تفسير الميزان - السيد الطباطبائي ج 6
تفسير الميزان
السيد الطباطبائي ج 6
[ 1 ]
الميزان في تفسير القرآن
[ 3 ]
الميزان في تفسير القرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره الجزء الخامس منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة
[ 4 ]
تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره
[ 5 ]
بسم الله الرحمن الرحيم * * * إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكوة وهم راكعون - 55. ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون - 56. (بيان) الايتان - كما - ترى موضوعتان بين آيات تنهى عن ولاية أهل الكتاب والكفار،
ولذلك رام جماعة من مفسري القوم إشتراكهما مع ما قبلهما وما بعدهما من حيث السياق، وجعل الجميع ذات سياق واحد يقصد به بيان وظيفة المؤمنين في أمر ولاية الاشخاص ولاية النصرة، والنهى عن ولاية اليهود والنصارى والكفار، وقصر الولاية في الله سبحانه ورسوله والمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، وهؤلاء هم المؤمنون حقا فيخرج بذلك المنافقون والذين في قلوبهم مرض، ويبقى على وجوب الولاية المؤمنو ن حقا، وتكون الاية دالة على مثل ما يدل عليه مجموع قوله تعالى: (والله ولى المؤمنين) (آل عمران: 68) وقوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) (الاحزاب: 6)، وقوله تعالى في المؤمنين: (اولئك بعضهم أولياء بعض) (الانفال: 72)، وقوله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (الاية) (التوبة: 71) فمحصل الاية جعل ولاية النصرة لله ولرسوله والمؤمنين على المؤمنين. نعم يبقى هناك إشكال الجملة الحالية التى يتعقبها قوله: (ويؤتون الزكاة) وهى قوله: (وهم راكعون) ويرتفع الاشكال بحمل الركوع على معناه المجازى وهو مطلق
[ 6 ]
الخضوع لله سبحانه أو انحطاط الحال لفقر ونحوه، ويعود معنى الاية إلى أنه ليس أولياؤكم اليهود والنصارى والمنافقين بل أولياؤكم الله ورسوله والمؤمنون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وهم في جميع هذه الاحوال خاضعون لساحة الربوبية بالسمع والطاعة، أو أنهم يؤتون الزكاة وهم فقراء معسرون هذا. لكن التدبر واستيفاء النظر في الايتين وما يحفهما من آيات ثم في أمر السورة يعطى خلاف ما ذكروه، وأول ما يفسد من كلامهم ما ذكروه من أمر وحدة سياق الايات، وان غرض الايات التعرض لامر ولاية النصرة، وتمييز الحق منها من غير الحق فإن السورة وإن كان من المسلم نزولها في آخر عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع لكن من المسلم أيضا أن جميع آياتها لم تنزل دفعة واحدة ففى خلالها آيات لا شبهة في نزولها
قبل ذلك، ومضامينها تشهد بذلك، وما ورد فيها من أسباب النزول يؤيده فليس مجرد وقوع الاية بعد الاية أو قبل الاية يدل على وحدة السياق، ولا أن بعض المناسبة بين آية وآية يدل على نزولهما معا دفعة واحدة أو اتحادهما في السياق. على أن الايات السابقة أعنى قوله: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض " (الخ)، تنهى المؤمنين عن ولاية اليهود والنصارى، وتعير المنافقين والذين في قلوبهم مرض بالمسارعة إليهم ورعاية جانبهم من غير أن يرتبط الكلام بمخاطبة اليهود والنصارى وإسماعهم الحديث بوجه بخلاف الايات التالية أعنى قوله: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء " (الخ)، فإنها تنهى عن ولايتهم وتتعرض لحالهم بالامر بمخاطبتهم ثم يعيرهم بالنفاق والفسق فالغرض في القبيلين من الايات السابقة واللاحقة مختلف، ومعه كيف يتحد السياق ؟ !. على أنك قد عرفت في البحث عن الايات السابقة أعنى قوله: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " (الايات) أن ولاية النصرة لا تلائم سياقها، وأن خصوصيات الايات والعقود المأخوذة فيها وخاصة قوله: " بعضهم أولياء بعض " وقوله: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " لا تناسبها فإن عقد ولاية النصرة واشتراطها بين قومين لا يوجب صيرورة أحدهما الاخر ولحوقه به، ولا أنه يصح تعليل النهى عن هذا العقد بأن القوم الفلاني بعضهم أولياء بعض بخلاف عقد ولاية المودة التى توجب الامتزاج النفسي
[ 7 ]
والروحى بين الطرفين، وتبيح لاحدهما التصرف الروحي والجسمي في شؤون الاخر الحيوية وتقارب الجماعتين في الاخلاق والاعمال الذى يذهب بالخصائص القومية. على أنه ليس من الجائز أن يعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليا للمؤمنين بمعنى ولاية النصرة بخلاف العكس فإن هذه النصرة التى يعتنى بأمرها الله سبحانه، ويذكرها القرآن
الكريم في كثير من آياته هي النصرة في الدين وحينئذ يصح أن يقال: إن الدين لله بمعنى أنه جاعله وشارع شرائعه فيندب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو المؤمنون أو هما جميعا إلى نصرته أو يدعوا أنصارا لله في ما شرعه من الدين كقوله تعالى: " قال الحواريون نحن أنصار الله " (الصف: 14)، وقوله تعالى: " إن تنصروا الله ينصركم " (محمد: 7) وقوله تعالى: " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين - إلى أن قال: لتؤمنن به ولتنصرنه " (آل عمران: 81)، إلى غير ذلك من الايات الكثيرة. ويصح أن يقال: إن الدين للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بمعنى أنه الداعي إليه والمبلغ له مثلا، أو إن الدين لله ولرسوله بمعنى التشريع والهداية فيدعى الناس إلى النصرة، أو يمدح المؤمنون بالنصرة كقوله تعالى: " وعزروه ونصروه " (الاعراف: 157)، وقوله تعالى: " وينصرون الله ورسوله " (الحشر: 8)، وقوله تعالى: " و الذين آووا ونصروا " (الانفال: 72)، إلى غير ذلك من الايات. ويصح أن يقال: إن الدين للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين جميعا، بمعنى أنهم المكلفون بشرائعه العاملون به فيذكر أن الله سبحانه وليهم وناصرهم كقوله تعالى: " ولينصرن الله من ينصره " (الحج: 40)، وقوله تعالى: " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد " (غافر: 51)، وقوله تعالى: " وكان حقا علينا نصر المؤمنين " (الروم: 47)، إلى غير ذلك من الايات. لكن لا يصح أن يفرد الدين بوجه للمؤمنين خاصة، ويجعلوا أصلا فيه والنبى صلى الله عليه وآله وسلم بمعزل عن ذلك، ثم يعد صلى الله عليه وآله وسلم ناصرا لهم فيما لهم، إذ ما من كرامة دينية إلا هو مشاركهم فيها أحسن مشاركة، ومساهمهم أفضل سهام، ولذلك لا نجد القرآن يعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ناصرا للمؤمنين ولا في آية واحدة، وحاشا ساحة الكلام الالهى أن يساهل في رعاية أدبه البارع.
[ 8 ]
وهذا من أقوى الدليل على أن المراد بما نسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الولاية في القرآن هو ولاية التصرف أو الحب والمودة كقوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " (الاحزاب: 6) وقوله تعالى: " إنما وليكم الله ورسوله " والذين آمنوا " (الاية) فإن الخطاب للمؤمنين، ولا معنى لعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليا لهم ولاية النصرة كما عرفت. فقد ظهر أن الايتين أعنى قوله تعالى: " إنما وليكم الله ورسوله " إلى آخر الايتين لا تشاركان السياق السابق عليهما لو فرض أنه متعرض لحال ولاية النصرة، ولا يغرنك قوله تعالى في آخر الاية الثانية: " فإن حزب الله هم الغالبون "، فإن الغلبة كما تناسب الولاية بمعنى النصرة، كذلك تناسب ولاية التصرف وكذا ولاية المحبة والمودة، والغلبة الدينية التى هي آخر بغية أهل الدين تتحصل باتصال المؤمنين بالله ورسوله بأى وسيلة تمت وحصلت، وقد قرع الله سبحانه أسماعهم ذلك بصريح وعده حيث قال كتب: " الله لاغلبن أنا ورسلي " (المجادلة: 21)، وقال: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون " (الصافات: 173). على أن الروايات متكاثرة من طرق الشيعة وأهل السنة على أن الايتين نازلتان في أمير المؤمنين على عليه السلام لما تصدق بخاتمه وهو في الصلاة، فالايتان خاصتان غير عامتين، وسيجئ نقل جل ما ورد من الروايات في ذلك في البحث الروائي التالى إن شاء الله تعالى. ولو صح الاعراض في تفسير آية بالاسباب المأثورة عن مثل هذه الروايات على تكاثرها وتراكمها لم يصح الركون إلى شئ من أسباب النزول المأثورة في شئ من آيات القرآن وهو ظاهر، فلا وجل لحمل الايتين على إرادة ولاية المؤمنين بعضهم لبعض بجعلها عامة. نعم استشكلوا في الروايات - ولم يكن ينبغى أن يستشكل فيها مع ما فيها من الكثرة البالغة - أولا: بأنها تنافى سياق الايات الظاهر في ولاية النصرة كما تقدمت الاشارة إليه، وثانيا: أن لازمها إطلاق الجمع وإرادة الواحد فإن المراد بالذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة (الخ)، على هذا التقدير هو على ولا يساعده اللغة، وثالثا:
أن لازمها كون المراد بالزكاة هو التصدق بالخاتم، ولا يسمى ذلك زكاة. قالوا: فالمتعين أن تؤخذ الاية، عامة وتكون مسوقة لمثل قصر القلب أو الافراد
[ 9 ]
فقد كان المنافقون يسارعون إلى ولاية أهل الكتاب ويؤكدونها، فنهى الله عن ذلك وذكر أن أولياءهم إنما هم الله ورسوله والمؤمنون حقا دون أهل الكتاب والمنافقين. ولا يبقى إلا مخالفة هذا المعنى لظاهر قوله: " وهم راكعون " ويندفع بحمل الركوع على معناه المجازى، وهو الخضوع لله أو الفقر ورثاثة الحال، هذا ما استشكلوه. لكن التدبر في الاية وما يناظرها من الايات يوجب سقوط الوجوه المذكورة جميعا: أما وقوع الاية في سياق ولاية النصرة، ولزوم حملها على إرادة ذلك فقد عرفت أن الايات غير مسوقة لهذا الغرض أصلا، ولو فرض سرد الايات السابقة على هذه الاية لبيان أمر ولاية النصرة لم تشاركها الاية في هذا الغرض. وأما حديث لزوم إطلاق الجمع وإرادة الواحد في قوله: " والذين آمنوا " (الخ)، فقد عرفت في الكلام على آية المباهلة في الجزء الثالث من هذا الكتاب تفصيل الجواب عنه، وأنه فرق بين إطلاق لفظ الجمع وإرادة الواحد واستعماله فيه، وبين إعطاء حكم كلى أو الاخبار بمعرف جمعى في لفظ الجمع لينطبق على من يصح أن ينطبق عليه، ثم لا يكون المصداق الذى يصح أن ينطبق عليه إلا واحدا فردا واللغة تأبى عن قبول الاول دون الثاني على شيوعه في الاستعمالات. وليت شعرى ما ذا يقولون في مثل قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة - إلى أن قال: - تسرون إليهم بالمودة " (الاية) " الممتحنة: 1) وقد صح أن المراد به حاطب بن أبى بلتعة في مكاتبتة قريشا ؟ وقوله تعالى: " يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منهاالاذل " (المنافقون: 8 "، وقد صح أن القائل به عبد الله بن أبى بن سلول ؟ وقوله تعالى: " يسألونك ما ذا
ينفقون " (البقرة: 215) والسائل عنه واحد ؟ وقوله تعالى: " الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية " (البقرة: 274) وقد ورد أن المنفق كان عليا أو أبا بكر ؟ إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة. وأعجب من الجميع قوله تعالى: " يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة " والقائل هو عبد الله بن أبى، على ما رووا في سبب نزوله وتلقوه بالقبول، والاية واقعة بين الايات المبحوث عنها نفسها.
[ 10 ]
فإن قيل: إن هذه الموارد لا تخلو عن اناس كانوا يرون رأيهم أو يرضون بفعالهم فعبر الله تعالى عنهم وعمن يلحق بهم بصيغة الجمع. قيل: إن محصله جواز ذلك في اللغة لنكتة مجوزة فليجر الاية أعنى قوله: " والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " هذا المجرى، ولتكن النكتة هي الاشارة إلى أن أنواع الكرامات الدينية - ومنها الولاية المذكورة في الاية - ليست موقوفة على بعض المؤمنين دون بعض وقفا جزافيا، وإنما يتبع التقدم في الاخلاص والعمل لا غير. على أن جل الناقلين لهذه الاخبار هم صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتابعون المتصلون بهم زمانا وهم من زمرة العرب العرباء الذين لم تفسد لغتهم ولم تختلط ألسنتهم، ولو كان هذا النحو من الاستعمال لا تبيحه اللغة ولا يعهده أهلها لم تقبله طباعهم، ولكانوا أحق باستشكاله و الاعتراض عليه، ولم يؤثر من أحد منهم ذلك. وأما قولهم: إن الصدقة بالخاتم لا تسمى زكاة، فيدفعه أن تعين لفظ الزكاة في معناها المصطلح إنما تحقق في عرف المتشرعة بعد نزول القرآن بوجوبها وتشريعها في الدين، وأما الذى تعطيه اللغة فهو أعم من الزكاة المصطلحة في عرف المتشرعة ويساوق عند الاطلاق أو عند مقابلة الصلاة إنفاق المال لوجه الله كما يظهر مما وقع فيما حكاه الله عن الانبياء السالفين كقوله تعالى في إبراهيم وإسحاق ويعقوب: " وأوحينا
إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة " (الانبياء: 73)، وقوله تعالى في إسماعيل: " وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا " (مريم: 55) وقوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام في المهد: " وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا " (مريم: 31) ومن المعلوم أن ليس في شرائعهم الزكاة المالية بالمعنى الذى اصطلح عليه في الاسلام. وكذا قوله تعالى: " قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى " " الاعلى: 15) وقوله تعالى: " الذى يؤتى ماله يتزكى " (الليل: 18) وقوله تعالى: " الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالاخرة هم كافرون " (حم السجدة: 7) وقوله تعالى: " والذين هم للزكاة فاعلون " (المؤمنون: 4) وغير ذلك من الايات الواقعة في السور المكية وخاصة السور النازلة في أوائل البعثة كسورة حم السجدة وغيرها، ولم تكن شرعت الزكاة المصطلحة بعد، فليت شعرى ما ذا كان يفهمه المسلمون من هذه الايات في
[ 11 ]
لفظ الزكاة. بل آية الزكاة أعنى قوله تعالى: " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم " (التوبة: 103) تدل على أن الزكاة من أفراد الصدقة، وإنما سميت زكاة لكون الصدقة مطهرة مزكية مطلقا، وقد غلب استعمالها في الصدقة المصطلحة. فتبين من جميع ما ذكرنا إنه لا مانع من تسمية مطلق الصدقة والانفاق في سبيل الله زكاة وتبين أيضا أن لا موجب لارتكاب خلاف الظاهر بحمل الركوع على معناه المجازى، وكذا ارتكاب التوجيه في قوله: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا " حيث أتى باسم إن (وليكم) مفردا وبقوله " الذين آمنوا " وهو خبر بالعطف بصيغة الجمع، هذا.
قوله تعالى: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا " قال الراغب في المفردات: الولاء (بفتح الواو) والتوالي أن يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان ومن حيث النسبة ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد، والولاية النصرة، والولاية تولى الامر، وقيل: الولاية والولاية (بالفتح والكسر) واحدة نحو الدلالة والدلالة وحقيقته تولى الامر، والولى والمولى يستعملان في ذلك، كل واحد منهما يقال في معنى الفاعل أي الموالى (بكسر اللام) ومعنى المفعول أي الموالى (بفتح اللام) يقال للمؤمن: هو ولى الله عزوجل ولم يرد مولاه، وقد يقال: الله ولى المؤمنين ومولاهم. قال: وقولهم: تولى إذا عدى بنفسه اقتضى معنى الولاية وحصوله في أقرب المواضع منه يقال: وليت سمعي كذا، ووليت عينى كذا، ووليت وجهى كذا أقبلت به عليه قال الله عزوجل: " فلنولينك قبلة ترضاها، فول وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره " وإذا عدى بعن لفظا أو تقديرا اقتضى معنى الاعراض وترك قربه. انتهى. والظاهر أن القرب الكذائي المعبر عنه بالولاية، أول ما اعتبره الانسان إنما اعتبره في الاجسام وأمكنتها وأزمنتها ثم استعير لاقسام القرب المعنوية بالعكس مما
[ 12 ]
ذكره لان هذا هو المحصل من البحث في حالات الانسان الاولية فالنظر في أمر المحسوسات والاشتغال بأمرها أقدم في عيشة الانسان من التفكر في المعقولات والمعاني وأنحاء اعتبارها والتصرف فيها. وإذا فرضت الولاية - وهى القرب الخاص - في الامور المعنوية كان لازمها أن للولى ممن وليه ما ليس لغيره إلا بواسطته فكل ما كان من التصرف في شؤون من وليه مما يجوز أن يخلفه فيه غيره فإنما يخلفه الولى لا غيره كولى الميت، فإن التركة التى كان للميت أن يتصرف فيها بالملك فإن لوارثه الولى أن يتصرف فيها بولاية الوراثة، وولى الصغير يتصرف بولايته في شؤون الصغير المالية بتدبير أمره، وولى النصرة له أن
يتصرف في أمر المنصور من حيث تقويته في الدفاع، والله سبحانه ولى عباده يدبر أمرهم في الدنيا والاخرة لا ولى غيره، وهو ولى المؤمنين في تدبير أمر دينهم بالهداية والدعوة والتوفيق والنصرة وغير ذلك، والنبى ولى المؤمنين من حيث إن له أن يحكم فيهم ولهم وعليهم بالتشريع والقضاء، والحاكم ولى الناس بالحكم فيهم على مقدار سعة حكومته، وعلى هذا القياس سائر موارد الولاية كولاية العتق والحلف والجوار والطلاق وابن العم، وولاية الحب وولاية العهد وهكذا، وقوله: " يولون الادبار " أي يجعلون أدبارهم تلى جهة الحرب وتدبر أمرها، وقوله " توليتم " أي توليتم عن قبوله أي اتخذتم أنفسكم تلى جهة خلاف جهته بالاعراض عنه أو اتخذتم وجوهكم تلى خلاف جهته بالاعراض عنه، فالمحصل من معنى الولاية في موارد استعمالها هو نحو من القرب يوجب نوعا من حق التصرف ومالكية التدبير. وقد اشتمل قوله تعالى: " إنما وليكم الله رسوله والذين آمنوا " (الخ) من السياق على ما يدل على وحدة ما في معنى الولاية المذكورة فيه حيث تضمن العد في قوله: " الله ورسوله والذين آمنوا " وأسند الجميع إلى قوله: " وليكم " وظاهره كون الولاية في الجميع بمعنى واحد. ويؤيد ذلك أيضا قوله في الاية التالية: فإن حزب الله هم الغالبون " حيث يشعر أو يدل على كون المتولين جميعا حزبا لله لكونهم تحت ولايته، فولاية الرسول والذين آمنوا إنما هومن سنخ ولاية الله. وقد ذكر الله سبحانه لنفسه من الولاية الولاية التكوينية التى تصحح له التصرف في كل شئ وتدبير أمر الخلق بما شاء وكيف شاء، قال تعالى: " أم اتخذوا من دونه
[ 13 ]
أولياء فالله هو الولى " (الشورى: 9: وقال: " ما لكم من دونه من ولى ولا شفيع أفلا تتذكرون " (السجدة: 4) وقال: " أنت وليى في الدنيا والاخرة " (يوسف: 101) وقال: " فما له من ولى من بعده " (الشورى: 44) وفي معنى هذه الايات قوله: " ونحن
أقرب إليه من حبل الوريد " (ق: 16)، وقوله: " واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه " (الانفال: 24). وربما لحق بهذا الباب ولاية النصرة التى ذكرها لنفسه في قوله: " ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم " (سورة محمد: 11) وقوله: " فإن الله هو مولاه " (التحريم: 4)، وفى معنى ذلك قوله: " وكان حقا علينا نصر المؤمنين " (الروم: 47). وذكر تعالى أيضا لنفسه الولاية على المؤمنين فيما يرجع إلى أمر دينهم من تشريع الشريعة والهداية والارشاد والتوفيق ونحو ذلك كقوله تعالى: " والله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور " (البقرة: 257)، وقوله: " والله ولى المؤمنين " (آل عمران: 68)، وقوله: " والله ولى المتقين " (الجاثية: 19)، وفى هذا المعنى قوله تعالى: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا " (الاحزاب: 36). فهذاما ذكره الله تعالى من ولاية نفسه في كلامه، ويرجع محصلها إلى ولاية التكوين وولاية التشريع، وإن شئت سميتهما بالولاية الحقيقية والولاية الاعتبارية. وقد ذكر الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم من الولاية التى تخصه الولاية التشريعية وهى القيام بالتشريع والدعوة وتربية الامة والحكم فيهم والقضاء في أمرهم، قال تعالى: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " (الاحزاب: 6)، وفي معناه قوله تعالى: " إنا أنزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله " (النساء: 105)، وقوله: " وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم " (الشورى: 52)، وقوله: " رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة " (الجمعة: 2)، وقوله: " لتبين للناس ما نزل إليهم " (النحل: 44)، وقوله: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " (النساء: 59)، وقوله: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " (الاحزاب: 36)، وقوله: " وإن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك
عن بعض ما أنزل الله اليك " (المائدة: 49)، وقد تقدم أن الله لم يذكر ولاية النصرة عليه للامة.
[ 14 ]
ويجمع الجميع أن له صلى الله عليه وآله وسلم الولاية على الامة في سوقهم إلى الله والحكم فيهم والقضاء عليهم في جميع شؤونهم فله عليهم الاطاعة المطلقة فترجع ولايته صلى الله عليه وآله وسلم إلى ولاية الله سبحانه بالولاية التشريعية، ونعنى بذلك أن له صلى الله عليه وآله وسلم التقدم عليهم بافتراض الطاعة لان طاعته طاعة الله، فولايته ولاية الله كما يدل عليه بعض الايات السابقة كقوله: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " (الاية) وقوله: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا " (الاية)، وغير ذلك. وهذا المعنى من الولاية لله ورسوله هو الذى تذكره الاية للذين آمنوا بعطفه على الله ورسوله في قوله: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا " على ما عرفت من دلالة السياق على كون هذه الولاية ولاية واحدة هي لله سبحانه بالاصالة ولرسوله والذين آمنوا بالتبع وبإذن منه تعالى. ولو كانت الولاية المنسوبة إلى الله تعالى في الاية غير المنسوبة إلى الذين آمنوا - والمقام مقام الالتباس - كان الانسب أن تفرد ولاية اخرى للمؤمنين بالذكر رفعا للالتباس كما وقع نظيره في نظير ها، قال تعالى: " قل اذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين " (التوبة: 61)، فكرر لفظ الايمان لما كان في كل من الموضعين لمعنى غير الاخر، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " (النساء: 59)، في الجزء السابق على هذا الجزء من الكتاب. على أن لفظ " وليكم " أتى به مفردا وقد نسب إلى الذين آمنوا وهو جمع، وقد وجهه المفسرون بكون الولاية ذات معنى واحد هو لله سبحانه على الاصالة ولغيره بالتبع. وقد تبين من جميع ما مر أن القصر في قوله: " إنما وليكم الله " (الخ)، لقصر
الافراد كأن المخاطبين يظنون أن الولاية عامة للمذكورين في الاية وغيرهم فافرد المذكورون للقصر، ويمكن بوجه أن يحمل على قصر القلب. قوله تعالى: " الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " بيان للذين آمنوا المذكور سابقا " وقوله: " وهم راكعون " حال من فاعل " يؤتون " وهو العامل فيه. والركوع هو الهيئة المخصوصة في الانسان، ومنه الشيخ الراكع، ويطلق في عرف الشرع على الهيئة المخصوصة في العبادة، قال تعالى: " الراكعون الساجدون "
[ 15 ]
" التوبة: 112)، وهو ممثل للخضوع والتذلل لله، غير أنه لم يشرع في الاسلام في غير حال الصلاة بخلاف السجدة. ولكونه مشتملا على الخضوع والتذلل ربما استعير لمطلق التذلل والخضوع أو الفقر والاعسار الذى لا يخلو عادة عن التذلل للغير. قوله تعالى: " ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون "، التولى هو الاخذ وليا، و " الذين آمنوا " مفيد للعهد والمراد به المذكور في الاية السابقة: " والذين آمنوا الذين " (الخ)، وقوله: " فإن حزب الله هم الغالبون " واقع موقع الجزاء وليس به بل هو من قبيل وضع الكبرى موضع النتيجة للدلالة على علة الحكم، والتقدير: ومن يتول فهو غالب لانه من حزب الله وحزب الله هم الغالبون، فهو من قبيل الكناية عن أنهم حزب الله. والحزب على ما ذكره الراغب جماعة فيها غلظ، وقد ذكر الله سبحانه حزبه في موضع آخر من كلامه قريب المضمون من هذا الموضع، ووسمهم بالفلاح فقال: " لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم اولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه - إلى أن قال: - اولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون " (المجادلة: 22). والفلاح الظفر وإدراك البغية التى هي الغلبة والاستيلاء على المراد، وهذه الغلبة
والفلاح هي التى وعدها الله المؤمنين في أحسن ما وعدهم به وبشرهم بنيله، قال تعالى: " قد أفلح المؤمنون " (المؤمنون: 1)، والايات في ذلك كثيرة، وقد اطلق اللفظ في جميعها، فالمراد الغلبة المطلقة والفلاح المطلق أي الظفر بالسعادة والفوز بالحق والغلبة على الشقاء، وإدحاض الباطل في الدنيا والاخرة، أما في الدنيا فبالحياة الطيبة التى توجد في مجتمع صالح من أولياء الله في أرض مطهرة من أولياء الشيطان على تقوى وورع، وأما في الاخرة ففى جوار رب العالمين. (بحث روائي) في الكافي عن على بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبى عمير، عن عمر بن أذينة،
[ 16 ]
عن زرارة، والفضيل بن يسار، وبكير بن أعين، ومحمد بن مسلم، وبريد بن معاوية، وأبى الجارود، جميعا عن أبى جعفر عليه السلام قال: أمر الله عزوجل رسوله بولاية على وأنزل عليه: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " وفرض من ولاية اولى الامر فلم يدروا ما هي ؟ فأمر الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أن يفسر لهم الولاية كما فسر الصلاة والزكاة والصوم والحج. فلما أتاه ذلك من الله ضاق بذلك صدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتخوف أن يرتدوا عن دينهم وأن يكذبوه، فضاق صدره وراجع ربه عزوجل فأوحى الله عزوجل إليه: " يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس "، فصدع بأمر الله عز ذكره، فقام بولاية على عليه السلام يوم غدير خم فنادى: الصلاة جامعة، وأمر الناس أن يبلغ الشاهد الغائب. قال عمر بن اذينة: قالوا جميعا غير أبى الجارود: قال أبو جعفر عليه السلام وكانت الفريضة الاخرى، وكانت الولاية آخر الفرائض فأنزل الله عزوجل: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي "، قال أبو جعفر عليه السلام يقول الله عزوجل: لا
انزل عليكم بعد هذه فريضة قد أكملت لكم الفرائض. وفى البرهان وغاية المرام عن الصدوق بإسناده عن أبى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام: في قول الله عزوجل: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا "، قال: إن رهطا من اليهود أسلموا منهم عبد الله بن سلام وأسد وثعلبة وابن يامين وابن صوريا فأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا نبى الله إن موسى أوصى إلى يوشع بن نون، فمن وصيك يا رسول الله ؟ ومن ولينا بعدك ؟ فنزلت هذه الاية: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ". قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قوموا فقاموا وأتوا المسجد فإذا سائل خارج فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا سائل هل أعطاك أحد شيئا ؟ قال: نعم هذا الخاتم قال: من أعطاكه ؟ قال: أعطانيه ذلك الرجل الذى يصلى، قال: على أي حال أعطاك ؟ قال: كان راكعا فكبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وكبر أهل المسجد. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: على وليكم بعدى قالوا: رضينا بالله ربا، وبمحمد نبيا، وبعلى
[ 17 ]
بن أبى طالب وليا فأنزل الله عزو جل: ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون " الحديث. وفي تفسير القمى قال: حدثنى أبى، عن صفوان، عن أبان بن عثمان، عن أبى حمزة الثمالى، عن أبى جعفر عليه السلام: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله سلم جالس وعنده قوم من اليهود فيهم عبد الله بن سلام إذ نزلت عليه هذه الاية فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد فاستقبله سائل فقال: صلى الله عليه وآله وسلم: هل أعطاك أحد شيئا ؟ قال: نعم ذلك المصلى، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا هو على عليه السلام. أقول: ورواه العياشي في تفسيره عنه عليه السلام. وفى أمالى الشيخ قال: حدثنا محمد بن محمد - يعنى المفيد - قال: حدثنى أبو الحسن على بن محمد الكاتب، قال: حدثنى الحسن بن على الزعفراني، قال: حدثنا
أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الثقفى، قال: حدثنا محمد بن على، قال حدثنا العباس ابن عبد الله العنبري، عن عبد الرحمن بن الاسود الكندى اليشكرى، عن عون بن عبيد الله، عن أبيه عن جده أبى رافع قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما وهو نائم وحية في جانب البيت - فكرهت أن أقتلها واوقظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فظننت أنه يوحى إليه فاضطجعت بينه وبين الحية فقلت: أن كان منها سوء كان إلى دونه. فكنت هنيئة فاستيقظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقرأ: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا " حتى أتى على آخر الاية - ثم قال: الحمد لله الذى أتم لعلى نعمته، وهنيئا له بفضل الله الذى آتاه، ثم قال لى: ما لك ههنا ؟ فأخبرته بخبر الحية فقال لى: اقتلها ففعلت ثم قال لى: يا (أبا، ظ) رافع كيف أنت، وقوم يقاتلون عليا وهو على الحق وهم على الباطل ؟ جهادهم حقا لله عز اسمه فمن لم يستطع بقلبه، ليس وراءه شئ فقلت: يا رسول الله ادع الله لى إن أدركتهم أن يقوينى على قتالهم قال: فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: إن لكل نبى أمينا، وإن أمينى أبو رافع. قال: فلما بايع الناس عليا بعد عثمان، وسار طلحة والزبير ذكرت قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبعت دارى بالمدينة وأرضا لى بخيبر وخرجت بنفسى وولدى مع امير المؤمنين
[ 18 ]
عليه السلام لاستشهد بين يديه فلم أدرك معه حتى عاد من البصرة، وخرجت معه إلى صفين فقلت (فقاتلت، ظ) بين يديه بها وبالنهر وان أيضا، ولم أزل معه حتى استشهد على عليه السلام، فرجعت إلى المدينة، وليس لى بها دار ولا أرض فأعطاني الحسن بن على عليه السلام أرضا بينبع، وقسم لى شطر دار أمير المؤمنين عليه السلام فنزلتها وعيالي. وفى تفسير العياشي بإسناده عن الحسن بن زيد، عن أبيه زيد بن الحسن، عن جده قال: سمعت عمار بن ياسر يقول: وقف لعلى بن أبى طالب سائل وهو راكع في صلاة تطوع فنزع خاتمة فأعطاه السائل فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعلم بذلك فنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الاية: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة
ويؤتون الزكاة وهم راكعون " (إلى آخر الاية) فقرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علينا ثم قال: من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. وفى تفسير العياشي، عن المفضل بن صالح، عن بعض أصحابه، عن أحدهما عليهما السلام قال: قال: إنه لما نزلت هذه الاية: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا " شق ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخشى أن تكذبه قريش فأنزل الله: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك " (الاية) فقام بذلك يوم غدير خم. وفيه عن أبى جميلة عن بعض أصحابه عن أحدهما عليهما السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله أوحى إلى أن أحب أربعة: عليا وأبا ذر وسلمان والمقداد، فقلت: إلا فما كان من كثرة الناس أما كان أحد يعرف هذا الامر ؟ فقال: بلى ثلاثة، قلت: هذه الايات التى أنزلت: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا " وقوله: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم " ما كان أحد يسأل فيمن نزلت ؟ فقال: من ثم أتاهم لم يكونوا يسألون. وفى غاية المرام عن الصدوق بإسناده عن أبى سعيد الوراق عن أبيه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده في حديث مناشدة على عليه السلام لابي بكر حين ولى أبو بكر الخلافة، وذكر عليه السلام فضائله لابي بكر والنصوص عليه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان فيما قال له: فانشدك بالله ألى الولاية من الله مع ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آية زكاة الخاتم أم لك ؟ قال: بل لك.
[ 19 ]
وفى مجالس الشيخ بإسناده إلى أبى ذرفى حديث مناشدة أمير المؤمنين عليه السلام عثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبى وقاص يوم الشورى واحتجاجه عليهم بما فيه من النصوص من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والكل منهم يصدقه عليه السلام فيما يقوله فكان مما ذكره عليه السلام فهل فيكم أحد آتى الزكاة وهو راكع فنزلت فيه: " إنما وليكم
الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " غيرى ؟ قالوا: لا. وفى الاحتجاج في رسالة أبى الحسن الثالث على بن محمد الهادى عليه السلام إلى أهل الاهواز حين سألوه عن الجبر والتفويض: قال عليه السلام: اجتمعت الامة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك: أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع فرقها فهم في حالة الاجتماع عليه مصيبون، وعلى تصديق ما أنزل الله مهتدون لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " لا تجتمع امتى على ضلالة " فأخبر عليه السلام: أن ما اجتمعت عليه الامة ولم يخالف بعضها بعضا هو الحق، فهذا معنى الحديث لا ما تأوله الجاهلون، ولا ما قاله المعاندون من إبطال حكم الكتاب، وأتباع أحكام الاحاديث المزورة، والروايات المزخرفة، واتباع الاهواء المردئة المهلكة التى تخالف نص الكتاب، وتحقيق الايات الواضحات النيرات، ونحن نسأل الله أن يوفقنا للصلاة، ويهدينا إلى الرشاد. ثم قال عليه السلام: فإذا شهد الكتاب بصدق خبر وتحقيقه فأنكرته طائفة من الامة عارضته بحديث من هذه الاحاديث المزورة، فصارت بإنكارها ودفعها الكتاب ضلالا، وأصح خبر مما عرف تحقيقه من الكتاب مثل الخبر المجمع عليه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إنى مستخلف فيكم خليفتين كتاب الله وعترتي. ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدى وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض " واللفظة الاخرى عنه في هذا المعنى بعينه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إنى تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتى، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض، ما إن تمسكتم بهما لن تضلو " ا. وجدنا شواهد هذا الحديث نصا في كتاب الله مثل قوله: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ". ثم اتفقت
[ 20 ]
روايات العلماء في ذلك لامير المؤمنين عليه السلام: أنه تصدق بخاتمه وهو راكع فشكر الله ذلك له، وأنزل الاية فيه. ثم وجدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أبانه من أصحابه بهذه اللفظة: " من كنت مولاه فعلى مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " وقوله: صلى الله عليه وآله وسلم " على يقضى دينى، وينجز موعدى، وهو خليفتي عليكم بعدى " وقوله صلى الله عليه وآله وسلم حين استخلفه على المدينة فقال: يا رسول الله: أتخلفني على النساء والصبيان ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى ؟. فعلمنا أن الكتاب شهد بتصديق هذه الاخبار، وتحقيق هذه الشواهد فيلزم الامة الاقرار بها إذا كانت هذه الاخبار وافقت القرآن فلما وجدنا ذلك موافقا لكتاب الله، ووجدنا كتاب الله موافقا لهذه الاخبار، وعليها دليلا كان الاقتداء فرضا لا يتعداه إلا أهل العناد والفساد. وفى الاحتجاج في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: قال المنافقون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل بقى لربك علينا بعد الذى فرض علينا شئ آخر يفترضه فتذكر فتسكن أنفسنا إلى أنه لم يبق غيره ؟ فأنزل الله في ذلك: " قل إنما أعظكم بواحدة " يعنى الولاية فأنزل الله: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " وليس بين الامة خلاف أنه لم يؤت الزكاة يومئذ وهو راكع غير رجل واحد، الحديث. وفى الاختصاص للمفيد عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن القاسم بن محمد الجوهرى، عن الحسن بن أبى العلاء قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: الاوصياء طاعتهم مفترضة ؟ فقال: نعم، هم الذين قال الله: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم " وهم الذين قال الله: " إنما وليكم ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ". اقول: ورواه في الكافي عن الحسين بن أبى العلاء عنه عليه السلام، وروى ما في معناه
عن أحمد بن عيسى عنه عليه السلام. وإسناد نزول ما نزل في على عليه السلام إلى جميع الائمة عليهم السلام لكونهم أهل بيت واحد، وأمرهم واحد.
[ 21 ]
وعن تفسير الثعلبي أخبرنا أبو الحسن محمد بن القاسم الفقيه قال: حدثنا عبد الله بن أحمد الشعرانى قال: أخبرنا أبو على أحمد بن على بن رزين قال: حدثنا المظفر بن الحسن الانصاري قال: حدثنا السرى بن على الوراق قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد الجمانى عن قيس بن الربيع عن الاعمش، عن عباية بن الربعي قال: حدثنا عبد الله بن عباس رضى الله عنه وهو جالس بشفير زمزم يقول: قال رسول الله: إذ أقبل رجل معتم بعمامة فجعل ابن عباس لا يقول: " قال رسول الله " إلا وقال الرجل: قال رسول الله. فقال له ابن عباس: سألتك بالله من أنت ؟ قال: فكشف العمامة عن وجهه وقال: يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدرى أبو ذر الغفاري سمعت رسول الله بهاتين وإلا فصمتا، ورأيته بهاتين وإلا فعميتا يقول: على قائد البررة وقاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله. أما إنى صليت مع رسول الله يوما من الايام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللهم اشهد أنى سألت في مسجد رسول الله فلم يعطنى أحد شيئا، وكان على راكعا فأومأ إليه بخنصره اليمنى، وكان يتختم فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره، وذلك بعين النبي صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم موسى سألك فقال: رب اشرح لى صدري، ويسر لى أمرى، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولى، واجعل لى وزيرا من أهلى هارون أخى، اشدد به أزرى، وأشركه في أمرى: فأنزلت عليه قرآنا ناطقا: سنشد عضدك بأخيك، ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا.
اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك، اللهم واشرح لى صدري ويسر لى أمرى، واجعل لى وزيرا من أهلى عليا اشدد به ظهرى. قال أبو ذر: فما استتم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلمة حق نزل عليه جبرئيل من عند الله تعالى: فقال يا محمد اقرأ قال: وما اقرأ: قال: قال: اقرأ: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون. وعن الجمع بين الصحاح الستة لزرين من الجزء الثالث في تفسير سورة المائدة
[ 22 ]
قوله تعالى: " إنما وليكم الله ورسوله " (الاية) من صحيح النسائي عن ابن سلام: قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: إن قومنا حادونا لما صدقنا الله ورسوله، وأقسموا أن لا يكلموننا فأنزل الله تعالى: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " (الاية). ثم أذن بلال لصلاة الظهر فقام الناس يصلون فمن بين ساجد وراكع وسائل إذ سائل يسأل، وأعطى على خاتمه وهو راكع فاخبر السائل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ". وعن مناقب ابن المغازلى الشافعي في تفسير قوله تعالى: " إنما وليكم الله ورسوله " (الاية) قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن عثمان قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن ابراهيم بن شاذان البزاز إذنا قال: حدثنا الحسن بن على العدوى قال: حدثنا سلمة ابن شبيب قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " قال: نزلت في على. وعنه قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن طاوان قال: أخبرنا أبو أحمد عمر بن عبد الله بن
شوذب قال: حدثنا محمد بن العسكري الدقاق قال: حدثنا محمد بن عثمان بن أبى شيبة قال: حدثنا عبادة قال: حدثنا عمر بن ثابت عن محمد بن السائب عن أبى صالح، عن ابن عباس قال: كان على راكعا فجاءه مسكين فأعطاه خاتمه فقال رسول الله: من أعطاك هذا ؟ فقال: أعطاني هذا الراكع فأنزل الله هذه الاية: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا (إلى آخر الاية). وعنه قال: حدثنا أحمد بن محمد بن طاوان إذنا: أن أبا أحمد عمر بن عبد الله بن شوذب أخبرهم قال: حدثنا محمد بن جعفر بن محمد العسكري قال: حدثنا محمد بن عثمان قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون قال: حدثنا على بن عابس قال: دخلت أنا وأبو مريم على عبد الله بن عطاء، قال أبو مريم: حدث عليا بالحديث الذى حدثتني عن
[ 23 ]
أبى جعفر، قال: كنت عند أبى جعفر جالسا إذ مر عليه ابن عبد الله بن سلام قلت: جعلني الله فداك، هذا ابن الذى عنده علم الكتاب ؟ قال: لا ولكنه صاحبكم على بن أبى طالب الذى أنزلت فيه آيات من كتاب الله عزوجل: " ومن عنده علم الكتاب، أفمن كان على بينه من ربه ويتلوه شاهد منه، إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا " (الاية). وعن الخطيب الخوارزمي في جواب مكاتبة معاوية إلى عمرو بن العاص قال عمرو ابن العاص: لقد علمت يا معاوية ما أنزل في كتابه من الايات المتلوات في فضائله التى لا يشركه فيها أحد كقوله تعالى: " يوفون بالنذر، إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، أفمن كان على بينه من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله "، وقد قال الله تعالى: " رجال صدقوا ما عاهدوا الله "، وقد قال الله تعالى لرسوله: " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ". وعنه بإسناده إلى أبى صالح عن ابن عباس قال: أقبل عبد الله بن سلام ومعه نفر من قومه ممن قد آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إن منازلنا بعيدة، وليس لنا مجلس ولا متحدث دون هذا المجلس، وإن قومنا لما رأونا قد آمنا بالله ورسوله وقد
صدقناه رفضونا، وآلوا على أنفسهم أن لا يجالسونا ولا يناكحونا ولا يكلمونا، وقد شق ذلك علينا فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ". ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع، وبصر بسائل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل أعطاك أحد شيئا ؟ قال: نعم خاتم من ذهب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أعطاكه ؟ فقال: ذلك القائم - وأومأ بيده إلى على بن أبى طالب - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على أي حال أعطاك ؟ قال: أعطاني وهو راكع، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم: ثم قرأ: " ومن يتول الله ورسوله فإن حزب الله هم الغالبون " فأنشأ حسان بن ثابت يقول: أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي * وكل بطئ في الهدى ومسارع أيذهب مدحى والمحبين ضائعا * وما المدح في ذات الاله بضائع ؟ فأنت الذى أعطيت إذ كنت راكعا * فدتك نفوس القوم يا خير راكع بخاتمك الميمون يا خير سيد * ويا خير شار ثم يا خير بائع فأنزل فيك الله خير ولاية * وبينها في محكمات الشرائع
[ 24 ]
وعن الحموينى بإسناده إلى أبى هدبة إبراهيم بن هدبة قال: نبأنا أنس بن مالك: أن سائلا أتى المسجد وهو يقول: من يقرض الملى الوفى ؟ وعلى راكع يقول بيده خلفه للسائل: أن اخلع الخاتم من يدى، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمر وجبت، قال: بأبى وامى يا رسول الله ما وجبت ؟ قال صلى الله عليه وسلم: وجبت له الجنة، والله ما خلعه من يده حتى خلعه من كل ذنب ومن كل خطيئة. وعنه بإسناده عن زيد بن على بن الحسين عن أبيه عن جده قال: سمعت عمار بن ياسر - رضى الله عنه - يقول: وقف لعلى بن أبى طالب سائل وهو راكع في صلوة التطوع فنزع خاتمه وأعطاه السائل، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلمه ذلك، فنزلت على
النبي صلى الله عليه وسلم هذه الاية: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فعلى مولاه. وعن الحافظ أبى نعيم عن أبى الزبير عن جابر - رضى الله عنه - قال: جاء عبد الله بن سلام وأتى معه قوم يشكون مجانبة الناس إياهم منذ أسلموا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابغوا إلى سائلا فدخلنا المسجد فدنا سائل إليه فقال له: أعطاك أحد شيئا ؟ قال: نعم مررت برجل راكع فأعطاني خاتمه، قال: فأذهب فأرني قال: فذهبنا فإذا على قائم، فقال: هذا، فنزلت: " إنما وليكم الله ورسوله ". وعنه عن موسى بن قيس الحضرمي عن سلمة بن كهيل قال: تصدق على بخاتمه وهو راكع فنزلت ! " إنما وليكم الله ورسوله " (الاية). وعنه عن عوف بن عبيد بن أبى رافع عن أبيه عن جده قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم إذ يوحى إليه وإذا حية في جنب البيت فكرهت أن أدخلها واوقظه فاضطجعت بينه وبين الحية فإن كان شئ في دونه، فاستيقظ وهو يتلو هذه الاية: " إنما وليكم الله ورسوله " قال: الحمد لله فأتى إلى جانبى فقال: ما اضطجعت ههنا ؟ قلت: لمكان هذه الحية قال: قم إليها فاقتلها فقتلتها. ثم أخذ بيدى فقال: يا أبا رافع سيكون بعدى قوم يقاتلون عليا حق على الله جهادهم، فمن لم يستطع جهادهم بيده فبلسانه، فمن لم يستطع بلسانه فبقلبه ليس وراء ذلك.
[ 25 ]
أقول: والروايات في نزول الايتين في قصة التصدق بالخاتم كثيره أخرجنا عدة منها من كتاب غاية المرام للبحراني، وهى موجودة في الكتب المنقول عنها، وقد اقتصرنا على ما نقل عليه من اختلاف اللحن في سرد القصة. وقد اشترك في نقلها عدة من الصحابة كأبى ذر وابن عباس وانس بن مالك وعمار
وجابر وسلمة بن كهيل وأبى رافع وعمرو بن العاص، وعلى والحسين وكذا السجاد والباقر والصادق والهادي وغيرهم من أئمة أهل البيت عليهم السلام. وقد اتفق على نقلها من غير رد أئمة التفسير المأثور كأحمد والنسائي والطبري والطبراني وعبد بن حميد وغيرهم من الحفاظ وأئمة الحديث وقد تسلم ورود الرواية المتكلمون، وأوردها الفقهاء في مسألة الفعل الكثير من بحث الصلاة وفى مسألة " هل تسمى صدقة التطوع زكاة " ولم يناقش في صحة انطباق الاية على الرواية فحول الادب من المفسرين كالزمخشري في الكشاف وأبى حيان في تفسيره، ولا الرواة النقلة وهم أهل اللسان. فلا يعبأ بما ذكره بعضهم: أن حديث نزول الاية في قصة الخاتم موضوع مختلق، وقد أفرط بعضهم كشيخ الاسلام ابن تيمية فادعى إجماع العلماء على كون الرواية موضوع ؟ وهى من عجيب الدعاوى، وقد عرفت ما هو الحق في المقام في البيان المتقدم. * * * يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين - 57. وإذا ناديتم إلى الصلوة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون - 58. قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون - 59. قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة
[ 26 ]
عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سوآء السبيل - 60. وإذا جاؤكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون - 61. وترى كثيرا منهم يسارعون في الاثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون - 62.
لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الاثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون - 63. وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الارض فسادا والله لا يحب المفسدين - 64. ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولا دخلناهم جنات النعيم - 65. ولو أنهم أقاموا التورية والانجيل وما أنزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم امة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون - 66. (بيان) الايات تنهى عن اتخاذ المستهزئين بالله وآياته من أهل الكتاب والكفار أولياء
[ 27 ]
وتعد امورا من مساوى صفاتهم ونقضهم مواثيق الله وعهوده وما يلحق بها بما يناسب غرض السورة (الحث على حفظ العهود والمواثيق وذم نقضها). وكأنها ذات سياق متصل واحد وإن كان من الجائز أن يكون لبعض أجزائها سبب مستقل من حيث النزول. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم " (الخ)، قال: الراغب: الهزؤ مزح في خفية، وقد يقال لما هو كالمزح (انتهى)، وقال: ولعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصدا صحيحا، يلعب لعبا، (انتهى)، وإنما يتخذ الشئ هزؤا ويستهزء به إذا اتخذ به على وصف لا يعتنى بأمره اعتناء جد لاظهار أنه مما لا ينبغى أن يلتفت إليه، وكذا الشئ يلعب به إذا كان مما لا يتخذ لواحد من الاغراض الصحيحة
العقلائية إلا أن يتخذ لبعض الشؤون غير الحقيقية فالهزؤ بالدين واللعب به إنما هما لاظهار أنه لا يعدل إلا بعض الاغراض الباطلة غير الصحيحة وغير الجدية، ولو قدروه دينا حقا أو قدروا أن مشرعه والداعى إليه والمؤمنين به ذووا أقدام جد وصدق، واحترموا له ولهم مكانهم لما وضعوه ذاك الموضع فاتخاذهم الدين هزؤا ولعبا قضاء منهم بأن ليس له من الواقعية والمكانة الحقيقية شئ إلا أن يؤخذ به ليمزح به أو ليلعب به لعبا. ومن هنا يظهر اولا: أن ذكر اتخاذهم الدين هزؤا ولعبا في وصف من نهى عن ولايتهم إنما هو للاشارة إلى علة النهى فإن الولاية التى من لوازمها الامتزاج الروحي والتصرف في الشؤون النفسية والاجتماعية لا يلائم استهزاء الولى ولعبة بما يقدسه وليه ويحترمه ويراه أعز من كل شئ حتى من نفسه فمن الواجب أن لا يتخذ من هذا شأنه وليا، ولا يلقى أزمة التصرف في الروح والجسم إليه. وثانيا: ما في اتخاذ وصف الايمان في الخطاب في قوله: " يا أيها الذين آمنوا " من المناسبة لمقابلته بقوله: " الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا " وكذلك ما في إضافة الدين إليهم في قوله: " دينكم ". وثالثا: أن قوله: " واتقوا الله إن كنتم مؤمنين بمنزلة التأكيد لقوله: لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا " (الخ) بتكراره بلفظ أعم وأشمل فإن المؤمن وهو الاخذ بعروة الايمان لا معنى لان يرضى بالهزء واللعب بما آمن به فهؤلاء إن
[ 28 ]
كانوا متلبسين بالايمان - أي كان الدين لهم دينا - لم يكن لهم بد من تقوى الله في أمرهم أي عدم اتخاذهم أولياء. ومن المحتمل أن يكون قوله: " واتقوا الله إن كنتم مؤمنين " إشارة إلى ما ذكره تعالى من نحو قوله قبيل آيات: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " والمعنى: واتقوا الله في اتخاذهم أولياء إن لم تكونوا منهم، والمعنى الاول لعله أظهر.
قوله تعالى: " وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا " (الخ) تحقيق لما ذكر أنهم يتخذون دين الذين آمنوا هزوا ولعبا، والمراد بالنداء إلى الصلاة الاذان المشروع في الاسلام قبل الصلوات المفروضة اليومية، ولم يذكر الاذان في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع - كما قيل -. والضمير في قوله: " اتخذوها " راجع إلى الصلاة أو إلى المصدر المفهوم من قوله: " إذا ناديتم " أعنى المناداة ويجوز في الضمير العائد إلى المصدر التذكير والتأنيث، وقوله: " ذلك بأنهم قوم لا يعقلون " تذييل يجرى مجرى الجواب عن فعلهم وبيان أن صدور هذا الفعل أعنى اتخاذ الصلاة أو الاذان هزوا ولعبا منهم إنما هو لكونهم قوما لا يعقلون فلا يسعهم أن يتحققوا ما في هذه الاركان والاعمال العبادية الدينية من حقيقة العبودية وفوائد القرب من الله، وجماع سعادة الحياة في الدنيا والعقبى. قوله تعالى: " قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله " (إلى آخر الاية) قال الراغب: في مفردات القرآن: نقمت الشئ (بالكسر) ونقمته (بالفتح) إذا أنكرته إما باللسان وإما بالعقوبة، قال تعالى: " وما نقموا إلا أن أغناهم الله " وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله، هل تنقمون منا " (الاية) والنقمة: العقوبة قال تعالى: " فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم "، انتهى. فمعنى قوله: " هل تنقمون منا إلا أن آمنا " (الخ) هل تنكرون أو تكرهون منا إلا هذا الذى تشاهدونه وهو أنا آمنا بالله وما أنزله وأنكم فاسقون ؟ نظير قول القائل: هل تكره منى الا أنى عفيف وأنك فاجر، وهل تنكر منى إلا أنى غنى وأنك فقير ؟ إلى غير ذلك من موارد المقابلة والازدواج فالمعنى: هل تنكرون منا إلا أنا مؤمنون وأن أكثركم فاسقون.
[ 29 ]
وربما قيل: إن قوله: " وأن أكثركم فاسقون " بتقدير لام التعليل والمعنى:
هل تنقمون منا إلا لان أكثركم فاسقون ؟. وقوله: " ان آمنا بالله وما انزل الينا وما انزل من قبل " في معنى ما انزل الينا واليكم، ولم ينسبه إليهم تعريضا بهم كأنهم إذا لم يفوا بما عاهدوا الله عليه ولم يعملوا بما تأمرهم به كتبهم فكتبهم لم تنزل إليهم وليسوا بأهلها. ومحصل المعنى: أنا لا نفرق بين كتاب وكتاب مما أنزله الله على رسله فلا نفرق بين رسله، وفيه تعريض لهم أنهم يفرقون بين رسل الله ويقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما كانوا يقولون: آمنوا بما أنزل على المؤمنين وجه النار واكفروا آخره، قال تعالى: " إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، أولئك هم الكافرون حقا واعتدنا للكافرين عذابا مهينا " (النساء: 151). قوله تعالى: " قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنة الله " (إلى آخر الاية) ذكروا أن هذا أمر منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يخاطب اولئك المستهزئين اللاعبين بالدين على طريق التسليم أخذا بالنصفة في التكليم ليلزمهم أنهم إن نقموا من المؤمنين إيمانهم بالله وما أنزله على رسله فعليهم أن ينقموا أنفسهم لانهم شر مكانا وأضل عن سواء السبيل لابتلائهم باللعن الالهى والمسخ بالقردة والخنازير وعبادة الطاغوت فإذا لم ينقموا أنفسهم على ما فيهم من أسباب النقمة فليس لهم أن ينقموا من لم يبتل إلا بما هو دونه في الشر، وهم المؤمنون في ايمانهم على تقدير تسليم أن يكون إيمانهم بالله وكتبه شرا، ولن يكون شرا. فالمراد بالمثوبة مطلق الجزاء، ولعلها استعيرت للعاقبة والصفة اللازمة كما يستفاد من تقييد قوله: " بشر من ذلك مثوبة " بقوله: " عند الله " فإن الذى عند الله هو أمر ثابت غير متغير وقد حكم به الله وأمر به، قال تعالى: " وما عند الله باق " (النحل: 96)، وقال تعالى: " لا معقب لحكمه) (الرعد: 41)، فهذه المثوبة
مثوبة لازمة لكونها عند الله سبحانه. وفى الكلام شبه قلب، فإن مقتضى استواء الكلام أن يقال: إن اللعن والمسخ
[ 30 ]
وعبادة الطاغوت شر من الايمان بالله وكتبه وأشد ضلالا، دون ان يقال: إن من لعنه الله وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت شر مكانا وأضل إلا بوضع الموصوف مكان الوصف، وهو شائع في القرآن الكريم كقوله تعالى: " ولكن البر من آمن بالله " (الاية). وبالجملة فمحصل المعنى أن إيماننا بالله وما أنزله على رسله إن كان شرا عندكم فأنا اخبركم بشر من ذلك يجب عليكم أن تنقموه وهو النعت الذى فيكم. وربما قيل: إن الاشارة بقوله: " ذلك " إلى جمع المؤمنين المدلول عليه بقوله: " هل تنقمون منا " وعلى هذا فالكلام على استوائه من غير قلب، والمعنى هل انبئكم بمن هو شر من المؤمنين لتنقموهم ؟ وهم أنتم أنفسكم، وقد ابتليتم باللعن والمسخ وعبادة الطاغوت. وربما قيل: إن قوله: " من ذلك إشارة إلى المصدر المدلول عليه بقوله " هل تنقمون منا " أي هل أنبئكم بشر من نقمتكم هذه مثوبة وجزاء ؟ هو ما ابتليتم به من اللعن والمسخ وغير ذلك. قوله تعالى: " وإذا جاؤكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به " (إلى آخر الاية) يشير تعالى إلى نفاق قلوبهم وإضمارهم ما لا يرتضيه الله سبحانه في لقائهم المؤمنين فقال: وإذا جاؤكم قالوا آمنا أي أظهروا الايمان والحال أنهم قد دخلوا عليكم مع الكفر وقد خرجوا من عندكم بالكفر أي هم على حالة واحدة عند الدخول والخروج وهو الكفر لم يتغير عنه وإنما يظهرون الايمان إظهارا، والحال أن الله يعلم ما كانوا يكتمونه سابقا من الغدر والمكر. فقوله: " وقد دخلوا بالكفروهم قد خرجوا به " في معنى قولنا: لم يتغير حالهم
في الكفر، والضمير في قوله: " هم قد خرجوا " جئ به للتأكيد، وإفادة تمييزهم في الامر وتثبيت الكفر فيهم. وربما قيل: إن المعنى أنهم متحولون في أحوال الكفر المختلفة. قوله تعالى: " وترى كثيرا منهم يسارعون في الاثم والعدوان وأكلهم السحت " (إلى آخر الاية)، الظاهر أن المراد بالاثم هو الخوض في آيات الدين النازلة على المؤمنين
[ 31 ]
والقول في معارف الدين بما يوجب الكفر والفسوق على ما يشهد به ما في الاية التالية من قوله: " عن قولهم الاثم وأكلهم السحت ". وعلى هذا فالامور الثلاثة أعنى الاثم والعدوان وأكل السحت تستوعب نماذج من فسوقهم في القول والفعل، فهم يقترفون الذنب في القول وهو الاثم القولى، والذنب في الفعل وهو إما فيما بينهم وبين المؤمنين وهو التعدي عليهم، وإما عند أنفسهم كأكلهم السحت وهو الربا والرشوة ونحو ذلك ثم ذم ذلك منهم بقوله: " لبئس ما كانوا يعملون " ثم أتبعه بتوبيخ الربانيين والاحبار في سكوتهم عنهم وعدم نهيهم عن ارتكاب هذه الموبقات من الاثام والمعاصي وهم عالمون بأنها معاص وذنوب فقال: لو لا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الاثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ". وربما أمكن أن يستفاد من قوله: " عن قولهم الاثم وأكلهم السحت " عند تطبيقه على ما في الاية السابقة: " يسارعون في الاثم والعدوان وأكلهم السحت " حيث ترك العدوان في الاية الثانية أن الاثم والعدوان شئ واحد، وهو تعدى حدود الله سبحانه قولا تجاه المعصية الفعلية التى انموذجها أكلهم السحت. فيكون المراد بقوله: " يسارعون في الاثم والعدوان وأكلهم السحت " إراءة سيئة قولية منهم وهى الاثم والعدوان وسيئة أخرى فعلية منهم وهى أكلهم السحت. والمسارعة مبالغة في معنى السرعة وهى ضد البطئ، والفرق بين السرعة والعجلة على ما يستفاد من موارد استعمال الكلمتين أن السرعة أمس بعمل الاعضاء والعجلة بعمل
القلب، نظير الفرق بين الخضوع والخشوع، والخوف والخشية، قال الراغب في المفردات: السرعة ضد البطئ، ويستعمل في الاجسام والافعال، يقال: سرع (بضم الراء) فهو سريع وأسرع فهو مسرع، وأسرعوا صارت إبلهم سراعا نحو أبلدوا، وسارعوا وتسارعوا، انتهى. وربما قيل: إن المسارعة والعجلة بمعنى واحد غير أن المسارعة أكثر ما يستعمل في الخير، وأن استعمال المسارعة في المقام - وإن كان مقام الذم وكانت العجلة أدل على الذم منها - إنما هو للاشارة إلى أنهم يستعملونها كأنهم محقون فيها، انتهى ولا يخلو عن بعد.
[ 32 ]
قوله تعالى: " وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " كانت اليهود لا ترى جواز النسخ في الاحكام الدينية، ولذا كانت لا تقبل بنسخ التوراة وتعير المسلمين بنسخ الاحكام، وكذا كانت لا ترى جواز البداء في القضايا التكوينية على ما يتراءى من خلال الايات القرآنية كما تقدم ا لكلام فيه في تفسير قوله تعالى: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " (الاية) " البقرة: 106 " في الجزء الاول من هذا الكتاب وفى موارد أخر. والاية أعنى قوله تعالى: " وقالت اليهود يد الله مغلولة " تقبل الانطباق على قولهم هذا غير أن ظاهر قوله تعالى جوابا عنهم: " بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " يأبى عن ذلك ويدل على أنهم إنما تكلموا بهذه الكلمة الاثيمة في شئ من أمر الرزق إما في خصوص المؤمنين لما في عامتهم من الفقر الشامل والعسرة وضيق المعيشة، وأنهم إنما قالوا هذا القول استهزاء بالله سبحانه إيماء إلى أنه لا يقدر على إغناء عباده المؤمنين به وإنجائهم من الفقر والمذلة، لكن هذا الوجه لا يناسب وقوع الاية في سورة المائدة إن كانت نازلة في مطاوى سائر آياتها فإن المسلمين كانوا يوم نزولها على خصب من العيش
وسعة من الرزق ورفاهية من الحال. وإما أنهم إنما قالوها لجدب أو غلاء أصابهم فضاقت بذلك معيشتهم، ونكدت حالهم، واختل نظام حياتهم، كما ربما يظهر من بعض ما ورد في أسباب النزول، وهذا الوجه أيضا يأباه سياق الايات فإن الظاهر أن الايات إنما تتعرض لشتات أوصافهم فيما يعود إلى عدوانهم ومكرهم بالنسبة إلى المسلمين نقمة منهم لا ما صدر منهم من إثم القول عند أنفسهم. وإما أنهم إنما تفوهوا بذلك لما سمعوا أمثال قوله تعالى: " من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا " (البقرة: 245)، وقوله تعالى: " وأقرضوا الله قرضا حسنا " (المزمل: 20)، فقالوا: يد الله مغلولة لا يقدر على تحصيل ما ينفق في حوائجه لترويج دينه وإحياء دعوته. وقد قالوا ذلك سخرية واستهزاء على ما يظهر من بعض آخر مما ورد في أسباب النزول، وهذا الوجه أقرب إلى النظر. وكيف كان فهذه النسبة أعنى نسبه غل اليد والمغلوبية عند بعض الحوادث مما
[ 33 ]
لا يأباه تعليمهم الدينى والاراء الموجودة في التوراة، فالتوراة تجوز أن يكون الامور معجزا لله سبحانه وصادا مانعا له من إنفاذ بعض ما يريده من مقاصده كالاقوياء من الانسان، يشهد بذلك ما تقصه من قصص الانبياء كآدم وغيره. فعندهم من وجوه الاعتقاد ما يبيح لهم أن ينسبوا إليه تعالى ما لا يناسب ساحة قدسه وكبرياء ذاته جلت عظمته وإن كانت الكلمة إنما صدرت منهم استهزاء فإن لكل فعل مبادئ في الاعتقاد ينبعث إليه الانسان منها ويتجرء بها. وأما قوله: " غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا " فهو دعاء عليهم بعذاب مشابه لما نسبوا إليه تعالى من النقص غير المناسب لساحة قدسه، وهو مغلولية اليد وانسلاب القدرة على ما يحبه ويشاؤه، وعلى هذا فقوله: " ولعنوا بما قالوا " عطف تفسير على
قوله: " غلت أيديهم " فإن مغلولية أيديهم مصداق لعنة الله عليهم إذ القول من الله سبحانه فعل، ولعنه تعالى أحدا إنما هو تعذيبه بعذاب إما دنيوى أو أخروى فاللعن هو العذاب المساوى لغل أيديهم أو الاعم منه ومن غيره. وربما احتمل كون قوله: " غلت أيديهم " (الخ) إخبارا عن وقوع كلمة العذاب وهو جزاء اجترائهم على الله سبحانه بقولهم: " يد الله مغلولة " عليهم، والوجه الاول أقرب من الفهم. وأما قوله: " بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء فهو جواب عن قولهم: يد الله مغلولة " مضروب في قالب الاضراب. والجملة أعنى قوله: " يداه مبسوطتان " كناية عن ثبوت القدرة، وهو شائع في الاستعمال. وإنما قيل: " يداه " بصيغة التثنية مع كون اليهود إنما أتوا في قولهم: " يد الله مغلولة " بصيغة الافراد ليدل على كمال القدرة كما ربما يستفاد من نحو قوله تعالى: " قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى أستكبرت أم كنت من العالين " (ص: 75) لما فيه من الاشعار أو الدلالة على إعمال كمال القدرة، ونحو قولهم: " لا يدين بها لك " فإن ذلك مبالغة في نفى كل قدرة ونعمة.
[ 34 ]
وربما ذكروا لليد معاني مختلفة في اللغة غير الجارحة كالقدرة والقوة والنعمة والملك وغير ذلك، لكن الحق أن اللفظة موضوعة في الاصل للجارحة، وإنما استعملت في غيرها من المعاني على نحو الاستعارة لكونها من الشؤن المنتسبة إلى الجارحة نوعا من الانتساب كانتساب الانفاق والجود إلى اليد من حيث بسطها، وانتساب الملك إليها من حيث التصرف والوضع والرفع وغير ذلك. فما يثبته الكتاب والسنة لله سبحانه من اليد يختلف معناه باختلاف الموارد كقوله تعالى: " بل يداه مبسوطتان " (الاية)، وقوله: " أن تسجد لما خلقت بيدى "
(ص: 75) يراد به القدرة وكمالها، وقوله: " بيدك الخير " (آل عمران: 26)، وقوله: " فسبحان الذى بيده ملكوت كل شئ " (يس: 83)، وقوله: " تبارك الذى بيده الملك " (الملك: 1)، إلى غير ذلك يراد بها الملك والسلطة، وقوله: " لا تقدموا بين يدى الله ورسوله " (الحجرات: 1) يراد بها الحضور ونحوه. وأما قوله: " ينفق كيف يشاء " فهو بيان لقوله: " يداه مبسوطتان ". قوله تعالى: " وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل اليك من ربك طغيانا وكفرا " هذه الجملة وما يتلوها إلى آخر الاية كلام مسرود لتوضيح قوله: " وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا " على ما يعطيه السياق. فأما قوله: " وليزيدن كثيرا منهم " (الخ)، فيشير إلى أن اجتراءهم على الله العظيم وتفوههم بمثل قولهم: " يد الله مغلولة " ليس من المستبعد منهم فإن القوم متلبسون بالاعتداء والكفر من قديم أيامهم، وقد أورثهم ذلك البغى والحسد، ولا يؤمن من هذه سجيته إذا رأى أن الله فضل غيره عليه بما لا يقدر قدره من النعمة أن يزداد طغيانا وكفرا. واليهود كانت ترى لنفسها السيادة والتقدم على الدنيا، وكانت تتسمى بأهل الكتاب، وتتباهى بالربانيين والاحبار وتفتخر بالعلم والحكمة وتسمى سائر الناس اميين، فإذا رأت قرآنا نازلا على قوم كانت تتذلل لعلمها وكتابها - كما كانت هي الحرمة المراعاة بينها وبين العرب في الجاهلية - ثم أمعنت فيه فوجدته كتابا إلهيا مهيمنا على ما تقدم عليه من الكتب السماوية، ومشتملا على الحق الصريح والتعليم
[ 35 ]
العالي والهداية التامة ثم أحست بما يتعقبه من ذلتها واستكانتها في نفس ما كانت تتعزز وتتباهى به وهو العلم والكتاب. لاجرم تستيقظ من رقدتها، وتطغى عاديتها، ويزيد طغيانها وكفرها.
فنسبة زيادة طغيانهم وكفرهم إلى القرآن إنما هي بعناية أن أنفسهم الباغية الحاسدة ثارت بالطغيان والكفر بمشاهدة نزول القرآن وإدراك ما يتضمنه من المعارف الحقة والدعوة الظاهره. على أن الله سبحانه ينسب الهداية والاضلال في كتابه إلى نفسه كثيرا كقوله: " كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا " (الاسراء: 20) وقال في خصوص القرآن: " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " (الاسراء: 82)، والاضلال أو ما يشبهه إنما يعد مذموما إذا كان إضلالا ابتدائيا، وأما ما كان منه من قبيل الجزاء إثر فسق ومعصية من الضال يوجب نزول السخط الالهى عليه ويستدعى حلول ما هو أشد مما هو فيه من الضلال فلا ضير في الاضلال بهذا المعنى ولا ذم يلحقه كما يشير إليه قوله: " وما يضل به إلا الفاسقين " (البقرة: 26)، وقوله: " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " (الصف: 5). وبالاخرة يعود معنى زيادة القرآن طغيانهم وكفرهم إلى سلب التوفيق وعدم تعلق العناية الالهية بردهم مما هم فيه من الطغيان والكفر بآيات الله إلى التسليم والايمان بإجابة الدعوة الحقة، وقد تقدم البحث عن هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: " وما يضل به إلا الفاسقين " (البقرة: 26) في الجزء الاول من هذا الكتاب. ولنرجع إلى أول الكلام فقوله: " وليزيدن كثيرا منهم " (الخ)، كأنه مسوق لرفع الاستبعاد والتعجب الناشئ من اجتراء هؤلاء المتسمين بأهل الكتاب، والمدعين أنهم أبناء الله وأحباؤه على ربهم بمثل هذه الكلمة المهينة المزرية: (يد الله مغلولة). وإن من المحتوم اللازم لهم هذه الزيادة في الطغيان والكفر التى هذه الكلمة من آثارها وسيتلوها آثار بعد آثار مشوهة، وهذا هو المستفاد من التأكيد المدلول عليه بلام القسم ونون التأكيد في قوله: " ليزيدن ". وفى تعقيب الطغيان بالكفر من غير عكس جرى على الترتيب الطبعى فإن
[ 36 ]
الكفر من آثار الطغيان وتبعاته. قوله تعالى: " وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة " ضمير بينهم راجع إلى اليهود على ما هو ظاهر وقوع الجملة في سياق الكلام على اليهود خاصة وإن كانت الايات بدأت الكلام في أهل الكتاب عامة، وعلى هذا فالمراد بالعداوة والبغضاء بينهم ما يرجع إلى الاختلاف في المذاهب والاراء، وقد أشار الله سبحانه إليه في مواضع من كلامه كقوله: " ولقد آتينا بنى إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة - إلى أن قال - فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " (الجاثية: 17) وغير ذلك من الايات. والعداوة كأن المراد بها البغض الذى يستصحب التعدي في العمل، والبغضاء هو مطلق ما في القلب من حالة النفار وإن لم يستعقب التعدي في العمل فيفيد اجتماعهما معنى البغض الذى يوجب الظلم على الغير والبغض الذى يقصر عنه. وفى قوله تعالى: " إلى يوم القيامة " مالا يخفى من الدلالة على بقاء امتهم إلى آخر الدنيا. قوله تعالى: " كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله " إيقاد النار إشعالها، وإطفاؤها إخمادها، والمعنى واضح، ومن المحتمل أن يكون قوله: " كلما أوقدوا " (الخ) بيانا لقوله: " وألقينا بينهم العداوة " (الخ) فيعود المعنى إلى أنه كلما أثاروا حربا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين أطفأها الله بإلقاء الاختلاف بينهم. والاية على ما يدل عليه السياق تسجل عليهم خيبة المسعى في إيقاد النيران التى يوقدونها على دين الله سبحانه، وعلى المسلمين بما أنهم مؤمنون بالله وآياته، وأما الحروب التى ربما أمكن أن يوقدوا نارها لا لامر الدين الحق بل لسياسة أو تغلب جنسي أو ملى فهى خارجة عن مساق الاية.
قوله تعالى: " ويسعون في الارض فسادا والله لا يحب المفسدين " السعي هو السير السريع، وقوله: " فسادا " مفعول له أي يجتهدون لافساد الارض، والله لا يحب المفسدين فلا يخليهم وأن ينالوا ما أرادوه من فساد الارض فيخيب سعيهم، والله أعلم.
[ 37 ]
فهذا كله بيان لكونهم غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا، حيث إنهم غير نائلين ما قصدوه من إثاره الحروب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وما اجتهدوا لاجله من فساد الارض. قوله تعالى: " ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم (إلخ) عود إلى حال أهل الكتاب عامة كما كان بدأ الكلام فيهم عامة، وختم الكلام بتخليص القول في ما فاتهم من نعمة السعادة في الاخرة والدنيا، وهى جنة النعيم ونعمة الحياة السعيدة. والمراد بالتقوى بعد الايمان التورع عن محارم الله واتقاء الذنوب التى تحتم السخط الالهى وعذاب النار، وهى الشرك بالله وسائر الكبائر الموبقة التى أوعد الله عليها النار، فيكون المراد بالسيئات التى وعد الله سبحانه تكفيرها الصغائر من الذنوب، وينطبق على قوله سبحانه: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما " (النساء: 31). قوله تعالى: " ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل وما أنزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " المراد بالتوراة والانجيل الكتابان السماويان اللذان يذكر القرآن أن الله أنزلهما على موسى وعيسى عليهما السلام دون ما بأيدى القوم من الكتب التى يذكر أنه لعبت بها يد التحريف. والظاهر أن المراد بما أنزل إليهم من ربهم سائر الكتب المنسوبة إلى الانبياء
الموجودة عندهم كمزامير داود الذى يسميه القرآن بالزبور، وغيره من الكتب. وأما احتمال أن يكون المراد به القرآن فيبعده أن القرآن نسخ بأحكامه شرائع التوراة والانجيل فلا وجه لعدهما معه وتمنى أن يكونوا أقاموهما مع القرآن الناسخ لهما، والقول بأن العمل بالقرآن عمل بهما أيضا، كما أن العمل بالاحكام الناسخة في الاسلام عمل بمجموع شرائع الاسلام المتضمنة للناسخ والمنسوخ جميعا لكون دين الله واحدا لا يزاحم بعضه بعضا، غاية الامر أن بعض الاحكام مؤجلة موقوتة من غير تناقض يدفعه أن الله سبحانه عبر عن هذا العمل بالاقامة وهى حفظ الشئ على ساق، ولا يلائم ذلك الاحكام المنسوخة بما هي منسوخة، فإقامة التوراة والانجيل إنما يصح حين كانت
[ 38 ]
الشريعتان لم تنسخا بشريعة اخرى، والانجيل لم ينسخ شريعة التوراة إلا في أمور يسيرة. على أن قوله تعالى: " وما أنزل إليهم من ربهم " يعدهم منزلا إليهم، وغير معهود من كلامه تعالى أن يذكر أن القرآن نزل إليهم. فالظاهر أن المراد بما أنزل إليهم من ربهم بعد التوراة والانجيل سائر الكتب وأقسام الوحى المنزلة على أنبياء بنى إسرائيل كزبور داود وغيره، والمراد بإقامة هذه الكتب حفظ العمل العام بما فيها من شرائع الله تعالى، والاعتقاد بما بين الله تعالى فيها من معارف المبدء والمعاد من غير أن يضرب عليها بحجب التحريف والكتمان والترك الصريح، فلو أقاموها هذه الاقامة لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم. وأما قوله تعالى: " لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " فالمراد بالاكل التنعم مطلقا سواء كان بالاكل كما في مورد الاغذية أو بغيره كما في غيره، واستعمال الاكل في مطلق التصرف والتنعم من غير مزاحم شائع في اللغة. والمراد من فوقهم هو السماء، ومن تحت أرجلهم هو الارض، فالجملة كناية عن تنعمهم بنعم السماء والارض وإحاطة بركاتهما عليهم نظير ما وقع في قوله تعالى: " ولو
أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون " (الاعراف: 96). والاية من الدليل على أن لايمان هذا النوع أعنى نوع الانسان وأعماله الصالحة تأثيرا في صلاح النظام الكونى من حيث ارتباطه بالنوع الانساني فلو صلح هذا النوع صلح نظام الدنيا من حيث إيفائه باللازم لحياة الانسان السعيدة من اندفاع النقم ووفور النعم. ويدل على ذلك آيات اخرى كثيرة في القرآن بإطلاق لفظها كقوله تعالى: " ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذى عملوا لعلهم يرجعون * قل سيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين " (الروم: 42)، وقوله تعالى: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " (الشورى: 30) إلى غير ذلك، وقد تقدم بعض ما يتعلق به من الكلام في البحث عن أحكام الاعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب. قوله تعالى: " منهم امة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون " الاقتصاد أخذ
[ 39 ]
القصد وهو التوسط في الامور، فالامة المقتصدة هي المعتدلة في أمر الدين والتسليم لامر الله. والكلام مستأنف اريد به بيان حال جميع ما نسب إليهم من التعدي عن حدود الله والكفر بآيات الله ونزول السخط واللعن على جماعتهم أن ذلك كله إنما تلبس به أكثرهم، وهو المصحح لنسبة هذه الفظائع إليهم، وأن منهم امة معتدلة ليست على هذا النعت، وهذا من نصفة الكلام الالهى حيث لا يضيع حقا من الحقوق، ويراقب إحياء أمر الحق وإن كان قليلا. وقد تعرض لذلك أيضا في مطاوى الايات السابقة لكن لا بهذه المثابة من التصريح كقوله: " وإن أكثركم فاسقون " وقوله: " وترى كثيرا منهم يسارعون (الخ)، وقوله: " وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل اليك من ربك طغيانا وكفرا.
(بحث روائي) في تفسير القمى في قوله تعالى: " وإذا جاؤكم قالوا آمنا " (الاية) قال: نزلت في عبد الله بن أبى لما أظهر الاسلام وقد دخلوا بالكفر. اقول:: ظاهر السياق أنها نازلة في أهل الكتاب لا في المنافقين إلا أن تكون نزلت وحدها. وفيه في قوله تعالى: " وهم قد خرجوا به " (الاية) قال: قال: قد خرجوا به من الايمان. وفى الكافي بإسناده عن أبى بصير عن عمر بن رياح عن أبى جعفر عليه السلام قال: قلت له: بلغني أنك تقول: من طلق لغير السنة أنك لا ترى طلاقه شيئا ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام: ما أقول بل الله عزوجل يقوله، أما والله لو كنا نفتيكم بالجور لكنا شرا منكم ! إن الله يقول: لو لا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الاثم وأكلهم السحت. وفى تفسير العياشي عن أبى بصير قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: إن عمر بن
[ 40 ]
رياح زعم أنك قلت: لاطلاق إلا ببينة ؟ قال: فقال: ما أنا قلته بل الله تبارك وتعالى يقول: أما والله لو كنا نفتيكم بالجور لكنا أشر منكم ! إن الله يقول: " لولا ينهاهم الربانيون والاحبار ". وفى مجالس الشيخ بإسناده عن ابن أبى عمير عن هشام بن سالم عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله تعالى: " وقالت اليهود يد الله مغلولة " فقال: كانوا يقولون: قد فرغ من الامر. اقول: وروى هذا المعنى العياشي في تفسيره عن يعقوب بن شعيب وعن حماد عنه عليه السلام.
وفى تفسير القمى: قال: قالوا: قد فرغ الله من الامر لا يحدث غير ما قدره في التقدير الاول، فرد الله عليهم فقال: " بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " أي يقدم ويؤخر، ويزيد وينقص وله البداء والمشية. اقول: وروى هذا المعنى الصدوق في المعاني بإسناده عن إسحاق بن عمار عمن سمعه عن الصادق عليه السلام. وفى تفسير العياشي عن هشام المشرقي عن أبى الحسن الخراساني عليه السلام قال: إن الله كما وصف نفسه أحد صمد نور، ثم قال: " بل يداه مبسوطتان " فقلت له: أفله يدان هكذا ؟ وأشرت بيدى إلى يده - فقال: لو كان هكذا كان مخلوقا. اقول: ورواه الصدوق في العيون بإسناده عن المشرقي عنه عليه السلام وفى المعاني بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت جعفرا عليه السلام فقلت: قوله عزوجل: " يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى " ؟ قال: اليد في كلام العرب القوة والنعمة قال: " واذكر عبدنا داود ذا الايد، والسماء بنيناها بأيد - أي بقوة - وإنا لموسعون " قال: " وأيدهم بروح منه " قال: أي قواهم، ويقال: لفلان عنديد بيضاء أي نعمة. وفى تفسير القمى في قوله تعالى: " ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل " (الاية): يعنى اليهود والنصارى " لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " قال: قال: من فوقهم
[ 41 ]
المطر، ومن تحت أرجلهم النبات. وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: " منهم امة مقتصدة " (الاية) عن أبى الصهباء الكبرى قال: سمعت على بن أبى طالب دعا رأس الجالوت واسقف النصارى فقال: إنى سائلكما عن أمر وأنا أعلم به منكما فلا تكتما ثم دعا اسقف النصارى فقال: انشدك بالله الذى أنزل الانجيل على عيسى، وجعل على رجله البركة، وكان يبرئ
الاكمه والابرص، وأزال ألم العين، وأحيى الميت، وصنع لكم من الطين طيورا، وأنبأكم بما تأكلون وما تدخرون، فقال: دون هذا أصدق. فقال على عليه السلام: بكم افترقت بنو إسرائيل بعد عيسى ؟ فقال: لا والله ولا فرقة واحدة فقال على عليه السلام: كذبت والله الذى لا إله إلا هو لقد افترقت على اثنين وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة إن الله يقول: " منهم امة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون " فهذه التى تنجو. وفيه عن زيد بن أسلم، عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: تفرقت امة موسى على إحدى وسبعين فرقة، سبعون منها في النار وواحدة في الجنة، وتفرقت امة عيسى على اثنتين وسبعين فرقة، إحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وتعلو امتى على الفرقتين جميعا بملة، واحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار، قالوا: من هم يا رسول الله ؟ قال: الجماعات، الجماعات. وفيه قال: يعقوب بن يزيد: كان على بن أبى طالب عليه السلام إذا حدث هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلا فيه قرآنا: " ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم - إلى قوله - ساء ما يعملون " وتلا أيضا: " وممن خلقنا امة يهدون بالحق وبه يعدلون " يعنى امة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. * * * يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم الكافرين - 67.
[ 42 ]
(بيان) معنى الاية في نفسها ظاهر فإنها تتضمن أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ في صورة
التهديد، ووعده صلى الله عليه وآله وسلم بالعصمة من الناس، غير أن التدبر في الاية من حيث وقوعها موقعها الذى وقعت فيه، وقد حففتها الايات المتعرضة لحال أهل الكتاب وذمهم وتوبيخهم بما كانوا يتعاورونه من أقسام التعدي إلى محارم الله والكفر بآياته. وقد اتصلت بهامن جانبيها الايتان. أعنى قوله: " ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل وما انزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " (الاية)، وقوله تعالى: " قل يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة والانجيل وما انزل إليكم من ربكم " (الاية). ثم الامعان في التدبر في نفس الاية وارتباط الجمل المنضودة فيها يزيد الانسان عجباعلى عجب. فلو كانت الاية متصلة بما قبلها وما بعدها في سياق واحد في أمر أهل الكتاب لكان محصلها أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشد الامر بتبليغ ما أنزله الله سبحانه في أمر أهل الكتاب، وتعين بحسب السياق أن المراد بما انزل إليه من ربه هو ما يأمره بتبليغه في قوله: " قل يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة والانجيل وما انزل إليكم من ربكم " (الاية). وسياق الاية يأباه فإن قوله: " والله يعصمك من الناس " يدل على أن هذا الحكم المنزل المأمور بتبليغه أمر مهم فيه مخافة الخطر على نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو على دين الله تعالى من حيث نجاح تبليغه ولم يكن من شأن اليهود ولا النصارى في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتوجه إليه من ناحيتهم خطر يسوغ له صلى الله عليه وآله وسلم أن يمسك عن التبليغ أو يؤخره إلى حين فيبلغ الامر إلى حيث يحتاج إلى أن يعده الله بالعصمة منهم إن بلغ ما امر به فيهم حتى في أوائل هجرته صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وعنده حدة اليهود وشدتهم حتى انتهى إلى وقائع خيبر وغيرها. على أن الاية لا تتضمن أمرا شديدا ولا قولا حادا، وقد تقدم عليه تبليغ ما
هو أشد وأحد وأمر من ذلك على اليهود، وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ ما هو أشد
[ 43 ]
من ذلك كتبليغ التوحيد ونفى الوثنية إلى كفار قريش ومشركى العرب وهم أغلظ جانبا وأشد بطشا وأسفك للدماء، وأفتك من اليهود وسائر أهل الكتاب، ولم يهدده الله في أمر تبليغهم ولا آمنه بالعصمة منهم. على أن الايات المتعرضة لحال أهل الكتاب معظم أجزاء سورة المائدة فهى نازلة فيها قطعا، واليهود كانت عند نزول هذه السورة قد كسرت سورتهم، وخمدت نيرانهم، وشملتهم السخطة واللعنة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله فلا معنى لخوف رسول الله صليالله عليه وآله وسلم منهم في دين الله، وقد دخلوا يومئذ في السلم في حظيرة الاسلام وقبلوا هم والنصارى الجزية، ولا معنى لتقريره تعالى له خوفه منهم واضطرابه في تبليغ أمر الله إليهم، وهو أمر قد بلغ إليهم ما هو أعظم منه، وقد وقف قبل هذا الموقف فيما هو أهول منه وأوحش. فلا ينبغى الارتياب في أن الاية لا تشارك الايات السابقة عليها واللاحقة لها في سياقها، ولا تتصل بها في سردها، وإنما هي آية مفردة نزلت وحدها. والاية تكشف عن أمر قد انزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إما مجموع الدين أو بعض أجزائه) وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخاف الناس من تبليغه ويؤخره إلى حين يناسبه، ولو لا مخافته وإمساكه لم يحتج إلى تهديده بقوله: " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " كما وقع في آيات أول البعثة الخالية عن التهديد كقوله تعالى: " اقرأ باسم ربك الذى خلق " إلى آخر سورة العلق، وقوله: " يا أيها المدثر * قم فأنذر " (المدثر: 2)، وقوله: فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين " (حم السجدة: 6) إلى غير ذلك. فهو صلى الله عليه وآله وسلم كان يخافهم ولم يكن مخافته من نفسه في جنب الله سبحانه فهو أجل من أن يستنكف عن تفدية نفسه أو يبخل في شئ من أمر الله بمهجته فهذا شئ تكذبه
سيرته الشريفة ومظاهر حياته، على أن الله شهد في رسله على خلاف ذلك كما قال تعالى: " ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا * الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا " (الاحزاب: 39)، وقد قال تعالى في أمثال هذه الفروض: " فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين " (آل عمران: 175) وقد مدح الله سبحانه طائفة من عباده بأنهم لم يخشوا الناس في عين أن الناس خوفوهم فقال: " الذين قال لهم
[ 44 ]
الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " (آل عمران: 173). وليس من الجائز أن يقال: إنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يخاف على نفسه أن يقتلوه فيبطل بذلك أثر الدعوة وينقطع دابرها فكان يعوقه إلى حين ليس فيه هذه المفسدة فإن الله سبحانه يقول له صلى الله عليه وآله وسلم: " ليس لك من الامر شئ " (آل عمران: 128)، لم يكن الله سبحانه يعجزه لو قتلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحيى دعوته بأى وسيلة من الوسائل شاء، وبأى سبب أراد. نعم من الممكن أن يقدر لمعنى قوله: " والله يعصمك من الناس " أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخاف الناس في أمر تبليغه أن يتهموه بما يفسد به الدعوة فسادا لا تنجح معه أبدا فقد كان أمثال هذا الرأي والاجتهاد جائزا له مأذونا فيه من دون أن يرجع معنى الخوف إلى نفسه بشئ. ومن هنا يظهر أن الاية لم تنزل في بدء البعثة كما يراه بعض المفسرين إذ لا معنى حينئذ لقوله تعالى: " والله يعصمك من الناس " إلا أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يماطل في إنجاز التبليغ خوفا من الناس على نفسه أن يقتلوه فيحرم الحياأ أو أن يقتلوه ويذهب التبليغ باطلا لا أثر له فإن ذلك كله لا سبيل إلى احتماله.
على أن المراد بما أنزل إليه من ربه لو كان أصل الدين أو مجموعه في الاية عاد معنى قوله: " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " إلى نحو قولنا: يا أيها الرسول بلغ الدين وإن لم تبلغ الدين فما بلغت الدين. وأما جعله من قبيل قول أبى النجم أنا أبو النجم وشعرى شعرى كما ذكره بعضهم أن معنى الاية: وإن لم تبلغ الرسالة فقد لزمك شناعة القصور في التبليغ والاهمال في المسارعة إلى ايتمار ما أمرك به الله سبحانه، وأكده عليك كما أن معنى قول أبى النجم: أنى أنا أبو النجم وشعرى شعرى المعروف بالبلاغة المشهور بالبراعة. فإن ذلك فاسد لان هذه الصناعة الكلامية إنما تصح في موارد العام والخاص والمطلق والمقيد ونظائر ذلك فيفاد بهذا السياق اتحادهما كقول أبى النجم: شعرى شعرى
[ 45 ]
أي لا ينبغى أن يتوهم على متوهم أن قريحتي كلت أو أن الحوادث أعيتنى أن أقول من الشعر ما كنت أقوله فشعرى الذى أقوله اليوم هو شعرى الذى كنت أقوله بالامس. وأما قوله تعالى: " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " فليس يجرى فيه مثل هذه العناية فإن الرسالة التى هي مجموع الدين أو أصله على تقدير نزول الاية في أول البعثة أمر واحد غير مختلف ولا متغير حتى يصح أن يقال: إن لم تبلغ هذه الرسالة فلما بلغت تلك الرسالة أولم تبلغ أصل الرسالة فإن المفروض أنه أصل الرسالة التى هي مجموع المعارف الدينية. فقد تبين أن الاية بسياقها لا تصلح أن تكون نازلة في بدء البعثة ويكون المراد فيها بما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مجموع الدين أو أصله، ويتبين بذلك أنها لا تصلح أن تكون نازلة في خصوص تبليغ مجموع الدين أو أصله في أي وقت آخر غير بدء البعثة فإن الاشكال إنماينشأ من جهة لزوم اللغو في قوله تعالى: " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " كما مر.
على أن قوله: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك " لا يلائم النزول في أي وقت آخر غير بدء البعثة على تقدير إرادة الرسالة بمجموع الدين أو أصله، وهو ظاهر. على أن محذور دلالة قوله: " والله يعصمك من الناس " على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخاف الناس في تبليغه على حاله. فظهر أن ليس هذا الامر الذى أنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأكدت الاية تبليغه هو مجموع الدين أو أصله على جميع تقاديره المفروضة، فلنضع أنه بعض الدين، والمعنى: بلغ الحكم الذى أنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته (الخ) ولازم هذا التقدير أن يكون المراد بالرسالة مجموع ما حمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الدين ورسالته، وإلا فالمحذور السابق وهو لزوم اللغو في الكلام على حاله إذ لو كان المراد بقوله: " رسالته " الرسالة الخاصة بهذا الحكم كان المعنى: بلغ هذا الحكم وإن لم تبلغه فما بلغته، وهو لغو ظاهر. فالمراد أن بلغ هذا الحكم وإن لم تبلغه فما بلغت أصل رسالته أو مجموعها، وهو معنى صحيح معقول، وحينئذ يرد الكلام نظير المورد الذى ورده قول أبى النجم: " أنا أبو النجم وشعرى شعرى ".
[ 46 ]
وأما كون هذا الحكم بحيث لو لم يبلغ فكأنما لم تبلغ الرسالة فإنما ذلك لكون المعارف والاحكام الدينية مرتبطة بعضها ببعض بحيث لو أخل بأمر واحد منها أخل بجميعها وخاصة في التبليغ لكمال الارتباط، وهذا التقدير وإن كان في نفسه مما لا بأس به لكن ذيل الاية وهو قوله: " والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم الكافرين " لا يلائمه فإن هذا الذيل يكشف عن أن قوما كافرين من الناس هموا بمخالفة هذا الحكم النازل أو كان المترقب من حالهم أنهم سيخالفونه مخالفة شديدة، ويتخذون أي تدبير يستطيعونه لابطال هذه الدعوة وتركه سدى لا يؤثر أثرا ولا ينفع شيئا وقد وعد الله
رسوله أن يعصمه منهم، ويبطل مكرهم، ولا يهديهم في كيدهم. ولا يستقيم هذا المعنى مع أي حكم نازل فرض فإن المعارف والاحكام الدينية في الاسلام ليست جميعا في درجة واحدة ففيها التى هي عمود الدين، وفيها الدعاء عند رؤية الهلال، وفيها زنى المحصن وفيها النظر إلى الاجنبية، ولا يصح فرض هذه المخافة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والوعد بالعصمة من الله مع كل حكم حكم منها كيفما كان بل في بعض الاحكام. فليس استلزام عدم تبليغ هذا الحكم لعدم تبليغ غيره من الاحكام إلا لمكان أهميته ووقوعه من الاحكام في موقع لو اهمل أمره كان ذلك في الحقيقة إهمالا لامر سائر الاحكام، وصيرورتها كالجسد العادم للروح التى بها الحياة الباقية والحس والحركة، وتكون الاية حينئذ كاشفة عن أن الله سبحانه كان قد أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بحكم يتم به أمر الدين ويستوى به على عريشة القرار، وكان من المترقب أن يخالفه الناس ويقلبوا الامر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحيث تنهدم أركان ما بناه من بنيان الدين وتتلاشى أجزاؤه، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتفرس ذلك ويخافهم على دعوته فيؤخر تبليغه إلى حين بعد حين ليجد له ظرفا صالحا وجوا آمنا عسى أن تنجح فيه دعوته، ولا يخيب مسعاه فأمره الله تعالى بتبليغ عاجل، وبين له أهمية الحكم، ووعده أن يعصمه من الناس، ولا يهديهم في كيدهم، ولا يدعهم يقلبوا له أمر الدعوة. وإنما يتصور تقليب أمر الدعوة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإبطال عمله بعد انتشار الدعوة الاسلامية لا من جانب المشركين ووثنية العرب أو غيرهم كأن تكون الاية نازلة في مكة قبل الهجرة، وتكون مخافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الناس من جهة افترائهم عليه واتهامهم إياه في أمره كما حكاه الله سبحانه من قولهم: " معلم مجنون " (الدخان: 14)
[ 47 ]
وقولهم: " شاعر نتربص به ريب المنون " (الطور: 30)، وقولهم: " ساحر أو مجنون " (الذاريات: 52)، وقولهم: " إن تتبعون إلا رجلا مسحورا " (الاسراء: 47)،
وقولهم: " إن هذا إلا سحر يؤثر " (المدثر: 24)، وقولهم: " أساطير الاولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيلا " (الفرقان: 5)، وقولهم: " إنما يعلمه بشر " (النحل: 103) وقولهم: " أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشئ يراد " (ص: 6) إلى غير ذلك من أقاويلهم فيه صلى الله عليه وآله وسلم. فهذه كلها ليست مما يوجب وهن قاعدة الدين، وإنما تدل - إذا دلت - على اضطراب القوم في أمرهم، وعدم استقامتهم فيه على أن هذه الافتراءات والمرامى لا تختص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يضطرب عند تفرسها ويخاف وقوعها فسائر الانبياء والرسل يشاركونه في الابتلاء بهذه البلايا والمحن ومواجهة هذه المكاره من جملة اممهم كما حكاه الله تعالى عن نوح ومن بعده من الانبياء المذكورين في القرآن. بل إن كان شئ - ولا بد - فإنما يتصور بعد الهجرة واستقرار أمر الدين في المجتمع الاسلامي والمسلمون كالمعجون الخليط من صلحاء مؤمنين وقوم منافقين اولى قوة لا يستهان بأمرهم، وآخرين في قلوبهم مرض وهم سماعون - كما نص عليه الكتاب العزيز - وهؤلاء كانوا يعاملون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم - في عين أنهم آمنوا به واقعا أو ظاهرا - معاملة الملوك ومع دين الله معاملة القوانين الوضعية القومية كما يشعر بذلك طوائف من آيات الكتاب قد تقدم تفسير بعضها في الاجزاء السابقة من هذا الكتاب (2). فكان من الممكن أن يكون تبليغ بعض الاحكام مما يوقع في الوهم انتفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتشريعه وإجرائه يستوجب أن يقع في قلوبهم أنه ملك في صورة النبوة وقانون ملكى في هيئة الدين كما ربما وجد بعض شواهد ذلك في مطاوى كلمات بعضهم (2). وهذه شبهة لو كانت وقعت هي أو ما يماثلها في قلوبهم ألقت إلى الدين من الفساد والضيعة مالا يدفعه أي قوة دافعة، ولا يصلحه أي تدبير مصلح فليس هذا الحكم النازل المأمور بتبليغه إلا حكما فيه توهم انتفاع للنبى صلى الله عليه وآله وسلم، واختصاص له بمزية من
(1) كآيات قصة سورة آل عمران، والايات ال 105 - 126 من سورة النساء
(2) كما عن أبى سفيان في كلمات قالها في مجلس عثمان حينما تم له أمر الخخلافة. (*)
[ 48 ]
المزايا الحيوية لا يشاركه فيها غيره من سائر المسلمين، نظير ما في قصة زيد وتعدد الازواج والاختصاص بخمس الغنائم ونظائر ذلك. غير أن الخصائص إذا كانت مما لا تمس فيه عامة المسلمين لم يكن من طبعها إثارة الشبهة في القلوب فإن الازدواج بزوجة المدعو ابنا مثلا لم يكن يختص به والازدواج بأكثر من أربع نسوة لو كان تجويزه لنفسه عن هوى بغير إذن الله سبحانه لم يكن يمنعه أن يجوز مثل ذلك لسائر المسلمين، وسيرته في إيثار المسلمين على نفسه في ما كان يأخذه لله ولنفسه من الاموال ونظائر هذه الامور لا تدع ريبا لمرتاب ولا يشتبه أمرها لمشتبه دون أن تزول الشبهة. فقد ظهر من جميع ما تقدم أن الاية تكشف عن حكم نازل فيه شوب انتفاع للنبى صلى الله عليه وآله وسلم، واختصاصه بمزية حيوية مطلوبة لغيره أيضا يوجب تبليغه والعمل به حرمان الناس عنه فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخاف إظهاره فأمره الله بتبليغه وشدد فيه، ووعده العصمة من الناس وعدم هدايتهم في كيدهم إن كادوا فيه. وهذايؤيد ما وردت به النصوص من طرق الفريقين أن الاية نزلت في أمر ولاية على عليه السلام، وان الله أمر بتبليغها وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخاف أن يتهموه في ابن عمه، ويؤخر تبليغها وقتاإلى وقت حتى نزلت الاية فبلغها بغدير خم، وقال فيه: من كنت مولاه فهذا على مولاه. وكون ولاية امر الامة مما لا غنى للدين عنه ظاهر لا ستر عليه، وكيف يسوغ لمتوهم أن يتوهم أن الدين الذى يقرر بسعته لعامة البشر في عامة الاعصار والاقطار جميع ما يتعلق بالمعارف الاصلية، والاصول الخلقية، والاحكام الفرعية العامة لجميع حركات الانسان وسكناته، فرادى ومجتمعين على خلاف جميع القوانين العامة لا يحتاج
إلى حافظ يحفظه حق الحفظ ؟ أو ان الامة الاسلامية والمجتمع الدينى مستثنى من بين جميع المجتمعات الانسانية مستغنية عن وال يتولى أمرها ومدبر يدبرها ومجر يجريها ؟ وبأى عذر يمكن أن يعتذر إلى الباحث عن سيرة النبي الاجتماعية ؟ حيث يرى أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا خرج إلى غزوة خلف مكانه رجلا يدير رحى المجتمع، وقد خلف عليا مكانه على المدينة عند مسيره إلى تبوك فقال: يا رسول الله اتخلفنى على النساء والصبيان ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: اما ترضى ان تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبى بعدى ؟
[ 49 ]
وكان صلى الله عليه وآله وسلم ينصب الولاة الحكام في ما بيد المسلمين من البلاد كمكة والطائف واليمن وغيرها، ويؤمر رجالا على السرايا والجيوش التى يبعثها إلى الاطراف، وأى فرق بين زمان حياته وما بعد مماته دون أن الحاجة إلى ذلك بعد غيبته بالموت أشد، والضرورة إليه أمس ثم أمس. قوله تعالى: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك، خاطبه صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة لكونها أنسب الصفات إلى ما تتضمنه الاية من الامر بالتبليغ لحكم الله النازل فهو كالبرهان على وجوب التبليغ الذى تظهره الاية وتقرعه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن الرسول لا شأن له إلا تبليغ ما حمل من الرسالة فتحمل الرسالة يفرض عليه القيام بالتبليغ. ولم يصرح باسم هذا الذى أنزل إليه من ربه بل عبر عنه بالنعت وأنه شئ أنزل إليه، إشعارا بتعظيمه ودلالة على أنه أمر ليس فيه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صنع، ولا له من أمره شئ ليكون كبرهان آخر على عدم خيرة منه صلى الله عليه وآله وسلم في كتمانه وتأخير تبليغه ويكون له عذرا في إظهاره على الناس، وتلويحا إلى أنه صلى الله عليه وآله وسلم مصيب في ما تفرسه منهم وتخوف عليه، وإيماء إلى أنه مما يجب أن يظهر من ناحيته صلى الله عليه وآله وسلم وبلسانه وبيانه. قوله تعالى: " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " المراد بقوله: " رسالته " وقرئ " رسالاته " كما تقدم مجموع رسالات الله سبحانه التى حملها رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تقدم
أن الكلام يفيد أهمية هذا الحكم المرموز إليه، وإن له من المكانة ما لو لم يبلغه كان كأن لم يبلغ شيئا من الرسالات التى حملها. فالكلام موضوع في صورة التهديد، وحقيقته بيان أهمية الحكم، وأنه بحيث لو لم يصل إلى الناس، ولم يراع حقه كان كأن لم يراع حق شئ من أجزاء الدين فقوله: " وإن لم تفعل فما بلغت " جملة شرطية سيقت لبيان أهمية الشرط وجودا وعدما لترتب الجزاء الاهم عليه وجودا وعدما. وليست شرطية مسوقة على طبع الشرطيات الدائرة عندنا فإنا نستعمل " إن " الشرطية طبعا فيما نجهل تحقق الجزاء للجهل بتحقق الشرط، وحاشا ساحة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أن يقدر القرآن في حقه احتمال ان يبلغ الحكم النازل عليه من ربه وأن لا يبلغ،
[ 50 ]
وقد قال تعالى: " الله أعلم حيث يجعل رسالته " (الانعام: 124). فالجملة أعنى قوله: " وإن لم تفعل فما بلغت " (الخ)، إنما تفيد التهديد بظاهرها وتفيد إعلامه عليه السلام وإعلام غيره ما لهذا الحكم من الاهمية وأن الرسول معذور في تبليغه. قوله تعالى: " والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم الكافرين " قال الراغب: العصم (بالفتح فالسكون) الامساك والاعتصام الاستمساك - إلى أن قال - والعصام (بالكسر) ما يعتصم به أي يشد، وعصمة الانبياء حفظه إياهم أولا بما خصهم به من صفاء الجوهر، ثم بما أولاهم من الفضائل الجسمية والنفسية، ثم بالنصرة وبتثبيت أقدامهم، ثم بإنزال السكينة عليهم وبحفظ قلوبهم وبالتوفيق قال تعالى: " والله يعصمك من الناس. والعصمة شبه السوار، والمعصم موضعها من اليد، وقيل للبياض بالرسغ عصمة تشبيها بالسوار، وذلك كتسمية البياض بالرجل تحجيلا، وعلى هذا قيل: غراب
أعصم، انتهى. وما ذكره من معنى عصمة الانبياء حسن لا بأس به غير أنه لا ينطبق على الاية " والله يعصمك من الناس، بل لو انطبق فإنما ينطبق على مثل قوله: " وما يغرونك من شئ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما " (النساء: 113). وأما قوله: " والله يعصمك من الناس فإن ظاهره أنها عصمة بمعنى الحفظ والوقاية من شر الناس المتوجه إلى نفس النبي الشريفة أو مقاصده الدينية أو نجاح تبليغه وفلاح سعيه، وبالجملة المعنى المناسب لساحته المقدسة. وكيف كان فالمتحصل من موارد استعمال الكلمة أنها بمعنى الامساك والقبض فاستعماله في معنى الحفظ من قبيل استعارة اللازم لملزومه فإن الحفظ يلزمه القبض. وكان تعليق العصمة بالناس من دون بيان أن العصمة من أي شأن من شؤون الناس كتعدياتهم بالايذاء في الجسم من قتل أو سم أو أي اغتيال، أو بالقول كالسب والافتراء أو بغير ذلك كتقليب الامور بنوع من المكر والخديعة والمكيدة وبالجملة
[ 51 ]
السكوت عن تشخيص ما يعصم منه لافادة نوع من التعميم، ولكن الذى لا يعدو عنه السياق هو شرهم الذى يوجب انقلاب الامر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحيث يسقط بذلك ما رفعه من أعلام الدين. والناس مطلق من وجد فيه معنى الانسانية من دون أن يعتبر شئ من خصوصياته الطبيعية التكوينية كالذكورة والانوثة أو غير الطبيعية كالعلم والفضل والغنى وغير ذلك. ولذلك قل ما ينطبق على غير الجماعة، ولذلك أيضا ربما دل على الفضلاء من الانسان إذا كان الفضل روعى فيه وجود معنى الانسانية كقوله تعالى: " إذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس " أي الذين وجد فيهم معنى الانسانية، وهو ملاك درك الحق
وتمييزه من الباطل. وربما كان دالا على نوع من الخسة وسقوط الحال، وذلك إذا كان الامر الذى يتكلم فيه مما يحتاج إلى اعتبار شئ من الفضائل الانسانية التى اعتبرت زائدة على أصل معنى النوع كقوله: " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " (الروم: 30) وكقولك لا تثق بمواعيد الناس، ولا تستظهر بسوادهم نظرا منك إلى أن الوثوق والاستظهار يجب أن يتعلقا بالفضلاء من الانسان ذوى ملكة الوفاء بالعهد والثبات على العزيمة لا على من ليس له إلا مجرد صدق اسم الانسانية، وربما لم يفد شيئا من مدح أو ذم إذا تعلق الغرض بما لا يزيد على أصل معنى الانسانية كقوله تعالى: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " (الحجرات: 13). ولعل قوله: " والله يعصمك من الناس " أخذ فيه لفظ الناس اعتبارا بسواد الافراد الذى فيه المؤمن والمنافق والذى في قلبه مرض، وقد اختلطوا من دون تمايز، فإذا خيف خيف من عامتهم، وربما أشعر به قوله: " إن الله لا يهدى القوم الكافرين " فإن الجملة في مقام التعليل لقوله: " والله يعصمك من الناس " وقد تقدم أيضا أن الاية نزلت بعد الهجرة وظهور شوكة الاسلام، وكان السواد الاعظم من الناس مسلمين بحسب الظاهر وإن كان فيهم المنافقون وغيرهم. فالمراد بالقوم الكافرين قوم هم في الناس مذكوري النعت ممحوى الاسم وعد الله سبحانه أن يبطل كيدهم ويعصم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من شرهم.
[ 52 ]
والظاهر أيضا أن يكون المراد بالكفر الكفر بآية من آيات الله وهو الحكم المراد بقوله: " ما أنزل اليك من ربك " كما في قوله في آية الحج: " ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين " (آل عمران: 97)، وأما الكفر بمعنى الاستكبار عن أصل
الشهادتين فإنه مما لا يناسب مورد الاية البتة إلا على القول بكون المراد بقوله: " ما أنزل اليك من ربك مجموع رسالات الدين، وقد عرفت عدم استقامته. والمراد بعدم هدايته تعالى هؤلاء القوم الكافرين عدم هدايته إياهم في كيدهم ومكرهم، ومنعه الاسباب الجارية أن تنقاد لهم في سلوكهم إلى ما يرومونه من الشر والفساد نظير قوله تعالى: " إن الله لا يهدى القوم الفاسقين " (المنافقون: 6)، وقوله تعالى: " والله لا يهدى القوم الظالمين " (البقرة: 258)، وقد تقدم البحث عنه في الجزء الثاني من هذا الكتاب. وأما كون المراد بعدم الهداية هو عدم الهداية إلى الايمان فغير صحيح البتة لمنافاته أصل التبليغ والدعوة فلا يستقيم أن يقال: ادعهم إلى الله أو الحكم الله وأنا لا أهديهم إليه إلا في مورد إتمام الحجة محضا. على أن الله سبحانه قد هدى ولا يزال يهدى كثيرين من الكفار بدليل العيان، وقد قال أيضا: " والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم " (البقرة: 213). فتبين أن المراد بعدم هداية الكافرين عدم تخليتهم لينالوا ما يهمون به من إبطال كلمة الحق وإطفاء نور الحكم المنزل فإن الكافرين وكذا الظالمين والفاسقين يريدون بشامة أنفسهم وضلال رأيهم أن يبدلوا سنة الله الجارية في الخلقة وسياقة الاسباب السالكة إلى مسبباتها ويغيروا مجارى الاسباب الحقة الظاهرة عن سمة عصيان رب العالمين إلى غايتهم الفاسدة مقاصدهم الباطلة والله رب العالمين لن يعجزه قواهم الصورية التى لم يودعها فيهم ولم يقدرها في بناهم إلا هو. فهم ربما تقدموا في مساعيهم أحيانا، ونالوا ما راموه أوينات واستعلوا واستقام أمرهم برهة لكنه لا يلبث دون أن يبطل أخيرا وينقلب عليهم مكرهم ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، وكذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الباطل فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض.
وعلى هذا فقوله: " إن الله لا يهدى القوم الكافرين تفسير قوله: " والله يعصمك
[ 53 ]
من الناس، بالتصرف في سعة إطلاقه، ويكون المراد بالعصمة عصمته صلى الله عليه وآله وسلم من أن يناله الناس بسوء دون أن ينال بغيته في تبليغ هذا الحكم وتقريره بين الامة كأن يقتلوه دون أن يبلغه أو يثوروا عليه ويقلبوا عليه الامور أو يتهموه بما يرتد به المؤمنون عن دينه، أو يكيدوا كيدا يميت هذا الحكم ويقبره بل الله يظهر كلمة الحق ويقيم الدين على ما شاء وأينما شاء ومتى ما شاء وفيمن شاء، قال تعالى: " إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين و كان الله على ذلك قديرا) (النساء: 133). وأما أخذ الاية أعنى قوله: " والله يعصمك من الناس " بإطلاقه على ما فيه من السعة والشمول فمما ينافيه القرآن والمأثور من الحديث والتاريخ القطعي، وقد نال صلى الله عليه وآله وسلم من امته أعم من كفارهم ومؤمنيهم ومنافقيهم من المصائب والمحن وأنواع الزجر والاذى ما ليس في وسع أحد أن يتحمله إلا نفسه الشريفة، وقد قال صلى الله عليه وآاله وسلم - كما في الحديث المشهور -: ما اوذى نبى مثل ما اوذيت قط. (بحث روائي) في تفسير العياشي عن أبى صالح، عن ابن عباس وجابر بن عبد الله قالا: أمر الله تعالى نبيه محمدا صلى االله عليه وآله وسلم أن ينصب عليا علما في الناس ليخبرهم بولايته فتخوف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقولوا: خابى (1) ابن عمه وأن يطعنوا (2) في ذلك عليه. قال فأوحى الله إليه هذه الاية: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس " فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بولايته يوم غدير خم. وفيه عن حنان بن سدير، عن أبيه عن أبى جعفر عليه السلام قال: لما نزل جبرئيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع بإعلان أمر على بن أبى طالب عليه السلام " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك " إلى آخر الاية. قال: فمكث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثا
حتى أتى الجحفة فلم يأخذ بيده فرقا من الناس. فلما نزل الجحفة يوم غدير في مكان يقال له " مهيعة " فنادى الصلاة جامعة،
(1) جاءنا، خ ل. (2) يطغوا، خ ل. (*)
[ 54 ]
فاجتمع الناس فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من أولى بكم من أنفسكم ؟ فجهروا فقالوا: الله ورسوله ثم قال لهم الثانية، فقالوا: الله ورسوله، ثم قال لهم الثالثة، فقالوا: الله ورسوله. فأخذ بيد على عليه السلام فقال: من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله فإنه منى وأنا منه، وهو منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى. وفيه عن أبى الجارود، عن أبى جعفر عليه السلام قال: لما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم الكافرين " قال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيد على عليه السلام فقال: يا أيها الناس إنه لم يكن نبى من الانبياء ممن كان من قبلى ؟ إلا وقد عمر ثم دعاه فأجابه، وأوشك أن أدعى فاجيب، وأنا مسؤول وأنتم مسؤولون فما أنتم قائلون ؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت وأديت ما عليك فجزاك الله أفضل ما جزى المرسلين، فقال: اللهم اشهد. ثم قال: يا معشر المسلمين ليبلغ الشاهد الغائب أوصى من آمن بى وصدقني بولاية على، ألا إن ولاية على ولايتى عهدا عهده إلى ربى وأمرني أن ابلغكموه، ثم قال: هل سمعتم ؟ - ثلاث مرات يقولها - فقال قائل: قد سمعنا يا رسول الله. وفي البصائر بإسناده عن الفضيل بن يسار عن أبى جعفر عليه السلام في قوله: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " قال: هي الولاية. اقول: وروى نزول الاية في أمر الولاية وقصة الغدير معه الكليني في الكافي بإسناده، عن أبى الجارود، عن أبى جعفر عليه السلام في حديث طويل، وروى هذا المعنى الصدوق في المعاني بإسناده عن محمد بن الفيض بن المختار، عن أبيه عن ابى جعفر عليه السلام
في حديث طويل، ورواه العياشي أيضا عن أبى الجارود في حديث طويل، وبإسناده عن عمرو بن يزيد عن أبى عبد الله عليه السلام مختصرا. وعن تفسير الثعلبي قال: قال جعفر بن محمد: معنى قوله: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل عليك من ربك " في فضل على، فلما نزلت هذه أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد على فقال: من كنت مولاه فعلى مولاه.
[ 55 ]
وعنه بإسناده عن الكلبى عن ابى صالح عن ابن عباس في هذه الاية قال: نزلت في على بن أبى طالب، أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغ فيه فأخذ بيد على فقال: من كنت مولاه فعلى مولاه اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. وفي تفسير البرهان، عن إبراهيم الثقفى بإسناده عن الخدرى، وبريدة الاسلمي ومحمد بن على: نزلت يوم الغدير في على. ومن تفسير الثعلبي في معنى الاية قال: قال أبو جعفر محمد بن على: معناه بلغ ما أنزل اليك من ربك في على. وفي تفسير المنارعن تفسير الثعلبي: أن هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم في موالاة على شاع وطار في البلاد فبلغ الحارث بن النعمان الفهرى فأتى النبي صلى الله عليه وسلم على ناقته، وكان بالابطح فنزل وعقل ناقته، وقال للنبى صلى الله عليه وسلم - وهو في ملا من أصحابه -: يا محمد أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقبلنا منك - ثم ذكر سائر أركان الاسلام - ثم لم ترض بهذا حتى مددت بضبعى ابن عمك، وفضلته علينا، وقلت: " من كنت مولاه فعلى مولاه " فهذا منك أم من الله ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: والله الذى لا إله إلا هو هو أمر الله، فولى الحارث يريد راحلته، وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم. فما وصل إلى راحلته حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره،
وأنزل الله تعالى: " سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع " الحديث. أقول: قال في المنار بعد نقل هذا الحديث ما لفظه: وهذه الرواية موضوعة، وسورة المعارج هذه مكية، وما حكاه الله من قول بعض كفار قريش: (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك) كان تذكيرا بقول قالوه قبل الهجر، وهذا التذكير في سورة الانفال، وقد نزلت بعد غزوة بدر قبل نزول المائدة ببضع سنين، وظاهر الرواية أن الحارث بن النعمان هذا كان مسلما فارتد ولم يعرف في الصحابة، والابطح بمكة والنبى صلى الله عليه وسلم لم يرجع من غدير خم إلى مكة بل نزل فيه منصرفه من حجة الوداع إلى المدينة، انتهى. وأنت ترى ما في كلامه من التحكم: أما قوله: [ إن الرواية موضوعة، وسورة
[ 56 ]
المعارج هذه مكية ] فيعول في ذلك على ما في بعض الروايات عن ابن عباس وابن الزبير أن سورة المعارج نزلت بمكة، وليت شعرى ما هو المرجح لهذه الرواية على تلك الرواية، والجميع آحاد ؟ سلمنا أن سورة المعارج مكية كما ربما تؤيده مضامين معظم آياته فما هو الدليل على أن جميع آياتها مكية ؟ فلتكن السورة مكية، والايتان خاصة غير مكيتين كما أن سورتنا هذه أعنى سورة المائدة مدينة نازلة في آخر عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد وضعت فيها الاية المبحوث عنها أعنى قوله تعالى: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك " (الاية)، وهو كعدة من المفسرين مصرون على أنها نزلت بمكة في أول البعثة فإذا جاز وضع آية مكية (آية: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك) في سورة مدنية (المائدة) فليجز وضع آية مدنية (آية: سأل سائل) في سورة مكية (سورة المعارج). وأما قوله: [ وما حكاه الله من قول بعض كفار قريش ] إلى آخره، فهو في التحكم كسابقه، فهب إن سورة الانفال نزلت قبل المائدة ببضع سنين فهل يمنع ذلك
أن يوضع عند التأليف بعض الايات النازلة بعدها فيها كما وضعت آيات الربا وآية: " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " (البقرة: 281)، وهى آخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندهم في سورة البقرة النازلة في أوائل الهجرة وقد نزلت قبلها ببضع سنين. ثم قوله: [ إن آية: " وإذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق، الاية " تذكير لما قالوه قبل الهجرة ] تحكم آخر من غير حجة لو لم يكن سياق الاية حجة على خلافه فإن العارف بأساليب الكلام لا يكاد يرتاب في أن هذا أعنى قوله: " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " لاشتماله على قوله: " إن كان هذا هو الحق من عندك " بما فيه من اسم الاشارة وضمير الفصل والحق المحلى باللام وقوله: " من عندك " ليس كلام وثنى مشرك يستهزئ بالحق ويسخر منه، إنما هو كلام من أذعن بمقام الربوبية، ويرى أن الامور الحقة تتعين من لدنه، وأن الشرائع مثلا تنزل من عنده، ثم إنه يتوقف في أمر منسوب إلى الله تعالى يدعى مدع أنه الحق لا غيره، وهو لا يتحمل ذلك ويتحرج منه فيدعو على نفسه دعاء منزجر ملول سئم الحياة. وأما قوله: [ وظاهر الرواية أن الحارث بن النعمان هذا كان مسلما فارتد ولم
[ 57 ]
يعرف في الصحابة ] تحكم آخر، فهل يسع أحدا أن يدعى أنهم ضبطوا أسماء كل من رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآمن به أو آمن به فارتد ؟ وإن يكن شئ من ذلك فليكن هذا الخبر من ذلك القبيل. وأما قوله: [ والابطح بمكة والنبى صلى الله عليه وسلم لم يرجع من غدير خم إلى مكة ] فهو يشهد على أنه أخذ لفظ الابطح اسما للمكان الخاص بمكة ولم يحمله على معناه العام وهو كل مكان ذى رمل، ولا دليل على ما حمله عليه بل الدليل على خلافه وهو القصة المسرودة في الرواية وغيرها، وربما استفيد من مثل قوله:
نجوت وقد بل المرادى سيفه * من ابن أبى شيخ الاباطح طالب أن مكة وما والاها كانت تسمى الاباطح. قال في مراصد الاطلاع: أبطح بالفتح ثم السكون وفتح الطاء والحاء المهملة كل مسيل فيه رقاق الحصى فهو أبطح، وقال ابن دريد: الابطح والبطحاء السهل المنبسط على وجه الارض. وقال أبو زيد: الابطح أثر المسيل ضيقا كان أو واسعا، والابطح يضاف إلى مكة والى منى لان مسافته منهما واحدة، وربما كان إلى منى أقرب وهو المحصب، وهى خيف بنى كنانة، وقد قيل: إنه ذو طوى، وليس به، انتهى. على أن الرواية بعينها رواها غير الثعلبي وليس فيه ذكر من الابطح وهى ما يأتي من رواية المجمع من طريق الجمهور وغيرها. وبعد هذا كله فالرواية من الاحاد، وليست من المتواترات ولا مما قامت على صحتها قرينة قطعية، وقد عرفت من أبحاثنا المتقدمة أنا لا نعول على الاحاد في غير الاحكام الفرعية على طبق الميزان العام العقلائي الذى عليه بناء الانسان في حياته، وإنما المراد بالبحث الانف بيان فساد ما استظهر به من الوجوه التى استنتج منها أنها موضوعة. وفي المجمع: أخبرنا السيد أبو الحمد قال: حدثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني قال: أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي قال: أخبرنا أبو بكر الجرجاني قال: أخبرنا أبو أحمد البصري قال: حدثنا محمد بن سهل قال: حدثنا زيد بن إسماعيل مولى الانصار قال: حدثنا محمد بن أيوب الواسطي قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد الصادق
[ 58 ]
عن آبائه قال: لما نصب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا يوم غدير خم قال: من كنت مولاه فهذا على مولاه، فقال (فطار، ظ) ذلك في البلاد فقدم على النبي النعمان بن الحارث الفهرى فقال: أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وأمرتنا بالجهاد وبالحج وبالصوم والصلاة والزكاة فقبلناها، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت:
من كنت مولاه فعلى مولاه فهذا شئ منك أو أمر من الله تعالى ؟ فقال: بلى والله الذى لا إله إلا هو إن هذا من الله. فولى النعمان بن الحارث وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله، فأنزل الله: " سأل سائل بعذاب واقع ". أقول: وهذا المعنى مروى في الكافي أيضا. وعن كتاب نزول القرآن للحافظ أبى نعيم يرفعه إلى على بن عامر، عن أبى الحجاف، عن الاعمش، عن عطية قال: نزلت هذه الاية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في على بن أبى طالب " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك " وقد قال الله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ". وعن الفصول المهمة للمالكي قال: روى الامام أبو الحسن الواحدى في كتابه المسمى بأسباب النزول رفعه بسنده إلى أبى سعيد الخدرى - رضى الله عنه - قال: نزلت هذه الاية: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك " يوم غدير خم في على بن أبى طالب. أقول: ورواه في فتح القديرعن ابن أبى حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبى سعيد الخدرى وكذلك في الدر المنثور. وقوله: " بغدير خم " هو بضم الخاء المعجمة وتشديد الميم مع التنوين اسم لغيطة على ثلاثة أميال من الجحفة عندها غدير مشهور يضاف إلى الغيطة، هكذا ذكره الشيخ محيى الدين النووي. وفى فتح القدير أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا نقرؤ على عهد
[ 59 ]
رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك إن عليا مولى المؤمنين وإن
لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس. أقول: وهذه نبذة من الاخبار الدالة على نزول قوله تعالى: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك " (إلخ)، في حق على عليه السلام يوم غدير خم، وأما حديث الغدير أعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " من كنت مولاه فعلى مولاه " فهو حديث متواتر منقول من طرق الشيعة وأهل السنة بما يزيد على مائة طريق. وقد روى عن جمع كثير من الصحابة منهم البراء بن عازب، وزيد بن أرقم وأبو أيوب الانصاري، وعمر بن الخطاب، وعلى بن ابى طالب، وسلمان الفارسى، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وبريدة، وسعد بن أبى وقاص، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدرى، وأنس بن مالك، وعمران بن الحصين، وابن أبى أوفى، وسعدانة، وامرأة زيد بن أرقم. وقد أجمع عليه أئمة أهل البيت عليهم السلام، وقد ناشد على عليه السلام الناس بالرحبة في الحديث فقام جماعة من الصحابة حضروا المجلس، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله يوم الغدير. وفى كثير من هذه الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيها الناس ألستم تعلمون أنى أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا: بلى، قال: من كنت مولاه فعلى مولاه كما في عدة من الاخبار التى رواها أحمد بن حنبل في مسنده أو رواها غيره، وقد افردت لاحصاء طرقها والبحث في متنها تآليف من أهل السنة والشيعة بحثوا فيها بما لا مزيد عليه. وعن كتاب السمطين للحموينى بإسناده عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليلة اسرى بى إلى السماء السابعة سمعت نداء من تحت العرش: إن عليا آية الهدى، وحبيب من يؤمن بى، بلغ عليا عليه السلام، فلما نزل النبي صلى الله عليه وسلم من السماء أنسى ذلك فأنزل الله عزوجل: " يا أيها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم الكافرين.
وفى فتح القدير: أخرج ابن أبى حاتم عن جابر بن عبد الله قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى أنمار نزل ذات الرقيع بأعلى نخل فبينما هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه
[ 60 ]
فقال الوارث من بنى النجار: لاقتلن محمدا، فقال له أصحابه: كيف تقتله ؟ قال: أقول له: أعطني سيفك فإذا أعطانيه قتلته به، فأتاه فقال: يا محمد أعطني سيفك أشمه فأعطاه إياه فرعدت يده حتى سقط السيف من يده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حال الله بينك وبين ما تريد، فأنزل الله سبحانه: " يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك " الاية. أقول: ثم ذكر في فتح القديرأن ابن حبان أخرجه في صحيحه وأخرجه أيضا ابن مردويه عن أبى هريرة نحو هذه القصة ولم يسم الرجل، وأخرج ابن جرير من حديث محمد بن كعب القرظى نحوه، وقصة غورث بن الحارث ثابتة في الصحيح، وهى معروفة مشهورة (انتهى)، ولكن الشأن تطبيق القصة على المحصل من معنى الاية، ولن تنطبق أبدا. وفى الدر المنثور وفتح القديرو غيرهما عن ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي آية انزلت من السماء أشد عليك ؟ فقال: كنت بمنى أيام موسم فاجتمع مشركوا كنت بمنى أيام موسم فاجتمع مشركوا العرب وأفناء الناس في الموسم فانزل على جبريل فقال: " يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك " (الاية). قال: فقمت عند العقبة فناديت: يا أيها الناس من ينصرني على أن ابلغ رسالة ربى وله الجنة ؟ أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله وأنا رسول الله إليكم تفلحوا وتنجحوا ولكم الجنة. قال: فما بقى رجل ولا امرأة ولا صبى إلا يرمون بالتراب والحجارة، ويبزقون في وجهى ويقولون: كذاب صابئ فعرض على عارض فقال: يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم
اهد قومي فإنهم لا يعلمون. فجاء العباس عمه فأنقذهم منه وجردهم عنه. أقول: الاية بتمامها لا ينطبق على هذه القصة على ما عرفت تفصيل القول فيه. اللهم إلا أن تحمل الرواية على نزول قطعة من الاية - وهى قوله: " يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك " - في ذلك اليوم، وظاهر الرواية يأباه، ونظيرها ما يأتي. وفى الدر المنثور وفتح القدير: أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم
[ 61 ]
وأبو الشيخ عن مجاهد قال: لما نزلت " بلغ ما انزل اليك من ربك " قال: يا رب إنما أنا واحد كيف أصنع ؟ يجتمع على الناس فنزلت " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ". وفيها عن الحسن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله بعثنى برسالته فضقت بها ذرعا، وعرفت أن الناس مكذبى فوعدني لابلغن أو ليعذبني فأنزل: " يا أيها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك ". أقول: الروايتان على ما فيهما من القطع والارسال فيهما ما في سابقتهما، ونظيرتهما في هذا التشويش بعض ما ورد في أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يحترس برجال فلما نزلت الاية فرقهم وقال عليه السلام: إن ربى وعدني أن يعصمني. وفى تفسير المنار: روى أهل التفسير المأثور والترمذي وأبو الشيخ والحاكم وأبو نعيم والبيهقي والطبراني عن بضعة رجال من الصحابة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرس في مكة قبل نزول هذه الاية فلما نزلت ترك الحرس، وكان أبو طالب أول الناس اهتماما بحراسته، وحرسه العباس أيضا. وفيه ومما روى في ذلك عن جابر وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرس، وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالا من بنى هاشم حتى نزلت الاية فقال: يا عم إن الله قد عصمني لا حاجة لى إلى من يبعث.
اقول: والروايتان - كما ترى - تدلان على ان الاية نزلت في أواسط إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة وانه صلى الله عليه وآله وسلم بلغ رسالته زمانا واشتد عليه أمر إيذاء الناس وتكذيبهم حتى خاف على نفسه منهم فترك التبليغ والدعوة فامر ثانيا بالتبليغ، وهدد من جانب الله سبحانه، ووعد بالعصمة، فاشتغل ثانيا بما كان يشتغل به اولا، وهذا شئ يجل عنه ساحة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفى الدر المنثورو فتح القدير: أخرج عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن عائشة قالت: كان رسول الله يحرس حتى نزلت: " والله يعصمك من الناس " فأخرج رأسه من القبة فقال: أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله. اقول: والرواية - كما ترى - ظاهرة في نزولها بالمدينة.
[ 62 ]
وفى تفسير الطبري عن ابن عباس في قوله: " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " يعنى إن كتمت آية انزل اليك لم تبلغ رسالته. اقول: إن كان المراد به آية معينة أي حكم معين مما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فله وجه صحة، وإن كان المراد به التهديد في أي آية فرضت أو حكم قدرفقد عرفت فيما تقدم أن الاية لا تلائمه بمضمونها. * * * قل يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة والانجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين - 68. إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون - 69. لقد أخذنا ميثاق بنى إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم
رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون - 70. وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون - 71. لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وقال المسيح يا بنى إسرائيل اعبدوا الله ربى وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار - 72. لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلثة وما
[ 63 ]
من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم - 73. أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم - 74. ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الايات ثم انظر أنى يؤفكون - 75. قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم - 76. قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل - 77. لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون - 78. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون - 79. ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفى العذاب هم خالدون - 80. ولو كانوا يؤمنون بالله والنبى وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون - 81. لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا
إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون - 82.
[ 64 ]
وإذا سمعوا ما أانزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين - 83. وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين - 84. فأثابهم الله بما قالوا جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين - 85. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم - 86. (بيان) الايات في نفسها تقبل الاتصال والاتساق بحسب النظم، ولا تقبل الاتصال بقوله تعالى: " ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل " (الاية) مع الغض عن قوله تعالى: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك " (الاية) وأما ارتباط قوله تعالى: " يا أيها الرسول بلغ " (الاية) فقد عرفت الكلام فيه. والاشبه أن يكون هذه الايات جارية على سياق الايات السابقة من أوائل السورة إلى هنا أعنى ارتباط مضامين الايات آخذة من قوله تعالى: " ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا " (الاية ال 12 من السورة) إلى آخر هذه الايات المبحوث عنها باستثناء نزرة مما تتخللها كآية الولاية وآية التبليغ وغيرهما مما تقدم البحث عنه، ومثله الكلام في اتصال آيات آخر السورة بهذه الايات فإنها جميعا يجمعها أنها كلام يتعلق بشأن أهل الكتاب. قوله تعالى: " قل يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة والانجيل " (إلى آخر الاية)، الانسان يجد من نفسه خلال أعماله أنه إذا أراد إعمال قوة وشدة فيما يحتاج إلى ذلك، وجب أن يعتمد على مستوى يستوى عليه أو يتصل به كمن اراد
أن يجذب أو يدفع أو يحمل أو يقيم شيئا ثقيلا فإنه يثبت قدميه على الارض أولا ثم يصنع ما شاء لما يعلم أن لولا ذلك لم يتيسر له ما يريد، وقد بحث عنه في العلوم المربوطة به.
[ 65 ]
وإذا أجرينا هذا المعنى في الامور المعنوية كأفعال الانسان الروحية أو ما يتعلق من أفعال الجوارح بالامور النفسية كان ذلك منتجا أن صدور مهام الافعال وعظائم الاعمال يتوقف على أس معنوى ومبنى قوى نفسي كتوقف جلائل الامور على الصبر والثبات وعلو الهمة وقوة العزيمة وتوقف النجاح في العبودية على حق التقوى والورع عن محارم الله. ومن هنا يظهر أن قوله تعالى: " لستم على شئ " كناية عن عدم اعتمادهم على شئ يثبت عليه أقدامهم فيقدروا بذلك على إقامة التوراة والانجيل وما أنزل إليهم من ربهم تلويحا إلى أن دين الله وحكمه لها من الثقل ما لا يتيسر حمله للانسان حتى يعتمد على أساس ثابت ولا يمكنه إقامته بمجرد هوى من نفسه كما يشير تعالى إلى ذلك بالنسبة إلى القرآن الكريم بقوله: " إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا " (المزمل: 5)، وقوله: " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون " (الحشر: 21)، وقوله: " إنا عرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها " الاية (الاحزاب: 72). وقال في أمر التوراة خطابا لموسى عليه السلام: " فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها " (الاعراف: 145)، وقال خطابا لبنى إسرائيل: " خذوا ما آتيناكم بقوة " (البقرة: 63) وقال خطابا ليحيى عليه السلام: " يا يحيى خذ الكتاب بقوة " (مريم: 12). فيعود المعنى إلى أنكم فاقدوا العماد الذى يجب عليكم أن تعتمدوا عليه في إقامة دين الله الذى أنزله اليكم في كتبه وهو التقوى والانابة إلى الله بالرجوع إليه مرة بعد اخرى والاتصال به والايواء إلى ركنه بل مستكبرون عن طاعته ومتعدون حدوده.
ويظهر هذا المعنى من قوله تعالى خطابا لنبيه والمؤمنين: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا اليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى " فجمع الدين كله فيما ذكره، ثم قال: " أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " فبين أن ذلك كله يرجع إلى إقامة الدين كلمة واحدة من غير تفرق ثم قال: " كبر على المشركين ما تدعوهم إليه " وذلك لكبر الاتفاق والاستقامة في اتباع الدين عليهم، ثم قال: " الله
[ 66 ]
يجتبى إليه من يشاء ويهدى إليه من ينيب " فأنبأ أن إقامة الدين لا يتيسر إلا بهداية من الله، ولا يصلح لها إلا المتصف بالانابة التى هي الاتصال بالله وعدم الانقطاع عنه بالرجوع إليه مرة بعد اخرى، ثم قال: " وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم " فذكر أن السبب في تفرقهم وعدم إقامتهم للدين هو بغيهم وتعديهم عن الوسط العدل المضروب لهم (الشورى: 14). وقال أيضا في نظيرتها من الايات: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون، منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون " (الروم: 32) فذكر فيها أيضا أن الوسيلة إلى إقامة دين الفطرة الانابة إلى الله، وحفظ الاتصال بحضرته، وعدم الانقطاع عن سببه. وقد أشار إلى هذه الحقيقة في الايات السابقة على هذه الاية المبحوث عنها أيضا حيث ذكر أن الله لعن اليهود وغضب عليهم لتعديهم حدوده فألقى بينهم العداوة والبغضاء، وذكر هذا المعنى في غير هذا المورد في خصوص النصارى بقوله: " فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة " (المائدة: 14). وقد حذر الله سبحانه المسلمين عن مثل هذه المصيبة المؤلمة التى سيحلها على أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وأنبأهم أنهم لا يتيسر ولن يتيسر لهم إقامة التوراة
والانجيل وما أنزل إليهم من ربهم، وقد صدق جريان التاريخ ما أخبر به الكتاب من تشتت المذاهب فيهم وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم، فحذرالامة الاسلامية أن يردوا موردهم في الانقطاع عن ربهم، وعدم الانابة إليه في قوله: " وأقم وجهك للدين حنيفا " (الروم: 30) في عدة آيات من السورة. وقد تقدم البحث عن بعض الايات الملوحة إلى ذلك في ما تقدم من أجزاء الكتاب وسيأتى الكلام على بعض آخر منها إن شاء الله تعالى. وأما قوله تعالى: " وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل اليك من ربك طغيانا وكفرا " فقد تقدم البحث عن معناه، وقوله: " فلا تأس على القوم الكافرين " تسلية منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم في صورة النهى عن الاسى.
[ 67 ]
قوله تعالى: " إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى " (الاية) ظاهرها أن الصابئون عطف على " الذين آمنوا " بحسب موضعه وجماعة من النحويين يمنعون العطف على اسم إن بالرفع قبل مضى الخبر، والاية حجة عليهم. والاية في مقام بيان أن لا عبرة في باب السعادة بالاسماء والالقاب كتسمى جمع بالمؤمنين وفرقة بالذين هادوا، وطائفة بالصابئين وآخرين بالنصارى، وإنما العبرة بالايمان بالله واليوم الاخر والعمل الصالح، وقد تقدم البحث عن معنى الاية في تفسير سورة البقرة الاية الى 62 في الجزء الاول من الكتاب. قوله تعالى: " لقد أخذنا ميثاق بنى إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا " (إلى آخر الاية) هذه الاية وما بعدها إلى عدة آيات تتعرض لحال أهل الكتاب كالحجة على ما يشتمل عليه قوله تعالى: " قل يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة والانجيل " (إلخ)، فإن هذه الجرائم والاثام لا تدع للانسان اتصالا بربه حتى يقيم كتب الله معتمدا عليه.
ويحتمل أن تكون الايات مرتبطة بقوله: " إن الذين آمنوا والذين هادوا " (الخ)، فيكون تصديقا بأن الاسماء والالقاب لا تنفع شيئا في مرحلة السعادة إذ لو نفعت لصدت هؤلاء عن قتل الانبياء وتكذيبهم والهلاك بمهلكات الفتن وموبقات الذنوب. ويمكن أن يكون هذه الايات كالمبينة لقوله: " إن الذين آمنوا والذين هادوا " (الخ)، وهو كالمبين لقوله: " يا أهل الكتاب لستم علي شئ (الاية) والمعين ظاهر. وقوله: فريقا كذبوا وفريقا يقتلون الظاهر ان كلمتي فريقا في الموضعين مفعولان للفعلين بعد هما عليهما للعناية بامرهما والتقدير: كذبوا فريقا ويقتلون فريقا والمجموع جواب له: ملن جاءهم (الخ) والمعنى نحو من قولنا: كلما جاءهم (الخ) والمعنى نحو من قولنا: كلما جاءهم رسول بما لا تهوى انفسهم اساؤؤا مواجهته واجابته وجعلوا الرسل الاتين فريقين: فريقا كذبوا وفريقا يقتلون. قال في الجميع: فان قيل: لم عطف المستقبل على الماضي يعني قوله: ففريقا كذبوا وفريقا يقتلون: فجوابه: ليدل على ان ذلك من شانهم ففيه معنى كذبوا وقتلوا ويكذبون ويقتلون مع ان قوله: يقتلون فاصلة يجب ان يكون موافقا
[ 68 ]
لرؤس الاى، انتهى. قوله تعالى: " وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا " (الخ)، متمم للكلام في الاية السابقة، والحسبان هو الظن، والفتنة هي المحنة التى تغر الانسان أوهى أعم من كل شر وبلية، والعمى هو عدم إبصار الحق وعدم تمييز الخير من الشر، والصمم عدم سماع العظة وعدم الاعباء بالنصيحة وهذا العمى والصمم معلولا حسبانهم أن لا تكون فتنة، والظاهر أن حسبانهم ذلك معلول ما قدروا لانفسهم من الكرامة بكونهم من شعب إسرائيل وأنهم أبناء الله وأحباؤه فلا يمسهم السوء وإن فعلوا ما فعلوا وارتكبوا ما ارتكبوا.
فمعنى الاية - والله أعلم - أنهم لمكان ما اعتقدوا لانفسهم من كرامة التهود ظنوا أن لا يصيبهم سوء أو لا يفتنون بما فعلوا فأعمى ذلك الظن والحسبان أبصارهم عن إبصار الحق، وأصم ذلك آذانهم عن سماع ما ينفعهم من دعوة أنبيائهم. وهذا مما يرجح ما احتملناه أن الايات كالحجة المبينة لقوله: " إن الذين آمنوا والذين هادوا " (الاية) فمحصل المعنى أن الاسماء والالقاب لا تنفع أحدا شيئا فهؤلاء اليهود لم ينفعهم ما قدروا لانفسهم من الكرامة بالتسمى بل أعماهم وأوردهم مورد الهلكة والفتنة لما كذبوا أنبياء الله وقتلوهم. قوله تعالى: " ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون " التوبة من الله على عباده رجوعه تعالى بالرحمة إليهم، وهذا يدل على أن الله سبحانه قد كان بعدهم من رحمته وعنايته ولذلك أخذهم الحسبان المذكور ولزمهم العمى والصمم، لكن الله سبحانه رجع إليهم ثانية بالتوبة فرفع هذا الحسبان عن قلوبهم، والعمى والصمم عن أبصارهم وآذانهم، فعرفوا أنفسهم بأنهم عباد لا كرامة لهم على الله إلا بالتقوى، وأبصروا الحق وسمعوا عظة الله لهم بلسان أنبيائه فتبين لهم أن التسمى لا ينفع شيئا. ثم عموا وصموا كثير منهم، وإسناد العمى والصمم إلى جمعهم أولا ثم إلى كثير منهم - بإتيان كثير منهم بدلا من واو الجمع - أخذ بالنصفة في الكلام بالدلالة على أن إسناد العمى والصمم إلى جمعهم من قبيل إسناد حكم البعض إلى الكل، والواقع أن
[ 69 ]
المتصف بهاتين الصفتين كثير منهم لا كلهم أولا، وإيماء إلى أن العمى والصمم المذكورين أولا شملا جميعهم على ما يدل عليه المقابلة ثانيا، وأن التوبة الالهية لم يبطل أثرها ولم تذهب سدى بالمرة بل نجا بالتوبة بعضهم فلم يأخذهم العمى والصمم اللاحقان أخيرا ثالثا. ثم ختم تعالى الاية بقوله: " والله بصير بما يعملون " للدلالة على أن الله تعالى
لا يغفله شئ، فغيره تعالى إذا أكرم قوما بكرامة ضرب ذلك على بصره بحجاب يمنعه أن يرى منهم السوء والمكروه، وليس الله سبحانه على هذا النعت بل هو البصير لا يحجبه شئ عن شئ. قوله تعالى: " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم " وهذا كالبيان لكون النصارى لم تنفعهم النصرانية والانتساب إلى المسيح عليه السلام عن تعلق الكفر بهم إذ أشركوا بالله ولم يؤمنوا به حق إيمانه حيث قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم. والنصارى وإن اختلفوا في كيفية اشتمال المسيح بن مريم على جوهرة الالوهية بين قائل باشتقاق اقنوم المسيح وهو العلم من اقنوم الرب (تعالى) وهو الحياة، وذلك الابوة والبنوة، وقائل بأنه تعالى صارهو المسيح على نحو الانقلاب، وقائل بأنه حل فيه كما تقدم بيان ذلك تفصيلا في الكلام على عيسى بن مريم ععليه السلام في تفسير سورة آل عمران في الجزء الثالث من الكتاب. لكن الاقوال الثلاثة جميعا تقبل الانطباق على هذه الكلمة (إن الله هو المسيح ابن مريم) فالظاهر أن المراد بالذين تفوهوا بهذه الكلمة جميع النصارى الغالين في المسيح عليه السلام لا خصوص القائلين منهم بالانقلاب. وتوصيف المسيح بابن مريم لا يخلو من دلالة أو إشعار بسبب كفرهم وهو نسبة الالوهية إلى انسان ابن انسان مخلوقين من تراب، وأين التراب ورب الارباب ؟ ! قوله تعالى: " وقال المسيح يا بنى إسرائيل اعبدوا الله ربى وربكم " (إلى آخر الاية) احتجاج على كفرهم وبطلان قولهم بقول المسيح عليه السلام نفسه، فإن قوله عليه السلام: " اعبدوا الله ربى وربكم " يدل على أنه عبد مربوب مثلهم، وقوله: " إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة " يدل على أن من يجعل لله شريكا في الوهيته فهو مشرك كافر محرم عليه الجنة.
[ 70 ]
وفى قوله تعالى حكاية عنه عليه السلام: " فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار " عناية بإبطال ما ينسبونه إلى المسيح من حديث التفدية، وأنه عليه السلام باختياره الصلب فدى بنفسه عنهم فهم مغفور لهم مرفوع عنهم التكاليف الالهية ومصيرهم إلى الجنة ولا يمسون نارا كما تقدم نقل ذلك عنهم في تفسير سورة آل عمران في قصة عيسى عليه السلام فقصة التفدية والصلب إنماسيقت لهذا الغرض. وما تحكيه الاية من قوله عليه السلام موجود في متفرقات الابواب من الاناجيل كالامر بالتوحيد، (1) وإبطال عبادة المشرك، (2) والحكم بخلود الظالمين في النار (3). قوله تعالى: " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " أي أحد الثلاثة: الاب والابن والروح، أي هو ينطبق على كل واحد من الثلاثة، وهذا لازم قولهم: إن الاب إله، والابن إله، والروح إله، وهو ثلاثة، وهو واحد يضاهئون بذلك نظير قولنا: إن زيد بن عمرو إنسان، فهناك امور ثلاثة هي: زيد وابن عمرو والانسان، وهناك أمر واحد وهو المنعوت بهذه النعوت، وقد غفلوا عن أن هذه الكثرة إن كانت حقيقية غير اعتبارية أوجبت الكثرة في المنعوت حقيقة، وأن المنعوت إن كان واحدا حقيقة أوجب ذلك أن تكون الكثرة اعتبارية غير حقيقية فالجمع بين هذه الكثرة العددية والوحدة العددية في زيد المنعوت بحسب الحقيقة مما يستنكف العقل عن تعقله. ولذاربما ذكر بعض الدعاة من النصارى أن مسألة التثليث من المسائل المأثورة من مذاهب الاسلاف التى لا تقبل الحل بحسب الموازين العلمية، ولم يتنبه أن عليه أن يطالب الدليل على كل دعوى يقرع سمعه سواء كان من دعاوى الاسلاف أو من دعاوى الاخلاف. قوله تعالى: " وما من إله إلا إله واحد " (إلى آخر الاية) رد منه تعالى لقولهم: " إن الله ثالث ثلاثة " بأن الله سبحانه لا يقبل بذاته المتعالية الكثرة بوجه من الوجوه فهو تعالى في ذاته واحد، وإذا اتصف بصفاته الكريمة وأسمائه الحسنى لم يزد
(1) الاصحاح 12: 29 (انجيل مرقس). (2) الاصحاح 6: 24 (انجيل متى). (3) الاصحاح 13: 50، 25: 31 - 47 (انجيل متى ايضا).
[ 71 ]
ذلك على ذاته الواحدة شيئا، ولا الصفة إذا أضيفت إلى الصفة أورث ذلك كثرة وتعددا فهو تعالى احدى الذات لا ينقسم لا في خارج ولا في وهم ولا في عقل. فليس الله سبحانه بحيث يتجزؤ في ذاته إلى شئ وشئ قط، ولا أن ذاته بحيث يجوز أن يضاف إليه شئ فيصير اثنين أو أكثر، كيف ؟ وهو تعالى مع هذا الشئ الذى تراد إضافته إليه تعالى في وهم أو فرض أو خارج. فهو تعالى واحد في ذاته لكن لا بالوحدة العددية التى لسائر الاشياء المتكون منها الكثرات، ولا منعوت بكثرة في ذات أو اسم، أو صفة، كيف ؟ وهذه الوحدة العددية والكثرة المتألفة منها كلتاهمامن آثار صنعه وإيجاده فكيف يتصف بما هو من صنعه ؟. وفى قوله تعالى: " وما من إله إلا إله واحد " من التأكيد في إثبات التوحيد ما ليس في غيره حيث سيق الكلام بنحو النفى والاستثناء، ثم أدخل " من " على النفى لافادة تأكيد الاستغراق، ثم جئ بالمستثنى وهو قوله: " إله واحد " بالتنكير المفيد للتنويع ولو أورد معرفة كقولنا " إلا إلاله الواحد " لم يفد ما يرام من حقيقة التوحيد. فالمعنى: ليس في الوجود شئ من جنس الاله أصلا إلا إله واحد نوعا من الوحدة لا يقبل التعدد أصلا لا تعدد الذات ولا تعدد الصفات، لا خارجا ولا فرضا، ولو قيل: وما من إله إلا الله الواحد لم يدفع به قول النصارى (إن الله ثالث ثلاثة) فإنهم لا ينكرون الوحدة فيه تعالى، وإنما يقولون: إنه ذات واحدة لها تعين بصفاتها الثلاث،
وهى واحدة في عين أنها كثيرة حقيقة. ولا يندفع ما احتملوه من المعنى إلا بإثبات وحدة لا تتألف منه كثرة أصلا، وهو الذى يتوخاه القرآن الكريم بقوله: " وما من إله إلا إله واحد ". وهذا من لطائف المعاني التى يلوح إليها الكتاب الالهى في حقيقة معنى التوحيد وسنغور في البحث المستوفى عنه في بحث قرآني خاص ثم في بحث عقلي وآخر نقلى إيفاء لحقه. قوله تعالى: " وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم
[ 72 ]
تهديد لهم بالعذاب الاليم الاخروي الذى هو ظاهر الاية الكريمة. ولما كان القول بالتثليث الذى تتضمنه كلمة: " إن الله ثالث ثلاثة " ليس في وسع عقول عامة الناس أن تتعقله فأغلب النصارى يتلقونه قولا مذهبيا مسلما بلفظه من غير أن يعقلوا معناه، ولا أن يطمعوا في تعقله كما ليس في وسع العقل السليم أن يعقله عقلا صحيحا، وإنما يتعقل كتعقل الفروض المحالة كالانسان اللاإنسان، والعدد الذى ليس بواحد ولا كثير ولا زوج ولا فرد فلذلك تتسلمه العامة تسلما من غير بحث عن معناه، وإنما يعتقدون في البنوة والابوة شبه معنى التشريف فهؤلاء في الحقيقة ليسوا من أهل التثليث، وإنما يمضغون الكلمة مضغا، وينتمون إليها انتماء بخلاف غير العامة منهم وهم الذين ينسب الله سبحانه إليهم اختلاف المذاهب ويقرر أن ذلك ببغيهم كما قال تعالى: " أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه - إلى أن قال: - وماتفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم " (الشورى: 14). فالكفر الحقيقي الذى لا ينتهى إلى استضعاف - وهو الذى فيه إنكار التوحيد والتكذيب بآيات الله - إنما يتم في بعضهم دون كلهم، وإنما أوعد الله بالنار الخالد الذين كفروا وكذبوا بآيات الله، قال: " والذين كفروا وكذبوا بآيات الله اولئك أصحاب
النار هم فيها خالدون " (البقرة: 39) إلى غير ذلك من الايات، وقد مر الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى: " إلا المستضعفين " (الاية) (النساء: 98). ولعل هذا هو السر في التبعيض الظاهر من قوله: " ليمسن الذين كفروا منهم " أو أن المراد به الاشارة إلى أن من النصارى من لا يقول بالتثليث، ولا يعتقد في المسيح إلا أنه عبد الله ورسوله، كما كانت على ذلك مسيحيوا الحبشة وغيرها على ما ضبطه التاريخ فالمعنى: لئن لم ينته النصارى عما يقولون (نسبة قول بعض الجماعة إلى جميعهم) ليمسن الذين كفروا منهم - وهم القائلون بالتثليث منهم - عذاب أليم. وربما وجهوا الكلام أعنى قوله: " ليمسن الذين كفروا منهم " بأنه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر، والاصل: ليمسنهم (انتهى)، وإنما عدل إلى وضع الموصول وصلته مكانه ليدل على أن ذلك القول كفر بالله، وأن الكفر سبب العذاب الذى توعدهم به.
[ 73 ]
وهذا وجه لا بأس به لو لا أن الاية مصدرة بقوله: " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " ونظيره في البعد قول بعض آخر: إن " من " في قوله " منهم " بيانية فإنه قول من غير دليل. قوله تعالى: " أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم " تحضيض على التوبة والاستغفار، وتذكير بمغفرة الله ورحمته، أو إنكار أو توبيخ. قوله تعالى: " ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام " رد لقولهم: " إن الله ثالث ثلاثة " أو لقولهم هذا وقولهم المحكى في الاية السابقة: " إن الله هو المسيح بن مريم جميعا، ومحصله اشتمال المسيح على جوهرة الالوهية، بأن المسيح لا يفارق سائر رسل الله الذين توفاهم الله من قبله كانوا بشرا مرسلين من غير أن يكونوا أربابا من دون الله سبحانه، وكذلك أمه
مريم كانت صديقة تصدق بآيات الله تعالى وهى بشر، وقد كان هو وأمه جميعا يأكلان الطعام، وأكل الطعام مع ما يتعقبه مبنى على أساس الحاجة التى هو أول إمارة من إمارات الامكان والمصنوعية فقد كان المسيح عليه السلام ممكنا متولدا من ممكن، وعبدا ورسولا مخلوقا من امه كانا يعبدان الله، ويجريان في سبيل الحاجة والافتقار من دون أن يكون ربا. وما بيد القوم من كتب الانجيل معترفة بذلك تصرح بكون مريم فتاة كانت تؤمن بالله وتعبده، وتصرح بأن عيسى تولد منها كالانسان من الانسان، وتصرح بأن عيسى كان رسولا من الله إلى الناس كسائر الرسل وتصرح بأن عيسى وامه مريم كانا يأكلان الطعام. فهذه امور صرحت بها الاناجيل، وهى حجج على كونه عليه السلام عبدا رسولا. ويمكن أن تكون الاية مسوقة لنفى ألوهية المسيح وامه كليهما على ما يظهر من قوله تعالى: " أأنت قلت للناس اتخذوني وامى إلهين من دون الله " (المائدة: 116) أنه كان هناك من يقول بالوهيتها كالمسيح أو أن المراد به اتخاذها إلها كما ينسب إلى أهل الكتاب أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وذلك بالخضوع لها ولهم بما لا يخضع لبشر بمثله.
[ 74 ]
وكيف كان فالاية على هذا التقدير تنفى عن المسيح وامه معا الالوهية بأن المسيح كان رسولا كسائر الرسل، وامه كانت صديقة، وهما معا كانا يأكلان الطعام، وذلك كله ينافى الالوهية. وفى قوله تعالى: " قد خلت من قبله الرسل " حيث وصف الرسل بالخلومن قبله، وهو الموت تأكيد للحجة بكونه بشرا يجوز عليه الموت والحياة كما جاز على الرسل من قبله.
قوله تعالى: " انظر كيف نبين لهم الايات ثم انظر أنى يؤفكون " الخطاب للنبى صلى الله عليه وآله وسلم، وهو في مقام التعجيب أي تعجب من كيفية بياننا لهم الايات، وهو أوضح بيان لاظهر آية في بطلان دعواهم الوهية المسيح، وكيفية صرفهم عن تعقل هذه الايات، فإلى أي غاية يصرفون عنها، ولا تلتفت إلى نتيجتها - وهى بطلان دعواهم - عقولهم ؟. قوله تعالى: " قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم " كان الخضوع لامر الربوبية إنما انتشر بين البشر في أقدم عهوده، وخاصة بين العامة منهم - وعامتهم كانوا يعبدون الاصنام - طمعا في أن يدفع الرب عنهم الشر ويوصل إليهم النفع كما يتحصل من الابحاث التاريخية، وأما عبادة الله لانه الله عزاسمه فلم يكن يعدو الخواص منهم كالانبياء والربانيين من اممهم. فأمر الله سبحانه رسوله أن يخاطبهم خطاب البشر الساذج الجارى على ما تلهمه فطرته الساذجة في عبادة الله كما خاطب الوثنيين وعباد الاصنام بذلك فيذكرهم أن الذى يضطر الانسان بعبادة الرب هو أنه يرى أزمة الخير والشر والنفع والضر بيده فيعبده لانه يملك الضر والنفع طمعا في أن يدفع عنه الضر ويوصل إليه الخير لعبادته له. وكل ما هو دون الله تعالى لا يملك شيئا من ضر ولا نفع لانه مملوك لله محضا مسلوب عنه القدرة في نفسه فكيف يسوغ تخصيصه بالعبادة، وإشراكه مع ربه الذى هو المالك له ولغيره، وقد كان من الواجب أن يخص هو تعالى بالعبادة، ولا يتعدى عنه إلى غيره لانه هو الذى يختص به السمع ولاجابة فيسمع ويجيب المضطر إذ دعاه، وهو الذى يعلم حوائج عباده ولا يغفل عنها ولا يغلط فيها بخلاف غيره تعالى فإنه إنما
[ 75 ]
يملك ما ملكه الله، ويقوى على ما قواه الله سبحانه. فقد تبين بهذا البيان: اولا: أن الحجة التى تشتمل عليها هذه الاية غير الحجة
التى تشتمل عليها الاية السابقة وإن توقفتا معا على مقدمة مشتركة، وهى كون المسيح وامه ممكنين محتاجين، فالاية السابقة حجتها أن المسيح وامه كانا بشرين محتاجين عبدين مطيعين لله سبحانه، ومن كان حاله هذا الحال لم يصح أن يكون إلها معبودا، وحجة هذه الاية: أن المسيح ممكن محتاج مملوك بنفسه لا يملك ضرا ولا نفعا، ومن كان حاله هذا الحال لم يستقم الوهيته وعبادته من دون الله. وثانيا: أن الحجة مأخوذة مما يدركه الفهم البسيط والعقل الساذج من جهة غرض الانسان البسيط في عبادته فإنه إنما يتخذ ربا ويعبده ليدفع عنه الضر ويجلب إليه النفع، وهذا إنما يملكه الله تعالى دون غيره، فلا غرض يتعلق بعبادة غير الله فمن الواجب أن يرفض عبادته. وثالثا: أن قوله: " ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا " إنما أخذت فيه لفظة " ما " دون لفظة " من " مع ان المسيح من اولى العقل لان الحجة بعينها هي التى تقام على الوثنيين وعبدة الاصنام التى لا شعور لها، ولا دخل في كون المسيح عليه السلام من اولى العقل في تمام الحجة فهى تامة في كل معبود مفروض دون الله سبحانه. على أن غيره تعالى وإن كان من اولى العقل والشعور لا يملكون شيئا من العقل والشعور من عند أنفسهم كسائر ما ينسب إليهم من شؤون وجودهم، قال تعالى: " إن الذين تدعون من دون الله عبادأمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين، ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون " (الاعراف: 195). وكذلك تقديم الضر على النفع في قوله: " ضرا ولا نفعا " للجرى على وفق ما تدركه وتدعوا إليه الفطرة الساذجة كما مر، فإن الانسان بحسب الطبع يرى ما تلبس به من النعم الموجودة عنده ما دامت عنده مملوكة لنفسه لا تلتفت نفسه إلى إمكان فقدها ولا تتصور ألمه عند فقدها بخلاف المضار التى يجدها بالفعل، والنعم التى يفتقدها ويجد
ألم فقدها، فإن الفطرة تنبهها إلى الالتجاء إلى رب يدفع عنها الضر والضير، ويجلب
[ 76 ]
إليها النعمة المسلوبة كما قال تعالى: " وإذا مس الانسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه " (يونس: 12)، وقال تعالى: " ولئن أذقناه رحمة منامن بعد ضراء مسته ليقولن هذا لى " (حم السجدة: 50)، وقال تعالى: " وإذا أنعمنا على الانسان أعرض ونآى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض " (حم السجدة: 51). فتحصل أن مس الضر أبعث للانسان إلى الخضوع للرب وعبادته من وجدان النفع، ولذلك قدم الله سبحانه الضر على النفع في قوله: " ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا " وكذا في سائر الموارد التى تماثله كقوله: " اتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا " (الفرقان: 3). ورابعا: أن مجموع الاية: " أتعبدون من دون الله " إلى آخرها حجة على وجوب قصر العبادة في الله سبحانه من دون إشراك غيره معه وهى منحلة إلى حجتين ملخصهما: أن اتخاذ الاله وعبادة الرب إنما هو لغرض دفع الضر وجلب النفع فيجب أن يكون الاله المعبود مالكا لذلك ولا يجوز عبادة من لا يملك شيئا، والله سبحانه هو السميع المجيب للدعوة العليم بكنه الحاجة من غير جهل دون غيره، فوجب عبادته من غير إشراك غيره. قوله تعالى: " قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق " خطاب آخر للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بأمره أن يدعو أهل الكتاب إلى عدم الغلو في دينهم، وأهل الكتاب وخاصة النصارى مبتلون بذلك، و " الغالى " المتجاوز عن الحد بالافراط، ويقابله " القالى " في طرف التفريط. ودين الله الذى يفسره كتبه المنزلة يأمر بالتوحيد ونفى الشريك وينهى عن
اتخاذ الشركاء لله سبحانه، وقد ابتلى بذلك أهل الكتاب عامة اليهود والنصارى، وإن كان أمر النصارى في ذلك أشنع وأفظع قال تعالى: " وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما امروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون " (التوبة: 31).
[ 77 ]
والقول بأن عزيرا ابن الله وإن كان غير ظاهر اليوم عند اليهود لكن الاية تشهد بأنهم كانوا يقولون ذلك في عصر النزول. والظاهر أن ذلك كان لقبا تشريفيا يلقبونه به قبال ما خدمهم وأحسن إليهم في إرجاعهم إلى اورشليم (بيت المقدس) بعد اسارة بابل، وجمع لهم التوراة ثانيا بعد ضياعه في قصة بخت نصر، وقد كانوا يعدون بنوة الله لقبا تشريفيا كما يتخذ النصارى اليوم الابوة كذلك ويسمون الباباوات والبطارقة والقسيسين بالاباء (الباب والبابا: الاب) وقد قال تعالى: " وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه " (المائدة: 18). بل الاية الثانية أعنى قوله: " اتخذوا احبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم " تدل على ذلك حيث اقتصر فيها على ذكر المسيح عليه السلام، ولم يذكر عزيرا فدل على دخوله في عموم قوله: " أحبارهم ورهبانهم " وأنهم إنما كانوا يسمونه ابن الله كما يسمون أحبارهم أبناء الله، وقد خصوه بالذكر وحده شكرا لاحسانه إليهم كما تقدمت الاشارة إليه. وبالجملة وضعهم بعض أنبيائهم وأحبارهم ورهبانهم موضع الربوبية وخضوعهم لهم بمالا يخضع بمثله إلا لله سبحانه غلو منهم في دينهم ينهاهم الله عن ذلك بلسان
نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. وتقييد الغلو في الدين بغير الحق - ولا يكون الغلو إلا كذلك - إنما هو للتأكيد وتذكير لازم المعنى مع ملزومه لئلا يذهل عنه السامع وقد ذهل حين غلا أو كان كالذاهل. وإطلاق الاب على الله سبحانه بتحليل معناه وتجريده عن وسمة نواقص المادة الجسمانية أي من بيده الايجاد والتربية، وكذلك الابن بمعناه المجرد التحليلي وإن لم يمنعه العقل لكنه ممنوع شرعا لتوقيفية أسماء الله سبحانه لما في التوسع في إطلاق الاسماء المختلفة عليه تعالى من المفاسد، وكفى مفسدة في إطلاق الاب والابن ما لقيته الامتان: اليهود والنصارى وخاصة النصارى من أولياء الكنيسة خلال قرون متمادية ولن يزال الامر على ذلك. قوله تعالى: " ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن
[ 78 ]
سواء السبيل " ظاهر السياق أن المراد بهؤلاء القوم الذين نهواعن اتباع أهوائهم هم المتبوعون المطاعون في آرائهم وأوامرهم فيكون ضلالهم لمكان التزامهم بآرائهم، إضلالهم كثيرا هو اتباع غيرهم لهم وضلالهم عن سواء السبيل هو المتحصل لهم من ضلالهم وإضلالهم، وهو ضلال على ضلال. وكذلك ظاهر السياق أن المراد بهم هم الوثنية وعبدة الاصنام فإن ظاهر السياق أن الخطاب إنما هو لجميع أهل الكتاب لا للمعاصرين منهم للنبى صلى الله عليه وآله وسلم حتى يكون نهيا لمتأخريهم عن اتباع متقدميهم. ويؤيده بل يدل عليه قوله تعالى: " وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل " (التوبة: 30). فيكون ذلك حقيقة تحليلية تاريخية أشار إليها القرآن الكريم هي أن القول بالابوة والبنوة مما تسرب إلى أهل الكتاب من قبل من تقدمهم من الوثنية، وقد تقدم
في الكلام على قصص المسيح عليه السلام في سورة آل عمران في الجزء الثالث من الكتاب أن هذا القول في جملة من الاقوال والاراء موجود عند الوثنية البرهمنية والبوذية في الهند والصين، وكذلك مصر القديم وغيرهم، وإنما أخذ بالتسرب في الملة الكتابية بيد دعاتها، فظهر في زى الدين وكان الاسم لدين التوحيد والمسمى للوثنية. قو له تعالى: " لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم " إلى آخر الايتين إخبار بأن الكافرين منهم ملعونون بلسان أنبيائهم، وفيه تعريض لهؤلاء الذين كفرهم الله في هذه الايات من اليهود ملعونين بدعوة أنبيائهم أنفسهم، وذلك بسبب عصيانهم لانبيائهم، وهم كانوا مستمرين على الاعتداء وقوله: " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه " (الخ) بيان لقوله: " وكانوا يعتدون ". قوله تعالى: " ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا " (الخ)، وهذا من قبيل الاستشهاد بالحس على كونهم معتدين فإنهم لو قدروا دينهم حق قدره لزموه ولم يعتدوه، ولازم ذلك أن يتولوا أهل التوحيد ويتبرئوا من الذين كفروا لان أعداء ما يقدسه قوم أعداء لذلك القوم، فإذا تحابوا وتوالوا دل ذلك على إعراض ذلك القوم وتركهم ما
[ 79 ]
كانوايقدسونه ويحترمونه، وصديق العدو عدو، ثم ذمهم الله تعالى بقوله: " لبئس ما قدمت لهم أنفسهم " وهو ولاية الكفار عن هوى النفس، وكان جزاؤه ووباله " أن سخط الله عليهم وفى العذاب هم خالدون "، ففى الاية وضع جزاء العمل وعاقبته موضع العمل كأن أنفسهم قدمت لهم جزاء العمل بتقديم نفس العمل. قوله تعالى: " ولو كانوا يؤمنون بالله والنبى وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون " أي ولو كان أهل الكتاب هؤلاء يؤمنون بالله والنبى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما أنزل إليه، أو نبى أنفسهم كموسى مثلا وما انزل إليه كالتوراة مثلا ما اتخذوا اولئك الكفار أولياءلان الايمان يجب سائر الاسباب، ولكن كثيرا منهم
فاسقون متمردون عن الايمان. وفى الاية وجه آخر احتملوه، وهو أن يرجع ضمائر قوله: " كانوا " و " يؤمنون " و " هم " في قوله: " ما اتخذوهم " راجعة إلى الذين كفروا، والمعنى: ولو كان الذين كفروا اولئك الكفار الذين يتولاهم أهل الكتاب يؤمنون بالله والنبى والقرآن ما اتخذتهم أهل الكتاب أولياء، وإنما تولوهم لمكان كفرهم، وهذا وجه لا بأس به غير أن الاضراب في قوله: " ولكن أكثرهم فاسقون " لا يلائمه. قوله تعالى: " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا - إلى قوله - نصارى " لما بين سبحانه في الايات السابقة الرذائل المشتركة بين أهل الكتاب عامة، وبعض ما يختص ببعضهم كقول اليهود: " يد الله مغلولة " وقول النصارى: " إن الله هو المسيح ابن مريم " ختم الايات بما يختص به كل من الطائفتين إذا قيس حالهم من المؤمنين ودينهم، وأضاف إلى حالهم حال المشركين ليتم الكلام في وقع الاسلام من قلوب الامم غير المسلمة من حيث قربهم وبعدهم من قبوله. ويتم الكلام في أن النصارى أقرب تلك الامم مودة للمسلمين واسمع لدعوتهم الحقة. وإنما عدهم الله سبحانه أقرب مودة للمسلمين لما وقع من إيمان طائفة منهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كما يدل عليه قوله في الاية التالية: " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول " (الخ)، لكن لو كان إيمان طائفة تصحح هذه النسبة إلى جميعهم كان من الواجب أن تعد اليهود والمشركون كمثل النصارى وينسب اليهما نظير ما نسب إليهم لمكان إسلام طائفة من
[ 80 ]
اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه، وإسلام عدة من مشركي العرب وهم عامة المسلمين اليوم فتخصيص النصارى بمثل قوله: " وإذا سمعوا ما أنزل " (الخ)، دون اليهود والمشركين يدل على حسن إقبالهم على الدعوة الاسلامية وإجابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أنهم على خيار بين أن يقيموا على دينهم ويؤدواالجزية، وبين أن يقبلوا الاسلام، أو يحاربوا.
وهذا بخلاف المشركين فإنهم لم يكن يقبل منهم إلا قبول الدعوة فكثرة المؤمنين منهم لا يدل على حسن الاجابة، على ما كابد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جفوتهم ولقاه المسلمون من أيديهم بقسوتهم ونخوتهم. وكذلك اليهود وإن كانوا كالنصارى في إمكان إقامتهم على دينهم وتأدية الجزية إلى المسلمين لكنهم تمادوا في نخوتهم، وتصلبوا في عصبيتهم، وأخذوا بالمكر والمكيدة، ونقضواعهودهم، وتربصوا الدوائر على المسلمين، ومسوهم بأمر المس وآلمه. وهذا الذى جرى من أمر النصارى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والدعوة الاسلامية، وحسن إجابتهم، وكذا من أمر اليهود والمشركين في التمادي على الاستكبار والعصبية جرى بعينه بعده صلى الله عليه وآله وسلم على حذو ما جرى في عهده فما أكثر من لبى الدعوة الاسلامية من فرق النصارى خلال القرون الماضية، وما أقل ذلك من اليهود والوثنيين ! فاحتفاظ هذه الخصيصة في هؤلاء وهؤلاء يصدق الكتاب العزيز في ما أفاده. ومن المعلوم أن قوله تعالى: " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا " من قبيل بيان الضابط العام في صورة خطاب خاص نظير ما مر في الايات السابقة: " ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا " و " ترى كثيرا منهم يسارعون في الاثم ". قوله تعالى: " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون " القسيس معرب " كشيش " والرهبان جمع الراهب وقد يكون مفردا، قال الراغب: الرهبة والرهب مخافة مع تحرز - إلى أن قال - والترهب التعبد، والرهبانية غلو في تحمل التعبد من فرط الرهبة، قال تعالى: " ورهبانية ابتدعوها " والرهبان يكون واحدا وجمعا فمن جعله واحدا جمعه على رهابين، انتهى. علل تعالى ما ذكره من كون النصارى أقرب مودة وآنس قلوبا للذين آمنوا بخصال ثلاث يفقدها غيرهم من اليهود والمشركين، وهى أن فيهم علماء وان فيهم رهبانا
[ 81 ]
وزهادا، وأنهم لا يستكبرون وذلك مفتاح تهيؤهم للسعادة. وذلك أن سعادة حياة الدين ان تقوم بصالح العمل عن علم به، وان شئت فقل: ان يذعن بالحق فيطبق عمله عليه، فله حاجة إلى العلم ليدرك به حق الدين وهو دين الحق، ومجرد ادراك الحق لا يكفى للتهيؤ للعمل على طبقه حتى ينتزع الانسان من نفسه الهيئة المانعة عنه، وهو الاستكبار عن الحق بعصبية وما يشابهها، وإذا تلبس الانسان بالعلم النافع و النصفة في جنب الحق برفع الاستكبار تهيأ للخضوع للحق بالعمل به لكن بشرط عدم منافاة الجو لذلك فإن لموافقة الجو للعمل تأثيرا عظيمافى باب الاعمال فإن الاعمال التى يعتورها عامة المجتمع وينمو عليها أفراده، وتستقر عليهم عادتهم خلفا عن سلف لا يبقى للنفس فراغ أن تتفكر في امرها أو تتدبر وتدبر في التخلص عنها إذا كانت ضارة مفسدة للسعادة، وكذلك الحال في الاعمال الصالحة إذا استقر التلبس بها في مجتمع يصعب على النفس تركها، ولذا قيل: ان العادة طبيعة ثانية، ولذا كان ايضا اول فعل مخالف حرجا على النفس في الغاية وهو عند النفس دليل على الامكان، ثم لا يزال كلما تحقق فعل زاد في سهولة التحقق ونقص بقدره من صعوبته. فإذا تحقق الانسان أن عملا كذا حق صالح ونزع عن نفسه أغراض العناد واللجاج بإماتة الاستكبار والاستعلاء على الحق كان من العون كل العون على إتيانه أن يرى إنسانا يرتكبه فتتلقى نفسه إمكان العمل. ومن هنا يظهر أن المجتمع إنما يتهيأ لقبول الحق إذا اشتمل على علماء يعلمونه ويعلمونه، وعلى رجال يقومون بالعمل به حتى يذعن العامة بإمكان العمل ويشاهدوا حسنه، وعلى اعتياد عامتهم على الخضوع للحق وعدم الاستكبار عنه إذا انكشف لهم. ولهذا علل الله سبحانه قرب النصارى من قبول الدعوة الحقة الدينية بأن فيهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون، ففيهم علماء لا يزالون يذكرونهم مقام الحق ومعارف الدين قولا، وفيهم زهاد يذكرونهم عظمة ربهم وأهمية سعادتهم الاخروية
والدنيوية عملا وفيهم عدم الاستكبار عن قبول الحق. وأما اليهود فإنهم وإن كان فيهم أحبار علماء لكنهم مستكبرون لا تدعهم رذيلة
[ 82 ]
العناد والاستعلاء أن يتهيأوا لقبول الحق. وأما الذين أشركوا فإنهم يفقدون العلماء والزهاد، وفيهم رذيلة الاستكبار. قوله تعالى: " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع " (إلخ)، فاضت العين بالدمع سال دمعها بكثرة، و " من " في قوله: " من الدمع " للابتداء، وفى قوله: " مما " للنشوء، وفى قوله: " من الحق " بيانية. قوله تعالى: " وما لنا لا نؤمن بالله " (إلخ)، لفظة " يدخلنا " كأنها مضمنة معنى الجعل، ولذلك عدى بمع، والمعنى: يجعلنا ربنا مع القوم الصالحين مدخلا لنا فيهم. وفى هذه الافعال والاقوال التى حكاها الله تعالى عنهم تصديق ما ذكره عنهم أنهم أقرب مودة للذين آمنوا، وتحقيق أن فيهم العلم النافع والعمل الصالح والخضوع للحق حيث كان فيهم قسيسون ورهبان وهم لا يستكبرون. قوله تعالى: " فأثابهم الله " إلى آخر الايتين، " الاثابة " المجازاة، والاية الاولى ذكر جزائهم، والاية الثانية فيها ذكر جزاء من خالفهم على طريق المقابلة استيفاء لاقسام. (بحث روائي) في معاني الاخباربإسناده عن الرضا، عن آبائه، عن على عليه السلام في قوله تعالى: " كانا يأكلان الطعام " معناه أنهما كانا يتغوطان. أقول:: ورواه العياشي في تفسيره مرفوعا. وفى الكافي بإسناده عن أبى عبيدة الحذاء، عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل: " لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم " قال: الخنازير على لسان داود، والقردة على لسان عيسى بن مريم.
أقول: ورواه القمى والعياشي عنه عليه السلام، وروى بطرق أهل السنة عن مجاهد وقتادة وغيرهما: لعن القردة على لسان داود، والخنازير على لسان عيسى بن مريم، ويوافقه بعض روايات الشيعة كما يأتي.
[ 83 ]
وفى المجمع عن ابى جعفر عليه السلام: أما داود فإنه لعن أهل إيلة لما اعتدوا في سبتهم، وكان اعتداؤ هم في زمانه فقال: اللهم ألبسهم اللعنة مثل الرداء، ومثل المنطقة على الخصرين، فمسخهم الله قردة، وأما عيسى فإنه لعن الذين نزلت عليهم المائدة، ثم كفروا بعد ذلك، قال: فقال أبو جعفر عليه السلام: يتولون الملوك الجبارين، ويزينون لهم هواهم ليصيبوا من دنياهم. اقول: والقرآن يؤيد كون أصحاب السبت ممسوخين إلى القردة قال تعالى: " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين " (البقرة: 56) وقال تعالى: " واسألهم عن القرية التى كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم - إلى أن قال - وإذ قالت امة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربهم ولعلهم يتقون - إلى أن قال - فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين " (الاعراف: 166). وفى الدر المنثور: أخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بنى إسرائيل لما عملوا الخطيئة نهاهم علماؤهم تعزيرا ثم جالسوهم وآكلوهم وشاربوهم كأن لم يعملوا بالامس خطيئة، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبى من الانبياء، ثم (قال، ظ) رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، ولتأطرنهم على الحق أطرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض وليلعننكم كما لعنهم.
وفيه: أخرج عبد بن حميد عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوا العطاء ما كان عطاء فإذا كان رشوة عن دينكم فلا تأخذوا ولن تتركوه يمنعكم من ذلك الفقر والمخافة إن بنى يأجوج قد جاؤا، وإن رحى الاسلام سيدور فحيثما دار القرآن فدوروا به، يوشك السلطان والقرآن أن يقتتلا ويتفرقا، إنه سيكون عليكم ملوك يحكمون لكم بحكم ولهم بغيره فإن أطعتموهم أضلوكم، وإن عصيتموهم قتلوكم. قالوا: يا رسول الله كيف بنا إن أدركنا ذلك ؟ قال: تكونوا كأصحاب عيسى نشروا بالمناشير، ورفعوا على الخشب، موت في طاعة خير من حياة في معصية إن أول ما نقص في بنى إسرائيل أنهم كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر سنة
[ 84 ]
التعزير فكان أحدهم إذا لقى صاحبه الذى كان يعيب عليه آكله وشاربه وكأنه لم يعب عليه شيئا فلعنهم الله على لسان داود، وذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. والذى نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم، ثم ليدعون خياركم فلا يستجاب لكم. والذى نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم فلتأطرنه عليه أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض. وفيه أيضا: أخرج ابن راهويه والبخاري في الوحدانيات، وابن السكن وابن منده والباوردي في معرفة الصحابة، والطبراني وأبو نعيم وابن مردويه عن ابن أبزى، عن أبيه: قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر طوائف من المسلمين فأثنى عليهم خيرا، ثم قال: ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم ولا يفقهونهم، ولا يأمرونهم ولا ينهونهم ؟ وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتفطنون ؟ والذى نفسي بيده ليعلمن جيرانه (جيرانهم، ظ) أو ليتفقهن أو ليتفطنن
أو لاعاجلنهم بالعقوبة في دار الدنيا، ثم نزل ودخل بيته فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يعنى بهذا الكلام ؟ قالوا: ما نعلم يعنى بهذا الكلام إلا الاشعريين فقهاء علماء، ولهم جيران جفاة جهلة. فاجتمع جماعة من الاشعريين فدخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذكرت طوائف من المسلمين بخير وذكرتنا بشر فما بالنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتعلمن جيرانكم ولتفقهنهم ولتأمرنهم ولتنهنهم أو لاعاجلنكم بالعقوبة في دار الدنيا، فقالوا: يا رسول الله فأمهلنا سنة ففى سنة ما نعلمهم ويتعلمون فأمهلهم سنة ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ". وفي تفسير العياشي عن محمد بن الهيثم التميمي عن أبى عبد الله عليه السلام في قوله: " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون " قال: أما إنهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم ولا يجالسون مجالسهم ولكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوههم
[ 85 ]
وأنسوا بهم. وفيه أيضا: عن مروان، عن بعض أصحابه، عن أبى عبد الله عليه السلام قال: ذكر النصارى وعداوتهم فقال: قول الله: " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون " قال: اولئك كانوا قوما بين عيسى ومحمد ينتظرون مجئ محمد صلى الله عليه وآله وسلم. أقول: ظاهر الاية العموم دون الخصوص، ولعل المراد أن المدح إنما هو لهم ما لم يغيروا كما أن الذى مدح الله به المسلمين كذلك. وفي الدر المنثور: أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعيد بن جبير في قوله: " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " قال: هم رسل النجاشي الذين أرسل بإسلامه إسلام قومه، كانوا سبعين رجلا اختارهم من
قومه الخير فالخير في الفقه والسن. وفي لفظ: بعث من خيار أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين رجلا فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه فقرأ عليهم سورة " يس " فبكوا حين سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق. فأنزل الله فيهم: " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا، الاية " ونزلت هذه الاية فيهم أيضا: " الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون - إلى قوله - اولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ". وفيه: أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يخاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر ابن أبى طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة. فلما بلغ المشركين بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم، ذكروا أنهم سبقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فقالوا: إنه قد خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها، زعم أنه نبى، وإنه بعث إليك رهطا ليفسدوا عليك قومك فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم. قال: إن جاؤني نظرت فيما يقولون، فلما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا
[ 86 ]
إلى باب النجاشي فقالوا: استأذن لاولياء الله فقال: ائذن لهم فمرحبا بأولياء الله فلما دخلوا عليه سلموا، فقال الرهط من المشركين: ألم تر أيها الملك أنا صدقناك، وأنهم لم يحييوك بتحيتك التى تحيا بها ؟ فقال لهم: ما يمنعكم أن تحيوني بتحيتي ؟ قالوا: إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة. فقال لهم: ما يقول صاحبكم في عيسى وامه ؟ قالوا: يقول: عبد الله ورسوله
وكلمة من الله وروح منه ألقاها إلى مريم، ويقول في مريم: إنها العذراء الطيبة البتول، قال: فأخذ عودا من الارض فقال: ما زاد عيسى وامه على ما قال صاحبكم هذا العود، فكره المشركون قوله وتغير له وجوههم. فقال: هل تقرؤون شيئا مما انزل عليكم ؟ قالوا: نعم، قال: فاقرؤوا، فقرؤوا - وحوله القسيسون والرهبان وسائر النصارى - فجعلت طائفة من القسيسين والرهبان كلما قرأوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق قال الله: " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون، وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ". اقول: وروى القمى في تفسيره القصة مفصلة في خبر طويل، وفي آخره: ورجعوا إلى النجاشي فأخبروه خبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقرأوا عليه ما قرأ عليهم فبكى النجاشي وبكى القسيسون، وأسلم النجاشي ولم يظهر للحبشة إسلامه، وخافهم على نفسه فخرج من بلاد الحبشة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما عبر البحر توفى، الحديث. (كلام في معنى التوحيد في القرآن) لا يرتاب الباحث المتعمق في المعارف الكلية أن مسألة التوحيد من أبعدها غورا، وأصعبها تصور وإدراكا، وأعضلها حلا لارتفاع كعبها عن المسائل العامة العامية التى تتناولها الافهام، والقضايا المتداولة التى تألفها النفوس، وتعرفها القلوب. وما هذا شأنه تختلف العقول في إدراكه والتصديق به للتنوع الفكري الذى فطر عليه الانسان من اختلاف أفراده من جهة البنية الجسمية واداء ذلك إلى اختلاف أعضاء الادراك في أعمالها، ثم تأثير ذلك الفهم والتعقل من حيث الحدة والبلادة،
[ 87 ]
والجودة والرداءة، والاستقامة والانحراف. فهذا كله مما لا شك فيه، وقد قرر القرآن هذا الاختلاف في موارد من آياته
الكريمة كقوله تعالى: " هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر اولوا الالباب " (الزمر: 9)، وقوله تعالى: " فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم " (النجم: 30)، وقوله تعالى: " فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا " (النساء: 87)، وقوله تعالى في ذيل الاية ال 75 من المائدة (وهى من جملة الايات التى نحن فيها): " انظر كيف نبين لهم الايات ثم انظر أنى يؤفكون ". ومن أظهر مصاديق هذا الاختلاف الفهمى اختلاف أفهام الناس في تلقى معنى توحده تعالى لما في أفهامهم من الاختلاف العظيم والنوسان الوسيع في تقرير مسألة وجوده تعالى على ما بينهم من الاتفاق على ما تعطيه الفطرة الانسانية بإلهامها الخفى وإشارتها الدقيقة. فقد بلغ فهم آحاد من الانسان في ذلك أن جعل الاوثان المتخذة، والاصنام المصنوعة من الخشب والحجارة حتى من نحو الاقط والطينة المعمولة من أبوال الغنم شركاء لله، وقرناء له، يعبد كما تعبد هؤلاء، ويسأل كما تسأل هؤلاء، ويخضع له كمايخضع لها، ولم يلبث هذا الانسان دون أن غلب هذه الاصنام عليه تعالى بزعمه، وأقبل عليها وتركه، وأمرها على حوائجه وعزله. فهذا الانسان قصارى ما يراه من الوجود له تعالى هو مثل ما يراه لالهته التى خلقها بيده، أو خلقها إنسان مثله بيده، ولذلك كانوا يثبتون له تعالى من صفة الوحدة مثل ما يصفون به كل واحد من أصنامهم، وهى الوحدة العددية التى تتألف منها الاعداد، قال تعالى: " وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب، أجعل الالهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب " (ص: 6). فهؤلاء كانوا يتلقون الدعوة القرآنية إلى التوحيد دعوة إلى القول بالوحدة العددية التى تقابل الكثرة العددية كقوله تعالى: " وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو "
(البقرة: 163) وقوله تعالى: " هو الحى لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين "
[ 88 ]
- المؤمن: 65) وغير ذلك من الايات الداعية إلى رفض الالهة الكثيرة، وتوجيه الوجه لله الواحد، وقوله تعالى: " وإلهنا وإلهكم واحد " (العنكبوت: 46) وغيره من الايات الداعية إلى رفض التفرق في العبادة للاله، حيث كانت كل امة أو طائفة أو قبيلة تتخذ إلها تختص به، ولا تخضع لاله الاخرين. والقرآن ينفى في عالى تعليمه الوحدة العددية عن الاله جل ذكره، فإن هذه الوحدة لا تتم إلا بتميز هذا الواحد من ذلك الواحد بالمحدودية التى تقهره، والمقدرية التى تغلبه، مثال ذلك ماء الحوض إذا فرقناه في آنية كثيرة كان ماء كل إناء ماء واحدا غير الماء الواحد الذى في الاناء الاخر، وإنما صار ماء واحدا يتميز عما في الاخر لكون ما في الاخر مسلوبا عنه غير مجتمع معه، وكذلك هذا الانسان إنما صار إنسانا واحدا لانه مسلوب عنه ما للانسان الاخر، ولو لا ذلك لم يأت للانسانية الصادقة على هذا وذاك أن تكون واحدة بالعدد ولا كثيرة بالعدد. فمحمودية الوجود هي التى تقهر الواحد العددى على أن يكون واحدا ثم بانسلاب هذه الوحدة من بعض الجهات تتألف كثرة عددية كما عند عروض صفة الاجتماع بوجه. وإذ كان الله سبحانه قاهرا غير مقهور، وغالبا لا يغلبه شئ البتة كما يعطيه التعليم القرآني لم تتصور في حقه وحدة عددية ولا كثرة عددية، قال تعالى: " وهو الواحد القهار " (الرعد: 16)، وقال: " أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم " (يوسف: 40)، وقال: " وما من إله إلا الله الواحد القهار " (ص: 65)، وقال: " لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار " (الزمر: 4).
والايات بسياقها - كما ترى - تنفى كل وحدة مضافة إلى كثرة مقابلة لها سواء كانت وحدة عددية كالفرد الواحد من النوع الذى لو فرض بإزائه فرد آخر كانا اثنين فإن هذا الفرد مقهور بالحد الذى يحده به الفرد الاخر المسلوب عنه المفروض قباله، أو كانت وحدة نوعية أو جنسية أو أي وحدة كلية مضافة إلى كثرة من سنخها كالانسان الذى هو نوع واحد مضاف إلى الانواع الكثيرة الحاصلة منه ومن الفرس والبقر والغنم وغيرها فإنه مقهور بالحد الذى يحده به ما يناظره من الانواع الاخر، وإذ كان
[ 89 ]
تعالى لا يقهره شئ في شئ البتة من ذاته ولا صفته ولا فعله وهو القاهر فوق كل شئ فليس بمحدود في شئ يرجع إليه، فهو موجود لا يشوبه عدم، وحق لا يعرضه بطلان، وهو الحى لا يخالطه موت، والعليم لا يدب إليه جهل، والقادر لا يغلبه عجز، والمالك والملك من غير أن يملك منه شئ، والعزيز الذى لا ذل له، وهكذا. فله تعالى من كل كمال محضه، وإن شئت زيادة تفهم وتفقه لهذه الحقيقة القرآنية فافرض أمرا متناهيا وآخر غير متناه تجد غير المتناهى محيطا بالمتناهى بحيث لا يدفعه المتناهى عن كماله المفروض أي دفع فرضته، بل غير المتناهى مسيطر عليه بحيث لا يفقده المتناهى في شئ من أركان كماله، وغير المتناهى هو القائم على نفسه، الشهيد عليه، المحيط به، ثم انظر في ذلك إلى ما يفيده قوله تعالى: " أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد، ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شئ محيط " (حم السجدة: 54). وهذا هو الذى يدل عليه عامة الايات الواصفة لصفاته تعالى الواقعة في سياق الحصر أو الظاهر فيه كقوله تعالى: " الله لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى " (طه: 8)، وقوله: " ويعلمون أن الله هو الحق المبين " (النور: 25)، وقوله: " هو الحى لا إله إلا هو " (المؤمن: 65)، وقوله: " وهو العليم القدير " (الروم: 54)، وقوله: " أن القوة لله "
جميعا " (البقرة: 165)، وقوله: " له الملك وله الحمد " (التغابن: 1)، وقوله: " إن العزة لله جميعا " (يونس: 65)، وقوله: " الحق من ربك " (البقرة: 147)، وقوله: " أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى " (فاطر: 15)، إلى غير ذلك من الايات. فالايات - كما ترى - تنادى بأعلى صوتها أن كل كمال مفروض فهو لله سبحانه بالاصالة، وليس لغيره شئ إلا بتمليكه تعالى له ذلك من غير أن ينعزل عما يملكه ويملكه كما ننعزل نحن معاشر الخليقة عما ملكناه غيرنا. فكلما فرضنا شيئا من الاشياء ذا شئ من الكمال في قباله تعالى ليكون ثانيا له وشريكا عاد ما بيده من معنى الكمال لله سبحانه محضا، وهو الحق الذى يملك كل شئ، وغيره الباطل الذى لا يملك لنفسه شيئا قال تعالى: " لا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا " (الفرقان: 3). وهذا المعنى هو الذى ينفى عنه تعالى الوحدة العددية إذ لو كان واحدا عدديا
[ 90 ]
أي موجودا محدودا منعزل الذات عن الاحاطة بغيره من الموجودات صح للعقل أن يفرض مثله الثاني له سواء كان جائز التحقق في الخارج أو غير جائز التحقق، وصح عند العقل أن يتصف بالكثرة بالنظر إلى نفسه وإن فرض امتناعه في الواقع، وليس كذلك. فهو تعالى واحد بمعنى أنه من الوجود بحيث لا يحد بحد حتى يمكن فرض ثان له فيما وراء ذلك الحد وهذا معنى قوله تعالى: " قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد " (سورة التوحيد) فإن لفظ أحد إنما يستعمل استعمالا يدفع إمكان فرض العدد في قباله يقال: " ما جاءني أحد " وينفى به أن يكون قد جاء الواحد وكذا الاثنان والاكثر وقال تعالى: " وأن أحد من المشركين استجارك " (التوبة: 6)، فشمل الواحد والاثنين والجماعة ولم يخرج عن حكمه عدد، وقال تعالى: " أو جاء أحد منكم من الغائط " فشمل الواحد وما وراءه، ولم يشذ منه شاذ.
فاستعمال لفظ أحد في قوله: " هو الله أحد " في الاثبات من غير نفى ولا تقييد بإضافة أو وصف يفيد أن هويته تعالى بحيث يدفع فرض من يماثله في هويته بوجه سواء كان واحدا أو كثيرا فهو محال بحسب الفرض الصحيح مع قطع النظر عن حاله بحسب الخارج. ولذلك وصفه تعالى اولا بأنه صمد، وهو المصمت الذى لا جوف له ولا مكان خاليا فيه، وثانيا بأنه لم يلد، وثالثا بأنه لم يولد، ورابعا بأنه لم يكن له كفوا أحد، وكل هذه الاوصاف مما يستلزم نوعا من المحدودية والانعزال. وهذا هو السر في عدم وقوع توصيفات غيره تعالى عليه حق الوقوع والاتصاف قال تعالى: " سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين " (الصافات: 160)، وقال تعالى: " ولا يحيطون به علما " (طه: 110) فإن المعاني الكمالية التى نصفه تعالى بها أوصاف محدودة، وجلت ساحته سبحانه عن الحد والقيد، وهو الذى يرومه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كلمته المشهورة: " لا احصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ". وهذا المعنى من الوحدة هو الذى يدفع به تثليث النصارى فإنهم موحدون في عين التثليث لكن الذى يذعنون به من الوحدة وحدة عددية لا تنفى الكثرة من جهة اخرى فهم يقولون: إن الاقانيم (الاب والابن والروح) (الذات والعلم والحياة) ثلاثة وهى واحدة كالانسان الحى العالم فهو شئ واحد لانه إنسان حى عالم وهو ثلاثة لانه إنسان وحياة وعلم.
[ 91 ]
لكن التعليم القرآني ينفى ذلك لانه يثبت من الوحدة ما لا يستقيم معه فرض أي كثرة وتمايز لا في الذات ولا في الصفات، وكل ما فرض من شئ في هذا الباب كان عين الاخر لعدم الحد فذاته تعالى عين صفاته، وكل صفة مفروضة له عين الاخرى، تعالى الله عما يشركون، وسبحانه عما يصفون.
ولذلك ترى أن الايات التى تنعته تعالى بالقهارية تبدء أولا بنعت الوحدة ثم تصفه بالقهارية لتدل على أن وحدته لا تدع لفارض مجال أن يفرض له ثانيا مماثلا بوجه فضلا عن أن يظهر في الوجود، وينال الواقعية والثبوت، قال تعالى: " أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها انتم وآباؤكم " (يوسف: 40)، فوصفه بوحدة قاهرة لكل شريك مفروض لا تبقى لغيره تعالى من كل معبود مفروض إلا الاسم فقط، وقال تعالى: " أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شئ وهو الواحد القهار " (الرعد: 16)، قال تعالى: " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " (المؤمن: 16)، إذ ملكه تعالى المطلق لا يخلى مالكا مفروضا غيره دون أن يجعله نفسه وما يملكه ملكا لله سبحانه، وقال تعالى: " وما من إله إلا الله الواحد القهار " (ص: 65)، وقال تعالى: " لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار " (الزمر: 4)، فرتب القهارية في جميع الايات على صفة الوحدة. (بحث روائي) في التوحيد والخصال باسناده عن المقدام بن شريح بن هاني عن أبيه قال: إن اعرابيا قام يوم الجمل إلى امير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين أتقول: إن الله واحد ؟ قال: فحمل الناس عليه وقالوا: يا اعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: دعوة فإن الذى يريده الاعرابي هو الذى نريده من القوم !. ثم قال: يا اعرابي إن القول في أن الله واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على الله عزوجل، ووجهان يثبتان فيه، فأما اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد يقصد به باب الاعداد، فهذا ما لا يجوز، لان ما لا ثانى له لا يدخل في
[ 92 ]
باب الاعداد أما ترى أنه كفر من قال: إنه ثالث ثلاثة ؟ وقول القائل: هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز لانه تشبيه، وجل ربنا وتعالى عن ذلك. وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الاشياء شبه، كذلك ربنا، وقول القائل: إنه عزوجل احدى المعنى يعنى به أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم، كذلك ربنا عزوجل. اقول: ورواه أيضا في المعاني بسند آخر عن أبى المقدام بن شريح بن هاني عن أبيه عنه عليه السلام. وفي النهج: أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الاخلاص له، وكمال الاخلاص له نفى الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف انه غير الصفة، فمن وصف الله فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزاه، ومن جزاه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده (الخطبة). اقول: وهو من ابدع البيان، ومحصل الشطر الاول من الكلام ان معرفته تنتهى في استكمالها إلى نفى الصفات عنه، ومحصل الشطر الثاني المتفرع على الشطر الاول - أعنى قوله عليه السلام: فمن وصف الله فقد قرنه (إلخ) - أن إثبات الصفات يستلزم إثبات الوحدة العددية المتوقفة على التحديد غير الجائز عليه تعالى، وتنتج المقدمتان أن كمال معرفته تعالى يستوجب نفى الوحدة العددية منه، وإثبات الوحدة بمعنى آخر، وهو مراده عليه السلام من سرد الكلام. أما مسألة نفى الصفات عنه فقد بينه عليه السلام بقوله: " أول الدين معرفته " لظهور أن من لم يعرف الله سبحانه ولو بوجه لم يحل بعد في ساحة الدين والمعرفة ربما كانت مع عمل بما يرتبط به من الافعال وترتب آثار المعروف، وربما كانت من غير عمل، ومن المعلوم أن العلم فيما يتعلق نوع تعلق بالاعمال إنما يثبت ويستقر في النفس إذا ترتب
عليه آثاره العملية، وإلا فلا يزال العلم يضعف بإتيان الاعمال المخالفة حتى يبطل أو يصير سدى لا أثر له، ومن كلامه عليه السلام في هذا الباب - وقد رواه في النهج -: " العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل عنه ".
[ 93 ]
فالعلم والمعرفة بالشئ إنما يكمل إذا أخذ العارف معروفه صدقا، وأظهر ذلك في باطنه وظاهره، وجنانه وأركانه بأن يخضع له روحا وجسما، وهو الايمان المنبسط على سره وعلانيته، وهو قوله: " وكمال معرفته التصديق به ". ثم هذا الخضوع المسمى بالتصديق به وإن جاز تحققه مع إثبات الشريك للرب المخضوع له كما يخضع عبدة الاصنام لله ولسائر آلهتهم جميعا لكن الخضوع بشئ لا يتم من غير انصراف عن غيره بالبداهة، فالخضوع لواحد من الالهة في معنى الاعراض عن غيره والاستكبار في الجملة عنه فلا يكمل التصديق بالله والخضوع لمقامه إلا بالاعراض عن عبادة الشركاء، والانصراف عن دعوة الالهة الكثيرة، وهو قوله: " وكمال التصديق به توحيده. ثم إن للتوحيد مراتب مختلفة بعضها فوق بعض، ولا يكمل حتى يعطى الاله الواحد حقه من الالوهية المنحصرة، ولا يقتصر على مجرد تسميته إلها واحدا بل ينسب إليه كل ما له نصيب من الوجود والكمال كالخلق والرزق والاحياء والاماتة والاعطاء والمنع، وأن يخص الخضوع والعبادة به فلا يتذلل لغيره بوجه من الوجوه بل لا يرجى إلا رحمته، ولا يخاف إلا سخطه، ولا يطمع إلا فيما عنده، ولا يعكف إلا على بابه. وبعبارة اخرى ان يخلص له علما وعملا، وهو قوله عليه السلام: " وكمال توحيده الاخلاص له ". وإذا استوى الانسان على أريكة الاخلاص، وضمته العناية الالهية إلى أولياء الله المقربين لاحت على بصيرته لوائح العجز عن القيام بحق المعرفة، وتوصيفه بما يليق
بساحة كبريائه وعظمته فإنه ربما شاهد ان الذى يصفه تعالى به معان مدركة مما بين يديه من الاشياء المصنوعة، وامور الفها من مشهوداته الممكنة، وهى صور محدودة مقيدة يدفع بعضها بعضا، ولا تقبل الائتلاف والامتزاج، انظر إلى مفاهيم الوجود والعلم والقدرة والحياة والرزق والعزة والغنى وغيرها. والمعاني المحدودة يدفع بعضها بعضا لظهور كون كل مفهوم خلوا عن المفهوم الاخر كمعنى العلم عن معنى القدرة فإنا حين ما نتصور العلم نصرف عن القدرة فلا نجد معناها في معنى العلم، وإذا تصورنا معنى العلم وهو وصف من الاوصاف ننعزل عن
[ 94 ]
معنى الذات وهو الموصوف. فهذه المفاهيم والعلوم والادراكات تقصر عن الانطباق عليه جل شأنه حق الانطباق، وعن حكاية ما هو عليه حق الحكاية، فتمس حاجة المخلص في وصفه ربه إلى أن يعترف بنقص لا علاج له، وعجز لا جابر دونه، فيعود فينفي ما أثبته، ويتيه في حيرة لا مخلص منها، وهو قوله عليه السلام: " وكمال الاخلاص له نفى الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنها غير الصفة. وهذا الذى فسرنا به هذا العقد من كلامه عليه السلام هو الذى يؤيده أول الخطبة حيث يقول: " الذى لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن، الذى ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود " على ما يظهر للمتأمل الفطن. وأما قوله عليه السلام: " فمن وصف الله فقد قرنه " (إلخ)، فهو توصل منه إلى المطلوب - وهو أن الله سبحانه لا حد له ولا عد - من طريق تحليل إثبات الوصف كما كان البيان الاول توصلا منه من طريق تحليل المعرفة إلى نفى الوصف. فمن وصف الله فقد قرنه لما عرفت من المغايرة بين الموصوف والصفة، والجمع بين
المتغايرين قرن، ومن قرنه فقد ثناه لاخذه إياه موصوفا وصفة وهما اثنان، ومن ثناه فقد جزأه إلى جزأين، ومن جزأه فقد جهله بالاشارة إليه إشارة عقلية، ومن أشار إليه فقد حده لكون الاشارة مستلزمة لانفصال المشار إليه عن المشير حتى تتوسط بينهما الاشارة التى هي إيجاد بعد ما بين المشير والمشار إليه - يبتدئ من الاول وينتهى إلى الثاني - " ومن حده فقد عده " وجعله واحدا عدديا لان العدد لازم الانقسام والانعزال الوجودى تعالى الله عن ذلك. وفي النهج: من خطبة له عليه السلام: " الحمد لله الذى لم يسبق له حال حالا فيكون أولا قبل أن يكون آخرا، ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا، كل مسمى بالوحدة غيره قليل، وكل عزيز غيره ذليل، وكل قوى غيره ضعيف، وكل مالك غيره مملوك، وكل عالم غيره متعلم، وكل قادر غيره يقدر ويعجز، وكل سميع غيره يصم عن لطيف الاصوات ويصمه كبيرها ويذهب عنة ما بعد منها وكل بصير غيره يعمى عن خفى الالوان ولطيف الاجسام، وكل ظاهر غيره باطن، وكل باطن غيره ظاهر ".
[ 95 ]
اقول: بناء البيان على كونه تعالى غير محدود وكون غيره محدودا فإن هذه المعاني والنعوت وكل ما كان من قبيلها إذا طرا عليها الحد كانت لها إضافة ما إلى غيرها، ويستوجب التحدد حينئذ أن تنقطع وتزول عما اضيفت إليه، وتتبدل إلى ما يقابلها من المعنى. فالظهور إذا فرض محدودا كان بالنسبة إلى جهة أو إلى شئ دون جهة اخرى وشئ آخر، وصار الامر الظاهر باطنا خفيا بالنسبة إلى تلك الجهة الاخرى والشئ الاخر، والعزة إذا اخذت بحد بطلت فيما وراء حدها فكانت ذلة بالنسبة إليه، والقوة إذا كانت مقيدة تبدلت بالنسبة إلى ما وراء قيدها ضعفا، والظهور بطون في غير محله، والبطون ظهور في الخارج عن مستواه.
والملك إذا كان محدودا كان من يحده مهيمنا على هذا المالك، فهو وملكه تحت ملك غيره، والعلم إذا كان محدودا لم يكن من صاحبه لان الشئ لا يحد نفسه، فكان بإفاضة الغير وتعليمه، وهكذا. والدليل على أنه عليه السلام بنى بيانه على معنى الحد قوله: " وكل سميع غيره يصم عن لطيف الاصوات " (إلخ)، فإنه وما بعده ظاهر في الاشارة إلى محدودية المخلوقات، والسياق واحد. وأما قوله عليه السلام: وكل مسمى بالوحدة غيره قليل " - والجملة هي المقصودة من نقل الخطبة - فبناؤه على معنى الحد ظاهر فإن الوحدة العددية المتفرعة على محدودية المسمى بالواحد لازمه تقسم المعنى وتكثره، وكلما زاد التقسم والتكثر أمعن الواحد في القلة والضعف بالنسبة إلى الكثرة الحادثة، فكل واحد عددي فهو قليل بالنسبة إلى الكثير الذى بإزائه ولو بالفرض. وأما الواحد الذى لا حد لمعناه ولا نهاية له فلا يحتمل فرض الكثرة لعدم احتماله طرو الحد وعروض التميز ولا يشذ عن وجوده شئ من معناه حتى يكثره ويقوى بضمه، ويقل ويضعف بعزله، بل كلما فرض له ثان في معناه فإذا هو هو. وفي النهج: ومن خطبة له عليه السلام: " الحمد لله الدال على وجوده بخلقه، وبمحدث خلقه على أزليته، وباشتباههم على أن لا شبه له، لا يستلمه المشاعر، ولا يحجبه السواتر
[ 96 ]
لافتراق الصانع والمصنوع، والحاد والمحدود، والرب والمربوب، الاحد لا بتأويل عدد، والخالق لا بمعنى حركة ونصب، والسميع لا بأداة، والبصير لا بتفريق آلة، والشاهد لا بمماسة، والبائن لا بتراخى مسافة، والظاهر لا برؤية، والباطن لا بلطافة، بان من الاشياء بالقهر لها والقدرة عليها، وبانت الاشياء منه بالخضوع له والرجوع إليه، من وصفه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن عده فقد أبطل أزله ".
اقول: أول كلامه عليه السلام مبنى على أن جميع المعاني والصفات المشهودة في الممكنات امور محدودة لا تتم إلا بحاد يحدها وصانع يصنعها، ورب يربها، وهو الله سبحانه، وإذ كان الحد من صنعه فهو متأخر عنه غير لازم له، فقد تنزهت ساحة كبريائه عن هذه الحدود. وإذا كان كذلك كان ما يوصف به من الصفات غير محدود بحد - وإن كان لفظنا قاصرا عنه، والمعنى غير واف به - فهو تعالى أحد لا بتأويل عدد يقضى بالمحدودية، وعلى هذا النهج خلقه وسمعه وبصره وشهوده وغير ذلك. ومن فروع ذلك أن بينونته من خلقه ليس بمعنى الانفصال والانعزال تعالى عن الاتصال والانفصال، والحلول والانعزال، بل بمعنى قهره لها وقدرته عليها، وخضوعهم له ورجوعهم إليه. وقوله عليه السلام: " من وصفه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن عده فقد أبطل أزله " فرع على إثبات الوحدة العددية إبطال الازل لان حقيقة الازل كونه تعالى غير متناه في ذاته وصفاته ولا محدود فإذا اعتبر من حيث إنه غير مسبوق بشئ يتقدم عليه كان هو أزله، وإذا اعتبر من حيث إنه غير ملحوق بشئ يتأخر عنه كان هو أبده، وربما اعتبر من الجانبين فكان دواما. وأما ما يظهر من عدة من الباحثين أن معنى كونه تعالى أزليا أنه سابق متقدم على خلقه المحدث تقدما في أزمنة غير متناهية لا خبر فيها عن الخلق ولا أثر منهم فهو من أشنع الخطأ، وأين الزمان الذى هو مقدار حركة المتحركات والمشاركة معه تعالى في أزله ؟ !. وفي النهج: ومن خطبة له عليه السلام: " الحمد لله خالق العباد، وساطح المهاد،
[ 97 ]
ومسبل الوهاد، ومخصب النجاد، ليس لاوليته ابتداء، ولا لازليته انقضاء، هو
الاول لم يزل، والباقى بلا أجل خرت له الجباه، ووحدته الشفاه، حد الاشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها، لا تقدره الاوهام بالحدود والحركات، ولا بالجوارح والادوات، لا يقال: متى ؟ ولا يضرب له أمد بحتى، الظاهر لا يقال: مما ؟ والباطن لا يقال: فيما ؟ لا شبح فيتقضى ولا محجوب فيحوى، لم يقرب من الاشياء بالتصادق، ولم يبعد عنها بافتراق، لا يخفى عليه من عباده شخوص لحظة، ولا كرور لفظة، ولا ازدلاف ربوة، ولا انبساط خطوة في ليل داج، ولا غسق ساج، يتفيؤ عليه القمر المنير، وتعقبه الشمس ذات النور في الافول والكرور وتقلب الازمنة والدهور من إقبال ليل مقبل وإدبار نهار مدبر، قبل كل غاية ومدة، وكل إحصاء وعدة، تعالى عما ينحله المحددون من صفات الاقدار، ونهايات الاقطار، وتأثل المساكن، وتمكن الاماكن، فالحد لخلقه مضروب، وإلى غيره منسوب، لم يخلق الاشياء من اصول أزلية، ولا أوائل أبدية بل خلق ما خلق فأقام حده، وصور ما صور فأحسن صورته ". وفي النهج: من خطبة له عليه السلام: " ما وحده من كيفه، ولا حقيقته أصاب من مثله، ولا إياه عنى من شبهه، ولا صمده من أشار إليه وتوهمه، كل معروف بنفسه مصنوع، وكل قائم في سواه معلول، فاعل لا باضطراب آلة، مقدر لا بجول فكرة، غنى لا باستفادة، لا تصحبه الاوقات، ولا ترفده الادوات، سبق الاوقات كونه، والعدم وجوده، والابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، وبمضادته بين الامور عرف أن لا ضد له، وبمقارنته بين الاشياء عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، والوضوح بالبهمة، والجمود بالبلل، والحرور بالصرد، مؤلف بين متعادياتها، مقارن بين متبائناتها، مقرب بين متباعداتها، مفرق بين متدانياتها، لا يشمل بحد، ولا يحسب بعد، وإنما تحد الادوات أنفسها، وتشير الالة إلى نظائرها، منعتها " منذ " القدمة، وحمتها " قد " الازلية، وجنبتها " لولا " التكملة، بها تجلى صانعها للعقول، وبها امتنع عن نظر العيون، لا يجرى عليه السكون والحركة، وكيف يجرى عليه ما هو
أجراه ؟ ويعود فيه ما هو أبداه ؟ ويحدث فيه ما هو أحدثه ؟ إذا لتفاوتت ذاته، ولتجزأ كنهه، ولا متنع من الازل معناه، ولكان له وراء إذا وجد له أمام ولا لتمس
[ 98 ]
التمام إذ لزمه النقصان، وإذا لقامت آية المصنوع فيه، ولتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه ". اقول: أول كلامه عليه السلام مسوق لبيان امتناع ذاته المقدسة عن الحد، ولزمه في جميع ما عداه، وقد تقدم توضيحه الاجمالي فيما تقدم. وقوله: " لا يشمل بحد ولا يحسب بعد " كالنتيجة لما تقدمه من البيان، وقوله: " وإنما تحد الادوات أنفسها، وتشير الالة إلى نظائرها " بمنزلة بيان آخر لقوله: " لا يشمل بحد، الخ " فإن البيان السابق انما سيق من مسلك ان هذه الحدود المستقرة في المصنوعات مجعولة للذات المتعالية متأخرة عنها تأخر الفعل عن فاعله فلا يمكن أن تتقيد بها الذات إذ كان ذات ولا فعل. وأما ما في قوله: " وإنما تحد " " الخ " من البيان فهو مسوق من طريق آخر وهو أن التقدير والتحديد الذى هو شأن هذه الادوات والحدود انما هو بالمسانخة النوعية كما أن المثقال الذى هو واحد الوزن مثلا توزن به الاثقال دون الالوان والاصوات مثلا، والزمان الذى هو مقدار الحركة انما تحد به الحركات، والانسان مثلا انما يقدر بما له من الوزن الاجتماعي المتوسط مثلا من يماثله في الانسانية، وبالجملة كل حد من هذه الحدود يعطى لمحدوده شبيه معناه، وكل صفة إمكانية كائنة ما كانت مبنية على قدر وحد، وملزومة لامد ونهاية، وكيف يمكن أن يحمل معناها المحدود على ذات أزلية أبدية غير متناهية ؟. فهذا هو مراده عليه السلام، ولذلك أردفه بقوله: " منعتها منذ القدمة " (الخ)، أي صدق كلمة " منذ " وكلمة " قد " الدالتين على الحدوث الزمانى، على الاشياء منعتها
وحمتها أن تتصف بالقدمة، وكذلك صدق كلمة " لولا " في الاشياء وهى تدل على النقص واقتران المانع جنبتها وبعدتها أن تكون كاملة من كل وجه. وقوله: " بها تجلى صانعها للعقول وبها امتنع من نظر العيون " الضميران للاشياء أي إن الاشياء بما هي آيات له تعالى والاية لا ترى إلا ذا الاية فهى كالمرائي لا تجلى إلا إياه تعالى فهو بها تجلى للعقول وبها أيضا امتنع عن نظر العيون إذ لا طريق إلى النظر إليه تعالى إلا هذه الايات وهى محدودة لا تنال إلا مثلها لا ربها المحيط بكل شئ.
[ 99 ]
وهذا المعنى بعينه هو الموجب لامتناعه عن نظر العيون فإنها آلات مركبة مبنية على الحدود لا تعمل إلا في المحدود، وجلت ساحة رب العزة عن الحد. وقوله عليه السلام: " لا يجرى عليه السكون والحركة " (الخ)، بمنزلة العود إلى أول الكلام ببيان آخر يبين به أن هذه الافعال والحوادث التى هي تنتهى إلى الحركة والسكون لا تجرى عليه، ولا تعود فيه ولا تحدث فإنها آثاره التى تترتب على تأثيره في غيره، ومعنى تأثير المؤثر توجيهه أثره المتفرع على نفسه إلى غيره، ولا معنى لتأثير الشئ في نفسه إلا بنوع من التجزى والتركيب العارض لذاته كالانسان مثلا يدبر بنفسه بدنه، ويضرب بيده على رأسه، والطبيب يداوى بطبه مرضه فكل ذلك إنما يصح لاختلاف في الاجزاء أو الحيثيات، ولو لا ذلك لامتنع وقوع التأثير. فالقوة الباصرة مثلا لا تبصر نفسها، والنار لا تحرق ذاتها، وهكذا جميع الفواعل لا تفعل إلا في غيرها إلا مع التركيب والتجزئة كما عرفت، وهذا معنى قوله: " إذا لتفاوتت ذاته، ولتجزأ كنهه، ولامتنع من الازل معناه " (الخ). وقوله عليه السلام: " وإذا لقامت آية المصنوع فيه، ولتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه " أي إذا لزمه النقص من تطرق هذه الحدود والاقدار عليه، والنقص من علائم المصنوعية وامارات الامكان كان (تعالى وتقدس) مقارنا لما يدل على كونه
مصنوعا وكان نفسه كسائر المصنوعات دليلا على موجود آخر أزلى كامل الوجود غير محدود الذات هو الاله المنزه عن كل نقص مفروض، المتعالى عن أن تناله أيدى الحدود والاقدار. واعلم أن ما يدل عليه قوله - من كون الدلالة هي من شؤون المصنوع الممكن - لا ينافى ما يستفاد من سائر كلامه وكلام سائر أئمة أهل البيت عليهم السلام: أنه تعالى معلوم بنفس ذاته، وغيره معلوم به، وأنه دال على ذاته، وهو الدليل على مخلوقاته فإن العلم غير العلم والدلالة غير الدلالة، وأرجو أن يوفقني الله تعالى لايضاحه وبسط الكلام فيه في بعض ما يرتبط به من الابحاث الاتية إن شاء الله العزيز. وفي التوحيد بإسناده عن أبى عبد الله عليه السلام قال: بينا أمير المؤمنين عليه السلام يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له " ذعلب " ذرب اللسان، بليغ في
[ 100 ]
الخطاب، شجاع القلب فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك ؟ فقال: ويلك يا ذعلب لم أكن لاعبد ربا لم أره !. فقال: يا أمير المؤمنين كيف رأيته ؟ قال: يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الابصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان، ويلك يا ذعلب إن ربى لطيف اللطافة فلا يوصف باللطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، قبل كل شئ لا يقال شئ قبله، وبعد كل شئ لا يقال له بعد، شاء الاشياء لا بهمة، دراك لا بخديعة، هو في الاشياء غير متمازج بها ولا بائن عنها، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا باستهلال رؤية، بائن لا بمسافة، قريب لا بمداناة لطيف لا بتجسم، موجود لا بعد عدم، فاعل لا باضطرار، مقدر لا بحركة، مريد لا بهمامة، سميع لا بآلة بصير لا بأداة، لا تحويه الاماكن، ولا تصحبه الاوقات، ولا تحده الصفات، ولا تأخذه السنات، سبق الاوقات كونه،
والعدم وجوده، والابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، وبمضادته بين الاشياء عرف أن لا ضد له، وبمقارنته بين الاشياء عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، والجسوء بالبلل، والصرد بالحرور، مؤلف بين متعادياتها، مفرق بين متدانياتها، دالة بتفريقها على مفرقها، وبتأليفها على مؤلفها، وذلك قوله عزو جل: " ومن كل شئ جعلنا زوجين لعلكم تذكرون "، ففرق بها بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل له ولا بعد، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبين خلقه غير خلقه، كان ربا ولا مربوب، وإلها إذ لا مألوه، وعالما إذ لا معلوم، وسميعا إذ لا مسموع. ثم أنشأ يقول: ولم يزل سيدى بالحمد معروفا * ولم يزل سيدى بالجود موصوفا وكان إذ ليس نور يستضاء به * ولا ظلام على الافاق معكفا فربنا بخلاف الخلق كلهم * وكل ما كان في الاوهام موصوفا الابيات. اقول: وكلامه عليه السلام - كما ترى - مسوق لبيان معنى أحدية الذات في ججميع ما يصدق عليه ويرجع إليه، وأنه تعالى غير متناهى الذات ولا محدودها، فلا يقابل
[ 101 ]
ذاته وإلا لهدده بالتحديد وقهره بالتقدير، فهو المحيط بكل شئ، المهيمن على كل أمر، ولا يلحقه صفة تمتاز ذاته، فإن في ذلك بطلان أزليته وعدم محدودية. وأن صفته تعالى الكمالية غير محدودة بحد يدفع الغير أو يدفعه الغير كما أن العلم فينا غير القدرة لما بينهما من المدافعة مفهوما ومصداقا، ولا تدافع بينهما فيه تعالى، بل الصفة عين الصفة وعين كل صفة من صفاته العليا، والاسم عين كل اسم من أسمائه الحسنى. بل إن هنا لك ما هو ألطف معنى وأبعد غورا من ذلك وهو أن هذه المعاني والمفاهيم للعقل بمنزلة الموازين والمكائيل يوزن ويكتال بها الوجود الخارجي والكون
الواقعي، فهى حدود محدودة لا تنعزل عن هذا الشأن وإن ضممنا بعضها إلى بعض، واستمددنا من أحدها للاخر، لا يغترف بأوعيتها إلا ما يقاربها في الحد، فإذا فرضنا أمرا غير محدود ثم قصدناه بهذه المقاييس المحدودة لم ننل منه إلا المحدود وهو غيره، وكلما زدنا في الامعان في نيله زاد تعاليا وابتعادا. فمفهوم العلم مثلا هو معنى أخذناه من وصف محدود في الخارج نعده كمالا لما يوجد له، وفى هذا المفهوم من التحديد ما يمنعه أن يشمل القدرة والحياة مثلا، فإذا أطلقناه عليه تعالى ثم عدلنا محدوديته بالتقييد في نحو قولنا:: علم لا كالعلوم فهب أنه يخلص من بعض التحديد لكنه بعد مفهوم لا ينعزل عن شأنه وهو عدم شموله ما وراءه (ولكل مفهوم وراء يقصر عن شموله) وإضافة مفهوم إلى مفهوم آخر لا يؤدى إلى بطلان خاصة المفهومية، وهو ظاهر. وهذا هو الذى يحير الانسان اللبيب في توصيفه تعالى بما يثبته له لبه وعقله، وهو المستفاد من قوله عليه السلام: " لا تحده الصفات " ومن قوله فيما تقدم من خطبته المنقولة: " وكمال الاخلاص له نفى الصفات عنه " وقوله أيضا في تلك الخطبة: " الذى ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود " وأنت ترى أنه عليه السلام يثبت الصفة في عين أنه ينفيها أو ينفى حدها، ومن المعلوم أن إثباتها هي لا تنفك عن الحد فنفى الحد عنها إسقاط لها بعد إقامتها، ويؤول إلى أن إثبات شئ من صفات الكمال فيه لا ينفى ما وراءها فتتحد الصفات بعضها مع بعض ثم تتحد مع الذات ولا حد، ثم لا ينفى ما وراءها مما لا مفهوم لنا نحكى عنه، ولا إدراك لنا يتعلق به فافهم ذلك.
[ 102 ]
ولو لا أن المفاهيم تسقط عند الاشراف على ساحة عظمته وكبريائه بالمعنى الذى تقدم لامكن للعقل أن يحيط به بما عنده من المفاهيم العامة المبهمة كوصفه بأنه ذات لا كالذوات، وله علم لا كالعلوم، وقدرة لا كقدرة غيره، وحياة لا كسائر أقسام الحياة،
فإن هذا النحو من الوصف لا يدع شيئا إلا أحصاه وأحاطة به إجمالا فهل يمكن أن يحيط به سبحانه شئ ؟ أو أن الممنوع هو الاحاطة به تفصيلا، وأما الاحاطة الاجمالية فلا بأس بها ؟ وقد قال تعالى: " ولا يحيطون به علما " (طه: 110)، وقال: " إلا إنه بكل شئ محيط " (حم السجدة: 54)، والله سبحانه لا يحيط به شئ من جهة من الجهات بنحو من أنحاء الاحاطة، ولا يقبل ذاته المقدسة إجمالا وتفصيلا حتى يتبعض فيكون لاجماله حكم ولتفصيله حكم آخر فافهم ذلك. وفي الاحتجاج عنه عليه السلام في خطبة: " دليله آياته، ووجوده إثباته، ومعرفته توحيده، وتوحيده تمييزه من خلقه، وحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة إنه رب خالق، غير مربوب مخلوق، ما تصور فهو بخلافه - ثم قال عليه السلام: - ليس بإله من عرف بنفسه، هو ألدال بالدليل عليه، والمؤدى بالمعرفة إليه ". أقول: التأمل فيما تقدم يوضح أن الخطبة مسوقة لبيان كون وحدته تعالى وحدة غير عددية لصراحته في أن معرفته تعالى عين توحيده أي إثبات وجوده عين إثبات وحدته، ولو كانت هذه الوحدة عددية لكانت غير الذات فكانت الذات في نفسها لا تفى بالوحدة إلا بموجب من خارج عن جهة ثبوت الذات. وهذا من عجيب المنطق وأبلغ البيان في باب التوحيد الذى يحتاج شرحه إلى مجال وسيع لا يسعه طراز البحث في هذا الكتاب، ومن ألطف المقاصد الموضوعة فيه قوله عليه السلاام: " وجوده إثباته " يريد به أن البرهان عليه نفس وجوده الخارجي أي انه لا يدخل الذهن، ولا يسعه العقل. قوله: " ما تصور فهو بخلافه " ليس المراد به أنه غير الصورة الذهنية فان جميع الاشياء الخارجية على هذا النعت، بل المراد أنه تعالى بخلاف ما يكشف عنه التصور الذهنى أيا ما كان، فلا يحيط به صورة ذهنية، ولا ينبغى لك ان تغفل عن انه أنزه ساحة حتى من هذا التصور أعنى تصور انه بخلاف كل تصور.
وقوله: " ليس باله من عرف بنفسه " مسوق لبيان جلالته تعالى عن أن يتعلق
[ 103 ]
به معرفة، وقهره كل فهم وإدراك، فإن كل من يتعلق بنفسه معرفتنا هو في نفسه غير نفسنا ومعرفتنا ثم يتعلق به معرفتنا، لكنه تعالى محيط بنا وبمعرفتنا، قيم على ذلك فلا معصم تعتصم به أنفسنا ولا معرفتنا عن إحاطة ذاته وشمول سلطانه حتى يتعلق به تعلق منعزل بمنعزل. وبين عليه السلام ذلك بقوله: " هو الدال بالدليل عليه والمؤدى بالمعرفة إليه " أي إنه تعالى هو الدليل يدل الدليل على أن يدل عليه، ويؤدى المعرفة إلى أن يتعلق به تعالى نوع تعلق لمكان إحاطته تعالى وسلطانه على كل شئ، فكيف يمكن لشئ أن يهتدى إلى ذاته ليحيط به وهو محيط به وباهتدائه. وفي المعاني باسناده عن عمر بن على عن على عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " التوحيد ظاهره في باطنه، وباطنه في ظاهره، ظاهره موصوف لا يرى، وباطنه موجود لا يخفى، يطلب بكل مكان، ولم يخل عنه مكان طرفه عين، حاضر غير محدود، وغائب غير مفقود ". أقول: كلامه صلى الله عليه وآله وسلم مسوق لبيان وحدته تعالى غير العددية المبنية على كونه تعالى غير محدود بحد، فان عدم المحدودية هو الموجب لعدم انعزال ظاهر توحيده وتوصيفه تعالى عن باطنه، وباطنه عن ظاهره فان الظاهر والباطن إنما يتفاوتان وينعزل كل منهما عن الاخر بالحد فإذا ارتفع الحد اختلطا واتحدا. وكذلك الظاهر الموصوف إنمايحاط به، والباطن الموجود إنما يخفى ويتحجب إذا تحددا فلم يتجاوز كل منهما حده المضروب له، وكذلك الحاضر إنما يكون محدودا مجموعا وجوده عند من حضر عنده، والغائب يكون مفقودا لمكان المحدودية، ولو لا ذلك لم يجتمع الحاضر بتمام وجوده عند من حضر عنده، ولم يستر الغائب حجاب الغيبة ولا ساتر دونه عمن غاب عنه، وهو ظاهر.
(بحث تاريخي) القول بأن للعالم صانعا ثم القول بأنه واحد من أقدم المسائل الدائرة بين متفكري هذا النوع تهديه إليه فطرته المركوزة فيه، حتى أن الوثنية المبنية على الاشراك، إذا
[ 104 ]
أمعنا في حقيقة معناها وجدناها مبنية على أساس توحيد الصانع، وإثبات شفعاء عنده، (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) وإن انحرفت بعد عن مجراها، وآل أمرها إلى إعطاء الاستقلال والاصالة لالهة دون الله. والفطرة الداعية إلى توحيد الاله وإن كانت تدعو إلى إله واحد غير محدود العظمة والكبرياء ذاتا وصفة - على ما تقدم بيانه بالاستفادة من الكتاب العزيز - غير أن الفة الانسان وأنسه في ظرف حياته بالاحاد العددية من جانب، وبلاء المليين بالوثنيين والثنويين وغيرهم لنفى تعدد الالهة من جانب آخر سجل عددية الوحدة وجعل حكم الفطرة المذكورة كالمغفول عنه. ولذلك ترى المأثور من كلمات الفلاسفة الباحثين في مصر القديم واليونان وإسكندرية وغيرهم ممن بعدهم يعطى الوحدة العددية حتى صرح بها مثل الرئيس أبى على بن سينا في كتاب الشفاء، وعلى هذا المجرى يجرى كلام غيره ممن بعده إلى حدود الالف من الهجرة النبوية. وأما أهل الكلام من الباحثين فاحتجاجاتهم على التوحيد لا تعطى أزيد من الوحدة العددية أيضا في عين أن هذه الحجج مأخوذة من الكتاب العزيز عامة، فهذا ما يتحصل من كلمات أهل البحث في هذه المسألة. فالذي بينه القرآن الكريم من معنى التوحيد أول خطوة خطيت في تعليم هذه الحقيقة من المعرفة، غير أن أهل التفسير والمتعاطين لعلوم القرآن من الصحابة والتابعين ثم الذين يلونهم أهملوا هذا البحث الشريف، فهذه جوامع الحديث وكتب التفسير
المأثورة منهم لا ترى فيها أثرا من هذه الحقيقة لا ببيان شارح، ولا بسلوك استدلالى. ولم نجد ما يكشف عنها غطاءها إلا ما ورد في كلام الامام على بن أبى طالب عليه أفضل السلام خاصة، فإن كلامه هو الفاتح لبابها، والرافع لسترها وحجابها على أهدى سبيل وأوضح طريق من البرهان، ثم ما وقع في كلام الفلاسفة الاسلاميين بعد الالف الهجرى، وقد صرحوا بأنهم إنما استفادوه من كلامه عليه السلام. وهذا هو السر في اقتصارنا في البحث الروائي السابق على نقل نماذج من غرر كلامه عليه السلام الرائق، لان السلوك في هذه المسألة وشرحها من مسلك الاحتجاج
[ 105 ]
البرهانى لا يوجد في كلام غيره عليه السلام. ولهذا بعينه تركنا عقد بحث فلسفي مستقل لهذه المسألة فإن البراهين الموردة في هذا الغرض مؤلفة من هذه المقدمات المبينة في كلامه لا تزيد على ما في كلامه بشئ، والجميع مبنية على صرافة الوجود وأحدية الذات جلت عظمته (1). يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين - 87. وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذى أنتم به مؤمنون - 88. لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون - 89.
(1) وللنناقد البصير والمتدبر المتعمق أن يقضى عجبا من ما صدر من الهفوة من عدة من العلماء الباحثين حيث ذكروا أن هذه الخطب العلوية الموضوعة في نهج البلاغة موضوعة دخيلة، وقد ذكر بعضهم أنها من وضع الشريف الرضى رحمه الله، وقد تقدم الكلام في أطراف هذه السقطة.
وليت شعرى كيف يسع للوضع والدس أن يتسرب إلى موقف علمي دقيق لم يقو بالوقوف عليه أفهام العلماء حتى بعد ما فتح عليه السلام بابه ورفع ستره قرونا متمادية إلى أن وفق لفهمه بعد ما سيرفى طريق الفكر المترقى مسير ألف سنة، ولا أطاق حمله غيره من الصحابة ولا التابعون، بل كلام هؤلاء الرامين بالوضع ينادى بأعلى صوته أنهم كانوا يظنون أن الحقائق القرآنية والاصول العالية العلمية ليست إلا مفاهيم مبتذلة عامية وإنما تتفاضل باللفظ الفصيح والبيان البليغ. (*)
[ 106 ]
(بيان) الايات الثلاثة وعدة من الايات الواقعة بعدها إلى بضع ومائة من آيات السورة آيات مبينة لعدة من فروع الاحكام، وهى جميعا كالمتخللة بين الايات المتعرضة لقصص المسيح عليه السلام والنصارى، وهى لكونها طوائف متفرقة نازلة في أحكام متنوعة كل منها ذات استقلال وتمام في ما تقصده من المعنى يشكل القضاء بكونها نزلت دفعة أو صاحبت بقية آيات السورة في النزول إذ لا شاهد يشهد بذلك من مضامينها، وأما ما ورد من أسباب النزول فسيأتي بعض ما هو العمدة منها في البحث الروائي. وكذلك القول في هذه الايات الثلاث المبحوث عنها فإن الاية الثالثة مستقلة في معناها، وتستقل عنها الاية الاولى وإن لم تخلو من نوع من المناسبة فبينهما بعض الارتباط من جهة أن من جملة مصاديق لغو اليمين أن تتعلق بتحريم بعض الطيبات مما أحله الله تعالى، ولعل هذا هو الداعي لمن نقل عنه في أسباب النزول أنه ذكر نزول الايات جميعا في اليمين اللاغية. هذا حال الاية الاولى مع الثالثة، وأما الاية الثانية فكأنها من تمام الاية الاولى كما يشهد به بعض الشهادة ذيلها أعنى قوله تعالى: " واتقوا الله الذى أنتم به مؤمنون " بل وصدرها حيث يشتمل على العطف، وعلى الامر بأكل الحلال الطيب الذى تنهى الاية الاولى عن تحريمه واجتنابه، وبذلك تلتئم الايتان معنى وتتحدان حكما ذواتي
سياق واحد. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " قال الراغب في المفردات: الحرام الممنوع منه إما بتسخير إلهى، وإما بمنع قهرى، وإما بمنع من جهة العقل أو جهة الشرع أو من جهة من يرتسم أمره، انتهى موضع الحاجة. وقال أيضا: أصل الحل حل العقدة، ومنه قوله عزوجل: " واحلل عقدة من لساني "، وحللت: نزلت، أصله من حل الاحمال عند النزول ثم جرد استعماله للنزول فقيل: حل حلولا وأحله غيره، قال عزوجل: " أو تحل قريبا من دارهم، وأحلوا قومهم دار البوار "، ويقال: حل الدين وجب أداؤه، والحلة القوم النازلون وحل حلال مثله، والمحلة مكان النزول، وعن حل العقدة استعير قولهم: حل الشئ حلا
[ 107 ]
قال الله تعالى: " وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا "، وقال تعالى: " هذا حلال وهذا حرام "، انتهى. فالظاهر أن مقابلة الحل الحرمة، وكذا التقابل بين الحل والحرم أو الاحرام من جهة تخيل العقد في المنع الذى هو معنى الحرمة وغيرها ثم مقابلته بالحل المستعار لمعنى الجواز والاباحة، واللفظان أعنى الحل والحرمة من الحقائق العرفية قبل الاسلام دون الشرعية أو المتشرعية. والاية أعنى قوله: " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا " (الخ)، تنهى المؤمنين عن تحريم ما أحل الله لهم، وتحريم ما أحل الله هو جعله حراما كما جعله الله تعالى حلالا وذلك إما بتشريع قبال تشريع، وإما بالمنع أو الامتناع بأن يترك شيئا من المحللات بالامتناع عن إتيانه أو منع نفسه أو غيره من ذلك فإن ذلك كله تحريم ومنع ومنازعة لله سبحانه في سلطانه واعتداء عليه ينافى الايمان بالله وآياته، ولذلك صدر النهى بقوله: " يا أيها الذين آمنوا "، فإن المعنى: لا تحرموا ما أحل الله لكم وقد آمنتم به وسلمتم لامره.
ويؤيده أيضا قوله في ذيل الاية التالية: " واتقوا الله الذى أنتم به مؤمنون ". وإضافة قوله: " طيبات " إلى قوله: " ما أحل الله لكم " - مع أن الكلام تام بدونه - للاشارة إلى تتميم سبب النهى فإن تحريم المؤمنين لما أحل الله لهم على أنه اعتداء منهم على الله في سلطانه، ونقض لايمانهم بالله وتسليمهم لامره كذلك هو خروج منهم عن حكم الفطرة، فإن الفطرة تستطيب هذه المحللات من غير استخباث، وقد أخبر الله سبحانه عن ذلك فيما نعت به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم والشريعة التى جاء بها حيث قال: " الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذى يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التى كانت عليهم فالذين آمنوا به و عزروه ونصروه واتبعوا النور الذى أنزل معه أولئك هم المفلحون " (الاعراف: 157). وبهذا الذى بينا يتأيد اولا: أن المراد بتحريم طيبات ما أحل الله هوالالزام والالتزام بترك المحللات. وثانيا: أن المراد بالحل مقابل الحرمة ويعم المباحات والمستحبات بل والواجبات
[ 108 ]
قضاء لحق المقابلة. وثالثا: أن إضافة الطيبات إلى ما أحل الله في قوله: " طيبات ما أحل الله لكم " إضافة بيانية. ورابعا: أن المراد بالاعتداء في قوله: " ولا تعتدو " ا هو الاعتداء على الله سبحانه في سلطانه التشريعي، أو التعدي عن حدود الله بالانخلاع عن طاعته والتسليم له وتحريم ما أحله كما قال تعالى في ذيل آية الطلاق: " تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فاولئك هم الظالمون " (البقرة: 229)، وقوله في ذيل آيات الارث: " تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك
الفوز العظيم، ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين " (النساء: 14)، والايات - كما ترى - تعد الاستقامة والالتزام بما شرعه الله طاعة له تعالى ولرسوله ممدوحة، والخروج عن التسليم والالتزام والانقياد اعتداء وتعديا لحدود الله مذموما معاقبا عليه. فمحصل مفاد الاية النهى عن تحريم ما أحله الله بالاجتناب عنه والامتناع من الاقتراب منه فإنه يناقض الايمان بالله وآياته ويخالف كون هذه المحللات طيبات لا خباثة فيها حتى يجتنب عنها لاجلها، وهو اعتداء والله لا يحب المعتدين. قوله تعالى: " ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " قد عرفت أن ظاهر السياق أن المراد بالاعتداء هو التحريم المذكور في الجملة السابقة عليه فقوله: " ولا تعتدوا " يجرى مجرى التأكيد لقوله: " لا تحرموا، الخ ". وأما ما ذكره بعضهم: أن المراد بالاعتداء تجاوز حد الاعتدال في المحللات بالانكباب على التمتع بها والا ستلذاذ منها قبال تركها واجتناب تناولها تقشفا وترهبا فيكون معنى الاية: لا تحرموا على أنفسكم ما أحل الله لكم من الطيبات المستلذة بأن تتعمدوا ترك التمتع بها تنسكا وتقربا إليه تعالى، ولا تعتدوا بتجاوز حد الاعتدال إلى الاسراف والافراط الضار بأبدانكم أو نفوسكم. أو أن المراد بالاعتداء تجاوز المحللات الطيبة إلى الخبائث المحرمة، ويعود المعنى إلى أن لا تجتنبوا المحللات ولا تقترفوا المحرمات، وبعبارة اخرى: لا تحرموا ما أحل
[ 109 ]
الله لكم، ولا تحللوا ما حرم الله عليكم. فكل من المعنيين وإن كان في نفسه صحيحا يدل عليه الكتاب بما لا غبار عليه لكن شيئا منهما لا ينطبق على الاية بظاهر سياقها وسياق ما يتلوها من الاية اللاحقة فما كل معنى صحيح يمكن تحميله على كل لفظ كيفما سيق وأينما وقع.
قوله تعالى: " وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا " إلى آخر الاية، ظاهر العطف أعنى انعطاف قوله: " وكلوا " على قوله: " لا تحرموا " أن يكون مفاد هذه الاية بمنزلة التكرار والتأكيد لمضمون الاية السابقة، ويؤيده سياق صدر الاية من حيث اشتماله على قوله: " حلالا طيبا " وهو يحاذي قوله في الاية السابقة: " طيبات ما أحل الله "، وكذا ذيلها من حيث المحاذاة الواقعة بين قوله فيه: " واتقوا الله إم كنتم مؤمنين " وقوله في الاية السابقة: يا أيها الذين آمنوا " وقد مر بيانه. وعلى هذا فقوله: " كلوا " " الخ "، من قبيل ورود الامر عقيب الحظر، وتخصيص قوله: " كلوا " بعد تعميم قوله: " لا تحرموا طيبات " (الخ)، إما تخصيص بحسب اللفظ فقط، والمراد بالاكل مطلق التصرف، فيما رزقه الله تعالى من طيبات نعمه، سواء كان بالاكل بمعنى التغذى أو بسائر وجوه التصرف، وقد تقدم مرارا أن استعمال الاكل بمعنى مطلق التصرف استعمال شائع ذائع. وإما أن يكون المراد - ومن الممكن ذلك - الاكل بمعناه الحقيقي، ويكون سبب نزول الايتين تحريم بعض المؤمنين في زمن النزول المأكولات الطيبة على أنفسهم فتكون الايتان نازلتين في النهى عن ذلك، وقد عمم النهى في الاية الاولى للاكل وغيره إعطاء للقاعدة الكلية لكون ملاك النهى يعم محللات الاكل وغيرها على حد سواء. وقوله: " مما رزقكم الله " لازم ما استظهرناه من معنى الايتين كونه مفعولا لقوله: " كلوا " وقوله: " حلالا طيبا " حالين من الموصول وبذلك تتوافق الايتان، وربما قيل: إن قوله: " حلالا طيبا " مفعول قوله: " كلوا " وقوله: " مما رزقكم الله " متعلق بقوله: " كلوا " أو حال من الحلال قدم عليه لكونه نكرة أو كون قوله: " حلالا " وصفا لمصدر محذوف، والتقدير: رزقا حلالا طيبا إلى غير ذلك. وربما استدل بعضهم بقوله: " حلالا " على أن الرزق يشمل الحلال والحرام
[ 110 ]
معا وإلا لغى القيد. والجواب: أنه ليس قيدا احترازيا لاخراج ما هو رزق غير حلال ولا طيب بل قيد توضيحي مساو لمقيده، والنكتة في الاتيان به بيان أن كونه حلالا طيبا لا يدع عذرا لمعتذر في الاجتناب والكف عنه على ما تقدم، وقد تقدم الكلام في معنى الرزق في ذيل الاية ال 27 من سورة آل عمران في الجزء الثالث من هذا الكتاب. قوله تعالى: " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان " اللغو ما لا يترتب عليه أثر من الاعمال، والايمان جمع يمين وهو القسم والحلف، قال الراغب في المفردات: واليمين في الحلف مستعار من اليد اعتبارا بما يفعله المعاهد والمحالف وغيره، قال تعالى: أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة، وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يؤاخذكم الله باللغو " في أيمانكم " انتهى، والتعقيد مبالغة في العقد وقرئ: عقدتم بالتخفيف، وقوله: " في أيمانكم " متعلق بقوله: " لا يؤاخذكم " أو بقوله: " باللغو " وهو أقرب. والتقابل الواقع بين قوله: " باللغو في أيمانكم " وقوله: " بما عقدتم الايمان " يعطى أن المراد باللغو في الايمان ما لا يعقد عليه الحالف، وإنما يجرى على لسانه جريا لعادة اعتادها أو لغيرها وهو قولهم - وخاصة في قبيل البيع والشرى -: لا والله، بلى والله، بخلاف ما عقد عليه عقدا بالالتزام بفعل أو ترك كقول القائل: والله لافعلن كذا، وو الله لا تركن كذا. هذا هو الظاهر من الاية، ولا ينافى ذلك يعد شرعا قول القائل: والله لافعلن المحرم الفلاني، والله لا تركن الواجب الفلاني مثلا من لغو اليمين لكون الشارع ألغى اليمين فيما لا رجحان فيه، فإنما هو إلحاق من جهة السنة، وليس من الواجب أن يدل القرآن على خصوص كل ما ثبت بالسنة بخصوصه. وأما قوله: " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان " فلا يشمل إلا اليمين المضاة شرعا لمكان قوله في ذيل الاية: " واحفظوا أيمانكم " فإنه لا مناص عن شموله لهذه
الايمان بحسب إطلاق لفظه، ولا معنى للامر بحفظ الايمان التى ألغى الله سبحانه اعتبارها فالمتعين أن اللغو من الايمان في الاية مالا عقد فيه، وما عقد عليه هو اليمين الممضاة
[ 111 ]
قوله تعالى: " فكفارته إطعام عشرة مساكين - إلى قوله - أو تحرير رقبة "، الكفارة هي العمل الذى يستر به مساءة المعصية بوجه، من الكفر بمعنى السترقال تعالى: " نكفر عنكم سيئاتكم " (النساء: 31)، قال الراغب: والكفارة ما يغطى الاثم ومنه كفارة اليمين، انتهى. وقوله: " فكفارته " تفريع على اليمين باعتبار مقدر هو نحو من قولنا: فان حنثتم فكفارته كذا، وذلك لان في لفظ الكفارة دلالة على معصية تتعلق به الكفارة، وليست هذه المعصية هي نفس اليمين، ولو كان كذلك لم يورد في ذيل الاية قوله: " واحفظوا ايمانكم " إذ لا معنى لحفظ ما فيه معصية فالكفارة إنما تتعلق بحنث اليمين لا بنفسها. ومنه يظهر أن المؤاخذة المذكورة في قوله: " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان " هي المؤاخذة على حنث اليمين لا على نفس إيقاعها، وإنما أضيفت إلى اليمين لتعلق متعلقها - أعنى الحنث - بها، فقوله: " فكفارته " متفرع على الحنث المقدر لدلالة قوله: " يؤاخذكم، الخ " عليه، ونظير هذا البيان جار في قوله: " ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم " وتقديره: إذا حلفتم وحنثتم. وقوله: " إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة " خصال ثلاث يدل الترديد على تعيين إحداها عند الحنث من غير جمع، ويدل قوله بعده: " فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام " على كون الخصال المذكورة تخييرية من غير لزوم مراعاة الترتيب الواقع بينها في الذكر، وإلا لغى التفريغ في قوله: " فمن لم يجد " (الخ)، وكان المتعين بحسب اقتضاء السياق أن يقال: أو صيام ثلاثة أيام.
وفي الاية أبحاث فرعية كثيرة مرجعها علم الفقه. قوله تعالى: " ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم " تقدم أن الكلام في تقدير: إذا حلفتم وحنثتم، وفي قوله: " ذلك كفارة أيمانكم " وكذا في قوله: " كذلك يبين الله لكم " نوع التفات ورجوع من خطاب المؤمنين إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولعل النكتة فيه أن الجملتين جميعا من البيان الالهى للناس إنما هو بوساطة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان في ذلك حفظا لمقامه صلى الله عليه وآله وسلم في بيان ما أوحى إليه للناس كما قال تعالى: " وأنزلنا إليك الذكر
[ 112 ]
لتبين للناس ما نزل إليهم " (النحل: 44). قوله تعالى: " كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون " أي يبين لكم بواسطة نبيه أحكامه لعلكم تشكرونه بتعلمها والعمل بها. (بحث روائي) في تفسير القمى في قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " (الاية)، قال حدثنى أبى عن ابن أبى عمير، عن بعض رجاله، عن أبى عبد الله عليه السلام قال: نزلت هذه الاية في أمير المؤمنين عليه السلام وبلال وعثمان بن مظعون فأما أمير المؤمنين عليه السلام فحلف أن لا ينام بالليل أبدا، وأما بلال فإنه حلف أن لا يفطر بالنهار أبدا، وأما عثمان بن مظعون فإنه حلف أن ينكح أبدا. فدخلت امرأة عثمان على عائشة، وكانت امرأة جميلة فقالت عائشة: ما لى أراك متعطلة ؟ فقالت: ولمن أتزين ؟ فو الله ما قربنى زوجنى منذ كذا وكذافإنه قد ترهب ولبس المسوح وزهد في الدنيا. فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبرته عائشة بذلك فخرج فنادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال أقوام يحرمون على أنفسهم الطيبات ؟ إلا إنى أنام بالليل وأنكح وأفطر بالنهارة فمن رغب عن سنتى
فليس منى. فقاموا هؤلاء فقالوا: يا رسول الله فقد حلفنا على ذلك فأنزل الله عليه: " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ". اقول: وفي انطباق قوله تعالى: " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان " (الاية)، على حلفهم خفاء، وقد تقدم بعض الكلام فيه، وقد روى الطبرسي في مجمع البيان القصة عن أبى عبد الله عليه السلام ولم يذكر الذيل فليتأمل فيه. وفي الاحتجاج عن الحسن بن على عليه السلام في حديث أنه قال لمعاوية وأصحابه:
[ 113 ]
انشدكم بالله أتعلمون أن عليا أول من حرم الشهوات على نفسه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله: " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ؟. وفي المجمع في الاية: قال المفسرون: جلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما فذكر الناس ووصف القيامة فرق الناس وبكوا واجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحى، وهم على وأبو بكر وعبد الله بن مسعود وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبى حذيفة وعبد الله بن عمر والمقداد بن الاسود الكندى وسلمان الفارسى ومعقل بن مقرن، واتفقوا على أن يصوموا النهار، ويقوموا الليل، ولا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم ولا الودك، ولا يقربوا النساء والطيب، ويلبسوا المسوح، ويرفضوا الدنيا، ويسيحوا في الارض، وهم بعضهم أن يجب مذاكيره. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتى دار عثمان فلم يصادفه فقال لامرأته ام حكيم بنت أبى أمية - واسمها حولاء وكانت عطارة -: أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه ؟ فكرهت أن تكذب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكرهت أن تبدى على زوجها
فقالت: يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك فانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما دخل عثمان أخبرته بذلك. فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو وأصحابه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألم أنبئكم أنكم اتفقتم على كذا وكذا ؟ قالوا: بلى يا رسول الله وما أردنا إلا الخير، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنى لم أومر بذلك، ثم قال: إن لانفسكم عليكم حقا فصوموا وافطروا، وقوموا وناموا فإنى أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتى النساء، ومن رغب عن سنتى فليس منى. ثم جمع الناس وخطبهم وقال: ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما إنى لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا فإنه ليس في دينى ترك اللحم ولا النساء ولا اتخاذ الصوامع، وإن سياحة امتى الصوم، ورهبانيتهم الجهاد، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وحجوا، واعتمروا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، واستقيموا يستقم لكم فإنما هلك من كان قبلكم
[ 114 ]
بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فاولئك بقاياهم في الديارات والصوامع فأنزل الله الاية. أقول: ويظهر بالرجوع إلى روايات القوم أن هذه الرواية إنما هي تلخيص للروايات المروية في هذا الباب، وهى كثيرة جدا فقد أوردها بالجمع بين شتات مضامينها بإدخال بعضها في بعض، وسبكها رواية واحدة. وأما نفس هذه الروايات على كثرتها فلم يجتمع أسماء هؤلاء الصحابة في واحدة منها بل ذكر الاجمع منها لفظا هؤلاء الصحابة بلفظ عثمان بن مظعون وأصحابه. وفي بعضها اناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي بعضها رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكذلك ما وقع في هذه الرواية من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخطبته على تفصيلها متفرقة
الجمل في الروايات، وكذلك الذى عقدوا عليه هموا به من التروك لم تصرح الروايات بأنهم اتفقوا جميعهم على جميعها بل صرح بعض الروايات باختلافهم فيما هموا به أو عقدوا عليه كما في صحيح البخاري ومسلم عن عائشة أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن عمله في السر فقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على فراش فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا ؟ لكنى أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى. ولعل المراد بقوله في الرواية: واتفقوا على أن يصوموا النهار (الخ)، ان المجموع اتفقوا على المجموع لا أن كل واحد منهم عزم على الجميع. والروايات وإن كانت مختلفة في مضامينها، وفيها الضعيف والمرسل والمعتبر لكن التأمل في جميعها يوجب الوثوق بأن رهطا من الصحابة عزموا على هذا النوع من التزهد والتنسك، وأنه كان فيهم على عليه السلام وعثمان بن مظعون، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم: من رغب عن سنتى فليس منى، والله أعلم، فعليك بالرجوع إلى التفاسير الروائية كتفسير الطبري والدر المنثور وفتح القدير وأمثالها. وفي الدر المنثور: أخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبى حاتم وابن عدى في الكامل والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:
[ 115 ]
يا رسول الله إنى إذا أكلت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي، وإنى حرمت على اللحم فنزلت: " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم. " وفيه: أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن زيد بن أسلم: أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف من أهله وهو عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارا له، فقال لامرأته: حبست ضيفي من أجلى هو حرام على، فقالت امرأته:
هو على حرام، قال الضيف: هو على حرام، فلما رأى ذلك وضع يده وقال: كلوا بسم الله، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قد أصبت فأنزل الله: " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ". اقول: من الممكن أن يكون السببان المذكوران في الروايتين الاخيرتين من تطبيق الرواة، وهو شائع في روايات أسباب النزول، ومن الممكن أن يقع لنزول الايك أسباب عديدة. وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان قال: سألته عن رجل قال لامرأته: طالق، أو مماليكه أحرار إن شربت حراما ولا حلالا فقال: أما الحرام فلا يقربه حلف أو لم يحلف، وأما الحلال فلا يتركه فإنه ليس أن يحرم ما أحل الله لان الله يقول: " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " فليس عليه شئ في يمينه من الحلال. وفي الكافي بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبى عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول في قول الله عزوجل: " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " قال: " اللغو " قول الرجل: " لا والله، وبلى والله " ولا يعقد على شئ. أقول: وروى العياشي في تفسيره عن عبد الله بن سنان مثله، وعن محمد بن مسلم مثله وفيه: ولا يعقد عليها. وفي الدر المنثور: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لما نزلت: " يا ايها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " في القوم الذين حرموا النساء واللحم على أنفسهم قالوا: يا رسول الله كيف نصنع بايماننا التى حلفنا عليها ؟ فأنزل الله: " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ".
[ 116 ]
اقول: والرواية تشاكل ذيل الرواية الاولى التى أوردناها في صدر البحث غير
أنها لا تنطبق على ظاهر الاية فإن الحلف على ترك واجب أو مباح لا يخلو من عقد عليه، وقد قوبل في الاية قوله: " باللغو في أيمانكم " بقوله: " بما عقدتم الايمان " ودل ذلك على كون اللغو من اليمين ما لا عقد عليه، وهذا الظاهر إنما يوافق الرواية المفسرة للغو اليمين بقول القائل: لا والله، وبلى والله، من غير أن يعقد على شئ، وأما اليمين الملغاة شرعا ففيها عقد على ما حلف عليه فالمتعين أن يستند إلغاؤه إلى السنة دون الكتاب. على أن سياق الاية أدل دليل على أنها مسوقة لبيان كفارة اليمين والامر بحفظها استقلالا لا على نحو التطفل كما هو لازم هذا التفسير. * * * يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون - 90. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلوة فهل أنتم منتهون - 91. أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين - 92. ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين - 93. (بيان) الايات متلائمة سياقا فكأنها نزلت دفعة أو هي متقاربة نزولا، والاية الاخيرة بمنزلة دفع الدخل على ما سنبينه تفصيلا، فهى جميعا تتعرض لحال الخمر، وبعضها
[ 117 ]
يضيف إليها الميسر والانصاب والازلام. وقد تقدم في قوله تعالى: " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع
للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " (البقرة: 219)، في الجزء الاول، وفي قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون " (النساء: 43) في الجزء الرابع من هذا الكتاب أن هاتين الايتين مع قوله تعالى: " قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم " (الاعراف: 33)، وهذه الاية المبحوث عنها: " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه - إلى قوله - فهل أنتم منتهون " إذا انضم بعضها إلى بعض دلت سياقاتها المختلفة على تدرج الشارع في تحريم الخمر. لكن لا بمعنى السلوك التدريجي في تحريمها من تنزيه وإعافة إلى كراهية إلى تحريم صريح حتى ينتج معنى النسخ، أو من إبهام في البيان إلى ايضاح أو كناية خفية إلى تصريح لمصلحة السياسة الدينية في إجراء الاحكام الشرعية فإن قوله تعالى: " والاثم " آية مكية في سورة الاعراف إذا انضم إلى قوله تعالى: " قل فيهما إثم كبير " وهى آية مدنية واقعة في سورة البقرة أول سورة مفصلة نزلت بعد الهجرة أنتج ذلك حرمة الخمر إنتاجا صريحا لا يدع عذرا لمعتذر، ولا مجالا لمتأول. بل بمعنى أن الايات تدرجت في النهى عنها بالتحريم على وجه عام وذلك قوله تعالى: " والاثم " ثم بالتحريم الخاص في صورة النصيحة وذلك قوله: " قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما "، وقوله: " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون " إن كانت الاية ناظرة إلى سكر الخمر لا إلى سكر النوم، ثم بالتحريم الخاص بالتشديد البالغ الذى يدل عليه قوله: " إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس - إلى قوله - فهل أنتم منتهون " الايتان. فهذه الايات آخر ما نزل في تحريم الخمر يدل على ذلك أقسام التأكيد المودعة فيها من " إنما " والتسمية بالرجس، ونسبته إلى عمل الشيطان، والامر الصريح بالاجتناب، وتوقع الفلاح فيه، وبيان المفاسد التى تترتب على شربها، والاستفهام عن الانتهاء، ثم
الامر بطاعة الله و رسوله والتحذير عن المخالفة، والاستغناء عنهم لو خالفوا.
[ 118 ]
ويدل على ذلك بعض الدلالة أيضا قوله تعالى في ذيل الايات: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات (إلخ) بما سيأتي من الايضاح. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر، إلى آخر الاية " قد تقدم الكلام في أول السورة في معنى الخمر والميسر والانصاب والازلام فالخمر ما يخمر العقل من كل مائع مسكر عمل بالتخمير، والميسر هو القمار مطلقا، والانصاب هي الاصنام أو الحجارة التى كانت تنصب لذبح القرابين عليها وكانت تحترم ويتبرك بها، والازلام هي الاقداح التى كانت يستقسم بها، وربما كانت تطلق على السهام التى كانت يتفاءل بها عند ابتداء الامور والعزيمة عليها كالخروج إلى سفر ونحوه لكن اللفظ قد وقع في أول السورة للمعنى الاول لوقوعه بين محرمات الاكل فيتأيد بذلك كون المراد به هيهنا هو ذلك. فان قلت: الميسر بعمومه يشمل الازلام بالمعنى الاخر الذى هو الاستقسام بالاقداح، ولا وجه لايراد الخاص بعد العام من غير نكتة ظاهرة فالمتعين حمل اللفظ على سهام التفؤل والخيرة التى كان العمل بها معروفا عندهم في الجاهلية قال الشاعر: فلئن جذيمة قتلت ساداتها * فنساؤها يضربن بالازلام وهو - كما روى - أنهم كانوا يتخذون أخشابا ثلاثة رقيقة كالسهام أحدها مكتوب عليه " افعل " والثانى مكتوب عليه " لا تفعل " والثالث غفل لا كتابة عليه فيجعلها الضارب في خريطة معه وهى متشابهة فإذا أراد الشروع في أمر يهمه كالسفر وغير ذلك أخرج واحدا منها فإن كان الذى عليه مكتوب " افعل " عزم عليه، وإن خرج الذى مكتوب عليه " لا تفعل " تركه، وإن خرج الثالث أعاد الضرب حتى يخرج واحد من الاولين، وسمى استقساما لان فيه طلب ما قسم له من رزق أو خير آخر من الخيرات.
فالاية تدل على حرمته لان فيه تعرضا لدعوى علم الغيب، وكذا كل ما يشاكله من الاعمال كأخذها الخيرة بالسبحة ونحوها. قلت: قد عرفت أن الاية في أول السورة: " وأن تستقسموا بالازلام " ظاهرة في الاستقسام بالاقداح الذى هو نوع من القمار لوقوعه في ضمن محرمات الاكل، ويتأيد به أن ذلك هو المراد بالازلام في هذه الاية.
[ 119 ]
ولو سلم عدم تأيد هذه بتلك عاد إلى لفظ مشترك لا قرينة عليه من الكلام تبين المراد فيتوقف على ما يشرحه من السنة، وقد وردت عدة أخبار من أئمة أهل البيت عليهم السلام في جواز الاخذ بالخيرة من السبحة وغيرها عند الحيرة. وحقيقته أن الانسان إذا أراد أن يقدم على أمر كان له أن يعرف وجه المصلحة فيه بما أغرز الله فيه من موهبة الفكر أو بالاستشارة ممن له صلاحية المعرفة بالصواب والخطأ، وإن لم يهده ذلك إلى معرفة وجه الصواب، وتردد متحيرا كان له أن يعين ما ينبغى أن يختاره بنوع من التوجه إلى ربه. وليس في اختيار ما يختاره الانسان بهذا النوع من الاستخارة دعوى علم الغيب ولا تعرض لما يختص بالله سبحانه من شؤون الالوهية، ولا شرك بسبب تشريك غير الله تعالى إياه في تدبير الامور ولا أي محذور دينى آخر إذ لا شأن لهذا العمل إلا تعين الفعل أو الترك من غير إيجاب ولا تحريم ولا أي حكم تكليفي آخر، ولا كشف عما وراء حجب الغيب من خير أو شر إلا أن خير المستخير في أن يعمل أو يترك فيخرج عن الحيرة والتذبذب. وأما ما يستقبل الفعل أو الترك من الحوادث فربما كان فيه خير وربما كان فيه شر على حد ما لو فعله أو تركه عن فكر أو استشارة، فهو كالتفكر والاستشارة طريق لقطع الحيرة والتردد في مقام العمل، ويترتب على الفعل الموافق له ما كان
يترتب عليه لو فعله عن فكر أو مشورة. نعم ربما أمكن لمتوهم أن يتوهم التعرض لدعوى علم الغيب فيما ورد من التفؤل بالقرآن ونحوه فربما كانت النفس تتحدث معه بيمن أو شأمة، وتتوقع خيرا أو شرا أو نفعا أو ضرا، لكن قد ورد في الصحيح من طرق الفريقين: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتفاءل بالخير ويأمر به، وينهى عن التطير ويأمر بالمضي معه والتوكل على الله تعالى. فلا مانع من التفأل بالكتاب ونحوه فإن كان معه ما يتفأل به من الخير وإلا مضى في الامر متوكلا على الله تعالى، وليس في ذلك أزيد مما يطيب به الانسان نفسه في الامور والاعمال التى يتفرس فيها السعادة والنفع، وسنستوفي البحث المتعلق بهذا المقام في كلام موضوع لهذا الغرض بعينه.
[ 120 ]
فتبين أن ما وقع في بعض التفاسير من حمل الازلام على سهم التفأل واستنتاج حرمة الاستخارة بذلك مما لا ينبغى المصير إليه. وأما قوله: " رجس من عمل الشيطان " فالرجس الشئ القذر على ما ذكره الراغب في مفرداته فالرجاسة بالفتح كالنجاسة والقذارة هو الوصف الذى يبتعد ويتنزه عن الشئ بسببه لتنفر الطبع عنه. وكون هذه المعدودات من الخمر والميسر والانصاب والازلام رجسا هو اشتمالها على وصف لا تستبيح الفطرة الانسانية الاقتراب منها لاجله، وليس إلا أنها بحيث لا تشتمل على شئ مما فيه سعادة إنسانية أصلا سعادة يمكن أن تصفو وتتخلص في حين من الاحيان كما ربما أوما إليه قوله تعالى: " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما أثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " (البقرة: 219)، حيث غلب الاثم على النفع ولم يستثن. ولعله لذلك نسب هذه الارجاس إلى عمل الشيطان ولم يشرك له أحدا، ثم قال
في الاية التالية: " إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ". وذلك أن الله سبحانه عرف الشيطان في كلامه بأنه عدو للانسان لا يريد به خيرا البتة قال تعالى: " إن الشيطان للانسان عدو مبين " (يوسف: 5)، وقال: كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله " (الحج: 4)، وقال: " وإن يدعون إلا شيطانا مريدا، لعنه الله " (النساء: 118)، فأثبت عليه لعنته وطرده عن كل خير. وذكر أن مساسه بالانسان وعمله فيه إنما هو بالتسويل والوسوسة والاغواء من جهة الالقاء في القلب كما قال تعالى حكاية عنه: " قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الارض ولاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط على مستقيم، إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين " (الحجر: 42)، فهددهم إبليس بالاغواء فقط، ونفى الله سبحانه سلطانه إلا عن متبعيه الغاوين، وحكى عنه فيما يخاطب بنى آدم يوم القيامة قوله: " وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى " (إبراهيم: 22)، وقال في نعت دعوته: " يا بنى آدم لا يفتننكم
[ 121 ]
الشيطان - إلى أن قال - إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم، فبين أن دعوته لاكدعوة إنسان إنسانا إلى أمر بالمشافهة بل بحيث يرعى الداعي المدعو من غير عكس. وقد فصل القول في جميع ذلك قوله تعالى: " من شر الوسواس الخناس، الذى يوسوس في صدور الناس " (الناس: 5)، فبين أن الذى يعمل الشيطان بالتصرف في الانسان هو أن يلقى الوسوسة في قلبه فيدعوه بذلك إلى الضلال. فيتبين بذلك كله أن كون الخمر وما ذكر بعدها رجسا من عمل الشيطان هو أنها منتهية إلى عمل الشيطان الخاص به، ولا داعى لها إلى الالقاء والوسوسة الشيطانية التى تدعو إلى الضلال، ولذلك سماها رجسا وقد سمى الله سبحانه الضلال رجسا في قوله: " ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله
الرج س على الذين لا يؤمنون، وهذا صراط ربك مستقيما " (الانعام: 126). ثم بين معنى كونها رجسا ناشئا من عمل الشيطان بقوله في الاية التالية: " إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة " أي إنه لا يريد لكم في الدعوة إليها الا الشر ولذلك كانت رجسا من عمله. فان قلت: ملخص هذا البيان أن معنى كون الخمر وأضرابها رجسا هو كون عملها أو شربها مثلا منتهيا إلى وسوسة الشيطان وإضلاله فحسب، والذى تدل عليه عدة من الروايات أن الشيطان هو الذى ظهر للانسان وعملها لاول مرة وعلمه إياها. قلت: نعم، وهذه الاخبار وإن كانت لا تتجاوز الاحاد بحيث يجب الاخذ بها إلا أن هناك أخبارا كثيرة متنوعة واردة في أبواب متفرقة تدل على تمثل الشيطان للانبياء والاولياء وبعض أفراد الانسان من غيرهم كأخبار أخر حاكية لتمثل الملائكة، واخرى دالة على تمثل الدنيا والاعمال وغير ذلك، والكتاب الالهى يؤيدها بعض التأييد كقوله تعالى: " فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا " (مريم: 17)، وسنستوفي هذا البحث إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الاسراء في الكلام على قوله تعالى: سبحان الذى أسرى بعبده " (الاسراء: 1)، أو في محل آخر مناسب لذلك. والذى يجب أن يعلم أن ورود قصة ما في خبر أو أخبار لا يوجب تبدل آية من الايات مما لها من الظهور المؤيد بآيات أخر، وليس للشيطان من الانسان إلا التصرف
[ 122 ]
الفكري فيما كان له ذلك بمقتضى الايات الشريفة، ولو أنه تمثل لواحد من البشر فعمل شيئا أو علمه إياه لم يزد ذلك على التمثل والتصرف في فكره أو مساسه علما فانتظر ما سيوافيك من البحث. وأما قوله تعالى: " فاجتنبوه لعلكم تفلحون " فتصريح بالنهي بعد بيان المفسدة ليكون أوقع في النفوس ثم ترج للفلاح على تقدير الاجتناب، وفيه أشد التأكيد للنهى
لتثبيته ان لا رجاء لفلاح من لا يجتنب هذه الارجاس. قوله تعالى: " إنما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر إلى آخر الاية " قال الراغب في المفردات: العدو التجاوز ومنافاة الالتئام فتارة يعتبر بالقلب فيقال له: العداوة والمعاداة، وتارة بالمشى فيقال له: العدو، وتارة في الاخلال بالعدالة في المعاملة فيقال له: العدوان والعدو قال: " فيسبوا الله عدوا بغير علم " وتارة بأجزاء المقر فيقال له: العدواء يقال: مكان ذو عدواء أي غير متلائم الاجزاء فمن المعاداة يقال: رجل عدو وقوم عدو قال: " بعضكم لبعض عدو " وقد يجمع على عدى (بالكسر فالفتح) واعداء قال: " ويوم يحشر اعداء الله "، انتهى. والبغض والبغضاء خلاف الحب، والصد الصرف، والانتهاء قبول النهى وخلاف الابتداء. ثم إن الاية - كما تقدم - مسوقة بيانا لقوله: " من عمل الشيطان " أو لقوله: " رجس من عمل الشيطان " أي إن حقيقة كون هذه الامور من عمل الشيطان أو رجسا من عمل الشيطان ان الشيطان لا بغية له ولا غاية في الخمر والميسر - اللذين قيل: إنهما رجسان من عمله فقط - إلا ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء بتجاوز حدودكم وبغض بعضكم بعضا، وان يصرفكم عن ذكر الله وعن الصلاة في هذه الامور جميعا اعني الخمر والميسر والانصاب والازلام. وقصر إيقاع العداوة والبغضاء في الخمر والميسر لكونهما من آثارهما الظاهرة، اما الخمر فلان شربها تهيج سلسلة الاعصاب تهيجا يخمر العقل ويستظهر العواصف العصبية، فإن وقعت في طريق الغضب جوزت للسكران أي جناية فرضت وإن عظمت ما عظمت، وفظعت ما فظعت مما لا يستبيحه حتى السباع الضارية، وإن وقعت
[ 123 ]
في طريق الشهوة والبهيمية زينت للانسان أي شناعة وفجور في نفسه أو ماله أو عرضه
وكل ما يحترمه ويقدسه من نواميس الدين وحدود المجتمع وغير ذلك من سرقة أو خيانة أو هتك محرم أو إفشاء سر أو ورود فيما فيه هلاك الانسانية، وقد دل الاحصاء على أن للخمر السهم الاوفر من أنواع الجنايات الحادثة وفي أقسام الفجورات الفظيعة في المجتمعات التى دار فيها شربها. وأما الميسر وهو القمار فإنه يبطل في أيسر زمان مسعاة الانسان التى صرفها في اقتناء المال والثروة والوجاهة في أزمنة طويلة فيذهب به المال وربما تبعه العرض والنفس والجاه فإن تقمر وغلب وأحرز المال أداه ذلك إلى إبطال السير المعتدل في الحياة والتوسع في الملاهي والفجور، والكسل والتبطؤ عن الاشتغال بالمكسب واقتناء مواد الحياة من طرقها المشروعة، وإن كان هو المغلوب أداه فقدان المال وخيبة السعي إلى العداوة والبغضاء لقميره الغالب، والحسرة والحنق. وهذه المفاسد وإن كانت لا تظهر للاذهان الساذجة البسيطة ذاك الظهور في النادر القليل والمرة والمرتين لكن النادر يدعو إلى الغالب، والقليل يهدى إلى الكثير والمرة تجر إلى المرات ولا تلبث إن لم تمنع من رأس أن تشيع في الملا، وتسرى إلى المجتمع فتعود بلوى همجية لا حكومة فيها إلا للعواطف الطاغية والاهواء المردية. فتبين من جميع ما تقدم أن الحصر في قوله: " إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة " راجع إلى مجموع المعدودات من حيث المجموع غير أن الصد عن ذكر الله وعن الصلاة من شأن الجميع، والعداوة والبغضاء يختصان بالخمر والميسر بحسب الطبع. وفي إفراز الصلاة عن الذكر في قوله تعالى: " ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، مع كون الصلاة من أفراد الذكر دلالة على مزيد الاهتمام بأمرها لكونها فردا كاملا من الذكر، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه قال: الصلاة عمود الدين، ودلالة القرآن الكريم في آيات كثيرة جدا على الاهتمام بأمر الصلاة بما لا مزيد عليه مما لا يتطرق
إليه ش ك وفيها مثل قوله تعالى: " قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون " (إلى آخر الايات) " المؤمنون: 2)، وقوله تعالى: " والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين " (الاعراف: 170)، وقوله تعالى: " إن
[ 124 ]
الانسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا، إلا المصلين " الايات (المعارج: 22)، وقوله: " اتل ما أوحى اليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر " (العنكبوت: 45)، وقال تعالى: " فاسعوا إلى ذكر الله " (الجمعة: 9)، يريد به الصلاة وقال: " وأقم الصلاة لذكرى " (طه: 14)، إلى غير ذلك من الايات. وقد ذكر سبحانه أولا ذكره وقدمه على الصلاة لانها هي البغية الوحيدة من الدعوة الالهية، وهو الروح الحية في جثمان العبودية، والخميرة لسعادة الدنيا والاخرة، يدل على ذلك قوله تعالى لادم أول يوم شرع فيه الدين: " قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى " (طه: 124)، وقوله تعالى: " ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل، قالوا سبحانك ما كان ينبغى لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا " (الفرقان: 18)، وقوله تعالى: " فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم " (النجم: 30). فالذكر في الايات إنما هو ما يقابل نسيان جانب الربوبية المستتبع لنسيان العبودية وهو السلوك الدينى الذى لا سبيل إلى إسعاد النفس بدونه قال تعالى: " ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأأنساهم أنفسهم " (الحشر: 19). وأما قوله تعالى: " فهل أنتم منتهون " فهو استفهام توبيخي فيه دلالة ما على أن
المسلمين لم يكونوا ينتهون عن المناهى السابقة على هذا النهى، والاية أعنى قوله: " إنما يريد الشيطان أن يوقع، الخ " كالتفسير يفسر بها قوله: " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " أي إن النفع الذى فرض فيهما مع الاثم ليس بحيث يمكن أن يفرز أحيانا من الاثم أو من الاثم الغالب عليه كالكذب الذى فيه إثم ونفع، وربما افرز نفعه من إثمه كالكذب لمصلحة إصلاح ذات البين. وذلك لمكان الحصر في قوله: " إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء، الخ " بعد قوله: " رجس من عمل الشيطان فالمعنى أنها لا تقع إلا رجسا
[ 125 ]
من عمل الشيطان، وأن الشيطان لا يريد بها إلا إيقاع العداوة والبغضاء بينكم في الخمر والميسر وصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فلا يصاب لها مورد يخلص فيه النفع عن الاثم حتى تباح فيه، فافهم ذلك. قوله تعالى: " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا، إلى آخر الاية " تأكيد للامر السابق باجتناب هذه الارجاس أولا بالامر بطاعة الله سبحانه وبيده أمر التشريع، وثانيا بالامر بطاعة الرسول واليه الاجراء، وثالثا بالتحذير صريحا. ثم في قوله: " فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين " تأكيد فيه معنى التهديد وخاصة لاشتماله على قوله: " فاعلموا " فإن فيه تلويحا إلى أنكم إن توليتم واقترفتم هذه المعاصي فكأنكم ظننتم أنكم كابرتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نهيه عنها وغلبتموه، وقد جهلتم أو نسيتم أنه رسول من قبلنا ليس له من الامر شئ إلا بلاغ مبين لما يوحى إليه ويؤمر بتبليغه، وإنما نازعتم ربكم في ربوبيته. وقد تقدم في أول الكلام أن الايات تشتمل على فنون من التأكيد في تحريم هذه الامور، وهى الابتداء بقوله: " يا أيها الذين آمنوا، ثم الاتيان بكلمة الحصر، ثم التوصيف بالرجس، ثم نسبتها إلى عمل الشيطان، ثم الامر بالاجتناب صريحا، ثم رجاء
الفلاح في الاجتناب، ثم ذكر مفاسدها العامة من العداوة والبغضاء والصرف عن ذكر الله وعن الصلاة، ثم التوبيخ على عدم انتهائهم، ثم الامر بطاعة الله ورسوله والتحذير عن المخالفة، ثم التهديد على تقدير التولى بعد البلاغ المبين. قوله تعالى: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " إلى آخر الاية الطعم والطعام هو التغذى، ويستعمل في المأكول دون المشروب، وهو في لسان المدنيين البر خاصة، وربما جاء بمعنى الذوق، ويستعمل حينئذ بمعنى الشرب كما يستعمل بمعنى الاكل قال تعالى: " فمن شرب منه فليس منى ومن لم يطعمه فإنه منى " (البقرة: 249)، وفي بعض الروايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه قال في ماء زمزم: أنه طعام طعم وشفاء سقم. والاية لا تصلح بسياقها إلا أن تتصل بالايات السابقة فتكون دفع دخل تتعرض لحال المؤمنين ممن ابتلى بشرب الخمر قبل نزول التحريم أو قبل نزول هذه الايات، وذلك أن قوله فيها: " فيما طعموا " مطلق غير مقيد بشئ مما يصلح لتقييده، والاية
[ 126 ]
مسوقة لرفع الحظر عن هذا الطعام المطلق، وقد قيد رفع الحظر بقوله: " إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقواو أحسنوا " والمتيقن من معنى هذا القيد - وقد ذكر فيه التقوى ثلاث مرات - هو التقوى الشديد الذى هو حق التقوى. فنفى الجناح للمؤمنين المتقين عن مطلق ما طعموا (الطعام المحلل) إن كان لغرض إثبات المفهوم في غيرهم أي إثبات مطلق المنع لغير أهل التقوى من سائر المؤمنين والكفار ناقضه أمثال قوله تعالى: " قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة " (الاعراف: 32)، على أن من المعلوم من مذاق هذا الدين أنه لا يمنع أحدا عن الطيبات المحللة التى تضطر الفطرة إلى استباحتها في الحياة. وإن لم تكن الاية مسوقة لتحريمه على غير من ذكر عاد المعنى إلى مثل قولنا:
يجوز الطعام للذين آمنواو عملوا الصالحات بشرط أن يتقوا ثم يتقوا، ثم يتقوا، ومن المعلوم أن الجواز لا يختص بالذين آمنوا وعملوا الصالحات بل يعمهم وغيرهم، وعلى تقدير اختصاصه بهم لا يشترط فيه هذا الشرط الشديد. ولا يخلو عن أحد هذين الاشكالين جميع ما ذكروه في توجيه الاية بناء على حمل قوله: " فيما طعموا " على مطلق الطعام المحلل فإن المعنى الذى ذكروه لا يخرج عن حدود قولنا: لا جناح على الذين آمنوا وعملوا الصالحات إذا اتقوا المحرمات أن يطعموا المحللات، ولا يسلم هذا المعنى عن أحد الاشكالين كما هو واضح. وذكر بعضهم: أن في الاية حذفا، والتقدير: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا وغيره إذا ما اتقوا المحارم، وفيه أنه تقدير من غير دليل مع بقاء المحذور على حاله. وذكر بعضهم: أن الايمان والعمل الصالح جميعا ليس بشرط حقيقي بل المراد بيان وجوب اتقاء المحارم فشرك معه الايمان والعمل الصالح للدلالة على وجوبه، وفيه أن ظاهر الاية أنها مسوقة لنفى الجناح فيما طعموا، ولا شرط له من إيمان أو عمل صالح أو اتقاء محارم على ما تقدم، وما أبعد المعنى الذى ذكره عن ظاهر الاية. وذكر بعضهم: أن المؤمن يصح أن يطلق عليه أنه لا جناح عليه، والكافر
[ 127 ]
مستحق للعقاب فلا يصح أن يطلق عليه هذا اللفظ، وفيه أنه لا يصح تخصيص المؤمنين بالذكر فليكن مثل قوله تعالى: " قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق " (الاعراف: 32)، وقوله: " قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا " (الانعام: 145) حيث لم يذكر في الخطاب مؤمن ولا كافر، أو مثل قوله: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى - إلى قوله - إن أكرمكم عند الله أتقاكم " (الحجرات: 13) حيث وجه
الخطاب إلى الناس الشامل للمؤمن والكافر. وذكر بعضهم: أن الكافر قد سد على نفسه طريق معرفة التحريم والتحليل فلذلك خص المؤمن بالذكر، وفيه ما في سابقه من الاشكال مع أنه لا يرفع الاشكال الناشئ من قوله: " إذا ما اتقوا " (إلخ). فالذي ينبغى أن يقال: إن الاية في معنى الايات السابقة عليها على ما هو ظاهر اتصالها بها، وهى متعرضة لحال من ابتلى من المسلمين بشرب الخمر وطعمها، أو بالطعم لشئ منها أو مما اقتناه بالميسر أو من ذبيحة الانصاب كأنهم سألوا بعد نزول التحريم الصريح عن حال من ابتلى بشرب الخمر، أو بها وبغيرها مما ذكره الله تعالى في الاية قبل نزول التحريم من إخوانهم الماضين أو الباقين المسلمين لله سبحانه في حكمه. فاجيب عن سؤالهم ان ليس عليهم جناح إن كانوا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات إن كانوا جارين على صراط التقوى بالايمان بالله والعمل الصالح ثم الايمان بكل حكم نازل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم الاحسان بالعمل على طبق الحكم النازل. وبذلك يتبين أن المراد بالموصول في قوله: " فيما طعموا " هو الخمر من حيث شربها أو جميع ما ذكر من الخمر والميسر والانصاب والازلام من حيث ما يصح أن يتعلق بها من معنى الطعم، والمعنى: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما ذاقوه قبل نزول التحريم من خمر أو منها ومن غيرها من المحرمات المذكورة. وأما قوله: " إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا " فظاهر قوله: " إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات " أنه إعادة لنفس الموضوع المذكور في قوله: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح " للدلالة على
[ 128 ]
دخالة الوصف في الحكم الذى هو نفى الجناح كقوله تعالى: في خطاب المؤمنين: " ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الاخر " (البقرة: 232)، وهو شائع في اللسان.
وظاهر قوله: " ثم اتقوا وآمنوا " اعتبار الايمان بعد الايمان، وليس إلا الايمان التفصيلي بكل حكم حكم مما جاء به الرسول من عند ربه من غير رد وامتناع، ولازمه التسليم للرسول فيما يأمر به وينهى عنه قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله " (الحديد: 28)، وقال تعالى: " وما أرسلنا من رسول الا ليطاع بإذن الله - إلى ان قال - فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " (النساء: 65)، والايات في هذا المعنى كثيرة. وظاهر قوله: " ثم اتقوا وأحسنوا " إضافة الاحسان إلى الايمان بعد الايمان اعتبارا، والاحسان هو إتيان العمل على وجه حسنه من غير نية فاسدة كما قال تعالى: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا " (الكهف: 30)، وقال: " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقو أجر عظيم " (آل عمران: 172)، أي يكون استجابتهم ابتغاء لوجه الله وتسليما لامره لا لغرض آخر، ومن الاحسان ما يتعدى إلى الغير، وهو ان يوصل إلى الغير ما يستحسنه، قال تعالى: " وبالوالدين إحسانا " (البقرة: 83)، وقال: " واحسن كما احسن الله اليك " (القصص: 77). والمناسب لمورد الاية هو المعنى الاول من معنيى الاحسان، وهو إتيان الفعل على جهة حسنه فإن التقوى الدينى لا يوفى حقه بمجرد الايمان بالله وتصديق حقية دينه ما لم يؤمن تفصيلا بكل واحد واحد من الاحكام المشرعة في الدين فإن رد الواحد منها رد لاصل الدين، ولا أن الايمان التفصيلي بكل واحد واحد يوفى به حق التقوى ما لم يحسن بالعمل بها و في العمل بها بأن يجرى على ما يقتضيه الحكم من فعل أو ترك، ويكون هذا الجرى ناشئا من الانقياد والاتباع لا عن نية نفاقية فمن الواجب على المتزود بزاد التقوى أن يؤمن بالله ويعمل صالحا، وان يؤمن برسوله في جميع ما جاء
به، وان يجرى في جميع ذلك على نهج الاتباع والاحسان. وأما تكرار التقوى ثلاث مرات، وتقييد المراتب الثلاث جميعا به فهو لتأكيد
[ 129 ]
الاشارة إلى وجوب مقارنة المراتب جميعا للتقوى الواقعي من غير غرض آخر غير دينى، وقد مر في بعض المباحث السابقة أن التقوى ليس مقاما خاصا دينيا بل هو حالة روحية تجامع جميع المقامات المعنوية أي أن لكل مقام معنوى تقوى خاصا يختص به. فتلخص من جميع ما مر ان المراد بالاية أعنى قوله: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " إلى آخر الاية، أنه لا جناح على الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيما ذاقوه من خمر أو غيره من المحرمات المعدودة بشرط أن يكونوا ملازمين للتقوى في جميع أطوارهم ومتلبسين بالايمان بالله ورسوله، ومحسنين في أعمالهم عاملين بالواجبات وتاركين لكل محرم نهوا عنه فإن اتفق لهم أن ابتلوا بشئ من الرجس الذى هو من عمل الشيطان قبل نزول التحريم أو قبل وصوله إليهم أو قبل تفقههم به لم يضرهم ذلك شيئا. وهذا نظير قوله تعالى في آيات تحويل القبلة في جواب سؤالهم عن حال الصلوات التى صلوها إلى غير الكعبة: " وما كان الله ليضيع إيمانكم " (البقرة: 143). وسياق هذا الكلام شاهد آخر على كون هذه الاية: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح، الخ " متصلة بما قبلها من الايات وانها نازلة مع تلك الايات التى لسانها يشهد انها آخر الايات المحرمة للخمر نزولا، وان بعض المسلمين كما يشعر به لسان الايات - على ما استفدناه آنفا - لم يكونوا منتهين عن شربها ما بين الايات السابقة المحرمة وبين هذه الايات. ثم وقع السؤال بعد نزول هذه الايات عن حال من ابتلى بذلك وفيهم من ابتلى به قبل نزول التحريم، ومن ابتلى به قبل التفقه، ومن ابتلى به لغير عذر فاجيبوا بما يتعين
به لكل طائفة حكم مسألته بحسب خصوص حاله، فمن طعمها وهو على حال الايمان والاحسان، ولا يكون إلا من ذاقها من المؤمنين قبل نزول التحريم أو جهلا به فليس عليه جناح، ومن ذاقها على غير النعت فحكمه غير هذا الحكم. وللمفسرين في الاية أابحاث طويلة، منهاما يرجع إلى قوله: " فيما طعموا " وقد تقدم خلاصة الكلام في ذلك.
[ 130 ]
ومنها ما يرجع إلى ذيل الاية من حيث تكرر التقوى فيه ثلاث مرات، وتكرر الايمان وتكرر العمل الصالح وختمها بالاحسان. فقيل: إن المراد بقوله: " إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات " اتقوا المحرم وثبتوا على الايمان والاعمال الصالحة، وبقوله: " ثم اتقوا وآمنوا " ثم اتقوا ما حرم عليهم بعد كالخمر وآمنوا بتحريمه، وبقوله: " ثم اتقوا و أحسنوا " ثم استمروا وثبتوا على اتقاء المعاصي واشتغلوا بالاعمال الجميلة. وقيل: إن هذا التكرار باعتبار الحالات الثلاث: استعمال الانسان التقوى و الايمان بينه وبين نفسه، وبينه وبين الناس، وبينه وبين الله تعالى، والاحسان على هذا هو الاحسان إلى الناس ظاهرا. وقيل: إن التكرار باعتبار المراتب الثلاث: المبدأ والوسط والمنتهى، وهو حق التقوى. وقيل: التكرار باعتبار ما يتقى فإنه ينبغى أن تترك المحرمات توقيا من العقاب، والشبهات تحرزا عن الوقوع في الحرام، وبعض المباحات تحفظا للنفس عن الخسة، وتهذيبا عن دنس الطبيعة. وقيل: إن الاتقاء الاول اتقاء عن شرب الخمر والايمان الاول هو الايمان بالله، والاتقاء الثاني هو إدامة الاتقاء الاول والايمان الثاني إدامة الايمان الاول، والاتقاء
الثالث هو فعل الفرائض، والاحسان فعل النوافل. وقيل: إن الاتقاء الاول اتقاء المعاصي العقلية، والايمان الاول هو الايمان بالله وبقبح هذه المعاصي، والاتقاء الثاني اتقاء المعاصي السمعية والايمان الثاني هو الايمان بوجوب اجتناب هذه المعاصي، والاتقاء الثالث يختص بمظالم العباد وما يتعلق بالغير من الظلم والفساد، والمراد بالاحسان الاحسان إلى الناس. وقيل: إن الشرط الاول يختص بالماضي، والشرط الثاني بالدوام على ذلك والاستمرار على فعله، والشرط الثالث يختص بمظالم العباد، إلى غير ذلك من أقوالهم وجميع ما ذكروه مما لا دليل عليه من لفظ الاية أو غيرها يوجب حمل الاية عليه، وهو ظاهر بالتأمل في سياق القول فيها والرجوع إلى ما قدمناه.
[ 131 ]
(بحث روائي) في تفسير العياشي عن هشام بن سالم عن أبى عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: بينا حمزة بن عبد المطلب وأصحاب له على شراب لهم يقال له السكركة. قال: فتذاكروا الشريف فقال لهم حمزة: كيف لنا به ؟ فقالوا: هذه ناقة ابن أخيك على، فخرج إليها فنحرها ثم أخذ كبدها وسنامها فأدخل عليهم، قال: وأقبل على عليه السلام فأبصر ناقته فدخله من ذلك، فقالوا له: عمك حمزة صنع هذا، قال: فذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فشكا ذلك إليه. قال: فأقبل معه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقيل لحمزة: هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالباب، قال: فخرج حمزة وهو مغضب فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الغضب في وجهه انصرف قال: فقال له حمزة:: لو أراد ابن أبى طالب أن يقودك بزمام فعل، فدخل حمزة منزله وانصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال: وكان قبل أحد، قال: فأنزل الله تحريم الخمر فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بآنيتهم فاكفئت، قال: فنودى في الناس بالخروج إلى أحد فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وخرج الناس وخرج حمزة فوقف ناحية من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: فلما تصافحوا حمل في الناس حتى غيب فيهم ثم رجع إلى موقفه، فقال له الناس: الله الله يا عم رسول الله أن تذهب وفي نفس رسول الله عليك شئ، قال ثم حمل الثانية حتى غيب في الناس ثم رجع إلى موقفه فقالوا له: الله الله يا عم رسول الله أن تذهب وفي نفس رسول الله عليك شئ -. فأقبل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما رآه نحوه أقبل مقبلا إليه فعانقه وقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بين عينيه ثم قال: احمل على الناس فاستشهد حمزة، وكفنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تمرة. ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: نحو من سرياني هذا، فكان إذا غطى وجهه انكشف رجلاه وإذا غطى رجلاه انكشف وجهه قال: فغطى بها وجهه، وجعل على رجليه اذخر. قال فانهزم الناس وبقى على عليه السلام فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما صنعت ؟ قال:
[ 132 ]
يا رسول الله لزمت الارض فقال: ذلك الظن بك، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنجز لى يا رب ما وعدتني فإنك إن شئت لم تعبد. وعن الزمخشري في ربيع الابرار قال: أنزل في الخمر ثلاث آيات: " يسألونك عن الخمر والميسر " فكان المسلمون بين شارب وتارك إلى أن شربها رجل فدخل في صلاته فهجر فنزل: " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " فشربها من شربها من المسلمين حتى شربها عمر فأخذ لحى بعير فشج رأس عبد الرحمن بن عوف، ثم قعد ينوح على قتلى بدر بشعر الاسود بن يغفر: وكاين بالقليب قليب بدر * من القنيات والشرب الكرام وكاين بالقليب قليب بدر * من السرى المكامل بالسنام أيوعدنا ابن كبشة أن نحيى * وكيف حياة أصداء وهام
أيعجز أن يرد الموت عنى * وينشرنى إذا بليت عظامي ألا من مبلغ الرحمن عنى * بأنى تارك شهر الصيام فقل لله: يمنعنى شرابي * وقل لله: يمنعنى طعامي فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرج مغضبا يجر رداءه فرفع شيئا كان في يده ليضربه، فقال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله فأنزل الله سبحانه وتعالى: " إنما يريد الشيطان - إلى قوله - فهل أنتم منتهون " فقال عمر: انتهينا. وفي الدر المنثور: أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والنحاس في ناسخه عن سعد بن أبى وقاص قال: في نزل تحريم الخمر، صنع رجل من الانصار طعاما فدعانا فأتاه ناس فأكلوا وشربوا حتى انتشوا من الخمر، وذلك قبل أن تحرم الخمر فتفاخروا فقالت الانصار: الانصار: خير، وقالت قريش: قريش خير فأهوى رجل بلحى جزور فضرب على أنفى ففزره - فكان سعد مفزور الانف - قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له فنزلت هذه الاية: " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر، إلى آخر الاية ". اقول: والروايات في القصص التى أعقبت تحريم الخمر في الاسلام كثيرة من طرق الجمهور على ما فيها من الاختلاف الشديد.
[ 133 ]
أما هؤلاء الذين ذكر منهم الشرب من الصحابة فلا شأن لنا في البحث عنهم فيما نحن بصدده من البحث المرتبط بالتفسير غير أن هذه الروايات تؤيد ما ذكرناه في البيان السابق: أن في الايات إشعارا أو دلالة على ان رهطا من المسلمين ما تركوا شرب الخمر بعد نزول آية البقرة حتى نزلت آية المائدة. نعم ورد في بعض الروايات أن عليا عليه السلام وعثمان بن مظعون كانا قد حرما الخمر على أنفسهما قبل نزول التحريم، وقد ذكر في الملل والنحل رجالا من العرب حرموا
الخمر على أنفسهم في الجاهلية، وقد وفق الله سبحانه بعض هؤلاء ان أدرك الاسلام ودخل فيه، منهم عامر بن الظرب العدواني، ومنهم قيس بن عامر التميمي وقد أدرك الاسلام، ومنهم صفوان بن امية بن محرث الكنانى وعفيف بن معدى كرب الكندى والاسلوم اليامى وقد حرم الزنا والخمر معا، وهؤلاء آحاد من الرجال جرى كلمة الحق على لسانهم، وأما عامتهم في الجاهلية كعامة أهل الدنيا يومئذ إلا اليهود فقد كانوا يعتادون شربها من غير بأس حتى حرمها الله سبحانه في كتابه. والذى تفيده آيات الكتاب العزيز أنها حرمت في مكة قبل الهجرة كما يدل عليه قوله تعالى: " قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغى " (الاعراف: 33) والاية مكية، وإذا انضمت إلى قوله تعالى: " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " (البقرة: 219)، وهى آية مدنية نازلة في أوائل الهجرة لم يبق شك في ظهور حرمتها للمسلمين يومئذ، وإذا تدبرنا في سياق آيات المائدة، وخاصة فيما يفيده قوله: " فهل أنتم منتهون " وقوله: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا، الاية " انكشف أن ما ابتلى به رهط منهم من شربها فيما بين نزول آية البقرة وآية المائدة إنما كان كالذنابة لسابق العادة السيئة نظير ما كان من النكاح في ليلة الصيام عصيانا حتى نزل قوله تعالى: " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم " (البقرة: 187). فقد تبين أن في هذه الروايات كلاما من وجهين: احدهما: من جهة اختلافها في تاريخ تحريم الخمر فقد مر في الرواية الاولى أنها
[ 134 ]
قبيل غزوة أحد وفي بعض الروايات: ان ذلك بعد غزوة الاحزاب (1) لكن الامر في ذلك سهل في الجملة لامكان حملها على كون المراد بتحريم الخمر فيها نزول آية المائدة
وإن لم يوافقه لفظ بعض الروايات كل الموافقة. وثانيهما: من جهة دلالتها على أن الخمر لم تكن بمحرمة قبل نزول آية المائدة أو انها لم تظهر حرمتها قبلئذ للناس وخاصة للصحابة مع صراحة آية الاعراف المحرمة للاثم وآية البقرة المصرحة بكونها إثما، وهى صراحة لا تقبل تأويلا. بل من المستبعد جدا أن تنزل حرمة الاثم بمكة قبل الهجرة في آية تتضمن جمل المحرمات أعنى قوله: " قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغى بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وان تقولوا على الله ما لا تعلمون " (الاعراف: 33) ثم يمر عليه زمان غير يسير، ولا يستفسر المؤمنون معناه من نبيهم ولا يستوضحه المشركون وأكبر همهم النقض والاعتراض على كتاب الله مهما توهموا إليه سبيلا. بل المستفاد من التاريخ أن تحريم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للخمر كتحريمه الشرك والزنا كان معروفا عند المشركين يدل على ذلك ما رواه ابن هشام في السيرة عن خلاد بن قرة وغيره من مشائخ بكر بن وائل من أهل العلم: أن أعشى بنى قيس خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الاسلام فقال يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا * وبت كما بات السليم مسهدا (القصيدة) فلما كان بمكة أو قريبا منها اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنه جاء يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم فقال له: " يا أبا بصير إنه يحرم الزنا فقال الاعشى: والله إن ذلك لامر ما لى فيه من إرب، فقال له: يا أبا بصير فإنه يحرم الخمر فقال الاعشى: أما هذه فإن في النفس منها لعلالات، ولكني منصرف فأتروى منها عامى هذا ثم آتيه فاسلم فانصرف فمات في عامه ذلك ولم يعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) روى ذلك الطبري في تفسيره، والسيوطي في الدر المنثور عنخخ وعن ابن المنذر عن قتادة. (*)
[ 135 ]
فلا يبقى لهذه لروايات إلا ان تحمل على استفادتهم ذلك باجتهادهم في الايات مع الذهول عن آية الاعراف، وللمفسرين في تقريب معنى هذه الروايات توجيهات غريبة (1). وبعد اللتيا والتى فالكتاب نص في تحريم الخمر في الاسلام قبل الهجرة، ولم تنزل آية المائدة إلا تشديدا على الناس لتساهلهم في الانتهاء عن هذا النهى الالهى وإقامة حكم الحرمة. وفي تفسير العياشي: عن هشام عن الثقة رفعه عن أبى عبد الله عليه السلام: أنه قيل له: روى عنكم: ان الخمر والانصاب والازلام رجال ؟ فقال: ما كان ليخاطب الله خلقه بما لا يعقلون. وفيه: عن عبد الله بن سنان عن أبى عبد الله عليه السلام قال: أتى عمر بن الخطاب بقدامة بن مظعون وقد شرب الخمر وقامت عليه البينة فسأل عليا فأمره أن يجلده ثمانين جلدة، فقال قدامة: يا أمير المؤمنين ليس على حد أنا من أهل هذه الاية: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات - جناح فيما طعموا فقرأ الاية حتى استتمها فقال له على عليه السلام: كذبت لست من أهل هذه الاية ما طعم أهلها فهو حلال لهم، وليس يأكلون ولا يشربون إلا ما يحل لهم. اقول: وروى هذا المعنى أيضا عن أبى الربيع عنه عليه السلام، ورواه أيضا الشيخ في التهذيب بإسناده عن ابن سنان عنه عليه السلام، وهذا المعنى مروى من طرق أهل السنة أيضا. وقوله عليه السلام [ ما طعم أهلها فهو حلال لهم، الخ ] منطبق على ما قررناه في البيان السابق من معنى الاية فراجع. وفي تفسير الطبري عن الشعبى قال: نزلت في الخمر أربع آيات: " يسألونك عن
الخمر والميسر، الاية " فتركوها ثم نزلت: " تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا " فشربوها ثم نزلت الايتان في المائدة: " إنما الخمر والميسر - إلى قوله - فهل أنتم منتهون ".
(1) حتى ذكر بعضهم: أن الصحابة كانوا يتأولون آية البقرة: " قل فيهما إثم " مع تصريح القرآن بحرمة الاثم قبل ذلك في آية الاعراف، بان المراد به الاثم الخالص. (*)
[ 136 ]
أقول: ظاهره نسخ آية النحل لاية البقرة ثم نسخ آيتى المائدة لاية النحل، وأنت لا تحتاج في القضاء على بطلانه إلى بيان زائد. وفي الكافي والتهذيب بإسنادهما عن أبى جعفر عليه السلام قال: ما بعث الله نبيا قط إلا وفي علم الله أنه إذا أكمل دينه كان فيه تحريم الخمر، ولم يزل الخمر حراما وإنما ينقلون من خصلة ثم خصلة، ولو حمل ذلك جملة عليهم لقطع بهم دون الدين، قال: وقال أبو جعفر عليه السلام: ليس أحد أرفق من الله تعالى فمن رفقه تبارك وتعالى أنه ينقلهم من خصلة إلى خصلة ولو حمل عليهم جملة لهلكوا. وفي الكافي بإسناده عن عمرو بن شمر عن أبى جعفر عليه السلام قال: لما أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه " قيل: يا رسول الله ما الميسر ؟ قال: كلما تقمرت به حتى الكعاب والجوز، قيل فما الانصاب ؟ قال: ما ذبحوا لالهتهم قيل: فما الازلام ؟ قال: قداحهم التى يستقسمون بها. وفيه: بإسناده عن عطاء بن يسار عن أبى جعفر عليه السلام: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كل مسكر حرام، وكل مسكر خمر. اقول: والرواية مروية من طرق أهل السنة أيضا عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولفظها: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام رواها البيهقى وغيره، وقد استفاضت الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام بأن كل مسكر حرام، وأن كلما يقامر عليه فهو ميسر.
وفي تفسير العياشي: عن أبى الصباح عن أبى عبد الله عليه السلام: قال: سألته عن النبيذ والخمر بمنزلة واحدة هما ؟ قال: لا، إن النبيذ ليس بمنزلة الخمر، إن الله حرم الخمر قليلها وكثيرها كما حرم الميتة والدم ولحم الخنزير، وحرم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الاشربة المسكر، وما حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد حرم الله. وفي الكافي والتهذيب بإسنادهما عن موسى بن جعفر عليه السلام قال: إن الله لم يحرم الخمر لاثمها ولكن حرمها لعاقبتها، فما كان عاقبتها عاقبة الخمر فهو خمر، وفي رواية: فما فعل فعل الخمر فهو خمر.
[ 137 ]
اقول: والاخبار في ذم الخمر والميسر من طرق الفريقين فوق حد الاحصاء من أراد الوقوف عليها فعليه بجوامع الحديث. * * * يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم - 94. يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام - 95. أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذى إليه تحشرون - 96. جعل الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدى والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم مافى السموات وما في الارض وأن الله بكل شئ
عليم - 97. إعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم - 98. ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون - 99. (بيان) الايات في بيان حكم صيد البر والبحر في حال الاحرام.
[ 138 ]
قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم ورماحكم " البلاء هو الامتحان والاختبار، ولام القسم والنون المشددة للتأكيد، وقوله: بشئ من الصيد يفيد التحقير ليكون تلقينه للمخاطبين عونا لهم على انتهائهم إلى ما سيواجههم من النهى في الاية الاتية، وقوله: " تناله أيديكم ورماحكم " تعميم للصيد من حيث سهولة الاصطياد كما في فراخ الطير وصغار الوحش والبيض تنالها الايدى فتصطاد بسهولة، ومن حيث صعوبة الاصطياد ككبار الوحش لا تصطاد عادة إلا بالسلاح. وظاهر الاية أنها مسوقة كالتوطئة لما ينزل من الحكم المشدد في الاية التالية، ولذلك عقب الكلام بقوله: " ليعلم الله من يخافه بالغيب " فإن فيه إشعارا بأن هناك حكما من قبيل المنع والتحريم ثم عقبه بقوله: " فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ". قوله تعالى: " ليعلم الله من يخافه بالغيب لا يبعد أن يكون قوله: ليبلونكم الله ليعلم كذا كناية عن أنه سيقدر كذا ليتميز منكم من يخاف الله بالغيب عمن لا يخافه لان الله سبحانه لا يجوز عليه الجهل حتى يرفعه بالعلم، وقد تقدم البحث المستوفى عن معنى الامتحان في تفسير قوله تعالى: " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، الاية " (آل عمران: 142) في الجزء الرابع من هذا الكتاب، وتقدم أيضا معنى آخر لهذا العلم. وأما قوله: " من يخافه بالغيب " فالظرف متعلق بالخوف، ومعنى الخوف بالغيب أن يخاف الانسان ربه ويحترز ما ينذره به من عذاب الاخرة وأليم عقابه، وكل ذلك في غيب من الانسان لا يشاهد شيئا منه بظاهر مشاعره، قال تعالى: " إنما تنذر من اتبع الذكر وخشى الرحمن بالغيب " (يس: 11)، وقال: " وأزلفت الجنة للمتقين
غير بعيد، هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ، من خشى الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب " (ق: 33)، وقال: " الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون " (الانبياء: 49). وقوله: " فمن اعتدى بعد ذلك " أي تجاوز الحد الذى يحده الله بعد البلاء المذكور فله عذاب أليم. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم " (الخ)، الحرم بضمتين جمع الحرام صفة مشبهة، قال في المجمع: ورجل حرام ومحرم بمعنى، وحلال
[ 139 ]
ومحل كذلك، وأحرم الرجل دخل في الشهر الحرام، وأحرم أيضا دخل في الحرم، وأحرم أهل بالحج، والحرم الاحرام، ومنه الحديث: كنت أطيب النبي لحرمه، وأصل الباب المنع، وسميت النساء حرما لانها تمنع، والمحروم الممنوع الرزق. قال: والمثل والمثل والشبه والشبه واحد، قال: والنعم في اللغة الابل والبقر والغنم، وإن انفردت الابل قيل لها: نعم، وإن انفردت البقر والغنم لم تسم نعما ذكره الزجاج. قال: قال الفراء: العدل بفتح العين ما عادل الشئ من غير جنسه، والعدل بالكسر المثل تقول: عندي عدل (بالكسر) غلامك أو شاتك إذا كانت شاة تعدل شاة أو غلام يعدل غلاما فإذا أردت قيمته من غير جنسه فتحت وقلت: عدل، وقال البصريون: العدل والعدل في معنى المثل كان من الجنس أو غير الجنس. قال: والوبال ثقل الشئ في المكروه، ومنه قولهم: طعام وبيل وماء وبيل إذا كانا ثقيلين غير ناميين في المال، ومنه: " فأخذناه أخذا وبيلا " أي ثقيلا شديدا، ويقال لخشبة القصار: وبيل من هذا، انتهى. وقوله: " لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم " نهى عن قتل الصيد لكن يفسره بعض
التفسير قوله بعد: " أحل لكم صيد البحر " هذا من جهة الصيد، ويفسره من جهة معنى القتل قوله: " ومن قتله منكم متعمدا فجزاء " (إلخ)، فقوله: " متعمدا " حال من قوله: " من قتله " وظاهر التعمد ما يقابل الخطأ الذى هو القتل من غير أن يريد بفعله ذلك كمن يرمى إلى هدف فأصاب صيدا، ولازمه وجوب الكفارة إذا كان قاصدا لقتل الصيد سواء كان على ذكر من إحرامه أو ناسيا أو ساهيا. وقوله: " فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة " لظاهر معناه: فعليه جزاء ذلك الجزاء مثل ما قتل من الصيد، وذلك الجزاء من النعم المماثلة لما قتله يحكم به أي بذلك الجزاء المماثل رجلان منكم ذوا عدل في الدين حال كون الجزاء المذكور هديا يهدى به بالغ الكعبة ينحر أو يذبح في الحرم بمكة أو بمنى على ما يبينه السنة النبوية. فقوله: " جزاء " بالرفع مبتدأ لخبر محذوف يدل عليه الكلام، وقوله: " مثل
[ 140 ]
ما قتل " وقوله: " من النعم " وقوله: " يحكم به " (إلخ) أوصاف للجزاء، وقوله: " هديا بالغ الكعبة " موصوف وصفة، والهدى حال من الجزاء تقدم، هذا، وقد قيل: غير ذلك. وقوله: " أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما " خصلتان اخريان من خصال كفارة قتل الصيد، وكلمة " أو " لا يدل على أزيد من مطلق الترديد، والشارح السنة، غير أن قوله: " أو كفارة " حيث سمى طعام المساكين كفارة ثم اعتبر ما يعادل الطعام من الصيام لا يخلو من إشعار بالترتيب بين الخصال. وقوله: " ليذوق وبال أمره " اللام للغاية، وهى ومدخولها متعلق بقوله: " فجزاء " فالكلام يدل على أن ذلك نوع مجازاة. قوله تعالى: " عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه، إلى آخر الاية " تعلق
العفو بما سلف قرينه على أن المراد بما سلف هو ما تحقق من قتل الصيد قبل نزول الحكم بنزول الاية فإن تعلق العفو بما يتحقق حين نزول الاية أو بعده يناقض جعل الحكم وهو ظاهر، فالجملة لدفع توهم شمول حكم الكفارة للحوادث السابقة على زمان النزول. والاية من الدليل على جواز تعلق العفو بما ليس بمعصية من الافعال إذا كان من طبعها اقتضاء النهى المولوي لاشتمالها على المفسدة، وأما قوله: " ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام " فظاهر العود تكرر الفعل، وهذا التكرر ليس تكرر ما سلف من الفعل بأن يكون المعنى: ومن عاد إلى مثل ما سلف منه من الفعل فينتقم الله منه لانه حينئذ ينطبق على الفعل الذى يتعلق به الحكم في قوله: " ومن قتله منكم متعمدا فجزاء " (الخ)، ويكون المراد بالانتقام هو الحكم بالكفارة، وهو حكم ثابت بالفعل لكن ظاهر قوله: " فينتقم الله منه " أنه إخبار عن أمر مستقبل لا عن حكم حال فعلى. وهذا شاهد على أن المراد بالعود العود ثانيا إلى فعل تعلق به الكفارة، والمراد بالانتقام العذاب الالهى غير الكفارة المجعولة. وعلى هذا فالاية بصدرها وذيلها تتعرض لجهات مسألة قتل الصيد، أما ما وقع منه قبل نزول الحكم فقد عفا الله عنه، وأما بعد جعل الحكم فمن قتله فعليه جزاء
[ 141 ]
مثل ما قتل في المرة الاولى فإن عاد فينتقم الله منه ولا كفارة عليه، وعلى هذا يدل معظم الاخبار المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في تفسير الاية. ولو لا هذا المعنى كان كالمتعين حمل الانتقام في قوله: " فينتقم الله منه " على ما يعم الحكم بوجوب الكفارة، وحمل العود على فعل ما يماثل ما سلف منهم من قتل الصيد أي ومن عاد إلى مثل ما كانوا عليه من قتل الصيد قبل هذا الحكم، أي ومن قتل الصيد فينتقم الله منه أي يؤاخذه بإيجاب الكفارة، وهذا - كما ترى - معنى بعيد
من اللفظ. قوله تعالى: " أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم و للسيارة " إلى آخر الاية، الايات في مقام بيان حكم الاصطياد من بحر أو بر، وهو الشاهد على أن متعلق الحل هو الاصطياد في قوله: " أحل لكم صيد البحر " دون أكله، وبهذه القرينة يتعين قوله: " وطعامه " في أن المراد به ما يؤكل دون المعنى المصدرى الذى هو الاكل والمراد بحل طعام البحر حل أكله فمحصل المراد من حل صيد البحر وطعامه جواز اصطياد حيوان البحر وحل أكل ما يؤخذ منه. وما يؤخذ من طعام البحر وإن كان أعم مما يؤخذ منه صيدا كالعتيق من لحم الصيد أو ما قذفته البحر من ميتة حيوان ونحوه إلا أن الوارد من أخبار أئمة أهل البيت عليهم السلام تفسيره بالمملوح ونحوه من عتيق الصيد، وقوله: " متاعا لكم وللسيارة " كأنه حال من صيد البحر وطعامه، وفيه شئ من معنى الامتنان. وحيث كان الخطاب للمؤمنين من حيث كونهم محرمين كانت المقابلة بينهم وبين السيارة في قوة قولنا: متاعا للمحرمين وغيرهم. واعلم أن في الايات أبحاثا فرعية كثيرة معنونة في الكتب الفقهية من أرادها فليراجعها. قوله تعالى: " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدى والقلائد " ظاهر تعليق الكلام بالكعبة ثم بيانه بالبيت بأنه بيت حرام، وكذا توصيف الشهر بالحرام ثم ذكر الهدى والقلائد اللذين يرتبط شأنهما بحرمة البيت، كل ذلك يدل على أن الملاك فيما يبين الله سبحانه في هذه الاية من الامر إنما هو الحرمة.
[ 142 ]
والقيام ما يقوم به الشئ، قال الراغب: والقيام والقوام اسم لما يقوم به الشئ أي يثبت كالعماد والسناد لما يعمد ويسند به كقوله: " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى
جعل الله لكم قياما " أي جعلها مما يمسككم، وقوله: " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس " أي قواما لهم يقوم به معاشهم ومعادهم، قال الاصم: قائما لا ينسخ، وقرئ: قيما بمعنى قياما، انتهى. فيرجع معنى قوله: " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس " إلى أنه تعالى جعل الكعبة بيتا حراما احترمه، وجعل بعض الشهور حراما، ووصل بينهما حكما كالحج في ذى الحجة الحرام وجعل هناك امورا تناسب الحرمة كالهدى والقلائد كل ذلك لتعتمد عليه حياة الناس الاجتماعية السعيدة. فإنه جعل البيت الحرام قبلة يوجه إليه الناس وجوههم في صلواتهم ويوجهون إليه ذبائحهم وأمواتهم، ويحترمونه في سيئ حالاتهم، فيتوحد بذلك جمعهم، ويجتمع به شملهم، ويحيى ويدوم به دينهم، ويحجون إليه من مختلف الاقطار وأقاصى الافاق فيشهدون منافع لهم، ويسلكون به طرق العبودية. ويهدى باسمه وبذكره والنظر إليه والتقرب به والتوجه إليه العالمون، وقد بينه الله تعالى بوجه آخر قريب من هذا الوجه بقوله: " إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا وهدى للعالمين " (آل عمران: 96)، وقد وافاك في الاية في الجزء الثالث من هذا الكتاب من الكلام ما يتنور به المقام. ونظير ذلك الكلام في كون الشهر الحرام قياما للناس وقد حرم الله فيه القتال، وجعل الناس فيه في أمن من حيث دمائهم وأعراضهم وأموالهم، ويصلحون فيه ما فسد أو اختل من شؤون حياتهم، والشهر الحرام بين الشهور كالموقف والمحط الذى يستريح فيه المتطرق التعبان، وبالجملة البيت الحرام والشهر الحرام وما يتعلق بذلك من هدى وقلائد قيام للناس من عامة جهات معاشهم ومعادهم، ولو استقرا المفكر المتأمل جزئيات ما ينتفع به الناس انتفاعا جاريا أو ثابتا من بركات البيت العتيق والشهر الحرام من صلة الارحام، ومواصلة الاصدقاء، وإنفاق الفقراء، واسترباح الاسواق، وموادة
الاقرباء والادانى، ومعارفة الاجانب والاباعد، وتقارب القلوب، وتطهر الارواح،
[ 143 ]
واشتداد القوى، واعتضاد الملة، وحياة الدين، وارتفاع أعلام الحق، ورايات التوحيد أصاب بركات جمة ورأى عجبا. وكان المراد من ذكر هذه الحقيقة عقيب الايات الناهية عن الصيد هو دفع ما يتوهم أن هذه أحكام عديمة أو قليلة الجدوى، فأى فائدة لتحريم الصيد في مكان من الامكنة أو زمان من الازمنة ؟ وأى جدوى في سوق الهدى ونحو ذلك ؟ وهل هذه الاحكام إلا مشاكلة لما يوجد من النواميس الخرافية بين الامم الجاهلة الهمجية. فاجيب عن ذلك بأن اعتبار البيت الحرام والشهر الحرام وما يتبعهما من الحكم مبنى على حقيقة علمية وأساس جدى وهو أنها قيام يقوم به صلب حياتهم. ومن هنا يظهر وجه اتصال قوله: " ذلك لتعلموا، إلى آخر الاية " بما قبله، والمشار إليه بقوله: " ذلك " إما نفس الحكم المبين في الايات السابقة الذى يوضح حكمة تشريعه قوله: " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس " (الخ)، وإما بيان الحكم الموضح بقوله: " جعل الله الكعبة " (الخ)، المدلول عليه بالمقام. والمعنى على التقدير الاول أن الله جعل البيت الحرام والشهر الحرام قياما للناس ووضع ما يناسبهما من الاحكام لينتقلوا من حفظ حرمتهما والعمل بالاحكام المشرعة فيهما إلى أن الله عليم بما في السماوات والارض وما يصلح شؤونها، فشرع ما شرع لكم عن علم من غير أن يكون شئ من ذلك حكما خرافيا صادرا عن جهالة الوهم. والمعنى على التقدير الثاني أنا بينا لكم هذه الحقيقة وهى جعل البيت الحرام والشهر الحرام وما يتبعهما من الاحكام قياما للناس لتعلموا أن الله عليم بما في السماوات والارض وما يتبعها من الاحكام المصلحة لشؤونها فلا تتوهموا أن هذه الاحكام المشرعة لاغية من غير جدوى أو أنها خرافات مختلقة.
قوله تعالى: " اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم، إلى آخر الايتين " تأكيد للبيان وتثبيت لموقع الاحكام المذكورة، ووعيد ووعد للمطيعين والعاصين، وفيه شائبة تهديد، ولذلك قدم توصيفه بشدة العقاب على توصيفه بالمغفرة والرحمة ولذلك أيضا أعقب الكلام بقوله: " ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما يسرون وما يعلنون ".
[ 144 ]
(بحث روائي) في الكافي: بإسناده عن حماد بن عيسى وابن أبى عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبى عبد الله عليه السلام: في قول الله عزوجل: " ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم ورماحكم "، قال: حشرت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عمرة الحديبية الوحوش حتى نالتها أيديهم ورماحهم. أقول: ورواه العياشي عن معاوية بن عمار مرسلا، وروى هذا المعنى أيضا الكليني في الكافي والشيخ في التهذيب بإسنادهما إلى الحلبي عن الصادق عليه السلام، والعياشي عن سماعة عنه عليه السلام مرسلا، وكذا القمى في تفسيره مرسلا، وروى ذلك عن مقاتل بن حيان كما يأتي. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبى حاتم عن مقاتل بن حيان قال: أنزلت هذه الاية في عمرة الحديبية فكانت الوحوش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط فيما خلا، فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون ليعلم الله من يخافه بالغيب. اقول: والروايتان لا تنافيان ما قدمناه في البيان السابق من عموم معنى الاية. وفي الكافي مسندا عن أحمد بن محمد رفعه في قوله تبارك وتعالى: " تناله يديكم ورماحكم " قال: ما تناله الايدى البيض والفراخ، وما تناله الرماح فهو ما لا تصل إليه الايدى.
وفي تفسير العياشي بإسناده عن حريز، عن إبى عبد الله عليه السلام قال: إذا قتل الرجل المحرم حمامة ففيها شاة فإإن قتل فرخا ففيه جمل، فن وطأإ بيضة فكسرها فعليه درهم، كل هذا يتصدق بمكة ومنى، وهو قول الله في كتابه: " ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم " البيض والفراخ " ورماحكم " الامهات الكبار. اقول: ورواه الشيخ في التهذيب عن حريزعنه عليه السلام مقتصرا على الشطر الاخير من الحديث. وفي التهذيب بإسناده عن ابن أبى عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبى عبد الله عليه السلام قال: المحرم إذا قتل الصيد فعليه جزاؤه ويتصدق بالصيد على مسكين، فإن
[ 145 ]
عاد فقتل صيدا آخر لم يكن عليه جزاء وينتقم الله منه، والنقمة في الاخرة. وفيه: عن الكليني، عن ابن أبى عمير، عن بعض أصحابه عن أبى عبد الله عليه السلام قال: إذا أصاب المحرم الصيد خطأ فعليه كفارة، فإن أصابة ثانية متعمدا فهو ممن ينتقم الله منه، ولم يكن عليه كفارة. وفيه: عن ابن أبى عمير، عن معاوية بن عمار قال: قلت لابي عبد الله: محرم أصاب صيدا ؟ قال: عليه كفارة قلت: فإن هو عاد ؟ قال عليه كلما عاد كفارة. أقول: الروايات - كما ترى - مختلفة، وقد جمع الشيخ بينها بأن المراد أن المحرم إذا قتل متعمدا فعليه كفارة وإن عاد متعمدا فلا كفارة عليه، وهو ممن ينتقم الله منه، وأما الناسي فكلما عاد فعليه كفارة. وفيه: بإسناده عن زرارة عن أبى جعفر عليه السلام في قول الله عزوجل: " يحكم به ذوا عدل منكم " فالعدل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والامام من بعده يحكم به وهو ذو عدل فإذا علمت ما حكم الله به من رسول الله والامام فحسبك ولا تسأل عنه. أقول: وفي هذا المعنى عدة روايات، وفي بعضها: تلوت عند أبى عبد الله عليه السلام:
" ذوا عدل منكم " فقال: ذو عدل منكم، هذا مما أخطأت به الكتاب، وهو يرجع إلى القراءة كما هو ظاهر. وفي الكافي عن الزهري عن على بن الحسين قال: صوم جزاء الصيد واجب قال الله عزوجل: " ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ". أو تدرى كيف يكون عدل ذلك صياما يا زهرى ؟ قال: قلت: لا أدرى، قال: يقوم الصيد ثم تفض تلك القيمة على البر ثم يكال ذلك البر أصواعا فيصوم لكل نصف صاع يوما. وفيه بإسناده عن أحمد بن محمد، عن بعض رجاله، عن أبى عبد الله عليه السلام قال: من وجب عليه هدى في إحرامه فله أن ينحره حيث شاء إلا فداء الصيد فإن الله يقول:
[ 146 ]
" هديا بالغ الكعبة ". وفي تفسير العياشي عن حريز، عن أبى عبد الله عليه السلام قال: " أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم " قال: مالحه الذى يأكلون، وقال: فصل ما بينهما: كل طير يكون في الاجام يبيض في البر ويفرخ في البر من صيد البر، وما كان من الطير يكون في البر ويبيض في البحر ويفرخ فهو من صيد البحر. وفيه: عن زيد الشحام، عن أبى عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله: أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة " قال: هي حيتان المالح، وما تزودت منه أيضا وإن لم يكن مالحا فهو متاع. أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام من طرق الشيعة. وفي الدر المنثور: أخرج إبن أبى شيبة عن معاوية بن قرة، وأحمد عن رجل من
الانصار: أن رجلا أوطأ بعيره أدحى نعامة فكسر بيضها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليك بكل بيضة صوم يوم أو إطعام مسكين. أقول: وروى هذا المعنى أيضا عن ابن أبى شيبة، عن عبد الله بن ذكوان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه ايضا عنه عن أبى الزناد عن عائشة عنه صلى الله عليه وسلم. وفيه: أخرج أبو الشيخ وابن مردويه من طريق أبى المهزم عن النبي قال: في بيض النعام ثمنه. وفيه: أخرج ابن أبى حاتم عن أبى جعفر محمد بن على: أن رجلا سأل عليا عن الهدى مما هو ؟ قال: من الثمانية الازواج فكأن الرجل شك فقال على: تقرأ القرآن ؟ فكأن الرجل قال: نعم، قال فسمعت الله يقول: " يا أيها الذين آمنوا اوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الانعام " ؟ قال: نعم، قال: سمعته يقول: " ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الانعام، ومن الانعام حمولة وفرشا، فكلوا من بهيمة الانعام " ؟ قال: نعم. قال: فسمعته يقول: " من الضأن اثنين ومن المعز اثنين، ومن الابل اثنين ومن
[ 147 ]
البقر اثنين " ؟ قال: نعم، قال: فسمعته يقول: " يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم - إلى قوله - هديا بالغ الكعبة " ؟ قال الرجل: نعم. فقال: إن قتلت ظبيا فما على ؟ قال: شاة، قال على: هديا بالغ الكعبة ؟ قال الرجل: نعم فقال على: قد سماه الله بالغ الكعبة كما تسمع. وفيه: أخرج ابن أبى حاتم عن عطاء الخراساني أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب وابن عباس وزيد بن ثابت ومعاوية قضوا فيما كان من هدى مما يقتل المحرم من صيد فيه جزاء نظر إلى قيمة ذلك فاطعم به المساكين. وفيه: أخرج ابن جرير عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احل لكم
صيد البحر وطعامه متاعا لكم قال: ما لفظه ميتا فهو طعامه. اقول: وروى ما في معناه عن بعض الصحابة أيضا لكن المروى من طرق أهل البيت عنهم عليهم السلام خلافه كما تقدم. وفي تفسير العياشي عن أبان بن تغلب قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس " قال: جعل الله لدينهم ومعايشهم. اقول: وقد تقدم توضيح معنى الرواية. * * * قل لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولى الالباب لعلكم تفلحون - 100. (بيان) الاية كأنها مستقلة مفردة لعدم ظهور اتصالها بما قبلها وارتباط ما بعدها بها فلا حاجة إلى التمحل في بيان اتصالها بما قبلها، وإنما تشتمل على مثل كلى ضربه الله سبحانه لبيان خاصة يختص بها الدين الحق من بين سائر الاديان والسير الغامة الدائرة، وهى أن
[ 148 ]
الاعتبار بالحق وإن كان قليلا أهله وشاردة فئته، والركون إلى الخير والسعادة وإن أعرض عنه الاكثرون ونسيه الاقوون، فإن الحق لا يعتمد في نواميسه إلا على العقل السليم، وحاشا العقل السليم أن يهدى إلا إلى صلاح المجتمع الانساني فيما يشد أزره من أحكام الحياة وسبل المعيشة الطيبة سواء وافق أهواء الاكثرين أو خالف، وكثيرا ما يخالف، فهو ذا النظام الكونى وهو محتد الاراء الحقة لا يتبع شيئا من أهوائهم، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والارض. قوله تعالى: " قل لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث " كأن المراد بعدم استواء الخبيث والطيب أن الطيب خير من الخبيث، وهو أمر بين فيكون
الكلام مسوقا للكناية، وذلك أن الطيب بحسب طبعه وبقضاء من الفطرة أعلى درجة وأسمى منزلة من الخبيث، فلو فرض انعكاس الامر وصيرورة الخبيث خيرا من الطيب لعارض يعرضه كان من الواجب أن يتدرج الخبيث في الرقى والصعود حتى يصل إلى حد يحاذي الطيب في منزلته ويساويه ثم يتجاوزه فيفوقه فإذا نفى استواء الخبيث والطيب كان ذلك أبلغ في نفى خيرية الخبيث من الطيب. ومن هنا يظهر وجه تقديم الخبيث على الطيب، فإن الكلام مسوق لبيان أن كثرة الخبيث لا تصيره خيرا من الطيب، وإنما يكون ذلك بارتفاع الخبيث من حضيض الرداءة والخسة إلى أوج الكرامة والعزة حتى يساوى الطيب في مكانته ثم يعلو عليه ولو قيل: لا يستوى الطيب والخبيث كانت العناية الكلامية متعلقة ببيان أن الطيب لا يكون أردى وأخس من الخبيث، وكان من الواجب حينئذ أن يذكر بعده أمر قلة الطيب مكان كثرة الخبيث فافهم ذلك. والطيب والخباثة على ما لهما من المعنى وصفان حقيقيان لاشياء حقيقية خارجية كالطعام الطيب أو الخبيث والارض الطيبة أو الخبيثة قال تعالى: " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذى خبث لا يخرج إلا نكدا " (الاعراف: 58)، وقال تعال: " والطيبات من الرزق " (الاعراف: 32)، وإن اطلق الطيب والخباثة أحيانا على شئ من الصفات الوضعية الاعتبارية كالحكم الطيب أو الخبيث والخلق الطيب أو الخبيث فإنما ذلك بنوع من العناية. هذا ولكن تفريع قوله: " فاتقوا الله يا أولى الالباب لعلكم تفلحون " على
[ 149 ]
قوله: " لا يستوى الخبيث والطيب، الخ " والتقوى من قبيل الافعال أو التروك، وطيبها وخباثتها عنائية مجازية، وإرسال الكلام أعنى قوله: " لا يستوى، الخ " إرسال المسلمات أقوى شاهد على أن المراد بالطيب والخباثة إنما هو الخارجي الحقيقي منهما
فيكون الحجة ناجحة، ولو كان المراد هو الطيب والخبيث من الاعمال والسير لم يتضح ذاك الاتضاح فكل طائفة ترى أن طريقتها هي الطريقة الطيبة، وما يخالف اهواءها ويعارض مشيئتها هو الخبيث. فالقول مبنى على معنى آخر بينه الله سبحانه في مواضع من كلامه، وهو ان الدين مبنى على الفطرة والخلقة، وان ما يدعو إليه الدين هو الطيب من الحياة، وما ينهى عنه هو الخبيث، وان الله لم يحل إلا الطيبات ولم يحرم إلا الخبائث قال تعالى: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " (الروم: 30)، وقال: " ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث " (الاعراف: 157). وقال: " قل من حرم زينة الله التى اخرج لعباده والطيبات من الرزق " (الاعراف: 32). فقد تحصل أن الكلام أعنى قوله: " لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث "، مثل مضروب لبيان أن قواعد الدين ركبت على صفات تكوينية في الاشياء من طيب أو خباثة مؤثرة في سبيل السعادة والشقاوة الانسانيتين، ولا يؤثر فيها قلة ولا كثرة فالطيب طيب وإن كان قليلا، والخبيث خبيث وإن كان كثيرا. فمن الواجب على كل ذى لب يميز الخبيث من الطيب، ويقضى بأن الطيب خير من الخبيث، وأن من الواجب على الانسان أن يجتهد في إسعاد حياته، ويختار الخير على الشر أن يتقى الله ربه بسلوك سبيله، ولا يغتر بانكباب الكثيرين من الناس على خبائث الاعمال ومهلكات الاخلاق والاحوال، ولا يصرفه الاهواء عن اتباع الحق بتوليه أو تهويل لعله يفلح بركوب السعادة الانسانية. قوله تعالى: " فاتقوا الله يا أولى الالباب لعلكم تفلحون " تفريع على المثل المضروب في صدر الاية، ومحصل المعنى أن التقوى لما كان متعلقه الشرائع الالهية التى تبتنى هي أيضا على طيبات وخبائث تكوينية في رعاية أمرها سعادة الانسان وفلاحه
[ 150 ]
على ما لا يرتاب في ذلك ذو لب وعقل فيجب عليكم يا اولى الالباب أن تتقوا الله بالعمل بشرائعه لعلكم تفلحون. * * * يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم - 101. قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين - 102. (بيان) الايتان غير ظاهرتى الارتباط بما قبلهما، ومضمونهما غنى عن الاتصال بشئ من الكلام يبين منهما ما لا تستقلان بإفادته فلا حاجة إلى ما تجشمه جمع من المفسرين في توجيه اتصالهما تارة بما قبلهما، واخرى بأول السورة، وثالثة بالغرض من السورة فالصفح عن ذلك كله أولى. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " (الاية) الابداء الاظهار، وساءه كذا خلاف سره. والاية تنهى المؤمنين عن أن يسألوا عن أشياء إن تبد لهم تسؤهم، وقد سكتت أولا عن المسؤول من هو ؟ غير أن قوله بعد: " وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم "، وكذا قوله في الاية التالية: " قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين " يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقصود بالسؤال مسؤول بمعنى أن الاية سيقت للنهى عن سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أشياء من شأنها كيت وكيت، وإن كانت العلة المستفادة من الاية الموجبة للنهى تفيد شمول النهى لغير مورد الغرض وهو أن يسأل الانسان ويفحص عن كل ما عفاه العفو الالهى، وضرب دون الاطلاع عليه بالاسباب العادية والطرق
[ 151 ]
المألوفة سترا فإن في الاطلاع على حقيقة مثل هذه الامور مظنة الهلاك والشقاء كمن تفحص عن يوم وفاته أو سبب هلاكه أو عمر أحبته وأعزته أو زوال ملكه وعزته، وربما كان ما يطلع عليه هو السبب الذى يخترمه بالفناء أو يهدده بالشقاء. فنظام الحياة الذى نظمه الله سبحانه ووضعه جاريا في الكون فأبدا أشياء وحجب أشياء لم يظهر ما أظهره إلا لحكمة، ولم يخف ما أخفاه إلا لحكمة أي إن التسبب إلى خفاء ما ظهر منها والتوسل إلى ظهور ما خفى منها يورث اختلال النظام المبسوط على الكون كالحياة الانسانية المبنية على نظام بدنى مؤلف من قوى وأعضاء وأركان لو نقص واحد منها أو زيد شئ عليها أوجب ذلك فقدان أجزاء هامة من الحياة ثم يعتبر ذلك مجرى القوى والاعضاء الباقية، وربما أدى ذلك إلى بطلان الحياة بحقيقتها أو معناها. ثم إن الاية أبهمت ثانيا أمر هذه الاشياء التى نهت عن السؤال عنها، ولم توضح من أمرها إلا أنها بحيث إن تبد لهم تسؤهم (الخ)، ومما لا يرتاب فيه أن قوله: " إن تبد لكم تسؤكم " نعت للاشياء، وهى جملة شرطية تدل على تحقق وقوع الجزاء على تقدير وقوع الشرط، ولازمه أن تكون هذه أشياء تسؤهم إن أبدئت لهم فطلب إبدائها وإظهارها بالمسألة طلب للمساءة. فيستشكل بأن الانسان العاقل لا يطلب مايسؤه، ولو قيل: لا تسألوا عن أشياء فيها ما إن تبد لكم تسؤكم، أو لا تسألوا عن أشياء لا تأمنون أن تسوءكم إن تبد لكم لم يلزم محذور. ومن عجيب ما أجيب به عن الاشكال: أن من المقرر في قوانين العربية أن شرط " إن " مما لا يقطع بوقوعه، والجزاء تابع للشرط في الوقوع وعدمه فكان التعبير بقوله " إن تبد لكم تسؤكم " دون " إذا أبديت لكم تسؤكم " دالا على أن احتمال إبدائها وكونها تسوء كاف في وجوب الانتهاء عن السؤال عنها، انتهى موضع الحاجة.
وقد أخطأ في ذلك، وليت شعرى أي قانون من قوانين العربية يقرر أن يكون الشرط غير مقطوع الوقوع ؟ ثم الجزاء بما هو جزاء متعلق الوجود بالشرط غير مقطوع الوقوع ؟ وهل يفيد قولنا: إن جئتني أكرمتك إلا القطع بوقوع الاكرام على تقدير وقوع المجئ ؟ فقوله: إن التعبير بالشرط يدل على أن احتمال إبدائها وكونه يسوء كاف
[ 152 ]
في وجوب الانتهاء، انتهى. إنما يصح لو كان مفاد الشرط في الاية هو النهى عن السؤال عن أشياء يمكن أن تسوء إن أبدئت وليس كذلك كما عرفت بل المفاد النهى عن السؤال أشياء يقطع بمساءتها إن أبدئت، فالاشكال على حاله. ويتلو هذا الجواب في الضعف قول بعضهم - على ما في بعض الروايات: إن المراد بقوله: " أشياء إن تبد لكم تسؤكم " ما ربما يهواه بعض النفوس من الاطلاع على بعض المغيبات كالاجال وعواقب الامور وجريان الخير والشر والكشف عن كل مستور مما لا يخلو العلم به طبعا من أن يتضمن ما يسوء الانسان ويحزنه كسؤال الرجل عن باقى عمره، وسبب موته، وحسن عاقبته، وعن أبيه من هو ؟ وقد كان دائرا بينهم في الجاهلية. فالمراد بقوله: " لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " هو النهى عن السؤال عن هذه الامور التى لا يخلو انكشاف الحال فيها غالبا أن يشتمل على ما يسوء الانسان ويحزنه كظهور أن الاجل قريب، أو أن العاقبة وخيمة، أو أن أباه في الواقع غير من يدعى إليه. فهذه امور يتضمن غالبا مساءة الانسان وحزنه، ولا يؤمن من أن يجاب إذا سئل عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما لا يرتضيه السائل فيدعوه الاستكبار النفساني وأنفة العصبية أن يكذب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يجيب به فيكفر بذلك كما يشير إليه قوله تعالى في الاية التالية: " قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ".
وهذا الوجه وإن كان سليما في بادئ النظر لكنه لا يلائم قوله تعالى: " وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبدلكم " سواء قلنا: إن مفاده تجويز السؤال عن هذه الاشياء حين نزول القرآن، أو تشديد النهى عنه حين نزول القرآن بالدلالة على أن المجيب - وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم - في غير حال نزول القرآن في سعة من أن لا يجيب عن هذه الاسئلة رعاية لمصلحة السائلين، لكنها أعنى الاشياء المسؤول عنها مكشوفة الحقيقة مرفوع عنها الحجاب لا محالة فلا تسألوا عنها حين ينزل القرآن البتة. أما عدم ملاءمته على المعنى الاول فلان السؤال عن هذه الاشياء لما اشتمل على المفسدة بحسب طبعه فلا معنى لتجويزه حال نزول القرآن، والمفسدة هي المفسدة. وأما على المعنى الثاني فلان حال نزول القرآن وإن كان حال البيان والكشف
[ 153 ]
عن ما يحتاج إلى الكشف والابداء غير أن هذه الخصيصة مرتبطة بحقائق المعارف وشرائع الاحكام وما يجرى مجراها، وأما تعيين أجل زيد وكيفية وفاة عمرو، وتشخيص من هو أبو فلان ؟ ونحو ذلك فهى مما لا يرتبط به البيان القرآني، فلا وجه لتذييل النهى عن السؤال عن أشياء كذا وكذا بنحو قوله: " وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم " وهو ظاهر. فالاوجه في الجواب ما يستفاد من كلام آخرين أن الاية الثانية: " قد سألها قوم من قبلكم، الخ " وكذا قوله: " وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبدلكم " تدل على أن المسؤول عنها أشياء مرتبطة بالاحكام المشرعة كالخصوصيات الراجعة إلى متعلقات الاحكام مما ربما يستقصى في البحث عنه والاصرار في المداقة عليه، ونتيجة ذلك ظهور التشديد ونزول التحريج كلما أمعن في السؤال وألح على البحث كما قصه الله سبحانه في قصة البقرة عن بنى إسرائيل حيث شدد الله سبحانه بالتضييق عليهم كلما بالغوا في السؤال عن نعوت البقرة التى أمروا بذبحها.
ثم إن قوله تعالى: " عفا الله عنها " الظاهر أنه جملة مستقلة مسوقة لتعليل النهى في قوله: " لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " لا كما ذكروه: أنه وصف لاشياء، وأن في الكلام تقديما وتأخيرا، والتقدير: لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم تسؤكم، " الخ ". وهذا التعبير - أعنى تعدية العفو بعن - أحسن شاهد على أن المراد بالاشياء المذكورة هي الامور الراجعة إلى الشرائع والاحكام، ولو كانت من قبيل الامور الكونية كان كالمتعين أن يقال: عفاها الله. وكيف كان فالتعليل بالعفو يفيد أن المراد بالاشياء هي الخصوصيات الراجعة إلى الاحكام والشرائع والقيود والشرائط العائدة إلى متعلقاتها، وأن السكوت عنها ليس لانها مغفول عنها أو مما اهمل أمرها بل لم يكن ذلك إلا تخفيفا من الله سبحانه لعباده وتسهيلا كما قال: " والله غفور حليم " فما يقترحونه من السؤال عن خصوصياته تعرض منهم للتضييق والتحريج وهو مما يسوؤهم ويحزنهم البتة فإن في ذلك ردا للعفو الالهى الذى لم يكن البتة إلا للتسهيل والتخفيف، وتحكيم صفتي المغفرة والحلم الالهيين. فيرجع مفاد قوله: " لا تسألوا عن أشياء، الخ " إلى نحو قولنا: يا أيها الذين
[ 154 ]
آمنوا لا تسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أشياء مسكوت عنها في الشريعة عفا الله عنها ولم يتعرض لبيانها تخفيفا وتسهيلا فإنها بحيث تبين لكم إن تسألوا عنها حين نزول القرآن، وتسوؤكم إن أبدئت لكم وبينت. وقد تبين مما مرأولا: أن قوله تعالى: " وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم " من تتمة النهى كما عرفت، لا لرفع النهى عن السؤال حين نزول القرآن كما ربما قيل. وثانيا: أن قوله تعالى: " عفا الله عنها " جملة مستقلة مسوقة لتعليل النهى عن السؤال فتفيد فائدة الوصف من غير أن يكون وصفا بحسب التركيب الكلامي.
وثالثا: وجه تذييل الكلام بقوله: " والله غفور حليم " مع كون الكلام مشتملا على النهى غير الملائم لصفتي المغفرة والحلم فالاسمان يعودان إلى مفاد العفو المذكور في قوله: " عفا الله عنها " دون النهى الموضوع في الاية. قوله تعالى: " قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين " يقال: سأله وسأل عنه بمعنى، و " ثم " يفيد التراخي بحسب الرتبة الكلامية دونه بحسب الزمان. والباء في قوله: " بها " متعلقة بقوله: " كافرين " على ما هو ظاهر الاية من كونها مسوقة للنهى عن السؤال عما يتعلق بقيود الاحكام والشرائع المسكوت عنها عند التشريع، فالكفر كفر بالاحكام من جهة استلزامها تحرج النفوس عنها وتضيق القلوب من قبولها، و يمكن أن تكون الباء للسببية ولا يخلو عن بعد. والاية وإن أبهمت القوم المذكورين ولم يعرفهم لكن في القرآن الكريم ما يمكن أن تنطبق عليه الاية من القصص كقصة المائدة من قصص النصارى وقصص اخرى من قوم موسى وغيرهم. (بحث روائي) في الدر المنثور: أخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبى هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس كتب الله عليكم الحج فقام عكاشة بن محصن الاسدي فقال: أفى كل عام يا رسول الله ؟ قال: أما إنى لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ثم تركتم لضللتم اسكتوا عنى ما سكت عنكم فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم
[ 155 ]
واختلافهم على أنبيائهم فأنزل الله: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألواعن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " إلى آخر الاية. اقول: وروى القصة عن أبى هريرة وأبى أمامة وغيرهما عدة من الرواة، ورويت في المجمع وغيره من كتب الخاصة، وهى تنطبق على ما قدمناه في البيان المتقدم. وفيه أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن السدى في قوله تعالى: " يا أيها الذين
آمنوا لا تسألوا عن أشياء، الاية " قال: غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الايام فقام خطيبا فقال: سلونى فإنكم لا تسألونى عن شئ إلا أنبأتكم به فقام إليه رجل من قريش من بنى سهم يقال له: عبد الله بن حذاقة - وكان يطعن فيه - فقال: يا رسول الله من أبى ؟ فقال: أبوك فلان فدعاه لابيه فقام إليه عمر فقبل رجله وقال: يا رسول الله رضينا بالله ربا ولك نبيا وبالقرآن إماما فاعف عنا عفا الله عنك فلم يزل به حتى رضى فيومئذ قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر، وأنزل عليه: " قد سألها قوم من قبلكم ". اقول: والرواية مروية بعدة طرق على اختلاف في متونها، وقد عرفت فيما تقدم أنها غير قابلة الانطباق على الاية. وفيه أيضا: أخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن ثعلبة الخشنى قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وترك أشياء في غير نسيان ولكن رحمة منه لكم فاقبلوها ولا تبحثوا عنها. وفي المجمع والصافى عن على عليه السلام قال: إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها وحد لكم حدودا فلا تعتدوها، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسيانا فلا تتكلفوها. وفي الكافي بإسناده عن أبى الجارود قال: قال أبو جعفر عليه السلام: إذا حدثتكم بشئ فاسألوني عنه من كتاب الله، ثم قال في بعض حديثه: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال فقيل له: يا ابن رسول الله أين هذا من كتاب الله ؟ قال: إن الله عزوجل يقول: " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو اصلاح بين الناس " وقال: " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما " وقال: " لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ".
[ 156 ]
وفي تفسير العياشي عن أحمد بن محمد قال: كتبت إلى أبى الحسن الرضا عليه السلام وكتب في آخره: أولم تنهوا عن كثرة المسائل ؟ فأبيتم أن تنتهوا، إياكم وذلك، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم فقال الله تبارك وتعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء - إلى قوله تعالى - كافرين ". * * * ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون - 103. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون - 104. (بيان) قوله تعالى: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام، هذه أصناف من الانعام كان أهل الجاهلية يرون لها أحكاما مبنية على الاحترام ونوع من التحرير، وقد نفى الله سبحانه أن يكون جعل من ذلك شيئا، فالجعل المنفى متعلق بأوصافها دون ذواتها فإن ذواتها مخلوقة لله سبحانه من غير شك، وكذلك أوصافها من جهة أنها أوصاف فحسب، وإنما الذى تقبل الاسناد إليه تعالى ونفيه هي أوصافها من جهة كونها مصادر لاحكام كانوا يدعونها لها فهى التى تقبل الاسناد ونفيه، فنفى جعل البحيرة وأخواتها في الاية نفى لمشروعية الاحكام المنتسبة إليها المعروفة عندهم. وهذه الاصناف الاربعة من الانعام وإن اختلفوا في معنى أسمائها ويتفرع عليه الاختلاف في تشخيص أحكامها كما ستقف عليه، لكن من المسلم أن أحكامها مبنية على نوع من تحريرها والاحترام لها برعاية حالها، ثلاثة منها وهى البحيرة والسائبة والحامي
[ 157 ]
من الابل، وواحدة وهى الوصيلة من الشاة.
أما البحيرة ففى المجمع: أنها الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن وكان آخرها ذكرا بحروا أأذنها (أي شقوها شقا واسعا) وامتنعوا عن ركوبها ونحرها، ولا تطرد عن ماء ولا تمنع عن مرعى، فإذا لقيها المعيى لم تركبها، عن الزجاج. وقيل: إنهم كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن نظروا في البطن الخامس فإن كان ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء جميعا، وإن كانت أنثى شقو أذنها فتلك البحيرة ثم لا يجز لها وبر، ولا يذكر لها اسم الله إن ذكيت، ولا حمل عليها، وحرم على النساء أن يذقن من لبنها شيئا، ولا أن ينتفعن بها، وكان لبنها و منافعها للرجال خاصة دون النساء حتى تموت فإذا ماتت اشتركت الرجال والنساء في أكلها، عن ابن عباس، وقيل " إن البحيرة بنت السائبة، عن محمد بن إسحاق. وأما السائبة ففى المجمع أنها ما كانوا يسيبونه فإن الرجل إذا نذر القدوم من سفر أو البرء من علة أو ما أشبه ذلك قال: ناقتي سائبة فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها، وإن لا تخلى عن ماء ولا تمنع من مرعى، عن الزجاج، وهو قول علقمة. وقيل: هي التى تسيب للاصنام أي تعتق لها، وكان الرجل يسيب من ماله ما يشاء فيجئ به إلى السدنة - وهم خدمة آلهتهم - فيطعمون من لبنها أبناء السبيل ونحو ذلك عن ابن عباس وابن مسعود. وقيل: إن السائبة هي الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس فيهن ذكر سيبت فلم تركبوها، ولم يجزوا وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف فما نتجت بعد ذلك من انثى شق اذنها ثم تخلى سبيلها مع امها، وهى البحيرة، عن محمد بن إسحاق. وأما الوصيلة ففى المجمع: وهى في الغنم، كانت الشاة إذا ولدت انثى فهى لهم، وإذا ولدت ذكرا جعلوه لالهتهم، فإن ولدت ذكرا وانثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لالهتهم. عن الزجاج. وقيل: كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان السابع جديا ذبحوه لالهتهم
ولحمه للرجال دون النساء، وإن كان عناقا، استحيوها وكانت من عرض الغنم، وإن
[ 158 ]
ولدت في البطن السابع جديا وعناقا قالوا: إن الاخت وصلت أخاها لحرمته علينا فحرما جميعا فكانت المنفعة واللبن للرجال دون النساء، عن ابن مسعود ومقاتل. وقيل: الوصيلة الشاة إذا تأمت عشر إناث في خمسة أبطن ليس فيها ذكر جعلت وصيلة فقالوا: قد وصلت فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور دون الاناث، عن محمد بن إسحاق. وأما الحامى ففى المجمع: هو الذكر من الابل كانت العرب إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا من مرعى، عن ابن عباس وابن مسعود، وهو قول أبى عبيدة والزجاج. وقيل: إنه الفحل إذا لقح ولد ولده قيل: حمى ظهره فلا يركب، عن الفراء. وهذه الاسماء وإن اختلفوا في تفسيرها إلا أن من المحتمل قريبا أن يكون ذلك الاختلاف ناشئا من اختلاف سلائق الاقوام في سننهم، فإن أمثال ذلك كثيرة في السنن الدائرة بين الاقوام الهمجية. وكيف كان فالاية ناظرة إلى نفى الاحكام التى كانوا قد اختلقوها لهذه الاصناف الاربعة من الانعام، ناسبين ذلك إلى الله سبحانه بدليل قوله أولا: " ما جعل الله، إلخ " وثانيا: " ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب، إلخ ". ولذلك كان قوله: " ولكن الذين كفروا، إلخ " بمنزلة الجواب عن سؤال مقدر كأنه لما قيل: " ما جعل الله من بحيرة، إلخ " سئل فقيل: فما هذا الذى يدعيه هؤلاء الذين كفروا ؟ فاجيب بأنه افتراء منهم على الله الكذب ثم زيد في البيان فقيل: " وأكثرهم لا يعقلون " ومفاده أنهم مختلفون في هذا الافتراء فأكثرهم يفترون ما يفترون وهم لا يعقلون، والقليل من هؤلاء المفترين يعقلون الحق وأن ما ينسبونه إليه تعالى من الافتراء، وهم المتبوعون المطاعون لغيرهم المديرون لازمة امورهم فهم أهل عناد ولجاج.
قوله تعالى: " وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله، إلى آخر الاية " في حكاية دعوتهم إلى ما أنزل الله إلى الرسول الذى شأنه البلاغ، فقط فالدعوة دعوة إلى الحق وهو الصدق الخالى عن الفرية، والعلم المبرى من الجهل فإن الاية السابقة تجمع الافتراء وعدم التعقل في جانبهم فلا يبقى لما يدعون إليه - أعنى جانب الله سبحانه - إلا الصدق والعلم. لكنهم ما دفعوه إلا بالتقليد حيث قالوا: حسبنا وجدنا عليه آباءنا، والتقليد
[ 159 ]
وإن كان حقا في بعض الاحيان وعلى بعض الشروط وهو رجوع الجاهل إلى العالم، وهو مما استقر عليه سير المجتمع الانساني في جميع أحكام الحياة التى لا يتيسر فيها للانسان أن يحصل العلم بما يحتاج إلى سلوكه من الطريق الحيوى، لكن تقليد الجاهل في جهله بمعنى رجوع الجاهل إلى جاهل آخر مثله مذموم في سنة العقلاء كما يذم رجوع العالم إلى عالم آخر بترك ما يستقل بعمله من نفسه والاخذ بما يعلم غيره. ولذلك رده تعالى بقوله: " أولو كان آباؤهم لا يعلمون ولا يهتدون " ومفاده أن العقل - لو كان هناك عقل - لا يبيح للانسان الرجوع إلى من لا علم عنده ولا اهتداء فهذه سنة الحياة لا تبيح سلوك طريق لا تؤمن مخاطره، ولا يعلم وصفه لا بالاستقلال ولا باتباع من له به خبرة. ولعل إضافة قوله: " ولا يهتدون " إلى قوله: " لا يعلمون شيئا " لتتميم قيود الكلام بحسب الحقيقة، فإن رجوع الجاهل إلى مثله وإن كان مذموما لكنه إنما يذم إذا كان المسؤول المتبوع مثل السائل التابع في جهله لا يمتاز عنه بشئ، وأما إذا كان المتبوع نفسه يسلك الطريق بهداية عالم خبير به ودلالته فهو مهتد في سلوكه، ولا ذم على من اتبعه في مسيره وقلده في سلوك الطريق، فإن الامر ينتهى إلى العلم بالاخرة كمن يتبع عالما بأمر الطريق ثم يتبعه آخر جاهل به. ومن هنا يتضح أن قوله: " أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا " غير كاف في تمام
الحجة عليهم لاحتمال أن يكون آباءهم الذين اتبعوهم بالتقليد مهتدين بتقليد العلماء الهداة فلا يجرى فيهم حكم الذم، ولا تتم عليهم الحجة فدفع ذلك بأن آباءهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون، ولا مسوغ لاتباع من هذا حاله. ولما تحصل من الاية الاولى أعنى قوله: " ما جعل الله من بحيرة، إلخ " أنهم بين من لا يعقل شيئا وهم الاكثرون، ومن هو معاند مستكبر تحصل أنهم بمعزل من أهلية توجيه الخطاب وإلقاء الحجة ولذلك لم تلق إليهم الحجة في الاية الثانية بنحو التخاطب بل سيق الكلام على خطاب غيرهم والصفح عن مواجهتهم فقيل: " أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ". وقد تقدم في الجزء الاول من أجزاء هذا الكتاب بحث علمي أخلاقي في معنى
[ 160 ]
التقليد يمكنك أن تراجعه. ويتبين من الاية أن الرجوع إلى كتاب الله وإلى رسوله - وهو الرجوع إلى السنة - ليس من التقليد المذموم في شئ. (بحث روائي) في تفسير البرهان عن الصدوق بإسناده إلى محمد بن مسلم، عن أبى عبد الله عليه السلام: في قول الله عزوجل: " ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام " قال: إن أهل الجاهلية كانوا إذا ولدت الناقة ولدين في بطن واحد قالوا: وصلت، فلا يستحلون ذبحها ولا أكلها، وإذا ولدت عشرا جعلوها سائبة، ولا يستحلون ظهرها ولا أكلها، والحام فحل الابل لم يكونوا يستحلونه فأنزل الله: أنه لم يكن يحرم شيئا من ذلك. قال: ثم قال ابن بابويه: وقد روى: أن البحيرة الناقة إذا أنتجت خمسة أبطن وإن كان الخامس ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس انثى بحروا اذنها
أي شقوها وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها فإذا ماتت حلت للنساء، والسائبة البعير يسيب بنذر يكون على الرجل إن سلمه الله من مرض أو بلغه منزله أن يفعل ذلك. والوصيلة من الغنم، كانوا إذا ولدت شاة سبعة أبطن فكان السابع ذكرا ذبح فأكل منه الرجال والنساء، وإن كان انثى تركت في الغنم، وإن كان ذكرا وانثى قالوا: وصلت أخاها فلم تذبح وكان لحمها حراما على النساء إلا أن تموت منها شئ فيحل أكلها للرجال والنساء. والحام الفحل إذا ركب ولد ولده قالوا: قد حمى ظهره، قال: وقد يروى: أن الحام هو من الابل إذا أنتج عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يمنع من كلاء ولا ماء. أقول: ومن طرق الشيعة وأهل السنة روايات أخر في معاني هذه الاسماء: البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وقد مر شطر منها في الكلام المنقول عن الطبرسي في مجمع البيان في البيان المتقدم.
[ 161 ]
والمتيقن من معانيها - كما عرفت - أن هذه الاصناف من الانعام كانت في الجاهلية محررة نوعا من التحرير ذات أحكام مناسبة لذلك كحماية الظهر وحرمة أكل اللحم وعدم المنع من الماء والكلاء، وأن الوصيلة من الغنم والثلاثة الباقية من الابل. وفي المجمع: روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف كان قد ملك مكة، وكان أول من غير دين اسماعيل، واتخذ الاصنام ونصب الاوثان، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامى. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فلقد رأيته في النار يؤذى أهل النار ريح قصبه، ويروى يجر قصبه في النار. اقول: وروى في الدر المنثور هذا المعنى بعدة طرق عن ابن عباس وغيره.
وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنى لاعرف أول من سيب السوائب، ونصب النصب، وأول من غير دين إبراهيم، قالوا: من هو يا رسول الله ؟ قال: عمرو بن لحى أخو بنى كعب لقد رأيته يجر قصبه في النار يؤذى أهل النار ريح قصبه. وإنى لاعرف من نحر النحائر، قالوا: من هو يا رسول الله ؟ قال: رجل من بنى مدلج كانت له ناقتان فجذع آذانهما وحرم ألبانهما وظهورهما وقال: هاتان لله ثم احتاج إليهما فشرب ألبانهما وركب ظهورهما. قال: فلقد رأيته في النار، وهما يقصمانه بأفواههما ويطئانه بأخفافهما. وفيه: أخرج أحمد وعبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الاصول، وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقي في الاسماء والصفات، عن أبى الاحوص، عن أبيه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلقان من الثياب فقال لى: هل لك من مال ؟ قلت نعم، قال: من أي المال ؟ قلت: من كل المال: من الابل والغنم والخيل والرقيق قال: فإذا آتاك الله فلير عليك. ثم قال: تنتج إبلك رافية آذانها ؟ قلت: نعم وهل تنتج الابل إلا كذلك ؟
[ 162 ]
قال: فلعلك تأخذ موسى فتقطع آذان طائفة منها، وتقول: هذه بحر، وتشق آذان طائفة منها وتقول: هذه الصرم ؟ قلت: نعم، قال: فلا تفعل إن كل ما آتاك الله لك حل، ثم قال: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام. * * * يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون - 105. (بيان)
الاية تأمر المؤمنين أن يلزموا أنفسهم، ويلازموا سبيل هدايتهم ولا يوحشهم ضلال من ضل من الناس فإن الله سبحانه هو المرجع الحاكم على الجميع حسب أعمالهم، والكلام مع ذلك لا يخلو عن غور عميق. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " لفظة " عليكم " اسم فعل بمعنى ألزموا، و " أنفسكم " مفعوله. ومن المعلوم أن الضلال والاهتداء - وهما معنيان متقابلان - إنما يتحققان في سلوك الطريق لا غير، فالملازم لمتن الطريق ينتهى إلى ما ينتهى إليه الطريق، وهو الغاية المطلوبة التى يقصدها الانسان السالك في سلوكه، أما إذا استهان بذلك وخرج عن مستوى الطريق فهو الضلال الذى تفوت به الغاية المقصودة فالاية تقدر للانسان طريقا يسلكه ومقصدا يقصده غير أنه ربما لزم الطريق فاهتدى إليه أو فسق عنه فضل وليس هناك مقصد يقصده القاصد إلا الحياة السعيدة، والعاقبة الحسنى بلا ريب لكنها مع ذلك تنطق بأن الله سبحانه هو المرجع الذى يرجع إليه الجميع: المهتدى والضال. فالثواب الذى يريده الانسان في مسيره بالفطرة إنما هو عند الله سبحانه يناله المهتدون، ويحرم عنه الضلال، ولازم ذلك أن يكون جميع الطرق المسلوكة لاهل
[ 163 ]
الهداية والطرق المسلوكة لاهل الضلال تنتهى إلى الله سبحانه، وعنده سبحانه الغاية المقصودة وإن كانت تلك الطرق مختلفة في إيصال الانسان إلى البغية والفوز والفلاح أو ضربه بالخيبة والخسران، وكذلك في القرب والبعد كما قال تعالى: " يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " (الانشقاق: 6) وقال تعالى: " ألا إن حزب الله هم المفلحون " (المجادلة: 22) وقال تعالى: " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار " (إبراهيم: 28) وقال تعالى: " فإنى قريب أجيب
دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون " (البقرة: 186) وقال تعالى: " والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى اولئك ينادون من مكان بعيد " (حم السجدة: 44). بين تعالى في هذه الايات أن الجميع سائرون إليه سبحانه سيرا لا مناص لهم عنه، غير أن طريق بعضهم قصير وفيه الرشد والفلاح، وطريق آخرين طويل لا ينتهى إلى سعادة، ولا يعود إلى سالكه إلا الهلاك والبوار. وبالجملة فالاية تقدر للمؤمنين وغيرهم طريقين اثنين ينتهيان إلى الله سبحانه، وتأمر المؤمنين بأن يشتغلوا بأنفسهم وينصرفوا عن غيرهم وهم أهل الضلال من الناس ولا يقعوا فيهم ولا يخافوا ضلالهم فإنما حسابهم على ربهم لا على المؤمنين وليسوا بمسؤلين عنهم حتى يهمهم أمرهم، فالاية قريبة المضمون من قوله تعالى: " قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزى قوما بما كانوا يكسبون " (الجاثية: 14) ونظيرها قوله تعالى: " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون " (البقرة: 134). فعلى المؤمن أن يشتغل بما يهم نفسه من سلوك سبيل الهدى، ولا يهزهزه ما يشاهده من ضلال الناس وشيوع المعاصي بينهم ولا يشغله ذلك ولا يشتغل بهم فالحق حق وإن ترك والباطل باطل وإن أخذ به كما قال تعالى: " قل لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا اولى الالباب لعلكم تفلحون " (المائدة: 100) وقال تعالى: " ولا تستوى الحسنة ولا السيئة " (حم السجدة: 34). فقوله تعالى: " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم بناء على ما مر مسوق سوق الكناية
[ 164 ]
أريد به نهى المؤمنين عن التأثر من ضلال من ضل من الناس فيحملهم ذلك على ترك طريق الهداية كأن يقولوا: إن الدنيا الحاضرة لا تساعد الدين ولا تبيح التنحل بالمعنويات فإنما
ذلك من السنن الساذجة وقد مضى زمنه وانقرض أهله، قال تعالى: " وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا " (القصص: 57). أو يخافوا ضلالهم على هدى أنفسهم فيشتغلوا بهم وينسوا أنفسهم فيصيروا مثلهم فإنما الواجب على المؤمن هو الدعوة إلى ربه والامر بالمعروف والنهى عن المنكر وبالجملة الاخذ بالاسباب العادية ثم إيكال أمر المسببات إلى الله سبحانه فإليه الامر كله، فأما أن يهلك نفسه في سبيل إنقاذ الغير من الهلكة فلم يؤمر به، ولا يؤاخذ بعمل غيره، وما هو عليه بوكيل، وعلى هذا فتصير الاية في معنى قوله تعالى: " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا، إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا، وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا " (الكهف: 8)، وقوله تعالى: " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الارض أو كلم به الموتى بل لله الامر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا " (الرعد: 31) ونحو ذلك. وقد تبين بهذا البيان أن الاية لا تنافى آيات الدعوة وآيات الامر بالمعروف والنهى عن المنكر فإن الاية إنما تنهى المؤمنين عن الاشتغال بضلال الناس عن اهتداء أنفسهم وإهلاك أنفسهم في سبيل إنقاذ غيرهم وإنجائه. على أن الدعوة إلى الله والامر بالمعروف والنهى عن المنكر من شؤون اشتغال المؤمن بنفسه وسلوكه سبيل ربه، وكيف يمكن أن تنافى الاية آيات الدعوة والامر بالمعروف والنهى عن المنكر أو تنسخها ؟ وقد عدهما الله سبحانه من مشخصات هذا الدين وأسسه التى بنى عليها كما قال تعالى: " قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى " (يوسف: 108) وقال تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " (آل عمران: 110). فعلى المؤمن أن يدعو إلى الله على بصيرة وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر على سبيل أداء الفريضة الالهية وليس عليه أن يجيش ويهلك نفسه حزنا أو يبالغ في الجد
في تأثير ذلك في نفوس أهل الضلال فذلك موضوع عنه.
[ 165 ]
وإذا كانت الاية قدرت للمؤمنين طريقا فيه اهتداؤهم ولغيرهم طريقا من شأنه ضلال سالكيه، ثم أمر المؤمنين في قوله: " عليكم أنفسكم " بلزوم أنفسهم كان فيه دلالة على أن نفس المؤمن هو الطريق الذى يؤمر بسلوكه ولزومه فإن الحث على الطريق إنما يلائم الحث على لزومه والتحذير من تركه لا على لزوم سالك الطريق كما نشاهده في مثل قوله تعالى: " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " (الانعام: 153). فأمره تعالى المؤمنين بلزوم انفسهم في مقام الحث على التحفظ على طريق هدايتهم يفيد أن الطريق الذى يجب عليهم سلوكه ولزومه هو أنفسهم، فنفس المؤمن هو طريقه الذى يسلكه إلى ربه وهو طريق هداه، وهو المنتهى به إلى سعادته. فالاية تجلى الغرض الذى تؤمه إجمالا آيات اخرى كقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون، ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم اولئك هم الفاسقون، لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون " (الحشر: 20). فالايات تأمر بأن تنظر النفس وتراقب صالح عملها الذى هو زادها غدا وخير الزاد التقوى فللنفس يوم وغد وهى في سير وحركة على مسافة، والغاية هو الله سبحانه وعنده حسن الثواب وهو الجنة فعليها أن تدوم على ذكر ربها ولا تنساه فإنه سبحانه هو الغاية، ونسيان الغاية يستعقب نسيان الطريق فمن نسى ربه نسى نفسه، ولم يعد لغده ومستقبل مسيره زادا يتزود به ويعيش باستعماله وهو الهلاك، وهذا معنى ما رواه الفريقان عن النبي صلى الله ععليه وآله وسلم: من عرف نفسه فقد عرف ربه. وهذا المعنى هو الذى يؤيده التدبر التام والاعتبار الصحيح فإن الانسان في مسير
حياته إلى أي غاية امتدت لا هم له في الحقيقة إلا خير نفسه وسعادة حياته وإن اشتغل في ظاهر الامر ببعض ما يعود نفعه إلى غيره، قال تعالى: " إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم وإن أسأتم فلها ". وليس هناك إلا هذا الانسان الذى يتطور طورا بعد طور، ويركب طبقا عن طبق من جنين وصبى وشاب وكهل وشيخ ثم الذى يديم الحياة في البرزخ ثم يوم القيامة
[ 166 ]
ثم ما بعده من جنة أو نار، فهذه هي المسافة التى يقطعها الانسان من موقفه في أول تكونه إلى أن ينتهى إلى ربه، قال تعالى: " وأن إلى ربك المنتهى " (النجم: 42). وهو الانسان لا يطأ موطأ في مسيره ولا يسير ولا يسرى إلا بأعمال قلبية هي الاعتقادات ونحوها وأعمال جوارحية صالحة أو طالحة، وما أنتجه عمله يوما كان هو زاده غدا فالنفس هو طريق الانسان إلى ربه، والله سبحانه هو غايته في مسيره. وهذا طريق اضطرارى لا مناص للانسان عن سلوكه كما يدل عليه قوله تعالى: " يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " (الانشقاق: 6)، فهذا طريق ضروري السلوك يشترك فيه المؤمن والكافر والملتفت المتنبه والغافل العامه، والاية لا تريد الحث على لزومه بمعنى البعث على سلوكه ممن لا يسلك. وإنما تريد الاية تنبيه المؤمنين على هذه الحقيقة بعد غفلتهم عنها، فإن هذه الحقيقة كسائر الحقائق التكوينية وإن كانت ثابتة غير متغيرة بالعلم والجهل لكن التفات الانسان إليها يؤثر في عمله تأثيرا بارزا، والاعمال التى تربى النفس الانسانية تربية مناسبة لسنخها وإذا كان العمل ملائما لواقع الامر مناسبا لغاية الصنع والايجاد كانت النفس المستكملة بها سعيدة في جدها، غير خائبة في سعيها ولا خاسرة في صفقتها، وقد مر بيان ذلك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب بما لا يبقى معه ريب. وتوضيح ذلك بما يناسب هذا المقام أن الانسان كغيره من خلق الله سبحانه واقع
تحت التربية الالهية من دون أن يفوته تعالى شئ من أمره، وقد قال تعالى: " ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم " (هود: 56) وهذه تربية تكوينية على حد ما يربى الله سبحانه غيره من الامور، في مسيرها جميعا إليه تعالى، وقد قال: " ألا إلى الله تصير الامور " (الشورى: 53) ولا يتفاوت الامر ولا يختلف الحال في هذه التربية بين شئ وشئ فإن الصراط مستقيم، والامر متشابه مطرد، وقد قال تعالى أيضا: " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " (الملك: 3). وقد جعل سبحانه غاية الانسان وما ينتهى إليه أمره ويستقر عليه عاقبته من حيث السعادة والشقاوة والفلاح والخيبة مبنية على أحوال وأخلاق نفسانية مبنية على أعمال من الانسان تنقسم تلك الاعمال إلى صالحة وطالحة وتقوى وفجور كما قال تعالى: " ونفس
[ 167 ]
وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " (الشمس: 10) فالايات - كما ترى - تضع النفس المسواة في جانب وهو مبدء الحال، والفلاح والخيبة في جانب وهو الغاية ومنتهى المسير، ثم تبنى الغايتين أعنى الفلاح والخيبة على تزكية النفس وتدسيتها وذلك مرحلة الاخلاق، ثم تبنى الفضيلة والرذيلة على التقوى والفجور أعنى الاعمال الصالحة والطالحة التى تنطق الايات بأن الانسان ملهم بها من جانب الله تعالى. والايات في بيانها لا تتعدى طور النفس بمعنى أنها تعتبر النفس هي المخلوقة المسواة وهى التى أضيف إليها الفجور والتقوى، وهى التى تزكى وتدسى، وهى التى يفلح فيها الانسان ويخيب، وهذا كما عرفت جرى على مقتضى التكوين. لكن هذه الحقيقة التكوينية أعنى كون الانسان في حياته سائرا في مسير نفسه لا يسعه التخطي عنها ولو بخطوة، ولا تركها والخروج منها ولو لحظة، لا يتساوى حال من تنبه له وتذكر به تذكرا لازما لا يتطرق إليه نسيان، وحال من غفل عنه ونسى الواقع الذى لا مفر له منه، وقد قال تعالى: " هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون
إنما يتذكر اولوا الالباب " (الزمر: 9). وقال تعالى: " فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى، قال ربى لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى " (طه: 126). وذلك أأن المتنبه إلى هذه الحقيقة حيثما يلتفت إلى حقيقة موقفه من ربه ونسبته إلى سائر أجزاء العالم وجد نفسه منقطعة عن غيره وقد كان يجدها على غير هذا النعت ومضروبا دونها الحجاب لا يمسها بالاحاطة والتأثير إلا ربها المدبر لامرها الذى يدفعها من ورائها ويجذبها إلى قدامها بقدرته وهدايته، ووجدها خالية بربها ليس لها من دونه من وال، وعند ذلك يفقه معنى قوله تعالى: " إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون " بعد قوله: " عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " ومعنى قوله تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " (الانعام: 122).
[ 168 ]
وعند ذلك يتبدل إدراك النفس وشعورها، ويهاجر من موطن الشرك إلى موقف العبودية ومقام التوحيد، ولا يزال يعوض شركا من توحيد وتوهما من تحقق وبعدا من قرب واستكبارا شيطانيا من تواضع رحماني واستغناء وهميا من فقر عبودي إن أخذت بيدها العناية الالهية وساقها سائق التوفيق. ونحن وإن كان لا يسعنا أن نفقه هذه المعاني حق الفقه لمكان إخلادنا إلى الارض واشتغالنا عن الغوص في أغوار هذه الحقائق التى يكشف عنها الدين ويشير إليها الكتاب الالهى بما لا يعنينا من فضولات هذه الحياة الفانية التى لا يعرفها الكلام الالهى في بيانه إلا بأنها لعب ولهو كما قال تعالى: " وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو " (الانعام: 32) وقال تعالى: " ذلك مبلغهم من العلم " (النجم: 30).
إلا أن الاعتبار الصحيح والبحث البالغ والتدبر الوافى يوصلنا إلى التصديق بكلياتها إجمالا وإن قصرنا عن إحصاء التفاصيل والله الهادى. ولعلنا خرجنا عن طور الاختصار فلنرجع إلى أول الكلام فنقول: وتسع الاية أن تحمل على الخطاب الاجتماعي بأن يكون المخاطب بقوله: " يا أيها الذين آمنوا " مجتمع المؤمنين فيكون المراد بقوله: " عليكم أنفسكم " هو إصلاح المؤمنين مجتمعهم الاسلامي باتخاذ صفة الاهتداء بالهداية الالهية بأن يحتفظوا على معارفهم الدينية والاعمال الصالحة والشعائر الاسلامية العامة كما قال تعالى: " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " (آل عمران: 103) وقد تقدم في تفسيره أن المراد بهذا الاعتصام الاجتماعي الاخذ بالكتاب والسنة. ويكون قوله: " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " يراد به أنهم في أمن من أضرار المجتمعات الضالة غير الاسلامية فليس من الواجب على المسلمين أن يبالغوا الجد في انتشار الاسلام بين الطوائف غير المسلمة أزيد من الدعوة المتعارفة كما تقدم. أو أنه لا يجوز لهم أن ينسلوا مما بأيديهم من الهدى من مشاهدة ما عليه المجتمعات الضالة من الانهماك في الشهوات والتمتع من مزايا العيش الباطلة فإن الجميع مرجعهم إلى الله فينبئهم بما كانوا يعملون، وتجرى الاية على هذا مجرى قوله تعالى: " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد، متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد " (آل عمران:
[ 169 ]
197)، وقوله: " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا " (طه: 131). وهنا معنى آخر لقوله: " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " من جهة أن المنفى في الاية هو الاضرار المنسوب إلى نفس الضالين دون شئ معين من صفاتهم أو أعمالهم فتفيد الاطلاق، ويكون المعنى نفى أن يكون الكفار ضارين للمجتمع الاسلامي
بتبديله مجتمعا غير إسلامى بقوة قهرية فتكون الاية مسوقه ة سوق قوله تعالى: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون " (المائدة: 3)، وقوله: " لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار " (آل عمران: 111). وقد ذكر جمع من مفسري السلف أن مفاد الاية هو الترخيص في ترك الدعوة الدينية والامر بالمعروف والنهى عن المنكر، وذكروا أن الاية خاصة تختص بزمان أو حال لا يوجد فيه شرط الدعوة والامر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهو الامن من الضرر وقد رووا في ذلك روايات ستأتي الاشارة إليها في البحث الروائي الاتى. ولازم هذا المعنى أن يكون قوله: " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " كناية عن انتفاء التكليف أي لا تكليف عليكم في ذلك وإلا فتضرر المجتمع الدينى من شيوع الضلال من كفر أو فسق مما لا يرتاب فيه ذو ريب. لكن ذلك معنى بعيد لا يحتمله سياق الاية فإن الاية لو أخذت مخصصة لعمومات وجوب الدعوة والامر بالمعروف والنهى عن المنكر فلسانها ليس لسان التخصيص، وإن أخذت ناسخة فآيات الدعوة والامر بالمعروف والنهى عن المنكر آبية من النسخ، وللكلام تتمة ستوافيك. (بحث روائي) في الغرر والدرر للامدي عن على عليه السلام قال: من عرف نفسه عرف ربه. اقول: ورواه الفريقان عن النبي أيضا، وهو حديث مشهور، وقد ذكر بعض العلماء: أنه من تعليق المحال، ومفاده استحالة معرفة النفس لاستحالة الاحاطة العلمية
[ 170 ]
بالله سبحانه، ورد أولا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في رواية أخرى: أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه، وثانيا بأن الحديث في معنى عكس النقيض لقوله تعالى: " ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ".
وفيه عنه عليه السلام: قال: الكيس من عرف نفسه وأخلص أعماله. اقول: تقدم في البيان السابق معنى ارتباط الاخلاص وتفرعه على الاشتغال بمعرفة النفس. وفيه عنه عليه السلام: قال: المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين. اقول: الظاهر أن المراد بالمعرفتين المعرفة بالايات الانفسية والمعرفة بالايات الافاقية، قال تعالى: " سنريهم آياتنا في الافاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد " " حم السجدة: 53 " وقال تعالى: " وفي الارض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون " (الذاريات: 21). وكون السير الا نفسي أنفع من السير الافاقى لعله لكون المعرفة النفسانية لا تنفك عادة من إصلاح أوصافها وأعمالها بخلاف المعرفة الافاقية، وذلك أن كون معرفة الايات نافعة إنما هو لان معرفة الايات بما هي آيات موصلة إلى معرفة الله سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله ككونه تعالى حيا لا يعرضه موت، وقادرا لا يشوبه عجز، وعالما لا يخالطه جهل، وأنه تعالى هو الخالق لكل شئ، والمالك لكل شئ، والرب القائم على كل نفس بما كسبت، خلق الخلق لا لحاجة منه إليهم بل لينعم عليهم بما استحقوه ثم يجمعهم ليوم الجمع لا ريب فيه ليجزى الذين أساؤوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى. وهذه وأمثالها معارف حقة إذا تناولها الانسان وأتقنها مثلت له حقيقة حياته، وأنها حياة مؤبدة ذات سعادة دائمة أو شقوة لازمة، وليست بتلك المتهوسة المنقطعة اللاهية اللاغية، وهذا موقف علمي يهدى الانسان إلى تكاليف ووظائف بالنسبة إلى ربه وبالنسبة إلى أبناء نوعه في الحياة الدنيا والحياة الاخرة، وهى التى نسميها بالدين، فإن السنة التى يلتزمها الانسان في حياته، ولا يخلو عنها حتى البدوى والهمجى إنما يضعها ويلتزمها أو يأخذها ويلتزمها لنفسه من حيث إنه يقدر لنفسه نوعا من الحياة أي نوع كان،
[ 171 ]
ثم يعمل بما استحسنه من السنة لاسعاد تلك الحياة، وهذا من الوضوح بمكان. فالحياة التى يقدرها الانسان لنفسه تمثل له الحوائج المناسبة لها فيهتدى بها إلى الاعمال التى تضمن عادة رفع تلك الحوائج فيطبق الانسان عمله عليها وهو السنة أو الدين. فتخلص مما ذكرنا أن النظر في الايات الانفسية والافاقية ومعرفة الله سبحانه بها يهدى الانسان إلى التمسك بالدين الحق والشريعة الالهية من جهة تمثيل المعرفة المذكورة الحياة الانسانية المؤبدة له عند ذلك، وتعلقها بالتوحيد والمعاد والنبوة. وهذه هداية إلى الايمان والتقوى يشترك فيها الطريقان معا أعنى طريقي النظر إلى الافاق والانفس فهما نافعان جميعا غير أن النظر إلى آيات النفس أنفع فإنه لا يخلو من العثور على ذات النفس وقواها وأدواتها الروحية والبدنية وما يعرضها من الاعتدال في أمرها أو طغيانها أو خمودها والملكات الفاضلة أو الرذيلة، والاحوال الحسنة أو السيئة التى تقارنها. واشتغال الانسان بمعرفة هذه الامور والاذعان بما يلزمها من أمن أو خطر وسعادة أو شقاوة لا ينفك من أن يعرفه الداء والدواء من موقف قريب فيشتغل بإصلاح الفاسد منها، والالتزام بصحيحها بخلاف النظر في الايات الافاقية فإنه وإن دعا إلى إصلاح النفس وتطهيرها من سفاسف الاخلاق ورذائلها، وتحليتها بالفضائل الروحية لكنه ينادى لذلك من مكان بعيد، وهو ظاهر. وللرواية معنى آخر أدق مستخرج من نتائج الابحاث الحقيقية في علم النفس وهو أن النظر في الايات الافاقية والمعرفة الحاصلة من ذلك نظر فكرى وعلم حصولي بخلاف النظر في النفس وقواها وأطوار وجودها والمعرفة المتجلية منها فإنه نظر شهودي وعلم حضوري، والتصديق الفكري يحتاج في تحققه إلى نظم الاقيسة واستعمال البرهان، وهو باق ما دام الانسان متوجها إلى مقدماته غير ذاهل عنها ولا مشتغل بغيرها، ولذلك
يزول العلم بزوال الاشراف على دليله وتكثر فيه الشبهات ويثور فيه الاختلاف. وهذا بخلاف العلم النفساني بالنفس وقواها وأطوار وجودها فإنه من العيان فإذا اشتغل الانسان بالنظر إلى آيات نفسه، وشاهد فقرها إلى ربها، وحاجتها في جميع أطوار وجودها، وجد أمرا عجيبا، وجد نفسه متعلقة بالعظمة والكبرياء متصلة في
[ 172 ]
وجودها وحياتها وعلمها وقدرتها وسمعها وبصرها وإرادتها وحبها وسائر صفاتها وأفعالها بما لا يتناهى بهاء وسناء وجمالا وجلالا وكمالا من الوجود والحياة والعلم والقدرة، وغيرها من كل كمال. وشاهد ما تقدم بيانه أن النفس الانسانية لا شأن لها إلا في نفسها، ولا مخرج لها من نفسها، ولا شغل لها إلا السير الاضطراري في مسير نفسها، وأنها منقطعة عن كل شئ كانت تظن أنها مجتمعة معه مختلطة به إلا ربها المحيط بباطنها وظاهرها وكل شئ دونها فوجدت أنها دائما في خلا مع ربها وإن كانت في ملا من الناس. وعند ذلك تنصرف عن كل شئ وتتوجه إلى ربها وتنسى كل شئ وتذكر ربها فلا يحجبه عنها حجاب ولا تستتر عنه بستر وهو حق المعرفة الذى قدر لانسان. وهذه المعرفة الاحرى بها أن تسمى بمعرفة الله بالله، وأما المعرفة الفكرية التى يفيدها النظر في الايات الافاقية سواء حصلت من قياس أو حدس أو غير ذلك فإنما هي معرفة بصورة ذهنية عن صورة ذهنية، وجل الاله أن يحيط به ذهن أو تساوى ذاته صورة مختلقة اختلقها خلق من خلقه، ولا يحيطون به علما. وقد روى في الارشاد والاحتجاج على ما في البحار عن الشعبى عن أمير المؤمنين عليه السلام في كلام له: إن الله أجل من أن يحتجب عن شئ أو يحتجب عنه شئ. وفي التوحيد عن موسى بن جعفر عليه السلام في كلام له: ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه احتجب بغير حجاب محجوب واستتر بغير ستر مستور لا إله إلا هو الكبير المتعال.
وفي التوحيد مسندا عن عبد الاعلى عن الصادق عليه السلام في حديث: ومن زعم أنه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك لان الحجاب والصورة والمثال غيره، وإنما هو واحد موحد فكيف يوحد من زعم أنه يوحده بغيره إنما عرف الله من عرفه بالله فمن لم يعرفه به فليس يعرفه إنما يعرف غيره، الحديث. والاخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في معنى ما قدمناه كثيرة جدا لعل الله يوفقنا لايرادها وشرحها في ما سيأتي إن شاء الله العزيز من تفسير سورة الاعراف. فقد تحصل أن النظر في آيات الانفس أنفس وأغلى قيمة وأنه هو المنتج لحقيقة المعرفة فحسب، وعلى هذا فعده عليه السلام إياها أنفع المعرفتين لا معرفة متعينة إنما هو
[ 173 ]
لان العامة من الناس قاصرون عن نيلها، وقد أطبق الكتاب والسنة وجرت السيرة الطاهرة النبوية وسيرة أهل بيته الطاهرين على قبول من آمن بالله عن نظر آفاقى وهو النظر الشائع بين المؤمنين فالطريقان نافعان جميعا لكن النفع في طريق النفس أتم وأغزر. وفي الدرر والغررعن على عليه السلام قال: العارف من عرف نفسه فأعتقها ونزهها عن كل ما يبعدها. اقول: أي أعتقها عن أسارة الهوى ورقية الشهوات. وفيه عنه عليه السلام قال: أعظم الجهل جهل الانسان أمر نفسه. وفيه عنه عليه السلام قال: أعظم الحكمة معرفة الانسان نفسه. وفيه عنه عليه السلام قال: أكثر الناس معرفة لنفسه أخوفهم لربه. اقول: وذلك لكونه أعلمهم بربه وأعرفهم به، وقد قال الله سبحانه: " إنما يخشى الله من عباده العلماء ". وفيه عنه عليه السلام قال: أفضل العقل معرفة المرء بنفسه فمن عرف نفسه عقل، ومن جهلها ضل.
وفيه عنه عليه السلام قال: عجبت لمن ينشد ضالته، وقد أضل نفسه فلا يطلبها. وفيه عنه عليه السلام قال: عجبت لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربه ؟. وفيه عنه عليه السلام قال: غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه. أقول: وقد تقدم وجه كونها غاية المعرفة فإنها المعرفة حقيقة. وفيه عنه عليه السلام قال: كيف يعرف غيره من يجهل نفسه. وفيه عنه عليه السلام قال: كفى بالمرء معرفة أن يعرف نفسه، وكفى بالمرء جهلا أن يجهل نفسه. وفيه عنه عليه السلام قال: من عرف نفسه تجرد.
[ 174 ]
اقول: أي تجرد عن علائق الدنيا، أو تجرد عن الناس بالاعتزال عنهم، أو تجرد عن كل شئ بالاخلاص لله. وفيه عنه عليه السلام قال: من عرف نفسه جاهدها، ومن جهل نفسه أهملها. وفيه عنه عليه السلام قال: من عرف نفسه جل أمره. وفيه عنه عليه السلام قال: من عرف نفسه كان لغيره أعرف ومن جهل نفسه كان بغيره أجهل. وفيه عنه عليه السلام قال: من عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كل معرفة وعلم. وفيه عنه عليه السلام قال: من لم يعرف نفسه بعد عن سبيل النجاة، وخبط في الضلال والجهالات. وفيه عنه عليه السلام قال: معرفة النفس أنفع المعارف. وفيه عنه عليه السلام قال: نال الفوز الاكبر من ظفر بمعرفة النفس. وفيه عنه عليه السلام قال: لا تجهل نفسك فإن الجاهل معرفة نفسه جاهل بكل شئ. وفي تحف العقول عن الصادق عليه السلام في حديث: من زعم أنه يعرف الله بتوهم
القلوب فهو مشرك، ومن زعم أنه يعرف الله بالاسم دون المعنى فقد أقر بالطعن لان الاسم محدث، ومن زعم أنه يعبد الاسم والمعنى فقد جعل مع الله شريكا، ومن زعم أنه يعبد بالصفة لا بالادراك فقد أحال على غائب، ومن زعم أنه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغر بالكبير، وما قدروا الله حق قدره. قيل له: فكيف سبيل التوحيد ؟ قال: باب البحث ممكن وطلب المخرج موجود إن معرفة عين الشاهد قبل صفته، ومعرفة صفة الغائب قبل عينه. قيل: وكيف يعرف عين الشاهد قبل صفته ؟ قال: تعرفه وتعلم علمه، وتعرف نفسك به ولا تعرف نفسك من نفسك، وتعلم أن ما فيه له وبه كما قالوا ليوسف: " إنك لانت يوسف " قال: " أنا يوسف وهذا أخى " فعرفوه به ولم يعرفوه بغيره، ولا أثبتوه
[ 175 ]
من أنفسهم بتوهم القلوب، الحديث. أقول: قد أوضحنا في ذيل قوله عليه السلام: المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين (الرواية الثانية من الباب) أن الانسان إذا اشتغل بآية نفسه وخلا بها عن غيرها انقطع إلى ربه من كل شئ، وعقب ذلك معرفه ربه معرفة بلا توسيط وسط، وعلما بلا تسبيب سبب إذ الانقطاع يرفع كل حجاب مضروب، وعند ذلك يذهل الانسان بمشاهدة ساحة العظمة والكبرياء عن نفسه، وأحرى بهذه المعرفة أن تسمى معرفة الله بالله. وانكشف له عند ذلك من حقيقة نفسه أنها الفقيرة إلى الله سبحانه المملوكة له ملكا لا تستقل بشئ دونه، وهذا هو المراد بقوله عليه السلام: " تعرف نفسك به، ولا تعرف نفسك بنفسك من نفسك، وتعلم أن ما فيه له وبه ". وفي هذا المعنى ما رواه المسعودي في إثبات الوصية عن أمير المؤمنين عليه السلام قال في خطبة له: " فسبحانك ملات كل شئ وباينت كل شئ فأنت لا يفقدك شئ وأنت الفعال لما تشاء تباركت يا من كل مدرك من خلقه، وكل محدود من صنعه.
- إلى أن قال - سبحانك أي عين تقوم نصب بهاء نورك، وترقى إلى نور ضياء قدرتك، وأى فهم يفهم ما دون ذلك إلا أبصار كشفت عنها الاغطية، وهتكت عنها الحجب العمية، فرقت أرواحها على أطراف أجنحة الارواح، فناجوك في أركانك، وولجوا بين أنوار بهائك، ونظروا من مرتقى التربة إلى مستوى كبريائك، فسماهم أهل الملكوت زوارا، ودعاهم أهل الجبروت عمارا ". وفي البحار عن إرشاد الديلمى - وذكر بعد ذلك سندين لهذا الحديث - وفيه: " فمن عمل برضائى ألزمه ثلاث خصال: أعرفه شكرا لا يخالطه الجهل وذكرا لا يخالطه النسيان، ومحبة لا يؤثر على محبتى محبة المخلوقين. فإذا أحبنى أحببته، وأفتح عين قلبه إلى جلالى، ولا أخفى عليه خاصة خلقي، وأناجيه في ظلم الليل ونور النهار حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم، وأسمعه كلامي وكلام ملائكتي، وأعرفه السر الذى سترته عن خلقي، وألبسه الحياء حتى يستحيى منه الخلق كلهم، ويمشى على الارض مغفورا له، وأجعل قلبه واعيا
[ 176 ]
وبصيرا، ولا أخفى عليه شيئا من جنة ولا نار، وأعرفه ما يمر على الناس في القيامة من الهول والشدة، وما أحاسب به الاغنياء والفقراء والجهال والعلماء، وأنومه في قبره وأنزل عليه منكرا ونكيرا حتى يسألاه، ولا يرى غم الموت وظلمة القبر واللحد وهول المطلع، ثم أنصب له ميزانه وأنشر ديوانه، ثم أضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشورا ثم لا أجعل بينى وبينه ترجمانا، فهذه صفات المحبين. يا أحمد اجعل همك هما واحدا، واجعل لسانك لسانا واحدا، واجعل بدنك حيا لا يغفل أبدا، من يغفل عنى لا أبالى بأى واد هلك ". و الروايات الثلاثة الاخيرة وإن لم يكن من أخبار هذا البحث المعقود على الاستقامة إلا أنا إنما أوردناها ليقضى الناقد البصير بما قدمناه من أن المعرفة الحقيقية لا تستوفى
بالعلم الفكري حق استيفائها فإن الروايات تذكر امورا من المواهب الالهية المخصوصة بأوليائه لا ينتجها السير الفكري البتة. وهى أخبار مستقيمة صحيحة تشهد على صحتها الكتاب الالهى على ما سنبين ذلك فيما سيوافيك من تفسير سورة الاعراف إن شاء الله العزيز. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم " (الاية)، قال: قال عليه السلام: أصلحوا أنفسكم ولا تتبعوا عورات الناس ولا تذكروهم فإنه لا يضركم ضلالتهم إذا أنتم صالحون. اقول: والرواية منطبقة على ما قدمناه في البيان السابق أن الاية متوجهة إلى النهى عن التعرض لاصلاح حال الناس أزيد من متعارف الدعوة والامر بالمعروف و النهى عن المنكر، وليست مسوقة للترخيص في ترك فريضة الدعوة والامر بالمعروف والنهى عن المنكر. وفي نهج البيان عن الصادق عليه السلام: أنه قال: نزلت هذه الاية في التقية. اقول: مفاد الرواية أن الاية خاصة بصورة التقية من أهل الضلال في الدعوة إلى الحق والامر بالمعروف والنهى عن المنكر لمكان اشتراط ذلك شرعا بعدم التقية، وقد تقدم في البيان السابق أن ظاهر الاية لا تساعد على ذلك.
[ 177 ]
وقد روى في الدر المنثور عن مفسري السلف قول جمع منهم بذلك كابن مسعود وابن عمر وأبى بن كعب وابن عباس ومكحول، وما روى في ذلك من الروايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير دالة على ذلك. وهى ما عن الترمذي وصححه وابن ماجه وابن جرير والبغوى في معجمه وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبراني وأبى الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أبى امية الشعبانى قال: أتيت أبا ثعلبة الخشنى فقلت له: كيف تصنع هذه
الاية ؟ قال: أيه آية ؟ قال: (1) قوله: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذى رأى برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام فإن من ورائكم أيام الصبر، الصابر فيهن كالقابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم. أقول: وفي هذا المعنى ما رواه ابن مردويه عن معاذ بن جبل عنه صلى الله عليه وآله وسلم، والرواية إنما تدل على أن الامر بالمعروف و النهى عن المنكر لم يرتفعا بالاية. وفي الدر المنثور: أخرج أحمد وابن أبى حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبى عامر الاشعري: أنه كان فيهم شئ فاحتبس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم أتاه فقال: ما حبسك ؟ قال: يا رسول الله قرأت هذه الاية: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " قال: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أين ذهبتم ؟ إنما هي: لا يضركم من ضل من الكفار إذا اهتديتم. اقول: والرواية كما ترى تخص الامر في الاية بالترخيص في ترك دعوة الكفار إلى الحق وتصرفها عن الترخيص في ترك الامر بالمعروف والنهى عن المنكر في الفروع مع أن آيات وجوب الدعوة وما يتبعها من آيات الجهاد ونحوها لا تقصر في الاباء عن ذلك عن آيات الامر بالمعروف والنهى عن المنكر.
(1) قلت. ظ (*)
[ 178 ]
وفيه: أخرج ابن مردويه عن أبى سعيد الخدرى قال: ذكرت هذه الاية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله عزوجل: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " فقال نبى الله صلى الله ععليه وسلم: لم يجئ تأويلها، لا يجئ تأويلها حتى يهبط
عيسى بن مريم عليه السلام. اقول: والكلام في الرواية نظير الكلام فيما تقدم. وفيه: أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن حذيفة: في قوله: " عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " قال: إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر. اقول: وهو معنى معتدل مآله إلى ما ذكرناه، وروى مثله عن سعيد بن المسيب. (بحث علمي) ملفق من إشارات تاريخية وأبحاث أخر نفسية وغير ذلك في فصول: 1 - لم يزل الانسان فيما نعلم - حتى الانسان الاولى - يقول في بعض قوله: " أنا " و " نفسي " يحكى به عن حقيقة من الحقائق الكونية وهو لا محالة يدرى ما يقول ويعلم ما يريد غير أن انصراف همه إلى تعبئة أركان الحياة البدنية واشتغاله بالاعمال الجسمية لرفع الحوائج المادية يصرفه عن التعمق في أمر هذه النفس المحكى عنها بقوله: " أنا " و " نفسي " وربما ألقى ذلك في وهمه أن ذلك هو البدن لا غير. وربما وجد الانسان أن الفارق بين الحى والميت بحسب ظهور الحس هو النفس الذى يتنفس به الانسان ما دام حيا فإذا فقده أو سد عليه مجاريه عاد ميتا لا يشعر بشئ وبطل وجوده وانعدمت شخصيته وانيته فأذعن أن النفس هو النفس (محركة) وهو الريح أو نوع خاص من الريح فسماه لذلك روحا، وقضى أن الانسان هو المجموع من الروح والبدن. أو رأى ان الحس والحركة البدنيين كأنهما رهينا ما يحتبس في البدن من الدم السارى في أعضائه أو الجارى في عروقه من شرائين وأوردة وان الحياة التى ترتحل الانسانية بارتحالها متعلقة بهذا المائع الاحمر وجودا وعدما فحكم بأن النفس هو الدم
[ 179 ]
فسمى النفس دما بل الدم نفسا سائلة أو غير سائلة. وربما دعى الانسان ما يشاهده من أمر النطفة أن المنى حينما يلتقمه الرحم ويطرؤه
التطور الكونى طورا بعد طور هو الذى يصير إنسانا، ان يذهب إلى ان النفس الانسانية هي الاجزاء الاصلية المجتمعة في النطفة، وهى باقية في البنية البدنية مدى الحياة، وربما ذهب الذاهب إلى أنها مصونة عن التغير والبطلان، وان الانسانية باقية ببقائها لا تنالها يد الحدثان ولا انها تقبل البطلان والانعدام مع ان النفس الانسانية لو كانت هذه الاجزاء المنعوتة سواء اشترطنا فيها الاجتماع على هيئة خاصة أو لم نشترط استلزم ذلك القول بمحالات كثيرة مذكورة في محله. فهذه الاقاويل وأمثالها لا تنافى ما يناله الانسان وهو إنسان من حقيقة قوله: " أنا " و " نفسي " ولا يخطئ فيه البتة إذ ليس من البعيد ان نكون ندرك حقيقة من الحقائق الكونية إجمالا إدراكا غير خاطئ ثم نأخذ في البحث عن هويته وواقع أمره تفصيلا فنخطئ فيه عند ذاك، فهناك موضوعات علمية كثيرة كالمحسوسات الظاهرية أو الباطنية نشاهدها مشاهدة عيان - على الرغم من السوفسطائيين والشكاكين - ثم العلماء لا يزالون يختلفون في أمرها خلفا عن سلف. وكذلك العامة من غير أهل البحث يشاهدون من أنفسهم ما يشاهده الخاصة من غير فرق البتة وهم على جهل من أمر تفصيله عاجزون عن تفسير الخصوصيات وجوده. وبالجملة مما لا ريب فيه أن الانسان في جميع أحيان وجوده يشاهد أمرا غير خارج منه يعبر عنه بأنا ونفسي، وإذا لطف نظره وتعمق خائضا فيما يجده في مشاهدته هذه وجده شيئا على خلاف ما يجده من الامور الجسمانية القابلة للتغير والانقسام والاقتران بالمكان والزمان، ووجده غير هذا البدن المادى المحكوم بأحكام المادة بأعضائه وأجزائه فإنه ربما نسى أي عضو من أعضائه أو غفل عن جميع بدنه وهو لا ينسى نفسه ولا يغفل عنها، دع عنك ما ربما تقوله: نسيت نفسي، غفلت عن نفسي، ذهلت عن نفسي فهذه مجازات عن عنايات نفسانية مختلفة، ألا ترى أنك تسند النسيان والغفلة والذهول حينئذ إلى نفسك وتحكم بأن نفسك الشاعرة شعرت بأمر وغفلت عن أمر
تسميه نفسك كالبدن ونحوه ؟.
[ 180 ]
ودع عنك ما ربما يتوهم ان المغمى عليه يغفل عن ذاته ونفسه فإن الذى يجده هذا الانسان بعد انقضاء حال الاغماء انه لا يذكر شعوره بنفسه حالة الاغماء لا انه يذكر أنه كان غير شاعر بها، وبين المعنيين فرق، وربما يذكر بعض المغمى عليهم من حالة إغمائه شيئا بشبه الرؤيا التى نذكرها من حال المنام. وكيف كان لا ينبغى الارتياب في أن الانسان بما انه إنسان لا يخلو عن هذا الشعور النفسي الذى يمثل له حقيقة نفسه التى يعبر عنها بأنا، ولو انه استأنس قليل استيناس بما يشاهده من نفسه على انصراف من التقسم إلى مشاغله البدنية وأمانية المادية قضى بما تقدم ان نفسه أمر مغاير لسنخ المادة والماديات لما يشاهد من مغايرة خواص نفسه وآثارها لخواص الامور المادية وآثارها. غير ان الاشتغال بالمشاغل اليومية وصرف الهم إلى أمانى الحياة المادية ورفع الحوائج البدنية يدعوه إلى إهمال الامر والاذعان بشئ من تلك الاراء الساذجة الابجدية والوقف على إجمال المشاهدة. 2 - الفرد العادى من الانسان وإن كان شغله هم الغذاء والمسكن والملبس والمنكح عن الغور في حقيقة نفسه والبحث في زوايا ذاته، لكن الحوادث المختلفة الهاجمة عليه في خلال أيام حياته ربما لم تخل من عوامل توجهه إلى الانصراف عن غيره والخلوة بنفسه كالخوف الشديد الذى تنزعج به النفس عن كل شئ وترجع إلى نفسها كالاخذة الممسكة عليها حذرا من الفناء والزوال، وكالسرور والترح الموجب لانجذاب النفس إلى ما تستلذ به، وكالغرام الشديد المنجر إلى الوله بالمحبوب المطلوب بحيث لا هم إلا همه، وكالاضطرار الشديد الذى ينقطع به الانسان عن كل شئ إلى نفسه، إلى غير ذلك من العوامل الاتفاقية.
هذه العوامل المختلفة والاسباب المتنوعة ربما أدى الانسان واحد منها أو أزيد من واحد إلى ان يتمثل عنده بعض ما لا يكاد تناله الحواس الظاهرة أو الفكرة الخالية، كالواقع في مكان مظلم موحش أدهشه الخوف على نفسه فإنه يبصر أشياء مخوفة أو يسمع أصواتا هائلة تهدده في نفسه، وهو الذى ربما يسمونه غولا أو هاتفا أو جنا ونحو ذلك. وربما أحاط به الحب الشديد أو الحسرة والاسف الشديدان فحال بينه وبين
[ 181 ]
حواسه الظاهرية، وركز شعوره فيما يحبه أو يأسف عليه، فرأى في حال المنام أو في حال من اليقظة يشبه حالة المنام، امورا مختلفة من الوقائع الماضية أو الحوادث المستقبلة أو خبايا وخفايا تخفى على حواس غيره. وربما كانت الارادة إذا شفعت باليقين والايمان الشديد والاذعان الجازم تفعل أفعالا لا يقدر عليها الانسان المتعارف، ولا ان الاسباب العادية يسعها ان تهدى إلى ذلك. فهذه حوادث جزئية: نادرة - بالنسبة إلى عامة الحوادث العادية - تحدث عن حدوث عوامل مختلفة مرت الاشارة إليها: أما أصل وقوعها فمما ليس كثير حاجة إلى تجشم الاستدلال عليه فكل منا لا يخلو من أن يذكر من نفسه أو من غيره ما يشهد به، وأما أن السبب الحقيقي العامل فيها ما هي ؟ فليس ههنا محل الاشتغال به. والذى يهمنا التنبه عليه هو أن هذه الامور جميعا تتوقف في وقوعها على نوع من انصراف النفس عن الاشتغال بالامور الخارجة عنها - وخاصة اللذائذ الجسمانية - وانعطافها إلى نفسها، ولذا كان الاساس في جميع الارتياضات النفسانية - على تنوعها و تشتتها الخارج عن الاحصاء - هو مخالفة النفس في الجملة، وليس إلا لان انكباب النفس على مطاوعة هواها يصرفها عن الاشتغال بنفسها، ويهديها إلى مشتهياتها الخارجة، فيوزعها عليها ويقسم شعورها بينها، فتأخذ بها وتترك نفسها. 3 - لا ينبغى لنا أن نشك في أن العوامل الداعية إلى هذه الاثار النفسانية كما تتم
لبعض الافراد موقتا وفي أحايين يسير،، ربما تتم لبعض آخر ثابتة مستمرة أو تمكث مكثا معتدا به فكثيرا ما نجد أشخاصا متزهدين عن الدنيا ولذائذها المادية ومشتهياتها الفانية لا هم لهم إلا ترويض النفس والاشتغال بسلوك طريق الباطن. ولا ينبغى لنا أن نشك في أن هذه المشغلة النفسية ليست سنة مبتدعة في زماننا هذا، فالنقل والاعتبار يدلان على أنها كانت من السنن الدائرة بين الناس، كلما رجعنا القهقرى فهى من السنن اللازمة للانسانية إلى أقدم عهودها التى نزلت في هذه الارض على ما نحسب. 4 - البحث عن حال الامم والتأمل في سننهم وسيرهم وتحليل عقائدهم وأعمالهم يفيد أن الاشتغال بمعرفة النفس على طرقها المختلفة للحصول على عجائب آثارها، كان
[ 182 ]
دائرا بينهم بل مهمة نفيسة تبذل دونها أنفس الاوقات وأغلى الاثمان منذ أقدم الاعصار. ومن الدليل عليه أن الاقوام الهمجية الساكنة في أطراف المعمورة، كإفريقية وغيرها ويوجد بينهم حتى اليوم بقايا من أساطير السحر والكهانة والاذعان بحقيقتهما وإصابتهما. والاعتبار الدقيق فيما نقل الينا من المذاهب والاديان القديمة كالبرهمانية والبوذية والصابئة والمانوية والمجوسية واليهودية والنصرانية والاسلام، كل ذلك يعطى أن المهمة معرفة النفس والحصول على آثارها تسربا عميقا فيها وإن كانت مختلفة في وصفها وتلقينها وتقويمها. فالبرهمانية - وهى مذهب هند القديم - وإن كانت تخالف الاديان الكتابية في التوحيد وأمر النبوة غير أنها تدعو إلى تزكية النفس وتطهير السر وخاصة للبراهمة أنفسهم. نقل عن البيرونى في كتاب ما للهند من مقولة قال: عمر البرهمن بعد مضى سبع سنين منه منقسم لاربعة أقسام:
فأول القسم الاول هي السنة الثامنة يجتمع إليه البراهمة لتنبيهه وتعريفه الواجبات عليه، وتوصيته بالتزامها واعتناقها ما دام حيا. قال: وقد دخل في القسم الاول إلى (1) السنة الخامسة والعشرين من سنه إلى السنة الثامنة و الاربعين، فيجب عليه فيها أن يتزهد ويجعل الارض وطاءه، ويقبل على تعلم " بيذ " وتفسيره علم الكلام والشريعة من استاذ يخدمه آناء ليله ونهاره، ويغتسل كل يوم ثلاث مرات، ويقدم قربان النار في طرفي النهار، ويسجد لاستاذه بعد القربان، ويصوم يوما ويفطر يوما مع الامتناع عن اللحم أصلا، ويكون مقامه في دار الاستاذ، ويخرج منها السؤال والكدية من خمسة بيوت فقط كل يوم مرة عند الظهيرة أو المساء، فما وجد من صدقة وضعه بين يدى استاذه ليتخير منه ما يريد ثم يأذن له في الباقي فيتقوت بما فضل منه، ويحمل إلى النار حطبها، فالنار عندهم معظمة والانوار مقتربة. وكذلك عند سائر الامم فقد كانوا يرون تقبل القربان بنزول النار عليها، ولم يثنهم
(1) من ظ. (*)
[ 183 ]
عنها عبادة أصنام أو كواكب أو بقر أو حمير أو صور. قال: وأما القسم الثاني فهو من السنة الخامسة والعشرين إلى الخمسين أو إلى السبعين، وفيه يأذن له الاستاذ في التأهل فيتزوج ويقصد النسل. وذكر كيفية معاشرته أهله والناس وارتزاقه وسيرته. ثم قال: وأما القسم الثالث فهو من الخمسين إلى الخامسة والسبعين أو إلى التسعين، وفي هذا القسم يتزهد ويخرج من زخارى الحياة ويسلم زوجه إلى أولاده إن لم تصحبه إلى الصحارى، ويستمر خارج العمران على سيرته في القسم الاول، ولا يستكن تحت سقف، ولا يلبس إلا ما يوارى سوأته من لحاء الشجر، ولا ينام إلا على الارض بغير وطاء، ولا يتغذى إلا بالثمار والنبات واصوله، ويطول الشعر ولا يدهن.
قال: وأما القسم الرابع فهو إلى آخر العمر يلبس فيه لباسا أحمر، ويأخذ بيده قضيبا، ويقبل على الفكر وتجريد القلب من الصداقات والعداوات، ويرفض الشهوة والحرص والغضب، ولا يصاحب أحدا البتة. فإن قصد موضعا ذا فضل طلبا للثواب لم يقم في طريقه في قرية أكثر من يوم، وفي بلد أكثر من خمسة أيام، وإن دفع له أحد شيئا لم يترك منه للغد بقية، وليس له إلا الدؤوب على شرائط الطريق المؤدى إلى الخلاص والوصول إلى المقام الذى لا رجوع فيه إلى الدنيا، ثم ذكر الاحكام العامة التى يجب على البرهمن العمل بها في جميع عمره، انتهى موضع الحاجة من كلامه. وأما سائر الفرق المذهبية من الهنود كالجوكية أصحاب الانفاس والاوهام (1) وكأصحاب الروحانيات وأصحاب الحكمة وغيرهم، فلكل طائفة منهم رياضات شاقة عملية لا تخلو عن العزلة وتحريم اللذائذ الشهوانية على النفس. وأما البوذية فبناء مذهبهم على تهذيب النفس ومخالفة هواها وتحريم لذائذها عليها للحصول على حقيقة المعرفة، وقد كان هذا هو الطريقة التى سلكها بوذا نفسه في حياته، فالمنقول أنه كان من أبناء الملوك أو الرؤساء فرفض زخارف الحياة، وهجر أريكة
(1) وليرجع في تعرف حالهم إلى كتاب نفائس الفنون. (*)
[ 184 ]
العرش إلى غابة موحشة لزمها في ريعان شبابه، واعتزل الناس، وترك التمتع بمزايا الحياة، وأقبل على رياضة نفسه والتفكر في أسرار الخلقة حتى قذفت المعرفة في قلبه وسنه إذ ذاك ستة وثلاثون وعند ذاك خرج إلى الناس فدعاهم إلى ترويض النفس وتحصيل المعرفة ولم يزل على ذلك قريبا من أربع وأربعين سنة على ما في التواريخ. وأما الصابئون ونعنى بهم أصحاب الروحانيات وأصنامها فهم وإن أنكروا أمر النبوة غير أن لهم في طريق الوصول إلى كمال المعرفة النفسانية طرقا لا تختلف كثيرا عن طرق البراهمة والبوذيين، قالوا - على ما في الملل والنحل -: إن الواجب علينا أن
نطهر نفوسنا عن دنس الشهوات الطبيعية، ونهذب أخلاقنا عن علائق القوى الشهوانية والغضبية حتى يحصل مناسبة ما بيننا وبين الروحانيات فنسأل حاجاتنا منهم، ونعرض أحوالنا عليهم، ونصبو في جميع امورنا إليهم، فيشفعون لنا إلى خالقنا وخالقهم ورازقنا ورازقهم، وهذا التطهير ليس يحصل إلا باكتسابنا ورياضتنا وفطامنا أنفسنا عن دنيئات الشهوات استمدادا من جهة الروحانيات، والاستمداد هو التضرع والابتهال بالدعوات، وإقامة الصلوات، وبذل الزكوات، والصيام عن المطعومات والمشروبات، وتقريب القرابين والذبائح، وتبخير البخورات، وتعزيم العزائم فيحصل لنفوسنا استعداد واستمداد من غير واسطة، انتهى. وهؤلاء وإن اختلفوا فيما بين أنفسهم بعض الاختلاف في العقائد العامة الراجعة إلى الخلق والايجاد لكنهم متفقوا الرأى في وجوب ترويض النفس للحصول على كمال المعرفة وسعادة النشأة. وأما المانوية من الثنوية فاستقرار مذهبهم على كون النفس من عالم النور العلوى وهبوطها إلى هذه الشبكات المادية المظلمة المسماة بالابدان، وان سعادتها وكمالها في التخلص من دار الظلمة إلى ساحة النور إما اختيارا بالترويض النفساني، وإما اضطرارا بالموت الطبيعي، معروف. وأما أهل الكتاب ونعنى بهم اليهود والنصارى والمجوس فكتبهم المقدسة وهى العهد العتيق والعهد الجديد وأوستا مشحونة بالدعوة إلى إصلاح النفس وتهذيبها ومخالفة هواها. ولا تزال كتب العهدين تذكر الزهد في الدنيا والاشتغال بتطهير السر، ولا يزال
[ 185 ]
يتربى بينهم جم غفير من الزهاد وتاركي الدنيا جيلا بعد، جيل وخاصة النصارى فإن من سننهم المتبعة الرهبانية. وقد ذكر أمر رهبانيتهم في القرآن الشريف قال تعالى: " ذلك بأن منهم قسيسين
ورهبانا وأنهم لا يستكبرون " (المائدة: 82)، وقال تعالى: " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها " (الحديد: 27)، كما ذكر المتعبدون من اليهود في قوله: " ليسوا سواء من أهل الكتاب امة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، يؤمنون بالله واليوم الاخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات واولئك من الصالحين " (آل عمران: 114). وأما الفرق المختلفة من أصحاب الارتياضات والاعمال النفسية كأصحاب السحر والسيمياء وأصحاب الطلسمات وتسخير الارواح والجن وروحانيات الحروف والكواكب وغيرها وأصحاب الاحضار وتسخير النفوس، فلكل منهم ارتياضات نفسية خاصة تنتج نوعا من السلطة على أمر النفس. (1) وجملة الامر على ما يتحصل من جميع ما مر: أن الوجهة الاخيرة لجميع أرباب الاديان والمذاهب والاعمال هو تهذيب النفس بترك هواها والاشتغال بتطهيرها من شوب الاخلاق والاحوال غير المناسبة للمطلوب. 5 - لعلك ترجع وتقول: إن الذى ثبت من سنن أرباب المذاهب والطرق وسيرهم هو الزهد في الدنيا وهو غير مسألة معرفة النفس أو الاشتغال بأمر النفس بالمعنى الذى تقدم البحث عنه. وبلفظ أوضح: الذى يندب إليه الاديان والمذاهب التى تدعو إلى العبودية بنحو أن يتزهد الانسان نوع تزهد في الدنيا بإتيان الاعمال الصالحة وترك الهوى والاثام ورذائل الاخلاق ليتهيأ بذلك لاحسن الجزاء إما في الاخرة كما يصرح به الاديان النبوية كاليهودية والنصرانية والاسلام، أو في الدنيا كما استقر عليه دين الوثنية ومذهب
(1) راجع في ذلك كتاب السر المكتوم للرازي والذخيرة الاسكندرية والكواكب السبعة للحكيم طمطم الهندي ورسالة السكاكى في التسخير والدر المكتوم لابن عربي وكتب الارواح والاحضار المعمولة أخيرا وغير ذلك. (*)
[ 186 ]
التناسخ وغيرهما. فالمتعبد على حسب الدستور الدينى يأتي بما ندب إليه من نوع التزهد من غير أن يخطر بباله أن هناك نفسا مجردة، وان لها نوعا من المعرفة، فيه سعادتها وكمال وجودها. وكذلك الواحد من أصحاب الرياضات على اختلاف طرقها وسننها إنما يرتاض بما يرتاض من مشاق الاعمال ولا هم له في ذلك إلا حيازة المقام الموعود فيها والتسلط على نتيجة العمل، كنفوذ الارادة مثلا وهو في غفلة من أمر النفس المذكور من حين يأخذ في عمله إلى حين يختمه. على ان في هؤلاء من لا يرى في النفس إلا أنها أمر مادى طبيعي كالدم أو الروح البخاري أو الاجزاء الاصلية، ومن يرى ان النفس جسم لطيف مشاكل للبدن العنصري حال فيه، وهو الحامل للحياة فكيف يسوغ القول بكون الجميع يرومون بذلك أمر معرفة النفس ؟. لكنه ينبغى لك ان تتذكر ما تقدم ذكره ان الانسان في جميع هذه المواقف التى يأتي فيها بأعمال تصرف النفس عن الاشتغال بالامور الخارجية والتمتعات المتفننة المادية إلى نفسها للحصول على خواص وآثار لا توصل إليها الاسباب المادية والعوامل الطبيعية العادية، لا يريد إلا الانفصال عن العلل والاسباب الخارجية، والاستقلال بنفسه للحصول على نتائج خاصة لا سبيل للعوامل المادية العادية إليها. فالمتدين المتزهد في دينه يرى ان من الواجب الانساني ان يختار لنفسه سعادته الحقيقية وهى الحياة الطيبة الاخروية عند المنتحلين بالمعاد، والحياة السعيدة الدنيوية التى تجمع له الخير وتدفع عنه الشر عند المنكرين له كالوثنية وأصحاب التناسخ، ثم يرى ان الاسترسال في التمتعات الحيوانية لا تحوز له سعادته، ولا تسلك به إلى غرضه، فلا محيص له عن رفض الهوى وترك الانطلاق إلى كل ما تتهوسه نفسه بأسبابها العادية
في الجملة، والانجذاب إلى سبب أو أسباب فوق الاسباب المادية العادية بالتقرب إليه والاتصال به، وان هذا التقرب والاتصال إنما يتأتى بالخضوع له والتسليم لامره وذلك أمر روحي نفساني لا ينحفظ إلا بأعمال وتروك بدنية، وهذه هي العبادة الدينية من صلاة ونسك أو ما يرجع إلى ذلك.
[ 187 ]
فالاعمال والمجاهدات والارتياضات الدينية ترجع جميعا إلى نوع من الاشتغال بأمر النفس، والانسان يرى بالفطرة أنه لا يأخذ شيئا ولا يترك شينا إلا لنفع نفسه، وقد تقدم ان الانسان لا يخلو، ولا لحظة من لحظات وجوده من مشاهدة نفسه وحضور ذاته وأنه لا يخطئ في شعوره هذا البتة، وإن أخطأ فإنما يخطئ في تفسيره بحسب الرأى النظرى والبحث الفكري، فظهر بهذا البيان ان الاديان والمذاهب على اختلاف سننها وطرقها لا تروم إلا الاشتغال بأمر النفس في الجملة، سواء علم بذلك المنتحلون بها أم لم يعلموا. وكذلك الواحد من أصحاب الرياضات والمجاهدات وإن لم يكن منتحلا بديلا ولا مؤمنا بأمر حقيقة النفس لا يقصد بنوع رياضته التى يرتاض بها إلا الحصول على نتيجتها الموعودة له، وليست النتيجة الموعودة مرتبطة بالاعمال والتروك التى يأتي بها ارتباطا طبيعيا نظير الارتباط الواقع بين الاسباب الطبيعية ومسبباتها، بل هو ارتباط إرادى غير مادى متعلق بشعور المرتاض وإرادته المحفوظين بنوع العمل الذى يأتي به، دائر بين نفس المرتاض وبين النتيجة الموعودة، فحقيقة الرياضة المذكورة هي تأييد النفس وتكميلها في شعورها وإرادتها للنتيجة المطلوبة، وإن شئت قلت: أثر الرياضة ان تحصل للنفس حالة العلم بأن المطلوب مقدور لها فإذا صحت الرياضة وتمت صارت بحيث لو ارادت المطلوب مطلقا أو ارادته على شرائط خاصة كإحضار الروح للصبى غير المراهق في المرآت حصل المطلوب.
وإلى هذا الباب يرجع معنى ما روى: " انه ذكر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ان بعض أصحاب عيسى عليه السلام كان يمشى على الماء فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لو كان يقينه اشد من ذلك لمشى على الهواء " فالحديث - كما ترى - يومئ إلى ان الامر يدور مدار اليقين بالله سبحانه وإمحاء الاسباب الكونية عن الاستقلال في التأثير، فإلى أي مبلغ بلغ ركون الانسان إلى القدرة المطلقة الالهية انقادت له الاشياء على قدره، فافهم ذلك. ومن أجمع القول في هذا الشأن قول الصادق عليه السلام: ما ضعف بدن عما قويت عليه النية، وقال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتواتر: " إنما الاعمال بالنيات ". فقد تبين أن الاثار الدينية للاعمال والعبادات و كذلك آثار الرياضات والمجاهدات إنما تستقر الرابطة بينها وبين النفس الانسانية بشؤونها الباطنية، فالاشتغال بشئ منها
[ 188 ]
اشتغال بأمر النفس. ومن زعم أن رابطة السببية والمسببية إنما هي بين أجساد هذه الاعمال وبين الغايات الاخروية مثلا من روح وريحان وجنة نعيم، أو بينها وبين الغايات الدنيوية الغريبة التى لا تعمل الاسباب الطبيعية فيها، كالتصرف في إدراكات النفوس وأنواع إرادتها والتحريكات من غير محرك والاطلاع على الضمائر والحوادث المستقبلة والاتصال بالروحانيات والارواح ونحو ذلك، أو زعم أن العمل يستتبع الاثر من غير رابطة حقيقية أو بمجرد إرادة إلهية من غير مخصص فقد غر نفسه. 6 - إياك أن يشتبه عليك الامر فتستنتج من الابحاث السابقة أن الدين هو العرفان والتصوف أعنى معرفة النفس كما توهمه بعض الباحثين من الماديين فقسم المسلك الحيوى الدائر بين الناس إلى قسمين: المادية والعرفان وهو الدين. وذلك أن الذى يعقد عليه الدين أن للانسان سعادة حقيقية ليس ينالها إلا بالخضوع لما فوق الطبيعة ورفض الاقتصار على التمتعات المادية، وقد انتجت الابحاث السابقة:
أن الاديان أيا ما كانت من حق أو باطل تستعمل في تربية الناس وسوقهم إلى السعادة التى تعدهم إياها وتدعوهم إليها إصلاح النفس و تهذيبها إصلاحا وتهذيبا يناسب المطلوب، وأين هذا من كون عرفان النفس هو الدين. فالدين يدعو إلى عبادة الاله سبحانه من غير واسطة أو بواسطة الشفعاء والشركاء لان فيها السعادة الانسانية والحياة الطيبة التى لا بغية للانسان دونها، ولا ينالها الانسان ولن ينالها إلا بنفس طاهرة مطهرة من ألواث التعلق بالماديات والتمتعات المرسلة الحيوانية، فمست الحاجة إلى أن يدرج في أجزاء دعوته إصلاح النفس وتطهيرها ليستعد المنتحل به المتربى في حجره للتلبس بالخير والسعادة، ولا يكون كمن يتناول الشئ بإحدى يديه ويدفعه بالاخرى، فالدين أمر وعرفان النفس أمر آخر وراءه، وإن استلزم الدين العرفان نوعا من الاستلزام. وبنظير البيان يتبين أن طرق الرياضة، والمجاهدة المسلوكة لمقاصد متنوعة غريبة عن العادة أيضا غير عرفان النفس وإن ارتبط البعض بالبعض نحوا من الارتباط. نعم لنا أن نقضى بأمر وهو أن عرفان النفس بأى طريق من الطرق فرض السلوك
[ 189 ]
إليه إنما هو أمر مأخوذ من الدين كما أن البحث البالغ الحر يعطى أن الاديان على اختلافها وتشتتها إنما انشعبت هذه الانشعابات من دين واحد عريق تدعو إليه الفطرة الانسانية وهو دين التوحيد. فإنا إذا راجعنا فطرتنا الساذجة بالاغماض عن التعصبات الطارئة علينا بالوراثة من أسلافنا أو بالسراية من أمثالنا، لم نرتب في أن العالم على وحدته في كثرته وارتباط أجزائه في عين تشتتها ينتهى إلى سبب واحد فوق الاسباب، وهو الحق الذى يجب الخضوع لجانبه وترتيب السلوك الحيوى على حسب تدبيره وتربيته، وهو الدين المبنى على التوحيد.
والتأمل العميق في جميع الاديان والنحل يعطى أنها مشتملة نوع اشتمال على هذا الروح الحى حتى الوثنية والثنوية، وإنما وقع الاختلاف في تطبيق السنة الدينية على هذا الاصل والاصابة والاخطاء فيه، فمن قائل مثلا: إنه أقرب إلينا من حبل الوريد وهو معنا أينما كنا ليس لنا من دونه من ولى ولا شفيع فمن الواجب عبادته وحده من غير إشراك، ومن قائل: إن تسفل الانسان الارضى وخسة جوهره لا يدع له مخلصا إلى الاتصال بذاك الجناب، وأين التراب ورب الارباب ؟ فمن الواجب أن نتقرب إلى بعض عباده المكرمين المتجردين عن جلباب المادة الطاهرين المطهرين من ألواث الطبيعة وهم روحانيات الكواكب أو أرباب الانواع أو المقربون من الانسان " وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ". وإذ كانوا غائبين عن حواسنا متعالين عن جهاتنا كان من الواجب أن نجسدهم بالانصاب والاصنام حتى يتم بذلك أمر التقرب العبادي، وعلى هذا القياس في سائر الاديان والملل فلا نجد في متونها إلا ما هو بحسب الحقيقة نحو توجيه لتوحيد الاله عز اسمه. ومن المعلوم أن السنن الدائرة بين الناس وإن انشعبت أي انشعاب فرض واختلفت أي اختلاف شديد فإنها تميل إلى التوحد إذا رجعنا إلى سابق عهودها القهقرى، وتنتهى بالاخرة إلى دين الفطرة الساذجة الانسانية وهو التوحيد، فدين التوحيد أبو الاديان وهى أبناء له صالحة أو طالحة.
[ 190 ]
ثم إن الدين الفطري إنما يعتبر أمر عرفان النفس ليتوصل به إلى السعادة الانسانية التى يدعو إليها وهى معرفة الاله التى هي المطلوب الاخير عنده، وبعبارة أخرى الدين إنما يدعو إلى عرفان النفس دعوة طريقية لا غائية فإن الذوق الدينى لا يرتضى الاشتغال بأمر إلا في سبيل العبودية، وإن الدين عند الله الاسلام ولا يرضى لعباده الكفر فكيف
يرضى بعرفان النفس إذا استقل بالمطلوبية ؟. ومن هنا يظهر أن العرفان ينتهى إلى أصل الدين الفطري إذ ليس هو بنفسه أمرا مستقلا يدعو إليه الفطرة الانسانية حتى ينتهى فروعه وأغصانه إلى أصل واحد هو العرفان الفطري. ويمكن أن يستأنس في ذلك بأمر آخر وهو أن الانسانية وإن اندفعت بالفطرة إلى الاجتماع والمدنية لاسعاد الحياة، وأثبت النقل والبحث أن رجالا أو أقواما اجتماعيين دعوا إلى طرائق قومية أو وضعوا سنئا اجتماعية، وأجروها بين أممهم كسنن القبائل والسنة الملوكية والديمقراطية ونحوها، ولم يثبت بنقل أو بحث أن يدعو إلى عرفان النفس وتهذيب أخلاقها أحد من غير أهل الدين في طول التاريخ البشرى. نعم من الممكن أن يكون بعض أصحاب هذه الطرق غير الدينية كأصحاب السحر والارواح ونحوهما إنما تنبه إلى هذا النوع من عرفان النفس من غير طريق الدين لكن لا من جهة الفطرة إذ الفطرة لا حكم لها في ذلك كما عرفت بل من جهة مشاهدة بعض الاثار النفسانية الغريبة على سبيل الاتفاق فتتوق نفسه إلى الظفر بمنزلة نفسانية يملك بها أعمالا عجيبة وتصرفات في الكون نادرة تستغربها النفوس فيدفعه هذا التوقان إلى البحث عنه والسلوك إليه ثم السلوك بعد السلوك يمهد السبيل إلى المطلوب ويسهل الوعر منه. 7 - يحكى عن كثير من صلحائنا من أهل الدين أنهم نالوا في خلال مجاهداتهم الدينية كرامات خارقة للعادة وحوادث غريبة اختصوا بها من بين أمثالهم كتمثل أمور لابصارهم غائبة عن أبصار غيرهم، ومشاهدة أشخاص أو وقائع لا يشاهدها حواس من دونهم من الناس، واستجابة للدعوة وشفاء المريض الذى لا مطمع لنجاح المداواة فيه، والنجاة من المخاطر والمهالك من غير طريق العادة، وقد يتفق نظائر ذلك لغير أهل الصلاح إذا كان ذانية صادقة ونفس منقطعة، فهؤلاء يرون ما يرون وهم على غفلة من سببه القريب، وإنما يسندون ذلك إلى الله سبحانه من غير توسيط وسط، واستناد
[ 191 ]
الامور إليه تعالى، وإن كان حقا لا محيص عن الاعتراف به لكن نفى الاسباب المتوسطة مما لا مطمع فيه. وربما أحضر الروحي روح أحد من الناس في مرآة أو ماء ونحوه بالتصرف في نفس صبى - على ما هو المتعارف - وهو كغيره يرى إن الصبى إنما يبصره بالبصر الحسى، وأن بين أبصار سائر الناظرين وبين الروح المحضر حجابا مضروبا لو كشف عنه لكانوا مثل الصبى في الظفر بمشاهدته. وربما وجدوا الارواح المحضرة أنها تكذب في أخبارها فيكون عجبا لان عالم الارواح عالم الطهارة والصفاء لا سبيل للكذب والفرية والزور إليه. وربما أحضروا روح إنسان حى فيستنطقونه بأسراره وضمائره وصاحب الروح في حالة اليقظة مشغول بأشغاله وحوائجه اليومية لا خبر عنده من أن روحه محضر مستنطق يبث من القول ما لا يرضى هو ببثه. وربما نوم الانسان تنويما مغناطيسيا ثم لقن بعمل حتى ينعم بقبوله فإذا أوقظ ومضى لشأنه أتى بالعمل الذى لقنه على الشريطة التى أريد بها وهو غافل عما لقنوه وعن إنعامه بقبوله. وبعض الروحيين لما شاهدوا صورا روحية تماثل الصور الانسانية أو صور بعض الحيوان ظنوا أن هذه الصور في عالم المادة وظرف الطبيعة المتغيرة، وخاصة بعض من لا يرى لغير الامر المادى وجودا، حتى حاول بعض هؤلاء أأن يخترع أدوات صناعية يصطاد بها الارواح، كل ذلك استنادا منهم إلى فرضية افترضوها في النفس: أنها مبدأ مادى أو خاصة لمبدأ مادى يفعل بالشعور والارادة، مع أنهم لم يحلوا مشكلة الحياة والشعور حتى اليوم. ونظير هذه الفرضية فرضية من يرى أأن الروح جسم لطيف مشاكل للبدن
العنصري في هيئاته وأشكاله لما وجدوا أن الانسان يرى نفسه في المنام وهو على هيئته في اليقظة، وربما يمثل لارباب المجاهدات صور أنفسهم قبالا خارج أبدانهم وهى مشاكلة للصورة البدنية مشاكلة تامة، فحكموا أن الروح جسم لطيف حال في البدن العنصري مادام الانسان حيا فإذا فارق البدن كان هو الموت.
[ 192 ]
وقد فاتهم أن هذه صورة إدراكية قائمة بشعور الانسان نظيرة صورته التى يدركها من بدنه، ونظيرة صور سائر الاشياء الخارجة المنفصلة عن بدنه، وربما تظهر هذه الصورة المنفصلة لبعض أرباب المجاهدة أكثر من واحدة أو في هيئة غير هيئة نفسه، وربما يرى نفسه عين نفس غيره من أفراد الناس، فإذا لم يحكموا في هذه الصور المذكورة أنها هي صورة الروح فجدير بهم أن لا يحكموا في الصورة الواحدة المشاكلة التى تتراءى لارباب المجاهدات أنها صورة الروح. وحقيقة الامر أن هؤلاء نالوا شيئا من معارف النفس وفاتهم معرفة حقيقتها كما هي فأخطأوا في تفسير ما نالوه وضلوا في توجيه أمره، والحق الذى يهدى إليه البرهان والتجربة أن حقيقة النفس التى هي هذا الشعور المتعقل المحكى عنه بقولنا " أنا " أمر مغاير في جوهره لهذه الامور المادية كما تقدم، وأن أقسام شعوره وأنواع إدراكاته من حس أو خيال أو تعقل من جهة كونها مدركات إنما هي متقررة في عالمه وظرفه غير الخواص الطبيعية الحاصلة في أعضاء الحس والادراك من البدن فإنها أفعال وانفعالات مادية فاقدة في نفسها للحياة والشعور، فهذه الامور المشهودة الخاصة بالصلحاء وأرباب المجاهدات والرياضات غير خارجة عن حيطة نفوسهم، وإنما الشأن في أن هذه المعلومات والمعارف كيف استقرت في النفس وأين محلها منها ؟ وأن للنفس سمة عليه لجميع الحوادث والامور المرتبطة بها ارتباطا ما، فجميع هذه الامور الغريبة المطاوعة لاهل الرياضة والمجاهدة إنما ترتضع من إرادتهم ومشيئتهم، والارادة ناشئة من الشعور، فللشعور
الانساني دخل في جميع الحوادث المرتبطة به والامور المماسة له. 8 - فمن الحرى أن نقسم المشتغلين بعرفان النفس في الجملة إلى طائفتين: إحداهما المشتغلون به بالاشتغال بإحراز شئ من آثار النفس الغريبة الخارجة عن حومة المتعارف من الاسباب والمسببات المادية، كأصحاب السحر والطلسمات وأصحاب تسخير روحانيات الكواكب والموكلين على الامور والجن وأرواح الادميين وأصحاب الدعوات والعزائم ونحو ذلك. والثانية المشتغلون بمعرفة النفس بالانصراف عن الامور الخارجة عنها والانجذاب نحوها للغور فيها ومشاهدة جوهرها وشؤونها كالمتصوفة على اختلاف طبقاتهم ومسالكهم. وليس التصوف مما أبدعه المسلمون من عند أنفسهم لما أنه يوجد بين الامم التى
[ 193 ]
تتقدمهم في النشوء كالنصارى وغيرهم حتى الوثنية من البرهمانية والبوذية، ففيهم من يسلك الطريقة حتى اليوم بل هي طريقة موروثة ورثوها من أسلافهم. لكن لا بمعنى الاخذ والتقليد العادى كوراثة الناس ألوان المدنية بعضهم من بعض وأمة منهم متأخرة من أمة منهم متقدمة كما جرى على ذلك عدة من الباحثين في الاديان والمذاهب، وذلك لما عرفت في الفصول السابقة أن دين الفطرة يهدى إلى الزهد والزهد يرشد إلى عرفان النفس، فاستقرار الدين بين أمة وتمكنه من قلوبهم يعدهم ويهيؤهم لان تنشأ بينهم طريقة عرفان النفس لا محالة، ويأخذ بها بعض من تمت في حقه العوامل المقتضية لذلك، فمكث الحياة الدينية في أمة من الامم برهة معتدا بها ينشئ بينهم هذه الطريقة لا محالة صحيحة أو فاسدة وإن انقطعوا عن غيرهم من الامم الدينية كل الانقطاع، وما هذا شأنه لا ينبغى أن يعد من السنن الموروثة التى يأخذها جيل عن جيل. 9 - ثم ينبغى أن نقسم أصحاب القسم الثاني من القسمين المتقدمين وهم أهل
العرفان حقيقة إلى طائفتين: فطائفة منهم يسلكون الطريقة لنفسها فيرزقون شيئا من معارفها من غير أن يتم لهم تمام المعرفة لها لانهم لما كانوا لا يريدون غير النفس فهم في غفلة عن أمر صانعها وهو الله عز اسمه الذى هو السبب الحق الاخذ بناصية النفس في وجودها وآثار وجودها وكيف يسع الانسان تمام معرفة شئ مع الذهول عن معرفة أسباب وجوده وخاصة السبب الذى هو سبب كل سبب ؟ وهل هو إلا كمن يدعى معرفة السرير على جهل منه بالنجار وقدومه ومنشاره وغرضه في صنعه إلى غير ذلك من علل وجود السرير ؟. ومن الحرى بهذا النوع من معرفة النفس أن يسمى كهانة بما في ذيله من الحصول على شئ من علوم النفس وآثارها. وطائفة منهم يقصدون طريقة معرفة النفس لتكون ذريعة لهم إلى معرفة الرب تعالى، وطريقتهم هذه هي التى يرتضيها الدين في الجملة وهى أن يشتغل الانسان بمعرفة نفسه بما أنها آية من آيات ربه وأقرب آية، وتكون النفس طريقا مسلوكا والله سبحانه
[ 194 ]
هو الغاية التى يسلك إليها " وأن إلى ربك المنتهى ". وهؤلاء طوائف مختلفة ذووا مذاهب متشتتة في الامم والنحل، وليس لنا كثير خبرة بمذاهب غير المسلمين منهم وطرائقهم التى يسلكونها، وأما المسلمون فطرقهم فيها كثيرة ربما أنهيت بحسب الاصول إلى خمس وعشرين سلسلة، تنشعب من كل سلسلة منها سلاسل جزئية أخر، وقد استندوا فيها إلا في واحدة إلى على عليه أفضل السلام، وهناك رجال منهم لا ينتمون إلى واحدة من هذه السلاسل ويسمون الاويسية (نسبة إلى أويس القرنى) وهناك آخرون منهم لا يتسمون باسم ولا يتظاهرون بشعار. ولهم كتب ورسائل مسفورة ترجموا فيها عن سلاسلهم وطرقهم، والنواميس والاداب التى لهم وعن رجالهم، وضبطوا فيها المنقول من مكاشفاتهم، وأعربوا فيها
عن حججهم ومقاصدهم التى بنوها عليها، من أراد الوقوف عليها فليراجعها. وأما البحث عن تفصيل الطرق والمسالك وتصحيح الصحيح ونقد الفاسد فله مقام آخر وقد تقدم في الجزء الخامس من هذا الكتاب بحث لا يخلو عن نفع في هذا الباب، فهذه خلاصة ما أردنا إيراده من البحث المتعلق بمعنى معرفة النفس. واعلم أن عرفان النفس بغية عملية لا يحصل تمام المعرفة بها إلا من طريق السلوك العملي دون النظرى، وأما علم النفس الذى دونه أرباب النظر من القدماء فليس يغنى من ذلك شيئا، وكذلك فن النفس العملي الذى دونه المتأخرون حديثا فإنما هو شعبة من فن الاخلاق على ما دونه القدماء، والله الهادى. * * * يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الارض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلوة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشترى به ثمنا ولو كان ذا قربى
[ 195 ]
ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الاثمين - 106. فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الاوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين - 107. ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدى القوم الفاسقين - 108. يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب - 109. (بيان)
الايات الثلاث الاول في الشهادة، والاخيرة لا تخلو عن اتصال ما بها بحسب المعنى. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " إلى آخر الايتين، محصل مضمون الايتين أن أحدهم إذا كان على سفر فأراد أن يوصى فعليه أن يشهد حين الوصية شاهدين عدلين من المسلمين وإن لم يجد فشاهدين آخرين من غير المسلمين من أهل الكتاب فإن ارتاب أولياء الميت في أمر الوصية يحبس الشاهدان بعد الصلاة فيقسمان بالله على صدقهما فيما يشهدان عليه وترفع بذلك الخصومة، فإن اطلعوا على أن الشاهدين كذبا في شهادتهما أو خانا في الامر فيوقف شاهدان آخران مقام الشاهدين الاولين فيشهدان على خلافهما ويقسمان بالله على ذلك. فهذا ما تفيده الايتان بظاهرهما فقوله: " يا أيها الذين آمنوا " خطاب للمؤمنين والحكم مختص " بهم شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم " أي شهادة بينكم شهادة ذوى عدل منكم، ففى جانب الخبر مضاف مقدر، أو شهداء بينكم ذوا عدل منكم، والمراد أن عدد الشهود اثنان فالمصدر - الشهادة - بمعنى اسم الفاعل كقولهم: رجل عدل ورجلان عدل.
[ 196 ]
وحضور الموت كناية عن حضور داعى الوصية فإن الناس بحسب الطبع لا يشتغلون بأمثال هذه الامور من غير حضور أمر يوجب الظن بالموت، وهو عادة المرض الشديد الذى يشرف الانسان به على الموت. وقوله: " حين الوصية " ظرف متعلق بالشهادة أي الشهادة حين الوصية، والمراد بالعدل - وهو مصدر - الاستقامة في الامر، وقرينة المقام تعطى أن المراد به الاستقامة في أمر الدين، ويتعين بذلك أن المراد بقوله: " منكم " وقوله: " من غيركم " المسلمون وغير المسلمين، دون القرابة والعشيرة فإن الله سبحانه قابل بين قوله: " اثنان " وقوله: " آخران "، ثم وصف الاول بقوله " ذوا عدل " وقوله: " منكم " ولم يصف الثاني
إلا بقوله: " من غيركم " دون أن يصفه بالعدالة، والاتصاف بالاستقامة في الدين وعدمه إنما يختلف في المسلم وغير المسلم، ولا موجب لاعتبار العدالة في الشهود إذا كانوا قرابة أو من عشيرة المشهود له وإلغائها إذا كان الشاهد أجنبيا. وعلى هذا فقوله: " أو آخران من غيركم " ترديد على سبيل الترتيب أي إن كان هناك نفر من المسلمين يستشهد اثنان منهم، وإن لم يكن إلا من غير المسلمين يستشهد باثنين منهم، كل ذلك بالاستفادة من قرينة المقام. وهذه القرينة بعينها هي التى توجب أن يكون قوله: " إن أنتم ضربتم في الارض فأصابتكم مصيبة الموت " قيدا متعلقا بقوله: " أو آخران من غيركم " فإن المسلم لما كان بالطبع إنما يعيش في مجتمع المسلمين لا تمس الحاجة في الحضر عادة إلى الاستشهاد بشهيدين من غير المسلمين بخلاف حالة السفر والضرب في الارض فإنها مظنة وقوع أمثال هذه الوقائع والاضطرار ومسيس الحاجة إلى الانتفاع من غير المسلم بشهادة أو غيرها. وقرينة المقام أعنى المناسبة بين الحكم والموضوع بالذوق المتخذ من كلامه تعالى تدل على أن المراد من غير المسلمين أهل الكتاب خاصة لان كلامه تعالى لا يشرف المشركين بكرامة. وقوله تعالى: " تحبسونهما من بعد الصلاة " أي توقفونهما، والحبس الايقاف " فيقسمان بالله " أي الشاهدان " إن ارتبتم " أي شككتم فيما يظهره الوصي من أمر الوصية أو المال الذى تعلقت به الوصية أو في كيفية الوصية، والمقسم عليه هو قوله:
[ 197 ]
" لا نشترى به ثمنا قليلا ولو كان ذا قربى " أي لا نشترى بالشهادة للوصي فيما يدعيه ثمنا قليلا ولو كان ذا قربى، واشتراء الثمن القليل بالشهادة أن ينحرف الشاهد في شهادته عن الحق لغاية دنيوية من مال أو جاه أو عاطفة قرابة فيبذل شهادته بإزاء ثمن دنيوى، وهو الثمن القليل.
وذكر بعضهم أن الضمير في قوله: " به " إلى اليمين أي لا نشتري بيميننا ثمنا، قليلا، ولازمه اجراء اليمين مرتين والاية بمعزل عن الدلالة على ذلك. وقوله: " ولا نكتم شهادة الله " أي بالشهادة على خلاف الواقع " إنا إذا لمن الاثمين " الحاملين للاثم، والجملة معطوفة على قوله: " لا نشترى به ثمنا قليلا " كعطف التفسير. وإضافة الشهادة إلى الله في قوله: " شهادة الله " إما لان الواقع يشهده الله سبحانه كما شهده الشاهدان فهو شهادته سبحانه كما هو شهادتهما والله أحق بالملك فهو شهادته تعالى حقا وبالاصالة و شهادتهما تبعا، وقد قال تعالى: " وكفى بالله شهيدا " (النساء: 79) وقال تعالى: " ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء " (البقرة: 255). وإما لان الشهادة حق مجعول لله على عباده يجب عليهم أن يقيموها على وجهها من غير تحريف أو كتمان، وهذا كما يقال: دين الله، فينسب الدين إليه تعالى مع أن العباد هم المتلبسون به، قال تعالى: " وأقيموا الشهادة لله " (الطلاق: 3) وقال: ! ولا تكتموا الشهادة " (البقرة: 283). وقوله: " فإن عثر على أنهما استحقا إثما " العثور على الشئ الحصول عليه ووجد انه، وهذه الاية بيان وتفصيل للحكم في صورة ظهور خيانة الشاهدين وكذبهما في شهادتهما. والمراد باستحقاق الاثم الاجرام والجناية يقال: استحق الرجل أي أذنب، واستحق فلان إثما على فلان كناية عن إجرامه وجنايته عليه ولذا عدى بعلى في قوله تعالى ذيلا: " استحق عليهم الاوليان " أي أجرما وجنيا عليهم بالكذب والخيانة، وأصل معنى قولنا: استحق الرجل طلب أن يحق ويثبت فيه الاثم أو العقوبة فاستعماله الكنائى من قبيل إطلاق الطلب وإرادة المطلوب ووضع الطريق موضع الغاية، وإنما
[ 198 ]
ذكر الاثم في قوله: " إستحقا إثما " بالبناء على ما تقدم في قوله: " إنا إذ المن الاثمين " وقوله تعالى: " فآخران يقومان مقامهما " أي إن عثر على أن الشاهدين استحقا بالكذب والخيانة فشاهدان آخران يقومان مقامهما في اليمين على شهادتهما عليهما بالكذب والخيانة. وقوله: " من الذين استحق عليهم الاوليان " في موضع الحال أي حال كون هذين الجديدين من الذين استحق عليهم أي أجرم وجنى عليهم الشاهدان الاولان اللذين هما الاوليان الاقربان بالميت من جهة الوصية كما ذكره الرازي في تفسيره، والمراد بالذين استحق عليهم الاوليان أولياء الميت، وحاصل المعنى أنه إن عثر على أن الشاهدين أجرما على أولياء الميت بالخيانة والكذب فيقوم شاهدان آخران من أولياء الميت الذين أجرم عليهم الشاهدان الاولان الاوليان بالموت قبل ظهور استحقاقهما الاثم. هذا على قراءة " استحق " بالنباء للفاعل وهو قراءة عاصم على رواية حفص، وأما على قراءة الجمهور " استحق " بضم التاء وكسر الحاء بالبناء للمفعول فظاهر السياق أن يكون الاوليان مبتدءا خبره قوله: " فآخران يقومان " (الخ)، قدم عليه لتعلق العناية به، والمعنى إن عثر على أنهما استحقا إثما فالاوليان بالميت هما آخران يقومان مقامهما من أوليائه المجرم عليهم. وفي قراءة عاصم من طريق أبى بكر وحمزة وخلف ويعقوب " الاولين " جمع الاول مقابل الاخر، وهو بظاهره بمعنى الاولياء والمقدمين، وصف أو بدل من قوله: " الذين ". وقد ذكر المفسرون في تركيب أجزاء الاية وجوها كثيرة جدا لو ضرب بعضها في بعض للحصول على معنى تمام الاية ارتقت إلى مئين من الصور، وقد ذكر الزجاج فيما نقل عنه: أنها أشكل آية في كتاب الله من حيث التركيب. والذى أوردناه من المعنى هو الظاهر من سياق اللفظ من غير تعسف في الفهم،
وأضربنا عن استقصاء ما ذكروه من المحتملات لان تكثيرها لا يزيد اللفظ إلا إبهاما، ولا الباحث إلا حيرة.
(1) وعلى من يريد الاطلاع عليها أن يراجع الجزء السابع من تفسير روح المعاني للالوسي ومججمع البيان وتفسير الرازي وسائر المطولات. (*)
[ 199 ]
وقد فرع على قوله: " فآخران يقومان، الخ " تفريع الغاية على ذى الغاية قوله: " فيقسمان بالله " أي الشاهدان الاخران من أولياء الميت " لشهادتنا " بما يتضمن كذبهما وخيانتهما " أحق من شهادتهما " أي من شهادة الشاهدين الاولين بما يدعيان من أمر الوصية " وما اعتدينا " عليهما بالشهادة على خلاف ما شهدا عليه " إنا إذا لمن الظالمين ". قوله تعالى: " ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم " الاية في مقام بيان حكمة التشريع وهى أن هذا الحكم على الترتيب الذى قرره الله تعالى أحوط طريق إلى حيازة الواقع في المقام، وأقرب من أن لا يجور الشاهدان في شهادتهما ويخافا من أن يتغير الامر عليهما برد شهادتهما بعد قبولها. فإن الانسان ذو هوى يدعوه إلى التمتع بكل ما يسعه التمتع به والقبض على كل ما يتهوسه إذا لم يكن هناك مانع يصرفه عنه سواء كان ذلك منه عن حق يستحقه أو جورا، عدلا أو ظلما وتعديا على غيره بإبطال حقه والغلبة عليه، وإنما ينصرف الانسان عن هذا التعدي والتجاوز إما لمانع يمنعه من خارج بسياسة أو عقوبة أو فضيحة، وإما لرادع يردعه من نفسه، وأقوى رادع نفساني هو الاعتقاد بالله الذى إليه مرجع العباد وحساب الاعمال والقضاء الفصل والجزاء المستوفى. وإذا كان الواقع من أمر الوصية بحسب فرض المقام مجهولا لا طريق إلى كشفه إلا شهادة من أشهدهما الميت من الشاهدين فأقوى ما يقرب شهادتهما من الصدق أن يؤخذ في ذلك بإيمانهما بالله تعالى وهو اليمين، وأن يرد اليمين إلى الورثة الاولياء مع يمينهما على تقدير انكشاف كذبهما وخيانتهما عند الورثة، فهذان أعنى يمينهما أولاثم رد اليمين
إلى الورثة أقرب وسيلة إلى صدقهما في شهادتهما وخوفهما فضيحة رد اليمين، والرادعان أقوى ما يردعهما من الانحراف. ثم عقب تعالى القول بالموعظة والانذار فقال: " واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدى القوم الفاسقين " والمعنى واضح. قوله تعالى: " يوم يجمع الله الرسل فيقول ما ذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب " الاية لا تأبى الاتصال بما قبلها فإن ظاهر قوله تعالى في ذيل الاية السابقة: " واتقوا الله واسمعوا، الخ " وإن كان مطلقا لكنه بحسب الانطباق على المورد نهى عن
[ 200 ]
الانحراف والجور في الشهادة والاستهانة بأمر اليمين بالله فناسب أن يذكر في المقام بما يجرى بينه سبحانه وبين رسله يوم القيامة وهم شهداء على اممهم وأفضل الشهداء، حيث يسألهم الله سبحانه عن الذى أجابهم به اممهم وهم أعلم الناس بأعمال اممهم والشاهدون من عند الله عليهم فيجيبونه بقولهم: " لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ". فإذا كان الامر على هذه الوتيرة، وكان الله سبحانه هو العالم بكل شئ حق العلم فجدير بالشهود أن يخافوا مقام ربهم: ولا ينحرفوا عن الحق الذى رزقهم الله العلم به، ولا يكتموا شهادة الله فيكونوا من الاثمين والظالمين والفاسقين. فقوله تعالى: " يوم يجمع، الخ " ظرف متعلق بقوله في الاية السابقة: " واتقوا الله، الخ " وذكر جمع الرسل دون أن يقال: " يوم يقول الله المرسل " لمكان مناسبة مع جمع الشهداء للشهادة كما يشعر به قوله: " تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله ". وأما نفيهم العلم يومئذ عن أنفسهم بقولهم: " لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب " فإثباتهم جميع علوم الغيوب لله سبحانه على وجه الحصر يدل على أن المنفى ليس أصل العلم فإن ظاهر قولهم: " إنك أنت علام الغيوب " يدل على أنه لتعليل النفى، ومن المعلوم أن انحصار جميع علوم الغيب في الله سبحانه لا يقتضى رفع كل علم عن غيره
وخاصة إذا كان علما بالشهادة، والمسؤول عنه أعنى كيفية إجابة الناس لرسلهم من قبيل الشهادة دون الغيب. فقولهم: " لا علم لنا " ليس نفيا لمطلق العلم بل لحق العلم الذى لا يخلو عن التعلق بالغيب فإن من المعلوم أن العلم إنما يكشف لعالمه من الواقع على قدر ما يتعلق بأمر من حيث أسبابه ومتعلقاته، والواقع في العين مرتبط بجميع أجزاء الخارج مما يتقدم على الامر الواقع في الخارج وما يحيط به مما يصاحبه زمانا فالعلم بأمر من الامور الخارجية بحقيقة معنى العلم لا يحصل إلا بالاحاطة بجميع أجزاء الوجود ثم بصانعه المتعالى من أن يحيط به شئ، وهذا أمر وراء الطاقة الانسانية. فلم يرزق الانسان من العلم في هذا الكون الذى يبهته التفكير في سعة ساحته، وتهوله النظرة في عظمة أجرامه ومجراته، ويطير لبه الغور في متون ذراته، ويأخذه الدوار إذا أراد الجرى بين هاتين الغايتين إلا اليسير من العلم على قدر ما يحتاج إليه في
[ 201 ]
مسير حياته كالشمعة الصغيرة يحملها طارق الليل المظلم لا ينتفع من نورها إلا أن يميز ما يضع عليه قدمه من الارض. فما يتعلق به علم الانسان ناشب بوجوده متعلق بواقعيته بأطراف ثم بأطراف أطراف، وهكذا كل ذلك في غيب من إدراك الانسان فلا يتعلق العلم بحقيقة معنى الكلمة بشئ إلا إذا كان متعلقا بجميع الغيوب في الوجود، ولا يسع ذلك لمخلوق محدود مقدر إنسانا أو غيره إلا لله الواحد القهار الذى عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، قال الله تعالى: " والله يعلم وأنتم لا تعلمون " (البقرة: 216) فدل على أن من طبع الانسان الجهل فلا يرزق من العلم إلا محدودا مقدرا كما قال تعالى: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " (الحجر: 21) وهو قوله عليه السلام: حيث سئل عن علة احتجاب الله عن خلقه فقال: لانه بناهم بنية على الجهل، وقال
تعالى: " ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء " (البقرة: 255) فدل على أن العلم كله لله، وإنما يحيط منه الانسان بما شاء الله، وقال تعالى: " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " (الاسراء: 85) فدل على أن هناك علما كثيرا لم يؤت الانسان إلا قليلا منه. فإذن حقيقة الامر أن العلم حق العلم لا يوجد عند غير الله سبحانه، وإذ كان يوم القيامة يوما يظهر فيه الاشياء بحقائقها على ما تفيده الايات الواصفة لامره فلا مجال فيه إلا للكلام الحق كما قال تعالى: " لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، ذلك اليوم الحق " (النبأ: 39) كان من الجواب الحق إذا ما سئل الرسل فقيل لهم: " ما ذا أجبتم " أن يجيبوا بنفى العلم عن أنفسهم لكونه من الغيب، ويثبتوه لربهم سبحانه بقولهم: " لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ". وهذا الجواب منهم عليهم السلام نحو خضوع لحضرة العظمة والكبرياء واعتراف بحاجتهم الذاتية وبطلانهم الحقيقي قبال مولاهم الحق رعاية لادب الحضور وإظهارا لحقيقة الامر، وليس جوابا نهائيا لا جواب بعده البتة: أما أولا فلان الله سبحانه جعلهم شهداء على اممهم كما ذكره في قوله: " فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " (النساء: 41) وقال: " ووضع الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء " (الزمر: 69) ولا معنى لجعلهم شهداء
[ 202 ]
إلا ليشهدوا على اممهم يوم القيامة بما هو حق الشهادة يومئذ، فلا محالة هم سيشهدون يومئذ كما قدر الله ذلك فقولهم يومئذ: " لا علم لنا " جرى على الادب العبودي قبال الملك الحق الذى له الامر والملك يومئذ، وبيان لحقيقة الحال وهو أنه هو يملك العلم لذاته ولا يملك غيره إلا ما ملكه، ولا ضير أن يجيبوا بعد هذا الجواب بمالهم من العلم الموهوب المتعلق بأحوال اممهم، وهذا مما يؤيد ما قدمناه في البحث عن قوله تعالى: " وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس، الاية " (البقرة: 143)
في الجزء الاول من هذا الكتاب: أن هذا العلم والشهادة ليسا من نوع العلم والشهادة المعروفين عندنا وأنهما من العلم المخصوص بالله الموهوب لطائفة من عباده المكرمين. وأما ثانيا فلان الله سبحانه أثبت العلم لطائفة من مقربى عباده يوم القيامة على ما له من الشأن، قال تعالى: " وقال الذين اوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث " (الروم: 56) وقال تعالى: " وعلى الاعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم " (الاعراف: 46) وقال تعالى: " ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون " (الزخرف: 87) وعيسى بن مريم عليه السلام ممن تعمه الاية وهو رسول فهو ممن يشهد بالحق وهم يعلمون، وقال تعالى: " وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا " (الفرقان: 31) والمراد بالرسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذى تحكيه الاية من قوله هو بعينه جواب لما تشتمل عليه هذه الاية من السؤال أعنى قوله تعالى: " فيقول ما ذا أجبتم " فظهر أن قول الرسل عليهم السلام: " لا علم لنا " ليس جوابا نهائيا كما تقدم. وأما ثالثا فلان القرآن يذكر السؤال عن المرسلين والمرسل إليهم جميعا كما قال تعالى: " فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين " (الاعراف: 6) ثم ذكر عن الامم المرسل إليهم جوابات كثيرة عن سؤالات كثيرة، والجواب يستلزم العلم كما أن السؤال يقرره، وقال أيضا فيهم: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " (ق: 22)، وقال أيضا: ولو ترى إذا لمجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون " (السجدة: 12) إلى غير ذلك من الايات الكثيرة، وإذا كانت الامم - وخاصة المجرمون منهم - على علم في هذا اليوم فكيف يتصور أن يعدمه الرسل الكرام عليهم السلام فالمصير إلى ما قدمناه.
[ 203 ]
(كلام في معنى الشهادة)
الاجتماع المدنى الدائر بيننا والتفاعل الواقع في عامة جهات الحياة الارضية بين قوانا الفعالة يسوقنا - ولا محيص - إلى أنواع الاختلافات والخصومات فالذي يختص بالتمتع به أحدنا ربما أحب الاخر أن يشاركه فيه أو يختص به هو مكانه فتاقت إليه نفسه ونازعته في ذلك فأدى إلى تنبه الانسان لوجوب اعتبار القضاء والحكم ليرتفع به هذه الخصومات. وأول ما يحتاج إليه القضاء أن تحفظ القضايا والوقائع على النحو الذى وقعت وتضبط ضبطا لا يتطرق إليه التغير والتبدل ليقع عليه قضاء القاضى، هذا ممالا شك فيه. ويتأتى ذلك بأن يستشهد على الواقعة بأن يطلع عليها إنسان فيتحملها ثم يؤدى ما تحمله عند اللزوم والاقتضاء أو يضبط بوجه آخر كالكتابة أو أدوات اخر معمولة لذلك اهتدى الانسان إلى التوصل بها. وتفارق الشهادة سائر أسباب الحفظ والضبط أولا بأن غير الشهادة من الاسباب امور غير عامة فإن أعمها وأعرفها الكتابة وهى لم تستوعب الانسانية حتى اليوم فكيف بغيرها وهذا بخلاف الشهادة والتحمل. وثانيا بأن الشهادة وهو البيان اللسانى من نفس الشاهد عن تحمله وحفظه أبعد من عروض الخلل وأمنع جانبا من طرو أنواع الافات بالقياس إلى الكتابة وغيره من أسباب الحفظ والضبط. ولذلك نرى أن الشهادة لا تتجافى عن اعتبارها امة من الامم في مجتمعاتهم على اختلافها الفاحش في السنن الاجتماعية والسلائق القومية والملية والتقدم والتأخر في الحضارة والتوحش، فهى لا تخلو عن اعتبار ما عندهم. والاعتبار فيها بالواحد من القوم المعدود فردا من الامة وجزء من الجماعة، ولذلك لا يعبأ بشهادة الصبى غير المميز ولا بشهادة المجنون الذى لا يدرى ما يقول مثلا، ولذلك
[ 204 ]
أيضا لا يعبأ بعض الامم الهمجية بشهادة النسوان لما لم يعدوا المرأة جزء من المجتمع وعلى ذلك كانت تجرى اغلب السنن الاجتماعية في الامم القديمة كالروم واليونان وغيرهم. والاسلام وهو دين الفطرة يعتبر الشهادة ويعطيها وحدها من بين سائر الاسباب الحجية، وأما سائر الاسباب فلا عبرة بها إلا مع إفادة العلم، قال تعالى: " وأقيموا الشهادة لله " (الطلاق: 2) وقال تعالى: " ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " (البقرة: 283) وقال تعالى: " والذين هم بشهاداتهم قائمون " (المعارج: 33). وقد اعتبر الاسلام في عامة الموارد غير مورد الزنا من العدد في الشهداء اثنين لتأييد أحدهما الاخر قال تعالى: " واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ان تضل إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا ان تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى اجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا " (البقرة: 282)، فأفاد أن ما بينته الاية واعتبرته من أحكام الشهادة - ومنها ضم الواحد إلى آخر ليكونا اثنين - أكثر مطابقة للقسط وقيام الشهادة ورفع الريب. ثم لما كان الاسلام في تشخيصه فرد المجتمع وبعبارة اخرى في اعتباره الواحد الذى يتكون منه المجتمع الانساني يعد المرأة جزء مشمولا للحكم أشركها مع الرجل في إعطاء حق إقامة الشهادات إلا أنه لما اعتبر في المجتمع الذى كونه أن يكون مبنيا على التعقل دون العواطف والمرأة إنسان عاطفي أعطاها من الحق والوزن نصف ما للرجل، فشهادة امرأتين اثنتين تعدل شهادة رجل واحد كما يشير إليه قوله تعالى في الاية السابقة: " أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى "، وقد مر في الجزء الرابع من هذا الكتاب من الكلام في حقوق المرأه في الاسلام ما ينفع في المقام، وللشهادة أحكام كثيرة فرعية مبسوطة في الفقه خارجة من غرضنا في هذا البحث.
(كلام في العدالة) كثيرا ما يعثر الباحث في الاحكام الاسلامية في خلال أبحاثه بلفظ العدالة وربما وجد للفظ تعريفات مختلفة وتفسيرات متنوعة حسب اختلاف الباحثين ومسالكهم.
[ 205 ]
لكن الذى يلائم مقامنا هذا من البحث - وهو بحث قرآني - في تحليل معناها وكيفية اعتبارها بالتطبيق على الفطرة التى عليها بنى الاسلام أن نسلك طريقا آخر من البحث فنقول: إن للعدالة وهى الاعتدال والتوسط بين النمطين: العالي والدانى، والجانبين: الافراط والتفريط قيمة حقيقية ووزنا عظيما في المجتمعات الانسانية، والوسط العدل هو الجزء الجوهرى الذى يركن إليه التركيب والتأليف الاجتماعي فإن الفرد العالي الشريف الذى يتلبس بالفضائل العالية الاجتماعية، ويمثل بغية الاجتماع النهائية لا يجود منه الزمان إلا بالنزر القليل والواحد بعد الواحد، ومن المعلوم أنه لا يتألف المجتمع بالفرد النادر، ولا تتم به كينونته وإن كان هو العضو الرئيس في جثمانه حيثما وجد. والفرد الدنئ الخسيس الذى لا يقوم بالحقوق الاجتماعية، ولا يتحقق فيه القدر المتوسط من أمانى المجتمع ممن لا داعى له يدعوه إلى رعاية الاصول العامة الاجتماعية التى بها حياة المجتمع، ولا رادع له يردعه عن اقتحام الاثام الاجتماعية التى تهلك الاجتماع وتبطل التجاذب الواجب بين أجزائه، وبالجملة لا اعتماد على جزئيته في بنية الاجتماع ولا وثوق بتأثيره الحسن ونصيحته الصالحة. وإنما الحكم لافراد المجتمع المتوسطين الذين تقوم بهم بنية المجتمع وتتحقق فيهم مقاصده ومآربه، وتظهر بهم آثاره الحسنة التى لم تأتلف أجزاؤه وأعضاؤه إلا للحصول عليها والتمتع بها. هذا كله مما لا يرتاب فيه الانسان الاجتماعي عند أول ما يجيل نظره في هذا الباب.
فمن الضرورى عنده أنه على حاجة شديدة في حياته الاجتماعية إلى أفراد في المجتمع يعتمد على سلوكهم الاجتماعي متلبسين بالاعتدال في الامور والاحتراز عن الاسترسال في نقض القوانين ومخالفة السنن والاداب الجارية من غير مبالاة وانقباض في أبواب كثيرة كالحكومة والقضاء والشهادات وغيرها في الجملة. وهذا الحكم الضرورى أو القريب من الضرورى عند الفطرة هو الذى يعتبره الاسلام في الشاهد، قال تعالى: " واشهدوا ذوى عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الاخر " (الطلاق: 2)، وقال تعالى: " شهادة
[ 206 ]
بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم " (المائدة: 106) والخطاب في الايتين للمؤمنين فاشتراط كون الشاهدين ذوى عدل منهم مفاده كونهما ذوى حالة معتدلة متوسطة بالنسبة إلى مجتمعهم الدينى، وأما بالقياس إلى المجتمع القومي والبلدى فالاسلام لا يعبأ بأمثال هذه الروابط غير الدينية، وظاهر أن محصل كونهما على حالة معتدلة بالقياس إلى المجتمع الدينى هو كونهما ممن يوثق بدينه غير مقترفين ما يعد من المعاصي الكبيرة الموبقة في الدين، قال تعالى: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما " (النساء: 31)، وقد تكلمنا في معنى الكبائر في ذيل الاية في الجزء الرابع من هذا الكتاب. وعلى هذا المعنى جرى كلامه تعالى في قوله: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعه شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا واولئك هم الفاسقون، إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " (النور: 5) ونظير الاية السابقة الشارطة للعدالة قوله تعالى: " ممن ترضون من الشهداء " (البقرة: 282) فإن الرضا المأخوذ في الاية هو الرضا من المجتمع الدينى، ومن المعلوم أن المجتمع الدينى بما هو دينى لا يرضى أحدا إلا إذا كان على نوع من السلوك يوثق به في
أمر الدين. وهذا هو الذى نسميه في فن الفقه بملكة العدالة وهى غير ملكة العدالة بحسب اصطلاح فن الاخلاق فان العدالة الفقهية هي الهيئة النفسانية الرادعة عن ارتكاب الكبائر بحسب النظر العرفي، والتى في فن الاخلاق هي الملكة الراسخة بحسب الحقيقة. والذى استفدناه من معنى العدالة هو الذى يستفاد من مذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام على ما ورد من طرقهم: ففى الفقيه بإسناده عن ابن أبى يعفور قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم ؟ فقال: أن تعرفوه (1) بالستر والعفاف وكف البطن والفرج واليد واللسان، ويعرف باجتناب الكبائر التى أوعد
(1) أن يعرفوه 0 خ (*)
[ 207 ]
الله تعالى عليها النار من شرب الخمر والزنا والربا وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وغير ذلك. والدلالة على ذلك كله أن يكون ساترا لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه، ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته بين الناس، ويكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهن وحفظ مواقيتهن بحضور جماعة من المسلمين وأن لا يتخلف عن جماعتهم في مصلاهم إلا من علة. فإذا كان كذلك لازما لمصلاه عند حضور الصلوات الخمس فإذا سئل عنه في قبيلته ومحلته قالوا: ما رأينا منه إلا خيرا، مواظبا على الصلوات، متعاهدا لاوقاتها في مصلاه، فإن ذلك يجيز شهادته وعدالته بين المسلمين وذلك أن الصلاة ستر وكفارة للذنوب، وليس يمكن الشهادة على الرجل بأنه يصلى إذا كان لا يحضر مصلاه ولا يتعاهد جماعة المسلمين.
وإنما جعل الجماعة والاجتماع إلى الصلاة لكى يعرف من يصلى ممن لا يصلى ومن يحفظ مواقيت الصلاة ممن يضيع، ولو لا ذلك لم يكن لاحد أن يشهد على آخر بصلاح لان من لا يصلى لا صلاح له بين المسلمين فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هم بأن يحرق قوما في منازلهم بتركهم الحضور لجماعة المسلمين وقد كان منهم من يصلى في بيته فلم يقبل منه ذلك فكيف تقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ممن جرى الحكم من الله عزوجل ومن رسوله فيه الحرق في جوف بيته بالنار ؟ وقد كان يقول صلى الله عليه وآله وسلم: لا صلاة لمن لا يصلى في المسجد مع المسلمين إلا من علة. أقول: ورواه في التهذيب مع زيادة تركناها، والستر والعفاف كلاهما بمعنى الترك على ما في الصحاح، والرواية - كما ترى - تجعل أصل العدالة أمرا معروفا بين المسلمين وتبين أن الاثر المترتب عليه الدال على هذه الصفة النفسية هو ترك محارم الله والكف عن الشهوات الممنوعة، ومعرف ذلك اجتناب الكبائر من المعاصي، ثم تجعل الدليل على ذلك كله حسن الظاهر بين المسلمين على ما بينه عليه السلام تفصيلا. وفيه عن عبد الله بن المغيرة عن أبى الحسن الرضا عليه السلام قال: من ولد على الفطرة وعرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته.
[ 208 ]
وفيه: روى سماعة عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليه السلام: قال: لا بأس بشهادة الضعيف إذا كان عفيفا صائنا. وفي الكافي بإسناده عن على بن مهزيار عن أبى على بن راشد قال: قلت لابي جعفر عليه السلام: إن مواليك قد اختلفوا فاصلي معهم جميعا ؟ فقال لا تصل إلا خلف من تثق بدينه. اقول: دلالة الروايات على ما قدمناه ظاهرة، وفيها أبحاث أخر خارجة عن غرضنا في المقام. (كلام في اليمين)
حقيقة معنى قولك: " لعمري إن كذا وكذا، وحياتي إن الامر على ما أخبرته " أنك تعلق ما أخبرت به من الخبر وتقيده نوع تقييد في صدقه بعمرك وحياتك التى لها مكانة واحترام عندك بحيث يتلازمان في الوجود والعدم، ولو كنت كاذبا في خبرك أبطلت مكانة حياتك واحترامها عندك فسقطت بذلك عن مستوى الانسانية الداعية إلى الاحترام لامر الحياة. ومعنى قولك: " أقسمك بالله أن تفعل كذا أو تترك كذا " أنك ربطت أمرك أو نهيك بالمكانة والعزة التى لله عز اسمه عند المؤمنين بحيث تكون مخالفة الامر أو معصية النهى استهانة بمقامه تعالى وإذهابا لحرمة الايمان به. وكذا معنى قولك: " والله لافعلن كذا " وصل خاص بين عزيمتك على ما عزمت عليه من الامر وبين ما لله سبحانه عندك من المكانة والحرمة بحسب إيمانك به بحيث يكون فسخك عزيمتك ونقضك همتك إبطالا لما له سبحانه من المكانة عندك، والغرض من ذلك أن تكون على رادع من فسخ العزيمة ونقض الهمة فالقسم إيجاد ربط خاص بين شئ من الخبر أو الانشاء وبين شئ آخر ذى مكانة وشرف بحيث يبطل المربوط إليه ببطلان المربوط بحسب الدعوى، وحيث كان المربوط إليه ذا مكانة وشرف عند الجاعل مثلا لا يرضى بإذهاب مكانته والاهانة بمقامه فهو صادق في خبره أو مطاع فيما يأمر به أو ينهى عنه، أو ماض في عزيمته من غير فسخ لا محالة، ونتيجته التأكيد البالغ.
[ 209 ]
ويوجد في اللغات نوع آخر من جعل الربط يقابل القسم وهو ربط الخبر مثلا بما لا قيمة له ولا شرافة عند المخبر ليدل بذلك على الاستهانة بما يخبر به أو بلغه من الخبر ويعد نوعا من الشتم وهو في اللغة العربية نادر جدا. والحلف واليمين - فيما نعلم - من العادات الدائرة في ألسنة الناس الموروثة جيلا بعد جيل، ولا يختص بلغة دون لغة، وهو الدليل على أنه ليس من الشؤون اللغوية
اللفظية بل إنما يهدى الانسان إليه حياته الاجتماعية في موارد يتنبه على وجوب الالتجاء إليه والاستفادة منه. ولم تزل اليمين دائرا بين الامم ربما يبنى عليه ويركن إليه في موارد متفرقة غير مضبوطة تحدث في مجتمعاتهم لاغراض متنوعة لدفع التهمة ورفع الفرية وتطييب النفس وتأييد الخبر حتى اعتنى بأمره القوانين المدنية وأعطتها وجهة قانونية في بعض من الموارد كحلف الرؤساء وأولياء الامور عند تقلد المناصب الهامة وإشغال المقامات العظيمة العالية وغير ذلك. وقد اعتنى الاسلام بشأن اليمين اعتناء تاما إذا وقع على الله سبحانه خاصة، وليس ذلك إلا في ظل العناية برعاية حرمة المقام الربوبى ووقاية ساحته تعالى أن يواجه بما يأباه ناموس الربوبية والعبودية، ولذلك وضعت كفارة خاصة عند حنث اليمين، وكره الاكثار من الحلف بالله عز شأنه، قال تعالى: " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته إطعام عشرة مساكين، الاية " (المائدة: 89) وقال تعالى: " ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم " (البقرة: 224). واعتبر اليمين في موارد من القضاء خلت عن البينة، قال تعالى: " فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا " الاية " المائدة: 107) ومن كلامه صلى الله عليه وآله وسلم: البينة على المدعى واليمين على من أنكر. وحقيقة اعتبار اليمين الاكتفاء بدلالة نفس الايمان فيما لا دليل سواه، وذلك أن المجتمع الدينى مبنى على إيمان الافراد بالله، والانسان المؤمن هو الجزء من هذا المركب المؤلف، وهو المنبع الذى ينبع منه السنن المتبعة والاحكام الجارية، وبالجملة
[ 210 ]
جميع الاثار البارزة في القوم الناشئة من حالتهم الدينية كما أن المجتمع غير الدينى مبنى على إيمان الافراد بمقاصدهم القومية، ومنها تنشأ السنن والقوانين المدنية والاداب
والرسوم الدائرة بينهم. فإذا كان كذلك وصح الاعتماد في جميع الشؤون الاجتماعية والاتكاء في عامة لوازم الحياة على إيمان الافراد بطرق مختلفة كان من الجائز أن يعتمد على إيمانهم في ما لا دليل آخر يعتمد عليه، وهو اليمين فيما لا بينة عليه بأن يربط المنكر ما ينكره من دعوى المدعى ويقيده بإيمانه بحيث يزول اعتبار إيمانه بالله ببطلان إنكاره وظهور كذبه فيما أظهره وأخبر به. فإيمانه بسبب ما عقده باليمين بمنزلة مال الرهن الذى يجعل تحت تسلط الدائن ويراعى في عوده إلى سلطة راهن صدق وعده وتأديته الدين إلى أجل وإلا ذهب المال وبقى صفر اليد. كذلك الحالف يعتبر مرهون الايمان بما حلف عليه ما لم يظهر خلافه وإذا ظهر الخلاف عاد صفر الكف من الايمان ساقطا عن درجة الاعتبار محروما من التمتع بثمرة الايمان وهى في المجتمع الدينى جميع المزايا الاجتماعية، ورجع مطرودا من المجتمع المتلائم الاجزاء، لا سماء تظله ولا أرض تقله. ويتأيد هذا البيان بما يروى من تظاهر الناس على مقت المتخلفين عن السنن الدينية كالصلاة مع الجماعة والشخوص في الجهاد ونحوهما في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين كان تمام السلطة والحكومة للدين على الاهواء. وأما في أمثال هذه الاعصار التى ضعف فيها نفوذ الدين وتسرب الهوى في القلوب وانعقد بيننا مجتمع مؤتلف من المقاصد الدينية على وهن في بنيتها وإعراض من الناس عنها ومن مقاصد المدنية الحديثة ويجمعها الاسترسال في التمتعات المادية على شيد في أساسها وإقبال عام من عامة الناس إليها، ثم أخذ التنازع والتشاجر الشديد بين الدواعى الدينية والمدنية الطارقة ولا يزال يغلب هذا وينهزم ذاك، وانثلمت وحدة النظام الواجب انبساطه على مستوى المجتمع، وبدا الهرج والمرج في الروحيات فحينئذ لا يكاد ينفع اليمين ولا ما هو أقوى من ذلك وأحفظ لحقوق الناس، وزال الاعتماد لا على الاسباب
[ 211 ]
الدينية الموجودة عند المجتمع فحسب بل عليها وعلى النواميس الحديثة جميعا. غير أن الله سبحانه لا ينسخ أحكامه ولا يغمض عن شرائعه بتولى الناس عنها وسأمهم منها، وإن الدين عند الله الاسلام ولا يرضى لعباده الكفر، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات، والارض وإنما الاسلام دين متعرض لجميع شؤون الحياة الانسانية شارح لها مبين لاحكامها ذو أجزاء متلائمة متناسبة متلازمة تعيش بروح التوحيد الواحد إذا اعتل بعض أجزائه اعتل الجميع، وإذا فسد بعضها أثر ذلك في عمل الجميع كالواحد من الانسان بعينه. فإذا فسد بعض أجزائه أو اعتل كان من الواجب إبقاء السالم منها على سلامته وعلاج المعتل وإصلاح الفاسد، ولم يكن من الجائز إبقاء المعتل على علته والفاسد على فساده، والاعراض عن السالم. والاسلام وإن كان ملة حنيفية سهلة سمحة ذات مراتب مختلفة وسيعة يقدر تكاليفه على قدر ما يستطاع من إتيانها وإجرائها، يتمدد حبلها الموصول من حالة اجتماعية آمنة تتضمن شرائعها وقوانينها جمعاء من غير استثناء إلى حالة انفرادية اضطرارية تكتفى فيها من الصلاة بالاشارة لكن التنزل من مرتبة من مراتبها إلى ما هي دونها مشروطة بالاضطرار النافي للتكليف والمبيح للتوسع، قال تعالى: " من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم - إلى أن قال - ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم " (النحل: 110). وأما بناء الحياة على التمتع المادى ثم التعلل في رفض ما يناقضه من المواد الدينية بأنه لا يوافق السنة الجارية في الدنيا الحاضرة فإنه جرى على المنطق المادى دون منطق الدين. ومن البحث المتعلق بهذا الباب ما في قول بعض: (إن الحلف بغير الله من الشرك
بالله) فينبغي أن يستفهم هذا القائل ما ذا يريد بهذا الشرك الذى ذكره ؟. فإن أراد به أن في اليمين بغير الله إعظاما للمقسم به وإجلالا لامره لابتناء معنى القسم على ذلك ففيه نوع خضوع وعبادة له وهو الشرك فما كل إعظام شركا إلا إعطاء عظمة الربوبية المستقلة التى يستغنى بها عن غيره.
[ 212 ]
وقد أقسم الله تعالى بكثير من خلقه كالسماء والارض والشمس والقمر والكنس الخنس من الكواكب وبالنجم إذا هوى، وأقسم بالجبل والبحر والتين والزيتون والفرس وأقسم بالليل والنهار والصبح والشفق والعصر والضحى ويوم القيامة، وأقسم بالنفس، وأقسم بالكتاب والقرآن العظيم وحياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالملائكة إلى غير ذلك في آيات كثيرة ولا يستقيم قسم إلا عن إعظام. فما المانع من أن نجرى على ما جرى عليه كلامه تعالى من إعظامها بالعظمة الموهوبة ونقتصر على ذلك، ولو كان ذلك من الشرك لكان كلامه تعالى أولى بالتحرز منه وأحرى برعايته. وأيضا قد عظم الله تعالى امور كثيرة في كلامه كالقرآن والعرش وخلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى: " والقرآن العظيم " (الحجر: 87)، وقال: " وهو رب العرش العظيم " (التوبة: 129)، وقال: " وإنك لعلى خلق عظيم " (ن: 4)، وجعل لانبيائه ورسله والمؤمنين حقوقا على نفسه وعظمها واحترمها، قال تعالى: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون " (الصافات: 172)، وقال: " وكان حقا علينا نصر المؤمنين " (الروم: 47)، فما المانع من أن نعظمها ونجرى على ما جرى عليه كلامه في مطلق القسم، وأن نقسمه تعالى بشئ مما أقسم به أو بحق من الحقوق التى جعلها لاوليائه على نفسه ؟ نعم اليمين الشرعي الذى له آثار شرعية في باب اليمين أو القضاء لا ينعقد بغير الله سبحانه كما بين في الفقه وليس كلامنافيه.
وإن أراد به أن مطلق الاعظام كيفما كان لا يجوز في غير الله حتى إعظامها بما عظمها الله تعالى فهو مما لا دليل عليه بل القاطع من الدليل على خلافه. وربما قيل: إن في الاقسام بحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الاولياء والتقرب إليهم والاستشفاع بهم بأى وجه كان عبادة وإعطاء سلطة غيبية لها. والكلام فيه كالكلام في سابقه: فإن أريد بهذه السلطة الغيبية السلطة المستقلة الخاصة بالله فلا يذعن بها مسلم مؤمن بكتاب الله في غيره تعالى، وإن اريد بها مطلق السلطة غير المادية ولو كان بإذن الله فما الدليل على امتناع أن يتصف بها بعض عباد الله كأوليائه مثلا بإذنه، وقد نص القرآن الشريف على كثير من السلطات الغيبية في الملائكة كما قال: " حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون " (الانعام: 61)، وقال: " قل يتوفاكم ملك
[ 213 ]
الموت " (السجدة: 11)، وقال: " والنازعات غرقا، والناشطات نشطا، والسابحات سبحا، فالسابقات سبقا، فالمدبرات أمرا " (النازعات: 5)، وقال: " من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك " (البقرة: 97) والايات في هذا الباب كثير، جدا. وقال في إبليس وجنوده: " إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون " (الاعراف: 27) وقد نزلت في شفاعة الانبياء وغيرهم في الاخرة، وآياتهم المعجزة في الدنيا آيات كثيرة. وليت شعرى ما الفرق بين الاثار المادية التى يثبتها هؤلاء في الموضوعات من غير استنكاف وبين الاثار غير المادية التى يسمونها بالسلطة الغيبية ؟ فإن كان إثبات التأثير لغير الله ممنوعا لم يكن فرق بين الاثر المادى وغيره وإن كان جائزا بإذن الله سبحانه كان الجميع فيه سواء. (بحث روائي)
في الكافي عن على بن ابراهيم عن رجاله رفعه قال: خرج تميم الدارى وابن بندى وابن أبى مارية في سفر، وكان تميم الدارى مسلما وابن بندى وابن أبى مارية نصرانيين، وكان مع تميم الدارى خرج له فيه متاع وآنية منقوشة بالذهب وقلادة أخرجها إلى بعض أسواق العرب للبيع. فاعتل تميم الدارى علة شديدة فلما حضره الموت دفع ما كان معه إلى ابن بندى وابن أبى مارية وأمرهما أن يوصلاه إلى ورثته فقدما المدينة، وقد أخذا من المتاع الانية والقلادة، وأوصلا سائر ذلك إلى ورثته، فافتقد القوم الانية والقلادة فقال أهل تميم لهما: هل مرض صاحبنا مرضا طويلا أنفق فيه نفقة كثيرة ؟ فقالا: لا ما مرض إلا أياما قلائل، قالوا: فهل سرق منه شئ في سفره هذا ؟ قالا: لا، فقالوا: فهل اتجر تجارة خسر فيها ؟ قالا: لا، قالوا فقد افتقدنا أفضل شئ كان معه: آنية منقوشة بالذهب مكللة بالجواهر وقلادة، فقالا: ما دفعه إلينا فقد أدنياه إليكم. فقدموهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأوجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهما اليمين فحلفا فخلا عنهما، ثم ظهرت تلك الانية والقلادة عليهما فجاء أولياء تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
[ 214 ]
فقالوا: يا رسول الله قد ظهر على ابن بندى وابن أبى مارية ما ادعيناه عليهما، فانتظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الله عزوجل الحكم في ذلك. فأنزل الله تبارك وتعالى: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الارض، فأطلق الله عزوجل شهادة أهل الكتاب على الوصية فقط إذا كان في سفر ولم يجد المسلمين. ثم قال: " فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشترى به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الاثمين "، فهذه الشهادة الاولى التى حلفها رسول الله صل ى الله عليه وآله وسلم " فإن عثر على أنهما استحقا إثما " أي أنهما
حلفا على كذب " فآخران يقومان مقامهما " يعنى من أولياء المدعى " من الذين استحق عليهم الاوليان " الاولين " فيقسمان بالله " أي يحلفان بالله أنهما أحق بهذه الدعوى منهما وأنهما قد كذبا فيما حلفا بالله " لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ". فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولياء تميم الدارى أن يحلفوا بالله على ما أمرهم به فحلفوا فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القلادة والانية من ابن بندى وابن أبى مارية وردهما إلى أولياء تميم الدارى " ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ". اقول: وأورده القمى في تفسيره مثله وفيه بعد قوله: " تحبسونهما من بعد الصلاة: يعنى صلاة العصر، وقوله عليه السلام: " الاولين " الظاهر أنه بصيغة التثنية والمراد بهما الشاهدان الاولان تفسيرا لقوله تعالى: " الاوليان " وظاهره على قراءته عليه السلام " استحق " بالبناء للفاعل كما نسبت إلى على عليه السلام، وقد قدمنا في البيان السابق أنه أوضح المعاني المحتملة على هذه القراءة. وفي الدر المنثور: أخرج الترمذي وضعفه وابن جرير وابن أبى حاتم والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة من طريق أبى النضر وهو الكلبى عن باذان مولى ام هانئ عن ابن عباس عن تميم الدارى في هذه الاية: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت " قال: برئ الناس منهما غيرى وغير عدى ابن بداء، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الاسلام فأتيا الشام لتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبنى سهم يقال له: بديل بن أبى مريم بتجارة، ومعه جام من فضة يريد
[ 215 ]
به الملك وهو عظم تجارته، فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله. قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه أنا وعدى بن بداء فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا: ما ترك غير هذا وما دفع الينا غيره.
قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمأة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف فأنزل الله: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم - إلى قوله - أن ترد أيمان بعد أيمانهم " فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمأة درهم من عدى بن بداء. اقول: والرواية على ضعفها لا تنطبق على الاية تمام الانطباق وهو ظاهر، وروى عن ابن عباس وعن عكرمة ما يقرب من رواية القمى السابقة. وفيه: أخرج الفاريابى وعبد بن حميد وأبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن على بن أبى طالب: أنه كان يقرأ: " من الذين استحق عليهم الاوليان " بفتح التاء. وفيه: أخرج ابن مردويه والحاكم وصححه، عن على بن أبى طالب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ: " الذين استحق عليهم الاوليان ". وفيه: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: هذه الاية منسوخة. اقول: ولا دليل على ما في الرواية من حديث النسخ. وفي الكافي عن محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان وعلى بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبى عمير عن هشام بن الحكم عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله تبارك وتعالى: " أو آخران من غيركم " قال: إذا كان الرجل في بلد ليس فيه مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصية. اقول: ومعنى الرواية مستفاد من الاية. وفيه بإسناده عن يحيى بن محمد قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز
[ 216 ]
وجل: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم " ؟ قال: " اللذان منكم " مسلمان " واللذان من
غيركم " من أهل الكتاب، فإن لم يجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس لان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سن في المجوس سنة أهل الكتاب في الجزية. وذلك إذا مات الرجل في أرض غربة فلم يجد مسلمين أشهد رجلين من أهل الكتاب يحبسان بعد العصر فيقسمان بالله عزوجل " لا نشترى به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الاثمين " قال: وذلك إذا ارتاب ولى الميت في شهادتهما، فإن عثر على أنهما شهدا بالباطل فليس له أن ينقض شهادتهما حتى يجئ بشاهدين فيقومان مقام الشاهدين الاولين " فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين " فإن فعل ذلك نقض شهادة الاولين، وجازت شهادة الاخرين يقول الله عزوجل: " ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ". اقول: والرواية - كما ترى - توافق ما تقدم من معنى الاية، وفى معناها روايات أخر في الكافي وتفسير العياشي عن أبى عبد الله وأبى الحسن عليهما السلام. وفى بعض الروايات تفسير قوله: " أو آخران من غيركم " بالكافرين، وهو أعم من أهل الكتاب كما رواه في الكافي عن أبى الصباح الكنانى عن أبى عبد الله. وفي تفسير العياشي عن أبى اسامة عنه عليه السلام أيضا في الاية: ما " آخران من غيركم " ؟ قال: هما كافران قلت: " ذوا عدل منكم " ؟ فقال: مسلمان، والرواية السابقة المقيدة بأهل الكتاب وإن لم تصلح لتقييد هذا الاطلاق بحسب صناعة الاطلاق والتقييد لكونهما متوافقين إيجابيين لكن سياق الرواية الاولى يصلح لتفسير إطلاق الثانية بما يوافق التقييد. وفى تفسير البرهان عن الصدوق بإسناده إلى أبى زيد عياش بن يزيد بن الحسن عن أبيه يزيد بن الحسن قال: حدثنى موسى بن جعفر عليه السلام قال: قال الصادق عليه السلام في قول الله عزوجل: " يوم يجمع الله الرسل فيقول ما ذا أجبتم قالوا لا علم لنا " قال:
يقولون لا علم لنا بسواك، قال: " وقال الصادق عليه السلام: القرآن كله تقريع وباطنه تقريب.
[ 217 ]
قال صاحب البرهان: قال ابن بابويه: يعنى بذلك أنه من وراء آيات التوبيخ والوعيد آيات الرحمة والغفران. اقول: وما نقله عن الصدوق رحمه الله في معنى قوله عليه السلام: " القرآن كله تقريع وباطنه تقريب " لا ينطبق عليه لا بالنظر إلى صدر الرواية فإن كون معنى قول الرسل عليه السلام: " لا علم لنا " أنه لا علم لنا بسواك غير مرتبط بكون القرآن مشتملا على نوعين من الايات: آيات الوعد وآيات الوعيد. ولا بالنظر إلى سياق نفس الجملة أعنى قوله: " القرآن كله تقريع وباطنه تقريب " فإن الكلام ظاهر في أن القرآن كله تقريع وكله تقريب، وإنما يختلف الامر بحسب الباطن والظاهر فباطنه تقريب وظاهره تقريع، لا أن القرآن منقسم إلى قسمين فقسم منه آيات التقريع ووراءه القسم الاخر وهو آيات التقريب. والتأمل في كلامه عليه السلام مع ملاحظة صدر الرواية يعطى أن مراده عليه السلام من التقريع بالنظر إلى مقابلة التقريب لازم معناه وهو التبعيد المقابل للتقريب، والقرآن كله معارف وحقائق فظاهره تبعيد الحقائق بعضها من بعض وتفصيل أجزائها، وباطنه تقريب البعض من البعض وإحكامها وتوحيدها، ويعود محصل المراد إلى أن القرآن بحسب ظاهره يعطى حقائق من المعارف مختلفة بعضها بائن منفصل من بعض لكنها على كثرتها وبينونتها وابتعاد بعضها من بعض بحسب الباطن يقترب بعضها من بعض وتلتئم شتى معانيها حتى تتحد حقيقة واحدة كالروح السارى في الجميع، وليست إلا حقيقة التوحيد قال الله تعالى: " كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير " (هود: 1). ويظهر حينئذ انطباقه على ما ذكره عليه السلام في صدر الرواية أن معنى قول
الرسل: " لا علم لنا " أن لا علم لنا بسواك فإن الانسان أو أي عالم فرض إنما يعلم ما يعلم بالله بمعنى أن الله سبحانه هو المعلوم بذاته وغيره معلوم به، وبعبارة اخرى إذا تعلق العلم بشئ فإنما يتعلق أولا بالله سبحانه على ما يليق بساحة قدسه وكبريائه ثم يتعلق من جهته بذلك الشئ لما أن الله سبحانه عنده علم كل شئ يرزق منه لمن يشاء من عباده على قدر ما يشاء كما قال تعالى: " ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء وسع
[ 218 ]
كرسيه السماوات والارض " (البقرة: 255) وقد تقدم رواية عبد الاعلى مولى آل سام عن الصادق عليه السلام وغيره من الروايات في هذا المعنى. وعلى هذا فمعنى قولهم: " لا علم لنا بسواك إنك أنت علام الغيوب " على تفسيره عليه السلام أنه لا علم لنا بشئ من دونك وإنما نعلم ما نعلم من جهة علمنا بك لان العلم كله لك وإذا كان كذلك فأنت أعلم به منا لان الذى نعلمه من شئ هو علمك الذى أحطنا بشئ منه بمشيئتك ورزقك. وعلى هذا يتجلى معنى آخر لقوله: " إنك أنت علام الغيوب " هو أرفع منالا مما تقدم من المعنى، وهو أن كل شئ من الخليقة لما كان منفصل الوجود عن غيره كان في غيب منه لما أن وجوده محدود مقدر لا يحيط إلا بما شاء الله أن يحيط به، والله سبحانه هو المحيط بكل شئ العالم بكل غيب لا يعلم شئ شيئا إلا من جهته تعالى وتقدس عن كل نقص. وعلى هذا فتقسيم الامور إلى غيب وشهادة تقسيم بالحقيقة إلى غيب شاء الله إحاطتنا به وغيب مستور عنا، وربما تؤيد هذا المعنى بظاهر قوله تعالى: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبة أحدا، إلا من ارتضى من رسول " (الجن: 27) بالنظر إلى ما تفيده إضافة الغيب إلى الضمير، وعليك بإجادة التأمل في هذا المقام. وفي تفسير العياشي عن يزيد الكناسى عن أبى جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " يوم
يجمع الله الرسل، الاية " قال: يقول: ماذا أجبتم في أوصيائكم الذين خلفتم على امتكم ؟ قال: فيقولون: لا علم لنا بما فعلوا من بعدنا. اقول: ورواه القمى في تفسيره عن محمد بن مسلم عنه عليه السلام. وفي الكافي عن يزيد عن أبى عبد الله عليه السلام ما في معناه، وهو من الجرى أو من قبيل الباطن. * * * إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى
[ 219 ]
والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذنى وتبرئ الاكمه والابرص بإذنى وإذ تخرج الموتى بإذنى واذ كففت بنى إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين - 110. وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بى وبرسولي قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون - 111). (بيان) الايتان وكذا الايات التالية لها القاصة قصة نزول المائدة والتالية لها المخبرة عما سيسأل الله عيسى بن مريم عليه السلام عن اتخاذ الناس إياه وامه إلهين من دون الله سبحانه وما يجيب به عن ذلك، كلها مرتبطة بغرض السورة الذى افتتحت به، وهو الدعوة إلى الوفاء بالعهد والشكر للنعمة والتحذير عن نقض العهود وكفران النعم الالهية وبذلك يتم رجوع آخر السورة إلى أولها وتحفظ وحدة المعنى المراد. قوله تعالى: " إذ قال الله يا عيسى بن مريم - إلى قوله - وإذ تخرج الموتى
بإذنى " الاية تعد عدة من الايات الباهرة الظاهرة بيده عليه السلام إلا أنها تمتن بها عليه وعلى امه جميعا، وهى مذكورة بهذا اللفظ تقريبا فيما يحكيه تعالى من تحديث الملائكة مريم عند بشارتها بعيسى عليه اليلام في سورة آل عمران، قال تعالى: " إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم إلى أن قال - ويكلم الناس في المهد وكهلا - إلى أن قال - ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل ورسولا إلى بنى إسرائيل، إنى قد جئتكم بآية من ربكم أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فتكون طيرا بإذن الله وأبرئ الاكمه والابرص وأحيى الموتى بإذن الله " (الايات)
[ 220 ]
(45 - 50). والتأمل في سياق الايات يوضح الوجه في عد ما ذكره من الايات المختصة ظاهرا بالمسيح نعمة عليه وعلى والدته جميعا كما تشعر به آيات آل عمران فإن البشارة إنما تكون بنعمة، والامر على ذلك فإن ما اختص به المسيح عليه السلام من آية وموهبة كالولادة من غير أب والتأييد بروح القدس وخلق الطير وإبراء الاكمه والابرص وإحياء الموتى بإذن الله سبحانه فهى بعينها كرامة لمريم كما أنها كرامة لعيسى عليهما السلام فهما معا منعمان بالنعمة الالهية كما قال تعالى: " نعمتي التي أنعمت عليك وعلى والدتك ". وإلى ذلك يشير تعالى بقوله: " وجعلناها وابنها آية للعالمين " (الانبياء: 91) حيث عدهما معا آية واحدة لا آيتين. وقوله: " إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس " الظاهر أن التأييد بروح القدس هو السبب المهيئ له لتكليم الناس في المهد، ولذلك وصل قوله " تكلم الناس " من غير أن يفصله بالعطف إلى الجملة السابقة إشعارا بأن التأييد والتكليم معا أمر واحد مؤلف من سبب ومسبب، واكتفى في موارد من كلامه بذكر أحد الامرين عن الاخر كقوله في آيات آل عمران المنقولة آنفا: " وتكلم الناس في المهد وكهلا "، وقوله: " وآتينا
عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس " (البقرة: 253). على أنه لو كان المراد بتأييده بروح القدس مسألة الوحى بوساطة الروح لم يختص بعيسى بن مريم عليه السلام وشاركه فيها سائر الرسل مع أن الاية تأبى ذلك بسياقها. وقوله: " وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل " من الممكن أن يستفاد منه أنه عليه السلام إنما تلقى علم ذلك كله بتلق واحد عن أمر إلهى واحد من غير تدريج وتعدد كما أنه أيضا ظاهر جمع الجميع وتصديرها بإذ من غير تكرار لها. وكذلك قوله: " إذ تخلق من الطين كهيئة الطير فتنفخ فيه فيكون طيرا بإذنى وتبرء الاكمه والابرص بإذنى " ظاهر السياق من جهة عدم تكرار لفظة " إذ " أن خلق الطير وإبراء الاكمه والابرص كانا متقارنين زمانا، وأن تذييل خلق الطير بذكر الاذن من غير أن يكتفى بالاذن المذكور في آخر الجملة إنما هو لعظمة أمر الخلق بإفاضة
[ 221 ]
الحياة فتعلقت العناية به فاختص بذكر الاذن بعده من غير أن ينتظر فيه آخر الكلام صونا لقلوب السامعين من أن يخطر فيها أن غيره تعالى يستقل دونه بإفاضة الحياة أو تلبث فيها هذه الخطرة ولو لحظات يسيرة، والله أعلم. وقوله: " وإذ تخرج الموتى بإذنى " إخراج الموتى كناية عن إحيائها، وفيه عناية ظاهرة بأن الاحياء الذى جرى على يديه عليه السلام كان إحياء لموتي مقبورين بإفاضة الحياة عليهم وإخراجهم من قبورهم إلى حياة دنيوية، وفى اللفظ دلالة على الكثرة، وقد تقدم في الكلام على آيات آل عمران بقية ما يتعلق بهذه الايات من الكلام فراجع ذلك. قوله تعالى: " وإذ كففت بنى إسرائيل عنك " إلى آخر الاية. فيه دلالة على أنهم قصدوه بشر فكفهم الله عن ذلك فينطبق على ما ذكره الله في سورة آل عمران في قصصه عليه السلام بقوله: " ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ". قوله تعالى: " وإذ أوحيت إلى الحواريين " الاية، الاية منطبقة على آيات سورة آل
عمران بقوله: " فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بإنا مسلمون " (آل عمران: 52). ومن هنا يظهر أن هذا الايمان الذى ذكره في الاية بقوله: " وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بى وبرسولي قالوا آمنا، الاية غير إيمانهم الاول به عليه السلام فإن ظاهر قوله في آية آل عمران: " فلما أحس عيسى منهم الكفر " إنه كان في أواخر أيام دعوته وقد كان الحواريون وهم السابقون الاولون في الايمان به ملازمين له. على أن ظاهر قوله في آية آل عمران: " قال من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون " أن الدعوة إنما سيقت لاخذ الميثاق على نصرة دين الله لا أصل الايمان بالله، ولذلك ختم الاية بقولهم: " وأشهد بأنا مسلمون " وهو التسليم لامر الله بإقامة دعوته وتحمل الاذى في جنبه، وكل ذلك بعد أصل الايمان بالله طبعا. فتبين أن المراد بقوله: " وإذ أوحيت إلى الحواريين، الخ " قصة أخذ الميثاق من الحواريين، وفى الاية أبحاث أخر مرت في تفسير سورة آل عمران.
[ 222 ]
(بحث روائي) في المعاني بإسناده عن أبى يعقوب البغدادي قال: قال ابن السكيت لابي الحسن الرضا عليه السلام: لما ذا بعث الله موسى بن عمران بيده البيضاء والعصا وآلة السحر، وبعث عيسى بآلة الطب، وبعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بالكلام والخطب ؟. فقال أبو الحسن عليه السلام: إن الله تعالى لما بعث موسى عليه السلام كان الاغلب على أهل عصره السحر فأتاهم من عند الله تعالى بما لم يكن عند القوم وفي وسعهم مثله، وبما أبطل به سحرهم، وأثبت به الحجة عليهم، وإن الله تعالى بعث عيسى في وقت ظهرت فيه الزمانات واحتاج الناس إلى الطب فأتاهم من عند الله تعالى بما لم يكن عندهم مثله، وبما
أحيى لهم الموتى، وأبرأ الاكمه والابرص بإذن الله، وإثبت به الحجة عليهم، وإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم في وقت كان الاغلب على أهل عصره الخطب والكلام والشعر فأتاهم من كتاب الله والموعظة والحكمة بما أبطل به قولهم، وأثبت به الحجة عليهم. قال ابن السكيت ما رأيت مثلك اليوم قط فما الحجة على الخلق اليوم ؟ فقال: العقل يعرف به الصادق على الله فيصدقه والكاذب على الله فيكذبه، قال ابن السكيت: هذا والله هو الجواب. وفي الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن الحسن بن محبوب عن أبى جميلة عن ابان بن تغلب وغيره عن أبى عبد الله عليه السلام: أنه سئل هل كان عيسى بن مريم أحيى أحدا بعد موته بأكل ورزق ومدة وولد ؟ فقال: نعم إنه كان له صديق مواخ له في الله تبارك وتعالى ة وكان عيسى عليه السلام يمر به وينزل عليه، وإن عيسى غاب عنه حينا ثم مر به ليسلم عليه فخرجت عليه امه فسألها عنه فقالت له: مات يا رسول الله، فقال: أتحبين أن تراه ؟ قالت: نعم. فقال: إذا كان غدا أتيتك حتى احييه لك بإذن الله تعالى. فلما كان من الغد أتاها فقال لها: انطلقي معى إلى قبره فانطلقا حتى أتيا قبره فوقف عليه عيسى عليه السلام ثم دعا الله عزوجل فانفرج القبر فخرج ابنها حيا فلما رأته امه ورآها بكيا فرحمهما عيسى عليه السلام فقال له عيسى: أتحب أن تبقى مع امك
[ 223 ]
في الدنيا ؟ فقال: يارسول الله بأكل ورزق ومدة أم بغير أكل ورزق ومدة ؟ فقال له عيسى عليه السلام: بأكل ورزق ومدة تعمر عشرين سنة وتزوج ويولد لك، قال: نعم إذا. قال: فدفعه عيسى عليه السلام إلى امه فعاش عشرين سنة وولد له. وفى تفسير العياشي عن محمد بن يوسف الصنعانى عن أبيه قال: سألت أبا جعفر
عليه السلام " إذ أوحيت إلى الحواريين " قال: الهموا. اقول: واستعمال الوحى في مورد الالهام جاء في القرآن في غير مورد كقوله تعالى: " وأوحينا إلى ام موسى أن أرضعيه " (القصص: 7)، وقوله تعالى: " وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتا " (النحل: 68) وقوله في الارض: " بأن ربك أوحى لها " (الزلزال: 5). * * * إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين - 112. قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين - 113. قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لاولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين - 114. قال الله إنى منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنى أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين - 115.
[ 224 ]
(بيان) الايات تذكر قصة نزول المائدة على المسيح عليه السلام وأصحابه، وهى وإن لم تصرح بأن الله أنزلها عليهم غير أن الاية الاخيرة تتضمن الوعد المنجز منه بإنزالها من غير تقييد وقد وصف تعالى نفسه بأنه لا يخلف الميعاد. وقول بعضهم: (إنهم استقالوا عيسى عليه السلام بعد ما سمعوا الوعيد الشديد من الله تعالى لمن يكفر منهم بعد نزول المائدة) قول من غير دليل من كتاب أو حديث يعتمد عليه. وقد نقل ذلك عن جمع من المفسرين، وممن يذكر منهم: المجاهد والحسن، ولا حجة في قولهما ولا قول غيرهما ولو عد قولهما رواية كانت من الموقوفات التى لا حجية لها لضعفها على أنها معارضة بغيرها من الروايات الدالة على نزولها، على أنها لو صحت لم
تكن إلا من الاحاد التى لا يعتمد عليها في غير الاحكام. وربما يستدل على عدم نزولها بأن النصارى لا يعرفونها وكتبهم المقدسة خالية عن حديثها، ولو كانت نازلة لتوفرت الدواعى على ذكره في كتبهم وحفظه فيما بينهم بسيرة مستمرة كما تحفظوا على العشاء الربانى لكن الخبير بتاريخ شيوع النصرانية وظهور الاناجيل لا يعبأ بأمثال هذه الاقاويل فلا كتبهم مكتوبة محفوظة على التواتر إلى زمن عيسى عليه السلام، ولا هذه النصرانية الحاضرة تتصل بزمنه حتى ينتفع بها فيها يعتورونه يدا بيد، أو فيمالا يعرفونه مما ينسب إلى الدعوة العيسوية أو يتعلق بها. نعم وقع في بعض الاناجيل إطعام المسيح تلاميذه وجماعة من الناس بالخبز والسمك القليلين على طريق الاعجاز، غير أن القصة لا تنطبق على ما قصه القرآن في شئ من خصوصياته، ورد في إنجيل يوحنا، الاصحاح السادس ما هذا نصه: (1) " بعد هذا مضى يسوع إلى عبر بحر الجليل وهو بحر طبرية (2) وتبعه جمع كثير لانهم أبصروا آياته التى كان يصنعها في المرضى (3) فصعد يسوع إلى جبل وجلس هناك مع تلاميذه (4) وكان الفصح عند اليهود قريبا (5) فرفع يسوع عينيه ونظر أن جمعا كثيرا مقبل إليه فقال لفيلبس من أين نبتاع خبزا ليأكل هؤلاء (6) وإنما قال هذا ليمتحنه لانه هو علم ما هو مزمع أن يفعل (7) أجابه فيلبس لا يكفيهم خبز بمأتى دينار
[ 225 ]
ليأخذ كل واحد منهم شيئا يسيرا (8) قال له واحد من تلاميذه وهو أندراوس أخو سمعان بطرس (9) هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان ولكن ما هذا لمثل هؤلاء (10) فقال يسوع اجعلوا الناس يتكئون - وكان في المكان عشب كثير فاتكأ الرجال وعددهم نحو خمسة آلاف (11) وأخذ يسوع الارغفة وشكر ووزع على التلاميذ والتلاميذ أعطوا المتكئين وكذلك من السمكتين بقدر ما شاؤوا (12) فلما شبعوا قال لتلاميذه اجمعوا الكسر الفاضلة لكى لا يضيع شئ (13) فجمعوا وملاوا اثنتى عشرة قفة من
الكسر من خمسة أرغفة الشعير التى فضلت عن الاكلين (14) فلما رأى الناس الاية التى صنعها يسوع قالوا إن هذا هو بالحقيقة النبي الاتى إلى العالم (15) وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكا انصرف أيضا إلى الجبل وحده ". ثم إن التدبر في هذه القصة بما لها من سياق مسرود في كلامه تعالى يهدى إلى جهة أخرى من البحث فإن السؤال المذكور في أولها بظاهره خال عن رعاية الادب والواجب حفظه في جنب الله سبحانه، وقد انتهى الكلام إلى وعيد منه تعالى لمن يكفر بهذه الاية وعيدا لا يوجد له نظير في شئ من الايات التى اختص الله سبحانه بها أنبياءه أو اقترحها أممهم عليهم كاقتراح أمم نوح وهود وصالح وشعيب وموسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم. فهل كان ذلك لكون الحواريين وهم السائلون أساؤا الادب في سؤالهم ؟ لان لفظهم لفظ من يشك في قدرة الله سبحانه، ففى اقتراحات الامم السابقة عليهم من الاهانة بمقام ربهم والسخرية والهزء بأنبيائهم وكذا ما توجد حكايته في القرآن من طواغيت قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم واليهود المعاصرين له ما هو أوقح من ذلك وأشنع !. أو أنهم لكونهم مؤمنين قبل السؤال والنزول لو كفروا بعد النزول ومشاهدة الاية الباهرة استحقوا هذا الوعيد على هذه الشدة ؟ فالكفر بعد مشاهدة الاية الباهرة وإن كان عتوا وطغيانا كبيرا لكنه لا يختص بهم، ففى سائر الامم أمثال لهم في ذلك ولم يوعدوا بمثل هذا الوعيد قط حتى الذين ارتدوا منهم بعد التمكن في مقام القرب والتحقق بآيات الله سبحانه كالذى يذكره الله سبحانه في قوله: " واتل عليهم نبأ الذى آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين " (الاعراف: 175).
[ 226 ]
والذى يمكن أن يقال في المقام أن هذه القصة بما صدر به من السؤال يمتاز بمعنى يختص به من بين سائر معجزات الانبياء التى أتوا بها لاقتراح من أممهم أو لضرورات أخر تدعو إلى ذلك.
وذلك أن الايات المعجزة التى يقصها الكلام الالهى إما آيات آتاها الله الانبياء حين بعثهم لتكون حجة مؤيدة لنبوتهم أو رسالتهم كما أوتى موسى عليه السلام اليد البيضاء والعصا، وأوتى عيسى عليه السلام إحياء الموتى وخلق الطير وإبراء الاكمه والابرص، وأوتى محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرآن، وهذه آيات أوتيت لحاجة الدعوة إلى الايمان وإتمام الحجة على الكفار ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة. وإما آيات معجزة أتى بها الانبياء والرسل لاقتراح الكفار عليهم كناقة صالح، ويلحق بها المخوفات والمعذبات المستعملة في الدعوة كآيات موسى عليه السلام على قوم فرعون من الجراد والقمل والضفادع وغير ذلك في سبع آيات، وطوفان نوح، ورجفة ثمود وصرصر عاد وغير ذلك، وهذه أيضا آيات متعلقة بالمعاندين الجاحدين. وإما آيات أراها الله المؤمنين لحاجة مستها، وضرورة دعت إليها، كانفجار العيون من الحجر ونزول المن والسلوى على بنى إسرائيل في التيه، ورفع الطور فوق رؤسهم وشق البحر لنجاتهم من فرعون وعمله، فهذه آيات واقعة لارهاب العاصين المستكبرين أو كرامة للمؤمنين لتتم كلمة الرحمة في حقهم من غير أن يكونوا قد اقترحوها. ومن هذا الباب المواعيد التى وعدها الله في كتابه المؤمنين كرامة لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم كوعد فتح مكة ومقت المشركين من كفار قريش وغلبة الروم إلى غير ذلك. فهذه أنواع الايات المقتصة في القرآن والمذكورة في التعليم الالهى، وأما اقتراح الاية بعد نزول الاية فهو من التهوس يعده التعليم الالهى من الهجر الذى لا يعبأ به كاقتراح أهل الكتاب أن ينزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم كتابا من السماء مع وجود القرآن بين أيديهم، قال تعالى: " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة - إلى أن قال - لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا " (النساء 166).
[ 227 ]
وكما سأل المشركون النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنزال الملائكة أو إراءة ربهم تعالى وتقدس قال تعالى: " وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا " (الفرقان: 21) وقال تعالى: " وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الاسواق لولا انزل إليه ملك فيكون معه نذيرا، أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا، انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " (الفرقان: 9) إلى غير ذلك من الايات الكثيرة. وليس ذلك كله إلا لان عنوان نزول الاية هو ظهور الحق وتمام الحجة فإذا نزلت فقد ظهر الحق وتمت الحجة فلو اعيد سؤال نزول الاية وقد نزلت وحصل الغرض فلا عنوان له إلا العبث بآيات الله واللعب بالمقام الربوبى والتذبذب في القبول، وفيه أعظم العتو والاستكبار. وهذا لو صدر عن المؤمنين لكان الذنب فيه أكثف والاثم فيه أعظم فماذا يصنع المؤمن بنزول الاية السماوية وهو مؤمن وخاصة إذا كان ممن شاهد آيات الله فآمن عن مشاهدتها ؟ وهل هو إلا أشبه شئ بما يقترحه أرباب الهوى والمترفون في مجالس الانس وحفل التفكه من المشعوذين أو أصحاب الرياضات العجيبة أن يطيبوا عيشهم بإتحافهم بأعجب ما يقدرون عليه من الشعبذة والاعمال الغريبة. والذى يفيده ظاهر قوله تعالى: " إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة " أنهم اقترحوا على المسيح عليه السلام أن يريهم آية خاصة وهم حواريوه المختصون به وقد رأوا تلك الايات الباهرة والكرامات الظاهرة فإنه (ع) لم يرسل إلى قومه إلا بالايات المعجزة كما يعطيه قوله تعالى: " ورسولا إلى بنى إسرائيل أنى قد جئتكم بآية من ربكم أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير
فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، الخ " (آل عمران: 49). وكيف يتصور في من آمن بالمسيح (ع) أن لا يعثر منه على آية وهو (ع) بنفس وجوده آية خلقه الله من غير أب وأيده بروح القدس يكلم الناس في المهد وكهلا ولم يزل مكرما بآية بعد آية حتى رفعه الله إليه وختم أمره بأعجب آية.
[ 228 ]
فاقتراحهم آية اختاروها لانفسهم بعد هاتيك الايات على كثرتها من قبيل اقتراح الاية بعد الاية وقد ركبوا أمرا عظيما ولذلك وبخهم عيسى (ع) بقوله: " اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ". ولذلك بعينه وجهوا ما اقترحوا عليه وفسروا قولهم ثانيا بما يكسر سورة ما أوهمه إطلاق كلامهم، ويزيل عنه تلك الحدة فقالوا: " نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين " فضموا إلى غرض الاكل أغراضا اخر يوجه اقتراحهم، يريدون به أن اقتراحهم هذا ليس من قبيل التفكه بالامور العجيبة والعبث بايات الالهية بل له فوائد مقصودة: من كمال علمهم وإزالة خطرات السوء من قلوبهم وشهادتهم عليها. لكنهم مع ذلك لم يتركوا ذكر إرادة الاكل ومنه كانت الخطيئة ولو قالوا: " نريد أن نأكل منها فتطمئن قلوبنا، الخ " لم يلزمهم ما لزمهم إذ قالوا: " نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا، الخ " فإن الكلام الاول يقطع جميع منابت التهوس والمجازفة دون الثاني. ولما ألحوا عليه أجابهم عيسى عليه السلام إلى ما اقترحوا عليه والتمسوه وسأل ربه أن يكرمهم بها، وهى معجزة مختصة في نوعها بامته لانها الاية الوحيدة التى نزلت إليهم عن اقتراح في أمر غير لازم ظاهرا وهو أكل المؤمنين منها، ولذلك عنونها عليه السلام عنوانا يصلح به أن يوجه الوجه بسؤاله إلى ساحة العظمة والكبرياء فقال: " اللهم ربنا
أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لاولنا وآخرنا " فعنونها بعنوان العيدية، والعيد عند قوم هو اليوم الذى نالوا فيه موهبة أو مفخرة مختصة بهم من بين الناس، وكان نزول المائدة عليهم منعوتا بهذا النعت. ولما سأل عيسى ربه ما سأل - وحاشاه أن يسأل إلا ما يعلم أن من المرجو استجابته وأن ربه لا يمقته ولا يفضحه، وحاشا ربه أن يرده خائبا في دعائه - استجاب له ربه دعاءه غير أنه شرط فيها لمن يكفر بها عذابا يختص به من بين جميع الناس كما أن الاية آية خاصة بهم لا يشاركهم في نوعها غيرهم من الامم فقال الله سبحانه " إنى منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنى اعذبه عذابا لا اعذبه أحدا من العالمين " هذا.
[ 229 ]
قوله تعالى: " إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء " " إذ " ظرف متعلق بمقدر والتقدير: اذكر إذ قال " الخ "، أو ما يقرب منه، وذهب بعضهم إلى أنه متعلق بقوله في الاية السابقة: " قالوا آمنا، الخ " أي قال الحواريون: آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون في وقت قالوا فيه لعيسى: " هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء والمراد أنهم ما كانوا على صدق في دعواهم، ولا على جد في إشهادهم عيسى عليه السلام على إسلامهم له. وفيه أنه مخالف لظاهر السياق، وكيف يكون إيمانهم غير خالص ؟ وقد ذكر الله أنه هو أوحى إليهم أن آمنوا بى وبرسولي، وهو تعالى يمتن بذلك على عيسى (ع)، عى أنه لا وجه حينئذ للاظهار في قوله: " إذ قال الحواريون، الخ ". و " المائدة " الخوان إذا كان فيه طعام، قال الراغب: والمائدة الطبق الذى عليه الطعام، ويقال لكل واحدة منهما مائدة، ويقال: ما دنى يميدنى أي أطعمني، انتهى. ومتن السؤال الذى حكى عنهم في الاية وهو قولهم: " هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء " بحسب ظاهر ما يتبادر من معناه مما يستبعد العقل صدوره عن
الحواريين وهم أصحاب المسيح وتلامذته وأخصاؤه الملازمون له المقتبسون من أنوار علومه ومعارفه المتبعون آدابه وآثاره، والايمان بأدنى مراتبه ينبه الانسان على أن الله سبحانه على كل شئ قدير، لا يجوز عليه العجز ولا يغلبه العجز، فكيف جاز أن يستفهموا رسولهم عن استطاعة ربه على إنزال مائدة من السماء. ولذلك قرأ الكسائي من السبعة: " هل تستطيع ربك " بتاء المضارعة ونصب " ربك " على المفعولية أي هل تستطيع أنت أن تسأل ربك، فحذف الفعل الناصب للمفعول واقيم " تستطيع " مقامه، أو أنه مفعول لفعل محذوف فقط. وقد اختلف المفسرون في توجيهه على بناء من أكثريهم على أن المراد به غير ما يتبادر من ظاهره من الشك في قدرة الله سبحانه لنزاهة ساحتهم من هذا الجهل السخيف. وأوجه ما يمكن أن يقال هو أن الاستطاعة في الاية كناية عن اقتضاء المصلحة ووقوع الاذن كما أن الامكان والقدرة والقوة يكنى بها عن ذلك كما يقال: " لا يقدر الملك أن يصغى إلى كل ذى حاجة " بمعنى أن مصلحة الملك تمنعه من ذلك وإلا فمطلق
[ 230 ]
الاصغاء مقدور له، ويقال: " لا يستطيع الغنى أن يعطى كل سائل " أي مصلحة حفظ المال لا تقتضيه، ويقال: " لا يمكن للعالم أن يبث كل ما يعلمه " أي يمنعه عن ذلك مصلحة الدين أو مصلحة الناس والنظام الدائر بينهم، ويقول أحدنا لصاحبه: " هل تستطيع أن تروح معى إلى فلان ؟ وإنما السؤال عن الاستطاعة بحسب الحكمة والمصلحة لا بحسب أصل القدرة على الذهاب، هذا. وهناك وجوه اخرى ذكروها: منها: أن هذا السؤال لاجل تحصيل الاطمئنان بإيمان العيان لا للشك في قدرة الله سبحانه فهو على حد قول إبراهيم (ع) فيما حكى الله عنه: " رب أرنى كيف تحيى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى ".
وفيه: أن مجرد صحة أن تسأل الاية لزيادة الايمان واطمئنان القلب لا يصحح حمل سؤالهم عليه ولم تثبت عصمتهم كإبراهيم (ع) حتى تكون دليلا منفصلا يوجب حمل كلامهم على مالا حزازة فيه بل الدليل على خلافه حيث لم يقولوا: نريد أن نأكل منها فتطمئن قلوبنا كما قال إبراهيم عليه السلام: " بلى ولكن ليطمئن قلبى " بل قالوا: " نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا " فعدوا الاكل بحيال نفسه غرضا. على أن هذا الوجه إنما يستدعى تنزه قلوبهم عن شائبة الشك في قدرة الله سبحانه وأما حزازة ظاهر الكلام فعلى حالها. على أنه قد تقدم في تفسير قوله تعالى: " وإذ قال إبراهيم رب أرنى كيف تحيى الموتى " (الاية) (البقرة: 260) أن مراده عليه السلام لم يكن مشاهدة تلبس الموتى بالحياة بعد الموت كما عليه بناء هذا الوجه ولو كان كذلك لكان من قبيل طلب الاية بعد العيان وهو في مقام المشافهة مع ربه بل مراده مشاهدة كيفية الاحياء بالمعنى الذى تقدم بيانه. ومنها: أنه سؤال عن الفعل دون القدرة عليه فعبر عنه بلازمه. وفيه: أنه لادليل عليه، ولو سلم فإنه إنما ينفى عنهم الجهل بالقدرة المطلقة الالهية وأما منافاة إطلاق اللفظ للادب العبودي فعلى حالها.
[ 231 ]
ومنها: أن في الكلام حذفا تقديره: " هل تستطيع سؤال ربك ؟ ويدل عليه قراءة " هل تستطيع ربك " والمعنى: هل تستطيع أن تسأله من غير صارف يصرفك عن ذلك. وفيه: أن الحذف والتقدير لا يعيد لفظة " هل يستطيع ربك " إلى قولنا هل تستطيع سؤال ربك بأى وجه فرض لمكان اختلاف الفعل في القراءتين بالغيبة والحضور، والتقدير لا يحول الغيبة إلى الخطاب البتة، وإن كان ولا بد فليقل: إنه من قبيل إسناد الفعل المنسوب إلى عيسى (ع) إلى ربه من جهة أن فعله فعل الله أو أن كل ما له (ع)
فهو لله سبحانه، وهذا الوجه مع كونه فاسدا من جهة أن الانبياء والرسل إنما ينسب من أفعالهم إلى الله ما لا يستلزم نسبته إليه النقص والقصور في ساحته تعالى كالهداية والعلم ونحوهما، وأما لوازم عبوديتهم وبشريتهم كالعجز والفقر والاكل والشرب ونحو ذلك فمما لا تستقيم نسبته إليه تعالى البتة فمشكلة ظاهر اللفظ على حالها. ومنها: أن الاستطاعة هنا بمعنى الاطاعة والمعنى: هل يطيعك ربك ويجيب دعاءك إذا سألته ذلك، وفيه: أنه من قبيل تبديل المشكل بما هو أشكل فإن الاستفهام عن إطاعة الله سبحانه لرسوله وانقياده له أشنع وأفظع من الاستفهام عن استطاعته. وقد انتصر بعضهم لهذا الوجه فقال في تقريره ما محصله: إن الاستطاعة والاطاعة من مادة الطوع مقابل الكره فإطاعة الامر فعله عن رضى واختيار، والاستفعال في هذه المادة كالاستفعال في مادة الاجابة فإذا كان معنى استجابه: أجاب دعاءه أو سؤاله فمعنى استطاعه: أطاعه أي انه انقاد له وصار في طوعه أو طوعا له، والسين والتاء في المادتين على أشهر معانيهما وهو الطلب، ولكنه طلب دخل على فعل محذوف دل عليه المذكور المترتب على المحذوف، ومعنى استطاع الشئ: طلب وحاول أن يكون ذلك الشئ طوعا له فأطاعه وانقاد له، ومعنى استجاب: سئل شيئا وطلب منه أن يجيب إليه فأجاب. قال: فبهذا الشرح الدقيق تفهم صحة قول من قال من المفسرين: إن " يستطيع " هنا بمعنى يطيع وإن معنى يطيع: يفعل مختارا راضيا غير كاره فصار حاصل معنى الجملة: هل يرضى ربك ويختار أن ينزل علينا مائدة من السماء إذا نحن سألناه أو سألته لنا ذلك، انتهى. وفيه أولا: أنه لم يأت بشئ دون أن قاس استطاع باستجاب ثم أعطى هذا
[ 232 ]
معنى ذاك وهو قياس في اللغة ممنوع.
وثانيا: أن كون الاستطاعة والاطاعة راجعين بحسب المادة إلى الطوع مقابل الكره لا يستلزم وجوب جريان الاستعمال على رعاية معنى المادة الاصلية في جميع التطورات الطارئة عليها فكثير من المواد هجرت خصوصية معناها الاصلى في ما عرضها من الهيئات الاشتقاقية نظير ضرب وأضرب وقبل وأقبل وقبل وقابل واستقبل بحسب التبادر الاستعمالى. واعتبار المادة الاصلية في البحث عن الاشتقاقات اللغوية لايراد به إلا الاستعلام مبلغ ما يعيش المادة الاصلية بين مشتقاتها بحسب عروض تطورات الاشتقاق عليها، أو انقضاء أمد حياتها بحسب المعنى وتبدله إلى معنى آخر لا أن يلغى حكم التطورات ويحفظ المعنى الاصلى ما جرى اللسان، فافهم ذلك. فالاعتبار في اللفظ بما يفيده بحسب الاستعمال الدائر الحى لا بما تفيده المادة اللغوية وقد استعمل لفظ الاستطاعة في كلامه تعالى في أزيد من أربعين موضعا وهو في الجميع بمعنى القدرة، واستعمل لفظ الاطاعة فيما يقرب من سبعين موضعا وهو في الجميع بمعنى الانقياد، واستعمل لفظ الطوع فيما استعمل وهو مقابل الكره، فكيف يسوغ أن يؤخذ لفظ يستطيع بمعنى يطيع ثم يطيع بمعنى الطوع ثم يحكم بأن يستطيع في الاية بمعنى يرضى ؟. وأما حديث أجاب واستجاب فقد استعملا معا في كلامه تعالى بمعنى واحد وورد استعمال الاستجابة في موارد هي أضعاف ما استعملت فيه الاجابة فإنك تجد الاستجابة فيما يقرب من ثلاثين موضعا، ولا تجد الاجابة في أكثر من عشرة مواضع فكيف يقاس عليها أطاع واستطاع ؟. وكونهما بمعنى واحد ليس إلا لانطباق عنايتين مختلفتين على مورد واحد فمعنى اجاب ان الجواب تجاوز عن المسؤول إلى السائل، ومعنى استجاب ان المسؤول طلب من نفسه الجواب فأداه إلى السائل.
ومن هنا يظهر أن الذى فسر به الاستجابة وهو قوله: (ومعنى استجاب سئل شيئا وطلب منه أن يجيب إليه فأجاب) ليس على ما ينبغى فإن باب الاستفعال هو
[ 233 ]
طلب " فعل " لا طلب " أفعل " وهو ظاهر. وثالثا: أن السياق لا يلائم هذا المعنى إذ لو كان معنى قولهم: " هل يستطيع ربك ان ينزل علينا مائدة من السماء " انه هل يرضى ربك ان نسأله نحن أو تسأله انت ان ينزل علينا مائدة من السماء، وكان غرضهم من هذا السؤال أو النزول ان يزدادوا إيمانا ويطمئنوا قلبا فما وجه توبيخ عيسى (ع) لهم بقوله: " اتقوا الله إن كنتم مؤمنين " ؟ وما وجه وعيده تعالى الكافرين بها بعذاب لا يعذبه احدا من العالمين، وهم لم يقولوا إلا حقا ولم يسألوا إلا مسألة مشروعة، وقد قال تعالى: " واسألوا الله من فضله " (النساء: 32) قوله تعالى: " قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين " توبيخ منه (ع) لهم لما يشتمل عليه ظاهر كلامهم من الاستفهام عن استطاعه ربه على إنزال المائدة فإن كلامهم مريب على أي حال. وأما على ما قدمناه من أن الاصل في مؤاخذتهم الذى يترتب عليه الوعيد الشديد في آخر الايات هو أنهم سألوا آية حيث لا حاجة إليها واقترحوا بما في معنى العبث بآيات الله سبحانه، ثم تعبيرهم بما يتبادر من ظاهره كونهم كأنهم لم يعقدوا قلوبهم على القدرة الربوبية فوجه توبيخه (ع) لهم بقوله: " اتقوا الله إن كنتم مؤمنين " أظهر. قوله تعالى: " قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم ان قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين " السياق ظاهر في أن قولهم هذا عذر اعتذروا به للتخلص من توبيخه (ع) وما ذكروه ظاهر التعلق باقتراحهم الاية بنزول المائدة دون ما
يظهر من قولهم: هل يستطيع ربك ان ينزل "، من المعنى الموهم للشك في إطلاق القدرة، وهذا ايضا احد الشواهد على ان ملاك المؤاخذة في المقام هو انهم سألوا آية على آية من غير حاجة إليها. وأما قولهم: " نريد ان نأكل منها، الخ " فقد عدوا في بيان غرضهم من اقتراح الاية امورا أربعة: أحدها: الاكل وكأن مرادهم بذكره أنهم ما أرادوا به اللعب بآيات الله بل
[ 234 ]
أرادوا أن يأكلوا منها، وهو غرض عقلائي، وقد تقدم أن هذا القول منهم كالتسليم لاستحقاقهم التوبيخ من عيسى عليه السلام والوعيد الشديد من الله لمن يكفر منهم بآية المائدة. وذكر بعضهم: أن المراد بذكرالاكل إبانة أنهم في حاجة شديدة إلى الطعام ولا يجدون ما يسد حاجتهم. وذكر آخرون أن المراد: نريد أن نتبرك بأكله. وأنت تعلم أن المعنى الذى قرر في كل من هذين الوجهين أمر لا يدل عليه مجرد ذكر الاكل، ولو كان مرادهم ذلك وهو أمر يدفع به التوبيخ لكان مقتضى مقام الاعتذار التصريح بذكره، وحيث لم يذكر شئ من ذلك مع حاجة المقام إلى ذكره لو كان مرادا فليس المراد بالاكل إلا مطلق معناه من حيث إنه غرض عقلائي هو أحد أجزاء غرضهم في اقتراح نزول المائدة. الثاني: اطمئنان القلب وهو سكونه باندفاع الخطورات المنافية للخلوص والحضور. والثالث: العلم بأنه (ع) قد صدقهم فيما بلغهم عن ربه، والمراد بالعلم حينئذ هو العلم اليقيني الذى يحصل في القلب بعد ارتفاع الخطورات والوساوس النفسانية عنه، أو العلم بأنه قد صدقهم فيما وعدهم من ثمرات الايمان كاستجابة الدعاء كما ذكره بعضهم، لكن يبعده أن الحواريين ما كانوا يسألون إنزال المائدة من السماء إلا بدعاء عيسى (ع)
ومسألته، وبالجملة بإعجاز منه (ع) وقد كانوا رأوا منه (ع) آيات كثيرة فإنه (ع) لم يزل في حياته قرينا لايات إلهية كبرى، ولم يرسل إلى قومه ولم يدعهم دعوة إلا مع آيات ربه فلم يزالوا يرون ثمرات إيمانه من استجابة الدعاء إن كان المراد الثمرة التى هي استجابة دعائه (ع) وإن كان المراد الثمرة التى هي استجابة دعائهم أنفسهم فإنهم لم يسألوا نزول الاية بدعاء أنفسهم، ولم تنزل إلا بدعاء عيسى (ع). الرابع: أن يكونوا عليها من الشاهدين عند ما يحتاج إلى الشهادة كالشهادة عند المنكرين، والشهادة عند الله يوم القيامة، فالمراد بها مطلق الشهادة، ويمكن أن يكون المراد مجرد الشهادة عند الله سبحانه كما وقع في بعض قولهم الذى حكاه الله تعالى إذ قال: " ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين " (آل عمران: 53). فقد تحصل أنهم - فيما اعتذروا به - ضموا امورا جميلة مرضية إلى غرضهم الاخر
[ 235 ]
الذى هو الاكل من المائدة السماوية ليحسموا به مادة الحزازة عن اقتراحهم الاية بعد مشاهدة الايات الكافية فأجابهم عيسى (ع) إلى مسألتهم بعد الاصرار. قوله تعالى: " قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لاولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين " خلط (ع) نفسه بهم في سؤال المائدة، وبدأ بنداء ربه بلفظ عام فقال: " اللهم ربنا " وقد كانوا قالوا له: " هل يستطيع ربك " ليوافق النداء الدعاء. وقد توحد هذا الدعاء من بين جميع الادعية والمسائل المحكية في القرآن عن الانبياء عليهم السلام بأن صدر " باللهم ربنا " وغيره من أدعيتهم مصدر بلفظ " رب " أو " ربنا " وليس إلا لدقة المورد وهول المطلع، نعم يوجد في أقسام الثناء المحكية نظير هذا التصدير كقوله: " قل الحمد لله " (النمل: 59) وقوله: " قل اللهم مالك الملك " (آل عمران: 26) وقوله: " قل اللهم فاطر السماوات والارض " (الزمر: 46).
ثم ذكر (ع) عنوانا لهذه المائدة النازلة هو الغرض له ولاصحابه من سؤال نزولها وهو أن تنزل فتكون عيدا له ولجميع امته، ولم يكن الحواريون ذكروا فيما اقترحوه أنهم يريدون عيدا يخصون به لكنه (ع) عنون ما سأله بعنوان عام وقلبه في قالب حسن ليخرج عن كونه سؤالا للاية مع وجود آيات كبرى إلهية بين أيديهم وتحت مشاهدتهم، ويكون سؤالا مرضيا عند الله غير مصادم لمقام العزة والكبرياء فإن العيد من شأنه أن يجمع الكلمة، ويجدد حياة الملة، وينشط نفوس العائدين، ويعلن كلما عاد عظمة الدين. ولذلك قال: " عيدا لاولنا وآخرنا " أي أول جماعتنا من الامة وآخر من يلحق بهم - على ما يدل عليه السياق - فإن العيد من العود ولا يكون عيدا إلا إذا عاد حينا بعد حين، وفى الخلف بعد السلف من غير تحديد. وهذا العيد مما اختص به قوم عيسى (ع) كما اختصوا بنوع هذه الاية النازلة على ما تقدم بيانه. وقوله: " وآية منك " لما قدم مسألة العيد وهى مسألة حسنة جميلة لا عتاب عليها عقبها بكونها آية منه تعالى كأنه من الفائدة الزائدة المترتبة على الغرض الاصلى
[ 236 ]
غير مقصودة وحدها حتى يتعلق بها عتاب أو سخط، وإلا فلو كانت مقصودة وحدها من حيث كونها آية لم تخل مسألتها من نتيجة غير مطلوبة فإن جميع المزايا الحسنة التى كان يمكن أن يراد بها كانت ممكنة الحصول بالايات المشهودة كل يوم منه عليه السلام للحواريين وغيرهم. وقوله: " وارزقنا وأنت خير الرازقين " وهذه فائدة اخرى عدها مترتبة على ما سأله من العيد من غير أن تكون مقصودة بالذات، وقد كان الحواريون ذكروه مطلوبا بالذات حيث قالوا: " نريد أن نأكل منها " فذكروه مطلوبا لذاته وقدموه على غيره،
لكنه عليه السلام عده غير مطلوب بالذات وأخره عن الجميع وأبدل لفظ الاكل من لفظ الرزق فأردفه بقوله " وأنت خير الرازقين ". والدليل على ما ذكرنا انه (ع) جعل ما أخذوه أصلا فائدة مترتبة أنه سأل أولا لجميع امته ونفسه، وهو سؤال العيد الذى أضافه إلى سؤالهم فصار بذلك كونها آية من الله ورزقا وصفين خاصين للبعض دون البعض كالفائدة المترتبة غير الشاملة. فانظر إلى أدبه (ع) البارع الجميل مع ربه، وقس كلامه إلى كلامهم - وكلا الكلامين يؤمان نزول المائدة - تر عجبا فقد أخذ (ع) لفظ سؤالهم فأضاف وحذف، وقدم وأخر، وبدل وحفظ حتى عاد الكلام الذى ما كان ينبغى أن يوجه به إلى حضرة العزة وساحة العظمة أجمل كلام يشتمل على أدب العبودية، فتدبر في قيود كلامه (ع) تر عجبا. قوله تعالى: " قال الله إنى منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنى اعذبه عذابا لا اعذبه أحدا من العالمين " قرأ أهل المدينة والشام وعاصم " منزلها " بالتشديد والباقون " منزلها " بالتخفيف - على ما في المجمع - والتخفيف اوفق لان الانزال هو الدال على النزول الدفعي، وكذلك نزلت المائدة، وأما التنزيل فاستعماله الشائع إنما هو في النزول التدريجي كما تقدم كرارا. وقوله تعالى: " إنى منزلها عليكم " وعد صريح بالانزال وخاصة بالنظر إلى الاتيان به في هيئة اسم الفاعل دون الفعل، ولازم ذلك أن المائدة قد نزلت عليهم. وذكر بعض المفسرين أنها لم تنزل كما روى ذلك في الدر المنثور ومجمع البيان
[ 237 ]
وغيرهما عن الحسن ومجاهد قالا: إنها لم تنزل وإن القوم لما سمعوا الشرط استعفوا عن نزولها وقالوا: لا نريدها ولا حاجة لنا فيها فلم تنزل. والحق ان الاية ظاهرة الدلالة على النزول فإنها تتضمن الوعد الصريح بالنزول
وحاشاه تعالى ان يجود لهم بالوعد الصريح وهو يعلم انهم سيستعفون عنها فلا تنزل، والوعد الذى في الاية صريح والشرط الذى في الاية يتضمن تفرع العذاب وترتبه على الكفر بعد النزول، وبعبارة اخرى: الاية تتضمن الوعد المطلق بالانزال ثم تفريع العذاب على الكفر لا انها تشتمل على الوعد بالانزال على تقدير قبولهم العذاب على الكفر، حتى يرتفع موضوع الوعد عند عدم قبولهم الشرط فلا تنزل المائدة باستعفائهم عن نزولها، فافهم. وكيف كان فاشتمال وعده تعالى بانزال المائدة على الوعيد الشديد بعذاب الكافرين بها منهم ليس ردا لدعاء عيسى (ع) وإنما هو استجابة له غير انه لما كان ظاهر الاستجابة بعد الدعاء - على ما له من السياق - ان هذه الاية تكون رحمة مطلقة منه لهم يتنعم بها آخرهم واولهم، قيد تعالى هذا الاطلاق بالشرط الذى شرط عليهم، ومحصله ان هذا العيد الذى خصهم الله به لا ينتفع به جميعهم بل إنما ينتفع به المؤمنون المستمرون على الايمان منهم، وأما الكافرون بها فيستضرون بها أشد الضرر. فالايتان في كلامه تعالى من حيث إطلاق الدعاء بحسب لازمه وتقييد الاستجابة كقوله تعالى: " وإذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " (البقرة: 124) وقوله تعالى حكاية عن موسى (ع): " أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وانت خير الغافرين، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفى الاخرة إنا هدنا اليك قال عذابي اصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون " (الاعراف: 156). وقد عرفت فيما تقدم ان السبب الاصلى في هذا العذاب الموعود الذى يختص بهم إنما هو اقتراحهم آية هي في نوعها مختصة بهم لا يشاركهم فيها غيرهم من الامم فإذا اجيبوا إلى ذلك اوعدوا على الكفر عذابا لا يشاركهم فيها غيرهم كما شرفوا بمثل ذلك. ومن هنا يظهر ان المراد بالعالمين عالمو جميع الامم عالمو زمانهم فإن ذلك
[ 238 ]
مرتبطا بمن يمتازون عنهم من الناس وهم جميع الامم لا اهل زمان عيسى (ع) خاصة من امم الارض. ومن هناك يظهرايضا ان قوله " فإنى اعذبه عذابا لا اعذبه احدا من العالمين " وإن كان وعيدا شديدا بعذاب بئيس لكن الكلام غير ناظر إلى كون العذاب فوق جميع العذابات والعقوبات في الشدة والالم، وإنما هو مسوق لبيان انفراد العذاب في بابه، واختصاصهم من بين الامم به. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: " هل يستطيع ربك " عن أبى عبد الله (ع) قال: معنى الاية هل تستطيع أن تدعو ربك. أقول: وروى هذا المعنى من طريق الجمهور عن بعض الصحابة والتابعين كعائشة وسعيد بن جبير، وهو راجع إلى ما استظهرناه من معنى الاية فيما تقدم فإن السؤال عن استطاعة عيسى (ع) إنما يصح بالنسبة إلى استطاعته بحسب الحكمة والمصلحة دون استطاعته بحسب أصل القدرة. وفي تفسير العياشي عن عيسى العلوى عن أبيه عن أبى جعفر (ع) قال: المائدة التى نزلت بنى إسرائيل مدلاة بسلاسل من ذهب عليها تسعة أحوتة وتسعة أرغفة. أقول: وفي لفظ آخر تسعة أنوان وتسعة أرغفة " والانوان " جمع نون وهو الحوت. وفي المجمع عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: نزلت المائدة خبزا، ولحما، وذلك لانهم سألوا عيسى طعاما لا ينفد يأكلون منها، قال: فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم ما لم تخونوا وتخبأوا وترفعوا فإن فعلتم ذلك عذبتم، قال: فما مضى يومهم حتى خبأوا ورفعوا وخانوا. اقول: ورواه في الدر المنثورعن الترمذي وابن جرير وابن أبى حاتم وابن الانباري
وأبى الشيخ وابن مردويه عن عمار بن ياسر عنه صلى الله عليه وآله وسلم وفي آخره فمسخوا قردة وخنازير. قال في الدر المنثور: وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم من وجه آخر
[ 239 ]
عن عمار بن ياسر موقوفا مثله، قال الترمذي: والوقف أصح، انتهى. والذى ذكر في الخبر من أنهم سألوا طعاما لا ينفد يأكلون منها لا ينطبق على الاية ذاك الانطباق بناء على ظاهر ما حكاه الله تعالى من قولهم: " ونكون عليها من الشاهدين " فإن الطعام الذى لا يقبل النفاد لا يحتاج إلى شاهد يشهد عليه إلا أن يراد من الشهادة الشهادة عند الله يوم القيامة. والذى ذكر فيه من مسخهم قردة وخنازير ظاهر السياق أن ذلك هو العذاب الموعود لهم، وهذا مما يفتح بابا آخر من المناقشة فيه فإن ظاهر قوله تعالى " فإنى أعذبه عذابا لا اعذبه أحدا من العالمين " اختصاص هذا العذاب بهم، وقد نص القرآن الشريف على مسخ آخرين بالقردة، قال تعالى: " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين " (البقرة: 65)، والمروى في هذا الباب عن بعض طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام: أنهم مسخوا خنازير. وفى تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار عن أبى الحسن (ع) قال: إن الخنازير من قوم عيسى سألوا نزول المائدة فلم يؤمنوا بها فمسخهم الله خنازير. وفيه: عن عبد الصمد بن بندارقال: سمعت أبا الحسن (ع) يقول: كانت الخنازير قوما من القصارين كذبوا بالمائدة فمسخوا خنازير. أقول: وفيما رواه في الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن محمد بن الحسن الاشعري عن أبى الحسن الرضا (ع) قال: الفيل مسخ كان ملكا زناء، والذئب مسخ كان أعرابيا ديوثا، والارنب مسخ كانت امرأة تخون زوجها ولا تغتسل من حيضها، والوطواط مسخ كان يسرق تمور الناس، والقردة والخنازير قوم من بنى إسرائيل اعتدوا
في السبت، والجريث والضب فرقة من بنى إسرائيل لم يؤمنوا حيث نزلت المائدة على عيسى بن مريم فتاهوا فوقعت فرقة في البحر وفرقة في البر، والفارة فهى الفويسقة، والعقرب كان نماما، والدب والوزغ والزنبور كانت لحاما يسرق في الميزان. والرواية لا تعارض الروايتين السابقتين لامكان أن يمسخ بعضهم خنزيرا وبعضهم جريثا وضبا غير أن هذه الرواية لا تخلو عن شئ آخر وهو ما تضمنه من مسخ أصحاب
[ 240 ]
السبت قردة وخنازير، والاية الشريفة المذكورة ونظيرتها ما في سورة الاعراف إنما تذكران مسخهم قردة بسياق كالمنافي لغيرها، والله أعلم. * * * وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمى إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب - 116. ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به أن اعبدوا الله ربى وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد - 117. إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم - 118. قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم - 119. لله ملك السموات والارض وما فيهن وهو على كل شئ قدير - 120. (بيان) مشافهة الله رسوله عيسى بن مريم في أمر ما قالته النصارى في حقه، وكأن الغرض من سرد الايات ذكر ما اعترف به (ع) وحكاه عن نفسه في حياته الدنيا: أنه لم يكن
من حقه أن يدعى لنفسه ما ليس فقد كان بعين الله التى لا تنام ولا تزيغ، وأنه لم يتعد
[ 241 ]
ما حده الله سبحانه له فلم يقل إلا ما أمر أن يقول ذلك، واشتغل بالعمل بما كلفه الله أن يشتغل به وهو أمر الشهادة، وقد صدقه الله تعالى فيما ذكره من حق الربوبية والعبودية. وبهذا تنطبق الايات على الغرض النازل لاجله السورة، وهو بيان الحق المجعول لله على عباده أن يفوا بالعهد الذى عقدوه وأن لا ينقضوا الميثاق، فليس لهم أن يسترسلوا كيفما أرادوا وأن يرتعوا رغدا حيث شاؤا فلم يملكوا هذا النوع من الحق من قبل ربهم، ولا أنهم قادرون على ذلك من حيال أنفسهم، ولله ملك السماوات والارض وما فيهن وهو على كل شئ قدير، وبذلك تختتم السورة. قوله تعالى: " وإذ قال الله يا عيسى بن مريم، أأنت قلت للناس اتخذوني وامى إلهين من دون الله " " إذ " ظرف متعلق بمحذوف يدل عليه المقام، والمراد به يوم القيامة لقوله تعالى فيها: " قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم " وقول عيسى عليه السلام فيها " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم ". وقد عبرت الاية عن مريم بالامومة فقيل: " اتخذوني وأمى إلهين " دون ان يقال: " اتخذوني ومريم إلهين " للدلالة على عمدة حجتهم في الالوهية وهو ولادته منها بغيرأب، فالبنوة والامومة الكذائيتين هما الاصل في ذلك فالتعبير به وبامه أدل وأبلغ من التعبير بعيسى ومريم. و " دون " كلمة تستعمل بحسب المآل في معنى الغير، قال الراغب: يقال للقاصر عن الشئ " دون " قال بعضهم: هو مقلوب من الدنو، والادون الدنى، وقوله تعالى: " لا تتخذوا بطانة من دونكم " أي من لم يبلغ منزلتكم في الديانة، وقيل: في القرابة، وقوله: " ويغفر ما دون ذلك " أي ما كان أقل من ذلك، وقيل: ما
سوى ذلك، والمعنيان متلازمان، وقوله: " ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمى إلهين من دون الله " أي غير الله، انتهى. وقد استعمل لفظ " من دون الله " كثيرا في القرآن في معنى الاشراك دون
[ 242 ]
الاستقلال بمعنى أن المراد من اتخاذ إله أو إلهين أو آلهة من دون الله هو أن يتخذ غير الله شريكا لله سبحانه في الوهيته لا أن يتخذ غير الله إلها وتنفى الوهية الله سبحانه فإن ذلك من لغو القول الذى لا يرجع إلى محصل فإن الذى أثبته حينئذ يكون هو الاله سبحانه وينفى غيره، ويعود النزاع إلى بعض الاوصاف التى أثبتها فمثلا لو قال قائل: " إن الاله هو المسيح ونفى إله المسيح عاد مفاد كلامه إلى إثبات الاله تعالى وتوصيفه بصفات المسيح البشرية، ولو قال قائل: إن الاصنام أو أرباب الاصنام آلهة ونفى الله تعالى وتقدس فإنه يقول بأن للعالم إلها فقد أثبت الله سبحانه لكنه نعته بنعت الكثرة والتعدد فقد جعل لله شركاء، أو يقول كما يقوله النصارى: إن الله ثالث ثلاثة أي واحد هو ثلاث وثلاث هو واحد. ومن قال: إن مبدأ العالم هو الدهرأو الطبيعة ونفى أن يكون للعالم إله تعالى عن ذلك فقد أثبت للعالم صانعا وهو الله عزاسمه لكنه نعته بنعوت القصور والنقص والامكان. ومن نفى أن يكون لهذا النظام العجيب مبدأ أصلا ونفى العلية والتأثير على الرغم من صريح ما تقضى به فطرته فقد أثبت عالما موجودا ثابتا لا يقبل النفى والانعدام من رأس أي هو واجب الثبوت وحافظ ثبوته ووجوده إما نفسه وليس لطرو الزوال والتغير إلى أجزائه، وإما غيره فهو الله تبارك وتعالى، وله نعوت كماله. فتبين أن الله سبحانه لا يقبل النفى إصلا إلا بظاهر من القول من غير أن يكون له معنى معقول.
والملاك في ذلك كله أن الانسان إنما يثبت الاله تعالى من جهة الحاجة العامة في العالم إلى من يقيم أود وجوده ويدبر أمر نظامه ثم يثبت خصوصيات وجوده فما أثبته من شئ لسد هذه الخلة ورفع تلك الحاجة فهو الله سبحانه ثم إذا أثبت إلها غيره أو أثبت كثرة فإما أن يكون قد أخطأ في تشخيص صفاته والحد في اسمائه، أو يثبت له شريكا أو شركاء تعالى عن ذلك، وأما نفيه وإثبات غيره فلا معنى له. فظهر أن معنى قوله: " إلهين من دون الله " شريكين لله هما من غيره، وإن سلم أن الكلمة لا تؤدى معنى الشركة بوجه، قلنا: إن معناها لا يتعدى إتخاذ إلهين هما
[ 243 ]
من سنخ غير الله سبحانه وأما كون ذلك مقارنا لنفى الوهيته تعالى أو إثباتها فهو مسكوت عنه لا يدل عليه لفظ وإنما يعلم من خارج، والنصارى لا ينفون الوهيته تعالى مع اتخاذهم المسيح وامه إلهين من دون الله سبحانه. وربما استشكل بعضهم الاية بأن النصارى غير قائلين بالوهية مريم العذراء (ع)، وذكروا في توجيهها وجوها. لكن الذى يجب أن يتنبه عليه أن الاية إنما ذكرت اتخاذهم إياها إلهة ولم يذكر قولهم بأنها إلهة بمعنى التسمية، واتخاذ الاله غير القول بالالوهية إلا من باب الالتزام، واتخاذ الاله يصدق بالعبادة والخضوع العبودي قال تعالى: " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه " (الجاثية: 23) وهذا المعنى مأثور عن أسلاف النصارى مشهود في أخلافهم. قال الالوسى في روح المعاني: إن أبا جعفر الامامي حكى عن بعض النصارى أنه كان فيما مضى قوم يقال لهم: " المريمية " يعتقدون في مريم أنها إله. وقال في تفسير المنار: أما اتخاذهم المسيح إلها فقد تقدم في مواضع من تفسير هذه السورة، وأما امه فعبادتها كانت متفقا عليها في الكنائس الشرقية والغربية بعد قسطنطين، ثم أنكرت عبادتها فرقة البروتستانت التى حدثت بعد الاسلام بعدة
قرون (1). إن هذه العبادة التى توجهها النصارى إلى مريم والدة المسيح (ع) منها ما هو صلاة ذات دعاء وثناء واستغاثة واستشفاع، ومنها صيام ينسب إليها ويسمى باسمها، وكل ذلك يقرن بالخضوع والخشوع لذكرها ولصورها وتماثيلها، واعتقاد السلطة الغيبية لها التى يمكنها بها في اعتقادهم أن تنفع وتضر في الدنيا والاخرة بنفسها أو بواسطة ابنها، وقد صرحوا بوجوب العبادة لها، ولكن لا يعرف عن فرقة من فرقهم إطلاق كلمة " إله " عليها بل يسمونها " والدة الاله " ويصرح بعض فرقهم أن ذلك حقيقة لا مجاز.
(1) كما أن القول برسالة المسيح ونفى الوهيته لا يزال يشيع في هذه الايام وهى سنة 1958 م بين نصاري إمريكا، وقد ذكر المحقق ه. ج. فلز في مجمل التاريخ: أن هذه الععبادة التي تأتي بها عامة النصاري للمسيح وامه لا توافق تعليم المسيح لانه نهى كما في إنجيل مرقس أن يعبد غير الله الواحد ليراجع ص 526 و 539 من الكتاب المزبور. (*)
[ 244 ]
والقرآن يقول هنا: إنهم اتخذوها وامها إلهين، والاتخاذ غير التسمية فهو يصدق بالعبادة وهى واقعة قطعا، وبين في آية اخرى أنهم قالوا: إن الله هو المسيح عيسى بن مريم، وذلك معنى آخر، وقد فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى في أهل الكتاب: " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " أنهم اتبعوهم فيما يحلون ويحرمون لا أنهم سموهم أربابا. وأول نص صريح رأيته في عبادة النصارى لمريم عبادة حقيقية ما في كتاب " السواعى " من كتب الروم الارثوذكس، وقد اطلعت على هذا الكتاب في دير يسمى " دير التلميد " وأنا في أول العهد بمعاهد التعليم، وطوائف الكاثوليك يصرحون بذلك ويفاخرون به. وقد زين الجزويت في بيروت العدد التاسع من السنة السابعة لمجلتهم " المشرق " بصورتها وبالنقوش الملونة إذ جعلوه تذكارا لمرور خمسين سنة على إعلان البابا بيوس
التاسع: أن مريم البتول " حبل بها بلا دنس الخطية " وأثبتوا في هذا العدد عبادة الكنائس الشرقية لمريم كالكنائس الغربية. ومنه قول الاب " لويس شيخو " في مقالة له فيه عن الكنائس الشرقية: " إن تعبد الكنيسة الارمنية للبتول الطاهرة أم الله لامر مشهور " وقوله " قد امتازت الكنيسة القبطية بعبادتها للبتولة المغبوطة ام الله " انتهى كلامه. ونقل أيضا بعض مقالة للاب " إنستاس الكرملى " نشرت في العدد الرابع عشر من السنة الخامسة من مجلة المشرق الكاثوليكية البيروتية قال تحت عنوان " قدم التعبد للعذراء " بعد ذكر عبارة سفر التكوين في عداوة الحية للمرأة ونسلها وتفسير المرأة بالعذراء: " ألا ترى أنك لا ترى من هذا النص شيئا ينوه بالعذراء تنويها جليا إلى أن جاء ذلك النبي العظيم " إيليا " الحى فأبرز عبادة العذراء من حيز الرمز والابهام إلى عالم الصراحة والتبيان ". ثم فسر هذه الصراحة والتبيان بما في سفر الملوك الثالث (بحسب تقسيم الكاثوليك) من أن إيليا حين كان مع غلامه في رأس الكرمل أمره سبع مرات أن يتطلع نحو البحر فأخبره الغلام بعد تطلعه المرة السابعة: أنه رأى سحابة قدر راحة
[ 245 ]
الرجل طالعة من البحر. قال صاحب المقالة: فمن ذلك النشئ (أول ما ينشأ من السحاب) (1) قلت: إن هو إلا صورة مريم على ما أحقه المفسرون بل وصورة الحبل بلا دنس أصلى، ثم قال: هذا أصل عبادة العذراء في الشرق العزيز، وهو يرتقى إلى المائة العاشرة قبل المسيح، والفضل في ذلك عائد إلى هذا النبي إيليا العظيم، ثم قال: ولذلك كان أجداد الكرمليين أول من آمن أيضا بالاله يسوع بعد الرسل والتلامذة، وأول من أقام للعذراء معبدا بعد انتقالها إلى السماء بالنفس والجسد، انتهى.
(2) قوله تعالى: " قال سبحانك ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق " إلى آخر الاية هذه الاية والتى تتلوها جواب المسيح عيسى بن مريم عليه السلام عما سئل عنه وقد أتى ععليه السلام فيه بأدب عجيب: فبدأ بتسبيحه تعالى لما فاجأه أن سمع ذكر مالا يليق نسبته إلى ساحة الجلال والعظمة وهو اتخاذ الناس إلهين من دون الله شريكين له سبحانه فمن أدب العبودية أن يسبح العبد ربه إذا سمع ما لا ينبغى أن يسمع فيه تعالى أو ما يخطر بالبال تصور ذلك، وعليه جرى التأديب الالهى في كلامه كقوله: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه " (الانبياء: 26) وقوله: " ويجعلون لله البنات سبحانه " (النحل: 57). ثم عاد إلى نفى ما استفهم عن انتسابه إليه، وهو أن يكون قد قال للناس اتخذوني وأمى إلهين من دون الله، ولم ينفه بنفسه بل بنفى سببه مبالغة في التنزيه فلو قال: " لم أقل ذلك أو لم أفعل لكان فيه إيماء إلى إمكان وقوعه منه لكنه لم يفعل، لكن إذا نفاه بنفى سببه فقال: " ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق " كان ذلك نفيا لما يتوقف عليه ذلك القول، وهو أن يكون له أن يقول ذلك حقا فنفى هذا الحق نفى ما يتفرع عليه بنحو أبلغ نظير ما إذ قال المولى لعبده: لم فعلت ما لم آمرك أن تفعله ؟ فإن أجاب العبد بقوله: " لم أفعل " كان نفيا لما هو في مظنة الوقوع، وإن
(1) يشير به إلى السحابة التى شاهدها الغلام ناشئة من البحر. (2) وإنما نقلنا ما نقلناه بطوله لان فيه ما يطلع به الباحث التأمل على نوع منطقهم في إثبات العبادة لها ويشاهد بعض مجازفاتهم في الدين. (*)
[ 246 ]
قال: " إنا أعجز من ذلك " كان نفيا بنفى السبب وهو القدرة، وإنكارا لاصل إمكانه فضلا عن الوقوع. وقوله: " ما يكون لى إن أقول ما ليس لى بحق " إن كان لفظ " يكون " ناقصة فاسمها قوله: " أن أقول " وخبرها قوله: " لى " واللام للملك، والمعنى: ما
أملك ما لم أملكه وليس من حقى القول بغير حق، وإن كانت تامة فلفظ " لى " متعلق بها وقوله: " أن أقول، الخ " فاعلها، والمعنى: ما يقع لى القول بغير حق، والاول من الوجهين أقرب، وعلى أي حال يفيد الكلام نفى الفعل بنفى سببه. وقوله عليه السلام: " إن كنت قلته فقد علمته " نفى آخرللقول المستفهم عنه لا نفيا لنفسه بنفسه بل بنفى لازمه فإن لازم وقوع هذا القول أن يعلم به الله لانه الذى لا يخفى عليه شئ في الارض ولا في السماء وهو القائم على كل نفس بما كسبت، المحيط بكل شئ. وهذا الكلام منه عليه السلام يتضمن أولا فائدة إلقاء القول مع الدليل من غير أن يكتفى بالدعوى المجردة، وثانيا الاشعار بأن الذى كان يعتبره في أفعاله وأقواله هو علم الله سبحانه من غير أن يعبأ بغيره من خلقه علموا أو جهلوا، فلا شأن له معهم. وبلفظ آخر السؤال إنما يصح طبعا في ما كان مظنة الجهل فيراد به نفى الجهل وإفادة العلم، إما لنفس السائل إذا كان هو الجاهل بواقع الامر، أو لغيره إذا كان السائل عالما وأراد أن يعلم غيره بما يعلم هو من واقع الامر كما يحمل عليه نوع السؤال الواقع في كلامه تعالى، وقوله عليه السلام في الجواب في مثل المقام: " إن كنت قلته فقد علمته " إرجاع للامر إلى علمه تعالى وإشعار أنه لا يعتبر شيئا في أفعاله وأقواله غير علمه تعالى. ثم أشار بقوله: " تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب " ليكون تنزيها لعلمه تعالى عن مخالطة الجهل إياه، وهو وإن كان ثناء أيضا في نفسه لكنه غير مقصود لان المقام ليس بمقام الثناء بل مقام التبرى عن انتساب ما نسب إليه. فقوله عليه السلام: " تعلم ما في نفسي " توضيح لنفوذ العلم الذى ذكره في قوله: " إن كنت قلته فقد علمته " وبيان أن علمه تعالى بأعمالنا وهو الملك الحق يومئذ ليس من قبيل علم الملوك منا بأحوال رعيته بارتفاع أخبار المملكة إليه ليعلم بشئ ويجهل بشئ، ويستحضر حال بعض ويغفل عن حال بعض، بل هو سبحانه لطيف خبير
[ 247 ]
بكل شئ ومنها نفس عيسى بن مريم بخصوصه. ومع ذلك لم يستوف حق البيان في وصف علمه تعالى فإنه سبحانه يعلم كل شئ، لا كعلم أحدنا بحال الاخر وعلم الاخر بحاله، بل يعلم ما يعلم بالاحاطة به من غير أن يحيط به شئ ولا يحيطون به علما فهو تعالى إله غير محدود وكل من سواه محدود مقدر لا يتعدى طور نفسه المحدود، ولذلك ضم عليه السلام إلى الجملة جملة اخرى فقال: " تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ". أما قوله: " إنك أنت علام الغيوب " ففيه بيان العلة لقوله: " تعلم ما في نفسي " " الخ "، وفيه استيفاء حق البيان من جهة اخرى وهو رفع توهم أن حكم العلم في قوله: " تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك " مقصور بما بينه وبين ربه لا يطرد في كل شئ فبين بقوله: " إنك أنت علام الغيوب " أن العلم التام بجميع الغيوب منحصر فيه فما كان عند شئ من الاشياء وهو غيب عن غيره فهو معلوم لله سبحانه وهو محيط به. ولازم ذلك أن لا يعلم شئ من الاشياء بغيبه تعالى ولا بغيب غيره الذى هو تعالى عالم به لانه مخلوق محدود لا يتعدى طور نفسه فهو علام جميع الغيوب، ولا يعلم شئ غيره تعالى بشئ من الغيوب لا الكل ولا البعض. على أنه لو أحيط من غيبه تعالى بشئ فإن أحاط تعالى به لم يكن هذا المحيط محيطا حقيقة بل محاطا له تعالى ملكه الله بمشيئته أن يحيط بشئ من ملكه من غير أن يخرج بذلك من ملكه كما قال تعالى: " ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء " (البقرة: 255). وإن لم يحط سبحانه تعالى بما أحاط به كان مضروبا بحد فكان مخلوقا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. قوله تعالى: " ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به أن اعبدوا الله ربى وربكم " لما نفى عليه السلام القول المسؤول عنه عن نفسه بنفى سببه أولا نفاه ببيان وظيفته التى لم يتعدها ثانيا فقال: " ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به " الخ "، وأتى فيه بالحصر بطريق النفى
والاثبات ليدل على الجواب بنفى ما سئل عنه وهو القول: " أن اتخذوني وامى إلهين من دون الله ". وفسر ما أمره به ربه من القول بقوله: " أن اعبدوا الله " ثم وصف الله سبحانه
[ 248 ]
بقوله: " ربى وربكم " لئلا يبقى أدنى شائبة من الوهم في أنه عبد رسول يدعو إلى الله ربه ورب جميع الناس وحده لا شريك له. وعلى هذه الصراحة كان يسلك عيسى بن مريم عليه السلام في دعوته ما دعاهم إلى التوحيد على ما يحكى عنه القرآن الشريف، قال تعالى حكاية عنه: " إن الله هو ربى وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم " (الزخرف: 64) وقال: " وإن الله ربى وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم " (مريم: 36). قوله تعالى: " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد " ثم ذكر عليه السلام وظيفته الثانية من جانب الله سبحانه وهو الشهادة على أعمال أمته كما قال تعالى: " ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " (النساء: 159). يقول عليه السلام ما كان لى من الوظيفة فيهم إلا الرسالة إليهم والشهادة على أعمالهم: أما الرسالة فقد أديتها على أصرح ما يمكن، وأما الشهادة فقد كنت عليها ما دمت فيهم، ولم أتعد ما رسمت لى من الوظيفة فأنا براء من أن أكون القى إليهم أن اتخذوني وامى إلهين من دون الله. وقوله: " فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم " الرقوب والرقابة هو الحفظ، والمراد به في المقام بدلالة السياق هو الحفظ على الاعمال، وكأنه أبدل الشهيد من الرقيب احتراز عن تكرر اللفظ بالنظر إلى قوله بعد: " وأنت على كل شئ شهيد "، ولا نكتة تستدعى الاتيان بلفظ " الشهيد " ثانيا بالخصوص.
واللفظ أعنى قوله: " كنت أنت الرقيب عليهم " يدل على الحصر، ولازمه أنه تعالى كان شهيدا ما دام عيسى عليه السلام شهيدا وشهيدا بعده، فشهادته عليه السلام كانت وساطة في الشهادة لا شهادة مستقلة على حد سائر التدبيرات الالهية التى وكل عليها بعض عبادة ثم هو على كل شئ وكيل كالرزق والاحياء والاماتة والحفظ والدعوة والهداية وغيرها، والايات الشريفة في ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها. ولذلك عقب عليه السلام قوله: " فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم " بقوله: " وأنت على كل شئ شهيد " ليدل بذلك على أن الشهادة على أعمال امته التى كان
[ 249 ]
يتصداها مادام فيهم كانت حصة يسيرة من الشهادة العامة المطلقة إلى هي شهادة الله سبحانه على شئ فإنه تعالى شهيد على أعيان الاشياء وعلى أفعالها التى منها أعمال عباده التى منها أعمال امة عيسى ما دام فيهم وبعد توفيه، وهو تعالى شهيد مع الشهداء وشهيد بدونهم. ومن هنا يظهر أن الحصر صادق في حقه تعالى مع قيام الشهداء على شهادتهم فإنه (ع) حصر الشهادة بعد توفيه في الله سبحانه مع أن لله بعده شهداء من عباده ورسله وهو (ع) يعلم ذلك. ومن الدليل على ذلك بشارته عليه السلام بمجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم - على ما يحكيه القرآن - بقوله: " يا بنى إسرائيل إنى رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدى من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدى اسمه أحمد " (الصف: 6) وقد نص القرآن على كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الشهداء قال تعالى: " وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " (النساء: 41). على أن الله سبحانه حكى عنه هذا الحصر: " فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم " ولم يرده بالابطال فالله سبحانه هو الشهيد لا غير مع وجود كل شهيد أي إن حقيقة الشهادة هي لله سبحانه كما أن حقيقة كل كمال وخير هو لله سبحانه، وأن
ما يملكه غيره من كمال أو خير أو حسن فإنما هو بتمليكه تعالى من غير أن يستلزم هذا التمليك انعزاله تعالى عن الملك ولا زوال ملكه وبطلانه، وعليك بالتدبر في أطراف ما ذكرناه. فبان بما أورده من بيان حاله المحكى عنه في الايتين أنه برئ مما قاله الناس في حقه وأن لا عهدة عليه فيما فعلوه، ولذلك ختم (ع) كلامه بقوله: " إن تعذبهم فإنهم عبادك " إلى آخر الاية. قوله تعالى: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " لما اتضح بما أقام (ع) من الحجة أن لم يكن له من الوظيفة بالنسبة إلى الناس إلا أداء الرسالة والقيام بأمر الشهادة، وأنه لم يشتغل فيهم إلا بذلك ولم يتعده إلى ما ليس له بحق فهو غير مسؤول عما تفوهوا به من كلمة الكفر، بان أنه (ع) بمعزل عن الحكم الالهى المتعلق بهم فيما بينهم وبين ربهم، ولذلك استأنف الكلام ثانيا فقال من غير
[ 250 ]
وصل وتفريع: " إن تعذبهم، الخ ". فالاية كالصالحة لان يوضع موضع البيان السابق، ومفادها أنه لا عهدة على فيما وقعوا فيه من الشرك الشنيع، ولم اداخل أمرهم في شئ حتى اشاركهم فيما بينك وبينهم من الحكم عليهم بما شئت فهم وحكمك في حقهم بما أردت، وهم وصنعك فيهم بما صنعت، إن تعذبهم بما حكمت فيمن أشرك بك بدخول النار فإنهم عبادك، وإليك تدبير أمرهم، ولك أن تسخط عليهم به لانك المولى الحق وإلى المولى أمر عباده، وإن تغفر لهم بإمحاء أثر هذا الظلم العظيم فإنك أنت العزيز الحكيم لك حق العزة والحكمة، وللعزيز (وهو الذى له من الجدة والقدرة ما ليس لغيره) ولا سيما إذا كان حكيما (لا يقدم على أمر إلا إذا كان مما ينبغى أن يقدم عليه) أن يغفر الظلم العظيم فإن العزة والحكمة إذا اعتنقتا في فاعل لم تدعا قدرة تقوم عليه ولا مغمضة في ما قضى به من أمر.
وبما تقدم من البيان ظهر أولا: أن قوله: " فإنهم عبادك " بمنزلة أن يقال: " فإنك مولاهم الحق " على ما هو دأب القرآن من ذكر أسماء الله بعد ذكر أفعاله كما في آخر الاية. وثانيا: أن قوله: " فإنك أنت العزيز الحكيم " ليس مسوقا للحصر بل الاتيان بضمير الفصل وإدخال اللام في الخبر للتأكيد، ويؤول معناه إلى أن عزتك وحكمتك مما لا يداخله ريب فلا مجال للاعتراض عليك إن غفرت لهم. وثالثا: أن المقام (مقام المشافهة بين عيسى بن مريم عليه السلام وربه) لما كان مقام ظهور العظمة الالهية التى لا يقوم لها شئ كان مقتضاه أن يراعى فيه جانب ذلة العبودية للغاية بالتحرز عن الدلال والاسترسال والتجنب عن مداخلة في الامر بدعاء أو سؤال، ولذلك قال (ع): " وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " ولم يقل " فإنك غفور رحيم " لان سطوع آية العظمة والسطوة الالهية القاهرة الغالبة على كل شئ لا يدع للعبد إلا أن يلتجئ إليه بما له من ذلة العبودية ومسكنة الرقية والمملوكية المطلقة، والاسترسال عند ذلك ذنب عظيم. وأما قول إبراهيم (ع) لربه: " فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك غفور رحيم " (إبراهيم: 36) فإنه من مقام الدعاء وللعبد أن يثير فيه ناشئة الرحمة الالهية
[ 251 ]
بما استطاع. قوله تعالى: " قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم " تقرير لصدق عيسى بن مريم (ع) على طريق التكنية فإنه لم يصرح بشخصه وإنما المقام هو الذى يفيد ذلك. والمراد بهذا الصدق من الصادقين صدقهم في الدنيا فإنه تعالى يعقب هذه الجملة بقوله: " لهم جنات تجرى من تحتها الانهار، الخ " ومن البين أنه بيان لجزاء صدقهم عند الله سبحانه فهو النفع الذى يعود إليهم من جهة الصدق والاعمال والاحوال
الاخروية - ومنها صدق أهل الاخرة - لا يترتب عليها أثر النفع بمعنى الجزاء وبلفظ آخر: الاعمال والاحوال الاخروية لا يترتب عليها جزاء كما يترتب على الاعمال والاحوال الدنيوية، إذ لا تكليف في الاخرة، والجزاء من فروع التكليف، وإنما الاخرة دار حساب وجزاء كما أن الدنيا دار عمل وتكليف، قال تعالى: " يوم يقوم الحساب " (إبراهيم: 41) وقال: " اليوم تجزون ما كنتم تعملون " (الجاثية: 28) وقال تعالى: " إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الاخرة هي دار القرار " (المؤمن: 39). والذى ذكره عيسى (ع) من حاله في الدنيا مشتمل على قول وفعل وقد قرره الله على الصدق فالصدق الذى ذكر في الاة ه يشمل الصدق في الفعل كما يشمل الصدق في القول، فالصادقون في الدنيا في قولهم وفعلهم ينتفعون يوم القيامة بصدقهم، لهم الجنات الموعودة وهم الراضون المرضيون الفائزون بعظيم الفوز. على أن الصدق في القول يستلزم الصدق في الفعل - بمعنى الصراحة وتنزه العمل عن سمة النفاق - وينتهى به إلى الصلاح، وقد روى أن رجلا من أهل البدو استوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوصاه أن لا يكذب ثم ذكر الرجل أن رعاية ما وصى به كفه عن عامة المعاصي إذ ما من معصية عرضت إلا ذكر أنه لو اقترحها ثم سئل عنها وجب عليه أن يعترف بها على نفسه ويخبر بها الناس فلم يقترفها مخافة ذلك. قوله تعالى: " لهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم " رضى الله عنهم بما قدموا إليه من الصدق، ورضوا عن الله بما آتاهم من الثواب. وقد علق رضاه بهم أنفسهم لا بأعمالهم كما في قوله تعالى: " ورضى له قولا "
[ 252 ]
(طه: 109) وقوله: " وإن تشكروا يرضه لكم " (الزمر: 7) وبين القسمين من الرضى فرق فإن رضاك عن شئ هو أن لا تدفعه بكراهة ومن الممكن أن يأتي عدوك بفعل ترضاه وأنت تسخط على نفسه، وأن يأتي صديقك الذى تحبه بفعل لا ترضاه.
فقوله: " رضى الله عنهم " يدل على أن الله يرضى عن أنفسهم، ومن المعلوم أن الرضى لا يتعلق بأنفسهم ما لم يحصل غرضه جل ذكره من خلقهم، وقد قال تعالى: " وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون " (الذاريات: 56) فالعبودية هو الغرض الالهى من خلق الانسان فالله سبحانه إنما يرضى عن نفس عبده إذا كان مثالا للعبودية أي أن يكون نفسه نفس عبد لله الذى هو رب كل شئ فلا يرى نفسه ولا شيئا غيره إلا مملوكا لله خاضعا لربوبيته لا يؤوب إلا إلى ربه ولا يرجع إلا إليه كما قال تعالى في سليمان وأيوب: " نعم العبد إنه أواب " (ص: 44) وهذا هو الرضى عنه. وهذا من مقامات العبودية، ولازمه طهارة النفس عن الكفر بمراتبه وعن الاتصاف بالفسق، كما قال تعالى: " ولا يرضى لعباده الكفر " (الزمر: 7)، وقال تعالى: " فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين " (التوبة: 96). ومن آثار هذا المقام أن العبودية إذا تمكنت من نفس العبد ورأى ما يقع عليه بصره وتبلغه بصيرته مملوكا لله خاضعا لامره فإنه يرضى عن الله فإنه يجد أن كل ما آتاه الله فإنما آتاه من فضله من غير أن يتحتم عليه فهو جود ونعمة، وأن ما منعه فإنما منعه عن حكمة. على أن الله سبحانه يذكر عنهم وهم في الجنة بقوله: " لهم فيها ما يشاؤون " (النحل: 31، الفرقان: 16)، ومن المعلوم أن الانسان إذا وجد كل ما يشاؤه لم يكن له إلا أن يرضى. وهذا غاية السعادة الانسانية بما هو عبد، ولذلك ختم الكلام بقوله: " ذلك الفوز العظيم ". قوله تعالى: " لله ملك السماوات والارض وما فيهن وهو على كل شئ قدير " الملك - بالكسر - سلطة خاصة على رقبة الاشياء وأثره نفوذ الارادة فيما يقدر عليه المالك من التصرف فيها، والملك - بالضم - سلطة خاصة على النظام الموجود بين الاشياء
[ 253 ]
وأثره نفوذ الارادة فيما يقدر عليه، وبعبارة ساذجة: الملك - بالكسر - متعلق بالفرد، والملك - بالضم - متعلق بالجماعة. وحيث كان الملك في نفوذ الارادة بالفعل مقيدا أو متقوما بالقدرة فإذا تمت القدرة وأطلقت كان الملك ملكا مطلقا غير مقيد بشئ دون شئ وحال دون حال، ولبيان هذه النكتة عقب تعالى قوله: " لله ملك السماوات والارض وما فيهن " بقوله: " وهو على كل شئ قدير ". واختتمت السورة بهذه الاية الدالة على الملك المطلق، والمناسبة ظاهرة، فإن غرض السورة هو حث العباد وترغيبهم على الوفاء بالعهود والمواثيق المأخوذة عليهم من جانب ربهم، وهو الملك على الاطلاق فلا يبقى لهم إلا أنهم عباد مملوكون على الاطلاق ليس لهم فيما يأمرهم به وينهاهم عنه إلا السمع والطاعة، ولا فيما يأخذ منهم من العهود والمواثيق إلا الوفاء بها من غير نقض. (بحث روائي) في تفسير العياشي عن ثعلبة بن ميمون عن بعض أصحابنا عن أبى جعفر عليه السلام في قول الله تبارك وتعالى لعيسى: " أأنت قلت للناس اتخذوني وامى إلهين من دون الله " قال: لم يقله وسيقوله، إن الله إذا علم أن شيئا كائن أخبر عنه خبر ما قد كان. اقول: وفيه أيضا عن سليمان بن خالد عن أبى عبد الله عليه السلام مثله، وحاصله أن الاتيان بصيغة الماضي في الامر المستقبل للعلم بتحقق وقوعه، وهو شائع في اللغة. وفيه عن جابر الجعفي عن أبى جعفر عليه السلام في تفسير هذه الاية: " تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب " قال: إن اسم الله الاكبر ثلاثة وسبعون حرفا فاحتجب الرب تبارك وتعالى منها بحرف فمن ثم لا يعلم أحد ما في نفسه عزوجل. أعطى آدم اثنين وسبعين حرفا فتوارثها الانبياء حتى صار إلى عيسى عليه السلام فذلك قول
عيسى: " تعلم ما في نفسي " يعنى اثنين وسبعين حرفا من الاسم الاكبر يقول: أنت علمتنيها فأنت تعلمها " ولا أعلم ما في نفسك " يقول: لانك احتجبت بذلك الحرف فلا يعلم أحد ما في نفسك.
[ 254 ]
اقول: سيجئ البحث المبسوط عن أسماء الله الحسنى واسمه الاعظم الاكبر في تفسير قوله تعالى: " ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها " الاية (الاعراف: 180) ويتبين هناك أن الاسم الاكبر أو الاسم الاعظم ليس من نوع اللفظ حتى يتألف من حروف الهجاء وإنما المراد بالاسم في أمثال هذه الموارد هو المحكى عنه بالاسم اللفظى وهو الذات مأخوذا بصفة من صفاته ووجه من وجوهه، ويعود الاسم اللفظى حينئذ اسم الاسم على ما سيتضح بعد. وعلى هذا فقوله (ع): " إن الاسم الاكبر مؤلف من ثلاثة وسبعين حرفا " ونظيره ما ورد في روايات كثيرة في هذا الباب من أن الاسم الاعظم مؤلف من كذا حرفا، وأنها متفرقة مبثوثة في كذا سورة أو أنه في كذا آية، كل ذلك بيانات مبنية على الرمز، وأمثال مضروبة لتفهيم ما يسع تفهيمه من الحقائق فما كل حقيقة ميسورا بيانها بالصراحة من غير كناية، وبالعين دون المثل. والذى يتضح به معنى الحديث بعض الاتضاح هو أن يقال: إنه لا شك أن أسماء الله تعالى الحسنى وسائط لظهور الكون بأعيانه وحدوث حوادثه التى لا تحصى، فإنا لا نشك في أن الله سبحانه خلق خلقه لانه خالق جواد مبدئ مثلا لا لانه منتقم شديد البطش، وأنه إنما يرزق من يرزق لانه رازق معط مثلا لا لانه قابض مانع، وأنه إنما يفيض الحياة للاحياء لانه الحى المحيى لا لانه مميت معيد، والايات القرآنية أصدق شاهد على هذه الحقيقة، فإنا نرى المعارف المبينة في متون الايات معللة بالاسماء المناسبة لمعانيها في ذيلها فربما اختتمت الاية لبيان ما تضمه من المعنى باسم، وربما
اختتمت باسمين يفيدان بمجموعهما المعنى المذكور فيها. ومن هنا يظهر أن الواحد منا لو رزق علم الاسماء وعلم الروابط التى بينها وبين الاشياء وما تقضيه أسماؤه تعالى مفردة ومؤلفة علم النظام الكونى بما جرى وبما يجرى عليه عن قوانين كلية منطبقة على جزئياتها واحدا بعد واحد. وقد بين القرآن الشريف على ما يفهم من ظواهره قوانين عامة كثيرة في المبدأ والمعاد وما رتبه الله تعالى من أمر السعادة والشقاوة ثم خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ ".