المنقبة ومنقبة اخرى وهى كونهم متبوعين للانصار كما يشير إليه الحديث الاتى. وفيه اخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظى قال: مر عمر برجل يقرء (والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار) فأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا ؟ قال: أبى بن كعب. قال: لا تفارقني حتى اذهب بك إليه فلما جاءه قال عمر: انت أقرأت هذا هذه الايه هكذا ؟ قال: نعم قال: وسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم. قال: كنت أرى انا رفعنا رفعة لا يبلغها احد بعدنا. فقال أبى: تصديق ذلك في اول سورة الجمعة: (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم) وفي سورة الحشر: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان) وفي الانفال: (والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فاولئك منكم). وفي الكافي بإسناده عن موسى بن بكر عن رجل قال: قال أبو جعفر عليه السلام: (الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا) فاولئك قوم مؤمنون يحدثون في إيمانهم من الذنوب التى يعيبها المؤمنون ويكرهونها فاولئك عسى الله ان يتوب عليهم.

[ 384 ]

أقول: ورواه العياشي عن زراره عنه عليه السلام إلا ان فيه (مذنبون) (مكان مؤمنون). وفي المجمع في قوله تعالى: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) الاية قال: أبو حمزة الثمالى: بلغنا انهم ثلاثة نفر من الانصار: أبو كنانة بن عبد المنذر وثعلبة بن وديعة وأوس بن حذام تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مخرجه إلى تبوك فلما بلغهم ما أنزل الله فيمن تخلف عن نبيه صلى الله عليه وسلم أيقنوا بالهلاك وأوثقوا انفسهم بسوارى المسجد فلم يزالوا كذلك حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنهم فذكر له انهم اقسموا ان لا يحلون انفسهم حتى يكون رسول الله يحلهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وأنا اقسم لا اكون اول من حلهم إلا أن أومر فيهم بأمر. فلما نزل: (عسى الله ان يتوب عليهم) عمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم فحلهم فأنطلقوا فجاءوا بأموالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: هذه اموالنا التى خلفتنا عنك فخذها وتصدق بها عنا. قال: ما أمرت فيها، فنزل: (خذ من اموالهم صدقة) الايات. أقول: وفي هذا المعنى روايات اخرى رواها في الدر المنثور بينها اختلاف في أسامي الرجال، وفيها نزول آية الصدقة في خصوص أموالهم، ويضعفها تظافر الروايات في نزول الاية في الزكاة الواجبة. وفيه: وروى عن أبى جعفر الباقر عليه اسلام أنها نزلت في ابى لبابة ولم يذكر غيره معه وسبب نزولها فيه ما جرى منه في بنى قريظة حين قال: ان نزلتم على حكمه فهو الذبح. وفي الكافي بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: لما نزلت هذه الاية: (خذ من اموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) وإنزلت في شهر رمضان فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مناديه فنادى في الناس: ان الله فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة ففرض الله عز وجل عليهم من الذهب والفضة وفرض الصدقة من الابل والبقر والغنم، ومن الحنطة والشعير والتمر والزبيب فنادى بهم بذلك في شهر رمضان، وعفى لهم عما سوى ذلك. قال: ثم لم يفرض لشئ من اموالهم حتى حال عليه الحول من قابل فصاموا

[ 385 ]

وأفطروا فاأر مناديه فنادى في المسلمين: ايها المسلمون زكوا اموالكم تقبل صلاتكم. قال: ثم وجه عمال الصدقة وعمال الطسوق. وفي الدر المنثور أخرج ابن ابى شيبة والبخاري ومسلم وابو داود والنسائي وابن ماجه وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الله بن ابى اوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتى بصدقة قال: اللهم صل على آل فلان فأتاه ابى بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبى اوفى. وفي تفسير البرهان عن الصدوق بإسناده عن سليمان بن مهران عن ابى عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: (ويأخذ الصدقات) قال: يقبلها من اهلها ويثيب عليها. وفي تفسير العياشي عن مالك بن عطية عن ابى عبد الله عليه السلام قال: قال على بن الحسين عليه السلام: ضمنت على ربى ان الصدقة لا تقع في يد العبد حتى تقع في يد الرب، وهو قوله: (هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات). اقول: وفي معناه روايات أخرى مروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى وأبى جعفر وابى عبد الله عليهم السلام. وفي بصائر الدرجات بإسناده عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السلام قال: سألت عن الاعمال هل تعرض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال: ما فيه شك. قال: ارأيت قول الله (اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) فقال: لله شهداء في خلقه. أقول: وفي معناه روايات متظافرة متكاثرة مروية في جوامع الشيعة عن أئمة اهل البيت عليهم السلام، وفي اكثرها: ان (المؤمنون) في الاية هم الائمة، وانطباقها على ما قدمناه من التفسير ظاهر. وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن ابى جعفر عليه السلام في قول الله (وآخرون مرجون لامر الله) قال: قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة وجعفر أو اشباههما من المسلمين ثم انهم دخلوا في الاسلام فوحدوا الله وتركوا الشرك، ولم يعرفوا الايمان بقلوبهم فيكونوا من المؤمنين فيجب لهم الجنة، ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا فيجب لهم النار فهم على تلك الحال مرجون لامر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم. أقول: ورواه العياشي في تفسيره عن زراره عنه عليه السلام وفي معناه روايات أخر.

[ 386 ]

وفي تفسير العياشي عن حمران قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن المستضعفين قال: هم ليسوا بالمؤمنين ولا بالكفار فهم المرجون لامر الله. وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله: (وآخرون مرجون لامر الله) قال: هم الثلاثة الذين خلفوا. أقول: وروى مثله عن مجاهد وقتادة وأن أسماءهم هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك من الاوس والخزرج، ولا تنطبق قصتهم على هذه الاية وسيجى، ان شاء الله تعالى. (كلام في الزكاة وسائر الصدقة) الابحاث الاجتماعية والاقتصادية وسائر الابحاث المرتبطة بها جعلت اليوم حاجة المجتمع من حيث انه مجتمع إلى مال يختص به ويصرف لرفع حوائجه العامة في صف البديهيات التى لا يشك فيها شاك ولا يداخلها ريب فكثير من المسائل الاجتماعية والاقتصادية - ومنها هذه المسألة - كانت في الاعصار السالفة مما يغفل عنها عامة الناس ولا يشعرون بها إلا شعورا فطريا إجماليا وهى اليوم من الابجديات التى يعرفها العامة والخاصة. غير ان الاسلام بحسب ما بين من نفسية الاجتماع وهويته وشرع من الاحكام المالية الراجعة إليها، والانظمة والقوانين التى رتبها في أطرافها ومتونها له اليد العليا في ذلك. فقد بين القرآن الكريم أن الاجتماع يصيغ من عناصر الافراد المجتمعين صيغة جديدة فيكون منهم هوية جديدة حية هي المجتمع، وله من الوجود والعمر والحياة والموت والشعور والارادة والضعف و القوة والتكليف والاحسان والاساءة والسعادة والشقاوة أمثال أو نظائر ما للانسان الفرد وقد نزلت في بيان ذلك كله آيات كثيرة قرآنية كررنا الاشارة إليها في خلال الابحاث السابقة. وقد عزلت الشريعة الاسلامية سهما من منافع الاموال وفوائدها للمجتمع كالصدقة الواجبة التى هي الزكاة وكالخمس من الغنيمة ونحوها، ولم يأت في ذلك ببدع فان القوانين والشرائع السابقة عليها كشريعة حمورابي وقوانين الروم القديم يوجد فيها

[ 387 ]

أشياء من ذلك بل سائر السنن القومية في أي عصر، وبين أية طائفة دارت لا يخلو عن اعتبار جهة مالية لمجتمعها فالمجتمع كيفما كان يحس بالحاجة المالية في سبيل قيامه ورشده. غير أن الشريعة الاسلامية تمتاز في ذلك من سائر السنن والشرائع بامور يجب إمعان النظر فيها للحصول على غرضها الحقيقي ونظرها المصيب في تشريعها وهى: أولا: انها اقتصرت في وضع هذا النوع من الجهات المالية على كينونة الملك وحدوثه موجودا ولم يتعد ذلك، وبعبارة اخرى إذا حدثت مالية في ظرف من الظروف كغلة حاصلة عن زراعة أو ربح عائد من تجارة أو نحو ذلك بادرت فوضعت سهما منها ملكا للمجتمع وبقية السهام ملكا لمن له رأس المال أو العمل مثلا، وليس عليه إلا ان يرد مال المجتمع وهو السهم إليه. بل ربما كان المستفاد من أمثال قوله تعالى: (خلق لكم ما في الارض جميعا) البقرة: 29 وقوله: (ولا تؤتوا السفهاء اموالكم التى جعل الله لكم قياما) النساء: 5 ان الثروة الحادثة عند حدوثها للمجتمع بأجمعها ثم اختص سهم منها للفرد الذى نسميه المالك أو العامل، وبقى سهم اعني سهم الزكاة أو سهم الخمس في ملك المجتمع كما كان فالمالك الفرد مالك في طول مالك وهو المجتمع، وقد تقدم بعض البحث عن ذلك في تفسير الايتين. و بالجملة فالذي وضعته الشريعة من الحقوق المالية كالزكاة والخمس مثلا إنما وضعته في الثروة الحادثة عند حدوثها فشركت المجتمع مع الفرد من رأس ثم الفرد في حرية من ماله المختص به يضعه حيث يشاء من أغراضه المشروعة من غير ان يعترضه في ذلك معترض إلا ان يدهم المجتمع من المخاطر العامة ما يجب معه صرف شئ من رؤس الاموال في سبيل حفظ حياته كعدو هاجم يريد ان يهلك الحرث والنسل، والمخمصة العامة التى لا تبقى ولا تذر. وأما الوجوه المالية المتعلقة بالنفوس أو الضياع والعقار أو الاموال التجارية عند حصول شرائط أو في احوال خاصة كالعشر المأخوذ في الثغور ونحو ذلك فإن الاسلام لا يرى ذلك بل يعده نوعا من الغصب وظلما يوجب تحديدا في حرية المالك في ملكه. ففى الحقيقة لا يأخذ المجتمع من الفرد إلا مال نفسه الذى يتعلق بالغنيمة والفائدة عند اول حدوثه ويشارك الفرد في ملكه على نحو يبينه الفقه الاسلامي

[ 388 ]

مشروحا، وأما إذا انعقد الملك واستقر لمالكه فلا اعتراض لمعترض على مالك في حال أو عند شرط، يوجب قصور يده وزوال حريته. وثانيا: ان الاسلام يعتبر حال الافراد في الاموال الخاصة بالمجتمع كما يعتبر حال المجتمع بل الغلبة في ما يظهر من نظره لحالهم على حاله فإنه يجعل السهام في الزكاة ثمانية لا يختص بسبيل الله منها إلا سهم واحد وباقى السهام للافراد كالفقراء والمساكين والعاملين والمؤلفة قلوبهم وغيرهم، وفي الخمس ستة لم يجعل لله سبحانه إلا سهم واحد والباقى للرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وذلك ان الفرد هو العنصر الوحيد لتكون المجتمع، ورفع اختلاف الطبقات الذى هو من اصول برنامج الاسلام، وإلقاء التعادل والتوازن بين قوى المجتمع المختلفة وتثبيت الاعتدال في مسيره بأركانه وأجزائه لا يتم إلا بإصلاح حال الاجزاء اعني الافراد وتقريب احوالهم بعضهم من بعض. وأما قصر مال المجتمع في صرفه في ايجاد الشوكة العامة والتزيينات المشتركة ورفع القصور المشيدة العالية والابنية الرفيعة الفاخرة وتخلية القوى والضعيف أو الغنى والفقير على حالهما لا يزيدان كل يوم إلا ابتعادا فلتدل التجربة الطويلة القطعية انه لا يدفع غائلا ولا يغنى طائلا. وثالثا: ان للفرد من المسلمين ان يصرف ما عليه من الحق المالى الواجب كالزكاة مثلا في بعض أرباب السهام كالفقير والمسكين من دون انه يؤديه إلى ولى الامر أو عامله في الجملة فيرده هو إلى مستحقيه. وهذا نوع من الاحترام الاستقلالي الذى اعتبره الاسلام لافراد مجتمعه نظير إعطاء الذمة الذى لكل فرد من المسلمين ان يقوم به لمن شاء من الكفار المحاربين وليس للمسلمين ولا لولى امرهم ان ينقض ذلك. نعم لولى الامر إذا رأى في مورد ان مصلحة الاسلام والمسلمين في خلاف ذلك ان ينهى عن ذلك فيجب الكف عنه لوجوب طاعته. * * * والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا

[ 389 ]

الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون - 107. لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين - 108. أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدى القوم الظالمين - 109. لا يزال بنيانهم الذى بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم - 110. (بيان) تذكر الايات طائفة أخرى من المنافقين بنوا مسجد الضرار وتقيس حالهم إلى حال جماعة من المؤمنين بنوا مسجدا لتقوى الله. قوله تعالى: (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا) إلى آخر الاية، الضرار والمضارة إيصال الضرر، والارصاد اتخاذ الرصد والانتظار والترقب. وقوله: (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا) إن كانت الايات نازلة مع ما تقدمها من الايات النازلة في المنافقين فالعطف على من تقدم ذكرهم من طوائف المنافقين المذكورين بقوله: ومنهم، ومنهم أي ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ضرارا. وإن كانت مستقلة بالنزول فالوجه كون الواو استئنافية وقوله: (الذين اتخذوا) مبتدء خبره قوله: (لا تقم فيه أبدا) ويمكن إجراء هذا الوجه على التقدير السابق ايضا، وقد ذكر المفسرون في إعراب الاية وجوها اخرى لا تخلو عن تكلف تركناها. وقد بين الله غرض هذه الطائفة من المنافقين في اتخاذ هذا المسجد وهو الضرار بغيرهم والكفر والتفريق بين المؤمنين والارصاد لمن حارب الله ورسوله، والاغراض المذكورة خاصة ترتبط إلى قصة خاصة بعينها، وهى على ما اتفق عليه أهل النقل أن

[ 390 ]

جماعة من بنى عمرو بن عوف بنوا مسجد قبا وسألوا النبي أن يصلى فيه فصلى فيه فحسدهم جماعة من بنى غنم بن عوف وهم منافقون فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قبا ليضروا به ويفرقوا المؤمنين منه وينتظروا لابي عامر الراهب الذى وعدهم أن يأتيهم بجيش من الروم ليخرجوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة، وأمرهم أن يستعدوا للقتال معهم. ولما بنوا المسجد أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتجهز إلى تبوك وسألوه أن يأتيه ويصلى فيه ويدعو لهم بالبركة فوعدهم إلى الفراغ من أمر تبوك والرجوع إلى المدينة فنزلت الايات. فكان مسجدهم لمضارة مسجد قبا، وللكفر بالله ورسوله، ولتفريق المؤمنين المجتمعين في قبا، ولارصاد ابى عامر الراهب المحارب لله ورسوله من قبل، وقد أخبر الله سبحانه عنهم أنهم ليحلفن إن أردنا من بناء هذا المسجد إلا الفعلة الحسنى وهو التسهيل للمؤمنين بتكثير معابد يعبد فيها الله، وشهد تعالى بكذبهم بقوله: (وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون). قوله تعالى: (لا تقم فيه أبدا) إلى آخر الاية، بدء بنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أن يقوم فيه ثم ذكر مسجد قبا ورجح القيام فيه بعد ما مدحه بقوله: (لمسجد أسس على التقوى من اول يوم أحق أن تقوم فيه) فمدحه بحسن نية مؤسسيه من اول يوم وبنى عليه رجحان القيام فيه على القيام في مسجد الضرار. والجملة وإن لم تفد تعين القيام في مسجد قبا حيث عبر بقوله: أحق، غير أن سبق النهى عن القيام في مسجد الضرار يوجب ذلك، وقوله تعالى: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) تعليل للرجحان السابق، وقوله: (والله يحب المطهرين) متمم للتعليل المذكور، وهذا هو الدليل على أن المراد بقوله: (لمسجد أسس) الخ هو مسجد قبا لا مسجد النبي أو غيره. ومعنى الاية: لا تقم أي للصلاة في مسجد الضرار ابدا، أقسم، لمسجد قبا الذى هو مسجد أسس على تقوى الله من اول يوم أحق وأحرى أن تقوم فيه للصلاة وذلك أن فيه رجالا يحبون التطهر من الذنوب أو من الارجاس والاحداث والله يحب المطهرين وعليك ان تقوم فيهم. وقد ظهر بذلك أن قوله: (لمسجد أسس) الخ، بمنزلة التعليل لرجحان المسجد على المسجد وقوله: (فيه رجال) الخ، لافادة رجحان أهله على أهله، وقوله

[ 391 ]

الاتى: (أفمن أسس بنيانه) الخ، لبيان الرجحان الثاني. قوله تعالى: (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير) إلى آخر الاية شفا البئر طرفه، وجرف الوادي جانبه الذى انحفر بالماء أصله وهار الشئ يهار فهو هائر وربما يقال: هار بالقلب وانهار ينهار انهيارا أي سقط عن لين فقوله: (على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم) استعارة تخييلية شبه فيها حالهم بحال من بنى بنيانا على نهاية شفير واد لا ثقة بثباتها وقوامها فتساقطت بما بنى عليه من البنيان وكان في أصله جهنم فوقع في ناره، وهذا بخلاف من بنى بنيانه على تقوى من الله ورضوان منه أي جرى في حياته على اتقاء عذاب الله وابتغاء رضاه. وظاهر السياق أن قوله: (أفمن أسس بنيانه على تقوى) الخ، وقوله: (أم من أسس بنيانه على شفا جرف) الخ، مثلان يمثل بهما بنيان حياة المؤمنين والمنافقين وهو الدين والطريق الذى يجريان عليه فيها فدين المؤمن هو تقوى الله وابتغاء رضوانه عن يقين به، ودين المنافق مبنى على التزلزل والشك. ولذلك أعقبه الله تعالى وزاد في بيانه بقوله: (لا يزال بنيانهم) يعنى المنافقين (الذى بنوا ريبة) وشكا (في قلوبهم) لا يتعدى إلى مرحلة اليقين (إلا أن تقطع قلوبهم) فتتلاشى الريبة بتلاشيها (والله عليم حكيم) ولذلك يضع هؤلاء ويرفع اولئك. (بحث روائي) في المجمع قال المفسرون: إن بنى عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قبا، وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فأتاهم وصلى فيه فحسدهم جماعة من المنافقين من بنى غنم بن عوف فقالوا: نبنى مسجدا فنصلى فيه ولا نحضر جماعة محمد، وكانوا اثنى عشر رجلا، وقيل: خمسة عشر رجلا، منهم: ثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشيرو نبتل ابن الحارث فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قبا. فلما بنوه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذى العلد والحاجة والليلة الممطرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلى فيه لناو تدعو بالبركة فقال صلى الله عليه وسلم: انى على جناح سفرو لو قدمنا أتيناكم إن شاء الله فصلينا لكم فيه، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك نزلت

[ 392 ]

عليه الاية في شأن المسجد. قال: فوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قدومه من تبوك عاصم بن عوف العجلاني ومالك بن الدخشم وكان مالك من بنى عمرو بن عوف فقال لهما: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم اهله فاهدماه وحرقاه، وروى انه بعث عمار بن ياسر ووحشيا فحرقاه، وأمر بأن يتخذ كناسة يلقى فيها الجيف. أقول: وفي رواية القمى أنه صلى الله عليه وسلم بعث لذلك مالك بن دخشم الخزاعى وعامر بن عدى أخا بنى عمرو بن عوف فجاء مالك وقال لعامر: انتظرني حتى أخرج نارا من منزلي، فدخل وجاء بنار وأشعل في سعف النخل ثم أشعله في المسجد فتفرقوا، وقعد زيد بن حارثة حتى احترقت البنية ثم أمر بهدم حائطه. والقصة مرويد بطرق كثيرة من طرق أهل السنة، والروايات متقاربة إلا أن في أسامي من بعثه النبي صلى الله عليه وسلم اختلافا. وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر وابن ابى حاتم عن ابن إسحاق قال: كان الذين بنوا مسجد الضرار اثنى عشر رجلا: خذام بن خالد بن عبيد بن زيد، وثعلبة بن حاطب وهلال بن أمية، ومعتب بن قشير، وأبو حبيبة بن الازعر، وعباد بن حنيف، وجارية بن عامر وابناه مجمع وزيد، ونبتل بن الحارث، وبخدج بن عثمان (1) ووديعة بن ثابت. وفي المجمع في قوله: (وإرصادا لمن حارب الله ورسوله) قال: هو أبو عامر الراهب، قال وكان من قصته انه كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة حسده، وحزب عليه الاحزاب ثم هرب بعد فتح مكة إلى الطائف فلما اسلم اهل الطائف لحق بالشام، وخرج إلى الروم وتنصر وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة الذى قتل مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحدو كان جنبا فغسلته الملائكة. وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عامر الفاسق، وكان قد ارسل إلى المنافق ان استعدوا وابنوا مسجدا فإنى أذهب إلى قيصر وآتى من عنده بجنود، وأخرج محمدا من المدينة فكان هؤلاء المنافقون يتوقعون ان يجيئهم أبو عامر فمات قبل ان يبلغ ملك الروم. أقول: وفي معناه عده من الروايات.


(1) وفي السيرة: يجاد بن عثمان وهو الصحيح (ب). (*)

[ 393 ]

وفي الكافي بإسناده عن الحلبي عن ابى عبد الله عليه السلام قال: سألته عن المسجد الذى أسس على التقوى فقال: مسجد قبا. أقول: ورواه العياشي في تفسيره، وروى هذا المعنى أيضا في الكافي بإسناده عن معاوية بن عمار عنه عليه السلام. وقد روى في الدر المنثور بغير واحد من الطرق عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: هو مسجدي هذا، وهو مخالف لظاهر الاية وخاصة قوله: (فيه رجال) الخ، فإن الكلام موضوع في القياس بين المسجدين: مسجد قبا ومسجد الضرار والقياس بين أهليهما ولا غرض يتعلق بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم. وفي تفسير العياشي عن الحلبي عن الصادق عليه السلام قال: سألته عن قول الله: فيه (رجال يحبون ان يتطهروا) قال: الذين يحبون ان يتطهروا نظف الوضوء وهو الاستنجاء بالماء وقال: قال: نزلت هذه في اهل قبا. وفي المجمع في الاية قال: يحبون ان يتطهروا بالماء عن الغائط والبول وهو المروى عن السيدين: الباقر والصادق عليهما السلام، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال لاهل قبا: ما ذا تفعلون في طهركم فإن الله تعالى قد احسن عليكم الثناء ؟ قالوا: نغسل أثر الغائط. فقال: أنزل الله فيكم: (والله يحب المطهرين). وفيه في قراءة قوله: (إلا ان تقطع قلوبهم) وقرء يعقوب وسهل: (إلى ان) على انه حرف الجر، وهو قراءة الحسن وقتادة والجحدري وجماعة، ورواه البرقى عن ابى عبد الله عليه السلام. * * * إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم - 111. التائبون العابدون الحامدون

[ 394 ]

السائحون الراكعون الساجدون الامرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين - 112. ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم - 113. وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لاواه حليم - 114. وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شئ عليم - 115. إن الله له ملك السموات والارض يحيى ويميت وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير - 116. لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رئوف رحيم - 117. وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الارض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم - 118. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين - 119. ما كان لاهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل

[ 395 ]

الله ولا يطؤن موطأ يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين - 120. ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون - 121. وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون - 122. يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين - 123. (بيان) آيات في أغراض متفرقة يجمعها غرض واحد مرتبط بغرض الايات السابقة فانها تتكلم حول القتال فمنها ما يمدح المؤمنين ويعدهم وعدا جميلا على جهادهم في سبيل الله ومنها ما ينهى عن التودد إلى المشركين و الاستغفار لهم، ومنها ما يدل على توبته تعالى للثلاثة المخلفين عن غزوة تبوك، ومنها ما يفرض على اهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يخرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا اراد الخروج إلى قتال ولا يتخلفوا عنه، ومنها ما يفرض على الناس إن يلازم بعضهم البيضة للتفقه في الدين ثم تبليغه إلى قومهم إذا رجعوا إليهم ومنها ما يقضى بقتال الكفار ممن يلى بلاد الاسلام. قوله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين انفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) إلى آخر الاية، الاشتراء هو قبول العين المبيعة بنقل الثمن في المبايعة. والله سبحانه يذكر في الاية وعده القطعي للذين يجاهدون في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم بالجنة، ويذكر أنه ذكر ذلك في التوراة والانجيل كما يذكره في القرآن. وقد قلبه سبحانه في قالب التمثيل فصور ذلك بيعا، وجعل نفسه مشتريا

[ 396 ]

والمؤمنين بايعين، وأنفسهم وأموالهم سلعة ومبيعا، والجنة ثمنا، والتوراة والانجيل والقرآن سندا للمبايعة، وهو من لطيف التمثيل ثم يبشر المؤمنين ببيعهم ذلك، ويهنئهم بالفوز العظيم. قوله تعالى: (التائبون العابدون الحامدون السائحون) إلى آخر الاية، يصف سبحانه المؤمنين بأجمل صفاتهم، والصفات مرفوعة بالقطع أي المؤمنون هم التائبون العابدون الخ، فهم التائبون لرجوعهم من غير الله إلى الله سبحانه العابدون له ويعبدونه بألسنتهم فيحمدونه بجميل الثناء، وبأقدامهم فيسيحون ويجولون من معهد من المعاهد الدينية ومسجد من مساجد الله إلى غيره، و بأبدانهم فيركعون له ويسجدون له. هذا شأنهم بالنسبة إلى حال الانفراد وأما بالنسبة إلى حال الاجتماع فهم آمرون بالمعروف في السنة الدينية وناهون عن المنكر فيها ثم هم حافظون لحدود الله لا يتعدونه في حالتى انفرادهم واجتماعهم خلوتهم وجلوتهم، ثم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يبشرهم وقد بشرهم تعالى نفسه في الاية السابقة، وفيه من كمال التأكيد ما لا يقدر قدره. وقد ظهر بما قررنا أولا: وجه الترتيب بين الاوصاف التى عدها لهم فقد بدء بأوصافهم منفردين وهى التوبة والعبادة والسياحة والركوع والسجود ثم ذكر ما لهم من الوصف الخاص بهم المنبعث عن ايمانهم مجتمعين وهو الامر بالمعروف والنهى عن المنكر وختم بما لهم من جميل الوصف في حالتى انفرادهم واجتماعهم وهو حفظهم لحدود الله، وفي التعبير بالحفظ مضافا إلى الدلالة على عدم التعدي دلالة على الرقوب والاهتمام. وثانيا: أن المراد بالسياحة ومعناه السير في الارض - على ما هو الانسب بسياق الترتيب هو السير إلى مساكن ذكر الله وعبادته كالمساجد، وأما القول بأن المراد بالسياحة الصيام أو السياحة في الارض للاعتبار بعجائب قدرة الله وما جرى على الامم الماضية مما تحكيه ديارهم وآثارهم أو المسافرة لطلب العلم أو المسافرة لطلب الحديث خاصة فهى وجوه غير سديدة. أما الاول: فلا دليل عليه من جهة اللفظ البتة، وأما الوجوه الاخر فإنها وإن كانت ربما استفيد الندب من مثل قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) المؤمن: 82، وقوله: (فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) الاية 122 من السورة إلا أن إرادتها من قوله:

[ 397 ]

(السائحون) تبطل جودة الترتيب بين الصفات المنضودة. وثالثا: أن هذه الصفات الشريفة هي التى يتم بها إيمان المؤمن المستوجب للوعد القطعي بالجنة المستتبع للبشارة الالهية والنبوية وهى الملازمة للقيام بحق الله المستلزمة لقيام الله سبحانه بما جعله من الحق على نفسه. قوله تعالى: (ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى) إلى آخر الايتين، معنى الاية ظاهر غير أنه تعالى لما ذكر في الاية الثانية التى تبين سبب استغفار ابراهيم لابيه مع كونه كافرا أنه تبرأ منه بعد ذلك لما تبين له أنه عدو لله، فدل ذلك على أن تبين كون المشركين أصحاب الجحيم إنما يرشد إلى عدم جواز الاستغفار لكونه ملازما لكونهم أعداء لله فإذا تبين للنبى والذين آمنوا أن المشركين أعداء لله كشف ذلك لهم عن حكم ضروري وهو عدم جواز الاستغفار لكونه لغوا لا يترتب عليه أثر وخضوع الايمان مانع أن يلغو العبد مع ساحة الكبرياء. وذلك إنه تارة يفرض الله تعالى عدوا للعبد مبغضا له لتقصير من ناحيته وسوء من عمله فمن الجائز بالنظر إلى سعة رحمة الله أن يستغفر له ويسترحم إذا كان العبد متذللا غير مستكبر، وتارة يفرض العبد عدوا لله محاربا له مستكبرا مستعليا كأرباب الجحود والعناد من المشركين، والعقل الصريح حاكم بأنه لا ينفعه حينئذ شفاعة بمسألة أو استغفار إلا أن يتوب ويرجع إلى الله وينسلخ عن الاستكبار والعناد ويتلبس بلباس الذلة والمسكنة فلا معنى لسؤال الرحمة والمغفرة لمن يأبى عن القبول، ولا للاستعطاء لمن لا يخضع للاخذ والتناول إلا الهزؤ بمقام الربوبية واللعب بمقام العبودية وهو غير جائز بضرورة من حكم الفطرة. وفي الاية نفى الجواز بنفى الحق بدليل قوله: (ما كان للنبى والذين آمنوا) أي ما كانوا يملكون الاستغفار بعد ما تبين لهم كذا وكذا، وقد تقدم في ذيل قوله تعالى: (ما كان للمشركين ان يعمروا مساجد الله) الاية 17 من السورة ان حكم الجواز مسبوق في الشرع بجعل الحق. والمعنى ان النبي والذين آمنوا بعد ما ظهر وتبين بتبيين الله لهم ان المشركين اعداء لله مخلدون في النار لم يكن لهم حق يملكون به ان يستغفروا للمشركين ولو كانوا اولى قربى منهم، وأما استغفار ابراهيم لابيه المشرك فإنه ظن انه ليس بعدو

[ 398 ]

معاند لله وإن كان مشركا فاستعطفه بوعد وعدها إياه فاستغفر له فلما تبين له أنه عدو لله معاند على شركه وضلاله تبرء منه. وقوله: (إن ابراهيم لاواه حليم) تعليل لوعد ابراهيم واستغفاره لابيه بأنه تحمل جفوة أبيه ووعده وعدا حسنا لكونه حليما واستغفر له لكونه أواها، والاواه هو الكثير التأوه خوفا من ربه وطمعا فيه. قوله تعالى: (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إلى آخر الايتين الايتان متصلتان بالايتين قبلهما المسوقتين للنهى عن الاستغفار للمشركين أما الاية الاولى اعني قوله: (وما كان الله ليضل) الخ ففيه تهديد للمؤمنين بالاضلال بعد الهداية إن لم يتقوا ما بين الله لهم ان يتقوه ويجتنبوا منه، وهو بحسب ما ينطبق على المورد ان المشركين أعداء لله لا يجوز الاستغفار لهم والتودد إليهم فعلى المؤمنين ان يتقوا ذلك وإلا فهو الضلال بعد الهدى، وعليك ان تذكر ما قدمناه في تفسير قوله تعالى: (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشوني) المائدة: 3 في الجزء الخامس من الكتاب وفي تفسير آيات ولاية المشركين وأهل الكتاب الواقعة في السور المتقدمة. والاية بوجه في معنى قوله تعالى: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمه أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الانفال: 53 وما في معناه من الايات، وهى جميعا تهتف بأن من السنة الالهية ان تستمر على العبد نعمته وهدايته حتى يغير هو ما عنده بالكفران والتعدى فيسلب الله منه النعمة والهداية. وأما الاية الثانية أعنى قوله: (إن الله له ملك السماوات والارض يحيى ويميت وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير) فذيلها بيان لعلة الحكم السابق المدلول عليه بالاية السابقة وهو النهى عن تولى أعداء الله أو وجوب التبرى منهم إذ لا ولى ولا نصير حقيقة إلا الله سبحانه وقد بينه للمؤمنين فعليهم بدلالة من إيمانهم ان يقصروا التولى عليه تعالى أو من أذن في توليهم له من اوليائه وليس لهم ان تعتدوا ذلك إلى تولى أعدائه كائنين من كانوا. وصدر الاية بيان لسبب هذا السبب وهو ان الله سبحانه هو الذى يملك كل شئ وبيده الموت والحياة فإليه تدبير كل امر فهو الولى لا ولى غيره.

[ 399 ]

وقد ظهر من عموم البيان والعلة في الايات الاربع ان الحكم عام وهو وجوب التبرى أو حرمة التولى لاعداء الله سواء كان التولى بالاستغفار أو بغير ذلك وسواء كان العدو مشركا أو كافرا أو منافقا أو غيرهم من اهل البدع الكافرين بايات الله أو المصرين على بعض الكبائر كالمرابى المحارب لله ورسوله. قوله تعالى: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين) إلى آخر الايتين، الساعة مقدار من الزمان فساعة العسرة الزمان الذى تعسر فيه الحياة لابتلاء الانسان بما تشق معه العيشة عليه كعطش أو جوع أو حر شديد أو غير ذلك، والزيغ هو الخروج من الطريق والميل عن الحق، وإضافة الزيغ إلى القلوب وذكر ساعة العسرة وسائر ما يلوح من سياق الكلام دليل على ان المراد بالزيغ الاستنكاف عن امتثال امر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخروج عن طاعته بالتثاقل عن الخروج إلى الجهاد أو الرجوع إلى الاوطان بقطع السير تحرجا من العسرة والمشقة التى واجهتهم في مسيرهم. والتخليف - على ما في المجمع - تأخير الشئ عمن مضى فأما تأخير الشئ عنك في المكان فليس بتخليف، وهو من الخلف الذى هو مقابل لجهة الوجه يقال، خلفه أي جعله خلفه فهو مخلف. انتهى والرحب هو السعة التى تقابل الضيق، وبما رحبت أي برحبها فما مصدرية. و الايتان وإن كانت كل واحدة منهما ناظرة إلى جهة دون جهة الاخرى فالاولى تبين التوبة على النبي والمهاجرين والانصار والثانية تبين توبة الثلاثة المخلفين مضافا إلى أن نوع التوبة على أهل الايتين مختلف فأهل الاية الاولى أو بعضهم تاب الله عليهم من غير معصية منهم، وأهل الاية الثانية تيب عليهم وهم عاصون مذنبون. وبالجملة الايتان مختلفتان غرضا ومدلولا غير ان السياق يدل على انهما مسوقتان لغرض واحد ومتصلتان كلاما واحدا تبين فيه توبته تعالى للنبى والمهاجرين والانصار والثلاثة الذين خلفوا، ومن الدليل عليه قوله: لقد تاب الله على النبي إلى ان قال: (وعلى الثلاثة) الخ فالاية الثانية غير مستقلة عن الاولى بحسب اللفظ وان استقلت عنها في المعنى، وذلك يستدعى نزولهما معا وتعلق غرض خاص بهذا الاتصال والامتزاج. ولعل الغرض الاصلى بيان توبة الله سبحانه لاولئك الثلاثة المخلفين وقد ضم إليها ذكر توبته تعالى للمهاجرين والانصار حتى للنبى صلى الله عليه وآله وسلم لتطيب قلوبهم بخلطهم

[ 400 ]

بغيرهم وزوال تميزهم من سائر الناس وعفو أثر ذلك عنهم حتى يعود الجميع على نعت واحد وهو ان الله تاب عليهم برحمته فهم فيه سواء من غير ان يرتفع بعضهم عن بعض أو ينخفض بعضهم عن بعض. وبهذا تظهر النكتة في تكرار ذكر التوبة في الايتين فان الله سبحانه يبدء بذكر توبته على النبي والمهاجرين والانصار ثم يقول: (ثم تاب عليهم) وعلى الثلاثة الذين خلفوا ثم يقول: (ثم تاب عليهم ليتوبوا) فليس إلا ان الكلام مسوق على منهج الاجمال والتفصيل ذكر فيه توبته تعالى على الجميع إجمالا ثم اشير إلى حال كل من الفريقين على حدته فذكرت عند ذلك توبته الخاصة به. ولو كانت كل واحدة من الايتين ذات غرض مستقل من غير ان يجمعها غرض جامع لكان ذلك تكرارا من غير نكتة ظاهرة. على ان في الاية الاولى دلالة واضحة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن له في ذلك ذنب ولا زيغ ولا كاد أن يزيغ قلبه فان في الكلام مدحا للمهاجرين والانصار باتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يزغ قلبه ولا كاد ان يزيغ حتى صار متبعا يقتدى به ولو لا ما ذكرناه من الغرض لم يكن لذكره صلى الله عليه وآله وسلم مع سائر المذكورين وجه ظاهر. فيؤول معنى الاية إلى أن الله - اقسم لذلك - تاب ورجع برحمته رجوعا إلى النبي والمهاجرين والانصار والثلاثة الذين خلفوا فأما توبته ورجوعه بالرحمة على المهاجرين والانصار فإنهم اتبعوا النبي في ساعة العسرة وزمانها - وهو ايام مسيرهم إلى تبوك - اتبعوه من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ويميل عن الحق بترك الخروج أو ترك السير فبعد ما اتبعوه تاب الله عليهم إنه بهم لرءوف رحيم. واما الثلاثة الذين خلفوا فانهم آل أمرهم إلى ان ضاقت عليهم الارض بما رحبت ووسعت - وكان ذلك بسبب ان الناس لم يعاشروهم ولا كلموهم حتى اهلهم فلم يجدوا انيسا يأنسون به - وضاقت عليهم انفسهم - من دوام الغم عليهم - و ايقنوا ان لا ملجأ من الله إلا إليه بالتوبة والانابة فلما كان ذلك كله تاب الله عليهم وانعطف ورجع برحمته إليهم ليتوبوا إليه فيقبل توبتهم إنه هو التواب - كثير الرجوع إلى عباده يرجع إليهم بالهداية والتوفيق للتوبة إليه ثم بقبول تلك التوبة - والرحيم بالمؤمنين. وقد تبين بذلك كله اولا: أن المراد بالتوبة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم محض الرجوع

[ 401 ]

إليه بالرحمة، ومن الرجوع إليه بالرحمة، الرجوع إلى امته بالرحمة فالتوبة عليهم توبة عليه فهو صلى الله عليه وآله وسلم الواسطة في نزول الخيرات والبركات إلى امته. وايضا فان من فضله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان: كلما ذكر امته أو الذين معه بخير أفرده من بينهم وصدر الكلام بذكره تشريفا له كما في قوله: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون) البقرة: 285 وقوله: (ثم انزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) التوبة (26، وقوله: (لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا) التوبة 88 إلى غير ذلك من الموارد. وثانيا: ان المراد بما ذكر ثانيا وثالثا من التوبه بقوله: (ثم تاب عليهم) في الموضعين هو تفصيل ما ذكره إجمالا بقوله: (لقد تاب الله). وثالثا: ان المراد بالتوبة في قوله: (ثم تاب عليهم) في الموضعين رجوعه تعالى إليهم بالهداية إلى الخير والتوفيق فقد ذكرنا مرارا في الابحاث السابقة ان توبة العبد محفوفة بتوبتين من الرب تعالى، وانه يرجع إليه بالتوفيق وإفاضة رحمة الهداية وهو التوبة الاولى منه فيهتدى العبد إلى الاستغفار وهو توبته فيرجع تعالى إليه بقبول توبته وغفران ذنوبه وهو التوبة الثانية منه تعالى. والدليل على أن المراد بها في الموضعين ذلك اما في الاية الاولى فلانه لم يذكر منهم فيها ذنبا يستغفرون له حتى تكون توبته عليهم توبة قبول، وإنما ذكر انه كان من المتوقع زيغ قلوب بعضهم وهو يناسب التوبة الاولى منه تعالى دون الثانية، واما في الاية الثانية فلانه ذكر بعدها قوله: (ليتوبوا) وهو الاستغفار، اخذ غاية لتوبته تعالى فتوبته تعالى قبل توبتهم ليست إلا التوبة الاولى منه. وربما أيد ذلك قوله تعالى في مقام تعليل توبته عليهم: (انه بهم رءوف رحيم) حيث لم يذكر من اسمائه ما يدل بلفظه على قبول توبتهم كما لم يذكر منهم توبة بمعنى الاستغفار. ورابعا: أن المراد بقوله في الاية الثانية: (ليتوبوا) توبة الثلاثة الذين خلفوا المترتب على توبته تعالى الاولى عليهم، فالمعنى ثم تاب الله على الثلاثة ليتوب الثلاثة فيتوب عليهم ويغفر لهم انه هو التواب الرحيم.

[ 402 ]

فان قلت: فالاية لم تدل على قبول توبتهم وهذا مخالف للضرورة الثابتة من جهة النقل ان الاية نزلت في توبتهم. قلت: القصة ثابتة نقلا غير أنها لا توجد دلالة في لفظ الاية إلا أن الاية تدل بسياقها على ذلك فقد قال تعالى قى مقام الاجمال: (لقد تاب الله) وهو اعم باطلاقه من التوبة بمعنى التوفيق وبمعنى القبول، وكذا قوله بعد: (ان الله هو التواب الرحيم) وخاصة بالنظر إلى ما في الجملة من سياق الحصر الناظر إلى قوله: (وظنوا ان لا ملجا من الله إلا إليه) فإذا كانوا اقدموا على التوبة ليأخذوا ملجأ من الله يأمنون فيه وقد هداهم الله إليه بالتوبة فتابوا فمن المحال ان يردهم الله من بابه خائبين وهو التواب الرحيم، وكيف يستقيم ذلك ؟ وهو القائل عز من قائل: (انما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فاولئك يتوب الله عليهم) النساء: 17. وربما قيل: إن معنى (ثم تاب عليهم ليتوبوا) ثم سهل الله عليهم التوبة ليتوبوا. وهو سخيف. وأسخف منه قول من قال: ان المراد بالتوبة في (ليتوبوا) الرجوع إلى حالتهم الاولى قبل المعصية. واسخف منه قول آخرين: ان الضمير في (ليتوبوا) راجع إلى المؤمنين والمعنى ثم تاب على الثلاثة وأنزل توبتهم على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ليتوب المؤمنون من ذنوبهم لعلمهم بأن الله قابل التوب. وخامسا: ان الظن يفيد في الاية مفاد العلم لا لدلالة لفظية بل لخصوص المورد. قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) الصدق بحسب الاصل مطابقة القول والخبر للخارج، ويوصف به الانسان إذا طابق خبره الخارج ثم لما عد كل من الاعتقاد والعزم - الارادة - قولا توسع في معنى الصدق فعد الانسان صادقا إذا طابق خبره الخارج وصادقا إذا عمل بما اعتقده وصادقا إذا اتى بما يريده ويعزم عليه على الجد. وما في الاية من إطلاق الامر بالتقوى واطلاق الصادقين واطلاق الامر بالكون معهم - والمعية هي المصاحبة في العمل وهو الاتباع - يدل على ان المراد بالصدق هو معناه الوسيع العام دون الخاص. فالاية تأمر المؤمنين بالتقوى واتباع الصادقين في اقوالهم وافعالهم وهو غير الامر بالاتصاف بصفتهم فانه الكون منهم لا الكون معهم وهو ظاهر.

[ 403 ]

قوله تعالى: (ما كان لاهل المدينة ومن حولهم من الاعراب) إلى آخر الايتين الرغبة ميل خاص نفساني والرغبة في الشئ الميل إليه لطلب منفعة فيه، والرغبة عن الشئ الميل عنه بتركه والباء للسببية فقوله: (ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه) معناه وليس لهم ان يشتغلوا بأنفسهم عن نفسه فيتركوه عند مخاطر المغازى وفي تعب الاسفار ودعثائها ويقعدوا للتمتع من لذائذ الحياة، والظمأ العطش، والنصب التعب والمخمصة المجاعة، والغيظ أشد الغضب، والموطئ الارض التى توطأ بالاقدام. والاية تسلب حق التخلف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل المدينة والاعراب الذين حولها ثم تذكر ان الله قابل هذا السلب منهم بأنه يكتب لهم في كل مصيبة تصيبهم في الجهاد من جوع وعطش وتعب وفي كل أرض يطئونها فيغيطون به الكفار أو نيل نالوه منهم عملا صالحا فانهم محسنون والله لا يضيع أجر المحسنين، وهذا معنى قوله: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ) الخ. ثم ذكر أن نفقاتهم صغيرة يسيرة كانت أو كبيرة خطيرة وكذا كل واد قطعوه فانه مكتوب لهم محفوظ لاجلهم ليجزوا به أحسن الجزاء. وقوله: (ليجزيهم الله احسن ما كانوا يعملون) غاية متعلقة بقوله: (كتب لهم) أي غاية هذه الكتابة هي ان يجزيهم بأحسن أعمالهم، وإنما خص جزاء أحسن الاعمال بالذكر لان رغبة العامل عاكفة عليه، أو لان الجزاء بأحسنها يستلزم الجزاء بغيره، أو لان المراد بأحسن الاعمال الجهاد في سبيل الله لكونه أشقها وقيام الدعوة الدينية به. وههنا معنى آخر وهو ان جزاء العمل في الحقيقة إنما هو نفس العمل عائدا إلى الله فإحسن الجزاء هو أحسن العمل فالجزاء بأحسن الاعمال في معنى الجزاء بأحسن الجزاء ومعنى آخر وهو ان يغفر الله سبحانه سيئاتهم المشوبة بأعمالهم الحسنة ويستر جهات نقصها فيكون العمل أحسن بعد ما كان حسنا ثم يجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون فافهم ذلك وربما رجع المعنيان إلى معنى واحد. قوله تعالى: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) السياق يدل على ان المراد بقوله: (لينفروا كافة) لينفروا وليخرجوا إلى الجهاد جميعا، وقوله: (فرقة منهم) الضمير للمؤمنين الذين ليس

[ 404 ]

لهم ان ينفروا كافة، ولازمه ان يكون النفر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم. فالاية تنهى مؤمنى سائر البلاد غير مدينة الرسول ان ينفروا إلى الجهاد كافة بل يحضضهم ان ينف طائفة منهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتفقه في الدين، وينفر إلى الجهاد غيرهم. والانسب بهذا المعنى ان يكون الضمير في قوله (رجعوا) للطائفة المتفقهين، وفي قوله: (إليهم) لقومهم والمراد إذا رجع هؤلاء المتفقهون إلى قومهم، ويمكن العكس بأن يكون المعنى: إذا رجع قومهم من الجهاد إلى هؤلاء الطائفة بعد تفقههم ورجوعهم إلى اوطانهم. ومعنى الاية لا يجوز لمؤمنى البلاد ان يخرجوا إلى الجهاد جميعا فهلا نفر وخرج إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم طائفة من كل فرقة من فرق المؤمنين ليتحققوا الفقه والفهم في الدين فيعملوا به لانفسهم ولينذروا بنشر معارف الدين وذكر آثار المخالفة لاصوله وفروعه قومهم إذا رجعت هذه الطائفة إليهم لعلهم يحذرون ويتقون. ومن هنا يظهر اولا: ان المراد بالتفقه تفهم جميع المعارف الدينية من اصول وفروع لا خصوص الاحكام العملية وهو الفقه المصطلح عليه عند المتشرعة، والدليل عليه قوله: (لينذروا قومهم) فإن ذلك أمر انما يتم بالتفقه في جميع الدين وهو ظاهر. وثانيا: ان النفر إلى الجهاد موضوع عن طلبة العلم الدينى بدلالة من الايه. وثالثا: ان سائر المعاني المحتملة التى ذكروها في الاية بعيده عن السياق كقول بعضهم: إن المراد بقوله: (لينفروا كافة) نفرهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتفقه، وقول بعضهم في (فلو لا نفر): أي إلى الجهاد، والمراد بقوله: (ليتفقهوا) أي الباقون المتخلفون فينذروا قومهم النافرين إلى الجهاد إذا رجعوا إلى اولئك المتخلفين. فهذه ونظائرها معان بعيدة لا جدوى في التعرض لها والاطناب في البحث عنها. قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا ان الله مع المتقين) امر بالجهاد العام الذى فيه توسع الاسلام حتى يشيع في الدنيا فان قتال كل طائفة من المؤمنين من يليهم من الكفار لا ينتهى إلا باتساع الاسلام اتساعا باستقرار سلطنته على الدنيا واحاطته بالناس جميعا. والمراد بقوله: (وليجدوا فيكم غلظة) أي الشدة في ذات الله وليس يعنى بها الخشونة والفظاظة وسوء الخلق والقساوة والجفاء فجميع الاصول الدينية تذم ذلك

[ 405 ]

وتستقبحه، ولحن آيات الجهاد ينهى عن كل تعد واعتداء وجفاء كما مر في سورة البقرة. وفي قوله: (واعلموا ان الله مع المتقين) وعد إلهى بالنصر بشرط التقوى، ويؤول معناه إلى إرشادهم إلى ان يكونوا دائما مراقبين لانفسهم ذاكرين مقام ربهم منهم، وهو أنه معهم ومولاهم فهم الاعلون إن كانوا يتقون. (بحث روائي) في الدر المنثور اخرج ابن ابى حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: نزلت هذه الاية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المسجد: (إن الله اشترى من المؤمنين انفسهم) الاية فكبر الناس في المسجد فأقبل رجل من الانصار ثانيا طرفي ردائه على عاتقه فقال: يا رسول الله أنزلت هذه الاية ؟ قال: نعم. فقال الانصاري: بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل. وفي الكافي بإسناده عن سماعة عن ابى عبد الله عليه السلام قال: لقى عباد البصري على بن الحسين عليه السلام في طريق مكة فقال له: يا على بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحج ولينته إن الله يقول: (إن الله اشترى) الخ، فقال على بن الحسين عليه السلام إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج. أقول: يريد عليه السلام ما في الاية الثانية: (التائبون العابدون) الاية من الاوصاف. وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: سياحة امتى في المساجد. أقول: وروى عن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان السائحين هم الصائمون، وعن ابى أمامة عنه صلى الله عليه وآله وسلم ان سياحة امتى الجهاد في سبيل الله، وقد تقدم الكلام فيه. وفي المجمع: (التائبين العابدين) إلى آخرها بالياء عن ابى جعفر وابى عبد الله عليهما السلام. وفي الدر المنثور في قوله تعالى: (ما كان للنبى والذين آمنوا ان يستغفروا للمشركين) اخرج ابن ابى شيبة واحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن سعيد بن المسيب عن ابيه قال: لما حضرت ابا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعنده أبو جهل

[ 406 ]

وعبد الله بن ابى أمية فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لاى عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن ابى أمية: يا ابا طالب اترغب عن ملة عبد المطلب ؟ وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرضها عليه وابو جهل وعبد الله يعانوانه (1) بتلك المقالة فقال أبو طالب آخر ما كلمهم هو: على ملة عبد المطلب، وابى ان يقول: لا إله إلا الله. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاستغفرن لك ما لم أنه عنك فنزلت: (ما كان للنبى والذين آمنوا ان يستغفروا للمشركين) الاية، وأنزل الله في ابى طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (انك لا تهدى من احببت ولكن الله يهدى من يشاء). اقول: وفي معناه روايات اخرى من طرق اهل السنة، وفى بعضها ان المسلمين لما رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستغفر لعمه وهو مشرك استغفروا لابائهم المشركين فنزلت الاية، وقد اتفقت الرواية عن ائمة اهل البيت عليهم السلام انه كان مسلما غير متظاهر باسلامه ليتمكن بذلك من حماية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفيما روى بالنقل الصحيح من اشعاره شئ كثير يدل على توحيده وتصديقه النبوة، وقد قدمنا نبذة منها. وفي الكافي باسناده عن زرارة عن ابى جعفر قال: الاواه الدعاء. وفي المجمع في قوله تعالى: (وما كان الله ليضل قوما) الاية قيل: مات قوم من المسلمين على الاسلام قبل ان تنزل الفرائض فقال المسلمون: يا رسول الله اخواننا المسلمون ماتوا قبل الفرائض ما منزلتهم ؟ فنزل: (وما كان الله ليضل قوما) الاية عن الحسن. وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الاية قال: نزلت حين اخذوا الفداء من المشركين يوم الاسارى (2) قال: لم يكن لكم ان تأخذوه حتى يؤذن لكم ولكن ما كان الله ليعذب قوما بذنب أذنبوه حتى يبين لهم ما يتقون. قال: حتى ينهاهم قبل ذلك. أقول: ظاهر الروايتين أنهما من التطبيق دون النزول بمعناه المصطلح عليه، واتصال الاية بالايتين قبلها ودخولها في سياقهما ظاهر، وقد تقدم توضيحه. وفي الكافي بإسناده عن حمزة بن محمد الطيار عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله:


(1) أي يفسرانه. (2) يعنى يوم بدر. (*)

[ 407 ]

(وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) قال: يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه. الحديث. أقول: ورواه أيضا عن عبد الاعلى عنه عليه السلام، ورواه البرقى أيضا في المحاسن. وفى تفسير القمى: (لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين والانصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة) قال الصادق عليه السلام: هكذا نزلت وهم أبو ذر وأبو خيثمة وعمير بن وهب الذين تخلفوا ثم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أقول: وقد استخرجناه من حديث طويل أورده القمى في تفسيره في قوله تعالى: (ولو أرادوا الخروج لاعدوا له عدة) الاية: 46 من السورة، وروى قراءة (بالنبي) في المجمع عنه وعن الرضا عليهما السلام. وفي المجمع في قوله: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) وقرء على بن الحسين زين العابدين ومحمد بن على الباقرو جعفر بن محمد الصادق عليهم السلام وأبو عبد الرحمن السلمى. خالفوا. وفيه في قوله: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار) الاية نزلت في غزاة تبوك وما لحق المسلمين فيها من العسرة حتى هم قوم بالرجوع ثم تداركهم لطف الله سبحانه قال الحسن: كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم يركب الرجل ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك، وكان زادهم الشعير المسوس والتمر المدود والاهالة السنخة وكان النفر منهم يخرجون ما معهم من التميرات بينهم فإذا بلغ الجوع من احدهم اخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمهاثم يعطيها صاحبه فيمصهاثم يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتى يأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلا النواة. وفيه في قوله: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) الاية نزلت في شأن كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، وذلك أنهم تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يخرجوا معه لا عن نفاق ولكن عن توان ثم ندموا فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة جاءوا إليه واعتذروا فلم يكلمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقدم إلى المسلمين بأن لا يكلمهم أحد منهم فهجرهم الناس حتى الصبيان، وجاءت نساؤهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلن له: يا رسول الله نعتزلهم ؟ فقال: ولكن لا يقربوكن. فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رءوس الجبال، وكان اهاليهم يجيئون لهم

[ 408 ]

بالطعام ولا يكلمونهم فقال بعضهم لبعض: قد هجرنا الناس ولا يكلمنا أحد منهم فهلا نتهاجر نحن ايضا ؟ فتفرقوا ولم يجتمع منهم اثنان، وبقوا على ذلك خمسين يوما يتضرعون إلى الله تعالى ويتوبون إليه، فقبل الله تعالى توبتهم وأنزل فيهم هذه الاية. أقول: وقد تقدمت القصة في حديث طويل نقلناه من تفسير القمى في الاية 46 من السورة، ورويت القصة بطرق كثيرة. وفي تفسير البرهان عن ابن شهر اشوب من تفسير ابى يوسف بن يعقوب بن سفيان حدثنا مالك بن انس عن نافع عن ابن عمر قال: (يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله) قال: أمر الله الصحابة ان يخافوا الله. ثم قال: (وكونوا مع الصادقين) يعنى مع محمد وإهل بيته عليهم السلام. أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة عن أئمة إهل البيت عليهم السلام وقد روى في الدر المنثورعن ابن مردويه عن ابن عباس، وأيضا عن ابن عساكر عن ابى جعفر في قوله: (وكونوا مع الصادقين) قالا: مع على بن ابى طالب. وفي الكافي بإسناده عن يعقوب بن شعيب قال: قلت لابي عبد الله عيه السلام إذا حدث على الامام حدث كيف يصنع الناس ؟ قال: أين قول الله عز وجل: (فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) قال: هم في عذر ما داموا في الطلب، وهؤلاء الذين ينتظرونهم في عذر حتى يرجع إليهم اصحابهم. أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة عن الائمة عليهم السلام، وهو مما يدل على أن المراد بالتفقه في الاية أعم من تعلم الفقه بالمعنى المصطلح عليه اليوم. واعلم أن هناك أقوالا أخرى في أسباب نزول بعض الايات السابقة تركناها لظهور ضعفها ووهنها. * * * وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول إيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون - 124. وأما الذين

[ 409 ]

في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون - 125 أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون - 126. وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون - 127. لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم - 128. فإن تولوا فقل حسبى الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم - 129. (بيان) هي آيات تختتم بها آيات براءة وهى تذكر حال المؤمنين والمنافقين عند مشاهدة نزول السور القرآنية، يتحصل بذلك أيضا أمارة من أمارات النفاق يعرف بها المنافق من المؤمن، وهو قولهم عند نزول القرآن: أيكم زادته هذه إيمانا ؟ ونظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ؟ وفيها وصفه تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وصفا يحن به إليه قلوب المؤمنين، وأمره بالتوكل عليه إن أعرضوا عنه. قوله تعالى: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا) إلى آخر الايتين. نحو السؤال في قولهم: هل يراكم من أحد ؟ يدل على أن سائله لا يخلو من شئ في قلبه فإن هذا السؤال بالطبع سؤال من لا يجد في قلبه أثرا من نزول القرآن وكأنه يذعن ان قلوب غيره كقلبه فيما يتلقاه فيتفحص عمن أثر في قلبه نزول القرآن كأنه يرى ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعى ان القرآن يصلح كل قلب سواء كان مستعدا مهيئا للصلاح ام لا وهو لا يذعن بذلك وكلما تليت عليه سورة جديدة ولم يجد في قلبه خشوعا لله ولا ميلا وحنانا إلى الحق زاد شكا فبعثه ذلك إلى ان يسأل

[ 410 ]

سائر من حضر عند النزول عن ذلك حتى يستقر في شكه ويزيد ثباتا في نفاقه. وبالجملة السؤال سؤال من لا يخلو قلبه من نفاق. وقد فصل الله سبحانه امر القلوب وفرق بين قلوب المؤمنين والذين في قلوبهم مرض فقال: (فأما الذين آمنوا) وهم الذين قلوبهم خالية عن النفاق بريئة من المرض وهم على يقين من دينهم بقرينة المقابلة (فزادتهم) السورة النازلة (إيمانا) فإنها بإنارتها أرض القلب بنور هدايتها توجب اشتداد نور الايمان فيه، وهذه زيادة في الكيف، وباشتمالها على معارف وحقائق جديدة من المعارف القرآنية والحقائق الالهية، وبسطها على القلب نور الايمان بها توجب زيادة إيمان جديد على سابق الايمان وهذه زيادة في الكمية ونسبة زيادة الايمان إلى السورة من قبيل النسبة إلى الاسباب الظاهرة وكيف كان فالسورة تزيد المؤمنين إيمانا فتنشرح بذلك صدورهم وتتهلل وجوههم فرحا (وهم يستبشرون). (وأما الذين في قلوبهم مرض وهم اهل الشك والنفاق (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) أي ضلالا جديدا إلى ضلالهم القديم وقد سمى الله سبحانه الضلال رجسا في قوله: (ومن يرد ان يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) الانعام: 125 والمقابلة الواقعة بين (الذين آمنوا) و (الذين في قلوبهم) مرض يفيد ان هؤلاء ليس في قلوبهم إيمان صحيح وإنما هو الشك أو الجحد وكيف كان فهو الكفر ولذلك قال (وماتوا وهم كافرون). والاية تدل على ان السورة من القرآن لا تخلو عن تأثير في قلب من استمعه فإن كان قلبا سليما زادته إيمانا واستبشارا وسرورا، وإن كان قلبا مريضا زادته رجسا وضلالا نظير ما يفيده قوله: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) اسرى: 82. قوله تعالى: (أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) الاية الاستفهام للتقرير أي ما لهم لا يتفكرون ولا يعتبرون وهم يرون أنهم يبتلون ويمتحنون كل عام مرة أو مرتين فيعصون الله ولا يخرجون من عهدة المحنة الالهية وهم لا يتوبون ولا يتذكرون ولو تفكروا في ذلك انتبهوا لواجب امرهم وإيقنوا ان الاستمرار على هذا الشأن ينتهى بهم إلى تراكم الرجس على الرجس والهلاك الدائم والخسران المؤبد.

[ 411 ]

قوله تعالى: (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من احد) الاية وهذه خصيصة أخرى من خصائصهم وهى أنهم عند نزول سورة قرآنية - ولا محالة هم حاضرون - ينظر بعضهم إلى بعض نظر من يقول: هل يراكم من احد، وهذا قول من يسمع حديثا لا يطيقه ويضيق بذلك صدره فيتغير لونه ويظهر القلق والاضطراب في وجهه فيخاف ان يلتفت إليه ويظهر السر الذى طواه في قلبه فينظر إلى بعض من كان قد اودعه سره وأوقفه على باطن امره كأنه يستفسره هل يطلع على ما بنا من القلق والاضطراب احد ؟ فقوله: (نظر بعضهم إلى بعض) أي بعض المنافقين، وهذا من الدليل على أن الضمير في قوله في الاية السابقة: (فمنهم من يقول) أيضا للمنافقين، وقوله: (نظر بعضهم إلى بعض) أي نظر قلق مضطرب يحذر ظهور امره وانهتاك ستره، وقوله: (هل يراكم من احد) في مقام التفسير للنظر أي نظر بعضهم إلى بعض نظر من يقول: هل يراكم من احد ؟ ومن للتإكيد وأحد فاعل يراكم. وقوله: (ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) ظاهر السياق ان المعنى ثم انصرفوا من عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال صرف الله قلوبهم عن وعى الايات الالهية والايمان بها بسبب انهم قوم لا يفقهون الكلام الحق فالجملة حالية على ما يجوزه بعضهم. وربما احتمل كون قوله: (صرف الله قلوبهم) دعاء منه تعالى على المنافقين، وله نظائر في القرآن، والدعاء منه تعالى على احد إيعاد له بالشر. قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم) العنت هو الضرر والهلاك، وما في قوله: (ما عنتم) مصدرية التأويل عنتكم، والمراد بالرسول على ما يشهد سياق الايتين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد وصفه بأنه من انفسهم والظاهر ان المراد به انه بشر مثلكم ومن نوعكم إذ لا دليل يدل على تخصيص الخطاب بالعرب أو بقريش خاصة، وخاصة بالنظر إلى وجود رجال من الروم وفارس والحبشة بين المسلمين في حال الخطاب. والمعنى لقد جاءكم ايها الناس رسول من انفسكم، من اوصافه انه يشق عليه ضركم أو هلاككم وأنه حريص عليكم جميعا من مؤمن أو غير مؤمن، وأنه رءوف رحيم بالمؤمنين

[ 412 ]

منكم خاصة فيحق عليكم ان تطيعوا امره لانه رسول لا يصدع إلا عن امر الله، وطاعته طاعة الله، وان تأنسوا به وتحنوا إليه لانه من انفسكم، وان تجيبوا دعوته وتصغوا إليه كما ينصح لكم. ومن هنا يظهر أن القيود المأخوذة في الكلام من الاوصاف اعني قوله (رسول) و (من انفسكم) و (عزيز عليه ما عنتم) الخ، جميعها مسوقة لتأكيد الندب إلى إجابته وقبول دعوته، ويدل عليه قوله في الاية التالية: (فان تولوا فقل حسبى الله). قوله تعالى: (فان تولوا فقل حسبى الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) أي وان تولوا عنك وأعرضوا عن قبول دعوتك فقل حسبى الله لا إله إلا هو أي هو كافى لا إله إلا هو. فقوله: (لا إله إلا هو) في مقام التعليل لانقطاعه من الاسباب واعتصامه بربه فهو كاف لا كافى سواه لانه الله لا إله غيره، ومن المحتمل ان تكون كلمة التوحيد جئ بها للتعظيم نظير قوله: (وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه) البقرة: 116. وقوله: (عليه توكلت) وفيه معنى الحصر تفسير يفسر به قوله: (حسبى الله) الدال على معنى التوكل بالالتزام، وقد تقدم في بعض الابحاث السابقة ان معنى التوكل هو اتخاذ العبد ربه وكيلا يحل محل نفسه ويتولى تدبير اموره أي انصرافه عن التسبب بذيل ما يعرفه من الاسباب، ولا محالة هو بعض الاسباب الذى هو علة ناقصة والاعتصام بالسبب الحقيقي الذي إليه ينتهي جميع الاسباب. ومن هنا يظهر وجه تذييل الكلام بقوله: (وهو رب العرش العظيم) اي الملك والسلطان الذي يحكم به على كل شئ ويدبر به كل امر. وانما قال تعالى: (فقل حسبي الله) الاية ولم يقل: فتوكل على الله لارشاده إلى ان يتوكل على ربه وهو ذاكر هذه الحقائق التي تنور حقيقة معنى التوكل، وان انظر المصيب هو ان لا يثق الانسان بما يدر كه من الاسباب الظاهرة التي هي لا محالة بعض الاسباب بل يأخذ بما يعلمه منها على ما طبعه الله عليه ويثق بربه ويتوكل عليه في حصول بغيته وغرضه.

[ 413 ]

وفي الاية من الدلالة على عجيب اهتمامه صلى الله عليه وسلم باهتداء الناس ما ليس يخفى فإنه تعالى يأمره بالتوكل على ربه فيما يهتم به من الامر وهو ما تبينه الاية السابقة من شدة رغبته وحرصه في اهتداء الناس وفوزهم بالسعادة فافهم ذلك. (بحث روائي) في الكافي بإسناده عن ابي عمرو الزبيري عن ابي عبد الله عليه السلام - في حديث طويل يذكر فيه تمام الايمان ونقصه، قال: قلت: قد فهمت نقصان الايمان وتمامه فمن أين جاءت زيادته ؟ فقال: قول الله عز وجل: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم) وقال: (نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى). ولو كان كله واحدا لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لاحد منهم فضل على الاخر، ولاستوت النعم فيه، ولاستوى الناس وبطل التفضيل، ولكن بتمام الايمان دخل المؤمنون الجنة وبالزيادة في الايمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله، وبالنقصان دخل المفرطون النار. وفي تفسير العياشي عن زرارة بن أعين عن أبى جعفر عليه السلام (وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم) يقول شكا إلى شكهم. وفي الدر المنثور في قوله: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) أخرج ابو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لم يلتق أبواي قط على سفاح: لم يزل الله ينقلني من الاصلاب الطيبة إلى الارحام الطاهرة مصفى مهذبا لا تنشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما. أقول: وقد أورد فيه روايات كثيرة في هذا المعنى عن رجال من الصحابة وغيرهم كالعباس وأنس وأبى هريرة وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وابن عمر وابن عباس وعلى ومحمد بن على الباقر وجعفر بن محمد الصادق عليه السلام وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

[ 414 ]

وفيه أخرج ابن الضريس في فضائل القرآن وابن الانباري في المصاحف وابن مردويه عن الحسن أن أبى بن كعب كان يقول: إن أحدث القرآن عهدا بالله - وفي لفظ بالسماء - هاتان الايتان: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) إلى آخر الاية. أقول و: الرواية مروية من طريق آخر عن أبى بن كعب، وهى لا تخلو عن تعارض مع ما سيأتي من الرواية وكذا مع ما تقدم من الروايات في قوله تعالى: (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) الاية البقرة: 281 أنها آخر آية نزلت من القرآن. على أن لفظ الايتين لا يلائم كونهما آخر ما نزلت من القرآن إلا أن يكون إشارة إلى بعض الحوادث الواقعة في مرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم كحديث الدواة والقرطاس. وفيه أخرج ابن إسحاق وأحمد بن حنبل وابن أبى داود عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الايتين من آخر براءة: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم - إلى قوله - (وهو رب العرش العظيم) إلى عمر فقال: من معك على هذا ؟ فقال: لا ادرى والله إلا انى أشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووعيتها وحفظتها فقال عمر: وأنا أشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا سورة من القرآن فألحقوها فألحقت في آخر براءة. أقول: وفي رواية أخرى ان عمر قال للحارث: لا أسألك عليها بينه أبدا كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي هذا المعنى احاديث أخرى، وسنستوفي الكلام في تأليف القرآن وما يتعلق به من الابحاث في تفسير سورة الحجر إن شاء الله تعالى. وقد كنا نرجو ان نفرد كلاما في آخر براءة نبحث فيه عن شأن المنافقين في الاسلام ونستخرج ما يشرحه القرآن في امرهم مع تحليل في تاريخهم وتبيين لما اودعوه من الفساد والبلوى بين المسلمين لكن طول الكلام في تفسير الايات عاقنا عن ذلك فأخرناه إلى موضع آخر يناسبه والله نسأل التوفيق فهو وليه. مردويه عن الحسن أن أبى بن كعب كان يقول: إن أحدث القرآن عهدا بالله - وفي لفظ بالسماء - هاتان الايتان: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) إلى آخر الاية. أقول و: الرواية مروية من طريق آخر عن أبى بن كعب، وهى لا تخلو عن تعارض مع ما سيأتي من الرواية وكذا مع ما تقدم من الروايات في قوله تعالى: (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) الاية البقرة: 281 أنها آخر آية نزلت من القرآن. على أن لفظ الايتين لا يلائم كونهما آخر ما نزلت من القرآن إلا أن يكون إشارة إلى بعض الحوادث الواقعة في مرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم كحديث الدواة والقرطاس. وفيه أخرج ابن إسحاق وأحمد بن حنبل وابن أبى داود عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الايتين من آخر براءة: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم - إلى قوله - (وهو رب العرش العظيم) إلى عمر فقال: من معك على هذا ؟ فقال: لا ادرى والله إلا انى أشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووعيتها وحفظتها فقال عمر: وأنا أشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا سورة من القرآن فألحقوها فألحقت في آخر براءة. أقول: وفي رواية أخرى ان عمر قال للحارث: لا أسألك عليها بينه أبدا كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي هذا المعنى احاديث أخرى، وسنستوفي الكلام في تأليف القرآن وما يتعلق به من الابحاث في تفسير سورة الحجر إن شاء الله تعالى. وقد كنا نرجو ان نفرد كلاما في آخر براءة نبحث فيه عن شأن المنافقين في الاسلام ونستخرج ما يشرحه القرآن في امرهم مع تحليل في تاريخهم وتبيين لما اودعوه من الفساد والبلوى بين المسلمين لكن طول الكلام في تفسير الايات عاقنا عن ذلك فأخرناه إلى موضع آخر يناسبه والله نسأل التوفيق فهو وليه. تم والحمد لله بسم الله الرحمن الرحيم (سورة يونس وهى مائة وتسع آيات)

مكتبة مكتبة شبكة أمل