تفسير الميزان - السيد الطباطبائي ج 8

تفسير الميزان

السيد الطباطبائي ج 8


[ 1 ]

الميزان في تفسير القرآن 8

[ 3 ]

الميزان في تفسير القرآن كتاب عملي، فني، فلسفي، أدبي، تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد جسين الطباطبائي قدس سره الجزء الثامن منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة

[ 4 ]

تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره

[ 5 ]

بسم الله الرحمن الرحيم (سورة الاعراف مكية وهي مائتا وستة آية) بسم الله الرحمن الرحيم المص - 1. كتاب انزل إليك فلا يمكن في صدرك حرج لتنذر يه وذكرى للمؤمنين - 2. ابتغوا ما انزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه اولياء قليلا ما تذكرون - 3. وكم من قرية اهلكناها فجاءها باسنا بياتا ما هم قائلون - 4. فما كان دعويهم إذ جاءهم باسنا إلا قالوا إنا كنا ظالمين - 5. فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين - 6. فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين - 7. ولوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينة فاولئك هم المفحلون - 8. ومن خفت موازينة فاولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا باياتنا يظلمون - 9. (بيان) السورة تشتمل من الغرض على مجموع ما تشتمل عليه السور المصدرة بالحروف المقطعة " ألم " والسورة المصدرة بحرف " ص " فليكن على ذكر منك حتى نستوفي ما

[ 6 ]

استيفاؤه من البحث في أول سورة حم عسق إن شاء الله تعالى عن الحروف المقطعة القرآنية. والسورة كأنها تجعل العهد الالهي المأخوذ من الانسان على أن يعبد الله ولا يشرك به شيئا أصلا يبحث عما آل إليه أمره بحسب مسير الانسانية في الامم والاجيال فأكثرهم نقضوه ونسوه ثم إذا جاءتهم آيات مذكرة لهم أو أنبياء يدعونهم إليه كذبوا وظلموا بها ولم يتذكر بها إلا الاقلون. وذلك أن العهد الالهي الذي هو إجمال ما تتضمنه الدعوة الدينية الالهية إذا نزل بالانسان - وطبائع الناس مختلفة في استعداد القبول والرد - تحول لا محالة بحسب أماكن نزوله والاوضاع والاحوال والشرائط الحافة بنفوس الناس فأنتج في بعض النفوس - وهي الطاهرة الباقية على أصل الفطرة - الاهتداء إلى الايمان بالله وآياته، وفي آخرين وهم الاكثرون ذووا النفوس المخلدة إلى الارض المستغرقة في شهوات الدنيا خلاف ذلك من الكفر والعتو. واستتبع ذلك ألطافا إلهية خاصة بالمؤمنين من توفيق ونصر وفتح في الدنيا، ونجاة من النار وفوز بالجنة وأنواع نعيمها الخالد في الآخرة، وغضبا ولعنا نازلا على الكافرين وعذابا واقعا يهلك جمعهم، ويقطع نسلهم، ويخمد نارهم، ويجعلهم أحاديث ويمزقهم كل ممزق، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون. فهذه هي سنة الله التي قد خلت في عباده وعلى ذلك ستجري، والله يحكم لا معقب لحكمه وهو على صراط مستقيم. فتفاصيل هذه السنة إذا وصفت لقوم ليدعوهم ذلك إلى الايمان بالله وآياته كان ذلك إنذارا لهم، وإذا وصفت لقوم مؤمنين ولهم علم بربهم في الجملة ومعرفة بمقامه الربوبي كان ذلك تذكيرا لهم بآيات الله وتعليما بما يلزمه من المعارف وهي معرفة الله ومعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا وسنته الجارية في الآخرة والاولى وهذا هو الذي يلوح من قوله تعالى في الآية الثانية من السورة: " لتنذر به وذكرى للمؤمنين " أن غرضها هو الانذار والذكرى. والسورة على أنها مكية - إلا آيات اختلف فيها - وجه الكلام فيها بحسب

[ 7 ]

الطبع إلى المشركين وطائفة قليلة آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما يظهر من آيات أولها وآخرها إنذار لعامة الناس بما فيها من الحجة والموعظة والعبرة، وقصة آدم عليه السلام وإبليس وقصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام، وهي ذكرى للمؤمنين تذكرهم ما يشتمل عليه إجمال إيمانهم من المعارف المتعلقة بالمبدأ والمعاد والحقائق التي هي آيات إلهية. والسورة تتضمن طرفا عاليا من المعارف الالهية منها وصف إبليس وقبيله، ووصف الساعة والميزان والاعراف وعالم الذر والميثاق ووصف الذاكرين لله، وذكر العرش، وذكر التجلي، وذكر الاسماء الحسنى، وذكر أن للقرآن تأويلا إلى غير ذلك. وهي تشتمل على ذكر إجمالي من الواجبات والمحرمات كقوله: " قل أمر ربي بالقسط " الآية 29، وقوله: " إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن " الآية 33، وقوله: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق " الآية 32 فنزولها قبل نزول سورة الانعام التي فيها قوله: " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه " الآية الانعام: 145، فإن ظاهر الآية أن الحكم بإباحة غير ما استثنى من المحرمات كان نازلا قبل السورة فالاشارة بها إلى ما في هذه السورة. على أن الاحكام والشرائع المذكورة في هذه السورة أوجز وأكثر إجمالا مما ذكر في سورة الانعام في قوله: " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " الآيات، وذلك يؤيد كون هذه السورة قبل الانعام نزولا على ما هو المعهود من طريقة تشريع الاحكام في الاسلام تدريجا آخذا من الاجمال إلى التفصيل. قوله تعالى: " المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين " تنكير الكتاب وتوصيفه بالانزال إليه من غير ذكر فاعل الانزال كل ذلك للدلالة على التعظيم ويتخصص وصف الكتاب ووصف فاعله بعض التخصص بما يشتمل عليه قوله: " فلا يكن في صدرك حرج منه " من التفريع كأنه قيل: هذا كتاب مبارك يقص آيات الله أنزله إليك ربك فلا يكن في صدرك حرج منه كما أنه لو كان كتابا غير الكتاب وألقاه إليك ربك لكان من حقه أن يتحرج ويضيق منه صدرك لما في تبليغه ودعوة الناس إلى ما يشتمل عليه من الهدى من المشاق والمحن.

[ 8 ]

وقوله: " لتنذر به " غاية للانزال متعلقة به كقوله: " وذكرى للمؤمنين " وتخصيص الذكرى بالمؤمنين دليل على أن الانذار يعمهم وغيرهم، فالمعنى: أنزل إليك الكتاب لتنذر به الناس وهو ذكرى للمؤمنين خاصة لانهم يتذكرون بالآيات والمعارف الالهية المذكورة فيها مقام ربهم فيزيد بذلك إيمانهم وتقر بها أعينهم، وأما عامة الناس فإن هذا الكتاب يؤثر فيهم أثر الانذار بما يشتمل عليه من ذكر سخط الله وعقابه للظالمين في الدار الآخرة، وفي الدنيا بعذاب الاستئصال كما تشرحه قصص الامم السالفة. ومن هنا يظهر: أن قول بعضهم: إن قوله: " لتنذر به " متعلق بالحرج والمعنى: لا يكن في صدرك حرج للانذار به، ليس بمستقيم فان تعقبه بقوله: " وذكرى للمؤمنين " بما عرفت من معناه يدفع ذلك. ويظهر أيضا ما في ظاهر قول بعضهم: إن المراد بالمؤمنين كل من كان مؤمنا بالفعل عند النزول ومن كان في علم الله أنه سيؤمن منهم ! فأن الذكرى المذكور في الآية لا يتحقق إلا فيمن كان مؤمنا بالفعل. قوله تعالى: " اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون " لما ذكر لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كتاب أنزل إليه لغرض الانذار شرع في الانذار ورجع من خطابه صلى الله عليه وآله وسلم إلى خطابهم فإن الانذار من شأنه أن يكون بمخاطبة المنذرين - اسم مفعول - وقد حصل الغرض من خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وخاطبهم بالامر باتباع ما أنزل إليهم من ربهم، وهو القرآن الآمر لهم بحق الاعتقاد وحق العمل أعني الايمان بالله وآياته والعمل الصالح الذين يأمر بهما الله سبحانه في كتابه وينهى عن خلافهما، والجملة أعني قوله: " اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم " موضوعة وضع الكناية كنى بها عن الدخول تحت ولاية الله سبحانه والدليل عليه قوله " ولا تتبعوا من دونه أولياء " حيث لم يقل في مقام المقابلة: ولا تتبعوا غير ما أنزل إليكم. والمعنى: ولا تتبعوا غيره تعالى - وهم كثيرون - فيكونوا لكم أولياء من دون الله قليلا ما تذكرون، ولو تذكرتم لدريتم أن الله تعالى هو ربكم لا رب لكم سواه فليس لكم من دونه أولياء.

[ 9 ]

قوله تعالى: " وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون " تذكير لهم بسنة الله الجارية في المشركين من الامم الماضية إذ اتخذوا من دون الله أولياء فأهلكهم الله بعذاب أنزله إليهم ليلا أو نهارا فاعترفوا بظلمهم. و " البيات " التبييت وهو قصد العدو ليلا، و " القائلون " من القيلولة وهو النوم نصف النهار، وقوله: " بياتا أو هم قائلون " ولم يقل ليلا أو نهارا كأنه للاشارة إلى أخذ العذاب إياهم وهم آخذون في النوم آمنون مما كمن لهم من البأس الالهي الشديد غافلون مغفلون. قوله تعالى: " فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين " تتميم للتذكير يبين أن الانسان بوجدانه وسره يشاهد الظلم من نفسه إن اتخذ من دون الله أولياء بالشرك، وأن السنة الالهية أن يأخذ منه الاعتراف بذلك ببأس العذاب إن لم يعترف به طوعا ولم يخضع لمقام الربوبية فليعترف اختيارا وإلا فسيعترف اضطرارا. قوله تعالى: " فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين " دل البيان السابق على أنهم مكلفون بتوحيد الله سبحانه موظفون برفض الاولياء من دونه غير مخلين وما فعلوا، ولا متروكون وما شاؤوا، فإذا كان كذلك فهم مسؤولون عما أمروا به من الايمان والعمل الصالح، وما كلفوا به من القول الحق، والفعل الحق وهذا الامر والتكليف قائم بطرفين: الرسول الذي جاءهم به والقوم الذين جاءهم، ولهذا فرع على ما تقدم من حديث إهلاك القرى وأخذ الاعتراف منهم بالظلم قوله: " فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ". وقد ظهر بذلك أن المراد بالذين أرسل إليهم الناس وبالمرسلين الانبياء والرسل عليهم السلام، وما قيل: أن المراد بالذين أرسل إليهم الانبياء، وبالمرسلين الملائكة لا يلائم السياق إذ لا وجه لاخراج المشركين عن شمول السؤال والكلام فيهم. على أن الآية التالية لا تلائم ذلك أيضا. على أن الملائكة لم يدخلوا في البيان السابق بوجه لا بالذات ولا بالتبع. قوله تعالى: " فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين " دل البيان السابق على أنهم مربوبون مدبرون فسيسألون عن أعمالهم ليجزوا بما عملوا، وهذا إنما يتم فيما إذا كان

[ 10 ]

السائل على علم من أمر أعمالهم فإن المسؤول لا يؤمن أن يكذب لجلب النفع إلى نفسه ودفع الضرر عن نفسه في مثل هذا الموقف الصعب الهائل الذي يهدده بالهلاك الخالد والخسران المؤبد. ولذلك فرع عليه قوله: " فلنقصن عليهم بعلم " الخ، وقد نكر العلماء للاعتناء بشأنه وأنه علم لا يخطئ ولا يغلط، ولذلك أكده بعطف قوله: " وما كنا غائبين " عليه للدلالة على أنه كان شاهدا غير غائب وأن وكل عليهم من الملائكة من يحفظ عليهم أعمالهم بالكتابة فإنه بكل شئ محيط. قوله تعالى: " والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فاولئك هم المفلحون إلى آخر الآيتين " الآيتان تخبران عن الوزن وهو توزين الاعمال أو الناس العاملين من حيث عملهم، والدليل عليه قوله تعالى: " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة - إلى أن قال - وكفى بنا حاسبين " الانبياء: 47، حيث دل على إن هذا الوزن من شعب حساب الاعمال، وأوضح منه قوله: " يومئذ يصدر الناس إشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " الزلزال: 8، حيث ذكر العمل وأضاف الثقل إليه خيرا وشرا. وبالجملة الوزن إنما هو للعمل دون عامله فالآية تثبت للعمل وزنا سواء كان خيرا أو شرا غير أن قوله تعالى: " اولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا " الكهف: 105، يدل على أن الاعمال في صور الحبط - وقد تقدم الكلام فيه في الجزء الثاني من هذا الكتاب - لا وزن لها أصلا، ويبقى للوزن أعمال من لم تحبط أعماله. فما لم يحبط من الاعمال الحسنة والسيئة له وزن يوزن به لكن الآيات في عين أنها تعتبر للحسنات والسيئات ثقلا إنما تعتبر فيها الثقل الاضافي وترتب القضاء الفصل عليه بمعنى أن ظاهرها أن الحسنات توجب ثقل الميزان والسيئات خفة الميزان لا أن توزن الحسنات فيؤخذ ما لها من الثقل ثم السيئات ويؤخذ ما لها من الثقل ثم يقايس الثقلان فأيهما كان أكثر كان القضاء له فإن كان الثقل للحسنة كان القضاء بالجند وإن كان للسيئة كان القضاء بالنار، ولازم ذلك صحة فرض أن يتعادل الثقلان كما في الموازين الدائرة بيننا من ذي الكفتين والقبان وغيرهما.

[ 11 ]

لا بل ظاهر الآيات أن الحسنة تظهر ثقلا في الميزان والسيئة خفة فيه كما هو ظاهر قوله: " فمن ثقلت موازينه فاولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فاولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون " ونظيره قوله تعالى: " فمن ثقلت موازينه فاولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فاولئك هم الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون " المؤمنون: 103، وقوله تعالى: " فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ما هيه نار حامية " القارعة: 11، فالآيات كما ترى تثبت الثقل في جانب الحسنات دائما والخفة في جانب السيئات دائما. ومن هناك يتأيد في النظر أن هناك أمرا آخر تقايس به الاعمال والثقل له فما كان منها حسنة انطبق عليه ووزن به وهو ثقل الميزان، وما كان منها سيئة لم ينطبق عليه ولم يوزن به وهو خفة الميزان كما نشاهده فيما عندنا من الموازين فإن فيها مقياسا وهو الواحد من الثقل كالمثقال يوضع في أحدى الكفتين ثم يوضع المتاع في الكفة الاخرى فإن عادل المثقال وزنا بوجه على ما يدل عليه الميزان أخذ به وإلا فهو الترك لا محالة، والمثقال في الحقيقة هو الميزان الذي يوزن به وأما القبان وذو الكفتين ونظائرهما فهي مقدمة لما يبينه المثقال من حال المتاع الموزون به ثقلا وخفة كما أن واحد الطول وهو الذراع أو المتر مثلا ميزان يوزن به الاطوال فإن انطبق الطول على الواحد المقياس فهو وإلا ترك. ففي الاعمال واحد مقياس توزن به فللصلاه مثلا ميزان توزن به وهي الصلاة التامة التي هي حق الصلاة، وللزكاة والانفاق نظير ذلك، وللكلام والقول حق القول الذي لا يشتمل على باطل، وهكذا كما يشير إليه قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته " آل عمران: 102. فالاقرب إلى هذا البيان أن يكون المراد بقوله: " والوزن يومئذ الحق " أن الوزن الذي يوزن به الاعمال يومئذ إنما هو الحق فبقدر اشتمال العمل على الحق يكون اعتباره وقيمته والحسنات مشتملة على الحق فلها ثقل كما أن السيئات ليست إلا باطلة فلا ثقل لها، فالله سبحانه يزن الاعمال يومئذ بالحق فما اشتمل عليه العمل من الحق فهو وزنه وثقله.

[ 12 ]

ولعله إليه الاشارة بالقضاء بالحق في قوله: " وأشرقت الارض بنور ربها ووضع الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون " الزمر: 69 والكتاب الذي ذكر الله أنه يوضع يومئذ - وإنما يوضع للحكم به - هو الذي أشار إليه بقوله: " هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق " الجاثيه: 29، فالكتاب يعين الحق وما اشتمل عليه العمل منه، والوزن يشخص مقدار الثقل. وعلى هذا فالوزن في الآية بمعنى الثقل دون المعنى المصدري، وإنما عبر بالموازين بصيغة الجمع في قوله:، " فمن ثقلت موازينه " " ومن خفت موازينه " الدال على أن لكل أحد موازين كثيرة من جهة اختلاف الحق الذي يوزن به باختلاف الاعمال فالحق في الصلاة وهو حق الصلاة غير الحق في الزكاة والصيام والحج وغيرها، وهو ظاهر، فهذا ما ينتجه البيان السابق. والذي ذكره جمهور المفسرين في معنى قوله: " والوزن يومئذ الحق " أن الوزن مرفوع على الابتداء ويومئذ ظرف والحق صفة الوزن وهو خبره والتقدير: والوزن يومئذ الوزن الحق وهو العدل، ويؤيده قوله تعالى في موضع آخر: " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة " الانبياء: 47. وربما قيل: إن الوزن مبتدأ وخبره يومئذ والحق صفة الوزن والتقدير والوزن الحق إنما هو في يوم القيامة وقال في الكشاف: ورفعه يعني الوزن على الابتداء وخبره يومئذ، والحق صفته أي والوزن يوم يسأل الله الامم ورسلهم الوزن الحق أي العدل (انتهى) وهو غريب إلا أن يوجه بحمل قوله: الوزن الحق " الخ " على الاستئناف. وقوله تعالى: " فمن ثقلت موازينه " الموازين جمع ميزان على ما تقدم من البيان ويؤيده الآية المذكورة آنفا: " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة " والانسب بما ذكره القوم في معنى قوله: " والوزن يومئذ الحق " أن يكون جمع موزون وهو العمل وإن إمكن أن يجعل جمع ميزان ويوجه تعدد الموازين بتعدد الاعمال الموزونة بها. لكن يبقى الكلام على قول المفسرين أن الوزن الحق هو العدل في تصوير معنى ثقل الموازين بالحسنات وخفتها بالسيئات فإن فيما يوزن به الاعمال حسناتها وسيئاتها خفاء، والقسط وهو العدل صفة للتوزين وهو نعت لله سبحانه على ما يظهر من قوله:

[ 13 ]

" ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين " الانبياء: 47، فإن ظاهر قوله: " فلا تظلم "، الخ أن الله لا يظلمهم فالقسط قسطه وعدله فليس القسط هو الميزان يومئذ بل وضع الموازين هو وضع العدل يومئذ، فافهم ذلك. وهذا هو الذي بعثهم على أن فسروا ثقل الموازين برجحانها بنوع من التجوز فالمراد بثقل الموازين رجحان الاعمال بكونها حسنات وخفتها مرجوحيتها بكونها سيئات ومعنى الآية: والوزن يومئذ العدل أي الترجيح بالعدل فمن رجحت أعماله لغلبة الحسنات فاولئك هم المفلحون، ومن لم يترجح أعماله لغلبة سيئاته فاولئك الذين خسروا أنفسهم أي ذهبت رأس مالهم الذي هو أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون لتكذيبهم بها. ويعود الكلام حينئذ إلى الملاك الذي به تترجح الحسنة على السيئة وسيما إذا اختلطت الاعمال واجتمعت حسنات وسيئات، والحسنات والسيئات مختلفة كبرا وصغرا فما هو الملاك الذي يعلم به غلبة أحد القبيلين على الآخر ؟ فإخباره تعالى بإن أمر الوزن جار على العدل يدل على جريانه بحيث تتم به الحجة يومئذ على العباد فلا محالة هناك أمر تشتمل عليه الحسنة دون السيئة وبه الترجيح وبه يعلم غلبة الثقيل على الخفيف والحسنة على السيئة إذا اجتمعت من كل منهما عدد مع الاخرى وإلا لزم القول بالجزاف البتة. وهذا كله مما يؤيد ما قدمناه من الاحتمال، وهو أن يكون توزين الاعمال بالحق، وهو التوزين العادل فمن ثقلت موازينه باشتمال أعماله على الحق فاولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه لعدم اشتمال أعماله على الحق الواجب في العبودية فاولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون بتكذيبهم بها وعدم تزودهم بما يعيشون به هذا اليوم فقد أهلكوا أنفسهم بما أحلوها دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار. فقد تبين بما قدمناه أولا: أن الوزن يوم القيامة هو تطبيق الاعمال على ما هو الحق فيها، وبقدر اشتمالها عليه تستعقب الثواب وإن لم تشتمل فهو الهلاك، وهذا التوزين هو العدل والكلام في الآيات جار على ظاهره من غير تأويل. وقيل: إن المراد بالوزن هو العدل، وثقل الميزان هو رجحان العمل فالكلام موضوع على نحو من الاستعارة، وقد تقدم.

[ 14 ]

وقيل: إن الله ينصب يوم القيامة ميزانا له لسان وكفتان فتوزن به أعمال العباد من الحسنات والسيئات، وقد اختلف هؤلاء في كيفية توزين الاعمال، وهي أعمال انعدمت بصدورها، ولا يجوز إعادة المعدوم من الاعراض عندهم، على أنها لا وزن لها، فقيل: إنما توزن صحائف الاعمال لا أنفسها، وقيل: تظهر للاعمال من حسناتها وسيئاتها آثار وعلائم خاصة بها فتوزن العلامات بمشهد من الناس، وقيل: تظهر الحسنات في صور حسنة والسيئات في صور قبيحة منكرة فتوزن الصور، وقيل توزن نفس المؤمن والكافر دون أعمالهما من حسنة أو سيئة، وقيل: الوزن ظهور قدر الانسان، وثقل الميزان كرامته وعظم قدره، وخفة الميزان هوانه وذلته. وهذه الاقوال على تشتتها لا تعتمد على حجة من ألفاظ الآيات، وهي جميعا لا تخلو عن بناء الوزن الموصوف على الجزاف لان الحجة لا تتم بذلك على العبد، وقد تقدمت الاشارة إلى ذلك. وثانيا: أن هناك بالنسبة إلى كل إنسان موازين توزن بها أعماله والميزان في كل باب من العمل هو الحق الذي يشتمل عليه ذلك العمل - كما تقدم - فإن يوم القيامة هو اليوم الذي لا سلطان فيه إلا للحق ولا ولاية فيه إلا لله الحق، قال تعالى: " ذلك اليوم الحق " النبأ: 39، وقال تعالى: " هنالك الولاية لله الحق " الكهف: 44، وقال: " هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون " يونس: 30. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن الضريس والنحاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس قال: سوره الاعراف نزلت بمكه. أقول: ورواه أيضا عن ابن مردويه عن ابن الزبير. وفيه أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة قال: آية من الاعراف مدنية، وهي " واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر " إلى آخر الآية، وسائرها مكية. أقول: وهو منه اجتهاد وسيأتي ما يتعلق به من الكلام.

[ 15 ]

وفيه قوله تعالى: " فلنسألن الذين أرسل إليهم " الآية أخرج أحمد عن معاوية بن حيده أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن ربي داعي وإنه سائلي: هل بلغت عبادي ؟ وإني قائل: رب إني قد بلغتهم فليبلغ الشاهد منكم الغائب ثم إنكم تدعون مفدمة أفواهكم بالفدام إن أول ما يبين عن أحدكم لفخذه وكفه. وفيه: أخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن مردويه عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالامام يسأل عن الناس، والرجل يسأل عن أهله، والمرأة تسأل عن بيت زوجها، والعبد يسأل عن مال سيده. أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة، والروايات في السؤال يوم القيامة كثيرة واردة من طرق الفريقين سنورد جلها في موضع يناسبها إن شاء الله تعالى. وفيه: أخرج أبو الشيخ عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يوضع الميزان يوم القيامة فيوزن الحسنات والسيئات فمن رجحت حسناته على سيئاته دخل الجنة ومن رجحت سيئاته على حسناته دخل النار. وفيه: أخرج ابن أبي الدنيا في الاخلاص عن علي بن أبي طالب قال: من كان ظاهره أرجح من باطنه خفف ميزانه يوم القيامة، ومن كان باطنه أرجح من ظاهره ثقل ميزانه يوم القيامة. أقول: الروايتان لا بأس بهما من حيث المضمون لكنهما لا تصلحان لتفسير الآيتين ولم تردا له لاخذ الرجحان فيهما في جانبي الحسنة والسيئة جميعا. وفيه: أخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: خلق الله كفتي الميزان مثل السماء والارض فقالت الملائكة: يا ربنا من تزن بهذا ؟ قال: أزن به من شئت، وخلق الله الصراط كحد السيف فقالت الملائكة: يا ربنا من تجيز على هذا ؟ قال: أجيز عليه من شئت. أقول: وروى الحاكم في الصحيح عن سلمان مثله، وظاهر الرواية أن الميزان يوم القيامة على صفة الميزان الموجود في الدنيا المعمول لتشخيص الاثقال وهناك روايات متفرقة تشعر بذلك، وهي واردة لتقريب المعنى إلى الافهام الساذجة بدليل ما سيوافيك من الروايات.

[ 16 ]

وفي الاحتجاج في حديث هشام بن الحكم عن الصادق عليه السلام أنه سأله الزنديق فقال أو ليس يوزن الاعمال ؟ قال: لا إن الاعمال ليست بأجسام وإنما هي صفة ما عملوا، وإنما يحتاج إلى وزن الشئ من جهل عدد الاشياء، ولا يعرف ثقلها وخفتها، وإن الله لا يخفى عليه شئ، قال: فما معنى الميزان ؟ قال: العدل. قال: فما معناه في كتابه فمن ثقلت موازينه ؟ قال: فمن رجح عمله، الخبر. أقول: وفي الرواية تأييد ما قدمناه في تفسير الوزن، ومن ألطف ما فيها قوله عليه السلام " وإنما هي صفة ما عملوا " يشير عليه السلام إلى أن ليس المراد بالاعمال في هذه الابواب هو الحركات الطبيعية الصادرة عن الانسان لاشتراكها بين الطاعة والمعصية بل الصفات الطارئة عليها التي تعتبر لها بالنظر إلى السنن والقوانين الاجتماعية أو الدينية مثل الحركات الخاصة التي تسمى وقاعا بالنظر إلى طبيعة نفسها ثم تسمى نكاحا إذا وافقت السنة الاجتماعية أو الاذن الشرعي، وتسمى زنا إذا لم توافق ذلك، وطبيعة الحركات الصادرة واحدة، وقد استدل عليه السلام لما ذكره من طريقين: أحدهما: أن الاعمال صفات لا وزن لها والثاني: أن الله سبحانه لا يحتاج إلى توزين الاشياء لعدم اتصافه بالجهل تعالى شأنه. قال بعضهم: إنه بناء على ما هو الحق من تجسم الاعمال في الآخرة، وإمكان تأثير حسن العمل ثقلا فيه، وكون الحكمة في الوزن تهويل العاصي وتفضيحه وتبشير المطيع وازدياد فرحه وإظهار غاية العدل، وفي الرواية وجوه من الاشكال فلا بد من تأويلها إن أمكن وإلا فطرحها أو حملها على التقية، انتهى. أقول: قد تقدم البحث عن معنى تجسم الاعمال وليس من الممتنع أن يتمثل الاعمال عند الحساب، والعدل الالهي القاضي فيها في صورة ميزان توزن به أمتعة الاعمال وسلعها لكن الرواية لا تنفي ذلك وإنما تنفي كون الاعمال أجساما دنيوية محكومة بالجاذبية الارضية التي تظهر فيها في صورة الثقل والخفة، أولا. والاشكال مبني على كون كيفية الوزن بوضع الحسنات في كفة من الميزان. والسيئات في كفة أخرى ثم الوزن والقياس، وقد عرفت: أن الآية بمعزل عن الدلالة على ذلك أصلا، ثانيا. وفي التوحيد بإسناده عن أبي معمر السعداني عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث

[ 17 ]

قال: وأما قوله: " فمن ثقلت موازينه وخفت موازينه " فإنما يعني الحسنات توزن الحسنات والسسيئات فالحسنات ثقل الميزان والسيئات خفة الميزان. أقول: وتأييده ما تقدم ظاهر فإنه يأخذ المقياس هو الحسنة وهي لا محالة واحدة يمكن أن يقاس بها غيرها، وليست إلا حق العمل. وفي المعاني بإسناده عن المنقري عن هشام بن سالم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل: " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا " قال: هم الانبياء والاوصياء. أقول: ورواه في الكافي عن أحمد بن محمد عن إبراهيم الهمداني رفعه إليه عليه السلام، ومعنى الحديث ظاهر بما قدمناه فإن المقياس هو حق العمل والاعتقاد، وهو الذي عندهم عليهم السلام. وفي الكافي بإسناده عن سعيد بن المسيب عن علي بن الحسين عليه السلام فيما كان يعظ به قال: ثم رجع القول من الله في الكتاب على أهل المعاصي والذنوب فقال عزوجل: " ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين " فإن قلتم أيها الناس إن الله عزوجل إنما عني بها أهل الشرك فكيف ذلك ؟ وهو يقول: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كانت مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين فاعلموا عباد الله أن أهل الشرك لا تنصب لهم الموازين ولا تنشر لهم الدواوين وإنما يحشرون إلى جهنم زمرا، وإنما نصب الموازين ونشر الدواوين لاهل الاسلام، الخبر. أقول: يشير عليه السلام إلى قوله تعالى: " فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا " الآية. وفي تفسير القمي: في قوله: " والوزن يومئذ الحق " الآية قال عليه السلام: المجازاة بالاعمال إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا. أقول: وهو تفسير بالنتيجة. وفيه: في قوله تعالى: " بما كانوا بآياتنا يظلمون " قال عليه السلام: بالائمة يجحدون. أقول: وهو من قبيل ذكر بعض المصاديق وفي المعاني المتقدمة روايات أخر. * * *

[ 18 ]

= ولقد مكناكم في الارض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون - 10. ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين - 11. قال ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين - 12. قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين - 13. قال أنظرني إلى يوم يبعثون - 14. قال إنك من المنظرين - 15. قال فبما أغويتني لاقعدن لهم صراطك المستقيم - 16. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين - 17. قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لاملان جهنم منكم أجمعين - 18. ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين - 19. فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري من سوآتهما وقال ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين - 20. وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين - 21. فدليهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناديهما ربهما أ لم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين - 22.

[ 19 ]

قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين - 23. قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين - 24. قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون - 25. (بيان) تصف الآيات بدء خلقة الانسان وتصويره، وما جرى هناك من أمر الملائكة بالسجدة له، وسجودهم وإباء إبليس، وغروره آدم وزوجته، وخروجهما من الجنة وما قضى الله في ذلك من القضاء. قوله تعالى: " ولقد مكناكم في الارض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون " التمكين في الارض هو الاسكان والايطان فيها أي جعلنا مكانكم الارض، ويمكن أن يكون من التمكين بمعنى الاقدار والتسليط، ويؤيد المعنى الثاني أن هذه الآيات تحاذي بنحو ما في سورة البقرة من قصة آدم وإبليس وقد بدئت الآيات فيها بقوله: " هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا " البقرة: 29، وهو التسليط والتسخير. غير أن هذه الآيات التي نحن فيها لما كانت تنتهي إلى قوله: " ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين " كان المعنى الاول هو الانسب وقوله: " ولقد مكناكم في الارض " (الخ) كالاجمال لما تفصله الآيات التالية إلى آخر قصة الجنة. والمعايش جمع معيشة وهي ما يعاش به من مطعم أو مشرب أو نحوها، والآية في مقام الامتنان عليهم بما أنعم الله عليهم من نعمة سكنى الارض أو التسلط والاستيلاء عليها، وجعل لهم فيها من أنواع ما يعيشون به، ولذلك ختم الكلام بقوله: " قليلا ما تشكرون ". قوله تعالى: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " صورة

[ 20 ]

قصة تبتدئ من هذه الآية إلى تمام خمس عشرة آية يفصل فيها إجمال الآية السابقة وتبين فيها العلل والاسباب التي انتهت إلى تمكين الانسان في الارض المدلول عليه بقوله: " ولقد مكناكم في الارض وجعلنا لكم فيها معايش ". ولذلك بدئ الكلام في قوله: " ولقد خلقناكم " (الخ) بلام القسم، ولذلك أيضا سيقت القصتان أعني قصة الامر بالسجدة، وقصة الجنة في صورة قصة واحدة من غير أن تفصل القصة الثانية بما يدل على كونها قصة مستقلة كل ذلك ليتخلص إلى قوله: " قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر " إلى آخر الآيتين فينطبق التفصيل على إجمال قوله: " ولقد مكناكم في الارض " الآية. وقوله: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم " الخطاب فيه لعامة الآدميين وهو خطاب امتناني كما مر نظيره في الآية السابقة لان المضمون هو المضمون وإنما يختلفان بالاجمال والتفصيل. وعلى هذا فالانتقال في الخطاب من العموم إلى الخصوص أعني قوله: " ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " بعد قوله: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم " يفيد بيان حقيقتين: الاولى: أن السجدة كانت من الملائكة لجميع بني آدم أي للنشأة الانسانية وإن كان آدم عليه السلام هو القبلة المنصوبة للسجدة فهو عليه السلام في أمر السجدة كان مثالا يمثل به الانسانية نائبا مناب أفراد الانسان على كثرتهم لا مسجودا له من جهة شخصه كالكعبة المجعولة قبلة يتوجه إليها في العبادات، وتمثل بها ناحية الربوبية. ويستفاد هذا المعنى أولا من قصة الخلافة المذكورة في سورة البقرة آية 30 - 33 فإن المستفاد من الآيات هناك أن أمر الملائكة بالسجدة متفرع على الخلافة، والخلافة المذكورة في الآيات كما استفدناه هناك - غير مختصة بادم بل جارية في عامة الآدميين فالسجدة أيضا للجميع. وثانيا: أن إبليس تعرض لهم أي لبني آدم ابتداء من غير توسيط آدم ولا تخصيصه عليه السلام بالتعرض حين قال على ما حكاه الله سبحانه: " فبما أغويتني لاقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم " (الخ) من غير سبق ذكر لبني آدم، وقد ورد نظيره في سورة الحجر حيث قال: " رب بما أغويتني لازينن لهم في

[ 21 ]

الارض ولاغوينهم أجمعين " الحجر: 39، وفي سورة ص حيث قال: " فبعزتك لاغوينهم إجمعين " ص: 82، ولو لا أن الجميع مسجودون بنوعيتهم للملائكة لم يستقم له أن ينقم منهم هذه النقمة ابتداء وهو ظاهر. وثالثا: أن الخطابات التي خاطب الله سبحانه بها آدم عليه السلام كما في سورة البقرة وسورة طه عممها بعينها في هذه السورة لجميع بنيه، قال تعالى: " يا بني آدم إما يأينكم رسل منكم " الخ. والحقيقة الثانية: أن خلق آدم عليه السلام كان خلقا للجميع كما يدل عليه أيضا قوله تعالى: " وبدء خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين " السجدة: 8 وقوله: " هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة " المؤمن: 67، على ما هو ظاهر الآيتين أن المراد بالخلق من تراب هو الذي كان في آدم عليه السلام. ويشعر بذلك أيضا قول إبليس في ضمن القصة على ما حكاه الله سبحانه في سورة أسرى: " لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا " الآية، ولا يخلو عن إشعار به أيضا قوله تعالى: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم " الآيات الاعراف: 172 على ما سيجئ من بيانه. وللمفسرين في الآية أقوال مختلفة قال في مجمع البيان: ثم ذكر سبحانه نعمته في ابتداء الخلق فقال: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم " قال الاخفش: " ثم " هيهنا في معنى الواو، وقال الزجاج: وهذا خطأ لا يجوزه الخليل وسيبويه وجميع من يوثق بعلمه إنما " ثم " للشئ الذي يكون بعد المذكور قبله لا غير، وإنما المعنى في هذا الخطاب ذكر إبتداء الخلق أولا فالمراد أنا بدأنا خلق آدم ثم صورناه فابتدأ خلق آدم من التراب ثم وقعت السورة بعد ذلك فهذا معنى خلقناكم ثم صورناكم " ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " بعد الفراغ من خلق آدم، وهذا مروي عن الحسن، ومن كلام العرب: فعلنا بكم كذا وكذا وهم يعنون أسلافهم، وفي التنزيل: " وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور " أي ميثاق أسلافكم. وقد قيل في ذلك أقوال أخر: منها أن معناه خلقنا آدم ثم صورناكم في ظهره ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، عن ابن عباس ومجاهد والربيع وقتادة والسدي.

[ 22 ]

ومنها: أن الترتيب واقع في الاخبار فكأنه قال: خلقناكم ثم صورناكم ثم إنا نخبركم أنا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم كما يقول القائل: أنا راجل ثم أنا مسرع، وهذا قول جماعة من النحويين منهم على بن عيسى والقاضي أبو سعيد السيرافي وغيرهما، وعلى هذا فقد قيل: إن المعنى: خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء عن عكرمة وقيل خلقناكم في الرحم ثم صورناكم بشق السمع والبصر وسائر الاعضاء انتهى. أما ما نقله عن الزجاج من الوجه ففيه أولا أن نسبة شئ من صفات السابقين أو أعمالهم إلى أعقابهم إنما تصح إذا اشترك القبيلان في ذلك بنوع من الاشتراك كما فيما أورده من المثال لا بمجرد علاقة النسب والسبق واللحوق حتى يصح بمجرد الانتساب النسلي أن تعد خلقة نفس آدم خلقا لبنيه من غير أن يكون خلقه خلقا لهم بوجه. وثانيا: أن ما ذكره لو صح به أن يعد خلق آدم وتصويره خلقا وتصويرا لبنيه صح أن يعد إمر الملائكة آبالسجدة له أمرا لهم بالسجدة لبنيه كما جرى على ذلك في قوله: " وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور " فما باله قال: " ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " ولم يقل: " ثم قلنا للملائكة اسجدوا للانسان ". وأما ما نقله أخيرا من أقوالهم فوجوه سخيفة غير مفهومة من لفظ الآية، ولعل القائلين بها لا يرضون أن يتأول في كلامهم أنفسهم بمثل هذه الوجوه فكيف يحمل على مثلها أبلغ الكلام ؟. قوله تعالى: " فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين " أخبر تعالى عن سجود الملائكة جميعا كما يصرح به في قوله: " فسجد الملائكة كلهم أجمعون " الحجر: 30، واستثنى منهم إبليس وقد علل عدم ائتماره بالامر في موضع آخر بقوله: " كان من الجن ففسق عن أمر ربه " الكهف: 50، وقد وصف الملائكة بمثل قوله: " بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " الانبياء: 27، وهو بظاهره يدل على أنه من غير نوع الملائكة. ولهذا وقع الخلاف بينهم في توجيه هذا الاستثناء: أ هو استثناء متصل بتغليب الملائكة لكونهم أكثر وأشرف أو أنه استثناء منفصل وإنما أمر بأمر على حده غير

[ 23 ]

الامر المتوجه إلى جمع الملائكة وإن كان ظاهر قوله: " ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك " أن الامر لم يكن إلا واحدا وهو الذي وجهه الله إلى الملائكة. والذي يستفاد من ظاهر كلامه تعالى أن إبليس كان مع الملائكة من غير تميز له منهم والمقام الذي كان يجمعهم جميعا كان هو مقام القدس كما يستفاد من قصة ذكر الخلافة " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة قالوا أ تجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " البقرة: 30، وأن الامر بالسجود إنما كان متوجها إلى ذلك المقام أعني إلى المقيمين بذلك المقام من جهة مقامهم كما يشير إليه قوله تعالى في ما سيأتي: " قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها " والضمير إلى المنزلة أو إلى السماء أو الجنة ومالهما إلى المنزلة والمقام ولو كان الخطاب متوجها إليهم من غير دخل المنزلة والمقام في ذلك لكان من حق الكلام أن يقال: " فما يكون لك أن تتكبر ". وعلى هذا لم يكن بينه وبين الملائكة فرق قبل ذلك ؟ وعند ذلك تميز الفريقان، وبقي الملائكة على ما يقتضيه مقامهم ومنزلتهم التي حلوا فيها، وهو الخضوع العبودي والامتثال كما حكاه الله عنهم: " بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " فهذه حقيقة حياة الملائكة وسنخ أعمالهم، وقد بقوا على ذلك وخرج ابليس من المنزلة التي كان يشاركهم فيها كما يشير إليه قوله: " كان من الجن ففسق عن أمر ربه " والفسق خروج التمرة عن قشرها فتميز منهم فأخذ حياة لا حقيقة لها إلا الخروج من الكرامة الالهية وطاعة العبودية. والقصة وإن سيقت مساق القصص الاجتماعية المألوفة بيننا وتضمنت أمرا وامتثالا وتمردا و احتجاجا وطردا ورجما وغير ذلك من الامور التشريعية والمولوية غير أن البيان السابق على استفادته من الآيات يهدينا إلى كونها تمثيلا للتكوين بمعنى أن ابليس على ما كان عليه من الحال لم يقبل الامتثال أي الخضوع للحقيقة الانسانية فتفرعت عليه المعصية، ويشعر به قوله تعالى: " فما يكون لك أن تتكبر فيها " فإن ظاهره أن هذا المقام لا يقبل لذاته التكبر فكان تكبره فيه خروجه منه وهبوطه إلى ما هو دونه. على أن الامر بالسجود - كما عرفت - أمر واحد توجه إلى الملائكة وابليس

[ 24 ]

جميعا بعينه، والامر المتوجه إلى الملائكة ليس من شأنه أن يكون مولويا تشريعيا بمعنى الامر المتعلق بفعل يتساوى نسبة مأموره إلى الطاعة والمعصية والسعادة والشقاوة فإن الملائكة مجبولون على الطاعة مستقرون في مقر السعادة كما أن ابليس واقع في الجانب المخالف لذلك على ما ظهر من أمره بتوجيه الامر إليه. فلو لا أن الله سبحانه خلق آدم وأمر الملائكة وابليس جميعا بالسجود له لكان ابليس على ما كان عليه من منزلة القرب غير متميز من الملائكة لكن خلق الانسان شق المقام مقامين: مقام القرب ومقام البعد، وميز السبيل سبيلين: سبيل السعادة وسبيل الشقاوة. قوله تعالى: " قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " يريد ما منعك أن تسجد كما وقع في سورة ص من قوله: " قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " ص: 75، ولذلك ربما قيل: إن " لا " زائدة جيئ بها للتأكيد كما في قوله: " لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شئ من فضل الله " الحديد: 29. والظاهر أن " منع " مضمن نظير معنى حمل أو دعا والمعنى: ما حملك أو ما دعاك على أن لا تسجد مانعا لك. وقوله: " قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " يحكط عما أجاب به لعنه الله، وهو أول معصيته وأول معصية عصى بها الله سبحانه فإن جميع المعاصي ترجع بحسب التحليل إلى دعوى الانية ومنازعة الله سبحانه في كبريائه، وله رداء الكبرياء لا شريك له فيه، فليس لعبد مخلوق أن يعتمد على ذاته ويقول: أنا قبال الانية الالهية التي عنت له الوجود، وخضعت له الرقاب، وخشعت له الاصوات، وذل له كل شئ. ولو لم تنجذب نفسه إلى نفسه، ولم يحتبس نظره في مشاهدة إنيته لم يتقيد باستقلال ذاته، وشاهد الاله القيوم فوقه فذلت له إنيته ذلة تنفي عنه كل استقلال وكبرياء فخضع للامر الالهي، وطاوعته نفسه في الايتمار والامتثال، ولم تنجذب نفسه إلى ما كان يتراءى من كونه خيرا منه لانه من النار وهو من الطين بل انجذبت نفسه إلى

[ 25 ]

الامر الصادر عن مصدر العظمة والكبرياء ومنبع كل جمال وجلال. وكان من الحرى إذا سمع قوله: " ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك " أن يأتي بما يطابقه من الجواب كأن يقول: منعني أني خير منه لكنه أتى بقوله: " أنا خير منه " ليظهر به الانية، ويفيد الثبات والاستمرار، ويستفاد منه أيضا أن المانع له من السجدة ما يرى لنفسه من الخيريه فقوله: " أنا خير منه " أظهر وآكد في إفادة التكبر. ومن هنا يظهر أن هذا التكبر هو التكبر على الله سبحانه دون التكبر على آدم. ثم إنه في قوله: " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " استدل على كونه خيرا من آدم بمبدء خلقته وهو النار وأنها خير من الطين الذي خلق منه آدم، وقد صدق الله سبحانه ما ذكره من مبدأ خلقته حيث ذكر أنه كان من الجن، وأن الجن مخلوق من النار قال تعالى: " كان من الجن ففسق عن أمر ربه " الكهف: 50 وقال: " ولقد خلقنا الانسان من صلصال من حمأ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم " الحجر: 27، وقال أيضا: " خلق الانسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار " الرحمن: 15. لكنه تعالى لم يصدقه فيما ذكره من خيريته منه فإنه تعالى وإن لم يرد عليه قوله " أنا خير منه خلقتني من نار " الخ، في هذه السورة إلا أنه بين فضل آدم عليه وعلى الملائكة في حديث الخلافة الذي ذكره في سورة البقرة للملائكة. على أنه تعالى ذكر القصة في موضع آخر بقوله: " إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " الخ، ص: 76. فبين أولا أنهم لم يدعوا إلى السجود له لمادته الارضية التي سوي منها، وإنما دعوا إلى ذلك لما سواه ونفخ فيه من روحه الخاص به تعالى الحاملة للشرف كل الشرف

[ 26 ]

والمتعلقة لتمام العناية الربانية ويدور أمر الخيرية في التكوينيات مدار العناية الالهية لا لحكم من ذواتها فلا حكم إلا لله. ثم بين ثانيا لما سأله عن سبب عدم سجوده بقوله: " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " أنه تعالى اهتم بأمر خلقته كل الاهتمام واعتنى به كل الاعتناء حيث خلقه بكلتا يديه بأي معنى فسرنا اليدين، وهذا هو الفضل فأجاب لعنه الله بقوله: " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " فتعلق بأمر النار والطين، وأهمل أمر تكبره على ربه كما أنه في هذه السورة سئل عن سبب تكبره على ربه إذ قيل له: " ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك " فتعلق بقوله: " أنا خير منه " الخ، ولم يعتن بما سئل عنه أعني السبب في تكبره على ربه إذ لم يأتمر بأمره. بلى قد اعتنى به إذ قال: " أنا خير منه " فأثبت لنفسه استقلال الانية قبال الانية الالهية التي قهرت كل شئ فاستدعاه ذلك إلى نسيان كبريائه تعالى ووجد نفسه مثل ربه وأن له استقلالا كاستقلاله، وأوجب ذلك أن أهمل وجوب امتثال امره لانه الله بل اشتغل بالمرجحات فوجد الترجيح للمعصية على الطاعة وللتمرد على الانقياد وليس إلا أن تكبره بإثبات الانية المستقلة لنفسه أعمى بصره فوجد مادة نفسه وهي النار خيرا من مادة نفس آدم وهي الطين فحكم بأنه خير من آدم، ولا ينبغي للفاضل أن يخضع بالسجود لمفضوله، وإن أمر به الله سبحانه لانه يسوي بنفسه نفس ربه بما يرى لنفسه من استقلال وكبرياء كاستقلاله فيترك الآمر ويتعلق بالمرجحات في الامر. وبالجملة هو سبحانه الله الذي منه يبتدئ كل شئ وإليه يرجع كل شئ فإذا خلق شيئا وحكم عليه بالفضل كان له الفضل والشرف واقعا بحسب الوجود الخارجي وإذا خلق شيئا ثانيا وأمره بالخضوع للاول كان وجوده ناقصا مفضولا بالنسبه إلى ذلك الاول فإن المفروض أن أمره أما نفس التكوين الحق أو ينتهي إلى التكوين فقوله الحق والواجب في امتثال أمره أن يمتثل لانه أمره لا لانه مشتمل على مصلحة أو جهة من جهات الخير والنفع حتى يعزل عن ربوبيته ومولويته ويعود زمام الامر والتأثير إلى المصالح والجهات، وهي التي تنتهي إلى خلقه وجعله كسائر الاشياء من غير فرق. فجملة ما تدل عليه آيات القصة أن إبليس أنما عصى واستحق الرجم بالتكبر على

[ 27 ]

الله في عدم امتثال أمره، وأن الذي أظهر به تكبره هو قوله: " أنا خير منه " وقد تكبر فيه على ربه كما تقدم بيانه وإن كان ذلك تكبرا منه على آدم حيث إنه فضل نفسه عليه واستصغر أمره وقد خصه الله بنفسه وأخبرهم بأنه أشرف منهم في حديث الخلافة وفي قوله: " ونفخت فيه من روحي " وقوله: " خلقت بيدي " إلا أن العناية في الآيات باستكباره على الله لا استكباره على آدم. ومن الدليل على ذلك قوله تعالى: " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه " الكهف: 50 حيث لم يقل: فاستنكف عن الخضوع لآدم بل إنما ذكر الفسق عن أمر الرب تعالى. فتلخص أن آيات القصة إنما تعتني بمسألة استعلائه على ربه، وأما استكباره على آدم وما احتج به على ذلك فذلك من المدلول عليه بالتبع، والظاهر أنه هو السر في عدم التعرض للجواب عن حجته صريحا إلا ما يؤمي إليه بعض أطراف الكلام كقوله: " خلقت بيدي " وقوله: " ونفخت فيه من روحي " وغير ذلك. فإن قلت: القول بكون الامر بالسجود تكوينيا ينافي ما تنص عليه الآيات من معصية إبليس فإن القابل للمعصية والمخالفة إنما هو الامر التشريعي وأما الامر التكويني فلا يقبل المعصية والتمرد البتة فإنه كلمة الايجاد الذي لا يتخلف عنه الوجود قال: " إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " النحل: 40. قلت: الذي ذكرناه آنفا أن القصة بما تشتمل عليه بصورتها من الامر والامتثال والتمرد والطرد وغير ذلك وإن كانت تتشبه بالقضايا الاجتماعية المألوفة فيما بيننا لكنها تحكي عن جريان تكويني في الروابط الحقيقية التي بين الانسان والملائكة وإبليس فهي في الحقيقة تبين ما عليه خلق الملائكة وإبليس وهما مرتبطان بالانسان، وما تقتضيه طبائع القبيلين بالنسبة إلى سعادة الانسان وشقائه، وهذا غير كون الامر تكوينيا. فالقصة قصة تكوينية مثلت بصورة نألفها من صور حياتنا الدنيوية الاجتماعية كملك من الملوك أقبل على واحد من عامة رعيته لما تفرس منه كمال الاستعداد وتمام القابلية فاستخلصه لنفسه وخصه بمزيد عنايته، وجعله خليفته في مملكته مقدما له على خاصته ممن حوله فأمرهم بالخضوع لمقامه والعمل بين يديه فلباه في دعوته وامتثال

[ 28 ]

أمره جمع منهم، فرضي عنهم بذلك وأقرهم على مكانتهم، واستكبر بعضهم فخطأ الملك في أمره فلم يمتثله معتلا بأنه أشرف منه جوهرا وأغزر عملا فغضب عليه وطرده عن نفسه وضرب عليه الذلة والصغار لان الملك إنما يطاع لانه ملك بيده زمام الامر وإليه إصدار الفرامين والدساتير، وليس يطاع لان ما أمر به يطابق المصلحة الواقعية فإنما ذلك شأن الناصح الهادي إلى الخير والرشد. وبالتأمل في هذا المثل ترى أن خاصة الملك - أعم من المطيع والعاصي - كانوا متفقين قبل صدور الامر في منزلة القرب مستقرين في مستوى الخدمة وحظيرة الكرامة من غير أي تميز بينهم حتى أتاهم الامر من ذي العرش فينشعب الطريق عند ذلك إلى طريقين ويتفرقون طائفتين طائفة مطيعة مؤتمرة وإخرى عاصية مستكبرة وتظهر من الملك بذلك سجاياه الكامنة ووجوه قدرته وصور إرادته من رحمة وغضب وتقريب وتبعيد وعفو ومغفرة وأخذ وانتقام ووعد ووعيد وثواب وعقاب، والحوادث كالمحك يظهر باحتكاكه جوهر الفلز ما عنده من جودة أو رداءة. فقصة سجود الملائكة وإباء إبليس تشير إلى حقائق تشابه بوجه ما يتضمنه هذا المثل من الحقائق والامر بالسجدة فيها تشريفه تعالى آدم بقرب المنزلة ونعمة الخلافة وكرامة الولاية تشريفا أخضع له الملائكة وأبعد منه إبليس لمضادة جوهر السعادة الانسانية فصار يفسد الامر عليه كلما مسه ويغويه إذا اقترب منه كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله. وقد عبر الله سبحانه عن إنفاذه أمر التكوين في مواضع من كلامه بلفظ الامر أو ما يشبه ذلك كقوله: " فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " حم السجدة: 11، وقوله: " إنا عرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها " الاحزاب: 72 وأشمل من الجميع قوله: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " يس: 82. فان قلت: رفع اليد عن ظاهر القصة وحملها على جهة التكوين المحضة يوجب التشابه في عامة كلامه تعالى، ولا مانع حينئذ يمنع من حمل معارف المبدء والمعاد بل والقصص والعبر والشرائع على الامثال، وفي تجويز ذلك إبطال للدين.

[ 29 ]

قلت: إنما المتبع هو الدليل فربما دل على ثبوتها وعلى صراحتها ونصوصيتها كالمعارف الاصلية والاعتقادات الحقة وقصص الانبياء والامم في دعواتهم الدينية والشرائع والاحكام وما تستتبعه من الثواب والعقاب ونظائر ذلك، وربما دل الدليل وقامت شواهد على خلاف ذلك كما في القصة التي نحن فيها، ومثل قصة الذر وعرض الامانة وغير ذلك مما لا يستعقب إنكار ضروري من ضروريات الدين، ولا يخالف آية محكمة ولا سنة قائمة ولا برهانا يقينيا. والذي ذكره إبليس في مقام الاحتجاج: " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " من القياس وهو استدلال ظني لا يعبأ به في سوق الحقائق، وقد ذكر المفسرون وجوها كثيره في الرد عليه لكنك عرفت أن القرآن لم يعتن بأمره، وإنما آخذ الله إبليس باستكباره عليه في مقام ليس له فيه إلا الانقياد والتذلل، ولذلك أغمضنا عن التعرض لما ذكروه. قوله تعالى: " قال اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين " التكبر هو أخذ الانسان مثلا الكبر لنفسه وظهوره به على غيره فإن الكبر والصغر من الامور الاضافية ويستعمل في المعاني غالبا فإذا أظهر الانسان بقول أو فعل أنه أكبر من غيره شرفا أو جاها أو نحو ذلك فقد تكبر عليه وعده صغيرا، وإذ كان لا شرف ولا كرامة لشئ على شئ إلا ما شرفه الله وكرمه كان التكبر صفة مذمومة في غيره تعالى على الاطلاق إذ ليس لما سواه تعالى إلا الفقر والمذلة في أنفسهم من غير فرق بين شئ وشئ ولا كرامة إلا بالله ومن قبله، فليس لاحد من دون الله أن يتكبر على أحد، وإنما هو صفة خاصة بالله سبحانه فهو الكبير المتعال على الاطلاق فمن التكبر ما هو حق محمود وهو الذي لله عز اسمه أو ينتهي إليه بوجه كالتكبر على أعداء الله الذي هو في الحقيقة اعتزاز بالله، ومنه ما هو باطل مذموم وهو الذي يوجد عند غيره بدعوى الكبر لنفسه لا بالحق. و " الصاغرين " جمع صاغر من الصغار وهو الهوان والذلة والصغار في المعاني كالصغر في الصور، وقوله: " فاخرج إنك من الصاغرين " تفسير وتأكيد لقوله " فاهبط منها " لان الهبوط هو خروج الشئ من مستقره نازلا فيدل ذلك على أن

[ 30 ]

الهبوط المذكور إنما كان هبوطا معنويا لا نزولا من مكان جسماني إلى مكان آخر، ويتأيد به ما تقدم أن مرجع الضمير في قوله: " منها " وقوله: " فيها " هو المنزلة دون السماء أو الجنة إلا أن يرجعا إلى المنزلة بوجه. والمعنى: قال الله تعالى: فتنزل عن منزلتك حيث لم تسجد لما أمرتك فإن هذه المنزلة منزلة التذلل والانقياد لي فما يحق لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين أهل الهوان وإنما أخذ بالصغار ليقابل به التكبر. قوله تعالى: " قال أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين " استمهال وإمهال، وقد فصل الله تعالى ذلك في موضع آخر بقوله: " قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم " الحجر: 38، ص: 81، ومنه يعلم أنه أمهل بالتقييد لا بالاطلاق الذي ذكره فلم يمهل إلى يوم البعث بل ضرب الله لمهلته أجلا دون ذلك وهو يوم الوقت المعلوم، وسيجئ الكلام فيه في سورة الحجر إنشاء الله تعالى. فقوله تعالى: " إنك من المنظرين " إنما يدل على إجمال ما أمهل به، وفيه دلالة على أن هناك منظرين غيره. واستمهاله إلى يوم البعث يدل على أنه كان من همه أن يديم على إغواء هذا النوع في الدنيا وفي البرزخ جميعا حتى تقوم القيامة فلم يجبه الله سبحانه إلى ما استدعاه بل لعله أجابه إلى ذلك إلى آخر الدنيا دون البرزخ فلا سلطان له في البرزخ سلطان الاغواء والوسوسة وإن كان ربما صحب الانسان بعد موته في البرزخ مصاحبة الزوج والقرين كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى: " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون " الزخرف: 39، وظاهر قوله: " احشروا الذين ظلموا وأزواجهم " الصافات: 22. قوله تعالى: " قال فبما أغويتني لاقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم " إلى آخر الآية. الاغواء هو الالقاء في الغي والغي والغواية هو الضلال بوجه والهلاك والخيبة، والجملة أعني قوله: " أغويتني " وإن فسر بكل من هذه

[ 31 ]

المعاني على اختلاف أنظار المفسرين غير أن قوله تعالى في سورة الحجر فيما حكاه عنه: " قال رب بما أغويتني لا زينن لهم في الارض ولاغوينهم أجمعين " يؤيد أن مراده هو المعنى الاول، والباء في قوله " فبما " للسببيه أو المقابلة، والمعنى: فبسبب إغوائك إياي أو في مقابلة إغوائك إياي لاقعدن لهم الخ، وقد أخطا من قال: إنها للقسم وكأن القائل أراد أن يطبقه على قوله تعالى في موضع آخر حكاية عنه: " قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين " ص: 82. وقوله: " لاقعدن لهم صراطك المستقيم " أي لاجلسن لاجلهم على صراطك المستقيم وسبيلك السوي الذي يوصلهم إليك وينتهي بهم إلى سعادتهم لما أن الجميع سائرون إليك سالكون لا محالة مستقيم صراطك فالقعود على الصراط المستقيم كنايه عن التزامه والترصد لعابريه ليخرجهم منه. وقوله: " ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم " بيان لما يصنعه بهم وقد كمن لهم قاعدا على الصراط المستقيم، وهو أنه يأتيهم من كل جانب من جوانبهم الاربعة. وإذ كان الصراط المستقيم الذي كمن لهم قاعدا عليه أمرا معنويا كانت الجهات التي يأتيهم منها معنوية لا حسية والذي يستأنس من كلامه تعالى لتشخيص المراد بهذه الجهاد كقوله تعالى: " يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا " النساء: 120، وقوله: " إنما ذلكم الشيطان يخوف ألياءه " آل عمران: 175 وقوله: " ولا تتبعوا خطوات الشيطان " البقرة: 168، وقوله: " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء " البقرة: 268 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة هو أن المراد مما بين أيديهم ما يستقبلهم من الحوادث أيام حياتهم مما يتعلق به الآمال والاماني من الامور التي تهواه النفوس وتستلذه الطباع، ومما يكرهه الانسان ويخاف نزوله به كالفقر يخاف منه لو أنفق المال في سبيل الله أو ذم الناس ولومهم لو ورد سبيلا من سبل الخير والثواب. والمراد بخلقهم ناحية الاولاد والاعقاب فللانسان فيمن يخلفه بعده من الاولاد آمال وأماني ومخاوف ومكاره فإنه يخيل إليه أنه يبقى ببقائهم فيسره ما يسرهم ويسوءه ما يسوؤهم فيجمع المال من حلاله وحرامه لاجلهم، ويعد لهم ما استطاع من قوة فيهلك

[ 32 ]

نفسه في سبيل حياتهم. والمراد باليمين وهو الجانب القوي الميمون من الانسان ناحية سعادتهم وهو الدين وإتيانه من جانب اليمين أن يزين لهم المبالغة في بعض الامور الدينية، والتكلف بما لم يأمرهم به الله وهو الذي يسميه الله تعالى باتباع خطوات الشيطان. والمراد بالشمال خلاف اليمين، وإتيانه منه أن يزين لهم الفحشاء والمنكر ويدعوهم إلى ارتكاب المعاصي واقتراف الذنوب واتباع الاهواء. قال الزمخشري في الكشاف: فإن قلت: كيف قيل: " من بين أيديهم ومن خلفهم " بحرف الابتداء، و " عن أيمانهم وعن شمائلهم " بحرف المجاوزة ؟ قلت: المفعول فيه عدي إليه الفعل نحو تعديته إلى المفعول به فكما اختلفت حروف التعدية في ذاك اختلفت في هذا وكانت لغه تؤخذ ولا تقاس وإنما يبحث عن صحة موقعها فقط. فلما سمعناهم يقولون: جلس عن يمينه وعلى يمينه وجلس عن شماله وعلى شماله قلنا: معنى على يمينه أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلي من المستعلى عليه، ومعنى عن يمينه أنه جلس متجافيا عن صاحب اليمين منحرفا عنه غير ملاصق له ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره كما ذكرنا في " تعال " انتهى موضع الحاجة. وقوله تعالى: " ولا تجد أكثرهم شاكرين " نتيجة ما ذكره من صنعه بهم بقوله: " لاقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم " الخ، وقد وضع في ما حكاه الله من كلامه في غير هذا الموضع بدل هذه الجملة أعني " ولا تجد أكثرهم شاكرين " جملة إخرى قال: " قال أ رأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا " أسرى: 62 فاستثنى من وسوسته وإغوائه القليل مطابقا لما في هذه السورة، وقال: " لاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين " الحجر: 40، ص: 83. ومنه يظهر أنه إنما عنى بالشاكرين في هذا الموضع المخلصين، والتأمل الدقيق في معنى الكلمتين يرشد إلى ذلك فإن المخلصين - بفتح اللام - هم الذين أخلصوا لله فلا يشاركه فيهم أي في عبوديتهم وعبادتهم سواه، ولا نصيب فيهم لغيره ولا يذكرون إلا ربهم وقد نسوا دونه كل شئ حتى أنفسهم فليس في قلوبهم إلا هو سبحانه، ولا موقف فيها للشيطان ولا لتزييناته.

[ 33 ]

والشاكرون هم الذين استقرت فيهم صفة الشكر على الاطلاق فلا يمسون نعمة إلا بشكر أي بأن يستعملوها ويتصرفوا فيها قولا أو فعلا على نحو يظهرون به أنها من عند ربهم المنعم بها عليهم فلا يقبلون على شئ - أعم من أنفسهم وغيرهم - إلا وهم على ذكر من ربهم قبل أن يمسوه ومعه وبعده، وأنه مملوك له تعالى طلقا ليس له من الامر شئ فذكرهم ربهم على هذه الوتيرة ينسيهم ذكر غيره إلا بالله، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه. فلو أعطي اللفظ حق معناه لكان الشاكرون هم المخلصين، واستثناء إبليس الشاكرين أو المخلصين من شمول إغوائه وإضلاله جرى منه على حقيقة الامر اضطرارا ولم يأت به جزافا أو امتنانا على بني آدم أو رحمة أو لغير ذلك. فهذا ما واجه إبليس به مصدر العزة والعظمة أعني قوله: " فبما أغويتني لاقعدن لهم صراطك المستقيم - إلى قوله - ولا تجد أكثرهم شاكرين " فأخبر أنه يقصدهم من كل جهة ممكنة، ويفسد الامر على أكثرهم بإخراجهم عن الصراط المستقيم، ولم يبين نحو فعله وكيفية صنعه. لكن في كلامه إشارة إلى حقيقتين: أحداهما: أن الغواية التي تمكنت في نفسه وهو ينسبها إلى صنع الله هي السبب لا ضلاله وإغوائه لهم أي أنه يمسهم بنفسه الغوية فلا يودع فيهم إلا الغواية كالنار التي تمس الماء بسخونتها فتسخنه، وهذه الحقيقة ظاهرة من قوله تعالى: " احشروا الذين ظلموا وأزواجهم - إلى أن قال - وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين قالوا بل لم تكونوا مؤمنين - إلى أن قال - فأغويناكم إنا كنا غاوين " الصافات: 32. والثانية: أن الذي يمسه الشيطان من بني آدم - وهو نوع عمله وصنعه - هو الشعور الانساني وتفكره الحيوي المتعلق بتصورات الاشياء والتصديق بما ينبغى فعله أو لا ينبغي، وسيجئ تفصيله في الكلام في إبليس وعمله. قوله تعالى: " قال اخرج منها مذؤوما مدحورا لمن تبعك " (الخ) المذؤوم من ذامه يذامه ويذيمه إذا عابه وذمه، والمدحور من دحره إذا طرده ودفعه بهوان.

[ 34 ]

وقوله: " لمن تبعك منهم " الخ، اللام للقسم وجوابه هو قوله: " لاملان جهنم " الخ، لما كان مورد كلام إبليس - وهو في صورة التهديد بالانتقام - هو بني آدم وأنه سيبطل غرض الخلقة فيهم وهو كونهم شاكرين أجابه تعالى بما يفعل بهم وبه فقال: " لمن تبعك منهم " محاذاة لكلامه ثم قال: " لاملان جهنم منكم أجمعين " أي منك ومنهم فأشركه في الجزاء معهم. وقد امتن تعالى في كلمته هذه التي لا بد أن تتم فلم يذكر جميع من تبعه بل أتى بقوله: " منكم " وهو يفيد التبعيض. قوله تعالى: " ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة " إلى آخر الآية. خص بالخطاب آدم عليه السلام وألحق به في الحكم زوجته، وقوله: " فكلا من حيث شئتما " توسعة في إباحة التصرف إلا ما استثناه بقوله: " ولا تقربا هذه الشجرة " والظلم هو الظلم على النفس دون معصية الامر المولوي فإن الامر إرشادي. قوله تعالى: " فوسوس لهما الشيطان " إلى آخر الآية. الوسوسة هي الدعاء إلى أمر بصوت خفي، والمواراة ستر الشئ بجعله وراء ما يستره، والسوآة جمع السؤة وهي العضو الذي يسوء الانسان إظهاره والكشف عنه، وقوله: " ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين " الخ، أي إلا كراهة أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. والملك وأن قرئ بفتح اللام إلا أن فيه معنى الملك - بالضم فالسكون - والدليل عليه قوله في موضع آخر: " قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى " طه: 120. ونقل في المجمع عن السيد المرتضى رحمه الله احتمال أن يكون المراد بقوله: " إلا أن تكونا ملكين " الخ، إنه أوهمهما أن المنهي عن تناول الشجرة الملائكة خاصة والخالدون دونهما فيكون كما يقول أحدنا لغيره: ما نهيت عن كذا إلا أن تكون فلانا، وإنما يريد إن المنهي إنما هو فلان دونك، وهذا أوكد في الشبهة واللبس عليهما (انتهى). لكن آية سورة طه المنقولة آنفا تدفعه. قوله تعالى: " وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين " المقاسمة المبالغة في القسم أي حلف لهما

[ 35 ]

وأغلظ في حلفه أنه لهما لمن الناصحين، والنصح خلاف الغش. قوله تعالى: " فدليهما بغرور إلى آخر الآية. التدلية التقريب والايصال كما أن التدلي الدنو والاسترسال، وكأنه من الاستعارة من دلوت الدلو أي أرسلتها، والغرور إظهار النصح مع إبطان الغش، الخصف الضم والجمع، ومنه خصف النعل. وفي قوله: " وناداهما ربهما أ لم أنهكما عن تلكما الشجرة " دلالة على أنهما عند توجه هذا الخطاب كانا في مقام البعد من ربهما لان النداء هو الدعاء من بعد، وكذا من الشجرة بدليل قوله: " تلكما الشجرة " بخلاف قوله عند أول ورودهما الجنة: " ولا تقربا هذه الشجرة ". قوله تعالى: " قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين " هذا منهما نهاية التذلل والابتهال، ولذلك لم يسألا شيئا وإنما ذكرا حاجتهما إلى المغفرة والرحمة وتهديد الخسران الدائم المطلق لهما حتى يشاء الله ما يشاء. قوله تعالى: " قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو " إلى آخر الآية، كأن الخطاب لآدم وزوجته وإبليس، وعداوة بعضهم لبعض هو ما يشاهد من اختلاف طبائعهم، وهذا قضاء منه تعالى والقضاء الآخر قوله: " ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين " أي إلى آخر الحياة الدنيوية، وظاهر السياق أن الخطاب الثاني أيضا يشترك فيه الثلاثة. قوله تعالى: " قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون " قضاء آخر يوجب تعلقهم بالارض إلى حين البعث، وليس من البعيد أن يختص هذا الخطاب بآدم وزوجته وبنيهما، لما فيه من الفصل بلفظة " قال " وقد مر تفصيل الكلام في قصة الجنة في سورة البقرة فليراجعها من شاء. (كلام في إبليس وعمله) عاد موضوع إبليس موضوعا مبتذلا عندنا لا يعبأ به دون أن نذكره أحيانا ونلعنه أو نتعوذ بالله منه أو نقبح بعض أفكارنا بأنها من الافكار الشيطانية ووساوسه ونزغاته دون أن نتدبر فنحصل ما يعطيه القرآن الكريم في حقيقة هذا الموجود العجيب

[ 36 ]

الغائب عن حواسنا، وما له من عجيب التصرف والولاية في العالم الانساني. وكيف لا وهو يصاحب العالم الانساني على سعة نطاقه العجيبة منذ ظهر في الوجود حتى ينقضي أجله وينقرض بانطواء بساط الدنيا ثم يلازمه بعد الممات ثم يكون قرينه حتى يورده النار الخالدة، وهو مع الواحد منا كما هو مع غيره هو معه في علانيته وسره يجاريه كلما جرى حتى في أخفى خيال يتخيله في زاوية من زوايا ذهنه أو فكرة يواريها في مطاوى سريرته لا يحجبه عنه حاجب، ولا يغفل عنه بشغل شاغل. وأما الباحثون منا فقد أهملوا البحث عن ذلك وبنوا على ما بنى عليه باحثوا الصدر الاول سالكين ما خطوا لهم من طريق البحث، وهي النظريات الساذجة التي تلوح للافهام العامية لاول مرة تلقوا الكلام الالهي ثم التخاصم في ما يهتدي إليه فهم كل طائفة خاصة، والتحصن فيه ثم الدفاع عنه بأنواع الجدال، والاشتغال بإحصاء إشكالات القصة وتقرير السؤال والجواب بالوجه بعد الوجه. لم خلق الله إبليس وهو يعلم من هو ؟ لم أدخله في جمع الملائكة وليس منهم ؟ لم أمره بالسجدة وهو يعلم أنه لا يأتمر ؟ لم لم يوفقه للسجدة وأغواه ؟ لم لم يهلكه حين لم يسجد ؟ لم أنظره إلى يوم يبعثون أو إلى يوم الوقت المعلوم ؟ لم مكنه من بني آدم هذا التمكين العجيب الذي به يجري منهم مجرى الدم ؟ لم أيده بالجنود من خيل ورجل وسلطه على جميع ما للحياة الانسانية به مساس ؟ لم لم يظهره على حواس الانسان ليحترز مساسه ؟ لم لم يؤيد الانسان بمثل ما أيده به ؟ ولم لم يكتم أسرار خلقة آدم وبنيه من إبليس حتى لا يطمع في إغوائهم ؟ وكيف جازت المشافهة بينه وبين الله سبحانه وهو أبعد الخليقة منه وأبغضهم إليه ولم يكن بنبي ولا ملك ؟ فقيل بمعجزة وقيل: بإيجاد آثار تدل على المراد ولا دليل على شئ من ذلك. ثم كيف دخل إبليس الجنة ؟ وكيف جاز وقوع الوسوسة والكذب والمعصية هناك وهي مكان الطهارة والقدس ؟ وكيف صدقه آدم وكان قوله مخالفا لخبر الله ؟ وكيف طمع في الملك والخلود وذلك يخالف اعتقاد المعاد ؟ وكيف جازت منه المعصية وهو نبي معصوم ؟ وكيف قبلت توبته ولم يرد إلى مقامه الاول والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ؟ وكيف... ؟ وكيف.... ؟

[ 37 ]

وقد بلغ من إهمال الباحثين في البحث الحقيقي واسترسالهم في الجدال إشكالا وجوابا أن ذهب الذاهب منهم إلى أن المراد بآدم هذا آدم النوعي والقصة تخييليه محضة واختار آخرون أن إبليس الذي يخبر عنه القرآن الكريم هو القوة الداعية إلى الشر من الانسان !. وذهب آخرون إلى جواز انتساب القبائح والشنائع إليه تعالى وأن جميع المعاصي من فعله، وأنه يخلق الشر والقبيح فيفسد ما يصلحه، وأن الحسن هو الذي أمر به والقبيح هو الذي نهى عنه، وآخرون: إلى أن آدم لم يكن نبيا، وآخرون: إلى أن الانبياء غير معصومين مطلقا، وآخرون إلى أنهم غير معصومين قبل البعثة وقصة الجنة قبل بعثة آدم، وآخرون: إلى أن ذلك كله من الامتحان واختبار ولم يبينوا ما هو الملاك الحقيقي في هذا الامتحان الذي يضل به كثيرون ويهلك به الاكثرون، ولو لا وجود ملاك يحسم مادة الاشكال لعادت الاشكالات بأجمعهم. والذي يمنع نجاح السعي في هذه الابحاث ويختل به نتائجها هو أنهم لم يفرقوا في هذه المباحث جهاتها الحقيقية من جهاتها الاعتبارية، ولم يفصلوا التكوين عن التشريع فاختل بذلك نظام البحث، وحكموا في ناحية التكوين غالبا الاصول الوضيعة الاعتبارية الحاكمة في التشريعيات والاجتماعيات. والذي يجب تحريره وتنقيحه على الحر الباحث عن هذه الحقائق الدينية المرتبطة بجهات التكوين أن يحرر جهات: الاولى: أن وجود شئ من الاشياء التي يتعلق بها الخلق والايجاد في نفسه - أعني وجوده النفسي من غير إضافة - لا يكون إلا خيرا ولا يقع إلا حسنا، فلو فرض محالا تعلق الخلقة بما فرض شرا في نفسه عاد أمرا موجودا له آثار وجودية يبتدئ من الله ويرتزق برزقه ثم ينتهي إليه فحاله حال سائر الخليقة ليس فيه أثر من الشر والقبح إلا أن يرتبط وجوده بغيره فيفسد نظاما عادلا في الوجود أو يوجب حرمان جمع من الموجودات من خيرها وسعادتها، وهذه هي الاضافة المذكورة. ولذلك كان من الواجب في الحكمة الالهية أن ينتفع من هذه الموجودات المضرة الوجود بما يربو على مضرتها وذلك قوله تعالى: " الذي أحسن كل شئ خلقه " السجدة

[ 38 ]

: 7، وقوله: " تبارك الله رب العالمين " الاعراف: 54، وقوله: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " أسرى: 44. والثانية: أن عالم الصنع والايجاد على كثرة أجزائه وسعة عرضه مرتبط بعضه ببعض معطوف آخره إلى أوله فإيجاد بعضه إنما هو بإيجاد الجميع، وإصلاح الجزء إنما هو بإصلاح الكل فالاختلاف الموجود بين أجزاء العالم في الوجود وهو الذي صير العالم عالما ثم ارتباطها يستلزم استلزاما ضروريا في الحكمة الالهية نسبة بعضها إلى بعض بالتنافي والتضاد أو بالكمال والنقص والوجدان والفقدان والنيل والحرمان، ولو لا ذلك عاد جميع الاشياء إلى شئ واحد لا تميز فيه ولا اختلاف ويبطل بذلك الوجود قال تعالى: " وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر " القمر: 50. فلو لا الشر والفساد والتعب والفقدان والنقص والضعف وأمثالها في هذا العالم لما كان للخير والصحة والراحة والوجدان والكمال والقوة مصداق، ولا عقل منها معنى لانا إنما ناخذ المعاني من مصاديقها. ولو لا الشقاء لم تكن سعادة، ولو لا المعصية لم تتحقق طاعة، ولو لا القبح والذم لم توجد حسن ولا مدح، ولو لا العقاب لم يحصل ثواب، ولو لا الدنيا لم تتكون آخره. فالطاعة مثلا امتثال الامر المولوي فلو لم يمكن عدم الامتثال الذي هو المعصية لكان الفعل ضروريا لازما، ومع لزوم الفعل لا معنى للامر المولوي لامتناع تحصيل الحاصل ومع عدم الامر المولوي لا مصداق للطاعه ولا مفهوم لها كما عرفت. ومع بطلان الطاعة والمعصية يبطل المدح والذم المتعلق بهما والثواب والعقاب والوعد والوعيد والانذار والتبشير ثم الدين والشريعة والدعوة ثم النبوة والرسالة ثم الاجتماع والمدنية ثم الانسانية ثم كل شئ، وعلى هذا القياس جميع الامور المتقابلة في النظام، فافهم ذلك. ومن هنا ينكشف لك أن وجود الشيطان الداعي إلى الشر والمعصية من أركان نظام العالم الانساني الذي إنما يجرى على سنة الاختيار ويقصد سعادة النوع. وهو كالحاشية المكتنفة بالصراط المستقيم الذي في طبع هذا النوع أن يسلكه كادحا إلى ربه ليلاقيه، ومن المعلوم أن الصراط إنما يتعين بمتنه صراطا بالحاشية الخارجة عنه

[ 39 ]

الحافة به فلولا الطرف لم يكن وسط فافهم ذلك وتذكر قوله تعالى: " قال فبما أغويتني لاقعدن لهم صراطك المستقيم " الاعراف: 16، وقوله: " قال: هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين " الحجر: 42. إذا تأملت في هاتين الجهتين ثم تدبرت آيات قصة السجدة ه وجدتها صورة منبئة عن الروابط الواقعية التي بين النوع الانساني والملائكة وإبليس عبر عنها بالامر والامتثال والاستكبار والطرد والرجم والسؤال والجواب، وأن جميع الاشكالات الموردة فيها ناشئة من التفريط في تدبر القصة حتى أن بعض (1) من تنبه لوجه الصواب وأنها تشير إلى ما عليه طبائع الانسان والملك والشيطان ذكر أن الامر والنهي - يريد أمر إبليس بالسجدة ونهي آدم عن أكل الشجرة - تكوينيان فأفسد بذلك ما قد كان إصلحه، وذهل عن أن الامر والنهي التكوينيين لا يقبلان التخلف والمخالفة، وقد خالف إبليس الامر وخالف آدم النهي. الثالثة: أن قصة الجنة مدلولها - على ما تقدم تفصيل القول فيها في سورة البقرة - ينبئ عن أن الله سبحانه خلق جنة برزخية سماوية، وأدخل آدم فيها قبل أن يستقر عليه الحياة الارضية، ويغشاه التكليف المولوي ليختبي بذلك الطباع الانساني فيظهر به أن الانسان لا يسعه إلا أن يعيش على الارض، ويتربى في حجر الامر والنهي فيستحق السعادة والجنة بالطاعة، وأن كان دون ذلك فدون ذلك، ولا يستطيع الانسان أن يقف في موقف القرب وينزل في منزل السعادة إلا بقطع هذا الطريق. وبذلك ينكشف أن لا شئ من الاشكالات التي أوردوها في قصة الجنة فلا الجنة كانت جنة الخلد التي لا يدخلها إلا ولي من أولياء الله تعالى دخولا لا خروج بعده إبدا، ولا الدار كانت دارا دنيوية يعاش فيها عيشة دنيوية يديرها التشريع ويحكم فيها الامر والنهي المولويان بل كانت دارا يظهر فيها حكم السجية الانسانية لا سجية آدم عليه السلام بما هو شخص آدم إذ لم يؤمر بالسجدة له ولا أدخل الجنة إلا لانه إنسان كما تقدم بيانه.


(1) صاحب المنار في المجلد 8 من التفسير تحت عنوان " الاشكالات في القصة ". (*)

[ 40 ]

رجعنا إلى أول الكلام: لم يصف الله سبحانه من ذات هذا المخلوق الشرير الذي سماه إبليس إلا يسيرا وهو قوله تعالى: " كان من الجن ففسق عن أمر ربه " الكهف: 50، وما حكاه عنه في كلامه: " خلقتني من نار " فبين أن بدء خلقته كان من نار من سنخ الجن وإما ما الذي آل إليه أمره فلم يذكره صريحا كما أنه لم يذكر تفصيل خلقته كما فصل القول في خلقة الانسان. نعم هناك آيات واصفة لصنعه وعمله يمكن أن يستفاد منها ما ينفع في هذا الباب قال تعالى حكايه عنه: " لاقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين " الاعراف: 17. فأخبر أنه يتصرف فيهم من جهة العواطف النفسانية من خوف ورجاء وأمنية وأمل وشهوة وغضب ثم في أفكارهم وإرادتهم المنبعثة منها. كما يقارنه في المعنى قوله: " قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الارض " الحجر : 39، أي لازينن لهم الامور الباطلة الرديئة الشوهاء بزخارف وزينات مهيأة من تعلق العواطف الداعية نحو اتباعها ولاغوينهم بذلك كالزنا مثلا يتصوره الانسان وتزينه في نظره الشهوة ويضعف بقوتها ما يخطر بباله من المحذور في اقترافه فيصدق به فيقترفه، ونظير ذلك قوله: " يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا " النساء: 120، وقوله: " فزين لهم الشيطان أعمالهم " النحل: 63. كل ذلك - كما ترى - يدل على أن ميدان عمله هو الادراك الانساني ووسيلة عمله العواطف والاحساسات الداخلة فهو الذي يلقي هذه الاوهام الكاذبة والافكار الباطلة في النفس الانسانية كما يدل عليه قوله: " الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس " الناس: 5. لكن الانسان مع ذلك لا يشك في أن هذه الافكار والاوهام المسماة وساوس شيطانية أفكار لنفسه يوجدها هو في نفسه من غير أن يشعر بأحد سواه يلقيها إليه أو يتسبب إلى ذلك بشئ كما في سائر أفكاره وآرائه التي لا تتعلق بعمل وغيره كقولنا:

[ 41 ]

الواحد نصف الاثنين والاربعة زوج وأمثال ذلك. فالانسان هو الذي يوجد هذه الافكار والاوهام في نفسه كما أن الشيطان هو الذي يلقيها إليه ويخطرها بباله من غير تزاحم، ولو كان تسببه فيها نظير التسببات الدائرة فيما بيننا لمن ألقى إلينا خبرا أو حكما أو ما يشبه ذلك لكان إلقاؤه إلينا لا يجامع استقلالنا في التفكير، ولا نتفت نسبة الفعل الاختياري إلينا لكون العلم والترجيح والارادة له لا لنا، ولم يترتب على الفعل لوم ولا ذم ولا غيره، وقد نسبه الشيطان نفسه إلى الانسان فيما حكاه الله من قوله يوم القيامة: " وقال الشيطان لما قضي الامر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم " إبراهيم: 22، فنسب الفعل والظلم واللوم إليهم وسلبها عن نفسه، ونفى عن نفسه كل سلطان إلا السلطان على الدعوة والوعد الكاذب كما قال تعالى: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين " الحجر: 42 فنفى سبحانه سلطانه إلا في ظرف الاتباع ونظيره قوله تعالى: " قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد " ق: 27. وبالجملة فإن تصرفه في إدراك الانسان تصرف طولي لا ينافي قيامه بالانسان وانتسابه إليه انتساب الفعل إلى فاعله لا عرضي ينافي ذلك. فله أن يتصرف في الادراك الانساني بما يتعلق بالحياة الدنيا في جميع جهاتها بالغرور والتزيين فيضع الباطل مكان الحق ويظهره في صورته فلا يرتبط الانسان بشئ إلا من وجهه الباطل الذي يغره ويصرفه عن الحق، وهذا هو الاستقلال الذي يراه الانسان لنفسه أولا ثم لسائر الاسباب التي يرتبط بها في حياته فيحجبه ذلك عن الحق ويلهوه عن الحياة الحقيقية كما تقدم استفاده ذلك من قوله المحكي: " فبما أغويتني لاقعدن لهم " الاعراف: 16، وقوله: " رب بما أغويتني لازينن لهم في الارض " الحجر: 39. ويؤدي ذلك إلى الغفلة عن مقام الحق وهو الاصل الذي ينتهي ويحلل إليه كل ذنب قال تعالى: " ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الانس والجن لهم قلوب لا يفقهون بها

[ 42 ]

ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالانعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون " الاعراف: 179. فاستقلال الانسان بنفسه وغفلته عن ربه وجميع ما يتفرع عليه من سيئ الاعتقاد وردئ الاوهام والافكار التي يرتضع عنها كل شرك وظلم إنما هي من تصرف الشيطان في عين إن الانسان يخيل إليه أنه هو الموجد لها القائم بها لما يراه من استقلال نفسه فقد صبغ نفسه صبغة لا يأتيه اعتقاد ولا عمل إلا صبغه بها. وهذا هو دخوله تحت ولاية الشيطان وتدبيره وتصرفه من غير أن يتنبه لشئ أو يشعر بشئ وراء نفسه قال تعالى: " إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون " الاعراف: 27. وولاية الشيطان على الانسان في المعاصي والمظالم على هذا النمط نظير ولاية الملائكة عليه في الطاعات والقربات، قال تعالى: " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياءكم في الحياة الدنيا " حم السجدة: 31، والله من ورائهم محيط وهو الولي لا ولي سواه قال تعالى: " ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع " السجدة: 4. وهذا هو الاحتناك أي الالجام الذي ذكره فيما حكاه الله تعالى عنه بقوله: " قال أ رأيتك هذا الذي كرمت علي... لاحتنكن ذريته إلا قليلا قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت منهم بصوتك واجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الاموال والاولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا " أسرى: 64، أي لالجمنهم فأتسلط عليهم تسلط راكب الدابة الملجم لها عليها يطيعونني فيما آمرهم ويتوجهون إلى حيث أشير لهم إليه من غير أي عصيان وجماح. ويظهر من الآيات أن له جندا يعينونه فيما يأمر به ويساعدونه على ما يريد وهو القبيل الذي ذكر في الآية السابقة: " إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم " وهؤلاء وإن بلغوا من كثرة العدد وتفنن العمل ما بلغوا فإنما صنعهم صنع نفس إبليس ووسوستهم نفس وسوسته كما يدل عليه قوله: " لاغوينهم أجمعين " الحجر: 39،

[ 43 ]

وغيره مما حكته الآيات نظير ما يأتي به أعوان الملائكة العظام من الاعمال فتنسب إلى رئيسهم المستعمل لهم في ما يريده، قال تعالى في ملك الموت: " قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم " السجدة: 11، ثم قال: " حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون " الانعام: 61 إلى غير ذلك. وتدل الآية: " الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس " الناس: 6 على أن في جنده اختلافا من حيث كون بعضهم من الجنة وبعضهم من الانس ويدل قوله: " أ فتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو " الكهف: 50، أن له ذريه هم من أعوانه وجنوده لكن لم يفصل كيفية إنتشاء ذريته منه. كما أن هناك نوعا آخر من الاختلاف يدل عليه قوله: " وأجلب عليهم بخيلك ورجلك " في الآية المتقدمة، وهو الاختلاف من جهة الشدة والضعف وسرعة العمل وبطؤه فإن الفارق بين الخيل والرجل هو السرعة في اللحوق والادراك وعدمها. وهناك نوع آخر من الاختلاف في العمل، وهو الاجتماع عليه والانفراد كما يدل عليه أيضا قوله تعالى: " وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون " المؤمنون: 98 ولعل قوله تعالى: " هل أنبؤكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون " الشعراء: 223 من هذا الباب. فملخص البحث: أن إبليس لعنه الله موجود مخلوق ذو شعور وإرادة يدعو إلى الشر ويسوق إلى المعصية كان في مرتبة مشتركة مع الملائكة غير متميز منهم إلا بعد خلق الانسان وحينئذ تميز منهم ووقع في جانب الشر والفساد، وإليه يستند نوعا من الاستناد انحراف الانسان عن الصراط المستقيم وميله إلى جانب الشقاء والضلال، ووقوعه في المعصية والباطل كما أن الملك موجود مخلوق ذو إدراك وإرادة إليه يستند نوعا من الاستناد اهتداء الانسان إلى غاية السعادة ومنزل الكمال والقرب، وإن لابليس أعوانا من الجن والانس وذرية مختلفي الانواع يجرون بأمره إياهم أن يتصرفوا في جميع ما يرتبط به الانسان من الدنيا وما فيها بإظهار الباطل في صورة الحق، وتزيين القبيح في صورة الحسن الجميل.

[ 44 ]

وهم يتصرفون في قلب الانسان وفي بدنه وفي سائر شؤون الحياة الدنيا من أموال وبنين وغير ذلك بتصرفات مختلفة اجتماعا وانفرادا، وسرعة وبطؤا، وبلا واسطة ومع الواسطة والواسطه ربما كانت خيرا أو شرا وطاعة أو معصية. ولا يشعر الانسان في شئ من ذلك بهم ولا أعمالهم بل لا يشعر إلا بنفسه ولا يقع بصره إلا بعمله فلا أفعالهم مزاحمة لاعمال الانسان ولا ذواتهم وأعيانهم في عرض وجود الانسان غير أن الله سبحانه أخبرنا أن إبليس من الجن وأنهم مخلوقون من النار، وكان أول وجوده وآخره مختلفان. (بحث عقلي وقرآني مختلط) قال في روح المعاني: وقد ذكر الشهرستاني عن شارح الاناجيل الاربعة صورة مناظرة جرت بين الملائكة وبين إبليس بعد هذه الحادثة، وقد ذكرت في التوراة، وهي أن اللعين قال للملائكة: إني أسلم أن لي إلها هو خالقي وموجدي لكن لي على حكمه أسئلة: الاول: ما الحكمة في الخلق لا سيما وقد كان عالما أن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا النار ؟. الثاني: ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود إليه منه نفع ولا ضرر، وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف ؟. الثالث: هب أنه كلفني بمعرفته وطاعته فلماذا كلفني بالسجود لآدم ؟. الرابع: لما عصيته في ترك السجود فلم لعنني وأوجب عقابي مع أنه لا فائدة له ولا لغيره فيه ولي فيه أعظم الضرر ؟. الخامس: أنه لما فعل ذلك لم سلطني على أولاده ومكنني من إغوائهم وإضلالهم ؟. السادس: لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك فلم أمهلنى ومعلوم أنه لو كان العالم خاليا من الشر لكان ذلك خيرا ؟.

[ 45 ]

قال شارح الاناجيل: فأوحى الله تعالى إليه من سرادق العظمة والكبرياء: يا إبليس أنت ما عرفتني، ولو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض علي في شئ من أفعالي فإني أنا الله لا إله إلا أنا لا أسال عما أفعل، (انتهى). ثم قال الآلوسي: قال الامام - الرازي - إنه لو اجتمع الاولون والآخرون من الخلائق وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا من هذه الشبهات مخلصا، وكان الكل لازما. ثم قال الآلوسي: ويعجبني ما يحكى أن سيف الدولة بن حمدان خرج يوما على جماعته فقال: قد عملت بيتا ما أحسب أن أحدا يعمل له ثانيا إلا أن كان أبا فراس وكان أبو فراس جالسا، فقيل له: ما هو فقال: قولي: لك جسمي تعله * فدمي لن تطله فابتدر أبو فراس قائلا: قال إن كنت مالكا * فلي الامر كله. انتهى أقول: ما مر من البيان في أول الكلام السابق يصلح لدفع هذه الشبهات الستة عن آخرها ويكفي مؤنتها من غير أن يحتاج إلى اجتماع الاولين والآخرين ثم لا ينفعهم اجتماعهم على ما ادعاه الامام فليست بذاك الذي يحسب، ولتوضيح الامر نقول: أما الشبهة الاولى: فالمراد بالحكمة - وهي جهة الخير والصلاح الذي يدعو الفاعل إلى الفعل في الخلق إما الحكمة في مطلق الخلق وهو ما سوى الله سبحانه من العالم، وإما الحكمة في خلق الانسان خاصة. فإن كان سؤالا عن الحكمة في مطلق الخلق والايجاد فمن المبرهن عليه أنه فاعل تام لمجموع ما سواه غير مفتقر في ذلك إلى متمم يتمم فاعليته ويصلح له ألوهيته فهو مبدء لما سواه منبع لكل خير ورحمة بذاته، واقتضاء المبدء لما هو مبدء له ضروري، والسؤال عن الضروري لغو كما أن ملكة الجود تقتضي بذاتها أن ينتشر أثرها وتظهر بركاتها لا لاستدعاء أمر آخر وراء نفسها يوجب لها ظهور الاثر وإلا لم تكن ملكة، فظهور أثرها

[ 46 ]

ضروري لها وهو أن يتنعم بها كل مستحق على حسب استعداده واستحقاقه، واختلاف المستحقين في النيل بحسب اختلاف استحقاقهم أمر عائد إليهم لا إلى الملكة التي هي مبدء الخير. وأما حديث الحكمة في الخلق والايجاد بمعنى الغاية وجهة الخير المقصودة للفاعل في فعله فإنما يحكم العقل بوجوب الغاية الزائدة على الفاعل في الفاعل الناقص الذي يستكمل بفعله ويكتسب به تماما وكمالا، وأما الفاعل الذي عنده كل خير وكمال فغايته نفس ذاته من غير حاجة إلى غاية زائدة كما عرفت في مثال ملكة الجود، نعم يترتب على فعله فوائد ومنافع كثيرة لا تحصى ونعم إلهية لا تنقطع وهي غير مقصودة إلا ثانيا وبالعرض، هذا في أصل الايجاد. وإن كان السؤال عن الحكمة في خلق الانسان كما يشعر به قوله بعد: لا سيما وقد كان عالما أن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا النار فالحكمه بمعنى غاية الفاعل والفائدة العائدة إليه غير موجودة لما عرفت أنه تعالى غني بذاته لا يفتقر إلى شئ مما سواه حتى يتم أو يكمل به، وأما الحكمة بمعنى الغاية الكمالية التي ينتمي إليها الفعل وتحرز فائدته فهو أن يخلق من المادة الارضية الخسيسة تركيب خاص ينتهي بسلوكه في مسلك الكمال إلى جوهر علوي شريف كريم يفوق بكمال وجوده كل موجود سواه، ويتقرب إلى ربه تقربا كماليا لا يناله شئ غيره فهذه غاية النوعية الانسانية. غير أن من المعلوم أن مركبا أرضيا مؤلفا من الاضداد واقعا في عالم التزاحم والتنافي محفوفا بعلل وأسباب موافقة ومخالفة لا ينجو منها بكله، ولا يخلص من إفسادها بآثارها المنافية جميع أفراده فلا محالة لا يفوز بالسعادة المطلوبة منه إلا بعض أفراده، ولا ينجح في سلوكه نحو الكمال إلا شطر من مصاديقه لا جميعها. وليست هذه الخصيصة أعني فوز البعض بالكمال والسعادة وحرمان البعض مما يختص به الانسان بل جميع الانواع المتعلقة الوجود بالمادة الموجودة في هذه النشأة كأنواع الحيوان والنبات وجميع التركيبات المعدنية وغيرها كذلك فشئ من هذه الانواع الموجودة - وهي ألوف وألوف - لا يخلو عن غاية نوعية هي كمال وجوده،

[ 47 ]

وهي مع ذلك لا تنال الكمال إلا بنوعيته، وأما الافراد و الاشخاص فكثير منها تبطل دون البلوغ إلى الكمال، وتفسد في طريق الاستكمال بعمل العلل والاسباب المخالفة لانها محفوفة بها ولا بد لها من العمل فيها جريا على مقتضى عليتها وسببيتها. ولو فرض شئ من هذه الانواع غير متأثر من شئ من العوامل المخالفة كالنبات مثلا غير متأثر من حرارة وبرودة ونور وظلمة ورطوبة ويبوسة والسمومات والمواد الارضية المنافية لتركيبه كان في هذا الفرض إبطال تركيبه الخاص أولا، وإبطال العلل والاسباب ثانيا، وفيه إبطال نظام الكون فافهم ذلك. ولا ضير في بطلان مساعي بعض الافراد أو التركيبات إذا أدى ذلك إلى فوز بعض آخر بالكمال والغاية الشريفة المقصودة التي هي كمال النوع وغايته فإن الخلقة المادية لا تسع أزيد من ذلك، وصرف الكثير من المادة الخسيسة التي لا قيمة لها في تحصيل القليل من الجوهر الشريف العالي استرباح حقيقي بلا تبذير أو جزاف. فالعلة الموجبة لوجود النوع الانساني لا تريد بفعلها إلا الانسان الكامل السائر إلى أوج السعادة في دنياه وآخرته إلا أن الانسان لا يوجد إلا بتركيب مادي، وهذا التركيب لا يوجد إلا إذا وقع تحت هذا النظام المادي المنبسط على هذه الاجزاء الموجودة في العالم المرتبطة بعضها ببعض المتفاعلة فيما بينها جميعا بتأثيراتها وتأثراتها المختلفة، ولازم ذلك سقوط بعض أفراد الانسان دون الوصول إلى كمال الانسانية فعلة وجود الانسان تريد السعادة الانسانية أولا وبالذات، وأما سقوط بعض الافراد فإنما هو مقصود ثانيا وبالعرض ليس بالقصد الاولي. فخلقه تعالى الانسان حكمته بلوغ الانسان إلى غايته الكمالية، وأما علمه بأن كثيرين من أفراده يكونون كفارا مصيرهم إلى النار لا يوجب أن يختل مراده من خلقه النوع الانساني، ولا أنه يوجب أن يكون خلقه الانسان الذي سيكون كافرا علة تامة لكفره أو لصيرورته إلى النار، كيف ؟ وعلة كفره التامة بعد وجوده علل وعوامل خارجية كثيرة جدا، وآخرها اختياره الذي لا يدع الفعل ينتسب إلا إليه فالعلة التي أوجدت وجوده لم توجد إلا جزء من أجزائه علة كفره، وأما تعلق القضاء الالهي

[ 48 ]

بكفره فإنما تعلق به عن طريق الاختيار لا بأن يبطل اختياره وإرادته ويضطر إلى قبول الكفر كسقوط الحجر المرمي إلى فوق نحو الارض بعامل الثقل اضطرارا. وأما الشبهة الثانية فقوله: " ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود إليه منه نفع ولا ضرر ؟ " مغالطة من باب إسراء حكم الفاعل الناقص الفقير إلى الفاعل التام الغني في ذاته فحكم العقل بوجوب رجوع فائدة من الفعل إلى الفاعل إنما هو في الفاعل الناقص المستكمل بفعله المنتفع به دون الفاعل المفروض غنيا في ذاته. فلا حكم من العقل أن كل فاعل حتى ما هو غني في ذاته لا جهة نقص فيه يجب أن يكون له في فعله فائدة عائدة إليه، ولا أن الموجود الذي هو غني في ذاته لا جهة نقص فيه حتى يستكمل بشئ فهو يمتنع صدور فعل عنه. والتكليف وإن كان في نفسه أمرا وضعيا اعتباريا لا يجري في متنه الاحكام الحقيقية إلا أنه في المكلفين واسطة ترتبط بها الكمالات اللاحقة الحقيقية بسابقتها فهي وصلة بين حقيقتين: توضيح ذلك ملخصا: أنا لسنا نشك عن المشاهدة المتكررة والبرهان أن ما بين أيدينا من الانواع الموجودة التي نسميها بما فيها من النظام الجاري عالما ماديا واقعة تحت الحركة التي ترسم لكل منها بقاء بحسب حاله، ووجودا ممتدا يبتدي من حالة النقص وينتهي إلى حالة الكمال، وبين أجزاء هذا الامتداد الوجودي المسمى بالبقاء ارتباطا وجوديا حقيقيا يؤدي به كل سابق إلى لاحقه، ويتوجه به النوع من منزل من هاتيك المنازل إلى ما يليه بل هو قصد من أول حين يشرع في الحركة آخر مرحلة من شأن حركته أن ينتهي إليه. فالحبة من القمح من أول ما تنشق للنمو قاصدة نحو شجرة الحنطة الكاملة نشوء و عليها سنابلها، والنطفة من الحيوان متوجهة إلى فرد كامل من نوعه واجد لجميع كمالاته النوعية وهكذا، وليس النوع الانساني بمستثنى من هذه الكلية البتة فهو أيضا من أول ما يأخذ فرد منه في التكون عازم نحو غايته متوجه إلى مرتبة انسان كامل واجد لحقيقة سعادته سواء بلغ في مسير حياته إلى ذلك المبلغ أم حالت دونه الموانع.

[ 49 ]

والانسان لما اضطر بحسب سنخ وجوده إلى أن يعيش عيشة اجتماعية، والعيشة الاجتماعية إنما تتحقق تحت قوانين وسنن جارية بين أفراد المجتمع وهي عقائد وأحكام وضعية اعتبارية - التكاليف الدينية أو غير الدينية - تتكون بالعمل بها في الانسان عقائد وأخلاق وملكات هي الملاك في سعادة الانسان في دنياه وكذا في آخرته وهي لوازم الاعمال المسماة بالثواب والعقاب. فالتكليف يستبطن سيرا تدريجيا للانسان بحسب حالاته وملكاته النفسانية نحو كماله وسعادته يستكمل بطي هذا الطريق والعمل بما فيه طورا بعد طور حتى ينتهي إلى ما هو خير له وأبقى، ويخيب مسعاه إن لم يعمل به كالفرد من سائر الانواع الذي يسير نحو كماله فينتهي إليه أن ساعدته موافقة الاسباب، ويفسد في مسيره نحو الكمال أن خذلته ومنعته. فقول القائل " وما الفائدة في التكليف ؟ " كقوله ما الفائدة في تغذي النبات ؟ أو ما الفائدة في تناسل الحيوان من غير نفع عائد ؟. وأما قوله: " وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف " مغالطة أخرى لما عرفت أن التكليف في الانسان أو أي موجود سواه يجري في حقه التكليف واقع في طريق السعادة متوسط بين كماله ونقصه في وجوده الذي إنما يتم ويكمل له بالتدريج، فإن كان المراد بتحصيل ما يعود من التكليف إلى المكلفين من غير واسطة التكليف تعيين طريق آخر لهم بدلا من طريق التكليف ووضع ذاك الطريق موضع هذا الطريق وحال الطرقين في طريقيتهما واحد عاد السؤال في الثاني كلاول: لم عين هذا الطريق وهو قادر على تحصيل ما يعود منه إليهم يغيره ؟ والجواب أن العلل والاسباب التي تجمعت على الانسان مثلا على ما نجدها تقتضي أن يكون مستكملا بالعمل بتكاليف مصلحة لباطنه مطهرة لسره من طريق العادة. وإن كان المراد بتحصيله من غير واسطة التكليف تحصيله لهم من غير واسطة أصلا وإفاضة جميع مراحل الكمال ومراتب السعادة لهم في أول وجودهم من غير تدريج

[ 50 ]

بسلوك طريق فلازمه بطلان الحركات الوجودية وانتقاء المادة والقوة وجميع شؤون الامكان والموجود المخلوق الذي هذا شأنه مجرد في بدء وجوده تام كامل سعيد في أصل نشأته، وليس هو الانسان المخلوق من الارض الناقص أولا المستكمل تدريجيا ففي الفرض خلف. وأما الشبهة الثالثة فقوله " هب إنه كلفني بمعرفته وطاعته فلماذا كلفني بالسجود لآدم ؟ " فجوابه ظاهر فإن هذا التكليف يتم بالايتمار به صفة العبودية لله سبحانه، ويظهر بالتمرد عنه صفة الاستكبار ففيه على أي حال تكميل من الله واستكمال من إبليس إما في جانب السعادة وإما في جانب الشقاوة، وقد اختار الثاني. على أن تكليفه وتكليف الملائكة بالسجدة تعيينا للخط الذي خط لآدم فإن الصراط المستقيم الذي قدر لآدم وذريته أن يسلكوه لا يتم أمره إلا بمسدد معين يدعو الانسان إلى هداه وهو الملائكة، وعدو مضل يدعوه إلى الانحراف عنه والغواية فيه وهو إبليس وجنوده كما عرفت فيما تقدم من الكلام. وأما الشبهة الرابعة: فقوله " لما ذا لعنني وأوجب عقابي بعد المعصية ولا فائدة له فيه ؟ الخ. " جوابه أن اللعن والعقاب أعني ما يشتملان عليه من الحقيقة من لوازم الاستكبار على الله الذي هو الاصل المولد لكل معصية، وليس الفعل الالهي مما يجر إليه نفعا أو فائدة حتى يمتنع فيما لا نفع فيه يعود إليه كما تقدمت الاشارة إليه. وليس قوله هذا إلا كقول من يقول فيمن استقى سما وشربه فهلك به: لم لم يجعله الله شفاء وليس له في إماتته به نفع وله فيه أعظم الضرر ؟ هلا جعله رزقا طيبا للمسموم يرفع عطشه وينمو به بدنه ؟ فهذا كله من الجهل بمواقع العلل والاسباب التي أثبتها الله في عالم الصنع والايجاد فكل حادث من حوادث الكون يرتبط إلى علل وعوامل خاصة من غير تخلف واختلاف قانونا كليا. فالمعصية إنما تستتبع العقاب على النفس المتقذرة بها إلا أن تتطهر بشفاعة أو توبة أو حسنة تستدعي المغفرة، وإبطال العقاب من غير وجود شئ من أسبابه هدم لقانون العلية العام، وفي انهدامه انهدام كل شئ.

[ 51 ]

وأما الشبهة الخامسة: أعني قوله " إنه لما فعل ذلك لم سلطني على أولاده ومكنني من إغوائهم وإضلالهم ؟ " فقد ظهر جوابه مما تقدم فإن الهدى والحق العملي والطاعة وأمثالها إنما تتحقق مع تحقق الضلال والباطل والمعصية وأمثالها، والدعوة إلى الحق إنما تتم إذا كان هناك دعوة إلى باطل، والصراط المستقيم إنما يكون صراطا لو كان هناك سبل غير مستقيمة تسلك بسالكها إلى غاية غير غايته. فمن الضروري أن يكون هناك داع إلى الباطل يهدي إلى عذاب السعير ما دامت النشأة الانسانية قائمة على ساقها والانسانية محفوظة ببقائها النوعي بتعاقب أفرادها فوجود إبليس من خدم النوع الانساني ولم يمكنه الله منهم ولا سلطه عليهم إلا بمقدار الدعوة كما صرح (1) به القرآن الكريم وحكاه (2) عنه نفسه فيما يخاطب به الناس يوم القيامة. وأما الشبهة السادسة: فإما قوله " لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني ؟ " فقد ظهر جوابه مما تقدم آنفا. وأما قوله: " ومعلوم أن العالم لو كان خاليا من الشر لكان ذلك خيرا " فقد عرفت أن معنى كون العالم خاليا من الشر مأمونا من الفساد كونه مجردا غير مادي، ولا معنى محصل لعالم مادي يوجد فيه الفعل من غير قوة والخير من غير شر والنفع من غير ضر والثبات من غير تغير والطاعة من غير معصية والثواب من غير عقاب. وأما ما ذكره من جوابه تعالى عن شبهات إبليس بقوله: " يا إبليس أنت ما عرفتني ولو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض علي في شئ من أفعالي فإني أنا الله الذي لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل " فجواب يوافق ما في التنزيل الكريم، قال تعالى: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " الانبياء: 23. وظاهر المنقول من قوله تعالى أنه جواب إجمالي عن شبهاته لعنه الله لا جواب تفصيلي عن كل واحد واحد، ومحصله: أن هذه الشبهات جميعا سؤال واعتراض عليه


(1) قوله تعالى: " ان عبادي ليس لك عليهم سلطان الا من اتتعك من الغاوين " الحجر: 42 وقوله: " يدعوهم إلى عذاب السعير " لقمان: 31. (2) قوله " وما كان لي عليكم من سلطان الا أن دعوتكم " ابراهيم: 22. (*)

[ 52 ]

تعالى: ولا يتوجه إليه اعتراض لانه الله لا إله إلا هو لا يسأل عما يفعل. وظاهر قوله تعالى أن قوله " لا يسأل " متفرع على قوله: " فإني " الخ، فمفاد الكلام أن الله تعالى لما كان بإنيته الثابتة بذاته الغنية لذاته هو الاله المبدئ المعيد الذي يبتدئ منه كل شئ وينتهي إليه كل شئ فلا يتعلق في فعل يفعله بسبب فاعلي آخر دونه، ولا يحكم عليه سبب غائي آخر يبعثه نحو الفعل بل هو الفاعل فوق كل فاعل، والغاية وراء كل غاية فكل فاعل يفعل بقوة فيه وإن القوة لله جميعا، وكل غاية إنما تقصد وتطلب لكمال ما فيه وخير ما عنده وبيده الخير كله. ويتفرع عليه أنه تعالى لا يسأل في فعله عن السبب فإن سبب الفعل إما فاعل وإما غاية وهو فاعل كل فاعل وغاية كل غاية، وأما غيره تعالى فلما كان ما عنده من قوة الفعل موهوبا له من عند الله، وما يكتسبه من جهة الخير والمصلحة بإفاضة منه تعالى بتسبيب الاسباب وتنظيم العوامل والشرائط فإنه مسؤول عن فعله لم فعله ؟ وأكثر ما يسأل عنه إنما هو الغاية وجهة الخير والمصلحة، وخاصة في الافعال التي يجري فيه الحسن والقبح والمدح والذم من الافعال الاجتماعية في ظرف الاجتماع فإنها المتكئة على مصالحه، فهذا بيان تام يتوافق فيه البرهان والوحي. وأما المتكلمون فإنهم بما لهم من الاختلاف العميق في مسألة: أن أفعال الله هل تعلل بالاغراض ؟ وما يرتبط بها من المسائل اختلفوا في تفسير أن الله لا يسأل عن فعله فالاشاعرة لتجويزهم الارادة الجزافية واستناد الشرور والقبائح إليه تعالى ذكروا أن له أن يفعل ما يشاء من غير لزوم أن يشتمل فعله على غرض فتنطبق عليه مصلحة محسنة وليس للعقل أن يحكم عليه كما يحكم على غيره بوجوب اشتمال فعله على غرض وهو ترتب مصلحة محسنة على الفعل. والمعتزلة يحيلون الفعل غير المشتمل على غرض وغاية لاستلزامه اللغو والجزاف المنفي عنه تعالى فيفسرون عدم كونه تعالى مسؤولا في فعله بأنه حكيم والحكيم هو الذي يعطي كل ذي حق حقه فلا يفعل قبيحا ولا لغوا ولا جزافا، والذي يسأل عن فعله هو من يمكن في حقه إتيان القبيح واللغو والجزاف فهو تعالى غير مسؤول عما يفعل وهم يسألون.

[ 53 ]

والبحث طويل الذيل وقد تعارك فيه ألوف الباحثين من الطائفتين ومن وافقهم من غيرهم قرونا متمادية، ولا يسعنا تفصيل القول فيه على ما بنا من ضيق المجال غير أنا نشير إلى حقيقة أخرى يسفر به الحجاب عن وجه الحق في المقام. لا ريب أن لنا علوما وتصديقات نركن إليها، ولا ريب أنها على قسمين: القسم الاول: العلوم والتصديقات التي لا مساس لها طبعا بأعمالنا وإنما هي علوم تصديقية تكشف عن الواقع وتطابق الخارج سواء كنا موجودين عاملين أعمالنا الحيوية الفردية أو الاجتماعية أم لا كقولنا: الاربعة زوج، والواحد نصف الاثنين، والعالم موجود، وإن هناك أرضا وشمسا وقمرا إلى غير ذلك، وهي إما بديهية لا يدخلها شك، وإما نظرية تنتهي إلى البديهيات وتتبين بها. والقسم الثاني: العلوم العملية والتصديقات الوضعية الاعتبارية التي نضعها للعمل في ظرف حياتنا، والاستناد إليها في مستوى الاجتماع الانساني فنستند إليها في إرادتنا ونعلل بها أفعالنا الاختيارية، وليست مما يطابق الخارج بالذات كالقسم الاول وإن كنا نوقعها على الخارج إيقاعا بحسب الوضع والاعتبار لكن ذلك إنما هو بحسب الوضع لا بحسب الحقيقة والواقعية كالاحكام الدائرة في مجتمعاتنا من القوانين والسنن والشؤون الاعتبارية كالولاية والرئاسة والسلطنة والملك وغيرها فإن الرئاسة التي نعتبرها لزيد مثلا في قولنا " زيد رئيس " وصف اعتباري، وليس في الخارج بحذائه شئ غير زيد الانسان وليس كوصف الطول أو السواد الذي نعتبرهما لزيد في قولنا " زيد طويل القامة، أسود البشرة " وإنما اعتبرنا معنى الرئاسة حيث كونا مجتمعا من عدة أفراد لغرض من الاغراض الحيوية وسلمنا إدارة أمر هذا المجتمع إلى زيد ليضع كلا موضعه الذي يليق به ثم يستعمله فيما يريد فوجدنا نسبة زيد إلى المجتمع نسبة الرأس إلى الجسد فوصفناه بأنه رأس لينحفظ بذلك المقام الذي نصبناه فيه وينتفع بآثاره وفوائده. فالاعتقاد بأن زيدا رأس ورئيس إنما هو في الوهم لا يتعداه إلى الخارج غير أنا نعتبره معنى خارجيا لمصلحة الاجتماع، وعلى هذا القياس كل معنى دائر في المجتمع الانساني معتبر في الحياة البشرية متعلق بالاعمال الانسانية فإنها جميعا مما وضعه الانسان وقلبها في قالب الاعتبار مراعاة لمصلحة الحياة لا يتعدى وهمه.

[ 54 ]

فهذان قسمان من العلوم، والفرق بين القسمين: أن القسم الاول مأخوذ من نفس الخارج يطابقه حقيقة، وهو معنى كونه صدقا ويطابقه الخارج وهو معنى كونه حقا فالذي في الذهن هو بعينه الذي في الخارج وبالعكس: وأما القسم الثاني فإن موطنه هو الذهن من غير أن ينطبق على خارجه إلا أنا لمصلحة من المصالح الحيوية نعتبره ونتوهمه خارجيا منطبقا عليه دعوى وإن لم ينطبق حقيقتة. فكون زيد رئيسا لغرض الاجتماع ككونه أسدا التشبيه والاستعاره لغرض التخيل الشعري، وتوصيفنا في مجتمعنا زيدا بأنه رأس في الخارج كتوصيف الشاعر زيدا بأنه أسد خارجي، وعلى هذا القياس جميع المعاني الاعتباريه من تصور أو تصديق. وهذه المعاني الاعتبارية وإن كانت من عمل الذهن من غير أن تكون مأخوذة من الخارج فتعتمد عليه بالانطباق إلا أنها معتمدة على الخارج من جهة أخرى وذلك أن نقص الانسان مثلا وحاجته إلى كماله الوجودي ونيله غاية النوع الانساني هو الذي اضطره إلى اعتباره هذه المعاني تصورا وتصديقا فإبقاء الوجود والمقاصد الحقيقية المادية أو الروحية التي يقصدها الانسان ويبتغيها في حياته هي التي توجب له إن يعتبر هذه المعاني ثم يبني عليها أعماله فيحرز بها لنفسه ما يريده من السعادة. ولذلك تختلف هذه الاحكام بحسب اختلاف المقاصد الاجتماعية فهناك أعمال وأمور كثيرة تستحسنها المجتمعات القطبية مثلا وهي بعينها مستقبحة في المجتمعات الاستوائية، وكذلك الاختلافات الموجودة بين الشرقيين والغربيين وبين الحاضرين والبادين، وربما يحسن عند العامة من أهل مجتمع واحد ما يقبح عند الخاصة، وكذلك اختلاف النظر بين الغني والفقير، وبين المولى والعبد، وبين الرئيس والمرؤوس، وبين الكبير والصغير، وبين الرجل والمرأة. نعم هناك أمور اعتبارية وأحكام وضعية لا تختلف فيها المجتمعات وهي المعاني التي تعتمد على مقاصد حقيقية عامة لا تختلف فيها المجتمعات كوجوب الاجتماع نفسه، وحسن العدل، وقبح الظلم، فقد تحصل أن للقسم الثاني من علومنا أيضا اعتمادا على الخارج وإن كان غير منطبق عليه مستقيما انطباق القسم الاول.

[ 55 ]

إذا عرفت ذلك علمت أن علومنا وأحكامنا كائنة ما كانت معتمدة على فعله تعالى فإن الخارج الذي نماسه فننتزع ونأخذ منه أو نبني عليه علومنا هو عالم الصنع والايجاد وهو فعله، وعلى هذا فيعود معنى قولنا مثلا: " الواحد نصف الاثنين بالضرورة " إلى أن الله سبحانه يفعل دائما الواحد والاثنين على هذه النسبة الضرورية، وعلى هذا القياس، ومعنى قولنا: " زيد رئيس يجب احترامه " إن الله سبحانه أوجد الانسان إيجادا بعثه إلى هذه الدعوى والمزعمة ثم إلى العمل على طبقه، وعلى هذا القياس كل ذلك على ما يليق بساحة قدسه عز شأنه. وإذا علمت هذا دريت أن جميع ما بأيدينا من الاحكام العقلية سواء في ذلك العقل النظري الحاكم بالضرورة والامكان، والعقل العملي الحاكم بالحسن والقبح المعتمد على المصالح والمفاسد مأخوذة من مقام فعله تعالى معتمدة عليه. فمن عظيم الجرم أن نحكم العقل عليه تعالى فنقيد إطلاق ذاته غير المتناهية فنحده بأحكامه المأخوذة من مقام التحديد والتقييد، أو أن نقنن له فنحكم عليه بوجوب فعل كذا وحرمة فعل كذا وأنه يحسن منه كذا ويقبح منه كذا على ما يراه قوم فإن في تحكيم العقل النظري عليه تعالى حكما بمحدوديته والحد مساوق للمعلولية فإن الحد غير المحدود والشئ لا يحد نفسه بالضرورة، وفي تحكيم العقل العملي عليه جعله ناقصا مستقبلا تحكم عليه القوانين والسنن الاعتبارية التي هي في الحقيقة دعاو وهمية كما عرفت في الانسان فافهم ذلك. ومن عظيم الجرم أيضا أن نعزل العقل عن تشخيص أفعاله تعالى في مرحلتي التكوين والتشريع أعني أحكام العقل النظرية والعملية. أما في مرحلة النظر فكأن نستخرج القوانين الكلية النظرية من مشاهدة أفعاله، ونسلك بها إلى ثبات وجوده حتى إذا فرغنا من ذلك رجعنا فأبطلنا أحكام العقل الضرورية معتلا بأن العقل أهون من أن يحيط بساحته أو ينال كنه ذاته ودرجات صفاته، وأنه فاعل لا بذاته بل بإرادة فعلية، والفعل والترك بالنسبة إليه على السوية وأنه لا غرض له في فعله ولا غاية، وأن الخير والشر يستندان إليه جميعا، ولو أبطلنا الاحكام العقلية في تشخيص خصوصيات أفعاله وسننه في خلقه فقد أبطلناها في الكشف

[ 56 ]

عن أصل وجوده، وأشكل من ذلك أنا نفينا بذلك مطابقة هذه الاحكام والقوانين المأخوذة من الخارج للمأخوذ منه، والمنتزعة للمنتزع منه وهو عين السفسطة التي فيها بطلان العلم والخروج عن الفطرة الانسانية إذ لو خالف شئ من أفعاله تعالى أو نعوته هذه الاحكام العقلية كان في ذلك عدم انطباق الحكم العقلي على الخارج المنتزع عنه - وهو فعله - ولو جاز الشك في صحة شئ من هذه الاحكام التي نجدها ضرورية كان الجميع مما يجوز فيه ذلك فينتفي العلم، وهو السفسطة. وأما في مرحلة العمل فليتذكر أن هذه الاحكام العملية والامور الاعتبارية دعاو اعتقادية ومخترعات ذهنية وضعها الانسان ليتوسل بها إلى مقاصده الكمالية وسعادة الحياة فما كان من الاعمال مطابقا لسعادة الحياة وصفها بالحسن ثم أمر بها وندب إليها، وما كان منها على خلاف ذلك وصفها بالقبح والمساءة ثم نهى عنها وحذر منها - وحسن الفعل وقبحه موافقة لغرض الحياة وعدمها - والغايات التي تضطر الانسان إلى جعل هذه الاوامر والنواهي وتقنين هذه الاحكام واعتبار الحسن والقبح في الافعال هي المصالح المقتضية للجعل ففرض حكم تشريعي ولا حسن في العمل به ولا مصلحة تقتضيه كيفما فرض فرض متطارد الاطراف لا محصل له. والذي شرعه الله سبحانه من الاحكام والشرائع متحد سنخا مع ما نشرعه فيما بيننا أنفسنا من الاحكام فوجوبه وحرمته وأمره ونهيه ووعده ووعيده مثلا من سنخ ما عندنا من الوجوب والحرمة والامر والنهي والوعد والوعيد لا شك في ذلك، وهي معان اعتبارية وعناوين ادعائيد غير أن ساحته تعالى منزهة من أن تقوم به الدعوى التي هي من خطاء الذهن فهذه الدعاوى منه تعالى قائمة بظرف الاجتماع كالترجي والتمني منه تعالى القائمين بمورد المخاطبة لكن الاحكام المشرعد منه تعالى كالاحكام المشرعة منا متعلقة بالانسان الاجتماعي السالك بها من النقص إلى الكمال، والمتوسل بتطبيق العمل بها إلى سعادة الحياة الانسانية فثبت أن لفعله تعالى التشريعي مصلحة وغرضا تشريعيا، ولما أمر خبه أو نهى عنه حسنا وقبحا ثابتين بثبوت المصالح والمفاسد. فقول القائل: إن أفعاله التشريعية لا تعلل بالاغراض كما لو قال قائل: إن ما مهده من الطريق لا غاية له، ومن الضروري أن الطريق إنما يكون طريقا بغايته،

[ 57 ]

والوسط إنما يكون وسطا بطرفه، وقول القائل: إنما الحسن ما أمر به الله و القبيح ما نهى عنه فلو أمر بما هو قبيح عقلا ضروريا كالظلم كان حسنا، ولو نهى عن حسن بالضرورة العقلية كالعدل كان قبيحا كما لو قال قائل: أن الله لو سلك بالانسان نحو الهلاك والفناء كان فيه حياته السعيدة، ولو منعه عن سعادته الخالدة الحقيقية عادت السعادة شقاوة. فالحق الذي لا محيص عنه في المرحلتين: أن العقل النظري مصيب فيما يشخصه ويقضي به من المعارف الحقيقية المتعلقة به تعالى فإنا إنما نثبت له تعالى ما نجده عندنا من صفة الكمال كالعلم و القدرة والحياة، واستناد الموجودات إليه وسائر الصفات الفعلية العليا كالرحمة والمغفرة والرزق والانعام والهداية وغير ذلك على ما يهدي إليه البرهان. غير أن الذي نجده من الصفات الكمالية لا يخلو عن محدودية وهو تعالى أعظم من أن يحيط به حد، والمفاهيم لا تخلو عنه لان كل مفهوم مسلوب عن غيره منعزل عما سواه وهذا لا يلائم الاطلاق الذاتي فتوسل العقل إلى رفع هذه النقيصة بشئ من النعوت السلبية تنزيها وهو أنه تعالى أكبر من أن يوصف بوصف وأعظم من أن يحيط به تقييد وتحديد فمجموع التشبيه والتنزيه يقربنا إلى حقيقة الامر، وقد تقدم في ذيله قوله تعالى: " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " المائدة: 73، من غرر خطب أمير المؤمنين علي عليه السلام ما يبين هذه المسألة بأوفى بيان ويبرهن عليها بأسطع برهان فراجعه إن شئت. هذا كله في العقل النظري. وإما العقل العملي فقد عرفت أن أحكام هذا العقل جارية في أفعاله تعالى التشريعية غير أنه تعالى إنما شرع ما شرع واعتبر ما اعتبر لا لحاجة منه إليه بل ليتفضل به على الانسان مثلا وهو ذو الفضل العظيم فيرتفع به حاجة الانسان فله سبحانه في تشريعه غرض لكنه قائم بالانسان الذي قامت به الحاجة لا به تعالى، ولتشريعاته مصالح مقتضية لكن المنتفع بها هو الانسان دونه كما تقدم. وإذا كان كذلك كان للعقل أن يبحث في أطراف ما شرعه من الاحكام ويطلب الحصول على الحسن والقبح والمصلحة والمفسدة فيها لكن لا لان يحكم عليه فيأمره وينهاه ويوجب ويحرم عليه كما يفعل ذلك بالانسان إذ لا حاجة له تعالى إلى كمال مرجو

[ 58 ]

حتى يتوجه إليه حكم موصل إليه بخلاف الانسان بل لانه تعالى شرع الشرائع وسن السنن ثم عاملنا معاملة العزيز المقتدر الذي نقوم له بالعبودية وترجع إليه حياتنا ومماتنا ورزقنا وتدبير أمورنا ودساتير أعمالنا وحساب أفعالنا والجزاء على حسناتنا وسيئاتنا فلا يوجه إلينا حكما إلا بحجة، ولا يقبل منا معذرة إلا بحجة، ولا يجزينا جزاء إلا بحجة كما قال: " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " النساء: 165، وقال: " ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينه " الانفال: 42 إلى غير ذلك من احتجاجاته يوم القيامة على الانس والجن. ولازم ذلك أن يجري في أفعاله تعالى في نظر العقل العملي ما يجري في أفعال غيره بحسب السنن التي سنها. وعلى ذلك جرى كلامه سبحانه قال: " إن الله لا يظلم الناس شيئا " يونس: 44، وقال: " إن الله لا يخلف الميعاد " آل عمران: 9، وقال: " وما خلقنا السموات والارض وما بينهما لاعبين " الدخان: 38، وفي هذا المعنى الآيات الكثير التي نفى فيها عن نفسه الرذائل الاجتماعية. وفي ما تقدم من معنى جريان حكم العقل النظري والعملي في ناحيته تعالى آيات كثيرة ففي القسم الاول كقوله تعالى: " الحق من ربك فلا تكن من الممترين " آل عمران: 60 ولم يقل: الحق مع ربك لان القضايا الحقة والاحكام الواقعية مإخوذة من فعله لا متبوعة له في عمله حتى يتإيد بها مثلنا، وقوله: " والله يحكم لا معقب لحكمه " الرعد: 41، فله الحكم المطلق من غير أن يمنعه مانع عقلي أو غيره فإن الموانع والمعقبات إنما تتحقق بفعله وهي متأخرة عنه لا حاكمة أو مؤثرة فيه، وقوله: " وهو الواحد القهار " الرعد: 16، وقوله: " والله غالب على أمره " يوسف: 21، وقوله: " إن الله بالغ إمره " الطلاق: 3، فهو القاهر الغالب البالغ الذي لا يقهره شئ ولا يغلب عن شئ ولا يحول بينه وبين أمره حائل يزاحمه، وقوله: " ألا له الخلق والامر " الاعراف: 54، إلى غير ذلك من الآيات المطلقة التي ليس دونها مقيد. نعم يجري في أفعاله الحكم العقلي لتشخيص الخصوصيات وكشف المجهولات لا لان يكون متبوعا بل لانه تابع لازم مأخوذ من سنته في فعله الذي هو نفس الواقع الخارج، ويدل على ذلك جميع الآيات التي تحيل الناس إلى التعقل والتذكر والتفكر

[ 59 ]

والتدبر ونحوها فلو لا إنها حجة فيما إفادته لم يكن لذلك وجه. وفي القسم الثاني: نحو قوله: " استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم " الانفال: 24، يدل على إن في العمل بالاحكام مصلحة الحياة السعيدة، وقوله: " قل إن الله لا يأمر بالفحشاء " الاعراف: 28، وظاهره أن ما هو فحشاء في نفسه لا يأمر به الله لا أن الله لو أمر بها لم تكن فحشاء، وقوله: " لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم " لقمان: 13، وآيات كثيرة أخرى تعلل الاحكام المجعولة بمصالح موجودة فيها كالصلاة والصوم والصدقات والجهاد وغير ذلك لا حاجة إلى نقلها. (بحث روائي) في تفسير العياشي عن داود بن فرقد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الملائكة كانوا يحسبون أن إبليس منهم وكان في علم الله إنه ليس منهم فاستخرج الله ما في نفسه بالحمية فقال: " خلقتني من نار وخلقته من طين ". وفي الدر المنثور أخرج أبو نعيم في الحلية والديلمي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس، قال الله تعالى له: اسجد لآدم، فقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين. قال جعفر: فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس لانه اتبعه بالقياس. وفي الكافي بإسناده عن عيسى بن عبد الله القرشي قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله عليه السلام فقال له: يا أبا حنيفة بلغني أنك تقيس. قال: نعم، أنا أقيس. قال: لا تقس فإن أول من قاس إبليس حين قال خلقتني من نار وخلقته من طين. وفي العيون عن أمير المؤمنين عليه السلام: إن إبليس أول من كفر وأنشأ الكفر. اقول: ورواه العياشي عن الصادق عليه السلام. وفي الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث: أن إول معصية ظهرت الانانية من إبليس.

[ 60 ]

اقول: وقد تقدم بيانه. وفي تفسير القمي عن الصادق عليه السلام: الاستكبار هو أول معصية عصى الله بها. اقول: قد ظهر مما تقدم من البيان أن مرجعه إلى الانانية كما في الحديث المتقدم. وفي النهج من خطبة له عليه السلام في صفة خلق آدم: واستأدى الله سبحانه الملائكة وديعته لهم، وعهد وصيته إليهم في الاذعان بالسجود له والخشوع لتكرمه فقال سبحانه: اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس وجنوده اعترتهم الحمية، وغلبت عليهم الشقوة. الخطبة. اقول: وفيها تعميم الامر بالسجدة لجنود إبليس كما يعم نفسه، وفيه تإييد ما تقدم أن آدم إنما جعل مثالا يمثل به الانسانية من غير خصوصية في شخصه، وأن مرجع القصة إلى التكوين. وفي المجمع عن الباقر عليه السلام: في معنى قوله: " ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم " الآية " من بين أيديهم " أهون عليهم الآخرة " ومن خلفهم " آمرهم بجمع الاموال ومنعها عن الحقوق لتبقى لورثتهم " وعن أيمانهم " أفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة وتحسين الشبهة " وعن شمائلهم " بتحبيب اللذة وتغليب الشهوات على قلوبهم. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: والذي بعث محمدا للعفاريت والابالسة على المؤمن أكثر من الزنابير على اللحم. وفي المعاني عن الرضا عليه السلام: إنه سمي إبليس لانه أبلس من رحمه الله. وفي تفسير القمي حدثني أبي رفعة قال: سئل الصادق عليه السلام عن جنة آدم من جنان الدنيا كانت أم من جنان الآخرة ؟ فقال كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبدا. قال: فلما أسكنه الله تعالى الجنة وأباحها له إلا الشجرة لانه خلق خلقة لا تبقى إلا بالامر والنهي والغذاء واللباس والاكتنان والنكاح، ولا يدرك ما ينفعه مما يضره إلا

[ 61 ]

بالتوفيق فجاءه إبليس فقال له: إنكما إن أكلتما من هذه الشجرة التي نهاكما الله عنها صرتما ملكين وبقيتما في الجنة أبدا، وإن لم تأكلا منها أخرجكما الله من الجنة، وحلف لهما أنه لهما ناصح كما قال الله عزوجل حكاية عنه: " ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، و قاسمهما إني لكما لمن الناصحين " فقبل آدم قوله فأكلا من الشجرة فكان كما حكى الله: " بدت لهما سوآتهما " وسقط عنهما ما ألبسهما الله تعالى من لباس الجنة، وأقبلا يستتران من ورق الجنة وناداهما ربهما أ لم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما أن الشيطان لكما عدو مبين فقالا كما حكى الله عنهما: " ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين " فقال الله لهما: " اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين " قال إلى يوم القيامة. وفي الكافي عن علي بن إبراهيم روى عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما خرج آدم من الجنة نزل عليه جبرئيل فقال: يا آدم أليس خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وزوجك حواء أمته، وأسكنك الجنة وأباحها لك ونهاك مشافهة أن تأكل من هذه الشجرة فأكلت منها وعصيت الله ؟ فقال آدم: يا جبرئيل إن إبليس حلف لي بالله إنه لي ناصح فما ظننت أن أحدا من خلق الله يحلف بالله كاذبا. اقول: وقد تقدمت عدة من روايات القصة في سورة البقرة وسيأتي إن شاء الله بعضها في مواضع أخر مناسبة لها. وفي تفسير القمي عن الصادق عليه السلام في حديث: فقال إبليس: يا رب فكيف وأنت العدل الذي لا يجور فثواب عملي بطل ؟ قال: لا، ولكن سلني من أمر الدنيا ما شئت ثوابا لعملك أعطك. فأول ما سأل: البقاء إلى يوم الدين فقال الله: وقد أعطيتك. قال: سلطني على ولد آدم. قال: سلطتك. قال: أجرني فيهم مجرى الدم في العروق. قال: قد أجريتك. قال: لا يولد لهم ولد إلا ولد لي إثنان و أراهم ولا يروني وأتصور لهم في كل صورة شئت. فقال: قد أعطيتك. قال: يا رب زدني. قال قد جعلت لك ولذريتك صدورهم أوطانا. قال: رب حسبي. قال إبليس عند ذلك: فبعزتك لاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين. اقول: تقدم ما يتضح به معنى الحديث، وقوله: " أتصور لهم في كل صورة

[ 62 ]

شئت " لا يدل على أزيد من أن له يتصرف في حاسة الانسان بظهوره في أي صورة شاء عليها، وأما تغير ذاته في نفسه كيفما شاء وأراد فلا. والذي ذكره بعضهم: أن أهل العلم أجمعوا على أن إبليس وذريته من الجن وأن الجن أجسام لطيفة هوائية تتشكل بأشكال مختلفة حتى الكلب والخنزير، وأن الملائكة أجسام لطيفة تتشكل بأشكال مختلفة إلا الكلب والخنزير - وكأنهم يريدون بذلك تغيرهم في ذواتهم - لا دليل عليه من نقل ثابت أو عقل، وأما ما ادعى من الاجماع ومآله إلى الاتفاق في الفهم فلا حجية لمحصله فضلا عن منقوله، والمأخذ في ذلك من الكتاب والسنة ما عرفت. وكذا حديث ذريته وكثرتهم لا يتحصل منه إلا أن لها كثرة في العدد تنشعب من إبليس نفسه، وأما كيف ذلك ؟ وهل هو بطريق التناسل المعهود بيننا أو بنحو البيض والافراخ أو بنحو آخر لا سبيل لنا إلى فهمه ؟ فمما هو مجهول لنا. نعم هناك روايات معدودة تذكر أنه ينكح نفسه ويبض ويفرخ أو أن له في فخذيه عضوا التناسل الموجودان في الذكر والانثى فينكح بهما نفسه ويولد له كل يوم عشرة وأما ولده فكلهم ذكران لا توالد بينهم أو توالدهم بالازدواج نظير الحيوان فكل ذلك مما لا دليل عليه إلا بعض الآحاد من الاخبار وهي ضعاف ومراسيل ومقاطيع وموقوفات لا يعول عليها وخاصة في أمثال هذه المسائل مما لا اعتماد فيها إلا على آية محكمة أو حديث متواتر أو محفوف بقرينة قطعية، وليست ظاهرة الانطباق على القرآن الكريم حتى تصحح بذلك. وفي الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حماد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما من قلب إلا وله أذنان على أحداهما ملك مرشد، وعلى الاخرى شيطان مفتن هذا يأمره، وهذا يزجره، الشيطان يأمره بالمعاصي، والملك يزجره عنها، وذلك قول الله عزوجل: " عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ". وفي البحار: الشهاب: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الشيطان يجري من ابن آدم

[ 63 ]

مجرى الدم. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود: إن النبي صلى الله عليه وآله قال: ما من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن. قالوا: وإياك يا رسول الله ؟ قال: وإياى إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرنى إلا بخير. أقول: وقوله: " فأسلم " أخذه بعضهم بضم الميم وبعضهم بالفتح. وفي تفسير العياشي عن جميل بن دراج قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن إبليس أ كان من الملائكة أو كان يلي شيئا من إمر السماء ؟ فقال: لم يكن من الملائكة وكانت الملائكة ترى أنه منها، وكان الله يعلم أنه ليس منها، ولم يكن يلي شيئا من أمر السماء ولا كرامة. فأتيت الطيار فأخبرته بما سمعت فأنكر وقال: كيف لا يكون من الملائكة ؟ والله يقول للملائكة: " اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس " فدخل عليه الطيار فسأله وأنا عنده فقال له قول الله عزوجل: " يا أيها الذين آمنوا " في غير مكان في مخاطبة المؤمنين أ يدخل في هذه المنافقون ؟ قال: نعم يدخل في هذه المنافقون والضلال وكل من أقر بالدعوة الظاهرة. اقول: وفي الحديث رد ما روي أنه كان من الملائكة وأنه كان خازنا في السماء الخامسة أو خازن الجنة. وأعلم أن الاخبار الواردة من طرق الشيعة وأهل السنة في أنحاء تصرفاته أكثر من أن تحصى، وهي على قسمين: أحدهما: ما يذكر تصرفا منه من غير تفسير، والثاني: ما يذكره مع تفسير ما. فمن القسم الاول: ما في الكافي عن علي عليه السلام: لا تؤوا منديل اللحم في البيت فإنه مربض الشيطان، ولا تؤوا التراب خلف الباب فإنه مأوى الشيطان. وفيه عن الصادق عليه السلام: إن على ذروة كل جسر شيطانا فإذا انتهيت إليه فقل: بسم الله يرحل عنك.

[ 64 ]

وفيه عن علي عليه السلام قال رسول صلى الله عليه وآله بيت الشيطان في بيوتكم بيت العنكبوت. وفيه عن أحدهما عليهما السلام قال: لا تشرب وإنت قائم، ولا تبل في ماء نقيع، ولا تطف بقبر، ولا تخل في بيت وحدك، ولا تمش بنعل واحدة، فإن الشيطان أسرع ما يكون إلى العبد إذا كان على بعض هذه الاحوال. وفيه عن الصادق عليه السلام: إذا ذكر اسم الله تنحى الشيطان، وإن فعل ولم يسم أدخل ذكره وكان العمل منهما جميعا والنطفة واحدة. وفي تفسير القمي عنه عليه السلام: ما كان من مال حرام فهو شرك الشيطان. وفي الحديث: من نام سكران بات عروسا للشيطان. اقول: ومن هذا الباب قوله تعالى: " إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان " المائدة: 90. ومن القسم الثاني ما في الكافي عن الباقر عليه السلام: إن هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم. وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع. وفي المحاسن عن الرضا عن آبائه عن على عليه السلام في حديث: فأما كحله فالنوم وأما سفوفه فالغضب، وأما لعوقه فالكذب. وفي الحديث: أن موسى عليه السلام رآه وعليه برنس فسأله عن برنسه فقال: به أصطاد قلوب بني آدم. وفي مجالس ابن الشيخ عن الرضا عن آبائه عليهم السلام: أن إبليس كان يأتي الانبياء من لدن آدم إلى أن بعث الله المسيح يتحدث عندهم ويسألهم، ولم يكن بأحد منهم أشد أنسا منه بيحيى بن زكريا فقال له يحيى: يا أبا مرة إن لي إليك حاجة فقال: أنت أعظم قدرا من أن أردك بمسألة فاسإلني ما شئت فإني غير مخالفك في أمر تريده، فقال يحيى: يا أبا مرة أحب أن تعرض علي مصائدك و فخوخك التي تصطاد بها بني آدم، فقال له إبليس: حبا وكرامة وواعده لغد.

[ 65 ]

فلما أصبح يحيى قعد في بيته ينتظر الوعد، وأغلق عليه الباب إغلاقا، فما شعر حتى ساواه من خوخة كانت في بيته فإذا وجهه صورة وجه القرد، وجسده على صورة الخنزير، وإذا عيناه مشقوقتان طولا، وإذا أسنانه وفمه مشقوقات طولا عظما واحدا بلا ذقن ولا لحية، وله أربعة أيد يدان في صدره ويدان في منكبه، وإذا عراقيبه قوادمه وأصابعه خلفه وعليه قباء وقد شد وسطه بمنطقة فيها خيوط معلقة بين أحمر وأصفر وأخضر وجميع الالوان، وإذا بيده جرس عظيم وعلى رأسه بيضة، وإذا في البيضة حديدة معلقة شبيهة بالكلاب. فلما تأمله يحيى قال: ما هذه المنطقة التي في وسطك ؟ فقال: هذه المجوسية أنا الذي سننتها وزينتها لهم. فقال له: ما هذه الخطوط الالوان ؟ فقال: هذه جميع أصناع النساء لا تزال المرأة تصنع الصنيع حتى يقع مع لونها فأفتن الناس بها فقال له: فما هذا الجرس الذي بيدك ؟ قال: هذا مجمع كل لذة من طنبور وبربط ومعزفة وطبل وناي وصرناي، وإن القوم ليجلسون على شرابهم فلا يستلذونه فأحرك الجرس فيما بينهم فإذا سمعوه استخف بهم الطرب فمن بين من يرقص، ومن بين من يفرقع أصابعه، ومن بين من يشق ثيابه. فقال له: وأي الاشياء أقر لعينك ؟ قال: النساء، هن فخوخي ومصائدي فإذا اجتمعت إلى دعوات الصالحين ولعناتهم صرت إلى النساء فطابت نفسي بهن فقال: له يحيى: فما هذه البيضة على رأسك ؟ قال بها أتوقى دعوة المؤمنين. قال: فما هذه الحديدة التي أرى فيها ؟ قال بهذه أقلب قلوب الصالحين. قال يحيى: فهل ظفرت بي ساعة قط ؟ قال: لا، ولكن فيك خصلة تعجبني. قال يحيى فما هي ؟ قال: أنت رجل أكول فإذا أفطرت أكلت وبشمت فيمنعك ذلك من بعض صلاتك وقيامك بالليل. قال يحيى فإني أعطى الله عهدا أن لا أشبع من الطعام حتى ألقاه. قال له إبليس وأنا أعطى الله عهدا أن لا أنصح مسلما حتى القاه، ثم خرج فما عاد إليه بعد ذلك. أقول: والحديث مروي من طرق أهل السنة بوجه أبسط من ذلك: وقد روي

[ 66 ]

له مجالس ومحاورات ومشافهات مع آدم ونوح وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم، وهناك - كما مرت الاشارة إليه - روايات لا تحصى كثرة في أنحاء تسويلاته وأنواع تزييناته عند أنواع المعاصي والذنوب رواها الفريقان، والجميع تشهد أوضح شهادة على أنها تشكلات مثاليه على حسب ما يلائم نوع المعصية من الشكل والكيفية ويناسبها نظير ما تتمثل الحوادث في الرؤيا على حسب المناسبات المألوفة والاعتقادات المعتادة. ومن التأمل في هذا القسم الثاني يظهر أن الكيفيات والخصوصيات الواردة في القسم الاول المذكور من الاخبار إنما هي أنواع نسب بين هذا الموجود أعني إبليس وبين الاشياء تدعو إلى وساوس وخطرات تناسبها. فالجميع من التجسمات المثالية التي تناسبها الاعمال أو الاشياء غير التجسم المادي الذي ربما مال إليه الحشوية آ و بعض أهل الحديث حتى تكون المجوسية مثلا اعتقادا عند الانسان وهي بعينها منطقة من أديم عند إبليس يشد بها وسطه، أو أن يصير إبليس تارة آدميا له حقيقة الانسان وقواه وأعماله وتارة شيئا من الحيوان الاعجم له حقيقة نوعية وتارة جمادا ليس بذي حياة وشعور، أو أن هذه النوعيات جميعا هي أشكال وصور عارضة على مادة إبليس فالروايات أجنبية عن الدلالة على أمثال هذه المحتملات. وإنما هي روايات جمة لا ريب في صدور مجموعها من حيث المجموع وتأييد القرآن لها كذلك وهي تدل على أن لابليس أن يظهر لحواسنا بمختلف الصور هذا من حيث المجموع وأما كل واحد واحد فما صح منها سندا - وليس الجميع على هذه الصفة - فهو من الآحاد التي لا يعول عليها في أمثال هذه المسائل الاصلية نعم ربما أمكن استفادة حكم فرعي منها من استحباب أو كراهة على ما هو شأن الفقيه. * * * يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون 26 -. يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة

[ 67 ]

ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون 27 -. وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أ تقولون على الله ما لا تعلمون 28 -. قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون 29 -. فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون 30 -. يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين 31 -. قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحيوة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون 32 -. قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون 33 -. ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون 34 -. يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون 35 -. والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك

[ 68 ]

أصحاب النار هم فيها خالدون 36 -. (بيان) التدبر في هذه الخطابات وما تقدم عليها من قصة السجدة والجنة ثم عرض ذلك جميعا على ما ورد من القصة والمخاطبة في غير هذه السورة وخاصة سورة طه المكية التي هي كإجمال هذه السورة المفصلة وسورة البقرة المدنية يهدينا إلى أن هذه الخطابات العامة المصدرة بقوله: يا بني آدم، يا بني آدم هي تعميم الخطابات الخاصة التي وجهت إلى آدم كما أن القصة عممت نحوا من التعميم في هذه السورة، وقد أشرنا إليه فيما تقدم. وهذه الخطابات الاربعة المصدرة بقوله: يا بني آدم ثلاثة منها راجعة إلى التحذير من فتنة الشيطان وإلى الاكل والشرب واللباس تعميم ما في قوله تعالى في سورة طه: " يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى " الآيات طه: 119، والرابعة تعميم قوله فيها: " فإما يأتينكم مني هدى " الخ، طه: 123. ويعلم من انتزاع هذه الخطابات من قصته وتعميمها بعد التخصيص ثم تفريع أحكام أخرى عليها ذيلت بها الخطابات المذكورة أن هذه الاحكام المشرعة المذكورة هيهنا على الاجمال أحكام مشرعة في جميع الشرائع الالهية من غير استثناء كما يعلم أن ما قدر للانسان من سعادة وشقاوة وسائر المقدرات الانسانية كالاحكام العامة جميعها تنتهي إلى تلك القصة فهي الاصل تفرعت عليه هذه الفروع، والفهرس الذي يشير إلى التفاصيل. قوله تعالى: " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا " اللباس كل ما يصلح للبس وستر البدن وغيره، وأصله مصدر يقال: لبس يلبس لبسا - بالكسر والفتح - ولباسا، والريش ما فيه الجمال مأخوذ من ريش الطائر لما فيه من أنواع الجمال والزينة، وربما يطلق على أثاث البيت ومتاعه. وكأن المراد من انزال اللباس والريش عليهم خلقه لهم كما في قوله تعالى: " وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع " الحديد: 25، وقوله: " وأنزل لكم من الانعام ثمانية

[ 69 ]

أزواج " الزمر: 6، وقد قال تعالى: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " الحجر: 21، فقد أنزل الله اللباس والريش بالخلق من غيب ما عنده إلى عالم الشهادة وهو الخلق. واللباس هو الذي يعمله الانسان صالحا لان يستعمله بالفعل دون المواد الاصلية من قطن أو صوف أو حرير أو حرير أو غير ذلك مما يأخذه الانسان فيضيف إليه أعمالا صناعية من تصفية وغزل ونسج وقطع وخياطة فيصير لباسا صالحا للبس فعد اللباس والريش من خلق الله وهما من عمل الانسان نظير ما في قوله تعالى: " والله خلقكم وما تعملون " الصافات: 96، من النسبة. ولا فرق من جهة النظر في التكوين بين نسبه ما عمله الانسان إلى الله سبحانه وما عمله منته إلى أسباب جمة أحدها الانسان، ونسبة سائر ما عملته الطبائع ولها أسباب كثيرة أحدها الفاعل كنبات الارض وصفرة الذهب وحلاوة العسل فإن جميع الاسباب بجميع ما فيها من القدرة منتهية إليه سبحانه وهو محيط بها. وليست الخلقة منتسبة إلى الاشياء على وتيره واحدة وإن كانت جميع مواردها متفقة في معنى الانتهاء إليه إلا ما فيه معنى النقص والقبح والشناعة من المعاصي ونحوها فحقيقتها فقدان الخلقة الحسنة أو مخالفة الامر الالهي، وليست بمخلوقة له وإنما هي أوصاف نقص في أعمال الانسان مثلا في باطنه أو ظاهره، وقد تكررت الاشارة إلى هذه الحقيقة فيما مر من أجزاء هذا الكتاب. وتوصيف اللباس بقوله: " يواري سوآتكم " للدلالة على أن المراد باللباس ما ترفع به حاجة الانسان التي اضطرته إلى اتخاذ اللباس وهي مواراة سوأته التي يسوؤه انكشافها وأما الريش فإنما يتخذه لجمال زائد على أصل الحاجة. وفي الآية امتنان بهداية الانسان إلى اللباس والريش وفيها - كما قيل - دلالة على إباحة لباس الزينة. قوله تعالى: " ولباس التقوى ذلك خير " إلى آخر الآية. انتقل سبحانه من ذكر لباس الظاهر الذي يواري سوآت الانسان فيتقي به أن يظهر منه ما يسوؤه ظهوره،

[ 70 ]

إلى لباس الباطن الذي يواري السوآت الباطنية التي يسوء الانسان ظهورها وهي رذائل المعاصي من الشرك وغيره، وهذا اللباس هو التقوى الذي أمر الله به. وذلك أن الذي يصيب الانسان من ألم المساءة وذلة الهوان من ظهور سوأته روحي من سنخ واحد في السوآتين إلا أن ألم ظهور السوآت الباطنية أشد وأمر وأبقى فالمحاسب هو الله، والتبعة شقوة لازمة، ونار تطلع على الافئدة، ولذلك كان لباس التقوى خيرا من لباس الظاهر. وللاشارة إلى هذا المعنى وتتميم الفاي دة عقب الكلام بقوله: " ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون " فاللباس الذي اهتدى إليه الانسان ليرفع به حاجته إلى مواراة سوأته التي يسوؤه ظهورها آية إلهية إن تأمله الانسان وتبصر به تذكر أن له سوآت باطنية تسوؤه إن ظهرت وهي رذائل النفس، وسترها عليه أوجب وألزم من ستر السوآت الظاهرية بلباس الظاهر واللباس الذي يسترها ويرفع حاجة الانسان الضرورية هو لباس التقوى الذي أمر الله به وبينه بلسان أنبيائه. وفي تفسير لباس التقوى أقوال أخر مأثورة عن المفسرين، فقيل: هو الايمان والعمل الصالح، وقيل: هو حسن السمت الظاهر، وقيل: هو الحياء، وقيل: هو لباس النسك والتواضع كلبس الصوف والخشن، وقيل: هو الاسلام، وقيل: هو لباس الحرب، وقيل: هو ما يستر العورة، وقيل: هو خشية الله، وقيل: هو ما يلبسه المتقون يوم القيامة هو خير من لباس الدنيا، وأنت ترى أن شيئا من هذه الاقوال لا ينطبق على السياق ذلك الانطباق. قوله تعالى: " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة " إلى آخر الآية. الكلام وإن كان مفصولا عما قبله بتصديره بخطاب " يا بني آدم " إلا أنه بحسب المعنى من تتمة المفاد السابق، ولذا أعاد ذكر السوآت ثانيا فيرجع المعنى إلى أن لكم معاشر الآدميين سوآت لا يسترها إلا لباس التقوى الذي ألبسناكموه بحسب الفطرة التي فطرناكم عليها فإياكم أن يفتنكم الشيطان فينزع عنكم ذلك كما نزع لباس أبويكم في الجنة ليريهما سوآتهما فإنا جعلنا الشياطين أولياء لمن تبعهم ولم يؤمن باياتنا. ومن هنا يظهر أن ما صنعه إبليس بهما في الجنة من نزع لباسهما ليريهما سوآتهما

[ 71 ]

كان مثالا لنزع لباس التقوى عن الآدميين بالفتنة وأن الانسان في جنة السعادة ما لم يفتتن به فإذا افتتن أخرجه الله منها. وقوله: " إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم " تأكيد للنهي وبيان لدقة مسلكه وخفاء سربه دقة لا يميزه حس الانسان وخفاء لا يقع عليه شعوره فإنه لا يرى إلا نفسه من غير أن يشعر أن وراءه من يأمر بالشر ويهديه إلى الشقوة. وقوله: " إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون " تأكيد آخر للنهي، وليست ولايتهم وتصرفهم في الانسان إلا ولاية الفتنة والغرور فإذا افتتن واغتر بهم تصرفوا بما شاؤوا وكما أرادوا كما قال تعالى مخاطبا لابليس: " واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الاموال والاولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا " أسرى: 65، وقال: " إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون " النحل: 99، وقال: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين " الحجر: 42. ومن الآيات بانضمامها إلى آيتنا المبحوث عنها يظهر أن لا ولاية لهم على المؤمنين وإن مسهم طائف منهم أحيانا، وأن لا سلطان له على المتوكلين من المؤمنين وهم الذين عدهم الله عبادا له بقوله: " عبادي " فلا ولاية له إلا على الذين لا يؤمنون. والظاهر أن المراد به عدم الايمان بآيات الله بتكذيبها وهو أخص من وجه من عدم الايمان بالله الذي هو الكفر بالله بشرك أو نفي، وذلك لان هذا الكفر هو المذكور في الخطاب العام الذي في ذيل القصة من سورة البقرة حيث قال تعالى: " قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى - إلى أن قال - والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " البقرة: 39، وفي ذيل هذه الآيات من هذه السورة حيث قال: " والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " الاعراف: 36. قوله تعالى: " وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها " إلى آخر الآية، رجوع من الخطاب العام لبني آدم إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة ليتوسل

[ 72 ]

به إلى انتزاع خطابات خاصة يوجهها إلى أمته كما جرى نظيره من الالتفات في الخطاب المتقدم يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا حيث قال: " ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون " لنظير الغرض. وبالجملة فقد استخرج من هذا الاصل الثابت في قصة الجنة وهو أمر ظهور السوآت الذي أفضى إلى خروج آدم وزوجته من الجنة أن الله لا يرضى بالفحشاء الشنيعة من أفعال بني آدم، فذكر إتيان المشركين بالفحشاء واستنادهم في ذلك إلى عمل آبائهم وأمر الله سبحانه بها فأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرد عليهم بأن الله لا يأمر بالفحشاء، ويذكرهم أن ذلك من القول على الله بغير علم والافتراء عليه، كيف لا ؟ وقصة الجنة شاهدة عليه. وقد ذكر لهم في فعلهم الفحشاء عذرين يعتذرون بهما ومستندين يستندون إليهما وهما فعل آبائهم وأمر الله إياهم بها، وكان الثاني هو الذي يرتبط بالخطاب العام المستخرج من قصة الجنة فقط، ولذلك تعرض لدفعه ورده عليهم، و ما استنادهم إلى فعل آبائهم فذلك وإن لم يكن مما يرتضيه الله سبحانه وقد رده في سائر كلامه بمثل قوله: " أ ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون " فلم يتعرض لرده ههنا لخروجه عن غرض الكلام. وقد ذكر جمع من المفسرين أن قوله: " وإذا فعلوا فاحشة " الخ، إشارة إلى ما كان معمولا عند أهل الجاهلية من الطواف بالبيت الحرام عراة يقولون: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا ولا نطوف في الثياب التي قارفنا فيها الذنوب، ونقل عن الفراء أنهم كانوا يعملون شيئا من سيور مقطعة يشدونهم على حقويهم يسمى حوفا وإن عمل من صوف سمي رهطا وكانت المرأة تضع على قبلها نسعة إو شيئا آخر فتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله * وما بدا منه فلا إحله ولم يزل دائرا بينهم حتى منعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الفتح حين بعث عليا عليه السلام بآيات البراءة إلى مكة. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بعض المسلمين كانوا يعيبونهم على ذلك فيعتذرون إليهم بقولهم: " وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها " فرد الله سبحانه عليهم وذمهم بقوله:

[ 73 ]

" إن الله لا يأمر بالفحشاء أ تقولون على الله ما لا تعلمون ". وليس ما ذكروه ببعيد وفي الآية بعض التأييد له حيث وصفت ما كانوا يفعلونه بالفحشاء وهي الامر الشنيع الشديد القبح ثم ذكرت أنهم كانوا يعتذرون بأن الله أمرهم بذلك ولازم ذلك أن يكون ما فعلوه أمرا شنيعا أتوا به في صفة العبادد والنسك كالطواف عاريا، والآية مع ذلك الفحشاء فتصلح أن تنطبق على فعلهم ذلك، وعلى مصاديق أخرى ما أكثر وجودها بين الناس وخاصة في زماننا الذي نعيش فيه. قوله تعالى: " قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين " لما نفت الآية السابقة أن يأمر الله سبحانه بالفحشاء وذكرت أن ذلك افتراء عليه وقول بغير علم لعدم انتهائه إلى وحي ما أوحي به الله بادرت هذه الآية إلى ذكر ما أمر به وهو لا محالة أمر يقابل ما استشنعته الآية السابقة وعدته فحشاء لما فيه من بلوغ القبح والافراط والتفريط فقال: " قل أمر ربي بالقسط.. " الخ. والقسط على ما ذكره الراغب هو النصيب بالعدل كالنصف والنصفة قال: " ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط " " وأقيموا الوزن بالقسط " والقسط هو أن يأخذ قسط غيره، وذلك جور و الاقساط أن يعطي قسط غيره، وذلك إنصاف ولذلك قيل: قسط الرجل إذا جار وأقسط إذا عدل قال: " وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا " وقال: " وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ". انتهى كلامه. فالمراد: قل أمر ربي بالنصيب العدل ولزوم وسط الاعتدال في الامور كلها وأن تجتنبوا جانبي الافراط والتفريط فأقسطوا وأنيبوا وأقروا نفوسكم عند كل معبد تعبدون الله فيه وادعوه بإخلاص الدين له من غير أن تشركوا بعبادته صنما أو أحدا من آبائكم وكبرائكم بالتقليد لهم وهذا هو القسط في العبادة. فقوله: " وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد " معطوف ظاهرا على مقول القول لان معنى أمر ربي بالقسط: أقسطوا، فيكون التقدير: أقسطوا وأقيموا (الخ)، والوجه هو ما يتوجه به إلى الشئ، وهو في حال تمام النفس الانسانية، وإقامتها عندها إيجاد القيام بالامر لها أي إيفاؤه والايتان به كما ينبغي تاما غير ناقص فيؤول معنى إقامة الوجه عند العبادة إلى الاشتغال بالعبادة والانقطاع عن غيرها.

[ 74 ]

فيفيد قوله: " وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد " إذا انضم إليه قوله: " وادعوه مخلصين له الدين " وجوب الانقطاع للعبادة عن غيرها ولله سبحانه عن غيره كما عرفت ومن الغير الذي يجب الانقطاع عنه إلى الله سبحانه نفس العبادة، وإنما العبادة توجه لا متوجه إليها، والتوجه إليها يبطل معنى كونها عبادة وتوجها إلى الله فيجب إن لا يذكر الناسك في نسكه إلا ربه وينسى غيره. وللمفسرين في معنى قوله: " وأقيموا وجوهكم " الخ، أقوال أخر منها: إن المعنى: توجهوا إلى قبلة كل مسجد في الصلاة على استقامة. ومنها: أن المعنى توجهوا في أقات السجود وهي أوقات الصلاة إلى الجهة التي أمركم الله بها وهي الكعبة. ومنها إذا أدركتم الصلاة في مسجد فصلوا ولا تقولوا حتى أرجع إلى مسجدي. ومنها: أن المعنى: اقصدوا المسجد في وقت كل صلاة أمر فيها بالجماعة. ومنها: أن المعنى: أخلصوا وجوهكم لله بالطاعة فلا تشركوا وثنا ولا غيره. والوجوه المذكورة على علاتها وإباء الآية عنها لا تناسب الثلاثة الاول منها حال المسلمين في وقت نزول السورة وهي مكية ولم تكن الكعبة قبلة يومئذ، ولا كانت للمسلمين مساجد مختلفة متعددة، وآخر الوجوه وإن كان قريبا مما قدمناه إلا أنه ناقص في بيان الاخلاص المستفاد من الآية وما تضمنه انما هو معنى قوله تعالى: " وادعوه مخلصين له الدين " لا قوله: " وأقيموا " الخ، كما تقدم. قوله تعالى: " كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة " إلى آخر الآية. ظاهر السياق أن يكون قوله " فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة " حالا من فاعل " تعودون " ويكون هو الوجه المشترك الذي شبه فيه العود بالبدء، والمعنى تعودون فريقين كما بدأكم فريقين نظير قوله تعالى: " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة " الانعام: 94، والمعنى لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة فرادى. فهذا هو الظاهر المستفاد من الكلام، وأما كون " فريقا هدى " الخ، حالا لا يعدو عامله، ووجه الشبه بين البدء والعود أمرا آخر غير مذكور ككونهم فرادى بدء وعودا أو كون الخلق الاول والثاني جميعا من تراب أو كون البعث مثل الانشاء في قدرة الله إلى غير ذلك مما احتملوه فوجوه بعيدة عن دلالة الآية، وأي فائدة في

[ 75 ]

حذف وجه الشبه من الذكر وذكر ما لا حاجه إليه مع وقوع اللبس، وسيجئ إن شاء الله توضيح ذلك. وظاهر البدء في قوله: " بدأكم " أول خلقة الانسان الدنيوية لا مجموع الحياة الدنيوية قبال الحياة الآخروية فيكون البدء هو الحياه الدنيا والعود هو الحياة الاخرى فيكون المعنى كنتم في الدنيا مخلوقين له هدى فريقا منكم وحقت الضلالة على فريق آخر كذلك تعودون كما يؤول إليه قول من قال: " إن معنى الآية: تبعثون على ما متم عليه: المؤمن على إيمانه، والكافر على كفره ". وذلك أن ظاهر البدء إذا نسب إلى شئ ذي امتداد واستمرار بوجه أن يقع على أقدم أجزاء وجوده الممتد المستمر لا على الجميع، والخطاب للناس فبدؤهم أول خلقة النوع الانساني وبدؤ ظهوره. على أن الآية من تتمة الآيات التي يبين الله سبحانه فيها بدء إيجاده الانسان بمثل قوله: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " الخ، فالمراد به كيفية البدء التي قصها في أول كلامه، وقد كان من القصة أن الله قال لابليس لما رجمه: " أخرج منها مذؤوما مدحورا لمن تبعك منهم لاملان جهنم منكم أجمعين " وفيه قضاء أن ينقسم بنو آدم فريقين فريقا مهتدين على الصراط المستقيم، وفريقا ضالين حقا فهذا هو الذي بدأهم به وكذلك يعودون. وقد بين ذلك في مواضع أخر من كلامه أوضح من ذلك وأصرح كقوله: " قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين " الحجر: 42، وهذا قضاء حتم وصراط مستقيم أن الناس طائفتان طائفة ليس لابليس عليهم سلطان وهم الذين هداهم الله، وطائفة متبعون لابليس غاوون وهم المقضي ضلالهم لاتباعهم الشيطان وتوليهم إياه قال: " كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله " الحج: 4، وإنما قضي ضلالهم إثر اتباعهم وتوليهم لا بالعكس كما هو ظاهر الآية. ونظيره في ذلك قوله تعالى: " قال فالحق والحق أقول لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين " ص: 85، فإنه يدل على أن هناك قضاء بتفرقهم فريقين، وهذا التفرق هو الذي فرع تعالى عليه قوله إذ قال: " قال اهبطا منها.... فإا يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة

[ 76 ]

ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى " الخ، طه: 124 وهو عمى الضلال. وبعد ذلك كله فمن الممكن أن يكون قوله: " كما بدأكم تعودون " الخ، في مقام التعليل لمضمون الكلام السابق والمعنى: اقسطوا في أعمالكم وأخلصوا لله سبحانه فإن الله سبحانه إذ بدأ خلقكم قضى فيكم أن تتفرقوا فريقين فريقا يهديهم وفريقا يضلون عن الطريق وستعودون إليه كما بدأكم فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة بتولى الشياطين فأقسطوا وأخلصوا حتى تكونوا من المهتدين بهداية الله لا الضالين بولاية الشياطين. فيكون الكلام جاريا مجرى قوله تعالى: " ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا " البقرة: 148 فإنه في عين أنه بين أولا أن لكل وجهة خاصة محتومة هو موليها لا يتخلف عنه إن سعادة فسعادة وإن شقاوة فشقاوة أمرهم ثانيا أن استبقوا الخيرات، ولا يستقيم الامر مع تحتم إحدى المنزلتين: السعادة والشقاوة لكن الكلام في معنى قولنا: إن كلا منكم لا محيص له عن وجهة متعينة في حقه لازمة له إما الجنة وإما النار فاستبقوا الخيرات حتى تكونوا من أهل وجهة السعادة دون غيرها. وكذلك الامر فيما نحن فيه فالكلام في معنى قولنا: إنكم ستعودون فريقين كما بدأكم فريقين بقضائه فأقسطوا في أعمالكم وأخلصوا لله سبحانه حتى تكونوا من الفريق الذي هدى دون الفريق الذي حق عليهم الضلالة. ومن الممكن أن يكون قوله: " كما بدإكم " الخ، كلاما مستأنفا وهو مع ذلك لا يخلو عن تلويح بالدعوة إلى الاقساط والاخلاص على ما يتبادر من السياق. وأما قوله: " إنهم اتخذوا الشياطين أولياء " فهو تعليل لثبوت الضلالة ولزومها لهم في قوله: " حقت عليهم الضلالة " كأن كلمة الضلال والخسران صدرت من مصدر القضاء في حقهم مشروطا بولاية الشيطان كما يذكره في قوله: " كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله " الحج: 4. فلما تولوا الشياطين في الدنيا حقت عليهم الضلالة ولزمتهم لزوما لا إنفكاك بعده أبدا وهذا نظير ما يستفاد من قوله: " وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والانس إنهم كانوا

[ 77 ]

خاسرين " حم السجدة: 25. وأما قوله: " ويحسبون أنهم مهتدون " فهو كعطف التفسير بالنسبة إلى الجملة السابقة يفسر به معنى تحقق الضلالة ولزومها فإن الانسان مهما ركب غير طريق الحق واعتنق الباطل وهو يعترف بأنه من الباطل ولما ينس الحق أو شك أن يعود إلى الحق الذي فارقه وكان مرجوا أن ينتزع عن ضلاله إلى الهدى أما إذا اعتقد حقية الباطل الذي هو عليه، وحسب أنه على الهدى وهو في ضلال فقد استقر فيه شيمة الغي وحقت عليه الضلالة ولا يرجى معه فلاح أبدا. فقوله: " ويحسبون أنهم مهتدون " كالتفسير لتحقق الضلالة لكونه من لوازمه، وقد قال تعالى في موضع آخر: " قل هل ننبؤكم بالاخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " الكهف: 104، وقال تعالى: إن الذين كفروا سواء عليهم ء انذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة " البقرة: 7. وإنه الانسان يسير على الفطرة ويعيش على الخلقة لا ينقاد إلا للحق ولا يخضع إلا للصدق ولا يريد إلا ما فيه خيره وسعادته غير أنه إذا شمله التوفيق وكان على الهدى طبق ما يطلبه ويقصده على حقيقة مصداقه ولم يعبد إلا الله وهو الحق الذي يطلبه ولم يرد إلا الحياة الدائمة الخالدة وهي السعادة التي يقصدها، وإذا ضل عن الصراط انتكس وجهه من الحق إلى الباطل ومن الخير إلى الشر ومن السعادة إلى الشقاء فيتخذ إلهه هواه، ويعبد الشيطان، ويخضع للاوثان، وأخلد إلى الارض، وتعلق بالزخارف المادية الدنيوية وتبصر إليها لكنه إنما يعمل ما يعمل بإذعان أنه هكذا ينبغي أن يعمل وحسبان أنه مهتد في عمله فيأخذ بالباطل بعنوان أنه حق، ويركن إلى الشر أو الشقاء بعنوان أنه خير وسعادة فالادراك الفطري محفوظ له غير أنه يطبقه في مقام العمل على غير مصداقه. قال تعالى: " يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها " النساء: 47، وأما إنسان يتبع الباطل بما هو باطل، ويقصد الشقاء والخسران بما هو شقاء وخسران فمن المحال ذلك. قال تعالى " فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله " الروم: 30

[ 78 ]

وشئ من العلل والاسباب ومنها الانسان لا يريد غاية ولا يفعل فعلا إلا إذا كان ملائما لنفسه حاملا لما فيه نفعه وسعادته، وما ربما يترآى من خلاف فإنما هو في بادئ النظر لا بحسب الحقيقة وفي نفس الامر. هذا كله ما يقتضيه التدبر وإيفاء النظر من معنى قوله " كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة " الخ، وهو يدور مدار كون " فريقا هدى " الخ، حالا مبينا لوجه الشبه والمعنى المشترك بين البدء والعود سواء أخذنا الكلام مستأنفا أو واقعا موقع التعليل متصلا بما قبله. وأما جمهور المفسرين فكأنهم متسالمون على أن قوله: " فريقا هدى " حال مبين لكيفيد العود فحسب دون العود والبدء جميعا، وأن المعنى المشترك الذي هو وجه تشبيه العود بالبدء أمر آخر وراءه إلا من فسر البدء بالحياة الدنيا والخلق الاول كما تقدم وسيجئ، وكان ذلك فرارا منهم عن لزوم الجبر المبطل للاختيار مع احتفاف الكلام بالاوامر والنواهي، وقد عرفت أن ذلك غير لازم. وبالجملد فقد اختلفوا في وجه اتصال الكلام بما قبله بعد التسالم على ذلك فمن قائل: أنه إنذار بالبعث تأكيدا للاحكام المذكورة سابقا، واحتجاج عليه بالبدء فالمعنى: ادعوه مخلصين فإنكم مبعوثون مجازون، وإن بعد ذلك في عقولكم فاعتبروا بالابتداء واعلموا أنه كما بدأكم في الخلق الاول فإنه يبعثكم فتعودون في الخلق الثاني. وفيه أنه مبني على أن تشبيه العود بالبدء في تساويهما بالنسبة إلى قدرة الله، وأن النكتة في التعرض لذلك هو الانذار بالمجازاة، والسياق المناسب لهذا الغرض أن يقال: كما بدأكم يبعثكم فيجازيكم بوضع بعثه تعالى موضع عود الناس والتصريح بالمجازاة التي هي العمدة في الغرض المسوق لاجله الكلام كما صنع ذلك القائل نفسه فيما ذكره من المعنى، والآية خالية من ذلك. ومن قائل: أنه احتجاج على منكري البعث، واتصاله بقوله تعالى قبل عدة آيات: " فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون ". فقوله: " كما بدأكم تعودون " معناه فليس بعثكم بأشد من ابتدائكم.

[ 79 ]

وفيه: ما في الوجه السابق على أنه تحكم من غير دليل. ومن قائل: إنه كلام مستأنف. وقد تقدم ذكره. ومن قائل: أنه متصل بما سبقه، والمعنى: اخلصوا لله في حياتكم فإنكم تبعثون على ما متم عليه: المؤمن على إيمانه، والكافر على كفره. وفيه: أنه مبني على كون المراد بالبدء هو مجموع الحياة الدنيا في قبال الحياة الآخرة ثم تشبيه بالعود وهو الحياة الآخرة بآخر الحياة الاولى المسماة بعثا، والآية - كما تقدم - بمعزل عن الدلالة على هذا المعنى. قوله تعالى: " يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد " إلى آخر الآية. قال الراغب: السرف تجاوز الحد في كل فعل يفعله الانسان، وإن كان ذلك في الانفاق أشهر، انتهى. أخذ الزينة عند كل مسجد هو التزين الجميل عند الحضور في المسجد، وهو إنما يكون بالطبع للصلاة والطواف وسائر ذكر الله فيرجع المعنى إلى الامر بالتزين الجميل للصلاة ونحوها، ويشمل بإطلاقه صلوات الاعياد والجماعات اليومية وسائر وجوه العبادة والذكر. وقوله: " وكلوا واشربوا ولا تسرفوا " الخ، أمران إباحيان ونهي تحريمي معلل بقوله: " إنه لا يحب المسرفين " والجميع مأخوذة من قصة الجنة كما مرت الاشارة إليه، وهي كما تقدم خطابات عامة لا تختص بشرع دون شرع ولا بصنف من أصناف الناس دون صنف. ومن هنا يعلم فساد ما ذكره بعضهم: أن قوله: " يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد " الخ يدل على بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى جميع البشر، وأن الخطاب يشمل النساء بالتبع للرجال شرعا لا لغة (انتهى). نعم تدل الآية على أن هناك أحكاما عامة لجميع البشر برسالة واحدة أو أكثر، وأما شمول الحكم للنساء فبالتغليب في الخطاب والقرينة العقلية قائمة. قوله تعالى: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق "

[ 80 ]

هذا من استخراج حكم خاص - بهذه الامة - من الحكم العام السابق عليه بنوع من الالتفات نظير ما تقدم في قوله: " ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون " وقوله " فإذا فعلوا فاحشة " الآية. والاستفهام انكاري، والزين يقابل الشين وهو ما يعاب به الانسان فالزينة ما يرتفع به العيب ويذهب بنفرة النفوس، والاخراج كناية عن الاظهار واستعارة تخييلية كأن الله سبحانه بإلهامه وهدايته الانسان من طريق الفطرة إلى إيجاد أنواع الزينة التي يستحسنها مجتمعه ويستدعي انجذاب نفوسهم إليه وارتفاع نفرتهم واشمئزازهم عنه يخرج لهم الزينة وقد كانت مخبية خفية فأظهرها لحواسهم. ولو كان الانسان يعيش في الدنيا وحده في غير مجتمع من أمثاله لم يحتج إلى زينة يتزين بها قط ولا تنبه للزوم إيجادها لان ملاك التنبه هو الحاجة. لكنه لما لم يسعه إلا الحياة في مجتمع من الافراد وهم يعيشون بالارادة والكراهة والحب والبغض والرضى والسخط فلا محيص لهم من العثور على ما يستحسنونه وما يستقبحونه من الهيآت والازياء فيلهمهم المعلم الغيبي من وراء فطرتهم بما يصلح ما فسد منهم ويزين ما يشين منهم وهو الزينة بأقسامها، ولعل هذا هو النكتة في خصوص التعبير بقوله لعباده. وهذه المسماة بالزينة من أهم ما يعتمد عليه الاجتماع الانساني وهي من الآداب العريقة التي تلازم المجتمعات وتترقى وتتنزل على حسب تقدم المدنية والحضارة ولو فرض ارتفاعها من أصلها في مجتمع من المجتمعات انهدم الاجتماع وتلاشت أجزاءه من حينه لان معنى بطلانها ارتفاع الحسن والقبح والحب والبغض والارادة والكراهة وأمثالها من بينهم، ولا مصداق للاجتماع الانساني عندئذ فافهم ذلك. ثم الطيبات من الرزق - والطيب هو الملائم للطبع - هي الانواع المختلفة مما يرتزق به الانسان بالتغذي منه، أو مطلق ما يستمد به في حياته وبقائه كأنواع المطعم والمشرب والمنكح والمسكن ونحوها، وقد جهز الله سبحانه الانسان بما يحس بحاجته إلى أقسام الرزق ويستدعي تناولها بأنواع من الشهوات الهائجة في باطنه إلى ما يلائمها مما يرفع حاجته وهذا هو الطيب والملائمة الطبيعية. وابتناء حياة الانسان السعيدة على طيبات الرزق غني عن البيان فلا يسعد

[ 81 ]

الانسان في حياته من الرزق إلا بما يلائم طباع قواه وأدواته التي جهز بها ويساعده على بقاء تركيبه الذي ركب به، وما جهز بشئ ولا ركب من جزء إلا لحاجة له إليه فلو تعدى في شئ مما يلائم فطرته إلى ما لا يلائمها طبعا اضطر إلى تتميم النقص الوارد عليه في القوة المربوطة به إلى صرف شئ من سائر القوى فيه كالمنهوم الشره الذي يفرط في الاكل فيصيبه آفات الهضم. فيضطر إلى استعمال الادوية المصلحة لجهاز الهضم والمشهية للمعدة ولا يزال يستعمل ويفرط حتى يعتاد بها فلا تؤثر فيه فيصير إنسانا عليلا تشغله العلة عن عامة واجبات الحياة، وأهمها الفكر السالم الحر وعلى هذا القياس. والتعدي عن طيب الرزق يبدل الانسان إلى شئ آخر لا هو مخلوق لهذا العالم ولا هذا العالم مخلوق له وأي خير يرجى في إنسان يتوخى أن يعيش في ظرف غير ظرفه الذي أعده له الكون، ويسلك طريقا لم تهيئه له الفطرة، وينال غاية غير غايته وهو أن يتوسع بالتمتع بكل ما تزينه له الشهوة والشره، ويصوره له الخيال بآخر ما يقدر وأقصى ما يمكن. والله سبحانه يذكر في هذه الآية أن هناك زينة أخرجها لعباده وأظهرها وبينها لهم من طريق الالهام الفطري، ولا تلهم الفطرة إلا بشئ قامت حاجة الانسان إليه بحسبها. ولا دليل على إباحة عمل من الاعمال وسلوك طريق من الطرق أقوى من الحاجة إليه بحسب الوجود والطبيعة الذي يدل على أن الله سبحانه هو الرابط بين الانسان المحتاج وبين ما يحتاج إليه بما أودع في نفسه من القوى والادوات الباعثة له إليه بحسب الخلقة والتكوين. ثم يذكر بعطف الطيبات من الرزق على الزينة في حيز الاستفهام الانكاري أن هناك أقساما من الرزق طيبة ملائمة لطباع الانسان يشعر بطيبه من طريق قواه المودعة في وجوده، ولا يشعر بها ولا يتنبه لها إلا لقيام حاجته في الحياة إليها وإلى التصرف فيها تصرفا يستمد به لبقائه، ولا دليل على إباحة شئ من الاعمال أقوى من الحاجة الطبيعية والفقر التكويني إليه كما سمعت.

[ 82 ]

ثم يذكر بالاستفهام الانكاري أن إباحة زينة الله والطيبات من الرزق مما لا ينبغي أن يرتاب فيها فهو من إمضاء الشرع لحكم العقل والقضاء الفطري. وإباحة الزينة وطيبات الرزق لا تعدو مع ذلك حد الاعتدال فيها والوسط العدل بين الافراط والتفريط فإن ذلك هو الذي يقضي به الفطرة، وقد قال الله سبحانه في الآية السابقة: " ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين " وقال فيما قبل ذلك: " قل أمر ربي بالقسط ". ففي التعدي إلى أحد جانبي الافراط والتفريط من تهديد المجتمع الانساني بالانحطاط، وفساد طريق السعادة ما في انثلام ركن من أركان البناء من تهديده بالانهدام فقلما ظهر فساد في البر والبحر وتنازع يفضي إلى الحروب المبيدة للنسل المخربة للمعمورة إلا عن إتراف الناس وإسرافهم في أمر الزينة إو الرزق، وهو الانسان إذا جاوز حد الاعتدال، وتعدى ما خط له من وسط الجادة ذهب لوجهه لا يقف على حد ولا يلوي على شئ فمن الحري أن لا يرفع عنه سوط التربية ويذكر حتى بأوضح ما يقضي به عقله، ومن هذا القليل الامر الالهي بضروريات الحياة كالاكل والشرب واللبس والسكنى وأخذ الزينة. قال صاحب المنار في بعض كلامه - وما أجود ما قال: - وإنما يعرفها - يعني قيمة الامر بأخذ الزينة مع بساطته ووضوحه - من قراء تواريخ الامم والملل، وعلم أن أكثر المتوحشين الذين يعيشون في الحرجات والغابات أفرادا وجماعات يأوون إلى الكهوف والمغارات، والقبائل الكثيرة الوثنية في بعض جزائر البحار وجبال إفريقيا كلهم يعيشون عراة الاجسام نساء ورجالا، وأن الاسلام ما وصل إلى قوم منهم الا وعلمهم لبس الثياب بإيجابه للستر والزينة إيجابا شرعيا. ولما أسرف بعض دعاة النصرانية الاوروبيين في الطعن في الاسلام لتنفير أهله منه وتحويلهم إلى ملتهم ولتحريض أوربا عليهم رد عليهم بعض المنصفين منهم فذكر في رده أن في انتشار الاسلام في إفريقيا منة على أوربا بنشره للمدنية في أهلها بحملهم على ترك العرى وإيجابه لبس الثياب الذي كان سببا لرواج تجارة النسج الاوروبيه فيهم.

[ 83 ]

بل أقول: إن بعض الامم الوثنية ذات الحضارة والعلوم والفنون كان يغلب فيها معيشة العرى حتى إذا ما اهتدى بعضهم بالاسلام صاروا يلبسون ويتجملون ثم صاروا يصنعون الثياب وقلدهم جيرانهم من الوثنيين بعض التقليد. هذه بلاد الهند على ارتقاء حضارة الوثنيين فيها قديما وحديثا لا يزال ألوف الالوف من نسائهم ورجالهم عراة أو أنصاف أو أرباع عراة فترى بعض رجالهم في معاهد تجارتهم وصناعتهم بين عار لا يستر إلا السوأتين - و يسمونهما " سبيلين " وهي الكلمة العربية التي يستعملها الفقهاء في باب نواقض الوضوء - أو ساتر لنصفه الاسفل فقط وامرأة مكشوفة البطن والفخذين أو النصف الا على من الجسم كله أو بعضه، وقد اعترف بعض علمائهم المنصفين بأن المسلمين هم الذين علموهم لبس الثياب، والاكل في الاواني ولا يزال أكثر فقرائهم يضعون طعامهم على ورق الشجر ويأكلون منه، ولكنهم خير من كثير من الوثنيين سترا وزينة لان المسلمين كانوا حكامهم، وقد كانوا ولا يزالون من أرقي مسلمي الارض علما وعملا وتأثيرا في وثني بلادهم. وأما المسلمون في بلاد الشرق التي يغلب عليها الجهل فهم أقرب إلى الوثنية منهم إلى الاسلام في اللباس وكثير من الاعمال الدينية، ومنهم نساء مسلمي " سيام " اللاتي لا ترين في أنفسهن عورة إلا السوأتين كما بين هذا من قبل فحيث يقوى الاسلام يكون الستر والزينة اللائقة بكرامة البشر ورقيهم. فمن عرف مثل هذا عرف قيمة هذا الاصل الاصلاحي في الاسلام ولو لا أن جعل هذا الدين المدني الاعلى أخذ الزينة من شرع الله أوجبه على عباده لما نقل أمما وشعوبا كثيرة من الوحشية الفاحشة إلى المدنية الراقية، وإنما يجهل هذا الفضل له من يجهل التاريخ وإن كان من أهله بل لا يبعد أن يوجد في متحذلقة المتفرنجين من يجلس في ملهى أو مقهى أو حانة متكئا مميلا طربوشه على رأسه يقول: ما معنى جعل أخذ زينة اللباس من أمور الدين ؟ وهو من لوازم البشر لا يحتاجون فيه إلى وحي إلهي ولا شرع ديني، وقد يقول مثل هذا في قوله تعالى: " كلوا واشربوا " انتهى. ومما يناسب المقام ما روي: أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شئ، والعلم علمان: علم

[ 84 ]

الاديان وعلم الابدان ! فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية وهو قوله: " كلوا واشربوا ولا تسرفوا " وجمع نبينا الطب في قوله: " المعدة بيت الداء، والحمية رأس كل دواء، وأعط كل بدن ما عودته " فقال الطبيب: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا. قوله تعالى: " قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة " لا ريب أن الخطاب في صدر الآية إما لخصوص الكفار أو يعمهم والمؤمنين جميعا كما يعمهم جميعا ما في الآية السابقة من الخطاب بقوله: " يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا " ولازمه أن تكون الزينة وطيبات الرزق موضوعة على الشركة بين الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم. فقوله: " قل هي للذين آمنوا " الخ، مسوق لبيان ما خص الله سبحانه به المؤمنين من عباده من الكرامة والمزية، وإذ قد اشتركوا في نعمه في الدنيا فهي خالصة لهم في الآخرة، ولازم ذلك أن يكون قوله: " في الحياة الدنيا متعلقا بقوله: " آمنوا " وقوله: " يوم القيامة " متعلقا بما تعلق به قوله: " للذين آمنوا " وهو قولنا كائنة أو ما يقرب منه، و " خالصة " حال عن الضمير المؤنث وقدمت على قوله: " يوم القيامة " لتكون فاصلة بين قوليه: " في الحياة الدنيا " و " يوم القيامة " والمعنى: قل هي للمؤمنين يوم القيامة وهي خالصة لهم لا يشاركهم فيها غيرهم كما شاركوهم في الدنيا فمن آمن في الدنيا ملك نعمها يوم القيامة. وبهذا البيان يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالخلوص إنما هو الخلوص من الهموم والمنغصات والمعنى: هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا غير خالصة من الهموم والاحزان والمشقة، وهي خالصة يوم القيامة من ذلك. وذلك أنه ليس في سياق الآية ولا في سياق ما تقدمها من الآيات إشعار باحتفاف النعم الدنيوية بما ينغص عيش المتنعمين بها ويكدرها عليهم حتى يكون قرينة على إرادة ما ذكره من معنى الخلوص. وكذا ما في قول بعض آخر: أن قوله: " في الحياة الدنيا " متعلق بما تعلق به قوله " للذين آمنوا " والمعنى: هي ثابتة للذين آمنوا بالاصالة والاستحقاق في الحياة

[ 85 ]

الدنيا، ولكن يشاركهم غير هم فيها بالتبع لهم وإن لم يستحقها مثلهم، وهي خالصة لهم يوم القيامة - أو حال كونها خالصة لهم يوم القيامة فقد قرأ نافع " خالصة " بالرفع على أنها خبر والباقون بالنصب على الحالية - وذلك أن المؤمنين هم الذين ينتهي إليهم العلوم النافعة في الحياة الصالحة والاوامر المحرضة لاصلاح الحياة بأخذ الزينة والارتزاق بالطيبات والقيام بواجبات المعاش ثم التفكر في آيات الآفاق والانفس المؤدي إلى إيجاد الصناعات والفنون المستخدمة في الرقي في المدنية والحضارة، ومعرفة قدرها والشكر عليها. كل ذلك من طريق الوحي والنبوة. وجه فساده: أنه إن أراد أن ما ذكره من الاصالة والتبعية هو مدلول الآية فمن الواضح أن الآية اجنبية عن الدلالة على ذلك، وإن أراد أن الآية تفيد أن النعم الدنيوية للمؤمنين ثم بينت مشاركة الكفار لهم فيها وأن ذلك بالاصالة والتبعية فقد عرفت أن الآية لا تدل إلا على إشتراك الطائفتين معا في النعم الدنيوية لا اختصاص المؤمنين بها في الدنيا فأين حديث الاصالة والتبعية ؟. بل ربما كان الظاهر من أمثال قوله: " ولو لا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون - إلى أن قال - وإن كل ذلك لما متاع الحيوة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين " الزخرف: 35، خلاف ذلك وأن زهرة الحياة الدنيا أجدر أن يخصوا به. وقد امتن الله تعالى في ذيل الآية على أهل العلم بتفصيل البيان إذ قال: " كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ". قوله تعالى: " قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن " إلى آخر الآية، قد تقدم البحث المستوفي عن مفردات الآية فيما مر، وأن الفواحش هي المعاصي البالغة قبحا وشناعة كالزنا واللواط ونحوهما، والاثم هو الذنب الذي يستعقب انحطاط الانسان في حياته وذلة وهوانا وسقوطا كشرب الخمر الذي يستعقب للانسان تهلكة في جاهه وماله وعرضه ونفسه ونحو ذلك، والبغي هو طلب الانسان ما ليس له بحق كأنواع الظلم والتعدي على الناس والاستيلاء غير المشروع عليهم، ووصفه بغير الحق من قبيل التوصيف باللازم نظير التقييد الذي في قوله: " ما لم ينزل به سلطانا ".

[ 86 ]

وكان إلقاء الخطاب بإباحة الزينة وطيبات الرزق داعيا لنفس السامع إلى أن يحصل على ما حرمه الله فألقى الله سبحانه في هذه الآية جماع القول في ذلك، ولا يشذ عما ذكره شئ من المحرمات الدينية، وهي تنقسم بوجه إلى قسمين: ما يرجع إلى الافعال وهي الثلاثة الاول، وما يرجع إلى الاقوال والاعتقادات وهو الاخير ان، والقسم الاول منه ما يرجع إلى الناس وهو البغي بغير الحق، ومنه غيره وهو إما ذو قبح وشناعة فالفاحشة، وإما غيره فالاثم، والقسم الثاني إما شرك بالله أو افتراء على الله سبحانه. قوله تعالى: " ولكل أمة أجل " إلى آخر الآية هي حقيقة مستخرجة من قوله تعالى في ذيل القصة: " قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون " نظير الاحكام الاخر المستخرجة منها المذكورة سابقا، ومفاده أن الامم والمجتمعات لها أعمار وآجال نظير ما للافراد من الاعمار والآجال. وربما استفيد من هذا التفريع والاستخراج أن قوله تعالى في ذيل القصة سابقا: " قال فيها تحيون " الخ، راجع إلى حياة كل فرد فرد وكل أمة أمة، وهي بعض عمر الانسانية العامة، وأن قوله قبله: " ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين " راجع إلى حياة النوع إلى حين وهو حين الانقراض أو البعث، وهذا هو عمر الانسانية العامة في الدنيا. قوله تعالى: " يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي " إلى آخر الآيتين. " إما " أصله إن الشرطية دخلت على ما، وفي شرطها النون الثقيلة، وكأن ذلك يفيد أن الشرط محقق لا محالة، والمراد بقص الآيات بيانها وتفصيلها لما فيه من معنى القطع والابانة عن مكمن الخفاء. والآية احدى الخطابات العامة المستخرجة من قصة الجنة المذكورة هيهنا وهي رابعها وآخرها يبين للناس التشريع الالهي العام للدين باتباع الرسالة وطريق الوحي، والاصل المستخرج عنه هو مثل قوله في سورة طه: " قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى " الخ، فبين أن اتيان الهدى منه إنما يكون بطريق الرسالة.

[ 87 ]

(بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله: " قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم " قال: نزلت في الخمس من قريش ومن كان يأخذ مأخذها من قبائل العرب: الانصار الاوس والخزرج وخزاعة وثقيف وبني عامر بن صعصعه وبطون كنانة بن بكر كانوا لا يأكلون اللحم، ولا يأتون البيوت إلا من أدبارها، ولا يضطربون وبرا ولا شعرا انما يضطربون الادم، ويلبسون صبيانهم الرهاط، وكانوا يطوفون عراة إلا قريشا، فإذا قدموا طرحوا ثيابهم التي قدموا فيها، وقالوا: هذه ثيابنا التي تطهرنا إلى ربنا فيها من الذنوب والخطايا ثم قالوا لقريش: من يعيرنا مئزرا ؟ فإن لم يجدوا طافوا عراة فإذا فرغوا من طوافهم أخذوا ثيابهم التي كانوا وضعوا. وفيه: أخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال: كان الناس يطوفون بالبيت عراة يقولون: لا نطوف في ثياب أذنبنا فيها فجاءت امرأة فألقت ثيابها وطافت ووضعت يدها على قبلها وقالت: اليوم يبدو بعضه أو كله * فما بدا منه فلا أحله فنزلت هذه الآية: خذو زينتكم عند كل مسجد - إلى قوله - والطيبات من الرزق. أقول: روي ما يقرب منه عن ابن عباس ومجاهد وعطاء لكنك قد عرفت أن الآيات المصدرة بقوله " يا بني آدم " أحكام وشرائع عامة لجميع بني آدم من غير أن يختص بامة دون أمة فهذه الآحاد من الاخبار لا تزيد على اتهد من المنقول عنهم لا حجية فيها، وأعدل الروايات في هذا المعنى الروايتان الآتيتان. في الدر المنثور: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة والزينة اللباس وهو ما يواري السوآت وما سوى ذلك من جيد البز والمتاع. وفيه: أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يحرمون أشياء أحلها الله من الثياب وغيرها وهو قول الله: " قل أ رأيتم ما

[ 88 ]

أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا " وهو هذا فأنزل الله: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا " يعني: شارك المسلمون الكفار في الطيبات في الحياة الدنيا فأكلوا من طيبات طعامها ولبسوا من جياد ثيابها، ونكحوا من صالح نسائها ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا وليس للمشركين فيها شئ. أقول: والروايتان - كما ترى - ظاهرتان في التطبيق دون سبب النزول، والمعول على ذلك. وفيه: أخرج أبو الشيخ عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد عمل خيرا أو شرا إلا كسي رداء عمله حتى يعرفوه، وتصديق ذلك في كتاب الله: " ولباس التقوى ذلك خير " الآية. وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام عن قوله: " يا بني آدم قد أنزلنا " الآية. لباس التقوى ثياب بيض. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن عثمان: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: " ورياشا " ولم يقل: وريشا. وفي تفسير القمي قال وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى " قال: فأما اللباس فاللباس التي تلبسون، وأما الرياش فالمتاع والمال، وأما لباس التقوى فالعفاف، إن العفيف لا تبدو له عورة وإن كان عاريا من اللباس، والفاجر بادي العورة وإن كان كاسيا من اللباس. أقول وما في الروايتين من معنى لباس التقوى من الاخذ ببعض المصاديق وقد تكرر نظير ذلك في الروايات. وفي تفسير القمي إيضا في قوله تعالى: " وإذا فعلوا فاحشة قالوا " الآية قال: قال الذين عبدوا الاصنام فرد الله عليهم فقال: " قل إن الله لا يأمر بالفحشاء " إلى آخر الآية.

[ 89 ]

وفي البصائر عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن محمد بن منصور قال: سألته عن قول الله تبارك وتعالى: " وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها " إلى آخر الآية فقال: أ رايت أحدا يزعم أن الله أمرنا بالزنا وشرب الخمور وشئ من المحارم ؟ فقلت: لا، فقال: فما هذه الفاحشة التي يدعون أن الله أمرنا بها ؟ فقلت: الله إعلم ورسوله، فقال: فإن هذه في أئمة الجور ادعوا أن الله أمر بالائتمام بقوم لم يأمر الله بهم فرد الله عليهم وأخبرنا أنهم قالوا عليه الكذب فسمى الله ذلك منهم فاحشة. أقول: ورواه في الكافي عن عده من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن أبي وهب عن محمد بن المنصور قال: سألته وساق الحديث، وروي ما في معناه في تفسير العياشي عن محمد بن منصور عن عبد صالح فعلم أن في السند أبا وهب وعنه يروي الحسين بن سعيد وأن الحديث مروي عن موسى بن جعفر عليه السلام. وكيف كان فالرواية لا تنطبق بحسب مضمونها على حين نزول الآية ولا ما ذكر فيه من الحجة ينطبق على موردها فإن أهل الجاهلية كانت عندهم أحكام كثيرة متعلقة بأمور من قبيل الفحشاء ينسبونه إلى الله سبحانه كالطواف بالبيت عاريا. لكن الحجة المذكورة فيه من حيث انطباق الآية على مصاديق بعد زمن النزول أقرب انطباقا على أئمة الجور والحكام الظلمة فإن المسلمين مرت بهم اعصار يتولى فيها أمورهم أمثال الدعي زياد بن أبيه وابنه عبيد الله والحجاج بن يوسف وعتاة آخرون، وحول عروشهم وكراسيهم عدة من العلماء يفتون بنفوذ إحكامهم ووجوب طاعتهم بأمثال قوله تعالى " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم " فالرواية ناظرة إلى انطباق الآية على مصاديقها بعد عصر النزول. وفي تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: من زعم أن الله يأمر بالفحشاء فقد كذب على الله، ومن زعم أن الخير والشر إليه فقد كذب على الله. وفيه: عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام: من زعم أن الله أمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله، ومن زعم أن الخير والشر بغير مشية منه فقد أخرج الله من سلطانه، ومن زعم أن المعاصي عملت بغير قوة الله فقد كذب على الله، ومن

[ 90 ]

كذب على الله أدخله الله النار. أقول: وقوله عليه السلام: ومن زعم أن الخير والشر بغير مشية منه الخ، نار إلى قول المفوضة باستقلال العبد في أفعال الخير والشر كما أن قوله في الرواية السابقة: ومن زعم أن الخير والشر إليه الخ، ناظر إلى قول المجبرة: إن الخير والشر والطاعة والمعصية إنما تستند إلى إرادة الله من غير أن يكون لارادة العبد ومشيته دخل في صدور الفعل وإن أمكن بوجه إرجاع الضمير إلى العبد ليكون إشارة إلى قول المفوضة. وفي التهذيب بإسناده عن ابن مسكان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله عزوجل: " وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد " قال: هذه القبلة. أقول: وهو من قبيل الجري والانطباق كما تبين من البيان السابق، وروى مثله العياشي في تفسيره عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام. وفي التهذيب بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام، وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام في قوله: " وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد " قال: مساجد محدثة فامروا أ يقيموا وجوهم شطر المسجد الحرام. أقول: الظاهر أن مراده عليه السلام أن معنى إقامة الوجوه في الآية التوجه إلى الله باستقبال القبلة عند كل مسجد يصلي فيه ثم القبلة تعينت بمثل قوله: " فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره " البقرة: 144 وهي الكعبة إذ قد تقدم في الكلام على آيات القبلة أن الكعبة إنما جعلت قبلة في المدينة بعد الهجرة، والآية التي نحن فيها وهي من سورة الاعراف مكية ولعل أصل الجعل في هذه السورة ثم تفصيل التشريع أو التفسير في سورة البقرة المدنية إن ساعد سياق آيات القبلة على ذلك كما أن الاحكام الاخر المفصلة من الواجبات والمحرمات تشتمل السور المكية على إجمالها وتشرع تفاصيلها أو تفسر وتبين في السور المدنية. فقوله عليه السلام: مساجد محدثة الخ، معناه أن المراد بكل مسجد في الآية المساجد يحدثها المسلمون في أكناف الارض، والمراد بإقامة الوجوه تولية الوجوه التي في آية الكعبة وهي استقبال الشطر من المسجد الحرام. وفي تفسير العياشي عن الحسين بن مهران عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله:

[ 91 ]

" وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد " يعني الائمة. أقول: الظاهر أن المراد به أئمة الجماعات، وسيجئ له معنى آخر. وفيه: عن الحسين بن مهران عنه عليه السلام في قول الله: " خذوا زينتكم عند كل مسجد " قال يعني الائمة. أقول: وهو كالحديث السابق فإن تقديم الامام زينة الصلاة ومن المستحب شرعا تقديم خيار القوم ووجوههم للامامة ويمكن أن يكون المراد بالائمة أئمة الدين على ما سيجئ من رواية العلاء بن سيابة في آخر البحث. وفي الدر المنثور أخرج العقيلي وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله: " خذوا زينتكم عند كل مسجد " قال: صلوا في نعالكم. أقول: وروي هذا المعنى بعدة طرق أخرى عن علي وأبي هريرة وابن مسعود وشداد بن الاوس وغيرهم عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه: أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: وجهني علي بن أبي طالب إلى ابن الكواء وأصحابه وعلي قميص رقيق وحلة فقالوا لي: أنت ابن عباس وتلبس مثل هذه الثياب ؟ فقلت: أول ما أخاصمكم به قال الله: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده وخذوا زينتكم عند كل مسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس في العيدين بردي حبرة. وفي الكافي بإسناده عن يحيى بن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه السلام قال: بعث أمير المؤمنين عليه السلام عبد الله بن عباس إلى ابن الكواء وأصحابه وعليه قميص رقيق وحلة فلما نظروا إليه قالوا: يا ابن عباس أنت خيرنا في أنفسنا وأنت تلبس هذا اللباس ؟ فقال: وهذا أول ما أخاصمكم فيه قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وقال الله عزوجل: خذوا زينتكم عند كل مسجد. وفي الكافي بإسناده عن فضالة بن أيوب في قول الله عزوجل: " خذوا زينتكم عند كل مسجد " قال: في العيد والجمعة. أقول: ورواه في التهذيب عن فضالة عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام وروى ما في معناه العياشي في تفسيره عنه، وفي المجمع عن أبي جعفر عليه السلام.

[ 92 ]

وفي الفقيه سئل أبو الحسن الرضا عليه السلام عن قول الله عزوجل: " خذوا زينتكم عند كل مسجد " قال من ذلك التمشط عند كل صلاة. أقول: وفي معناها غيرها من الروايات. وفي تفسير العياشي عن خيثمة بن أبي خيثمة قال: كان الحسن بن على عليه السلام إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه. فقيل له: يا ابن رسول الله لم تلبس أجود ثيابك ؟ فقال: إن الله جميل يحب الجمال فأتجمل لربي وهو يقول: " خذوا زينتكم عند كل مسجد " فأحب أن ألبس أجود ثيابي. أقول: والحديث مروي من طرق أهل السنة أيضا. وفي الكافي بإسناده عن يونس بن إبراهيم قال: دخلت يوما على أبي عبد الله عليه السلام وعلي جبة خز وطيلسان خز فنظر إلي فقلت: جعلت فداك علي جبة خز وطيلسان خز هذا ما تقول فيه ؟ فقال: لا بأس بالخز قلت: وسداه أبريسم فقال: وما بأس يا إبراهيم فقد أصيب الحسين عليه السلام وعليه جبة خز ثم ذكر عليه السلام قصة عبد الله بن عباس مع الخوارج واحتجاجه عليهم بالآيتين. وفيه: بإسناده عن أحمد بن أبي عبد الله عن محمد بن علي رفعه قال: مر سفيان الثوري في المسجد الحرام فرأى أبا عبد الله عليه السلام وعليه أثواب كثيرة قيمة حسان فقال: والله لآتينه ولاوبخنه فدنا منه فقال: يا ابن رسول الله والله ما لبس رسول الله مثل هذا اللباس ولا علي ولا أحد من آبائك ! فقال أبو عبد الله عليه السلام: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في زمان قتر مقتر، وكان يأخذ لقتره وإقتاره، وإن الدنيا بعد ذلك أرخت عزاليها (1) وأحق أهلها بها أبرارها ثم تلا: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق " فنحن أحق من أخذ ما أعطاه الله. يا ثوري ما ترى علي من ثوب إنما لبسته للناس ثم اجتذب بيد سفيان فجرها إليه ثم رفع الثوب الاعلى وأخرج ثوبا تحت ذلك على جلده غليظا، ثم قال: هذا لبسته


(1) وفي الحديث فأرسلت السماء عزاليها أي: أفراحها، والعزالي بفتح اللام وكسرها: جمع العزلاء مثل الحمراء، وهو فم المزادة: فقوله أرسلت السماء عزاليها يريد شدة وقع المطر على التشبيه بنزوله من أفواه المزادة. ومثله: " ان الدنيا بعد ذلك أرخت عزاليها " مجمع البحرين.

[ 93 ]

لنفسي وما رأيته للناس ثم جذب ثوبا على سفيان أعلاه غليظا خشنا وداخل ذلك الثوب لين فقال لبست هذا الاعلى للناس، ولبست هذا لنفسك تسترها. وفيه: بإسناده عن ابن القداح قال: كان أبو عبد الله عليه السلام متكئا علي فلقيه عباد بن كثير وعليه ثياب مروية حسان فقال: يا أبا عبد الله إنك من أهل بيت النبوة وكان أبوك فما لهذه الثياب المروية عليك فلو لبست دون هذه الثياب. فقال له أبو عبد الله عليه السلام: ويلك يا عباد من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ؟ إن الله عزوجل إذا أنعم على عبده نعمة أحب أن يراها عليه، وليس به بأس. وفي الدر المنثور أخرج الترمذي وحسنه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده. وفي قرب الاسناد للحميري عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا عليه السلام في حديث طويل: قال عليه السلام لي: ما تقول في اللباس الخشن ؟ فقلت: بلغني أن الحسن كان يلبس، وأن جعفر بن محمد كان يأخذ الثوب الجديد فيأمر به فيغمس في الماء فقال لي البس وجمل فإن علي بن الحسين كان يلبس الجبة الخز بخمس مائة درهم، والمطرف الخز بخمسين دينارا فيشتو فيه فإذا خرج الشتاء باعه وتصدق بثمنه، وتلا هذه الآية: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ". أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة جدا، ومن أجمعها معنى الرواية الآتية في تفسير العياشي عن أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: أ ترى الله أعطى من أعطى من كرامته عليه أو منع من منع من هوان به عليه ؟ لا ولكن المال مال الله يضعه عند الرجل ودائع، وجوز لهم أن يأكلوا قصدا، ويشربوا قصدا، ويلبسوا قصدا، وينكحوا قصدا، ويركبوا قصدا، ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين ويلموا به شعثهم فمن فعل ذلك كان ما يأكل حلالا ويشرب حلالا ويركب حلالا، وينكح حلالا، ومن عدا ذلك كان عليه حراما، ثم قال: ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين. أ ترى الله ائتمن رجلا على مال خول له أن يشتري فرسا بعشرة آلاف درهم ويجزيه فرسا بعشرين درهما، ويشتري جارية بألف دينار ويجزيه جارية بعشرين دينارا وقال: ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين.

[ 94 ]

وفي الكافي بإسناده عن إسحاق بن عبد العزيز عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام قال: نكون بطريق مكة ونريد الاحرام فنطلي ولا يكون معنا نخالة فنتدلك بها من النورة فنتدلك بالدقيق وقد دخلني من ذلك ما الله أعلم به ؟ فقال: مخافة الاسراف ؟ قلت: نعم، فقال: ليس فيما أصلح البدن إسراف إني ربما أمرت بالنقي فيلت بالزيت فأتدلك به، إنما الاسراف فيما أفسد المال وأضر بالبدن، قلت: وما الاقتار ؟ قال: أكل الخبز والملح وأنت تقدر على غيره. قلت: فما القصد ؟ قال: الخبز واللحم واللبن والخل والسمن مرة هذا ومرة هذا. وفي الكافي بإسناده عن علي بن يقطين عن أبي الحسن عليه السلام قال: قال: قول الله عزوجل: " قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق " فأما قوله: ما ظهر منها يعني الزنا المعلن ونصب الرايات التي كانت ترفعها الفواحش في الجاهلية للفواحش، وأما قوله عزوجل: وما بطن يعني ما نكح من أزواج الآباء لان الناس كانوا قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان للرجل زوجة ومات عنها تزوجها ابنه من بعده إذا لم تكن أمه فحرم الله عزوجل ذلك، وأما الاثم فإنها الخمر بعينها. أقول: والرواية ملخصة من كلامه عليه السلام مع المهدي وقد رواها في صورة المحاجة في الكافي مسندة وفي تفسير العياشي مرسلة وأوردناها في روايات آية الخمر من سورة المائدة. وفي تفسير العياشي عن محمد بن منصور قال: سألت عبدا صالحا عليه السلام عن قول الله: " إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن " قال: إن للقرآن ظهرا وبطنا فأما ما حرم به في الكتاب هو في الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الجور، وجميع ما أحل في الكتاب هو في الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الحق. أقول: ورواه في الكافي عن محمد بن منصور مسندا، وفيه: فجميع ما حرم الله في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الجور، وجميع ما أحل الله في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الحق. أقول: انطباق المعاصي والمحرمات على أولئك والمحللات على هؤلاء لكون كل واحد من الطائفتين سببا للقرب من الله أو البعد عنه، أو لكون اتباع كل سببا لما

[ 95 ]

يناسبه من الاعمال. ومن هذا الباب ما في التهذيب بإسناده عن العلاء بن سيابة عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: " خذوا زينتكم عند كل مسجد " قال: الغسل عند لقاء كل إمام، وكذا ما تقدم من روايتي الحسين بن مهران. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وابن مردويه عن المغيرة بن شعبة قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أ تعجبون من غيرة سعد فو الله لانا أغير من سعد والله أغير مني، ومن أجله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا شخص أغير من الله. وفي تفسير العياشي عن علي بن أبي حمزة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما من أحد أغير من الله تبارك وتعالى، ومن أغير ممن حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ؟. وفيه عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: " إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " قال: هو الذي يسمى لملك الموت. أقول: وقد تقدمت روايات في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: " هو الذي قضى أجلا وأجل مسمى عنده " الانعام: 2. (بحث روائي مختلط بغيره) في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة " قال: خلقهم حين خلقهم مؤمنا وكافرا وشقيا وسعيدا، وكذلك يعودون يوم القيامة مهتد وضال. قال علي بن إبراهيم: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه. أقول: الرواية وإن كانت عن أبي الجارود وهو مطعون غير أن القوم قبلوا ما رواه عن أبي جعفر عليه السلام في حال استقامته قبل انحرافه عنه، على أن الآية قد فسرت

[ 96 ]

بمثل ما في هذه الرواية في غيرها كرواية إبراهيم الليثي عن أبي جعفر عليه السلام وغيره، وقد وقع هذا المعنى في روايات أخرى واردة في تفسير آيات القدر، وهي روايات جمة مختلفة يشترك جميعها في الدلالة على أن آخر الخلقة يشاكل أولها، وعود الانسان يناظر بدءه، وأن المهتدي في آخر أمره مهتد من أول، وأن الضال كذلك ضال من أول والشقي شقي في بدء خلقته والسعيد سعيد فيه، والروايات على اختلاف بياناتها كالآيات ليست في مقام إثبات السعادة والشقاوة الذاتيتين بمعنى ما يقتضيه ذات الانسان ويلزم ماهيته كالزوجية للاربعة فإن ذلك مما لا ينبغي توهمه إذ لو رجع إلى مجرد التصوير العقلي من غير مطابقة للواقع الخارجي لم يستلزم أثرا حقيقيا لتأخر الوجود عن ماهيات الاشياء وعروضه لها في الذهن والخارج على خلافه، ولو رجع إلى اقتضاء ذاتي حقيقي تملك به الماهية الانسانية سعادتها أو شقاوتها بحيث لا يبقى لله سبحانه في خلقه إلا أن يظهر منها ما كان دفينا في ذاته كامنا في باطنها كان في ذلك إبطال لاطلاق ملك الله سبحانه وتحديد لسلطانه، والكتاب والسنة والعقل متعاضدة على نفيه. على أن ذلك يوجب اختلال نظام العقل في جميع ما يبني عليه العقلاء في أمورهم واتفاقهم على توقع التأثير في باب التعليم والتربية، وتسالمهم على وجود ما يستتبع المدح والذم أو يتصف بالحسن والقبح يدفعه. وكذا يوجب لغوية تشريع الشرائع وإنزال الكتب وإرسال الرسل، ولا معنى لاتمام الحجة في الذاتيات بأي معنى صورناها بعد ما كانت مستحيلة الانفكاك عن الذوات. والكتاب الكريم يسلم نظام العقل ويصدق بناء الانسان بنيان أعماله في الحياة على الاختيار، ويبين فيما يبين أن الله سبحانه خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم أنبته نباتا حسنا حتى أنعم عليه بالبلوغ والعقل، يفعل باختياره ويميز بين الحسن والقبيح، والخير والشر، والنفع والضرر والطاعة والمعصية، والثواب والعقاب بعقله، ثم أنعم عليه بتكاليف دينية فإن اتبع عقله وأطاع ربه فيما يأمره وينهاه كان سعيدا وجوزي أحسن الجزاء، وإن خالف عقله واتبع هواه وعصى ربه كان شقيا وذاق وبال أمره، والدار دار امتحان وابتلاء، والعمل اليوم والجزاء غدا.

[ 97 ]

وأساس هذا البيان كما ترى - على قضيتين اثنتين: إحداهما: أن بين الفعل الاختياري وغيره فرقا، وهي قضية عقلية ضرورية، والثانية: أن الافعال الاختيارية تتصف بحسن وقبح وتستتبع مدحا وذما وثوابا وعقابا، وهي قضية عقلائية لا يسع لعاقل أن ينكرها وهو واقع تحت النظام الاجتماعي الحاكم عليه مدى حياته. وبالجملة لا مجال للقول بالسعادة والشقاوة الذاتيتين بالمعنى المتقدم أبدا فما ورد من الآيات والروايات التي تعطف آخر الامر على أوله إنما تسند الامر إلى الخلق والايجاد دون ذات الانسان بما أنه إنسان، وقد عرفت أن ارتباط السعادة والشقاء بأفعال الانسان الاختيارية على ما تقتضيه القضيتان المتقدمتان مما لا يشوبه شك ولا يداخله ريب فما معنى هذه الآيات والروايات ؟. والروايات الواردة في مطابقة العود إلى البدء على كثرتها البالغة تختلف في مضامينها وأنحاء بيانها طبقا للآيات: فمنها ما دل على ذلك إجمالا، وأن الله خلقهم حين خلقهم صنفين: شقي وسعيد، وكافر ومؤمن كرواية أبي الجارود المتقدمة، وما مر في ذيل قوله تعالى: " هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء " آل عمران: 6، من رواية الكافي في خلقة الجنين. وهذا القسم من الروايات يحاذي قوله تعالى: " هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن " التغابن: 2، وقوله: " هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الارض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى " النجم: 32، وقوله تعالى: " كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة " الآية. ولا إشكال كثير فيها فإن الآيات كما يشهد به سياقها ويدل عليه ذيل الاخيرة منها إنما تدل على قضاء إجمالي بكون النوع الانساني مشتملا على فريقين، وإنما يفصل الاجمال، ويتعين كل من الطائفتين، وتتميز من غيرها في مرحلة البقاء بأفعال اختيارية تستتبع سعادة أو شقاوة، وتستدعي الاهتداء بالتوفيق أو أن يحق له الضلالة بولاية الشياطين، وبعبارة أخرى الذي في بدء الخلقة قضاء مشروط ثم يخرج عن الاشتراط إلى الاطلاق بالاعمال الاختيارية بعد ذلك.

[ 98 ]

ومنها: ما يدل تفصيلا أن الله سبحانه خلق الناس مختلفين فمنهم من خلقه من طين الجنة وإليه مرجعه، ومنهم من خلقه من طينة النار وإليها مآله ففي البصائر عن علي بن الحسين عليه السلام أنه قال: أخذ الله ميثاق شيعتنا معنا على ولا يتنا لا يزيدون ولا ينقصون إن الله خلقنا من طينة عليين وخلق شيعتنا من طينة أسفل من ذلك، وخلق عدونا من طينة سجين وخلق أوليائهم من طينة أسفل من ذلك. أقول، وفي هذا المعنى روايات كثيرة جدا. وفي المحاسن عن عبد الله بن كيسان قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك أنا مولاك عبد الله بن كيسان فقال: أما النسب فأعرفه، وأما أنت فلست أعرفك، قال: قلت: ولدت بالجبل ونشأت بأرض فارس وأنا أخالط الناس في التجارات وغير ذلك فأرى الرجل حسن السمت وحسن الخلق والامانة ثم أفتشه فافتشه عن عداوتكم، وأخالط الرجل وأرى فيه سوء الخلق وقلة أمانة وزعارة ثم أفتشه فافتشه عن ولايتكم فكيف يكون ذلك. فقال: أ ما علمت يا ابن كيسان أن الله تبارك وتعالى أخذ طينة من الجنة وطينة من النار فخلطهما جميعا ثم نزع هذه من هذه فما رأيت من أولئك من الامانة وحسن السمت وحسن الخلق فمما مستهم من طينة الجنة، وهم يعودون إلى ما خلقوا منه، وما رأيت من هؤلاء من قلة الامانة وسوء الخلق والزعارة، فمما مستهم من طينة النار، وهم يعودون إلى ما خلقوا منه. أقول: والروايات في هذا المعنى أيضا كثيرة جدا. وفي العلل عن حبة العرني عن علي عليه السلام قال: إن الله خلق آدم من أديم الارض فمنه السباخ، ومنه الملح، ومنه الطيب فكذلك في ذريته الصالح والطالح. أقول: وحديث الخلق من طينة عليين وسجين إشارة إلى قوله تعالى: " كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم ويل يومئذ للمكذبين - إلى أن قال - كلا إن كتاب الابرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون " المطففين: 21، أما الآيات فسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى في محلها، وأما الروايات فالرواية الاخيرة لا تخلو عن جهة بيان بمدلولها لمدلول ما تقدم عليها.

[ 99 ]

وذلك أنها تدل على أن المادة الارضية على اختلافها في أوصافها لها ارتباط بأحوال الانسان وأوصافه من حيث الصلاح والطلاح على حسب ما نشاهده في الخارج أن اختلاف المواد لها تأثير ما قطعي في اختلاف الصور الطارئة عليها والآثار البارزة منها وإن كان ذلك على الاقتضاء دون العلية التامة. فقوله عليه السلام: إن الانسان مخلوق من الطين ثم قوله: إن أصله من الجنة أو من النار يفيد أن من الارض ما هو من الجنة ومنها ما هي من النار وإليهما يؤول فإنها تصير إنسانا ثم يسلك إلى الجنة أو إلى النار، وإنما يسلك إلى كل منهما ما يناسبها في مادة الخلقة فهذا الموجود المادي الارضي هو الذي يصفو فيدخل الجنة ويكون طينه طين الجنة، أو يزيد في التكدر والانحطاط فيدخل النار فيكون وقودا لها. ويشعر به بعض الاشعار قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة: " الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الارض نتبوأ من الجنة حيث نشاء " الآية الزمر: 74، فإن ظاهر الآية أن المراد من الارض هو هذه الارض يسكنها الانسان ويموت فيها ويبعث منها، وهي المرادة من الجنة، وإليه يشير أيضا قوله تعالى: " يوم تبدل الارض غير الارض والسماوات " إبراهيم: 48. فكان المراد بطينة الجنة والنار في الروايات الطينة التي ستكون من أجزاء الجنة أو النار، وخاصة بالنظر إلى بعض تعبيراته كقوله عليه السلام: من طينة عليين ومن طينة سجين ومن طينة الجنة ومن طينة النار. وعلى هذا فالمراد أن الانسان مأخوذ بحسب تركيب أجزاء بدنه من المادة الارضية أما مادة طيبة أو مادة خبيثة، وهي بحسب وصفها البارز فيها مؤثرة في الانسان في إدراكاته وعواطفه الباطنية وقواه ثم إذا شرعت قواه وعواطفه المناسبة لمادته في العمل تأيدت أعمال المادة بأعمال العواطف والقوى وبالعكس ولم يزل على ذلك يشتد أمره حتى يتم إنسانا سعيدا أو شقيا على حسب ما نظمه الله من عمل الاسباب وأراده ولله فيه البداء بتسليط سبب آخر أقوى من الاسباب الموجودة الفعالة يبدل مجرى سير الانسان ويمنع من تأثير الاسباب المخالفة له. ترى الانسان المتكون من نطفة صالحة غير مؤفة مرباة في رحم سالمة وممدة

[ 100 ]

بأغذية صالحة في هواء سالم ومحيط سالم أشد استعدادا للسلوك في المسلك الانساني، وأوقد ذهنا وألطف إدراكا، وأقوى للعمل فالامزجة السالمة بالوراثة ثم بامداد النطفة بأسبابها وشرائطها كالمناطق المعتدلة أقرب إلى قبول الكمالات الانسانية، والمناطق الرديئة ماء وهواء والصعبة الخشنة في أسبابها الحيوية كالمناطق الاستوائية والقطبية أقرب إلى الخشونة والقسوة والبلادة من غيرها. ثم الامزجة السالمة من موانع لطف الادراك تنشأ ذوات أرواح لطيفة لها عقول جيدة وعواطف رقيقة تميل بالانسان إلى ما فيه صلاح إنسانيته من العقائد والارادات والاعمال، وتقربه من المواد الحافظة للبقاء إلى ما يزيد في تأييد الروح في عمله ولا يزال يتعاكس التأثير حتى يتم الاثر، ونظير الكلام جار في جانب الشقاء قال تعالى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينم سبلنا وإن الله لمع المحسنين " العنكبوت: 69، وقال: " ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوآى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون " الروم: 10 والآيات في هذا المعنى كثيرة. ومع ما نعلم من تأثير المواد الارضية في نحو حياة الانسان السعيدة و الشقية لسنا نحصي من الاسباب الدخيلة في هذا الباب إلا بعض الاسباب العامة البينة التي ليس لها قدر تجاه ما نجهله منها كما سمعت من حديث سلامة مزاج الابوين والغذاء الممد للبقاء والمنطقة من الارض التي يعيش فيها الانسان وغيرها، فهناك أسباب لا تحصى كثرة خفية عنا، ومن شواهد ذلك نوادر الافراد الذين ينشأون في غير ما نحسبه منشأ لهم والله يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي. وبالجملة سعادة الانسان في حياته أعني سعادته في علمه وعمله لها ارتباط تام بطيب مواده الاصلية فهي التي تقبل ما يناسبها من الروح، وهي التي تهتدي إلى الجنة، وكذلك شقاء الانسان في علمه بترك العقل والعكوف على الاوهام والخرافات التي تزينها له عواطف الشهوة والغضب، وفي عمله بالتمتع من لذائذ المادة، والاكتناه والاسترسال في الشهوات الحيوانية والاستكبار عن كل حق لا يوافق هواه. فهذان القبيلان من الاسباب المادية يسوقان الانسان إلى الحق والباطل والسعادة والشقاء والجنة والنار غير أنهما مقتضيان من غير علية تامة، ولله سبحانه المشية فيهما

[ 101 ]

والبداء بإظهار سبب آخر يقهر ما يخالفه من الاسباب، وقد تقدم ما يدل عليه في حديث خلقة الجنين في أوائل سورة آل عمران. وفي معناه أحاديث أخر تثبت لله المشية وجواز المحو والاثبات في الامور. ويمكن أن توجه هذه الاخبار بوجه آخر أدق يحتاج تعقله إلى صفاء في الذهن وقدم صدق في المعارف الحقيقية، وهو أن السعادة والشقاوة في الانسان إنما تتحققان بفعلية الادراك واستقراره، والادراك لتجرده عن المادة ليس بمقيد بقيودها ولا محكومة بأحكامها ومنها الزمان الذي هو مقدار حركتها، ونحن وإن كنا نقدر بالنظر إلى كون المادة تنتهي بحركتها إلى هذه الفعلية أن السعادة بعد زمان الحركة لكنها بحسب حقيقة نفسها غير مقيدة بالزمان فما بعد الحركة منها هو بعينه قبل الحركة وذلك نظير ما ننسب أمورا حادثة إلى فعل الله سبحانه فنقيد فعله بالزمان نقول: خلق الله زيدا في زمان كذا، وأهلك قوم نوح، ونجى قوم يونس، وبعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم في عصر كذا فنقيد فعله بالزمان وإنما هو كذلك من حيث نظرنا إلى نفس الحادثة وكونها مأخوذة في نفسها من دون الزمان والحركة التي انتهت إلى وجودها وأما لو أخذت مع زمانها وسائر قيود ذاتها على ما عليه الامر في نفسه فالفعل الالهي غير متقيد بالزمان لانه موجد مجموع الحادث وزمانه وسائر ما يتقيد به، وإن كنا - بالنظر إلى اتحاد ما لفعله الحادث المتقيد بالزمان - نقيد فعله بالزمان كما نقول: اليوم علمت أن كذا كذا، ورأيته الساعة فنقيد العلم باليوم والساعة وليس بمقيد بهما لمكان تجرده، وإنما المتقيد هو العمل الدماغي أو العصبي المادي الذي يصاحب العلم مصاحبة الاستعداد للمستعد له. فالانسان لما كان انتهاؤه إلى تجرد علمي بالسعادة أو الشقاء - وإن كان مقارنا لجنة جسمانية أو نار كذلك على ما هو ظاهر الكتاب والسنة - فما له من المآل في نفسه لا زمان له وصح أن يؤخذ قبل كما يؤخذ بعد، وأن يسمى بدء كما يسمى عودا فافهم ذلك. ومنها: ما يدل على انتهاء خلقة الناس إلى الماء العذب الفرات والملح الاجاج كما في العلل عن الصادق عليه السلام قال: إن الله عزوجل خلق ماء عذبا فخلق منه أهل طاعته، وجعل ماء مرا فخلق منه إهل معصيته ثم أمرهما فاختلطا فلو لا ذلك ما ولد

[ 102 ]

المؤمن إلا مؤمنا ولا الكافر إلا كافرا. وفيه عن ابن سنان عن الصادق عليه السلام قال: سألته عن أول ما خلق الله فقال: إن أول ما خلق الله عزوجل ما خلق منه كل شئ. قلت: جعلت فداك ما هو ؟ قال: الماء. قال: إن الله تبارك وتعالى خلق الماء بحرين أحدهما عذب، والآخر ملح، فلما خلقهما نظر إلى العذب فقال يا بحر فقال: لبيك وسعديك. قال: فيك بركتي ورحمتي ومنك أخلق أهل طاعتي وجنتي، ثم نظر إلى الآخر فقال: يا بحر، فلم يجب فأعاد ثلاث مرات: يا بحر، فلم يجب فقال: عليك لعنتي ومنك أخلق أهل معصيتي ومن أسكنته ناري ثم أمرهما أن يمتزجا فامتزجا. قال: فمن ثم يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن. وفي تفسير العياشي عن عثمان بن عيسى عن بعض أصحابه عنه عليه السلام قال: إن الله قال لماء: كن عذبا فراتا أخلق منك جنتي وأهل طاعتي، وقال لماء: كن ملحا أجاجا أخلق منك ناري وأهل معصيتي فأجرى الماءين على الطين، الحديث وهو طويل. أقول: وفي معنى كل من هذه الاحاديث الثلاثة أحاديث كثيرة أخرى مروية عن علي والباقر والصادق وغيرهم عليهم السلام، وإنما أوردنا ما أوردناه بعنوان الانموذج. وهذه الروايات تنتهي إلى مثل قوله تعالى: " والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير، وما يستوي البحر ان هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون " الفاطر: 12، وأنت ترى موقع الآية الثانية من الاولى، وأنها بمنزلة التمثيل لبيان مضمون الآية وشرح اختلاف الناس في أنفسهم في عين اتحادهم في الانسانية واشتراكهم في بعض المنافع والآثار. وقد قال تعالى: " وجعلنا من الماء كل شئ حي " الانبياء: 30. وقوله تعالى: " وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان

[ 103 ]

ربك قديرا " الفرقان: 54، وسيجئ بيان الآيات في محلها. وأما الروايات فإنها - كما ترى - في معناها تعود قسمين: احدهما: ما يذكر أن الماءين العذب الفرات والملح الاجاج أجريا على الطين الذي خلق منه الانسان فاختلف الطين باختلاف الماء، وهذا القسم يرجع إلى الصنف المتقدم من الاخبار الدالة على أن اختلاف الخلقة يعود إلى اختلاف الطينة المأخوذة لها فالكلام فيه كالكلام في أخبار الطينة وقد قدمناه. وثانيهما: ما دل على أن الخلقة أعم من خلقة الانسان وغيره، حتى الجنة والنار تنتهى إلى الماء ثم اختلاف الماء منشأ لاختلاف الناس في السعادة والشقاوة أما اختلاف الخلقة باختلاف العذوبة والملوحة فيعود أيضا إلى القسم الاول ويجري فيه الكلام السابق فإن القسم الاول من هذه الاخبار يعود كالمفسر لهذا القسم الثاني ثم هما معا كالمفسر لاخبار الطينة السابقة. وأما انتهاء الخلقة إلى أصل أولي هو الماء فسيجئ البحث فيه فيما يناسبه من المحل إن شاء الله العزيز. ومنها: ما دل على أن الاختلاف يعود إلى اختلاف الخلقة من النور والظلمة كما في العلل عن الصادق عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى خلقنا من نور مبتدع من نور سنخ ذلك النور في طينة من أعلى عليين، وخلق قلوب شيعتنا مما خلق منه أبداننا، وخلق أبدانهم من طينة دون ذلك فقلوبهم تهوي إلينا لانها خلقت مما خلقنا منه، ثم قرأ " كلا إن كتاب الابرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون ". وإن الله تبارك وتعالى خلق قلوب أعدائنا من طينة من سجين، وخلق أبدانهم من دون ذلك، وخلق قلوب شيعتهم مما خلق منه أبدانهم فقلوبهم تهوي إليهم، ثم قرأ " إن كتاب الفجار لفي سجين وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم ويل يومئذ للمكذبين ". أقول: وفي معناه روايات أخر، وهو في الحقيقة راجع إلى ما تقدم من الروايات الدالة على انتهاء الخلقة إلى طينة عليين وطينة سجين، وإنما يصير بعد خلقه من هذه الطينة نورا وظلمة، ولعل ذلك لكون طينة السعادة مما يظهر به الحق وتنجلي به المعرفة

[ 104 ]

بخلاف طينة الشقاوة الملازمة للجعل الذي هو ظلمة وعمى فطينة السعادة نورا، وكثيرا ما يسمى القرآن العلم والهدى نورا كما يسمى الايمان حياة قال تعالى: " أ ومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " الانعام: 122. وقال: " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات " البقرة: 257، وفي كون النور أصلا لخلقة طائفة من الموجودات كالانبياء والملائكة واللوح والقلم والعرش والكرسي والجنة أخبار كثيرة أخرى سيأتي بعضها فيما سيأتي إن شاء الله. ومنها: ما دل على لحوق الاشقياء بالسعداء يوم القيامة وبالعكس كما في العلل بإسناده عن إبراهيم الليثي عن الباقر عليه السلام في حديث طويل: ثم قال: أخبرني يا إبراهيم عن الشمس إذا طلعت وبدا شعاعها في البلدان أ هو بائن من القرص ؟ قلت: في حال طلوعه بائن. قال: أ ليس إذا غابت الشمس اتصل ذلك الشعاع بالقرص حتى يعود إليه ؟ قلت: نعم. قال: كذلك يعود كل شئ إلى سنخه وجوهره وأصله فإذا كان يوم القيامة نزع الله عزوجل سنخ الناصب وطينته مع أثقاله وأوزاره من المؤمن فيلحقها كلها بالناصب، وينزع سنخ المؤمن وطينته مع حسناته وأبواب بره واجتهاده من الناصب فيلحقها كلها بالمؤمن. أ فترى هينها ظلما وعدوانا ؟ قلت: لا يا ابن رسول الله. قال: هذا والله القضاء الفاصل والحكم القاطع، والعدل البين، لا يسأل عما يفعل و هم يسألون هذا يا إبراهيم الحق من ربك فلا تكن من الممترين، هذا من حكم الملكوت. قلت: يا ابن رسول الله وما حكم الملكوت ؟ قال: حكم الله وحكم أنبيائه وقصة الخضر وموسى حين استصحبه فقال: إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا افهم يا إبراهيم واعقل، أنكر موسى على الخضر واستفظع أفعاله حتى قال له الخضر: يا موسى ما فعلته عن أمري، وإنما فعلته عن أمر الله عزوجل الحديث. أقول: الرواية تبني البيان على قوله تعالى: " ليميز الله الخبيث من الطيب، ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم " الانفال: 37، وآيات

[ 105 ]

أخر ذكرها عليه السلام في متن الرواية، والآية - كما ترى - تذكر أن الله سبحانه سيفصل يوم القيامة الطيب من الخبيث ويميز بينها تمييزا تاما لا يبقى في قسم الطيب من خلط الخباثة شئ، ولا في سنخ الخبيث من خلط الطيب شئ ثم يجمع كل خبيث برد بعضه إلى بعض وإلحاق بعضه ببعض، ويرجع الآثار والاعمال حينئذ إلى موضوعاتها، وترد الفروع إلى أصولها لا محالة، ولازم ذلك اجتماع الحسنات جميعا في جانب ورجوعها إلى سعادة الذات الذي لا تمازجه شقاوة أصلا، واجتماع السيئات جميعا في جانب ورجوعها إلى منشئها الخالص في منشئيته، وهو الذي تبينه الرواية. قوله عليه السلام: أخبرني يا إبراهيم عن الشمس الخ تمثيل بظاهر الحس على كون الاثر مظهرا لمؤثره مسانخا له قائما به ملازما لوجوده، وقوله عليه السلام: هذا والله القضاء الفاصل الخ، هذا مع كونه بحسب بادئ النظر خلاف العدل مبني على ما تحكم به الضرورة من وجوب المناسبة والسنخية بين الفاعل وفعله والمؤثر وأثره، ولازمه الحكم بأن كل فعل من الافعال إنما يملكه من الفواعل ما يناسبه في ذاته لا ما لا يناسبه، وإن كان قضاء النظر السطحي المعتمد على ظاهر الحس بخلافه. فالفعل من حيث كونه حركات كذا وسكنات كذا فهو للموضوع الذي يتحرك ويسكن بها، وأما من حيث كونه معنى من المعاني حسنة أو سيئة ومن آثار السعادة أو من آثار الشقاوة فإنما هو لذات سعيدة أو شقية تناسبه في وصفه، ولو كان هناك موضوعان لهما حكمان مختلفان ثم وجد شئ من حكم كل في الآخر فإنما هو الامتزاج وقع بين الموضوعين واختلاط بمعنى أن وراء هذا الفعل موضوعه الاصلى القائم بأمره وإن ظهر في ظاهر النظر في غير موضوعه كالحرارة الظاهرة في الماء التي عاملها الاصلي نار أو شمس مثلا وإن كانت صفة بارزة في الماء ظاهرا فالحرارة للنار مثلا وإن ظهرت في الماء وهذا مما لا يرتاب فيه الخبير بالابحاث الحقيقية. وعلى هذا تكون الحسنات للمحسنين ذاتا والسعداء جوهرا وسنخا، والسيئات للمسيئين ذاتا والاشقياء طينة وأصلا بحسب ظرف الحقيقة ووعاء الحق فهو الذي يقتضيه العدل الحقيقي. ولا يناقضه أمثال قوله تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل

[ 106 ]

مثقال ذرة شرا يره " الزلزال: 8، وقوله: " ألا تزر وازرة وزر أخرى " النجم: 38 وقوله: " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " البقرة: 286، إلى غير ذلك من الآيات الحاكمة بإن تبعة كل فعل إنما هو لفاعله إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وذلك أن الذي تحكم به الآيات في محله ولا يتخطاه لكن لما كان فاعل الفعل بحسب النظر الاجتماعي الدنيوي هو الذي تقوم به الحركة والسكون المسمى فعلا فإليه تعود تبعة الفعل من مدح أو ذم أو ثواب أو عقاب دنيويين، وأما بحسب النظر الحقيقي ففاعل الفعل الاصل الذي يسانخه الفعل ويناسبه وهو غير من قامت به الحركات والسكنات المسماة فعلا ورجوع هذا الفعل وما له من الآثار الحسنة أو السيئة إلى هذا الاصل ليس من رجوع تبعة الفعل إلى غير فاعله حتى تناقضه الآيات الكريمة فهذا الحكم الباطني الذي يسميه عليه السلام حكما ملكوتيا في طول الحكم الظاهري الذي نألفه في حياتنا الاجتماعية. وإذا كان يوم القيامة هو اليوم الذي تبلى فيه السرائر وتظهر فيه الحقائق ولا يحتجب الحق فيه بشئ كما مرت الاشارة إليه كرارا - كان هو مجلى هذا الحكم الملكوتي الذي يلحق كل حكم بحقيقة موضوعه فيرجع به كل شئ إلى أصله قال تعالى: " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " الزمر: 47، وقال: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " ق: 22، وقال: " ألحقنا بهم ذريتهم ما ألتناهم من عملهم من شئ " الطور: 21، وقال: " وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم " العنكبوت: 13. ومن هنا يظهر وجه اختصاص هذا الحكم الملكوتي بيوم القيامة مع أن البرزخ وهو ما بين الموت والبعث أيضا من ظروف المجازاة ومن أيام الله، وذلك لان الظاهر من كلامه تعالى أن البرزخ من تتمة المكث الارضي محسوب من الدنيا كما يدل عليه قوله تعالى: " قال كم لبثتم في الارض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين قال إن لبثتم إلا قليلا " المؤمنون: 114، وقوله: " ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين أوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث " الروم: 56.

[ 107 ]

فالحياة البرزخية كأنها من بقايا الحياة الدنيوية محكومة ببعض أحكامها، والناس فيها بعد في طريق التصفية والتخلص إلى سعادتهم وشقاوتهم، والحكم الفصل الذي يحتاج إلى السنخ الخالص والذات الممحوضة بعد هذه الحياة. ومن هنا يظهر أيضا سر ما يظهر في القرآن والحديث أن الله سبحانه يجازي الكفار جزاء حسناتهم التي أتوا بها في الدنيا. وأما في الآخرة فأعمالهم فيها حبط، ولا يقيم لهم يوم القيامة وزنا، وليس لهم فيها إلا النار فافهم ذلك. وقوله عليه السلام: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " تعليل منه لما بينه من الحكم الملكوتي بالآية، وذلك أن السؤال عن شئ سواء كان فعلا فعله فاعل أو قضي به قاض أو خبرا أخبر به مخبر إنما هو طلب من الفاعل أو القاضي أو المخبر أن يبين مطابقه ما أتى به الواقع ويطبقه على الحق فإن ما نأتي به من الامر إنما هو محاذاة منا للواقع الحق ولا ينقطع السؤال إلا إذا بين لنا وجه الحق فيه وكونه مطابقا للواقع أما إذا كان الفعل الذي أتى به أو الحكم الذي حكم به أاو الخبر الذي أخبر به مثلا نفس الواقع بلا واسطة فلا معنى للسؤال البتة. فإذا سألك سائل مثلا: لم ضربت اليتيم ؟ أو لم قضيت أن المال لزيد ؟ أو من أين أخبرت أن زيدا قائم ؟ لم ينقطع السؤال دون أن تقول مثلا: ضربته للتأديب، وأن تقول أن زيدا ورثه عن أبيه مثلا وأن تريه زيدا وهو قائم مثلا، وهذا هو الحق الواقع المسؤول عنه، وأما كون الاربعة زوجا، أو كون العشرة أكبر من الخمسة أو بطلان حياة زيد لو جز رأسه من بدنه مثلا فهذه الامور نفس الواقع الحق ولا معنى لان يسأل عن الاربعة لم صرت زوجا ؟ أو عن العشرة لم صارت أكبر من الخمسة ؟ أو عن فعل من الافعال أو أثر من الآثار وعنده فاعله وغايته لم كان كما كان ؟ أو لم فعل سببه التام ما فعل ؟ فإن ذلك هذر. والله سبحانه فعله نفس الواقع الحق، وقوله نفس العين الخارجية ولا ينتهي إلى غيره فلا معنى للسؤال عنه بلم وكيف. وجميع القضايا الحقة التي نطبق عليها عقائدنا أو أفعالنا لتكون حقة إنما هي مأخوذة من الخارج الذي هو فعله فلا تحكم في شئ من فعله، وإنما تلازم بوجه فعله ملازمة التابع للمتبوع والمنتزع للمنتزع منه فافهم،

[ 108 ]

وبتقرير آخر الفعل الالهي إنما يظهر بالاسباب الكونية فهي بمنزلة آلالات والادوات لا يظهر له فعل إلا بتوسطها، والسائل إنما يسأل عن فعل من أفعاله لجهله بالاسباب مثلا إذا مات زيد بسقوط حائط عليه بغتة سأل سائل: لم أهلك الله زيدا ولم يرحم شبابه ولا أبويه المسكينين ؟ فإذا أجيب بانهدام الحائط عليه نقل السؤال إلى أنه لم هدم عليه الحائط ؟ فإذا أجيب بأن السماء أمطرت فاسترخت أصله ومال به الثقل فسقط وكان تحته زيد فمات به، نقل السؤال إلى أمطار السماء وهلم جرا، ولا يقع السؤال إلا على أثر مجهول العلة، وأما الاثر المعلوم العلة فلا يقع عنه سؤال وليس إلا أن السائل بجهله يقدر لزيد حياة مستندة إلى علل ليس بينها هذه التي فاجأته بسلسلتها فتوهم أن الله سبحانه فعل به ما فعل جزافا من غير سبب ولذلك بادر إلى السؤال ولو أحاط بعلل الحوادث لم يسأل قط، وقد تقدم بعض الكلام في قوله تعالى: " لا يسأل عما يفعل " الخ، في البحث عن اعتراضات إبليس في محاورته الملائكة. و قوله عليه السلام: حكم الله وحكم أنبيائه الخ، أي قضاؤه تعالى وقضاء أنبيائه بإذنه فإنه تعالى إنما يقضي ويحكم الحكم الحق الذي بحسب حقيقة الامر وباطنه لا بحسب الظاهر كما نحكم عليه بالاعتماد على الشواهد والامارات. فقد تبين معنى لحوق الحسنات وآثارها للذوات الطيبة وسنخ النور، ولحوق السيئات وآثارها للسنخ الظلمة والفساد والذوات الخبيثة، ويتبين بما تبين من معنى قوله " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون "، الجواب عن شئ آخر ربما يختلج بالبال في بادئ النظر وهو أنه لم اختصت الذوات الطيبه وسنخ النور بالحسنات وآثارها، والذوات الخبيثة وسنخ الظلمة بخلافها ؟ ولم استعقبت الحسنات النعمة الدائمة والجنة الخالدة، واستعقبت السيئات النقمة والنار. والجواب: أنها آثار واقعية عن روابط خارجية كما تقدم بيانه في البحث عن نتائج الأعمال لا أحكام وضعية اعتبارية وإن بينت في لسان الشرع بنظائر ما تبين به تبعات أحكامنا الوضعية الاعتبارية الواقعة في ظرف الاجتماع الانساني تتميما لنظام التشريع. إذا عرفت ذلك علمت أن هذه الاختصاصات ترجع إلى روابط تكوينية بين ذوات

[ 109 ]

الاشياء وآثارها الذاتية ولا سؤال في الذاتيات غير أنك ينبغي أن تتذكر ما تقدم أن لزوم حكم لذات من الذوات ليس معناه استقلال ذاته باقتضاء ذلك الحكم والاثر، واستغناؤه عن الله سبحانه في إيجابه وضمه لنفسه فهذا مما يدفعه البيان الالهى في كتابه بل معناه لزومه لفعله الحق ولا سؤال عن ذلك كما اتضح معناه. وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى: " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا " الاعراف - 58، فإنما هو مثل مضروب لاقتضاء الذوات، وإنما قيده بقوله: " بإذن ربه " دفعا لتوهم اللزوم الذاتي بمعنى استقلال الذوات في التأثير مستغنية عنه تعالى، في هذا المعنى ما ورد من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: جف القلم بالسعادة لمن آمن واتقى. * * * فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين 37 -. قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والانس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخريهم لاوليهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون 38 -. وقالت أوليهم لاخريهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون 39 -. إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون

[ 110 ]

الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين 40 -. لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين 41 -. والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون 42 -. ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الانهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة اورثتموها بما كنتم تعملون 43 -. ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين 44 -. الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون 45 -. وبينهما حجاب وعلى الاعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون 46 -. وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين 47 -. ونادى أصحاب الاعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون 48 -. أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون 49 -. ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن

[ 111 ]

أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين 50 -. الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحيوة الدنيا فاليوم ننسيهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون 51 -. ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون 52 -. هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون 53 -. (بيان) الآية الاولى تفريع واستخراج من الخطاب العام الاخير المصدر بقوله: " يا بني آدم " نظير التفريعات المذكورة لسائر الخطابات العامة السابقة، وما يتلوها بيان لما يستتبعه الكذب على الله وتكذيب آياته من سوء العاقبة والايمان بالله والعمل الصالح من السعادة الخالدة إلا آيتين من آخرها فإن فيهما رجوعا إلى أول الكلام وبيانا لتمام الحجة عليهم بنزول الكتاب. قوله تعالى: " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته " تفريع على ما تتضمنه الآية السابقة من أعلام الشريعة العامة المبلغه بواسطة الرسل أي إذا كان الامر على ذلك وقد أبلغ الله دينه العام جميع أولاد آدم وأخبر بما أعده من الجزاء للاخذ به وتركه فمن أظلم ممن استنكف عن ذلك إما بافتراء الكذب على الله، ونسبة دين إليه، ووضعه موضع ما أتى به الرسل من دين التوحيد، وقد أخبر الله أنهم وسائط بينه وبين خلقه في تبليغهم دينه، وإما بالتكذيب لآياته الدالة على وحدانيته وما يتبعه من الشرائع.

[ 112 ]

ومن يظهر أن افتراء الكذب على الله وإن كان يعم كل بدعة في الدين أصوله وفروعه غير أن المورد هو الشرك بالله باتخاذ آلهه دون الله، ويدل عليه ما سيأتي من قوله: " قالوا أينما كنتم تدعون من دون الله ". قوله تعالى: " أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا " إلى آخر الآية. المراد بالكتاب ما قضي وكتب أن يصيب الانسان من مقدرات الحياة من عمر ومعيشة وغنى وصحة ومال وولد وغير ذلك، والدليل عليه تقييده بقوله: " حتى إذا جاءتهم رسلنا " الخ، والمراد به أجل الموت ومن المعلوم أنه غاية للحياة الدنيا بجميع شؤونها ومقارناتها. والمراد بالنصيب من الكتاب السهم الذى يختص كل واحد منهم من مطلق ما كتب له ولغيره، وفي جعل النصيب من الكتاب هو الذي ينالهم، والامر منعكس بحسب الظاهر دلالة على أن النصيب الذي فرض للانسان وقضي له من الله سبحانه لم يكن ليخطئه البتة وما لم يفرض له لم يكن ليصيبه البتة. والمعنى: أولئك الذين كذبوا على الله بالشرك أو كذبوا بآياته بالرد لجميع الدين أو شطر منه ينالهم نصيبهم من الكتاب، ونصيبهم ما قضي في حقهم من الخير والشر في الحياة الدنيا حتى إذا قضوا أجلهم وجاءتهم رسلنا من الملائكة وهم ملك الموت وأعوانة نزلوا عليهم وهم يتوفونهم ويأخذون أرواحهم ونفوسهم من أبدانهم سألوهم وقالوا: أين ما كنتم تدعون من دون الله من الشركاء الذين كنتم تدعون انهم شركاء الله فيكم وشفعاؤكم عنده ؟ قالوا ضلوا عنا وإنما ضلت أوصافهم ونعوتهم، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين بمعاينة حقيقة الامر أن غير الله سبحانه لا ينفع ولا يضر شيئا، وقد أخطأوا في نسبة ذلك إلى أوليائهم. وفي مضمون الآية جهات من البحث تقدمت في نظيرة الآية من سورة الانعام وغيرها. قوله تعالى: " قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والانس " الخطاب من الله سبحانه دون الملائكة وإن كانوا في وسائط في التوفي وغيره، والمخاطبون بحسب سياق اللفظ هم بعض الكفار وهم الذين وفيت قبلهم أمم من الجن والانس إلا أن الخطاب في معنى: ادخلوا فيما دخل فيه سابقوكم ولا حقوكم وإنما نظم الكلام هذا

[ 113 ]

النظم ليتخلص به إلى ذكر التخاصم الذي يقع بين متقدميهم ومتأخريهم، وقد قال تعالى: " أن ذلك لحق تخاصم أهل النار " ص: 64. وفي الآية دلالة على أن من الجن أمما يموتون بآجال خاصة قبل انتهاء أمد الدنيا على خلاف إبليس الباقي إلى يوم الوقت المعلوم. قوله تعالى: " كلما دخلت أمة لعنت أختها " هذا من جملة خصامهم في النار وهو لعن كل داخل من تقدم عليه في الدخول، واللعن هو الابعاد من الرحمة ومن كل خير والاخت المثل. قوله تعالى: " حتى إذا اداركوا فيها جميعا " إلى آخر الآيتين، اداركوا أي تداركوا أي أدر ك بعضهم بعضا اللاحقون السابقين أي اجتمعوا في النار جميعا. والمراد بالاولى والاخرى اللتين تتخاصمان ما هو كذلك بحسب الرتبة أو بحسب الزمان فإن الاولى منهم مقاما وهم رؤساء الضلال، وأئمه الكفر المتبوعون أعانوا تابعيهم بإضلالهم على الضلال، وكذا الاولى منهم زمانا وهم الاسلاف المتقدمون أعانوا متأخريهم على ضلالتهم لانهم هم الذين جرؤوهم بفتح الباب لهم وتمهيد الطريق لسلوكهم. والضعف بالكسر فالسكون ما يكرر الشئ فضعف الواحد اثنان وضعف الاثنين أربعة غير أنه ربما أريد به ما يوجب تكرار شئ آخر فقط كالاثنين يوجب بنفسه تكرار الواحد فضعف الواحد اثنان وضعفاه أربعة، وربما أريد به ما يوجب التكرار بانضمامه إلى شئ كالواحد يوجب تكرار واحد آخر بانضمامه إليه لانهما يصيران بذلك اثنين فكل واحد من جزئي الاثنين ضعف وهما جميعا ضعفان نظير الزوج فالاثنان زوج وهما زوجان وعلى كلا الاعتبارين ورد استعماله في كلامه تعالى، قال تعالى كما في هذه الاية " فآتهم عذابا ضعفا " وقال تعالى: " ضعفين من العذاب ". وقوله: " قالت أخراهم لاولاهم ربنا هؤلاء أضلونا " الخ، نوع من الالتفات لطيف في بابه فيه رجوع من مخاطبتهم بالمخاصمة إلى مخاطبة الله سبحانه بالدعاء عليهم معللا بظلمهم فيفيد فائدة التكنية بالاشارة إلى الملزوم وإفادة الملازمة، وفيه مع ذلك نوع من الايجاز فإن فيه اكتفاء بمحاورة واحدة عن محاورتين، والتقدير قالت أخراهم لاولاهم

[ 114 ]

أنتم أشد ظلما منا لانكم ضالون في أنفسكم وقد أضللتمونا فليعذبكم الله عذابا ضعفا من النار، ثم رجعوا إلى ربهم بالدعاء عليهم وقالوا ربنا هؤلاء إضلونا فآتهم عذابا.. الخ، فأجابهم الله وقال لكل ضعف ولكن لا تعلمون، ثم أجابتهم أولاهم وقالوا: فما كان لكم علينا من فضل الخ.. فمعنى الآية: " حتى إذا اداركوا " واجتمعوا بلحوق أخراهم لاولاهم " فيها " إي في النار تخاصموا " وقالت أخراهم " وهم اللاحقون مرتبة أو زمانا من التابعين " لاولاهم " وهم الملحوقون المتبوعون من رؤسائهم وأئمتهم، ومن آبائهم والاجيال السابقة عليهم زمانا الممهدين لهم الطريق إلى الضلال أنتم أضللتمونا بإعانتكم عليه فلتعذبوا بأشد من عذابنا فسألوا ربهم ذلك وقالوا: " ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار " يكون ضعف عذابنا لانهم ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم بالاعانة " قال " الله سبحانه لكل من الاولى والاخرى " ضعف من العذاب " أما أولاكم فإنهم ضلوا و أعانوكم على الضلال، وأما أنتم فإنكم ضللتم وأعنتموهم على الاضلال باتباع أمرهم وإجابة دعوة الرؤساء منهم، وتكثير سواد السابقين منهم باللحوق بهم " ولكن لا تعلمون " فإن العذاب إنما يتحقق أو يتم في مرحله الادراك والعلم. وأنتم تشاهدونهم أمثال أنفسكم في شمول العذاب وإحاطة النار فتتوهمون أن عذابهم مثل عذابكم وليس كذلك بل لهم من العذاب ما لا طريق لكم إلى إدراكه والشعور به كما أنهم بالنسبة إليكم كذلك فما عندكم وعندهم من العذاب ضعف ولكن إحاطه العذاب شغلكم عن العلم بذلك. وهذا خطاب إلهى مبني على القهر والاذلال فيه تعذيب لهم يسمعه أولاهم وأخراهم جميعا فتعود به أولاهم لاخراهم بالتهكم وتقول كما حكى الله: " وقالت إولاهم لاخراهم فما كان لكم علينا من فضل " بخفة العذاب " فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون " في الدنيا من الذنوب والاثام. قوله تعالى: " إن الذين كذبوا باياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم " إلى آخر الآية. السم هو الثقب وجمعه السموم، والخياط والمخيط الابرة. والذي نفاه الله تعالى من تفتيح أبواب السماء مطلق في نفسه يشمل الفتح لولوج

[ 115 ]

أدعيتهم وصعود أعمالهم ودخول أرواحهم غير أن تعقيبه بقوله: " ولا يدخلون الجنة " الخ، كالقرينة على أن المراد نفي أن يفتح بابها لدخولهم الجنة فإن ظاهر كلامه سبحانه أن الجنة في السماء كما هو في قوله: " وفي السماء رزقكم وما توعدون " الذاريات: 22. وقوله: " حتى يلج الجمل في سم الخياط " من التعليق بالمحال وإنما يعلق الامر بالمحال كناية عن عدم تحققه وإياسا من وجوده كما يقال: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب ويبيض الفار، وقد قال تعالى في موضع آخر في هذا المعنى: " وما هم بخارجين من النار " البقره: 167، والآية في معنى تعليل مضمون الآية السابقة والباقي ظاهر. قوله تعالى: " لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش " الخ. جهنم اسم من أسماء نار الآخرة التي بها التعذيب، وقد قيل: إنه مأخوذ من قولهم " بئر جهنام " أي بعيدة العقر وقيل: فارسي معرب، و " المهاد " الوطاء الذي يفترش، ومنه مهد الصبي والغواشي جمع غاشية وهي ما يغشى الشئ ويستره ومنه غاشية السرج. وقد أفيد بقوله: " لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش " أنهم محاطون بالعذاب من تحتهم ومن فوقهم، والباقي ظاهر. قوله تعالى: " والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها " الخ. الآية ما يتلوها لتتميم بيان حال الطائفتين الكفار والمؤمنين، ولتكون كالتوطئة لقوله الآتي: ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار " الخ. وقوله: " لا نكلف نفسا إلا وسعها " مسوق للتخفيف وتقوية الرجاء في قلوب المؤمنين فإن تقييد الايمان بعمل الصالحات - والصالحات جمع محلى باللام وهو يفيد الاستغراق - يفيد بظاهره لزوم العمل بجميع الصالحات حتى لا يشذ عنها شاذ، وما أقل من وفق لذلك من طبقة أهل الايمان ويسد ذلك باب الرجاء على أكثر المؤمنين فذكر الله سبحانه أن التكليف على قدر الوسع فمن عمل من الصالحات ما وسعه إن يعمله من غير أن يشق على نفسه ويتحمل ما لا طاقة له به بعد الايمان بالله فهو من أهل هذه الآية، ومن أصحاب الجنة هم فيها خالدون. قوله تعالى: " ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الانهار " الغل هو الحقد وضغن القلوب وعداوتها، وفي مادتها معنى التوسط باللطف والحيلة ومنه

[ 116 ]

الغلالة وهي الثوب المتوسط بين الدثار والشعار، وغل الصدور من أعظم ما ينغص عيش الانسان، وما من إنسان يعاشر أنسانا ويأتلف به إلا وائتلافه مشروط بأن يوافقه فيما يراه ويريده فإذا شاهد من حاله ما لا يرتضيه جأش صدره بالغل وراحت الالفة وتنغصت العيشة فإذا ذهب الله سبحانه بغل الصدور لم يسؤ الانسان ما يشاهده من أليفه على الاطلاق وهي اللذة الكبرى وفي قوله: " تجري من تحتهم الانهار " إشارة إلى أنهم ساكنون في قصورها العالية. قوله تعالى: " وقالوا الحمد لله الذي هدانا - إلى قوله - بالحق " في نسبة التحميد إليهم دلالة على أن الله سبحانه يخلصهم لنفسه فلا يوجد عندهم اعتقاد باطل ولا عمل سئ كما قال تعالى: " لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما " الواقعة 26، فيصح منهم تحميد الله سبحانه ويقع توصيفهم موقعه فليس توصيفه تعالى بحيث يصيب غرضه ويقع موقعه بذلك المبتذل حتى يناله كل نائل، قال تعالى: " سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين " الصافات: 160، وقد تقدم القول في معنى الحمد وخصوصية حمده تعالى في تفسير سورة الحمد. وفي قولهم: " هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله " إشارة إلى اختصاص الهداية به تعالى فليس إلى الانسان من الامر شئ. وفي قولهم: " لقد جاءت رسل ربنا بالحق " اعتراف بحقية ما وعدهم الله تعالى بلسان أنبيائه، وهو الذي يأخذون الاعتراف به من أصحاب النار على ما تقصه الآية التالية، وفي هذا الاعتراف وسائر الاعترافات المأخوذة من الفريقين يوم القيامة من قبل مصدر العظمة والكبرياء ظهور منه تعالى بالقهر وتمام الربوبيه، ويكون ذلك من أهل الجنة شكرا، ومن أهل النار تماما للحجة. واعتراف أهل الجنة بحقية ما وعدهم الله سبحانه بواسطة رسله هو من الحقائق العالية القرآنية وإن كان بحسب ساذج النظر معنى بسيطا مبتذلا، ولعلنا نوفق لشطر من البحث فيه في ذيل الكلام على هذه الآيات. قوله تعالى: " ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون " في الاشارة بلفظ البعيد - تلكم إشارة إلى رفعة قدر الجنة وعلو مكانها فإن ظاهر السياق - كما

[ 117 ]

قيل - أن النداء إنما هو حين كونهم في الجنة، وقد جعلت الجنة إرثا لهم في قبال عملهم وإنما يتحقق الارث فيما إذا كان هناك مال أو نحوه مما ينتفع به وهو في معرض انتفاع شخص ثم زال عنه الشخص فبقي لغيره يقال: ورث فلان أباه أي مات وترك مالا بقي له، والعلماء ورثة الانبياء أي مختصون بما تركوا لهم من العلم، ويرث الله الارض أي إنه كان خولهم ما بها من مال ونحوه وسوف يموتون فيبقى له ما خولهم. وعلى هذا فكون الجنة إرثا لهم أورثوها معناه كونها خلقت معروضة لان يكسبها بالعمل المؤمن والكافر جميعا غير أن الكافر زال عنها بشركه ومعاصيه فتركها فبقيت للمؤمن فهو الوارث لها بعمله، ولو لا عمله لم يرثها، قال تعالى: " اولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس " المؤمنون: 11. وقال تعالى: حكاية عن أهل الجنة: " الحمد لله الذى صدقنا وعده وأورثنا الارض نتبوء من الجنة حيث نشاء " الزمر: 74. وهذا أوضح مما ذكره الراغب في المفردات إذ قال: الوراثة والارث انتقال قنية إليك عن غيرك من غير عقد ولا ما يجري مجرى العقد، وسمي بذلك المنتقل عن الميت فيقال للقنية الموروثه ميراث وإرث وتراث فقلبت الواو ألفا وتاء قال: وتأكلون التراث، وقال عليه السلام: اثبتوا على مشاعركم فإنكم على إرث أبيكم أي أصله وبقيته. قال الشاعر: فنظر في صحف كالربا ط فيهن إرث كتاب محي قال: ويقال لكل من حصل له شئ من غير تعب: قد ورث كذا ويقال لكل من خول شيئا مهنئا: أورث، قال تعالى: تلك الجنة التى أورثتموها، أولئك هم الوارثون الذين يرثون. وقوله: ويرث من آل يعقوب فإنه يعني وراثة النبوة والعلم والفضيلة دون المال فالمال لا قدر له عند الانبياء حتى يتنافسوا فيه بل قلما يقتنون المال ويملكونه ألا ترى أنه قال عليه السلام: " إنا معاشر الانبياء لا نورث ما تركنا " صدقة " نصب على الاختصاص فقد قيل: ما تركناه هو العلم وهو صدقة يشترك فيها الامة وما روي عنه عليه السلام من قوله " العلماء ورثة الانبياء " فإشارة إلى ما ورثوه من العلم واستعمل لفظ الورثة لكون ذلك بغير ثمن ولا منة، وقال لعلى رضى الله عنه: أنت أخي ووارثي. قال: وما ارثك ؟ قال: ما ورثت الانبياء قبلي كتاب الله وسنتي،

[ 118 ]

ووصف الله تعالى نفسه بأنه الوارث من حيث إن الاشياء كلها صائره إلى الله تعالى (انتهى كلامه). وإنما كان ما قدمناه أوضح مما ذكره لصعوبة إرجاع ما ذكره من المعاني إلى أصل واحد هو معنى المادة. قوله تعالى: " ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار " إلى آخر الآية. هذا في نفسه أخذ اعتراف من أصحاب النار بتوسط أصحاب الجنة وواقع موقع التهكم والسخرية يتهكم ويسخر به أصحاب الجنة من أصحاب النار. والاستهزاء والسخرية إنما يكون من اللغو الباطل إذا لم يتعلق به غرض حق كالاستهزاء بالحق وإهله أما إذا كان لغرض المقابلة والمجاراة أو لغرض آخر حق من غير محذور فليس من قبيل اللغو الذي لا يصدر عن أهل الجنة قال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: " ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملا من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون " هود: 38، وقال: " إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون - إلى أن قال - فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون " المطففين: 34. وأما الفرق بين قولهم: " ما وعدنا ربنا " وقولهم: " ما وعد ربكم " حيث ذكر المفعول في الوعد الاول دون الثاني فلعل ذلك للدلالة على نوع من التشريف فإن الظاهر إن المراد بما وعد الله جميع ما وعده من الثواب والعقاب لعامة الناس. وهناك وجه آخر وهو أن متعلق اعتراف المؤمنين وإنكار الكفار من أمر المعاد مختلف في الدنيا فإن المؤمنين يثبتون البعث بجميع خصوصياته التي بينها الله لهم ووعدها إياهم، وأما الكفار المنكرون فإنهم ينكرون أصل البعث الذي اشترك في الوعد به المؤمنون والكفار جميعا، ولذلك احتج الله سبحانه ويتم الحجة عليهم بأصله دون خصوصياته كقوله تعالى: " ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أ ليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا " الانعام: 30، وقوله: " ويوم يعرض الذين كفروا على النار أ ليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا " الاحقاف: 34. وعلى هذا فقولهم: " أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا " اعتراف منهم بحقية ما وعدهم الله وكانوا يذعنون به ويشهدون من جميع خصوصيات البعث بما قصهم الله في

[ 119 ]

الدنيا بلسان أنبيائه، وأما الكفار فقد كانوا ينكرون أصل البعث والعذاب، وهو مما يشتركون فيه هم والمؤمنون فلذا قيل: " فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا " ولم يقل ما وعدكم ربكم لان الوعد بأصل البعث والعذاب لم يكن مختصا بهم. وبذلك يظهر الجواب عما قيل: إن الوفاء بالوعد واجب دون الوفاء بالوعيد على ما ذكره المتكلمون فما معنى أخذ الاعتراف بحقية ما ذكره الله من عقاب الكفار والمجرمين وإنذرهم به في الدنيا، وليس تحققه بلازم. وذلك أن الملاك فيما ذكروه من الفرق أن الثواب حق العامل على ولي الثواب الذي بيده الامر، والعقاب حق الولي المثيب على العامل، ومن الجائز أن يصرف الشخص نظره عن إعمال حق نفسه لكن لا يجوز إبطال حق الغير فإنجاز الوعد واجب دون إنجاز الوعيد، وهذا إنما يتم في موارد الوعيد الخاصة ومصاديقه في الجملة، وأما عدم إنجاز أصل العقاب على الذنب وإبطال أساس المجازاة على التخلف فليس كذلك إذ في إبطاله إبطال التشريع من أصله وإخلال النظام العام. وربما وجه الفرق في قوليه: " وعدنا ربنا " " وعد ربكم " بأن المراد بقوله: " وعدنا " ما وعد الله المتقين من خصوصيات ما يعاملهم به يوم القيامة وبقوله: " وعد ربكم " عموم ما وعد به المؤمنين والكفار من الثواب والعقاب يوم القيامة كالذي في قوله: " يا بنى آدم إما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي " إلى آخر الآيتين. ومن المعلوم أن هذا الوعد لا يختص بالكفار حتى يقال: وعدكم ربكم بل التعبير الحق وعد ربكم. وفيه: إن إصل الفرق لا بأس به لكنه لا يقطع السؤال فللسائل أن يعود فيقول ما هو السبب الفارق في أن أصحاب الجنة لما أوردوا اعتراف نفسهم اقتصروا بذكر ما يخصهم من أمور يوم القيامة، وأما إذا سألوا أصحاب النار سألوهم عن جميع ما وعد الله به المؤمنين والكفار ؟ وبعبارة أخرى هناك ما يشترك فيه الطائفتان وما يختص به كل منهما فما بالهم إذا اعترفوا هم أنفسهم اعترفوا بما يختص بأنفسهم ويسألون أصحاب النار الاعتراف بما يشترك فيه الجميع. وربما وجه الفرق بأن المراد بقوله " ما وعد ربكم " الذي وعده أصحاب الجنة من إنواع الثواب الجزيل فإن أصحاب النار يشاهدون ذلك كما يجدون ما بهم من أليم

[ 120 ]

العقاب. وهو وجه سخيف على سخافته لا يغني طائلا. وقوله: " فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين " تفريع على تحقق الاعتراف من الطائفتين جميعا على حقية ما وعده الله سبحانه، والاذان هو قوله: " لعنة الله على الظالمين " وهو إعلام عام للفريقين - والدليل عليه ظاهر قوله: " بينهم " بقضاء اللعنة وهي الابعاد والطرد من الرحمة الالهية على الظالمين وقد فسر الظالمين الذين ضربت عليهم باللعنة بقوله: " الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون " فهم الكافرون المنكرون للآخرة الذين يصدون عن سبيل الله محرفة منحرفة، ويصرفون غيرهم عن سلوك الصراط المستقيم فهؤلاء هم المعاندون للحق المنكرون للمعاد. وهذا الوصف يشمل جميع المعاندين للحق الكافرين بالجزاء حتى المنكرين للصانع الذين لا يدينون بدين فإن الله سبحانه يذكر في كتابه أن دينه وسبيله الذي يهدي إليه وبه هو سبيل الانسانية الذي تدعو إليه الفطرة الانسانية والخلقة خص بها الانسان ليس وراءه إسلام ولا دين. فالسبيل الذي يسلكه الانسان في حياته هو سبيل الله وصراطه وهو الدين الالهى فإن سلكه على استقامة ما تدعو إليه الفطرة وهو الذي يسوقه إلى سعادته كان هو الصراط المستقيم والاسلام الذي هو الدين عند الله وسبيل الله الذي لا عوج فيه، وإن سلك غير ذلك سواء كان فيه إذعان بالوهية وعبادة لمعبود كالملل والاديان الباطلة أو لم يكن فيه خضوع لشئ وعبادة لمعبود كالمادية المحضة فهو سلوك يبغون فيه سبيل الله عوجا وهو الاسلام محرفا عن وجهه، ونعمة الله التي بدلت كفرا، فافهم ذلك. وقد أبهم الله هذا الذي يخبر عنه بقوله: " فأذن مؤذن بينهم " ولم يعرفه من هو ؟ أ من الانس أم من الجن أم من الملائكة ؟ لكن الذي يقتضيه التدبر في كلامه تعالى أن يكون هذا المؤذن من البشر لا من الجن لا من الملائكه: أما الجن فلم يذكر في شئ من تضاعيف كلامه تعالى أن يتصدى الجن شيئا من التوسط في أمر الانسان من لدن وروده في عالم الآخرة وهو حين نزول الموت إلى أن يستقر في جنة أو نار فيختم أمره فلا موجب لاحتمال كونه من الجن. وأما الملائكة فإنهم وسائط لامر الله وحملة لارادته بأيديهم إنفاذ الاوامر الالهية،

[ 121 ]

وبوساطتهم يجري ما قضى به في خلقه، وقد ذكر الله سبحانه أشياء من أمرهم وحكمهم في عالم الموت وفي جنة الآخرة ونارها كقولهم للظالمين حين القبض: إخرجوا أنفسكم " إلخ، الانعام: 93 وقولهم لاهل الجنة: " سلام عليكم ادخلوا الجنة " الخ، النحل: 32 وقول مالك لاهل النار: " إنكم ماكثون " الخ، الزخرف: 77، ونظائر ذلك. وأما المحشر وهو حظيرة البعث والسؤال والشهاده وتطاير الكتب والوزن والحساب والظرف الذي فيه الحكم الفصل فلم يذكر للملائكة فيه شئ من الحكم أو الامر والنهي ولا لغيرهم صريحا إلا ما صرح تعالى به في حق الانسان. كقوله تعالى في أصحاب الاعراف في ذيل هذه الآيات حكاية عنهم: " ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم " وقولهم لجمع من المؤمنين هناك: " ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون " هذا حكم وأمر وتأمين بإذن الله، وقوله تعالى فيما يصف يوم القيامة: " قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين " النحل: 27 وقوله تعالى بعد ذكر سؤاله أهل الجمع عن مدة لبثهم في الارض: " وقال الذين أوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون " الروم: 56. فهذه جهات من تصدي الشؤون، والقيام بالامر يوم القيامة حبا الله الانسان به دون الملائكة مضافا إلى أمثال الشهادة والشفاعة اللتين له. فهذا كله يقرب إلى الذهن أن يكون هذا المؤذن من الانسان دون الملائكة ويأتي في البحث الروائي ما له تعلق بالمقام. قوله تعالى: " وبينهما حجاب وعلى الاعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم " الحجاب معروف وهو الستر المتخلل بين شيئين يستر إحدهما من الآخر. والاعراف أعالي الحجاب، والتلال من الرمل والعرف للديك وللفرس وهو الشعر فوق رقبته وإعلا كل شئ ففيه معنى العلو على أي حال، وذكر الحجاب قبل الاعراف، وما ذكر بعده من إشرافهم على الجميع وندائهم أهل الجنة والنار جميعا كل ذلك يؤيد أن يكون المراد بالاعراف أعالي الحجاب الذي بين الجنة والنار وهو المحل المشرف على الفريقين أهل الجنة وأهل النار جميعا.

[ 122 ]

والسيماء العلامة قال الراغب: السيماء والسيمياء العلامة، قال الشاعر: له سيمياء لا تشق على البصر وقال تعالى: " سيماهم في وجوههم " وقد سومته أي أعلمته، ومسومين أي معلمين (انتهى). والذي يعطيه التدبر في معنى هذه الآية وما يلحق بها من الآيات أن هذا الحجاب الذي ذكره الله تعالى إنما هو بين أصحاب الجنة وأصحاب النار فهما مرجع الضمير في قوله: " وبينهما " وقد أنبأنا الله سبحانه بمثل هذا المعنى عند ذكر محاورة بين المنافقين والمؤمنين يوم القيامة بقوله: " يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " الحديد: 13، وإنما هو حجاب لكونه يفرق بين الطائفتين ويحجب إحداهما عن الاخرى لا أنه ثوب منسوج مخيط على هيأة خاصة معلق بين الجنة والنار. ثم أخبر الله سبحانه أن على أعراف الحجاب وأعاليه رجالا مشرفين على الجانبين لارتفاع موضعهم يعرفون كلا من الطائفتين أصحاب الجنة وأصحاب النار بسيماهم وعلامتهم التي تختص بهم. ولا ريب في أن السياق يفيد أن هؤلاء الرجال منحازون على الطائفتين متمايزون من جماعتهم فهل ذلك لكونهم خارجين عن نوع الانسان كالملائكة أو الجن مثلا، أو لكونهم خارجين عن أهل الجمع من حيث ما يتعلق بهم من السؤال والحساب وسائر الشؤون الشبيهة بهما فيكون بذلك أهل الجمع منقسمين إلى طوائف ثلاث: أصحاب الجنة، وأصحاب النار، وأصحاب الاعراف، كما قسمهم الله في الدنيا إلى طوائف ثلاث: المؤمنين والكفار والمستضعفين الذين لم تتم عليهم الحجة وقصروا عن بلوغ التكليف كضعفاء العقول من النساء والاطفال غير البالغين والشيخ الهرم الخرف والمجنون والسفيه وأضرابهم، أو لكونهم مرتفعين عن موقف أهل الجمع بمكانتهم ؟. لا ريب أن إطلاق لفظ " رجال " لا يشمل الملائكة فإنهم لا يتصفون بالرجولية والانوثية كما يتصف به جنس الحيوان وإن قيل: إنهم ربما يظهرون في شكل الرجال فإن ذلك لا يصحح الاتصاف والتسمية، على أنه لا دليل يدل عليه.

[ 123 ]

ثم إن التعبير بمثل قوله: " رجال يعرفون " إلخ، وخاصة بالتنكير يدل بحسب عرف اللغة على اعتناء تام بشأن الافراد المقصودين باللفظ نظرا إلى دلالة الرجل بحسب العادة على الانسان القوي في تعقله وإرادته الشديد في قوامه. وعلى ذلك يجري ما يوجد في كلامه تعالى من مثل هذا التعبير كقوله تعالى: " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " النور: 37، وقوله: " فيه رجال يحبون أن يتطهروا " التوبه: 108، وقوله: " رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه " الاحزاب: 23، وقوله: " وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم " يوسف: 109 حتى في مثل قوله: " ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الاشرار " ص: 62، وقوله: " وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن " الجن: 6. فالمراد برجال في الآية أفراد تامون في إنسانيتهم لا محالة، وإن فرض أن فيهم أفرادا من النساء كان من التغليب. وأما المستضعفون فإنهم ضعفاء أفراد الانسان لا مزية في أمرهم توجب الاعتناء بشأنهم، وفيهم النساء والاطفال حتى الاجنة، ولا فضل لبعضهم على بعض، ولرجالهم على غيرهم حتى يعبر به عنهم بالرجال تغليبا فلو كانوا هم المرادين بقوله " رجال يعرفون " الخ، لكان حق التعبير أن يقال: قوم يعرفون الخ، أو أناس أو طائفة أو نحو ذلك كما هو المعهود من تعبيرات القرآن الكريم في أمثال هذه الموارد كقوله تعالى: " لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم " الاعراف: 164، وقوله: " إنهم أناس يتطهرون " الاعراف: 82، وقوله: " فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة " الصف: 14. على أن ما يصفهم الله تعالى به في الآيات التالية من الاوصاف ويذكرهم به من الشؤون أمور تأبى إلا أن يكون القائمون به من أهل المنزلة والمكانة، وأصحاب القرب والزلفى فضلا أن يكونوا من الناس المتوسطين فضلا أن يكونوا من المستضعفين. فأول ذلك: أنهم جعلوا على الاعراف ووصفوا بأنهم مشرفون على أهل الجمع عامة ومطلعون على أصحاب الجنة وأصحاب النار يعرفون كل إنسان منهم بسيماه الخاص به ويحيطون بخصوصيات نفوسهم وتفاصيل أعمالهم، ولا ريب أن ذلك منزلة رفيعة يختصون بها من بين الناس وليست مشاهدة جميع الناس يوم القيامة وخاصة بعد دخول

[ 124 ]

الجنة والنار أمرا عاما موجودا عند الجميع فإن الله يقول حكاية عن قول أهل النار: " ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الاشرار " ص: 62، وقولهم: " ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والانس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الاسفلين " حم السجدة: 29، وقال: " لكل امرء منهم يومئذ شأن يغنيه " عبس: 37. وليس معنى السيماء أن يعلم المؤمنون والكفار بعلامة عامة يعرف صنفهم بها كل من شاهدهم كبياض الوجه وسواده مثلا فإن قوله تعالى في الآية التالية: " ونادى أصحاب الاعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أ هؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة " يفيد أنهم ميزوا خصوصيات من أحوالهم وأعمالهم من سيماهم ككونهم مستكبرين أولي جمع وقد أقسموا كذا وكذا، وهذه أمور وراء الكفر والايمان في الجملة. وثانيا: إنهم يحاورون الفريقين فيكلمون أصحاب الجنة ويحيونهم بتحية الجنة، ويكلمون أئمة الكفر والضلال والطغاة من أهل النار فيقرعون عليهم بأحوالهم وأقوالهم مسترسلين في ذلك من غير أن يحجزهم حاجز، وليس التكلم بمجاز يومئذ إلا للاوحدي من عباد الله الذين لا ينطقون إلا بحق قال تعالى: " لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا " النبأ: 38، وهذا وراء ما يناله المستضعفون. وثالثا: إنهم يؤمنون أهل الجنة بالتسليم عليهم ثم يأمرونهم بدخول الجنة في أمر مطلق على ما هو ظاهر السياق في الآيات التالية. ورابعا: أنه لا يشاهد فيما يذكره الله من مكانتهم وما يحاورون به أصحاب الجنة والجبابرة المستكبرين من أصحاب النار شئ من آثار الفزع والقلق عليهم ولا اضطراب في أقوالهم، ولم يذكر أنهم محضرون فيه مختلطون بالجماعة داخلون فيما دخلوا فيه من الاهوال التي تجعل الافئدة هواء والجبال سرابا، وقد قال تعالى: " فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين " الصافات: 128، فجعل ذلك من خاصة مخلصي عباده، ثم استثناهم من كل هول أعد ليوم القيامة. ثم إنه تعالى ذكر دعاءهم في قوله: " وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين " ولم يعقبه بالرد فدل ذلك على أنهم مجازون فيما

[ 125 ]

يتكلمون به مستجاب دعاؤهم، ولولا ذلك لعقبه بالرد كما في موارد ذكرت فيها أدعية أهل الجمع ومسائل أصحاب النار وأدعية أخرى من غيرهم. فهذه الخصوصيات التي تنكشف واحدة بعد واحدة من هذه الآيات بالتدبر فيها وأخرى تتبعها لا تبقي ريبا للمتدبر في أن هؤلاء الذين أخبر الله سبحانه عنهم في قوله: " وعلى الاعراف رجال جمع من عباد الله المخلصين من غير الملائكة هم أرفع مقاما وأعلى منزلة من سائر أهل الجمع يعرفون عامة الفريقين، لهم أن يتكلموا بالحق يوم القيامة ولهم أن يشهدوا، ولهم أن يشفعوا، ولهم أن يأمروا ويقضوا. وأما أنهم من الانس أو من الجن أو من القبيلين مختلطين فلا طريق من اللفظ يوصلنا إلى العلم به غير أن شيئا من كلامه تعالى لا يدل على تصدى الجن شيئا من شؤون يوم القيامة ولا توسطا في أمر يعود إلى الحكم الفصل الذي يجري على الانسان يومئذ كالشهادة والشفاعة ونحوهما. ولا ينافي ما قدمناه من أوصافهم ونعوتهم أمثال قوله تعالى: " يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والامر يومئذ لله " الانفطار: 19، فإن الآية مفسرة بآيات أخرى تدل على أن المراد بها إنما هو ظهور ملكه تعالى لكل شئ وإحاطته بكل أمر لا حدوث ملكه يومئذ فإنه مالك على الاطلاق دائما لا وقتا دون وقت، ولا يملك نفس لنفس شيئا دائما لا في الآخرة فحسب لنفسه والملائكة على وساطتهم يومئذ والشهداء يملكون شهادتهم يومئذ، والشفعاء يملكون شفاعتهم يومئذ وقد نص على ذلك كلامه تعالى قال: " وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون " الانبياء: 103، وقال: " يوم يقوم الاشهاد " المؤمن: 51، وقال: " ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون " الزخرف: 86. فلله سبحانه الملك يومئذ وله الحكم يومئذ، ولغيره ما أذن له فيه كالدنيا غير أن الذي يختص به يوم القيامة ظهور هذه الحقائق ظهور عيان لا يقبل الخفاء، وحضورها بحيث لا يغيب بغفلة أو جهل أو خطا أو بطلان. وقد اشتد الخلاف بينهم في معنى الآية حتى ساق بعضهم إلى أقوال لا تخلو عن المجازفة فقد اختلفوا في معنى الاعراف:

[ 126 ]

1 - فمن قائل: إنه شئ مشرف على الفريقين. 2 - وقيل: سور له عرف كعرف الديك. 3 - وقيل: تل بين الجنة والنار جلس عليه ناس من أهل الذنوب. 4 - وقيل: السور الذي ذكره الله في القرآن بين المؤمنين والمنافقين إذ قال: " فضرب بينهم بسور له باب ". 5 - وقيل: معنى الاعراف التعرف أي على تعرف حال الناس رجال. 6 - وقيل: هو الصراط. ثم اختلفوا في الرجال الذين على الاعراف على أقوال أنهيت إلى اثنى عشر قولا: 1 - أنهم أشراف الخلق الممتازون بكرامة الله. 2 - أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فلم يترجح حسناتهم حتى يدخلوا الجنة ولا غلبت سيئاتهم حتى يؤمروا بدخول النار فأوقفهم الله تعالى على هذه الاعراف لكونها درجة متوسطة بين الجنة والنار ثم يدخلهم الجنة برحمته. 3 - أنهم أهل الفترة. 4 - أنهم مؤمنو الجن. 5 - أنهم أولاد الكفار الذين لم يبلغوا في الدنيا أو ان البلوغ. 6 - أنهم أولاد الزنا. 7 - أنهم أهل العجب بأنفسهم. 8 - أنهم ملائكة واقفون عليها يعرفون كلا بسيماهم، وإذا أورد عليهم أن الملائكة لا تتصف بالرجولية والانوثية قالوا: إنهم يتشكلون بأشكال الرجال. 9 - أنهم الانبياء عليهم السلام يقامون عليها تمييزا لهم على سائر الناس ولانهم شهداء عليهم. 10 - أنهم عدول الامم الشهداء على الناس يقومون عليها للشهادة على أممهم. 11 - أنهم قوم صالحون فقهاء علماء. 12 - أنهم العباس وحمزة وعلي وجعفر يجلسون على موضع من الصراط يعرفون محبيهم ببياض الوجوه، ومبغضيهم بسوادها ذكر الآلوسي في روح المعاني أن هذا

[ 127 ]

القول رواه الضحاك عن ابن عباس. قال في المنار: ولم نره في شئ من كتب التفسير المأثور، والظاهر أنه نقله عن تفاسير الشيعة وفيه أن أصحاب الاعراف يعرفون كلا من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم فيميزون بينهم أو يشهدون عليهم فأي فائدة في تمييز هؤلاء السادة على الصراط لمن كان يبغضهم من الامويين ومن يبغضون عليا خاصه من المنافقين والنواصب ؟ وأين الاعراف من الصراط ؟ هذا بعيد عن نظم الكلام وسياقه جدا (انتهى). أقول: أما الرواية فلا توجد في شئ من تفاسير الشيعة بطرقهم إلى الضحاك، وقد نقله في مجمع البيان عن الثعلبي في تفسيره بإسناده عن الضحاك عن ابن عباس، وسيأتي ما في روايات الشيعة في رجال الاعراف في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى. وأما طرحه الرواية فهو في محله غير أن الذي استند إليه في طرحها ليس في محله فإنه يكشف عن نحو السلوك الذي يسلكه في الابحاث المتعلقة بالمعاد فإنه يقيس نظام الوقائع التي يقصها القرآن والحديث ليوم القيامة إلى النظام الجاري في النشأة الدنيوية، ويعده من نوعه فيوجه منها ما لاح سبب وقوعه، ويبقى ما لا ينطبق على النظام الدنيوي على الجمود وهو الجزاف في الارادة فافهم ذلك. ولو جاز أن يغني تمييز أهل الاعراف عن تمييز أهل الصراط فتبطل فائدته فيبطل بذلك أصله - كما ذكره - لاغنى الصراط نفسه عن تمييز أهل الاعراف، وأغنى عن المسألة والحساب، ونشر الدواوين، ونصب الموازين، وحضور الاعمال، وإقامة الشهود وإنطاق الاعضاء، ولاغنى بعض هذه عن بعض، ووراء ذلك كله إحاطة رب العالمين فعلمه يغني عن الجميع، وهو لا يسأل عما يفعل. وكأنه فرض أن نسبة الاعراف وهي أعالي الحجاب من الصراط الممدود هناك كنسبة السور والحائط الذي عندنا إلى الصراط الممدود الذي يسلكه الطراق السالكون لا يجتمع هيهنا الصراط والسور ولا يتحدان فلا يسع لاحد أن يكون سالك صراط أو واقفا عليه وواقفا على السور معا في زمان واحد، ولذلك قال: وأين الصراط من الاعراف ؟ فقاس ما هناك إلى ما هيهنا، وقد عرفت فساده. ثم الوارد في ظواهر الحديث أن الصراط جسر ممدود على النار يعبر منه أهل

[ 128 ]

المحشر من موقفهم إلى الجنة فينجي الله الذين آمنوا ويسقط الظالمون من الناس في النار فما المانع من أن يكون الحجاب الموعود مضروبا عليه والاعراف في الحجاب ؟. على أنه فات منه أن أحد الاقوال في معنى الاعراف أنه الصراط كما رواه الطبري في تفسيره عن ابن مسعود ورواه في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن ابن جريح قال: زعموا أنه الصراط. وأما قوله: " هذا بعيد عن نظم الكلام وسياقه جدا " فأوضح فسادا فسياق هذه الانباء الغيبية والنظم المأخوذ فيها يذكر لنا أمورا بنعوت عامة وبيانات مطلقة معانيها معلومة، وحقائقها مبهمة مجهولة إلا المقدار الذي تهدي إليه بياناته تعالى، ويوضع بعض أجزائه بعضا، ولا يأبى ذلك أن يقصد ببعض النعوت المذكورة فيها رجال معينون بأشخاصهم إذا انطبقت عليهم الاوصاف المذكورة فيها، ولا أن ينطبق بعض البيانات على بعض في موارد مع تعدد البيان لفظا كالعدل والميزان مثلا. فهذه اثنا عشر قولا ويمكن أن يضاف إلى عدتها قولان آخران: أحدهما: أنهم المستضعفون ممن لم تتم عليهم الحجة ولم يتعلق بهم التكليف كالضعفاء من الرجال والنساء والاطفال غير البالغين، ويمكن أن يدرج في القول الثاني المتقدم بأن يقال: إنهم الذين لا تترجح أعمالهم من الحسنات أو السيئات على خلافها سواء كان ذلك لعدم تمام الحجة فيهم وتعلق التكليف بهم حتى يحاسبوا عليه كالاطفال والمجانين وأهل الفترة ونحوهم أو لاجل استواء حسناتهم وسيئاتهم في القدر والوزن فحكم القسمين واحد. الثاني: أنهم الذين خرجوا إلى الجهاد من غير إذن آبائهم فاستشهدوا فيها فهم من أهل النار لمعصيتهم ومن أهل الجنة لشهادتهم وعليه رواية، ويمكن إدراجه في القول الثاني. والاقوال المذكورة غير متقابلة جميعا في الحقيقة فإن القول بكونهم أهل الفترة والقول بكونهم أولاد الكفار إنما ملاكهما عدم ترجح شئ من الحسنات والسيئات على الآخر فيرجعان بوجه إلى القول الثاني، وكذا القول بكونهم أولاد الزنا نظرا إلى أنهم لا مؤمنون ولا كفار، وكذا رجوع القول التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني

[ 129 ]

عشر إلى القول الاول بوجه. فاصول الاقوال في رجال الاعراف ثلاثة: أحدها: أنهم رجال من أهل المنزلة والكرامة على اختلاف بينهم في أنهم من هم ؟ فقيل: هم الانبياء، وقيل: الشهداء على الاعمال، وقيل: العلماء الفقهاء، وقيل: غير ذلك كما مر. والثاني: أنهم الذين لا رجحان في أعمالهم للحسنة على السيئة وبالعكس على اختلاف منهم في تشخيص المصداق. والثالث: أنهم من الملائكة، وقد مال الجمهور إلى الثاني من الاقوال، وعمدة ما استندوا إليه في ذلك أخبار مأثورة سنوردها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله. وقد عرفت أن الذي يعطيه سياق الآيات هو الاول من الاقوال حتى أن بعضهم مع تمايله إلى القول الثاني لم يجد بدا من بعض الاعتراف بعدم ملاءمة سياق الآيات ذلك كالآلوسي في روح المعاني. قوله تعالى: " ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون " المنادون هم الرجال الذين على الاعراف - على ما يعطيه السياق - وقوله: " أن سلام عليكم " يفسر ما نادوا به، وقوله: " لم يدخلوها وهم يطمعون " جملتان حاليتان فجملة " لم يدخلوها " من أصحاب الجنة، وجملة " وهم يطمعون " حال آخر من أصحاب الجنة والمعنى: أن أصحاب الجنة نودوا وهم في حال لم يدخلوا الجنة بعد وهم يطمعون في أن يدخلوها، أو حال من ضمير الجمع في " لم يدخلوها " وهو العامل فيه، والمعنى أن أصحاب الجنة نودوا بذلك وهم في الجنة لكنهم لم يدخلوا الجنة على طمع في دخولها لان ما شاهدوه من أهوال الموقف ودقة الحساب كان أيأسهم من أن يفوزوا بدخول الجنة لكن قوله بعد: " أ هؤلاء الذين " إلى آخر الآية يؤيد أول الاحتمالين وأنهم إنما سلموا عليهم قبل دخولهم الجنة. وأما احتمال أن تكون الجملتان حالين من ضمير الجمع في نادوا فيوجب سقوط الجملة عن الافادة كما هو ظاهر، وذلك لرجوع المعنى إلى أن هؤلاء الرجال الذين هم

[ 130 ]

على أعراف الحجاب بين الجنة والنار نادوا وهم لم يدخلوا. وعلى من يميل إلى أن يجعل قوله: " لم يدخلوها وهم يطمعون " بيانا لحال أصحاب الاعراف أن يجعل قوله: " لم يدخلوها " استئنافا يخبر عن حال أصحاب الاعراف أو صفة لرجال والتقدير: وعلى الاعراف رجال لم يدخلوها وهم يطمعون وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا.. الخ كما نقل عن الزمخشري في الكشاف. لكن يبعد الاستئناف أن اللازم حينئذ إظهار الفاعل في قوله: " لم يدخلوها " دون إضماره لمكان اللبس كما فعل ذلك في قوله: " ونادى أصحاب الاعراف رجالا " الخ، ويبعد الوصفية الفصل بين الموصوف والصفة بقوله: " ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم " من غير ضرورة موجبة. وهذا التقدير الذي تقدم أعني رجوع معنى قوله: " لم يدخلوها وهم يطمعون وإذا صرفت أبصارهم " إلى آخر الآية، إلى قولنا: وعلى الاعراف رجال يطمعون في دخول الجنة ويتعوذون من دخول النار - على ما زعموا - هو الذي مهد لهم الطريق وسواه للقول بأن أصحاب الاعراف رجال استوت حسناتهم وسيئاتهم فلم يترجح لهم أن يدخلوا الجنة أو النار فاوقفوا على الاعراف. لكنك عرفت أن قوله: " لم يدخلوها " الخ، حال أصحاب الجنة لا وصف أصحاب الاعراف، وأما قوله: " وإذا صرفت أبصارهم " الخ، فسيأتي ما في كونه بيانا لحال أصحاب الاعراف من الكلام. قوله تعالى: " وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين " التلقاء كالبيان مصدر لقي يلقى ثم استعمل بمعنى جهة اللقاء، وضمير الجمع في قوله: " أبصارهم " وقوله: " قالوا " عائد إلى " رجال " والتعبير عن النظر إلى أصحاب النار بصرف أبصارهم إليه كان الوجه فيه أن الانسان لا يحب إلقاء النظر إلى ما يؤلمه النظر إليه وخاصة في مثل المورد الذي يشاهد الناظر فيه أفظع الحال وأمر العذاب وأشقه الذي لا يطاق النظر إليه غير أن اضطراب النفس وقلق القلب ربما يفتح العين نحوه للنظر إليه كأن غيره هو الذي صرف نظره إليه وإن كان الانسان لو خلي وطبعه لم يرغب في النظر ولو بوجه نحوه، ولذا قيل: " وإذا صرفت أبصارهم " الخ ولم يقل

[ 131 ]

وإذا نظروا إليه أو ما يفيد مفاده. ومعنى الآية: وإذا نظر أصحاب الاعراف أحيانا إلى أصحاب النار تعوذوا بالله من أن يجعلهم مع أصحاب النار فيدخلهم النار، وقالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين. وليس دعاؤهم هذا الدعاء دالا على سقوط منزلتهم، وخوفهم من دخول النار كما يدل على رجائهم دخول الجنة قوله " وهم يطمعون " وذلك أن ذلك مما دعا به أولوا العزم من الرسل والانبياء المكرمون والعباد الصالحون وكذا الملائكه المقربون فلا دلالة فيه ولو بالاشعار الضعيف على كون الداعي ذا سقوط في حالة وحيره من أمره. هذا ما فسروا به الآية بإرجاع ضميري الجمع إلى رجال. لكنك خبير بأن ذلك لا يلائم الاظهار الذي في مفتتح الآية التالية في قوله: " ونادى أصحاب الاعراف " إذ الكلام في هذه الآيات الاربع جار في أوصاف أصحاب الاعراف وأخبارهم كقوله: " يعرفون كلا " الخ، وقوله: " ونادوا أصحاب الجنة " الخ وقوله: " لم يدخلوها " الخ، على احتمال، وقوله: " وإذا صرفت أبصارهم " الخ، فكان من اللازم أن يقال: " ونادوا - أي أصحاب الاعراف - رجالا يعرفونهم " الخ، وليس في الكلام أي لبس ولا نكتة ظاهرة توجب العدول من الاضمار الذي هو الاصل في المقام إلى الاظهار بمثل قوله: " ونادى أصحاب الاعراف ". فالظاهر أن ضميري الجمع أعني ما في قوله " أبصارهم " وقوله " قالوا " راجعان إلى أصحاب الجنة، والجملة إخبار عن دعائهم إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار كما أن الجملة السابقة بيان لطمعهم في دخول الجنة، وكل ذلك قبل دخولهم الجنة. قوله تعالى: " ونادى أصحاب الاعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم " إلى آخر الآية، في توصيف الرجال بقوله: " يعرفونهم بسيماهم " دلالة على أن سيماءهم كما يدلهم على أصل كونهم من أصحاب الجنة يدلهم على أمور أخر من خصوصيات أحوالهم، وقد مرت الاشارة إليه. وقوله: " قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون " تقريع لهم وشماتة، وكشف عن تقطع الاسباب الدنيوية عنهم فقد كانوا يستكبرون عن الحق ويستذلونه ويغترون بجمعهم.

[ 132 ]

قوله تعالى: " أ هؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة " إلى آخر الآية. الاشارة إلى أصحاب الجنة، والاستفهام للتقرير أي هؤلاء هم الذين كنتم تجزمون قولا أنهم لا يصيبهم فيما يسلكونه من طريق العبودية خير، وإصابة الخير هي نيله تعالى إياهم برحمة ووقوع النكرة - برحمة - في حيز النفي يفيد استغراق النفي للجنس، وقد كانوا ينفون عن المؤمنين كل خير. وقوله: أدخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، أمر من أصحاب الاعراف للمؤمنين أن يدخلوا الجنة بعد تقرير حالهم بالاستفهام، وهذا هو الذي يفيده السياق. وقول بعضهم في الآية: إنها بتقدير القول أي قيل لهم من قبل الرحمان: أدخلوا الجنة لا خوف عليكم مما يكون في مستقبل أمركم، ولا أنتم تحزنون من شئ ينغص عليكم حاضركم، وحذف القول للعلم به من قرائن الكلام كثير في التنزيل وفي كلام العرب الخلص (انتهى). مدفوع بعدم مساعدة السياق ودلالة القرائن عليه بوجه كما تقدم بيانه، وليس إذا جاز تقدير القول في محل لتبادر معناه من الكلام جاز ذلك في أي مقام أريد، وأي سياق أم أية قرينة تدل على ذلك في المقام ؟. (كلام في معنى الاعراف في القرآن) لم يذكر الاعراف في القرآن إلا في هذه الآيات الاربع من سورة الاعراف (46 - 49) وقد استنتج باستيفاء البحث في الآيات الشريفة أنه من المقامات الكريمة الانسانية التي تظهر يوم القيامة وقد مثله الله سبحانه بأن بين الدارين دار الثواب ودار العقاب حجابا يحجز إحداهما من الاخرى - والحجاب بالطبع خارج عن حكم طرفية في عين أنه مرتبط بهما جميعا - وللحجاب أعراف وعلى الاعراف رجال مشرفون على الناس من الاولين والآخرين يشاهدون كل ذي نفس منهم في مقامه الخاص به على اختلاف مقاماتهم ودرجاتهم ودركاتهم من أعلى عليين إلى أسفل سافلين، ويعرفون كلا منهم بما له من الحال الذي يخصه والعمل الذي عمله، لهم أن يكلموا من شاؤوا منهم، ويؤمنوا من شاؤوا، ويأمروا بدخول الجنة بإذن الله. ويستفادوا من ذلك أن لهم موقفا خارجا من موقفي السعادة التي هي النجاة

[ 133 ]

بصالح العمل، والشقاوة التي هي الهلاك بطالح العمل، ومقاما أرفع من المقامين معا ولذلك كان مصدرا للحكم والسلطة عليهما جميعا. ولك أن تعتبر في تفهم ذلك بما تجده عند الملوك ومصادر الحكم فهناك جماعة منعمون بنعمتهم مشمولون لرحمتهم يستدرون ضرع السعادة بما تشتهيه أنفسهم، وآخرون محبوسون في سجونهم معذبون بأليم عذابهم قد احاط بهم هوان الشقاوة من كل جانب فهذان ظرفان ظرف السعادة وظرف الشقاوة، والظرفان متمائزان لا يختلطان بظرف آخر ثالث يحكم فيهما ويصلح شأن كل منهما وينظم أمره وفي هذا الظرف قوم خدمة يخدمون العرش بمداخلتهم الجانبين وإهداء النعم إلى أهل السعادة، وإيصال النقم إلى أهل الشقاوة، وهم مع ذلك من السعداء، وقوم آخر وراء الخدمة والعمال هم المدبرون لامر الجميع وهم أقرب الوسائط من العرش، وهم أيضا من السعداء فللسعادة مراتب من حيث الاطلاق والتقييد. وليس من الممتنع على ملك يوم الدين أن يخص قوما برحمته فيدخلهم بحسناتهم الجنة ويبسط عليهم بركاته بما أنه الغفور ذو الفضل العظيم، ويدخل آخرين في ناره ودار هوانه بما عملوه من سيئاتهم وهو عزيز ذو انتقام شديد العقاب ذو البطش، ويأذن لطائفة ثالثة أن يتوسطوا بينه وبين الفريقين بإجراء أو امره وأحكامه فيهم أو إصدارها عليهم بإسعاد من سعد منهم وإشقاء من شقي فإنه الواحد القهار الذي يقهر بوحدته كل شئ كما شاء بتوسيط أو إسعاد أو إشقاء، وقد قال تعالى: " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " فافهم. قوله تعالى: " ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا " الخ، الافاضة من الفيض وهو سيلان الماء منصبا، قال تعالى: " ترى أعينهم تفيض من الدمع " أي يسيل دمعها منصبا، وعطف سائر ما رزقهم الله من النعم على الماء يدل على أن المراد بالافاضة صب مطلق النعم أعم من المائع وغيره على نحو عموم المجاز، وربما قيل: إن الافاضة حقيقة في إعطاء النعمة الكثيرة فيكون تعليقه على الماء وغيره حقيقة حينئذ. وكيف كان ففي الآية إعار بعلو مكانة أهل الجنة بالنسبة إلى مكان أهل النار. وإنما أفرز الماء وهو من جملة ما رزقهم الله ثم قدم في الذكر على سائر ما رزقهم

[ 134 ]

الله لان الحاجة إلى بارد الماء أسبق إلى الذهن طبعا بالنسبة إلى غيره عند ما تحيط الحرارة بالانسان، ومعنى الآية ظاهر. قوله تعالى: " الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا " إلى آخر الآية. اللهو ما يشغلك عما يهمك، واللعب الفعل المأتي به لغاية خيالية غير حقيقية، والغرور إظهار النصح واستبطان الغش، والنسيان يقابل الذكر، وربما يستعار لترك الشئ وعدم الاعتناء بشأنه كالشئ المنسي، وعلى ذلك يجري في الآية، والجحد النفي والانكار، والآية مسوقة لتفسير الكافرين، ويستفاد منها تفسيرات ثلاثة للكفر: أولها: أنه اتخاذ الانسان دينه لهوا ولعبا وغرور الحياة الدنيا له، والثاني: نسيان يوم اللقاء، والثالث: الجحد بآيات الله، ولكل من التفاسير وجه. وفي قوله تعالى: " الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا " دلالة على أن الانسان لا غنى له عن الدين على أي حال حتى من اشتغل باللهو واللعب ومحض حياته فيها محضا فإن الدين كما تقدمت الاشارة إليه في تفسير قوله: " الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا " الآية - هو طريق الحياة الذي يسلكه الانسان في الدنيا، ولا محيص له عن سلوكه، وقد نظمه الله سبحانه بحسب ما تهدى إليه الفطرة الانسانية ودعت إليه، وهو دين الانسان الذي يخصه وينسب إليه، وهو الذي يهم الانسان ويسوقه إلى غاية حقيقية هي سعادة حياته. فحيث جرى عليه الانسان وسلكه كان على دينه الذي هو دين الله الفطري، وحيث اشتغل عنه إلى غيره الذي يلهو عنه ولا يهديه إلا إلى غايات خيالية وهي اللذائذ المادية التي لا بقاء لها ولا نفع فيها يعود إلى سعادته فقد اتخذ دينه لهوا ولعبا وغرته الحياة الدنيا بسراب زخارفها. وقوله تعالى: " فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا " أي اليوم نتركهم ولا نقوم بلوازم حياتهم السعيدة كما تركوا يومهم هذا فلم يقوموا بما يجب أن يعملوا له وبما كانوا بآياتنا يجحدون ونظير الآية في جعل تكذيب الآيات سببا لنسيان الله له يوم القيامة قوله: " قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى " طه: 126، وقد بدل هناك الجحد نسيانا.

[ 135 ]

قوله تعالى: " ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم " الآية عود على بدء الكلام أعني قوله في أول الآيات: " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته " أي من أعظم من هؤلاء ظلما ولقد أتممنا عليهم الحجة وأقمنا لهم البيان فجئناهم بكتاب فصلناه وأنزلناه إليهم على علم منا بنزوله. فقوله: " على علم " متعلق بقوله: " لقد جئناهم " والكلمة تتضمن احتجاجا على حقية الكتاب والتقدير: ولقد جئناهم بكتاب حق: وكيف لا يكون حقا ؟ وقد نزل على علم منا بما يشتمل عليه من المطالب. وقوله: " هدى ورحمة لقوم يؤمنون " أي هدى وإراءة طريق للجميع ورحمة للمؤمنين به خاصة، أو هدى وإيصالا بالمطلوب للمؤمنين ورحمة لهم، والاول أنسب بالمقام وهو مقام الاحتجاج. قوله تعالى: " هل ينظرون إلا تأويله " إلى آخر الآية. الضمير في تأويله راجع إلى الكتاب وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات " الآية: آل عمران: 7 أن التأويل في عرف القرآن هو الحقيقة التي يعتمد عليها حكم أو خبر أو أي أمر ظاهر آخر اعتماد الظاهر على الباطن والمثل على المثل. فقوله: " هل ينظرون إلا تأويله " معناه هل ينتظر هؤلاء الذين يفترون على الله كذبا أو يكذبون بآياته وقد تمت عليهم الحجة بالقرآن النازل عليهم، إلا حقيقة الامر التي كانت هي الباعثة على سوق بياناته وتشريع أحكامه والانذار والتبشير الذين فيه فلو لم ينتظروه لم يتركوا الاخذ بما فيه. ثم يخبر تعالى عن حالهم في يوم إتيان التأويل بقوله: يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه الخ، إي إذا انكشفت حقيقة الامر يوم القيامة يعترف التاركون له بحقية ما جاءت به الرسل من الشرائع التي أوجبوا العمل بها، وأخبروا أن الله سيبعثهم ويجازيهم عليها. وإذ شاهدوا عند ذلك إنهم صفر الايدي من الخير، هالكون بفساد أعمالهم سألوا أحد أمرين يصلح به ما فسد من أمرهم أما شفعاء ينجونهم من الهلاك الذي أطل عليهم أو أنفسهم، بأن يردوا إلى الدنيا فيعملوا صالحا غير الذي كانوا يعملونه من السيئات وذلك قوله حكاية عنهم: " فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي

[ 136 ]

كنا نعمل " ؟. وقوله تعالى: " قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون " فصل في معنى التعليل لما حكي عنهم من سؤال أحد أمرين: إما الشفعاء وإما الرد إلى الدنيا كأنه قيل: لماذا يسألون هذا الذي يسألون ؟ فقيل: " قد خسروا أنفسهم " فيما بدلوا دينهم لهوا ولعبا، واختاروا الجحود على التسليم وقد زال عنهم الافتراءات المضلة التي كانت تحجبهم عن ذلك في الدنيا فبان لهم أنهم في حاجة إلى من يصلح لهم أعمالهم إما أنفسهم أو غيرهم ممن يشفع لهم. وقد تقدم في مبحث الشفاعة في الجزء الاول من الكتاب أن في قوله: " فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا " دلالة على أن هناك شفعاء يشفعون للناس إذ قال: من شفعاء، ولم يقل: من شفيع فيشفع لنا. (بحث روائي) في الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال في قوله تعالى: " وما أضلنا إلا المجرمون " إذ دعوهم إلى سبيلهم ذلك قول الله عزوجل فيهم إذ جمعهم إلى النار: " قالت أخراهم لاولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار " وقوله: " كلما دخلت أمة لعنت اختها حتى إذا اداركوا فيها يتبرء بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضا يريد أن بعضهم يحج بعضا رجاء الفلج فيفلتوا من عظيم ما نزل بهم، وليس بأوان بلوى ولا اختبار ولا قبول معذرة ولا حين نجاة. أقول: وقوله عليه السلام: قوله كلما دخلت أمة " الخ " نقل للآية بالمعنى. وفي الدر المنثور في قوله تعالى: " لا تفتح لهم أبواب السماء " أخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا يفتح لهم " بالياء. وفيه أخرج الطيالسي وابن شيبة وأحمد وهناد بن السري وعبد بن حميد وأبو داود في سننه وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في كتاب عذاب القبر عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنازة رجل من الانصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجلسنا حوله وكأن على

[ 137 ]

رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به الارض فرفع رأسه فقال: استعيذوا من عذاب القبر مرتين أو ثلاثا. ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم أكفان من كفن الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ثم يجئ ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان فتخرج تسيل كما تسيل القطر من في السقاء وإن كنتم ترون غير ذلك فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط فتخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الارض فيصعدون بها فلا يمرون على ملاء من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب ؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فتفتح لهم فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهى به إلى السماء السابعة فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الارض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فيعاد روحه في جسده. فيأتيه الملكان فيجلسان فيقولان له: من ربك ؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك ؟ فيقول: ديني الاسلام فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول: هو رسول الله فيقولان له: وما علمك ؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد ! فيقول له: من أنت ؟ فوجهك الوجه يجئ بالخير. فيقول: أنا عملك الصالح فيقول: رب أقم الساعة أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي. قال: وإن العبد الكافر إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجئ ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله

[ 138 ]

وغضب فيفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها. فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الارض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملا من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث ؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فلا تفتح له. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تفتح لهم أبواب السماء. فيقول الله عزوجل: اكتبوا كتابه في سجين في الارض السفلى فيطرح روحه طرحا. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق. فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسان فيقولان له: من ربك ؟ فيقول: هاه، هاه، فيقولان له: ما دينك ؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري ! فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري ! فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فافرشوا له من النار، وافتحوا له بابا إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه القبر حتى تختلف فيه أضلاعه. ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول: من أنت فوجهك ؟ الوجه يجئ بالشر فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة أقول: والرواية من المشهورات رواها جمع من المؤلفين في كتبهم كما رأيت، وفي معناها روايات من طرق الشيعه عن أئمة اهل البيت عليهم السلام أودعنا بعضها في البحث الروائي الموضوع في ذيل قوله تعالى: " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله اموات " الخ، البقره: 154، في الجزء الاول من الكتاب. وفي تفسير العياشي عن سعيد بن جناح قال حدثني عوف بن عبد الله الازدي عن جابر بن يزيد الجعفي عن أبى جعفر عليه السلام في حديث قبض روح الكافر فإذا أوتي بروحه إلى السماء الدنيا أغلقت منه أبواب السماء، وذلك قوله: " لا تفتح لهم أبواب " إلى آخر الآية. يقول الله: ردوها عليه فمنها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم

[ 139 ]

تارة أخرى. أقول: وروي ما في معناه في المجمع عنه عليه السلام. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلا هذه الآية: " لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش " قال: هي طبقات من فوقه، وطبقات من تحته لا يدري ما فوقه أكبر أو ما تحته ؟ غير أنه ترفعه الطبقات السفلى وتضعه الطبقات العليا، ويضيق عليهما حتى يكون بمنزلة الزج في القدح. وفيه أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن علي ابن طالب قال: فينا والله أهل بدر نزلت هذه الآية: " ونزعنا ما في صدورهم من غل ". أقول: وقوع الجملة في سياق هذه الآيات وهي مكية يأبى نزولها يوم بدر أو في أهل بدر، وقد وقعت الجملة ايضا في قوله تعالى: " ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين " الحجر: 47، وهي أيضا في سياق آيات أهل الجنة، وهي مكية. وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا فيدخلون الجنة وليس في قلوب بعضهم على بعض غل. وفيه أخرج النسائي وابن أبي الدنيا وابن جرير في ذكر الموت وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كل إهل النار يرى منزله من الجنة يقول: لو هدانا الله، فيكون حسرة عليهم، وكل أهل الجنة يرى منزله من النار فيقول - لو لا أن هدانا الله، فهذا شكرهم. وفيه أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والدارمي ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " ونودوا ان تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون " قال: نودوا أن صحوا فلا تسقموا، وأنعموا فلا تيأسوا، وشبوا فلا تهرموا، واخلدوا فلا تموتوا. اقول: وفي معنى وراثة الجنة أخبار أخر سيأتي إن شاء الله. وفي الكافي وتفسير القمي بإسنادهما عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا عليه السلام في قوله تعالى: " وأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين " قال المؤذن أمير المؤمنين عليه السلام.

[ 140 ]

أقول: ورواه العياشي عنه عليه السلام ورواه في روضة الواعظين عن الباقر عليه السلام قال: المؤذن علي عليه السلام. وفي المعاني بإسناده عن جابر الجعفي عن أبي جعفر محمد بن على عليه السلام قال: خطب أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السلام بالكوفة منصرفه من النهروان وبلغه أن معاوية يسبه ويعيبه ويقتل أصحابه فقام خطيبا، وذكر الخطبة إلى أن قال فيها: وأنا المؤذن في الدنيا والآخرة قال الله عزوجل: " فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين " أنا ذلك المؤذن، قال: " وأذان من الله ورسوله " أنا ذلك الاذان. أقول أي أنا المؤذن بذلك الاذان بقرينة صدر الكلام ويشير عليه السلام به إلى قصة آيات البراءه. وفي المجمع روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن محمد بن الحنفية عن علي أنه قال: أنا ذلك المؤذن. وبإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال: لعلي في كتاب الله أسماء لا يعرفها الناس قوله: فإذن مؤذن بينهم يقول: ألا لعنة الله على الذين كذبوا بولايتي واستخفوا بحقي. أقول: قال الآلوسي في روح المعاني في قوله تعالى: " فأذن مؤذن " الآية. هو على ما روي عن ابن عباس صاحب الصور، وقيل: مالك خازن النار، وقيل: ملك من الملائكة غيرهما يأمره الله تعالى بذلك، ورواية الامامية عن الرضا وابن عباس أنه علي كرم الله وجهه مما يثبت من طريق أهل السنة وبعيد عن هذا الامام أن يكون مؤذنا وهو إذ ذاك في حظائر القدس (انتهى). وقال صاحب المنار في تفسيره بعد نقله عنه: وأقول: إن واضعي كتب الجرح والتعديل لرواة الآثار لم يضعوها على قواعد المذاهب، وقد كان في أئمتهم من يعد في شيعة علي وآله كعبد الرزاق والحاكم، وما منهم أحد إلا وقد عدل كثيرا من الشيعة في روايتهم، فإذا ثبت هذه الرواية بسند صحيح قبلنا ولا نرى كونه في حظائر القدس مانعا منها، ولو كنا نعقل لاسناد هذا التأذين إليه كرم الله وجهه معنى يعد به فضيلة أو مثوبة عند الله تعالى لقبلنا الرواية بما دون السند الصحيح ما لم يكن موضوعا أو معارضا برواية أقوى سندا أو أصح متنا (انتهى).

[ 141 ]

ولقد أجاد فيما أفاد غير أن الآحاد من الروايات لا تكون حجة عندنا إلا إذا كانت محفوفة بالقرائن المفيدة للعلم أعني الوثوق التام الشخصي سواء كانت في أصول الدين أو التاريخ أو الفضائل أو غيرها إلا في الفقه فإن الوثوق النوعي كاف في حجية الرواية كل ذلك بعد عدم مخالة الكتاب والتفصيل موكول إلى فن أصول الفقه. وأما كون هذا التأذين فضيلة فلا ينبغي الارتياب فيه وليعتبر التأذين الاخروي بالتأذين الدنيوي فالتأذين هو إعلام الحكم من قبل صاحبه ليستقر على المحكومين فالمؤذن هو الرابطة يربط صاحب الحكم بالمحكومين بتقرير حكمه عليهم والرابطة في شرفها وخستها يتبع الطرفين، ومن الواضح أن الطرف إذا كان هو الله عز اسمه كان في ذلك من الشرف والكرامة ما لا يعادله شئ كما في وساطة إبراهيم عن الله سبحانه في قوله: " وأذن في الناس بالحج " الحج: 27، ووساطة علي عليه السلام في إبلاغ آيات البراءة: " وأذان من الله ورسوله إلى الناس " الخ، براءة: 3، هذا في الاذان والاعلام التشريعي الذي يستقر به حكم الحاكم على المحكومين به، وأما الاذان غير التشريعي كما في أذان يوم القيامة أن لعنة الله على الظالمين ففيه استقرار البعد التام واللعن المطلق الدائم على الظالمين بعد إشهادهم حقيه الوعد الالهي الذي بلغهم منه تعالى من طريق أنبيائه ورسله، وفيه تثبيت ما في ظهور حقائق الوعد والوعيد للظالمين من النتيجة العائدة إليهم فافهم ذلك ولا يهونن عليك أمر الحقائق، ولا تساهل في البحث عنها إن كنت ذا قدم فيه. وهذا هو الذي يشير إليه علي عليه السلام نفسه فيما مر من خطبته إذ قال: وأنا المؤذن في الدنيا والآخرة. والرواية - كما تقدم - مروية بطرق متعددة من الشيعة عن علي والباقر والرضا عليهم السلام من طرق أهل السنة ما رواه الحاكم بإسناده عن ابن الحنفية عن علي وبإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس والرجل جيد الرواية ضابط في الحديث ينقل في التفاسير الروائية وغيرها رواياته في التفسير لكنهم لم يذكروا روايته هذه حتى مثل السيوطي الذي يستوفي في الدر المنثور ما رواه في التفسير ترك ذكر الحديث، وما أدري ما هو السبب فيه ؟. وفي الدر المنثور أخرج أبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يوضع الميزان يوم القيامة فيوزن الحسنات والسيئات فمن

[ 142 ]

رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابه دخل الجنه، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابه دخل النار. قيل: يا رسول الله فمن استوى حسناته وسيئاته ؟ قال: أولئك أصحاب الاعراف لم يدخلوها وهم يطمعون. وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أصحاب الاعراف فقال: هم آخر من يفصل بينهم من العباد فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال: أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار ولم تدخلوا الجنة فأنتم عتقائي فارعوا في الجنة حيث شئتم. اقول: وروي القول بكون أهل الاعراف هم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم عن ابن مسعود وحذيفة وابن عباس من الصحابة. وفي الكافي بإسناده عن حمزة الطيار قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: الناس على ستة أصناف - إلى أن قال - قلت: وما أصحاب الاعراف ؟ قال: قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فإن أدخلهم النار فبذنوبهم، وإن أدخلهم الجنة فبرحمته، الحديث. وفيه بإسنتده عن زرارة قال: قال أبو جعفر عليه السلام: ما تقول في أصحاب الاعراف ؟ فقلت: ما هم إلا مؤمنون أو كافرون إن دخلوا الجنة فهم مؤمنون، وإن دخلوا النار فهم كافرون. فقال: والله ما هم بمؤمنين ولا كافرين ولو كانوا مؤمنين لدخلوا الجنة كما دخلها المؤمنون، ولو كانوا كافرين لدخلوا النار كما دخلها الكافرون، ولكنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقصرت بهم الاعمال، وإنهم كما قال الله عزوجل. فقلت: أ من أهل الجنة هم أم من أهل النار ؟ فقال: اتركهم كما تركهم الله. فقلت: أ فأرجئهم ؟ قال: نعم أرجئهم كما أرجأهم الله إن شاء الله أدخلهم الجنة برحمته، وإن شاء ساقهم إلى النار بذنوبهم ولم يظلمهم. فقلت: هل يدخل الجنة كافر ؟ قال: لا. قلت: فهل يدخل النار إلا كافر ؟ فقال: لا إلا أن يشاء الله. يا زرارة إني أقول: ما شاء الله أما إن كبرت رجعت وتحللت عنك عقدك. اقول: قوله عليه السلام: أما إن كبرت الخ، أي إن استعظمت قولي ولم تقبله خرجت عما كنت عليه من الحق وانحل ما عقدت عليه قلبك من التصديق.

[ 143 ]

والروايات - كما ترى - يفسر أصحاب الاعراف بمن استوت حسناتهم وسيئاتهم في الميزان، وفي بعضها أن قوله تعالى: " لم يدخلوها وهم يطمعون " الخ، من كلامهم وهذا لا ينطبق على آيات الاعراف البتة كما مر بيانه. على أنك عرفت فيما تقدم من تفسير قوله تعالى: " والوزن يومئذ الحق " الخ الاعراف: 8، إن الميزان الذي يذكره إما أن يثقل وهو رجحان الحسنات أو يخف وهو رجحان السيئات، ولا معنى حينئذ لاستواء الحسنات والسيئات الذي هو ثقل الميزان وخفته معا ! فلو فرض أن هناك من لا يشخص الميزان رجحان بعض إعماله، على بعض مثلا كان ممن لا يقام له وزن يوم القيامة كالكافر الذي أحبطت أعماله، والمستضعف الذي لم تتم عليه الحجة ولم يتعلق به التكليف. نعم ربما يستفاد من الرواية الاخيرة أن المراد بالذين استوت حسناتهم وسيئاتهم هم المستضعفون المرجون لامر الله إن يشأ يغفر لهم وإن يشأ يعذبهم. فالاستواء كناية عن عدم الرجحان، ويندفع حينئذ إشكال الوزن لكن يبقى الاشكال من جهة الانطباق على ظاهر الآيات وفيها من صفات رجال الاعراف وأصحابه ما لا يتصف به إلا السابقون المقربون المتصدرون في حظيرة الكرامة والسعادة، وهؤلاء المستضعفون إن صح عدهم من أهل السعادة فهم نازلون فئ أنزل منازلها. وفي المجمع قال أبو عبد الله عليه السلام: الاعراف كثبان بين الجنة والنار يوقف عليها كل نبي وكل خليفة مع المذنبين من أهل زمانه كما يقف صاحب الجيش مع الضعفاء من جنده وقد سبق المحسنون إلى الجنة فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه: انظروا إلى إخوانكم المحسنين قد سبقوا فيسلم عليهم المذنبون وذلك قوله: " ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم " ثم أخبر سبحانه وتعالى: أنهم لم يدخلوها وهم يطمعون يعني هؤلاء المذنبين لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون أن يدخلهم الله بشفاعة النبي والامام، وينظر هؤلاء المذنبون إلى أهل النار فيقولون ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين. ثم ينادي أصحاب الاعراف وهم الانبياء والخلفاء رجالا من أهل النار مقرعين لهم ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أ هؤلاء الذين أقسمتم يعني أ هؤلاء المستضعفين الذين كنتم تستضعفونهم وتحتقرونهم بفقرهم وتستطيلون بدنياكم عليهم - ثم يقولون لهؤلاء

[ 144 ]

المستضعفين عن أمر من الله بذلك لهم: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون. أقول: وروي القمي في تفسيره عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن أبي أيوب عن مرثد عن أبي عبد الله عليه السلام ما يقرب منه. وهذه الرواية - كما ترى - تذكر المستضعفين مكان من استوت حسناتهم وسيئاتهم صريحا ثم تذكر أن هناك جماعة من المستضعفين يطمعون في دخول الجنة ويتعوذون من دخول النار من غير أن تفسر بهم الرجال الذين ذكر الله تعالى أنهم على الاعراف يعرفون كلا بسيماهم، ويسميهم أصحاب الاعراف. ويسهل حينئذ انطباق مضمونها على الآيات، ولا يبقى من الاشكال إلا ظهور الآيات في أن المسلم على أهل الجنة هم أصحاب الاعراف والرجال الذين على الاعراف. والظاهر أن في الروايات اختلالا وهو ناشئ عن سوء فهم بعض النقلة ثم النقل ولعل الذي بينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بعض الائمة أن هناك جماعة من المستضعفين يدخلهم الله الجنة بشفاعة أو مشية ثم غيره النقل بالمعنى وأخرجه إلى الصورة التي تراها، وهذا ظاهر كسائر الروايات الواردة عن ابن عباس وابن مسعود وحذيفه وغيرهم القائلة إن الرجال على الاعراف هم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم مع ما فيها من الاختلاف في المتون وكذا رواية القمي عن الصادق عليه السلام فراجعها تعرف صدق ما ادعيناه. وفي البصائر بإسناده عن جابر بن يزيد قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الاعراف ما هم ؟ قال: هم أكرم الخلق على الله تبارك وتعالى. أقول: السائل يأخذ الاعراف والرجال الذين عليه واحدا وعلى ذلك ورد الجواب منه عليه السلام فكأنه أخذ جمعا لعرف بمعنى العريف والعارف وفي هذا المعنى روايات كثيرة يأتي بعضها. وفيه بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام: " وعلى الاعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم " قال: نحن أصحاب الاعراف من عرفنا فمآله إلى الجنة ومن أنكرنا فمآله إلى النار و. أقول: قوله من عرفنا ومن أنكرنا إن كان فعلا وفاعلا فهو، وأن كان فعلا ومفعولا كان على وزان سائر الروايات من عرفهم وعرفوه، ومن أنكرهم وأنكروه.

[ 145 ]

وفيه بإسناده عن الاصبغ بن نباتة قال: كنت عند أمير المؤمنين عليه السلام فقال له رجل: " وعلى الاعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم " فقال له علي عليه السلام: نحن الاعراف نعرف أنصارنا بسيماهم، ونحن الاعراف الذين لا يعرف الله إلا بسبيل معرفتنا ونحن الاعراف نوقف يوم القيامة بين الجنة والنار فلا يدخل الجنة إلا من عرفنا وعرفناه، ولا يدخل النار إلا من أنكرنا وأنكرناه وذلك قول الله عزوجل. لو شاء لعرف الناس نفسه حتى يعرفوا حده ويأتونه من بابه، جعلنا إبوابه وصراطه وسبيله وبابه الذي يؤتى منه. اقول: ورواه أيضا بإسناده عن مقرن عن أبي عبد الله عليه السلام والرجل السائل هو ابن الكواء، وروى هذه القصة أيضا الكليني في الكافي عن مقرن قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: جاء ابن الكواء، الخ. والظاهر إن المراد بالمعرفة والانكار في الرواية المعرفة بالحب والبغض إى لا يدخل الجنة إلا من عرفنا بالولاية وعرفناه بالطاعة، ولا يدخل النار إلا من أنكر ولايتنا وإنكرنا طاعته وهذا غير معرفتهم الجميع باعيانهم، وإلا أشكل انطباقه على قوله تعالى: " رجال يعرفون كلا بسيماهم " وقوله تعالى: " ونادى أصحاب الاعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم " الخ، ولعل ذلك إنما نشأ من نقل بعض الرواة الرواية بالمعنى، ويؤيد ما استظهرناه ما يأتي في الرواية التاليه. وفي المجمع روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده رفعه إلى الاصبغ بن نباتة قال: كنت جالسا عند علي عليه السلام فأتاه ابن الكواء فسأله عن هذه الآية فقال ويحك يا ابن الكواء نحن نوقف يوم القيامة بين الجنة والنار فمن نصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنة ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فإدخلناه النار وفي تفسير العياشي عن هلقام عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن قول الله: " وعلى الاعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم " ما يعني بقوله: " على الاعراف رجال ؟ " قال أ لستم تعرفون عليكم عرفاء على قبائلكم ليعرفوا من فيها من صالح أو طالح ؟ قلت: بلى. قال: فنحن أولئك الرجال الذين يعرفون كلا بسيماهم.

[ 146 ]

اقول: وهو مبني على أخذ الاعراف جمعا للعرف كأقطاب جمع قطب والعرف هو المعروف من الامر ولعله مصدر بمعنى المفعول فمعنى " وعلى الاعراف رجال ": وكل على أمورهم وأحوالهم المعروفة منهم رجال، ولا ينافي ذلك ما تقدم أن الاعراف أعالي الحجاب وكذا ما تقدم في بعض الروايات أن الاعراف كثبان بين الجنة والنار فإن المعرفة التي هي مادة اللفظ حافظة لمعناه في وموارد استعمالها على إي حال. وأعلم أن الاخبار من طرق أئمه أهل البيت عليهم السلام في ما يقرب من هذه المعاني في الاعراف كثيرة جدا، وفيما أوردناه للاشارة إلى أنواع مضامينها في تفسير الاعراف وأصحاب الاعراف كفاية. وفي تفسير البرهان عن الثعلبي في تفسيره عن ابن عباس أنه قال: الاعراف موضع عال من الصراط عليه العباس وحمزة وعلي بن أبي طالب وجعفر ذو الجناحين يعرفون شيعتهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسواد الوجوه اقول: وقد تقدم في البيان السابق نقل الرواية عن مجمع البيان عن تفسير الثعلبي عن الضحاك عن ابن عباس. وفي الدر المنثور أخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده وابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن مالك الهلالي عن إبيه: قال قائل: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أصحاب الاعراف قال: هم قوم خرجوا في سبيل الله بغير إذن آبائهم فاستشهدوا فمنعتهم الشهادة أن يدخلوا النار، ومنعتهم معصية آبائهم إن يدخلوا الجنة فهم آخر من يدخل الجنة. اقول: وهذا المعنى مروي بطرق إخرى عن أبي سعيد الخدري وإبى هريرة وابن عباس وقد تقدم الاشكال عليه بعدم الانطباق على ظاهر الآيات، والاصول المسلمه تعطي إنه إن تعين الخروج وجوبا عينيا لم يؤثر فيه عدم إذن الوالدين، وإن لم يتعين وبقى على الكفاية كان الخروج محرما ولم ينفعه القتل في المعركة إلا أن يكون مستضعفا من جهة الجهل بالحكم فيعود إلى القول بكون أصحاب الاعراف هم المستضعفين ويجري فيه البحث السابق. * * * إن ربكم الله الذي خلق السموات والارض في ستة أيام

[ 147 ]

ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بإمره إلا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين - 54. ادعوا ربكم تضرعا وخفية أنه لا يحب المعتدين - 55. ولا تفسدوا في الارض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين - 56. وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فإخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون - 57. والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون - 58. (بيان) بيان الآيات متصلة بما قبلها مرتبطة بها فإن الآيات السابقة كانت تبين وبال الشرك بالله والتكذيب بآياته وأن ذلك يسوق الانسان إلى هلاك مؤبد وشقاء مخلد وهذه الآيات تعلل ذلك بأن رب الجميع واحد إليه تدبير الكل يجب عليهم أن يدعوه ويشكروا له وتؤكد توحيد رب العالمين من جهتين: إحداهما: أنه تعالى هو الذي خلق السماوات والارض جميعا ثم دبر أمرها بالنظام الاحسن الجاري فيها الرابط بينها جميعا فهو رب العالمين. والثانية: أنه تعالى هو الذي يهيئ لهم الارزاق بإخراج أنواع الثمرات التي يرتزقون بها بخلق ذلك بأعجب الطرق المتخذة لذلك وألطفها وهو الامطار فهو ربهم لا رب سواه.

[ 148 ]

قوله تعالى: " إن ربكم الله الذي خلق السماوات والارض في ستة أيام " سيأتي البحث في معنى السماء والايام الستة التي خلقتا فيها في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله. قوله تعالى: " ثم استوى على العرش - إلى قوله - بأمره " الاستواء الاعتدال على الشئ والاستقرار عليه، وربما استعمل بمعنى التساوى، يقال: استوى زيد وعمرو أي تساويا قال تعالى: " لا يستوون عند الله ". والعرش ما يجلس عليه الملك وربما كني به عن مقام السلطنة، قال الراغب في المفردات: العرش في الاصل شئ مسقف وجمعه عروش قال: " وهي خاوية على عروشها " ومنه قيل: عرشت الكرم وعرشتها إذا جعلت له كهيأة سقف. قال: والعرش شبه هودج للمرأة تشبيها في الهيأة بعرش الكرم، وعرشت البئر جعلت له عريشا، وسمي مجلس السلطان عرشا اعتبارا بعلوه. قال: وعرش الله ما لا يعلمه البشر على الحقيقة إلا بالاسم، وليس كما يذهب إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له - تعالى عن ذلك - لا محمولا والله تعالى يقول: " إن الله يمسك السماوات والارض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من إحد من بعده " وقال قوم: هو الفلك الا على والكرسي فلك الكواكب، واستدل بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما السماوات السبع والارضون السبع في جنب الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة والكرسي عند العرش كذلك (انتهى). وقد استقرت العادة منذ القديم أن يختص العظماء من ولاة الناس وحكامهم ومصادر أمورهم من المجلس بما يختص بهم ويتميزون به عن غيرهم كالبساط والمتكأ حتى آل الامر إلى إيجاد السرر والتخوت فاتخذ للملك ما يسمى عرشا وهو أعظم وأرفع وأخص بالملك، والكرسي يعمه وغيره، واستدعى التداول والتلازم أن يعرف الملك بالعرش كما كان العرش يعرف بالملك في أول الامر فصار العرش حاملا لمعنى الملك ممثلا لمقام السلطنة إليه يرجع وينتهي وفيه تتوحد أزمة المملكة في تدبير أمورها وإدارة شؤونها. واعتبر لاستيضاح ذلك مملكة من الممالك قطنت فيها أمة من الامم لعوامل طبيعية أو اقتصادية أو سياسية استقلوا بذلك في إمرهم وتميزوا من غيرهم فأوجدوا مجتمعا من المجتمعات االانسانية واختلطوا وامتزجوا بالاعمال ونتائجها ثم اقتسموا في

[ 149 ]

التمتع بالنتائج فاختص كل بشئ منها على قدر زنته الاجتماعية. كان من الواجب أن تحفظ هذه الوحدة والاتصال المتكون بالاجتماع بمن يقوم عليها فإن التجربة القطعية أوضحت للانسان أن العوامل المختلفة والاعمال والارادات المتشتتة إذا وجهت نحو غرض واحد وسيرت في مسير واحد لم تدم على نعت الاتحاد والملاءمة إلا أن تجمع أزمه الامور المختلفة في زمام واحد وتوضع في يد من يحفظه ويديم حياته بالتدبير الحسن فتحيى به الجميع وإلا فسرعان ما تتلاشى وتتشتت. ولذلك ترى أن المجتمع المترقي ينوع الاعمال الجزئية نوعا نوعا ثم يقدم زمام كل نوع إلى كرسي من الكراسي كالدوائر والمصالح الجزئية المحلية، ثم ينوع أزمه الكراسي فيعطي كل نوع كرسيا فوق ذلك، وعلى هذا القياس حتى ينتهي الامر إلى زمام واحد يقدم إلى العرش ويهدي لصاحب العرش. ومن عجيب أمر هذا الزمام وانبساطه وسعته في عين وحدته أن الامر الواحد الصادر من هذا المقام يسير في منازل الكراسي التابعه له على كثرتها واختلاف مراتبها فيتشكل في كل منزل بشكل يلائمه ويعرف فيه، ويتصور لصاحبه بصورة ينتفع بها ويأخذها ملاكا لعمله. يقول مصدر الامر " ليجر الامر " فتأخذه المصالح المالية تكليفا ماليا ومصالح السياسية تكليفا سياسيا، ومصالح الجيش تكليفا دفاعيا وعلى هذا القياس كلما صعد أو نزل. فجميع تفاصيل الاعمال والارادات والاحكام المجراة فيها المنبسطة في المملكة وهي لا تحصى كثرة أو لا تتناهى لا تزال تتوحد وتجتمع في الكراسي حتى تنتهي إلى العرش فتتراكم عنده بعضها على بعض وتندمج وتتداخل وتتوحد حتى تصير واحدا هو في وحدته كل التفاصيل فيما دون العرش، وإإذا سار هذا الواحد إلى ما دون ه لم يزل يتكثر ويتفصل حتى ينتهي إلى أعمال أشخاص المجتمع وإراداتهم. هذا في النظام الوضعي الاعتباري الذي عندنا، وهو لا محالة مأخوذ من نظام التكوين، والباحث عن النظام الكوني يجد أن الامر فيه على هذه الشاكلة، فالحوادث الجزئية تنتهي إلى علل وأسباب جزئية، وتنتهي هي إلى أسباب أخرى كلية حتى تنتهي الجميع إلى الله سبحانه غير أن الله سبحانه مع كل شئ وهو محيط بكل شي، وليس

[ 150 ]

كذلك الملك من ملوكنا لحقيقية ملكه تعالى واعتبارية ملك غيره. ففي عالم الكون على اختلاف مراحل مرحله تنتهي إليها جميع أزمة الحوادث الملقاة على كواهل الاسباب، وأزمة الاسباب على اختلاف أشخاصها وأنواعها، وترتب مراتبها هو المسمى عرشا كما سيجئ، وفيه صور الامور الكونية المدبرة بتدبير الله سبحانه كيفما شاء، وعنده مفاتح الغيب. فقوله تعالى: " ثم استوى على العرش " كناية عن استيلائه على ملكه وقيامه بتدبير الامر قياما ينبسط على كل ما دق وجل، ويترشح منه تفاصيل النظام الكوني ينال به كل ذي بغية بغيته، وتقضي لكل ذي حاجة حاجته، ولذلك عقب حديث الاستواء في سورة يونس في مثل الآية بقوله: " يدبر الامر " إذ قال: " ثم استوى على العرش يدبر الامر " يونس: 3. ثم فصل بقوله: " يغشي الليل النهار " ويستره به " يطلبه " أي يطلب الليل النهار ليغشيه ويستره " حثيثا " أي طلبا حثيثا سريعا، وفيه إشعار بأن الظلمة هي الاصل، والنهار الذي يحصل من إنارة الشمس ما يواجهها مما حولها، عارض لليل الذي هو الظلمة المخروطية اللازمة لاقل من نصف كرة الارض المقابل للجانب المواجه للشمس كأن الليل يعقبه ويهجم عليه. وقوله: " والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره " أي خلقهن والحال أنها مسخرات بأمره يجرين على ما يشاء ولما يشاء وقرئ الجميع بالرفع، وعلى ذلك فالشمس مبتدء والقمر والنجوم معطوفة عليها، ومسخرات خبره، والباء في قوله: " بأمره " للسببية. ومجموع قوله: " يغشي الليل النهار " الخ، يجري مجرى التفسير لقوله: " ثم استوى على العرش " على ما يعطيه السياق، وهو الذي تعطيه أغلب الآيات القرآنية التي يذكر فيها العرش فإنها تذكر معه شيئا من التدبير أو ما يؤول إليه بحسب المعنى. قوله تعالى: " ألا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين " الخلق هو التقدير بضم شئ إلى شئ وإن استقر ثانيا في عرف الدين وأهله في معنى الايجاد أو الابداع على غير مثال سابق، وأما الامر فيستعمل في معنى الشأن وجمعه أمور، ومصدرا بمعنى يقرب من بعث الانسان غيره نحو ما يريده يقال أمرته بكذا أمرا، وليس من البعيد

[ 151 ]

أن يكون هذا هو الاصل في معنى اللفظ ثم يستعمل الامر اسم مصدر بمعنى نتيجة الامر وهو النظم المستقر في جميع أفعال المأمور المنبسط على مظاهر حياته، فينطبق في الانسان على شأنه في الحياة ثم يتوسع فيه فيستعمل بمعنى الشأن في كل شئ فأمر كل شئ هو الشأن الذي يصلح له وجوده، وينظم له تفاريق حركاته وسكناته وشتى أعماله وإراداته، يقال أمر العبد إلى مولاه، أي هو يدبر حياته ومعاشه، وأمر المال إلى مالكه، وأمر الانسان إلى ربه أي بيده تدبيره في مسير حياته. ولا يرد عليه أن الامر بمعنى الشأن يجمع على " أمور " وبمعنى يقابل النهي على " أوامر " وهو ينافي رجوع أحدهما إلى الآخر معنى !، فإن أمثال هذه التفننات كثيرة في اللغة يعثر عليها المتتبع الناقد فالامر كالمتوسط بين من يملكه وبين من يملك منه كالمولى والعبد ويضاف إلى كل منهما يقال: أمر العبد وأمر المولى، قال تعالى: " وأمره إلى الله " البقره: 275، وقال: " أتى إمر الله " النحل: 1. وقد فسر سبحانه أمره الذي يملكه من الاشياء بقوله: " إنما أمره إذا إراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ " يس: 83، فبين أن أمره الذي يمكله من كل شئ سواء كان ذاتا أو صفه أو فعلا وأثرا هو قول كن وكلمة الايجاد وهو الوجود الذي يفيضه عليه فيوجد هو به، فإذا قال لشئ: كن فكان، فقد أفاض عليه ما وجد به من الوجود، وهذا الوجود الموهوب له نسبة إلى الله سبحانه وهو بذاك الاعتبار أمره تعالى وكلمة " كن " الالهية، وله نسبة إلى الشئ الموجود، وهو بذاك الاعتبار أمره الراجع إلى ربه، وقد عبر عنه في الآية بقوله " فيكون ". وقد ذكر تعالى لكل من النسبتين - وإن شئت فقل: للايجاد المنسوب إليه تعالى وللوجود المنسوب إلى الشئ - نعوتا وأحكاما مختلفة سنبحث عنها إن شاء الله في محل يناسبه. والحاصل: أن الامر هو الايجاد سواء تعلق بذات الشئ إو بنظام صفاته وأفعاله فأمر ذوات الاشياء إلى الله وأمر نظام وجودها إلى الله لانها لا تملك لنفسها شيئا البتة، والخلق هو الايجاد عن تقدير وتأليف سواء كان ذلك بنحو ضم شئ إلى شئ كضم أجزاء النطفة بعضها إلى بعض وضم نطفة الذكور إلى نطفة الاناث ثم ضم الاجزاء الغذائية إليها في شرائط خاصة حتى يخلق بدن انسان مثلا، أم من غير أجزاء مؤلفة كتقدير ذات

[ 152 ]

الشئ البسيط وضم ماله من درجة الوجود وحده وماله من الآثار والروابط التي له مع غيره، فالاصول الاولية مقدرة مخلوقة كما أن المركبات مقدرة مخلوقة. قال الله تعالى: " وخلق كل شئ فقدره تقديرا " الفرقان: 2، وقال: " الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه: 50، وقال: " الله خالق كل شئ " الزمر: 62، فعمم خلقه كل شئ. فقد اعتبر في معنى الخلق تقدير جهات وجود الشئ وتنظيمها سواء كانت متمايزة منفصلا بعضها عن بعض أم لا بخلاف الامر. ولذا كان الخلق يقبل التدريج كما قال: " خلق السماوات والارض في ستة أيام " بخلاف الامر قال تعالى: " وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر " القمر: 50، ولذلك أيضا نسب في كلامه إلى غيره الخلق كقوله: " وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيه " المائدة: 110، وقال: " فتبارك الله أحسن الخالقين " المؤمنون: 14. وأما الامر بهذا المعنى فلم ينسبه إلى غيره بل خصه بنفسه، جعله بينه وبين ما يريد حدوثه وكينونته كالروح الذي يحيى به الجسد. انظر إلى قوله تعالى: " والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره " وقوله: " ولتجري الفلك بأمره " الروم: 46، وقوله: " ينزل الملائكة بالروح من أمره " النحل: 2، وقوله: " وهم بأمره يعملون " الانبياء: 27، إلى غير ذلك من الآيات تجد أنه تعالى يجعل ظهور هذه الاشياء بسببية أمره أو بمصاحبة أمره، فنلخص أن الخلق والامر يرجحان بالاخرة إلى معنى واحد وإن كانا مختلفين بحسب الاعتبار. فإذا انفرد كل من الخلق والامر صح أن يتعلق بكل شئ، كل بالعناية الخاصة به، وإذا اجتمعا كان الخلق أحرى بأن يتعلق بالذوات بما أنها أوجدت بعد تقدير ذواتها وآثارها، ويتعلق الامر بآثارها والنظام الجاري فيها بالتفاعل العام بينها لما أن الآثار هي التي قدرت للذوات ولا وجه لتقدير المقدر فافهم ذلك. ولذلك قال تعالى: " ألا له الخلق والامر " فأتى بالعطف المشعر بالمغايرة بوجه وكأن المراد بالخلق ما يتعلق من الايجاد بذوات الاشياء، وبالامر ما يتعلق بآثارها والاوضاع الحاصلة فيها والنظام الجاري بينها كما ميز بين الجهتين في أول الآية حيث قال: " خلق السماوات والارض في ستة أيام " وهذا هو إيجاد الذوات " ثم استوى على العرش

[ 153 ]

يدبر الامر " وهو إيجاد النظام الاحسن بينها بإيقاع الامر تلو الامر والاتيان بالواحد منه بعد الواحد. وما ربما يقال: إن العطف لا يقتضي المغايرة، ولو اقتضى ذلك لدل في قوله: " من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل " البقرة: 98، على كون جبريل من غير جنس الملائكة ! مدفوع بأن المراد مغايرة ما ولو اعتبارا لقبح قولنا جائني زيد وزيد ورأيت عمرا وعمرا ولا محيص عن مغايرة ما ولو بحسب الاعتبار، وجبريل مع كونه من جنس الملائكة يغايره غيره بما له من المقام المعلوم والقوة والمكانة عند ذى العرش. وقوله تعالى: " تبارك الله رب العالمين " أي كان ذا بركات ينزلها على مربوبيه من جميع من في العالمين فهو ربهم. (كلام في معنى العرش) للناس في معنى العرش بل في معنى قوله: " ثم استوى على العرش " والآيات التي في هذا المساق مسالك مختلفة، فأكثر السلف على أنها وما يشاكلها من الآيات من المتشابهات التي يجب أن يرجع علمها إلى الله سبحانه، وهؤلاء يرون البحث عن الحقائق الدينية والتطلع إلى ما وراء ظواهر الكتاب والسنه بدعة، والعقل يخطئهم في ذلك و الكتاب والسنة لا يصدقانهم فآيات الكتاب تحرض كل التحريض على التدبر في آيات الله وبذل الجهد في تكميل معرفة الله ومعرفة آياته بالتذكر والتفكر و النظر فيها والاحتجاج بالحجج العقلية، ومتفرقات السنة المتواترة معنى توافقها، ولا معنى للامر بالمقدمة والنهي عن النتيجة، وهؤلاء هم الذين كانوا يحرمون البحث عن حقائق الكتاب والسنة - حتى البحث الكلامي الذي بناؤه على تسليم الظواهر الدينية ووضعها على ما تفيده بحسب الفهم العامي ثم الدفاع عنها بما تيسر من المقدمات المشهورة والمسلمة عند أهل الدين - ويعدونها بدعه فلنتركهم وشأنهم. وأما طبقات الباحثين فقد اختلفوا في معناه على اقوال: 1 - حمل الكلمة على ظاهر معناها فالعرش عندهم مخلوق كهيئة السرير له قوائم وهو موضوع على السماء السابعة والله - تعالى عما يقول الظالمون - مستو عليه كاستواء

[ 154 ]

الملوك منا على عروشهم، وأكثر هؤلاء على أن العرش والكرسي شئ واحد، وهو الذي وصفناه. وهؤلاء هم المشبهة من المسلمين، والكتاب والسنة والعقل تخاصمهم في ذلك وتنزه رب العالمين أن يماثل شيئا من خلقه ويشبهه في ذات، أو صفه أو فعل تعالى وتقدس. 2 - أن العرش هو الفلك التاسع المحيط بالعالم الجسماني والمحدد للجهات والاطلس الخالي من الكواكب، والراسم بحركته اليومية للزمان، وفي جوفه مماسا به الكرسي وهو الفلك الثامن الذي فيه الثوابت، وفي جوفه الافلاك السبعة الكلية التي هي أفلاك السيارات السبع: زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر بالترتيب محيطا بعضها ببعض. وهذه هي التي يفرضها علم الهيئة على مسلك بطليموس لتنظيم الحركات العلوية الظاهرة للحس طبقوا عليها ما يذكره القرآن من السماوات السبع والكرسي والعرش فما وجدوا من أحكامها المذكورة في الهيئة والطبيعيات لا يخالف الظواهر قبلوه، وما وجدوه يخالف الظواهر الموجودة في الكتاب ردوه كقولهم: ليس للفلك المحدد وراء لا خلا ولا ملا، وقولهم بدوام الحركات الفلكية، واستحالة الخرق والالتيام عليها، وكون كل فلك يماس بسطحه سطح غيره من غير وجود بعد بينها ولا سكنة فيها وكون أجسامها بسيطة متشابهة لا ثقب فيها ولا باب. والظواهر من القرآن والحديث تثبت أن وراء العرش حجبا وسرادقات، وأن له قوائم، وإن له حملة، وأن الله سيطوي السماء كطي السجل للكتب، وأن في السماء سكنة من الملائكة ليس فيها موضع إهاب إلا وفيه ملك راكع أو ساجد يلجونه وينزلون منه ويصعدون إليه وأن للسماء أبوابا، وأن الجنة فيها عند سدرة المنتهى التي ينتهي إليها أعمال العباد إلى غير ذلك مما ينافى بظاهره ما افترضه علماء الهيئة والطبيعيات سابقا والقائلون منا إن السماوات والكرسي والعرش هي ما افترضوه من الافلاك التسعة الكلية يدفعون ذلك كله بمخالفة الظواهر. ولم ينبههم هذا الاختلاف في الوصف على أن ما يصفه القرآن غير ما يفترضه أولئك لتوجيه الحركات العلوية حتى أوضحت الابحاث الاخيرة العميقة في الهيئة والطبيعيات المؤيدة بالحس و التجربة بطلان الفرضيات السابقة من أصلها فاضطر هؤلاء

[ 155 ]

إلى فسخ تطبيقهم و رفع اليد عنه. 3 - أن لا مصداق للعرش خارجا وإنما قوله تعالى: " ثم استوى على العرش " " والرحمان على العرش استوى " كناية عن استيلائه تعالى على عالم الخلق، وكثيرا ما يطلق الاستواء على الشئ على الاستيلاء عليه كما قيل: قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق أو أن الاستواء على العرش معناه الشروع في تدبير الامور كما أن الملوك إذا أرادوا الشروع في أدارة أمور مملكتهم استووا على عروشهم وجلسوا عليه والشروع والاخذ في أمر وجميع ما ينبئ عن تغير الاحوال وتبدلها وأن كانت ممتنعة في حقه تعالى لتنزهه تعالى عن التغير والتبدل لكن شأنه تعالى يسمى شروعا وأخذا بالنظر إلى حدوث الاشياء بذواتها وأعيانها يومئذ فيسمى شأنه تعالى وهو الشمول بالرحمة إذا تعلق بها شروعا وإخذا بالتدبير نظير سائر الافعال الحادثة المقيدة بالزمان المنسوبة إليه تعالى كقولنا خلق الله فلانا، وأحيا فلانا، وأمات فلانا، ورزق فلانا، ونحو ذلك. وفيه: أن كون قوله: " ثم استوى على العرش " جاريا مجرى الكناية بحسب اللفظ وإن كان حقا لكنه لا ينافي أن يكون هناك حقيقة موجودة تعتمد عليها هذه العناية اللفظية، والسلطة والاستيلاء والملك والامارة والسلطنة والرئاسة والولاية والسيادة وجميع ما يجري هذا المجرى فينا أمور وضعية اعتبارية ليس في الخارج منها إلا آثارها على ما سمعته منا كرارا في الابحاث الاعتبارية السابقة والظواهر الدينية تشابه من حيث البيان ما عندنا من بيانات أمورنا وشؤوننا الاعتبارية لكن الله سبحانه يبين لنا أن هذه البيانات وراءها حقائق واقعية، وجهات خارجية ليست بوهمية اعتبارية. فمعنى الملك والسلطنة والاحاطة والولاية وغيرها فيه سبحانه هو المعنى الذي نفهمه من كل هذه الالفاظ عندنا لكن المصاديق غير المصاديق فلها هناك مصاديق حقيقية خارجية على ما يليق بساحة قدسه تعالى وأما ما عندنا من مصاديق هذه المفاهيم فهي أوصاف ذهنية ادعائية وجهات وضعية اعتبارية لا تتعدى الوهم، وإنما وضعناها وأخذنا بها للحصول على آثار حقيقية هي آثارها بحسب الدعوى فلا يسمى الرئيس رئيسا إلا لان يتبع الذين نسميهم مرؤسين إراداته وعزائمه لا لان الجماعة بدون حقيقة وهو

[ 156 ]

رأسهم حقيقة ولا نسمي جزء الهيئة المؤتلفة عضوا لانه يد إو رجل أو كبد إو رئة حقيقة بل لان يتصدى من الامور المقصودة في هذا التشكيل والاجتماع ما يتصداه عضو من الاعضاء الموجودة في بدن الانسان مثلا. وهذا هو الذي يسميه الله تعالى لعبا ولهوا إذ يقول: " وما هذه الحياه الدنيا إلا لهو ولعب " العنكبوت: 64، فالمقاصد الدنيوية من زينة ومال وأولاد وتقدم ورئاسة وحكومة وأمثالها ليست إلا عناوين وهمية لا تحقق لها إلا في الاوهام، وليس الاشتغال بها لغير المقاصد الاخروية إلا اشتغالا بامور وهمية وصور خيالية، ولا المسابقة في تحصيلها إلا كمسابقة الاطفال في تحصيل التقدم في الملاعب التي يشتغلون بها، وليس إلا تحصيل حالة خيالية ليس منها في خارجه عين ولا أثر. وحاشا لله سبحانه أن يذم هذه الحياة الفانية الغارة، ويسميها لعبا لما تشتمل عليه من الشؤن الوهمية ثم يكون تعالى وتقدس أول اللاعبين !. وبالجملة قوله تعالى: " ثم استوى على العرش " في عين أنه تمثيل يبين به أن له إحاطة تدبيرية لملكه يدل على أن هناك مرحلة حقيقية هي المقام الذي يجتمع فيه جميع أزمة الامور على كثرتها واختلافها، ويدل عليه آيات أخر تذكر العرش وحده وينسبه إليه تعالى كقوله تعالى: " وهو رب العرش العظيم " التوبه: 129، وقوله: " الذين يحملون العرش ومن حوله " المؤمن: 7، وقوله: " ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانيه " الحاقة: 17:، وقوله: " حافين من حول العرش " الزمر: 75. فالآيات - كما ترى - تدل بظاهرها على أن العرش حقيقة من الحقائق العينية وأمر من الامور الخارجية ولذلك نقول: إن للعرش في قوله: " ثم استوى على العرش " مصداقا خارجيا، ولم يوضع في الكلام لمجرد تتميم المثل كما نقوله في أمثال كثيرة مضروبة في القرآن فلا نقول في مثل آية النور مثلا: أن في الوجود زجاجة إلهية أو شجرة زيتونة إلهية أو زيتا إلهيا، ونقول: أن في الوجود عرشا إلهيا، أو لوحا وقلما إلهيين وكتابا مكتوبا فافهم ذلك. وهذا العرش الذي يستفاد من مثل قوله: " ثم استوى على العرش أنه مقام في الوجود يجتمع فيه أزمة الحوادث والامور كما يجتمع أزمه المملكة في عرش الملك على

[ 157 ]

التفصيل الذي تقدم في بيان الآية يدل على تحقق هذه الصفة له قوله تعالى: " ثم استوى على العرش يدبر الامر ما من شفيع إلا من بعد إذنه " يونس: 3، ففسر الاستواء على العرش بتدبير الامر منه، وعقبه بقوله: " ما من شفيع إلا بأذنه " والآية لما كانت في مقام وصف الربوبية والتدبير التكويني كان المراد بالشفاعة الشفاعة في أمر التكوين، وهو السببية التي توجد في الاسباب التكوينية التي هي وسائط متخللة بين الحوادث والكائنات وبينه تعالى كالنار المتخللة بينه وبين الحرارة التي يخلقها، والحرارة المتخللة بينه وبين التخلخل أو ذوبان الاجسام فنفي السببية عن كل شئ إلا من بعد إذنه لافادة توحيد الربوبية التي يفيده صدر الآية: " إن ربكم الله الذى خلق السماوات والارض ". وفي قوله: " ما من شفيع إلا من بعد إذنه " بيان حقيقة أخرى وهي رجوع التخلف في التدبير إلى التدبير بعينه بواسطة الاذن، فإن الشفيع إنما يتوسط بين المشفوع له المحكوم بحكم، المشفوع عنده، ليغير بالشفاعة مجرى حكم سيجري لو لا الشفاعة فالشمس المضيئة بالمواجهة مثلا شفيعة متوسطة بين الله سبحانه وبين الارض لاستنارتها بالنور ولو لا ذلك لكان مقتضى تقدير الاسباب العامة ونظمها أن تحيط بها الظلمة ثم الحائل من سقف أو أي حجاب آخر شفيع آخر يسأله تعالى أن لا يقع نور الشمس على الارض باستقامة وهكذا. فأذا كانت شفاعة الشفيع - وهو سبب مغير لما سبقه من الحكم - مستندة إلى إذنه تعالى كان معناه أن التدبير العام الجاري إنما هو من الله سبحانه، وأن كل ما يتخذ من الوسائل لابطال تدبيره وتغيير مجرى حكمه أعم مما يتخذه الاسباب التكوينية وما يتخذه الانسان من التدابير للفرار عن حكم الاسباب الجارية الالهية كل ذلك من التدبير الالهي. ولذلك نرى الاشياء الردية تعصي فلا تقبل الصور الشريفه والمواهب السامية، لقصور استعدادها عن قبولها، وهذا الرد منها بعينه قبول، والامتناع من قبول التربية بعينه تربية أخرى إلهيه والانسان على ما به من الجهل يستعلي على ربه ويستنكف عن الخضوع لعظمته وهو بعينه انقياد لحكمه، ويمكر به وهو بعينه ممكور به قال تعالى: " وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون " الانعام: 123، وقال تعالى: " وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون " آل عمران: 69، وقال تعالى: " وما أنتم بمعجزين في الارض

[ 158 ]

وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير " الشورى: 31. فقوله: " ما من شفيع إلا من بعد إذنه " يدل على أن شفاعة الشفاعة أو الاسباب المخالفة التي تحول بين التدبير الالهي وبين مقتضياته داخلة من جهة أخرى وهي جهة الاذن في التدبير الالهي فافهم ذلك. فما مثل الاسباب والعوامل المتخالفة المتزاحمة في الوجود إلا كمثل كفتي الميزان تتعاركان بالارتفاع والانخفاض، والثقل والخفة لكن اختلافهما بعينه اتفاق منهما في إعانة صاحب الميزان في تشخيص ما يريد تشخيصه من الوزن. ويقرب من آية سورة يونس في الدلالة على شمول التدبير ونفي مدبر غيره تعالى قوله: " ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أ فلا تتذكرون " السجدة: 4، ويقرب من قوله: " ثم استوى على العرش يدبر الامر " في الاشارة إلى كون العرش مقاما تنتشئ فيه التدابير العامة وتصدر عنه الاوامر التكوينية قوله تعالى: " ذو العرش المجيد فعال لما يريد " البروج: 16، وهو ظاهر. وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى: " وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق " الزمر: 75، فإن الملائكة هم الوسائط الحاملون لحكمه والمجرون لامره العاملون بتدبيره فليكونوا حافين حول عرشه. وكذا قوله تعالى: " الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا " المؤمن: 7، وفي الآية مضافا إلى ذكر احتفافهم بالعرش شئ آخر وهو أن هناك حملة يحملون العرش، وهم لا محالة أشخاص يقوم بهم هذا المقام الرفيع والخلق العظيم الذي هو مركز التدابير الالهية ومصدرها، ويؤيد ذلك ما في آية اخرى وهي قوله: " ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية " الحاقة: 17،. وإذ كان العرش هو المقام الذي يرجع إليه جميع أزمة التدابير الالهية والاحكام الربوبية الجارية في العالم كما سمعت، كان فيه صور جميع الوقائع بنحو الاجمال حاضرة عند الله معلومة له، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: " ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الارض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير " الحديد: 4، فقوله: " يعلم ما يلج " الخ، يجري مجرى التفسير للاستواء

[ 159 ]

على العرش فالعرش مقام العلم كما أنه مقام التدبير العام الذي يسع كل شئ، وكل شئ في جوفه. ولذلك هو محفوظ بعد رجوع الخلق إليه تعالى لفصل القضاء كما في قوله: " وترى الملائكة حافين من حول العرش " وموجود مع هذا العالم المشهود كما يدل عليه آيات خلق السماوات والارض، وموجود قبل هذه الخلقة كما يدل عليه قوله: " وهو الذي خلق السماوات والارض في ستة أيام وكان عرشه على الماء " هود: 7. قوله تعالى: " ادعوا ربكم تضرعا وخفية " إلى آخر الايتين. التضرع هو التذلل من الضراعة وهي الضعف والذلة. والخفية هي الاستتار، وليس من البعيد أن يكون كناية عن التذلل جئ به لتأكيد التضرع فإن المتذلل يكاد يختفي من الصغار والهوان. الآية السابقة: " إن ربكم الله الذي خلق " الآية تذكر بربوبيته وحده لا شريك له من جهة أنه هو الخالق وحده، وإليه تدبير خلقه وحده، فتعقيبها بهاتين الآيتين بمنزلة أخذ النتيجة من البيان، وهي الدعوة إلى دعائه وعبوديته، والحكم بأخذ دين يوافق ربوبيته تعالى وهي الربوبية من غير شريك في الخلق ولا في التدبير. ولذلك دعا أولا إلى دين العبودية فقال: " ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الارض بعد إصلاحها " فأمر أن يدعوه بالتضرع والتذلل وأن يكون ذلك خفية من غير المجاهرة البعيدة عن أدب العبودية الخارجة عن زيها - بناء على أن تكون الواو في " تضرعا وخفيه " للجمع - أو أن يدعوه بالتضرع والابتهال الملازم عادة للجهر بوجه إو بالخفية إخفاتا فإن ذلك هو لازم العبودية ومن عدا ذلك فقد اعتدى عن طور العبودية وإن الله لا يحب المعتدين. ومن الممكن أن يكون المراد بالتضرع والخفية: الجهر والسر وإنما وضع التضرع موضع الجهر لكون الجهر في الدعاء منافيا لادب العبودية إلا أن يصاحب التضرع. هذا فيما بينهم وبين الله، وأما فيما بينهم وبين الناس فأن لا يفسدوا في الارض بعد إصلاحها فليس حقيقة الدين فيما يرجع إلى حقوق الناس إلا أن يصلح شأنهم بارتفاع المظالم من بينهم و معاملتهم بما يعينهم على التقوى، ويقربهم من سعادة الحياة في الدنيا والآخرة ثم كرر الدعوة إليه وإعاد البعث إلى دعائه بالجمع بين الطريقين الذين لم يزل البشر

[ 160 ]

يعبد الرب أو الارباب من أحدهما وهما طريق الخوف وطريق الرجاء فإن قوما كانوا يتخذون الارباب خوفا فيعبدونهم ليسلموا من شرورهم، وكان قوما يتخذون الارباب طمعا فيعبدونهم لينالوا خيرهم وبركتهم لكن العبادة عن محض الخوف ربما ساق الانسان إلى اليأس والقنوط فدعاه إلى ترك العبادة، وقد شوهد ذلك كثيرا، والعبادة عن محض الطمع ربما قاد إلى استرسال الوقاحة وزوال زي العبودية فدعاه إلى ترك العبادة، وقد شوهد أيضا كثيرا فجمع سبحانه بينهما ودعا إلى الدعاء باستعمالهما معا فقال: " وادعوه خوفا وطمعا " ليصلح كل من الصفتين ما يمكن أن تفسده الاخرى، وفي ذلك وقوع في مجرى الناموس العام الجاري في العالم أعني ناموس الجذب والدفع. وقد سمى الله سبحانه هذا الاعتدال في العبادة والتجنب عن إفساد الارض بعد إصلاحها إحسانا وبشر المجيبين لدعوته بأنهم يكونون حينئذ محسنين فتقرب منهم رحمته إن رحمة الله قريب من المحسنين. ولم يقل: رحمة الله قريبة، قيل: لان الرحمة مصدر يستوي فيه الوجهان، وقيل: لان المراد بالرحمة الاحسان، وقيل: لان قريب فعيل بمعنى المفعول فيستوي فيه المذكر والمؤنث ونظيره قوله تعالى: " لعل الساعة قريب " الشورى: 17. قوله تعالى: " وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدى رحمته " إلى آخر الآية وفي الآية بيان لربوبيته تعالى من جهه العود كما أن في قوله: " إن ربكم الله " الآية بيانا لها من جهة البدء. وقوله: " بشرا " وأصله البشر بضمتين جمع بشير كالنذر جمع نذير، والمراد بالرحمة المطر، وقوله: " بين يدى رحمته " أي قدام المطر، وفيه استعارة تخييلية بتشبيه المطر بالانسان الغائب الذي ينتظره أهله فيقدم وبين يديه بشير يبشر بقدومه. والاقلال الحمل، والسحاب والسحابة الغمام والغمامة كتمر وتمرة وكون السحاب ثقالا باعتبار حمله ثقل الماء، وقوله " لبلد ميت " أي لاجل بلد ميت أو إلى بلد ميت والباقي ظاهر. والآية تحتج بإحياء الارض على جواز إحياء الموتى لانهما من نوع واحد، وحكم الامثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد وليس الاحياء الذين عرض لهم عارض الموت

[ 161 ]

بمنعدمين من أصلهم فإن أنفسهم وأرواحهم باقية محفوظة وإن تغيرت أبدانهم، كما أن النبات يتغير ما على وجه الارض منها ويبقى ما في أصله من الروح الحية على انعزال من النشوء والنماء ثم تعود إليه حياته الفعالة كذلك يخرج الله الموتى فما إحياء الموتى في الحشر الكلي يوم البعث إلا كإحياء الارض الميتة في بعثة الجزئي العائد كل سنة، وللكلام ذيل سيوافيك في محل آخر إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه " إلى آخر الآية. النكد القليل والآية بالنظر إلى نفسها كالمثل العام المضروب لترتب الاعمال الصالحة والآثار الحسنة على الذوات الطيبة الكريمة كخلافها على خلافها كما تقدم في قوله: " كما بدأكم تعودون " لكنها بانضمامها إلى الآية السابقة تفيد أن الناس وإن اختلفوا في قبول الرحمة فالاختلاف من قبلهم والرحمة الالهية عامة مطلقه. (بحث روائي) لم ينقل عن طبقة الصحابة بحث حقيقي عن مثل العرش والكرسي وسائر الحقائق القرآنية وحتى أصول المعارف كمسائل التوحيد وما يلحق بها بل كانوا لا يتعدون الظواهر الدينية ويقفون عليها، وعلى ذلك جرى التابعون وقدماء المفسرين حتى نقل عن سفيان بن عيينة أنه قال: كلما وصف الله من نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه، وعن الامام مالك أن رجلا قال له: يا أبا عبد الله استوى على العرش، كيف استوى ؟ قال الراوي فما رأيت مالكا وجد من شئ كموجدته من مقالته وعلاه الرحضاء يعني العرق وأطرق القوم. قال فسري عن مالك فقال: الكيف غير معقول: والاستواء منه غير مجهول، والايمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإني أخاف أن تكون ضالا، وأمر به فاخرج. وكأن قوله: الكيف غير معقول الخ، مأخوذ عما روي (1) عن إم سلمة أم المؤمنين في قوله تعالى: " الرحمان على العرش استوى " قالت: الكيف غير معقول، والاستواء


(1) رواه في الدر المنثور عن ابن مردويه واللالكائي في السنة عنها. (*)

[ 162 ]

غير مجهول، والاقرار به إيمان، والجحود به كفر. فهذا نحو سلوكهم في ذلك لم يورث منهم شئ إلا ما يوجد في كلام الامام على بن إبى طالب والائمة من ولده بعده عليهم السلام ونحن نورد بعض ما عثرنا عليه في كلامهم. ففي التوحيد بإسناده عن سلمان الفارسي فيما أجاب به على عليه السلام الجاثليق: فقال على عليه السلام: إن الملائكة تحمل العرش، وليس العرش كما تظن كهيئة السرير ولكنه شئ محدود مخلوق مدبر وربك مالكه لا أنه عليه ككون الشئ على الشئ الخبر. وفي الكافي عن البرقي رفعه قال: سأل الجاثليق عليا عليه السلام فقال: أخبرني عن الله عزوجل يحمل العرش أو العرش يحمله ؟ فقال عليه السلام: الله عزوجل حامل العرش والسماوات والارض وما فيهما وما بينهما، وذلك قول الله عزوجل: " إن الله يمسك السماوات والارض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا ". قال: فأخبرني عن قوله: " ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية " فكيف ذاك وقلت: إنه يحمل العرش والسماوات والارض ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: إن العرش خلقه الله تبارك وتعالى من أنوار أربعة: نور أحمر منه احمرت الحمرة، ونور أخضر منه اخضرت الخضرة، ونور أصفر منه اصفرت الصفرة، ونور أبيض منه ابيض البياض. وهو العلم الذي حمله الله الحملة، وذلك نور من نور عظمته فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والارض من جميع خلائقه إليه الوسيلة بالاعمال المختلفة والاديان المتشتتة فكل شي ء محمول يحمله الله بنوره وعظمته وقدرته لا يستطيع لنفسه ضرا ولا نفعا - ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فكل شئ محمول، والله تبارك وتعالى الممسك لهما أن تزولا، والمحيط بهما من شئ، وهو حياة كل شئ ونور كل شئ سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا. قال له: فأخبرني عن الله أين هو ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: هو هيهنا وهيهنا وفوق وتحت ومحيط بنا ومعنا، وهو قوله: " ما يكون من نجوى ثلاثه إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا " فالكرسي محيط بالسماوات والارض وما بينهما وما تحت الثرى، وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى، وذلك قوله: " وسع كرسيه السماوات والارض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم ".

[ 163 ]

فالذين يحملون العرش هم العلماء الذين حملهم الله علمه، وليس يخرج من هذه الاربعة شئ خلقه الله في ملكوته، وهو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه وأراه خليله فقال: " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين " وكيف يحمل حملة العرش الله وبحياته حييت قلوبهم، وبنوره اهتدوا إلى معرفته، الخبر. أقول: قوله أخبرني عن الله عزوجل يحمل العرش أو العرش يحمله الخ، ظاهر في أن الجاثليق أخذ الحمل بمعنى حمل الجسم للجسم، وقوله عليه السلام: الله حامل العرش والسماوات والارض الخ، أخذ للحمل بمعناه التحليلي وتفسير له بمعنى حمل وجود الشي ء وهو قيام وجود الاشياء به تعالى قياما تبعيا محضا لا استقلاليا، ومن المعلوم أن لازم هذا المعنى أن يكون الاشياء محمولة له تعالى لا حاملة. ولذلك لما سمع الجاثليق ذلك سأله عليه السلام عن قوله تعالى: " ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية " فإن حمل وجود الشئ بالمعنى المتقدم يختص به تعالى لا يشاركه فيه غيره مع أن الآية تنسبه إلى غيره ! ففسر عليه السلام الحمل ثانيا بحمل العلم وفسر العرش بالعلم. غير أن ذلك حيث كان يوهم المناقضة بين التفسيرين زاد عليه السلام في توضيح ما ذكره من كون العرش هو العلم أن هذا العلم غير ما هو المتبادر إلى الافهام العامية من العلم وهو العلم الحصولي الذي هو الصورة النفسانية بل هو نور عظمته وقدرته حضرت لهؤلاء المله بإذن الله وشوهدت لهم فسمي ذلك حملا، وهو مع ذلك محمول له تعالى ولا منافاة كما أن وجود أفعالنا حاضرة عندنا محمولة لنا وهي مع ذلك حاضرة عند الله سبحانه محمولة له وهو المالك الذي ملكنا إياها. فنور العظمة الالهية وقدرته الذي ظهر به جميع الاشياء هو العرش الذي يحيط بما دونه وهو ملكه تعالى لكل شئ دون العرش وهو تعالى الحامل لهذا النور ثم الذين كشف الله لهم عن هذا النور يحملونه بإذن الله والله سبحانه هو الحامل للحامل والمحمول جميعا. فالعرش في قوله: " ثم استوى على العرش " - وإن شئت قل: الاستواء على العرش هو الملك، وفي قوله: " ويحمل عرش ربك " الآية هو العلم، وهما جميعا واحد وهو المقام الذي يظهر به جميع الاشياء ويتمركز فيه إجمال جميع التدابير التفصيلية الجارية في نظام الوجود فهو مقام الملك الذي يصدر منه التدابير، ومقام العلم الذي

[ 164 ]

يظهر به الاشياء. وقوله عليه السلام: فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين " الخ " يريد أن هذا المقام هو المقام الذي ينشأ منه تدبير نظام السعادة الذي وقع فيه مجتمع المؤمنين وتسير عليه قافلتهم في مسيرهم إلى الله سبحانه، وينشأ منه نظام الشقاء الذي ينبسط على جميع المعاندين أعداء الله الجاهلين بمقام ربهم بل المقام الذي ينشأ منه النظام العالمي العام الذي يعيش تحته كل ذى وجود، ويسير به سائرهم للتقرب إليه بأعمالهم وسننهم سواء علموا بما هم فيه من ابتغاء الوسيلة إليه تعالى أو جهلوا. وقوله عليه السلام: " وهو حياة كل شئ ونور كل شئ " كالتعليل المبين لقوله قبله فكل شئ محمول يحمله الله إلى آخر ما قال. ومحصله أنه تعالى هو الذي به يوجد كل شئ وهو الذي يدرك كل شئ، فيظهر به طريقه الخاص به في مسير وجوده ظهور الطريق المظلم لسائره بواسطة النور فهي لا تملك لانفسها شيئا بل الله سبحانه هو المالك لها الحامل لوجودها. وقوله عليه السلام: هو هيهنا وهيهنا وفوق وتحت " الخ " يريد أن الله سبحانه لما كان مقوما الوجود كل شئ حافظا وحاملا له لم يكن محل من المحال خاليا عنه، ولا هو مختصا بمكان دون مكان، وكان معنى كونه في مكان أو مع شئ ذى مكان إنه تعالى حافظ له وحامل لوجوده ومحيط به، وهو وكذا غيره محفوظ بحفظه تعالى ومحمول ومحاط له. وهذا يؤل إلى علمه الفعلي بالاشياء، ونعني به أن كل شئ حاضر عنده تعالى غير محجوب عنه، ولذلك قال عليه السلام أولا: " فالكرسي محيط بالسماوات والارض وما بينهما وما تحت الثرى " فأشار إلى الاحاطة ثم عقبه بقوله: " وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى " فأشار إلى العلم فأنتج ذلك أن الكرسي ويعني به العرش مقام الاحاطة والتدبير والحفظ، وأنه مقام العلم والحضور بعينه، ثم طبقه على قوله تعالى: " وسع كرسيه السماوات والارض " الآية. وقوله عليه السلام: " وليس يخرج عن هذه الاربعة شئ خلق الله في ملكوته " كإنه إشارة إلى الالوان الاربعة المذكورة في أول كلامه عليه السلام وسيجئ كلام فيها في أحاديث المعراج إن شاء الله.

[ 165 ]

وقوله عليه السلام " وهو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه " فالعرش هو الملكوت غير أن الملكوت إثنان ملكوت أعلى وملكوت أسفل، والعرش لكونه مقام الاجمال وباطن البابين من الغيب كما سيأتي ما يدل على ذلك من الرواية كان الاحرى به أن يكون الملكوت الاعلى. وقوله عليه السلام: وكيف يحمل حملة العرش الله " الخ " تأكيد وتثبيت لاول الكلام: أن العرش هو مقام حمل وجود الاشياء وتقويمه، فحملة العرش محمولون له سبحانه لا حاملون كيف ؟ ووجودهم وسير وجودهم يقوم به تعالى لا بأنفسهم، ولاعتباره عليه السلام هذا المقام الوجودي علما عبر عن وجودهم وعن كمال وجودهم بالقلوب، ونور الاهتداء إلى معرفة الله إذ قال: وبحياته حييت قلوبهم وبنوره اهتدوا إلى معرفته. وفي التوحيد بإسناده عن حنان بن سدير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن العرش والكرسي فقال: إن للعرش صفات كثيرة مختلفة، له في كل سبب وضع في القرآن صفة على حدة فقوله: " رب العرش العظيم " يقول: رب الملك العظيم، وقوله: " الرحمان على العرش استوى " يقول: على الملك احتوى، وهذا علم الكيفوفية في الاشياء. ثم العرش في الوصل مفرد (1) عن الكرسي لانهما بابان من أكبر أبواب الغيوب وهما جميعا غيبان، وهما في الغيب مقرونان لان الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع ومنها الاشياء كلها، والعرش هو الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف والكون والقدر والحد والاين والمشية وصفة الارادة وعلم الالفاظ والحركات والترك وعلم العود والبدء. فهما في العلم بابان مقرونان لان ملك العرش سوى ملك الكرسي، وعلمه أغيب من علم الكرسي فمن ذلك قال: " رب العرش العظيم " أي صفته أعظم من صفة الكرسي، وهما في ذلك مقرونان. قلت: جعلت فداك فلم صار في الفضل جار الكرسي ؟ قال عليه السلام: إنه صار جاره لان علم الكيفوفية فيه وفيه الظاهر من أبواب البداء وإنيتها وحد رتقها وفتقها فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الصرف، وبمثل صرف العلماء، وليستدلوا على صدق دعواهما لانه يختص برحمته من يشاء وهو القوي العزيز.


(1) متفرد خ ل. (*)

[ 166 ]

أقول: قوله عليه السلام: إن للعرش صفات كثيرة الخ، يؤيد ما ذكرناه سابقا أن الاستواء على العرش لبيان اجتماع أزمة التدابير العالمية عند الله، ويؤيده ما في آخر الحديث من قوله: وبمثل صرف العلماء. وقوله عليه السلام: " وهذا علم الكيفوفية في الاشياء " المراد به العلم بالعلل العالية والاسباب القصوى للموجودات فإن لفظ " كيف " عرفا كما يسأل به عن العرض المسمى اصطلاحا بالكيف كذلك يسأل به عن سبب الشئ ولمه، يقال: كيف وجد كذا ؟ وكيف فعل زيد كذا وهو لا يستطيع ؟. وقوله عليه السلام: ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي " الخ " مراده أن العرش والكرسي واحد من حيث إنهما مقام الغيب الذي يظهر منه الاشياء وينزل منه إلى هذا العالم لكن العرش في الصلة الكلامية متميز من الكرسي لان هذا المقام في نفسه ينقسم إلى مقامين وينشعب إلى بابين لكنهما مقرونان غير متبائنين: أحدهما الباب الظاهر الذي يلي هذا العالم، والآخر الباب الباطن الذي يليه ثم بينه بقوله: لان الكرسي هو الباب الظاهر " الخ ". قوله عليه السلام: " لان الكرسي هو الباب الظاهر الذي منه مطلع البدع ومنها الاشياء كلها " أي طلوع الامور البديعة على غير مثال سابق، ومنها يتحقق الاشياء كلها لان جميعها بديعة على غير مثال سابق، وهي إنما تكون بديعة إذا كانت مما لا يتوقع تحققها من الوضع السابق الذي كان أنتج الامور السابقة على هذا الحادث التي تذهب هي ويقوم هذا مقامها فيؤل الامر إلى البداء بإمحاء حكم سبب وإثبات حكم الآخر موضعه فجميع الوقائع الحادثة في هذا العالم المستندة إلى عمل الاسباب المتزاحمة والقوى المتضادة بدع حادثة وبداءات في الارادة. وفوق هذه الاسباب المتزاحمة والارادات المتغائرة التي لا تزال تتنازع في الوجود سبب واحد وإرادة واحدة حاكمة لا يقع إلا ما يريده فهو الذي يحجب هذا السبب بذاك السبب ويغير حكم هذه الارادة ويقيد إطلاق تأثير كل شئ بغيره كمثل الذي يريد قطع طريق لغاية كذا فيأخذ في طيه، وبينما هو يطوي الطريق يقف أحيانا ليستريح زمانا، فعلة الوقوف ربما تنازع علة الطي والحركة و توقفها عن العمل والارادة تغير

[ 167 ]

الارادة لكن هناك إرادة أخرى هي التي تحكم على الارادتين جميعا وتنظم العمل على ما تميل إليه بتقديم هذه تارة وتلك أخرى والارادتان أعني سببي الحركة والسكون وإن كانت كل منهما تعمل لنفسها وعلى حدتها وتنازع صاحبتها لكنهما جميعا متفقتان في طاعة الارادة التي هي فوقهما، ومتعاضدتان في إجراء ما يوجبه السبب الذي هو أعلى منهما وأسمى. فالمقام الذي ينفصل به السببان المتنافيان وينشأ منه تنازعهما بمنزلة الكرسي، والمقام الذي يظهران فيه متلائمين متآلفين بمنزلة العرش، وظاهر أن الثاني أقدم من الاول وإنهما يختلفان بنوع من الاجمال والتفصيل، والبطون والظهور. وأحرى بالمقامين أن يسميا عرشا وكرسيا لان فيهما خواص عرش الملك وكرسيه فإن الكرسي الذي يظهر فيه أحكام الملك من جهة عماله وأيديه العمالة، وكل منهم يعمل بحيال نفسه في نوع من أمور المملكة وشؤونها وربما تنازعت الكراسي فيقدم حكم البعض على البعض ونسخ البعض حكم البعض، لكنها جميعا تتوافق وتتحد في طاعة أحكام العرش وهو المختص بالملك نفسه فعنده الحكم المحفوظ عن تنازع الاسباب غير المنسوخ بنسخ العمال والايدي، وفي عرشه إجمال جميع التفاصيل وباطن ما يظهر من ناحية العمال والايدي. وبهذا البيان يتضح معنى قوله عليه السلام: لان الكرسي هو الباب الظاهر " الخ " فقوله: " منه مطلع البدع " أي طلوع الامور الكونية غير المسبوقة بمثل، وقوله: " ومنها الاشياء كلها " أي تفاصيل الخلقة ومفرداتها المختلفة المتشتتة. وقوله: " والعرش هو الباب الباطن " قبال كون الكرسي هو الباب الظاهر، والبطون والظهور فيهما باعتبار وقوع التفرق في الاحكام الصادرة وعدم وقوعه، وقوله يوجد فيه " الخ " أي جميع العلوم والصور التي تنتهي إلى إجمالها تفاصيل الاشياء. وقوله: " علم الكيف " كأن المراد بالكيف خصوصية صدور الشئ عن أسبابه، وقوله: " والكون " المراد به تمام وجوده كما أن المراد بالعود والبدء أول وجودات الاشياء ونهايتها وقوله: " القدر والحد " المراد بهما واحد غير أن القدر حال مقدار الشئ بحسب نفسه، والحد حال الشئ بحسب إضافته إلى غيره ومنعه أن يدخل حومة نفسه ويمازجه، وقوله: " والاين " هو النسبة المكانية، وقوله: " والمشية

[ 168 ]

وصفة الارادة هما واحد ويمكن أن يكون المراد بالمشية أصلها وبصفة الارادة خصوصيتها. وقوله: " وعلم الالفاظ والحركات والترك " علم الالفاظ هو العلم بكيفية انتشاء دلالة الالفاظ بارتباطها إلى الخارج بحسب الطبع فإن الدلالة الوضعية تنتهي بالآخرة إلى الطبع، وعلم الحركات والترك، العلم بالاعمال والتروك من حيث ارتباطها إلى الذوات ويمكن أن يكون المراد بمجموع قوله: " علم الالفاظ وعلم الحركات والترك " العلم بكيفية انتشاء اعتبارات الاوامر والنواهي من الافعال والتروك، وانتشاء اللغات من حقائقها المنتهية إلى منشأ واحد، والترك هو السكون النسبي في مقابل الحركات. وقوله: " لان علم الكيفوفية فيه " الضمير للعرش، وقوله: " وفيه الظاهر من أبواب البداء " الضمير للكرسي، والبداء ظهور سبب على سبب آخر وإبطاله أثره، وينطبق على جميع الاسباب المتغائرة الكونية من حيث تأثيرها. وقوله عليه السلام: " فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الصرف " المراد به على ما يؤيده البيان السابق أن العرش والكرسي جاران متناسبان بل حقيقة واحدة مختلفة بحسب مرتبتي الاجمال والتفصيل: وإنما نسب إلى أحدهما أنه حمل الآخر بحسب صرف الكلام وضرب المثل، وبالامثال تبين المعارف الدقيقة الغامضة للعلماء. وقوله: " وليستدلوا على صدق دعواهما " أي دعوى العرش والكرسي أي وجعل هذا المثل ذريعة لان يستدل العلماء بذلك على صدق المعارف الحقة الملقاة إليهم في كيفية انتشاء التدبير الجاري في العالم من مقامي الاجمال والتفصيل والباطن والظاهر، فافهم ذلك. في التوحيد بإسناده عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن قوله تعالى " وكان عرشه على الماء " الآية، فقال: ما يقولون ؟ قيل: إن العرش كان على الماء والرب فوقه ! فقال: كذبوا، من زعم هذا فقد صير الله محمولا ووصفه بصفة المخلوقين، ولزمه أن الشئ الذي يحمله هو أقوى منه. قال: إن الله حمل دينه وعلمه الماء قبل أن تكون سماء أو أرض أو جن أو إنس أو شمس أو قمر. اقول: وهو كسابقه في الدلالة على أن العرش هو العلم، والماء أصل الخلقة وكان العلم الفعلي متعلقا به قبل ظهور التفاصيل. وفي الاحتجاج عن على عليه السلام: أنه سئل عن بعد ما بين الارض والعرش. فقال:

[ 169 ]

قول العبد مخلصا: لا إله إلا الله. أقول: وهو من لطائف كلامه عليه السلام أخذه من قوله تعالى: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ". ووجهه أن العبد إذا نفى عن غيره تعالى الالوهية بإخلاص الالوهية والاستقلال له تعالى أوجب ذلك نسيان غيره، والتوجه إلى مقام استناد كل شئ إليه تعالى، وهذا هو مقام العرش على ما مر بيانه. ونظيره في اللطافة قوله عليه السلام قد سئل عن بعد ما بين الارض والسماء: مد البصر ودعوة المظلوم. في الفقيه و المجالس العلل للصدوق: روي عن الصادق عليه السلام أنه سئل لم سمي الكعبة كعبة ؟ قال: لانها مربعة فقيل له: ولم صارت مربعة ؟ قال: لانها بحذاء البيت المعمور وهو مربع. فقيل له: ولم صار البيت المعمور مربعا ؟ قال: لانه بحذاء العرش وهو مربع، فقيل له: ولم صار العرش مربعا ؟ قال: لان الكلمات التي بني عليها الاسلام أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. الحديث. أقول: وهذه الكلمات الاربع أولاها: تتضمن التنزيه والتقديس والثانية التشبيه والثناء، والثالثة التوحيد الجامع بين التنزيه والتشبيه، والرابعة: التوحيد الاعظم المختص بالاسلام، وهو أن الله سبحانه أكبر من أن يوصف فإن الوصف تقييد وتحديد وهو تعالى أجل من أن يحده حد ويقيده قيد وقد تقدم نبذه من الكلام فيه في تفسير قوله تعالى: " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " الآية. وبالجملة يرجع المعنى إلى تفسيره بالعلم على ما مر والروايات المختلفة في هذا المعنى كثيرة كما ورد أن آية الكرسي وآخر البقرة وسورة محمد من كنوز العرش وما ورد أن ص نهر يخرج من ساق العرش، وما ورد أن الافق المبين قاع بين يدي العرش فيه أنهار تطرد فيه من القدحان عدد النجوم. وفي تفسير القمي عن عبد الرحيم الاقصر عن الصادق عليه السلام قال: سألته عن " ن والقلم " قال: إن الله خلق القلم من شجرة في الجنة يقال لها: الخلد، ثم قال لنهر في الجنة: كن مدادا فجمد النهر، وكان أشد بياضا من الثلج وأحلى من الشهد. ثم قال للقلم: اكتب. قال: يا رب ما أكتب ؟ قال: اكتب ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة

[ 170 ]

فكتب القلم في رق أشد بياضا من الفضة وأصفى من الياقوت ثم طواه فجعله في ركن العرش ثم ختم على فم القلم فلم ينطق بعد، ولا ينطق أبدا فهو الكتاب المكنون الذي منه النسخ كلها (الحديث). وسيجئ تمامه في سورة ن إن شاء الله تعالى. أقول: وفي معناها روايات أخر، وفي بعضها لما استزاد الراوي بيانا وأصر عليه قال عليه السلام: القلم ملك واللوح ملك، فبين بذلك أن ما وصفه تمثيل من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس لتفهيم الغرض. وفي كتاب روضة الواعظين عن الصادق عن أبيه عن جده عليه السلام قال: في العرش تمثال ما خلق الله في البر والبحر. قال: وهذا تأويل قوله: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ". أقول: أي وجود صور الاشياء وتماثيلها في العرش هو الحقيقة التي يبتنى عليها بيان الآية، وقد تقدم توضيح معنى وجود صور الاشياء في العرش، وفي معنى هذه الرواية ما ورد في تفسير دعاء " يا من أظهر الجميل ". وفيه أيضا عن الصادق عن أبيه عن جده عليه السلام في حديث: وإن بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية خفقان الطير المسرع مسير ألف عام، والعرش يكسى كل يوم سبعين ألف لون من النور لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله، والاشياء كلها في العرش كحلقة في فلاة. أقول: والجملة الاخيرة مما نقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طرق الشيعة وأهل السنة، والذي ذكره عليه السلام بناء على ما تقدم تمثيل، ونظائره كثيرة في رواياتهم عليهم السلام. ومن الدليل عليه إن ما وصف في الرواية من عظم العرش بأي حساب فرض يوجد من الدوائر التي ترسمها الاشعة النورية ما هي أعظم منه بكثير فليس التوصيف إلا لتقريب المعقول من الحس. وفي العلل عن علل محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام: علة الطواف بالبيت أن الله تبارك وتعالى قال للملائكة إني جاعل في الارض خليفة قالوا أ تجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، فردوا على الله تبارك وتعالى هذا الجواب فعلموا أنهم أذنبوا فندموا فلاذوا بالعرش واستغفروا فأحب الله عزوجل أن يتعبد بمثل ذلك العباد فوضع في السماء

[ 171 ]

الرابعة بيتا بحذاء العرش يسمى " الضراح " ثم وضع في السماء الدنيا بيتا يسمى " البيت المعمور " بحذاء الضراح ثم وضع البيت بحذاء البيت المعمور ثم أمر آدم فطاف به فجرى في ولده إلى يوم القيامة الحديث. أقول: الحديث لا يخلو عن الغرابة من جهات، وكيف كان فبناء على تفسير العرش بالعلم يكون معنى لواذ الملائكة بالعرش هو اعترافهم بالجهل وإرجاع العلم إليه سبحانه حيث قالوا: " سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم " وقد مر الكلام في هذه القصة في أوائل سورة البقرة. وفي الرواية ذكر الضراح والبيت المعمور في السماء ومعظم الروايات تذكر في السماء بيتا واحدا وهو البيت المعمور في السماء الرابعة، وفيها إثبات الذنب للملائكة وهم معصومون بنص القرآن، ولعل المراد من العلم بالذنب العلم بنوع من القصور. وأما كون الكعبة بحذاء البيت المعمور فالظاهر أنه محاذاة معنوية لا حسية جسمانية، ومن الشاهد عليه قوله: " فوضع في السماء الرابعة بيتا بحذاء العرش " إذ المحصل من القرآن والحديث أن العرش والكرسي محيطان بالسماوات والارض، ولا يتحقق معنى المحاذاة بين المحيط والمحاط إذا كانت الاحاطة جسمانية. وفي الخصال عن الصادق عليه السلام: أن حملة العرش أحدهم على صورة ابن آدم يسترزق الله لولد آدم. والثاني على صورة الديك يسترزق الله الطير، والثالث على صورة الاسد يسترزق الله للسباع، والرابع على صورة الثور يسترزق الله للبهائم، ونكس الثور رأسه منذ عبد بنو اسرائيل العجل فإذا كان يوم القيامة صاروا ثمانية. الخبر. أقول: والاخبار فيما يقرب من هذا المعنى كثيرة متظافرة، وفي بعضها عد الاربع حملة للكرسي، وهو الخبر الوحيد الذي يذكر للكرسي حملة - فيما عثرنا عليه - وقد أوردناها في تفسير آية الكرسي في سورة البقرة. وفي حديث آخر: حملة العرش ثمانية أربعة من الاولين وأربعة من الآخرين: فأما الاربعة من الاولين فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وأما الاربعة من الآخرين: فمحمد وعلي والحسن والحسين عليهم السلام. أقول: بناء على تفسير العرش بالعلم لا ضير في أن تعد أربعة من الملائكة حملة

[ 172 ]

له ثم تعد عدة من غيرهم حملة له. والروايات في العرش كثيرة متفرقة في الابواب، وهي تؤيد ما مر من تفسيره بالعلم وما له ظهور ما في الجسمية منها، مفسرة بما تقدم وأما كون العرش جسما في هيئة السرير موضوعا على السماء السابعة فمما لا يدل عليه حديث يعبأ بأمره بل من الروايات ما يكذبه كالرواية الاولى المتقدمة. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " خلق السماوات والارض في ستة أيام " الآية قال: قال عليه السلام: في ستة أوقات. وفي تفسير البرهان صاحب ثاقب المناقب أسنده إلى أبي هاشم الجعفري عن محمد بن صالح الارمني قال: قلت لابي محمد العسكري عليه السلام عرفني عن قول الله: " لله الامر من قبل ومن بعد " فقال: لله الامر من قبل أن يأمر ومن بعد أن يامر ما يشاء، فقلت في نفسي هذا تأويل قول الله: " ألا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين " فأقبل علي وقال: هو كما أسررت في نفسك: ألا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين. أقول: معناه أن قوله: " ألا له الخلق والامر " يفيد إطلاق الملك قبل الصدور وبعده لا كمثلنا حيث نملك الامر - فيما نملك - قبل الصدور فإذا صدر خرج عن ملكنا واختيارنا. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن عبد العزيز الشامي عن أبيه وكانت له صحبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح وحمد نفسه فقد كفر وحبط ما عمل، ومن زعم أن الله جعل للعباد من الامر شيئا فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه لقوله: ألا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين. اقول: المراد من الكفر بالعجب هو الكفر بالنعمة أو بكون الحسنات لله على ما يدل عليه القرآن، والمراد بنفي كون شئ من الامر للعباد نفي الجعل بنحو الاستقلال دون التبعي من الملك والامر. وفي الكافي بإسناده عن ميسر عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت قول الله عزوجل " ولا تفسدوا في الارض بعد إصلاحها " قال: فقال: يا ميسر إن الارض كانت فاسدة فأحياها الله عزوجل بنبيه، ولا تفسدوا في الارض بعد إصلاحها. أقول: ورواه العياشي في تفسيره عن ميسر عن أبي عبد الله عليه السلام مرسلا.

[ 173 ]

وفي الدر المنثور أخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت منها بقية فبلت الماء فأنبتت الكلا والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلا فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به. * * * لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم - 59. قال الملا من قومه إنا لنراك في ضلال مبين - 60. قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين - 61. أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون - 62. أ وعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون - 63. فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين - 64. (بيان) تعقيب لما تقدم من الدعوة إلى التوحيد والنهي عن الشرك بالله سبحانه والتكذيب لآياته بذكر قصة نوح عليه السلام وإرساله إلى قومه يدعوهم إلى توحيد الله وترك عبادة غيره وما واجهته به عامة قومه من الانكار والاصرار على تكذيبه فأرسل الله إليهم الطوفان وأنجى نوحا والذين آمنوا معه ثم أهلك الباقين عن آخرهم. ثم عقب الله قصته بقصص عدة من رسله كهود وصالح وشعيب ولوط وموسى عليهم السلام للغرض بعينه.

[ 174 ]

قوله تعالى: " لقد أرسلنا نوحا إلى قومه " إلى آخر الآية. بدء الله سبحانه بقصته وهو أول رسول يذكر الله سبحانه تفصيل قصته في القرآن كما سيأتي تفصيل القول في قصته في سورة هود إن شاء الله تعالى. واللام في قوله: " لقد أرسلنا نوحا " للقسم جئ بها للتأكيد لان وجه الكلام إلى المشركين وهم ينكرون النبوة، وقوله: " فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره " ناداهم بقوله: " يا قوم " فأضافهم إلى نفسه ليكون جريا على مقتضى النصح الذي سيخبرهم به عن نفسه، ودعاهم أول ما دعاهم إلى توحيد الله تعالى فإن دعاهم إلى عبادته، وأخبرهم بانتفاء كل إله غيره فيكون دعوة إلى عبادة الله وحده من غير أن يشرك به في عبادته غيره وهو التوحيد. ثم أنذرهم بقوله: " إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " وظاهره يوم القيامة فيكون في ذلك دعوة إلى أصلين من أصول الدين وهما التوحيد والمعاد، وأما الاصل الثالث وهو النبوة فسيصرح به في قوله: " يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول " الآيه. على أن في نفس الدعود وهي دعوة إلى نوع من العبادة لا يعرفونها وكذا الانذار بما لم يكونوا يعلمونه وهو عذاب القيامة إشعارا بالرسالة من قبل من يدعو إليه، ومن الشاهد على ذلك قوله في جوابهم: " أ وعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم " فإنه يدل على تعجبهم من رسالته باستماع أول ما خاطبهم به من الدعوة وهو قوله: " يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ". قوله تعالى: " قال الملا من قومه إنا لنراك في ضلال مبين " الملا هم أشراف القوم وخواصهم سموا به لانهم يملؤن القلوب هيبة والعيون جمالا وزينة، وإنما رموا بالضلال المبين وأكدوه تأكيدا شديدا لانهم لم يكونوا ليتوقعوا أن معترضا يعترض عليهم بالدعوة إلى رفض آلهتهم وتوجيه العبادة إلى الله سبحانه بالرسالة والانذار فتعجبوا من ذلك فأكدوا ضلالة مدعين أن ذلك من بين الضلال تحقيقا. والرؤية هي الرؤية بحسب الفكر أعني الحكم. قوله تعالى: " قال يا قوم ليس بي ضلالة " الآية. أجابهم بنفي الضلال عن نفسه والاستدراك بكونه رسولا من الله سبحانه، وذكره بوصفه " رب العالمين " ليجمع له

[ 175 ]

الربوبية كلها قبال تقسيمهم إياها بين آلهتهم بتخصيص كل منها بشئ من شؤونها وأبوابها كربوبية البحر وربوبية البر وربوبية الارض وربوبية السماء وغير ذلك. وقد جرد عليه السلام جوابه عن التأكيد للاشارة إلى ظهور رسالته وعدم ضلالته تجاه إصرارهم بذلك وتأكيد دعواهم. قوله تعالى: " أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون " أخبرهم بأوصاف نفسه فبين أنه يبلغهم رسالات ربه، وهذا شأن الرسالة ومقتضاها القريب الضروري، وفي جمع الرسالة دلالة على كونها كثيرة وأن له مقاصد إمره ربه أن يبلغها إياهم وراء التوحيد والمعاد فإنه نبي رسول من أولي العزم صاحب كتاب وشريعة. ثم ذكر أنه ينصح لهم وهو عظاته بالانذار والتبشير ليقربهم من طاعة ربهم ويبعدهم عن الاستكبار والاستنكاف عن عبوديته كل ذلك بذكر ما عرفه الله من بدء الخلقة وعودها وسننه تعالى الجارية فيها، ولذا ذكر ثالثا أنه يعلم من الله ما لا يعلمون كوقائع يوم القيامة من الثواب والعقاب وغير ذلك، وما يستتبع الطاعة والمعصية من رضاه تعالى وسخطه ووجوه نعمه ونقمه. ومن هنا يظهر أن الجمل الثلاث كل مسوق لغرض خاص أعني قوله: " أبلغكم " الآية و " أنصح لكم " و " أعلم " الآية وهي ثلاثة أوصاف متوالية لا كما قيل: إن الاوليان صفتان، والثالثة جملة حالية عن فاعل " وأنصح لكم ". قوله تعالى: " أ وعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم " إلى آخر الآية. استفهام إنكاري ينكر تعجبهم من دعواه الرسالة ودعوته إياهم إلى الدين الحق والمراد بالذكر ما يذكر به الله وهو المعارف الحقة التي أوحيت إليه، وقوله: " من ربكم " متعلق بمقدر أي ذكر كائن من ربكم. وقوله: " لينذركم " و " لتتقوا " و " لعلكم ترحمون " متعلقات بقوله: " جاءكم " والمعنى لغرض أن ينذركم الرسول، ولتتقوا أنتم، ويؤدي ذلك إلى رجاء أن تشملكم الرحمة الالهية فإن التقوى وإن كان يؤدي إلى النجاة لكنها ليست بعلة تامة، وقد اشتمل ما حكي من إجمال كلامه عليه السلام من معارف عالية إلهية. قوله تعالى: " فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك " الفلك السفينة يستعمل

[ 176 ]

واحدا وجمعا على ما ذكره الراغب ويذكر ويؤنث كما في الصحاح، وقوله: " قوما عمين " موصوف وصفة. وعمين جمع عمي كخشن صفة مشبهة من عمي يعمى، عمى كالاعمى إلا أن العمى يختص بعمى البصيرة والاعمى بعمى البصر، كما قيل، ومعنى الآية ظاهر. * * * وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون - 65. قال الملا الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين - 66. قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين - 67. أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين - 68. أ وعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون - 69. قالوا أ جئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين - 70. قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أ تجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين - 71. فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين - 72. (بيان) قوله تعالى: " وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله " إلى آخر الآيه.

[ 177 ]

الاخ وأصله أخو هو المشارك غيره في الولادة تكوينا لمن ولده وغيره أب أو أم أو هما معا أو بحسب شرع إلهي كالاخ الرضاعي أو سنة اجتماعيه كالاخ بالدعاء على ما كان يراه أقوام فهذا أصله، ثم استعير لكل من ينتسب إلى قوم أو بلدة إو صنعة أو سجية ونحو ذلك يقال: أخو بني تميم وأخو يثرب وأخو الحياكة وأخو الكرم، ومن هذا الباب قوله " وإلى عاد أخاهم هودا ". والكلام في قوله: " قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره " كالكلام في نظير الخطاب من القصة السابقة. فإن قلت: لم حذف العاطف من قوله: " قال يا قوم " ولم يقل: فقال كما في قصة نوح ؟ قلت: هو على تقدير سؤال كأنه لما قال: " وإلى عاد أخاهم هودا " قيل: فما قال هود ؟ فاجيب وقيل: قال يا قوم اعبدوا الله الآية. كذا قاله الزمخشري في الكشاف. ولا يجري هذا الكلام في قصة نوح لانه أول قصة أوردت، وهذه القصة قصة بعد قصة يهيأ فيها ذهن المخاطب للسؤال بعد ما وعى إجمال القصة وعلم أن قصة الارسال تتضمن دعوة وردا وقبولا فكان بالحري إذا سمع المخاطب قوله " وإلى عاد أخاهم هودا " أن يسأل فيقول: ما قال هود لقومه ؟ وجوابه قال لهم (الخ). قوله تعالى: " قال الملا الذين كفروا من قومه " إلى آخر الآية لما كان في هذا الملا من يؤمن بالله ويستر إيمانه كما سيأتي في القصة بخلاف الملا من قوم نوح قال هيهنا في قصة هود: " قال الملا الذين كفروا من قومه " وقال في قصة نوح: " قال الملا من قومه " كذا ذكره الزمخشري. وقوله تعالى حكاية عن قولهم: " إنا لنريك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين " أكدوا كلامهم مرة بعد مرة لانهم سمعوا منه مقالا ما كانوا ليتوقعوا صدوره من أحد، وقد أخذت آلهتم موضعها من قلوبهم، واستقرت سنة الوثنية بينهم استقرارا لا يجترئ معه أحد على أن يعترض عليها فتعجبوا من مقاله فردوه ردا عن تعجب، فجبهوه أولا بأن فيه سفاهة وهو خفة العقل التي تؤدي إلى الخطأ في الآراء، وثانيا بأنهم يظنون بظن قوي جدا أنه من الكاذبين، وكأنهم يشيرون بالكاذبين إلى أنبيائهم لان الوثنيين ما كانوا ليذعنوا بالنبوة وقد جاءهم أنبياء قبل هود كما يذكره

[ 178 ]

تعالى بقوله: " وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله " هود: 59. قوله تعالى: " قال يا قوم ليس بي سفاهة " الكلام في الآية نظير الكلام في نظيره من قصة نوح غير أن عادا زادوا وقاحة على قوم نوح حيث إن أولئك رموا نوحا بالضلال في الرأي وهؤلاء رموا هودا بالسفاهة لكن هودا لم يترك ما به من وقار النبوة، ولم ينس ما هو الواجب من أدب الدعوة الالهية فأجابهم بقوله: " يا قوم " فأظهر عطوفته عليهم وحرصه على إنجائهم " ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين " فجرى على تجريد الكلام من كل تأكيد واكتفى بمجرد رد تهمتهم وإثبات ما كان يدعيه من الرسالة للدلالة على ظهوره. قوله تعالى: " أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين " أي لا شأن لي بما أني رسول إلا تبليغ رسالات ربي خالصا من شوب ما تظنون بي من كوني كاذبا فلست بغاش لكم فيما أريد أن أحملكم عليه، ولا خائن لما عندي من الحق بالتغيير ولا لما عندي من حقوقكم بالاضاعة، فما أريده منكم من التدين بدين التوحيد هو الذي أراه حقا، وهو الذي فيه نفعكم وخيركم فإنما وصف نفسه بالامين محاذاة لقولهم: " وإنا لنظنك من الكاذبين ". قوله تعالى: " أ وعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم " إلى آخر الآية. البصطة هي البسطة قلبت السين صادا لمجاورتها الطاء وهو من حروف الاطباق كالصراط والسراط والآلاء جمع ألى بفتح الهمزه وكسرها بمعنى النعمة كآناء جمع أنى وإنى. ثم أنكر عليه السلام تعجبهم من رسالته إليهم نظير ما تقدم من نوح عليه السلام وذكرهم نعم الله عليهم، وخص من بينها نعمتين ظاهرتين هما أن الله جعلهم خلفاء في الارض بعد نوح، وأن الله خصهم من بين الاقوام ببسطة الخلق وعظم الهيكل البدني المستلزم لزيادة الشدة والقوة، ومن هنا يظهر أنهم كانوا ذوي حضارة وتقدم، وصيت في البأس والقوة والقدرة. ثم أتبعهما بالاشارة إلى سائر النعم بقوله تعالى: " فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون ". قوله تعالى: " قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا " الآية. فيه تعلق منهم بتقليد الآباء، وتعجيز هود مشوبا بنوع من الاستهزاء بما أنذرهم به

[ 179 ]

من العذاب. قوله تعالى: " قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب " إلى آخر الآية. الرجس والرجز هو الامر الذي إذا وقع على الشئ أوجب ابتعاده أو الابتعاد عنه، ولذا يطلق على القاذورة لان الانسان يتنفر ويبتعد عنه، وعلى العذاب لا المعذب - اسم مفعول - يبتعد عمن يعذبه أو من الناس الآمنين من العذاب. أجابهم بأن إصرارهم على عبادة الاوثان بتقليد آبائهم أوجب أن يحق عليهم البعد عن الله بالرجس والغضب، ثم فرع عليه أن هددهم بما يستعجلون من العذاب، وأخبرهم بنزوله عليهم لا محالة، وكنى عن ذلك بأمرهم بالانتظار واخبارهم بأنه مثلهم في انتظار نزول العذاب فقال: " فانتظروا إني معكم من المنتظرين ". وأما قوله: " أ تجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان " فهو رد لما استندوا إليه في إلوهية آلهتهم وهو أنهم وجدوا آباءهم على عبادتها - وهم أكمل منهم وممن في طبقتهم كهود وأعقل - فيجب عليهم أن يقلدوهم. ومحصله أنكم وآباءكم سواء في أنكم جميعا أتيتم بأشياء ليس لكم على ما ادعيتم من صفتها وهي الالوهية من سلطان وهو البرهان والحجة القاطعة فلا يبقى لها من الالوهيه إلا الاسماء التي سميتموها بها إذ قلتم: إله الخصب وإله الحرب وإله البحر وإله البر، وليس لهذه الاسماء مصاديق إلا في أوهامكم، فهل تجادلونني في الاسماء، وللانسان أن يسمي كل ما شاء بما شاء إذا لم يعتبر تحقق المعنى في الخارج. وقد تكرر في القرآن الاستدلال على بطلان الوثنية بهذا البيان: " أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان " وهو من ألطف البيان وأرقه، وأبلغ الحجة وأقطعها إذ لو لم يأت الانسان لما يدعيه من دعوى بحجة برهانية لم يبق لما يدعيه من النعت إلا التسمية والتعبير، ومن أبده الجهل أن يعتمد الانسان على مثل هذا النعت الموهوم. وهذا البيان يطرد ويجري بالتحليل في جميع الموارد التي يثق فيها الانسان على غير الله سبحانه من الاسباب، ويعطيها من الاستقلال ما يوجب تعلق قلبه بها وطاعته لها وتقربه منها فإن الله سبحانه عد في موارد من كلامه طاعة غيره والركون إلى من سواه عبادة له قال: " أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين

[ 180 ]

وأن اعبدوني " يس: 61. قوله تعالى: " فأنجيناه والذين معه برحمة منا " إلى آخر الآية، تنكير الرحمة للدلالة على النوع أي بنوع من الرحمة وهي الرحمة التي تختص بالمؤمنين من النصرة الموعودة لهم قال تعالى: " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد " المؤمن: 51، وقال: " وكان حقا علينا نصر المؤمنين " الروم: 47. وقوله: " وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا " الآية كناية عن إهلاكهم وقطع نسلهم فإن الدابر هو الذي يلي الشئ من خلفه فربما وصف به الامر السابق على الشئ كأمس الدابر، وربما وصف به اللاحق كدابر القوم وهو الذي في آخرهم فنسبة القطع إلى الدابر بعناية أن النسل اللاحق دابر متصل بالانسان في سبب ممتد، وإهلاك الانسان كذلك كأنه قطع هذا السبب الموصول فيما بينه وبين نسله. وسيأتي تفصيل البحث عن قصة هود عليه السلام في تفسير سورة هود إن شاء الله * * * وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينه من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم - 73. واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الارض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الارض مفسدين - 74. قال الملا الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أ تعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون - 75. قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون - 76.

[ 181 ]

فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين - 77. فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين - 78. فتولى عنهم و قال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين - 79. (بيان) قوله تعالى: " وإلى ثمود أخاهم صالحا " إلى آخر الآية. ثمود أمة قديمة من العرب سكنوا أرض اليمن بالاحقاف بعث الله إليهم " أخاهم صالحا " وهو منهم " فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره " دعاهم إلى التوحيد وقد كانوا مشركين يعبدون الاصنام على النحو الذي دعا نوح وهود عليهما السلام قومهما المشركين. وقوله: " قد جاءتكم بينة من ربكم " أي شاهد قاطع في شهادته ويبينه قوله بالاشارة إلى نفس البينة: " هذه ناقة الله لكم آية " وهي الناقة التي أخرجها الله لهم من الجبل آيه لنبوته بدعائه عليه السلام، وهي العناية ة في إضافة الناقة إلى الله سبحانه. وقوله: " فذروها تأكل في أرض الله " الآية. تفريع على كون الناقة آية لله، وحكم لا يخلو عن تشديد عليهم يستتبع كلمة العذاب التي تفصل بين كل رسول وأمته قال تعالى: " ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون " يونس: 47، وفي الآية تلويح إلى أن تخليتهم الناقة وشأنها في الاكل والسير في االارض كانت مما يشق عليهم فكانوا يتحرجون من ذلك وفي قوله: " في أرض الله " إيماء إليه فوصاهم وحذرهم أن يمنعوها من إطلاقها ويمسوها بسوء كالعقر والنحر فإن وبال ذلك عذاب إليم يأخذهم. قوله تعالى: " واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد " إلى آخر الآية دعاهم إلى أن يذكروا نعم الله عليهم كما دعا هود عادا إلى ذلك، وذكرهم أن الله جعلهم خلفاء يخلفون أمما من قبلهم كعاد، وبوأهم من الارض أي مكنهم في منازلهم منها، يتخذون

[ 182 ]

من سهولها - والسهل خلاف الجبل سمي به لسهولة قطعه - قصورا وهى الدور التي لها سور على ما قيل، وينحتون الجبال بيوتا يأوون إليها ويسكنونها. ثم جمع الجميع ولخصها في قوله: " فاذكروا آلاء الله " وأورده في صورة التفريع مع أنه إجمال للتفصيل الذي قبله بإيهام المغايرة كأنه لما أمر بذكر النعم وعد من تفاصيل النعم أشياء كأنهم لا يعلمون بها قيل ثانيا: فإذا كان لله فيكم آلاء ونعم عظيمه أمثال التي ذكرت فاذكروا آلاء الله. وأما قوله: " ولا تعثوا في الارض مفسدين " فمعطوف على قوله: " فاذكروا " عطف اللازم على ملزومه، وفسر العثي بالفساد وفسر بالاضطراب والمبالغة. قال الراغب في المفردات: العيث والعثي يتقاربان نحو جذب وجبذ إلا أن العيث أكثر ما يقال في الفساد الذي يدرك حسا، والعثي فيما يدرك حكما يقال: عثي يعثي عثيا وعلى هذا: " ولا تعثوا في الارض مفسدين ". انتهى. قوله تعالى: " قال الملا الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم " إلى آخر الآيتين، دل سبحانه ببيان قوله: " للذين استضعفوا " بقوله: " لمن آمن منهم " على أن المستضعفين هم المؤمنون وأن المؤمنين إنما كانوا من المستضعفين ولم يكن ليؤمن به أحد من المستكبرين والباقي ظاهر. قوله: " فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم " إلى آخر الآية عقر النخلة قطعها من أصلها، وعقر الناقة نحرها، وعقر الناقة أيضا قطع قوائمها، والعتو هو التمرد والامتناع وضمن في الآية معنى الاستكبار بدليل تعديته بعن، والباقي ظاهر. قوله تعالى: " فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين " إلى آخر الآيتين. الرجفة هي الاضطراب والاهتزاز الشديد كما في زلزلة الارض وتلاطم البحر، والجثوم في الانسان والطير كالبروك في البعير. وقد ذكر الله هنا في سبب هلاكهم أنه أخذتهم الرجفة، وقال في موضع آخر: " وأخذ الذين ظلموا الصيحة " هود: 67، وفي موضع آخر: " فأخذتهم صاعقة العذاب الهون " حم السجدة: 17، والصواعق السماوية لا تخلو عن صيحة هائلة تقارنها ولا ينفك ذلك غالبا عن رجفة الارض هي نتيجة الاهتزاز الجوي الشديد إلى الارض

[ 183 ]

وتوجف من جهة أخرى القلوب وترتعد الاركان، فالظاهر أن عذابهم إنما كان بصاعقة سماوية اقترنت صيحة هائلة ورجفة في الارض أو في قلوبهم فأصبحوا في دارهم أي في بلدهم جاثمين ساقطين على وجوههم وركبهم. والآية تدل على أن ذلك كان مرتبطا بما كفروا وظلموا آية من آيات الله مقصودا بها عذابهم عذاب الاستئصال، ولا نظر في الآية إلى كيفية حدوثها، والباقي ظاهر. * * * ولوطا إذ قال لقومه أ تأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين - 80. إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون - 81. وما كان جواب قومه إلا إن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون - 82. فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين - 83. وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين - 84. (بيان) قوله تعالى: " ولوطا إذ قال لقومه أ تأتون الفاحشة " إلى آخر الآية. ظاهره أنه من عطف القصة على القصه أي عطف قوله: " لوطا " على " نوحا " في قوله في القصة الاولى: " ولقد أرسلنا نوحا " فيكون التقدير ولقد أرسلنا لوطا إذ قال لقومه (الخ)، لكن المعهود من نظائر هذا النظم في القرآن أن يكون بتقدير " اذكر " بدلالة السياق، وعلى ذلك فالتقدير: واذكر لوطا الذي أرسلناه إذ قال لقومه (الخ) والظاهر أن تغيير السياق من جهة أن لوطا من الانبياء التابعين لشريعة إبراهيم عليهما السلام لا لشريعة نوح عليه السلام، ولذلك غير السياق في بدء قصته عن السياق السابق في قصص نوح وهود وصالح فغير السياق في بدء قصته ثم رجع إلى السياق في قصة شعيب عليه السلام.

[ 184 ]

وقد كان لوط - على ما سيأتي أن شاء الله من تفصيل قصته في سورة هود - مرسلا إلى أهل سدوم وغيره يدعوهم إلى دين التوحيد وكانوا مشركين عبدة أصنام. وقوله: " أ تأتون الفاحشة " يريد بالفاحشة اللواط بدليل قوله: " إنكم لتأتون الرجال شهوة " وفي قوله: " ما سبقكم بها من إحد من العالمين " أي أحد من الامم والجماعات دلالة على أن تاريخ ظهور هذه الفاحشة الشنيعة تنتهي إلى قوم لوط، وسيأتي جل ما يتعلق به من الكلام في تفصيل قصته في سورة هود. قوله تعالى: " إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء " الآية إتيان الرجال كناية عن العمل بهم بذلك، وقوله: " شهوة " قرينة عليه وقوله " من دون النساء " قرينة أخرى على ذلك، ويفيد مضافا إلى ذلك أنهم كانوا قد تركوا سبيل النساء واكتفوا بالرجال، ولتعديهم سبيل الفطرة والخلقة إلى غيره عدهم متجاوزين مسرفين فقال: " بل أنتم قوم مسرفون ". ولكون عملهم فاحشة مبتدعة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين استفهم عن ذلك مقارنا ب‍ " إن " المفيدة للتحقيق فأفاد التعجب والاستغراب، والتقدير: " إنكم لتأتون " الآية. قوله تعالى 6 " وما كان جواب قومه إلا أن قالوا " إلى آخر الآية. أي لم يكن عندهم جواب فهددوه بالاخراج من البلد فإن قولهم: " أخرجوهم من قريتكم " الآية. ليس جوابا عن قول لوط لهم: " أ تأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد " الآية. فجواب الكلام في ظرف المناظرة إما إمضاؤه والاعتراف بحقيته وإما بيان وجه فساده، وليس في قولهم: " أخرجوهم " إلى آخره شئ من ذلك فوضع ما ليس بجواب في موضع الجواب كناية عن عدم الجواب ودلالة على سفههم. وقد استهانوا أمر لوط إذ قالوا: " أخرجوهم من قريتكم " الآية أي أن القرية أي البلدة لكم وهم نزلاء ليسوا منها وهم يتنزهون عما تأتونه ويتطهرون، ولا يهمنكم أمرهم فليسوا إلا أناسا لا عدة لهم ولا شدة. قوله تعالى: " فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين " فيه دلالة على أنه لم يكن آمن به إلا أهله، موضع آخر: " فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين " الذاريات: 36.

[ 185 ]

وقوله: " كانت من الغابرين " أي الماضين من القوم، وهو استعارة بالكناية عن الهلاك والباقي ظاهر. قوله تعالى: " وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين " ذكر الامطار في مورد ترقب ذكر العذاب يدل على أن العذاب كان به وقد نكر المطر للدلالد على غرابة أمره وغزارة أثره، وقد فسره الله تعالى في موضع آخر بقوله: " وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد " هود: 83. وقوله: " فانظر كيف كان عاقبة المجرمين " توجيه خطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليعتبر به هو وأمته. * * * وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الارض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين - 85. ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين - 86. وأن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين - 87. قال الملا الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أ ولو كنا كارهين - 88. قد افترينا

[ 186 ]

على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شئ علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين - 89. وقال الملا الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون - 90. فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين - 91. الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين - 92. فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين - 93. (بيان) قوله تعالى: " وإلى مدين أخاهم شعيبا " الآية معطوف على القصة الاولى وهي قصة نوح عليه السبلم، وقد بنى غليه السلام دعوته على أساس التوحيد كما بناها عليه من قبله من الرسل المذكورين في القصص المتقدمة. وقوله: " قد جاءتكم بينة من ربكم " يدل على مجيئه بآية تدل على رسالته ولكن الله سبحانه لم يذكر ذلك في كتابه وليست هذه الآية هي آية العذاب التي يذكرها الله تعالى في آخر قصته فإن عامة قومه من الكفار لم ينتفعوا بها بل كان فيها هلاكهم ولا معنى لكون آية العذاب آية للرسالة مبينة للدعوة. على أنه يفرع قوله: " فأوفوا الكيل والميزان " الآية على مجئ الآية ظاهرا وإنما يستقيم الدعوة إلى العمل بالدين قبل نزول العذاب وتحقق الهلاك. وهو ظاهر. وقد دعاهم أولا بعد التوحيد الذي هو أصل الدين إلى إيفاء الكيل والميزان وأن

[ 187 ]

لا يبخسوا الناس أشياءهم فقد كان الافساد في المعاملات رائجا فيهم شائعا بينهم. ثم دعاهم ثانيا بقوله: " ولا تفسدوا في الارض بعد إصلاحها " إلى الكف عن الافساد في الارض بعد ما إصلحها الله بحسب طبعها، والفطرة الانسانية الداعية إلى إصلاحها كى ينتظم بذلك أمر الحياة السعيدة، والافساد في الارض وإن كان بحسب اطلاق معناه يشمل جميع المعاصي والذنوب مما يتعلق بحقوق الله أو بحقوق الناس كائنة ما كانت لكن مقابلته لما قبله وما بعده يخصه - تقريبا - بالافساد الذي يسلب الامن العام في الاموال والاعراض والنفوس كقطع الطرق ونهب الاموال وهتك الاعراض وقتل النفوس المحترمة. ثم علل دعوته إلى الامرين بقوله: " ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين " أما كون إيفاء الكيل والميزان وعدم بخس الناس أشياءهم خيرا فلان حياة الانسان الاجتماعية في استقامتها مبنية على المبادلة بين الافراد بإعطاء كل منهم ما يفضل من حاجته، و أخذ ما يعادله مما يتمم به نقصه في ضروريات الحياة وما يتبعها وهذا يحتاج إلى أمن عام في المعاملات تحفظ به أوصاف الاشياء ومقاديرها على ما هي عليه فمن يجوز لنفسه البخس في أشياء الناس فهو يجوز ذلك لكل من هو مثله وهو شيوعه، وإذا شاع البخس والغش والغرر من غير أن يؤمن حلول السم محل الشفا ء والردي مكان الجيد، والخليط مكان الخالص، وبالاخرة كل شئ محل كل شئ بأنواع الحيل والعلاجات كان فيه هلاك الاموال والنفوس جميعا. وأما كون الكف عن إفساد الارض خيرا لهم فلان سلب الامن العام يوقف رحى المجتمع الانساني عن حركتها من جميع الجهات وفي ذلك هلاك الحرث والنسل وفناء الانسانية. فالمعنى إيفاء الكيل والميزان وعدم البخس والكف عن الفساد في الارض خير لكم يظهر لكم خيريته إن كنتم مصدقين لقولي مؤمنين بي، إو المعنى: ذلكم خير لكم تعلمون أنه خير إن كنتم ذوي إيمان بالحق. وربما قيل: أن المعنى ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين بدعوتي فأن غير المؤمن لا ينتفع بسبب ما عنده من الكفر القاضي بشقائه وخسرانه وضلال سعيه بهذه الخيرات الدنيوية بحسب الحقيقة لان انتفاعه إنما هو انتفاع في موطن خيالي وهو الحياة الدنيا التي

[ 188 ]

هي لعب، وأن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون. هذا كله على تقدير كون المشار إليه بقوله: " ذلكم " هو إيفاء الكيل وما بعده كما هو ظاهر السياق، وأما إخذ الاشارة إلى جميع ما تقدم وجعل المراد بالايمان هو الايمان المصطلح دون الايمان اللغوي كما احتمله بعضهم فهو أشبه باشتراط الشئ بنفسه لرجوع المعنى إلى نحو قولنا إن كنتم مؤمنين فالعبادة لله وحده بالايمان به وإيفاء الكيل والميزان وعدم الفساد في الارض خير لكم. ويرد على الوجهين الاخيرين جميعا أن ظاهر قوله: " إن كنتم مؤمنين " ثبوت اتصافهم بالايمان قبل حال الخطاب فإنه مقتضى تعليق الحكم بقوله: " كنتم مؤمنين " المؤلف من ماضي الكون الناقص واسم الفاعل من الايمان المقتضى لاستقرار الصفة فيهم زمانا، ولا يخاطب بمثل هذا المعنى القوم الذين فيهم الكافر والمؤمن والمستكبر والمنقاد ولو كان كما يقولون لكان من حق الكلام أن يقال: ذلكم خير لكم إن آمنتم أو إن تؤمنوا فالظاهر أنه لا محيص من كون المراد بالايمان غير الايمان المصطلح. قوله تعالى: " ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا " الآية ظاهر السياق أن " توعدون وتصدون " حالان من فاعل " لا تقعدوا " وقوله " وتبغونها " حال من فاعل " تصدون ". ثم دعاهم ثالثا إلى ترك التعرض لصراط الله المستقيم الذي هو الدين فإن في الكلام تلويحا إلى أنهم كانوا يقعدون على طريق المؤمنين بشعيب عليه السلام ويوعدونهم على إيمانهم به والحضور عنده والاستماع منه وإجراء العبادات الدينية معه، ويصرفونهم عن التدين بدين الحق والسلوك في طريقة التوحيد وهم يسلكون طريق الشرك، ويطلبون سبيل الله الذي هو دين الفطرة عوجا. وبالجملة كانوا يقطعون الطريق على الايمان بكل ما يستطيعون من قوة واحتيال فنهاهم عن ذلك، ووصاهم أن يذكروا نعمة الله عليهم ويعتبروا بالنظر إلى ما يعلمونه من تاريخ الامم الغابرة، وما آل إليه أمر المفسدين من عاقبة السوء. فقوله: " و اذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين " كلام مسوق سوق العظة والتوصية وهو يقبل التعلق بجميع ما تقدم من الاوامر والنواهي

[ 189 ]

فقوله: " واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم " أمر بتذكر تدرجهم من القلة إلى الكثرة بازدياد النسل فإن ذلك من نعم الله العظيمة على هذا النوع الانساني لان الانسان لا يقدر على أن يعيش وحده من غير اجتماع إذ الغاية الشريفة والسعادة العالية الانسانية التي يمتاز بها عن سائر الانواع الحيوانية وغيرها اقتضت أن تهب العناية الالهية له إدوات وقوى مختلفة وتركيبا وجوديا خاصا لا يستطير أن يقوم بضروريات حوائجها العجيبة المتفننة وحده بل بالتعاضد مع غيره في تحصيل المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمنكح وغيرها تعاضدا في الفكر والارادة والعمل. ومن المعلوم إنه كلما ازداد عدد المجتمعين ازدادت القوة المركبة الاجتماعية، واشتدت في فكرتها وإرادتها وعملها فأحست وشعرت بدقائق الحوائج، وتنبهت للطائف من الحيل لتسخير القوى الطبيعية في رفع نواقصها. فمن المنن الالهية أن النسل الانساني آخذ دائما في الزيادة متدرج من القلة إلى الكثرة، وذلك من الاركان في سير النوع من النقص إلى الكمال فليست الامم العظيمة كالشراذم القليلة التي تتخطف من كل جانب، ولا الاقوام والعشائر الكبيرة كالطوائف الصغيرة التي لا تستقل في شأن من شؤونها السياسية والاقتصادية والحربية وغيرها مما يوزن بزنة العلم والارادة والعمل. وإما عاقبة المفسدين فيكفي في التبصر بها ما نقل عن عواقب أحوال الامم المستعلية المستكبرة الطاغية التي ملات القلوب رعبا، والنفوس دهشة، وخربت الديار، ونهبت الاموال، وسفكت الدماء، وأفنت الجموع، واستعبدت العباد، وأذلت الرقاب. مهلهم الله في عتوهم واعتداءهم حتى إذا بلغوا أوج قدرتهم، واستووا على أريكة شوكتهم غرتهم الدنيا بزينتها واجتذبتهم الشهوات إلى خلاعتها فألهتهم عن فضيلة التعقل واشتغلوا بملاهي الحياة والعيش واتخذوا إلههم هواهم وأضلهم الله على علم فسلبوا القدرة والارادة، وحرموا النعمة فتفرقوا أيادى سبا. فكم في ذكر الدهر من أسماء القياصرة والفراعنة والاكاسرة والفغافرة وغيرهم لم يبق منهم إلا أسماء ان لم تنس، ولم تثبت من هيمنتهم إلا أحاديث فمن السنة الالهية الجارية في الكون أن تبتني حياة الانسان على التعقل فإذا تعدى ذلك وأخذ في الفساد

[ 190 ]

والافساد أبى طباع الكون ذلك، وضادته الاسباب بقواها، وطحنته بجموعها، وضربت عليه بكل ذلة ومسكنة. قوله تعالى: " وان كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به " إلى آخر الآية. ثم دعاهم رابعا إلى الصبر على تقدير وقوع الاختلاف بينهم بالايمان والكفر فأنه كان يوصيهم جميعا قبل هذه الوصية بالاجتماع على الايمان بالله والعمل الصالح، وكأنه أحس منهم إن ذلك مما لا يكون البتة، وأن الاختلاف كائن لا محالة وأن الملا المستكبرين من قومه وهم لذين كانوا يوعدون و يصدون عن سبيل الله سيأخذون في إفساد الارض وايذاء المؤمنين ويوجب ذلك في المؤمنين وهن عزيمتهم، وتسلط الناس على قلوبهم فإمرهم جميعا بالصبر وانتظار أمر الله فيهم ليحكم بينهم وهو خير الحاكمين. فإن في ذلك صلاح المجتمع، إما المؤمنون فلا يقعون في البإس من الحياة الآمنة والاضطراب والحيرة من جهة دينهم وإما الكفار فلا يقعون في ندامة الاقدام من غير رؤية ومفسدة المظلمة على جهالة فحكم الله خير فاصل بين الطائفتين فهو خير الحاكمين لا يساهل في حكم إذا حان حينه، ولا يجور في حكم إذا ما حكم فقوله: " فاصبروا " بالنسبة إلى الكفار أمر ارشادي، وبالنسبة إلى المؤمنين إمر مولوي أو ارشادي، وهو ارشاد الجميع إلى ما يصلح حالهم. قوله تعالى: " قال الملا الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب " الآية. لم يسترشد الملا المستكبرون من قومه بما أرشدهم إليه من الصبر وانتظار الحكم الفصل في ذلك من الله سبحانه بل بادروه بتهديده وتهديد المؤمنين بإخراجهم من أرضهم إلا أن يرجعوا إلى ملتهم بالارتداد عن دين التوحيد. وفي تأكيدهم القول " لنخرجنك " " ولتعودن " بالقسم ونون التأكيد دلالة على قطعهم العزم على ذلك، ولذا بادر عليه السلام بعد استماع هذا القول منهم إلى الاستفتاح من الله سبحانه. قوله تعالى: " قال أ ولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم " الآية. أجاب عليه السلام بكراهة العود في ملتهم بدليل ما بعده من الجمل ولازم ذلك اختيار الشق الآخر على تقدير الاضطرار إلى أحدهما كما أخبروه.

[ 191 ]

وقد أجاب عليه السلام عن نفسه وعن المؤمنين به من قومه وذكر أنه والمؤمنين به جميعا كارهون للعود إلى ملتهم فإن في ذلك افتراء للكذب على الله سبحانه بنسبة الشركاء إليه، وما يتبعها من الاحكام المفتراة في دين الوثنية فقوله: " قد افترينا على الله كذبا " الآية. بمنزلة التعليل لقوله: " أ ولو كنا كارهين ". ومن أسخف الاستدلال الاحتجاج بقوله: " إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها " على أن شعيبا عليه السلام كان قبل نبوته مشركا وثنيا - حاشاه - وقد تقدم آنفا أنه يتكلم عن نفسه وعن المؤمنين به من قومه وقد كانوا كفارا مشركين قبل الايمان به فأنجاهم الله من ملة الشرك وهداهم بشعيب إلى التوحيد فقول: " شعيب نجانا الله " تكلم عن المجموع بنسبة وصف الجل إلى الكل، هذا لو كان المراد بالتنجية التنجية الظاهرية من الشرك الفعلي وأما لو أريد بها التنجية الحقيقية وهي الاخراج من كل ضلال محقق موجود أو مقدر مترقب كان شعيب - وهو لم يشرك بالله طرفة عين - وقومه - وهم كانوا مشركين قبل زمان إيمانهم بشعيب - جميعا ممن نجاهم الله من الشرك إذ لا يملك الانسان لنفسه الهالكة ضرا ولا نفعا وما إصابه من خير فهو من الله سبحانه. وقوله: " وما يكون لنا إن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا " كالاضراب والترقي بالجواب القاطع كأنه قال: نحن كارهون العود إلى ملتكم لان فيه افتراء على الله بل أن ذلك مما لا يكون البتة، وذلك أن كراهة شئ إنما توجب تعسر التلبس به دون تعذره فاجأب عليه السلام ثانيا بتعذر العود بعد جوابه أولا بتعسره، وهو ما ذكرناه من الاضراب والترقي. ولما كان قوله: " وما يكون لنا أن نعود فيها " في معنى أن يقال: " لن نعود إليها أبدا " والقطع في مثل هذه العزمات مما هو بعيد عن أدب النبوة فإنه في معنى: لن نعود على أي تقدير فرض حتى لو شاء الله، وهو من الجهل بمقامه تعالى، استثنى مشية الله سبحان فقال: " إلا إن يشاء الله ربنا " فإن الانسان كيفما كان جائز الخطأ فمن الجائز أن يخطئ بذنب فيعاقبه الله بسلب عنايته به فيطرده من دينه فيهلك على الضلال. وفي الجمع بين الاسمين في قوله: " الله ربنا " إشارة إلى إن الله الذي يحكم ما يشاء هو الذي يدبر أمرنا وهو إله ورب، على ما يقتضيه دين التوحيد لا كما يعلمه دين

[ 192 ]

الوثنية فإنه يسلم الالوهيه لله ثم يفرز الربوبية بمختلف شؤونها بين الاوثان ويسميها رب البحر ورب البر وهكذا. وقوله: " وسع ربنا كل شئ علما " كالتعليل لتعقيب الكلام بالاستثناء كإنه قيل لما استثنيت بعد ما أطلقت الكلام وقطعت في العزم ؟ فقال: لانه وسع ربي كل شئ علما ولا أحيط من علمه إلا بما شاء فمن الجائز أن يتعلق مشيته بشئ غائب عن علمي ساءني أو سرنى كأن يتعلق علمه بأنا سنخالفه في بعض أوامره فيشاء عودنا إلى ملتكم، وإن كنا اليوم كارهين له، ولعل هذا المعنى هو السبب في تعقيب هذا القول بمثل قوله: " على الله توكلنا " فإن من يتوكل على الله كان حسبه وصانه من شر ما يخاف. ولما بلغ الكلام هذا المبلغ وقد أخبروهم بعزمهم على إحد الامرين: الاخراج أو العود، وأخبرهم شعيب عليه السلام بالعزم القاطع على عدم العود إلى ملتهم البتة التجأ عليه السلام إلى ربه واستفتح بقوله عن نفسه وعن المؤمنين: " ربنا أفتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين " يسأل ربه أن يفتح بينهم أي بين شعيب والمؤمنين به، وبين المشركين من قومه، وهو الحكم الفصل فإن الفتح بين شيئين يستلزم إبعاد كل منهما عن صاحبه حتى لا يماس هذا ذاك ولا ذاك هذا دعا عليه السلام بالفتح وكنى به عن الحكم الفصل وهو الهلاك أو هو بمنزلته وأبهم الخاسر من الرابح والهالك من الناجي وهو يعلم أن الله سينصره وأن الخزي اليوم والسوء على الكافرين لكنه عليه السلام إخذ بالنصفة للحق وتأدب بإرجاع الامر في ذلك إلى الله كما أتى بنظير ذلك في قوله السابق: " فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين. وخير الحاكمين وخير الفاتحين اسمان من أسماء الله الحسنى، وقد تقدم البحث عن معنى الحكم فيما مر، وعن معنى الفتح آنفا وسيجئ الكلام المستوفى في الاسماء الحسنى في تفسير قوله تعالى: " ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها " الآية 180 من السورة أن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " وقال الملا الذين كفروا من قومه " إلى آخر الآية. هذا تهديد منهم لمن آمن بشعيب أو أراد أن يؤمن به ويكون من جملة الايعاد والصد اللذين كان شعيب ينهى عنهما بقوله: " ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله "

[ 193 ]

ويكون إفراد هذا بالذكر ههنا من بين سائر أقوالهم ليكون كالتوطئة والتمهيد لما سيأتي من قولهم بعد ذكر هلاكهم: " الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ". ويحتمل أن يكون الاتباع بمعناه الظاهر العرفي وهو اقتفاء إثر الماشي على الطريق والسالك السبيل بأن يكون الملا المستكبرون لما اضطروه ومن معه إلى أحد الامرين: الخروج من أرضهم أو العود في ملتهم ثم سمعوه يرد عليهم العود إلى ملتهم ردا قاطعا ثم يدعو بمثل قوله: " ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين " لم يشكوا أنه سيتركهم ويهاجر إلى أرض غير إرضهم، ويتبعه في هذا المهاجرة المؤمنون به من القوم خاطبوا عند ذلك طائفة المؤمنين بقولهم: " لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون " فهددوهم وخوفوهم بالخسران إن تبعوه في الخروج من أرضهم ليخرج شعيب وحده فإنهم إنما كانوا يعادونه إياه بالاصالة، وأما المؤمنون فإنما كانوا يبغضون من جهته ولاجله. وعلى إي الوجهين كان فالآية كالتوطئة والتمهيد للآية الآتية: " الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين " كما تقدمت الاشارة إليه. قوله تعالى: " فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين " أصبحوا أي صاروا أو دخلوا في الصباح، وقد تقدم معنى الآية في نظيرتها من قصة صالح. قوله تعالى: " الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها - إلى قوله - الخاسرين " قال الراغب في المفردات: وغني في مكان كذا إذا طال مقامه فيه مستغنيا به عن غيره بغنى قال: كأن لم يغنوا فيها (انتهى). و " كأن " مخفف كأن خفف لدخوله الجملة الفعلية. فقوله: " الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها " فيه تشبيه حال المكذبين من قومه بمن لم يطيلوا الاقامة في أرضهم فإن إمثال هؤلاء يسهل زوالهم لعدم تعلقهم بها في عشيرة وأهل أو دار أو ضياع وعقار، وأما من تمكن في أرض واستوطنها وأطال المقام بها وتعلق بها بكل ما يقع به التعلق في الحياة المادية فإن تركها له متعسر كالمتعذر وخاصة ترك الامه القاطنة في أرض أرضها وما اقتنته فيها طول مقامها. وقد ترك هؤلاء وهم أمة عريقة في الارض دارهم وما فيها، في أيسر زمان أخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين. وقد كانوا يزعمون أن شعيبا ومن تبعه منهم سيحشرون فخاب ظنهم وانقلبت

[ 194 ]

الدائرة عليهم فكانوا هم الخاسرين فمكروا ومكر الله والله خير الماكرين. وإلى هذا يشير تعالى حيث ذكر أولا قولهم: إن متبعي شعيب خاسرون، ثم ذكر نزول العذاب وأبهم الذين أخذتهم الرجفة فقال: " فأخذتهم الرجفة " ولم يقل: فأخذت الذين كفروا الرجفة، ثم صرح في قوله: " الذين كذبوا شعيبا " الآية أن الحكم الالهي والهلاك والخسران كان لشعيب ومن تبعه على الذين كذبوه من قومه فكانوا هم الخاسرين الممكور بهم، وهم يزعمون خلافه. قوله تعالى: " فتولى عنهم " إلى آخر الآية. ظاهر السياق أنه إنما تولى بعد نزول العذاب عليهم وهلاكهم، وأن الخطاب خطاب اعتبار، وقوله: " فكيف آسى " (الخ) هو من الآسى أي كيف أحزن والباقي ظاهر. * * * وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون - 94. ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون - 95. ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والاض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون - 96. أ فامن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون - 97. أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون - 98. أ فامنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون - 99. أو لم يهد للذين يرثون الارض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون - 100. تلك القرى نقص عليك

[ 195 ]

من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين - 101. وما وجدنا لاكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين - 102. (بيان) الآيات متصلة بما قبلها وهي تلخص القول في قصص الامم الغابرة فتذكر أن أكثرهم كانوا فاسقين خارجين عن زي العبودية لم يفوا بالعهد الالهي والميثاق الذي أخذ منهم لاول يوم، وتبين أن ذلك كان هو السبب في وقوعهم في مجرى سنن خاصة إلهية يتبع بعضها بعضا، وهي أن الله سبحانه كان كلما أرسل إليهم نبيا من أنبيائه يمتحنهم ويختبرهم بالبأساء والضراء فكانوا يعرضون عن آيات الله التي كانت تدعوهم إلى الرجوع إلى الله والتضرع والانابة إليه، ولا ينتبهون بهاتيك المنبهات، وهذه سنة. وإذا لم ينفع ذلك بدلت هذه السنة بسنة أخرى، وهي الطبع على قلوبهم بتقسيتها وصرفها عن الحق وتعليقها بالشهوات المادية وزينات الحياة الدنيا وزخارفها، وهذة سنة المكر. ثم تتبعها سنة ثالثة وهي الاستدراج، وهي بتبديل السيئة حسنة، والنقمة نعمة والبأساء والضراء، سراء وفي ذلك تقريبهم يوما فيوما وساعة فساعة إلى العذاب الالهي حتى يأخذهم بغتة وهم لا يشعرون به لانهم كانوا يرون أنفسهم في مهد الامن والسلام فرحين بما عندهم من العلم، وما في اختيارهم من الوسائل الكافية على زعمهم في دفع ما يهددهم بهلاك أو يؤذنهم بالزوال. وقد أشار الله سبحانه في خلال هذه الآيات إلى حقيقة ناصعة هي المدار الذي يدور عليه أساس نزول النعم والنقم على العالم الانساني حيث يقول: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء " الآية. وتوضيحها أن العالم بما فيه من الاجزاء متعلق الابعاض مرتبط الاطراف يتصل بعضها

[ 196 ]

ببعض اتصال أعضاء بدن واحد وأجزائه بعضها ببعض في صحتها وسقمها واستقامتها في صدور أفاعيلها، وقيامها بالواجبات من أعمالها فالتفاعل بالآثار والخواص جار بينها عام شامل لها. والجميع على ما يبينه القرآن الشريف سائر إلى الله سبحانه سالك نحو الغاية التي قدرت له فإذا اختل أمر بعض أجزائه وخاصه الاجزاء الشريفة، وضعف أثره وانحرف عن مستقيم صراطه بان أثر فساده في غيره، وانعكس ذلك منه إلى نفسه في الآثار التي يرسلها ذلك الغير إليه، وهي آثار غير ملائمة لحال هذا الجزء المنحرف - وهي المحنة والبلية التي يقاسيها هذا السبب من ناحية سائر الاسباب - فإن استقام بنفسه أو بأعانة من غيره عاد إليه رفاه حاله السابق، ولو استمر على انحرافه واعوجاجه، وأدام فساد حاله دامت له المحنة حتى إذا طغى وتجاوز حده، وأوقفت سائر الاسباب المحيطة به في عتبة الفساد انتهضت عليه سائر الاسباب وهاجت بقواها التي أودعها الله سبحانه فيها لحفظ وجوداتها فحطمته ودكته ومحته بغتة وهو لا يشعر. وهذه السنة التي هي من السنن الكونية التي أقرها الله سبحانه في الكون غير متخلفة عن الانسان، ولا الانسان مستثنى منها فالامة من الامم إذا انحرفت عن صراط الفطرة انحرافا يصده عن السعادة الانسانية التي قدرت غاية لمسيرة في الحياة كان في ذلك اختلال حال غيره مما يحيط به من الاسباب الكونية المرتبطة به، وينعكس إليه أثره السيئ الذي لا سبب له إلا انحرافه عن الصراط وتوجيهه آثارا سيئة من نفسه إلى تلك الاسباب، وعند ذلك يظهر اختلالات في اجتماعاتهم، ومحن عامة في روابطهم العامة كفساد الاخلاق، وقسوة القلوب، وفقدان العواطف الرقيقة، وتهاجم النوائب وتراكم المصائب والبلايا الكونية كامتناع السماء من أن تمطر والارض من أن تنبت، والبركات من أن تنزل، ومفاجأة السيول والطوفانات والصواعق والزلازل وخسف البقاع وغير ذلك كل ذلك آيات إلهية تنبه الانسان وتدعو الامه إلى الرجوع إلى ربه، والعود إلى ما تركه من صراط الفطرة المستقيم، وامتحان بالعسر بعد ما امتحن باليسر. تأمل في قوله تعالى: " ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون " الروم: 41 تراه شاهدا ناطقا بذلك، فالآية تذكر أن المظالم والذنوب التي تكسبها أيدي الناس توجب فسادا في البر والبحر مما يعود إلى

[ 197 ]

الانسان كوقوع الحروب وانقطاع الطرق وارتفاع الامن وغير ذلك، أو لا يعود إليه كاختلال الاوضاع الجوية والارضية الذي يستضر به الانسان في حياته ومعاشه. ونظيره بوجه قوله تعالى: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير " الشورى: 30 على ما سيجئ ان شاء الله من تقرير معناه، وكذلك قوله تعالى: " ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " الرعد: 11، وما في معناه من الآيات. وبالجملة فإن رجعت الامه بذلك - وما أقله وأندره في الامم - فهو، وان استمرت على ضلالها وخبطها طبع الله على قلوبهم فاعتادوا ذلك، وأصبحوا يحسبون أن الحياة الانسانية ليست الا هذه الحياة المضطربة الشقية التي تزاحمها أجزاء العالم المادي وتضطهدها النوائب والرزايا، ويحطمها قهر الطبيعة الكونية - وأن ليس للانسان إلا أن يتقدم في العلم ويتجهز بالحيل الفكرية فيبارزها ويتخذ وسائل كافية في دفع قهرها وابطال مكرها كما اتخذ اليوم وسائل تكفي لدفع القحط والجدب والوباء والطاعون وسائر الامراض العامة السارية، وأخرى تنفي بها السيول والطوفانات والصواعق وغير ذلك مما يأتي به طاغية الطبيعة، ويهدد النوع بالهلاك. قتل الانسان ما أكفره ! أخذه الخيلاء فظن أن التقدم فيما يسميه حضارة وعلما يعده أنه سيغلب طبيعة الكون، ويبطل عزائمها، ويقهرها على أن تطيعه في مشيته، وتنقاد لاهوائه، وهو أحد أجزائها المحكومة بحكمها الضعيفة في تركيبها ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والارض، ولو فسدت لكان الانسان الضعيف من أقدم أجزائها في الفساد وأسرعها إلى الهلاك. ويخيل إليه أن الذي ترومه المعرفة الدينية هو أن تبطل نسبة الحوادث العظام إلى أسبابها الطبيعية ثم تضع زمامها في يد صانعها فيكون شريكا من الشركاء، للاسباب الاخر آثارها من الحوادث - وهي الحوادث التي يسعنا البحث عن عللها وأسبابها - وللسبب االذي هو الصانع بقية الآثار من الحوادث كالحوادث العامة والوقائع الجوية كالوباء والقحط والامطار والصواعق وغيرها ثم إذا كشف عن العلل الطبيعية المكتنفة لهذه الامور زعم أنه في غنى عن رب العالمين وتدبير ربوبيته. وقد فاته أن الله عز اسمه ليس سببا في عرض الاسباب وعلة في صف العلل

[ 198 ]

المادية والقوى الفعالة في الطبيعة بل هو الذي أحاط بكل شئ، وخلق كل سبب فساقه وقاده إلى مسببه وأعطى كل شئ خلقه ثم هدى ولا يحيط بخلقه ومسببه غيره فله أن يتسبب إلى كل شئ بما أراده من الاسباب المجهولة عندنا الغائبة عن علومنا. وإلى ذلك يشير نحو قوله تعالى: " أن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شئ قدرا " الطلاق: 3، وقوله: " والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون " يوسف: 21، وقوله: " وما أنتم بمعجزين في الارض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير " الشورى: 31، إلى غير ذلك من الآيات. وكيف يسع للانسان أن يحارب الله في ملكه ويتخذ بفكره وسائل لابطال حكمه وإرادته، وليس هو سبحانه في عرضها بل هو في طولها أي هو الذي خلق الانسان وخلق منه هذه الارادة ثم الفكر ثم الوسائل المتخذة، ووضع كلا في موضعه، وربط بعضها ببعض من بدئها إلى ختمها حتى أنهاها إلى الغاية الاخيرة التي يريد الانسان بجهالته أن يحارب بالتوسل إليها ربه في قضائه وقدره، ويناقضه في حكمه، وهو أحد الايادي العمالة لما يريده ويحكم به وبعض الاسباب المجرية لما يقدره ويقضى به. وإلى هذا الموقف الفضيح الانساني يشير تعالى بعد ذكر أخذه الانسان بالبأساء والضراء بقوله: " ثم بدلنا كان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون " على ما سيجئ إن شاء الله تعالى من تقرير معنى الآية عن قريب. فهذه حقيقة برهانية تقرر أن الانسان كغيره من الانواع الكونية مرتبط الوجود بسائر أجزاء الكون المحيطة به، ولاعماله في مسير حياته وسلوكه إلى منزل السعادة ارتباط بغيره فإن صلحت للكون صلحت أجزاء الكون له وفتحت له بركات السماء، وإن فسدت أفسدت الكون وقابله الكون بالفساد فإن رجع إلى الصلاح فيها، وإلا جرى على فساده حتى إذا تعرق فيه انتهض عليه الكون وأهلكه بهدم بنيانه وإعفاء أثره، وطهر الارض من رجسه. وكيف يمكن للانسان وأنى يسعه أن يعارض الكون بعمله وهو أحد أجزائه التي لا تستقل دونه البتة ؟ أو يماكره بفكره وإنما يفكر بترتيب القوانين الكلية المأخوذة

[ 199 ]

منه ؟ فافهم ذلك. فهذه حقيقة برهانية والقرآن الكريم يصدقها وينص عليها فالله سبحانه هو الذي خلق كل شئ فقدره تقديرا، وهداه إلى ما يسعده، ولم يخلق العالم سدى، ولا شيئا من أجزائه ومنها الانسان لعبا، بل إنما خلق ما خلق ليتقرب منه ويرجع إليه، وهيأ له منزلة سعادة يندفع إليها بحسب فطرته بإذن الله سبحانه، وجعل له سبيلا ينتهي إلى سعادته فإذا سلك سبيله الفطري فهو، وإلا فإن انحرف عنه انحرافا لا مطمع في رجوعه إلى سوي الصراط فقد بطلت فيه الغاية، وحقت عليه كلمة العذاب. قوله تعالى: " وما أرسلنا في قرية من نبي " إلى آخر الآية. قيل: البأساء في المال كالفقر، والضراء في النفس كالمرض، وقيل: يعني بالبأساء ما نالهم من الشدة في أنفسهم وبالضراء ما نالهم في أموالهم، وقيل: غير ذلك. وقيل: أن البأس والبأساء يكثر استعمالهما في الشدة التي هي بالنكاية والتنكيل كما في قوله تعالى: " والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ". ولعل قوله بعد: " الضراء والسراء " حيث أريد بهما ما يسوء الانسان وما يسره يكون قرينة على إراده مطلق ما يسوء الانسان من الشدائد من الضراء، ويكون قوله: " بالبأساء والضراء " من ذكر العام بعد الخاص. يذكر سبحانه أن السنة الالهية جرت على إنه كلما أرسل نبيا من الانبياء إلى قرية من القرى - وما يرسلهم إليهم إلا ليهديهم سبيل الرشاد - ابتلاهم بشئ من الشدائد في النفوس والاموال رجاء أن يبعثهم ذلك إلى التضرع إليه سبحانه ليتم بذلك أمر دعوتهم إلى الايمان بالله والعمل الصالح. فالابتلاءات والمحن نعم العون لدعوة الانبياء فإن الانسان ما دام على النعمة شغله ذلك عن التوجه إلى من أنعمها عليه واستغنى بها، وإذا سلب النعمة أحس بالحاجة، ونزلت عليه الذلة والمسكنة، وعلاه الجزع، وهدده الفناء فيبعثه ذلك بحسب الفطرة إلى الالتجاء والتضرع إلى من بيده سد خلته ودفع ذلته، وهو الله سبحانه وإن كان لا يشعر به وإذا نبه عليه كان من المرجو اهتداؤه إلى الحق، قال تعالى: " وإذا أنعمنا على الانسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض " حم السجدة: 51. قوله تعالى: " ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا " إلى آخر الآية. تبديل الشئ

[ 200 ]

شيئا وضع الشئ الثاني مكان الشئ الاول والسيئة والحسنة معناهما ظاهر، والمراد بهما ما هما كالشدة والرخاء، والخوف والامن، والضراء والسراء كما يدل عليه قوله بعد: " قد مس آباءنا الضراء والسراء ". وقوله: " حتى عفوا " من العفو وفسر بالكثرة أي حتى كثروا أموالا ونفوسا بعد ما كان الله قللهم بالابتلاءات والمحن، وليس - ببعيد وإن لم يذكروه - أن يكون من العفو بمعنى إمحاء الاثر كقوله: ربع عفاه الدهر طولا فانمحى * قد كاد من طول البلى أن يمسحا فيكون المراد أنهم محوا بالحسنة التي أوتوها آثار السيئة السابقة وقالوا: " قد مس آباءنا الضراء والسراء " أي أن الانسان وهو في عالم الطبيعة المتحولة المتغيرة من حكم موقفه أن يمسه الضراء والسراء، وتتعاقب عليه الحدثان مما يسوؤه أو يسره من غير ان يكون لذلك انتساب إلى امتحان إلهي ونقمة ربانية. ومن الممكن بالنظر إلى هذا المعنى الثاني أن يكون قوله: " وقالوا " الخ، عطف تفسير لقوله: " عفوا " والمراد أنهم محوا رسم الامتحان الالهي بقولهم: " إن الضراء والسراء إنما هما من عادات الدهر المتبادلة المتداولة يداولنا بذلك كما كان يداول آباءنا كما قال تعالى: " ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لى وما أظن الساعة قائمة " حم السجدة: 50. وحتى في قوله: " حتى عفوا وقالوا " الآية، للغاية، والمعنى: ثم آتيناهم النعم مكان النقم فاستغرقوا فيها إلى أن نسوا ما كانوا عليه في حال الشدة وقالوا: إن هذه الحسنات وتلك السيئات من عادة الدهر فانتهى بهم إرسال الشدة ثم الرخاء إلى هذه الغاية، وكان ينبغي لهم أن يتذكروا عند ذلك ويهتدوا إلى مزيد الشكر بعد التضرع لكنهم غيروا الامر فوضعوا هذه الغاية مكان تلك الغاية التي رضيها لهم ربهم فطبع الله بذلك على قلوبهم فلا يسمعون كلمة الحق. ولعل قوله: " الضراء والسراء " قدم فيه الضراء على السراء ليحاذي ما في قوله تعالى: " ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة " من الترتيب. وفي قوله: " فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون " تلويح إلى جهل الانسان بجريان

[ 201 ]

الامر الالهي، ولذا كان الاخذ بغتة وفجأة من غير أن يشعروا به، وهم يظنون أنهم عالمون بمجاري الامور، وخصوصيات الاسباب، لهم أن يتقوا ما يهددهم من أسباب الهلاك بوسائل دافعة يهديهم إليها العلم، قال تعالى: " فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم " المؤمن: 83. قوله تعالى: " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات " إلى آخر الآية. البركات أنواع الخير الكثير ربما يبتلى الانسان بفقده كالامن والرخاء والصحة والمال والاولاد وغير ذلك. وقوله: " لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض " فيه استعارة بالكناية فقد شبهت البركات بمجاري تجري منها عليهم كل ما يتنعمون به من نعم الله لكنها سدت دونهم فلا يجري عليهم منها شئ لكنهم لو آمنوا واتقوا لفتحها الله سبحانه فجرى عليهم منها بركات السماء من الامطار والثلوج والحر والبرد وغير ذلك كل في موقعه وبالمقدار النافع منه، وبركات الارض من النبات والفواكه والامن وغيرها ففي الكلام استعارة المجاري للبركات ثم ذكر بعض لوازمه وآثاره وهو الفتح للمستعار له. وفي قوله: " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا " الآية دلالة على أن افتتاح ابواب البركات مسبب لايمان أهل القرى جميعا وتقواهم أي أن ذلك من آثار إيمان النوع الانساني وتقواه لا إيمان البعض وتقواه فإن إيمان البعض وتقواه لا ينفك عن كفر البعض الآخر وفسقه، ومع ذلك لا يرتفع سبب الفساد وهو ظاهر. وفي قوله: " ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون " دلالة على أن الاخذ بعنوان المجازاة وقد تقدم في البيان المذكور آنفا ما يتبين به كيفية ذلك، وأنه في الحقيقة أعمال الانسان ترد إليه. قوله تعالى: " أ فأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون " البيات والتبييت قصد العدو ليلا، وهو من المكر لان الليل سكن يسكن فيه الانسان ويميل بالطبع إلى أن يستريح وينقطع عن غيره بالنوم والسكون. وقد فرع مضمون الآية على ما قبله إي إذا كان هذا حال أهل القرى أنهم يغترون بما تحت حسهم عما وراءه فيفجؤون ويأخذهم العذاب بغتة وهم لا يشعرون فهل أمنوا

[ 202 ]

أن يأتيهم عذاب الله ليلا وهم في حال النوم وقد عمتهم الغفلة. قوله تعالى: " أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون " الضحى صدر النهار حين تنبسط الشمس، والمراد باللعب الاعمال التي يشتغلون بها لرفع حوائج الحياة الدنيا والتمتع من مزايا الشهوات، وهي إذا لم تكن في سبيل السعادة الحقيقية، وطلب الحق كانت لعبا، فقوله: " وهم يلعبون كناية عن العمل للدنيا وربما قيل: أنه استعارة أي يشتغلون بما لا نفع فيه كأنهم يلعبون، وليس ببعيد أن يكون قوله في الآية السابقة " وهم نائمون " كناية عن الغفلة. ومعنى الآية ظاهر. قوله تعالى: " أ فأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون " مكر به مكرا أي مسه بالضرر أو بما ينتهي إلى الضرر وهو لا يشعر وهو إنما يصح منه تعالى إذا كان على نحو المجازاة كان يأتي الانسان بالمعصية فيؤاخذه الله بالعذاب من حيث لا يشعر أو يفعل به ما يسوقه إلى العذاب وهو لا يشعر، وأما المكر الابتدائي من غير تحقق معصية سابقة فمما يمتنع عليه تعالى وقد مرت الاشارة إليه كرارا. وما ألطف قوله تعالى: " إ فأمن إهل القرى " و " أو أمن أهل القرى " ثم قوله " أ فأمنوا مكر الله "، والثالث - وهو الذي في هذه الآية - جمع وتلخيص للانكارين السابقين في الآيتين، وقد أظهر في الآيتين جميعا من غير أن يقول في الثانية: أو أمنوا (الخ) ليعود الضمير في الآية الثالثة إلى من في الآيتين جميعا كأنه أخذ أهل القرى وهم نائمون غير أهل القرى وهم يلعبون. وقوله: " فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون " وذلك لانه تعالى بين في الآيتين الاوليين أن الامن من مكر الله نفسه مكر إلهي يتعقبه العذاب الالهي فالآمنون من مكر الله خاسرون لانهم ممكور بهم بهذا الامن بعينه. قوله تعالى: " أ ولم يهد للذين يرثون الارض من بعد أهلها " إلى آخر الآية. الظاهر أن فاعل قوله: " يهد " ضمير راجع إلى ما أجمله من قصص أهل القرى، وقوله " للذين يرثون " مفعوله عدي إليه باللام لتضمينه معنى التبيين، والمعنى: أو لم يبين ما تلوناه من قصص أهل القرى للذين يرثون الارض من بعد أهلها هاديا لهم، وقوله: " أن لو نشاء أصبناهم " الآية مفعول " يهد " والمراد بالذين يرثون الارض من بعد أهلها

[ 203 ]

الاخلاف الذين ورثوا الارض من أسلافهم. ومحصل المعنى: أو لم يتبين أخلاف هؤلاء الذين ذكرنا أنا آخذناهم بمعاصيهم بعد ما امتحناهم ثم طبعنا على قلوبهم فلم يستطيعوا أن يسمعوا مواعظ أنبيائهم أنا لو نشاء لاصبناهم بذنوبهم من غير أن يمنعنا منهم مانع أو يتقوا بأسنا بشئ. وربما قيل: أن قوله " يهد " منزل منزلة اللازم والمعنى: أو لم يفعل بهم الهداية أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم، ونظيره قوله تعالى: " إو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم " الم السجدة: 26. وأما قوله: " ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون " فمعطوف على قوله " أصبناهم " لان الماضي ههنا في معنى المستقبل، والمعنى أو لم يهد لهم أو لو نشاء نطبع (الخ)، وقيل جملة معترضة تذييلية، وفي الآية وجوه وأقوال أخر خالية عن الجدوى. قوله تعالى: " تلك القرى نقص عليك من أنبائها " إلى آخر الآية تلخيص ثان لقصصهم المقصوصة سابقا بعد التلخيص الذي مر في قوله: " وما أرسلنا في قرية من نبي " إلى آخر الآيتين أو الآيات الثلاث. والفرق بين التلخيصين أن الاول تلخيص من جهة صنع الله من أخذهم بالبأساء والضراء ثم تبديل السيئة حسنة ثم الاخذ بغتة وهم لا يشعرون، والثاني تلخيص من جهة حالهم في أنفسهم قبال الدعوة الالهية، وهو أنهم وإن جاءتهم رسلهم بالبينات لكنهم لم يؤمنوا لتكذيبهم من قبل وما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل، وهذا من طبع الله على قلوبهم. وقوله: " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل " ظاهر الآية أن قوله " بما " متعلق بقوله " ليؤمنوا " ولازم ذلك أن تكون ما موصولة ويؤيده قوله تعالى في موضع آخر " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل " يونس: 74 فإنه أظهر في كون " ما " موصولة لمكان ضمير " به " ويؤول المعنى إلى أنهم كذبوا بما دعوا إليه أولا ثم لم يؤمنوا به عند الدعوة النبوية ثانيا. ويؤيده ظاهر قوله " فما كانوا ليؤمنوا " فإن هذا التركيب يدل على نفي التهيؤ القبلي يقال: ما كنت لآتي فلانا، وما كنت لاكرم فلانا وقد فعل كذا أي لم يكن من شأني كذا ولم أكن بمتهيئ لكذا، وفي التنزيل: " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه

[ 204 ]

حتى يميز الخبيث من الطيب " آل عمران: 179، أي كان في إرادته التمييز من قبل. وقال تعالى: " لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا " النساء: 137. ويؤيده أيضا قوله في الآية التالية: " وما وجدنا لاكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين " فإن ظاهر السياق أن هذه الآية معطوفة عطف تفسير على قوله: " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل " فيتبين بها أنهم كانوا عهد إليهم بعهد ففسقوا عنه وكذبوا به حين عهد إليهم ثم إذا جاءتهم الرسل بالبينات كذبوهم ولم يؤمنوابهم، وما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل. والآية أعني قوله: " ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل " مذيلة بقوله: " وكذلك يطبع الله على قلوب الكافرين " فدل ذلك على أن ما وصفه من مجئ الرسل بالبينات وعدم إيمانهم لتكذيبهم بذلك قبلا هو من مصاديق الطبع المذكور، وحقيقته أن الله ثبت التكذيب في قلوبهم ومكنه من نفوسهم حتى إذا جاءتهم الرسل بالبينات لم يكن محل لقبول دعوتهم لكون المحل مشغولا بضده. فتنطبق هاتان الآيتان بحسب المعنى على الآيتين الاوليين أعني قوله: (وما إرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها) إلى آخر الآيتين حيث تصفان سنة الله أنه يرسل آيات دالة على حقية أصول الدعوة من التوحيد وغيره بأخذهم بالبأساء والضراء ثم تبديل السيئة حسنة ثم يطبع على قلوبهم جزاء لجرمهم. وعلى هذا فالمعنى في الآية: لقد جاءتهم رسلهم بالبينات لكنهم لما لم يؤمنوا بالآيات المرسلة إليهم الداعية لهم إلى التضرع إلى الله والشكر لاحسانه بل شكوا فيها بل حملوها على عادة الدهر وتصريف الايام وتقليبها الانسان من حال إلى حال فكذبوا بهذه الآيات، واستقر التكذيب في قلوبهم فلما دعاهم الانبياء إلى الدين الحق لم يؤمنوا بما كانوا يدعون إليه من الحق وبما كانوا يذكرونهم بها من الآيات لانهم كذبوا بها من قبل وما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل فإن الله عزوجل طبع على قلوبهم فهم لا يسمعون. فعدم إيمانهم أثر الطبع الالهي والطبع أثر تكذيبهم بدلالة الابتلاء بالبأساء والضراء ثم تبديل السيئة حسنة ثانيا، ومن الدليل عليه قوله: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم

[ 205 ]

المجرمين " يونس: 13، وقوله: " ثم بعثنا من بعده - يعنى نوحا - رسلا إلى قومهم فجاؤهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين " يونس: 74، وعلى هذا فقوله: " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل " تفريع على قوله " ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات "، والمراد بما كذبوا به الآيات البينات التي ذكرتهم بها الانبياء من آيات الآفاق والانفس وما جاؤوا به من الآيات المعجزة فالجميع آياته والمراد بتكذيبهم بها من قبل، تكذيبهم بها من حيث دلالة عقولهم بمشاهدتها أنهم مربوبون لله لا رب سواه، وبعدم إيمانهم ثانيا عدم إيمانهم بها حين يذكرهم بها الانبياء. فالمعنى فما كانوا ليؤمنوا بما يذكرهم به ويأتي به الانبياء من الآيات التي كذبوا بها حين ذكرتهم بها عقولهم، وأرسلها الله إليهم ليذكروا ويتضرعوا إليه ويشكروا له. وعلى هذا فالمراد بالعهد في قوله في الآية التالية: " وما وجدنا لاكثرهم من عهد وأن وجدنا أكثرهم لفاسقين " هو العهد الذي عهده الله سبحانه إليهم من طريق العقل بلسان الآيات: أن لا يعبدوا إلا إياه، والمراد بالفسق خروجهم عن ذلك العهد بعدم الوفاء به. ولهذا العهد تحقق سابق على هذا التحقق وهو أن الله سبحانه أخذه بعينه منهم حين خلقهم وسواهم بخلق أبيهم آدم وتسويته ثم جعله مثالا للانسانية العامة فاسجد له الملائكة وأدخله الجنة ثم عهد إليه حين أمر بهبوطه الارض أن يعبده هو وذريته ولا يشركوا به شيئا. وقد قدر الله سبحانه هنالك ما قدر فهدى بحسب تقديره قوما ولم يهد آخرين ثم إذا وردوا الدنيا وأخذوا في سيرهم في مسير الحياة اهتدى الاولون، وفسق عن عهده الآخرون حتى طبع الله على قلوبهم وحقت عليهم الضلالة في الدنيا بعد أعمالهم السيئة كما تقدم بيانه في تفسير قوله: " كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة " الآية: 30 من السوره. فمعنى الآية على هذا فما كانوا ليؤمنوا عند دعوة الانبياء بما كذبوا به ولم يقبلوه عند أخذ العهد الاول، وما وجدنا لاكثرهم من وفاء في الدنيا بالعهد الذي عهدناه هناك وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين خارجين عن حكم ذلك العهد.

[ 206 ]

فهذا معنى لكنه غير مناف للمعنى السابق فإن أحد المعنيين في طول الآخر وليسا بمتعارضين فإن تعين طريق الانسان وغايته من سعادة وشقاوة بحسب القدر لا ينافي إمكان سعادته وشقاوته في الدنيا، وإناطه تحقق كل منهما باختياره ذلك وانتخابه وللقوم في تفسير الآية أقوال أخر: 1 -: أن المراد بتكذيبهم من قبل، تكذيبهم من حين مجئ الرسل إلى حين الاصرار والعناد وبقوله: " فما كانوا ليؤمنوا " الخ، كفرهم حين الاصرار، والمعنى فما كانوا ليؤمنوا حين العناد بما كذبوا به من أول الدعوة إلى ذلك الحين، وهذا وجه سخيف لا شاهد له من جهة اللفظ البتة. 2 -: أن المراد بتكذيبهم قبلا، تكذيبهم باصول الشرائع الالهية التي لا يختلف في شئ منها كالتوحيد والمعاد، ومسألة حسن العدل وقبح الظلم مثلا مما يستقل به العقل، وبتكذيبهم بعدا تكذيبهم بتفاصيل الشرائع، والمعنى فما كانوا ليؤمنوا بهذه الشرائع المفصلة وهي التي كذبوا بها قبلا إجمالا قبل الدعوة التفصيلية، وفيه أنه خلاف ظاهر الآية فلا يقال للكفر بالله وبسائر ما ثبوته فطري عند العقل أنه تكذيب. على أن ما تقدم من القرائن على خلافه يكذبه. 3 -: أن الآية على حد قوله تعالى: " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه " فالمعنى: ما كانوا لو أهلكناهم ثم أحييناهم ليؤمنوا بما كذبوا به قبل أهلاكهم، هذا. وهو أسخف ما قيل في تفسير الآية. 4 -: أن ضمير " كذبوا راجع إلى أسلافهم كما أن ضمير " ليؤمنوا " للاخلاف والمعنى: فما كانوا ليؤمنوا بما كذب به أسلافهم، وفيه: أنه قول من غير دليل وظاهر سياق قوله: " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا " أن مرجع الثلاثة جميعا واحد، ومن الممكن أن يقرر هذا الوجه بما يرجع إلى الوجه الآتي. 5 -: أن الكلام مبني على أخذ عامة أهل القرى من أسلافهم وأخلافهم واحدا بعث إليه الرسل، وهم مأخوذون كالشخص الواحد فيكون تكذيب الاسلاف لانبيائهم تكذيبا من الاخلاف لهم، وعدم إيمان الاخلاف أيضا عدم أيمان من الاسلاف وهذا كما يذكر القرآن أهل الكتاب وخاصة اليهود ثم يؤاخذ أخلافهم بما قدمته أيدى

[ 207 ]

أسلافهم، وتنسب إلى لاحقيهم مظالم سابقيهم في آيات كثيرة فيكون المعنى: هو ذا البشر منذ خلقوا إلى اليوم جاءتهم رسلهم بالبينات فما كان يؤمن آخرهم بما كذب به أولهم هذا. وفيه: أنه وإن كان في نفسه معنى صحيحا لكن السياق لا يلائمه فالكلام مسوق لبيان حال الامم الغابرة كما يدل عليه قوله: " تلك القرى نقص عليك من أنبائها " ولو كانوا مأخوذين على نعت الوحدة الممتدة بامتداد أعصارهم حتى يكون لها أول وآخر وصدر وذيل تكفر بآخرها وذيلها بما كذبت به بأولها وصدرها كان من حق الكلام أن يدل على مثل هذا الاستمرار في قوله: " جاءتهم رسلهم بالبينات " فيقال: كانت تأتيهم رسلهم بالبينات أو ما يؤدى هذا المعنى لا بمثل قوله: " جاءتهم " الظاهر في اعتبار الدفعة والمرة فافهم ذلك. وذلك كما في قوله تعالى: " كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون " المائدة: 70، فمن المعلوم أنه ربما كان المكذبون غير القاتلين، وقد نسب الجميع إلى مجتمع واحد لكن دل على استمرار مجئ الرسول، ونظيره قوله: " ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله " التغابن: 6، وكذا قوله في قصص الانبياء بعد نوح: " ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاؤهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل " يونس: 14، فإن مفاد قوله: " بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم بعثنا كل رسول إلى قومه. 6 -: أن الباء في قوله: " بما كذبوا " سببية وما مصدرية، والمراد بتكذيبهم من قبل ما اعتادوه من تكذيب الرسل أو كل حق واجههم، والمعنى: فما كانوا ليؤمنوا بسبب التكذيب الذي تقدم منهم للرسل أو لكل حق، بربهم. وفيه: أنه محجوج بنظير الآية وهو قوله: " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل " فإن وجود ضمير " به " فيه دليل على أن ما موصولة. على أن ظاهر الآية أن الباء للتعدية، و " بما " متعلقة بقوله: " ليؤمنوا " على أنه بوجه راجع إلى الوجه الأول. 7 -: أن المراد بما أشير إليه آخرا تكذيبهم الذي أسروه يوم الميثاق والمعنى: فما كانوا ليؤمنوا عند دعوة الانبياء في الدنيا بما كذبوا به قبله يوم الميثاق.

[ 208 ]

وفيه أنه معنى صحيح في نفسه غير أنه من البطن دون الظهر الذي عليه يدور التفسير، والدليل عليه قوله بعده: " كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين " فإنه يصرح بأن عدم إيمانهم كذلك إنما كان بالطبع على قلوبهم، وإن الله طبع على قلوبهم بتكذيبهم السابق فلم يؤمنوا به عند الدعوة اللاحقة، والطبع لا يكون ابتدائيا في الدنيا بل لجرم سابق فيها، وهذا إحسن شاهد على أن هذا التكذيب الذي إورث لهم الطبع على قلوبهم كان في الدنيا ثم الطبع أوجب لهم أن لا يؤمنوا بما كذبوا به من قبل. وفي هذا المعنى آيات أخر تدل على أن الطبع والختم الالهي إنما هو عن جرم سابق دنيوي، وليس مجرد سبق التكذيب في الميثاق ينتج الطبع الابتدائي في الدنيا فإنه مما لا يليق به سبحانه البتة، وقد قال: " يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين " البقرة: 26. قوله تعالى: (وما وجدنا لاكثرهم من عهد) إلى آخر الآية، قال في المجمع من عهد أي من وفاء بعهد كما يقال: فلان لا عهد له أي لا وفاء له بالعهد، وليس بحافظ للعهد (انتهى). ومن الجائز إن يراد بالعهد عهد الله الذي عهده إليهم من ناحية آياته أو عهدهم الذي عاهدوا الله عليه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ومن ناحية حاجة أنفسهم ودلالة عقولهم، قد ظهر معنى الاية مما تقدم (بحث روائي) في الكافي بإسناده عن الحسين بن الحكم قال: كتبت إلى العبد الصالح إخبره أني شاك وقد قال إبراهيم: (رب أرني كيف تحيي الموتى) فإني أحب أن تريني شيئا من ذلك. فكتب إليه. أن إبراهيم كان مؤمنا وأحب أن يزداد إيمانا، وأنت شاك والشاك لا خير فيه. وكتب: إنما الشك ما لم يأت اليقين فإذا جاء اليقين لم يجز الشك.. وكتب: إن الله عزوجل يقول: (وما وجدنا لاكثرهم من عهد وأن وجدنا أكثرهم لفاسقين) قال: نزلت في الشاك. أقول: وانطباقه على ما مر في البيان السابق ظاهر، وقد روى ذيل الحديث العياشي عن الحسين بن الحكم الواسطي وفيه: نزلت في الشكاك.

[ 209 ]

* * * ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين - 103. وقال موسى يا فرعون أني رسول من رب العالمين - 104. حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معى بني إسرائيل - 105. قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين - 106. فألقى عصاه فأذا هي ثعبان مبين - 107. ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين - 108. قال الملا من قوم فرعون أن هذا لساحر عليم - 109. يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون - 110. قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين - 111. يأتوك بكل ساحر عليم - 112. وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لاجرا إن كنا نحن الغالبين - 113. قال نعم وإنكم لمن المقربين - 114. قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين - 115. قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم - 116. وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون - 117. فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون - 118. فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين - 119. وإلقي السحرة ساجدين - 120.

[ 210 ]

قالوا آمنا برب العالمين - 121. رب موسى وهارون - 122. قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون - 123. لا قطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لاصلبنكم إجمعين - 124. قالوا إنا إلى ربنا منقلبون - 125. وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين - 126. (بيان) شروع في قصص موسى عليه السلام، وقد خص بالذكر منها مجيئه إلى فرعون ودعواه الرسالة إليه لنجاة بنى إسرائيل وإتيانه بالآيتين اللتين آتاه الله إياهما ليلة الطور، وهذه القصة هي التي تشتمل عليها هذه الآيات ثم إجمال قصته حين إقامته في مصر بين بني إسرائيل لانجائهم، وما نزل على قوم فرعون من آيات الشدة إلى أن أنجى الله بني إسرائيل، ثم تذكر قصة نزول التوراة وعبادة بني إسرائيل العجل، ثم قصصا متفرقة من بني إسرائيل يعتبر بها المعتبر. قوله تعالى: " ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه " إلى آخر الآية. في تغيير السياق في أول القصة دلالة على تجدد الاهتمام بأمر موسى عليه السلام فإنه من أولي العزم صاحب كتاب وشريعة، وقد ورد الدين ببعثته في مرحلة جديدة من التفصيل بعد المرحلتين اللتين قعطهما ببعثة نوح وإبراهيم عليمها السلام وفي لفظ الآيات شئ من الاشارة إلى تبدل المراحل فقد قال تعالى: " أولا لقد أرسلنا نوحا إلى قومه " " وإلى عاد أخاهم هودا " " وإلى ثمود اخاهم صالحا " فجرى على سياق واحد لان هودا وصالحا كانا على شريعة نوح، ثم غير السياق فقال: " ولوطا إذ قال لقومه " لان لوطامن أهل المرحلة الثانية في الدين وهي مرحلة شريعة إبراهيم، وكان لوط على شريعته ثم عاد إلى السياق السابق في بدء قصة شعيب، ثم غير السياق في بدء قصة موسى بقوله: " ثم

[ 211 ]

بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه " لانه ثالث أولي العزم صاحب كتاب جديد وشريعة جديدة، ودين الله وشرائعه وإن كان واحدا لا تناقض فيه ولا تنافي غير أنه مختلف بالاجمال والتفصيل والكمال وزيادته بحسب تقدم البشر تدريجيا من النقص إلى الكمال، واشتداد استعداده لقبول المعارف الالهية عصرا بعد عصر إلى أن ينتهي إلى موقف علمي هي أعلى المواقف فيختتم عند ذلك الرسالة والنبوة، ويستقر الكتاب والشريعة استقرارا لا مطمع بعده في كتاب جديد إو شريعة جديدة ولا يبقى للبشر بعد ذلك إلا التدرج في الكمال من حيث انتشار الدين وانبساطه على المجتمع البشري واستيعابه لهم، وإلا التقدم من جهة التحقق بحقائق المعارف، والترقي في مراقي العلم والعمل التي يدعو إليها الكتاب، ويحرض عليها الشريعة والارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. فقوله تعالى: " ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا " إلى آخر الآية. إجمال لقصة موسى عليه السلام ثم يؤخذ في التفصيل من قوله: " وقال موسى يا فرعون " الآية، وإنا وإن كنا نسمي هذه القصص بقصة موسى وقصة نوح وقصة هود وهكذا فإنها بحسب ما سردت في هذه السورة قصص الامم والاقوام الذين أرسل إليهم هؤلاء الرسل الكرام يذكر فيها حالهم فيما واجهوا به رسل الله من الانكار والرد، وما آل إليه أمرهم من نزول العذاب الالهي الذي أفنى جمعهم، وقطع دابرهم ولذلك ترى أن عامة القصص المذكورة مختومة بذكر نزول العذاب وهلاك القوم. ولا تنس ما قدمناه في مفتتح الكلام أن الغرض منها بيان حال الناس في قبول العهد الالهي المأخوذ منهم جميعا ليكون إنذارا للناس عامة وذكرى للمؤمنين خاصة، وأنه الغرض الجامع بين ما في سور " الم " وما في سورة " ص " من الغرض وهو الانذار والذكرى. فقوله: " ثم بعثنا من بعدهم " أي من بعد من ذكروا من الانبياء وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام " موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه " إي إلى ملك مصر والاشراف الذين حوله، و " فرعون " لقب كان يطلق على ملوك مصر كالخديو كما كان يلقب بقيصر وكسرى وفغفور ملوك الروم وإيران والصين، ولم يصرح القرآن، الكريم باسم هذا الفرعون الذي أرسل إليه موسى فأغرقه الله بيده.

[ 212 ]

وقوله: " بآياتنا " الظاهر أن المراد بها ما أتى به في أول الدعوة من إلقاء العصا فإذا هي ثعبان، وإخراج يده من جيبه فإذا هي بيضاء، والآيات التي أرسلها الله إليهم بعد ذلك من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات، ولم ينقل القرآن الكريم لنبي من الانبياء من الآيات الكثيرة ما نقله عن موسى عليه السلام. وقوله: " فظلموا بها " أي بالآيات التي أرسل بها على ما سيذكره الله سبحانه في خلال القصة، وظلم كل شئ بحسبه، وظلم الآيات إنما هو التكذيب بها والانكار لها. وقوله: " فانظر كيف كان عاقبة المفسدين " ذكر عاقبة الافساد في الاعتبار بأمرهم لانهم كانوا يفسدون في الارض ويستضعفون بني إسرائيل، وقد كان في متن دعوة موسى حين ألقاها إلى فرعون: " فأرسل معي بني إسرائيل " وفي سورة طه: " فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم " طه: 47. قوله تعالى: " وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين " شروع في تفصيل قصة الدعوة كما تقدمت الاشارة إليه، وقد عرف نفسه بالرساله ليكون تمهيدا لذكر ما أرسل لاجله، وذكره تعالى باسمه رب العالمين أنسب ما يتصور في مقابلة الوثنيين الذين لا يرون إلا أن لكل قوم إو لكل شأن من شؤون العالم وطرف من أطرافه ربا على حدة. قوله تعالى: " حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق " إلى آخر الآية تأكيد لصدقه في رسالته أي أنا حري بأن أقول قول الحق ولا أنسب إلى الله في رسالتي منه إليك شيئا من الباطل لم يأمرني به الله سبحانه وقوله: " قد جئتكم ببينة من ربكم " في موضع التعليل بالنسبة إلى جميع ما تقدم أو بالنسبة إلى قوله: " إني رسول من رب العالمين " لانه هو الاصل الذي يتفرع عليه غيره. ولعل تعدية " حقيق " بعلى من جهة تضمينه معنى حريص أي حريص على كذا حقيقا به، والمعروف في اللغة تعدية حقيق بمعنى حري بالباء يقال: فلان حقيق بالاكرام أي حري به لائق. وقرئ: " حقيق علي " بتشديد الياء والحقيق على هذا مأخوذ من حق عليه كذا أي وجب، و المعنى واجب علي أن لا أقول على الله إلا الحق فالحقيق خبر

[ 213 ]

ومبتداه قوله: أن لا أقول، الآية والباقي ظاهر. قوله تعالى: " قال أن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين " الشرط في صدر الآية أعني قوله: " إن كنت جئت بآية " يتضمن صدقه عليه السلام فأنه إذا كان جائيا بآية واقعة فقد صدق في إخباره بأنه قد جاء بآية لكن الشرط في ذيل الآية تعريض يومئ به إلى أنه ما يعتقد بصدقه في أخباره بوجود آية معه فكأنه قال: إن كنت جئت بآية فأت بها وما أظنك تصدق في قولك، فلا تكرار في الشرط. قوله تعالى: " فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين " الفاء جوابية كما قيل أي فأجابه بإلقاء عصاه، وهذه هي فاء التفريع والجواب مستفاد من خصوصية المورد. والثعبان الحية العظيمة ولا تنافي بين وصفه هيهنا بالثعبان المبين وبين ما في موضع آخر من قوله تعالى: " فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب " القصص: 31، والجان هي الحي الصغيرة لاختلاف القصتين كما قيل فإن ذكر الجان إنما جاء في قصة ليلة الطور وقد قال تعالى فيها في موضع آخر: " فألقاها فإذا هي حية تسعى " طه: 20، وأما ذكر الثعبان فقد جاء في قصة إتيانه لفرعون بالآيات حين سأله ذلك. قوله تعالى: " ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين " إي نزع يده من جيبه على ما يدل عليه قوله تعالى: " واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء " طه: 22، وقوله: " اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء " القصص: 32. والاخبار وإن وردت فيها أن يده عليه السلام كانت تضئ كالشمس الطالعة عند إرادة الاعجاز بها لكن الآيات لا تقص أزيد من أنها كانت تخرج بيضاء للناظرين إلا أن كونها آية معجزة تدل على أنها كانت تبيض ابيضاضا لا يشك الناظرون في أنها حالة خارقة للعادة. قوله تعالى: " قال الملا من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم " لم يذكر تعالى ما قاله فرعون عند ذلك، وإنما الذي ذكر محاورة الملا بعضهم بعضا كأنهم في مجلس مشاورة يذاكر بعضهم بعضا ويشير بعضهم إلى ما يراه ويصوبه آخرون فيقدمون ما صوبوه من رأي إلى فرعون ليعمل به فهم لما تشاوروا في أمر موسى وما شاهدوه من آياته المعجزة قالوا: " إن هذا لساحر عليم " وإذا كان ساحرا غير صادق فيما يذكره من رسالة الله سبحانه فإنما يتوسل بهذه الوسيلة إلى نجاة بني إسرائيل واستقلالهم في أمرهم

[ 214 ]

ليتأيد بهم ثم يخرجكم من أرضكم ويذهب بطريقتكم المثلى فماذا تأمرون به في إبطال كيده، وإخماد ناره التي أوقدها ؟ أ من الواجب مثلا أن يقتل أو يصلب أو يسجن أو يعارض بساحر مثله ؟. فاستصوبوا آخر الآراء، وقدموه إلى فرعون أن أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم. ومن ذلك يظهر أن قوله تعالى: " فما ذا تأمرون " حكاية ما قاله بعض الملا لبعض وقوله: " قالوا أرجه " الخ، حكاية ما قدموه من رأي الجميع إلى فرعون وقد اتفقوا عليه، وقد حكى الله سبحانه في موضع آخر من كلامه هذا القول بعينه من فرعون يخاطب به ملاه قال تعالى: " قال للملا حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم " الشعراء: 37. ويظهر مما في الموضعين أنهم إنما شاوروا حول ما قاله فرعون ثم صوبوه ورأوا إن يجيبه بسحر مثل سحره، وقد حكى الله أيضا هذا القول عن فرعون يخاطب به موسى حتى بالذي أشار إليه الملا من معارضة سحره بسحر آخر مثله إذ قال: " قال أ جئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله " طه: 58، ولعل ذلك محصل ما خرج من مشاورتهم حول ما قاله فرعون بعد ما قدم إلى فرعون مخاطب به موسى من قبل نفسه. وللملا جلسة مشاورة أخرى أيضا بعد قدوم السحرة إلى فرعون ناجى فيها بعضهم بعضا بمثل ما في هذه الآيات قال تعالى: " فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى " طه: 63. فتبين أن أصل الكلام لفرعون ألقاه إليهم ليتشاوروا فيه ويروا رأيهم فيما يفعل به فرعون فتشاوروا وصدقوا قوله وأشاروا بالارجاء وجمع السحرة للمعارضة فقبله ثم ذكره لموسى ثم اجتمعوا للمشاورة والمناجاة ثانيا بعد مجئ السحرة واتفقوا أن يجتمعوا عليه ويعارضوه بكل ما يقدرون عليه من السحر صفا واحدا.

[ 215 ]

قوله تعالى: " يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون " أي يريد أن يتإيد ببني إسرائيل فيتملك مصر، ويبطل استقلالكم ويخرجكم من أرضكم، وكثيرا ما كان يتفق في الاعصار السابقة أن يهجم قوم على قوم فيتغلبوا عليهم فيشغلوا أرضهم ويتملكوا ديارهم فيخرجوهم منها ويشردوهم في الارض. قوله تعالى: " قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين " إلى آخر الآية التالية. أرجه بسكون الهاء أمر من الارجاء بمعنى التأخير والهاء للسكت إي أخره وأخاه ولا تعجل لهما بشر كالقتل ونحوه حتى ترمى بظلم أو قسوة ونحوهما بل ابعث في المدائن من جنودك حاشرين يجمعون السحرة فيأتوك بهم ثم عارض سحر موسى بسحر السحرة. وقرئ: أرجه بكسر الجيم والهاء وأصله أرجئه قلبت الهمزة ياء ثم حذفت، والهاء ضمير راجع إلى موسى، وأخوه هو هارون عليهما السلام. قوله تعالى: " وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لاجرا " إلى آخر الآية التالية أي فأرسل حاشرين فحشروهم وجاء السحرة كل ذلك محذوف للايجاز. وقولهم: " إن لنا لاجرا " سؤال للاجر جئ به في صورة الخبر للتأكيد، وإفادة الطلب الانشائي في صورة الاخبار شائع، ويمكن أن يكون استفهاما بحذف أداته، ويؤيده قراءه ابن عامر: " أ ئن لنا لاجرا " وقوله: " قال نعم وإنكم لمن المقربين " أجابة لمسؤلهم مع زيادة وعدهم بالتقريب. قوله تعالى: " قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين " خيروه بين أن يكون هو الملقي بعصاه وبين أن يكونوا هم الملقين لما أعدوه من الحبال والعصي وهذا التخيير في مقام استعدوا لمقابلته، ولا محالة يفيد التخيير في الابتداء بالالقاء فمعناه إن شئت ألق عصاك أولا وإن شئت ألقينا حبالنا وعصينا أولا. وفيه نوع من التجلد لدلالته على أنهم لا يبالون بأمر سواء ألقى قبلهم أو بعدهم فلا يهابونه على أي حال لوثوقهم بانهم هم الغالبون ولا يخلو التخيير مع ذلك عن نوع من التأدب. قوله تعالى: " قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس " إلى آخر الآية، السحر هيهنا نوع تصرف في حاسة الانسان بإدراك أشياء لا حقيقد لها في الخارج وقد تقدم

[ 216 ]

الكلام فيه في تفسير قوله: " واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان " البقرة: 102 في الجزء الاول من الكتاب، والاسترهاب الاخافة، ومعنى الآية ظاهر، وقد عد الله فيها سحرهم عظيما. قوله تعالى: (وأوحينا إلى موسى أن ألق) إلى آخر الآيتين، أن تفسيرية واللقف واللقفان تناول الشئ بسرعة، و الافك هو صرف الشئ عن وجهه ولذا يطلق على الكذب، وفي الآية وجوه من الايجاز ظاهرة، والتقدير: وأوحينا ألى موسى بعد ما ألقوا أن ألق عصاك فألقاها فإذا هي حية وإذا هي تلقف ما يأفكون. وقوله: " فوقع الحق " فيه استعارة بالكناية بتشبيه الحق بشئ كأنه معلق لا يعلم عاقبة حاله أ يستقر في الارض بالوقوع عليها والتمكن فيها أم لا ؟ فوقع واستقر " وبطل ما كانوا يعملون " من السحر. قوله تعالى: " فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين " أي غلب فرعون وأصحابه " هنالك " أي في ذلك المجمع العظيم الذي تهاجم عليهم فيه الناس من كل جانب ففي لفظ " هنالك " اشارة إلى ذلك وهو للبعيد، " وانقلبوا صاغرين " أي عادوا وصاروا أذلاء مهانين. قوله تعالى: " وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون " إبهم فاعل الالقاء في قوله: " وألقي السحرة ساجدين " وهو معلوم فإن السحرة هم الذين ألقوا بأنفسهم إلى الارض ساجدين، وذلك للاشارة إلى كمال تأثير آية موسى فيهم وإدهاشها إياهم فلم يشعروا بأنفسهم حين ما شاهدوا عظمة الآية وظهورها عليهم إلا وهم ملقون ساجدون فلم يدروا من الذي أوقع بهم ذلك. فاضطرتهم الآية إلى الخرور على الارض ساجدين، والايمان برب العالمين الذي اتخذه موسى وهارون، وفي ذكر موسى وهارون دلالة على الايمان بهما مع الايمان برب العالمين. وربما قيل: إن بيانهم رب العالمين برب موسى وهارون لدفع توهم أن يكون إيمانهم لفرعون فإنه كان يدعى أنه رب العالمين فلما بينوه بقولهم " رب موسى وهارون " ولم يأخذا فرعون ربا اندفع ذلك التوهم، ولا يخلو عن خفاء فإن الوثنية ما كانت تقول برب العالمين بحقيقة معناه بمعنى من يملك العالمين ويدبر أمر جميع أجزائها بالاستقامة

[ 217 ]

بل قسموا أجزاء العالم وشؤونها بين أرباب شتى، وإنما أعطوا الله سبحانه مقام إله الآلهة ورب الارباب لا رب الارباب ومربوبيها. والذي ادعاه فرعون لنفسه على ما حكاه الله من قوله: " أنا ربكم الاعلى " النازعات: 24، إنما هو العلو من جهة القيام بحاجة الناس - وهم أهل مصر خاصة - عن قرب واتصال لا من جهة القيام بربوبية جميع العالمين، ومع ذلك كله قد أحاطت الخرافات على الوثنية بحيث لا يستبعد أن يتفوهوا بكون فرعون رب العالمين وأن خالف أصول مذاهبهم قطعا. قوله تعالى: " قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم " إلى آخر الآيتين خاطبهم فرعون بقوله: " آمنتم به قبل أن آذن لكم " تأنفا واستكبارا، وهو إخبار يفيد بحسب المقام والانكار والتوبيخ، ومن الجائز أن يكون استفهاما انكاريا أو توبيخيا محذوف الاداة. وقوله 6 " أن هذا لمكر مكرتموه في المدينة " الآية يتهمهم بالمواطأة والمواضعة في المدينة يريد أنهم لما اجتمعوا في مدينته بعد ما حشرهم الحاشرون من مدائن مختلفة شتى فجاءوا بهم إليه ولقوا موسى أجمعوا على أن يمكروا بفرعون وأصحابه فيتسلطوا على المدينة فيخرجوا منها أهلها، وذلك لانهم لم يشاهدوا موسى قبل ذلك فلو كانوا تواطؤا على شئ فقد كان ذلك بعد اجتماعهم في مدينته. أنكر عليهم إيمانهم بقوله: " آمنتم به قبل أن آذن لكم " ثم اتهمهم بأنهم تواطؤا جميعا على المكر ليخرجوا أهل المدينة منها بقوله: " ان هذا لمكر " الخ ليثبت لهم جرم الافساد في الارض المبيح له سياستهم وتنكيلهم بأشد العقوبات. ثم هددهم بقوله: " فسوف تعلمون " ثم بينه وفصله بقوله: " لا قطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لاصلبنكم أجمعين " فهددهم تهديدا أكيدا أولا بقطع الايدي والارجل من خلاف وهو أن يقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو اليد اليسرى مع الرجل اليمنى وبالجملة قطع كل من اليد والرجل من خلاف الجهة التي قطعت منها الاخرى. وثانيا بالصلب وهو شد المجرم بعد تعذيبه على خشبة ورفع الخشبة بإثبات جانبه على الارض ليشاهده الناس فيكون لهم عبرة، وقد تقدم تفصيل بيانه في قصص المسيح عليه السلام في تفسير سورة آل عمران.

[ 218 ]

قوله تعالى: " قالوا إنا إلى ربنا منقلبون " إلى آخر الآيات. جواب السحرة وهم القائلون هذا المقال وقد قابلوه بما يبطل به كيده، وتنقطع به حجته، وهو أنك تهددنا بالعذاب قبال ما تنقم منا من الايمان بربنا ظنا منك أن ذلك شر لنا من جهة انقطاع حياتنا به وما نقاسيه من ألم العذاب، وليس ذلك شرا فأنا نرجع إلى ربنا، ونحيا عنده بحياة القرب السعيدة، ولم نجترم إلا ما تعده أنت لنا جرما وهو إيماننا بربنا فما دوننا إلا الخير. وهذا معنى قوله: " قالوا إنا إلى ربنا منقلبون " وهو إيمان منهم بالمعاد " وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا " وعدوا أمر العصا - على الظاهر آيات كثيرة لاشتماله على جهات كل منها آية كصيرورتها ثعبانا، ولقفها حبالهم وعصيهم واحدا بعد واحد، ورجوعها إلى حالتها الاولى. والنقم هو الكراهة والبغض يقال نقم منه كذا ينقم من باب ضرب وعلم: إذا كره وأبغض. ثم أخذتهم الجذبة الالهية من غير أن يذعروا مما هددهم به، واستغاثوا بربهم على ما عزم به من تعذيبهم وقتلهم فسألوه تعالى قائلين: " ربنا أفرغ علينا صبرا - على ما يريد أن يوقع بنا من العذاب الشديد - وتوفنا مسلمين " أن قتلنا. وفي إطلاق الافراغ على إعطاء الصبر استعارة بالكناية فشبهوا نفوسهم بالآنية والصبر بالماء، وإعطاءه بإفراغ الاناء بالماء وهو صبه فيه حتى يغمره، وإنما سألوا ذلك ليفيض الله عليهم من الصبر ما لا يجزعون به عند نزول أي عذاب وألم ينزل بهم. وقد جاؤا بالعجب العجاب في مشافهتهم هذه مع فرعون وهو الجبار العنيد الذي ينادي " أنا ربكم الاعلى " ويعبده ملك مصر فلم يذعرهم ما شاهدوا من قدرته وسطوته فأعربوا عن حجتهم بقلوب مطمئنة، ونفوس كريمة، وعزم راسخ، وإيمان ثابت، وعلم عزيز، وقول بليغ، وإن تدبرت ما حكاه الله سبحانه من مشافهتهم ومحاورتهم فرعون في موقفهم هذا في هذه السورة وفي سورتي طه والشعراء أرشدك ما في خلال كلامهم من الحجج البالغة إلى علوم جمة، وحالات روحية شريفة، وأخلاق كريمة، ولو لا محذور الخروج عن طور هذا الكتاب لاوردنا شذرة منها في هذا المقام

[ 219 ]

فلينتظر إلى حين. (بحث روائي) ما قصه الله في كتابه من قصة مجئ موسى بما آتاه الله من الرساله، وأيده به من آية العصا واليد البيضاء، ومعه أخوه هارون إلى فرعون وإتيانه بالآيتين ثم جمع فرعون السحرة ومعارضته بسحرهم، وإظهار الله آية موسى على سحرهم، وإيمان السحرة لا يجاوز ما ذكر في هذه الآيات إجمالا. وقد اشتملت الروايات الواردة من طرق الشيعة أو طرق أهل السنة على هذه المعاني غير أنها تشتمل مع ذلك من تفاصيل القصة على أمور عجيبة لم يتعرض لها كتاب الله كما ورد: أن عصا موسى كان من آس الجنة، وأنها كانت عصا آدم وصلت إلى شعيب ثم أعطاها موسى، وفي بعض الروايات أنها كانت عصا آدم أعطاها ملك لموسى حين توجه إلى مدين فكانت تضئ له بالليل، ويضرب بها الارض في النهار فيخرج له رزقه وفي بعضها: أنها كانت تنطق إذا استنطقت، وكانت إذا صارت ثعبانا عند فرعون بعد ما بين لحييه اثنا عشر ذراعا، وروي أربعون ذراعا وفي بعضها ثمانون ذراعا وأنها ارتفعت في السماء ميلا، وفي بعضها أنها وضعت أحد مشفريها على الارض والآخر على سور قصر فرعون، وفي بعضها أنها أخذت قبة فرعون بين أنيابها، وحملت على الناس فانهزموا مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، وفي بعضها: أنها كانت ثمانون ذراعا، وفي بعضها: أنها كانت في العظم كالمدينة، وفي الرواية: أن فرعون أحدث في ثيابه من هول ما رأى، وفي بعضها أنه أحدث في ذلك اليوم أربع مأة مرة، وفي بعضها: أنه استمر معه داء البطن حتى غرق، وفي الروايات أنه عليه السلام كان إذا أخرج يده من جيبه كان يغلب نورها نور الشمس. وفي الرواية: أن السحرة كانوا سبعين رجلا، وفي بعضها: ستمأة إلى تسع مأة وفي بعضها: اثني عشر الفا، وفي بعضها خمسة عشر الفا، وفي بعضها سبعة عشر الفا، وفي بعضها تسعة عشر الفا، وفي بعضها بضعة وثلاثين الفا، وفي بعضها سبعين الفا، وفي بعضها ثمانين الفا.

[ 220 ]

وفي الرواية: أنهم كانوا أخذوا السحر من رجلين مجوسيين من أهل " نينوى " وفيها: أنه كان اسم رئيسهم شمعون، وفي بعضها: يوحنا، وفي بعضها أنه كان لهم رؤساء أربعة أسماؤهم: سابور، وعازور، وحطحط، ومصفى. وكذا ورد في نفس فرعون: أن اسمه الوليد بن المصعب بن الريان، وإنه كان من أهل اصطخر فارس، وفي بعضها: أنه من أبناء مصر، وفي بعضها: أن فرعون هذا هو فرعون يوسف عاش أربعمأة سنة ولم يشب ولا ابيض منه شعر. وفي بعضها: أنه بنى مدائن يتحصن فيها من موسى، وجعل فيما بينها آجام وغياض، وجعل فيها الاسد ليتحصن بها من موسى فلما بعث الله موسى إلى فرعون دخل المدينة فلما رآه الاسد تبصبصت وولت مدبرة، ثم لم يأت مدينة إلا انفتح له بابها حتى انتهى إلى قصر فرعون الذي هو فيه. قال: فقعد على بابه، وعليه مدرعة من صوف ومعه عصاه فلما خرج الآذن قال استأذن لي على فرعون فلم يلتفت إليه قال: فقال له موسى: أنا رسول رب العالمين فلم يلتفت إليه قال: فمكث بذلك ما شاء الله يسأله أن يستأذن له قال: فلما أكثر عليه قال: أما وجد رب العالمين من يرسله غيرك ؟. قال: فغضب موسى فضرب الباب بعصاه فلم يبق بينه وبين فرعون باب إلا انفتح حتى نظر إليه فرعون وهو في مجلسه فقال: أدخلوه قال: فدخل عليه وهو في قبة له مرتفعة كثيرة الارتفاع ثمانون ذراعا فقال: أنا رسول رب العالمين إليك. قال: فقال: فأت بآية إن كنت من الصادقين، قال: فألقى عصاه وكان له شعبتان. قال: فأذا هي حية قد وقع إحدى الشعبتين على الارض والشعبة الاخرى في أعلى القبة. قال: فنظر فرعون جوفها وهي تلهب نيرانا. قال: وأهوى إليه فأحدث وصاح يا موسى خذها. إلى غير ذلك مما يشتمل عليه الروايات من العجائب في هذه القصة وأغلبها أمور سكت عنها القرآن لا سبيل إلى رد أغلبها إلا الاستبعاد، ولا إلى قبولها إلا حسن الظن بكل رواية مروية، وهي ليست بمتواتره ولا محفوفة بقرائن قطعية بل جلها مراسيل أو موقوفة أو ضعيفة من سائر جهات الضعف على ما بينها من التعارض فالغض عنها أولى

[ 221 ]

* * * وقال الملا من قوم فرعون أ تذر موسى وقومه ليفسدوا في الارض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون - 127. قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا أن الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين - 128. قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض فينظر كيف تعملون - 129. ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون - 130. فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وأن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه إلا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون - 131. وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين - 132. فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين - 133. ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل - 134. فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون - 135. فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين - 136. وأورثنا القوم

[ 222 ]

الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون - 137. (بيان) الآيات تشتمل على إجمال ما جرى بينه عليه السلام وبين فرعون وقومه أيام أقامة موسى بينهم بعد القيام بالدعوة يدعوهم إلى الله وإلى إطلاق بني إسرائيل ويأتيهم بالآية بعد الآية حتى أنجاه الله تعالى وقومه، وأغرق فرعون وجنوده، وأورث بني إسرائيل الارض المباركة مشارقها ومغاربها. قوله تعالى: " وقال الملا من قوم فرعون أ تذر موسى وقومه " إلى آخر الآية. هذا إغراء منهم لفرعون وتحريض له أن يقتل موسى وقومه، ولذلك رد فرعون قولهم بأنه لا يهمنا قتلهم فإنا فوقهم قاهرون على أي حال بل سنعيد عليهم سابق عذابنا فنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم، ولو كان ما سألوا مطلق تعذيبهم غير القتل لم يقع قوله: " وإنا فوقهم قاهرون " موقعه ذلك الوقوع. وقولهم: " ويذرك وآلهتك " تأكيد لتحريضهم إياه على قتلهم، والمعنى أن موسى يتركك وآلهتك فلا يعبدكم مع ما يفسد هو وقومه في الارض وفيه دلالة على أن فرعون كما كان يدعى الالوهية، ويستعبد الناس لنفسه كان يعبد آلهة أخرى، وهو كذلك والتأريخ يثبت نظائر لذلك في الامم السالفة، وقد نقل: أن عظماء البيوت وسادات القوم في الروم وممالك أخرى غيرها كان يعبدهم مرؤسوهم من بيتهم وعشائرهم وهم أنفسهم كانوا يعبدون آباءهم الاولين وأصناما أخرى غيرهم كما يعبدهم ضعفاؤهم، وأيضا بين الارباب التي تعبدها الوثنية ما هو رب لغيره من الارباب أو رب لرب آخر كربوبية الاب والام للابن وغير ذلك. إلا أن قوله لقومه فيما حكاه الله سبحانه: " أنا ربكم الاعلى " النازعات: 24، وقوله: " ما علمت لكم من إله غيرى " القصص: 38، ظاهر في أنه كان لا يتخذ لنفسه

[ 223 ]

ربا، وكان يأمر قومه أن لا يعبدوا إلا إياه، ولذلك قال بعضهم: أنه كان دهريا لا يعترف بصانع ويأمر قومه بترك عبادة الآلهة مطلقا، وقصر العبادة فيه، ولذلك قرأ بعضهم - على ما قيل - " والهتك " بكسر الهمزة وفتح اللام وإثبات الالف بعدها كالعبادة وزنا ومعنى. لكن الا وجه أنه كان يريد بقوله: " ما علمت لكم من إله غيري " نفى إله يخص قومه القبطيين يملكهم ويدبر أمورهم غير نفسه كما هو المعهود من عقائد الوثنيين أن لكل صنف من أصناف الخلائق كالسماء والارض والبر والبحر وقوم كذا، أو من أصناف الحوادث والامور كالسلم والحرب والحب والجمال ربا على حدة، وإنما كانوا يعبدون من بينها ما يهمهم عبادته كعبادته سكان سواحل البحار رب البحر والطوفان. فمعنى كلامه أني أنا ربكم معاشر القبطيين لا ما اتخذه موسى وهو يدعي أنه ربكم أرسله إليكم، ويؤيد ما ذكرناه ما احتف به من القرينة بقوله: " ما علمت لكم من إله غيري " فإنه تعالى يقول: " وقال فرعون يا أيها الملا ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وأني لاظنه من الكاذبين " القصص: 38، فظاهرها أنه كان يشك في كونه إلها لموسى، وأن معنى قوله: " ما علمت لكم من إله غيري " نفي العلم بوجود إله غيره لا العلم بعدم وجود إله غيره، وبالجملة فكلامه لا ينفي إلها غيره. وأما احتمال كون فرعون دهريا غير قائل بوجود الصانع فالظاهر أنه الذي يوجد في كلام الرازي قال في التفسير الكبير ما لفظه: الذي يخطر ببالي أن فرعون إن قلنا: إنه ما كان كامل العقل لم يجز في حكمة الله تعالى إرسال الرسول إليه، وإن كان عاقلا لم يجز أن يعتقد في نفسه كونه خالق السماوات والارض، ولم يجز في الجمع العظيم من العقلاء أن يعتقدوا فيه ذلك لان فساده معلوم بضرورة العقل. بل الاقرب أن يقال: إنه كان دهريا ينكر وجود الصانع، وكان يقول: مدبر هذا العالم السفلي هو الكواكب، وأما المجدي في هذا العالم للخلق ولتلك الطائفة والمربي لهم فهو نفسه فقوله: " أنا ربكم الاعلى " أي مربيكم والمنعم عليكم والمطعم لكم،

[ 224 ]

وقوله: " ما علمت لكم من إله غيري " أي لا أعلم لكم أحدا يجب عليكم عبادته إلا إنا. و إذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال: إنه كان قد اتخذ أصناما على صور الكواكب ويعبدها ويتقرب إليها على ما هو دين عبدة الكواكب، وعلى هذا التقدير فلا امتناع في حمل قوله تعالى: " ويذرك وآلهتك " على ظاهره فهذا ما عندي في هذا الباب انتهى. وقد أخطأ في ذلك فليس معنى الالوهية والربوبية عند الوثنيين وعبدة الكواكب خالقية السماوات والارض بل تدبير شئ من أمور العالم كما احتمله أخيرا، ولا في الدهريين من يعبد الكواكب، ولا في الصابئين وعبدة الكواكب من ينكر وجود الصانع. بل الحق أن فرعون - كما تقدم - كان يرى نفسه ربا لمصر وأهله، وكان إنما ينكر كونهم مربوبي إله آخر على قاعدتهم لا أنهم أو غيرهم من العالم ليسوا مخلوقين لله سبحانه. وقوله تعالى " قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون " وعد منه للملامن قومه أن يعيد إلى بني إسرائيل تعذيبه السابق وهو قتل أبنائهم واستحياء نسائهم واستبقاؤهن للخدمة، وعقبه بقوله: " وإنا فوقهم قاهرون " وهو تطييب قلوبهم وإسكان ما في نفوسهم من الاضطراب والطيش. قوله تعالى: " قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا " إلى آخر الاية. وهذا من موسى عليه السلام بعث لبني إسرائيل واستنهاض لهم على الاستعانة بالله على مقصدهم وهو التخلص من إسارة آل فرعون واستعبادهم ثم بعث على الصبر على شدائد يهددهم بها فرعون من ألوان العذاب، والصبر هو رائد الخير وفرط كل فرج، ثم علل ذلك بقوله: " إن الارض لله يورثها من يشاء ". ومحصلة أن فرعون لا يملك الارض حتى يمنحها من يشاء، ويمنع من التمتع بها من يشاء بل هي لله يورثها من يشاء وقد جرت السنة الالهية أن يخص بحسن العاقبة من يتقيه من عباده فإن استعنتم بالله وصبرتم في ذات الله على ما يهددكم من الشدائد - وهو التقوى - أورثكم الارض التي ترونها في أيدي آل فرعون. ولذلك عقب قوله: " أن الارض لله " الآية بقوله: " والعاقبة للمتقين " العاقبة ما يعقب الشئ كالبادئة لما يبدء بالشئ، وكون العاقبة مطلقا للمتقين من جهة أن السنة

[ 225 ]

الالهية تقضي بذلك وذلك أنه تعالى نظم الكون نظما يؤدى كل نوع إلى غاية وجوده وسعادته التي خلق لاجلها فإن جرى على صراطه الذي ركب عليه، ولم يخرج عن خط مسيره الذي خط له بلغ غاية سعادته لا محالة، والانسان الذي هو أحد هذه الانواع أيضا حالة هذا الحال إن جرى على صراطه الذي رسمته له الفطرة واتقى الخروج عنه والتعدي منه إلى غير سبيل الله بالكفر بآياته والافساد في أرضه هداه الله إلى عاقبته الحسنة، وأحياه الحياة الطيبة، وأرشده إلى كل خير يبتغيه. قوله تعالى: " قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا " الاتيان والمجئ في الآية بمعنى واحد، والاختلاف في التعبير للتفنن، وما قيل إن المعنى من قبل أن تأتينا بالآيات ومن بعد ما جئتنا لا دليل على ما فيه من التقدير. على أن غرضهم إظهار أن مجئ موسى وقد وعدوا أن الله ينجيهم بيده من مصيبة الاسارة وهاوية المذلة لم يؤثر أثره فإن الاذى الذي كانوا يحملونه ويؤذون به على حاله، ولا تعلق لغرضهم بأنه أتاهم بالآيات البتة. وهذا الكلام شكوى منهم يبثونها إلى موسى عليه السلام. قوله تعالى: " قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض فينظر كيف تعملون " وهذا جواب من موسى عن قولهم: " أوذينا " الخ، يسليهم به ويعزيهم بالرجاء وهو في الحقيقة تكرار لقوله السابق: " استعينوا بالله واصبروا إن الارض لله " الآية. كأنه يقول: ما أمرتكم به أن اتقوا الله في سبيل مقصدكم كلمة حية ثابتة فإن عملتم بها كان من المرجو أن يهلك الله عدوكم، ويستخلفكم في الارض بإيراثكم إياها ولا يصطفيكم بالاستخلاف اصطفاء جزافا، ولا يكرمكم إكراما مطلقا من غير شرط ولا قيد بل ليمتحنكم بهذا الملك ويبتليكم بهذا التسليط والاستخلاف فينظر كيف تعملون، قال تعالى: " وتلك الايام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء " آل عمران: 140. وهذا مما يخطئ به القرآن ما يعتقده اليهود من كرامتهم على الله كرامة لا تقبل عزلا، ولا تحتمل شرطا ولا قيدا، والتوراة تعد شعب إسرائيل شعب الله الذي لهم الارض المقدسة كأنهم ملكوها من الله سبحانه ملكا لا يقبل نقلا ولا إقالة.

[ 226 ]

قوله تعالى: " ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات " السنون جمع سنة وهي القحط والجدب، وكان أصله سنة القحط ثم قيل: السنة إشارة إليها ثم كثر الاستعمال حتى تعينت السنة لمعنى القحط والجدب. والله سبحانه يذكر في الآية - ويقسم - أنه أخذ آل فرعون وهم قومه المختصون به من القبطيين بالقحوط المتعددة ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون. وهما نوعان من الآيات التي أرسلها الله إلى آل فرعون، وظاهر السياق أنه أرسل ما أرسل منهما فصلا فصلا، ولذا جمع السنين ولا يصدق الجمع إلا مع الفصل بين سنة وسنة. على أنه يقول: " فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه " الآية. وظاهره الحسنة التي بعد السيئة ثم السيئة التي بعد هذه الحسنة. قوله تعالى: " فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه " إلى آخر الآية. كانوا إذا جاءهم الخصب ووغفور النعمة وسعة الرزق بعد ارتفاع السنة ونقص الثمرات قالوا: " لنا هذه " يريدون به الاختصاص وإنما قلنا: إنهم كانوا يقولون ذلك بعد ارتفاع السنة ونقص الثمرات لان الانسان بحسب الطبع لا ينتقل إلى ذكر النعمة بما هي نعمة، ولا يتنبه لقدرها إلا بعد مشاهدة النقمة التي هي خلافها، ولا داعي يدعو آل فرعون إلى ذكر النعمة الحسنة وتخصيصها بأنفسهم لو لا أنهم رأوا خلافها وعدوه أمرا بدعا لم يكونوا رأوه قبل ذلك فاطيروا بموسى ومن معه ثم إذا بدلت السيئة حسنة عدوها لانفسهم فالتطير عند السيئة بحسب الوقوع قبل قولهم في الحسنة: لنا هذه وأن كان الامر بحسب الطبع على خلاف ذلك بمعنى أنهم لو لم يزعموا ولم يرتكز في نفوسهم من اعتيادهم بالرفاهية ووفور النعمة والخصب أنهم مخصوصون بذلك يملكونه لم يتطيروا بموسى عند نزول المصيبة عليهم فإن من لم تروحه الراحة والعافية لا يتحرج عن خلافهما. ولعل هذا هو الوجه في تقديمه تعالى اغترارهم بالنعمة قبل تطيرهم عند النقمة ثم ذكر الحسنة بكلمة " إذا " والسيئة بلفظة " إن " حيث قال: " فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه " فقد جعل مجئ الحسنة كالاصل الثابت فذكره بإذا والتعريف بلام الجنس، ثم ذكر إصابه السيئة بطريق الشرط، ونكر السيئة ليدل على ندرتها وكونها اتفاقية.

[ 227 ]

والتطير مشتق من الطير باعتبار اشتماله على نسبة من النسب، وهي نسبة التشؤم فإنهم كانوا يتشامون ببعض الطيور كالغراب فاشتق منه ما يفيد معنى التشؤم وهو التطير ومعناه التشؤم بالطير حتى سمي مطلق النصيب أو النصيب من الشر والشأمة طائرا. فقوله تعالى: " إلا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون " معناه أن نصيبهم من الشر والشؤم الذي يحق به أن يسمى نصيب الشر وهو العذاب، هو عند الله، ولكن أكثرهم لا يعلمون لظنهم أن ما تجنيه أيديهم يفوت ويزول ولا يحفظ عليهم. وربما يذكر للطائر في الآية معان أخر ككتاب الاعمال الذي سماه الله طائرا وغير ذلك لكن الانسب بالسياق هو الذي تقدم. قوله تعالى: " وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين " مهما من أسماء الشرط معناه أي شئ، وقولهم هذا إياس منهم لموسى من أن يؤمنوا به وإن أتى بأي آية وفي قولهم: " من آية لتسحرنا بها " استهزاء به حيث سموها آية وجعلوا غرضه منها أن يسحرهم أي أنك تأتينا بالسحر وتسميها آية. قوله تعالى: " فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات " الآية. الطوفان على ما قاله الراغب - كل حادثة تحيط بالانسان، وصار متعارفا في الماء المتناهي في الكثرة، وفي المجمع: أنه السيل الذي يعم بتغريقه الارض وهو مأخوذ من الطوف فيها (انتهى). والقمل بالضم والتشديد قيل: كبار القردان، وقيل: صغار الذباب وبالفتح فالسكون معروف، والجراد والضفادع والدم معروفة. والتفصيل تفريق الشئ إلى أجزاء مفصولة منفصلة بعضها عن بعض، ولازم ذلك تميز كل بعض وظهوره في نفسه فقوله: " آيات مفصلات " يدل على أنها أرسلت إليهم لا مجتمعة ودفعة بل متفرقة منفصلة بعضها عن بعض ظاهره في أنها آيات إلهيه مقصودة غير اتفاقية ولا جزافية. ومن الدليل على كون المفصلات بهذا المعنى قوله في الآية التالية: " ولما وقع عليهم الرجز قالوا " الآية. الظاهر أن الآية كانت تأتيهم عن إخبار من موسى وإنذار ثم إذا نزلت بهم ودهمتهم التجأوا إليه فسألوه أن يدعو لهم لتنكشف عنهم، وأعطوه

[ 228 ]

عهدا إن كشفت عنهم آمنوا به وأرسلوا معه بني إسرائيل فلما كشفت نكثوا ونقضوا وعلى هذا القياس. قوله تعالى، " ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك " إلى آخر الآية. الرجز هو العذاب ويعني به العذاب الذي كانت تشتمل عليه كل واحدة من الآيات المفصلات فإنها آيات عذاب ونكال وقوله: " بما عهد عندك على ما يؤيده المقام أي بما التزم عندك أن لا يرد دعاءك فيما تسأله، واللام عندئذ للقسم، والمعنى ادع لنا ربك بالعهد الذي له عندك. وقوله: " لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل " هو ما عاهدوا به موسى لكشف الرجز عنهم. قوله تعالى: " فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون " النكث نقض العهد، وقوله: " إلى أجل هم بالغوه " متعلق بقوله: " كشفنا " وهو يدل على أنه كان يضم إلى معاهدة أجل مضروب كأن يقول موسى عليه السلام إن الله سيرفع العذاب عنكم بشرط أن تؤمنوا وترسلوا معى بني إسرائيل إلى أجل كذا، أو يقول آل فرعون ما يشابه هذا المعنى فلما كشف العذاب عنهم وحل الاجل المضروب نكثوا ونقضوا عهدهم الذي عاهدوا الله وعاهدوا موسى عليه والباقي ظاهر. قوله تعالى: " فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم " اليم البحر والباقي ظاهر. قوله تعالى " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها " إلى آخر الآية. الظاهر أن المراد بالارض أرض الشام وفلسطين يؤيده أو يدل عليه قوله بعد: " التي باركنا فيها " فإن الله سبحانه لم يذكر بالبركة غير الارض المقدسة التي هي نواحي فلسطين إلا ما وصف به الكعبة المباركة، والمعنى: أورثنا بني إسرائيل وهم المستضعفون الارض المقدسة بمشارقها ومغاربها، وإنما ذكرهم بوصفهم فقال: القوم الذين كانوا يستضعفون ليدل على عجيب صنعه تعالى في رفع الوضيع، وتقوية المستضعف، وتمليكه من الارض ما لا يقدر على مثله عادة الا كل قوي ذو أعضاد وأنصار. وقوله: " وتمت كلمة ربك الحسنى " الآية يريد به ما قضاه في حقهم أنه سيورثهم الارض ويهلك عدوهم، وإليه اشارة موسى عليه السلام في قوله: " لهم وهو يسليهم

[ 229 ]

ويؤكد رجاءهم: " عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض " ويشير سبحانه إليه في قوله: " ونريد إن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين " القصص: 5، وتمام الكلمة خروجها من مرحلة القوة إلى مرحلة الفعلية، وعلل ذلك بصبرهم. وقوله: " ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه " الآية. أي أهلكنا ما كانوا يصنعونه وما كانوا يسقفونه من القصور والابنية وما كانوا يعرشونه من الكرم وغيره. (بحث روائي) في المجمع: قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة ومحمد بن اسحاق بن بشار، ورواه علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام - دخل حديث بعضهم في بعض - قالوا: لما آمنت السحرة ورجع فرعون مغلوبا وأبى هو وقومه إلا الاقامة على الكفر قال هامان لفرعون: ان الناس قد آمنوا بموسى فانظر من دخل في دينه فاحبسه فحبس كل من آمن به من بني إسرائيل فتابع الله عليهم بالآيات، وأخذهم بالسنين ونقص من الثمرات. ثم بعث عليهم الطوفان فخرب دورهم ومساكنهم حتى خرجوا إلى البرية وضربوا الخيام، وامتلات بيوت القبط ماء، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة، وأقام على وجه أرضيهم لا يقدرون على أن يحرثوا فقالوا: لموسى ادع لنا ربك أن يكشف عنا المطر فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم الطوفان فلم يؤمنوا وقال هامان لفرعون: لئن خليت بني إسرائيل غلبك موسى وأزال ملكك وأنبت الله لهم في تلك السنة من الكلاء والزرع والثمر ما أعشبت به بلادهم وأخصبت فقالوا: ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا وخصبا. فأنزل الله عليهم في السنة الثانية - عن علي بن إبراهيم - وفي الشهر الثاني - عن غيره من المفسرين - الجراد فجردت زروعهم وأشجارهم حتى كانت تجرد شعورهم ولحاهم، وتأكل الاثواب والثياب والامتعة، وكانت لا تدخل بيوت بني إسرائيل ولا يصيبهم من ذلك شئ فعجوا وضجوا وجزع فرعون من ذلك جزعا شديدا، وقال:

[ 230 ]

يا موسى ادع لنا ربك أن يكشف عنا الجراد حتى أخلي عن بني إسرائيل فدعا موسى ربه فكشف عنه الجراد بعد ما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت. وقيل: إن موسى برز إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجعت الجراد من حيث جاءت حتى كان لم تكن قط، ولم يدع هامان فرعون أن يخلي عن بني إسرائيل. فأنزل الله عليهم في السنة الثالثد - في رواية علي بن إبراهيم - وفي الشهر الثالث - عن غيره من المفسرين - القمل وهو الجراد الصغار الذي لا أجنحة له، وهو شر ما يكون وأخبثه فأتى على زروعهم كلها واجتثها من أصلها فذهبت زروعهم، ولحس الارض كلها. وقيل: أمر موسى أن يمشي إلى كثيب أعفر بقرية من قرى مصر تدعى عين الشمس فأتاه فضربه بعصاه فانثال عليهم قملا فكان يدخل بين ثوب أحدهم فيعضه، وكان يأكل أحدهم الطعام فيمتلئ قملا قال سعيد بن جبير: القمل السوس الذي يخرج من الحبوب فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحا فلم يرد منها ثلاثة أقفزه فلم يصابوا ببلاء كان أشد عليهم من القمل، وأخذت أشعارهم وأبصارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم، ولزمت جلودهم كأنها الجدري عليهم، ومنعتهم النوم والقرار فصرخوا وصاحوا وقال فرعون لموسى: ادع لنا ربك لئن كشفت عنا القمل لاكفن عن بني إسرائيل فدعا موسى حتى ذهب القمل بعد ما أقام عندهم سبعة أيام من السبت إلى السبت فنكثوا. فأنزل الله عليهم في السنة الرابعة - وقيل: في الشهر الرابع - الضفادع فكانت تكون في طعامهم وشرابهم، وامتلات منها بيوتهم وأبنيتهم فلا يكشف أحد ثوبا - ولا إناء ولا طعاما ولا شرابا إلا وجد فيه ضفادع. وكانت تثب في قدورهم فتفسد عليهم ما فيها، وكان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع، ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه، ويفتح فاه لاكلته فيسبق الضفدع أكلته إلى فيه فلقوا منها أذى شديدا فلما رأوا ذلك بكوا وشكوا ذلك إلى موسى وقالوا: هذه المرة نتوب ولا نعود فادع الله أن يذهب عنا الضفادع فإنا نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فأخذ عهودهم ومواثيقهم ثم دعا ربه فكشف عنهم الضفادع بعد ما أقام عليهم سبعا من السبت إلى السبت ثم

[ 231 ]

نقضوا العهد وعادوا لكفرهم. فلما كانت السنة الخامسة أرسل الله عليهم الدم فسأل ماء النيل عليهم دما فكان القبطي يراه دما، والاسرائيلي يراه ماء فإذا شربه الاسرائيلي كان ماء، وإذا شربه القبطي كان دما، وكان القبطي يقول للاسرائيلي: خذ الماء في فيك وصبه في في فكان إذا صبه في فم القبطي يحول دما، وأن فرعون اعتراه العطش حتى أنه ليضطر إلى مضغ الاشجار الرطبة فإذا مضغها يصير ماؤه في فيه دما فمكثوا في ذلك سبعة أيام لا يأكلون إلا الدم، ولا يشربون إلا الدم. قال زيد بن أسلم الدم الذي سلط عليهم كان الرعاف فأتوا موسى فقالوا: ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فلما دفع الله عنهم الدم لم يؤمنوا ولم يخلوا عن بني إسرائيل. في تفسير العياشي عن محمد بن قيس عن أبي عبد الله عليه السلام: لئن كشف عنا الرجز لنؤمنن لك، قال: الرجز هو الثلج ثم قال: بلاد خراسان بلاد رجز. أقول: والرواية لا تنطبق على الآية ذاك الانطباق. * * * وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى أجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون - 138:. إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون - 139. قال أ غير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين - 140. وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم - 141. وواعدنا موسى ثلثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لاخيه هرون أخلفني في

[ 232 ]

قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين - 142. ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن أستقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين - 143. قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين - 144. وكتبنا له في الالواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأوريكم دار الفاسقين - 145. سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الارض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين - 146. والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون - 147. واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار أ لم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين - 148. ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين - 149. ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أ عجلتم أمر ربكم وألقى الالواح وأخذ

[ 233 ]

برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم أستضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الاعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين - 150. قال رب أغفر لي ولاخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين - 151. إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحيوة الدنيا وكذلك نجزي المفترين - 152. والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم - 153. ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الالواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون - 154. (بيان) شروع في بعض قصص بني إسرائيل بعد تخلصهم من إسارة آل فرعون مما يناسب غرض القصص المسرودة سابقا وهو أن الدعوة الدينية ما توجهت إلى أمه إلا كان الكفر إليها أسبق، والناقضون لعهد الله فيهم أكثر فخص الله المؤمنين منهم بمزيد كرامته، وعذب الكافرين بشديد عذابه. وقد ذكر في الآيات مجاوزة بني إسرائيل البحر ومسألتهم بعد المجاوزة موسى عليه السلام أن يجعل لهم صنما يعبدونه، وفيها عبادتهم للعجل بعد ما ذهب موسى لميقات ربه وفي ضمنها حديث نزول التوراة عليه. قوله تعالى: " وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم " الآية، العكوف الاقبال على الشئ وملازمته على سبيل التعظيم. ذكره الراغب في المفردات، وقولهم: " اجعل لنا إلها كما لهم آلهة " أي كما لهم آلهة مجعولة. كان بني إسرائيل على شريعة جدهم إبراهيم عليه السلام، وقد خلا فيهم من الانبياء

[ 234 ]

إسحاق ويعقوب يوسف، وهم على دين التوحيد الذي لا يعبد فيه إلا الله سبحانه وحده لا شريك له المتعالي عن أن يكون جسما أو جسمانيا يعرض له شكل أو قدر غير أن بني إسرائيل كما يستفاد من قصصهم كانوا قوما ماديين حسيين يجرون في حياتهم على أصالة الحس ولا يعتنون بما وراء الحس إلا اعتناء تشريفيا من غير أصالة ولا حقيقة، وقد مكثوا تحت إسارة القبط سنين متطاولة، وهم يعبدون الاوثان فتأثرت من ذلك أرواحهم وإن كانت العصبية القومية تحفظ لهم دين آبائهم بوجه. ولذلك كان جلهم لا يتصورون من الله سبحانه إلا أنه جسم من الاجسام بل جوهر ألوهي يشاكل الانسان كما هو الظاهر المستفاد من التوراة الدائرة اليوم، وكلما كان موسى يقرب الحق من أذهانهم حولوه إلى أشكال وتماثيل يتوهمون له تعالى، لهذه العلة لما شاهدوا في مسيرهم قوما يعكفون على أصنام لهم استحسنوا مثل ذلك لانفسهم فسألوا موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهه يعكفون عليها. فلم يجد موسى عليه السلام بدا من أن يتنزل في بيان توحيد الله سبحانه إلى ما يقارب أفهامهم على قصورها فلا مهم أولا على جهلهم بمقام ربهم مع وضوح أن طريق الوثنية طريق باطل هالك ثم عرف لهم ربهم بالصفة، وأنه لا يقبل صنما ولا يحد بمثال كما سيجئ. قوله تعالى: " إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون " المتبر من التبار وهو الهلاك، والمراد بقوله: " ما هم فيه " سبيلهم الذي يسلكونه وهو عبادة الاصنام والمراد بقوله: " ما كانوا يعملون " أعمالهم العبادية، والمعنى أن هؤلاء الوثنية طريقتهم هالكة وأعمالهم باطلة فلا يحق أن يميل إليه إنسان عاقل لان الغرض من عبادة الله سبحانه أن يهتدي به الانسان إلى سعادة دائمة وخير باق. قوله تعالى: " قال أ غير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين " أبغيكم " إي أطلب لكم وألتمس يعرف ربهم ويصفه لهم، وقوله: " أ غير الله أبغيكم إلها " فيه تأسيس أن كل إله أبغيه لكم بجعل أو صنع فإنما هو غير الله سبحانه، والذي يجب عليكم أن تعبدوا الله ربكم بصفة الربوبية التي هي تفضيله إياكم على العالمين. فكأنهم قالوا: " اجعل لنا إلها كما لهم آلهه فقال: كيف ألتمس لكم ربا مصنوعا وهو غير الله ربكم وإذا كان غيره فعبادته متبرة باطلة ؟ فقالوا: فكيف نعبده ولا نراه

[ 235 ]

ولا سبيل لنا إلى ما لا نشاهده ؟ كما يقوله عبدة الاصنام. فقال: اعبدوه بما تعرفونه من صفته فإنه فضلكم على سائر الامم بآياته الباهرة ودينه الحق وإنجائكم من فرعون وعمله، فالآية - كما ترى - ألطف بيان وأوجز برهان يجلي عن الحق الصريح للاذهان الضعيفة التعقل. قوله تعالى: " وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب " إلى آخر الآية. سامه العذاب يسومه أي حمله ذلك على طريق الاذلال، والتقتيل الاكثار في القتل والاستحياء الاستبقاء للخدمة وقد تقدم، والظاهر أن قوله: " وفي ذلكم " إشارة إلى ما ذكر من سوء تعذيب آل فرعون لهم. والآية خطاب امتناني للموجودين من أخلافهم حين النزول يمتن الله فيها عليهم بما من به على آبائهم في زمن فرعون كما قيل، والانسب بالسياق أن يكون خطابا لاصحاب موسى بعينهم مسوقا سوق التعجب إذا نسوا عظيم نعمة الله عليهم إذ أنجاهم من تلك البلية العظيمة، ونظيره في الغيبة قوله تعالى فيما سيأتي: " أ لم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا ". قوله تعالى: " وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة " إلى آخر الآية. الميقات قريب المعنى من الوقت، قال في المجمع: الفرق بين الميقات والوقت أن الميقات ما قدر ليعمل فيه عمل من الاعمال، والوقت وقت الشئ وقدره، ولذلك قيل: مواقيت الحج وهي المواضع التي قدرت لاحرام فيها (انتهى). وقد ذكر الله سبحانه المواعدة وأخذ أصلها ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر ليال أخر ثم ذكر الفذلكة وهى أربعون، وإما الذي ذكره في موضع آخر إذ قال: " وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة " البقره: 51 فهو المجموع المتحصل من المواعدتين أعني أن آية البقرة تدل على أن مجموع الاربعين كان عن مواعدة، وآية الاعراف على أن ما في آية البقرة مجموع المواعدتين. وبالجملة يعود المعنى إلى أنه تعالى وعده ثلاثين ليلة للتقريب والتكليم ثم وعده عشرا آخر لاتمام ذلك فتم ميقات ربه أربعين ليلة، ولعله ذكر الليالي دون الايام - مع أن موسى مكث في الطور الاربعين بأيامها ولياليها، والمتعارف في ذكر المواقيت

[ 236 ]

والازمنة ذكر الايام دون الليالي - لان الميقات كان للتقرب إلى الله سبحانه ومناجاته وذكره، وذلك أخص بالليل وأنسب لما فيه من اجتماع الحواس عن التفرق وزيادة تهيؤ النفس للانس وقد كان من بركات هذا الميقات نزول التوراة. وهذا كما يشير إلى مثله قوله تعالى: " يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا - إلى أن قال - إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا " المزمل: 7، وقوله تعالى: " وقال موسى لاخيه هارون اخلفني في قومي " إنما قاله حين ما كان يفارقهم للميقات، والدليل على ذلك قوله: " اخلفني في قومي " فإن الاستخلاف لا يكون إلا في غيبة. وإنما عبر بلفظ " قومي " دون بني إسرائيل لتجري القصة على سياق سائر القصص المذكورة في هذه السورة فقد حكي فيها عن لفظ نوح وهود وصالح وغيرهم: يا قوم يا قوم، وعلى ذلك أجريت هذه القصة فعبر فيها عن بني إسرائيل في بضعة مواضع بلفظ القوم، وقد عبر عنهم في سورة طه ببني إسرائيل. وأما قوله لاخيه ثانيا: " وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين " فهو أمر له بالاصلاح وأن لا يتبع سبيل أهل الفساد، وهارون نبي مرسل معصوم لا تصدر عنه المعصية، ولا يتأتى منه اتباع أهل الفساد في دينهم، وموسى عليه السلام أعلم بحال أخيه فليس مراده نهيه عن الكفر والمعصية بل أن لا يتبع في إدارة أمور قومه ما يشير إليه ويستصوبه المفسدون من القوم أيام خلافته ما دام موسى غائبا. ومن الدليل عليه قوله: " وأصلح " فإنه يدل على أن المراد بقوله: " ولا تتبع سبيل المفسدين " أن يصلح أمرهم ولا يسير فيهم سيرة هي سبيل المفسدين الذي يستحسنونه ويشيرون إليه بذلك. ومن هنا يتأيد أنه كان في قومه يومئذ جمع من المفسدين يفسدون ويقلبون عليه الامور ويتربصون به الدوائر فنهى موسى أخاه أن يتبع سبيلهم فيشوشوا عليه الامر ويكيدوا ويمكروا به فيتفرق جمع بني إسرائيل ويتشتت شملهم بعد تلك المحن والاذايا التي كابدها في إحياء كلمة الاتحاد بينهم. قوله تعالى: " ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني " الآية، التجلي مطاوعة

[ 237 ]

التجلية من الجلاء بمعنى الظهور، والدك هو أشد الدق، وجعله دكا أي مدكوكا والخرور هو السقوط، والصعقة هي الموت أو الغشية بجمود الحواس وبطلان إدراكها، والافاقة الرجوع إلى حال سلامة العقل والحواس يقال: أفاق من غشيته أي رجع إلى حال استقامة الشعور والادراك. ومعنى الآية على ما يستفاد من ظاهر نظمها أنه " لما جاء موسى لميقاتنا " الذي وقتناه له " وكلمه ربه " بكلامه " قال " أي موسى " رب أرني أنظر إليك " أي أرني نفسك أنظر إليك أي مكني من النظر إليك حتى أنظر إليك وأراك فإن الرؤية فرع النظر، والنظر فرع التمكين من الرؤية والتمكن منها، " قال " الله تعالى لموسى " لن تراني " أبدا " ولكن انظر إلى الجبل " وكان جبلا بحياله مشهودا له أشير إليه بلام العهد الحضوري " ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني " أي لن تطيق رؤيتي فانظر إلى الجبل فإني أظهر له فإن استقر مكانه وأطاق رؤيتي فاعلم أنك تطيق النظر إلي ورؤيتي " فلما تجلى " وظهر " ربه للجبل جعله " بتجليه " دكا " مدكوكا متلاشيا في الجو أو سائحا " وخر موسى صعقا " ميتا أو مغشيا عليه من هول ما رأى " فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك " رجعت إليك مما اقترحته عليك " وأنا أول المؤمنين " بأنك لا ترى. هذا ظاهر ألفاظ الآية. والذي يعطيه التدبر فيها أن حديث الرؤية والنظر الذي وقع في الآية إذا عرضناه على الفهم العامي المتعارف حمله على رؤية العين ونظر الابصار، ولا نشك ولن نشك أن الرؤية والابصار يحتاج إلى عمل طبيعي في جهاز الابصار يهيئ للباصر صوره مماثلة لصورة الجسم المبصر في شكله ولونه. وبالجملة هذا الذي نسميه الابصار الطبيعي يحتاج إلى مادة جسمية في المبصر والباصر جميع، وهذا لا شك فيه. والتعليم القرآني يعطي إعطاء ضروريا أن الله تعالى لا يماثله شئ بوجه من الوجوه البتة فليس بجسم ولا جسماني، ولا يحيط به مكان ولا زمان، ولا تحويه جهة ولا توجد صورة مماثلة أو مشابهه له بوجه من الوجوه في خارج ولا ذهن البتة. وما هذا شأنه لا يتعلق به الابصار بالمعنى الذي نجده من أنفسنا البتة، ولا تنطبق

[ 238 ]

عليه صورة ذهنية لا في الدنيا ولا في الآخرة ضرورة، ولا أن موسى ذاك النبي العظيم أحد الخمسة أولي العزم وسادة الانبياء عليهم السلام ممن يليق بمقامه الرفيع وموقفه الخطير أن يجهل ذلك، ولا أن يمني نفسه بأن الله سبحانه أن يقوي بصر الانسان على أن يراه ويشاهده سبحانه منزها عن وصمة الحركة والزمان، والجهة والمكان، وألواث المادة الجسمية وأعراضها فإنه قول أشبه بغير الجد منه بالجد فما محصل القول: أن من الجائز في قدرة الله أن يقوي سببا ماديا أن يعلق عمله الطبيعي المادي - مع حفظ حقيقة السبب وهوية أثره - بأمر هو خارج عن المادة وآثارها متعال عن القدر والنهاية ؟ فهذا الابصار الذي عندنا وهو خاصة مادية من المستحيل أن يتعلق بما لا أثر عنده من المادة الجسمية وخواصها فإن كان موسى يسأل الرؤية فإنما سأل غير هذه الرؤية البصرية، وبالملازمة ما ينفيه الله سبحانه في جوابه فإنما ينفي غير هذه الرؤية البصرية فأما هي فبديهية الانتفاء لم يتعلق بها سؤال ولا جواب، وقد أطلق الله الرؤية وما يقرب منها معنى في موارد من كلامه وأثبتها كقوله تعالى " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " القيامة: 23، وقوله: " ما كذب الفؤاد ما رأى " النجم: 11، وقوله: " من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت " العنكبوت - 5، وقوله: " أ ولم يكف ربك أنه على كل شئ شهيد ألا أنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شئ محيط " حم السجدة: 54، وقوله: " فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا " الكهف: 110، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المثبتة للرؤية وما في معناه قبال الآيات النافية لها كما في هذه الآية: " قال لن تراني " وقوله: " لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار " الانعام: 103، وغير ذلك. فهل المراد بالرؤية حصول العلم الضروري سمي بها لمبالغة في الظهور ونحوها كما قيل. لا ريب أن الآيات تثبت علما ما ضروريا لكن الشأن في تشخيص حقيقة هذا العلم الضروري فإنا لا نسمي كل علم ضروري رؤية وما في معناه من اللقاء ونحوه كما نعلم بوجود إبراهيم الخليل وإسكندر وكسرى فيما مضى ولم نرهم، ونعلم علما ضروريا بوجود لندن وشيكاغو ومسكو ولم نرها، ولا نسميه رؤية وإن بالغنا فأنت تقول:

[ 239 ]

أعلم بوجود إبراهيم عليه السلام وإسكندر وكسرى كأني رأيتهم، ولا تقول رأيتهم أو أراهم، وتقول: اعلم بوجود لندن وشيكاغو ومسكو، ولا تقول رأيتها أو أراها. وأوضح من ذلك علمنا الضروري بالبديهيات الاولية التي هي لكليتها غير مادية ولا محسوسة مثل قولنا: " الواحد نصف الاثنين " و " الاربعة زوج " و " الاضافة قائمة بطرفين " فإنها علوم ضرورية يصح إطلاق العلم عليها ولا يصح إطلاق الرؤية البتة. ونظير ذلك جميع التصديقات العقلية الفكرية، وكذا المعاني الوهمية وبالجملة ما نسميها بالعلوم الحصولية لا نسميها رؤية وان أطلقنا عليها العلم فنقول علمناها ولا نقول: رأيناها الا بمعنى القضاء والحكم لا بمعنى المشاهدة والوجدان. لكن بين معلوماتنا ما لا نتوقف في اطلاق الرؤية عليه واستعمالها فيه، نقول: أرى أني أنا وأراني أريد كذا وأكره كذا، وأحب كذا وأبغض كذا وأرجو كذا وأتمنى كذا أي أجد ذاتي وأشاهدها بنفسها من غير أن أحتجب عنها بحاجب، وأجد وأشاهد ارادتي الباطنة التي ليست بمحسوسة ولا فكرية وأجد في باطن ذاتي كراهة وحبا وبغضا ورجاء وتمنيا وهكذا. وهذا غير قول القائل: رأيتك تحب كذا وتبغض كذا وغير ذلك فإن معنى كلامه أبصرتك في هيئة استدللت بها على أن فيك حبا وبغضا ونحو ذلك وأما حكاية الانسان عن نفسه أنه يراه يريد ويكره ويحب ويبغض فإنه يريد به أنه يجد هذه الامور بنفسها وواقعيتها لا أنه يستدل عليها فيقضي بوجودها من طريق الاستدلال بل يجدها من نفسه من غير حاجب يحجبها ولا توسل بوسيلة تدل عليها البتة. و تسمية هذا القسم من العلم الذي يجد فيه الانسان نفس المعلوم بواقعيته الخارجية رؤية مطردة، وهي علم الانسان بذاته وقواه الباطنة وأوصاف ذاته وأحواله الداخلية وليس فيها مداخلة جهة أو مكان أو زمان أو حالة جسمانية أخرى غيرها فافهم ذلك وإجد التدبر فيه. والله سبحانه فيما أثبت من الرؤية يذكر معها خصوصيات ويضم إليها ضمائم يدلنا ذلك على أن المراد بالرؤية هذا القسم من العلم الذي نسميه فيما عندنا أيضا رؤية كما في قوله: " أ ولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد إلا انهم في مرية من لقاء ربهم إلا

[ 240 ]

أنه بكل شئ محيط " الآية. حيث أثبت أولا أنه على كل شئ حاضر أو مشهود لا يختص بجهة دون جهة وبمكان دون مكان وبشئ دون شئ بل شهيد على كل شئ محيط بكل شئ فلو وجده شئ لوجده على ظاهر كل شئ وباطنه وعلى نفس وجدانه وعلى نفسه، وعلى هذه السمة لقاؤه لو كان هناك لقاء لا على نحو اللقاء الحسي الذي لا يتأتى البتة إلا بمواجهة جسمانية وتعين جهة ومكان وزمان، وبهذا يشعر ما في قوله: " ما كذب الفؤاد ما رأى من نسبة الرؤيه إلى الفؤاد الذي لا شبهه في كون المراد به هو النفس الانسانية الشاعرة دون اللحم الصنوبري المعلق على يسار الصدر داخلا. ونظير ذلك قوله تعالى: " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا أنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " المطففين: 15، دل على أن الذي يجبهم عنه تعالى رين المعاصي والذنوب التي اكتسبوها فحال بين قلوبهم أي أنفسهم وبين ربهم فحجبهم عن تشريف المشاهدة، ولو رأوه لرأوه بقلوبهم أي أنفسهم لا بأبصارهم وأحداقهم. وقد أثبت الله سبحانه في موارد من كلامه قسما آخر من الرؤية وراء رؤية الجارحة كقوله تعالى: " كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين " التكاثر: 7، وقوله: " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين " الانعام - 75، وقد تقدم تفسير الآية في الجزء السابع من الكتاب، وبينا هناك أن الملكوت هو باطن الاشياء لا ظاهرها الحسوس. فبهذه الوجوه يظهر أنه تعالى يثبت في كلامه قسما من الرؤية والمشاهدة وراء الرؤية البصرية الحسية، وهي نوع شعور في الانسان يشعر بالشئ بنفسه من غير استعمال آله حسية أو فكرية، وأن للانسان شعورا بربه غير ما يعتقد بوجوده من طريق الفكر واستخدام الدليل بل يجده وجدانا من غير أن يحجبه عنه حاجب ولا يجره إلى الغفلة عنه إلا اشتغاله بنفسه وبمعاصيه التي اكتسبها، وهي مع ذلك غفلة عن أمر موجود مشهود لا زوال علم بالكلية ومن أصله فليس في كلامه تعالى ما يشعر بذلك البتة بل عبر عن هذا الجهل بالغفلة وهي زوال العلم بالعلم لا زوال أصل العلم. فهذا ما بينه كلامه سبحانه، ويؤيده العقل بساطع براهينه، وكذا ما ورد من الاخبار عن إئمة أهل البيت عليهم السلام على ما سننقلها ونبحث عنها في البحث الروائي

[ 241 ]

الآتي إن شاء الله تعالى. والذي ينجلي من كلامه تعالى أن هذا العلم المسمى بالرؤية واللقاء يتم للصالحين من عباد الله يوم القيامة كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى: " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " القيامة: 23، فهناك موطن التشرف بهذا التشريف، وأما في هذه الدنيا والانسان مشتغل ببدنه، ومنغمر في غمرات حوائجه الطبيعية، وهو سالك لطريق اللقاء والعلم الضروري بآيات ربه، كادح إلى ربه كدحا ليلاقيه فهو بعد في طريق هذا العلم لن يتم له حق يلاقي ربه، قال تعالى: " يا أيها الانسان أنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " الانشقاق: 6، وفي معناه آيات كثيرة أخرى تدل على أنه تعالى إليه المرجع والمصير والمنتهى، وإليه يرجعون وإليه يقلبون. فهذا هو العلم الضروري الخاص الذي أثبته الله تعالى لنفسه وسماه رؤية ولقاء، ولا يهمنا البحث عن أنها على نحو الحقيقة أو المجاز فإن القرائن كما عرفت قائمة على إرادة ذلك فإن كانت حقيقة كانت قرائن معينة، وإن كانت مجازا كانت صارفة، والقرآن الكريم أول كاشف عن هذه الحقيقة على هذا الوجه البديع، فالكتب السماوية السابقة على ما بأيدينا ساكتة عن إثبات هذا النوع من العلم بالله وتخلو عنه الابحاث المأثورة عن الفلاسفة الباحثين عن هذه المسائل فإن العلم الحضوري عندهم كان منحصرا في علم الشئ بنفسه حتى كشف عنه في الاسلام فللقرآن المنة في تنقيح المعارف الالهية. ولنرجع إلى الآية المبحوث عنها: فقوله: " ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرنى أنظر إليك " سؤال منه عليه السلام للرؤية بمعنى العلم الضروري على ما تقدم من معناه فإن الله سبحانه لما خصه بما حباه من العلم به من جهة النظر في آياته ثم زاد على ذلك أن اصطفاه برسالاته وبتكليمه وهو العلم بالله من جهة السمع رجا عليه السلام أن يزيده بالعلم من جهة الرؤية وهو كمال العلم الضروري بالله والله خير مرجو و مامول. فهذا هو المسؤول دون الرؤية بمعنى الابصار بالتحديق الذي يجل موسى عليه السلام ذاك النبي الكريم أن يجهل بامتناعه عليه تعالى وتقدس.

[ 242 ]

وقوله. " قال لن تراني " نفي مؤبد للرؤية، وإذ أثبت الله سبحانه الرؤية بمعنى العلم الضروري في الآخرة كان تأبيد النفي راجعا إلى تحقق ذلك في الدنيا ما دام للانسان اشتغال بتدبير بدنه، وعلاج ما نزل به من أنواع الحوائج الضرورية، والانقطاع إليه تعالى بتمام معنى الكلمة لا يتم إلا بقطع الرابطة عن كل شئ حتى البدن وتوابعه وهو الموت. فيؤل المعنى إلى أنك لن تقدر على رؤيتي والعلم الضروري بي في الدنيا حتى تلاقيني فتعلم بي علما اضطراريا تريده، والتعبير في قوله: " لن تراني " به " لن " الظاهر في تأبيد النفي لا ينافي ثبوت هذا العلم الضروري في الآخرة فالانتفاء في الدنيا يقبل التأبيد أيضا كما في قوله تعالى: " أنك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا " أسرى: 37، وقوله: " أنك لن تستطيع معى صبرا " الكهف: 67. ولو سلم أنه ظاهر في تأبيد النفي للدنيا والآخرة جميعا فإنه لا يأبى التقييد كقوله تعالى: " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " البقرة: 120، فلم لا يجوز أن تكون أمثال قوله تعالى: " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " مقيدة لهذه الآية مبينة لمعنى التأبيد المستفاد منها. والذي ذكرناه من رجوع نفي الرؤية في قوله: " لن تراني " إلى نفي الطاقة والاستطاعة يؤيده قوله بعده: " ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني " فإن فيه تنظير إراءه نفسه لموسى عليه السلام بتجليه للجبل، والمراد أن ظهوري وتجليي للجبل مثل ظهوري لك فإن استقر الجبل مكانه أي بقى على ما هو عليه وهو جبل عظيم في الخلقة قوي في الطاقة فإنك أيضا يرجى أن تطيق تجلي ربك وظهوره. فقوله: " ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني " ليس باستدلال على استحالة التجلي كيف وقد تجلى له ؟ بل إشهاد وتعريف لعدم استطاعته وإطاقته للتجلي وعدم استقراره مكانه أي بطلان وجوده لو وقع التجلي كما بطل الجبل بالدك. وقد دل عليه قوله: " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا " وبصيروره الجبل دكا أي مدكوكا متحولا إلى ذرات ترابية صغار بطلت هويته وذهبت جبليته وقضى أجله.

[ 243 ]

وقوله: " وخر موسى صعقا " ظاهر السياق أن الذي أصعقه هو هول ما رأى وشاهد غير أنه يجب أن يتذكر أنه هو الذي ألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين تلقف الالوف من الثعابين والحيات، وفلق البحر فأغرق الالوف ثم الالوف من آل فرعون في لحظة ورفع الجبل فوق رؤس بني إسرائيل كأنه ظلة، وأتى بآيات هائلة أخرى وهي أهول من اندكاك جبل، وأعظم، ولم يصعقه شئ من ذلك ولم يدهشه. واندكاك الجبل أهون من ذلك، وهو بحسب الظاهر في أمن من أن يصيبه في ذلك خطر فإن الله إنما دكه ليشهده كيفية الامر !. فهذا كله يشهد أن الذي أصعقه إنما هو ما تمثل له من معنى ما سأله وعظمة القهر الالهي الذي أشرف أن يشاهده ولم يشاهده هو وإنما شاهده الجبل فآل أمره إلى ذاك الاندكاك العجيب الذي لم يستقر معه مكانه ولا طرفة عين، ويشهد بذلك أيضا توبته عليه السلام بعد الافاقة كما سيأتي. وقوله: " فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين " توبة ورجوع منه عليه السلام بعد الافاقة إذ تبين له أن الذي سأله وقع في غير موقعه فأخذته العناية الالهية بتعريفه ذلك وتعليمه عيانا بإشهاده دك الجبل بالتجلي أنه غير ممكن. فبدأ بتنزيهه تعالى وتقديسه عما كان يرى من إمكان ذلك ثم عقبه بالتوبة عما أقدم عليه وهو يطمع في أن يتوب عليه، وليس من الواجب في التوبة أن تكون دائما عن معصية وجرم بل هو الرجوع إليه تعالى لشائبة بعد كيف كان كما تقدم البحث فيه في الجزء الرابع من الكتاب. ثم عقب عليه السلام ذلك بالاقرار والشهادة بقوله: " وأنا أول المؤمنين " أي أول المؤمنين من قومي بأنك لا ترى. هذا ما يدل عليه المقام، وأن كان من المحتمل أن يكون المراد وأنا أول المؤمنين من بين قومي بما آتيتني وهديتني إليه آمنت بك قبل أن يؤمنوا فحقيق بي أن أتوب إليك إذا علق بي تقصير أو قصور لكنه معنى بعيد. قوله تعالى: " قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين " المراد بالاصطفاء الاختيار على وجه التصفية، ولذلك عدى إلى الناس بعلى، والمراد بالرسالات هو ما حمل من الاوامر والنواهي الالهية من

[ 244 ]

المعارف والحكم والشرائع ليبلغه الناس سواء كان التحميل بواسطة ملك أو بتكليم بلا واسطة ملك فهي غير الكلام وإن حملت بكلام فإن الكلام أمر، والمعاني التي يتلقاها السامع منه أمر آخر. والمراد بالكلام هو ما شافه به الله سبحانه من غير واسطة ملك وبعبارة أخرى هو ما يكشف به عن مكنون الغيب، وأما أن يكون من نوع الكلام الدائر بيننا معاشر الانسان فلا فإن الكلام عندنا هو أنا نصطلح ونتعهد فيما بيننا على تخصيص صوت مخصوص من الاصوات لمعنى من المعاني لينتقل ذهن السامع إلى ذلك المعنى ثم نتوسل عند إرادة تفهيمه إلى إيجاد تموج خاص في الهواء يبتدي منا وينتهي إلى السامع لننقل به ما في ضميرنا إلى ضمير السامع المخاطب والتكلم بهذا الوجه يستلزم التجسم في المتكلم والله سبحانه منزه عنه، ومجرد إيجاد الصوت وتمويج الهواء بإيجاد أسباب الصوت في مكان لا يدل على كون المعاني التي ينتقل إليها الذهن مقصودة لله سبحانه ما لم تكشف الارادة بأمر آخر وراء نفس الصوت كما أن من أوجد منا بدق أو ضرب أو نحوهما صوتا يدل على معنى لم نحكم بإرادته ذلك ما لم يكشف من حاله أو مقاله قبلا أنه قاصد لمعنى ما يوجده من الاصوات. وما كلم به الله سبحانه موسى عليه السلام مما حكاه القرآن الشريف خال عن سؤال الدليل على كونه كلامه، وعلى كونه تعالى مريدا لمعناه فلم يسأل موسى ربه حين سمع النداء من جانب الطور الايمن من الشجرة: هل هذا منك يا رب ؟ وهل أنت مريد معناه بل أيقن بذلك إيقانا، ونظير الكلام جار في سائر أقسام الوحى غير الكلام. وهذا يكشف كشفا قطعيا عن ارتباط خاص من السامع بإرادة مصدر الكلام والوحى يوجب الانتقال إلى المعنى المقصود وإلا فمجرد صدور صوت له معنى مفهوم في اللغة منه تعالى لا يستلزم صحة الانتساب إليه تعالى ولا كونه كلامه كيف ؟ وجميع الالفاظ الصادرة من المتكلمين بما أنها أصوات تنتهي إليه تعالى وليست كلاما له تعالى بل المتكلم بها غيره، وكثيرا ما يحدث من تصادم الاجسام المختلفة أصوات ذوات معان في اللغة ولا نعده كلاما له تعالى. وبالجملة تكليمه تعالى هو إيجاده اتصالا وارتباطا خاصا بين مخاطبه وبين الغيب

[ 245 ]

ينتقل به بمشاهدة بعض مخلوقاته إلى معنى مراد، ولا نمنع مقارنة ذلك بأصوات يوجدها الله تعالى في خارج أو سمع أو غير ذلك، وقد تقدم بعض الكلام في الكلام فيما تقدم. وسيأتي منه تتمة في تفسير سورة الشورى أن شاء الله تعالى. وكيف كان فقوله تعالى: " قال يا موسى إنى اصطفيتك " الآية. وارد في مورد الامتنان وموعظة لموسى عليه السلام أن يكتفي بما اصطفاه الله به من رسالاته وكلامه ويشكره ولا يستزيد. قوله تعالى: " وكتبنا له في الالواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ " الآية. اللوح صحيفة معدة للكتابة فيه لانه يلوح ويظهر بما فيه من الخط وأصله من لاح البرق إذا لمع. وقوله: " من كل شئ " من فيه للتبعيض كما يؤيده السياق اللاحق، وقوله: " موعظة " الظاهر أنه بيان لكل شئ، ويعطف عليه قوله: " وتفصيلا لكل شئ " وتنكير قوله: " تفصيلا " لافادة الابهام والتبعيض، ويؤول المعنى إلى مثل قولنا: وكتبنا لموسى في الالواح وهي التوراة النازلة مختارات من كل شئ ونعني بذلك أنا كتبنا له موعظة وتفصيلا ما وتشريحا ما لكل شئ حسب ما يحتاج إليها قومه في الاعتقاد والعمل. ففي الكلام دلالة على أن التوراة لم تستكمل جميع ما تمس به حاجة البشر من المعارف والشرائع، وهو كذلك كما يدل عليه أيضا قوله تعالى بعد ذكر التوراة والانحيل " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه " المائدة: 48، وقد تقدم تفسيره. وقوله: " فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها " عطف تفريع على قوله: " وكتبنا له في الالواح " الآية لانه مشعر بمعنى القول، والتقدير: وقلنا إنا كتبنا لك في الالواح من كل شئ فخذها بقوة. والاخذ بالقوة كناية عن الاخذ بالجد والحزم فإن من يجد ويحزم في أمر يستعمل ما عنده من القوة فيه حذرا أن يفوته فالاخذ بالقوة لازم الاخذ بالجد والحزم كنى به عنه. وقوله: " وأمر قومك يأخذوا بأحسنها " الظاهر أن الضمير في " بأحسنها "

[ 246 ]

راجع إلى الاشياء المدلول عليها بقوله قبلا: " من كل شئ " من المواعظ وتفاصيل الآداب والشرائع والاخذ بالاحسن كناية عن ملازمة الحسن في الامور واتباعه واختياره فإن من يهم بأمر الحسن في الامور إذا وجد سيئا وحسنا اختار الحسن الجميل، وإذا وجد حسنا وأحسن منه اضطره حب الجمال إلى اختيار الاحسن وتقديمه على الحسن فالاخذ بأحسن الامور لازم حب الجمال وملازمة الحسن فكني به عنه، والمعنى: وأمر قومك يجتنبوا السيئات ويلازموا ما تهدي إليه التوراة من الحسنات، ونظير الآية في التكنية قوله تعالى: " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الالباب " الزمر: 18. وقوله: " ساوريكم دار الفاسقين " ظاهر السياق أن المراد بهؤلاء الفاسقين هم الذين يفسقون بعدم ائتمار قوله: " وأمر قومك يأخذوا بأحسنها " على ما تقدم من معناه من ملازمة طريق الاحسان في الامور واتباع الحق والرشد فإن من فسق عن الطريق صرفه الله عن الصراط المستقيم إلى تتبع السيئات والميل عن الرشد إلى الغي كما يفصله في الآية التالية فكانت عاقبة أمره خسرانا وآل أمره إلى الهلاك. وعلى هذا فما في الآية التالية: " سأصرف عن آياتي " الآية تفسير أو كالتفسير لقوله: " ساوريكم دار الفاسقين " وقيل المراد بدار الفاسقين جهنم، وفي الكلام تهديد وتحذير، وقيل المراد بها منازل فرعون وقومه بمصر، وقيل: منازل عاد وثمود، وقيل المراد دار العمالقة وغيرهم بالشام وأن الله سيدخلهم فيها فيرونها، وقيل: المراد سيجيئكم قوم فساق تكون الدولة لهم عليكم. قوله تعالى: " سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الارض بغير الحق وأن يروا كل آية لا يؤمنوا بها الآية تقييد التكبر في الارض بغير الحق مع أن التكبر فيها لا يكون إلا بغير الحق كتقييد البغي في الارض بغير الحق للتوضيح لا للاحتراز ويراد به الدلالة على وجه الذم في العمل وأن التكبر كالبغي مذموم لكونه بغير الحق. وأما ما قيل: أن القيد احترازي للدلالة على أن المراد هو التكبر المذموم دون التكبر الممدوح كالتكبر على اعداء الله والتكبر على المتكبر، وهو تكبر بالحق ففيه أن المذكور في الآية ليس مطلق التكبر بل التكبر في الارض، وهو الاستعلاء على

[ 247 ]

عباد الله واستذلالهم والتغلب عليهم، وهذا لا يكون إلا بغير الحق. وقوله: " وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها " عطف على قوله: " يتكبرون " وبيان لاحد أوصافهم وهو الاصرار على الكفر والتكذيب. وكذا قوله: " وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا " الآية وتكرار الجملتين المثبتة والمنفية بجميع خصوصياتهما للدلالة على اعتنائهم الشديد ومراقبتهم الدقيقة على مخالفة سبيل الرشد واتباع سبيل الغي بحيث لا يعذرون بخطاء ولا يحتمل في حقهم جهل أو اشتباه. وقوله: " ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا " إلى آخر الآية تعليل لما تحقق فيهم من رذائل الصفات أي إنما جروا على ما جروا بسبب تكذيبهم لآياتنا وغفلتهم عنها، ومن المحتمل أن يكون تعليلا لقوله تعالى: " سأصرف عن آياتي ". قوله تعالى: " والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون " معنى الآية ظاهر ويتحصل منها: أولا: أن الجزاء هو نفس العمل وقد تقدم توضيحه كرارا في أبحاثنا السبقة. وثانيا: أن الحبط من الجزاء فإن الجزاء بالعمل وإذا كان العمل حابط فإحباطه هو الجزاء، والحبط إنما يتعلق بالاعمال التي فيها جهة حسن فتكون نيجة إحباط الحسنات ممن له حسنات وسيئات أن يجزى بسيئاته جزاء سيئا وجزى بحسناته بإحباطها فيتمحض له الجزاء السيئ. ويمكن أن تنزل الآية لى معنى آخر وهو أن يكون المراد بالجزاء، الجزاء الحسن وقوله: " هل يجزون إلا ما كانوا يعملون " كناية عن أنهم لا يثابون بشئ إذ لا عمل من الاعمال الصالحة ندهم لمكان الحبط قال تعالى: " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء نثورا " الفرقان: 23، والدليل على كون المراد بالجزاء هو الثواب أن هذا اجزاء هو جزاء الاعمال المذكورة في الآية قبلا، والمراد بها بقرينة ذكر الحبط هي الاعمال الصالحة. ومن هنا يظهر فساد ما استدل به بعضهم بالآية على أن تارك الواجب من غير أن يشتغل بضده لا عقاب له لانه لم يعمل عملا حتى يعاقب عليه وقد قال تعالى: " هل يجزون

[ 248 ]

إلا ما كانوا يعملون ". وجه الفساد إن المراد بالجزاء في الآية الثواب والمعنى أنهم لا ثواب لهم في الآخرة لانهم لم يأتوا بحسنة ولم يعملوا عملا يثابون عليها. على أن ثبوت العقاب على مجرد ترك الاوامر الالهية مع الغض عما يشتغل به من الاعمال المضادة كالضروري من كلامه تعالى قال الله عزوجل: " ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم " الجن: 23، إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: " واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار " إلى آخر الآية، الحلي على فعول جمع حلي كالثدي جمع ثدي، وهو ما يتحلى ويتزين به من ذهب أو فضة أو نحوهما، والعجل ولد البقرة، والخوار صوت البقرة خاصة، وفي قوله تعالى: " جسدا له خوار " - وهو بيان للعجل - دلالة على أنه كان غير ذى حياة وإنما وجدوا عنده خوارا كخوار البقر. والآية وما بعده تذكر قصة عبادة بني إسرائيل العجل بعد ما ذهب موسى إلى ميقات ربه واستبطؤا رجوعه إليهم، فكادهم السامري وأخذ من حليهم فصاغ لهم عجلا من ذهب له خوار كخوار العجل وذكر لهم أنه إلههم وإله موسى فسجدوا له واتخذوه إلها، وقد فصل الله سبحانه القصة في سورة طه تفصيلا، والذي ذكره في هذه الآيات من هذه السورة لا يستغني عما هناك، وهو يؤيد نزول سورة طه قبل سورة الاعراف. وكيف كان فقوله: " واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا " معناه اتخذ قوم موسى من بعد ذهابه لميقات ربه قبل أن يرجع - فإنه سيذكر رجوعه إليهم غضبان - عجلا فعبدوه، وكان هذا العجل الذي اتخذوه " جسدا له خوا " ر ثم ذمهم الله سبحانه بأنهم لم يعبؤوا بما هو ظاهر جلي بين عند العقل في أول نظرته انه لو كان هو الله سبحانه لكلمهم ولهداهم السبيل فقال تعالى: " أ لم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا ". وأنما ذكر من صفاته المنافية للالوهية عدم تكليمه إياهم وعدم هدايته لهم وسكت عن سائر ما فيه كالجسمية وكونه مصنوعا ومحدودا ذا مكان وزمان وشكل

[ 249 ]

إلى غير ذلك مع أن الجميع ينافي الالوهية لان هاتين الصفتين أعني التكليم والهداية من أوضح ما تستلزمه الالوهية من الصفات عند من يتخذ شيئا إلها إذ من الواجب أن يعبده بما يرتضيه ويسلك إليه من طريق يوصل إليه، ولا يعلم ذلك إلا من قبل الاله بوجه فهو الذي يجب أن يهديه إلى طريق عبادته بنوع من التكليم والتفهيم، وقد رأوا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا. على أنهم عهدوا من موسى أن الله سبحانه يكلمه ويهديه، ويكلمهم ويهديهم بواسطته، وقد قالوا حين أخرج السامري لهم العجل: " هذا إلهكم وإله موسى " طه: 88، فلو كان العجل هو الذي أومأ إليه السامري لكلمهم وهداهم سبيلا. وبالجملة فقد كان من الواضح البين عند عقولهم لو عقلوا أنه ليس هو، ولذلك أردفه بقوله: " اتخذوه وكانوا ظالمين " كأنه قيل: فلم اتخذوه وأمره بذاك الوضوح، فقيل: " اتخذوه وكانوا ظالمين ". قوله تعالى: " ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا " إلى آخر الآية. قال في المجمع: معنى " سقط في أيديهم " وقع البلاء في أيديهم أي وجدوه وجدان من يده فيه يقال ذلك للنادم عند ما يجده مما كان خفي عليه، ويقال: سقط في يده، وأسقط في يده وبغير ألف أفصح، وقيل معناه صار الذي يضر به ملقى في يده انتهى وقد ذكر في مطولات التفاسير وجوه كثيرة توجه بها هذه الجملة، جلها أو كلها لا تخلو من تعسف، وأقرب الوجوه ما نقلناه عن المجمع منقولا عن بعضهم فإن ظاهر سياق الآية أن المراد بقوله: " ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا " أنهم لما التفتوا إلى ما فعلوه وأجالوا النظر فيه دقيقا ثانيا ورأوا عند ذلك أنهم قد ضلوا قالوا: كذا وكذا فالجملة تفيد معنى التنبه لما ذهلوا عنه والتبصر بما أغفلوه كأنهم عملوا شيئا فقدموه إلى ما عملوا له فرده إليهم ورمى به نحوهم فتناولوه بأيديهم فسقط فيها فرأوا من قريب أنهم ضلوا فيما زعموا، وأهملوا فيه أمرا ما كان لهم أن يهملوه، وفات منهم ما فسد بفوته ما عملوه، وعلى أي حال تجري الجملة مجرى المثل السائر. والآية أعني قوله " ولما سقط " بحسب المعنى مترتب على الآيات التالية فإنهم

[ 250 ]

إنما تبينوا ضلالهم بعد رجوع موسى إليهم كما تفصل ذلك سورة طه لكنه سبحانه كأنه قدم الآية لانها مشتملة على حديث ندامتهم على ما صنعوا وتحسرهم مما فات منهم، وقد أظهروا ذلك بقولهم: " لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين " والاحرى بالندامة والحسرة أن يذكرا مع ما تعلقنا به من غير فصل طويل، ولذا لما ذكر اتخاذهم العجل في الآية الاولى وصله بندامتهم وحسرتهم في الآية الثانية. ولان ذيل حديث رجوع موسى في الآية التالية مشغول بدعائه لنفسه وأخيه ففصل بينه وبين هذا الذي هو صورة دعاء. قوله تعالى: " ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا " إلى آخر الآية الاسف بكسر السين صفة مشبهة من الاسف وهو شدة الغضب والحزن والخلافة القيام بالامر بعد غيره، والعجلة طلب الشئ وتحريه قبل أوانه على ما ذكره الراغب يقال: عجلت أمرا كذا أي طلبته قبل أوانه الذي له بحسب الطبع فمعنى الآية: ولما رجع موسى إلى قومه وهو في حال غضب وأسف لما أخبره الله تعالى لدى الرجوع بأن قومه ضلوا بعبادة العجل بعده فوبخهم وذمهم بما صنعوا وقال: بئسما خلفتموني من بعدي أ عجلتم أمر ربكم وطلبتموه قبل بلوغ أجله، وهو أمر من بيده خيركم وصلاحكم ولا يجري أمرا إلا على ما يقتضيه حكمته البالغة، ولا يؤثر فيه عجلة غيره ولا طلبة ولا رضاه إلا بما شاء، والظاهر أن المراد بأمر ربهم أمره الذي لاجله واعد موسى لميقاته، وهو نزول التوراة. وربما قيل: إن معنى " أ عجلتم أمر ربكم ": أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر من ربكم: وقيل: المعنى استعجلتم وعد الله وثوابه على عبادته فلما لم تنالوه عدلتم إلى عبادة غيره ؟ وقيل: المعنى أعجلتم عما أمركم به ربكم وهو انتظار رجوع موسى حافظين لعهده فبنيتم على أن الميقات قد بلغ آخره ولم يرجع إليكم فغيرتم هذا، وما قدمناه من الوجه أنسب بالسياق. وبالجملة اشتد غضب موسى عليه السلام لما شاهد قومه ووبخهم وذمهم بقوله: " بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم " وهو استفهام انكاري - " وألقى الالواح " وهي ألواح التوراة " وأخذ برأس اخيه قابضا على شعره يجره إليه " وقد قال له - فيما

[ 251 ]

حكى الله في سورة طه: " يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا إلا تتبعن أفعصيت أمري " (1) ؟. " قال " هارون يا " ابن أم " وإنما خاطبه بذكر أمهما دون أن يقول: يا أخي أو يا ابن أبي للترقيق وتهييج الرحمة " أن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني " لما خالفتهم في أمر العجل ومنعتهم عن عبادته " فلا تشمت بي الاعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين " بحسباني كأحدهم في مخالفتك، وكان مما قال له - على ما حكاه الله في سورة طه - أني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي (2). وظاهر سياق الآية وكذا ما في سورة طه من آيات القصة أن موسى غضب على هارون كما غضب على بني إسرائيل غير أنه غضب عليه حسبانا منه أنه لم يبذل الجهد في مقاومة بني إسرائيل لما زعم أن الصلاح في ذلك مع أنه وصاه عند المفارقة وصية مطلقة بقوله: " أصلح ولا تتبع سبيل المفسدين " وهذا المقدار من الاختلاف في السليقة والمشية بين نبيين معصومين لا دليل على منعه، وإنما العصمة فيما يرجع إلى حكم الله سبحانه دون ما يرجع إلى السلائق وطرق الحياة على اختلافها. وكذا ما فعله موسى بأخيه من أخذ رأسه يجره إليه كأنه مقدمة لضربه حسبانا منه إنه استقل بالرأي زاعما المصلحة في ذلك وترك أمر موسى فما وقع منه إنما هو تأديب في أمر إرشادي لا عقاب في أمر مولوي وإن كان الحق في ذلك مع هارون، ولذلك لما قص عليه القصص عذره في ذلك، ودعا لنفسه ولاخيه بقوله رب اغفر لي ولاخي الخ. وقد وجه قوله: " وأخذ برأس أخيه يجره إليه " بوجوه أخر: الاول: أن موسى إنما فعل ذلك مستعظما لفعلهم مفكرا فيما كان منهم كما يفعل الانسان ذلك بنفسه عند الوجد وشدة الغضب فيقبض على لحيته ويعض على شفته فأجرى موسى اأاه هارون مجرى نفسه فصنع به ما يصنع الانسان بنفسه عند الغضب والاسف. الثاني: أنه أراد أن يظهر ما اعتراه من الغضب على قومه لاكباره منهم ما صاروا


(1) سورة طه: 92. (2) طه: 94. (*)

[ 252 ]

وإليه من الكفر والارتداد فصدر ذلك منه لاعلامهم عظم الحال عنده لينزجروا عن مثله في مستقبل الاحوال. الثالث: أنه إنما جر إلى نفسه ليناجيه ويستفسر حال القوم منه، ولذلك لما ذكر هارون ما ذكر، قبله منه ودعا له. الرابع: أنه لما رأى أن بهارون مثل ما به من الغضب والالسف أخذ برأسه متوجعا له مسكنا لما به من القلق فكره هارون أن يظن الجهال أنه استخفاف وإهانة فأظهر براءة نفسه ودعا له أخوه وجل هذه الوجوه أو كلها لا تلائم سياق الآيات. وقوله في صدر الآية " ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا " يدل على أنه كان عالما بأمر ارتداد قومه من قبل، وهو كذلك فإن الله سبحانه - كما حكى في سورة طه - قال له وهو في الميقات: فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري (1). وإنما ظهر حكم غضبه عند ما شاهد قومه فاشتد عليهم وألقى الالواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه كل ذلك فعله بعد ما رجع إليهم لا حينما أخبره بذلك ربه، وإخبار الله سبحانه أصدق من الحس لان الحس يصدق ويكذب، والله سبحانه لا يقول إلا الحق. وذلك لان للعلم حكما وللمشاهدة حكما آخر، والغضب هيجان القوة الدافعة للدفع أو الانتقام، ولا يتحقق مورد للدفع والانتقام بمجرد تحقق العلم لكن الحس والمشاهدة تصاحب وجود المغضوب عليه عند العصيان فيتأتى منه الدفع والانتقام بالقول والفعل، ولا يؤثر العلم قبل المشاهدة إلا حزنا وغما ونظير ذلك بالمقابلة أنك لو بشرت بقدوم من تحبه وتتوق نفسك إلى لقائه فلك عند تحقق البشرى حال وهو الفرح، وعند لقاء الحبيب حال آخر وحكم جديد، وكذا إذا شاهدت أمرا عجيبا وأنت وحدك كان حكمه التعجب، وإذا شاهدته ومعك غيرك تعجبت وضحكت، وله نظائر أخر. قوله تعالى: " قال رب اغفر لي ولاخي وأدخلنا في رحمتك " الآية دعاء منه عليه السلام وقد تقدم في الكلام على المغفرة في آخر الجزء السادس من الكتاب أن المغفرة أعم موردا من المعصية.


(1) طه: 85. (*)

[ 253 ]

قوله تعالى: " إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم " الآية. تنكير الغضب وكذا الذلة للاشعار بعظمتهما وقد أبهم الله سبحانه ما سينالهم من غضبه وذلة الحياة فلم يبين ما هما فمن المحتمل أن تكون الاشارة بذلك إلى ما جرى عليهم بعد ذلك من تحريق العجل المعبود ونسفه في اليم وطرد السامري وقتل جمع منهم، أو أن يكون المراد به ما ضرب الله على قومهم من الذلة والمسكنة والقتل والابادة والاسارة، ويمكن أن يكون المراد بالغضب هو عذاب الآخرة فيجمع لهم بذلك هوان الآخرة وذلة الدنيا. وكيف كان فذيل الآية: " وكذلك نجزي المفترين " بظاهره يدل على أن ذلك أعني نيل غضب الرب سبحانه وذلة الحياة الدنيا سنة جارية إلهية في المفترين على الله وهذا الذي يدل عليه الآية يهدي إليه الابحاث العقلية أيضا كما مر مرارا. قوله تعالى: " والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها أن ربك من بعدها لغفور رحيم " ضمير " من بعدها " الاول راجع إلى السيئات، والثاني إلى التوبة، ومعنى الآية ظاهر. والآية وإن كانت في نفسها عامة لكنها بالنظر إلى المورد بمنزلة الاستثناء من الذين اتخذوا العجل المذكورين في الآية السابقة فالتوبة إذا تحققت بحقيقة معناها في أية سيئة كانت لم يمنع من قبولها مانع كما تقدم في تفسير قوله تعالى: " إنما التوبة على الله " الآية. النساء: 17. وهذه الآية والتي قبلها معترضتان في القصة، ووجه الخطاب فيهما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والدليل على ذلك قوله في الآية الاولى: " وكذلك نجزي المفترين " وفي الآية الثانية: " أن ربك " الآية وظاهر السياق أن الكلام فيهما جار على حكاية الحال الماضية بدليل قوله: " سينا لهم غضب ". قوله تعالى: " ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الالواح " الآية الرهبة هي خوف مع تحرز: والباقي ظاهر

[ 254 ]

(بحث روائي) في الدر المنثور: أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي وابن جرير وابن المنذر و ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل حنين فمررنا بسدرة فقلت: يا رسول الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما كان للكفار ذات أنواط، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: " اجعل لنا إلها كما لهم آلهة " إنكم تركبون سنن الذين قبلكم. أقول: ورواها أيضا بطرق أخرى عن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، وفيها: أنها كانت شجرة سدرة عظيمة كان يناط بها السلاح فسميت ذات أنواط وكانت تعبد من دون الله. وفي تفسير البرهان: في قوله تعالى: " وجاوزنا ببني إسرائيل البحر " الآية عن محمد بن شهر آشوب: أن رأس الجالوت قال لعلي عليه السلام: لم تلبثوا بعد نبيكم إلا ثلاثين سنة حتى ضرب بعضكم وجه بعض بالسيف ! فقال علي عليه السلام: وأنتم لم تجف أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم: " اجعل لنا إلها كما لهم آلهة " وفي تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه السلام قال: أن موسى لما خرج وافدا إلى ربه واعدهم ثلاثين يوما فلما زاد الله على الثلاثين عشرا قال قومه: أخلفنا موسى فصنعوا ما صنعوا. وفي الدر المنثور: أخرج البزاز وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الاسماء والصفات عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما كلم الله موسى يوم الطور كلمه بغير الكلام الذي كلمه يوم ناداه - فقال له موسى: يا رب أ هذا كلامك الذي كلمتني به ؟ قال: يا موسى إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الالسن كلها وأقوى من ذلك. فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا: يا موسى صف لنا كلام الرحمن فقال: لا تستطيعونه ألم تروا إلى اصوات الصواعق الذي يقبل في أحلى حلاوة سمعتموه ؟ فذاك

[ 255 ]

قريب منه وليس به. أقول: أما ذيل الرواية فهو تمثيل للتقريب وليس به بأس، وأما صدره ففيه خفاء ولعل المراد بقوة عشرة آلاف لسان ما في العشرة آلاف من قوة التفهيم لو تأيد بعضها ببعض فإن ألسن الناس مختلفة في قوة التفهيم فالمراد أن ذلك يعادل من حيث إعطاء التفهيم والكشف عن المراد عشرة آلاف لسان لو جمع بعضها مع بعض. وعلى هذا يكون المراد بالمغايرة في قوله: " كلمه بغير الكلام الذي كلمه يوم ناداه " التفاوت من حيث كيفية التفهيم. وفي المعاني بإسناده عن هشام قال: كنت عند الصادق جعفر بن محمد عليه السلام إذ دخل عليه معاوية بن وهب وعبد الملك بن أعين فقال له معاوية بن وهب: يا ابن رسول الله ما تقول في الخبر المروي: أن رسول صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه ؟ على أي صورة رآه ؟ وفي الخبر الذي رواه أن المؤمنين يرون ربهم في الجنة ؟ على أي صورة يرونه فتبسم ثم قال: يا معاوية ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون سنة وثمانون سنة يعيش في ملك الله ويأكل من نعمة ثم لا يعرف الله حق معرفته. ثم قال: يا معاوية إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم ير الرب تبارك وتعالى بمشاهده العيان، وإن الرؤية على وجهين: رؤية القلب ورؤية البصر فمن عنى برؤية القلب فهو مصيب، ومن عنى برؤية البصر فقد كذب وكفر بالله وآياته لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من شبه الله بخلقه فقد كفر. ولقد حدثني أبي عن أبيه عن الحسين بن علي عليه السلام قال: سئل أمير المؤمنين عليه السلام فقيل له: يا أخا رسول الله هل رأيت ربك ؟ فقال: لم أعبد ربا لم أره لم تره العيون بمشاهدة العيان ولكن تراه القلوب بحقائق الايمان. وإذا كان المؤمن يرى ربه بمشاهدة البصر فإن كل من جاز عليه البصر والرؤية فهو مخلوق، ولا بد للمخلوق من خالق فقد جعلته إذا محدثا مخلوقا، ومن شبهه بخلقه فقد اتخذ مع الله شريكا. ويلهم أ لم يسمعوا لقول الله تعالى: " لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير " وقوله لموسى: " لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا " وإنما طلع من نوره

[ 256 ]

على الجبل كضوء يخرج من سم الخياط فدكدكت الارض، وصعقت الجبال، وخر موسى صعقا أي ميتا " فلما إفاق " ورد عليه روحه " قال سبحانك تبت إليك " من قول من زعم أنك ترى ورجعت إلى معرفتي بك: أن الابصار لا تدركك " وأنا أول المؤمنين " بأنك ترى ولا ترى وأنت بالمنظر الاعلى الحديث. وفي التوحيد بإسناده عن علي عليه السلام في حديث: وسأل موسى وجرى على لسانه من حمد الله عزوجل: " رب أرني أنظر إليك " فكانت مسألته تلك أمرا عظيما، وسأل أمرا جسيما فعوتب فقال الله عزوجل " لن تراني " في الدنيا حتى تموت وتراني في الآخرة، ولكن إن أردت أن تراني " فانظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني " فأبدا الله بعض آياته وتجلى ربنا للجبل فتقطع الجبل فصار رميما " وخر موسى صعقا " ثم أحياه الله وبعثه فقال: " سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين " يعني أول من آمن بك منهم بانه لا يراك. أقول: الروايتان كما ترى تؤيدان ما تقدم في البيان السابق، ويتحصل منهما: * أولا: أن السؤال إنما كان عن رؤية القلب دون رؤية البصر المستحيل عليه تعالى بأي وجه تصور، وحاشا مقام الكليم عليه السلام أن يجهل من ساحة ربه المنزهه ما هو من البداهد على مكان وهو يسمي القوم الذين اختارهم للميقات سفهاء إذ سألوا الرؤية إذ يقول لربه: " أ تهلكنا بما فعل السفهاء منا " الاعراف: 155، فكيف يقدم هو نفسه على ما سماه سفها ؟. وقد كان النزاع والمشاجرة في الصدر الاول وخاصة في زمان الصادقين إلى زمان الرضا عليهم السلام في المسألة بالغا أوج شدته ينكرها المعتزلة مطلقا ويثبتها الاشاعرة في الآخرة وهناك طائفة أخرى تثبتها في الدنيا والآخرة جميعا، والفريقان جميعا يستدلان بالآية ولم تزل المنازعة قائمة على ساقها لم تنقطع ظاهرا إلا بسيوف آل أيوب التي أبادت المعتزلة وألحقت طالعهم بغاربهم. و جملة احتجاج المعتزلة، أنهم كانوا يستدلون بقوله في الآية: " لن تراني " و بسائر ما ينفي الرؤية البصرية من طريق العقل والنقل، ويؤولون ما يدل على جوازها من الآيات والروايات، وجملة احتجاج الاشاعرة أنهم كانوا يستدلون بالتنظير الواقع في

[ 257 ]

الآية بقوله: " ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني " الآية وبما في غيرها من الآيات وبعض الروايات من جوازها في الآخرة، ويؤولون ما عدا ذلك على ما هو شأن الابحاث الكلامية عندهم وربما استدل لذلك بأنه لا دليل على وجوب انحصار الرؤية البصرية في الجسمانيات فمن الجائز أن يتعلق بغير الامور المادية. وبأن الابصار يتعلق بالجوهر والعرض، ولا جامع بينهما إلا الموجود المطلق فكل موجود يمكن إن يتعلق به الابصار وإن لم يكن جسما أو جسمانيا. وقد اتضح بطلان هاتين الحجتين وما يسانخهما من الحجج والاقاويل في هذه الازمنة اتضاحا كاد يلحق بالبديهيات. وعلى أي حال لا يهمنا إيراد ما أوردوه من الجانبين من نقض وإبرام فمن أراد الوقوف عليها أمكنه أن يراجع الكتب الكلامية ومطولات تفاسير الفريقين. والذي تحصل من سابق بحثنا - أولا - أن الرؤية البصرية سواء كانت على هذه الصفة التي هي عليها اليوم أو تحولت إلى أي صفة أخرى هي معها مادية طبيعية متعلقة بقدر وشكل ولون وضوء تعملها أداة مادية طبيعية فإنها مستحيلة التعلق بالله سبحانه في الدنيا والآخرة، وعليه يدل البرهان وما ورد من الآيات والروايات في نفي الرؤية. نعم هناك علم ضروري خاص يتعلق به تعالى غير العلم الضروري الحاصل بالاستدلال تسمى رؤية، و إياه تعني الآيات والروايات الظاهرة في إثبات الرؤية لما فيها من القرائن الكثيرة الصريحة في ذلك، وموطن هذه المعرفة الآخرة. و - ثانيا - أن قوله تعالى: " رب أرني أنظر إليك " الآية إجنبية أصلا عن الرؤية البصرية الحسية إثباتا ونفيا وسؤالا وجوابا، وإنما يدور الكلام فيها مدار الرؤية بالمعنى الآخر الذي هو رؤية القلب بحسب ما اصطلح عليه في الروايات. وقد روى الصدوق في العيون فيما سأله المأمون عن الرضا عليه السلام أنه أجاب عن سؤال الرؤية في الآية، أن موسى إنما سأل ذلك عن لسان قومه لا لنفسه فإنهم لما قالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة ثم أحياهم الله سألوا موسى أن يسأله لنفسه فرد عليهم بالاستحالة فأصروا عليه فقال: " رب أرني " أي على ما يقترحه علي قومي.

[ 258 ]

والرواية كما إشرنا إليه في أخبار جنة آدم ضعيفد السند على أنها لا توافق الاصول المسلمة في إخبار أئمة إهل البيت عليهم السلام فإن أخبارهم وخاصة خطب علي والرضا عليهما السلام مملوءة من حديث التجلي والرؤية القلبية فلا موجب له عليه السلام أن يلتزم كون الرؤية المذكورد في الآية سؤالا وجوابا هي الرؤية البصرية ثم الجواب بطريق جدلي لا ينطبق كثير انطباق على الآية لكونه خلاف ظاهرها البتة، وخلاف ظاهر حال موسى فإنهم لو اقترحوا عليه ذلك لرد عليهم كما رد عليهم بقوله: " إنكم قوم تجهلون " حين قالوا: يا موسى " اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ". * وثانيا: يتحصل من الروايتين أن موسى عليه السلام ما أجيب إلى الرؤية بالمعنى المذكور في الدنيا، وإنما أجيب إليها في الآخرة، والظاهر أنه يستفاد ذلك من قوله تعالى: " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا " فإن الاستدارك في قوله: " ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني " أن الذي فرض في الجبل هو بعينه مثل ما فرض في موسى فهو لا يطيق الظهور والارادة كما أن ذاك لا يطيقه، وقد وقع التجلي للجبل فدك به وصعق ولو وقع لموسى أيضا لدك به وصعق فالتجلي في نفسه ممكن لكنه بالنسبة إلى المتجلي له يوجب اندكاكه وصعقته، وهذا يشعر أن التجلي لا مانع منه في نفسه مع الصعقة والموت، وقد استفاضت الروايات من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام أن الله سبحانه وتعالى يتجلى لاهل الجنة، وأن لهم في كل جمعة زورة كما وقع ذلك في قوله تعالى: " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " القيامة: 23. * وثالثا تحصل من الروايتين: أن صعقة موسى عليه السلام كانت موتا ثم رد الله إليه روحه لا غشية. * ورابعا: أن ما ذكره عليه السلام أنه تجلى له من نوره مقدار ما يخرج من سم الخياط من النور من قبيل تمثيل المعنى بالامور المحسوسة فلا نوره تعالى نور حسي، ولا أنه يتقدر بأمر حسي كسم الخياط، ولذلك مثل ذلك في غير هذه الرواية بوضع طرف الابهام على أنملة الخنصر كما سيأتي، والغرض على أي تقدير بيان صغره وحقارته. وعلى أي حال فالتجلي إنما هو بما يكفي لدكه وصعقته، وأما كمال نوره تعالى فهو غير متناه لا يحاذيه أي أمر متناه مفروض فلا نسبه بين المتناهي وغير المتناهي.

[ 259 ]

وفي الدر المنثور أخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي في الكامل وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في كتاب الرؤية من طرق عن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ هذه الآية: " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا " قال هكذا وأشار بإصبعيه، ووضع طرف إبهامه على أنملة الخنصر - وفي لفظ: على المفصل الاعلى من الخنصر - فساخ الجبل وخر موسى صعقا - وفي لفظ: فساخ الجبل في الارض - فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة. أقول: ووقع في أحاديث أئمة أهل البيت عليهم السلام أن الجبل دك فصار رميما، وفي بعضها أنه ساخ في البحر فهو يهوي حتى الساعة، وفي بعضها: إلى هذه الساعة، والمحصل من تفسير بعضها ببعض أنه صار رميما نزل البحر فلا يرى منه أثر أبدا وينبغي أن يكون هذا معنى قوله: فساخ الجبل في الارض أو في البحر فهو يسخ إلى يوم القيامة أو إلى الساعة. وفيه أخرج أبو الشيخ وابن مردويه من طريق ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: " فلما تجلى ربه للجبل " قال: أظهر مقدار هذا ووضع الابهام على خنصر الاصبع الصغرى. فقال حميد - راوي الحديث - يا أبا محمد - الراوي عن أنس - ما تريد إلى هذا ؟ فضرب في صدره وقال: من أنت يا حميد ؟ وما أنت يا حميد ؟ يحدثني أنس ابن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتقول أنت: ما تريد إلى هذا ؟. وفيه: أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الاصول وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية: " رب أرني أنظر إليك " قال: قال الله عز وجل يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده ولا رطب إلا تفرق، وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم، ولا تبلى أجسادهم. أقول: والرواية نظيرة ما تقدم من رواية التوحيد عن علي عليه السلام وتقدم توضيح معناها. وفي تفسير العياشي عن أبي بصير، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام قال: لما سأل موسى ربه تبارك وتعالى، قال: " رب أرني أنظر إليك " قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني " قال: فلما صعد موسى على الجبل فتحت

[ 260 ]

أبواب السماء، وأقبلت الملائكة أفواجا في أيديهم العمد، وفي رأسها النور يمرون به فوجا بعد فوج، يقولون: يا ابن عمران اثبت فقد سألت عظيما. قال: فلم يزل موسى واقفا حتى تجلى ربنا جل جلاله فجعل الجبل دكا وخر موسى صعقا فلما أن رد الله عليه روحه أفاق " قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ". وفيه أيضا عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن موسى بن عمران لما سأل ربه النظر إليه وعد الله أن يقعد في موضع ثم أمر الملائكة تمر عليه موكبا موكبا بالرعد والبرق والريح والصواعق فكلما مر به موكب من المواكب ارتعدت فرائصه فيرفع رأسه فيسأل: أيكم ربي ؟ فيجاب هو آت وقد سألت عظيما يا ابن عمران. إقول: والرواية موضوعة، وما تشمل عليه لا يقبل الانطباق على شئ من مسلمات الاصول المتخذة من الكتاب والسنة. وفي البصائر بإسناده عن أبي محمد عبد الله بن أبي عبد الله الفارسي وغيره فرفعوه إلى أبي عبد الله عليه السلام: أن الكروبيين قوم من شيعتنا من الخلق الاول جعلهم الله خلف العرش لو قسم نور واحد منهم على أهل الارض لكفاهم، ثم قال: إن موسى عليه السلام لما سأل ربه ما سأل أمر واحدا من الكروبيين تجلى للجبل فجعله دكا. أقول: محصل الرواية أن تجليه سبحانه يقبل الوسائط كما أن سائر الامور المنسوبة إليه تعالى كالتوفي والاحياء والرزق والوحي وغيرها يقبل الوسائط فهو تعالى يتجلى بالوسائط كما يتوفى بملك الموت، ويحيي بصاحب الصور، ويرزق بميكائيل، ويوحي بجبرئيل الروح الامين، وسيوافيك شرح الرواية في موضع مناسب له ان شاء الله. وللكروبيين ذكر في التوراة. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه والحاكم وصححه عن أنس ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرء " دكا " منونة ولم يمده. وفيه أخرج ابن مردويه عن أنس ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرء " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا " مثقلة ممدودة. وفيه أخرج أبو نعيم في الحلية عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما تجلى ربه للجبل طارت لعظمته ستة أجبل فوقعن بالمدينة: أحد وورقان

[ 261 ]

ورضوى. ووقع بمكة ثور وثبير وحراء. أقول: ورواه أيضا عن ابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه أخرج الطبراني في الاوسط عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لما تجلى الله لموسى تطايرت سبعة أجبال ففي الحجاز منها خمسة، وفي اليمن اثنان: في الحجاز أحد وثبير وحراء وثور وورقان، وفي اليمن حصور وصير. أقول: وروي في تقطع الجبل غير ذلك، وهذه الروايات على ما فيها من الاختلاف في عدد الجبال المتطايرة إن كان المراد بها تفسير دك الجبل لم ينطبق على الآية، وإن أريد غير ذلك فهو وإن كان ممكن الوقوع غير أنه لا يكفى لاثباته أمثال هذه الآحاد. وكذا ما ورد من طرق الشيعة وأهل السنة أن ألواح التوراة كانت من زبرجد، وفي بعضها من طرق أهل السنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن الالواح التي أنزلت على موسى كانت من سدر الجنة كان طول اللوح اثني عشر ذراعا، وفي بعضها: كتب الله الالواح لموسى وهو يسمع صريف الاقلام في الالواح، وفي بعض أخبارنا أن هذه الالواح مدفونة في جبل من جبال اليمن، أو التقمها حجر هناك فهي محفوظة في بطنه إلى غير ذلك من آحاد الاخبار غير المؤيده بقرائن قطعيه. على أن البحث التفسيري لا يتوقف على الغور في البحث عنها. وفي روح المعاني قال: وعن علي كرم الله وجهه: أنه قرأ " جؤار " بجيم مضمومة وهمزة. قال وهو الصوت الشديد. وفي الدر المنثور: في قوله تعالى: " وألقي الالواح " الآية: أخرج أحمد وعبد بن حميد والبزاز وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ليرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه تبارك وتعالى أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الالواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الالواح فتكسر منها ما تكسر. وفي تفسير العياشي عن محمد بن أبي حمزة عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى لما أخبر موسى أن قومه اتخذوا عجلا (جسدا ظ) له خوار فلم يقع منه موقع العيان فلما رآهم اشتد غضبه فألقى الالواح من يده، قد قال أبو عبد الله

[ 262 ]

عليه السلام: وللرؤية فضل على الخبر. وفي الكافي بإسناده عن سفيان بن عيينه عن السدي عن أبي جعفر عليه السلام قال: ما أخلص عبد الايمان بالله أربعين يوما أو قال: ما أجل عبد ذكر الله أربعين يوما إلا زهده الله في الدنيا، وبصره داءها ودواءها، وأثبت الحكمة في قلبه، وأنطق به لسانه ثم تلا: " إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين " فلا ترى صاحب بدعة إلا ذليلا، ومفتريا على الله عزوجل وعلى رسوله وعلى أهل بيته إلا ذليلا. (بحث روائي آخر) * نورد فيها بعض ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في معنى رؤية القلب * في التوحيد والامالي بإسناده عن الرضا عليه السلام في خطبة له قال: أحد لا بتأويل عدد ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا باستهلال رؤية، باطن لا بمزايلة. أقول: وحديث تجليه تعالى الدائم لخلقه متكرر في كلام علي والائمة من ذريته عليهم السلام، وقد نقلنا شذرات من كلامه عليه السلام في مباحث التوحيد في ذيل قوله تعالى: " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " المائدة: 73. وفي التوحيد بإسناده عن الصادق عليه السلام في كلام له في التوحيد: واحد صمد أزلي صمدي، لا ظل له يمسكه، وهو يمسك الاشياء بأظلتها، عارف بالمجهول، معروف عند كل جاهل، لا هو في خلقه ولا خلقه فيه. أقول: قوله عليه السلام " معروف عند كل جاهل " ظاهر في أن له تعالى معرفة عند خلقه لا يطرأ عليها غفلة، ولا يغشاها جهل، ولو كانت هي المعرفة الحاصلة من طريق الاستدلال لزالت بزوال صورته عن الذهن هذا إذا كان المراد من قوله: " معروف عند كل جاهل " أن الانسان يجهل كل شئ ولا يجهل ربه، وأما لو كان المراد أن الله سبحانه معروف عند كل جاهل به فكون هذه المعرفة غير المعرفة الحاصلة بالاستدلال أظهر. وقوله عليه السلام: لا ظل له يمسكه وهو يمسك الاشياء بأظلتها، الاظلة والظلال

[ 263 ]

اصطلاح منهم عليهم السلام والمراد بظل الشئ حده، ولذلك كان منفيا عن الله سبحانه ثابتا في غيره، وقد فسره أبو جعفر الباقر عليه السلام في بعض (1) أحاديث الذر والطينة حيث ذكر: أن الله خلق طائفة من خلقه من طينة الجنة، وطائفة أخرى من طينة النار ثم بعثهم في الظلال فقيل: وأي شئ الظلال ؟ فقال عليه السلام: أ لم تر إلى ظلك في الشمس شئ وليس بشئ ؟ فالحدود الوجودية بالنظر إلى وجود الاشياء غيره وليست غيره، وبها تتعين الاشياء ولولاها لبطلت، ولعل الاصطلاح مأخوذ من آية الظلال. وفي الارشاد وغيره عن أمير المؤمنين عليه السلام في كلام له: إن الله أجل من أن يحتجب عن شئ أو يحتجب عنه شئ. وعنه عليه السلام: ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله. وعنه: لم أعبد ربا لم أره. وفي النهج عنه لم تره العيون بمشاهدة الابصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان. وفي التوحيد بإسناده عن أبي بصير عن الصادق عليه السلام قال: سألته عن الله عز وجل هل يراه المؤمنون يوم القيامة ؟ قال: نعم وقد رأوه قبل يوم القيامة. قلت: متى ؟ قال: حين قال لهم: " أ لست بربكم قالوا بلى " ثم سكت ساعة ثم قال: وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة. أ لست تراه في وقتك هذا ؟. قلت: فاحدث بهذا عنك ؟ فقال: لا، فإنك إذا حدثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقوله ثم قدر أن ذلك تشبيه كفر، وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين تعالى الله عما يصفه المشبهون والملحدون. اقول: وظاهر من الرواية أن هذه الرؤية ليست هي الاعتقاد والايمان القلبي المكتسب بالدليل كما أنها غير الرؤية البصرية الحسية، وأن المانع من تكثير استعمال لفظ الرؤية في مورده تعالى وإذاعة هذا الاستعمال انصراف اللفظ عند الافهام العامية إلى الرؤية الحسية المنفية عن ساحة قدسه، وإلا فحقيقة الرؤية ثابتة وهي نيل الشئ


(1) رواها في الكافي باسناده عن عبد الله بن محمد الحنفي وعقبة جميعا عنه عليه السلام، وسنوردها ان شاء الله في ذيل قوله تعالى: " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل " يونس: 74. (*)

[ 264 ]

بالمشاهدة العلمية من غير طريق الاستدلال الفكري بل هناك عدة من الاخبار تنكر أن يكون الله سبحانه معلوما معروفا من طريق الفكر وسيأتي بعضها. وفي التوحيد بإسناده عن موسى بن جعفر عليه السلام في كلام له في التوحيد: ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه فقد احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور، لا إله إلا هو الكبير المتعال. اقول: وهذا المعنى مروي عن الرضا عليه السلام أيضا على ما في العلل وجوامع التوحيد. والرواية الشريفة تفسر معنى حصول المعرفة به تعالى معرفة لا تقبل الجهالة، ولا يطرأ عليها زوال ولا تغيير ولا خطأ البتة فهي توضح أن الله سبحانه غير محتجب عن شئ إلا بنفس ذلك الشئ فالالتفات إلى الاشياء هو العائق عن الالتفات إلى مشاهدته تعالى. ثم حكم عليه السلام أن هذا الحاجب الساتر غير مانع حقيقة فهو حجاب غير حاجب وستر غير ساتر. وينتج مجموع الكلامين أنه سبحانه مشهود لخلقه معروف لهم غير غائب عنهم غير أن اشتغالهم بأنفسهم والتفاتهم إلى ذواتهم حجبهم عن التنبه على أنهم يشهدونه دائما فالعلم موجود أبدا، والعلم بالعلم مفقود في بعض الاحيان، وقد بنى الصادق عليه السلام على هذا الاساس فيما أجاب به بعض من شكى إليه كثرة الشبهات فقال عليه السلام له: هل ركبت السفينة فانكسرت وغرقت وبقيت وحدك على لوحة خشبة منها تلعب بك الامواج فانقطعت عن كل سبب ينجيك ؟ قال: نعم. قال: فهل تعلق قلبك إذ ذاك بشئ ؟ قال: نعم. قال: ذلك الشئ هو الله (1). وفي جوامع التوحيد عن الرضا عليه السلام قال: خلقة الله الخلق حجاب بينه وبينهم. وفي العلل بإسناده عن الثمالي قال: قلت لعلي بن الحسين عليه السلام: لاي علة حجب الله عزوجل الخلق عن نفسه ؟ قال: لان الله تبارك وتعالى بناهم بنيه على الجهل. أقول: يظهر من رواية التوحيد السابقة أن بناءهم على الجهل هو خلقهم بحيث يشتغلون بأنفسهم. وفي المحاسن بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن الله عزوجل كان ولا شئ


(1) الحديث منقول بالمعنى. (*)

[ 265 ]

غيره نورا لا ظلام فيه، وصادقا لا كذب فيه، وعالما لا جهل فيه، وحيا لا موت فيه وكذلك هو اليوم، وكذلك لا يزال أبدا (الحديث). وفي التوحيد بإسناده عن الرضا عليه السلام في حديث: - كان يعني رسول صلى الله عليه وآله وسلم - إذا نظر إلى ربه بقلبه جعله في نور مثل نور الحجب حتى يستبين له ما في الحجب. وفيه أيضا بإسناده عن محمد بن الفضيل قال: سألت أبا الحسن عليه السلام هل رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه عزوجل ؟ فقال: نعم بقلبه رآه أ ما سمعت الله عزوجل يقول: " ما كذب الفؤاد ما رأى " لم يره بالبصر ولكن رآه بالفؤاد. وفيه بإسناده عن عبد الاعلى مولى آل سام عن الصادق عليه السلام في حديث: ومن زعم أنه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك لان الحجاب والمثال والصورة غيره وإنما هو واحد موحد فكيف يوحد من زعم أنه عرفه بغيره ؟ إنما عرف الله من عرفه بالله فمن لم يعرفه به فليس يعرفه، إنما يعرف غيره، ليس بين الخالق والمخلوق شئ، والله خالق الاشياء لا من شئ. تسمى بأسمائه فهو غير أسمائه، والاسماء غيره، والموصوف غير الواصف، فمن زعم أنه يؤمن بما لا يعرف فهو ضال عن المعرفة، لا يدرك مخلوق شيئا إلا بالله، ولا تدرك معرفة الله إلا بالله، والله خلو من خلقه وخلقه خلو منه. أقول الرواية تثبت معرفة الله لكل مخلوق يدرك شيئا ما من الاشياء، وتثبت أن هذه المعرفة غير المعرفة الفكرية التي تحصل من طريق الادلة والآيات وأن القصر على المعرفة الاستدلالية لا يخلو عن جهل بالله، وشرك خفي. بيان ذلك بما تعطيه الرواية من المقدمات أن المعرفة المتعلقة بشئ إنما هي إدراكه فما وقع في ظرف الادراك فهو الذي تتعلق به المعرفة حقيقة لا غيره، فلو فرضنا أنا عرفنا شيئا من الاشياء بشئ آخر هو واسطة في معرفته فالذي تعلق به إدراكنا هو الوسط دون الظرف الذي هو ذو وسط، فلو كانت المعرفة بالوسط مع ذلك معرفة بذي الوسط كان لازمة أن يكون ذلك الوسط بوجه هو ذا الوسط حتى تكون المعرفة بأحدهما هي بعينها معرفة بالآخر فهو هو بوجه وليس هو بوجه فيكون واسطة رابطة بين الشيئين فزيد الخارجي الذي نتصوره في ذهننا هو زيد بعينه ولو كان غيره لم نكن

[ 266 ]

تصورناه بل تصورنا غيره، وعاد عند ذلك علومنا جهالات. وإذ كان لا واسطة بين الخالق والمخلوق ليكون رابطة بينهما فلا تمكن معرفته سبحانه بشئ آخر غير نفسه فلو عرف بشئ كان ذلك الشئ هو نفسه بعينه، وإن لم يعرف بنفسه لم يعرف بشئ آخر أبدا فدعوى أنه تعالى معروف بشئ من الاشياء كتصور أو تصديق أو آية خارجية شرك خفي لانه إثبات واسطة بين الخالق والمخلوق يكون غيرهما جميعا وما هذا وصفه غير محتاج الوجود إلى الخالق تعالى فهو مثله وشريكه فالله سبحانه لو عرف عرف بذاته، ولو لم يعرف بذاته لم يعرف بشئ آخر البتة لكنه سبحانه معروف، فهو معروف بذاته أي أن ذاته المتعالية والمعروفية شئ واحد بعينه فمن المستحيل أن يكون مجهولا لان ثبوت ذاته عين ثبوت معروفيته. وأما بيان كونه تعالى معروفا فلان شيئا من الاشياء المخلوقة لا يستقل عنه تعالى بذاته بوجه من الوجوه لا في خارج ولا في ذهن، فوجوده كالنسبة والربط الذي لا يمكنه الاستقلال عن طرفه بوجه من الوجوه، فإذا تعلق علم مخلوق بشئ من الاشياء أي وقع المعلوم في ظرف علمه لم يتحقق هناك إلا ومعه خالقا متكئا بوجوده عليه وإلا لاستقل دونه فلا يجد عالم معلومه إلا وقد وجد الله سبحانه قبله، والعالم نفسه حيث كان مخلوقا لم يستقل بالعلم إلا بالله سبحانه الذي قوم وجود هذا العالم، ولو استقل به دونه كان مستقلا دونه غير مخلوق له، فالله سبحانه يحتاج إليه العالم في كونه عالما كما يفتقر إليه وجود المعلوم في كونه معلوما أي أن العلم يتعلق باستقلال ذات المعلوم أي أن الله سبحانه هو المعلوم أولا ويعلم به المعلوم ثانيا كما أنه تعالى هو العالم أولا وبه يكون الشئ عالما ثانيا فافهم ذلك وتدبر في قوله تعالى: " ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء " البقرة: 255، وفي قوله عليه السلام: " ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله ". فقد تبين أنه تعالى معروف لان ثبوت علم ما بمعلوم ما في الخارج لا يتم إلا بكونه تعالى هو المعروف أولا، وثبوت ذلك ضروري. فقوله عليه السلام: " من زعم أنه يعرف الله بحجاب أو صورة أو مثال فهو مشرك كأن المراد بالحجاب هو الشئ الذي يفرض فاصلا بينه تعالى وبين العارف، وبالصورة الصورة الذهنية المقارنة للاوصاف المحسوسة من الاضواء والالوان والاقدار وبالمثال ما

[ 267 ]

هو من المعاني العقلية غير المحسوسة، أو المراد بالصورة الصورة المحسوسة، وبالمثال الصورة المتخيلة، أو المراد بالصورة التصور وبالمثال التصديق، وكيف كان فالعلوم الفكرية داخلة في ذلك، والاخبار في نفي كون العلم الفكري إحاطة علمية بالله كثيرة جدا. وكون هذه المعرفة شركا لاثباتها أمرا ليس بخالق ولا مخلوق كما عرفت آنفا، ولزوم كونه مشاركا معه بوجه مبائنا له بوجه، ولذلك عقب عليه السلام الكلام بقوله: " وإنما هو واحد موحد أي أنه لا يشاركه في ذاته شئ بوجه من الوجوه حتى يوجب ذلك تركبه وانتفاء وحدته كما أن الصورة العلمية تشارك المعلوم الخارجي في معناه وماهيته وتفارقه في وجوده فيصير المعلوم بذلك مركبا من ماهية ووجود. " فكيف يوحد من زعم أنه يعرفه بغيره مع إثباته شريكا له في وجوده وتركبا له في ذاته " إنما عرف الله من عرفه بالله " أي بنفس ذاته من غير واسطة " ومن لم يعرفه به فليس يعرفه إنما يعرف غيره " كل ذلك لانه ليس بين الخالق والمخلوق شئ " أي إمر يربطهما هو غيرهما " والله خالق الاشياء لا من شئ " يكون رابطا بينهما موصلا للخالق إلى المخلوق وبالعكس كما ان الانسان الصانع يربطه إلى مصنوعه مثاله الذي في ذهن الصانع، والمادة الخارجية التي بيده. وقوله عليه السلام: " تسمى بأسمائه فهو غير أسمائه " في موضع دفع اعتراض مقدر، وهو إن يقال: إنا إنما نعرفه سبحانه بأسمائه الحاكية لجماله وجلاله، فدفعه بأن نفس التسمي بالاسماء يقضي بأن الاسماء غيره إذ لو لم تكن غيره لكان معرفته بأسمائه معرفة له بنفسه لا بشئ آخر ثم أكده بأن الاسماء واصفة، والذات موصوفة " والموصوف غير الواصف ". فإن رجع المعترض وقال: إنا نؤمن بما نجهله، ولا يمكننا معرفته بنفسه إلا بما تسمى معرفة به بنوع من المجاز كالمعرفة بالآيات و " زعم أنه يؤمن بما لا يعرف فهو ضال عن المعرفة لا يدري ما ذا يقول فإنه يدرك شيئا لا محالة لا مجال له لانكار ذلك " ولا يدرك مخلوق شيئا إلا بالله " فهو يعرف الله وإلا لم يمكنه أن يعرف به، ولا تنال " ولا تدرك معرفة الله إلا بالله " ولا رابطة مشتركة بين الخالق والمخلوق " والله خلو من خلقه وخلقه خلو منه ".

[ 268 ]

فقد تحصل من الرواية أن معرفة الله سبحانه ضروري لكل مدرك ذي شعور من خلقه إلا أن الكثير منهم ضال عن المعرفة مختلط عليه، والعارف بالله يعرفه به، ويعلم أنه يعرفه ويعرف كل شئ به وفي بعض هذه المعاني روايات أخر. واعلم أن الروايات من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام كثيرة جدا لا حاجة إلى إيرادها على كثرتها. واعلم أنا لم نورد بحثا فلسفيا في مسألة الرؤية لان الذي تتضمنه غالب ما أوردناه من الروايات من البيان بيان فلسفي فلم تمس الحاجة إلى عقد بحث على حدة. * * * واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أ تهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين - 155. واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبهما للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون - 156. الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون - 157. قل يا أيها الناس إني

[ 269 ]

رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والارض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الامي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون - 158. ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون - 159. وقطعناهم اثني عشر أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون - 160. (بيان) فصول أخرى من قصص بني إسرائيل يذكر فيها آيات كثيرة أنزلها الله إليهم وحباهم بها يهديهم بها إلى سبيل الحق ويدلهم على منهج التقوى فكفروا بها وظلموا أنفسهم. قوله تعالى: " واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا " أي اختار من قومه فالقوم منصوب بنزع الخافض. والآية تدل على أن الله سبحانه عين لهم ميقاتا فحضره منهم سبعون رجلا اختارهم موسى من القوم، ولا يكون ذلك إلا لامر ما عظيم لكن الله سبحانه لم يبين هيهنا ما هو الغاية المقصودة من حضورهم غير أنه ذكر أنهم أخذتهم الرجفة ولم تأخذهم إلا لظلم عظيم ارتكبوه حتى أدى بهم إلى الهلاك بدليل قول موسى عليه السلام: " رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أ تهلكنا بما فعل السفهاء منا " فيظهر من هنا أن الرجفة أهلكتهم. ويتأيد بذلك أن هذه القصة هي التي يشير سبحانه إليها بقوله: " وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد

[ 270 ]

موتكم لعلكم تشكرون " البقرة: 56، وبقوله: " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء " فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك " النساء: 153. ومن ذلك يظهر أن المراد بالرجفة التي أخذتهم في الميقات رجفة الصاعقة لا رجفة في أبدانهم كما احتمله بعض المفسرين ولا ضير في ذلك فقد تقدم نظير التعبير في قصة قوم صالح حيث قال تعالى: " فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين " الاعراف: 78، وقال فيهم: " فأخذتهم صاعقة العذاب الهون " حم السجدة: 17. وفي آية النساء المنقولة آنفا إشعار بأن سؤالهم الرؤية كان مربوطا بنزول الكتاب وأن اتخاذ العجل كان بعد ذلك فكأنهم حضروا الميقات لنزول التوراة، وأنهم إنما سألوا الرؤية ليكونوا على يقين من كونها كتابا سماويا نازلا من عند الله، ويؤيد ذلك ان الظاهر أن هؤلاء المختارين كانوا مؤمنين بأصل دعوة موسى، وإنما أردوا بقولهم: " لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة " تعليق إيمانهم به من جهة نزول التوراة عليه على الرؤية. وبهذا كله يتأيد أن هذه القصة جزء من قصة الميقات ونزول التوراة، وأن موسى عليه السلام لما أراد الحضور لميقات ربه ونزول التوراة اختار هؤلاء السبعين فذهبوا معه إلى الطور ولم يقنعوا بتكليم الله كليمه، وسألوا الرؤية فأخذتهم الصاعقة فماتوا ثم أحياهم الله بدعوة موسى، ثم كلم الله موسى وسأل الرؤية وكان ما كان، ومما كان اتخاذ بني إسرائيل العجل بعد غيبتهم وذهابهم لميقات الله، وقد وقع هذا المعنى في بعض الاخبار المأثورة عن أئمه أهل البيت عليهم السلام كما سيجئ إن شاء الله. وعلى أي حال العناية في هذه القصة ببيان ظلمهم ونزول العذاب عليهم ودعاء موسى لهم لا بيان كون هذه القصه جزءا من القصة السابقة لو كان جزءا، ولا مغايرتها لها لو كانت مغايرة فلا دلالة في اللفظ تنبه على شئ من ذلك. وما قيل: إن ظاهر الحال أن تكون هذه القصة مغايرة للمتقدمة إذ لا يليق بالفصاحة ذكر بعض القصة ثم النقل إلى أخرى ثم الرجوع إلى الاولى فإنه اضطراب يصان عند كلامه. على أنه لو كانت الرجفة بسبب سؤال الرؤية لقيل: أ تهلكنا بما قال

[ 271 ]

السفهاء منا لا بما فعل، ولم يذكر هيهنا أنهم قالوا شيئا، وليس من المعلوم أن يكون قولهم " أرنا الله جهرة " صدر منهم هيهنا بل الحق أنها قصص ثلاث: قصة سؤالهم الرؤية ونزول الصاعقة، وقصة ميقات موسى وصعقته، وقصة ميقات السبعين وأخذ الرجفة، وسنوردها في البحث الروائي التالي إن شاء الله. ولذلك ذكر بعضهم أن هذا الميقات غير الميقات الاول، وذلك أنهم لما عبدوا العجل أمر الله موسى أن يأتي في أناس منهم إلى الطور فيعتذروا من عبادة العجل فاختار منهم سبعين فأتوا الطور فقالوا ما قالوا فأخذتهم رجفة في أبدانهم كادت تهلكهم ثم انكشفت عنهم بدعاء موسى. وذكر بعض آخر أن هارون لما مات اتهم بنو إسرائيل موسى في أمره، وقالوا له: أنت حسدته فينا فقتلته، وأصروا على ذلك فاختار منهم سبعين وفيهم ابن هارون فأتوا قبره فكلمه موسى فبرأه هارون من قتله فقالوا: ما نقضي يا موسى ادع لنا ربك يجعلنا أنبياء فأخذتهم الرجفة فصعقوا. وذكر آخرون أن بني إسرائيل سألوا موسى الرؤية فاختار منهم السبعين فجاؤوا إلى الطور فقالوا ما قالوا وأخذتهم الرجفة فهلكوا ثم أحياهم الله بدعاء موسى إلا أنها قصة مستقلة ليست بجزء من قصة موسى. وأنت خبير بأن شيئا من هذه الاقوال وبالخصوص القولان الاولان لا دليل عليه من لفظ القرآن، ولا يؤيده أثر معتبر وتقطيع القصة الواحدة إلى قصص متعددة، والانتقال من حديث إلى آخر لتعلق عناية بذلك غير عزيز في القرآن الكريم، وليس القرآن كتاب قصة حتى يعاب بالانتقال عن قصة قبل تمامها، وإنما هو كتاب هداية ودلالة وحكمة يأخذ من القصص ما يهمه. وأما قوله: " بما فعل السفهاء " وقد كان الصادر منهم قولا لا فعلا فالوجه في ذلك أن المؤاخذة إنما هو على المعصية، والمعصية تعد عملا وفعلا وإن كانت من قبيل الاقوال كما قال تعالى: " إنما تجزون ما كنتم تعملون " التحريم: 7، فإنه شامل لقول كلمة الكفر والكذب والافتراء ونحو ذلك بلا ريب، والظاهر أنهم عذبوا بما كان يستلزمه قولهم من سوء الادب والعناد والاستهانة بمقام ربهم.

[ 272 ]

على أن ظاهر تلك الاقوال جميعا أنهم إنما عذبوا بالرجفة قبال ما قالوه دون ما فعلوه فالاشكال على تقدير وروده مشترك بين جميع الاقوال فالاقرب كون القصة جزءا من سابقتها كما تقدم. قوله تعالى: " قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي - إلى قوله - من تشاء " يريد عليه السلام بذلك أن يسأل ربه أن يحييهم خوفا من أن يتهمه بنو إسرائيل فيخرجوا به عن الدين، ويبطل بذلك دعوته من أصلها فهذا هو الذي يبتغيه غير أن المقام والحال يمنعانه من ذلك فها هو عليه السلام واقع أمام معصية موبقة من قومه صرعتهم وغضب إلهي شديد أحاط بهم حتى أهلكهم. ولذلك أخذ يمهد الكلام رويدا ويسترحم ربه بجمل من الثناء حتى يهيج الرحمة على الغضب، ويثير الحنان والرأفة الالهية ثم يتخلص إلى مسألته وذكر حاجته في جو خال من موانع الاجابة. " قال " مبتدئا باسم الربوبية المهيجة للرحمة " رب لو شئت أهلكتهم من قبل " فالامر إلى مشيتك، ولو أهلكتهم من قبل " وإياي " لم يتجه من قومي إلي تهمة في هلاكهم، ثم ذكر أنه ليس من شأن رحمته وسنة ربوبيته أن يؤاخذ قوما بفعل سفهائهم فقال في صورة الاستفهام تأدبا: " أ تهلكنا بما فعل السفهاء منا " ؟ ثم أكد القول بقوله: " إن هي إلا فتنتك " وامتحانك " تضل بها " أي بالفتنة " من تشاء وتهدي من تشاء " أي أن هذا المورد أحد موارد امتحانك وابتلائك العام الذي تبتلي به عبادك وتجريه عليهم ليضل من ضل ويهتدي من اهتدى، وليس من سنتك أن تهلك كل من افتتن بفتنتك فانحرف عن سوى صراطك. وبالجملة أنت الذي سبقت رحمتك غضبك ليس من دأبك أن تستعجل المسيئين من عبادك بالعقوبة أو تعاقبهم بما فعل سفهاؤهم، وأنت الذي أرسلتني إلى قومي ووعدتني أن تنصرني في نجاح دعوتي، وهلاك هؤلاء المصعوقين يجلب علي التهمة من قومي. قوله تعالى: " أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين " شروع منه عليه السلام في الدعاء بعد ما قدمه من الثناء، وبدأه بقوله: " أنت ولينا " وختمه بقوله: " وأنت خير الغافرين " ليقع ما يسأله بين صفتي ولاية الله الخاصة به ومغفرته التي

[ 273 ]

هي خير مغفرة ثم سأل حاجته بقوله: " فاغفر لنا وارحمنا " لانه خير حاجة يرتضي الله من عباده أن يسألوها عنه، ولم يصرح بخصوص حاجته التي بعثته إلى الدعاء، وهي إحياء السبعين الذين أهلكهم الله تذللا واستحياء. وحاجته هذه مندرجة في قوله: " فاغفر لنا وارحمنا " لا محالة فإن الله سبحانه يذكر في آية سورة البقرة انه بعثهم بعد موتهم، ولم يكن ليحييهم بعد ما أهلكهم إلا بشفاعة موسى عليه السلام ولم يذكر من دعائه المرتبط بحالهم إلا هذا الدعاء فهو إنما سأله ذلك تلويحا بقوله " فاغفر لنا " الخ كما تقدم لا تصريحا. قوله تعالى: " واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك " أي رجعنا إليك من هاد يهود إذا رجع، وهو أعني قوله: " إنا هدنا إليك " تعليل لهذا الفصل من الدعاء سأل فيه أن يكتب الله أي يقضي لهم بحسنة في الدنيا وحسنة في الآخرة والمراد بالحسنة لا محالة الحياة والعيشة الحسنة فإن الرجوع إلى الله أي سلوك طريقته والتزام سبيل فطرته يهدي الانسان إلى حياة طيبة وعيشة حسنة في الدنيا والآخرة جميعا، و هذا هو الوجه فيما ذكرنا أن قوله: " إنا هدنا إليك " تعليل لهذا الفصل من دعائه فإن الحياة الطيبة من آثار الرجوع إلى الله، وهي شئ من شأنه أن يرزقوه - لو رزقوا - في مستقبل أمرهم، وهو المناسب للكتابة والقضاء، وأما الفصل الاول من الدعاء أعني قوله: " فاغفر لنا وارحمنا " الخ، فتكفي في تعليله الجمل السابقة عليه، وما احتف به من قوله: " أنت ولينا " وقوله: " وأنت خير الغافرين " ولا يتعلق بقوله: " إنا هدنا إليك " فافهم ذلك. قوله تعالى: " قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ " هذا جواب منه سبحانه لموسى، وفيه محاذاة لما قدمه موسى قبل مسألته من قوله: " رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي "، وقد قيد الله سبحانه إصابة عذابه بقوله: " من أشاء " دون سعة رحمته لان العذاب إنما ينشأ من اقتضاء من قبل المعذبين لا من قبله سبحانه، قال تعالى: " ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم " النساء: 147 وقال:

[ 274 ]

" لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد " إبراهيم: 7 فلا يعذب الله سبحانه باقتضاء من ربوبيته ولو كان كذلك لعذب كل أحد بل إنما يعذب بعض من تعلقت به مشيته فلا تتعلق مشيته إلا بعذاب من كفروا نعمه فالعذاب إنما هو باقتضاء من قبل المعذبين لكفرهم لا من قبله. على أن كلامه سبحانه يعطي أن العذاب إنما حقيقته فقدان الرحمة، والنقمة عدم بذل النعمة، ولا يتحقق ذلك إلا لعدم استعداد المعذب بواسطة الكفران والذنب لافاضة النعمة عليه وشمول الرحمة له، فسبب العذاب في الحقيقة عدم وجود سبب الرحمة. وأما سعة الرحمة وإفاضة النعمة فمن المعلوم أنه من مقتضيات الالوهية ولوازم صفة الربوبية فما من موجود مخلوق إلا ووجوده نعمة لنفسه ولكثير ممن دونه لارتباط أجزاء الخلقة، وكل ما عنده من خير أو شر نعمة إما لنفسه ولغيره كالقوة والثروة وغيرهما التي يستفيد منها الانسان وغيره، وإما لغيره إذا كان نقمة بالنسبة إليه كالعاهات والآفات والبلايا يستضر بها شئ وينتفع أشياء وعلى هذا فالرحمة الالهية واسعة كل شئ فعلا لا شأنا، ولا يختص بمؤمن ولا كافر ولا ذي شعور ولا غيره ولا دنيا ولا آخرة، والمشيئة لازمة لها. نعم تحقق العذاب والنقمة في بعض الموارد - وهو معنى قياسي - يوجب أن يتحقق هناك رحمة تقابلها وتقاس إليها فإن حرمان البعض من النعمة التي أنعم الله بها على بعض آخر إذا كان عذابا كان ما يجده البعض الآخر رحمة تقابل هذا العذاب، وكذا نزول ما يتألم به ويؤذي على بعض كالعقوبات الدنيوية والاخروية إذا كان عذابا كان الامن والسلامة التي يجدها البعض الآخر رحمة بالنسبة إليه وتقابله، وإن كانت الرحمة المطلقة بالمعنى الذي تقدم بيانه يشملهما جميعا. فهناك رحمة إلهية عامة يتنعم بها المؤمن والكافر والبر والفاجر وذو الشعور وغير ذي الشعور فيوجدون بها ويرزقون بها في أول وجودهم ثم في مسيرة الوجود ما داموا سالكين سبيل البقاء، ورحمة إلهية خاصة وهي العطية الهنيئة التي يجود بها الله سبحانه في مقابل الايمان والعبودية، وتختص لا محالة بالمؤمنين الصالحين من عباده من حياة طيبة نورانية في الدنيا، وجنة ورضوان في الآخرة ولا نصيب فيها للكافرين والمجرمين،

[ 275 ]

ويقابل الرحمة الخاصة عذاب وهو اللاملائم الذي يصيب الكافرين والمجرمين من جهة كفرهم وجرمهم في الدنيا كعذاب الاستئصال والمعيشة الضنك وفي الآخرة من النار وآلامها، ولا يقابل الرحمة العامة شئ من العذاب إذ كل ما يصدق عليه اسم شئ فهو من مصاديق الرحمة العامة لنفسه أو لغيره، وكونه رحمة هي المقصودة في الخلقة، وليس وراء الشئ شئ. إذا تحقق هذا تبين أن قوله تعالى " عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ " بيان لخصوص العذاب وعموم الرحمة، وإنما قابل بين العذاب والرحمة العامة مع عدم تقابلهما لان ذكر الرحمة العامة توطئة وتمهيد لما سيذكره من صيرورتها رحمة خاصة في حق المتقين من المؤمنين. وقد اتضح بما تقدم أن سعة الرحمة ليست سعة شأنية وأن قوله: " ورحمتي وسعت كل شئ " ليس مقيدا بالمشيئة المقدرة بل من لوازم سعة الرحمة الفعلية كما تقدم، وذلك لان الظاهر من الآية أن المراد بالرحمة الرحمة العامة وهي تسع كل شئ بالفعل وقد شاء الله ذلك فلزمتها فلا محل لتقدير " ان شئت " خلافا لظاهر كلام جمع من المفسرين. قوله تعالى: " فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكا ة والذين هم بآياتنا يؤمنون " تفريع على قوله: " عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي " الآية أي لازم وجوب إصابة العذاب بعض الناس وسعة الرحمة لكل شئ أن أوجب الرحمة على البعض الباقي، وهم الذين يتقون ويؤتون الزكاة الآية. وقد ذكر سبحانه الذين تنالهم الرحمة بأوصاف عامة وهي التقوى وإيتاء الزكاة والايمان بآيات الله من غير أن يقيدهم بما يخص قومه: كقولنا للذين يتقون منكم ونحو ذلك لان ذلك مقتضى عموم البيان في قوله: " عذابي أصيب به من أشاء " الآية والبيان العام ينتج نتيجة عامة. وإذا قوبلت مسألة موسى بالآية كانت الآية بمنزلة المقيدة لها فإنه عليهد السلام سأل الحسنة والرحمة لقومه ثم عللها بقوله: " أنا هدنا إليك " فكان معنى ذلك مسألة الرحمة لكل من هاد ورجع منهم بأن يكتب الله حسنة الدنيا والآخرة لمجرد هودهم وعودهم

[ 276 ]

إليه فكان فيما أجابه الله به أنه سيكتب رحمته للذين آمنوا واتقوا فكأنه قال: اكتب رحمتك لمن هاد إليك منا، فأجابه الله أن سأكتب رحمتي لمن هاد واتقى وآمن بآياتي فكان في ذلك تقييد لمسألته. ولا ضير في ذلك فأنه سبحانه هو الهادي لانبيائه ورسله المعلم لهم يعلم كليمه إن يقيد مسألته بالتقوى وهو الورع عن محارمه وبالايمان بآياته وهو التسليم لانبيائه وللاحكام النازلة إليهم، ولا يطلق الهود وهو الرجوع إلى الله بالايمان به، فهذا تصرف في دعاء موسى بتقييده كما تصرف تعالى في دعاء إبراهيم بالتقييد في قوله: " قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " البقرة: 124، وبالتعميم والاطلاق في قوله فيما يحكي من دعائه لاهل مكة: " وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فامتعه قليلا ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير " البقرة: 126، فقد تبين أولا أن الآية تتضمن استجابته تعالى لدعاء موسى: " و اكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة " بتقييد ما له فمن العجيب ما ذكره بعضهم: أن الآية بسياقها تدل على أن الله سبحانه رد دعوة موسى ولم يستجبها، وكذا قول بعضهم: إن موسى عليه السلام دعا لقومه فاستجابه الله في حق أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بناء على بيانية قوله: " الذين يتبعون الرسول " الآية لقوله: " للذين يتقون " الآية وسيجئ. وثانيا: أنه تعالى استجاب ما اشتمل عليه الفصل الاول من دعائه فانه تعالى لم يرده، وحاشا أن يحكى الله في كلامه دعاء لاغيا غير مستجاب، وقوله: " فسأكتبها للذين " الآية فإنه يحاذي ما سأله عليه السلام من الحسنة المستمرة الباقية في الدنيا والآخرة لقومه، وأما طلب المغفرة لذنب دفعي صدر عنهم بقولهم: " أرنا الله جهرة " فلا يحاذيه قوله: " فسأكتبها " الآية بوجه، فسكوته تعالى عن رد دعوته دليل أجابتها كما في سائر الموارد التي تشابهه في القرآن. ويلوح إلى استجابة دعوته لهم بالمغفرة قوله في القصد في موضع آخر: " ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون " البقرة: 56، فمن البعيد المستبعد أن يحييهم الله بعد إهلاكهم ولم يغفر لهم ذنبهم الذي أهلكوا به.

[ 277 ]

وعلى أي حال معنى الآية: " فسأكتبها " أي سأكتب رحمتي وأقضيها وأوجبها استعيرت الكتابة للايجاب لان الكتابة أثبت وأحكم " للذين يتقون " ويجتنبون المعاصي وترك الواجبات " ويؤتون الزكاة " وهي الحق المالي أو مطلق الانفاق في سبيل الله الذي ينمو به المال، ويصلح به مفاسد الاجتماع، ويتم به نواقصه، وربما قيل: إن المراد بها زكاة النفس وطهارتها، وإيتاء الزكاة إصلاح أخلاق النفس. وليس بشئ. " والذين هم بآياتنا يؤمنون " أي يسلمون لما جاءتهم من عند الله من الآيات والعلامات سواء كانت آيات معجزة كمعجزات موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وعليهم، أو أحكاما سماوية كشرائع موسى وأوامره وشرائع غيره من الانبياء، أو الانبياء أنفسهم أو علامات صدق الانبياء كعلائم محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي ذكرها الله تعالى لهم في كتاب موسى وعيسى عليهما السلام فكل ذلك آيات له تعالى يجب عليهم وعلى غيرهم أن يؤمنوا بها ويسلموا لها ولا يكذبوا بها. وفي الآية التفات من سياق التكلم مع الغير إلى الغيبة فإنه قال أولا: " واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا ". ثم قال: " قال عذابي أصيب به " الآية وكأن النكتة فيه إظهار ما له سبحانه من العناية الخاصة باستجابة دعاء الداعين من عباده فيقبل عليهم هو تعالى من غير أن يشاركه فيه غيره ولو بالتوسط فإن التكلم بلفظ المتكلم مع الغير لاظهار العظمة لمكان أن العظماء يتكلمون عنهم وعن أتباعهم فإذا أريد إظهار عناية خاصة بالمخاطب أو بالخطاب تكلم بلفظ المتكلم وحده. وعلى هذا جرى كلامه تعالى فاختار سياق المتكلم وحده المناسب لمعنى المناجاة والمسارة فيما حكى من أدعية أنبيائه وأوليائه واستجابته لهم في كلامه كأدعية نوح وإبراهيم ودعاء موسى ليلة الطور، وأدعية سائر الصالحين واستجابته لهم، ولم يعدل عن سياق المتكلم وحده إلا لنكتة زائدة. وأما قوله: " والذين هم بآياتنا يؤمنون " وما فيه من العدول من التكلم وحده - السياق السابق - إلى التكلم مع الغير فالظاهر أن النكتة فيه إيجاد الاتصال بين هذه الآية والآية التالية التي هي نوع من البيان لهذه الجملة أعني قوله: " والذين هم بآياتنا يؤمنون " فإن الآية التالية - كما سيجئ - بمنزلة المعترضة من النتيجة المأخوذة في ضمن

[ 278 ]

الكلام الجاري، وسياقها سياق خارج عن سياق هذه القطعة المتعرضة للمشافهة والمناجاة بين موسى وبينه تعالى راجع إلى السياق الاصلي السابق الذي هو سياق المتكلم مع الغير. فبتبديل " والذين هم بآياتي يؤمنون " إلى قوله: " والذين هم بآياتنا يؤمنون " يتصل الآية التالية بسابقتها في السياق بنحو لطيف فافهم ذلك وتدبر فيه فإنه من عجب السياقات القرآنية. قوله تعالى: ر " الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل - إلى قوله - كانت عليهم ". قال الراغب في المفردات: الاصر عقد الشئ وحبسه بقهره يقال: أصرته فهو مأصور، والمأصر والمأصر - بفتح الصاد وكسرها - محبس السفينة، قال تعالى: ويضع عنهم إصرهم أي الامور التي تثبطهم وتقيدهم عن الخيرات، وعن الوصول إلى الثوابات وعلى ذلك: ولا تحمل علينا إصرا، وقيل ثقلا وتحقيقه ما ذكرت. (انتهى) والاغلال جمع غل وهو ما يقيد به. وقوله: " الذين يتبعون الرسول النبي الامي " الآية بحسب ظاهر السياق بيان لقوله: " والذين هم بآياتنا يؤمنون " ويؤيده ما هو ظاهر الآية أن كونه صلى الله عليه وآله وسلم رسولا نبيا أميا ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم كل ذلك من أمارات النبوة الخاتمية وآياتها المذكورة لهم في التوراة والانجيل فمن الايمان بآيات الله الذي شرطه الله تعالى لهم في كلامه: أن يؤمنوا بالآيات المذكورة لهم أمارات لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. غير أن من المسلم الذي لا مرية فيه أن الرحمة التي وعد الله كتابته لليهود بشرط التقوى والايمان بآيات الله ليست بحيث تختص بالذين آمنوا منهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويحرم عنها صالحوا بني إسرائيل من لدن أجاب الله دعوة موسى عليه السلام إلى أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم فآمن به شرذمة قليلة من اليهود فإن ذلك مما لا ينبغي توهمه أصلا. فبين موسى وعيسى عليهما السلام، وكذا بعد عيسى عليه السلام ممن آمن به من بني إسرائيل جم غفير من المؤمنين الذين آمنوا بالدعوة الالهية فقبل الله منهم إيمانهم ووعدهم بالخير، والكلام

[ 279 ]

الالهي بذلك ناطق فكيف يمكن أن تقصر الرحمة الالهية المبسوطة على بني إسرائيل في جماعة قليلة منهم آمنوا بالنبي صليه الله عليه وآله وسلم. فقوله: " الذين يتبعون الرسول النبي الامي " الآية وإن كان بيانا لقوله: " والذين هم بآياتنا يؤمنون " إلا أنه ليس بيانا مساويا في السعة والضيق لمبينه بل بيان مستخرج من مبينه انتزع منه، وخص بالذكر ليستفاد منه فيما هو الغرض من سوق الكلام، وهو بيان حقيقة الدعوة المحمدية، ولزوم إجابتهم لها وتلبيتهم لداعيها. ولذلك في القرآن الكريم نظائر من حيث التضييق والتوسعة في البيان كما قال تعالى حاكيا عن إبليس: " فبعزتك لاغوينهم أجمعين " الآية ثم قال في موضع آخر حاكيا عنه: " لا تخذن من عبادك نصيبا مفروضا لاضلنهم ولامنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الانعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " النساء: 119 فإن القول الثاني المحكي عن إبليس مستخرج من عموم قوله المحكي أولا: " لاغوينهم أجمعين ". وقال تعالى في أول هذه السورة: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم - إلى أن قال - يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم " الآية وقد تقدم أن ذلك من قبيل استخراج الخطاب من الخطاب لغرض التعميم إلى غير ذلك من النظائر. فيؤول معنى بيانية قوله: " الذين يتبعون الرسول " إلى استخراج بيان من بيان للتطبيق على مورد الحاجة كأنه قيل فإذا كان المكتوب من رحمة الله لبني إسرائيل قد كتب للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون فمصداقه اليوم - يوم بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم - هم الذين يتبعونه من بني إسرائيل لانهم الذين اتقوا وآتوا الزكاة وهم الذين آمنوا بآياتنا فإنهم آمنوا بموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم آياتنا، وآمنوا بمعجزات هؤلاء الرسل وما نزل عليهم من الشرائع والاحكام وهي آياتنا، وآمنوا بما ذكرنا لهم في التوراة والانجيل من أمارات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلامات ظهوره ودعوته، وهي آياتنا. ثم قوله: " الذين يتبعون الرسول النبي الامي " الآية أخذ فيه " يتبعون " موضع يؤمنون، وهو من أحسن التعبير لان الايمان بآيات الله سبحانه كأنبيائه وشرائعهم إنما هو بالتسليم والطاعة فاختير لفظ الاتباع للدلالة على أن الايمان بمعنى الاعتقاد المجرد

[ 280 ]

لا يغني شيئا فإن ترك التسليم والطاعة عملا تكذيب بآيات الله وإن كان هناك اعتقاد بأنه حق. وذكره صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الاوصاف الثلاث: الرسول النبي الامي، ولم يجتمع له في موضع من كلامه تعالى إلا في هذه الآية والآية التالية، مع قوله تعالى بعده: " الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل " تدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان مذكورا فيهما معرفا بهذه الاوصاف الثلاث. ولو لا أن الغرض من توصيفه بهذه الثلاث هو تعريفه بما كانوا يعرفونه به من النعوت المذكورة له في كتابيهم لما كانت لذكر الثلاث: " الرسول النبي الامي " وخاصة الصفة الثالثة نكتة ظاهرة. وكذلك ظاهر الآية يدل أو يشعر بأن قوله: يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر إلى آخر الامور الخمسة التي وصفه صلى الله عليه وآله وسلم بها في الآية من علائمه المذكورة في الكتابين، وهي مع ذلك من مختصات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وملته البيضاء فإن الامم الصالحة وإن كانوا يقومون بوظيفة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر كما ذكره تعالى من أهل الكتاب في قوله: " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة - إلى أن قال - ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين " آل عمران: 114. وكذلك تحليل الطيبات وتحريم الخبائث في الجملة من جملة الفطريات التي أجمع عليها الاديان الالهية، وقد قال تعالى: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق " الاعراف: 32. وكذلك وضع الاصر والاغلال وإن كان مما يوجد في الجملة في شريعة عيسى عليه السلام كما يدل عليه قوله فيما حكى الله عنه في القرآن الكريم: " ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم " آل عمران: 50 ويشعر به قوله خطابا لبني إسرائيل: " قد جئتكم بالحكمة ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه " الزخرف 63. إلا أنه لا يرتاب ذو ريب في أن الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكتاب من عند الله مصدق لما بين يديه من الكتب السماوية - وهو دين الاسلام - هو الدين الوحيد الذي نفخ في جثمان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر كل ما يسعه من روح الحياة، وبلغ

[ 281 ]

به من حد الدعوة الخالية إلى درجة الجهاد في سبيل الله بالاموال والنفوس، وهو الدين الوحيد الذي أحصى جميع ما يتعلق به حياة الانسان من الشؤون والاعمال ثم قسمها إلى طيبات فأحلها، وإلى خبائث فحرمها، ولا يعادله في تفصيل القوانين المشرعة أي شريعة دينية وقانون إجتماعي، وهو الدين الذي نسخ جميع الاحكام الشاقة الموضوعة على أهل الكتاب واليهود خاصة، وما تكلفها علماؤهم، وابتدعها أحبارهم ورهبانهم من الاحكام المبتدعة. فقد اختص الاسلام بكمال هذه الامور الخمسة وإن كانت توجد في غيره نماذج من ذلك. على أن كمال هذه الامور الخمسة في هذه الملة البيضاء أصدق شاهد وأبين بينة على صدق الناهض بدعوتها صلى الله عليه وآله وسلم، ولو لم تكن تذكر أمارات له في الكتابين فإن شريعته كمال شريعة الكليم والمسيح عليه السلام وهل يطلب من شريعة حقة إلا عرفانها المعروف وإنكارها المنكر، وتحليلها الطيبات، وتحريمها الخبائث، وإلغاؤها كل إصر وغل ؟ وهي تفاصيل الحق الذي يدعو إليه الشرائع الالهية فليعترف أهل التوراة والانجيل أن الشريعة التي تتضمن كمال هذه الامور بتفاصيلها هي عين شريعتهم في مرحلة كاملة. وبهذا البيان يظهر أن قوله تعالى: " يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر " الآية يفيد بمجموعة معنى تصديقه لما في كتابيهم من شرائع الله تعالى كأنه قيل مصدقا لما بين يديه كما في قوله تعالى: " ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون " البقرة: 101 وقوله: " ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين " البقرة: 89 يريد مجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكمال ما في كتابهم من الشريعة مصدقا له ثم كفرهم به وهم يعلمون أنه المذكور في كتبهم المبشر به بلسان أنبيائهم كما حكى سبحانه عن المسيح في قوله: " يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " الصف: 6.

[ 282 ]

وسنبحث عن بشاراته عليه السلام الواقعة في كتبهم المقدسة بما تيسر من البحث إن شاء الله العزيز. غير أنه تعالى لم يقل: مصدقا لما بين يديه بدل قوله: " يأمرهم بالمعروف " الآية لان وجه الكلام إلى جميع الناس دون أهل الكتاب خاصة، ولذا أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في الآية التالية بقوله: " قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا " ولم يقيد الكلام في قوله: " فالذين آمنوا به " الخ بما يختص به بأهل الكتاب. قوله تعالى: فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور، إلى آخر الآية التعزير النصرة مع التعظيم، والمراد بالنور النازل معه القرآن الكريم ذكر بنعت النورية ليدل به على أنه ينير طريق الحياة ويضئ الصراط الذي يسلكه الانسان إلى موقف السعادة والكمال، والكلام في هذا الشأن. وفي قوله تعالى: " أنزل معه " ولم يقل: أنزل عليه أو أنزل إليه و " مع " تدل على المصاحبة والمقارنة تلويح إلى معنى الامارة والشهادة التي ذكرناها كأنه قيل: واتبعوا النور الذي أنزل عليه وهو بما يحتوي عليه من كمال الشرائع السابقة، ويظهره بالاضاءة شاهد على صدقه، وأمارة أنه هو الذي وعد به أنبياؤهم، وذكر لهم في كتبهم فقوله: " معه " حال من نائب فاعل " أنزل " وقد وقع نظيره في قوله تعالى: " فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " البقرة: 213. وقد اختلف المفسرون في توجيه هذه المعية ومعناها: فقيل إن الظرف - معه - متعلق بانزل، والكلام على حذف مضاف إي مع نبوته أو إرساله صلى الله عليه وآله وسلم لانه لم ينزل معه، وإنما أنزل مع جبرئيل، وقيل: متعلق ب‍ " اتبعوا " والمعنى شاركوا النبي عليه السلام في اتباعه، أو المعنى اتبعوا القرآن مع اتباعهم له وقيل: حال عن فاعل اتبعوا، والمعنى اتبعوا القرآن مصاحبين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في اتباعه، وقيل: " مع " هنا بمعنى على، وقيل: بمعنى عند، ولا يخفى بعد الجميع. وقوله: " فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور " الآية بمنزلة التفسير لقوله في صدر الآية: " الذين يتبعون الرسول " وأن المراد باتباعه حقيقة اتباع كتاب

[ 283 ]

الله المشتمل على شرائعه، وأن الذي له عليه السلام من معنى الاتباع هو الايمان بنبوته ورسالته من غير تكذيب به، واحترامه بالتسليم له ونصرته فيما عزم عليه من سيرته. والكلام أعني قوله: " فالذين آمنوا به " الآية نتيجة متفرعة على قوله في صدر الآية: " الذين يتبعون الرسول " الآية بناء على ما قدمناه من أنه بيان خاص مستخرج من قوله: " والذين هم بآياتنا يؤمنون " الذي هو بيان عام، والمعنى إذا كان اتباع الرسول بهذه الاوصاف والنعوت هو من الايمان بآياتنا الذي شرطناه على بني إسرائيل في قبول دعوة موسى لهم ببسط الرحمة في الدنيا والآخرة وفيه الفلاح بكتابة الحسنة في الدنيا والآخرة فالذين آمنوا به - إلى آخر ما شرط الله - أولئك هم المفلحون. قوله تعالى: " قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا - إلى قوله - ويميت " لما لاح من الاوصاف التي وصف بها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن عنده كمال الدين الذي به حياة الناس الطيبة في أي مكان فرضوا وفي أي زمان قدر وجودهم، ولا حاجة للناس في طيب حياتهم إلى أزيد من أن يؤمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر، وتحلل لهم الطيبات، وتحرم عليهم الخبائث، ويوضع عنهم إصرهم والاغلال التي عليهم أمر نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم أن يعلن بنبوته الناس جميعا من غير أن تختص بقوم دون قوم فقال: " قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ". وقوله: " الذي له ملك السماوات والارض لا إله إلا هو يحيي ويميت " صفات وصف الله بها، وهي بمجموعها بمنزلة تعليل يبين بها إمكان الرسالة من الله في نفسها اولا وإمكان عمومها لجميع الناس ثانيا فيرتفع به استيحاش بني إسرائيل أن يرسل إليهم من غير شعبهم وخاصة من الاميين وهم شعب الله ومن مزاعمهم أنه ليس عليهم في الاميين سبيل، وهم خاصة الله وأبناؤه وأحباؤه، وبه يزول استبعاد غير العرب من جهة العصبية القومية أن يرسل إليهم رسول عربي. وذلك أن الله الذي اتخذه رسولا هو الذي له ملك السماوات والارض والسلطنة العامة عليها، ولا إله غيره حتى يملك شيئا منها فله أن يحكم بما يشاء من غير أن يمنع عن حكمه مانع يزاحمه أو تعوق إرادته إرادة غيره فله أن يتخذ رسولا إلى عباده وأن يرسل رسوله إلى بعض عباده أو إلى جميعهم كيف شاء.

[ 284 ]

وهو الذي له الاحياء والاماتة فله أن يحيي قوما أو الناس جميعا بحياة طيبة سعيدة والسعادة والهدى من الحياة كما أن الشقاوة والضلالة موت، قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم " الانفال: 24، وقال: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس " الانعام: 122، وقال: " إنما يستجيب الذين يسمعون، والموتى يبعثهم الله " الانعام: 36. قوله تعالى: " فآمنوا بالله ورسوله النبي الامي " إلى آخر الآية تفريع على ما تقدم أي إذا كان الحال هذا الحال فآمنوا بي فإني ذاك الرسول النبي الامي الذي بشر به في التوراة والانجيل، وأنا أو من بالله ولا أكفر به وأو من بكلماته وهي ما قضى به من الشرائع النازلة علي وعلى الانبياء السالفين، واتبعوني لعلكم تفلحون. هذا ما يقتضيه السياق، ومنه يعلم وجه الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله " ورسوله النبي الامي الذي " الآية فإن الظاهر من السياق أن هذه الآية ذيل الآية السابقة، وهما جميعا من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ووجه الالتفات - كما ظهر مما تقدم - أن يدل بالاوصاف الموضوعة مكان ضمير المتكلم على تعليل الامر في قوله: " فآمنوا " وقوله: " واتبعوه لعلكم تهتدون ". والمراد بالاهتداء الاهتداء إلى السعادة الآخرة التي هي رضوان الله والجنة لا الاهتداء إلى سبيل الحق فإن الايمان بالله ورسوله واتباع رسوله بنفسه اهتداء، فيرجع معنى قوله: " لعلكم تهتدون " إلى معنى قوله في الآية السابقة في نتيجة الايمان والاتباع: " أولئك هم المفلحون ". قوله تعالى: " ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " وهذا من نصفة القرآن مدح من يستحق المدح، وحمد صالح أعمالهم بعد ما قرعهم بما صدر عنهم من السيئات فالمراد أنهم ليسوا جميعا على ما وصفنا من مخالفة الله ورسوله، والتزام الضلال والظلم بل منهم أمة يهدون الناس بالحق وبالحق يعدلون فيما بينهم فالباء في قوله: " بالحق " للآلة وتحتمل الملابسة. وعلى هذا فالآية من الموارد التي نسبت الهداية فيها إلى غيره تعالى وغير الانبياء

[ 285 ]

والائمة كما في قوله حكاية عن مؤمن آل فرعون ولم يكن بنبي ظاهرا: " وقال الذي آمن يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد " المؤمن: 38. ولا يبعد أن يكون المراد بهذه الامة من قوم موسى عليه السلام الانبياء والائمة الذين نشأوا فيهم بعد موسى وقد وصفهم الله في كلامه بالهداية كقوله تعالى: " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون " الم السجدة: 24 وغيره من الآيات وذلك أن الآية أعني قوله: " أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " لو حملت على حقيقة معناها من الهداية بالحق والعدل بالحق لم يتيسر لغير النبي والامام أن يتلبس بذلك وقد تقدم كلام في الهداية في تفسير قوله تعالى: " قال إني جاعلك للناس إماما " البقرة: 124 وقوله: " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره " الانعام: 125. وغيرهما من الآيات. قوله تعالى: " وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما " إلى آخر الآية. السبط بحسب اللغة ولد الولد أو ولد البنت. والجمع أسباط، وهو في بني إسرائيل بمعنى قوم خاص، فالسبط عندهم بالمنزلة القبيلة عند العرب. وقد نقل عن ابن الحاجب أن أسباطا في الآية بدل من العدد لا تمييز وإلا لكانوا ستة وثلاثين سبطا على إرادة أقل الجمع من " أسباطا " وتمييز العدد محذوف للدلالة عليه بقوله: " أسباطا " والتقدير وقطعناهم اثنتي عشرة فرقة أسباطا هذا. وربما قيل: إنه تمييز لكونه بمعنى المفرد والمعنى اثنتي عشرة جماعة مثلا. وقوله: " وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه " الآية الانبجاس هو الانفجار وقيل الانبجاس خروج الماء بقلة، والانفجار خروجه بكثرة، وظاهر من قوله: " فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم " أن العيون كانت بعدد الاسباط وأن كل سبط اختصوا بعين من العيون، وأن ذلك كانت عن مشاجرة بينهم ومنافسة، وهو يؤيد ما في الروايات من قصتها. وباقي الآية ظاهر. وقد عد الله سبحانه في هذه الآيات من معجزات موسى عليه السلام وآياته: الثعبان و اليد البيضاء، وسني آل فرعون ونقص ثمراتهم، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وفلق البحر، وإهلاك السبعين، وإحياءهم، وانبجاس العيون من الحجر بضرب العصا، والتظليل بالغمام، وإنزال المن والسلوى، ونتق الجبل فوقهم

[ 286 ]

كأنه ظلة. ويمكنك أن تضيف إليها التكليم ونزول التوراة، ومسخ بعضهم قردة خاسئين. وسيجئ تفصيل البحث في قصته عليه السلام في تفسير سورة هود إن شاء الله. (بحث روائي) في تفسير العياشي عن محمد بن سالم بياع القصب عن الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: إن عبد الله بن عجلان قال في مرضه الذي مات فيه: إنه لا يموت فمات. فقال: لا غفر الله شيئا من ذنوبه أين ذهب إن موسى اختار سبعين رجلا من قومه فلما أخذتهم الرجفة قال رب: أصحابي أصحابي. قال: إني أبدلك بهم من هو خير لكم منهم فقال: إني عرفتهم ووجدت ريحهم. قال: فبعث الله له أنبياء. أقول: المراد أن الله بدل له بعبد الله بن عجلان أصحابا هم خير منه كما فعل بموسى، والخبر غريب في بابه ولا يوافق ظاهر الكتاب. وفي البرهان عن ابن بابويه بإسناده عن سعد بن عبد الله القمي في حديث طويل عن القائم عليه السلام قال: قلت: فأخبرني يا مولاي عن العلة التي تمنع القوم من اختيار إمام لانفسهم. قال: مصلح أو مفسد ؟ قلت: مصلح. قال: فهل يجوز أن يقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحدهم ما يخطر ببال غيره - من صلاح أو فساد ؟ قلت: بلى. قال: هي العلة التي أوردها لك برهانا: أخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله، وأنزل عليهم الكتاب وأيدهم بالعصمة إذ هم أعلام الامم (1) وأهدى للاختيار منهم مثل موسى وعيسى هل يجوز مع وفور عقلهما وكمال علمهما إذا هما بالاختيار أن يقع خيرتهما على المنافق وهما يظنان أنه مؤمن ؟ قلت: لا. فقال: هذا موسى كليم الله مع وفور عقله، وكمال علمه، ونزول الوحي عليه اختار من أعيان قومه، ووجوه عسكره لميقات ربه سبعين رجلا ممن لا يشك في إيمانهم وإخلاصهم فوقعت خيرته على المنافقين قال الله عزوجل: " واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا - إلى قوله - لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ".


(1) كذا في النسختين المطبوعتين من البرهان ولعله تصحيف: إذ هم أعلم الامم. (*)

[ 287 ]

فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه للنبوة واقعا على الافسد دون الاصلح وهو يظن أنه الاصلح دون الافسد علمنا أن الاختيار ليس إلا لمن يعلم بما تخفي الصدور، وتكن الضمائر وتنصرف عليه السرائر، وأن لا خطر لاختيار المهاجرين والانصار بعد وقوع خيرة الانبياء على ذوي الفساد لما أرادوا أهل الصلاح. اقول: الآية فيها منقولة بالمعنى بمعنى أنها ملفقة من آيات القصة في سورتي الاعراف والنساء. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن نوف الحميري قال: لما اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقات ربه قال الله لموسى: أجعل لكم الارض مسجدا وطهورا، وأجعل السكينة معكم في بيوتكم، وأجعلكم تقرؤون التوراة من ظهور قلوبكم فيقرؤها الرجل منكم والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير. فقال موسى: إن الله قد جعل لكم الارض مسجدا وطهورا. قالوا: لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس. قال: ويجعل السكينة معكم في بيوتكم. قالوا: لا نريد إلا كما كانت في التابوت. قال: ويجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهور قلوبكم فيقرؤها الرجل منكم والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير. قالوا: لا نريد أن نقرأها إلا نظرا. قال الله: فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة - إلى قوله - المفلحون. قال موسى: أتيتك بوفد قومي فجعلت وفادتهم لغيرهم اجعلني من هذه الامة. قال: إن نبيهم منهم. قال: اجعلني من هذه الامة قال: إنك لن تدركهم. قال: رب أتيتك بوفد قومي فجعلت وفادتهم لغيرهم. قال: فأوحى إليه " ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " قال: فرضي موسى. قال نوف: أ لا تحمدون ربا شهد غيبتكم، وأخذ لكم بسمعكم وجعل وفادة غيركم لكم. وفيه أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن نوف البكالي: أن موسى لما اختار من قومه سبعين رجلا قال لهم: فدوا إلى الله وسلوه فكانت لموسى مسألة ولهم مسألة فلما انتهى إلى الطور المكان الذي وعده الله به قال لهم موسى: سلوا الله. قالوا: أرنا الله جهرة. قال: ويحكم تسألون الله هذا مرتين ؟ قالوا: هي مسألتنا أرنا الله جهرة فأخذتهم

[ 288 ]

الرجفة فصعقوا. فقال موسى، أي رب حئتك بسبعين من خيار بني إسرائيل فأرجع إليهم وليس معي منهم أحد فكيف أصنع ببني إسرائيل ؟ أليس يقتلوني ؟ فقيل له: سل مسألتك. قال: أي رب إني أسألك أن تبعثهم، فبعثهم الله، فذهبت مسألتهم ومسألته، وجعلت تلك الدعوة لهذه الامة. أقول: وإنما أوردنا الروايتين لكونهما بما فيهما من القصة شبيهتين بالموقوفات لكنهما مع الاختلاف لا ينطبقان على شئ مما قيل فيهما من أطراف القصة ونزول الآيات، على ظاهر شئ من الآيات فمسألتهم إنما هي الرؤية وقد ردت إليهم. ومسألة موسى عليه السلام إنما بعثهم، وقد أجيبت فبعثوا، وكتابة الرحمة على بني إسرائيل، وقد أجيبت بشرط التقوى والايمان بآيات الله، ولم يجعل شئ من وفادتهم لغيرهم، والخطاب بقوله: " ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " للنبي صلى الله عليه وآله وسلم دون موسى على ما يعطيه السياق. ونظير الروايتين في عدم الانطباق على الآية ما روي عن ابن عباس في قوله: " واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة " قال: فلم يعطها موسى قال: " عذابي أصيب به من أشياء - إلى قوله - المفلحون " والمراد أنه لم يعطها بل أعطيتها هذه الامة وقد مر أن ظهور الآية في غير ذلك. ونظير ذلك ما روي عن السدي في قوله تعالى: " إن هي إلا فتنتك " الآية قال: قال موسى: يا رب إن هذا السامري أمرهم أن يتخذوا العجل أرأيت الروح من نفخها فيه ؟ قال الرب: أنا، قال: فأنت إذا أضللتهم، وروي العياشي في تفسيره مثله عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام مرسلا، وفيه قال موسى: يا رب ومن أخار العجل ؟ قال: أنا. قال موسى عنده: إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء. وذلك أن الآية أعني قوله: " إن هي إلا فتنتك " من كلامه عليه السلام في قصة هلاك السبعين، وأين هي من قصة العجل ؟ إلا أن يتكرر منه ذلك.

[ 289 ]

وفي الدر المنثور أخرج أحمد وأبو داود عن جندب بن عبد الله البجلي قال جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها ثم صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم نادى: اللهم ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتنا أحدا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لقد حظرت رحمة واسعة ان الله خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنها وإنسها وبهائمها، وعنده تسعة وتسعون. وفيه أخرج أحمد ومسلم عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن لله مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وآخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة. وفيه أخرج ابن أبي شيبة عن سلمان موقوفا وابن مردويه عن سلمان قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله خلق مائة رحمة يوم خلق السموات والارض كل رحمة منها طباق ما بين السماء والارض فأهبط منها رحمة إلى الارض فبها تراحم الخلائق، وبها تعطف الوالدة على ولدها، وبها تشرب الطير والوحوش من الماء، وبها تعيش الخلائق فإذا كان يوم القيامة انتزعها من خلقه ثم أفاضها على المتقين، وزاد تسعة وتسعين رحمة ثم قرء: " ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ". أقول: وهذا المعنى مروي أيضا من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، والرواية الثانية كأنها نقل بالمعنى للرواية الاولى، وقد أفسد الراوي المعنى بقوله: " فإذا كان يوم القيامة انتزعها من خلقه " وليت شعري إذا سلب الرحمة عن غير المتقين من خلقه فبماذا يبقى ويعيش السماوات والارض والجنة والنار ومن فيها والملائكة وغيرهم ولا رحمة تشملهم. والاحسن في التعبير ما ورد في بعض رواياتنا - على ما أذكر - أن الله يومئذ يجمع المائة للمؤمنين، وجمع المائة لهم واستعمالها فيهم غير انتزاعها عن غيرهم وتخصيصها بهم فالاول جائز معقول دون الثاني فافهم ذلك. وفيه أخرج الطبراني عن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث: والذي نفسي

[ 290 ]

بيده ليغفرن الله يوم القيامة مغفرة يتطاول بها إبليس رجاء أن تصيبه. أقول: ومن طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ما في معناه. وفيه أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي بكر الهذلي قال: لما نزلت " ورحمتي وسعت كل شئ " قال إبليس: يا رب وأنا من الشئ فنزلت فسأكتبها " للذين يتقون " الآية فنزعها الله من إبليس. أقول: والظاهر أنه فرض وتقدير من أبي بكر، ولا ريب في تنعم إبليس بالرحمة العامة التي يشتمل عليها صدر الآية وحرمانه من الرحمة الخاصة الاخروية التي يتضمنها ذيلها. في تفسير البرهان عن نهج البيان روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أي الخلق أعجب إيمانا ؟ فقالوا: الملائكة، فقال: الملائكة عند ربهم فما لهم لا يؤمنون ؟ فقالوا: الانبياء. فقال: الانبياء يوحى إليهم فما لهم لا يؤمنون ؟ فقالوا: نحن. فقال: أنا فيكم فما لكم لا تؤمنون ؟ إنما هم قوم يكونون بعدكم فيجدون كتابا في ورق فيؤمنون به، وهذا معنى قوله: " واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ". أقول: والخبر لا بأس به، وهو من الجري والانطباق، وفي بعض الروايات أن النور هو علي عليه السلام وهو أيضا من قبيل الجري أو الباطن. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: افترقت بنو إسرائيل بعد موسى إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، وافترقت النصارى بعد عيسى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، وتفترق هذه الامة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة. فأما اليهود فإن الله يقول: " ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " وأما النصارى فإن الله يقول: " منهم أمة مقتصدة " فهذه التي تنجو، وأما نحن فيقول: " وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " فهذه التي تنجو من هذه الامة. وفي تفسير العياشي عن أبي الصهبان البكري قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام دعا رأس الجالوت وأسقف النصارى فقال: إني سائلكما عن أمر وأنا أعلم به

[ 291 ]

منكما ولا تكتماني. يا رأس الجالوت بالذي انزل التوراة على موسى، وأطعمهم المن والسلوى، وضرب لهم في البحر طريقا يبسا، وفجر لهم من الحجر الطوري اثنتي عشرة عينا لكل سبط من بني إسرائيل عينا إلا ما أخبرتني على كم افترقت بنو إسرائيل بعد موسى ؟ فقال: فرقة واحدة، فقال: كذبت والذي لا إله إلا هو لقد افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة فإن الله يقول: " ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " فهذه التي تنجو. وفي المجمع أنهم قوم من وراء الصين وبينهم وبين الصين واد من الرمال لم يغيروا ولم يبدلوا. قال: وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام. أقول: الرواية ضعيفة غير مسلمة ولا خبر عن هذه الامة اليهودية الهادية العادلة اليوم، ولو كانوا اليوم لم يكونوا هادين ولا مهتدين لنسخ شريعة موسى بشريعة عيسى عليه السلام أولا ثم نسخ شريعتهما جميعا بشريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثانيا ولذا اضطر بعض من أورد هذه القصة الخرافية فأضاف إليها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نزل إليهم ليلة المعراج ودعاهم فآمنوا به وعلمهم الصلاة. وقد اختلقوا لهم قصصا عجيبة مختلفة، فعن مقاتل: أن مما فضل الله به محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أنه عاين ليلة المعراج قوم موسى الذين من وراء الصين، وذلك أن بني إسرائيل حين عملوا بالمعاصي وقتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس دعوا ربهم وهم بالارض المقدسة فقالوا: اللهم أخرجنا من بين أظهرهم. فاستجاب لهم فجعل لهم سربا في الارض فدخلوا فيه، وجعل معهم نهرا يجري، وجعل لهم مصباحا من نور بين أيديهم فساروا فيه سنة ونصفا، وذلك من بيت المقدس إلى مجلسهم الذي هم فيه فأخرجهم الله إلى أرض يجتمع فيها الهوام والبهائم والسباع مختلطين بها ليست فيها ذنوب ولا معاص، فأتاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلك الليلة ومعه جبرئيل فآمنوا به وصدقوه وعلمهم الصلاة. وقالوا: إن موسى قد بشرهم به. وعن الشعبي قال: إن لله عبادا من وراء الاندلس كما بيننا وبين الاندلس لا يرون أن الله عصاه مخلوق رضراضهم الدر والياقوت، وجبالهم الذهب والفضة لا

[ 292 ]

يزرعون ولا يحصدون ولا يعملون عملا، لهم شجر على أبوابهم لها أوراق عراض هي لبوسهم، ولهم شجر على أبوابهم لها ثمر فمنها يأكلون. إلى غير ذلك مما ورد في قصتهم، وهي جميعا مجعولة، وقد عرفت معنى الآية في البيان المتقدم. * * * وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين - 161. فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون - 162. وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون - 163. وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون - 164. فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون - 165. فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين - 166. وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم

[ 293 ]

سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم - 167. وقطعناهم في الارض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون - 168. فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الادنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ا لم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الاخرة خير للذين يتقون أ فلا تعقلون - 169. والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين - 170. وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون - 171. (بيان) في الآيات بيان قصص أخرى من قصص بني إسرائيل فسقوا فيها عن أمر الله، ونقضوا ميثاقه فأخذهم الله بعقوبة أعمالهم وسلط عليهم من الظالمين من يسومهم سوء العذاب فهؤلاء أسلافهم وقد خلف من بعدهم أخلاف يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ويساهلون في أمر الدين، وهذا حالهم إلا قليل منهم لا يعدون الحق. قوله تعالى: " وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية " إلى آخر الآيتين، القرية هي التي كانت في الارض المقدسة أمروا بدخولها وقتال أهلها من العمالقة وإخراجهم منها فتمردوا عن الامر، وردوا على موسى عليه السلام فابتلوا بالتيه، والقصة مذكورة في

[ 294 ]

سورة المائدة آية 20 - 26. وقوله: " وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا " الآية تقدم الكلام في نظيره من سورة البقرة آية 58 - 59، وقوله: " سنزيد المحسنين " في موضع الجواب عن سؤال مقدر كأنه لما قال: " يغفر لكم خطيئاتكم " قيل: ثم ماذا فقال: " سنزيد المحسنين ". قوله تعالى: " واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت " إلى آخر الآية. أي اسأل بني إسرائيل عن حال أهل القرية " التي كانت حاضرة البحر " أي قريبة منه مشرفة عليه من حضر الامر إذا أشرف عليه وشهده " إذ يعدون " ويتجاوزون حدود ما أمر الله به في أمر " السبت " وتعظيمه وترك الصيد فيه " إذ تأتيهم حيتانهم " والسمك الذي في ناحيتهم " يوم سبتهم شرعا " جمع شارع وهو الظاهر البين " ويوم لا يسبتون لا تأتيهم " أي إن تجاوزهم عن حدود ما أمر به الله كان إذ كانت الحيتان تأتيهم شرعا يوم منعوا من الصيد وأمروا بالسبت، وأما إذا مضى اليوم وأبيح لهم الصيد وذلك غير يوم السبت فكان لا تأتيهم الحيتان وكان ذلك من بلاء الله وامتحانه ابتلاهم بذلك لشيوع الفسق بينهم فبعثهم الحرض على صيدها على مخالفة أمر الله سبحانه، ولم يمنعهم تقوى عن التعدي، ولذلك قال: " كذلك نبلوهم " أي نمتحنهم " بما كانوا يفسقون ". قوله تعالى: " وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم " إلى آخر الآية، إنما قالت هذه الامة ما قالت، لامة أخرى منهم كانت تعظهم وتنهاهم عن مخالفة أمر الله في السبت. فالتقدير: " وإذ قالت أمة منهم لامة أخرى كانت تعظهم " حذف للايجاز وظاهر كلامهم: " لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا " أنهم كانوا أهل تقوى يجتنبون مخالفة الامر إلا أنهم تركوا نهيهم عن المنكر فخالطوهم وعاشروهم ولو كان هؤلاء اللائمون من المتعدين الفاسقين لوعظهم أولئك الملومون، ولم يجيبوهم بمثل قولهم: معذرة إلى ربكم الخ، وأن المتعدين طغوا في تعديهم وتجاهروا في فسقهم فلم يكونوا لينتهوا بنهي ظاهرا غير أن الامة التي كانت تعظهم لم ييأسوا من تأثير العظة فيهم، وكانوا

[ 295 ]

يرجون منهم الانتهاء لو استمروا في عظتهم، ولا أقل من انتهاء بعضهم ولو بعض الانتهاء، وليكون ذلك معذرة منهم إلى الله سبحانه بإظهار أنهم غير موافقين لهم في فسقهم منزجرون عن طغيانهم بالتمرد. ولذلك أجابوا عن قولهم: " لم تعظون " الخ، بقولهم: " معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون " أي إنما نعظهم ليكون ذلك عذرا إلى ربكم، ولانا نرجو منهم أن يتقوا هذا العمل. وفي قولهم: " إلى ربكم " حيث أضافوا الرب إلى اللائمين ولم يقولوا إلى ربنا إشارة إلى أن التكليف بالعظة ليس مختصا بنا بل أنتم أيضا مثلنا يجب عليكم أن تعظوهم لان ربكم لمكان ربوبيته يجب أن يعتذر إليه، ويبذل الجهد في فراغ الذمة من تكاليفه والوظائف التي أحالها إلى عباده، وأنتم مربوبون له كما نحن مربوبون فعليكم من التكاليف ما هو علينا. قوله تعالى: " فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء " المراد بنسيانهم ما ذكروا انقطاع تأثير الذكر في نفوسهم وإن كانوا ذاكرين لنفس التذكر حقيقة فإنما الاخذ الالهي مسبب عن الاستهانة بأمره والاعراض عن ذكره، بل حقيقة النسيان بحسب الطبع مانع عن فعليه التكليف وحلول العقوبة. فالانسان يطوف عليه طائف من توفيق الله يذكره بتكاليف هامة إلهية ثم إن استقام وثبت، وإن ترك الاستقامة ولم يزجره زاجر باطني ولا ردعه رادع نفساني عدا حدود الله بالمعصية غير أنه في بادئ أمره يتألم تألما باطنيا ويتحرج تحرجا قلبيا من ذلك ثم إذا عاد إليها ثانيا من غير توبة زادت صورة المعصية في نفسه تمكنا، وضعف أثر التذكير وهان أمره، وكلما عاد إليها وتكررت منه المخالفة زادت تلك قوة وهذه ضعفا حتى يزول أثر التذكير من أصله، ساوى وجوده عدمه فلحق بالنسيان في عدم التأثير، وهو المراد بقوله: " فلما نسوا ما ذكروا " أي زال أثره كأنه منسي زائل، الصورة عن النفس. وفي الآية دلالة على أن الناجين كانوا هم الناهين عن السوء فقط، وقد أخذ الله الباقين، وهم الذين يعدون في السبت والذين قالوا: " لم تعظون " الخ.

[ 296 ]

وفيه دلالة على أن اللائمين كانوا مشاركين للعادين في ظلمهم وفسقهم حيث تركوا عظتهم ولم يهجروهم. وفي الآية دلالة على سنة إلهية عامة وهي أن عدم ردع الظالمين عن ظلمهم بمنع، وعظة إن لم يمكن المنع أو هجره إن لم تمكن العظة أو بطل تأثيرها، مشاركة معهم في ظلمهم، وأن الاخذ الالهي الشديد كما يرصد الظالمين كذلك يرصد مشاركيهم في ظلمهم. قوله تعالى: " فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين " العتو المبالغة في المعصية والقردة جمع القرد وهو الحيوان المعروف، والخاسئ الطريد البعيد من خسأ الكلب إذا بعد. وقوله: " فلما عتوا عن ما نهوا عنه " أي أن ترك ما نهوا عنه فإن العتو إنما يكون عن ترك المنهيات لا عن نفسها، والباقي ظاهر. قوله تعالى: " وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة " إلى آخر الآية تأذن وأذن بمعنى أعلم، واللام في قوله: " ليبعثن " للقسم، والمعنى: واذكر إذ أعلم ربك أنه قد أقسم ليبعثن على هؤلاء الظالمين بعثا يدوم عليهم ما دامت الدنيا من يذيقهم ويوليهم سوء العذاب. وقوله: " إن ربك لسريع العقاب " معناه أن من عقابه ما يسرع إلى الناس كعقاب الطاغي لطغيانه، قال تعالى: " الذين طغوا في البلاد - إلى أن قال - إن ربك لبالمرصاد " الفجر: 14 والدليل على ما فسرنا به قوله بعده: " وإنه لغفور رحيم " فإن الظاهر أنه لم يؤت به إلا للدلالة على أنه تعالى ليس بسريع العقاب دائما وإلا فمضمون الآية ليس مما يناسب التذليل باسمي الغفور والرحيم لتمحضه في معنى المؤاخذة والانتقام فمعنى قوله: " إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم " أنه تعالى غفور للذنوب رحيم بعباده لكنه إذا قضى لبعض عباده بالعقاب لاستيجابهم ذلك بطغيان وعتو ونحو ذلك فسرعان ما يتبعهم إذ لا مانع يمنع عنه ولا عائق يعوقه. ولعل هذا هو معنى قول بعضهم: إن معنى قوله " إن ربك لسريع العقاب "

[ 297 ]

سريع العقاب لمن شاء أن يعاقبه في الدنيا، وإن كان الانسب أن يقال: إن ذلك معنى قوله: " إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم "، ويرتفع به ما يمكن أن يتوهم أن كونه تعالى سريع العقاب ينافي كونه حليما لا يسرع إلى المؤاخذة. قوله تعالى: " وقطعناهم في الارض أمما منهم الصالحون " إلى آخر الآية. قال: في المجمع: دون في موضع الرفع بالابتداء، ولكنه جاء منصوبا لتمكنه في الظرفية، ومثله على قول أبي الحسن " لقد تقطع بينكم " هو في موضع الرفع فجاء منصوبا لهذا المعنى، وكذلك في قوله: " يوم القيامة يفصل بينكم " بين في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل، وإن شئت كان التقدير: ومنهم جماعة دون ذلك فحذف الموصوف وقامت صفته مقامه. انتهى. والمراد بالحسنات والسيئات نعماء الدنيا وضراءها والباقي ظاهر. قوله تعالى: " فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب " إلى آخر الآية، العرض ما لا ثبات له، ومنه قوله تعالى: " عرض الحياة الدنيا " النساء: 94 أي ما لا ثبات له من شؤنها، والمراد بعرض هذا الادنى عرض هذه الحياة الدنيا والدار العاجلة غير أنه أشير إليها بلفظ التذكير لاخذها شيئا ليس له من الخصوصيات إلا أن يشار إليه تجاهلا بخصوصياتها تحقيرا لشأنها كأنها لا يخص بنعت من النعوت يرغب فيها، وقد تقدم نظيره في قول إبراهيم عليه السلام على ما حكاه الله. " هذا ربي هذا أكبر " الانعام: 78 يريد الشمس. وقوله: " ويقولون سيغفر لنا " قول جزافي لهم قالوه، ولا معول لهم فيه إلا الاغترار بشعبهم الذي سموه شعب الله كما سموا أنفسهم أبناء الله وأحباءه، ولم يقولوا ذلك لوعد النفس بالتوبة لان ذلك قيد لا يدل عليه الكلام، ولا أنهم قالوا ذلك رجاء للمغفرة الالهية فإن للرجاء آثارا لا تلائم هذه المشيئة إذ رجاء الخير لا ينفك عن خوف الشر الذي يقابله وكما أن الرجاء يستدعي شيئا من ثبات النفس وطيبها كذلك الخوف يوجب قلق النفس واضطرابها ومساءتها فآية الرجاء الصادق توسط النفس بين سكون واضطراب، وجذب ودفع، ومسرة ومساءة، وأما من توغل في شهوات نفسه وانغمر في لذائذ الدنيا من غير أن يتذكر بعقوبة ما يجنيه ويقترفه ثم إذا ردعه رادع من نفسه

[ 298 ]

أو غيره بما أوعد الله الظالمين، وذكره شيئا من سوء عاقبة المجرمين قال: إن الله غفور رحيم يتخلص به من اللوم، ويخلص به إلى صافي لذائذه الدنية فليس ما يتظاهر به رجاء صادقا بل أمنية نفسانية كاذبة، وتسويل شيطاني موبق فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا. وقوله: " وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه " أي لم يقنعوا بما أخذوه من العرض بمرة حتى يكون تركهم ذلك ورجوعهم إلى إتقاء محارم الله نحوا من التوبة، وقولهم: " سيغفر لنا " نوعا من الرجاء يتلبس به التائبون بل كلما وجدوا شيئا من عرض الدنيا أخذوه من غير أن يراقبوا الله تعالى فيه فالجملة أعني قوله: " وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه " في معنى قوله تعالى في وصفهم في موضع آخر: " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه " المائدة: 79. وقوله: " ودرسوا ما فيه " كأن الواو للحال، والجملة حال عن ضمير " عليهم " وقيل الجملة معطوفة على قوله: " ورثوا الكتاب " في صدر الآية، ولا يخلو من بعد. والمعنى: " فخلف من بعدهم " أي من بعد هؤلاء الاسلاف من بني إسرائيل وحالهم في تقوى الله واجتناب محارمه ما وصف " خلف ورثوا الكتاب " وتحملوا ما فيه من المعارف والاحكام والمواعظ والعبر، وكان لازمه أن يتقوا ويختاروا الدار الآخرة، ويتركوا أعراض الدنيا الفانية الصارفة عما عند الله من الثواب الدائم " يأخذون عرض هذا الادنى " وينكبون على اللذائذ الفانية العاجلة، ولا يبالون بالمعصية وإن كثرت " ويقولون سيغفر لنا " قولا بغير الحق ولا يرجعون عن المعصية بالمرة والمرتين بل هم على قصد العود إليها كلما أمكن " وإن ياتهم عرض مثله يأخذوه " ولا يتناهون عما اقترفوه من المعصية. " أ لم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب " وهو الميثاق المأخوذ عليهم عند حملهم إياه " أن لا يقولوا على الله إلا الحق " والحال أنهم درسوا ما فيه، وعلموا بذلك أن قولهم: " سيغفر لنا " قول بغير الحق ليس لهم أن يتفوهوا به، وهو يجرئهم على معاصي الله وهدم أركان دينه. " و " الحال أن " الدار الآخرة خير للذين يتقون " لدوام ثوابها وأمنها من كل مكروه " أ فلا تعقلون ".

[ 299 ]

قوله تعالى: " والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين " قال في المجمع: أمسك ومسك وتمسك واستمسك بالشئ بمعنى واحد أي اعتصم به. انتهى. وتخصيص إقامة الصلاة بالذكر من بين سائر أجزاء الدين لشرفها وكونها ركنا من الدين يحفظ بها ذكر الله والخضوع إلى مقامه الذي هو بمنزله الروح الحية في هيكل الشرائع الدينية. والآية تعد التمسك بالكتاب اصلاحا والاصلاح يقابل الافساد وهو الافساد في الارض أو إفساد المجتمع البشري فيها، ولا تفسد الارض ولا المجتمع البشري إلا بإفساد طريقة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والدين الذي يشتمل عليه الكتاب الالهي النازل في عصر من الاعصار هو المتضمن لطرق الفطرة بحسب ما يستدعيه استعداد أهله فإن الله سبحانه يذكر في كلامه أن الدين القيم الذي يقوم بحوائج الحياة هي الفطرة التي فطر الناس عليها، والخلقة التي لا حقيقة لهم وراءها قال: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن إكثر الناس لا يعلمون " الروم: 30 ثم قال: " إن الدين عند الله الاسلام " آل عمران: 19 والاسلام هو التسليم لله سبحانه في سنته الجارية في تكوينه المبتنية عليها تشريعه. فالآيتان - كما ترى - تناديان بأن دين الله سبحانه هو تطبيق الانسان حياته على ما تقتضيه فيه قوانين التكوين ونواميسه حتى يقف بذلك موقفا تتحراه نفسية النوع الانساني ثم يسير في مسيرها أي يعود بذلك إنسانا نسميه إنسانا طبيعيا ويتربى تربية يستدعيها ذاته بحسب ما ركب عليه تركيبه الطبيعي. فما تقتضيه نفسية الانسان الطبيعية من الخضوع إلى المبدأ الغيبي الذي يقوم بإيجاده وإبقائه وإسعاده، وتوفيق شؤن حياته مع القوانين الحاكمة في الكون حكومة حقيقية هو الدين المسمى بالاسلام الذي يدعوا إليه القرآن وسائر كتب الله السماوية المنزلة على أنبيائه ورسله. فإصلاح شؤن الحياة الانسانية وتخليصها من كل دخيل خرافي، ووضع الاصر

[ 300 ]

والاغلال التي اختلقتها الاوهام والاهواء ثم وضعتها على الناس، جزء معنى الدين المسمى بالاسلام لا أثر من آثاره وحكم من أحكامه حتى تختلف فيه الآراء فيسلمه مسلم، ويرده، راد، ويبحث فيه باحث منصف فيتبع ما أدى إليه جهد نظره. وبعبارة اخرى: الذي يدعى إليه الناس بمنطق الدين الالهي هو الشرائع والسنن القائمة بمصالح العباد في حياتهم الدنيوية والاخروية لا أنه يضع مجموعة من معارف وشرائع ثم يدعي أن المصالح الانسانية تطابقه وهو يطابقها فافهم ذلك. وإياك أن تتوهم أن الدين الالهي مجموع امور من معارف وشرائع جافة تقليدية لا روح لها إلا روح المجازفة بالاستبداد، ولا لسان لها إلا لسان التأمر الجاف والتحكم الجافي وقد قضى شارعها بوجوب اتباعها والانقياد لها تجاه ما هيأ لهم بعد الموت من نعيم مخلد للمطعين منهم، والعذاب المؤبد للعاصين، ولا ربط لها يربطها بالنواميس التكوينية المماسة للانسان الحاكمة في حياته القائمة بشؤونها القيمة بإصلاحها فتعود الاعمال الدينية أغلالا غلت بها أيدي الناس في دنياهم، وأما الآخرة فقد ضمنت إصلاحها إرادة مولوية إلهية فحسب، وليس للمنتحل بالدين في دنياه من سعادة الحياة إلا ما استلذها بالعادة كمن اعتاد بالافيون والسم حتى عاد يلتذ بما يتألم به المزاج الطبيعي السالم، ويتألم بما يلتذ به غيره. فهذا من الجهل بالمعارف الدينية، والفرية على ساحة شارعة الطاهرة يدفعه الكلام الالهي فكم من آية تتبرأ من ذلك بتصريح أو تلويح أو بإشارة أو كناية وغير ذلك. وبالجملة الكتاب الالهي يتضمن مصالح العباد، وفيه ما يصلح المجتمع الانساني بإجرائه فيه بل الكتاب الالهي هو الكتاب الذي يشتمل على ذلك، والدين الالهي هو مجموع القوانين المصلحة، ومجموع القوانين المصلحة هو الدين فلا يدعو الدين الناس إلا إلى إصلاح أعمالهم وسائر شؤون مجتمعهم ويسمي ذلك إسلاما لله لان من جرى على مجرى الانسان الطبيعي الذي خطه له التكوين فقد أسلم للتكوين ووافقه بأعماله فيما يقتضيه وموافقته والسير على المسير الذي مهده وخطه إسلام لله سبحانه في ما يريده منه. وليس يدعو الدين إلى متابعة مواد قوانينة ومحتوياته ثم يدعي أن في ذلك

[ 301 ]

خيرهم وسعادتهم حتى يكون لشاك أن يشك فيه. والآية أعني قوله: " والذين يمسكون بالكتاب " الآية في نفسها عامة مستقلة لكنها بحسب دخولها في سياق الكلام في بني إسرائيل معتنية بشأنهم، والمراد بالكتاب بهذا النظر التوراة أو هي والانجيل. قوله تعالى: " وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة " الآية. النتق قلع الشئ من أصله، والظلة هي الغمامة، وما يستظل بها من نحو السقف، والباقي ظاهر. والآية تقص رفع الطور فوق رؤس بني إسرائيل، وقد تقدمت هذه القصة مكررة في سورتي البقرة والنساء. (بحث روائي) في تفسير القمي عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن ابن أبي عمير عن أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه السلام قال: وجدنا في كتاب علي عليه السلام أن قوما من أهل إيلة من قوم ثمود وإن الحيتان كانت سيقت إليهم يوم السبت ليختبر الله طاعتهم في ذلك فشرعت إليهم يوم سبتهم في ناديهم وقدام أبوابهم في أنهارهم وسواقيهم فبادروا إليها فأخذوا يصطادونها ويأكلونها فلبثوا في ذلك ما شاء الله لا ينهاهم الاحبار، ولا يمنعهم العلماء عن صيدها، ثم أن الشيطان أوحى إلى طائفة منهم انما نهيتم عن أكلها يوم السبت ولم تنهوا عن صيدها فاصطادوها يوم السبت وأكلوها في ما سوى ذلك من الايام. فقالت طائفة منهم: الآن نصطادها فعتت وانحازت طائفة اخرى منهم ذات اليمين فقالوا: ننهاكم عن عقوبة الله أن تتعرضوا لخلاف أمره، واعتزلت طائفة منهم ذات اليسار فسكتت ولم تعظهم، فقالت للطائفة التي وعظتهم: لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ؟ فقالت الطائفة التي وعظتهم: معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون، فقال الله عزوجل: فلما نسوا ما ذكروا به يعني لما تركوا ما وعظوا به مضوا على الخطيئة فقالت الطائفة التي وعظتهم: لا والله لا نجامعكم ولا نبايتكم الليلة في مدينتكم هذه التي عصيتم الله فيها مخافة أن ينزل عليكم البلاء فيعمنا معكم.

[ 302 ]

قال: فخرجوا عنهم من المدينة مخافة أن يصيبهم البلاء فنزلوا قريبا من المدينة فباتوا تحت السماء فلما أصبح أولياء الله المطيعون لامر الله غدوا لينظروا ما حال أهل المعصية فأتوا باب المدينة فإذا هو مصمت فدقوا فلم يجاوبوا ولم يسمعوا منها حس أحد فوضعوا فيها سلما على سور المدينة ثم أصعدوا رجلا منهم فأشرف على المدنية فنظر فإذا هو بالقوم قرد يتعاونون ولهم أذناب فكسروا الباب فعرفت الطائفة أنسابها من الانس، ولم يعرف الانس أنسابها من القردة فقال القوم للقردة: أ لم ننهكم ؟. فقال علي عليه السلام: والذي فلق الحبة وبرء النسمة إني لاعرف أنسابها من هذه الامة لا ينكرون ولا يغيرون بل تركوا ما أمروا به فتفرقوا، وقد قال الله: فبعدا للقوم الظالمين، فقال الله: " وأنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ". أقول: ورواه العياشي في تفسيره عن أبي عبيده عن أبي جعفر عليه السلام. وروى هذا المعنى في الدر المثور عن عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن عكرمة عن ابن عباس غير أن فيها أن المذكورين في الآية حي من اليهود من أهل إيلة وظاهره أنهم كانوا من بني إسرائيل ورواية أبي جعفر عليه السلام تصرح بأنهم كانوا من قوم ثمود، وليس من البعيد أن يكونوا قوما من عرب ثمود دخلوا في دين اليهود لقرب دارهم وجوارهم فإن إيلة كما يقال: كانت بلدة بين مصر والمدينة على شاطئ البحر. وربما قيل: إن القرية التي أشارت إليها الآية هي مدين، وقيل: هي طبرية، وقيل: هي قرية يقال لها: مقنا، بين مدين وعينونا. وفي رواية ابن عباس التي أشرنا إليها وغيرها مما روى عنه أيضا أنه كان يبكي ويقول: نجى الناهون، وهلك الفاعلون، ولا أدري ما فعل بالساكتين، وفي رواية عكرمة: قلت لابن عباس: أي جعلني الله فداك أ لا ترى أنهم كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم ؟ قال: فأمرني فكسيت ثوبين غليظين. يريد أنه استحسن قولي بنجاتهم لكراهتهم فعلهم واعتقادهم بأنهم معاقبون لا محالة فخلع علي بثوبين، وأخذ بقولي. وقد أخطأ عكرمة فإن القوم وإن كانوا كرهوا فعلهم ولم يشاركوهم في الصيد

[ 303 ]

المحرم لكنهم اقترفوا معصية هي أعظم من ذلك وهو ترك النهي عن المنكر، وقد نبههم الناهون بذلك إذ قالوا: معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون، وكلامهم يدل على أن المقام لم يكن مقام اليأس عن تأثير الموعظة حتى يسقط بذلك التكليف، ولما يئس منهم الناهون هجروهم وفارقوهم، ولم يهجرهم الآخرون ولم يفارقوهم على ما في الروايات. على أن الله تعالى قال: " أنجينا الذين ينهون عن السوء وأاخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون " فلم يذكر في جانب النجاة إلا الذين ينهون عن السوء وأخذ في جانب الاخذ الذين ظلموا دون الذين صادوا، ولا مانع من شمول " الذين ظلموا " لاولئك التاركين للنهي عن المنكر. وأما قوله: " فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة " فإن كان معناه عتوا عن ترك ما نهوا عنه كما تقدم عن المفسرين كان هذا العذاب بحسب دلالة هذه الآية مختصا بالصائدين لكنها لا تمنع عموم الآية السابقة للصائدين والساكتين جميعا لاشتراكهم في الظلم والفسق، وإن كان معنى الآية الاعراض عما نهوا عنه من غير تقدير الترك وما بمعناه اختصت الآية ببيان عذاب الساكتين وكان عذاب الصائدين مبينا في الآية السابقة: " فلما نسوا ما ذكروا به " الآية كما يومئ إليه بعض الروايات الآتية. وفي المجمع: أنه هلكت الفرقتان، ونجت الفرقة الناهية. روى ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. أقول: ولا ينافيه نص الآية على مسخ العاتين فإن الهلاك يعم مثل المسخ. على أن الاخبار متظافرة في أن الممسوخ لا يعيش بعد المسخ إلا أياما ثم يهلك. وفي الكافي عن سهل بن زياد عن عمرو بن عثمان عن عبد الله بن المغيرة عن طلحة بن يزيد عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: " فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء " قال: كانوا ثلاثة أصناف: صنف ائتمروا وأمروا ونجوا، وصنف ائتمروا ولم يأمروا فمسخوا، وصنف لم يأتمروا ولم يأمروا فهلكوا. أقول: والرواية - كما ترى - مبنية على كون قوله: " فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة " الآية ناظرا إلى عذاب الساكتين دون المرتكبين للصيد المحرم

[ 304 ]

ومعنى " عتوا عن ما نهوا " كفوا عن الصيد الذي نهوا عنه ولا حاجة حينئذ إلى تقدير الترك ونحوه في الكلام ويبقى لبيان عذاب الفرقة الاخرى قوله في الآية السابقة. ولا مانع من هذا المعنى إلا أن مقتضى المقام أن يذكر السبب لعذاب الساكتين كفهم عن موعظة الفاعلين لا عتوهم عما نهوا عنه مع ما في استعمال العتو في مورد الكف والاعراض من البعد، والرواية مع ذلك ضعيفة وقد رواها الصدوق بالسند بعينه عن طلحة عن أبي جعفر عليه السلام في الآية وفيها: قال: كانوا ثلاثة أصناف: صنف ائتمروا وأمروا، وصنف ائتمروا ولم يأمروا، وصنف لم يأتمروا ولم يأمروا فهلكوا، ورواها العياشي عن طلحة عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام في الآية قال: افترق القوم ثلاث فرق فرقة انتهت واعتزلت، وفرقة أقامت ولم يقارف الذنوب، وفرقة اقترفت الذنوب فلم ينج من العذاب إلا من انتهت قال جعفر: قلت لابي جعفر عليه السلام: ما صنع بالذين أقاموا ولم يقارفوا الذنوب ؟ قال أبو جعفر عليه السلام: بلغني أنهم صاروا ذرا، والظاهر أنها جميعا رواية واحدة على ما في سندها من الضعف، وفي متنها من التشويش والاختلاف. وفي الكافي بإسناده عن إسحاق بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " إن الله خص عباده بآيتين من كتابة: أن لا يقولوا حتى يعلموا، ولا يردوا ما لم يعلموا قال الله عزوجل: " أ لم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق " وقال: " بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ". أقول: ورواه العياشي عن إسحاق عنه عليه السلام، وروى مثله عن إسحاق بن عبد العزيز عن أبي الحسن الاول عليه السلام. وفي تفسير القمي في معنى قوله تعالى: " وإذ نتقنا الجبل " الآية قال الصادق عليه السلام: لما أنزل الله التوراة على بني إسرائيل لم يقبلوه فرفع الله عليهم جبل طور سيناء فقال لهم موسى: إن لم تقبلوا وقع عليكم الجبل فقبلوه وطأطئوا رؤسهم. وفي الاحتجاج عن أبي بصير قال: كان مولانا أبو جعفر محمد بن علي عليه السلام جالسا في الحرم وحوله جماعة من أوليائه إذ أقبل طاوس اليماني في جماعة من أصحابه. ثم قال لابي جعفر عليه السلام: أ تأذن لي في السؤال ؟ قال: أذنا لك فاسأل. فسإله عن سؤال

[ 305 ]

وأجابه وكان فيما سأله قال: فأخبرني عن طائر طار ولم يطر قبلها ولا بعدها ذكره الله عزوجل في القرآن، ما هو ؟ فقال: طور سيناء أطاره الله عزوجل على بني إسرائيل الذين إظلهم بجناح منه فيه ألوان العذاب حتى قبلوا التوراة، وذلك قوله عز وجل: " وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم " الآية. أقول: وقد روي ما في معنى الرواية الاولى من طرق أهل السنة عن ثابت بن الحجاج قال: جاءتهم التوراة جملة واحدة فكبر عليهم فأبوا أن يأخذوه حتى ظلل الله عليهم الجبل فأخذوه عند ذلك. والرواية الثانية من طرقهم عن ابن عباس في مسائل كتبها هرقل ملك الروم إلى معاوية يساله عنها فقيل له: لست هناك وإنك متى تخطئ شيئا في كتابك إليه يغتمزه فيك فاكتب إلى ابن عباس فكتب إليه بها فأرسل ذلك إلى قيصر فقال قيصر: ما يعلم هذا إلا نبي أو أهل بيت نبي. وأعلم أن في الآية بعض روايات أخر تقدمت في نظيرة الآية من سورة البقرة فراجعها إن شئت. * * * وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين - 172. أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذريه من بعدهم أ فتهلكنا بما فعل المبطلون - 173. وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون - 174.

[ 306 ]

(بيان) الآيات تذكر الميثاق من بني آدم على الربوبية وهي من أدق الآيات القرآنية معنى، وأعجبها نظما. قوله تعالى: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى شهدنا " أخذ الشئ من الشئ يوجب انفصال المأخوذ من المأخوذ منه واستقلاله دونه بنحو من الانحاء، وهو يختلف باختلاف العنايات المتعلقه بها والاعتبارات المأخوذة فيها كأخذ اللقمة من الطعام وأخذ الجرعة من ماء القدح وهو نوع من الاخذ، وأخذ المال والاثاث من زيد الغاصب أو الجواد أو البائع أو المعير وهو نوع آخر، أو أنواع مختلفة أخرى، وكأخذ العلم من العالم وأخذ الاهبة من المجلس وأخذ الحظ من لقاء الصديق وهو نوع وأخذ الولد من والده للتربية وهو نوع إلى غير ذلك. فمجرد ذكر الاخذ من الشئ لا يوضح نوعه إلا ببيان زائد، ولذلك أضاف الله سبحانه إلى قوله: " وإذ أخذ ربك من بني آدم " الدال على تفريقهم وتفصيل بعضهم من بعض، قوله: " من ظهورهم " ليدل على نوع الفصل والاخذ، وهو أخذ بعض المادة منها بحيث لا تنقص المادة المأخوذ منها بحسب صورتها ولا تنقلب عن تمامها واستقلالها ثم تكميل الجزء المأخوذ شيئا تاما مستقلا من نوع المأخوذ منه فيؤخذ الولد من ظهر من يلده ويولده، وقد كان جزء ثم يجعل بعد الاخذ والفصل إنسانا تاما مستقلا من والديه بعد ما كان جزء منهما. ثم يؤخذ من ظهر هذا المأخوذ مأخوذ آخر وعلى هذه الوتيرة حتى يتم الاخذ وينفصل كل جزء عما كان جزء منه، ويتفرق الاناسي وينتشر الافراد وقد استقل كل منهم عمن سواه ويكون لكل واحد منهم نفس مستقله لها ما لها وعليها ما عليها، فهذا مفاد قوله: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم " ولو قال: أخذ ربك من بني آدم ذريتهم أو نشرهم ونحو ذلك بقي المعنى على إبهامه. وقوله: " وأشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم " ينبئ عن فعل آخر إلهى تعلق

[ 307 ]

بهم بعد ما أخذ بعضهم من بعض وفصل بين كل واحد منهم وغيره وهو إشهادهم على أنفسهم، والاشهاد على الشئ هو إحضار الشاهد عنده وإراءته حقيقته ليتحمله علما تحملا شهوديا فإشهادهم على أنفسهم هو إراءتهم حقيقة أنفسهم ليتحملوا ما اريد تحملهم من أمرها ثم يؤدوا ما تحملوه إذا سئلوا. وللنفس في كل ذي نفس جهات من التعلق والارتباط بغيرها يمكن أن يستشهد الانسان على بعضها دون بعض غير أن قوله: " أ لست بربكم " يوضح ما أشهدوا لاجله واريد شهادتهم عليه، وهو أن يشهدوا ربوبيته سبحانه لهم فيؤدوها عند المسألة. فالانسان وإن بلغ من الكبر والخيلاء ما بلغ، وغرته مساعدة الاسباب ما غرته واستهوته لا يسعه إن ينكر أنه لا يملك وجود نفسه ولا يستقل بتدبير أمره، ولو ملك نفسه لوقاها مما يكرهه من الموت وسائر آلام الحياة ومصائبها، ولو استقل بتدبير أمره لم يفتقر إلى الخضوع قبال الاسباب الكونية، والوسائل التي يرى لنفسه أنه يسودها ويحكم فيها ثم هي كالانسان في الحاجة إلى ما وراءها، والانقياد إلى حاكم غائب عنها يحكم فيها لها أو عليها، وليس إلى الانسان أن يسد خلتها ويرفع حاجتها. فالحاجة إلى رب مالك مدبر حقيقة الانسان، والفقر مكتوب على نفسه، والضعف مطبوع على ناصيته، لا يخفى ذلك على إنسان له أدنى الشعور الانساني، والعالم والجاهل والصغير والكبير والشريف والوضيع في ذلك سواء. فالانسان في أي منزل من منازل الانسانية نزل يشاهد من نفسه أن له ربا يملكه ويدبر أمره، وكيف لا يشاهد ربه وهو يشاهد حاجته الذاتية ؟ وكيف يتصور وقوع الشعور بالحاجة من غير شعور بالذي يحتاج إليه ؟ فقوله: " أ لست بربكم " بيان ما أشهد عليه، وقوله: " قالوا بلى شهدنا " اعتراف منهم بوقوع الشهادة وما شهدوه، ولذا قيل: إن الآية تشير إلى ما يشاهده الانسان في حياته الدنيا أنه محتاج في جميع جهات حياته من وجوده وما يتعلق به وجوده من اللوازم والاحكام، ومعنى الآية أنا خلقنا بني آدم في الارض وفرقناهم وميزنا بعضهم من بعض بالتناسل والتوالد، وأوفقناهم على احتياجهم ومربوبيتهم لنا فاعترفوا بذلك قائلين: بلى شهدنا أنك ربنا.

[ 308 ]

وعلى هذا يكون قولهم: " بلى شهدنا " من قبيل القول بلسان الحال أو إسناد اللازم القول إلى القائل بالملزوم حيث اعترفوا بحاجاتهم ولزمه الاعتراف بمن يحتاجون إليه، والفرق بين لسان الحال، والقول بلازم القول: أن الاول انكشاف المعنى عن الشئ لدلالة صفة من صفاته وحال من أحواله عليه سواء شعر به أم لا كما تفصح آثار الديار الخربة عن حال ساكنيها، وكيف لعب الدهر بهم ؟ وعدت عادية الايام عليهم ؟ فأسكنت أجراسهم وأخمدت أنفاسهم، وكما يتكلم سيماء البائس المسكين عن فقره ومسكنته وسوء حاله. والثاني انكشاف المعنى عن القائل لقوله بما يستلزمه أو تكلمه بما يدل عليه بالالتزام. فعلى إحد هذين النوعين من القول أعني القول بلسان الحال والقول بالاستلزام يحمل اعترافهم المحكي بقوله تعالى: " قالوا بلى شهدنا " والاول أقرب وأنسب فإنه لا يكتفي في مقام الشهادة إلا بالصريح منها المدلول عليه بالمطابقة دون الالتزام. ومن المعلوم أن هذه الشهادة على أي نحو تحققت فهي من سنخ الاستشهاد المذكور في قوله: " أ لست بربكم " فالظاهر أنه قد استوفى الجواب بعين اللسان الذي سألهم به، ولذلك كان هناك نحو ثالث يمكن أن يحمل عليه هذه المسألة والمجاوبة فإن الكلام الالهي يكشف به عن المقاصد الالهية بالفعل، والايجاد كلام حقيقي - وإن كان بنحو التحليل - كما تقدم مرارا في مباحثنا السابقة فليكن هنا قوله: " أ لست بربكم " وقولهم: " بلى شهدنا من ذاك القبيل، وسيجئ للكلام تتمه. وكيف كان فقوله: " وإذ أخذ ربك من بني آدم " الآية يدل على تفصيل بني آدم بعضهم من بعض، وإشهاد كل واحد منهم على نفسه، وأخذ الاعتراف على الربوبية منه، ويدل ذيل الآية وما يتلوه أعني قوله: " أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أ فتهلكنا بما فعل المبطلون " على الغرض من هذا الاخذ والاشهاد. وهو على ما يفيده السياق إبطال حجتين للعباد على الله وبيان أنه لو لا هذا الاخذ والاشهاد وأخذ الميثاق على انحصار الربوبية كان للعباد أن يتمسكوا يوم القيامة

[ 309 ]

بإحدى حجتين يدفعون بها تمام الحجة عليهم في شركهم بالله والقضاء بالنار، على ذلك من الله سبحانه. والتدبر في الآيتين وقد عطفت إحدى الحجتين على الاخرى بأو الترديدية، وبنيت الحجتان جميعا على العلم اللازم للاشهاد، ونقلتا جميعا عن بني آدم المأخوذين المفرقين يعطي أن الحجتين كل واحدة منهما مبنية على تقدير من تقديري عدم الاشهاد كذلك. والمراد أنا أخذنا ذريتهم من ظهورهم وأشهدناهم على أنفسهم فاعترفوا بربوبيتنا فتمت لنا الحجة عليهم يوم القيامة، ولو لم نفعل هذا ولم نشهد كل فرد منهم على نفسه بعد أخذه فإن كنا أهملنا الاشهاد من رأس فلم يشهد أحد نفسه وأن الله ربه، ولم يعلم به لاقاموا جميعا الحجة علينا يوم القيامة بأنهم كانوا غافلين في الدنيا عن ربوبيتنا، ولا تكليف على غافل ولا مؤاخذة، وهو قوله تعالى: " أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ". وإن كنا لم نهمل إمر الاشهاد من رأس، وأشهدنا بعضهم على أنفسهم دون بعض بإن أشهدنا الآباء على هذا الامر الهام العظيم دون ذرياتهم ثم أشرك الجميع كان شرك الآباء شركا عن علم بأن الله هو الرب لا رب غيره فكانت معصية منهم، وأما الذرية فإنما كان شركهم بمجرد التقليد فيما لا سبيل لهم إلى العلم به لا إجمالا ولا تفصيلا، ومتابعة عملية محضة لآبائهم فكان آباؤهم هم المشركون بالله العاصون في شركهم لعلمهم بحقيقة الامر، وقد قادوا ذريتهم الضعاف في سبيل شركهم بتربيتهم عليه وتلقينهم ذلك، ولا سبيل لهم إلى العلم بحقيقة الامر وإدراك ضلال آبائهم وإضلالهم إياهم، فكانت الحجة لهؤلاء الذرية على الله يوم القيامة لان الذين أشركوا وعصوا بذلك وأبطلوا الحق هم الآباء فهم المستحقين للمؤاخذة، والفعل فعلهم، وأما الذرية فلم يعرفوا حقا حتى يؤمروا به فيعصوا بمخالفته فهم لم يعصوا شيئا ولم يبطلوا حقا، وحينئذ لم تتم حجة على الذريه فلم تتم الحجة على جميع بني آدم، وهذا معنى قوله تعالى: " أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أ فتهلكنا بما فعل المبطلون ". فان قلت: هنا بعض تقادير أخر لا يفي به البيان السابق كما لو فرض إشهاد الذرية على أنفسهم دون الآباء مثلا أو إشهاد بعض الذرية مثلا كما أن تكامل النوع

[ 310 ]

الانساني في العلم والحضارة على هذه الوتيرة يرث كل جيل ما تركه الجيل السابق ويزيد عليه بأشياء فيحصل للاحق ما لم يحصل للسابق. قلت: على أحد التقديرين المذكورين تتم الحجة على الذرية أو على بعضهم الذين أشهدوا. وأما الآباء الذين لم يشهدوا فليس عندهم إلا الغفلة المحضة عن أمر الربوبية فلا يستقلون بشرك إذ لم يشهدوا، ولا يسع لهم التقليد إذ لم يسبق عليهم فيه سابق كما في صورة العكس فيدخلون تحت المحتجين بالحجة الاولى: " إن كنا عن هذا غافلين ". وأما حديث تكامل الانسان في العلم والحضارة تدريجا فإنما هو في العلوم النظرية الاكتسابية التي هي نتائج وفروع تحصل للانسان شيئا فشيئا، وأما شهود الانسان نفسه وأنه محتاج إلى رب يربه فهو من مواد العلم التي إنما تحصل قبل النتائج، وهو من العلوم الفطرية التي تنطبع في النفس إنطباعا أوليا ثم يتفرع عليها الفروع، وما هذا شأنه لا يتأخر عن غيره حصولا، وكيف لا ونوع الانسان إنما يتدرج إلى معارفه وعلومه عن الحس الباطني بالحاجة كما قرر في محله. فالمتحصل من الآيتين أن الله سبحانه فصل بين بني آدم بأخذ بعضهم من بعض ثم أشهدهم جميعا على أنفسهم وأخذ منهم الميثاق بربوبيته فهم ليسوا بغافلين عن هذا المشهد وما أخذ منهم الميثاق حتى يحتج كلهم بأنهم كانوا غافلين عن ذلك لعدم معرفتهم بالربوبية أو يحتج بعضهم بأنه إنما أشرك وعصى آباؤهم وهم برآء. ولذلك ذكر عدة من المفسرين أن المراد بهذا الظرف المشار إليه بقوله: " وإذ أخذ ربك " هو الدنيا، والآيتان تشيران إلى سنة الخلقة الالهية الجارية على الانسان في الدنيا فإن الله سبحانه يخرج الذرية الانسانية من أصلاب آبائهم إلى أرحام إمهاتهم ومنها إلى الدنيا، ويشهدهم في خلال حياتهم على أنفسهم، ويريهم آثار صنعه وآيات وحدانيته، ووجوه احتياجاتهم المستغرقة لهم من كل جهة الدالة على وجوده ووحدانيته فكأنه يقول لهم عند ذلك: أ لست بربكم، وهم يجيبونه بلسان حالهم: بلى شهدنا بذلك وأنت ربنا لا رب غيرك، وإنما فعل الله سبحانه ذلك لئلا يحتجوا على الله يوم القيامة بأنهم كانوا غافلين عن المعرفة، أو يحتج الذرية بأن آباءهم هم الذين أشركوا،

[ 311 ]

وأما الذرية فلم يكونوا عارفين بها وإنما هم ذريه من بعدهم نشؤوا على شركهم من غير ذنب. وقد طرح القوم عدة من الروايات تدل على أن الآيتين تدلان على عالم الذر، وأن الله أخرج ذرية آدم من ظهره فخرجوا كالذر فأشهدهم على أنفسهم وعرفهم نفسه، وأخذ منهم الميثاق على ربوبيته فتمت بذلك الحجة عليهم يوم القيامة. وقد ذكروا وجوها في إبطال دلالة الآيتين عليه وطرح الروايات بمخالفتها لظاهر الكتاب. 1 - أنه لا يخلو أما أن جعل الله هذه الذرية المستخرجة من صلب آدم عقلاء أو لم يجعلهم كذلك فإن لم يجعلهم عقلاء فلا يصح أن يعرفوا التوحيد، وأن يفهموا خطاب الله تعالى، وإن جعلهم عقلاء وأخذ منهم الميثاق وبنى صحة التكليف على ذلك وجب أن يذكروا ذلك ولا ينسوه لان أخذ الميثاق إنما تتم الحجة به على المأخوذ منه إذا كان على ذكر منه من غير نسيان كما ينص عليه قوله تعالى: " أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " ونحن لا نذكر وراء ما نحن عليه من الخلقة الدنيوية الحاضرة شيئا فليس المراد بالآية إلا موقف الانسان في الدنيا، وما يشاهده فيه من حاجته إلى رب يملكه ويدبر أمره، وهو رب كل شئ. 2 - أنه لا يجوز أن ينسي الجمع الكثير والجم الغفير من العقلاء أمرا قد كانوا عرفوه وميزوه حتى لا يذكره ولا واحد منهم، وليس العهد به بأطول من عهد أهل الجنة بحوادث مضت عليهم في الدنيا وهم يذكرون ما وقع عليهم في الدنيا كما يحكيه تعالى في مواضع من كلامه كقوله: " قال قائل منهم إني كان لي قرين " إلى آخر الآيات الصافات: 51 وقد حكى نظير ذلك من أهل النار كقوله: " وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الاشرار " ص: 62 إلى غير ذلك من الآيات. ولو جاز النسيان على هؤلاء الجماعة مع هذه الكثرة لجاز أن يكون الله سبحانه قد كلف خلقه فيما مضى من الزمن ثم أعادهم ليثيبهم أو ليعاقبهم جزاء لاعمالهم في الخلق الاول وقد نسوا ذلك، ولازم ذلك صحة قول التناسخية أن المعاد إنما هو خروج النفس عن بدنها ثم دخولها في بدن آخر لتجد في الثاني جزاء الاعمال التي عملتها في الاول.

[ 312 ]

3 - ما أورد على الاخبار الناطقة بأن الله سبحانه أخذ من صلب آدم ذريته وأخذ منهم الميثاق، بأن الله سبحانه قال: " أخذ ربك من بني آدم " ولم يقل من آدم وقال: " من ظهورهم " ولم يقل من ظهره، وقال: " ذريتهم " ولم يقل: ذريته ثم أخبر بأنه إنما فعل بهم ذلك لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو يقولوا " إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم " الآية، وهذا يقتضي أن يكون لهم آباء مشركون فلا يتناول ظاهر الآية أولاد آدم لصلبه. ومن هنا قال بعضهم: إن الآيه خاصة ببعض بني آدم غير عامة لجميعهم فإنها لا تشمل آدم وولده لصلبه، وجميع المؤمنين ومن المشركين من ليس له آباء مشركون بل تختص بالمشركين الذين لهم سلف مشرك. 4 - أن تفسير الآية بعالم الذر ينافي قولهم - كما في الآية - " إنما أشرك آباؤنا " لدلالته على وجود آباء لهم مشركين، وهو ينافى وجود الجميع هناك بوجود واحد جمعي. 5 - ما ذكره بعضهم أن الروايات مقبولة مسلمة غير أنها ليست بتأويل للآية، والذي تقصه من حديث عالم الذر إنما هو أمر فعله الله سبحانه ببني آدم قبل وجودهم في هذه النشأة ليجروا بذلك على الاعراق الكريمة في معرفة ربوبيته كما روي: أنهم ولدوا على الفطرة، وكما قيل أن نعيم الاطفال في الجنة ثواب إيمانهم بالله في عالم الذر. وأما الآية فليست تشير إلى ما تشير إليه الروايات فإن الآية تذكر أنه إنما فعل بهم ذلك لتنقطع به حجتهم يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، ولو كان المراد به ما فعل بهم في عالم الذر لكان لهم أن يحتجوا على الله فيقولوا: ربنا إنك أشهدتنا على أنفسنا يوم أخرجتنا من صلب آدم فكنا على يقين بأنك ربنا كما أنا اليوم وهو يوم القيامة - على يقين من ذلك لكنك أنسيتنا موقف الاشهاد في الدنيا التي هي موطن التكليف والعمل، ووكلتنا إلى عقولنا فعرف ربوبيتك من عرفها بعقله، وأنكرها من أنكرها بعقله كل ذلك بالاستدلال فما ذنبنا في ذلك وقد نزعت منا عين المشاهدة، وجهزتنا بجهاز شأنه الاستدلال وهو يخطئ ويصيب. 6 - أن الآية لا صراحة لها فيما تدل عليه الروايات لامكان حملها على التمثيل، وأما الروايات فهي أما مرفوعة أو موقوفة ولا حجية فيها.

[ 313 ]

هذه جمل ما أوردوه على دلالة الآية وحجية الروايات، وقد زيفها المثبتون لنشأة الذر وهم عامة أهل الحديث وجمع من غيرهم من المفسرين بأجوبة. فالجواب عن الاول: أن نسيان الموقف وخصوصياته لا يضر بتمام الحجة وإنما المضر نسيان أصل الميثاق وزوال معرفة وحدانية الرب تعالى: وهو غير منسي ولا زائل عن النفس وذلك يكفي في تمام الحجة أ لا ترى أنك إذا أردت أن تأخذ ميثاقا من زيد فدعوته إليك وأدخلته بيتك، وأجلسته مجلس الكرامة ثم بشرته وانذرته ما استطعت، ولم تزل به حتى أرضيته فأعطاك العهد وأخذت منه الميثاق فهو مأخوذ بميثاقه ما دام ذاكرا لاصله وإن نسي حضوره عندك ودخوله بيتك وجميع ما جرى بينك وبينه وقت أخذ الميثاق غير أصل العهد. والجواب عن الثاني: أن الامتناع من تجويز نسيان الجمع الكثير لذلك مجرد استبعاد من غير دليل على الامتناع مضافا إلى أن أصل المعرفة بالربوبية مذكور غير منسي كما ذكرنا وهو يكفي في تمام الحجة، وأما حديث التناسخية فليس الدليل على امتناع التناسخ منحصرا في استحالة نسيان الجماعة الكثيرة ما مضى عليهم في الخلق الاول حتى لو لم يستحل ذلك صح القول بالتناسخ بل لابطال القول به دليل آخر كما يعلم بالرجوع إلى محله، وبالجملة لا دليل على استحالة نسيان بعض العوالم في بعض آخر. والجواب عن الثالث: أن الآية غير ساكته عن إخراج ولد آدم لصلبه من صلبه فإن قوله تعالى: " وإذ أخذ ربك من بني آدم " كاف وحده في الدلالة عليه فإن فرض بني آدم فرض إخراجهم من صلب آدم من غير حاجة إلى مؤونة زائدة، ثم إخراج ذريتهم من ظهورهم بإخراج أولاد الاولاد من صلب الاولاد، وهكذا، ويتحصل منه أن الله أخرج أولاد آدم لصلبه من صلبه ثم أولادهم من أصلابهم ثم أولاد أولادهم من أصلاب أولادهم حتى ينتهي إلى آخرهم نظير ما يجري عليه الامر في هذه النشأة الدنيوية التي هي نشأة التوالد والتناسل. وقد أجاب الرازي عنه في تفسيره بإن الدلالة على إخراج أولاده لصلبه من صلبه من ناحية الخبر كما أن الدلالة على إخراج أولاد أولاده من أصلاب آبائهم من ناحية الآية فبمجموع الآية والخبر تتم الدلالة على المجموع. وهو كما ترى.

[ 314 ]

وأما الاخبار المشتملة على ذكر إخراج ذرية آدم من صلبه، وأخذ الميثاق منهم فهي في مقام شرح القصة لا في مقام تفسير ألفاظ الآية حتى يورد عليها بعدم موافقة الكتاب أو مخالفته. وأ ما عدم شمول الآية لاولاد آدم من صلبه لعدم وجود آباء مشركين لهم وكذا بعض من عداهم فلا يضر شيئا لان مراد الآية أن الله سبحانه إنما فعل ذلك لئلا يقول المشركون يوم القيامة: إنما أشرك آباؤنا لا أن يقول كل واحد واحد منهم: إنما أشرك آبائي فهذا مما لم يتعلق به الغرض البتة فالقول قول المجموع من حيث المجموع لا قول كل واحد فيؤول المعنى إلى أنا لو لم نفعل ذلك لكان كل من أردنا إهلاكه يوم القيامة يقول: لم أشرك أنا وإنما أشرك من كان قبلي ولم أكن إلا ذرية وتابعا لا متبوعا. والجواب عن الرابع: يظهر من الجواب عن سابقه وقد دلت الآية والرواية على أن الله فصل هناك بين الآباء والابناء ثم ردهم إلى حال الجمع. والجواب عن الخامس: أنه خلاف ظاهر بعض الروايات وخلاف صريح بعض آخر منها، وما في ذيله من عدم تمام الحجة من جهة عروض النسيان ظهر الجواب عنه من الجواب عن الاشكال الاول. والجواب عن السادس: أن استقرار الظهور في الكلام كاف في حجيته، ولا يتوقف ذلك على صفة الصراحة، وإمكان الحمل على التمثيل لا يوجب الحمل عليه ما لم يتحقق هناك مانع عن حمله على ظاهره، وقد تبين أن لا مانع من ذلك. وأما أن الروايات ضعيفة لا معول عليها فليس كذلك فإن فيها ما هو الصحيح وفيها ما يوثق بصدوره كما سيجئ إن شاء الله تعالى في البحت الروائي التالي. هذا ملخص ما جرى بينهم من البحث في ما استفيد من الآية من حديث عالم الذر إثباتا ونفيا، واعتراضا وجوابا، واستيفاء التدبر في الآية والروايات، والتأمل فيما يرومه المثبتون بإثباتهم ويدفعه المنكرون بإنكارهم يوجب توجيه البحث إلى جهة أخرى غير ما تشاجر فيه الفريقان بإثباتهم ونفيهم. فالذي فهمه المثبتون من الرواية ثم حملوه على الآية وانتهضوا لاثباته محصله: أن الله سبحانه بعد ما خلق آدم إنسانا تاما سويا أخرج نطفه التي تكونت في صلبه -

[ 315 ]

ثم صارت هي بعينها أولاده الصلبيين - إلى الخارج من صلبه ثم أخرج من هذه النطف نطفها التي ستتكون أولادا له صلبيين ففصل بين أجزائها والاجزاء الاصلية التي اشتقت منها ثم من أجزاء هذه النطف أجزاء أخرى هي نطفها، ثم من أجزاء الاجزاء أجزاءها ولم يزل حتى أتى آخر جزء مشتق من الاجزاء المتعاقبة في التجزي، وبعبارة أخرى أخرج نطفة آدم التي هي مادة البشر ووزعها بفصل بعض أجزائه من بعض إلى ما لا يحصى من عدد بني آدم بحذاء كل فرد ما هو نصيبه من أجزاء نطفة آدم، وهي ذرات منبثة غير محصورة. ثم جعل الله سبحانه هذه الذرات المنبثة عند ذلك - أو كان قد جعلها قبل ذلك كل ذرة منها إنسانا تاما في إنسانيته، هو بعينه الانسان الدنيوي الذي هو جزء المقدم له فالجزء الذي لزيد هناك هو زيد هذا بعينه، والذي لعمرو هو عمرو هذا بعينه فجعلهم ذوي حياة وعقل وجعل لهم ما يسمعون به وما يتكلمون به، وما يضمرون به معاني فيظهرونها أو يكتمونها وعند ذلك عرفهم نفسه فخاطبهم فأجابوه، وأعطوه الاقرار بالربوبية إما بموافقة ما في ضميرهم لما في لسانهم أو بمخالفته ذلك. ثم إن الله سبحانه ردهم بعد أخذ الميثاق إلى مواطنهم من الاصلاب حتى اجتمعوا في صلب آدم وهي على حياتها ومعرفتها بالربوبية وإن نسوا ما وراء ذلك مما شاهدوه عند الاشهاد وأخذ الميثاق، وهم بأعيانهم موجودون في الاصلاب حتى يؤذن لهم في الخروج إلى الدنيا فيخرجون وعندهم ما حصلوه في الخلق الاول من معرفة الربوبية، وهي حكمهم بوجود رب لهم من مشاهدة أنفسهم محتاجة إلى من يملكهم ويدبر أمرهم. هذا ما يفهمه القوم من الخبر والآية ويرومون إثباته، وهو مما يدفعه الضرورة، وينفيه القرآن والحديث بلا ريب، وكيف الطريق إلى إثبات أن ذرة من ذرات بدن زيد - وهو الجزء الذري الذي انتقل من صلب آدم من طريق نطفته إلى ابنه ثم إلى ابن ابنه حتى انتهى إلى زيد - هو زيد بعينه، وله إدراك زيد وعقله وضميره وسمعه وبصره، وهو الذي يتوجه إليه التكليف، وتتم له الحجة، ويحمل عليه العهود والمواثيق، ويقع عليه الثواب والعقاب ؟ وقد صح بالحجة القاطعة من طريق العقل

[ 316 ]

والنقل أن إنسانية الانسان بنفسه التي هي أمر وراء المادة حادث بحدوث هذا البدن الدنيوي، وقد تقدم شطر من البحث فيها. على أنه قد ثبت بالبحث القطعي أن هذه العلوم التصديقية البديهية والنظرية منها التصديق بأن له ربا يملكه ويدبر أمره تحصل للانسان بعد حصول والتطورات والجميع تنتهي إلى الاحساسات الظاهرة والباطنة، وهي تتوقف على وجود التركيب الدنيوي المادي فهو حال العلوم الحصولية التي منها التصديق بأن له ربا هو القائم برفع حاجته. على أن هذه الحجة إن كانت متوقفة في تمامها على العقل والمعرفة معا فالعقل مسلوب عن الذرة حين أرجعت إلى موطنه الصلبي حتى تظهر ثانيا في الدنيا، وإن قيل أنه لم يسلب عنها ما تجري في الاصلاب والارحام فهو مسلوب عن الانسان ما بين ولادته وبلوغه أعني أيام الطفولية. ويختل بذلك أمر الحجة على الانسان، وإن كانت غير متوقفة عليه بل يكفي في تمامها مجرد حصول المعرفة فأي حاجة إلى الاشهاد وأخذ الميثاق وظاهر الآية أن الاشهاد وأخذ الميثاق إنما هما لاجل إتمام الحجة فلا محالة يرجع معنى الآية إلى حصول المعرفة فيؤول المعنى إلى ما فسرها به المنكرون. وبتقرير آخر: إن كانت الحجة إنما تتم بمجموع الاشهاد والتعريف وأخذ الميثاق سقطت بنسيان البعض، وقد نسي الاشهاد والتكليم وأخذ الميثاق، وإن كان الاشهاد وأخذ الميثاق جميعا مقدمة لثبوت المعرفة ثم زالت المقدمة ولزمت المعرفة، وبها تمام الحجة تمت الحجة على كل إنسان حتى الجنين والطفل والمعتوه والجاهل، ولا يساعد عليه عقل ولا نقل، وإن كانت المعرفة في تمام الحجة بها متوقفة على حصول العقل والبلوغ ونحو ذلك، وقد كانت حصلت في عالم الذر فتمت الحجة ثم زالت وبقيت المعرفة حجة ناقصة ثم كملت ثانيا لبعضهم في الدنيا فتمت الحجة ثانيا بالنسبه إليهم فكما أن لحصول العقل في الدنيا أسبابا تكوينية يحصل بها وهي الحوادث المتكررة من الخير والشر وحصول الملكة المميزة بينهما من التجارب حصولا تدريجيا ينتهي من جانب إلى حد من الكمال، ومن جانب إلى حد من الضعف لا يعبأ به، كذلك المعرفة لها أسباب إعدادية تهيأ الانسان إلى التلبس بها، وليست تحصل قبل ذلك، وإذا كانت

[ 317 ]

تحصل في ظرفنا هذا بأسبابها المعدة لها كالعقل فأي حاجة إلى تكوينه تكوينا آخر في سالف من الزمان لاتمام الحجة والحجة تامة دونه ؟ وما ذا يغني ذلك. على أن هذا العقل الذي لا تتم حجة ولا ينفع إشهاد ولا يصح أخذ ميثاق بدونه حتى في عالم الذر المفروض هو العقل العملي الذي لا يحصل للانسان إلا في هذا الظرف الذي يعيش فيه عيشة اجتماعية فتتكرر عليه حوادث الخير والشر، وتهيج عواطفه وإحساساته الباطنية نحو جلب النفع ودفع الضرر فتتعاقب عليه الاعمال عن علم وإرادة فيخطئ ويصيب حتى يتدرب في تمييز الصواب من الخطأ، والخير من الشر، والنفع من الضر والظرف الذي يثبتونه أعني ما يصفونه من عالم الذر ليس بموطن العقل العملي إذ ليس فيه شرائط حصوله وأسبابه. ولو فرضوه موطنا له وفيه أسبابه وشرائطه كما يظهر مما يصفونه تعويلا على ما في ظواهر الروايات أن الله دعاهم هناك إلى التوحيد فأجابه بعضهم بلسان يوافقه قلبه، وأجابه آخرون وقد أضمروا الكفر وبعث إليهم الانبياء والاوصياء فصدقهم بعض وكذبهم آخرون ولا يجري ما ههنا إلا على ما جرى به ما هنالك إلى غير ذلك مما ذكروه كان ذلك إثباتا لنشأة طبيعية قبل هذه النشأة الطبيعية في الدنيا نظير ما يثبته القائلون بالادوار والاكوار (1) واحتاج إلى تقديم كينونة ذرية أخرى تتم بها الحجة على من هنالك من الانسان لان عالم الذر على هذه الصفة لا يفارق هذا العالم الحيوي الذي نحن فيه الآن فلو احتاج هذا الكون الدنيوي إلى تقديم إشهاد وتعريف حتى يحصل المعرفة وتتم الحجة لاحتاج إليه الكون الذري من غير فرق فارق البتة. على أن الانسان لو احتاج في تحقق المعرفة في هذه النشأة الدنيوية إلى تقدم وجود ذري يقع فيه الاشهاد ويوجد فيه الميثاق حتى تثبت بذلك المعرفة بالربوبية لم يكن في ذلك فرق بين إنسان وإنسان فما بال آدم وحواء استثنيا من هذه الكلية ؟ فإن لم يحتاجا إلى ذلك لفضل فيهما أو لكرامة لهما ففي ذريتهما من هو أفضل منهما وأكرم ! وإن كان لتمام خلقتهما يومئذ فأثبتت فيهما المعرفة من غير حاجة إلى إحضار الوجود الذري


(1) وهو أن الحوادث معلولة للحركات الفلكية ففي كل دور نام لحركة فلك الثوابت وهو ثلاثمأة وستون ألف سنة تعود الحوادث كعين ما كانت في الدورة السابقة من غير فرق. (*)

[ 318 ]

فلكل من ذريتهما أيضا خلقة تامة في ظرفه الخاص به فلم لم يؤخر إثبات المعرفة فيهم ولهم إلى تمام خلقتهم بالولادة حتى تتم عند ذلك الحجة وإي حاجة إلى التقديم ؟. فهذه جهات من الاشكال في تحقق الوجود الذري للانسان على ما فهموه من الروايات لا طريق إلى حلها بالابحاث العلمية، ولا حمل الآية عليه معها حتى بناء على عادة القوم في تحميل المعنى على الآية إذا دلت عليه الرواية وإن لم يساعد عليه لفظ الآية لان الرواية القطعية الصدور كالآية مصونة عن أن تنطق بالمحال، وأما الحشوية وبعض المحدثين ممن يبطل حجة العقل الضرورية قبال الرواية، ويتمسك بالآحاد في المعارف اليقينية فلا بحث لنا معهم هذا ما على المثبتين. بقي الكلام فيما ذكره النافون أن الآية تشير إلى ما عليه حال الانسان في هذه الحياة الدنيا، وهو أن الله سبحانه أخرج كلا من آحاد الانسان من الاصلاب والارحام إلى مرحلة الانفصال والتفرق، وركب فيهم ما يعرفون به ربوبيته واحتياجهم إليه كأنه قال لهم إذا وجه وجوههم نحو أنفسهم المستغرقة في الحاجة: أ لست بربكم ؟ وكأنهم لما سمعوا هذا الخطاب من لسان الحال قالوا: بلى أنت ربنا شهدنا بذلك، وإنما فعل الله ذلك لتتم عليهم حجته بالمعرفة وتنقطع حجتهم عليه بعدم المعرفة، وهذا ميثاق مأخوذ منهم طول الدنيا جار ما جرى الدهر والانسان يجري معه. والآية بسياقها لا تساعد عليه فإنه تعالى افتتح الآية بقوله: " وإذ أخذ ربك " الآية، فعبر عن ظرف هذه القضية بإذ وهو يدل على الزمن الماضي أو على أي ظرف محقق الوقوع نحوه كما في قوله: " وإذ قال الله يا عيسى بن مريم ء أنت قلت للناس - إلى أن قال - قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم " المائدة: 119 فعبر بإذن عن ظرف مستقبل لتحقق وقوعه. وقوله: " وإذ أخذ ربك " خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو له ولغيره كما يدل عليه قوله: " أن تقولوا يوم القيامة " الآية، إن كان الخطاب متوجها إلينا معاشر السامعين للآيات المخاطبين بها والخطاب خطاب دنيوي لنا معاشر أهل الدنيا، والظرف الذي يتكي عليه هو زمن حياتنا في الدنيا أو زمن حياة النوع الانساني فيها وعمره الذي هو طول اقامته في الارض، والقصة التي يذكرها في الآية ظرفها عين ظرف وجود

[ 319 ]

النوع في الدنيا فلا مصحح للتعبير عن ظرفها بلفظة " إذ " الدالة على تقدم ظرف القصة على ظرف الخطاب، ولا عناية أخرى في المقام تصحح هذا التعبير من قبيل تحقق الوقوع ونحوه وهو ظاهر. فقوله: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم " في عين أنه يدل على قصة خلقه تعالى النوع الانساني بنحو التوليد وأخذ الفرد من الفرد، وبث الكثير من القليل كما هو المشهود في نحو تكون الآحاد من الانسان، وحفظهم وجود النوع بوجود البعض من البعض على التعاقب يدل على أن للقصة - وهي تنطبق على الحال المشهود - نوعا من التقدم على هذا المشهود من جريان الخلقة وسيرها. وقد تقدمت استحالة ما افترضوا لهذا التقدم من تقدم هذه الخلقة بنحو تقدما زمانيا بأن يأخذ الله أول فرد من هذا النوع فيأخذ منه مادة النطفة التي منها نسل هذا النوع فيجزئها أجزاء ذرية بعدد أفراد النوع إلى يوم القيامة ثم يلبس وجود كل فرد بعينه بحياته وعقله وسمعه وبصره وضميره وظهره وبطنه ويكسيه وجوده التي هي له قبل أن يسير مسيره الطبيعي فيشهده نفسه ويأخذ منه الميثاق، ثم ينزعه منها ويردها إلى مكانها الصلبي حتى يسير سيره الطبيعي، وينتهي إلى موطنها الذي لها من الدنيا فقد تقدم بطلان ذلك، وأن الآية أجنبية عنه. لكن الذي أحال هذا المعنى هو استلزامه وجود الانسان بما له من الشخصية الدنيوية مرتين في الدنيا، واحدة بعد أخرى المستلزم لكون الشئ غير نفسه بتعدد (1) شخصيته فهو الاصل الذي تنتهي إليه جميع المشكلات السابقة. وأما وجود الانسان أو غيره في امتداد مسيره إلى الله ورجوعه إليه في عوالم مختلفة النظام متفاوتة الحكم فليس بمحال، وهو مما يثبته القرآن الكريم ولو كره ذلك الكافرون الذين يقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر فقد أثبت الله الحياة الآخرة للانسان وغيره يوم البعث، وفيه هذا الانسان بعينه، وقد وصفه بنظام وأحكام غير هذه النشأة الدنيوية نظاما وأحكاما، وقد أثبت حياة برزخية لهذا الانسان بعينه وهي غير الحياة الدنيوية نظاما وحكما، وأثبت


(1) وهذا غير تعدد الشخصية الذي ربما اصطلح عليه في فن الاخلاق وعلم النفس التربوي. (*)

[ 320 ]

بقوله: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " الحجر: 21 أن لكل شئ عنده وجودا وسيعا غير مقدر في خزائنه، وإنما يلحقه الاقدار إذا نزله إلى الدنيا مثلا فللعالم الانساني على سعته سابق وجود عنده تعالى في خزائنه أنزله إلى هذه النشأة. وأثبت بقوله: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ " يس: 83، وقوله: " وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر " القمر: 50 وما يشابههما من الآيات أن هذا الوجود التدريجي الذي للاشياء ومنها الانسان هو أمر من الله يفيضه على الشئ، ويلقيه إليه بكلمة " كن " إفاضة دفعية وإلقاء غير تدريجي فلوجود هذه الاشياء وجهان وجه إلى الدنيا وحكمه أن يحصل بالخروج من القوة إلى الفعل تدريجا، ومن العدم إلى الوجود شيئا فشيئا، ويظهر ناقصا ثم لا يزال يتكامل حتى يفنى ويرجع إلى ربه، ووجه إلى الله سبحانه وهي بحسب هذا الوجه أمور تدريجيه وكل ما لها فهو لها في أول وجودها من غير أن تحتمل قوة تسوقها إلى الفعل. وهذا الوجه غير الوجه السابق وإن كانا وجهين لشئ واحد، وحكمه غير حكمه وإن كان تصوره التام يحتاج إلى لطف قريحة، وقد شرحناه في الابحاث السابقة بعض الشرح وسيجئ إن شاء الله استيفاء الكلام في شرحه. ومقتضى هذه الآيات أن للعالم الانساني على ما له من السعة وجودا جميعا عند الله سبحانه، وهو الذي يلي جهته تعالى ويفيضه على أفراده لا يغيب فيها بعضهم عن بعض ولا يغيبون فيه عن ربهم ولا هو يغيب عنهم، وكيف يغيب فعل عن فاعله أو ينقطع صنع عن صانعه، وهذا هو الذي يسميه الله سبحانه بالملكوت، و يقول: " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين " الانعام 75، ويشير إليه بقوله: " كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين " التكاثر: 7. وأما هذا الوجه الدنيوي الذي نشاهده نحن من العالم الانساني وهو الذي يفرق بين الآحاد، ويشتت الاحوال والاعمال بتوزيعها على قطعات الزمان، وتطبيقها على مر الليالي والايام ويحجب الانسان عن ربه بصرف وجهه إلى التمتعات المادية

[ 321 ]

الارضية واللذائذ الحسية فهو متفرع على الوجه السابق متأخر عنه. وموقع تلك النشأة وهذه النشأة في تفرعها عليها موقعا كن ويكون في قوله تعالى: " أن نقول له كن فيكون " يس: 82. ويتبين بذلك أن هذه النشأة الانسانية الدنيوية مسبوقة بنشأة أخرى إنسانية هي هي بعينها غير أن الآحاد موجودون فيها غير محجوبين عن ربهم يشاهدون فيها وحدانيته تعالى في الربوبية بمشاهدة أنفسهم لا من طريق الاستدلال بل لانهم لا ينقطعون عنه ولا يفقدونه، ويعترفون به وبكل حق من قبله، وأما قذارة الشرك وألواث المعاصي فهو من أحكام هذه النشأة الدنيوية دون تلك النشأة التي ليس فيها إلا فعله تعالى القائم به فافهم ذلك. وأنت إذا تدبرت هذه الآيات ثم راجعت قوله تعالى: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم " الآية وأجدت التدبر فيها وجدتها تشير إلى تفصيل أمر تشير هذه الآيات إلى إجماله فهي تشير إلى نشأة إنسانية سابقة فرق الله فيها بين أفراد هذا النوع وميز بينهم وأشهدهم على أنفسهم: أ لست بربكم ؟ قالوا: بلى شهدنا. ولا يرد عليه ما أورد على قول المثبتين في تفسير الآية على ما فهموه من معنى عالم الذر من الروايات على ما تقدم فإن هذا المعنى المستفاد من سائر الآيات والنشأة السابقة التي تثبته لا تفارق هذه النشأة الانسانية الدنيوية زمانا بل هي معها محيطه بها لكنها سابقة عليها السبق الذي في قوله تعالى: " كن فيكون " ولا يرد عليه شئ من المحاذير المذكورة. ولا يرد عليه ما أوردناه على قول المنكرين في تفسيرهم الآية بحال وجود النوع الانساني في هذه النشأة الدنيوية من مخالفته لقوله: " وإذ أخذ ربك " ثم التجوز في الاشهاد بإرادة التعريف منه، وفي الخطاب بقوله: " أ لست بربكم " بإرادة دلالة الحال، وكذا في قوله: " قالوا بلى " وقوله " شهدنا " بل الظرف ظرف سابق على الدنيا وهو غيرها، والاشهاد على حقيقته والخطاب على حقيقته. ولا يرد عليه أنه من قبيل تحميل الآية معنى لا تدل عليه فإن الآية لا تأبى عنه

[ 322 ]

وسائر الآيات تشير إليه بضم بعضها إلى بعض. وأما الروايات فسيأتي أن بعضها يدل على أصل تحقق هذه النشأة الانسانية كالآية، وبعضها يذكر أن الله كشف لآدم عليه السلام عن هذه النشأة الانسانية، وأراه هذا العالم الذي هو ملكوت العالم الانساني، وما وقع فيه من الاشهاد وأخذ الميثاق كما أرى إبراهيم عليه السلام ملكوت السماوات والارض. رجعنا إلى الآية قوله: " وإذ اخذ ربك " أي واذكر لاهل الكتاب في تتميم البيان السابق أو واذكر للناس في بيان ما نزلت السورة لاجل بيانه وهو أن لله عهدا على الانسان وهو سائله عنه وأن أكثر الناس لا يفون به وقد تمت عليهم الحجة. أذكر لهم موطنا قبل الدنيا أخذ فيه ربك " من بني آدم من ظهورهم ذريتهم " فما من أحد منهم إلا استقل من غيره وتميز منه فاجتمعوا هناك جميعا وهم فرادى فأراهم ذواتهم المتعلقة بربهم " وأشهدهم على أنفسهم " فلم يحتجبوا عنه وعاينوا أنه ربهم كما أن كل شئ بفطرته يجد ربه من نفسه من غير أن يحتجب عنه، وهو ظاهر الآيات القرآنية كقوله: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " أسرى: 44. " أ لست بربكم " وهو خطاب حقيقي لهم لا بيان حال وتكليم إلهى لهم فإنهم يفهمون مما يشاهدون أن الله سبحانه يريد به منهم الاعتراف وإعطاء الموثق، ولا نعنى بالكلام إلا ما يلقى للدلالة به على معنى مراد، وكذا الكلام في قوله: " قالوا بلى شهدنا ". وقوله " أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " الخطاب للمخاطبين بقوله: " أ لست بربكم " القائلين " بلى شهدنا " فهم هناك يعاينون الاشهاد والتكليم من الله والتكلم بالاعتراف من أنفسهم وإن كانوا في نشأة الدنيا على غفلة مما عدا المعرفة بالاستدلال، ثم إذا كان يوم البعث وانطوى بساط الدنيا، وانمحت هذه الشواغل والحجب عادوا إلى مشاهدتهم ومعاينتهم، وذكروا ما جرى بينهم وبين ربهم.

[ 323 ]

ويحتمل أن يكون الخطاب راجعا إلينا معاشر المخاطبين بالآيات أي إنما فعلنا ببني آدم ذلك حذر أن تقولوا أيها الناس يوم القيامة كذا وكذا، والاول أقرب ويؤيده قراءة: " أن يقولوا " بلفظ الغيبة. وقوله: " أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل " هذه حجة الناس إن فرض الاشهاد وأخذ الميثاق من الآباء خاصة دون الذرية كما أن قوله: " أن تقولوا " الخ حجة الناس إن ترك الجميع فلم يقع إشهاد ولا أخذ ميثاق من أحد منهم. ومن المعلوم أن لو فرض ترك الاشهاد وأخذ الميثاق في تلك النشأة كان لازمه عدم تحقق المعرفة بالربوبية في هذه النشأة إذ لا حجاب بينهم وبين ربهم في تلك النشأة فلو فرض هناك علم منهم كان ذلك إشهادا وأخذ ميثاق، وأما هذه النشأة فالعلم فيها من وراء الحجاب وهو المعرفة من طريق الاستدلال. فلو لم يقع هناك بالنسبة إلى الذرية إشهاد وأخذ ميثاق كان لازمة في هذه النشأة أن لا يكون لهم سبيل إلى معرفة الربوبية فيها أصلا، وحينئذ لم يقع منهم معصية شرك بل كان ذلك فعل آبائهم، وليس لهم إلا التبعية العملية لآبائهم والنشوء على شركهم من غير علم فصح لهم أن يقولوا: " إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أ فتهلكنا بما فعل المبطلون. قوله تعالى: " وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون " تفصيل الآيات تفريق بعضها وتمييزه من بعض ليتبين بذلك مدلول كل منها ولا تختلط وجود دلالتها، وقوله: " ولعلهم يرجعون " عطف على مقدر، والتقدير: لغايات عالية كذا وكذا ولعلهم يرجعون من الباطل إلى الحق. (بحث روائي) في الكافي بإسناده عن زرارة عن حمران عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى حيث خلق الخلق خلق ماء عذبا وماء مالحا أجاجا فامتزج الماءان فأخذ طينا من أديم الارض فعركه عركا شديدا فقال لاصحاب اليمين وهم كالذر يدبون: إلى الجنة

[ 324 ]

ولا أبالى وقال لاصحاب الشمال: إلى النار ولا ابالى. ثم قال: ألست بربكم ؟ قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. الحديث. وفيه بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن قول الله عزوجل: " فطرة الله التي فطر الناس عليها " ما تلك الفطرة ؟ قال: هي الاسلام فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد قال: أ لست بربكم ؟ وفيه (1) المؤمن والكافر. وفي تقسير العياشي وخصائص السيد الرضي عن الاصبغ بن نباتة عن علي عليه السلام قال: أتاه ابن الكواء فقال: أخبرني يا أمير المؤمنين عن الله تبارك وتعالى هل كلم أحد من ولد آدم قبل موسى ؟ فقال علي عليه السلام قد كلم الله جميع خلقه برهم وفاجرهم وردوا عليه الجواب فثقل ذلك على ابن الكواء ولم يعرفه فقال له: كيف كان ذلك يا أمير المؤمنين ؟ فقال له: أو ما تقرأ كتاب الله إذ يقول لنبيه: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى " فقد أسمعهم كلامه وردوا عليه الجواب كما تسمع في قول الله يا ابن الكواء " قالوا بلى " فقال لهم إني أنا الله لا إله إلا أنا وأنا الرحمن الرحيم فأقروا له بالطاعة والربوبية، وميز الرسل والانبياء والاوصياء وأمر الخلق بطاعتهم فأقروا بذلك في الميثاق فقالت الملائكة عند إقرارهم بذلك شهدنا عليكم يا بني آدم أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أقول: والرواية كما تقدم وبعض ما يأتي من الروايات يذكر مطلق أخذ الميثاق من بني آدم من غير ذكر إخراجهم من صلب آدم وإراءتهم إياه. وكان تشبيههم بالذر كما في كثير من الروايات تمثيل لكثرتهم كالذر لا لصغرهم جسما أو غير ذلك، ولكثرة ورود هذا التعبير في الروايات سميت هذه النشأة بعالم الذر. وفي الرواية دلالة ظاهرة على أن هذا التكليم كان تكليما حقيقيا لا مجرد دلالة الحال على المعنى. وفيها دلالة على أن الميثاق لم يؤخذ على الربوبية فحسب بل على النبوة وغير ذلك، وفي كل ذلك تأييد لما قدمناه.


(1) فيهم ظ. (*)

[ 325 ]

وفي تفسير العياشي عن رفاعة قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم " قال: نعم لله الحجة على جميع خلقه أخذهم يوم أخذ الميثاق هكذا وقبض يده. أقول: وظاهر الرواية أنها تفسر الاخذ في الآية بمعنى الاحاطة والملك. وفي تفسير القمي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن ابن مسكان عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى " قلت: معاينة كان هذا ؟ قال: نعم فثبتت المعرفة ونسوا الموقف وسيذكرونه ولو لا ذلك لم يدر أحد من خالقه ورازقه فمنهم من أقر بلسانه في الذر ولم يؤمن بقلبه فقال الله: " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل ". أقول: والرواية ترد على منكري دلالة الآية على أخذ الميثاق في الذر تفسيرهم قوله: " وأشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم " أن المراد به أنه عرفهم آياته الدالة على ربوبيته، والرواية صحيحة ومثلها في الصراحة والصحة ما سيأتي من رواية زرارة وغيره. وفي الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن زرارة: أن رجلا سأل أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عزوجل: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم " إلى آخر الآية، فقال وأبوه يسمع: حدثني أبي. أن الله عزوجل قبض قبضة من تراب التربة التي خلق منها آدم فصب عليها الماء العذب الفرات ثم تركها أربعين صباحا ثم صب عليها الماء المالح الاجاج فتركها أربعين صباحا فلما اختمرت الطينة أخذها فعركها عركا شديدا فخرجوا كالذر من يمينه وشماله وأمرهم جميعا أن يقعوا في النار فدخلها أصحاب اليمين فصارت عليهم بردا وسلاما، وأبى أصحاب الشمال أن يدخلوها. أقول: وفي هذا المعنى روايات أخر وكان الامر بدخول النار كناية عن الدخول في حظيرة العبودية والانقياد للطاعة. وفيه بإسناده عن عبد الله بن محمد الحنفي وعقبة جميعا عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن الله عزوجل خلق الخلق فخلق من أحب مما أحب فكان ما أحب أن خلقه من

[ 326 ]

طينة الجنة، وخلق من أبغض مما أبغض وكان ما أبغض أن خلقه من طينة النار ثم بعثهم في الظلال فقيل: وأي شئ الظلال ؟ قال: أ لم تر إلى ظلك في الشمس شئ وليس بشئ ثم بعث معهم النبيين فدعوهم إلى الاقرار بالله وهو قوله: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله، ثم دعوهم إلى الاقرار فأقر بعضهم وأنكر بعض، ثم دعوهم إلى ولايتنا فأقر بها والله من أحب وأنكرها من أبغض، وهو قوله: " وما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل " ثم قال أبو جعفر عليه السلام كان التكذيب. أقول: والرواية وإن لم تكن مما وردت في تفسير آية الذر غير أنا أوردناها لاشتمالها على قصة أخذ الميثاق، وفيها ذكر الظلال، وقد تكرر ذكر الظلال في لسان أئمة أهل البيت عليهم السلام والمراد به - كما هو ظاهر الرواية - وصف هذا العالم الذي هو بوجه عين العالم الدنيوي وبوجه غيره، وله أحكام غير أحكام الدنيا بوجه وعينها بوجه فينطبق على ما وصفناه في البيان المتقدم. وفي الكافي وتفسير العياشي عن أبي بصير قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: كيف أجابوا وهم ذر ؟ قال: جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه. وزاد العياشي: يعني في الميثاق. أقول: وما زاده العياشي من كلام الراوي وليس المراد بقوله " جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه " دلالة حالهم على ذلك بل لما فهم الراوي من الجواب ما هو من نوع الجوابات الدنيوية استبعد صدوره عن الذر فسأل عن ذلك فأجابه عليه السلام بأن الامر هناك بحيث إذا نزلوا في الدنيا كان ذلك منهم جوابا دنيويا باللسان والكلام اللفظي، ويؤيده قوله عليه السلام ما إذا سألهم، ولم يقل: ما لو تكلموا ونحو ذلك. وفي تفسير العياشي أيضا عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله: " أ لست بربكم " قالوا بألسنتهم ؟ قال نعم وقالوا بقلوبهم. فقلت: وأين كانوا يومئذ ؟ قال: صنع منهم ما اكتفى به. أقول: جوابه عليه السلام أنهم قالوا: بلى بألسنتهم وقلوبهم مبني على كون وجودهم يومئذ بحيث لو انتقلوا إلى الدنيا كان ذلك جوابا بلسان على النحو المعهود في الدنيا لكن

[ 327 ]

اللسان والقلب هناك واحد، ولذلك قال عليه السلام: نعم وبقلوبهم فصدق اللسان، وأضاف إليه القلب. ثم لما كان في ذهن الراوي أنه أمر واقع في الدنيا ونشأة الطبيعة، وقد ورد في بعض الروايات التي تذكر قصة إخراج الذرية من ظهر آدم: تعيين المكان له وقد روى بعضها هذا الراوي أعني أبا بصير سأله عليه السلام عن مكانهم بقوله: وأين كانوا يومئذ فأجابه عليه السلام بقوله: " صنع منهم ما اكتفى به " فلم يجبه بتعيين المكان بل بأن الله سبحانه خلقهم خلقا يصح معه السؤال والجواب، وكل ذلك يؤيد ما قدمناه في وصف هذا العالم، الرواية كغيرها مع ذلك كالصريح في أن التكليم والتكلم في الآية على الحقيقة دون المجاز بل هي صريحة فيه. وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الاصول وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن أبي أمامة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: خلق الله الخلق وقضى القضية، وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء، فأخذ أهل اليمين بيمينه، وأخذ أهل الشمال بيده الاخرى - وكلتا يد الرحمن يمين فقال: يا أصحاب اليمين فاستجابوا له فقالوا: لبيك ربنا، وسعديك. قال: أ لست بربكم ؟ قالوا: بلى قال: يا أصحاب الشمال فاستجابوا له فقالوا لبيك ربنا وسعديك قال: أ لست بربكم ؟ قالوا: بلى. فخلط بعضهم ببعض فقال قائل منهم رب لم خلطت بيننا ؟ قال: ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ثم ردهم في صلب آدم فأهل الجنة أهلها وأهل النار أهلها. فقال قائل: يا رسول الله فما الاعمال ؟ قال: يعمل كل قوم لمنازلهم. فقال عمر بن الخطاب: إذا نجتهد. أقول: قوله صلى الله عليه وآله وسلم " وعرشه على الماء " كناية عن تقدم أخذ الميثاق، وليس المراد به تقدم خلق الارواح على الاجساد زمانا فإن عليه من الاشكال ما على عالم الذر بالمعنى الذي فهمه جمهور المثبتين، وقد تقدم. وقوله: صلى الله عليه وآله وسلم " يعمل كل قوم لمنازلهم " أي أن كل واحد من المنزلين يحتاج إلى أعمال تناسبه في الدنيا فإن كان العامل من أهل الجنة عمل الخير لا محالة، وإن

[ 328 ]

كان من أهل النار عمل الشر لا محالة، والدعوة إلى الجنة وعمل الخير لان عمل الخير يعين منزله في الجنة، وأن عمل الشر يعين منزله في النار لا محالة كما قال تعالى: " ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات " البقرة: 148. فلم يمنع تعين الوجهة عن الدعوة إلى استباق الخيرات، ولا منافاة بين تعين السعادة والشقاوة بالنظر إلى العلل التامة وبين عدم تعينها بالنظر إلى اختيار الانسان في تعيين عمله فإنه جزء العلة، وجزء علة الشئ لا يتعين معه وجود الشئ ولا عدمه بخلاف تمام العلة، وقد تقدم استيفاء هذا البحث في موارد من هذا الكتاب، وآخرها في تفسير قوله تعالى: " كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة " الاعراف: 30، وأخبار الطينة المتقدمة من أخبار هذا الباب بوجه. وفيه أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: " وإذ أخذ ربك من بني آدم " الآية قال: خلق الله آدم وأخذ ميثاقه أنه ربه، وكتب أجله ورزقه ومصيبته ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر فأخذ مواثيقهم أنه ربهم، وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم. أقول: وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس بطرق كثيرة في ألفاظ مختلفة لكن الجميع تشترك في أصل المعنى، وهو إخراج ذريه آدم من ظهره وأخذ الميثاق منهم. وفيه أخرج ابن عبد البر في التمهيد من طريق السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله تعالى: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ". قالوا: لما أخرج الله آدم من الجنة قبل تهبيطه من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر: فقال: ادخلوا النار ولا ابالي فذلك قوله: " أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ". ثم أخذ منهم الميثاق فقال: أ لست بربكم قالوا بلى فأعطاه طائفة طائعين، و طائفة كارهين على وجه التقية فقال هو والملائكة: شهدنا أن يقولوا يوم القيامة إنا

[ 329 ]

كنا عن هذا غافلين أو يقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل. قالوا: فليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف الله أنه ربه وذلك قوله عز وجل: " وله أسلم من في السماوات والارض طوعا وكرها "، وذلك قوله: " فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين " يعني يوم أخذ الميثاق. أقول: وقد روى حديث الذر كما في الرواية موقوفة وموصولة عن عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كعلي عليه السلام، وابن عباس، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر، وسلمان، وأبي هريرة، وأبي أمامة، وأبي سعيد الخدري، وعبد الله بن مسعود، وعبد الرحمان بن قتادة، وأبي الدرداء، وأنس، ومعاوية، وأبي موسى الاشعري. كما روي من طرق الشيعة عن علي وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد والحسن بن علي العسكري عليه السلام، ومن طرق أهل السنة أيضا عن علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد عليه السلام بطرق كثيرة فليس من البعيد أن يدعى تواتره المعنوي. وفي الدر المنثور أيضا أخرج ابن سعد وأحمد عن عبد الرحمان بن قتادة السلمي وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم أخذ الخلق من ظهره فقال: هؤلاء في الجنة ولا ابالي، وهؤلاء في النار ولا ابالي. فقال رجل: يا رسول الله فعلى ماذا نعمل ؟ قال: على مواقع القدر. أقول: القول في ذيل الرواية نظير القول في ذيل رواية أبي أمامة المتقدمة، وقد فهم الرجل من قوله " هؤلاء في الجنة ولا ابالى، وهؤلاء في النار ولا أبالي " (الخبر) سقوط الاختيار، فأجابه صلى الله عليه وآله وسلم بإن هذا قدر منه تعالى وأن أعمالنا في عين أنا نعملها وهي منسوبة إلينا تقع على ما يقع عليه القدر فتنطبق على القدر وينطبق هو عليها، وذلك أن الله قدر ما قدر من طريق اختيارنا فنعمل نحن باختيارنا، ويقع مع ذلك ما قدره الله سبحانه لا أنه تعالى أبطل بالقدر اختيارنا، ونفي تأثير إرادتنا والروايات بهذا المعنى كثيرة.

[ 330 ]

وفي الكافي عن على بن ابراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن ابن أذينة عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن قول الله عزوجل: " حنفاء لله غير مشركين " قال: الحنفية من الفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله قال: فطرهم على المعرفة به. قال زرارة: وسألته عن قول الله عزوجل: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى الآية قال أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذر فعرفهم وأراهم نفسه، ولو لا ذلك لم يعرف أحد ربه. وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كل مولود يولد على الفطرة يعنى على المعرفة بأن الله عز وجل خالقه، كذلك قوله: " ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن الله " أقول: وروي وسط الحديث العياشي في تفسيره عن زرارة بعين اللفظ، وفيه شهادة على ما تقدم من تقرير معنى الاشهاد والخطاب في الآية خلافا لما ذكره النافون أن المراد بذلك المعرفة بالآيات الدالة على ربوبيته تعالى لجميع خلقه. وقد روى الحديث في المعاني بالسند بعينه عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام إلا أنه قال: فعرفهم وأراهم صنعه بدل قوله: فعرفهم وأراهم نفسه، ولعله من تغيير اللفظ قصدا للنقل بالمعنى زعما أن ظاهر اللفظ يوهم التجسم وفيه إفساد اللفظ والمعنى جميعا، وقد عرفت أن الرواية مروية في الكافي وتفسير العياشي بلفظ: أراهم نفسه. وتقدم في حديث ابن مسكان عن الصادق عليه السلام قوله: قلت معاينة كان هذا ؟ قال: نعم. وقد تقدم أن لا ارتباط للكلام بمسألة التجسم. وفي المحاسن عن الحسن بن علي بن فضال عن ابن بكير عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله: " وإذ أخذ ربك " الآية قال: ثبتت المعرفة في قلوبهم ونسوا الموقف، ويذكرونه يوما، ولو لا ذلك لم يدر أحد من خالقه ورازقه. وفي الكافي بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان علي بن الحسين عليه السلام لا يرى بالعزل بأسا، يقرء هذه الآية: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم

[ 331 ]

وأشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى " فكل شئ أخذ الله من الميثاق فهو خارج وإن كان على صخرة صماء. أقول: ورواه في الدر المنثور عن ابن أبي شيبة وابن جرير عنه عليه السلام، وروى هذا المعنى أيضا عن سعيد بن منصور وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأعلم أن الروايات في الذر كثيرة جدا وقد تركنا إيراد أكثرها لوفاء ما أوردنا من ذلك بمعناها وهنا روايات أخر في أخذ الميثاق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الانبياء عليهم السلام سنوردها في محلها إن شاء الله تعالى. * * * واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين - 175. ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الارض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون - 176. ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون - 177. من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون - 178. ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالانعام بل هم أضل إولئك هم الغافلون - 179.

[ 332 ]

(بيان) قصة اخرى من قصص بني إسرائيل وهي نبأ بلعم بن باعورا أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يتلوه عليهم يتبين به أن مجرد الاتصال بالاسباب الظاهرية العادية لا يكفي في فلاح الانسان وتحتم السعادة له ما لم يشأ الله ذلك، وأن الله لا يشاء ذلك لمن أخلد إلى الارض واتبع هواه فإن مصيره إلى النار ثم يذكر آية ذلك فيهم وهي أنهم لا يستعملون قلوبهم وأبصارهم وآذانهم فيما ينفعهم، والآية الجامعة أنهم غافلون. قوله تعالى: " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها " إلى آخر الآية معنى إيتاء الآيات على ما يعطيه السياق التلبس من الآيات الانفسية والكرامات الخاصة الباطنية بما يتنور به طريق معرفة الله له، وينكشف له ما لا يبقى له معه ريب في الحق والانسلاخ خروج الشئ وانتزاعه من جلده، وهو كناية استعارية عن أن الآيات كانت لزمتها لزوم الجلد فخرج منها الخبث في ذاته، والاتباع كالتبع والاتباع التعقيب واقتفاء والاثر يقال: تبع وأتبع واتبع، والكل بمعنى واحد، والغي والغواية هي الضلال، كأنه خروج من الطريق للقصور عن حفظ المقصد الذي يوصل إليه الطريق ففيه نسيان المقصد والغاية، فالمتحير في أمره وهو في الطريق غوي، والخارج عن الطريق وهو ذاكر لمقصده ضال، وهو الانسب لمورد الآية فإن صاحب النبأ بعد ما انسلخ عن آيات الله واتبعه الشيطان غاب عنه سبيل الرشد فلم يتمكن من إنجاء نفسه عن ورطة الهلاك، وربما استعمل كل من الغواية والضلالة في معنى واحد. وهو الخروج عن الطريق الموصل إلى الغاية. وقد اختلف المفسرون في تعيين من هو صاحب النبأ في هذه الآية على أقوال مختلفة سنشير إلى جلها أو كلها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله. والآية - كما ترى - أبهمت اسمه واقتصرت على الاشارة إلى إجمال قصته لكنها مع ذلك ظاهرة في أنه نبأ واقع لا مجرد تمثيل فلا وقع لقول من قال: إنها مجرد تمثيل من غير نبأ واقع. والمعنى: " واتل عليهم " أي على بني إسرائيل أو على الناس خبرا عن أمر عظيم

[ 333 ]

وهو " نبأ " الرجل " الذي آتيناه آياتنا " وكشفنا لباطنه عن علائم وآثار إلهية عظام يتنور له بها حق الامر " فانسلخ منها " ورفضها بعد لزومها " فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين " فلم يقو على إنجاء نفسه من الهلاك. قوله تعالى: " ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الارض واتبع هواه " الآية الاخلاد اللزوم على الدوام، والاخلاد إلى الارض اللصوق بها، وهو كناية عن الميل إلى التمتع بالملاذ الدنيوية والتزامها، واللهث من الكلب أن يدلع لسانه من العطش. فقوله: " ولو شئنا لرفعناه بها " أي لو شئنا لرفعناه بتلك الآيات وقربناه إلينا لان في القرب إلى الله ارتفاعا عن حضيض هذه الدنيا التي هي بما لها من اشتغال الانسان بنفسها عن الله وآياته أسفل سافلين، ورفعه بتلك الآيات بما أنها أسباب إلهية ظاهرية تفيد اهتداء من تلبس بها لكنها لا تحتم السعادة للانسان لان تمام تأثيرها في ذلك منوط بمشيئة الله، والله سبحانه لا يشاء ذلك لمن أعرض عنه وأقبل إلى غيرها. وهي الحياة الارضية اللاهية عن الله ودار كرامته فإن الاعراض عن الله سبحانه وتكذيب آياته ظلم، وقد حق القول منه سبحانه أنه لا يهدي القوم الظالمين، وأن الذين كفروا وكذبوا بآياته أولئك اصحاب النار هم فيها خالدون. ولذلك عقب تعالى قوله: " ولو شئنا لرفعناه بها " بقوله: " لكنه أخلد إلى الارض واتبع هواه " فالتقدير: لكنا لم نشأ ذلك لانه أخلد إلى الارض واتبع هواه وكان ذلك موردا لا ضلالنا لا لهدايتنا كما قال تعالى: " ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء " إبراهيم: 27. وقوله: " فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث " أي إنه ذو هذه السجية لا يتركها سواء زجرته ومنعته أو تركته و " تحمل " من الحملة لا من الحمل " ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا " فالتكذيب منهم سجية وهيئة نفسانية خبيثة لازمة فلا تزال آياتنا تتكرر على حواسهم ويتكرر التكذيب بها منهم " فاقصص القصص " وهو مصدر أي اقصص قصصا أو اسم مصدر أي اقص القصة " لعلهم يتفكرون " فينقادوا للحق وينتزعوا عن الباطل. قوله تعالى: " ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون " ذم

[ 334 ]

لهم من حيث وصفهم، وإعلام لهم أنهم لا يضرون شيئا في تكذيب آياته بل ذلك ظلم منهم لانفسهم إذ يستضر بذلك غيرهم. قوله تعالى: " من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون " اللام في " المهتدي " و " الخاسرون " يفيد الكمال دون الحصر ظاهرا، ومفاد الآية أن مجرد الاهتداء إلى شئ لا ينفع شيئا ولا يؤثر أثر الاهتداء إلا إذا كانت معه هداية الله سبحانه فهي التي يكمل بها الاهتداء، وتتحتم معها السعادة، وكذلك مجرد الضلال لا يضر ضررا قطعيا إلا بانضمام إضلال الله سبحانه إليه فعند ذلك يتم أثره، ويتحتم الخسران. فمجرد اتصال الانسان بأسباب السعادة كظاهر الايمان والتقوى وتلبسه بذلك لا يورده مورد النجاة، وكذلك اتصاله وتلبسه بأسباب الضلال لا يورده مورد الهلاك والخسران إلا أن يشاء الله ذلك فيهدي بمشيئته من هدى ويضل بها من أضل. فيؤل المعنى إلى أن الهداية إنما تكون هداية حقيقية تترتب عليها آثارها إذا كانت لله فيها مشية، وإلا فهي صورة هداية وليست بها حقيقة، وكذلك الامر في الاضلال، وإن شئت فقل: إن الكلام يدل على حصر الهداية الحقيقية في الله سبحانه، وكذلك الاضلال ولا يضل به إلا الفاسقين. قوله تعالى: " ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس " إلى آخر الآية. الذرء هو الخلق، وقد عرف الله سبحانه جهنم غاية لخلق كثير من الجن والانس، ولا ينافي ذلك ما عرف في موضع آخر أن الغاية لخلق الخلق هي الرحمة وهي الجنة في الآخرة كقوله تعالى: " إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم " هود: 119 فإن الغرض يختلف معناه بحسب كمال الفعل ونهاية الفعل التي ينتهي إليها. بيان ذلك أن النجار إذا أراد أن يصنع بابا عمد إلى أخشاب يهيؤها له ثم هندسة فيها ثم شرع في النشر والنحت والخرط حتى أتم الباب فكمال غرضه من إيقاع الفعل على تلك الخشبات هو حصول الباب لا غير، هذا من جهة ومن جهة أخرى هو يعلم من أول الامر أن جميع أجزاء تلك الخشبات ليست تصلح لان تكون أجزاء للباب فإن للباب هيئة خاصة لا تجامع هيئة الخشبات، ولا بد في تغيير هيئتها من ضيعة بعض

[ 335 ]

الاجزاء لخروجها عن هندسة العمل فصيرورة هذه الابعاض فضلة يرمى بها داخلة في قصد الصانع مراده له بإرادة تسمى قصدا ضروريا فللنجار في صنع الباب بالنسبة إلى الاخشاب التي بين يديه نوعان من الغاية أحدهما الغاية الكمالية وهي أن يصنع منها بابا، والثاني الغاية التابعة وهي أن يصنع بعضها بابا ويجعل بعضها فضلة لا ينتفع بها وضيعة يرمي بها، وذلك لعدم استعدادها لتلبس صورة الباب. وكذا الزارع يزرع أرضا ليحصد قمحا فلا يخلص لذلك إلى يوم الحصاد إلا بعض ما صرفه من البذر، ويذهب غيره سدى يضيع في الارض أو تفسده الهوام أو يخصفه المواشي والجميع مقصودة للزراع من وجه، والمحصول من القمح مقصود من وجه آخر. وقد تعلقت المشية الالهية أن يخلق من الارض إنسانا سويا يعبده ويدخل بذلك في رحمته، واختلاف الاستعدادات المكتسبة من الحياة الدنيوية على ما لها من مختلف التأثيرات لا يدع كل فرد من أفراد هذا النوع أن يجري في مجراه الحقيقي ويسلك سبيل النجاة إلا من وفق له، وعند ذلك تختلف الغايات وصح أن لله سبحانه غاية في خلقه الانسان مثلا وهو أن يشملهم برحمته ويدخلهم جنته، وصح أن لله غاية في إهل الخسران والشقاوة من هذا النوع وهو أن يدخلهم النار وقد كان خلقهم للجنة غير أن الغاية الاولى غاية أصلية كمالية، والغاية الثانية غاية تبعية ضرورية، والقضاء الالهي المتعلق بسعادة من سعد وشقاوة من شقي ناظر إلى هذا النوع الثاني من الغاية فإنه تعالى يعلم ما يؤل إليه حال الخلق من سعادة أو شقاء فهو مريد لذلك بإرادة تبعية لا أصلية. وعلى هذا النوع من الغاية ينزل قوله تعالى: " ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس " وما في هذا المساق من الآيات الكريمة وهي كثيرة. وقوله: " لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها " إشارة إلى بطلان استعدادهم للوقوع في مجرى الرحمة الالهية، والوقوف في مهب النفحات الربانية، فلا ينفعهم ما يشاهدونه من آيات الله، وما يسمعونه من مواعظ أهل الحق، وما تلقنه لهم فطرتهم من الحجة والبينة. ولا يفسد عقل ولا عين ولا أذن في عمله وقد خلقها الله لذلك، وقد قال: " لا تبديل

[ 336 ]

لخلق الله " الروم: 30 إلا أن يكون الذي يغيره هو الله سبحانه فيكون من جملة الخلق لكنه سبحانه لا يغير ما انعمه على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، قال تعالى: " ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " الانفال: 53. فالذي أبطل ما عندهم من الاستعداد، وأفسد أعمال قلوبهم وأعينهم وآذانهم هو الله سبحانه فعل بهم ما فعل جزاء بما كسبوا نكالا فهم غيروا نعمة الله بتغيير طريق العبودية فجازاهم الله بالطبع على قلوبهم فلا يفقهون بها وجعل الغشاوة على أبصارهم فلا يبصرون بها، والوقر على آذانهم فلا يسمعون بها فهذه آية أنهم مسيرون إلى النار. وقوله: " أولئك كالانعام بل هم أضل " نتيجة ما تقدم، وبيان لحالهم فإنهم فقدوا ما يتميز به الانسان من سائر الحيوان، وهو تمييز الخير والشر والنافع والضار بالنسبه ة إلى الحياة الانسانية السعيدة من طريق السمع والبصر والفؤاد. وإنما شبهوا من بين الحيوان العجم بالانعام مع أن فيهم خصال السباع الضارية وخصائصها كخصال الانعام الراعية، لان التمتع بالاكل والسفاد أقدم وأسبق بالنسبة إلى الطبع الحيواني فجلب النفع أقدم من دفع الضر، وما في الانسان من القوى الدافعة الغضبية مقصودة لاجل ما فيه من القوى الجاذبة الشهوية، وغرض النوع بحسب حياته الحيوانية يتعلق أولا بالتغذي والتوليد، ويتحفظ على ذلك بإعمال القوى الدافعة فالآية تجري مجرى قوله تعالى: " والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما يأكل الانعام والنار مثوى لهم " سورة محمد: 12. وأما كونهم أكثر أو أشد ضلالا من الانعام، ولازمه ثبوت ضلال ما في الانعام فلان الضلال في الانعام نسبي غير حقيقي فإنها مهتدية بحسب ما لها من القوى المركبة الباعثة لها إلى قصر الهمة في الاكل والتمتع غير ضالة فيما هيئت لها من سعادة الحياة ولا مستحقه للذم فيما أخذت إليه، وإنما تعد ضالة بقياسها إلى السعادة الانسانية التي ليست لها ولا جهزت بما تتوسل به إليها. وأما هؤلاء المطبوع على قلوبهم وأعينهم وآذانهم فالسعادة سعادتهم وهم مجهزون بما يوصلهم إليها ويدلهم عليها من السمع والبصر والفؤاد لكنهم أفسدوها وضيعوا أعمالها

[ 337 ]

ونزلوها منزلة السمع والبصر والقلب التي في الانعام، واستعملوها فيما تستعملها فيه الانعام وهو التمتع من لذائذ البطن والفرج فهم أكثر أو أشد ضلالا من الانعام، وإليهم يعود الذم. وقوله: " أولئك هم الغافلون " نتيجة وبيان حال أخرى لهم وهو أن حقيقة الغفلة هي التي توجد عندهم فإنها بمشية الله سبحانه ألبسها إياهم بالطبع الذي طبع به على قلوبهم وأعينهم وآذانهم والغفلة مادة كل ضلال وباطل. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا " الآية قال: حدثني أبي عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا عليه السلام: أنه أعطى بلعم ابن باعورا الاسم الاعظم، وكان يدعو به فيستجيب (1) له فمال إلى فرعون فلما مر فرعون في طلب موسى وأصحابه قال فرعون لبلعم: ادع الله على موسى وأصحابه ليحبسه علينا فركب حمارته ليمر في طلب موسى فامتنعت عليه حمارته فأقبل يضربها فأنطقها الله عزوجل فقالت ويلك على ما ذا تضربني ؟ أ تريد أن أجئ معك لتدعو على نبي الله وقوم مؤمنين ؟ ولم يزل يضربها حتى قتلها فانسلخ الاسم من لسانه، وهو قوله: " فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الارض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث " وهو مثل ضربه الله. أقول: قوله عليه السلام: " وهو مثل ضربه الله " الظاهر أنه يشير إلى نبأ بلعم، وسيجئ الكلام في معنى الاسم الاعظم في الكلام على الاسماء الحسنى إن شاء الله. وفي الدر المنثور أخرج الفرياني وعبد الرزاق وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن


(1) فيستجاب خ ظ. (*)

[ 338 ]

مسعود في قوله: " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها " قال هو رجل من بني إسرائيل يقال له: بلعم بن أبر. وفيه أخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال: هو بلعم بن باعوراء - وفي لفظ: بلعام بن عامر - الذي اوتي الاسم كان في بني إسرائيل. أقول: وقد روي كون اسمه بلعم وكونه من بني إسرائيل عن غير ابن عباس وروي عنه غير ذلك. وفي روح المعاني عند ذكر القول بأن الآية نزلت في أمية بن أبي الصلت الثقفي الشاعر: أنه كان قرء الكتب القديمة وعلم أن الله تعالى يرسل رسولا، فرجا أن يكون هو ذلك الرسول فاتفق أن خرج إلى البحرين وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأقام هناك ثماني سنين ثم قدم فلقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جماعة من أصحابه فدعاه إلى الاسلام، وقرء عليه سورة يس حتى إذا فرغ منها وثب أمية يجر رجليه فتبعته قريش تقول: ما تقول يا أمية ؟ قال: حتى أنظر في أمره. فخرج إلى الشام وقدم بعد وقعة بدر يريد أن يسلم فلما أخبر بها ترك الاسلام وقال: لو كان نبيا ما قتل ذوي قرابته فذهب إلى الطائف ومات به. فأتت أخته الفارعة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألها عن وفاته فذكرت له أنه أنشد عند موته. كل عيش وإن تطاول دهرا * صائر مرة إلى أن يزولا ليتني كنت قبل ما قد بدالي * في قلال الجبال أرعي الوعولا إن يوم الحساب يوم عظيم * شاب فيه الصغير يوما ثقيلا ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم لها أنشديني من شعر أخيك فأنشدت: لك الحمد والنعماء والفضل ربنا * ولا شئ أعلى منك جدا وأمجد مليك على عرش السماء مهيمن * لعزته تعنو الوجوه وتسجد من قصيدة طويلة أتت على آخرها. ثم أنشدته قصيدته التي يقول فيها:

[ 339 ]

وقف الناس للحساب جميعا * فشقي معذب وسعيد والتي فيها: عند ذي العرش يعرضون عليه * يعلم الجهر والسرار الخفيا يوم يأتي الرحمان وهو رحيم * إنه كان وعده ماتيا رب إن تعف فالمعافاة ظني * أو تعاقب فلم تعاقب بريا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أخاك آمن شعره، وكفر قلبه وأنزل الله تعالى الآية. أقول: والقصة مجموعة من عدة روايات، وقد ذكر في المجمع إجمال القصة وذكر أن نزول الآية فيه مروى عن عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وأبي روق، والظاهر أن الآيات مكية نزلت بنزول السورة بمكة، وما ذكروه من باب التطبيق. وفي المجمع: وقيل: إنه أبو عامر بن النعمان بن صيفي الراهب الذي سماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم " الفاسق " وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسموح فقدم المدينة فقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما هذا الذي جئت به ؟ قال: جئت بالحنيفية دين إبراهيم قال: فأنا عليها فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لست عليها، ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا وحيدا طريدا. فخرج إلى أهل الشام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا السلاح ثم أتى قيصر وإتى بجند ليخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة فمات بالشام وحيدا طريدا. عن سعيد بن المسيب. أقول: وإشكال كون السورة مكية في محله، وقد روي في ذلك قصص لا جدوى في استقصائها. وفيه قال أبو جعفر عليه السلام: الاصل في ذلك بلعم ثم ضربه الله مثلا لكل مؤثر هواه على هدى الله من أهل القبلة. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " لهم قلوب لا يفقهون بها " يقول: طبع الله عليها فلا تعقل " ولهم أعين " عليها غطاء عن

[ 340 ]

الهدى " لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها " أي جعل في آذانهم وقرا فلن يسمعوا الهدى. وفي الدر المنثور أخرج البيهقي في الاسماء والصفات عن عبد الله بن عمر بن العاصي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور يومئذ شئ اهتدى. ومن أخطأ ضل. وفيه أخرج الحكيم الترمذي وابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان وأبو يعلى وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق الله الجن ثلاثة أصناف: صنف حيات وعقارب وخشاش الارض، وصنف كالريح في الهواء، وصنف عليهم الحساب والعقاب، وخلق الله الانس ثلاثة أصناف: صنف كالبهائم قال الله: " لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالانعام بل هم أضل " وجنس أجسادهم أجساد بني آدم وأرواحهم أرواح الشياطين، وصنف في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله. أقول: وسيأتي الكلام في الجن والشياطين من الانس في مقام يناسبه إن شاء الله تعالى. * * * ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون - 180. وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون - 181. والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون - 182. وأملي لهم إن كيدي متين - 183. أ ولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين -

[ 341 ]

184 أ ولم ينظروا في ملكوت السموات والارض وما خلق الله من شئ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون - 185. من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون - 186. (بيان) الآيات متصلة بما قبلها، وهي بمنزلة تجديد البيان لما انتهى إليه الكلام في الآيات السابقة، وذلك أن الهدى والضلال يدوران مدار دعوته تعالى بأسمائه الحسنى والالحاد فيها، والناس من منتحلهم وزنديقهم وعالمهم وجاهلهم لا يختلفون بحسب فطرتهم وباطن سريرتهم في أن هذا العالم المشهود متكئ على حقيقة هي المقومة لاعيان أجزائها الناظمة نظامها، وهو الله سبحانه الذي منه يبتدء كل شئ وإليه يعود كل شئ الذي يفيض على العالم ما يشاهد فيه من جمال وكمال، وهي له ومنه. والناس في هذا الموقف على ما لهم من الاتفاق على أصل الذات ثلاثة أصناف: صنف يسمونه بما لا يشتمل من المعنى إلا على ما يليق أن ينسب إلى ساحته من الصفات المبينة للكمال، أو النافية لكل نقص وشين، وصنف يلحدون في أسمائه، ويعدلون بالصفات الخاصة به إلى غيره كالماديين والدهريين الذين ينسبون الخلق والاحياء والرزق وغير ذلك إلى المادة أو الدهر، وكالوثنيين الناسبين الخير والنفع إلى آلهتهم، وكبعض أهل الكتاب حيث يصفون نبيهم أو أولياء دينهم بما يختص له تعالى من الخصائص، ويلحق بهم طائفة من المؤمنين حيث يعطون للاسباب الكونية من الاستقلال في التأثير ما لا يليق إلا بالله سبحانه، وصنف يؤمنون به تعالى غير أنهم يلحدون في أسمائه فيثبتون له من صفات النقص والافعال الدنية ما هو منزه عنه كالاعتقاد بأن له جسما، وأن له مكانا، وأن الحواس المادية يمكن أن تتعلق به على بعض الشرائط، وأن له علما كعلومنا وإرادة كإراداتنا وقدرة كمقدراتنا، وأن لوجده

[ 342 ]

بقاء زمانيا كبقائنا، وكنسبة الظلم في فعله أو الجهل في حكمه ونحو ذلك إليه، وهذه جميعا من الالحاد في أسمائه. ويرجع الاصناف الثلاثة في الحقيقة إلى صنفين: صنف يدعونه بالاسماء الحسنى ويعبدون الله ذو الجلال والاكرام، وهؤلاء هم المهتدون بالحق، وصنف يلحدون في أسمائه ويسمون غيره باسمه أو يسمونه باسم غيره: وهؤلاء أصحاب الضلال الذين مسيرهم إلى النار على حسب حالهم في الضلال وطبقاتهم منه، وقد بين الله سبحانه: أن الهداية منه مطلقا فإنها صفة جميلة وله تعالى حقيقتها، وأما الضلال فلا ينسب إليه سبحانه أصله لانه بحسب الحقيقة عدم اهتداء المحل بهداية الله، وهو معني عدمي وصفة نقص وأما تثبيته في المحل بعد أول تحققه، وجعله صفة لازمة للمحل بمعنى سلب التوفيق وقطع العطية الالهية جزاء للضال بما آثر الضلال على الهدى، وكذب بآيات الله فهو من الله سبحانه، وقد نسبه إلى نفسه في كلامه، وذلك بالاستدراج والاملاء. فالآيات تشير إلى أن ما انتهى إليه كلامه سبحانه أن حقيقة الهداية والاضلال من الله إنما مغزاه وحقيقة معناه أن الامر يدور مدار دعوته تعالى بالاسماء الحسنى وكلها له، وهو الاهتداء، والالحاد في أسمائه، والناس في ذلك صنفان: مهتد بهداية الله لا يعدل به غيره، وضال منحرف عن أسمائه مكذب بآياته، والله سبحانه يسوقهم إلى النار جزاء لهم بما كذبوا بآياته، كما قال: " ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس " الآية، وذلك بالاستدراج والاملاء. قوله تعالى: " ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها " الاسم بحسب اللغة ما يدل به على الشئ سواء أفاد مع ذلك معنى وصفيا كاللفظ الذي يشار به إلى الشئ لدلالته على معنى موجود فيه، أو لم يفد إلا الاشارة إلى الذات كزيد وعمرو وخاصة المرتجل من الاعلام، وتوصيف الاسماء الحسنى - وهي مؤنث أحسن - يدل على أن المراد بها الاسماء التي فيها معنى وصفى دون ما لا دلالة لها إلا على الذات المتعالية فقط لو كان بين أسمائه تعالى ما هو كذلك، ولا كل معني وصفى، بل المعني الوصفي الذي فيه شئ من الحسن، ولا كل معني وصفى حسن بل ما كا أحسن بالنسبة إلى غيره إذا اعتبرا مع الذات المتعالية: فالشجاع والعفيف من الاسماء الحسنة لكنهما لا يليقان بساحة قدسه

[ 343 ]

لانبائهما عن خصوصية جسمانية لا يمكن سلبها عنهما، ولو أمكن لم يكن مانع عن إطلاقهما عليه كالجواد والعدل والرحيم. فكون اسم ما من أسمائه تعالى أحسن الاسماء أن يدل على معنى كمالي غير مخالط لنقص أو عدم، مخالطة لا يمكن معها تحرير المعنى من ذلك النقص والعدم وتصفيته، وذلك في كل ما يستلزم حاجة أو عدما وفقدا كالاجسام والجسمانيات والافعال المستقبحة أو المستشنعة، والمعاني العدمية فهذه الاسماء بأجمعها محصول لغاتنا لم نضعها إلا لمصاديقها فينا التي لا تخلو عن شوب الحاجة والنقص غير أن منها ما لا يمكن سلب جهات الحاجة والنقص عنها كالجسم واللون والمقدار وغيرها، ومنها ما يمكن فيه ذلك كالعلم والحياة والقدرة فالعلم فينا الاحاطة بالشئ من طريق أخذ صورته من الخارج بوسائل مادية، والقدرة فينا المنشأية للفعل بكيفية مادية موجودة لعضلاتنا، والحياة كوننا بحيث نعلم ونقدر بما لنا من وسائل العلم والقدرة فهذه لا تليق بساحة قدسه غير أنا إذا جردنا معانيها عن خصوصيات المادة عاد العلم وهو الاحاطة بالشئ بحضوره عنده، والقدرة هي المنشأية للشئ بإيجاده، والحياة كون الشئ بحيث يعلم ويقدر، وهذه لا مانع من إطلاقها عليه لانها معان كمالية خالية عن جهات النقص والحاجة، وقد دل العقل والنقل أن كل صفة كمالية فهي له تعالى وهو المفيض لها على غيره من غير مثال سابق فهو تعالى عالم قادر حي لكن لا كعلمنا وقدرتنا وحياتنا بل بما يليق بساحة قدسه من حقيقة هذه المعاني الكمالية مجردة عن النقائص. وقد قدم الخبر في قوله: " ولله الاسماء الحسنى " وهو يفيد الحصر، وجئ بالاسماء محلى باللام، والجمع المحلى باللام يفيد العموم، ومقتضى ذلك أن كل اسم أحسن في الوجود فهو لله سبحانه لا يشاركه فيه أحد، وإذ كان الله سبحانه ينسب بعض هذه المعاني إلى غيره ويسميه به كالعلم الحياة والخلق والرحمة فالمراد بكونها لله كون حقيقتها له وحده لا شريك له. وظاهر الآيات بل نص بعضها يؤيد هذا المعنى كقوله: " أن القوة لله جميعا " البقرة: 165. وقوله: " فإن العزة لله جميعا " النساء: 139، وقوله: " ولا يحيطون

[ 344 ]

بشئ من علمه إلا بما شاء " البقرة: 255، وقوله: " هو الحي لا إله إلا هو " المؤمن: 66 فلله سبحانه حقيقة كل اسم أحسن لا يشاركه غيره إلا بما ملكهم منه كيفما أراد وشاء. ويؤيد هذا المعنى ظاهر كلامه إينما ذكر أسماءه في القرآن كقوله تعالى: " الله لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى " طه: 8 وقوله: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الاسماء الحسنى " أسرى: 110، وقوله: " له الاسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والارض " الحشر: 24 فظاهر الآيات جميعا كون حقيقة كل اسم أحسن لله سبحانه وحده. وما احتمله بعضهم أن اللام في " الاسماء " للعهد مما لا دليل عليه ولا في القرائن الحافة بالآيات ما يؤيده غير ما عهده القائل من الاخبار العادة للاسماء الحسنى، وسيجئ الكلام فيها في البحث الروائي التالي أن شاء الله. وقوله فادعوه " بها أما من الدعوة بمعنى التسمية كقولنا: دعوته زيدا ودعوتك أبا عبد الله أي سميته وسميتك، وأما من الدعوة بمعنى النداء أي نادوه بها فقولوا: يا رحمان يا رحيم وهكذا. أو من الدعوة بمعنى العبادة أي فاعبدوه مذعنين أنه متصف بما يدل عليه هذه الاسماء من الصفات الحسنة والمعاني الجميلة. وقد احتملوا جميع هذه المعاني غير أن كلامه تعالى في مواضع مختلفة يذكر فيها دعاء الرب يؤيد هذا المعنى الاخير كما في الآية السابقة: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الاسماء الحسنى " وقوله: " وقال ربكم ادعوني أستجب لكم أن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " المؤمن: 60 حيث ذكر أولا الدعاء ثم بدله ثانيا من العبادة إيماء إلى اتحادهما، وقوله: " ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين " الاحقاف: 6، وقوله: " هو الحى لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين " المؤمن: 65 يريد إخلاص العبادة. ويؤيده ذيل الآية: " وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون " بظاهره فإنه لو كان المراد بالدعاء التسمية أو النداء دون العبادة لكان

[ 345 ]

الانسب أن يقال: بما كانوا يصفون كما قال في موضع آخر: " سيجزيهم وصفهم " الانعام: 139. فمعنى الآية - والله أعلم - ولله جميع الاسماء التي هي أحسن فاعبدوه وتوجهوا إليه بها والتسمية والنداء من لواحق العبادة. قوله تعالى: " وذروا الذين يلحدون في أسمائه " إلى آخر الآية. اللحد والالحاد بمعنى واحد وهو التطرف والميل عن الوسط إلى أحد الجانبين، ومنه لحد القبر لكونه في جانبه بخلاف الضريح الذي في الوسط فقرائه يلحدون بفتح الياء من المجرد، ويلحدون بضم الياء من باب الافعال بمعنى واحد، ونقل عن بعض اللغويين: أن اللحد بمعنى الميل إلى جانب، والالحاد بمعنى الجدال والمماراة. وقوله: " سيجزون " الآية بالفصل لانه بمنزلة الجواب لسؤال مقدر كأنه لما قيل: " وذروا الذين يلحدون في أسمائه " قيل: إلى م يصير حالهم ؟ فاجيب: " سيجزون ما كانوا يعملون " وللبحث في الاسماء الحسنى بقايا ستوافيك في كلام مستقل نورده بعد الفراغ عن تفسير الآيات إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " قد مر بعض ما يتعلق به من الكلام في قوله تعالى: " ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " الآية: 159 من السورة وتختص هذه الآية بأنها لوقوعها في سياق تقسيم الناس إلى ضال ومهتد، وبيان أن الملاك في ذلك دعاؤه سبحانه بأحسن الاسماء اللائقة بحضرته والالحاد في أسمائه، تدل على أن النوع الانساني يتضمن طائفة قليلة أو كثيرة مهتدية حقيقة إذ الكلام في الاهتداء والضلال الحقيقيين المستندين إلى صنع الله، ومن يهدي الله فهو المهتدي ومن يضلل فاولئك هم الخاسرون، والاهتداء الحقيقي لا يكون إلا عن هداية حقيقية، وهي التي لله سبحانه، وقد تقدم في قوله تعالى: " فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين " الانعام: 89، وغيره أن الهداية الحقيقية الالهية لا تتخلف عن مقتضاها بوجه وتوجب العصمة من الضلال، كما أن الترديد الواقع في قوله تعالى: " أ فمن يهدي إلى الحق أحق اأ يتبع أمن لا يهدى الا أن يهدى " يونس: 35. يدل على أن من يهدي إلى الحق يجب أن لا يكون مهتديا بغيره إلا بالله فافهم ذلك.

[ 346 ]

وعلى هذا فإسناد الهداية إلى هذه الامة لا يخلو عن الدلالة على مصونيتهم من الضلال واعتصامهم بالله من الزيغ إما بكون جميع هؤلاء المشار إليهم بقوله: " أمة يهدون بالحق " متصفين بهذه العصمة والصيانة كالانبياء والاوصياء، وإما بكون بعض هذه الامة كذلك وتوصيف الكل بوصف البعض نظير قوله: " تعالى ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة " الجاثية: 16، وقوله: " وجعلكم ملوكا " المائدة: 20، وقوله: " لتكونوا شهداء على الناس " البقرة: 143، وإنما المتصف بهذه المزايا بعضهم دون الجميع. والمراد بالآية - والله أعلم - إنا لا نأمركم بأمر غير واقع أو خارج عن طوق البشر فان ممن خلقنا أمة متلبسة بالاهتداء الحقيقي هادين بالحق لان الله كرمهم بهدايته الخاصة. قوله تعالى: " والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون " الاستدراج الا ستصعاد أو الاستنزال درجه فدرجه، والاستدناء من أمر أو مكان، وقرينة المقام تدل على أن المراد به هنا الاستدناء من الهلاك إما في الدنيا أو في الآخرة. وتقييد الاستدراج بكونه من حيث لا يعلمون للدلالة على أن هذا التقريب خفي غير ظاهر عليهم بل مستبطن فيما يتلهون فيه من مظاهر الحياة المادية فلا يزالون يقتربون من الهلاك باشتداد مظالمهم فهو تجديد نعمة بعد نعمة حتى يصرفهم التلذذ بها عن التأمل في وبال أمرهم كما مر في قوله تعالى: " ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا " الاعراف: 95، وقال تعالى: " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد " آل عمران: 197. ومن وجه آخر لما انقطع هؤلاء عن ذكر ربهم وكذبوا بآياته سلبوا اطمئنان القلوب وأمنها بالتشبث بذيل الاسباب التي من دون الله وعذبوا باضطراب النفوس وقلق القلوب وقصور الاسباب وتراكم النوائب، وهم يظنون أنها الحياة ناسين معنى حقيقة الحياة السعيدة فلا يزالون يستزيدون من مهلكات زخارف الدنيا فيزدادون عذابا وهم يحسبونه زيادة في النعمة حتى يردوا عذاب الآخرة وهو أمر وأدهى، فهم يستدرجون في العذاب من لدن تكذيبهم بآيات ربهم حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون.

[ 347 ]

قال تعالى: " إلا بذكر الله تطمئن القلوب " الرعد: 28، وقال: " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا " طه: 124، وقال: " فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون " التوبة: 55، وهذا معنى آخر من الاستدراج لكن قوله تعالى بعده: " واملى لهم " لا يلائم ذلك فالمتعين هو المعنى الاول. قوله تعالى: " واملى لهم إن كيد متين " الاملاء هو الامهال، وقوله: " إن كيدي متين " تعليل لمجموع ما في الآيتين، وفي قوله " واملي " بعد قوله: " سنستدرجهم " الآية، التفات من التكلم مع الغير إلى التكلم وحده للدلالة على مزيد العناية بتحريمهم من الرحمة الالهية وإيرادهم مورد الهلكة. وأيضا الاملاء هو إمهالهم إلى أجل مسمي. فيكون في معنى قوله: " ولو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم " الشورى: 14، وهذه الكلمة هي قوله لآدم عليه السلام حين إهباطه إلى الارض: " ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين " البقرة: 36 وهو القضاء الالهي والقضاء مختص به تعالى لا يشاركه فيه غيره، وهذا بخلاف الاستدراج الذي هو إيصال النعمة بعد النعمة وتجديدها فإنها نعم إلهية مفاضة بالوسائط من الملائكة والامر فلهذا السبب جئ في الاستدراج بصيغة المتكلم مع الغير، وغير ذلك في الاملاء وفي الكيد الذي هو أمر متحصل من الاستدراج والاملاء إلى لفظ المتكلم وحده. قوله تعالى: " أ ولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين " في تركيب الكلام اختلاف شديد بينهم، والذي يستبق إلى الذهن من السياق أن يكون قوله: " أ ولم يتفكروا " كلاما تاما سيق للانكار و التوبيخ ثم قوله: " ما بصاحبهم من جنة " الآية كلاما آخر سيق لبيان صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعواه النبوة، وهو يشير إلى ما يتفكرون فيه كأنه قيل: أ ولم يتفكروا في أنه ما بصاحبهم من جنة الآية حتى يتبين لهم ذلك ؟ نعم، ما به من جنة إن هو إلا نذير مبين. والتعبير عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصاحبهم للاشارة إلى مادة الاستدلال الفكري فإنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يصحبهم ويصحبونه طول حياته بينهم فلو كان به شئ من جنة لبان لهم

[ 348 ]

ذلك البتة فهو فيما جاء به نذير لا مجنون، والجنة بناء نوع من الجنون على ما قيل وإن كان من الجائز إن يكون المراد به الفرد من الجن بناء على ما يزعمونه أن المجنون يحل فيه بعض الجن فيتكلم من فيه وبلسانه. قوله تعالى: " أ ولم ينظروا في ملكوت السماوات والارض " إلى آخر الآية قد مر كرارا أن الملكوت في عرف القرآن على ما يظهر من قوله تعالى: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ " يس: 83 هو الوجه الباطن من الاشياء الذي يلي جهة الرب تعالى، وأن النظر إلى هذا الوجه واليقين متلازمان كما يفهم من قوله: " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين " الانعام: 75. فالمراد توبيخهم في الاعراض والانصراف عن الوجه الملكوتي للاشياء لم نسوه ولم ينظروا فيه حتى يتبيلهم أن ما يدعوهم إليه هو الحق ؟ وقوله: " وما خلق الله من شئ " عطف على موضع السماوات، وقوله " من شئ " بيان لما الموصولة، ومعنى الآية: لم لم ينظروا في خلق السماوات والارض وأي شئ آخر مما خلقه الله ؟ لكن لا من الوجه الذي يلي الاشياء حتى ينتج العلم بخواص الاشياء الطبيعية بل من جهة أن وجوداتها غير مستقلة بنفسها مرتبطة بغيرها محتاجة إلى رب يدبر أمرها وأمر كل شئ، وهو رب العالمين. وقوله: " وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم " عطف على قوله " ملكوت " الآية لكونه في تأويل المفرد والتقدير: أ ولم ينظروا في أنه عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فإن النظر في هذا الاحتمال ربما صرفهم عن التمادي على ضلالهم وغيهم فأغلب ما يصرف الانسان عن الاشتغال بأمر الآخرة، ويوجه وجهه إلى الاغترار بالدنيا نسيان الموت الذي لا يدري متى يرد رائده، وأما إذا التفت إلى ذلك وشاهد جهله بأجله وأن من المرجو المحتمل أن يكون قد اقترب منهم فإنه يقطع منابت الغفلة ويمنعه عن اتباع الهوى وطول الامل. وقوله: " فبأي حديث بعده يؤمنون " الضمير للقرآن على ما يستدعيه السياق، وفي الكلام ايئاس من إيمانهم بالمرة أي إن لم يؤمنوا بالقرآن وهو تجليه سبحانه عليهم

[ 349 ]

بكلامه يكلمهم بما يضطر عقولهم بقبوله من الحجج والبراهين والموعظة الحسنة وهو مع ذلك معجزة باهرة فلا يؤمنون بشئ آخر البتة، وقد أخبر سبحانه أنه طبع على قلوبهم فلا سبيل لهم إلى فقه القول والايمان بالحق، ولذلك عقبه بقوله في الآية التالية: " من يضلل الله فلا هادي له " الآية. قوله تعالى: " من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون " العمه الحيرة والتردد في الضلال أو عدم معرفة الحجة، وإنما لم يذكر ما يقابله وهو أن من يهدي فلا مضل له لان الكلام مسوق لتعليل الآية السابقة: " فبأي حديث " الآية كأنه قيل: لم لا يؤمنون بحديث البتة ؟ فقيل: لان من يضلل الله الآية. (كلام في الاسماء الحسنى في فصول) 1 - معنى الاسماء الحسنى ؟ و كيف الطريق إليها ؟ نحن أول ما نفتح أعيننا ونشاهد من مناظر الوجود ما نشاهده يقع إداركنا على أنفسنا وعلى إقرب الامور منا وهي روابطنا مع الكون الخارج من مستدعيات قوانا العاملة لابقائنا فأنفسنا، وقوانا، وأعمالنا المتعلقة بها هي أول ما يدق باب إدراكنا لكنا لا نرى أنفسنا إلا مرتبطة بغيرها ولا قوانا ولا أفعالنا إلا كذلك، فالحاجة من أقدم ما يشاهده الانسان، يشاهدها من نفسه ومن كل ما يرتبط به من قواه وأعماله والدنيا الخارجة، وعند ذلك يقضي بذات ما يقوم بحاجته ويسد خلته، وإليه ينتهي كل شئ، وهو الله سبحانه، ويصدقنا في هذا النظر والقضاء قوله تعالى: " يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني ". وقد عجز التاريخ عن العثور على بدء ظهور القول بالربوبية بين الافراد البشرية بل وجده وهو يصاحب الانسانية إلى أقدم العهود التي مرت على هذا النوع حتى أن الاقوام الوحشية التي تحاكي الانسان الاولي في البساطة لما ! اكتشفوهم في أطراف المعمورة كقطان أميركا واستراليا وجدوا عندهم القول بقوى عالية هي وراء مستوى الطبيعة ينتحلون بها، وهو قول بالربوبية وإن اشتبه عليهم المصداق فالاذعان بذات ينتهي إليها أمر كل شئ من لوازم الفطرة الانسانية لا يحيد عنه إلا من انحرف عن إلهام

[ 350 ]

فطرته لشبهة عرضت له كمن يضطر نفسه على الاعتياد بالسم وطبيعته تحذره بإلهامها، وهو يستحسن ما أبتلي به. ثم إن أقدم ما نواجهه في البحث عن المعارف الالهية أنا نذعن بانتهاء كل شئ إليه، وكينونته ووجوده منه فهو يملك كل شئ لعلمنا أنه لو لم يملكها لم يمكن أن يفيضها ويفيدها لغيره على أن بعض هذه الاشياء مما ليست حقيقته إلا مبنية على الحاجة منبئة عن النقيصة، وهو تعالى منزه عن كل حاجة ونقيصة لانه الذي إليه يرجع كل شئ في رفع حاجته ونقيصته. فله الملك - بكسر الميم وبضمها - على الاطلاق، فهو سبحانه يملك ما وجدناه في الوجود من صفة كمال كالحياة والقدرة والعلم والسمع والبصر والرزق والرحمة والعزة وغير ذلك. فهو سبحانه حي، قادر، عليم، سميع، بصير لان في نفيها إثبات النقص ولا سبيل للنقص إليه، ورازق ورحيم وعزيز ومحي ومميت ومبدء ومعيد وباعث إلى غير ذلك لان الرزق والرحمة والعزة والاحياء والاماتة والابداء والاعادة والبعث له، وهو السبوح القدوس العلي الكبير المتعال إلى غير ذلك نعني بها نفى كل نعت عدمي وكل صفة نقص عنه. فهذا طريقنا إلى إثبات الاسماء والصفات له تعالى على بساطته، وقد صدقنا كتاب الله في ذلك حيث أثبت الملك - بكسر الميم - والملك - بضم الميم - له على الاطلاق في آيات كثيرة لا حاجة إلى إيرادها. 2 - ما هو حد ما نصفه أو نسميه به من الاسماء ؟ تبين من الفصل الاول أنا ننفي عنه جهات النقص والحاجة التي نجدها فيما نشاهده من أجزاء العالم، وهي تقابل الكمال كالموت والفقد والفقر والذلة والعجز والجهل ونحو ذلك، ومعلوم أن نفي هذه الامور، وهي في نفسها سلبية يرجع إلى إثبات الكمال فإن في نفي الفقر إثبات الغنى، وفي نفي الذلة والعجز والجهل إثبات العزة والقدرة والعلم وهكذا. وأما صفات الكمال التي نثبتها له سبحانه كالحياة والقدرة والعلم ونحو ذلك فقد عرفت أنا نثبتها بالاذعان بملكه جميع الكمالات المثبتة في دار الوجود غير أنا ننفي عنه

[ 351 ]

تعالى جهات الحاجة والنقص التي تلازم هذه الصفات بحسب وجودها في مصاديقها. فالعلم في الانسان مثلا إحاطة حضورية بالمعلوم من طريق انتزاع الصورة وأخذها بقوى بدنية من الخارج والذي يليق بساحته أصل معنى الاحاطة الحضورية، وأما كونه من طريق أخذ الصورة المحوج إلى وجود المعلوم في الخارج قبلا وإلى آلات بدنية مادية مثلا فهو من النقص الذي يجب تنزيهه تعالى منه، وبالجملة نثبت له أصل المعنى الثبوتي ونسلب عنه خصوصية المصداق المؤدية إلى النقص والحاجة. ثم لما كنا نفينا عنه كل نقص وحاجة. ومن النقص أن يكون الشئ محدودا بحد منتهيا بوجوده إلى نهاية فإن الشئ لا يحد نفسه وإنما يحده غيره الذي يقهره بضرب الحد والنهاية له، ولذلك نفينا عنه كل حد ونهاية فليس سبحانه محدودا في ذاته بشئ ولا في صفاته بشئ وقد قال تعالى: " وهو الواحد القهار " الرعد: 16 فله الوحدة التي تقهر كل شئ من قبله فتحيط به. ومن هنا قضينا أن صفاته تعالى عين ذاته، وكل صفة عين الصفة الاخرى، فلا تمايز إلا بحسب المفهوم، ولو كان علمه غير قدرته مثلا، وكل منهما غير ذاته كما فينا معاشر الانسان مثلا لكان كل منها يحد الآخر والآخر ينتهي إليه فكان محدود وحد ومتناه ونهاية فكان تركيب وفقر إلى حاد يحدها غيره، تعالى عن ذلك وتقدس، وهذه صفة أحديته تعالى لا ينقسم من جهة من الجهات، ولا يتكثر في خارج ولا في ذهن. ومما تقدم يظهر فساد قول من قال: إن معاني صفاته تعالى ترجع إلى النفى رعاية لتنزيهه عن صفات خلقه فمعنى العلم والقدرة والحياة هناك عدم الجهل والعجز والموت، وكذا في سائر الصفات العليا، وذلك لاستلزامه نفي جميع صفات الكمال عنه تعالى، وقد عرفت أن سلوكنا الفطري يدفع ذلك، وظواهر الآيات الكريمة تنافيه، ونظيره القول بكون صفاته زائدة على ذاته أو نفي الصفات وإثبات آثارها وغير ذلك مما قيل في الصفات فكل ذلك مدفوعة بما تقدم من كيفية سلوكنا الفطري، ولتفصيل البحث عن بطلانها محل آخر. 3 - الانقسامات التي لها: يظهر مما قدمناه من كيفية السلوك الفطري أن من صفات الله سبحانه ما يفيد معنى ثبوتيا كالعلم والحياة وهي المشتملة على معنى الكمال،

[ 352 ]

ومنها ما يفيد معنى السلب وهي التي للتنزيه كالسبوح والقدوس، وبذلك يتم انقسام الصفات إلى قسمين: ثبوتية، وسلبية. وأيضا من الصفات ما هي عين الذات ليست بزائدة عليها كالحياة والقدرة والعلم بالذات، وهي الصفات الذاتية، ومنها ما يحتاج في تحققه إلى فرض تحقق الذات قبلا كالخلق والرزق وهي الصفات الفعلية، وهي زائدة على الذات منتزعة عن مقام الفعل، ومعنى انتزاعها عن مقام أنا مثلا نجد هذه النعم التي نتنعم بها ونتقلب فيها نسبتها إلى الله سبحانه نسبة الرزق المقرر للجيش من قبل الملك إلى الملك فنسميها رزقا، وإذ كان منتهيا إليه تعالى نسميه رازقا، ومثله الخلق والرحمة والمغفرة وسائر الصفات والاسماء الفعلية، فهي تطلق عليه تعالى ويسمى هو بها من غير أن يتلبس بمعانيها كتلبسه بالحياة والقدرة وغيرها من الصفات الذاتية، ولو تلبس بها حقيقة لكانت صفات ذاتية غير خارجة من الذات فللصفات والاسماء انقسام آخر إلى الذاتية والفعلية. ولها انقسام آخر إلى النفسية والاضافية فما لا إضافة في معناها إلى الخارج عن مقام الذات كالحياة نفسي، وما له إضافة إلى الخارج سواء كان معنى نفسيا ذا إضافة كالصنع والخلق هي النفسية ذات الاضافة، أو معنى إضافيا محضا كالخالقية والرازقية هي الاضافية المحضة. 4 - نسب الصفات والاسماء إلينا ونسبتها فيما بينها. لا فرق بين الصفة والاسم غير أن الصفة تدل على معنى من المعاني يتلبس به الذات أعم من العينية والغيرية، والاسم هو الدال على الذات مأخوذة بوصف. فالحياة والعلم صفتان، والحي والعالم اسمان وإذ كان اللفظ لا شأن له إلا الدلالة على المعنى وانكشافه به فحقيقة الصفة والاسم هو الذي يكشف عنه لفظ الصفة والاسم فحقيقة الحياة المدلول عليها بلفظ الحياة هي الصفة الالهية وهي عين الذات، وحقيقة الذات بحياتها التي هي عينها هو الاسم الالهي، وبهذا النظر يعود الحي والحياة اسمين للاسم والصفة وان كانا بالنظر المتقدم نفس الاسم ونفس الصفة. وقد تقدم أنا في سلوكنا الفطري إلى الاسماء إنما تفطنا بها من جهة ما شاهدناه في الكون من صفات الكمال فأيقنا من ذلك أن الله سبحانه مسمى بها لما أنه مالكها

[ 353 ]

الذي أفاض علينا بها، وما شاهدنا فيه من صفات النقص والحاجة فأيقنا أنه تعالى منزه منها متصف بما يقابلها من صفة الكمال وبها يرفع عنا النقص والحاجة فيما يرفع، فمشاهدة العلم والقدرة في الكون تهدينا إلى اليقين بأن له سبحانه علما وقدره يفيض بهما ما يفيضه من العلم والقدرة، ومشاهدة الجهل والعجز في الوجود تدلنا على انه منزه عنهما متصف بما يقابلهما من العلم والقدرة الذين بهما ترفع حاجتنا إلى العلم والقدرة فيما ترفع، وهكذا في سائرها. ومن هنا يظهر أن جهات الخلقة وخصوصيات الوجود التي في الاشياء ترتبط إلى ذاته المتعالية من طريق صفاته الكريمة أي أن الصفات وسائط بين الذات وبين مصنوعاته فالعلم والقدرة والرزق والنعمة التي عندنا بالترتيب تفيض عنه سبحانه بما أنه عالم قادر رازق منعم بالترتيب، وجهلنا يرتفع بعلمه، وعجزنا بقدرته، وذلتنا بعزته، وفقرنا بغناه، وذنوبنا بعفوه و مغفرته، وإن شئت فقل بنظر آخر هو يقهرنا بقهره ويحدنا بلا محدوديته، وينهينا بلا نهايته، ويضعنا برفعته، ويذللنا بعزته، ويحكم فينا بما يشاء بملكه - بالضم - ويتصرف فينا كيف يشاء بملكه - بالكسر فافهم ذلك. وهذا هو الذي نجري عليه بحسب الذوق المستفاد من الفطرة الصافية فمن يسأل الله الغنى ليس يقول: يا مميت يا مذل أغنني، وإنما يدعوه بأسمائه: الغني والعزيز والقادر مثلا، والمريض الذي يتوجه إليه لشفاء مرضه يقول: يا شافي يا معافي يا رؤوف يا رحيم ارحمني واشفني، ولن يقول: يا مميت يا منتقم يا ذا البطش اشفني، وعلى هذا القياس. والقرآن الكريم يصدقنا في هذا السلوك والقضاء، وهو أصدق شاهد على صحة هذا النظر فتراه يذيل آياته الكريمة بما يناسب مضامين متونها من الاسماء الالهية ويعلل ما يفرغه من الحقائق بذكر الاسم والاسمين من الاسماء بحسب ما يستدعيه المورد من ذلك. والقرآن هو الكتاب السماوي الوحيد الذي يستعمل الاسماء الالهية في تقرير مقاصده، ويعلمنا علم الاسماء من بين ما بلغنا من الكتب السماوية المنسوبة إلى الوحي. فتبين أنا ننتسب إليه تعالى بواسطة أسمائه، وبأسمائه بواسطة آثارها المنتشرة

[ 354 ]

في أقطار عالمنا المشهود فآثار الجمال والجلال في هذا العالم هي التي تربطنا بأسماء جماله وجلاله من حياة وعلم وقدرة وعزة وعظمة وكبرياء، ثم الاسماء تنسبنا إلى الذات المتعالية التي تعتمد عليها قاطبة أجزاء العالم في استقلالها. وهذه الآثار التي عندنا من ناحية أسمائه تعالى مختلفة في أنفسها سعة وضيقا، وهما بإزاء ما في مفاهيمها من العموم والخصوص فموهبة العلم التي عندنا تنشعب منها شعب السمع والبصر والخيال والتعقل مثلا، ثم هي والقدرة والحياة وغيرها تندرج تحت الرزق والاعطاء والانعام والجود، ثم هي والعفو والمغفرة ونحوها تندرج تحت الرحمة العامة. ومن هنا يظهر أن ما بين نفس الاسماء سعة وضيقا، وعموما وخصوصا على الترتيب الذي بين آثارها الموجودة في عالمنا فمنها خاصة، ومنها عامة، وخصوصها وعمومها بخصوص حقائقها الكاشفة عنها آثارها وعمومها، وتكشف عن كيفيه النسب التي بين حقائقها النسب التي بين مفاهيمها فالعلم اسم خاص بالنسبة إلى الحي وعام بالنسبة إلى السميع البصير الشهيد اللطيف الخبير والرازق خاص بالنسبة إلى الرحمان، وعام بالنسبة إلى الشافي الناصر الهادي وعلى هذا القياس. فللاسماء الحسنى عرض عريض تنتهي من تحت إلى اسم أو اسماء خاصة لا يدخل تحتها اسم آخر ثم تأخذ في السعة والعموم ففوق كل اسم ما هو أوسع منه وأعم حتى تنتهي إلى اسم الله الاكبر الذي يسع وحده جميع حقائق الاسماء وتدخل تحته شتات الحقائق برمتها، وهو الذي نسميه غالبا بالاسم الاعظم. ومن المعلوم أنه كلما كان الاسم أعم كانت آثاره في العالم أوسع، والبركات النازلة منه أكبر وأتم لما أن الآثار للاسماء كما عرفت فما في الاسم من حال العموم والخصوص يحاذيه بعينه أثره، فالاسم الاعظم ينتهي إليه كل أثر، ويخضع له كل أمر. 5 - ما معنى الاسم الاعظم ؟ شاع بين الناس أنه اسم لفظي من أسماء الله سبحانه إذا دعي به استجيب، ولا يشذ من أثره شئ غير أنهم لما لم يجدوا هذه الخاصة في شئ من الاسماء الحسنى المعروفة ولا في لفظ الجلالة اعتقدوا أنه مؤلف من حروف مجهولة تأليفا مجهولا لنا لو عثرنا عليه أخضعنا لارادتنا كل شئ.

[ 355 ]

وفي مزعمة أصحاب العزائم والدعوات أن له لفظا يدل عليه بطبعه لا بالوضع اللغوي غير أن حروفه وتأليفها تختلف باختلاف الحوائج والمطالب، ولهم في الحصول عليه طرق خاصة يستخرجون بها حروفا أولا ثم يؤلفونها ويدعون بها على ما نعرفه من راجع فنهم. وفي بعض الروايات الواردة إشعار ما بذلك كما ورد أن " بسم الله الرحمن الرحيم " أقرب إلى اسم الله الاعظم من بياض العين إلى سوادها، وما ورد أنه في آية الكرسي وأول سورة آل عمران، وما ورد أن حروفه متفرقة في سورة الحمد يعرفها الامام وإذا شاء ألفها ودعى بها فاستجيب له. وما ورد أن آصف بن برخيا وزير سليمان دعا بما عنده من حروف اسم الله الاعظم فأحضر عرش ملكة سبأ عند سليمان في أقل من طرفة عين، وما ورد أن الاسم الاعظم على ثلاث وسبعين حرفا قسم الله بين أنبيائه اثنتين وسبعين منها، واستأثر واحدة منها عنده في علم الغيب، إلى غير ذلك من الروايات المشعرة بأن له تأليفا لفظيا. والبحث الحقيقي عن العلة والمعلول وخواصها يدفع ذلك كله فإن التأثير الحقيقي يدور مدار وجود الاشياء في قوته وضعفه والمسانخة بين المؤثر والمتأثر، والاسم اللفظي إذا اعتبرنا من جهة خصوص لفظه كان مجموعة أصوات مسموعة هي من الكيفيات العرضية، وإذا اعتبر من جهة معناه المتصور كان صورة ذهنية لا أثر لها من حيث نفسها في شئ البتة، ومن المستحيل أإن يكون صوت أوجدناه من طريق الحنجرة أو صورة خيالية نصورها في ذهننا بحيث يقهر بوجوده وجود كل شئ، ويتصرف فيما نريده على ما نريده فيقلب السماء أرضا والارض سماء ويحول الدنيا إلى الآخرة وبالعكس وهكذا، وهو في نفسه معلول لارادتنا. والاسماء الالهية واسمه الاعظم خاصة وإن كانت مؤثرة في الكون ووسائط وأسبابا لنزول الفيض من الذات المتعالية في هذا العالم المشهود لكنها انما تؤثر بحقائقها لا بالالفاظ الدالة في لغة كذا عليها، ولا بمعانيها المفهومة من ألفاظها المتصورة في الاذهان ومعنى ذلك أن الله سبحانه هو لفاعل الموجد لكل شئ بما له من الصفة الكريمة المناسبة له التي يحويها الاسم المناسب، لا تأثير اللفظ أو صورة مفهومة في الذهن

[ 356 ]

أو حقيقة أخرى غير الذات المتعالية. إلا أن الله سبحانه وعد إجابة دعوة من دعاه كما في قوله: " أجيب دعوة الداع إذا دعان " البقرة: 186، وهذا يتوقف على دعاء وطلب حقيقي، وأن يكون الدعاء والطلب منه تعالى لا من غيره - كما تقدم في تفسير الآية - فمن انقطع عن كل سبب واتصل بربه لحاجة من حوائجه فقد اتصل بحقيقة الاسم المناسب لحاجته فيؤثر الاسم بحقيقته ويستجاب له، وذلك حقيقة الدعاء بالاسم فعلى حسب حال الاسم الذي انقطع إليه الداعي يكون حال التأثير خصوصا وعموما، ولو كان هذا الاسم هو الاسم الاعظم انقاد لحقيقته كل شئ واستجيب للداعي به دعاؤه على الاطلاق. وعلى هذا يجب أن يحمل ما ورد من الروايات والادعية في هذا الباب دون الاسم اللفظي أو مفهومه. ومعنى تعليمه تعالى نبيا من أنبيائه أو عبدا من عباده اسما من أسمائه أو شيئا من الاسم الاعظم هو أن يفتح له طريق الانقطاع إليه تعالى باسمه ذلك في دعائه ومسألته فإن كان هناك اسم لفظي وله معنى مفهوم فإنما ذلك لاجل أن الالفاظ ومعانيها وسائل وأسباب تحفظ بها الحقائق نوعا من الحفظ فافهم ذلك. واعلم أن الاسم الخاص ربما يطلق على ما لا يسمى به غير الله سبحانه كما قيل به في الاسمين: الله، والرحمان. أما لفظ الجلالة فهو علم له تعالى خاص به ليس اسما بالمعنى الذي نبحث عنه، وأما الرحمان فقد عرفت أن معناه مشترك بينه وبين غيره تعالى لما أنه من الاسماء الحسنى، هذا من جهة البحث التفسيري، وأما من حيث النظر الفقهي فهو خارج عن مبحثنا. 6 - عدد الاسماء الحسنى: لا دليل في الآيات الكريمة على تعين عدد للاسماء الحسنى تتعين به بل ظاهر قوله: " الله لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى " طه: 8، وقوله: " ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها " الاعراف: 180، وقوله: " له الاسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والارض " الحشر: 24، وأمثالها من الآيات أن كل اسم في الوجود هو أحسن الاسماء في معناها فهو له تعالى فلا تتحدد أسمائه الحسنى بمحدد.

[ 357 ]

الذي ورد منها في لفظ الكتاب الالهي مائة وبضعة (127) وعشرون اسما هي. ا - الاله، الاحد، الاول، الآخر، الاعلى، الاكرم، الاعلم. أرحم الراحمين، أحكم الحاكمين، أحسن الخالقين، أهل التقوى، أهل المغفرة، الاقرب الابقى. ب - البارئ، الباطن، البديع، البر، البصير. ت - التواب. ج - الجبار، الجامع. ح - الحكيم، الحليم، الحي، الحق، الحميد، الحسيب، الحفيظ، الحفي. خ - الخبير، الخالق، الخلاق، الخير، خير الماكرين، خير الرازقين، خير الفاصلين، خير الحاكمين، خير الفاتحين، خير الغافرين، خير الوارثين، خير الراحمين، خير المنزلين. ذ - ذو العرش، ذو الطول، ذو الانتقام، ذو الفضل العظيم، ذو الرحمة، ذو القوة، ذو الجلال والاكرام، ذو المعارج. ر - الرحمان، الرحيم، الرؤوف، الرب، رفيع الدرجات، الرزاق، الرقيب. س - السميع، السلام، سريع الحساب، سريع العقاب. ش - الشهيد، الشاكر، الشكور، شديد العقاب، شديد المحال. ص - الصمد. ظ - الظاهر. ع - العليم، العزيز، العفو، العلي، العظيم، علام الغيوب، عالم الغيب والشهادة.

[ 358 ]

غ - الغني، الغفور، الغالب، غافر الذنب، الغفار. ف - فالق الاصباح، فالق الحب والنوى، الفاطر، الفتاح. ق - القوي، القدوس، القيوم، القاهر، القهار، القريب، القادر، القدير، قابل التوب، القائم على كل نفس بما كسبت. ك - الكبير، الكريم، الكافي. ل - اللطيف. م - الملك، المؤمن، المهيمن، المتكبر، المصور، المجيد، المجيب، المبين المولى، المحيط، المقيت، المتعال، المحيي، المتين، المتقدر، المستعان، المبدئ مالك الملك. ن - النصير، النور. و - الوهاب، الواحد، الولي، الوالي، الواسع، الوكيل، الودود. ه‍ - الهادي. وقد تقدم أن ظاهر قوله: " ولله الاسماء الحسنى " " وله الاسماء الحسنى " أن معاني هذه الاسماء له تعالى حقيقة وعلى نحو الاصالة، ولغيره تعالى بالتبع فهو المالك لها حقيقة، وليس لغيره إلا ما ملكه الله من ذلك، وهو مع ذلك مالك لما ملكه غيره لم يخرج عن ملكه بالتمليك، فله سبحانه حقيقة العلم مثلا وليس لغيره منه إلا ما وهبه له وهو مع ذلك له لم يخرج من ملكه وسلطانه. ومن الدليل على الاشتراك المعنوي في ما يطلق عليه تعالى وعلى غيره من الاسماء والاوصاف ما ورد من أسمائه تعالى بصيغة أفعل التفضيل كالاعلى والاكرم فإن صيغة التفضيل تدل بظاهرها على اشتراك المفضل والمفضل عليه في أصل المعنى، وكذا ما ورد بنحو الاضافة كخير الحاكمين وخير الرازقين وأحسن الخالقين لظهوره في الاشتراك. هل أسماء الله توقيفية ؟ تبين مما تقدم أن لا دليل على توقيفيه أسماء الله تعالى من كلامه بل الامر بالعكس، والذي استدل به على التوقيف من قوله: " ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه " الآية مبني على كون اللام

[ 359 ]

للعهد، وأن يكون المراد بالالحاد التعدي إلى غير ما ورد من أسمائه من طريق السمع، وكلا الامرين مورد نظر لما مر بيانه. وأما ما ورد مستفيضا مما رواه الفريقان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة " أو ما يقرب من هذا اللفظ فلا دلالة فيها على التوقيف. هذا بالنظر إلى البحث التفسيري، وأما البحث الفقهي فمرجعه فن الفقه والاحتياط في الدين يقتضي الاقتصار في التسمية بما ورد من طريق السمع، وأما مجرد الاجراء والاطلاق من دون تسمية فالامر فيه سهل. (بحث روائي) في التوحيد بإسناده عن الرضا عن آبائه عن علي عليه السلام: إن لله عزوجل تسعة وتسعين اسما من دعا الله بها استجاب له، ومن أحصاها دخل الجنة. أقول: وسيجئ نظيره عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام والمراد بقوله: " من أحصاها دخل الجنة " الايمان باتصافه تعالى بجميع ما تدل عليه تلك الاسماء بحيث لا يشذ عنها شاذ. وفي الدر المنثور أخرج البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وأبو عوانة وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وأبو عبد الله بن منده في التوحيد وابن مردويه وإبو نعيم والبيهقي في كتاب الاسماء والصفات عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لله تسعة وتسعين اسما مائه إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة إنه وتر يحب الوتر. أقول: رواها عن أبي نعيم وابن مردويه عنه، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لله مائة اسم غير اسم من دعا بها استجاب الله له دعاءه، وعن الدار قطني في الغرائب عنه ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال عزوجل: لي تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة. وفيه أخرج أبو نعيم وابن مردويه عن ابن عباس وابن عمر قالا: قال رسول الله

[ 360 ]

صلى الله عليه وآله وسلم إن لله تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد من أحصاها دخل الجنة. أقول: ورواه أيضا عن أبي نعيم عن ابن عباس وابن عمر ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لله تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة، وهي في القرآن. أقول: والرواية تعارض ما سيأتي من روايات الاحصاء حيث إن جميعها مشتملة على أسماء ليست في القرآن بلفظها إلا أن يكون المراد كونها في القرآن بمعناها. وفي التوحيد بإسناده عن الصادق عن آبائه عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة. وهي. الله، الاله، الواحد، الاحد، الصمد، الاول، الآخر، السميع، البصير، القدير، القاهر، العلي، الاعلى، الباقي، البديع، الباري، الاكرم، الظاهر الباطن، الحي، الحكيم، العليم، الحليم، الحفيظ، الحق، الحسيب، الحميد، الحفي الرب، الرحمن، الرحيم، الذاري، الرازق، الرقيب، الرؤوف، الرائي، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، السيد، سبوح، الشهيد، الصادق، الصانع، الظاهر، العدل، العفو، الغفور، الغني، الغياث، الفاطر، الفرد، الفتاح، الفالق، القديم، الملك، القدوس، القوي، القريب، القيوم، القابض، الباسط، قاضي الحاجات، المجيد، المولى، المنان، المحيط، المبين، المغيث، المصور، الكريم، الكبير الكافي، كاشف الضر، الوتر، النور، الوهاب، الناصر، الواسع، الودود، الهادي، الوفي، الوكيل، لوارث، البر، الباعث، التواب، الجليل، الجواد، الخبير، الخالق، خير الناصرين، الديان، الشكور، العظيم، اللطيف، الشافي. وفي الدر المنثور أخرج الترمذي وابن المنذر وابن حبان وابن منده والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة إنه وتر يحب الوتر: هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب الرازق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور،

[ 361 ]

العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الاحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الاول، الآخر، الظاهر، الباطن، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والاكرام، الوالي، المتعال، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور. وفيه أخرج ابن أبي الدنيا في الدعاء والطبراني كلاهما وبو الشيخ والحاكم وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة. اسأل الله الرحمن، الرحيم، الاله، الرب، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الحكيم، العليم، السميع، البصير، الحي، القيوم، الواسع، اللطيف، الخبير، الحنان، المنان البديع، الغفور، الودود، الشكور، المجيد، المبدئ، المعيد، النور، البادى - وفي لفظ: القائم - الاول، الآخر، الظاهر، الباطن، العفو، الغفار، الوهاب، الفرد - وفي لفظ: القادر - الاحد، الصمد، الوكيل، الكافي، الباقي، المغيث، الدائم، المتعال، ذا الجلال والاكرام، المولى، النصير، الحق، المبين، الوارث، المنير، الباعث القدير - وفي لفظ: المجيب - المحيي، المميت، الحميد - وفي لفظ: الجميل - الصادق، الحفيظ، المحيط، الكبير، القريب، الرقيب، الفتاح، التواب، القديم، الوتر، الفاطر، الرزاق، العلام، العلي، العظيم، الغني، المليك، المقتدر، الاكرم، الرؤوف، المدبر، المالك، القاهر، الهادي، الشاكر، الكريم، الرفيع، الشهيد، الواحد، ذا الطول، ذا المعارج، ذا الفضل، الخلاق، الكفيل، الجليل. أقول: وذكر لفظ الجلالة في هذه الروايات المشتملة على الاحصاء لاجراء الاسماء عليه. وإلا فهو خارج عن العدد. وفيه أخرج أبو نعيم عن محمد بن جعفر قال: سألت أبي جعفر بن محمد الصادق عن

[ 362 ]

الاسماء التسعة والتسعين التي من أحصاها دخل الجنة فقال: هي في القرآن: ففي الفاتحة خمسة أسماء، يا الله يا رب يا رحمان يا رحيم يا مالك، وفي البقرة ثلاثة وثلاثون اسما: يا محيط يا قدير يا عليم يا حكيم يا علي يا عظيم يا تواب يا بصير يا ولي يا واسع يا كافي يا رؤوف يا بديع يا شاكر يا واحد يا سميع يا قابض يا باسط يا حي يا قيوم يا غني يا حميد يا غفور يا حليم يا إله يا قريب يا مجيب يا عزيز يا نصير يا قوي يا شديد يا سريع يا خبير. وفي آل عمران: يا وهاب يا قائم يا صادق يا باعث يا منعم يا متفضل، وفي النساء: يا رقيب يا حسيب يا شهيد يا مقيت يا وكيل يا علي يا كبير، وفي الانعام يا فاطر يا قاهر يا لطيف يا برهان، وفي الاعراف: يا محيي يا مميت، وفي الانفال يا نعم المولى يا نعم النصير، وفي هود: يا حفيظ يا مجيد يا ودود يا فعالا لما يريد، وفي الرعد: يا كبير يا متعال، وفي إبراهيم: يا منان يا وارث، وفي الحجر: يا خلاق. وفي مريم: يا فرد، وفي طه: يا غفار، وفي قد أفلح: يا كريم، وفي النور: يا حق، يا مبين، وفي الفرقان: يا هادي، وفي سبأ يا فتاح، وفي الزمر: يا عالم، وفي غافر: يا غافر يا قابل التوب يا ذا الطول يا رفيع، وفي الذاريات: يا رزاق يا ذا القوة يا متين، وفي الطور: يا بر. وفي اقتربت: يا مليك يا مقتدر، وفي الرحمن: يا ذاالجلال والاكرام يا رب المشرقين يا رب المغربين يا باقي يا محسن، وفي الحديد: يا أول يا آخر يا ظاهر يا باطن، وفي الحشر: يا ملك يا قدوس يا سلام يا مؤمن يا مهيمن يا عزيز يا جبار يا متكبر يا خالق يا بارئ يا مصور، وفي البروج يا مبدئ يا معيد، وفي الفجر: يا وتر، وفي الاخلاص: يا أحد يا صمد. أقول: والرواية لا تخلو عن تشويش فإن فيه إدخال لفظ الجلالة في الاسماء التسعة والتسعين وليس منها، وقد كرر بعض الاسماء كالكبير، وقد ذكر في أولها التسعة والتسعون، وأنهيت إلى مائة وعشرة أسماء، وفيها مع ذلك موضع مناقشات أخر فيما يذكر من وجود الاسم في بعض السور كالفرد في سورة مريم، والبرهان في سورة الانعام. إلى غير ذلك.

[ 363 ]

وعلى أي حال ظهر لك من هذه الروايات وهي التي عثرنا عليها من روايات الاحصاء أنها لا تدل على انحصار الاسماء الحسنى فيما تحصيها مع ما فيها من الاختلاف في الاسماء، وذكر بعض ما ليس في القرآن الكريم بلفظ الاسمية، وترك بعض ما في القرآن الكريم بلفظ الاسمية بل غاية ما تدل عليه أن من أسماء الله تسعة وتسعين من خاصتها أن من دعا بها استجيب له، ومن أحصاها دخل الجنة. على أن هناك روايات أخرى تدل على كون أسمائه تعالى أكثر من تسعة وتسعين كما سيأتي بعضها، وفي الادعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام شئ كثير من أسماء الله غير ما ورد منها في القرآن وأحصى في روايات الاحصاء. وفي الكافي بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى خلق اسما بالحروف غير متصوت، وباللفظ غير منطق، و بالشخص غير مجسد، وبالتشبية غير موصوف، وباللون غير مصبوغ، منفي عنه الاقطار مبعد عنه الحدود، محجوب عنه حس كل متوهم مستتر غير مستور. فجعله كلمة تامة على أربعة أجزاء معا ليس منها واحدا قبل الآخر فأظهر منها ثلاثة أسماء لفاقة الخلق إليها، وحجب واحدا منها وهو الاسم المكنون والمخزون فهذه الاسماء التي ظهرت (1) فالظاهر هو الله، تبارك، وتعالى، وسخر سبحانه لكل اسم من هذه الاسماء أربعة أركان فذلك اثنا عشر ركنا، ثم خلق لكل ركن منها ثلاثين اسما فعلا منسوبا إليها: فهو الرحمان، الرحيم، الملك، القدوس، الخالق، البارئ، المصور، الحي، القيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، العليم، الخبير، السميع، الحكيم، العزيز، الجبار، المتكبر، العلي، العظيم، المقتدر، القادر، السلام، المؤمن، المهيمن، البارئ، المنشئ، البديع، الرفيع، الجليل، الكريم، الرازق، المحيي، المميت، الباعث، الوارث. فهذه الاسماء وما كان من الاسماء الحسنى حتى تتم ثلاثمائة وستين اسما فهي


(1) رواه في التوحيد هكذا:.... المخزون بهذه الاسماء الثلاثة التي ظهرت: فالظاهر هو الله (و) تبارك وسبحان ولكل اسم من هذه أربعة أركان الخ. (*)

[ 364 ]

نسبة لهذه الاسماء الثلاثة، وهذه الاسماء الثلاثة أركان، وحجب الاسم الواحد (1) المكنون المخزون بهذه الاسماء الثلاثة، وذلك قوله عز وجل: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الاسماء الحسنى " أقول: قوله عليه السلام إن الله تبارك وتعالى خلق اسما بالحروف غير متصوت " الخ " هذه الصفات المعدودة صريحة في أن المراد بهذا الاسم ليس هو اللفظ، ولا معنى يدل عليه اللفظ من حيث إنه مفهوم ذهني فإن اللفظ والمفهوم الذهني الذي يدل عليه لا معنى لاتصافه بالاوصاف التي وصفه بها وهو ظاهر، وكذا يأبي عنه ما ذكره في الرواية بعد ذلك فليس المراد بالاسم إلا المصداق المطابق للفظ لو كان هناك لفظ، ومن المعلوم أن الاسم بهذا المعنى - وخاصة بالنظر إلى تجزية بمثل: الله وتبارك وتعالى - ليس إلا الذات المتعالية أو هو قائم بها غير خارج عنها البتة. فنسبة الخلق إلى هذا الاسم في قوله: " خلق اسما " يكشف عن كون المراد بالخلق غير المعني المتعارف منه، وأن المراد به ظهور الذات المتعالية ظهورا ينشأ به اسم من الاسماء وحينئذ ينطبق الخبر على ما تقدم بيانه أن الاسماء مترتبة فيما بينها وبعضها واسطة لثبوت بعض، وتنتهي بالاخرة إلى اسم تعينها عين عدم التعين. وتقيد الذات المتعالية به عين عدم تقيدها بقيد. وقوله: " فالظاهر هو الله تبارك وتعالى " إشارة إلى الجهات العامة التي تنتهي إليها جميع الجهات الخاصة من الكمال ويحتاج الخلق إليها من جميع جهات فاقتها وحاجتها، وهي ثلاث: جهة استجماع الذات لكل كمال، وهي التي يدل عليها لفظ الجلالة وجهة ثبوت الكمالات ومنشأية الخيرات والبركات، وهي التي يدل عليه اسم تبارك، وجهة انتفاء النقائص وارتفاع الحاجات وهي التي يدل عليه لفظ تعالى. وقوله: " فعلا منسوبا إليها أي إلى الاسماء " وهو إشارة إلى ما قدمناه من انتشاء إسم من اسم. وقوله: " حتى تتم ثلاث مأة وستين اسما " صريح في عدم انحصار الاسماء الالهية في تسعة وتسعين.

[ 365 ]

وقوله: " وهذه الاسماء الثلاثة أركان وحجب " الخ فإن الاسم المكنون المخزون لما كان اسما فهو تعين وظهور من الذات المتعالية، وإذ كان مكنونا بحسب ذاته غير ظاهر بحسب نفسه فظهوره عين عدم ظهوره وتعينه عين عدم تعينه، وهو ما يعبر عنه أحيانا بقولنا: إنه تعالى ليس بمحدود بحد حتى بهذا الحد العدمي لا يحيط به وصف ولا نعت حتى هذا الوصف السلبي، وهذا بعينه توصيف منا والذات المتعالية أعظم منه وأكبر. ولازمه أن يكون اسم الجلالة الكاشف عن الذات المستجمعة لجميع صفات الكمال اسما من أسماء الذات دونها ودون هذا الاسم المكنون المخزون، وكذا " تبارك " و " تعالى " ثلاثة أسماء معا سدنة وحجابا للاسم المكنون من غير ان يتقدم بعضها بعضا وهذه الحجاب الثلاثة والاسم المكنون المحجوب بها جميعا دون الذات، وأما هي فلا ينتهي إليها أشارة ولا يقع عليها عبارة، إذ كلما تحكيه عبارة أو تومئ إليه إشارة اسم من الاسماء محدود بهذا النحو، والذات المتعالية أعلى منه وأجل. وقوله: " وذلك قوله تعالى: قل ادعوا الله أو أدعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الاسماء الحسنى " وجه الاستفادة أن الضمير في قوله " فله " راجع إلى " أي " وهو اسم شرط من الكنايات لا تعين لمعناه إلا عدم التعين، ومن المعلوم أن المراد بالله وبالرحمن في الاية هو مصداق اللفظين لا نفسهما فلم يقل ادعوا بالله أو بالرحمن بل ادعوا الله الآية فمدلول الآية أن الاسماء منسوبة قائمة جميعا بمقام لا خبر عنه ولا إشارة إليه إلا بعدم الخبر والاشارة فافهم ذلك. وفي الرواية أخذ " تبارك " وكذا " تعالى " وكذا " لا تأخذه سنة ولا نوم " من الاسماء وهو مبني على مجرد الدلالة على الذات المأخوذة بصفة من صفاته من غير رعاية المصطلح الادبي. والروايه من غرر الروايات تشير إلى مسألة هي أبعد سمكا من مستوى الابحاث العامة والافهام المتعارفة، ولذلك اقتصرنا في شرح الرواية على مجرد الاشارات، وأما الايضاح التام فلا يتم إلا ببحث مبسوط خارج عن طوق المقام غير أنها لا تبتني على

[ 366 ]

أزيد مما تقدم من البحث عن نسب الاسماء والصفات إلينا ونسب ما بينها الموضوع في الفصل الرابع من الكلام في الاسماء فعليك بإبقائها حتى تنجلي لك المسألة حق الانجلاء والله الموفق. وفي البصائر بأسناده عن الباقر عليه السلام قال: ان اسم الله الاعظم على ثلاثه وسبعين حرفا، وإنما عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالارض فيما بينه وبين سرير بلقيس ثم تناول السرير بيده ثم عادت الارض كما كانت أسرع من طرفه عين، وعندنا نحن من الاسم اثنان وسبعون حرفا، وحرف عند الله أستاثر به في علم الغيب عنده، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم. وفيه أيضا بأسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله عزوجل جعل اسمه الاعظم على ثلاث وسبعون حرفا فأعطى آدم منها خمسة وعشرين حرفا وأعطى نوحا منها خمسة وعشرين حرفا، وأعطى منها إبراهيم ثمانية أحرف، وأعطى موسى منها أربعة أحرف، وأعطى عيسى منها حرفين وكان يحيى بهما الموتى ويبرئ بهما الاكمه والابرص، وأعطى محمد صلى الله عليه وآله وسلم اثنين وسبعين حرفا، واحتجب حرفا لئلا يعلم ما في نفسه ويعلم ما في نفس غيره ظ. اقول: وفي مساق الروايتين بعض روايات أخر، ولا ينبغي أن يرتاب في أن كونه مفرقا إلى ثلاث وسبعين حرفا أو مؤلفا من حروف لا يستلزم كونه بحقيقة مؤلفا من حروف الهجاء كما تقدمت الاشارة إليه، وفي الروايتين دلالة على ذلك فإنه يعد الاسم وهو واحد ثم يفرق حروفه بين الانبياء ويستثني واحدا، ولو كان من قبيل الاسماء اللفظية الدالة بمجموع حروفه على معنى واحد لم ينفع أحدا منهم عليهم السلام ما أعطيه شيئا البتة. وفي التوحيد بإسناده عن على عليه السلام في خطبه له: إن ربي لطيف اللطافة فلا يوصف باللطف ؟ عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، قبل كل شئ لا يقال شئ قبله، وبعد كل شئ لا يقال له بعد شاء الاشياء لا بهمة، دراك لا بخديعة، هو في الاشياء كلها غير متمازج بها ولا بائن عنها ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا باستهلال رؤية، بائن لا بمسافة

[ 367 ]

قريب لا بمداناة، لطيف لا بتجسم، موجود لا بعد عدم، جاعل لا باضطرار، مقدر لا بحركة، مريد لا بهمامة، سميع لا بآلة، بصير لا بأداة اقول: هو عليه السلام - كما يشاهد - يثبت في صفاته وأسمائه تعالى أصل المعاني وينفي خصوصيات المصاديق الممكنة ونواقص المادة، وهو الذي قدمنا بيانه سابقا: وهذه المعاني واردة في أحاديث كثيرة جدا مروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وخاصة ما ورد عن على والحسن والحسين والباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم السلام في خطب كثيرة من أرادها فليراجع جوامع الحديث، والله الهادي. وفي المعاني بإسناده عن حنان بن سدير عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث: فليس له شبه ولا مثل ولا عدل، ولله الاسماء الحسنى التى لا يسمى بها غيره، وهى التي وصفها الله في الكتاب فقال: " فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه " جهلا بغير علم وهو لا يعلم ويكفر وهو يظن أنه يحسن ؟ فذلك قوله: " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " فهم الذين يلحدون في أسمائه بغير علم فيضعونها غير مواضعها. اقول: والحديث يؤيد ما قدمناه في معنى كون الاسماء حسنى والالحاد فيها، وقوله عليه السلام: " لا يسمى بها غيره " أي لا يوصف بالمعاني التي جردت لها وصح تسميته بها غيره تعالى كإطلاق الخالق بحقيقة معناه الذي له تعالى لغيره، وعلى هذا القياس. وفي الكافي بإسناده إلى معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام: في قول الله عزوجل " ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها " قال: نحن والله الاسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد إلا بمعرفتنا. اقول: ورواه العياشي عنه عليه السلام، وفيه أخذ الاسم بمعنى ما دل على الشئ سواء كان لفظا أو غيره، وعليه فالانبياء والاوصياء عليهم السلام أسماء دالة عليه تعالى وسائط بينه وبين خلقه، ولانهم في العبودية بحيث ليس لهم إلا الله سبحانه فهم المظهرون لاسمائه وصفاته تعالى. وفي الكافي بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل: " وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " قال هم الائمة.

[ 368 ]

اقول: ورواه العياشي عن حمران عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: وقال محمد بن عجلان عنه عليه السلام " نحن هم " وقد تقدم ما يؤيده في البيان المتقدم. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في قوله: " وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى بن مريم متى ما نزل. وفي تفسير البرهان عن موفق بن أحمد عن السري عن ابن المنذر عن الحسين بن سعيد عن أبيه عن أبان بن تغلب عن فضل عن عبد الملك الهمداني عن زادان عن علي قال يفترق هذه الامة على ثلاث وسبعون فرقة اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهم الذين قال الله عزوجل في حقهم: " وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " أنا وشيعتي. اقول: وروى العياشي عن زادان عنه عليه السلام مثله، وفي آخره: " وهم على الحق " مكان قوله: " أنا وشيعتي ". وقد تقدم في ذيل قوله تعالى: " ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون، رواية العياشي عن أبي الصهباء عن علي عليه السلام ما في معناه، وكذا رواية السيوطي في الدر المنثور بطرق عنه مثله. وفي الكافي بإسناده عن سفيان بن السمط قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إن الله إذا أراد بعبد خيرا فأذنب ذنبا أتبعه بنقمة ويذكره الاستغفار، وإذا أراد بعبد شرا فأذنب ذنبا أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ويتمادى بها، وهو قوله عزوجل: " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون " بالنعم عند المعاصي. وفيه بإسناده عن سماعة بن مهران قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله: " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون " قال: هو العبد يذنب الذنب فيجدد له النعم معه تلهية تلك النعم عن الاستغفار من ذلك الذنب. اقول: ورواه أيضا بإسناده عن ابن رئاب عن بعض أصحابنا عنه عليه السلام مثله. وفيه بإسناده عن الحسن الصيقل قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عما روى الناس: " تفكر ساعة خير من قيام ليلة " قلت: كيف ؟ يتفكر ؟ قال: يمر بالخربة أو بالدار فيقول أين ساكنوك ؟ أين بانوك ؟ مالك لا تتكلمين ؟.

[ 369 ]

اقول: وهو من قبيل إراءة بعض المصاديق الظاهرة. وفيه بإسناده عن معمر بن خلاد قال سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول: ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم. إنما العبادة التفكر في أمر الله عزوجل. وفيه بإسناده عن الربعي قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: قال أمير المؤمنين عليه السلام: التفكر يدعو إلى البر والعمل به. وفيه بإسناده عن محمد بن أبي النصر عن بعض رجاله عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أفضل العبادة إدمان التفكر في الله وفي قدرته. وفي تفسير القمي في تفسير قوله تعالى: " ونذرهم في طغيانهم يعمهون " قال: قال نكله إلى نفسه اقول: ومعنى تركهم يعمهون في طغيانهم عدم إعانتهم على أنفسهم وتركهم وإياها بقطع التوفيق فينطبق على الوكول إلى النفس. * * * يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والارض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون - 187. قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون - 188.

[ 370 ]

(بيان) في الآيتين إبانة أن علم الساعة من الغيب المختص به تعالى لا يعلمه إلا الله، ولا دليل لتعيين وقتها والحدس لوقوعها أصلا فلا تأتي إلا بغتة. وفيه إشارة ما إلى حقيقتها بذكر بعض أوصافها. قوله تعالى: " يسألونك عن الساعة أيان مرساها - إلى قوله - إلا هو " الساعة ساعة البعث والرجوع إلى الله لفصل القضاء العام فاللام للعهد لكنه صار في عرف القرآن والشرع كالحقيقة في هذا المعنى. والمرسى اسم زمان ومكان ومصدر ميمي من أرسيت الشئ إذا أثبته، أي متى وقوعها وثبوتها، والتجلية الكشف والاظهار يقال جلاه فانجلى أي كشف عنه فانكشف. فقوله: " لا يجليها لوقتها إلا هو " أي لا يظهرها ولا يكشف عنها في وقتها وعند وقوعها إلا الله سبحانه، ويدل ذلك على أن ثبوتها ووجودها والعلم بها واحد أي إنها محفوظة في مكمن الغيب عند الله تعالى يكشف عنها ويظهرها متى شاء من غير أن يحيط بها غيره سبحانه أو يظهر لشئ من الاشياء وكيف يمكن أن يحيط بها شئ من الاشياء أو ينكشف عنده، وتحققها وظهورها يلازم فناء الاشياء، ولا شئ منها يسعه أن يحيط بفناء نفسه أو يظهر له فناء ذاته، والنظام السببي الحاكم في الكون يتبدل عند وقوعها، وهذا العلم الذي يصحبها من هذا النظام. ومن هنا يظهر: أن المراد بقوله: " ثقلت في السماوات والارض " - والله اعلم - ثقل علمها في السماوات والارض وهو بعينه ثقل وجودها فلا ثمرة لاختلافهم في أن المراد بثقل الساعة فيها ثقل علمها عليها، أو المراد ثقل صفتها على أهل السماوات والارض لما فيها من الشدائد والعقاب والحساب والجزاء، أو ثقل وقوعها عليهم لما فيها من انطواء السماء وانتشار الكواكب واجتماع الشمس والقمر وتسيير الجبال، أو أن السماوات والارض لا تطيق حملها لعظمتها وشدتها. وذلك أنها ثقلية بجميع ما يرجع إليها من ثبوتها والعلم بها وصفاتها على السموات والارض، ولا تطيق ظهورها لملازمته فناءها والشئ لا يطيق فناء نفسه.

[ 371 ]

ومن ذلك يظهر أيضا وجه قوله سبحانه: " لا تأتيكم إلا بغتة " فإن البغتة والفجأة ظهور الشئ من غير أن يعلم به قبل ظهوره، والساعة لثقلها لا يظهر وصف من أوصافها، ولا جزء من أجزائها قبل ظهورها التام، ولذلك كان ظهورها لجميع الاشياء بغتة. ومن هنا أيضا يظهر معنى تتمة الآية: " يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله " الآية على ما سيأتي. قوله تعالى: " يسألونك كأنك حفي عنها " إلى آخر الآية، قال الراغب: الحفي العالم بالشئ (انتهى) وكأنه مأخوذ من حفيت في السؤال إذا ألححت، وقوله: " كأنك حفي " متخلل بين يسألونك والظرف المتعلق به، والاصل: يسألونك عنها كأنك حفي عالم بها، وهو يلوح إلى أنهم كرروا السؤال وألحوا عليه، ولذلك كرر السؤال والجواب بوجه في اللفظ. ففي قوله ثانيا: يسألونك كأنك حفي عنها إشعار أو دلالة على أنهم حسبوا أن جوابه صلى الله عليه وآله وسلم بأمر ربه أولا " إنما علمها عند ربي " من قبيل إحالة علم ما لا يعلمه إلى ربه - على ما هو من أدب الدين - ولذا قال: " عند ربي " إشعارا بالعبودية ووظيفتها، وأن قوله: " لا يجليها لوقتها إلا هو " وصف لعظمتها من غير أن يرتبط ذلك بالعلم بوقتها، ولذلك كله كرروا السؤال ليقول صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك شيئا أو يعترف بجهله لنفسه. فأمره الله سبحانه أن يعيد الجواب عليهم: " إنما علمها عند الله " دالا به على أن القول جد والجواب فصل، فهو من العلم لا من الجهل، والغرض به إفادة العلم بانحصار علمها فيه تعالى دون الجهل بها، وإحالة علمها إلى ربه عملا بوظيفة العبودية، ولذا بدل قوله في الجواب الاول " عند ربي " في هذا الجواب الثاني إلى قوله " عند الله ". ثم قال: " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " يشير به إلى جهلهم بمعنى قوله: " إنما علمها عند ربي " الآية فإنهم لانسهم بالحس والمحسوس يقيسون كل شئ سمعوه إلى المحسوس، ويعممون حكمه عليه فيظنون أن كل ما وصف لهم بوجه يسع لهم أن يعلموه ويحيطوا به علما، وأنه لو كان هناك أمر أخفي عنهم فإنما يخفى بالكتمان

[ 372 ]

ولو أظهر لهم أحاطوا به علما كسائر ما عندهم من الامور المحسوسة وقد أخطأ قياسهم واشتبه عليهم فأن بعض ما في الغيب ومن جملته الساعة لا يطيق علمه إلا الله سبحانه. وقد ظهر من الآية أن علم الساعة مما لا يطيقه شئ من الاشياء إلا الله سبحانه وكذا حقيقة ما له من الاوصاف والنعوت فإن الجميع ثقيله بثقلها. قوله تعالى: " قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله " ألى آخر الآية لما كان في سؤالهم الغيب عنه صلى الله عليه وآله وسلم إيهام أن دعواه النبوة دعوى لعلم الغيب، ولا يعلم الغيب حقيقة غيره تعالى الا بوحي وتعليم إلهي، أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يتبرء من دعوى العلم بالغيب. وحقيقة السبب في اختصاص العلم بالغيب به تعالى أن غيره تعالى أياما كان محدود الوجود لا سبيل له إلى الخارج منه الغائب عنه من حيث إنه غائب، ولا شئ غير محدود ولا غير متناه محيط بكل شئ إلا الله سبحانه فله العلم بالغيب. لكن لما كان اولئك السائلون لا يسعهم فهم هذا السبب على ما لهم من الافهام البسيطة العامية أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يكلمهم بما يسعهم فهمه، وهو أن العلم بالغيب يهدي الانسان إلى كل خير وشر والعادة تأبى أن يعلم أحد الخير والشر ويهتدي إلى موقعهما ثم لا يستفيد من ذلك لنفسه فالانسان إذا لم يستكثر من الخير ولم يوق من الشر كيف يعلم الغيب ؟. فقوله في صدر الآية: " قل لا أملك لنفسي " الآية وصف لنفسه بما ينافي نتيجة العلم بالغيب ثم قوله: " ولو كنت أعلم الغيب " الآية بيان نتيجة العلم بالغيب، لينتج من الفصلين عدم علمه بالغيب، ثم قوله: " إن أنا إلا نذير " بيان حقيقة حاله فيما يدعيه من الرسالة من غير أن يكون معها دعوى اخرى. (بحث روائي) في تفسير القمى: في قوله " يسألونك عن الساعة أيان مرساها " الآية، قال: قال: إن قريشا بعثوا العاص بن وائل السهمي، والنضر بن الحارث بن كلدة وعقبة بن أبي

[ 373 ]

معيط إلى نجران ليتعلموا من علماء اليهود مسائل يسألونها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان فيما سألوا محمدا متى تقوم الساعة أنزل الله تعالى: " يسألونك عن الساعة أيان مرساها " الآية. وفي تفسير العياشي عن خلف بن حماد عن رجل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله يقول في كتابه: " ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء " يعني الفقر. أقول: ورواه أيضا الصدوق في المعاني بإسناده عن خلف بن حماد عن رجل عنه عليه السلام، ورواه الحسين بن بسطام في طب الائمة عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر عليه السلام. * * * هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين - 189. فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون - 190. أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون - 191. ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون - 192. وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون - 193. إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين - 194. ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان

[ 374 ]

يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون - 195. إن ولي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين - 196. والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون - 197. وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون - 198. (بيان) الكلام في الآيات جار على ما جرت عليه سائر آيات السورة من مواثيق النوع الانساني ونقضها على الاغلب الاكثر. قوله تعالى: " هو الذي خلقكم من نفس واحدة " إلى آخر الايتين. الكلام في الآيتين جار مجري المثل المضروب لبني آدم في نقضهم موثقهم الذي واثقوه، وظلمهم بآيات الله. والمعنى " هو الذي خلقكم " يا معشر بني آدم " من نفس واحدة " هو أبوكم " وجعل منها " أي من نوعها " زوجها ليسكن " الرجل الذي هو النفس الواحدة " إليها " أي إلى الزوج التي هي امرأته " فلما تغشاها " والتغشي هو الجماع " حملت حملا خفيفا " والمحمول النطفة وهي خفيفة " فمرت به " أي استمرت الزوج بحملها تذهب وتجئ وتقوم وتقعد حتى نمت النطفة في رحمها وصارت جنينا ثقيلا أثقلت به الزوج " فلما أثقلت دعوا الله ربهما " وعاهداه وواثقاه " لئن آتيتنا " ورزقتنا ولدا " صالحا " يصلح للحياة والبقاء بكونه إنسانا سويا تام الاعضاء غير ذي عاهة وآفة فإن ذلك هو المرجو للولد حين ولادته وبدء نشوئه دون الصلاح الديني " لنكونن من الشاكرين " لك بإظهار نعمتك، والانقطاع إليك في أمره لا نميل إلى سبب دونك، ولا نتعلق بشئ سواك. " فلما آتاهما صالحا " كما سألاه وجعله إنسانا سويا صالحا للبقاء وقرت به أعينهما " جعلا له شركاء فيما آتاهما " من الولد الصالح حيث بعثتهما المحبة والشفقة عليه

[ 375 ]

أن يتعلقا بكل سبب سواه، ويخضعا لكل شئ دونه مع أنهما كانا قد اشترطا له أن يكونا شاكرين له غير كافرين لنعمته وربوبيته فنقضا عهدهما وشرطهما. وهكذا عامة الانسان إلا من رحمه الله مهتمون بنقض مواثيقهم وخلف وعدهم، وعدم الوفاء بعهدهم مع الله " فتعالى الله عما يشركون ". والقصة - كما ترى - يمكن أن يراد بها بيان حال الابوين من نوع الانسان في استيلادهما الولد بالاعتبار العام النوعى فإن كل إنسان فإنه مولود أبويه فالكثرة الانسانية نتيجة أبوين يولدان ولدا كما في قوله تعالى: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل " الحجرات - 43. والغالب على حال الابوين وهما يحبان ولدهما ويشفقان عليه أن ينقطعا طبعا إلى الله في أمر ولدهما وإن لم يلتفتا إلى تفصيل انقطاعهما كما ينقطع راكب البحر إلى الله سبحانه إذا تلاطمت وأخذت أمواجها تلعب به ينقطع إلى ربه وإن لم يعبد ربا قط فإنما هو حال قلبى يضطر الانسان إليه. فلابوين انقطاع إلى ربهما في أمر ولدهما لئن آتيتنا صالحا نرضاه لنكونن من الشاكرين فلما استجاب لهما وآتاهما صالحا جعلا له شركاء وتشبثا في حفظه وتربيته بكل سبب، ولاذا إلى كل كهف. ويؤيد هذا الوجه قوله في ذيل الآية: " فتعالى الله عما يشركون " فإن المراد بالنفس وزوجها في صدر الكلام لو كان شخصين من الانسان بعينهما كادم وحواء مثلا كان من حق الكلام أن يقال: فتعالى الله عن شركهما أو عما أشركا. على انه تعالى يعقب هذه الآية بآيات أخر يذم فيها الشرك ويوبخ المشركين بما ظاهرة أنه الشرك بمعنى عبادة غير الله، وحاشا أن يكون صفي الله آدم يعبد غير الله وقد نص الله سبحانه على أنه اجتباه وهداه، ونص على أن لا سبيل للضلال على من هداه الله وأي ضلال أضل من عبادة غير الله، قال تعالى: " ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى " طه - 122، وقال: " ومن يهد الله فهو المهتد " أسرى - 97، وقال: " ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة " الاحقاف - 5، وبذلك يظهر أن الضلال والشرك غير منسوب إلى آدم وإن لم نقل بنبوته أو قلنا بها ولم نقل بعصمة الانبياء عليهم السلام.

[ 376 ]

وإن أريد بالنفس وزوجها في القصة آدم وزوجته كان المراد بشركهما المذكور في الآية أنهما اشتغلا بتربية الولد واهتما في أمره بتدبير الاسباب والعوامل، وصرفهما ذلك عن بعض ما لهما من التوجه إلى ربهما والخلوص في ذلك، ومن الدليل على ذلك قوله تعالى حكاية عنهما: " لنكونن من الشاكرين " وقد تقدم في ى تفسير أوائل هذه السورة في قوله: " ولا تجد أكثرهم شاكرين ر " الآية - 17 أن الشاكرين في عرف القرآن هم المخلصون - بفتح اللام - الذين لا سبيل لابليس عليهم ولا دبيب للغفلة في قلوبهم فالعتاب المتوجه إليهما في قوله: " فتعالى الله عما يشركون " إنما هو بالشرك بمعنى الاشتغال عن الله بغيره من الاسباب الكونية يوجه خلاف إخلاص القلب له تعالى. لكن يبقى عليه إتيان قوله: " فتعالى الله عما يشركون " بصيغة الجمع، وتعقيبه بما ظاهره أنه الشرك بمعنى عبادة غير الله. وربما دفعه بعضهم بأن الآية في التخصيص أولا والتعميم ثانيا عكس قوله تعالى: " هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة " يونس - 22، حيث خاطب أولا عامتهم بالتسيير ثم خص الكلام براكبي الفلك منهم خاصة، والآية التي نحن فيها تخص أول القصة بادم وزوجته فهما المعنيان بقوله: " هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها " ثم انقضى حديث آدم وزوجته، وخص بالذكر المشركون من بني آدم الذين سألوا ما سألوا، وجعلوا له شركاء فيما آتاهم أي إن كل اثنين منهم يولدان ولدا هذا حالهما من العهد ثم النقض. وفيه أن قوله: " هو الذي يسيركم " الآية محفوف بقرينة قطعية تدل على المراد وتزيل اللبس بخلاف التدرج من الخصوص إلى العموم في هذه الآية فإنه موقع في اللبس لا يصار إليه في الكلام البليغ، اللهم إلا أن يجعل قوله: " فتعالى الله عما يشركون " إلى آخر الآيات قرينة على ذلك. وكيف كان فهذا الوجه كالمأخوذ من الوجهين الاولين بحمل صدر الآية على الوجه الثاني وذيلها على الوجه الاول. وربما دفع الاعتراض السابق بأن في الكلام حذفا وإيصالا والتقدير: " فلما آتاهما أي آدم وحواء صالحا جعل أولادهما له شركاء " فحذف المضاف وهو الاولاد،

[ 377 ]

وأقيم المضاف إليه وهو ضمير التثنية المدلول عليه في قوله: " جعلا مقامه ". وفيه أنه لا دليل عليه. وربما التزم بعض المفسرين الاشكال، وتسلم أن المراد بهما آدم وزوجته، وأنهما أشركا بالله عملا بروايات وردت في القصة عن بعضهم، وهي موضوعة أو مدسوسة مخالفة للكتاب لا سبيل إلى الاخذ بأمثالها. قوله تعالى: " أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون " إلى آخر الآيات الثلاث. صدر الآيات وإن احتمل أن يكون المراد الشرك بالاصنام أو بسائر الاسباب غير الله، التي الاعتماد عليها نوع من الشرك لكن ذيلها ظاهر في أن المراد هو الشرك بالاصنام المتخذة آلهة وهي جماد لا يستطيع نصر من يعبدها ولا نصر أنفسها، ولا يشعر بشئ من الدعاء وعدمه. قوله تعالى: " إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم - إلى قوله - يسمعون بها " احتجاج على مضمون الآيات الثلاث السابقة، والمعنى إنما قلنا إنهم مخلوقون لا يقدرون على شئ لانهم عباد أمثالكم فكما أنكم مخلوقون مدبرون كذلك هم. والحجة عليه أنهم لا يستجيبون لكم إن دعوتموهم فادعوهم إن كنتم صادقين في دعواكم أن لهم علما وقدرة - وإنما نسب إليهم دعوى كونهم ذوي علم وقدرة لما في دعوتهم من الدلالة على ذلك - وكيف يستجيبون لكم ؟ وليست ما عبأتم لهم من الارجل والايدي ماشية وباطشة، ولا ما صورتم لهم من الاعين والآذان مبصرة وسامعة لانهم جمادات. وفي الآيات إطلاق العباد على الجمادات. قوله تعالى: " قل ادعوا شركاء كم ثم كيدون فلا تنظرون " إلى آخر الآيات ثم أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يكر عليهم على انتصارهم بأربابهم وآلهتهم بالتحدي والاعجاز ليستبين سبيله من سبيلهم، ويظهر أن ربه هو الله الذي له كل العلم والقدرة، وأن أربابهم لا يملكون علما ليهتدوا به إلى شئ ولا قدرة لينصروهم في شئ. فقال: قل لهم ادعوا شركاءكم لنصركم علي ثم كيدوني فلا تنظروني ولا تمهلوني إن ربي ينصرني ويدفع عني كيدكم فإنه الذي نزل الكتاب ليهدي به الناس، وهو يتولى الصالحين من عباده فينصرهم، وهو القائل: إن الارض يرثها عبادي الصالحون

[ 378 ]

وأنا من الصالحين فينصرني ولا محالة، وأما أربابكم الذين تدعون من دونه فلا يستطيعون نصركم ولا نصر أنفسهم ولا يسمعون ولا يبصرون فلا قدرة لهم ولا علم. وفي الآيات أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يخبرهم أنه من الصالحين ولم يعهد فيما يخبر به القرآن من صلاح الانبياء مثل ذلك في غيره صلى الله عليه وآله وسلم. وفيها التحدي على الاصنام وعبدتهم كما تحدى بذلك غيره من الانبياء عليهم السلام. (بحث روائي) في العيون بإسناده عن أبي الصلت الهروي عن الرضا عليه السلام في حديث: قال له المأمون: فما معنى قوله تعالى: " فلما أتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما أتاهما " فقال الرضا عليه السلام إن حواء ولدت لآدم خمس مأة بطن في كل بطن ذكرا وأنثى، وإن آدم وحواء عاهدا الله تعالى ودعواه وقالا: لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين، فلما أتاهما صالحا من النسل خلقا سويا بريئا من الزمانة والعاهة كانا يأتيهما صنفان: صنفا ذكرانا وصنفا إناثا فجعل الصنفان لله تعالى ذكره شركاء فيما آتاهما، ولم يشكراه كشكر أبويهما له عزوجل قال الله تعالى: أشهد أنك ابن رسول الله حقا. اقول: مرجعه إلى بعض الوجوه السابقة في دفع ما اورد على الآية، وقد وردت في تفسير الآية عدة من الروايات مروية عن سمرة بن جندب وأبي وزيد وابن عباس فيها أن آدم وحواء لم يكن يعيش لهما ولد فأمرهما الشيطان أو أمر حواء أن يسمياه عبد الحارث حتى يعيش - وكان الحارث اسمه في السماء - وفي بعضها: عبد الشمس، وفي بعضها: أنه خوفها أن تلد ناقة أو بقرة أو بهيمة اخرى، وشرط لها إن سمته عبد الحارث ولدت إنسانا سويا. الاحاديث وهي موضوعة أو مدسوسة من الاسرائيليات. وقد روي في المجمع عن تفسير العياشي عنهم عليهم السلام: أنه كان شركهما شرك طاعة ولم يكن شرك معصية، وظاهره أنه جرى على ما يجري عليه تلك الاحاديث فحاله حالها وكيف يفرق بين الطاعة والعبادة وخاصة في مورد إبليس وقد قال تعالى: " ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني " يس - 61، ومع ذلك فقد ذكر بعضهم أن هذه الروايات لا تدل على أزيد من الاشراك في التسمية، وليس ذلك بكفر ولا معصية، واختاره الطبري هذا.

[ 379 ]

خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين - 199. وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله انه سميع عليم - 200. ان الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون - 201. وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون 202. وإذا لم تأتهم بآية قالوا لو لا اجتبيتها قل إنما اتبع ما يوحى الي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون - 203. وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون - 204. وأذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين - 205. إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون - 206. (بيان) الآيات ختام السورة، وفيها رجوع إلى ذكر معنى الغرض الذي نزلت فيه السورة ففيها أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسيرة الحسنة الجميلة التي تميل إليها القلوب، وتسكن إليها النفوس، وأمره بالتذكر ثم بالذكر أخيرا. قوله تعالى: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " الاخذ بالشئ هو لزومه أو عدم تركه فأخذ العفو ملازمة الستر على إساءة من أساء إليه، والاغماض عن حق الانتقام الذي يعطيه العقل الاجتماعي لبعضهم على بعض. هذا بالنسبة إلى إساءة الغير بالنسبة إلى نفسه والتضييع لحق شخصه، وأما ما أضيع فيه حق الغير بالاساءة إليه فليس مما يسوغ العفو فيه لانه إغراء بالاثم وتضييع لحق الغير بنحو أشد، وإبطال

[ 380 ]

للنواميس الحافظة للاجتماع، ويمنع عنه جميع الآيات الناهية عن الظلم والافساد وإعانة الظالمين والركون إليهم بل جميع الآيات المعطية لاصول الشرائع والقوانين، وهو ظاهر. فالمراد بقوله: " خذ العفو " هو الستر بالعفو فيما يرجع إلى شخصه صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى ذلك كان يسير فقد تقدم في بعض الروايات المتقدمة في أدبه صلى الله عليه وآله وسلم (1): أنه لم ينتقم من أحد لنفسه قط. هذا على ما ذكره القوم أن المراد بالعفو ما يسارق المغفرة، وفي بعض الروايات الآتية عن الصادق عليه السلام أن المراد به الوسط وهو أنسب بالآية وأجمع للمعنى من غير شائبة التكرار الذي يلزم من قوله: " وأعرض عن الجاهلين " على التفسير الاول. وقوله: " وأمر بالعرف " والعرف هو ما يعرفه عقلاء المجتمع من السنن والسير الجميلة الجارية بينهم بخلاف ما ينكره المجتمع وينكره العقل الاجتماعي من الاعمال النادرة الشاذة، ومن المعلوم أن لازم الامر بمتابعة العرف أن يكون نفس الآمر مؤتمرا بما يأمر به من المتابعة، ومن ذلك أن يكون نفس أمره بنحو معروف غير منكر فمقتضى قوله: " وأمر بالعرف " أن يأمر بكل معروف، وأن لا يكون نفس الامر بالمعروف على وجه منكر. وقوله: " وأعرض عن الجاهلين " أمر آخر بالمدارة معهم، وهو أقرب طريق وأجمله لالبطال نتائج جهلهم وتقليل فساد أعمالهم فإن في مقابلة الجاهل بما يعادل جهله إغراء له بالجهل والادامة على الغي والضلال. قوله تعالى: " وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم " قال الراغب في المفردات: النزغ دخول في أمر لاجل إفساده، قال: من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي. انتهى، وقيل: هو الازعاج والاغراء وأكثر ما يكون حال الغضب، وقيل هو من الشيطان أدنى الوسوسة، والمعاني متقاربة، وأقربها من الآية هو الاوسط لمناسبته الآية السابقة الآمره بالاعراض عن الجاهلين فإن مماستهم الانسان بالجهالة نوع مداخلة من الشيطان لاثارة الغضب، وسوقه إلى جهالة مثله.


(1) في آخر الجزء السادس من الكتاب. (*)

[ 381 ]

فيرجع معنى الآية إلى أنه لو نزغ الشيطان بأعمالهم المبنية على الجهالة وإساءتهم إليك ليسوقك بذلك إلى الغضب والانتقام فاستعذ بالله أنه سميع عليم، والآية مع ذلك عامة خوطب بها النبي صلى الله عليه واله وسلم وقصد بها أمته لعصمته. قوله تعالى: " إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون " نحو تعليل للامر في الآية السابقة والطائف من الشيطان هو الذي يطوف حول القلب ليلقي إليه الوسوسة أو وسوسته التي تطوف حول القلب لتقع فيه وتستقر عليه، و " من " بيانية على الاول، ونشوئية على الثاني، ومآل المعنيين مع ذلك واحد والتذكر تفكر من الانسان في أمور لتهديه إلى نتيجة مغفول عنها أو مجهولة قبله. والآية بمنزلة التعليل للالمر بالاستعاذة في الآية السابقة، والمعنى استعذ بالله عند نزغة الشيطان فإن هذا طريق المتقين فهم إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا أن الله هو ربهم الذي يملكهم ويربيهم يرجع إليه أمرهم فأرجعوا إليه الامر فكفاهم مؤنته، ودفع عنهم كيده، ورفع عنهم حجاب الغفلة فأذا هم مبصرون غير مضروب على أبصارهم بحجاب الغفلة. فالآية - كما عرفت - في معنى قوله: " إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون " النحل - 99. وقد ظهر أيضا أن الاستعاذة بالله نوع من التذكر لانها مبنية على أن الله سبحانه وهو ربه هو الركن الوحيد الذي يدفع هذا العدو المهاجم بماله من قوة، وأيضا الاستعاذة نوع من التوكل كما مر. قوله تعالى: " وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون " كأن الجملة حالية، والمراد بإخوانهم إخوان المشركين وهم الشياطين كما وقع قوله: " إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين " الاسراء - - 27 والاقصار الكف والانتهاء. والمعنى: أن الذين اتقوا على هذا الحال من التذكر والابصار والحال أن إخوان المشركين من الشياطين يمدون المشركين في غيهم ويعينونهم ثم لا يكفون عن مدهم وإعانتهم، أو لا يكف المشركون ولا ينتهون عن غيهم.

[ 382 ]

قوله تعالى: " وإذا لم تأتهم بآية قالوا لو لا اجتبيتها " إلى آخر الآية. الاجتباء افتعال من الجباية، وقولهم: " لو لا اجتبيتها " كلام منهم جار مجرى التهكم والسخرية والمعنى على ما يعطيه السياق: أنك إذا آتيتهم بآية كذبوا بها وإذا لم تأتهم بآية كما لو أبطأت فيها قالوا: لو لا اجتبيت ما تسميه آية وجمعتها من هنا وهناك فأتيت بها " قل " ليس لي من الامر شئ " وإنما اتبع ما يوحى إلي من ربي هذا " القرآن " بصائر من ربكم " يريد أن يبصركم بها " وهدى ورحمة لقوم يؤمنون. قوله تعالى: " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون " الانصات السكوت مع استماع، وقيل هو الاستماع مع سكوت يقال: أنصت الحديث وأنصت له أي استمع ساكتا، وأنصته غيره وأنصت الرجل أي سكت، فالمعنى: استمعوا للقرآن واسكتوا. والآية بحسب دلالتها عامة وإن قيل: أنها نزلت في الصلاة جماعة. قوله تعالى: " وإذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول " إلى آخر الآية. قسم الذكر إلى ما في النفس ودون الجهر من القول: ثم أمر بالقسمين، وأما الجهر من القول في الذكر فمضرب عنه لا لانه ليس ذكرا بل لمنافاته لادب العبودية ويدل على ذلك ما ورد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سار بأصحابه في بعض غزواته فدخلوا واديا موحشا والليل داج فكان ينادي بعض أصحابه بالتكبير فنهاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: إنكم لا تدعون غائبا بعيدا (1). والتضرع من الضراعة وهو التملق بنوع من الخشوع والخضوع، والخيفة بناء نوع من الخوف، والمراد به نوع من الخوف يناسب ساحة قدسه تعالى ففي التضرع معنى الميل إلى المتضرع إليه والرغبة فيه والتقرب منه، وفي الخيفة معنى اتقائه والرهبة والتبعد عنه، فمقتضى توصيف الذكر بكونه عن تضرع وخيفة أن يكون بحركة باطنية إليه ومنه كالذي يحب شيئا ويهابه فيدنو منه لحبه ويتبعد عنه لمهابته، والله سبحانه وإن كان محض الخير لا شر فيه، وإنما الشر الذي يمسنا هو من قبلنا لكنه تعالى ذو الجلال والاكرام له أسماء الجمال التي تدعوا إليه وتجذب نحوه كل شئ


(1) الرواية منقولة بالمعنى. (*)

[ 383 ]

وله أسماء الجلال التي تقهر وتدفع عنه كل شئ فحق ذكره وهو الله له الاسماء الحسنى كلها أن يكون على ما يقتضيه مجموع أسمائه الجمالية والجلالية، وهو أن يذكر تعالى تضرعا وخيفة ورغبا ورهبا. وقوله: " بالغدو والآصال، ظاهرة أنه قيد لقوله: " ودون الجهر من القول " فيكون الذكر القولى هو الموزع إلى الغدو والآصال، وينطبق على بعض الفرائض اليومية. وقوله: " ولا تكن من الغافلين " تأكيد للامر بالذكر في أول الآية ولم ينه تعالى عن أصل الغفلة، وإنما نهى عن الدخول في زمرة الغافلين، وهم الموصوفون بالغفلة الذين استقرت فيهم هذه الصفة. ويتبين بذلك أن الذكر المطلوب المأمور به هو أن يكون الانسان على ذكر من ربه حينا بعد حين، ويبادر إليه لو عرضت له غفلة منسية، ولا يدع الغفلة تستقر في نفسه، وفي الآية التالية: دلالة على ذلك على ما سيجئ. فمحصل الآية: الامر بالاستمرار على ذكر الله في النفس تضرعا وخيفة حينا بعد حين، وذكره بالقول دون الجهر بالغدو والآصال. قوله تعالى: " إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون " ظاهر السياق أنه في موضع التعليل للامر الواقع في الآية السابقة فيكون المعنى: أذكر ربك كذا وكذا فإن الذين عند ربك كذلك أي اذكر ربك كذا لتكون من الذين عند ربك ولا تخرج من زمرتهم. ويتبين بذلك أن المراد بقوله: " الذين عند ربك " ليس هم الملائكة فقط - على ما فسره كثير من المفسرين - إذ لا معنى لقولنا: اذكر ربك كذا لان الملائكة يذكرونه كذلك بل مطلق المقربين عنده تعالى على ما يفيده لفظ: " عند ربك " من الحضور من غير غيبة. ويظهر من الآية أن القرب من الله إنما هو بذكره، فبه يرتفع الحجاب بينه وبين عبده، وإلا فجميع الاشياء متساوية في النسبة إليه من غير اختلاف بينها بقرب أو بعد أو غير ذلك.

[ 384 ]

وقوله: " لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون " فيه امور ثلاثة يتصف بها الذكر النفسي كما يتصف بها الذكر القولي فإن للنفس أن تتصف بحال عدم الاستكبار، وبحال تنزيهه تعالى، وبحال السجدة وكمال الخشوع له كما يتصف بها الذكر القولي ويعنون بها العمل الخارجي، فليس التسبيح والسجود مما يختص بالاعضاء من لسان وغيره كما يدل عليه قوله: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده " أسرى - 44، وقوله: " والنجم والشجر يسجدان " الرحمان - 6، وقوله: " ولله يسجد ما في السماوات وما في الارض " النحل - 49. وما في الآية من توصيف القوم بعدم الاستكبار والتسبيح والسجود أخف وأحون مما يشتمل عليه قوله تعالى: " ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون " الانبياء - 20، وقوله: " فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون " حم السجدة - 38، فإن هذه الآيات ظاهرها الاستمرار الذي لا يتخلله عدم، ولا يتوسطه مناف، والآية التي نبحث عنها لم يأمر إلا بما لا تثبت معه الغفلة في النفس كما عرفت. فهذه الآلة ه تأمر بمرتبة من الذكر هي دون ما تتضمنه آيات سورتي الانبياء وحم السجدة والله العالم. (بحث روائي) في تفسير العياشي عن الحسن بن علي بن النعمان عن أبيه عمن سمع أبا عبد الله عليه السلام وهو يقول: إن الله أدب رسوله فقال: يا محمد خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين قال: خذ منهم ما ظهر وما تيسر، والعفو الوسط. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن مكارم الاخلاق عند الله أن تعفو عمن ظلمك - وتصل من قطعك، وتعطي من حرمك. ثم تلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ". اقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة مروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طرق أهل السنة.

[ 385 ]

وفيه أخرج ابن أبي الدنيا في مكارم الاخلاق عن إبراهيم بن أدهم قال: لما أنزل الله " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت أن آخذ العفو من أخلاق الناس. وفيه أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: لما نزلت: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كيف يا رب والغضب ؟ فنزل: " وإما ينزغنك من الشيطان نزغ " الآية. أقول: وفي الرواية شئ، ويمكن أن يوجه بما قدمناه في الآية. وفي تفسير القمى في الآية قال: إن عرض في قلبك منه شئ ووسوسة فاستعذ بالله إنه سميع عليم. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقرء: " إذا مسهم طائف " بالالف. وفي الكافي بإسناده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله عزوجل: " إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون " قال: هو العبد يهم بالذنب ثم يتذكر فيمسك، فذلك قوله: " تذكروا فإذا هم مبصرون " اقول: ورواه العياشي عن أبي بصير، وعلى بن أبي حمزة، وزيد بن أبي أسامة عنه عليه السلام، ولفظ الاولين: هو الرجل يهم بالذنب ثم يتذكر فيدعه، ولفظ الاخير: هو الذنب يهم به العبد فيتذكر فيدعه، وفي معناه روايات أخر. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقرء خلفه قوم فنزلت: " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " اقول: وفي ذلك عدة روايات من طرق أهل السنة وفي بعضها: أنهم كانوا يتكلمون خلفه وهم في الصلاة فنزلت، وفي بعضها: أنه كان فتى من الانصار، وفي بعضها رجل. وفي المجمع بعد ذكر القول إن الآية نزلت في الصلاة جماعة خلف الامام قال: وروي ذلك عن أبي جعفر عليه السلام.

[ 386 ]

وفيه وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: يجب الانصات للقرآن في الصلاة وغيرها. أقول: ورواه العياشي عن زرارة عنه عليه السلام، وفي آخره: وإذا قرئ عندك القرآن وجب عليك الانصات والاستماع. وفيه عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: الرجل يقرء القرآن وأنا في الصلاة هل يجب علي الانصات والاستماع ؟ قال: نعم إذا قرئ القرآن وجب عليك الانصات والاستماع. وفي تفسير العياشي عن أبي كهمش عن أبي عبد الله عليه السلام قال قرء ابن الكواء خلف أمير المؤمنين عليه السلام: " لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين " فأنصت أمير المؤمنين عليه السلام. أقول: والروايات في غير صورة قراءة الامام محمولة على الاستحباب وتمام البحث في الفقه. وفي الدر المنثور أخرج الحكيم الترمذي عن عمر بن الخطاب قال: أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أعرف الحزن في وجهه فأخذ بلحيتي فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون أتاني جبرئيل آنفا فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون قلت: أجل فإنا لله وإنا إليه راجعون فمم ذاك يا جبرئيل ؟ فقال: إن امتك مفتتنة بعدك بقليل من الدهر غير كثير. قلت: فتنه كفر أو فتنة ضلالة ؟ قال: كل ذلك سيكون. قلت: ومن أين ذاك وأنا تارك فيهم كتاب الله ؟ قال: بكتاب الله يضلون، وأول ذلك من قبل قرائهم القرآن وجب عليك الانصات والاستماع. وفيه عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: الرجل يقرء القرآن وأنا في الصلاة هل يجب علي الانصات والاستماع ؟ قال: نعم إذا قرئ القرآن وجب عليك الانصات والاستماع. وفي تفسير العياشي عن أبي كهمش عن أبي عبد الله عليه السلام قال قرء ابن الكواء خلف أمير المؤمنين عليه السلام: " لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين " فأنصت أمير المؤمنين عليه السلام. أقول: والروايات في غير صورة قراءة الامام محمولة على الاستحباب وتمام البحث في الفقه. وفي الدر المنثور أخرج الحكيم الترمذي عن عمر بن الخطاب قال: أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أعرف الحزن في وجهه فأخذ بلحيتي فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون أتاني جبرئيل آنفا فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون قلت: أجل فإنا لله وإنا إليه راجعون فمم ذاك يا جبرئيل ؟ فقال: إن امتك مفتتنة بعدك بقليل من الدهر غير كثير. قلت: فتنه كفر أو فتنة ضلالة ؟ قال: كل ذلك سيكون. قلت: ومن أين ذاك وأنا تارك فيهم كتاب الله ؟ قال: بكتاب الله يضلون، وأول ذلك من قبل قرائهم وامرائهم يمنع الامراء الناس حقوقهم فلا يعطونها فيقتتلون، وتتبع القراء أهواء الامراء فيمدونهم في الغي ثم لا يقصرون. قلت يا جبرئيل فبم يسلم من سلم منهم فقال: بالكف والصبر إن أعطوا الذي لهم أخذوه وإن منعوه تركوه. وفي تفسير القمي في معنى قوله: إن الذين عند ربك الآية، يعنى الانبياء والرسل والائمة. تم والحمد لله

مكتبة مكتبة شبكة أمل