تفسير الميزان - السيد الطباطبائي ج 4

تفسير الميزان

السيد الطباطبائي ج 4


[ 1 ]

الميزان في تفسير القرآن 4

[ 2 ]

تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره

[ 3 ]

الميزان في تفسير القران كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره المجلد الرابع منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة

[ 4 ]

بسم الله الرحمن الرحيم وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم (121) - إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون (122) - ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون (123) - إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلثة آلاف من الملائكة منزلين (124) - بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين (125) - وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم (126) - ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين (127) - ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون (128) - ولله ما في السموات وما في الارض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم (129) = بيان = رجوع إلى ما بدأت به السورة من تنبيه المؤمنين بما هم عليه من الموقف الصعب

[ 5 ]

وتذكيرهم بنعم الله عليهم من إيمان ونصر وكفاية وتعليمهم ما يسبقون به إلى شريف مقصدهم وهدايتهم إلى ما يسعدون به في حياتهم وبعد مماتهم. وفيها قصة غزوة احد وأما الآيات المشيرة إلى غزوة بدر فإنما هي من قبيل الضميمة المتممة ومحلها محل شاهد القصة وليست مقصودة بالاصالة على ما سيجئ. قوله تعالى وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال إذ ظرف متعلق بمحذوف كا ذكر ونحوه وغدوت من الغدو وهو الخروج غداة والتبوئة تهيئة المكان للغير أو إسكانه وإيطانه المكان والمقاعد جمع وأهل الرجل كما ذكره الراغب من يجمعه وإياهم نسب أو بيت أو غيرهما كدين أو بلد أو صناعة يقال أهل الرجل لزوجته ولمن في بيته من زوجة وولد وخادم وغيرهم وللمنتسبين إليه من عشيرته وعترته ويقال أهل بلد كذا لقاطنيه وأهل دين كذا لمنتحليه وأهل صناعة كذا لصناعها وأساتيدها ويستوى فيه المذكر والمؤنث والمفرد والجمع ويختص استعماله بالانسان فأهل الشئ خاصته من الانسان. والمراد بأهل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصته وهم جمع وليس المراد به هاهنا شخص واحد بدليل قوله غدوت من أهلك إذ يجوز أن يقال خرجت من خاصتك ومن جماعتك ولا يجوز أن يقال خرجت من زوجتك وخرجت من امك ولذا التجأ بعض المفسرين إلى تقدير في الآية فقال إن التقدير خرجت من بيت أهلك لما فسر الاهل بالمفرد ولا دليل يدل عليه من الكلام. وسياق الآيات مبنى على خطاب الجمع وهو خطاب المؤمنين على ما تدل عليه الآيات السابقة واللاحقة ففى قوله وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين التفات من خطابهم إلى خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكأن الوجه فيه ما يلوح من آيات القصة من لحن العتاب فإنها لا تخلو من شائبة اللوم والعتاب والاسف على ما جرى وظهر من المؤمنين من الفشل والوهن في العزيمة والقتال ولذلك أعرض عن مخاطبتهم في تضاعيف القصة وعدل إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يخص به فقال وأذ غدوت من أهلك وقال إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم وقال ليس لك من الامر شئ وقال قل إن الامر كله بيد الله وقال فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم وقال ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا الآية.

[ 6 ]

فغير خطاب الجمع في هذه الموارد إلى خطاب المفرد وهى موارد تحبس المتكلم الجارى في كلامه عن الجرى فيه لما تغيظه وتهيج وجده بخلاف مثل قوله في ضمن الآيات وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم وقوله والرسول يدعوكم في اخريكم لان العتاب فيهما بخطاب الجمع أوقع دون خطاب المفرد وبخلاف مثل قوله في ضمن الآيات لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا منهم الآية لان الامتنان ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أخذه غائبا أوقع وأشد تأثيرا في النفوس وأبعد من الوهم والخطور فتدبر في الآيات تجد صحة ما ذكرناه. ومعنى الآية واذكر إذ خرجت بالغداة من أهلك تهيئ للمؤمنين مقاعد للقتال أو تسكنهم وتوقفهم فيها والله سميع لما قيل هناك عليم بما أضمرته قلوبهم والمستفاد من قوله وإذ غدوت من أهلك قرب المعركة من داره صلى الله عليه وآله وسلم فيتعين بذلك أن الآيتين ناظرتان إلى غزوة أحد فتتصل الآيتان بالآيات الآتية النازلة في شأن أحد لانطباق المضامين على وقائع هذه الغزوة وبه يظهر ضعف ما قيل إن الآيتين في غزوة بدر وكذا ما قيل إنهما في غزوة الاحزاب والوجه ظاهر. قوله تعالى والله سميع عليم أي سميع يسمع ما قيل هناك عليم يعلم ما كان مضمرا في قلوبكم وفيه دلالة على كلام جرى هناك بينهم وامور أضمروها في قلوبهم والظاهر أن قوله إذ همت متعلق بالوصفين. قوله تعالى إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما الهم ما هممت به في نفسك وهو القصد والفشل ضعف مع الجبن. وقوله والله وليهما حال والعامل فيه قوله همت والكلام مسوق للعتاب واللوم وكذا قوله وعلى الله فليتوكل المؤمنون والمعنى أنهما همتا بالفشل مع أن الله وليهما ولا ينبغى لمؤمن أن يفشل وهو يرى أن الله وليه ومع أن المؤمنين ينبغى أن يكلوا أمرهم إلى الله ومن يتوكل على الله فهو حسبه. ومن ذلك يظهر ضعف ما قيل إن هذا الهم هم خطرة لا هم عزيمة لان الله تعالى مدحهما وأخبر أنه وليهما ولو كان هم عزيمة وقصد لكان ذمهم أولى إلى مدحهم. وما أدرى ما ذا يريد بقوله إنه هم خطرة أمجرد الخطور بالبال وتصور مفهوم

[ 7 ]

الفشل فجميع من هناك كان يخطر ببالهم ذلك ولا معنى لذكر مثل ذلك في القصة قطعا ولا يسمى ذلك هما في اللغة أم تصورا معه شئ من التصديق وخطورا فيه شوب قصد كما يدل عليه ظهور حالهما عند غيرهما ولو كان مجرد خطور من غير أي أثر لم يظهر أنهما همتا بالفشل على أن ذكر ولاية الله لهم ووجوب التوكل على المؤمن إنما يلائم هذا الهم دون مجرد الخطور على أن قوله والله وليهما ليس مدحا بل لوم وعظة على ما يعطيه السياق كما مر. ولعل منشأ هذا الكلام ما روى عن جابر بن عبد الله الانصاري أنه قال: فينا نزلت وما احب أنها لم تكن لقوله والله وليهما ففهم من الرواية أن جابرا فهم من الآية المدح. ولو صحت الرواية فإنما يريد جابر أن الله تعالى قبل إيمانهم وصدق كونهم مؤمنين حيث عد نفسه وليا لهم والله ولى الذين آمنوا والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت لا أن الجملة واقعة موقع المدح في هذا السياق الظاهر في العتاب. قوله تعالى ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة إلى آخر الآية ظاهر السياق أن تكون الآية مسوقة سوق الشاهد لتتميم العتاب وتأكيده فتكون تؤدى معنى الحال كقوله والله وليهما والمعنى وما كان ينبغى أن يظهر منكم الهم بالفشل وقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة وليس من البعيد أن يكون كلاما مستقلا سيق مساق الامتنان بذكر نصر عجيب من الله بإنزال الملائكة لامدادهم ونصرهم يوم بدر. ولما ذكر تعالى نصره إياهم يوم بدر وقابل ذلك بما هم عليه من الحال ومن المعلوم أن كل من اعتز فإنما يعتز بنصر الله وعونه فليس للانسان من قبل نفسه إلا الفقر والذلة ولذلك قال وأنتم أذلة ومن هنا يعلم أن قوله وأنتم أذلة لا ينافى أمثال قوله تعالى ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين: المنافقون - 8 فإن عزتهم إنما هي بعزة الله قال تعالى فإن العزة لله جميعا: النساء - 139 وذلك بنصر الله المؤمنين كما قال تعالى ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين: الروم - 47 فإذا كان الحال هذا الحال فلو اعتبر حال المؤمنين من حيث

[ 8 ]

أنفسهم لم يكن لهم إلا الذلة على أن واجهة حال المؤمنين أيضا يوم بدر كانت تقضى بكونهم أذلة قبال ما كان عليه المشركون من القوة والشوكة والزينة ولا ضير في إضافة الذلة النسبية إلى الاعزة وقد أضافها الله سبحانه إلى قوم مدحهم كل المدح حيث قال فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين الآية: المائدة - 54. قوله تعالى إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم الامداد من المد وهو إيصال المدد على نعت الاتصال. قوله تعالى بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا بلى كلمة تصديق والفور والفوران الغليان يقال فار القدر إذا غلا وجاش ثم استعير للسرعة والعجلة فاستعمل في الامر الذى لا ريث فيه ولا مهلة فمعنى من فورهم هذا من ساعتهم هذه. والظاهر أن مصداق الآية هو يوم بدر وإنما هو وعد على الشرط وهو ما يتضمنه قوله إن تصبروا وتتقوا وياأوكم من فورهم هذا. وأما ما يظهر من بعض المفسرين أنه وعد بإنزال الملائكة إن جاؤوهم بعد فورهم هذا يعنى يوم بدر بأن يكون المراد من فورهم هذا هو يوم بدر لا في يوم بدر وكذا ما يظهر من بعض آخر أنه وعد بإنزالهم في سائر الغزوات بعد بدر كاحد وحنين والاحزاب فمما لا دليل عليه من لفظ الآية. أما يوم أحد فلا محل لاستفادة نزول الملائكة فيه من الآيات وهو ظاهر وأما يوم الاحزاب ويوم حنين فالقرآن وإن كان يصرح بنزول الملائكة فيهما فقد قال في قصة الاحزاب إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها: الاحزاب - 9 وقال ويوم حنين إلى أن قال وأنزل جنودا لم تروها: التوبة - 26 إلا أن لفظ هذه الآية بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا قاصر عن إفادة عموم الوعد. وأما نزول ثلاثة آلاف يوم بدر فلا ينافى قوله تعالى في سورة الانفال فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملائكة مردفين: الانفال - 9 لمكان قوله مردفين أي متبعين لآخرين وهم الالفان الباقيان المكملان للعدد على ما ذكر في هذه الآيات.

[ 9 ]

قوله تعالى وما جعله الله إلا بشرى لكم الضمير راجع إلى الامداد ولفظة عند ظرف يفيد معنى الحضور وقد كان أولا مستعملا في القرب والحضور المكانى المختص بالاجسام ثم توسع فاستعمل في القرب الزمانى ثم في مطلق القرب والحضور المعنوي كيفما كان وقد استعمل في القرآن في مختلف الفنون. والذى يفيده في هذا المقام أعنى قوله وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم بالنظر إلى ما سبقه من قوله وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به هو المقام الربوبى الذى ينتهى إليه كل أمر وحكم ولا يكفى عنه ولا يستقل دونه شئ من الاسباب فالمعنى أن الملائكة الممدين ليس لهم من أمر النصر شئ بل هم أسباب ظاهرية يجلبون لكم البشرى وطمأنينة القلب وإنما حقيقة النصر من الله سبحانه لا يغنى عنه شئ وهو الله الذى ينتهى إليه كل أمر العزيز الذى لا يغلب الحكيم الذى لا يجهل. قوله تعالى ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم إلى آخر الآيات اللام متعلق بقوله ولقد نصركم الله وقطع الطرف كناية عن تقليل عدتهم وتضعيف قوتهم بالقتل والاسر كما وقع يوم بدر فقتل من المشركين سبعون واسر سبعون والكبت هو الاخزاء والاغاظة. وقوله ليس لك من الامر شئ معترضة وفائدتها بيان أن الامر في القطع والكبت لله وليس للنبى صلى الله عليه وآله وسلم فيه صنع حتى يمدحوه ويستحسنوا تدبيره إذا ظفروا على عدوهم ونالوا منه ويلوموه ويوبخوه إذا دارت الدائرة عليهم ويهنوا ويحزنوا كما كان ذلك منهم يوم أحد على ما حكاه الله تعالى. وقوله أو يتوب عليهم معطوف على قوله يقطع والكلام متصل وقوله ولله ما في السموات وما في الارض بيان لرجوع أمر التوبة والمغفرة إلى الله تعالى والمعنى أن هذا التدبير المتقن منه تعالى إنما هو ليقطع طرفا من المشركين بالقتل والاسر أو ليخزيهم ويخيبهم في سعيهم أو ليتوب عليهم أو ليعذبهم أما القطع والكبت فلان الامر إليه لا إليك حتى تمدح أو تذم وأما التوبة والعذاب فلان الله هو المالك لكل شئ فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ومع ذلك فإن مغفرته ورحمته تسبقان عذابه وغضبه فهو الغفور الرحيم.

[ 10 ]

وإنما أخذنا قوله ولله ما في السموات وما في الارض في موضع التعليل للفقرتين الاخيرتين أعنى قوله أو يتوب اه لما في ذيله من اختصاص البيان بهما أعنى قوله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء. وقد ذكر المفسرون وجوها أخر في اتصال قوله ليقطع طرفا وفي معنى العطف في قوله أو يتوب عليهم أو يعذبهم وكذا في ما يعلله قوله ليس لك من الامر شئ وما يعلله قوله ولله ما في السموات والارض أغمضنا عن التعرض لها والبحث عنها لقلة الجدوى فيها لمخالفتها ما يفيده ظاهر الآيات بسياقها الجارى فمن أراد الاطلاع عليها فليراجع مطولات التفاسير = بحث روائي = في المجمع عن الصادق عليه السلام أنه قال: كان سبب غزوة أحد أن قريشا لما رجعت من بدر إلى مكة - وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والاسر - لانه قتل منهم سبعون واسر سبعون - قال أبو سفيان يا معشر قريش - لا تدعوا نساءكم تبكين على قتلاكم - فإن الدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن والعداوة لمحمد - فلما غزوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد - أذنوا لنسائهم في البكاء والنوح - وخرجوا من مكة في ثلاثة آلاف فارس - وألفى راجل وأخرجوا معهم النساء - فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك - جمع أصحابه وحثهم على الجهاد - فقال عبد الله بن ابى بن سلول يا رسول الله - لا تخرج من المدينة حتى نقاتل في أزقتها - فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والامة - على أفواه السكك وعلى السطوح - فما أرادنا قوم قط فظفروا بنا - ونحن في حصوننا ودورنا - وما خرجنا إلى عدو لنا قط إلا كان الظفر لهم علينا -. فقام سعد بن معاذ وغيره من الاوس فقالوا - يا رسول الله ما طمع فينا أحد من العرب - ونحن مشركون نعبد الاصنام - فكيف يطمعون فينا وأنت فينا - لا حتى نخرج إليهم فنقاتلهم - فمن قتل منا كان شهيدا - ومن نجا منا كان قد جاهد في سبيل الله -. فقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأيه - وخرج مع نفر من أصحابه يتبوؤن موضع القتال - كما قال تعالى وإذ غدوت من أهلك الآية - وقعد عنه عبد الله بن أبى بن سلول - وجماعة

[ 11 ]

من الخزرج اتبعوا رأيه -. ووافت قريش إلى احد - وكان رسول الله عبأ أصحابه وكانوا سبعمائة رجل - ووضع عبد الله بن جبير في خمسين من الرماة - على باب الشعب - وأشفق أن يأتي كمينهم من ذلك المكان - فقال لعبد الله بن جبير وأصحابه - إن رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة - فلا تبرحوا من هذا المكان - وإن رأيتموهم هزمونا حتى أدخلونا المدينة - فلا تبرحوا وألزموا مراكزكم - ووضع أبو سفيان خالد بن الوليد في مائتي فارس كمينا - وقال إذا رأيتمونا قد اختلطنا فاخرجوا عليهم - من هذا الشعب حتى تكونوا وراءهم -. وعبأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه - ودفع الراية إلى أمير المؤمنين عليه السلام - وحمل الانصار على مشركي قريش - فانهزموا هزيمة قبيحة - ووضع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سوادهم - وانحط خالد بن الوليد في مائتي فارس على عبد الله بن جبير - فاستقبلوهم بالسهام فرجع - ونظر أصحاب عبد الله بن جبير إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - ينتهبون سواد القوم - فقالوا لعبد الله بن جبير - قد غنم أصحابنا ونبقى نحن بلا غنيمة - فقال لهم عبد الله اتقوا الله - فإن رسول الله قد تقدم إلينا أن لا نبرح - فلم يقبلوا منه - وأقبلوا ينسل رجل فرجل حتى أخلوا مراكزهم - وبقي عبد الله بن جبير في اثنى عشر رجلا -. وكانت راية قريش مع طلحة بن أبى طلحة العبدى - من بنى عبد الدار فقتله على - وأخذ الراية أبو سعيد بن أبى طلحة - فقتله على وسقطت الراية - فأخذها مسافع بن أبى طلحة فقتله على - حتى قتل تسعة نفر من بنى عبد الدار - حتى صار لوائهم إلى عبد لهم أسود يقال له صواب - فانتهى إليه على فقطع يده اليمنى - فأخذ اللواء باليسرى فضرب يسراه فقطعها - فاعتنقها بالجذماوين إلى صدره - ثم التفت إلى أبى سفيان فقال - هل عذرت في بنى عبد الدار - فضربه على على رأسه فقتله - وسقط اللواء فأخذتها غمرة بنت علقمة الكنانية فرفعتها -. وانحط خالد بن الوليد على عبد الله بن جبير - وقد فر أصحابه وبقى في نفر قليل - فقتلهم على باب الشعب ثم أتى المسلمين من أدبارهم - ونظرت قريش في هزيمتها إلى الراية قد رفعت فلاذوا بها - وانهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هزيمة عظيمة

[ 12 ]

وأقبلوا يصعدون في الجبال وفي كل وجه -. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الهزيمة كشف البيضة عن رأسه - وقال إلى أنا رسول الله - إلى أين تفرون عن الله وعن رسوله - وكانت هند بنت عتبة في وسط العسكر - فكلما انهزم رجل من قريش دفعت إليه ميلا ومكحلة - وقالت إنما أنت امرأة فاكتحل بهذا -. وكان حمزة بن عبد المطلب يحمل على القوم - فإذا رأوه انهزموا ولم يثبت له أحد - وكانت هند قد أعطت وحشيا عهدا - لئن قتلت محمدا أو عليا أو حمزة لاعطينك كذا وكذا - وكان وحشى عبدا لجبير بن مطعم حبشيا - فقال وحشى أما محمد فلم أقدر عليه - وأما على فرأيته حذرا كثير الالتفات فلا مطمع فيه - فكمنت لحمزة فرأيته يهد الناس هدا - فمر بى فوطئ على جرف نهر فسقط - وأخذت حربتي فهززتها ورميته بها - فوقعت في خاصرته وخرجت من ثنته - فسقط فأتيته فشققت بطنه - وأخذت كبده وجئت به إلى هند - فقلت هذه كبد حمزة فأخذتها في فمها فلاكتها - فجعله الله في فمها مثل الداعضة وهى عظم رأس الركبة - فلفظتها ورمت بها - فقال رسول الله عليه السلام فبعث الله ملكا فحمله ورده إلى موضعه - قال فجاءت إليه فقطعت مذاكيره - وقطعت اذنيه وقطعت يده ورجله - ولم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أبو دجانة سماك بن خرشة وعلى - فكلما حملت طائفة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استقبلهم علي - فدفعهم عنه حتى تقطع سيفه - فدفع إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيفه ذا الفقار - وانحاز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ناحية احد فوقف - فلم يزل على عليه السلام يقاتلهم حتى أصابه في رأسه ووجهه - وبدنه و بطنه ورجليه سبعون جراحة - كذا أورده على بن إبراهيم في تفسيره - فقال جبرائيل إن هذه لهى المواساة يا محمد - فقال محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنه منى وأنا منه - فقال جبرائيل وأنا منكما -. قال أبو عبد الله نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جبرائيل - بين السماء والارض على كرسى من ذهب وهو يقول - لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا على وفي رواية القمى ": وبقيت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نسيبة بنت كعب المازنية - وكانت تخرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزواته تداوى الجرحى - وكان ابنها معها فأراد أن ينهزم ويتراجع - فحملت عليه وقالت يا بنى - إلى أين تفر عن الله وعن رسوله

[ 13 ]

فردته فحمل عليه رجل فقتله - فأخذت سيف ابنها - فحملت على الرجل فضربته على فخذه فقتلته - فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بارك الله فيك يا نسيبة - وكانت تقى رسول الله بصدرها وثدييها - حتى أصابتها جراحات كثيرة -. وحمل ابن قمئة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال - أرونى محمدا لا نجوت إن نجا - فضربه على حبل عاتقه - ونادى قتلت محمدا واللات والعزى أقول وفي القصة روايات اخر ربما تخالف هذه الرواية في ز بعض فقراتها. منها ما في هذه الرواية أن عدد المشركين كانت خمسة آلاف فإن غالب الروايات أنهم كانوا ثلاثة آلاف رجل. ومنها ما فيها أن عليا عليه السلام قتل حاملي الراية وهم تسعة ويوافقها فيه روايات اخر ورواه ابن الاثير في الكامل عن أبى رافع وبقية الروايات تنسب قتل بعضهم إلى غيره عليه السلام والتدبر في القصة يؤيد ما في هذه الرواية. ومنها ما فيها أن هندا أعطت وحشيا عهدا في قتل حمزة فإن ما روته أهل السنة أن الذى أعطاه العهد مولاه جبير بن مطعم وعده تحريره على الشرط وإتيانه بكبد حمزة إلى هند دون جبير يؤيد ما في هذه الرواية. ومنها ما فيها أن جميع المسلمين تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا على وأبو دجانة وهو الذى اتفقت عليه الروايات وفي بعضها ذكر لغيرهما حتى انهى من ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ثلاثين رجلا لكن هذه الروايات ينفى بعضها ما في بعض وعليك بالتدبر في أصل القصة والقرائن التى تبين الاحوال حتى يخلص لك الحق فإن هذه القصص والروايات شهدت مواقف موافقة ومخالفة ومرت بأجواء نيرة ومظلمة حتى انتهت إلينا. ومنها ما فيها أن الله بعث ملكا فحمل كبد حمزه فرده إلى موضعه وليس في غالب الروايات وفي بعضها كما في الدر المنثور عن ابن أبى شيبة وأحمد وابن المنذر عن ابن مسعود في حديث قال ثم قال أبو سفيان قد كان في القوم مثله وإن كانت لعن غير ملاء منا ما أمرت ولا نهيت ولا أحببت ولا كرهت ولا ساءني ولا سرنى

[ 14 ]

قال فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أأكلت شيئا قالوا لا قال ما كان الله ليدخل شيئا من حمزة النار الحديث. وفي روايات أصحابنا وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصيب يومئذ بشجة في جبهته وكسرت رباعيته واشتكت ثنيته رواه مغيرة. وفي الدر المنثور أخرج ابن إسحاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن شهاب ومحمد بن يحيى بن حيان وعاصم بن عمرو بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم كل قد حدث بعض الحديث عن يوم احد. قالوا لما اصيب قريش أو من ناله منهم يوم بدر من كفار قريش ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره مشى عبد الله بن أبى ربيعة وعكرمة بن أبى جهل وصفوان بن امية في رجال من قريش ممن اصيب آبائهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا بمن أصاب ففعلوا فأجمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخرجت بجدتها وجديدها وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة ولئلا يفروا و خرج أبو سفيان وهو قائد الناس فأقبلوا حتى نزلوا بعينين جبل ببطن السنجة من قناة على شفير الوادي مما يلى المدينة. فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون بالمشركين قد نزلوا حيث نزلوا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنى رأيت بقرا تنحر ورأيت في ذباب سيفى ثلما ورأيت أنى أدخلت يدى في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا المدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها. ونزلت قريش منزلها أحدا يوم الاربعاء فأقاموا ذلك اليوم ويوم الخميس ويوم الجمعة وراح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين صلى الجمعة فأصبح بالشعب من احد فالتقوا يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث وكان رأى عبد الله بن أبى مع رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرى رأيه في ذلك أن لا

[ 15 ]

يخرج إليهم وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكره الخروج من المدينة فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيرهم ممن كان فاته يوم بدر وحضوره يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا فقال عبد الله بن أبى يا رسول الله أقم بالمدينة فلا تخرج إليهم فو الله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا ولا دخلها علينا إلا أصبنا منهم فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر وإن دخلوا قاتلهم النساء والصبيان والرجال بالحجارة من فوقهم وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا ولم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلبس لامته وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما ينبغى لنبى إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل. فخرج رسول الله في ألف رجل من أصحابه حتى إذا كانوا بالشوط بين المدينة وأحد تحول عنه عبد الله بن أبى بثلث الناس ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى سلك في حرة بنى حارثة فذب فرس بذنبه فأصاب ذباب سيفه فاستله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يحب الفال ولا يعتاف لصاحب السيف شم سيفك فأنى أرى السيوف ستستل اليوم ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالشعب من احد من عدوة الوادي إلى الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى احد وتعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة رجل. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة عبد الله بن جبير والرماة خمسون رجلا فقال انضح عنا الجبل بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كان علينا أو لنا فأنت مكانك لنؤتين من قبلك وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين. وفي الدر المنثور أيضا عن ابن جرير عن السدي في حديث ": وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد في ألف رجل - وقد وعدهم الفتح إن يصبروا - فرجع عبد الله بن أبى في ثلاثمائة - فتبعهم أبو جابر السلمى يدعوهم فأعيوه - وقالوا له ما نعلم قتالا ولئن أطعتنا لترجعن معنا -. وقال إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا - وهم بنو سلمة وبنو حارثة هموا

[ 16 ]

بالرجوع حين رجع عبد الله بن أبى فعصمهم الله - وبقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سبعمائة. اقول بنو سلمة وبنو حارثة حيان من الانصار فبنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الاوس. وفي المجمع روى ابن أبى إسحاق والسدى والواقدى وابن جرير وغيرهم وقالوا ": كان المشركون نزلوا باحد يوم الاربعاء - في شوال سنة ثلاث من الهجرة - وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم يوم الجمعة - وكان القتال يوم السبت النصف من الشهر - وكسرت رباعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشج في وجهه - ثم رجع المهاجرون والانصار بعد الهزيمة - وقد قتل من المسلمين سبعون - وشد رسول الله بمن معه حتى كشفهم - وكان المشركون مثلوا بجماعة وكان حمزة أعظم مثلة اقول والروايات في قصة احد كثيرة جدا ولم نرو من بينها فيما تقدم ويأتى إلا النزر اليسير الذى يتوقف عليها فهم معاني الآيات النازلة فيها فالآيات في شأن القصة أقسام. فمنها ما تتعرض لفشل من فشل من القوم وتنازع أو هم أن يفشل يومئذ. ومنها ما نزل ولحنه العتاب واللوم على من انهزم وانكشف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد كان الله حرم عليهم ذلك. ومنها ما يتضمن الثناء على من استشهد قبل انهزام الناس ومن ثبت ولم ينهزم وقاتل حتى قتل. ومنها ما يشتمل على الثناء الجميل على من ثبت إلى آخر الغزوة وقاتل ولم يقتل = يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون (130) - واتقوا النار التى أعدت للكافرين (131) - وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون (132) - وسارعوا إلى

[ 17 ]

مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والارض أعدت للمتقين (133) - الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (134) - والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون (135) - أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين (136) - قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (137) - هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين (138)) = بيان = آيات داعية إلى الخير زاجرة عن الشر والسوء وهى مع ذلك لا تفقد الاتصال بما قبلها ولا ما بعدها من الآيات الشارحة لقصة غزوة احد وبيان ما كان في المؤمنين يومئذ من مساوي الحالات والخصال المذمومة التى لا يرتضيها الله سبحانه وهي الموجبة لما دب فيهم من الوهن والضعف ومعصية الله ورسوله فالآيات من تتمة الآيات النازلة في غزوة أحد. ثم هدايتهم إلى ما يأمنون به الوقوع في هذه الورطات المهلكة والعقبات المردية ودعوتهم إلى تقوى الله والثقة به والثبات على طاعة الرسول فهذه الآيات التسع خاصة فيها ترغيب وتحذير فهى ترغب المؤمنين على المسارعة إلى الخير وهى الانفاق في سبيل الله في السراء والضراء وكظم الغيظ والعفو عن الناس ويجمعها بث الاحسان والخير

[ 18 ]

في المجتمع والصبر على تحمل الاذى والسوء والصفح عن الاساءة قبالة الاساءة فهذه هي الطريقة الوحيدة التى تستحفظ بها حياة المجتمع ويشد بها عظمه فيقوم على ساق ومن لوازم هذا الانفاق والاحسان ترك الربا ولذلك بدأ به وهو كالتوطئة للدعوة إلى الاحسان والانفاق فقد مر في آيات الانفاق والربا من سورة البقرة أن الانفاق بجميع طرقه من أعظم ما يعتمد عليه بنية المجتمع وأنه الذى ينفخ روح الوحدة في المجتمع الانساني فتتحد به قواه المتفرقة فتنال بذلك سعادته في الحياة ويقوى به على دفع كل آفة مهلكة أو موذية تقصده وأن الربا من أعظم ما يضاد الانفاق في خاصته هذه. فهذا ما يرغبهم الله فيه ثم يرغبهم في أن لا ينقطعوا عن ربهم بقواطع الذنوب والمعاصي فإن أتوا بما لا يرضاه لهم ربهم تداركوه بالتوبة والرجوع إليه ثانيا وثالثا من غير أن يكسلوا أو يتوانوا وبهذين الامرين يستقيم سيرهم في صراط الحياة السعيدة فلا يضلون ولا يقفون فيهلكوا. وهذا البيان كما ترى أحسن طريق يهدى به الانسان إلى تكميل نفسه بعد ظهور النقص وأجود سبيل في علاج الرذائل النفسانية التى ربما دبت في النفوس المحلاة بالفضائل فأورثت السفال والسقوط وهددت بالهلكة والردى. = تعليم القرآن وقرانه العلم بالعمل = وهذا من دأب القرآن في تعليمه الالهي إذ لم يزل يجعل في مدة نزولها وهى ثلاث وعشرون سنة لكليات تعاليمه مواد أولية حتى إذا عمل بشئ منها أخذ صورة العمل الواقع مادة لتعليمهم ثانيا فألقاها إليهم بعد إصلاح الفاسد من أجزائه وتركيبه بالصحيح الباقي وذم الفاسد والثناء على الصحيح المستقيم والوعد الجميل والشكر الجزيل لفاعله فكتاب الله العزيز كتاب علم وعمل لا كتاب فرض وتقدير ولا كتاب تعمية وتقليد. فمثله مثل المعلم يلقى إلى تلامذته الكليات العلمية في أوجز بيان وأقصر لفظ ويأمرهم بالعمل بها ثم يأخذ ما عملوه ثانيا ويحلله إلى أوائل أجزائه من صحيح وفاسد فيبين لهم وارد النقص والقصور مشفعة بالعظة والوعيد ويمدح موارد الاستقامة والصحة ويقارنها بالوعد والشكر ويأمرهم بالعمل ثانيا وهذا فعاله حتى يكملوا في

[ 19 ]

فنهم ويسعدوا في جدهم. وهذا الذي ذكرناه من الحقائق القرآنية اللائحة للمتدبر الدقيق في بادئ مرة فتراه سبحانه ينزل كليات الجهاد مثلا في آياته بادئ مرة كتب عليكم القتال الآيات: البقره - 216 ويأمر المؤمنين به فيها ثم يأخذ قصة بدر ثانيا ويأمرهم بما يبين لهم فيها ثم قصة أحد ثم قصة اخرى وهكذا وتراه سبحانه يقص قصص السابقين من الانبياء واممهم ثم يجعلها بعد إصلاحها وبيان وجه الحق فيها عبرة للاحقين ودستورا لعملهم وهكذا وقد نزل في هذه الآيات من هذا القبيل قوله فسيروا في الارض الآية وقوله وكأين من نبى الآيات. قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا إلى آخر الآيات الثلاث قد مر سابقا وجه إطلاق الاكل وإرادة الاخذ وقوله أضعافا مضاعفة يشير إلى الوصف الغالب في الربا فإنه بحسب الطبع يتضاعف فيصير المال أضعافا مضاعفة بإنفاد مال الغير وضمه إلى رأس المال الربوي. وفي قوله واتقوا النار التى اعدت للكافرين إشارة إلى كفر آكل الربا كما مر في سورة البقرة في آيات الربا والله لا يحب كل كفار أثيم: البقرة - 276. قوله تعالى سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة المسارعة هي الاشتداد في السرعة وهى ممدوحة في الخيرات ومذمومة في الشرور. وقد قورن في القرآن الكريم المغفرة بالجنة في غالب الموارد وليس إلا لان الجنة دار طهارة لا يدخل فيها قذارات المعاصي والذنوب وأدرانها ولا من تقذر بها إلا بعد المغفرة والازالة. والمغفرة والجنة المذكورتان في هذه الآية تحاذيان ما في الآيتين التاليتين أما المغفرة فتحاذي ما في قوله والذين إذا فعلوا فاحشة وأما الجنة فتحاذي ما في قوله الذين ينفقون في السراء والضراء. وأما قوله جنة عرضها السموات والارض فالمراد بالعرض السعة وهو استعمال شائع وكأن التعبير كناية عن بلوغها في السعة غايتها أو ما لا يحدها الوهم البشرى وله معنى آخر سنشير إليه في البحث الروائي الآتي.

[ 20 ]

وقوله أعدت للمتقين كالتوطئة لذكر ما يذكره بعد من أوصاف المتقين فإن الغرض هو بيان الاوصاف التى ترتبط بحال المؤمنين في المقام أعنى عند نزول هذه الآيات وقد نزلت بعد غزوة أحد وقد جرى عليهم ومنهم ما جرى من الضعف والوهن والمخالفة وهم مع ذلك مشرفون على غزوات أخر مثلها وحوادث تشابهها وبهم حاجة إلى الاتحاد والاتفاق والتلائم قوله تعالى الذين ينفقون في السراء والضراء إلى آخر الآية السراء والضراء ما يسر الانسان وما يسوؤه أو اليسر والعسر والكظم في الاصل هو شد رأس القربة بعد ملئها فاستعير للانسان إذا امتلا حزنا أو غضبا والغيظ هيجان الطبع للانتقام بمشاهدة كثرة ما لا يرتضيه بخلاف الغضب فهو إرادة الانتقام أو المجازاة ولذلك يقال غضب الله ولا يقال اغتاظ. وفي قوله والله يحب المحسنين إشارة إلى أن ما ذكره من الاوصاف معرف لهم وإنما هو معرف للمحسنين في جنب الناس بالاحسان إليهم وأما في جنب الله فمعرفهم ما في قوله تعالى وبشرى للمحسنين إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون الآيات: الاحقاف - 13 بل هذا الاحسان المذكور في هذه الآيات هو المحتد للمذكور في قوله الذين ينفقون في السراء والضراء الآية فإن الانفاق ونحوه إذا لم يكن لوجه الله لم يكن له منزلة عند الله سبحانه على ما يدل عليه قوله تعالى فيما سبق من الآيات مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا الآية وغيره. ويدل على ما ذكرناه قوله تعالى والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين: العنكبوت - 69 فإن هذا الجهاد هو بذل الجهد ولا يكون إلا فيما يخالف هوى النفس ومقتضى الطبع ولا يكون إلا إذا كان عندهم ايمان بامور يقتضى الجرى على مقتضاها والثبات عليها مقاومة بإزاء ما يحبه طبع الانسان ويشتهيه نفسه ولازمه بحسب القول والاعتقاد أن يكونوا قائلين ربنا الله وهم مستقيمون عليه وبحسب العمل أن يقيموا هذا القول بالجهاد في عبادة الله فيما بينهم وبين الله وبالانفاق وحسن العشرة فيما بينهم وبين الناس فتحصل مما ذكرنا أن الاحسان إتيان الاعمال على وجه الحسن من جهة الاستقامة والثبات على الايمان بالله سبحانه. قوله تعالى الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم إلى قوله ونعم

[ 21 ]

أجر العاملين الفاحشة ما تتضمن الفحش والقبيح من الافعال وشاع استعماله في الزنا فالمراد بالظلم بقرينة المقابلة سائر المعاصي الكبيرة والصغيرة أو خصوص الصغائر على تقدير أن يراد بالفاحشة المنكر من المعاصي وهى الكبائر وفي قوله ذكروا الله الخ دلالة على أن الملاك في الاستغفار أن يدعو إليه ذكر الله تعالى دون مجرد التلفظ باعتياد ونحوه وقوله ومن يغفر الذنوب إلا الله تشويق وإيقاظ لقريحة اللواذ والالتجاء في الانسان. وقوله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون إنما قيد به الاستغفار لانه يورث في النفس هيئة لا ينفع معه ذكر مقام الرب تعالى وهى الاستهانة بأمر الله وعدم المبالاة بهتك حرماته والاستكبار عليه تعالى ولا تبقى معه عبودية ولا ينفع معه ذكر ولذلك بعينه قيده بقوله وهم يعلمون وهذه قرينة على كون الظلم في صدر الآية يشمل الصغائر أيضا وذلك أن الاصرار على الذنب يستوجب الاستهانة بأمر الله والتحقير لمقامه سواء كان الذنب المذكور من الصغائر أو الكبائر فقوله ما فعلوا أعم من الكبيرة والمراد بما فعلوا هو الذى ذكر في صدر الآية وإذ ليست الصغيرة فاحشة فهو ظلم النفس لا محالة. وقوله اولئك جزاؤهم مغفرة بيان لاجرهم الجزيل وما ذكره تعالى في هذه الآية هو عين ما أمر بالمسارعة إليه في قوله وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة الخ ومن ذلك يعلم أن الامر إنما كان بالمسارعة إلى الانفاق وكظم الغيظ والعفو عن الناس و الاستغفار. قوله تعالى قد خلت من قبلكم سنن فسيروا السنن جمع سنة وهى الطريقة المسلوكة في المجتمع والامر بالسير في الارض لمكان الاعتبار بآثار الماضين من الامم الغابرة والملوك والفراعنة الطاغية حيث لم ينفعهم شواهق قصورهم ولا ذخائر كنوزهم ولا عروشهم ولا جموعهم وقد جعلهم الله أحاديث يعتبر بها المعتبرون ويتفكه بها المغفلون. وأما حفظ آثارهم وكلائة تماثيلهم والجهد في الكشف عن عظمتهم ومجدهم الظاهر الدنيوي الذى في أيامهم فمما لا يعتنى به القرآن فإنما هي الوثنية التى لا تزال تظهر كل حين في لباس وسنبحث إن شاء الله في هذا المعنى في بحث مستقل نحلل فيه معنى الوثنية

[ 22 ]

قوله تعالى هذا بيان للناس الآية التقسيم باعتبار التأثير فهو بلاغ وإبانة لبعض وهدى وموعظة لآخرين. = بحث روائي = في المجمع: في قوله تعالى جنة عرضها السموات والارض: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه سئل إذا كانت الجنة عرضها السموات والارض - فأين تكون النار - فقال صلى الله عليه وآله وسلم سبحان الله إذا جاء النهار فأين الليل ؟ أقول ورواه السيوطي في الدر المنثور عن التنوخى ": في كتاب جاء به من هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأله عن هذه الآية فأجاب عنها بذلك ورواه أيضا بطريق آخر عن أبى هريرة ": أن رجلا سأله عن ذلك فأجاب بذلك. وما فسر كلامه صلى الله عليه وآله وسلم بأن المراد كون النار في علم الله تعالى كما أن الليل عند مجئ النهار في علم الله تعالى فإن رايد أن النار لا يعزب عن علمه تعالى فمن المعلوم أن هذا الجواب لا يدفع الاشكال فإن السؤال إنما هو عن مكان النار لا عن علم الله تعالى بها وإن اريد أن من الممكن أن يكون هناك مكان آخر وراء السماوات والارض تكون النار متمكنة فيها فهو وإن لم يكن مستبعدا في نفسه لكن مقايسة الجنة والنار بالنهار والليل حينئذ لا تكون في محلها فإن الليل لا يخرج عن حيطة السماوات والارض عند مجئ النهار فالحق أنه تفسير غير مرضى. وأظن أن الرواية ناظرة إلى معنى آخر وتوضيحه أن الآخرة بنعيمها وجحيمها وإن كانت مشابهة للدنيا ولذائذها وآلامها وكذلك الانسان الحال فيها وإن كان هو الانسان الذى في الدنيا بعينه على ما هو مقتضى ظواهر الكتاب والسنة غير أن النظام الحاكم في الآخرة غير النظام الحاكم في الدنيا فإنما الآخرة دار أبدية وبقاء والدنيا دار زوال وفناء ولذلك كان الانسان يأكل ويشرب وينكح ويتمتع في الجنة فلا يعرضه ما يعرض هذه الافعال في الدنيا وكذلك الانسان يحترق بنار الجحيم ويقاسي الآلام والمصائب في مأكله ومشربه ومسكنه وقرينه في النار ولا يطرأ عليه ما يطرأ عليه معها وهو في الدنيا ويعمر عمر الابد ولا يؤثر فيه ذلك كهولة أو شيبا أو هرما

[ 23 ]

وهكذا وليس إلا أن العوارض والطواري المذكورة من لوازم النظام الدنيوي دون مطلق النظام الاعم منه ومن النظام الاخروي فالدنيا دار التزاحم والتمانع دون الآخرة. ومما يدل عليه أن الذى نجده في ظرف مشاهدتنا من الحوادث الواقعة يغيب عنا إذا شاهدنا غيره ثانيا كحوادث الامس وحوادث اليوم والليل والنهار وغير ذلك وأما الله سبحانه فلا يغيب عنه هذا الذى نشاهده أولا ويغيب عنا ثانيا ولا الذى نجده بعده ولا مزاحمة بينهما فالليل والنهار وكذا الحوادث المقارنة لهما متزاحمات متمانعات بحسب نظام المادة والحركة وهى بعينها لا تتزاحم ولا تتمانع بحسب نظام آخر ويستفاد ذلك من قوله تعالى أ لم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه الينا قبضا يسيرا: الفرقان - 46. وإذا أمكن ذلك في مثل الليل والنهار وهما متزاحمان جاز في السماوات والارض أن تسع ما يساويهما سعة وتسع مع ذلك شيئا آخر يساويه مقدارا كالجنة والنار مثلا لكن لا بحسب نظام هذه الدار بل بحسب نظام الآخرة ولهذا نظائر في الاخبار كما ورد: أن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار وما ورد: أن المؤمن يوسع له في قبره مد بصره. فعلى هذا ينبغي أن يحمل قوله صلى الله عليه وآله وسلم سبحان الله إذا جاء النهار فأين الليل لظهور أن لو كان المراد أن الله سبحانه لا يجهل الليل إذا علم بالنهار لم يرتبط بالسؤال وكذا لو كان المراد أن الليل يبقى في الخارج مع مجئ النهار اعترض عليه السائل بأن الليل يبطل مع وجود النهار إذا قيسا إلى محل واحد من مناطق الارض وإن اعتبرا من حيث نفسهما فالليل بحسب الحقيقة ظل مخروط حادث من أنارة الشمس وهو يدور حول الكرة الارضية بحسب الحركة اليومية فالليل والنهار سائران حول الارض دائما من غير بطلان ولا عينية. وللرواية نظائر بين الروايات كما ورد في تفسير قوله تعالى ليميز الله الخبيث من الطيب: الانفال - 37 من قوله عليه السلام إذا غابت الشمس فأين يصير هذا الشعاع المنبسط على الارض الحديث وسيجئ البحث عنها. وفي الدر المنثور: في قوله تعالى والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس الآية:

[ 24 ]

أخرج البيهقى عن على بن الحسين: إن جارية جعلت تسكب عليه الماء يتهيأ للصلاة - فسقط الابريق من يدها على وجهه - فشجه فرفع رأسه إليها - فقالت إن الله يقول والكاظمين الغيظ - قال قد كظمت غيظي - قالت والعافين عن الناس قال قد عفا الله عنك - قالت والله يحب المحسنين قال اذهبي فأنت حرة أقول وهو مروى من طرق الشيعة أيضا وظاهر الرواية أنه عليه السلام يفسر الاحسان بما يزيد على هذه الصفات وهو كذلك بحسب إطلاق مفهومه غير أن الصفات المذكورة قبله من لوازم معناه فمن الممكن أن يعرف بها الاحسان. واعلم أن هناك روايات كثيرة جدا في حسن الخلق وسائر الاخلاق الفاضلة كالانفاق والكظم والعفو ونحوها واردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام أخرنا إيرادها إلى محل آخر أنسب لها. وفي المجالس عن عبد الرحمن بن غنم الدوسى ": أن قوله تعالى والذين إذا فعلوا فاحشة الخ - نزل في بهلول النباش وكان ينبش القبور - فنبش قبر واحدة من بنات الانصار - فأخرجها ونزع أكفانها وكانت بيضاء جميلة - فسول له الشيطان فزنى بها ثم ندم - فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرده - ثم اعتزل الناس وانقطع عنهم يتعبد - ويتبتل في بعض جبال المدينة حتى قبل الله توبته - ونزل فيه القرآن. أقول والرواية مفصلة نقلناها ملخصة ولو صحت الرواية لكانت سببا آخر لنزول الآية غير السبب الواحد الشامل لمجموع آيات القصة وفي تفسير العياشي عن الباقر عليه السلام: في قوله تعالى ولم يصروا على ما فعلوا الآية - قال الاصرار أن يذنب المذنب فلا يستغفر الله - ولا يحدث نفسه بتوبة فذلك الاصرار وفي الدر المنثور أخرج أحمد عن أبى سعيد الخدرى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال إبليس يا رب وعزتك لا أزال اغوى بنى آدم - ما كانت أرواحهم في أجسادهم - فقال الله وعزتي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: لا صغيرة مع الاصرار ولا كبيرة مع الاستغفار وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في حديث قال: وفي كتاب الله نجاة من

[ 25 ]

الردى وبصيرة من العمى - وشفاء لما في الصدور - فيما أمركم الله به من الاستغفار والتوبة - قال الله والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم - ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون - وقال ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه - ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما - فهذا ما أمر الله به من الاستغفار - و اشترط معه التوبة والاقلاع عما حرم الله - فإنه يقول إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه - وبهذه الآية يستدل أن الاستغفار لا يرفعه إلى الله - إلا العمل الصالح والتوبة. أقول قد استفاد عليه السلام الاقلاع وعدم العود بعد التوبة من نفي الاصرار وكذا احتياج التوبة والاستغفار إلى صالح العمل بعده من عموم الكلم الطيب في قوله إليه يصعد الكلم الطيب الآية. وفي المجالس عن الصادق عليه السلام قال: لما نزلت هذه الآية والذين إذا فعلوا فاحشة - صعد إبليس جبلا بمكة يقال له ثور - فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه - فقالوا له يا سيدنا لم تدعونا - قال نزلت هذه الآية فمن لها - فقام عفريت من الشياطين فقال أنا لها بكذا وكذا - فقال لست لها فقام آخر فقال مثل ذاك - فقال لست لها - فقال الوسواس الخناس أنا لها - قال بما ذا قال أعدهم وامنيهم حتى يواقعوا الخطيئة - فإذا واقعوها أنسيتهم الاستغفار - فقال أنت لها فوكله بها إلى يوم القيامة اقول والرواية مروية من طرق أهل السنة أيضا = ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين (139) - إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الايام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين (140) - وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين (141) - أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا

[ 26 ]

منكم ويعلم الصابرين (142) - ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون (143) - وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أ فإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين (144) - وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين (145) - وكأين من نبى قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين (146) - وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين (147) - فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين (148)) = بيان = الآيات كما ترى تتمة للآيات السابقة المبتدئة بقوله يا أيها الذين آمنوا كما أن الآيات السابقة بأوامرها ونواهيها توطئة لهذه الآيات التى تشتمل على أصل المقصود من أمر ونهى وثناء وتوبيخ. قوله تعالى ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين الوهن هو الضعف في خلق أو خلق على ما ذكره الراغب والمراد به هنا ضعفهم من حيث

[ 27 ]

العزيمة والاهتمام على اقامة الدين وقتال أعدائه والحزن خلاف الفرح وإنما يعرض الانسان بفقده شيئا يملكه مما يحبه أو أمرا يقدر نفسه مالكة له. وفي قوله تعالى وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله دلالة على أن سبب وهنهم وحزنهم ما شاهدوه من إصابة القرح إياهم واستعلاء الكفار عليهم فإن المشركين وإن لم ينالوا كل الغلبة والظفر على المؤمنين ولم تختتم الوقعة على الانهزام التام من المؤمنين لكن الذي أصاب المؤمنين كان أشد وأوجع وهو شهادة سبعين من سراتهم وشجعانهم ووقوع ما وقع في عقر دارهم فكان هذا سبب وهنهم وحزنهم ووقوع قوله وأنتم الاعلون الخ موقع التعليل هو الوجه في كون هذين النهيين نهيا عن وهن وحزن واقعين لا مقدرين ولا متوقعين. وقد اطلق قوله الاعلون من غير تقييد ولكن اشترط بالايمان فمحصل المعنى لا ينبغى لكم أن تهنوا في عزمكم ولا أن تحزنوا لما فاتكم من الظفر على أعدائكم والانتصار منهم إن كان فيكم الايمان فإن الايمان أمر يستصحب علاءكم البتة إذ هو يلازم التقوى والصبر وفيهما ملاك الفتح والظفر وأما القرح الذى أصابكم فلستم بمتفردين فيه بل القوم وهم المشركون قد أصابهم مثله فلم يسبقوكم في شئ حتى يوجب ذلك وهنكم وحزنكم. واشتراط علوهم بالايمان مع كون الخطاب للذين آمنوا إنما هو للاشارة إلى أن الجماعة وإن كانوا لا يفقدون الايمان إلا أنهم غير عاملين بما يقتضيه من الصفات كالصبر والتقوى وإلا لاثر أثره. وهذا حال كل جماعة مختلفة الحال في الايمان فيهم المؤمن حقا والضعيف إيمانا والمريض قلبا ويكون مثل هذا الكلام تنشيطا لنفس مؤمنهم وعظة لضعيفهم وعتابا وتأنيبا لمريضهم. قوله تعالى إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله القرح بفتح القاف الاثر من الجراحة من شئ يصيبه من خارج والقرح بالضم أثرها من داخل كالبثرة ونحوها قاله الراغب وكأنه كناية عما أصابهم يوم أحد بفرض مجموع المسلمين شخصا واحدا أصابه جراحة من عدوه وهو قتل من قتل منهم وجراحة من جرح

[ 28 ]

منهم وفوت النصر والفتح بعد ما أطلا عليهم. وهذه الجملة أعنى قوله إن يمسسكم الخ وما بعدها من الجمل المتسقة إلى قوله ويمحق الكافرين في موضع التعليل كما مر لقوله ولا تهنوا ولا تحزنوا كما أن قوله وأنتم الاعلون تعليل آخر. والفرق بين النوعين من التعليل أن الاول أعنى قوله وأنتم الاعلون الخ تعليل من طريق التخطئة لظنهم فإنهم إنما وهنوا وحزنوا لما ظنوا علاء المشركين عليهم فخطأهم الله بأن ملاك العلاء معكم إن كنتم مؤمنين لا مع المشركين وقد قال تعالى وكان حقا علينا نصر المؤمنين: الروم - 47. وأما الثاني فمن طريق بيان حال الفريقين المؤمنين والمشركين أو بيان الحكم والمصالح التى ترجع إلى أصل واحد وهو السنة الالهية الجارية بمداولة الايام بين الناس. قوله تعالى وتلك الايام نداولها بين الناس اليوم هو المقدار المعتد به من الزمان اللازم لحدوث الحوادث فيختلف باختلاف الحوادث وقد شاع استعماله فيما بين طلوع الشمس وغروبها وربما استعمل في الملك والسلطنة والقهر ونحوها بعلاقة الظرف والمظروف فيقال يوم جماعة كذا ويوم آل فلان أي تقدمهم وحكومتهم على غيرهم وقد يقال لنفس الزمان الذى وقع فيه ذلك والمراد بالايام في الآية هو هذا المعنى والمداولة جعل الشئ يتناوله واحد بعد آخر فالمعنى أن السنة الالهية جرت على مداولة الايام بين الناس من غير أن توقف على قوم ويذب عنها قوم لمصالح عامة تتبع هذه السنة لا تحيط أفهامكم إلا ببعضها دون جميعها. قوله تعالى وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء الخ عطف على محذوف حذف للتلويح على أنه مما لا تحيط به الافهام ولا تدركه العقول إلا من بعض جهاتها والذي ينفع المؤمنين العلم به هو ما ذكره بقوله وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء الخ وبقوله وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين. أما قوله وليعلم الله الذين آمنوا فالمراد به ظهور إيمان المؤمنين بعد بطونه وخفائه فإن علمه تعالى بالحوادث والاشياء في الخارج عين وجودها فيه فإن الاشياء

[ 29 ]

معلومة له تعالى بنفس وجودها لا بصورة مأخوذة منها نظير علومنا وإدراكاتنا وهو ظاهر ولازم ذلك أن يكون إرادته تعالى العلم بشئ هي إرادة تحققه وظهوره وحيث قال وليعلم الله الذين آمنوا فأخذ وجودهم محققا أفاد ذلك إرادة ظهور إيمانهم وإذا كان ذلك على سنة الاسباب والمسببات لم يكن بد من وقوع امور توجب ظهور إيمان المؤمن بعد خفائه فافهم ذلك. وأما قوله ويتخذ منكم شهداء فالشهداء شهداء الاعمال وأما الشهداء بمعنى المقتولين في معركة القتال فلا يعهد استعماله في القرآن وإنما هو من الالفاظ المستحدثة الاسلامية كما مر في قوله تعالى وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء: البقرة - 143 على أن قوله ويتخذ أيضا لا يلائم الشهداء بمعنى المقتولين في المعركة كثير ملاءمة فلا يقال اتخذ الله فلانا مقتولا في سبيله وشهيدا كما يقال اتخذ الله ابراهيم خليلا واتخذ الله موسى كليما واتخذ الله النبي شهيدا يشهد على امته يوم القيامة. وقد غير السياق فقال ويتخذ منكم شهداء ولم يقل ويتخذهم شهداء لان الشهادة وإن اضيفت إلى الامة في قوله وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس: البقرة - 143 إلا أنها من قبيل وصف البعض المضاف إلى الكل والشهداء بعض الامة دون كلهم وقد مر بيان ذلك في سورة البقرة ويمكن أن يتأيد هذا الذى ذكرناه بقوله بعده والله لا يحب الظالمين. وأما قوله وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين فالتمحيص هو تخليص الشئ من الشوائب الخارجة والمحق إنفاد الشئ تدريجا وإزالته شيئا فشيئا وهذا التمحيص من حكم مداولة الايام ومصالحها وهو غير العلم بالذين آمنوا الذى هو أيضا من حكم مداولة الايام فإن تمييز المؤمن من غير المؤمن أمر وتخليص إيمانه بعد التمييز من شوائب الكفر والنفاق والفسوق أمر آخر ولذلك قوبل بالمحق للكافرين فالله سبحانه يزيل أجزاء الكفر ونحوه من المؤمن شيئا فشيئا حتى لا يبقى إلا إيمانه فيكون خالصا لله ويبيد أجزاء الكفر والشرك والكيد من الكافر شيئا فشيئا حتى لا يبقى شئ. فهذه وجوه من الحكمة في مداولته تعالى الايام بين الناس وعدم استمرار الدولة بين قوم خاص ولله الامر كله يفعل ما يشاء ولا يفعل إلا الاصلح الانفع كما

[ 30 ]

قال كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض: الرعد - 17 وقد قال الله تعالى قبيل هذه الآيات ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون فنفى أن يكون لنبيه من الامر شئ وقصر الامر في نفسه يحكم في خلقه كيف يشاء وهذا الكلام أعنى ما يبين أن الايام مقسومة بين الناس لغرض الامتحان وتمييز المؤمن من الكافر وتمحيص المؤمنين ومحق الكافرين مع ما مر من نفى رجوع الامر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكشف عن أن المؤمنين كان يظن أكثرهم أن كونهم على دين الحق سبب تام في غلبتهم أينما غزوا وظهورهم على الباطل كيفما كانوا فهم يملكون الامر لا يدفعون عن ذلك وقد أجرأهم على هذا الحسبان ما شاهدوه يوم بدر من ظهورهم العجيب على عدوهم ونزول ملائكة النصر وهذا ظن فاسد يوجب بطلان نظام الامتحان والتمحيص وفي ذلك بطلان مصلحة الامر والنهى والثواب والعقاب ويؤدى ذلك إلى انهدام أساس الدين فإنما الدين دين الفطرة غير مبنى على خرق العادة الجارية والسنة الالهية القائمة في الوجود بابتناء الغلبة والهزيمة على أسبابهما العادية. شرح سبحانه بعد بيان أن الايام دول متداولة لغرض الامتحان والابتلاء في ملامتهم في حسبان هذا النظر الباطل وبيان حقيقة الحال فقال أم حسبتم إلى آخر الآيات. قوله تعالى أم حسبتهم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله إلى آخر الآيتين وهذا أعنى ظنهم أن يدخلوا الجنة من غير أن يمتحنوا لازم الظن المذكور آنفا وهو أنهم لما كانوا على الحق والحق لا يغلب عليه فأمر الظفر والغلبة إليهم لن ينهزموا ولن يغلبوا أبدا ومن المعلوم أن لازم هذا الظن أن يكون كل من آمن بالنبي ولحق بجماعة المؤمنين سعيدا في دنياه بالغلبة والغنيمة وسعيدا في آخرته بالمغفرة والجنة ويبطل الفرق بين ظاهر الايمان وحقيقته ويرتفع التمايز بين الدرجات فإيمان المجاهد وإيمان المجاهد الصابر واحد ومن تمنى خيرا ففعله إذا حان حينه كان كمن تمنى خيرا ثم تولى إذا أصابه. وعلى هذا فقوله أم حسبتم أن تدخلوا الخ من قبيل وضع المسبب موضع السبب أي حسبتم أن الدولة مكتوبة لكم فأنتم لا تبتلون بل تدخلون الجنة من غير أن يتميز

[ 31 ]

المستحق لها منكم من غير المستحق وصاحب الدرجة الرفيعة منكم من غيره. وأما قوله تعالى ولقد كنتم تمنون الموت الآية ففيه تثبيت أن ظنهم ذاك كان فاسدا فإنهم كانوا يتمنون الموت قبل حضور الغزوة حتى إذا حضرت ورأوه رأي العين لم يقدموا ولم يتناولوا ما كانوا يتمنونه بل فشلوا وتولوا عن القتال فهل كان من الجائز أن يدخلوا الجنة بمجرد هذا التمنى من غير أن يمتحنوا أو يمحصوا أو لم يكن من الواجب أن يختبروا. وبهذا يظهر أن في الكلام تقديرا والمعنى فقد رأيتموه وأنتم تنظرون فلم تقدموا عليه ويمكن أن يكون قوله تنظرون كناية عن عدم إقدامهم أي تكتفون بمجرد النظر من غير إقدام وفيه عتاب وتوبيخ. = كلام في الامتحان وحقيقته = لا ريب أن القرآن الكريم يخص أمر الهداية بالله سبحانه غير أن الهداية فيه لا تنحصر في الهداية الاختيارية إلى سعادة الآخرة أو الدنيا فقد قال تعالى فيما قال الذى أعطى كل شئ خلقه ثم هدى: طه - 50 فعمم الهداية لكل شئ من ذوى الشعور والعقل وغيرهم وأطلقها أيضا من جهة الغاية وقال أيضا الذى خلق فسوى والذى قدر فهدى: الاعلى - 3 والآية من جهة الاطلاق كسابقتها. ومن هنا يظهر أن هذه الهداية غير الهداية الخاصة التى تقابل الاضلال فإن الله سبحانه نفاها وأثبت مكانها الضلال في طوائف والهداية العامة لا تنفى عن شئ من خلقه قال تعالى والله لا يهدى القوم الظالمين: الجمعة - 5 وقال والله لا يهدى القوم الفاسقين: الصف - 5 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. وكذا يظهر أيضا أن الهداية المذكورة غير الهداية بمعنى إراءة الطريق العامة للمؤمن والكافر كما في قوله تعالى إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا: الدهر - 3 وقوله وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى: حم السجدة - 17 فإن ما في هاتين الآيتين ونظائرهما من الهداية لا يعم غير أرباب الشعور والعقل وقد عرفت أن ما في قوله ثم هدى وقوله والذى قدر فهدى عام من حيث المورد والغاية جميعا

[ 32 ]

على أن الآية الثانية تفرع الهداية على التقدير والهداية الخاصة لا تلائم التقدير الذى هو تهيئة الاسباب والعلل لسوق الشئ إلى غاية خلقته وإن كانت تلك الهداية أيضا من جهة النظام العام في العالم داخلة في حيطة التقدير لكن النظر غير النظر فافهم ذلك. وكيف كان فهذه الهداية العامة هي هدايته تعالى كل شئ إلى كمال وجوده وإيصاله إلى غاية خلقته وهى التى بها نزوع كل شئ ألى ما يقتضيه قوام ذاته من نشوء واستكمال وأفعال وحركات وغير ذلك وللكلام ذيل طويل سنشرحه إن ساعدنا التوفيق أن شاء الله العزيز. والغرض أن كلامه تعالى يدل على أن الاشياء إنما تنساق إلى غاياتها وآجالها بهداية عامة إلهية لا يشذ عنها شاذ وقد جعلها الله تعالى حقا لها على نفسه وهو لا يخلف الميعاد كما قال تعالى إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والاولى: الليل - 13 والآية كما ترى تعم بإطلاقها الهداية الاجتماعية للمجتمعات والهداية الفردية مضافة إلى ما تدل عليه الآيتان السابقتان. فمن حق الاشياء على الله تعالى هدايتها تكوينا إلى كمالها المقدر لها وهدايتها إلى كمالها المشرع لها وقد عرفت فيما مر من مباحث النبوة أن التشريع كيف يدخل في التكوين وكيف يحيط به القضاء والقدر فإن النوع الانساني له نوع وجود لا يتم أمره إلا بسلسلة من الافعال الاختيارية الارادية التى لا تقع إلا عن اعتقادات نظرية وعملية فلا بد أن يعيش تحت قوانين حقة أو باطلة جيدة أو ردية فلا بد لسائق التكوين أن يهيئ له سلسلة من الاوامر والنواهي الشريعة وسلسلة اخرى من الحوادث الاجتماعية والفردية حتى يخرج بتلاقيه معهما ما في قوته إلى الفعل فيسعد أو يشقى ويظهر ما في مكمن وجوده وعند ذلك ينطبق على هذه الحوادث وهذا التشريع اسم المحنة والبلاء ونحوهما. توضيح ذلك أن من لم يتبع الدعوة الالهية واستوجب لنفسه الشقاء فقد حقت عليه كلمة العذاب إن بقى على تلك الحال فكل ما يستقبله من الحوادث المتعلقة بها الاوامر والنواهي الالهية ويخرج بها من القوة إلى الفعل تتم له بذلك فعلية جديدة من الشقاء وإن كان راضيا بما عنده مغرورا بما يجده فليس ذلك إلا مكرا إلهيا فإنه

[ 33 ]

يشقيهم بعين ما يحسبونه سعادة لانفسهم ويخيب سعيهم في ما يظنونه فوزا لانفسهم قال تعالى ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين: آل عمران - 54 وقال ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله: فاطر - 43 وقال ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون: الانعام - 123 وقال سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملى لهم إن كيدى متين: الاعراف - 183 فما يتبجح به المغرور الجاهل بأمر الله أنه سبق ربه في ما أراده منه بالمخالفة والتمرد فإنه يعينه على نفسه فيما أراده قال تعالى أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون: العنكبوت - 4 ومن أعجب الآيات في هذا الباب قوله تعالى فلله المكر جميعا: الرعد - 42. فجميع هذه المماكرات والمخالفات والمظالم والتعديات التى تظهر من هؤلاء بالنسبة إلى الوظائف الدينية وكل ما يستقبلهم من حوادث الايام ويظهر بها منهم ما أضمروه في قلوبهم ودعتهم إلى ذلك أهواؤهم مكر إلهي وإملاء واستدراج فإن من حقهم على الله أن يهديهم إلى عاقبة أمرهم وخاتمته وقد فعل والله غالب على أمره. وهذه الامور بعينها إذا نسبت إلى الشيطان كانت أقسام الكفر والمعاصي إغواء منه لهم والنزوع إليها دعوة ووسوسة ونزعة ووحيا وإضلالا والحوادث الداعية وما يجرى مجراها زينة له ووسائل وحبائل وشبكات منه على ما سيجئ بيانه في سورة الاعراف إن شاء الله تعالى. وأما المؤمن الذى رسخ في قلبه الايمان فما تظهر منه من الطاعات والعبادات وكذا الحوادث التى تستقبله فيظهر منه عندها ذلك ينطبق عليها مفهوم التوفيق والولاية الالهية والهداية بالمعنى الاخص نوع انطباق قال تعالى والله يؤيد بنصره من يشاء: آل عمران - 13 وقال والله ولى المؤمنين: آل عمران - 68 وقال الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور: البقرة - 257 وقال يهديهم ربهم بإيمانهم: يونس - 9 وقال أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس: الانعام - 122 هذا إذا نسبت هذه الامور إلى الله سبحانه وأما إذا نسبت إلى الملائكة فتسمى تأييدا وتسديدا منهم قال تعالى اولئك كتب في

[ 34 ]

قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه: المجادلة - 22. ثم إنه كما أن الهداية العامة تصاحب الاشياء من بدء كونها إلى آخر أحيان وجودها ما دامت سالكة سبيل الرجوع إلى الله سبحانه كذلك المقادير تدفعها من ورائها كما هو ظاهر قوله تعالى والذى قدر فهدى: الاعلى - 3 فإن المقادير التى تحملها العلل والاسباب المحتفة بوجود الشئ هي التى تحول الشئ من حال اولى الي حال ثانية وهلم جرا فهى لا تزال تدفع الاشياء من ورائها. وكما أن المقادير تدفعها من ورائها كذلك الآجال وهى آخر ما ينتهى إليه وجود الاشياء تجذبها من أامامها كما يدل عليه قوله تعالى ما خلقنا السموات والارض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما انذروا معرضون: الاحقاف - 3 فإن الآية تربط الاشياء بغاياتها وهى الآجال والشيئان المرتبطان إذا قوى أحدهما على الآخر كان حاله بالنسبة إلى قرينه هو المسمى جذبا والآجال المسماة امور ثابتة غير متغيرة فهى تجذب الاشياء من أمامها وهو ظاهر. فالاشياء محاطة بقوى إلهية قوة تدفعها وقوة تجذبها وقوة تصاحبها وتربيها وهى القوى الاصلية التى تثبتها القرآن الكريم غير القوى الحافظة والرقباء والقرناء كالملائكة والشياطين وغير ذلك. ثم إنا نسمى نوع التصرفات في الشئ إذا قصد به مقصد لا يظهر حاله بالنسبة إليه هل له صلوحه أو ليس له بالامتحان والاختبار فإنك إذا جهلت حال الشئ أنه هل يصلح لامر كذا أو لا يصلح أو علمت باطن أمره ولكن أردت أن يظهر منه ذلك أوردت عليه أشياء مما يلائم المقصد المذكور حتى يظهر حاله بذلك هل يقبلها لنفسه أو يدفعها عن نفسه وتسمى ذلك امتحانا واختبارا واستعلاما لحاله أو ما يقاربها من الالفاظ. وهذا المعنى بعينه ينطبق على التصرف الالهي بما يورده من الشرائع والحوادث الجارية على اولي الشعور والعقل من الاشياء كالانسان فإن هذه الامور يظهر بها حال الانسان بالنسبة إلى المقصد الذى يدعى إليه الانسان بالدعوة الدينية فهى امتحانات الهية. وإنما الفرق بين الامتحان الالهي وما عندنا من الامتحان أنا لا نخلو غالبا عن

[ 35 ]

الجهل بما في باطن الاشياء فنريد بالامتحان استعلام حالها المجهول لنا والله سبحانه يمتنع عليه الجهل وعنده مفاتح الغيب فالتربية العامة الالهية للانسان من جهة دعوته إلى حسن العاقبة والسعادة امتحان لانه يظهر ويتعين بها حال الشئ أنه من أهل أي الدارين دار الثواب أو دار العقاب. ولذلك سمى الله تعالى هذا التصرف الالهى من نفسه أعنى التشريع وتوجيه الحوادث بلاءا وابتلاءا وفتنة فقال بوجه عام إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا: الكهف - 7 وقال إنا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا: الدهر - 2 وقال ونبلوكم بالشر والخير فتنة: الانبياء - 35 وكأنه يريد به ما يفصله قوله فأما الانسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربى أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربى أهانن: الفجر - 16 وقال إنما أموالكم وأولادكم فتنة: التغابن - 15 وقال ولكن ليبلو بعضكم ببعض: محمد - 4 وقال كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون: الاعراف - 163 وقال وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا: الانفال - 17 وقال أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين: العنكبوت - 3 وقال في مثل إبراهيم وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات: البقرة - 124 وقال في قصة ذبح إسماعيل إن هذا لهو البلاء المبين: الصافات - 106 وقال في موسى وفتناك فتونا: طه - 40 إلى غير ذلك من الآيات. والآيات كما ترى تعمم المحنة والبلاء لجميع ما يرتبط به الانسان من وجوده وأجزاء وجوده كالسمع والبصر والحياة والخارج من وجوده المرتبط به بنحو كالاولاد والازواج والعشيرة والاصدقاء والمال والجاه وجميع ما ينتفع به نوع انتفاع وكذا مقابلات هذه الامور كالموت وسائر المصائب المتوجهة إليه وبالجملة الآيات تعد كل ما يرتبط به الانسان من أجزاء العالم وأحوالها فتنة وبلاءا من الله سبحانه بالنسبة إليه. وفيها تعميم آخر من حيث الافراد فالكل مفتنون مبتلون من مؤمن أو كافر وصالح أو طالح ونبى أو من دونه فهى سنة جارية لا يستثنى منها أحد.

[ 36 ]

فقد بان أن سنة الامتحان سنة إلهية جارية وهى سنة عملية متكئة على سنة اخرى تكوينية وهى سنة الهداية العامة الالهية من حيث تعلقها بالمكلفين كالانسان وما يتقدمها وما يتأخر عنها أعنى القدر والاجل كما مر بيانه. ومن هنا يظهر أنها غير قابلة للنسخ فإن انتساخها عين فساد التكوين وهو محال ويشير إلى ذلك ما يدل من الآيات على كون الخلقة على الحق وما يدل على كون البعث حقا كقوله تعالى ما خلقنا السموات والارض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى: الاحقاف - 3 وقوله تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم الينا لا ترجعون: المؤمنون - 115 وقوله تعالى وما خلقنا السموات والارض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون: الدخان - 39 وقوله تعالى من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت: العنكبوت - 5 إلى غيرها فإن جميعها تدل على أن الخلقة بالحق وليست باطلة مقطوعة عن الغاية وإذا كانت أمام الاشياء غايات وآجال حقة ومن ورائها مقادير حقة ومعها هداية حقة فلا مناص عن تصادمها عامة وابتلاء أرباب التكليف منها خاصة بامور يخرج بالاتصال بها ما في قوتها من الكمال والنقص والسعادة والشقاء إلى الفعل وهذا المعنى في الانسان المكلف بتكليف الدين امتحان وابتلاء فافهم ذلك. ويظهر مما ذكرناه معنى المحق والتمحيص أيضا فإن الامتحان إذا ورد على المؤمن فأوجب امتياز فضائله الكامنة من الرذائل أو ورد على الجماعة فاقتضى امتياز المؤمنين من المنافقين والذين في قلوبهم مرض صدق عليه اسم التمحيص وهو التمييز. وكذا إذا توالت الامتحانات الالهية على الكافر والمنافق وفي ظاهرهما صفات وأحوال حسنة مغبوطة فأوجبت تدريجا ظهور ما في باطنهما من الخبائث وكلما ظهرت خبيثة أزالت فضيلة ظاهرية كان ذلك محقا له أي إنفادا تدريجيا لمحاسنها قال تعالى وتلك الايام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين: آل عمران - 141. وللكافرين محق آخر من جهة ما يخبره تعالى أن الكون ينساق إلى صلاح البشر وخلوص الدين لله قال تعالى والعاقبة للتقوى: طه - 132 وقال أن الارض يرثها عبادي الصالحون: الانبياء - 105.

[ 37 ]

قوله تعالى وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل الموت زهاق الروح وبطلان حياة البدن والقتل هو الموت إذا كان مستندا إلى سبب عمدي أو نحوه والموت والقتل إذا افترقا كان الموت أعم من القتل وإذا اجتمعا كان الموت هو ما بحتف الانف والقتل خلافه. وانقلب على عقبيه أي رجع قال الراغب ورجع على عقبيه إذا انثنى راجعا وانقلب على عقبيه نحو رجع على حافرته ونحو ارتدا على آثارهما قصصا وقولهم رجع عوده إلى بدئه انتهى. وحيث جعل الانقلاب على الاعقاب جزاءا للشرط الذى هو موت الرسول أو قتله أفاد ذلك أن المراد به الرجوع عن الدين دون التولى عن القتال إذ لا ارتباط للفرار من الزحف بموت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو قتله وإنما النسبة والرابطة بين موته أو قتله وبين الرجوع إلى الكفر بعد الايمان. ويدل على أن المراد به الرجوع عن الدين ما ذكره تعالى في قوله وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية إلى آخر الآيات على أن نظير ما وقع في أحد من فرارهم من الزحف وتوليهم عن القتال تحقق في غيره كغزوة حنين وخيبر وغيرهما ولم يخاطبهم الله بمثل هذا الخطاب ولا عبر عن توليهم عن القتال بمثل هذه الكلمة قال تعالى ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم من الله شيئا وضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين: البراءة - 25 فالحق أن المراد بالانقلاب على الاعقاب الرجوع إلى الكفر السابق. فمحصل معنى الآية على ما فيها من سياق العتاب والتوبيخ أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ليس إلا رسولا من الله مثل سائر الرسل ليس شأنه إلا تبليغ رسالة ربه لا يملك من الامر شيئا وإنما الامر لله والدين دينه باق ببقائه فما معنى اتكاء إيمانكم على حياته حيث يظهر منكم أن لو مات أو قتل تركتم القيام بالدين ورجعتم إلى أعقابكم القهقرى واتخذتم الغواية بعد الهداية ؟. وهذا السياق أقوى شاهد على أنهم ظنوا يوم أحد بعد حمى الوطيس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قتل فانسلوا عند ذلك وتولوا عن القتال فيتأيد بذلك ما ورد في الرواية والتاريخ

[ 38 ]

كما في ما رواه ابن هشام في السيرة أن أنس بن النضر عم أنس بن مالك انتهى إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والانصار وقد ألقوا بأيديهم فقال ما يحبسكم قالوا قتل رسول الله قال فما ذا تصنعون بالحياة بعده ؟ فموتوا على ما مات عليه رسول الله ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل. وبالجملة فمعنى هذا الانسلال والالقاء بالايدي أن إيمانهم إنما كان قائما بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يبقى ببقائه ويزول بموته وهو إرادة ثواب الدنيا بالايمان وهذا هو الذى عاتبهم الله عليه ويؤيد هذا المعنى قوله بعده وسيجزى الله الشاكرين فإن الله سبحانه كرر هذه الجملة في الآية التالية بعد قوله ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها فافهم ذلك. وقوله وسيجزى الله الشاكرين بمنزلة الاستثناء مما قبله على ما يعطيه السياق وهو الدليل على أن القوم كان فيهم من لم يظهر منه هذا الانقلاب أو ما يشعر به كالانسلال والتولى وهم الشاكرون. وحقيقة الشكر إظهار النعمة كما أن الكفر الذى يقابله هو إخفاؤها والستر عليها وإظهار النعمة هو استعمالها في محلها الذى أراده منعمها وذكر المنعم بها لسانا وهو الثناء وقلبا من غير نسيان فشكره تعالى على نعمة من نعمه ان يذكر عند استعمالها ويوضع النعمة في الموضع الذي أراده منها ولا يتعدى ذلك وإن من شئ إلا وهو نعمة من نعمه تعالى ولا يريد بنعمة من نعمه إلا أن تستعمل في سبيل عبادته قال تعالى وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الانسان لظلوم كفار: إبراهيم - 34 فشكره على نعمته أن يطاع فيها ويذكر مقام ربوبيته عندها. وعلى هذا فشكره المطلق من غير تقييد ذكره تعالى من غير نسيان وإطاعته من غير معصية فمعنى قوله واشكروا لى ولا تكفرون: البقرة - 152 اذكروني ذكرا لا يخالطه نسيان وأطيعوا أمرى إطاعة لا يشوبها عصيان ولا يصغي إلى قول من يقول إنه أمر بما لا يطاق فإنه ناش من قلة التدبر في هذه الحقائق والبعد من ساحة العبودية. وقد عرفت فيما تقدم من الكتاب أن إطلاق الفعل لا يدل إلا على تلبس ما

[ 39 ]

بخلاف الوصف فإنه يدل على استقرار التلبس وصيرورة المعنى الوصفى ملكة لا تفارق الانسان ففرق بين قولنا الذين أشركوا والذين صبروا والذين ظلموا والذين يعتدون وبين قولنا المشركين والصابرين والظالمين والمعتدين فالشاكرون هم الذين ثبت فيهم وصف الشكر واستقرت فيهم هذه الفضيلة وقد بان أن الشكر المطلق هو أن لا يذكر العبد شيئا وهو نعمة إلا وذكر الله معه ولا يمس شيئا وهو نعمة إلا ويطيع الله فيه. فقد تبين أن الشكر لا يتم إلا مع الاخلاص لله سبحانه علما وعملا فالشاكرون هم المخلصون لله الذين لا مطمع للشيطان فيهم. ويظهر هذه الحقيقة مما حكاه الله تعالى عن إبليس قال تعالى قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين: ص - 83 وقال تعالى قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الارض ولاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين: الحجر - 40 فلم يستثن من إغوائه أحدا إلا المخلصين وأمضاه الله سبحانه من غير رد وقال تعالى قال فبما أغويتني لاقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين: الاعراف - 17 وقوله ولا تجد الخ بمنزلة الاستثناء فقد بدل المخلصين بالشاكرين وليس إلا لان الشاكرين هم المخلصون الذين لا مطمع للشيطان فيهم ولا صنع له لديهم وإنما صنعه وكيده إنساء مقام الربوبية والدعوة إلى المعصية. ومما يؤيد ذلك من هذه الآيات النازلة في غزوة أحد قوله تعالى فيما سيأتي من الآيات إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم والله غفور حليم مع قوله في هذه الآية التي نحن فيها وسيجزى الله الشاكرين وقوله فيما بعدها وسنجزي الشاكرين وقد عرفت أنه في معنى الاستثناء. فتدبر فيها واقض عجبا مما ربما يقال إن الآية أعني قوله إن الذين تولوا منكم ناظرة إلى ما روى أن الشيطان نادى يوم أحد ألا قد قتل محمد فأوجب ذلك وهن المؤمنين وتفرقهم عن المعركة فاعتبر إلى أي مهبط اهبط كتاب الله من أوج حقائقه ومستوى معارفه العالية ؟

[ 40 ]

فالآية تدل على وجود عدة منهم يوم أحد لم ينهوا ولم يفتروا ولم يفرطوا في جنب الله سبحانه سماهم الله شاكرين وصدق أنهم لا سبيل للشيطان إليهم ولا مطمع له فيهم لا في هذه الغزوة فحسب بل هو وصف لهم ثابت فيهم مستقر معهم ولم يطلق اسم الشاكرين في مورد من القرآن على أحد بعنوان على طريق التوصيف إلا في هاتين الآيتين أعنى قوله وما محمد إلا رسول الآية وقوله وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله الآية ولم يذكر ما يجازيهم به في شئ من الموردين إشعارا بعظمته ونفاسته. قوله تعالى وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا الخ تعريض لهم في قولهم عن إخوانهم المقتولين ما يشير إليه قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لاخوانهم إذا ضربوا في الارض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا الآية وقول طائفة منهم لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا هيهنا الآية وهؤلاء من المؤمنين غير المنافقين الذين تركوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقعدوا عن القتال. فهذا القول منهم لازمه أن لا يكون موت النفوس بإذن من الله وسنة محكمة تصدر عن قضاء مبرم ولازمه بطلان الملك الالهي والتدبير المتقن الربانى وسيجئ إن شاء الله الكلام في معنى كتابة الآجال في أول سورة الانعام. ولما كان لازم هذا القول ممن قال به أنه آمن لظنه أن الامر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين فقد أراد الدنيا كما مر بيانه ومن اجتنب هذا فقد أراد الآخرة فقال تعالى ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وإنما قال نؤته منها ولم يقل نؤتها لان الارادة ربما لا توافق تمام الاسباب المؤدية إلى تمام مراده فلا يرزق تمام ما أراده ولكنها لا تخلو من موافقة ما للاسباب في الجملة دائما فإن وافق الجميع رزق الجميع وإن وافق البعض رزق البعض فحسب قال الله تعالى من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصليها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فاولئك كان سعيهم مشكورا: الاسراء - 19 وقال تعالى وأن ليس للانسان إلا ما سعى: النجم - 39. ثم خص الشاكرين بالذكر بإخراجهم من الطائفتين فقال وسنجزي الشاكرين وليس إلا لانهم لا يريدون إلا وجه الله لا يشتغلون بدنيا ولا آخرة كما تقدم.

[ 41 ]

قوله تعالى وكأين من نبى قاتل معه ربيون كثير إلى آخر الآيات كأين كلمة تكثير وكلمة من بيانية والربيون جمع ربي وهو كالرباني من اختص بربه تعالى فلم يشتغل بغيره وقيل المراد به الالوف والربي الالف والاستكانة هي التضرع. وفي الآية موعظة واعتبار مشوب بعتاب وتشويق للمؤمنين أن يأتموا بهؤلاء الربيين فيؤتيهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة كما آتاهم ويحبهم لاحسانهم كما أحبهم لذلك. وقد حكى الله من فعلهم وقولهم ما للمؤمنين أن يعتبروا به ويجعلوه شعارا لهم حتى لا يبتلوا بما ابتلوا به يوم أحد من الفعل والقول غير المرضيين لله تعالى وحتى يجمع الله لهم ثواب الدنيا والآخرة كما جمع لاولئك الربيين. وقد وصف ثواب الآخرة بالحسن دون الدنيا إشارة إلى ارتفاع منزلتها وقدرها بالنسبة إليها = يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين (149) - بل الله موليكم وهو خير الناصرين (150) - سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأويهم النار وبئس مثوى الظالمين (151) - ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الامر وعصيتم من بعد ما أريكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين (152) - إذ تصعدون ولا تلون على

[ 42 ]

أحد والرسول يدعوكم في أخريكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون (153) - ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الامر من شئ قل إن الامر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا هيهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور (154) - إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم (155) = بيان = من تتمة الآيات النازلة في خصوص غزوة أحد وفيها حث وترغيب للمؤمنين أن لا يطيعوا غير ربهم فإنه هو مولاهم وناصرهم وإشهاد لهم على صدق وعده وإن الهزيمة والخذلان لم يكن يوم احد إلا من قبل أنفسهم وتعديهم حدود ما أمرهم الله به ودعاهم رسوله إليه وأن الله سبحانه مع ذلك عفا عن جرائمهم لانه غفور حليم. قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا إلى آخر الآيتين لا يبعد أن يستفاد من السياق أن الكفار كانوا أيام نزول الآيات بعد غزوة أحد يلقون إلى المؤمنين في صورة النصح ما يثبطهم عن القتال ويلقى التنازع والتفرقة

[ 43 ]

وتشتت الكلمة واختلافها بينهم وربما أيده ما في آخر هذه الآيات من قوله الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم إلى أن قال ذلكم الشيطان يخوف أوليائه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين الآيات: 173 - 175. وربما قيل إن الآية إشارة إلى قول اليهود والمنافقين يوم أحد إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى عشائركم وليس بشئ. ثم لما بين أن إطاعتهم للذين كفروا والميل إلى ولايتهم يهديهم إلى الخسران الذي هو رجوعهم إلى أعقابهم كافرين أضرب عنه بقوله بل الله موليكم وهو خير الناصرين. قوله تعالى سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله الخ وعد جميل للمؤمنين بأنهم سينصرون بالرعب ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكره فيما حباه الله تعالى وخصه به من بين الانبياء على ما رواه الفريقان. وقوله بما أشركوا معناه اتخذوا له ما ليس معه برهان شريكا ومما يكرره القرآن أن ليس لاثبات الشريك لله سلطان ومن إثبات الشريك نفى الصانع وإسناد التأثير والتدبير إلى غيره كالدهر والمادة. قوله تعالى ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم إلى آخر الآية الحس بالفتح القتل على وجه الاستيصال. ولقد اتفقت الروايات وضبطه التاريخ في قصة غزوة أحد أن المؤمنين غلبوهم وظهروا عليهم في أول الامر ووضعوا فيهم السيوف وشرعوا في نهب أموالهم حتى إذا خلى الرماة مكانهم في المكمن حمل الخالد بن الوليد فيمن معه على عبد الله بن جبير ومن بقي معه من الرماة فقتلوهم وحملوا على المؤمنين من ورائهم وتراجع المشركون عن هزيمتهم ووضعوا السيوف في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقتلوا منهم سبعين ثم هزموهم أشد هزيمة. فقوله تعالى ولقد صدقكم الله وعده تثبيت صدق وعده بالنصر بشرط التقوى والصبر وقوله إذ تحسونهم بإذنه يقبل الانطباق على ما رزقهم في أول الامر من الظهور على عدوهم يوم أحد وقوله حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الامر وعصيتم من بعد ماأريكم ما تحبون ينطبق على ما صنعه الرماة حيث تنازعوا فيما بينهم في ترك

[ 44 ]

مراكزهم واللحوق بمن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنيل الغنيمة ففشلوا وتنازعوا في الامر وعصوا أمر النبي بأن لا يتركوا مراكزهم على أي حال وعلى هذا فلا بد من تفسير الفشل بضعف الرأي وأما كونه بمعنى الجبن فلا ينطبق عليهم إذ لم يكن ذلك منهم جبنا بل طمعا في الغنيمة ولو كان الفشل بمعنى الجبن كان منطبقا على حال جميع القوم ويكون على هذا ثم في قوله ثم صرفكم مفيدة للتراخي الرتبي دون الزماني. ويدل لفظ التنازع على أن الكل لم يكونوا مجمعين على الفشل والمعصية بل كان بعضهم يصر على الاطاعة والبقاء على الائتمار ولذا قال تعالى بعده منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة. قوله تعالى ثم صرفكم عنهم ليبتليكم أي كفكم عن المشركين بعد ظهور الفشل والتنازع والمعصية وبالجملة بعد وقوع الاختلاف بينكم ليمتحنكم ويختبر إيمانكم وصبركم في الله إذ الاختلاف في القلوب هو أقوى العوامل المقتضية لبسط الابتلاء ليتميز المؤمن من المنافق والمؤمن الراسخ في إيمانه الثابت على عزيمته من المتلون السريع الزوال ومع ذلك فإن الله سبحانه عفا عنهم بفضله كما قال ولقد عفا عنكم. قوله تعالى إذ تصعدون ولا تلون على أحد والرسول يدعوكم في اخريكم الاصعاد هو الذهاب والابعاد في الارض بخلاف الصعود فهو الارتقاء إلى مكان عال يقال أصعد في جانب البر أي ذهب فيه بعيدا وصعد في السلم أي ارتقى وقيل إن الاصعاد ربما استعمل بمعنى الصعود. والظرف متعلق بمقدر أي اذكروا إذ تصعدون أو بقوله صرفكم أو بقوله ليبتليكم على ما قيل وقوله ولا تلون من اللي بمعنى الالتفات والميل قال في المجمع ولا يستعمل إلا في النفي لا يقال لويت على كذا انتهى. وقوله والرسول يدعوكم في اخريكم الاخرى مقابل الاولى وكون الرسول يدعو وهو في اخريهم يدل على أنهم تفرقوا عنه صلى الله عليه وآله وسلم وهم سواد ممتد على طوائف اوليهم مبتعدون عنه صلى الله عليه وآله وسلم واخريهم بقرب منه وهو يدعوهم من غير أن يلتفت إليه لا اوليهم ولا اخريهم فتركوه صلى الله عليه وآله - بين جموع المشركين وهم يصعدون فرارا من القتل.

[ 45 ]

نعم قوله تعالى قبيل هذا وسيجزى الله الشاكرين وقد مر تفسيره يدل على أن منهم من لم يتزلزل في عزيمته ولم ينهزم لا في أول الانهزام ولا بعد شيوع خبر قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما يدل عليه قوله أفإن مات أو قتل انقلبتم الآية. ومما يدل عليه قوله ولا تلون على أحد والرسول يدعوكم في اخريكم أن خبر قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما انتشر بينهم بعد انهزامهم وإصعادهم. قوله تعالى فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم الخ أي جازاكم غما بغم ليصرفكم عن الحزن على كذا وهذا الغم الذى اثيبوا به كيفما كان هو نعمة منه تعالى بدليل قوله لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم فإن الله تعالى ذم في كتابه هذا الحزن كما قال لكيلا تأسوا على ما فاتكم: الحديد - 23 فهذا الغم الذى يصرفهم عن ذاك الحزن المذموم نعمة وموهبة فيكون هو الغم الطاري عليهم من جهة الندامة على ما وقع منهم والتحسر على ما فاتهم من النصر بسبب الفشل ويكون حينئذ الغم الثاني في قوله بغم الغم الآتى من قبل الحزن المذكور والباء للبدلية والمعنى جازاكم غما بالندامة والحسرة على فوت النصر بدل غم بالحزن على ما فاتكم وما أصابكم. ومن الجائز أن يكون قوله أثابكم مضمنا معنى الابدال فيكون المعنى فأبدلكم غم الحزن من غم الندامة والحسرة مثيبا لكم فينعكس المعنى في الغمين بالنسبة إلى المعنى السابق. وعلى كل من المعنيين يكون قوله فأثابكم تفريعا على قوله ولقد عفا عنكم ويتصل به ما بعده أعنى قوله ثم أنزل عليكم أحسن اتصال والترتيب أنه عفا عنكم فأثابكم غما بغم ليصونكم عن الحزن الذى لا يرتضيه لكم ثم أنزل عليكم من بعد الغم امنة نعاسا. وهيهنا وجه آخر يساعده ظهور السياق في تفريع قوله فأثابكم على ما يتصل به بمعنى أن يكون الغم هو ما يتضمنه قوله إذ تصعدون والمراد بقوله بغم هو ما أدى إليه التنازع و المعصية وهو إشراف المشركين عليهم من ورائهم والباء للسببية وهذا معنى حسن وعلى هذا يكون المراد بقوله لكيلا تحزنوا الخ

[ 46 ]

نبين لكم حقيقة الامر لئلا تحزنوا كما في قوله تعالى ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم الآية: الحديد - 23 فهذا ما يستقيم به نظم الآية واتساق الجمل المتعاقبة وللمفسرين احتمالات كثيرة في الآية من حيث ما عطف عليه قوله فأثابكم ومن حيث معنى الغم الاول والثانى ومعنى الباء ومعنى قوله لكيلا ليست من الاستقامة على شئ ولا جدوى في نقلها والبحث عنها. وعلى ما احتملناه من أحد معنيين يكون المراد مما فات في قوله لكيلا تحزنوا على ما فاتكم هو الغلبة والغنيمة ومما أصاب ما أصاب القوم من القتل والجرح. قوله تعالى ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم الامنة بالتحريك الامن والنعاس ما يتقدم النوم من الفتور وهو نوم خفيف ونعاسا بدل من أمنة للملازمة عادة وربما احتمل أن يكون أمنة جمع آمن كطالب وطلبة وهو حينئذ حال من ضمير عليكم ونعاسا مفعول قوله أنزل و - الغشيان - الاحاطة. والآية تدل على أن هذا النعاس النازل إنما غشى طائفة من القوم ولم يعم الجميع بدليل قوله طائفة منكم وهؤلاء هم الذين رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد الانهزام والاصعاد لما ندموا وتحسروا وحاشا أن يعفو الله عنهم عفو رحمة وهم في حال الفرار عن الزحف وهو من كبائر المعاصي والآثام وقد قال ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين وحاشا أن تشمل عنايته تعالى على مقترف الفحشاء والمنكر حين يقترف من قبل أن يتوب وقد عنى في حقهم حين أثابهم غما بغم لكيلا يحزنوا فيتقذر قلوبهم بما لا يرتضيه الله سبحانه على ما مر بيانه. فهؤلاء بعض القوم وهم النادمون على ما فعلوا الراجعون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المحتفون به وكأن ذلك إنما كان حين فارق صلى الله عليه وآله وسلم جموع المشركين وعاد إلى الشعب وإن كان عودهم إليه تدريجا بعد العلم بأنه لم يقتل. وأما البعض الآخر من القوم فهم الذين يذكرهم الله بقوله وطائفة قد أهمتهم أنفسهم.

[ 47 ]

قوله تعالى وطائفة قد أهمتهم أنفسهم هذه طائفة اخرى من المؤمنين ونعنى بكونهم من المؤمنين أنهم غير المنافقين الذين ذكرهم الله أخيرا بقوله وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم الآية وهم الذين فارقوا جماعة المؤمنين في أول الامر قبل القتال وانخذلوا فهؤلاء المنافقون لهم شأن آخر سينبئ الله بذلك. وهؤلاء الطائفة الثانية الموصوفون بأنهم قد أهمتهم أنفسهم لم يكرمهم الله بما أكرم به الطائفة الاولى من العفو وإثابة الغم ثم الامنة والنعاس بل وكلهم إلى أنفسهم فأهمتهم أنفسهم ونسوا كل شئ دونها. وقد ذكر الله تعالى من أوصافهم وصفين اثنين وإن كان أحدهما من لوازم الآخر وفروعه فذكر أنهم أهمتهم أنفسهم وليس معناه أنهم يريدون سعادة أنفسهم بمعناها الحقيقي فإن المؤمنين أيضا لا يريدون إلا سعادة أنفسهم فالانسان بل كل ذى همامة وإرادة لا يريد إلا نفسه البتة بل المراد أن ليس لهم هم إلا حفظ حياتهم الدنيا وعدم الوقوع في شبكة القتل فهم لا يريدون بدين أو غيره إلا إمتاع أنفسهم في الدنيا وإنما ينتحلون بالدين ظنا منهم أنه عامل غير مغلوب وأن الله لا يرضى بظهور أعدائه عليه وإن كانت الاسباب الظاهرية لهم فهؤلاء يستدرون الدين ما در لهم وإن انقلب الامر ولم يسعدهم الجد انقلبوا على أعقابهم القهقرى. قوله تعالى يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية إلى قوله لله أي ظنوا بالله أمرا ليس بحق بل هو من ظنون الجاهلية فهم يصفونه بوصف ليس بحق بل من الاوصاف التى كان يصفه بها أهل الجاهلية وهذا الظن أيا ما كان هو شئ يناسبه ويلازمه قولهم هل لنا من الامر من شئ ويكشف عنه ما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيبهم به وهو قوله قل إن الامر كله لله فظاهر هذا الجواب أنهم كانوا يظنون أن بعض الامر لهم ولذا لما غلبوا وفشى فيهم القتل تشككوا فقالوا هل لنا من الامر من شئ. وبذلك يظهر أن الامر الذى كانوا يرونه لانفسهم هو الظهور والغلبة وإنما كانوا يظنونه لانفسهم من جهة إسلامهم فهم قد كانوا يظنون أن الدين الحق لا يغلب ولا يغلب المتدين به لما أن على الله أن ينصره من غير قيد وشرط وقد وعدهم به.

[ 48 ]

وهذا هو الظن بغير الحق الذى هو ظن الجاهلية فإن وثنية الجاهلية كانت تعتقد أن الله تعالى خالق كل شئ وأن لكل صنف من أصناف الحوادث كالرزق والحياة والموت والعشق والحرب وغيرها وكذا لكل نوع من الانواع الكونية كالانسان والارض والبحار وغيرها ربا يدبر أمرها لا يغلب على إرادته وكانوا يعبدون هؤلاء الارباب ليدروا لهم الرزق ويجلبوا لهم السعادة ويقوهم من الشرور والبلايا والله سبحانه كالملك العظيم يفوض كل صنف من أصناف رعيته وكل شطر من أشطار ملكه إلى وال تام الاختيار له أن يفعل ما يشاؤه في منطقة نفوذه وحوزة ولايته. وإذا ظن الظان أن الدين الحق لا يصير مغلوبا في ظاهر تقدمه والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو أول من يتحمله من ربه ويحمل أثقاله لا يقهر في ظاهر دعوته أو أنه لا يقتل أو لا يموت فقد ظن بالله غير الحق ظن الجاهلية فاتخذ لله أندادا وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربا وثنيا مفوضا إليه أمر الغلبة والغنيمة مع أن الله سبحانه واحد لا شريك له إليه يرجع الامر كله وليس لاحد من الامر شئ ولذلك لما قال تعالى فيما تقدم من الآيات ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين قطع الكلام بالاعتراض فقال يخاطب نبيه ليس لك من الامر شئ لئلا يتوهم أن له صلى الله عليه وآله وسلم دخلا في قطع أو كبت والله سبحانه هو الذى وضع سنة الاسباب والمسببات فما كان سببه أقوى كان وقوعه أرجح سواء في ذلك الحق والباطل والخير والشر والهداية والضلالة والعدل والظلم ولا فرق فيه بين المؤمن والكافر والمحبوب والمبغوض ومحمد وأبى سفيان. نعم لله سبحانه عناية خاصه بدينه وبأوليائه يجرى نظام الكون بسببها جريا ينجر إلى ظهور الدين وتمهد الارض لاوليائه والعاقبة للمتقين. وأمر النبوة والدعوة ليس بمستثنى من هذه السنة الجارية ولذلك كلما توافقت الاسباب العادية على تقدم هذا الدين وظهور المؤمنين كبعض غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ذلك وحيث لم يتوافق الاسباب كتحقق نفاق أو معصية لامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو فشل أو جزع كانت الغلبة والظهور للمشركين على المؤمنين وكذلك الحال في أمر سائر الانبياء مع الناس فإن أعداء الانبياء لكونهم أهل الدنيا وقصرهم مساعيهم في عمارة الدنيا وبسط القدرة وتشديد القوة وجمع الجموع كانت الغلبة الظاهرية والظهور لهم

[ 49 ]

على الانبياء فمن مقتول كزكريا ومذبوح كيحيى ومشرد كعيسى إلى غير ذلك. نعم إذا توقف ظهور الحق بحقانيته على انتقاض نظام العادة دون السنة الواقعية وبعبارة اخرى دار أمر الحق بين الحياة والموت كان على الله سبحانه أن يقيم صلب الدين ولا يدعه تدحض حجته وقد مر شطر من هذا البحث في القول على الاعجاز في الجزء الاول من الكتاب وفي الكلام على أحكام الاعمال في الجزء الثاني منه. ولنرجع إلى ما كنا فيه فقول هؤلاء الطائفة الذين أهمتهم أنفسهم هل لنا من الامر من شئ تشكك في حقية الدين وقد أدرجوا في هيكله روح الوثنية على ما مر بيانه فأمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيبهم فقال قل إن الامر كله لله وقد خاطب نبيه قبل ذلك بقوله ليس لك من الامر شئ فبين بذلك أن ملة الفطرة ودين التوحيد هو الذى لا يملك فيه الامر إلا الله جل شأنه وباقى الاشياء ومنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليست بمؤثرة شيئا بل هي في حيطة الاسباب والمسببات والسنة الالهية التى تؤدى إلى جريان ناموس الابتلاء والامتحان. قوله تعالى يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان الخ وهذا توصيف لهم بما هو أشد من قولهم هل لنا من الامر من شئ فإنه كان تشكيكا في صورة السؤال وهذا أعنى قولهم لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا هيهنا ترجيح في هيئة الاستدلال ولذلك أبدوا قولهم الاول للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وأخفوا قولهم الثاني لاشتماله على ترجيح الكفر على الاسلام. فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيبهم فقال قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلى الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم فبين لهم اولا أن قتل من قتل منكم في المعركة ليس لعدم كونكم على الحق وعدم كون الامر لكم على ما تزعمون بل لان القضاء الالهي وهو الذى لا مناص من نفوذه ومضيه جرى على أن يضطجع هؤلاء المقتولون في هذه المضاجع فلو لم تكونوا خرجتم إلى القتال لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم فلا مفر من الاجل المسمى الذى

[ 50 ]

لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون. وثانيا أن سنة الله جرت على عموم الابتلاء والتمحيص وهى واقعة بهم وبكم لا محالة فلم يكن بد من خروجكم ووقوع هذا القتال حتى يحل المقتولون محلهم وينالوا درجاتهم وتحلوا أنتم محلكم فيتعين لكم أحد جانبى السعادة والشقاوة بامتحان ما في صدوركم من الافكار وتخليص ما في قلوبكم من الايمان والشرك. ومن عجيب ما ذكر في هذه الآية قول عدة من المفسرين أن المراد بهذه الطائفة التى تشرح الآية حالها هم المنافقون مع ظهور سياق الآيات في أنها تصف حال المؤمنين وأما المنافقون أعنى أصحاب عبد الله بن أبى المنخذلين في أول الوقعة قبل وقوع القتال فإنما يتعرض لحالهم فيما سيأتي. اللهم إلا أن يريدوا بالمنافقين الضعفاء الايمان الذين يعود عقائدهم المتناقضة بحسب اللازم إلى إنكار الحق قلبا والاعتراف به لسانا وهم الذين يسميهم الله بالذين في قلوبهم مرض قال تعالى إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم: الانفال - 49 وقال وفيكم سماعون لهم: التوبة - 47 أو يريدوا أن جميع المنافقين لم يرجعوا مع أصحاب عبد الله بن أبى إلى المدينة. وأعجب منه قول بعض آخر أن هذه الطائفة كانوا مؤمنين وأنهم كانوا يظنون أن أمر النصر والغلبة إليهم لكونهم على دين الله الحق لما رأوا من الفتح والظفر ونزول الملائكة يوم بدر فقولهم هل لنا من الامر من شئ وقولهم لو كان لنا من الامر شئ الخ اعتراف منهم بأن الامر إلى الله لا إليهم وإلا لم يستأصلهم القتل. ويرد عليه عدم استقامة الجواب حينئذ وهو قوله تعالى قل إن الامر كله لله وقوله قل لو كنتم في بيوتكم الخ وقد أحس بعض هؤلاء بهذا الاشكال فأجاب عنه بما هو أردأ من أصل كلامه وقد عرفت ما هو الحق من المعنى. قوله تعالى إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا استزلال الشيطان إياهم إرادته وقوعهم في الزلة ولم يرد ذلك منهم إلا بسبب بعض ما كسبوا في نفوسهم ومن أعمالهم فإن السيئات يهدى بعضها إلى بعض فإنها مبنية على متابعة هوى النفس وهوى النفس للشئ هوى لما يشاكله

[ 51 ]

وأما احتمال كون الباء للآلة وكون ما كسبوا عين توليهم يوم الالتقاء فبعيد من ظاهر اللفظ فإن ظاهر ما كسبوا تقدم الكسب على التولى والاستزلال. وكيف كان فظاهر الآية أن بعض ما قدموا من الذنوب والآثام مكن الشيطان أن أغواهم بالتولي والفرار ومن هنا يظهر أن احتمال كون الآية ناظرة إلى نداء الشيطان يوم أحد بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما في بعض الروايات ليس بشئ إذ لا دلالة عليه من جهة اللفظ. قوله تعالى ولقد عفا الله عنهم ان الله غفور حليم هذا العفو هو عن الذين تولوا المذكورين في صدر الآية والآية مطلقة تشمل جميع من تولى يومئذ فتعم الطائفتين جميعا أعنى الطائفة التى غشيهم النعاس والطائفة التى أهمتهم أنفسهم والطائفتان مختلفتان بالتكرم بإكرام الله وعدمه ولكونهما مختلفتين لم يذكر مع هذا العفو الشامل لهما معا جهات الاكرام التى اشتمل عليها العفو المتعلق بالطائفة الاولى على ما تقدم بيانه. ومن هنا يظهر أن هذا العفو المذكور في هذه الآية غير العفو المذكور في قوله ولقد عفا عنكم ومن الدليل على اختلاف العفوين ما في الآيتين من اختلاف اللحن ففرق واضح بين قوله تعالى ولقد عفى عنكم والله ذو فضل على المؤمنين حيث إنه كلام مشعر بالفضل والرأفة وقد سماهم مؤمنين ثم ذكر إثابتهم غما بغم لكيلا يحزنوا ثم إنزاله عليهم أمنة نعاسا وبين قوله تعالى ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم حيث ذكر العفو وسكت عن جميع ما أكرم الطائفة الاولى به ثم ختم الكلام بذكر حلمه وهو أن لا يعجل في العقوبة والعفو الذى مع الحلم إغماض مع استبطان سخط. فان قلت إنما سوى بين الطائفتين من سوى بينهما لمكان ورود العفو عنهما جميعا قلت معنى العفو مختلف في الموردين بحسب المصداق وإن صدق على الجميع مفهوم العفو على حد سواء ولا دليل على كون العفو والمغفرة وما يشابههما في جميع الموارد سنخا واحدا وقد بينا وجه الاختلاف. = معنى العفو والمغفرة في القرآن = العفو على ما ذكره الراغب وهو المعنى المتحصل من موارد استعمالاته هو القصد لتناول الشئ يقال عفاه واعتفاه أي قصده متناولا ما عنده وعفت الريح الدار

[ 52 ]

قصدتها متناولة آثارها انتهى وكأن قولهم عفت الدار إذ بلت مبنى على عناية لطيفة وهى أن الدار كأنها قصدت آثار نفسها وظواهر زينتها فأخذته فغابت عن أعين الناظرين وبهذه العناية ينسب العفو إليه تعالى كأنه تعالى يعنى بالعبد فيأخذ ما عنده من الذنب ويتركه بلا ذنب. ومن هنا يظهر أن المغفرة وهو الستر متفرع عليه بحسب الاعتبار فإن الشئ كالذنب مثلا يؤخذ ويتناول أولا ثم يستر عليه فلا يظهر ذنب المذنب لا عند نفسه ولا عند غيره قال تعالى واعف عنا و اغفر لنا: البقرة - 286 وقال وكان الله عفوا غفورا: النساء - 99. وقد تبين بذلك أن العفو والمغفرة وإن كانا مختلفين متفرعا أحدهما على الآخر بحسب العناية الذهنية لكنهما بحسب المصداق واحد وأن معناهما ليس من المعاني المختصة به تعالى بل يصح إطلاقهما على غيره تعالى بما لهما من المعنى كما قال تعالى إلا أن يعفون أو يعفوا الذى بيده عقدة النكاح: البقرة - 237 وقال تعالى قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله: الجاثية - 14 وقال تعالى فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر الآية فأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يعفوا عنهم فلا يرتب الاثر على معصيتهم من المؤاخذة والعتاب والاعراض ونحو ذلك وأن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم وهو تعالى فاعله لا محالة فيما يرجع إليه من آثار الذنب. وقد تبين أيضا أن معنى العفو والمغفرة يمكن أن يتعلق بالآثار التكوينية والتشريعية والدنيوية والاخروية جميعا قال تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير: الشورى - 30 والآية شاملة للآثار والعواقب الدنيوية قطعا ومثله قوله تعالى والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الارض: الشورى - 5 على ظاهر معناه وكذا قول آدم وزوجته فيما حكاه الله عنهما ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين: الاعراف - 23 بناء على أن ظلمهما كان معصية لنهى إرشادى لا مولوى. والآيات الكثيرة القرآنية دالة على أن القرب والزلفى من الله والتنعم بنعم الجنة يتوقف على سبق المغفرة الالهية وإزالة رين الشرك والذنوب بتوبة ونحوها كما قال تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون: المطففين - 14 وقال تعالى ومن

[ 53 ]

يؤمن بالله يهد قلبه: التغابن - 11. وبالجملة العفو والمغفرة من قبيل أزالة المانع ورفع المنافى المضاد وقد عد الله سبحانه الايمان والدار الآخرة حياة وآثار الايمان وأفعال أهل الآخرة وسيرهم الحيوى نورا كما قال أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها: الانعام - 122 وقال تعالى وإن الدار الآخرة لهى الحيوان: العنكبوت - 64 فالشرك موت والمعاصي ظلمات قال تعالى أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور: النور - 40 فالمغفرة إزالة الموت والظلمة وإنما تكون بحياة وهو الايمان ونور وهو الرحمة الالهية. فالكافر لا حياة له ولا نور والمؤمن المغفور له له حياة ونور والمؤمن إذا كان معه سيئات حي لم يتم له نوره وأنما يتم بالمغفرة قال تعالى نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا: التحريم - 8. فظهر من جميع ما تقدم أن مصداق العفو والمغفرة إذا نسب إليه تعالى في الامور التكوينية كان إزالة المانع بإيراد سبب يدفعه وفي الامور التشريعيه إزالة السبب المانع عن الارفاق ونحوه وفي مورد السعادة والشقاوة إزالة المانع عن السعادة = يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لاخوانهم إذا ضربوا في الارض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيى ويميت والله بما تعملون بصير (156) - ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون (157) - ولئن متم

[ 54 ]

أو قتلتم لالى الله تحشرون (158) - فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (159) - إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون (160) - وما كان لنبى أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (161) - أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأويه جهنم وبئس المصير (162) - هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون (163) - لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين (164)) = بيان = الآيات من تتمة الآيات النازلة في خصوص غزوة أحد أيضا وهى تتضمن التعرض لامر آخر عرض لهم وهو الاسف والحسرة الواردة في قلوبهم من قتل رجالاتهم وسراة قومهم ومعظم المقتولين كانوا من الانصار فما قتل من المهاجرين على ما قيل إلا أربعة وهذا يقوى الحدس أن معظم المقاومة كانت من ناحية الانصار وأن الهزيمة أسرعت إلى المهاجرين قبلهم. و بالجملة الآيات تبين ما في هذا الاسف والحسرة من الخطأ والخبط وتعطف على

[ 55 ]

أمر آخر يستتبعه هذا الاسف والتحسر وهو سوء ظنهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه هو الذى أوردهم هذا المورد وألقاهم في هذه التهلكة كما يشير إليه قولهم على ما تلوح إليه هذه الآيات لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا الآية وقول المنافقين فيما سيجئ لو أطاعونا ما قتلوا الآية أي أطاعونا ولم يطيعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو الذى أهلكهم فهى تبين أنه صلى الله عليه وآله وسلم ليس له أن يخون أحدا بل هو رسول منه تعالى شريف النفس كريم المحتد عظيم الخلق يلين لهم برحمة من الله ويعفو عنهم ويستغفر لهم ويشاورهم في الامر بأمر منه تعالى وأن الله من به عليهم ليخرجهم من الضلال إلى الهدى. قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا الخ المراد بهؤلاء الذين كفروا ما هو ظاهر اللفظ أعنى الكافرين دون المنافقين كما قيل لان النفاق بما هو نفاق ليس منشأ لهذا القول وإن كان المنافقون يقولون ذلك وإنما منشأه الكفر فيجب أن ينسب إلى الكافرين. والضرب في الارض كناية عن المسافرة وغزى جمع غاز كطالب وطلب وضارب وضرب وقوله ليجعل الله ذلك حسرة أي ليعذبهم بها فهو من قبيل وضع المغيا موضع الغاية وقوله والله يحيى ويميت بيان لحقيقة الامر التى أخطأ فيها الكافرون القائلون لو كانوا وهذا الموت يشمل الموت حتف الانف والقتل كما هو مقتضى إطلاق الموت وحده على ما تقدم وقوله والله بما تعملون بصير في موضع التعليل للنهى في قوله لا تكونوا الخ. وقوله ما ماتوا وما قتلوا قدم فيه الموت على القتل ليكون النشر على ترتيب اللف في قوله إذا ضربوا في الارض أو كانوا غزى ولان الموت أمر جار على الطبع والعادة المألوفة بخلاف القتل فإنه أمر استثنائي فقدم ما هو المألوف على غيره. ومحصل الآية نهى المؤمنين أن يكونوا كالكافرين فيقولوا لمن مات منهم في خارج بلده أو قومه وفيمن قتل منهم في غزاة لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فإن هذا القول يسوق الانسان إلى عذاب قلبى ونقمة إلهية وهو الحسرة الملقاة في قلوبهم مع أنه من الجهل فإن القرب والبعد منهم ليس بمحيى ومميت بل الاحياء والاماتة من الشؤون المختصة بالله وحده لا شريك له فليتقوا الله ولا يكونوا مثلهم فإن الله بما يعملون بصير.

[ 56 ]

قوله تعالى ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون الظاهر أن المراد مما يجمعون هو المال وما يلحق به الذى هو عمدة البغية في الحياة الدنيا. وقد قدم القتل ههنا على الموت لان القتل في سبيل الله أقرب من المغفرة بالنسبة إلى الموت فهذه النكتة هي الموجبة لتقديم القتل على الموت ولذلك عاد في الآية التالية ولئن متم أو قتلتم لالى الله تحشرون إلى الترتيب الطبعى بتقديم الموت على القتل لفقد هذه النكتة الزائدة. قوله تعالى فبما رحمة من الله لنت لهم إلى آخر الآية الفظ هو الجافي القسى وغلظ القلب كناية عن عدم رقته ورأفته والانفضاض التفرق. وفي الآية التفات عن خطابهم إلى خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصل المعنى فقد لان لكم رسولنا برحمة منا ولذلك أمرناه أن يعفو عنكم ويستغفر لكم ويشاوركم في الامر وأن يتوكل علينا إذا عزم. ونكتة الالتفات ما تقدم في أول آيات الغزوة أن الكلام فيه شوب عتاب وتوبيخ ولذلك اشتمل على بعض الاعراض في ما يناسبه من الموارد ومنها هذا المورد الذى يتعرض فيه لبيان حال من أحوالهم لها مساس بالاعتراض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن تحزنهم لقتل من قتل منهم ربما دلهم على المناقشة في فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورميه بأنه أوردهم مورد القتل والاستيصال فأعرض الله تعالى عن مخاطبتهم والتفت إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فخاطبه بقوله فبما رحمة من الله لنت لهم. والكلام متفرع على كلام آخر يدل عليه السياق والتقدير وإذا كان حالهم ما تراه من التشبه بالذين كفروا والتحسر على قتلاهم فبرحمة منا لنت لهم وإلا لانفضوا من حولك والله أعلم. وقوله فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر إنما سيق ليكون إمضاءا لسيرته صلى الله عليه وآله وسلم فإنه كذلك كان يفعل وقد شاورهم في أمر القتال قبيل يوم أحد وفيه إشعار بأنه إنما يفعل ما يؤمر والله سبحانه عن فعله راض. وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يعفو عنهم فلا يرتب على فعالهم أثر المعصية وأن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم وهو تعالى فاعله لا محالة واللفظ وإن كان

[ 57 ]

مطلقا لا يختص بالمورد غير أنه لا يشمل موارد الحدود الشرعية وما يناظرها وإلا لغى التشريع على أن تعقيبه بقوله وشاورهم في الامر لا يخلو عن الاشعار بأن هذين الامرين إنما هما في ظرف الولاية وتدبير الامور العامة مما يجري فيه المشاورة معهم وقوله فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين وإذا أحبك كان وليا وناصرا لك غير خاذلك ولذا عقب الآية بهذا المعنى ودعى المؤمنين أيضا إلى التوكل فقال إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذى ينصركم من بعده ثم أمرهم بالتوكل بوضع سببه موضعه فقال وعلى الله فليتوكل المؤمنون أي لايمانهم بالله الذى لا ناصر ولا معين إلا هو. قوله تعالى وما كان لنبى أن يغل الغل هو الخيانة قد مر في قوله تعالى ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب: آل عمران - 79 ان هذا السياق معناه تنزيه ساحة النبي عن السوء والفحشاء بطهارته والمعنى حاشا أن يغل ويخون النبي ربه أو الناس وهو أيضا من الخيانة لله والحال أن الخائن يلقى ربه بخيانته ثم توفى نفسه ما كسبت. ثم ذكر أن رمى النبي بالخيانة قياس جائر مع الفارق فإنه متبع رضوان الله لا يعدو رضى ربه والخائن باء بسخط عظيم من الله ومأواه جهنم وبئس المصير وهذا هو المراد بقوله أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله الآية. ويمكن أن يكون المراد به التعريض للمؤمنين بأن هذه الاحوال من التعرض لسخط الله والله يدعوكم بهذه المواعظ إلى رضوانه وما هما سواء. ثم ذكر أن هذه الطوائف من المتبعين لرضوان الله والبائين بسخط من الله درجات مختلفة والله بصير بالاعمال فلا تزعموا أنه يفوته الحقير من خير أو شر فتسامحوا في اتباع رضوانه أو البوء بسخطه. قوله تعالى لقد من الله على المؤمنين في الآية التفات آخر من خطاب المؤمنين إلى تنزيلهم منزلة الغيبة وقد مر الوجه العام في هذه الموارد من الالتفات والوجه الخاص بما ههنا أن الآية مسوقة سوق الامتنان والمن على المؤمنين لصفة إيمانهم ولذا قيل على المؤمنين ولا يفيده غير الوصف حتى لو قيل الذين آمنوا لان المشعر

[ 58 ]

بالعلية على ما قيل هو الوصف أو أنه الكامل في هذا الاشعار والمعنى ظاهر. وفي الآية أبحاث أخر سيأتي شطر منها في المواضع المناسبة لها إن شاء الله العزيز = أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شئ قدير (165) - وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين (166) - وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون (167) - الذين قالوا لاخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين (168) - ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (169) - فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون (170) - يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين (171)) = بيان = الآيات من تتمة الآيات النازلة في خصوص غزوة أحد وفيه تعرض لحال عدة من المنافقين خذلوا جماعة المؤمنين عند خروجهم من المدينة إلى أحد وفيها جواب ما

[ 59 ]

قالوه في المقتولين ووصف حال المستشهدين بعد القتل وأنهم منعمون في حضرة القرب يستبشرون بإخوانهم من خلفهم. قوله تعالى أ ولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها لما نهاهم أن يكونوا كالذين كفروا في التحزن لقتلاهم والتحسر عليهم ببيان أن أمر الحياة والموت إلى الله وحده لا إليهم حتى يدورا مدار قربهم وبعدهم وخروجهم إلى القتال أو قعودهم عنه رجع ثانيا إلى بيان سببه القريب على ما جرت عليه سنة الاسباب فبين أن سببه إنما هو المعصية الواقعة يوم احد منهم وهو معصية الرماة بتخلية مراكزهم ومعصية من تولى منهم عن القتال بعد ذلك وبالجملة سببه معصيتهم الرسول وهو قائدهم وفشلهم وتنازعهم في الامر وذلك سبب للانهزام بحسب سنة الطبيعة والعادة. فالآية في معنى قوله أتدرون من أين أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها إنما أصابتكم من عند أنفسكم وهو إفسادكم سبب الفتح والظفر بأيديكم ومخالفتكم قائدكم وفشلكم واختلاف كلمتكم. وقد وصفت المصيبة بقوله قد أصبتم مثليها وهو إشارة إلى مقايسة ما أصابهم الكفار يوم أحد وهو قتل سبعين رجلا منهم بما أصابوا الكفار يوم بدر وهو مثلا السبعين فإنهم قتلوا منهم يوم بدر سبعين رجلا وأسروا سبعين رجلا. وفي هذا التوصيف تسكين لطيش قلوبهم وتحقير للمصيبة فإنهم اصيبوا من أعدائهم بنصف ما أصابوهم فلا ينبغى لهم أن يحزنوا أو يجزعوا. وقيل إن معنى الآية إنكم أنفسكم اخترتم هذه المصيبة وذلك أنهم اختاروا الفداء من الاسرى يوم بدر وكان الحكم فيهم القتل وشرط عليهم أنكم إن قبلتم الفداء قتل منكم في القابل بعدتهم فقالوا رضينا فإنا نأخذ الفداء وننتفع به وإذا قتل منا فيما بعد كنا شهداء. ويؤيد هذا الوجه بل يدل عليه ما ذيل به الآية أعنى قوله إن الله على كل شئ قدير إذ لا تلائم هذه الفقرة الوجه السابق ألبتة إلا بتعسف وسيجئ روايته عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في البحث الروائي الآتى. قوله تعالى وما أصابكم يوم التقى الجمعان إلى آخر الآيتين الآية الاولى

[ 60 ]

تؤيد ما تقدم أن المراد بقوله قل هو من عند أنفسكم اختيارهم الفداء من أسرى يوم بدر وشرطهم على أنفسهم لله ما شرطوا فإصابة هذه المصيبة بإذن الله وأما الوجه الاول المذكور وهو أن المعنى أن سبب إصابة المصيبة القريب هو مخالفتكم فلا تلاؤم ظاهرا بينه وبين نسبة المصيبة إلى إذن الله وهو ظاهر. فعلى ما ذكرنا يكون ذكر استناد إصابة المصيبة إلى إذن الله بمنزلة البيان لقوله هو من عند أنفسكم وليكون توطئة لانضمام قوله وليعلم المؤمنين وبانضمامه يتمهد الطريق للتعرض لحال المنافقين وما تكلموا به وجوابه وبيان حقيقة هذا الموت الذى هو القتل في سبيل الله. وقوله أو ادفعوا أي لو لم تقاتلوا في سبيل الله فادفعوا عن حريمكم وأنفسكم وقوله هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمان اللام بمعنى إلى فهذا حالهم بالنسبة إلى الكفر الصريح وأما النفاق فقد واقعوه بفعلهم ذلك وقوله يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ذكر الافواه للتأكيد وللتقابل بينها وبين القلوب. قوله تعالى الذين قالوا لاخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا المراد بإخوانهم إخوانهم في النسب وهم القتلى وإنما ذكر اخوتهم لهم ليكون مع انضمام قوله وقعدوا أوقع تعيير وتأنيب عليهم فإنهم قعدوا عن إمداد إخوانهم حتى أصابهم ما أصابهم من القتل الذريع وقوله قل فادرؤوا جواب عن قولهم ذاك والدرء الدفع قوله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا الآية وفي الآية التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلام والوجه فيه ما تكرر ذكره في تضاعيف هذه الايات ويحتمل أن يكون الخطاب تتمة الخطاب في قوله قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. والمراد بالموت بطلان الشعور والفعل ولذا ذكرهما في قوله بل أحياء الخ حيث ذكر الارتزاق وهو فعل والفرح الاستبشار ومعهما شعور. قوله تعالى فرحين بما آتاهم الله الآية الفرح ضد الحزن والبشارة والبشرى ما يسرك من الخبر والاستبشار طلب السرور بالبشرى والمعنى أنهم فرحون بما

[ 61 ]

وجدوه من الفضل الالهي الحاضر المشهود عندهم ويطلبون السرور بما يأتيهم من البشرى بحسن حال من لم يلحقوا بهم من خلفهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ومن ذلك يظهر أولا أن هؤلاء المقتولين في سبيل الله يأتيهم ويتصل بهم أخبار خيار المؤمنين الباقين بعدهم في الدنيا. وثانيا أن هذه البشرى هي ثواب أعمال المؤمنين وهو أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وليس ذلك إلا بمشاهدتهم هذا الثواب في دارهم التى هم فيها مقيمون فإنما شأنهم المشاهدة دون الاستدلال ففى الآية دلالة على بقاء الانسان بعد الموت ما بينه وبين يوم القيامة وقد فصلنا القول فيه في الكلام على نشأة البرزخ في ذيل قوله تعالى ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات الآية: البقرة - 154. قوله تعالى يستبشرون بنعمة من الله وفضل الآية هذا الاستبشار أعم من الاستبشار بحال غيرهم وبحال أنفسهم والدليل عليه قوله وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين فإنه بإطلاقه شامل للجميع ولعل هذه هي النكتة في تكرار الاستبشار وكذا تكرار الفضل فتدبر في الآية. وقد نكر الفضل والنعمة وأبهم الرزق في الآيات ليذهب ذهن السامع فيها كل مذهب ممكن ولذا أبهم الخوف والحزن ليدل في سياق النفى على العموم. والتدبر في الآيات يعطى أنها في صدد بيان أجر المؤمنين أولا وأن هذه الاجر رزقهم عند الله سبحانه ثانيا وأن هذا الرزق نعمة من الله وفضل ثالثا وأن الذى يشخص هذه النعمة والفضل هو أنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون رابعا. وهذه الجملة أعنى قوله أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون كلمة عجيبة كلما أمعنت في تدبرها زاد في اتساع معناها على لطف ورقة وسهولة بيان وأول ما يلوح من معناها أن الخوف والحزن مرفوعان عنهم والخوف إنما يكون من أمر ممكن محتمل يوجب انتفاء شئ من سعادة الانسان التى يقدر نفسه واجدة لها وكذا الحزن إنما يكون من جهة أمر واقع يوجب ذلك فالبلية أو كل محذور إنما يخاف منها إذا لم يقع بعد فإذا وقعت زال الخوف وعرض الحزن فلا خوف بعد الوقوع ولا حزن قبله. فارتفاع مطلق الخوف عن الانسان إنما يكون إذا لم يكن ما عنده من وجوه

[ 62 ]

النعم في معرض الزوال وارتفاع مطلق الحزن إنما يتيسر له إذا لم يفقد شيئا من أنواع سعادته لا ابتداءا ولا بعد الوجدان فرفعه تعالى مطلق الخوف والحزن عن الانسان معناه أن يفيض عليه كل ما يمكنه أن يتنعم به ويستلذه وأن لا يكون ذلك في معرض الزوال وهذا هو خلود السعادة للانسان وخلوده فيها. ومن هنا يتضح أن نفى الخوف والحزن هو بعينه ارتزاق الانسان عند الله فهو سبحانه يقول وما عند الله خير: آل عمران - 198 ويقول وما عند الله باق النحل - 96 فالآيتان تدلان على أن ما عند الله نعمة باقية لا يشوبها نقمة ولا يعرضها فناء. ويتضح أيضا أن نفيهما هو بعينه إثبات النعمة والفضل وهو العطية لكن تقدم في أوائل الكتاب وسيجئ في قوله تعالى مع الذين أنعم الله عليهم: النساء - 69 أن النعمة إذا اطلقت في عرف القرآن فهى الولاية الالهية وعلى ذلك فالمعنى أن الله يتولى أمرهم ويخصهم بعطية منه. وأما احتمال أن يكون المراد بالفضل الموهبة الزائدة على استحقاقهم بالعمل والنعمة ما بحذائه فلا يلائمه قوله وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين فإن الاجر يؤذن بالاستحقاق وقد عرفت أن هذه الفقرات أعنى قوله عند ربهم يرزقون وقوله فرحين بما الخ وقوله يستبشرون بنعمة الخ وقوله وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين مآلها إلى حقيقة واحدة. وفي الآيات أبحاث اخر تقدم بعضها في تفسير قوله ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات: البقرة - 154 ولعل الله يوفقنا لاستيفاء ما يسعنا من البحث فيها في ما سيجئ من الموارد المناسبة إن شاء الله تعالى. = الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم (172) - الذين قال لهم الناس إن

[ 63 ]

الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (173) - فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم (174) - إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين (175)) = بيان = الآيات مرتبطة بآيات غزوة أحد ويشعر بذلك قوله من بعد ما أصابهم القرح وقد قال فيها إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله. قوله تعالى الذين استجابوا لله والرسول الآية الاستجابة والاجابة بمعنى واحد كما قيل وهى أن تسأل شيئا فتجاب بالقبول. ولعل ذكر الله والرسول مع جواز الاكتفاء في المقام بذكر أحد اللفظين إنما هو لكونهم في وقعة أحد عصوا الله والرسول فأما هو تعالى فقد عصوه بالفرار والتولى وقد نهاهم الله عنه وأمر بالجهاد وأما الرسول فقد عصوه بمخالفة أمره الذى أصدره على الرماة بلزوم مراكزهم وحين كانوا يصعدون وهو يدعوهم في اخريهم فلم يجيبوا دعوته فلما استجابوا في هذه الوقعة وضع فيها بحذاء تلك الوقعة استجابتهم لله و الرسول. وقوله للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم قصر الوعد على بعض أفراد المستجيبين لان الاستجابة فعل ظاهري لا يلازم حقيقة الاحسان والتقوى الذين عليهما مدار الاجر العظيم وهذا من عجيب مراقبة القرآن في بيانه حيث لا يشغله شأن عن شأن ومن هنا يتبين أن هؤلاء الجماعة ما كانوا خالصين لله في أمره بل كان فيهم من لم يكن محسنا متقيا يستحق عظيم الاجر من الله سبحانه وربما يقال إن من في قوله منهم بيانية كما قيل مثله في قوله تعالى محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار إلى أن قال وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة

[ 64 ]

وأجرا عظيما: الفتح - 29 وهو تأول بما يدفعه السياق. ويتبين أيضا أن ما يمدحهم به الله سبحانه في قوله الذين قال لهم الناس إلى آخر الآيات من قبيل وصف البعض المنسوب إلى الكل بعناية لفظية. قوله تعالى الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم الآية الناس هو الافراد من الانسان من حيث عدم أخذ ما يتميز به بعضهم من بعض والناس الاول غير الثاني فإن الثاني هو العدو الذى كان يجمع الجموع وأما الاول فهم الخاذلون المثبطون الذين كانوا يقولون ما يقولون ليخذلوا المؤمنين عن الخروج إلى قتال المشركين فالناس الثاني اريد به المشركون والناس الاول أيديهم على المؤمنين وعيونهم فيهم وظاهر الآية كونهم عدة وجماعة لا واحدا وهذا يؤيد كون الآيات نازلة في قصة خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيمن بقى من أصحابه بعد أحد في أثر المشركين دون قصة بدر الصغرى وسيجئ القصتان في البحث الروائي الآتى. وقوله قد جمعوا لكم أي جمعوا جموعهم لقتالكم ثانيا والله أعلم. وقوله فزادهم إيمانا وذلك لما في طبع الانسان أنه إذا نهى عما يريده ويعزم عليه فإن لم يحسن الظن بمن ينهاه كان ذلك إغراءا فأوجب انتباه قواه واشتدت بذلك عزيمته وكلما أصر عليه بالمنع أصر على المضى على ما يريده ويقصده وهذا إذا كان الممنوع يرى نفسه محقا معذورا في فعاله أشد تأثيرا من غيره ولذا كان المؤمنون كلما لامهم في أمر الله لائم أو منعهم مانع زادوا قوة في إيمانهم وشدة في عزمهم وبأسهم. ويمكن أن يكون زيادة إيمانهم لتأييد أمثال هذه الاخبار ما عندهم من خبر الوحى أنهم سيؤذون في جنب الله حتى يتم أمرهم بإذن الله وقد وعدهم النصر ولا يكون نصر إلا في نزال وقتال. وقوله وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل أي كافينا الله وأصل الحسب من الحساب لان الكفاية بحساب الحاجة وهذا اكتفاء بالله بحسب الايمان دون الاسباب الخارجية الجارية في السنة الالهية والوكيل هو الذى يدبر الامر عن الانسان فمضمون الآية يرجع إلى معنى قوله ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره: الطلاق - 3 ولذلك عقب قوله وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل بقوله فانقلبوا بنعمة من الله

[ 65 ]

وفضل لم يمسسهم سوء الخ ليكون تصديقا لوعده تعالى ثم حمدهم إذ اتبعوا رضوانه فقال واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم. = كلام في التوكل = وحقيقة الامر أن مضى الارادة والظفر بالمراد في نشأة المادة يحتاج إلى أسباب طبيعية واخرى روحية والانسان إذا أراد الورود في أمر يهمه وهيأ من الاسباب الطبيعية ما يحتاج إليه لم يحل بينه وبين ما يبتغيه إلا اختلال الاسباب الروحية كوهن الارادة والخوف والحزن والطيش والشره والسفه وسوء الظن وغير ذلك وهى امور هامة عامة وإذا توكل على الله سبحانه وفيه اتصال بسبب غير مغلوب البتة وهو السبب الذى فوق كل سبب قويت إرادته قوة لا يغلبها شئ من الاسباب الروحية المضادة المنافية فكان نيلا وسعادة. وفي التوكل على الله جهة اخرى يلحقه أثرا بخوارق العادة كما هو ظاهر قوله ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره الآية وقد تقدم شطر من البحث المتعلق بالمقام في الكلام على الاعجاز. قوله تعالى ذلكم الشيطان يخوف أولياءه الآية ظاهر الآية أن الاشارة إلى الناس الذين قالوا لهم ما قالوا فيكون هذا من الموارد التى اطلق فيها القرآن الشيطان على الانسان كما يظهر ذلك من قوله من شر الوسواس الخناس الذى يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس: الناس - 6 ويؤيده قوله تعالى بعد ذلك فلا تخافوهم أي الناس القائلين لكم ما قالوا لان ذلكم الشيطان وسنبحث في هذا المعنى بما يكشف القناع عن وجه حقيقته إن شاء الله تعالى. = بحث روائي = الروايات الواردة في غزوة أحد كثيرة في الغاية وهى مختلفة اختلافا شديدا في جهات القصة ربما أدت اإى سوء الظن بها وأكثرها اختلافا ما ورد منها في أسباب

[ 66 ]

نزول كثير من آيات القصة وهى تقرب من ستين آية فإن أمرها عجيب ولا يلبث الناظر المتأمل فيها دون أن يقضى بأن المذاهب المختلفة أودعت فيها أرواحها لتنطق بلسانها بما تنتفع به وهذا هو العذر في تركنا إيرادها في هذا البحث فمن أرادها فعليه بجوامع الحديث ومطولات التفاسير. وفي الدر المنثور ": أخرج ابن أبى حاتم عن أبى الضحى قال - نزلت ويتخذ منكم شهداء - فقتل منهم يومئذ سبعون منهم أربعة من المهاجرين - منهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير أخو بنى عبد الدار - والشماس بن عثمان المخزومى وعبد الله بن جحش الاسدي - وسائرهم من الانصار. أقول وظاهر الرواية أن أبا الضحى أخذ الشهداء في الآية بمعنى المقتولين في المعركة وعلى ذلك جرى جمهور المفسرين وقد مر في البيان السابق أن لا دليل عليه من ظاهر الكتاب بل الظاهر أن المراد بالشهداء شهداء الاعمال وفي تفسير العياشي: في قوله تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الآية - عن الصادق عليه السلام قال - إن الله علم بما هو مكونه قبل أن يكونه - وهم ذر وعلم من يجاهد ممن لا يجاهد - كما علم أنه يميت خلقه قبل أن يميتهم - ولم ير موتهم وهم أحياء. أقول إشارة إلى ما تقدم أنه فرق بين العلم قبل الايجاد والعلم الفعلى الذى هو الفعل وأن المراد ليس هو العلم قبل الايجاد. وفي تفسير القمى عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى ولقد كنتم تمنون الموت الآية - إن المؤمنين لما أخبرهم الله تعالى - بالذى فعل بشهدائهم يوم بدر في منازلهم في الجنة رغبوا في ذلك - فقالوا اللهم أرنا قتالا نستشهد فيه - فأراهم الله يوم أحد إياه فلم يثبتوا إلا من شاء الله منهم - فذلك قوله ولقد كنتم تمنون الموت الآية: اقول وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن والسدى وفي تفسير القمى قال عليه السلام: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج يوم أحد - وعهد العاهد به على تلك الحال فجعل الرجل يقول لمن لقيه - إن رسول الله قد قتل النجا

[ 67 ]

فلما رجعوا إلى المدينة أنزل الله - وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل إلى قوله انقلبتم على أعقابكم يقول إلى الكفر ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن الربيع في الآية - قال ذلك يوم أحد حين أصابهم ما أصابهم من القتل والقرح - وتداعوا نبى الله قالوا قد قتل - وقال اناس منهم لو كان نبيا ما قتل - وقال اناس من علية أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم - حتى يفتح الله عليكم أو تلحقوا به - وذكر لنا أن رجلا من المهاجرين - مر على رجل من الانصار وهو يتشحط في دمه - فقال يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل - فقال الانصاري إن كان محمد قد قتل فقد بلغ - فقاتلوا عن دينكم فأنزل الله - وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل - أ فإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم - يقول ارتددتم كفارا بعد إيمانكم وفيه أخرج ابن جرير عن السدى قال ": فشا في الناس يوم أحد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قتل - فقال بعض أصحاب الصخرة - ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبى - فيأخذ لنا أمانا من أبى سفيان - يا قوم أن محمدا قتل فارجعوا إلى قومكم - قبل أن يأتوكم فيقتلونكم - قال أنس بن النضر - يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل - فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد - اللهم إنى أعتذر اليك مما يقول هؤلاء - وأبرء اليك مما جاء به هؤلاء - فشد بسيفه فقاتل حتى قتل - فأنزل الله وما محمد إلا رسول الآية: اقول وروى هذه المعاني بطرق أخر كثيرة وفي الكافي عن الباقر عليه السلام: أنه أصاب عليا يوم أحد ستون جراحة - وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر ام سليم وام عطية أن تداوياه - فقالتا إنا لا نعالج منه مكانا إلا انفتق مكان - وقد خفنا عليه - ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون يعودنه وهو قرحة واحدة - وجعل يمسحه بيده ويقول - إن رجلا لقى هذا في الله فقد أبلى وأعذر - فكان القرح الذى يمسحه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلتئم - فقال علي الحمد لله إذ لم أفر ولم اول الدبر - فشكر الله له ذلك في موضعين من القرآن - وهو قوله وسيجزى الله الشاكرين وسنجزي الشاكرين. أقول يعنى شكر الله له ثباته لا قوله الحمد لله الذي.

[ 68 ]

وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: أنه قرأ وكأين من نبى قتل معه ربيون كثير - قال الوف والوف ثم قال إي والله يقتلون. اقول وروى هذه القراءة والمعنى في الدر المنثور عن ابن مسعود وغيره وروى عن ابن عباس أنه سئل عن قوله ربيون قال جموع وفي الدر المنثور أ خرج عبد بن حميد وابن أبى حاتم عن مجاهد - من بعد ما اراكم ما تحبون - قال نصر الله المؤمنين على المشركين - حتى ركب نساء المشركين على كل صعب وذلول - ثم اديل عليهم المشركون بمعصيتهم للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وفيه أخرج ابن إسحاق وابن راهويه وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقي في الدلائل عن الزبير قال ": لقد رأيتنى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم - فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره فو الله إنى لاسمع قول معتب بن قشير - ما أسمعه إلا كالحلم - لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا ههنا فحفظتها منه وفي ذلك أنزل الله ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا إلى قوله ما قتلنا ههنا لقول معتب بن قشير: أقول وقد روى هذا المعنى عن الزبير بن العوام بطرق كثيرة وفيه أخرج ابن مندة في معرفة الصحابة عن ابن عباس ": في قوله إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان الآية - قال نزلت في عثمان ورافع بن المعلى وحارثة بن زيد أقول وروى ما يقرب منه في عدة طرق عن عبد الرحمن بن عوف وعكرمة وابن إسحاق واضيف إليهم في بعضها أبو حذيفة بن عقبة والوليد بن عقبة وسعد بن عثمان وعقبة بن عثمان. وعلى أي حال ذكر عثمان ومن عد منهم بأسمائهم من باب ذكر المصداق وإلا فالآية نزلت في جميع من تولى من الاصحاب وعصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذى يخص عثمان هو أنه ومن معه فروا حتى بلغوا الجلعب جبل بناحية المدينة مما يلى الاغوص فأقاموا به ثلاثا ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهم لقد ذهبتم فيها عريضة. وأما أصحابه عامة فقد تكاثرت الروايات أنهم تولوا عن آخرهم ولم يبق مع

[ 69 ]

رسول الله منهم إلا رجلان من المهاجرين وسبعة من الانصار ثم إن المشركين هجموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقتل دون الدفاع عنه الانصار واحدا بعد واحد حتى لم يبق معه منهم أحد. وروى أن الذين ثبتوا معه أحد عشر وروى ثمانية عشر حتى روى ثلاثون وهو أضعف الروايات. ولعل هذا الاختلاف بحسب اختلاف اطلاعات الرواة وغير ذلك والذى تدل عليه روايات دفاع نسيبة المازنية عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يكن عنده ساعتئذ أحد وكان من ثبت منهم ولم ينهزم مشغولا بالقتال ولم يتفق كلمة الرواة في ذلك على أحد إلا علي عليه السلام ولعل أبا دجانة الانصاري سماك بن خرشة كذلك إلا أنه قاتل بسيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولا ثم وقى بنفسه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين جلى عنه أصحابه يدفع عنه النبال بمجنه وبظهره حتى اثخن رضى الله عنه. وأما بقية أصحابه فمن ملحق به حين ما عرف صلى الله عليه وآله وسلم وعلم أنه لم يقتل وملحق به بعد حين وهؤلاء هم الذين أنزل الله عليهم النعاس غير أن الله تعالى عفا عن الجميع وقد عرفت فيما تقدم من البيان معنى العفو وذكر بعض المفسرين أن معنى العفو في هذه الآية صرفه تعالى المشركين عنهم حيث لم يبيدوهم ولم يقتلوهم عن آخرهم. وفي الدر المنثور أخرج ابن عدى والبيهقي في الشعب بسند حسن عن ابن عباس قال: لما نزلت وشاورهم في الامر - قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - أما إن الله ورسوله لغنيان عنها - ولكن جعلها الله رحمة لامتي فمن استشار منهم لم يعدم رشدا - ومن تركها لم يعدم غيا وفيه أخرج الطبراني في الاوسط عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما خاب من استخار ولا ندم من استشار وفي نهج البلاغة: من استبد برأيه هلك - ومن شاور الرجال شاركها في عقولها وفيه: الاستشارة عين الهداية - وقد خاطر من استبد برأيه وفي الصافى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا وحدة أوحش من العجب - ولا مظاهرة أوثق من المشاورة

[ 70 ]

أقول والروايات في المشاورة كثيرة جدا وموردها ما يجوز للمستشير فعله وتركه بحسب المرجحات وأما الاحكام الالهية الثابتة فلا مورد للاستشارة فيها كما لا رخصة في تغييرها لاحد وإلا كان اختلاف الحوادث الجارية ناسخا لكلام الله تعالى. وفي المجالس عن الصادق عليه السلام: إن رضى الناس لا يملك وألسنتهم لا تضبط - أ لم ينسبوه يوم بدر أنه أخذ لنفسه من المغنم قطيفة حمراء - حتى أظهره الله على القطيفة وبرأ نبيه من الخيانة - وأنزل في كتابه وما كان لنبى أن يغل الآية أقول وذكر ذلك القمى في تفسيره وفيه: فجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال - إن فلانا غل قطيفة حمراء فأحفرها هنالك - فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحفر ذلك الموضع فأخرج القطيفة: وقد روى هذا المعنى وما يقرب منه في الدر المنثور بطرق كثيرة ولعل المراد بكون الآية نزلت فيها كون الآية مشيرة إليها وإلا فسياق الآيات أنها نزلت بعد غزوة أحد كما تقدم بيانه. وفي تفسير القمى عن الباقر عليه السلام من غل شيئا رآه يوم القيامة في النار - ثم يكلف أن يدخل إليه فيخرجه من النار اقول وهو استفادة لطيفة من قوله تعالى ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة. وفي تفسير العياشي في قوله تعالى هم درجات عند الله - عن الصادق عليه السلام الذين ابتعوا رضوان الله هم الائمة - وهم والله درجات عند الله للمؤمنين - وبولايتهم ومودتهم إيانا يضاعف الله لهم أعمالهم - ويرفع الله لهم الدرجات العلى والذين باؤوا بسخط من الله - هم الذين جحدوا حق علي وحق الائمة منا أهل البيت - فباؤوا لذلك بسخط من الله أول وهو من الجرى و الانطباق. وفيه عن الرضا عليه السلام: الدرجة ما بين السماء والارض وفي تفسير العياشي أيضا: في قوله تعالى أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها - عن الصادق عليه السلام - كان المسلمون قد أصابوا ببدر مائة وأربعين رجلا - قتلوا سبعين رجلا وأسروا سبعين - فلما كان يوم أحد اصيب من المسلمين سبعون رجلا - فاغتموا

[ 71 ]

بذلك فنزلت وفي الدر المنثور أخرج ابن أبى شيبة والترمذي وحسنه وابن جرير وابن مردويه عن علي قال: جاء جبرئيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال - يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الاسارى - وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين - إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم - وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم - فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فذكر ذلك لهم - فقالوا يا رسول الله عشائرنا وأقوامنا نأخذ فداءهم - فنقوى به على قتال عدونا - ويستشهد منا بعدتهم فليس في ذلك ما نكره - فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة اسارى أهل بدر: اقول ورواه في المجمع عن علي عليه السلام وأورده القمى في تفسيره وفي المجمع في قوله تعالى: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله الآيات - عن الباقر عليه السلام نزلت في شهداء بدر وأحد معا اقول وعلى ذلك روايات كثيرة رواها في الدر المنثور وغيره وقد عرفت أن معنى الآيات عام شامل لكل من قتل في سبيل الله حقيقة أو حكما وربما قيل إن الآيات نازلة في شهداء بئر معونة وهم سبعون رجلا أو أربعون من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرسلهم لدعوة عامر بن الطفيل وقومه وكانوا على ذلك الماء فقدموا أبا ملحان الانصاري إليهم بالرسالة فقتلوه أولا ثم تتابعوا على أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقاتلوهم فقتلوهم جميعا رضى الله عنهم. وفي تفسير العياشي عن الصادق قال: هم والله شيعتنا حين صارت أرواحهم في الجنة - واستقبلوا الكرامة من الله عز وجل علموا واستيقنوا أنهم كانوا على الحق وعلى دين الله عز وجل فاستبشروا بمن لم يلحقوا بهم - من إخوانهم من خلفهم من المؤمنين اقول وهو من الجرى ومعنى علمهم واستيقانهم بأنهم كانوا على الحق أنهم ينالون ذلك بعين اليقين بعد ما نالوه في الدنيا بعلم اليقين لا أنهم كانوا في الدنيا شاكين مرتابين. وفي الدر المنثور أخرج أحمد وهناد وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما اصيب إخوانكم باحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر - ترد أنهار

[ 72 ]

الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش. فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم - قالوا يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا - وفي لفظ قالوا إنا أحباء في الجنة - نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله أنا ابلغهم عنكم فأنزل الله هؤلاء - الآيات ولا تحسبن الذين قتلوا الآية وما بعدها اقول وفي هذا المعنى روايات كثيرة رووها عن أبى سيعد الخدرى وعبد الله بن مسعود وأبى العالية وابن عباس وغيرهم وفي بعضها في صور طير خضر كرواية أبي العالية وفي بعضها في طير خضر كرواية أبى سعيد وفي بعضها كطير خضر كرواية ابن مسعود والالفاظ متقاربة وقد ورد من طرق أئمة أهل البيت: أن الرواية عرضت عليهم فأنكروها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي بعضها أنهم أولوها ولا شك بالنظر إلى الاصول الثابتة المسلمة في لزوم تأويل الرواية لو لم تطرح. والروايات مع ذلك ليست في مقام بيان حالهم في جنة الآخرة بل المراد بها جنة البرزخ والدليل عليه ما في رواية ابن جرير عن مجاهد قال يرزقون من ثمر الجنة ويجدون ريحها وليسوا فيها وما في رواية ابن جرير عن السدى إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر في قناديل من ذهب معلقة بالعرش فهى ترعى بكرة وعشية في الجنة وتبيت في القناديل. وقد عرفت فيما تقدم من البحث في البرزخ أن مضمون هاتين الروايتين إنما يستقيم في جنة الدنيا وهى البرزخ لا في جنة الآخرة. وفي الدر المنثو في قوله تعالى الذين استجابوا لله الآية - أخرج ابن إسحاق وابن جرير والبيهقي في الدلائل - عن عبد الله بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم - قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحمراء الاسد - وقد أجمع أبو سفيان بالرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه - وقالوا رجعنا قبل أن نستأصلهم لنكرن على بقيتهم - فبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في أصحابه يطلبهم - فثنى ذلك أبا سفيان وأصحابه - ومر ركب من عبد القيس فقال لهم أبو سفيان - بلغوا محمدا أنا قد أجمعنا الرجعة إلى أصحابه لنستأصلهم -

[ 73 ]

فلما مر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الاسد - أخبروه بالذى قال أبو سفيان - فقال رسول الله والمؤمنون معه حسبنا الله ونعم الوكيل - فأنزل الله في ذلك الذين استجابوا لله والرسول الآيات اقول ورواه القمى في تفسيره مفصلا: وفيه أنه صلى الله عليه وآله وسلم أخرج معه إلى حمراء الاسد من أصحابه من كان به جراحة - وفي بعض الروايات أنه إنما أخرج معه من كان في أحد - والمال واحد وفيه أخرج موسى بن عقبة في مغازيه والبيهقي في الدلائل عن ابن شهاب قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر المسلمين لموعد أبى سفيان بدرا - فاحتمل الشيطان أولياءه من الناس فمشوا في الناس يخوفونهم - وقالوا قد اخبرنا أن قد جمعوا لكم من الناس مثل الليل يرجون أن يواقعوكم فينتهبوكم فالحذر الحذر - فعصم الله المسلمين من تخويف الشيطان فاستجابوا لله ورسوله - وخرجوا ببضائع لهم - وقالوا إن لقينا أبا سفيان فهو الذى خرجنا له - وإن لم نلقه ابتعنا بضائعنا - وكان بدر متجرا يوافي كل عام فانطلقوا - حتى أتوا موسم بدر فقضوا منه حاجتهم - وأخلف أبو سفيان الموعد فلم يخرج هو ولا أصحابه - ومر عليهم ابن حمام فقال من هؤلاء - قالوا رسول الله وأصحابه ينتظرون أبا سفيان ومن معه من قريش فقدم على قريش فأخبرهم فارعب أبو سفيان - ورجع إلى مكة وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بنعمة من الله وفضل فكانت تلك الغزوة تعد غزوة جيش السويق - وكانت في شعبان سنة ثلاث أقول ورواه من غير هذا الطريق ورواه في المجمع مفصلا عن الباقر عليه السلام وفيها أن الآيات نزلت في غزوة بدر الصغرى والمراد بجيش السويق جيش أبى سفيان فإنه خرج من مكة في جيش من قريش وقد حملوا معهم أحمالا من سويق فنزلوا خارج مكة فاقتاتوا بالسويق ثم رجعوا إلى مكة لما أخذهم الرعب من لقاء المسلمين ببدر فسماهم الناس جيش السويق تهكما واستهزاءا. وفيه أيضا أخرج النسائي وابن أبى حاتم والطبراني بسند صحيح عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما رجع المشركون عن أحد قالوا - لا محمدا قتلتم ولا الكواعب أردفتم بئس ما صنعتم ارجعوا - فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فندب المسلمين فانتدبوا - حتى بلغ حمراء الاسد أو بئر أبى عتبة شك سفيان فقال المشركون نرجع قابل

[ 74 ]

فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت تعد غزوة - فأنزل الله الذين استجابوا لله والرسول الآية وقد كان أبو سفيان قال للنبى صلى الله عليه وسلم موعدكم موسم بدر حيث قتلتم أصحابنا - فأما الجبان فرجع وأما الشجاع فأخذ اهبة القتال والتجارة - فأتوه فلم يجدوا به أحدا وتسوقوا فأنزل الله - فانقلبوا بنعمة من الله وفضل الآية. أقول وإنما أوردنا هذه الرواية مع مخالفته للاختصار والتلخيص المؤثر في المباحث الروائية بإيراد انموذج جامع من كل باب ليتبصر الباحث المتأمل أن ما ذكروه من أسباب النزول كلها أو جلها نظرية بمعنى أنهم يروون غالبا الحوادث التاريخية ثم يشفعونها بما يقبل الانطباق عليها من الآيات الكريمة فيعدونها أسباب النزول وربما أدى ذلك إلى تجزئة آية واحدة أو آيات ذات سياق واحد ثم نسبة كل جزء إلى تنزيل واحد مستقل وإن أوجب ذلك اختلال نظم الآيات وبطلان سياقها وهذا أحد أسباب الوهن في نوع الروايات الواردة في أسباب النزول. وأضف إلى ذلك ما ذكرناه في أول هذا البحث ان لاختلاف المذاهب تأثيرا في لحن هذه الروايات وسوقها ألى ما يوجه به المذاهب الخاصة. على أن للاجواء السياسية والبيئات الحاكمة في كل زمان أثرا قويا في الحقائق من حيث إخفائها أو إبهامها فيجب على الباحث المتأمل أن لا يهمل أمر هذه الاسباب الدخيلة في فهم الحقائق والله الهادي. = بحث تاريخي = شهداء المسلمين يوم أحد سبعون رجلا وهاك فهرس أسمائهم 1 - حمزة بن عبد المطلب بن هاشم 2 - عبد الله بن جحش 3 - مصعب بن عمير 4 - شماس بن عثمان وهؤلاء الاربعة هم الشهداء من المهاجرين 5 - عمرو بن معاذ بن النعمان 6 - الحارث بن أنس بن رافع

[ 75 ]

7 - عمارة بن زياد بن السكن 8 - سلمة بن ثابت بن وقش 9 - عمرو بن ثابت بن وقش 10 - ثابت بن وقش 11 - رفاعة بن وقش 12 - حسيل بن جابر أبو حذيفة اليمان 13 - صيفي بن قيظى 14 - حباب بن قيظى 15 - عباد بن سهل 16 - الحارث بن أوس بن معاذ 17 - إياس بن أوس 18 - عبيد بن التيهان 19 - حبيب بن يزيد بن تيم 20 يزيد بن حاطب بن امية بن رافع 21 أبو سفيان بن الحارث بن قيس بن زيد 22 حنظلة بن أبى عامر وهو غسيل الملائكة 23 انيس بن قتادة 24 أبو حبة بن عمر بن ثابت 25 عبد الله بن جبير بن النعمان وهو أمير الرماة 26 أبو سعد خيثمة بن خيثمة 27 عبد الله بن سلمة 28 سبيع بن حاطب بن الحارث 29 عمرو بن قيس 30 قيس بن عمرو بن قيس 31 ثابت بن عمرو بن يزيد 32 عامر بن مخلد 33 أبو هبيرة بن الحارث بن علقمة بن عمرو

[ 76 ]

34 - عمرو بن مطرف بن علقمة بن عمرو 35 أوس بن ثابت بن المنذر أخو حسان بن ثابت 36 أنس بن النضر عم أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 37 قيس بن مخلد 38 كيسان عبد لبنى النجار 39 سليم بن الحارث 40 نعمان بن عبد عمرو 41 خارجة بن زيد بن أبى زهير 42 سعد بن الربيع بن عمرو بن أبى زهير 43 أوس بن الارقم 44 مالك بن سنان من بنى خدرة وهو والد أبى سعيد الخدرى 45 سعيد بن سويد 46 عتبة بن ربيع 47 ثعلبة بن سعد بن مالك 48 سقف بن فروة بن البدي 49 عبد الله بن عمرو بن وهب 50 ضمرة حليف لبني طريف 51 نوفل بن عبد الله 52 عباس بن عبادة 53 نعمان بن مالك بن ثعلبة 54 المجدر بن زياد 55 عبادة بن الحسحاس وقد دفن نعمان والمجدر وعبادة في قبر واحد 56 رفاعة بن عمرو 57 عبد الله بن عمرو من بنى حرام 58 عمرو بن الجموح من بنى حرام دفنا في قبر واحد 59 خلاد بن عمرو بن الجموح 60 أبو أيمن مولى عمرو بن الجموح

[ 77 ]

61 سليم بن عمرو بن حديدة 62 عنترة مولى سليم 63 سهل بن قيس بن أبى كعب 64 ذكوان بن عبد قيس 65 عبيد بن المعلى 66 مالك بن تميلة 67 حارث بن عدي بن خرشة 68 مالك بن اياس 69 إياس بن عدي 70 عمرو بن اياس فهؤلاء سبعون رجلا على ما ذكره ابن هشام في سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم = ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم (176) - إن الذين اشتروا الكفر بالايمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم (177) - ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لانفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين (178) - ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبى من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم (179) - ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله

[ 78 ]

هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيمة ولله ميراث السموات والارض والله بما تعملون خبير (180)) = بيان = الآيات مرتبطة بما تقدم من الآيات النازلة في غزوة أحد فكأنها وخاصة الآيات الاربع الاول منها تتمة لها لان أهم ما تتعرض لها تلك الآيات قضية الابتلاء والامتحان الالهي لعباده وعلى ذلك فهذه الآيات بمنزلة الفذلكة لآيات أحد يبين الله سبحانه فيها أن سنة الابتلاء والامتحان سنة جارية لا مناص عنها في كافر ولا مؤمن فالله سبحانه مبتليهما ليخرج ما في باطن كل منهما إلى ساحة الظهور فيتمحض الكافر للنار ويتميز الخبيث من الطيب في المؤمن. قوله تعالى ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إلى آخر الآية تسلية ورفع للحزن ببيان حقيقة الامر فإن مسارعتهم في الكفر وتظاهرهم على إطفاء نور الله وغلبتهم الظاهرة أحيانا ربما أوجبت أن يحزن المؤمن كأنهم غلبوا الله سبحانه في إرادة إعلاء كلمة الحق لكنه إذا تدبر في قضية الامتحان العام استيقن أن الله هو الغالب وأنهم جميعا واقعون في سبيل الغايات يوجهون إليها ليتم لهم الهداية التكوينية والتشريعية إلى غايات أمرهم فالكافر يوجه به بواسطة إشباعه بالعافية والنعمة والقدرة وهو الاستدراج والمكر الالهى إلى آخر ما يمكنه أن يركبه من الطغيان والمعصية والمؤمن لا يزال يحك به محك الامتحان ليخلص ما في باطنه من الايمان المشوب بغيره فيخلص لله أو يخلص شركه فيهبط في مهبط غيره من أولياء الطاغوت وأئمة الكفر. فمعنى الآية لا يحزنك الذين يسرعون ولا يزال يشتد سرعتهم في الكفر فإنك إن تحزن فإنما تحزن لما تظن أنهم يضرون الله بذلك وليس كذلك فهم لا يضرون الله شيئا لانهم مسخرون لله يسلك بهم في سير حياتهم إلى حيث لا يبقى لهم حظ في الآخرة وهو آخر حدهم في الكفر) ولهم عذاب أليم فقوله لا يحزنك أمر إرشادى وقوله إنهم الخ تعليل للنهى وقوله يريد الله الخ تعليل وبيان لعدم ضررهم

[ 79 ]

ثم ذكر تعالى نفى ضرر جميع الكافرين بالنسبة إليه أعم من المسارعين في الكفر وغيرهم وهو كالبيان الكلى بعد البيان الجزئي يصح أن يعلل به النهى لا يحزنك وأن يعلل به علته إنهم لن يضروا الخ لانه أعم يعلل به الاخص والمعنى وإنما قلنا إن هؤلاء المسارعين لا يضرون الله شيئا لان الكافرين جميعا لا يضرونه شيئا. قوله تعالى ولا يحسبن الذين كفروا لما طيب نفس نبيه في مسارعة الكفار في كفرهم أن ذلك في الحقيقة تسخير إلهى لهم لينساقوا إلى حيث لا يبقى لهم حظ في الآخرة عطف الكلام إلى الكفار أنفسهم فبين أنه لا ينبغى لهم أن يفرحوا بما يجدونه من الاملاء والاهإال الالهى فإن ذلك سوق لهم بالاستدراج إلى زيادة الاثم ووراء ذلك عذاب مهين ليس معه إلا الهوان كل ذلك بمقتضى سنة التكميل. قوله تعالى ما كان الله ليذر المؤمنين الخ ثم عطف الكلام إلى المؤمنين فبين أن سنة الابتلاء جارية فيهم ليتم تكميلهم أيضا فيخلص المؤمن الخالص من غيره ويتميز الخبيث من الطيب. ولما أمكن أن يتوهم أن هناك طريقا آخر إلى تمييز الخبيث من الطيب وهو أن يطلعهم على الخبثاء حتى يتميزوا منهم فلا يقاسوا جميع هذه المحن والبلايا التى يقاسونها بسبب اختلاط المنافقين والذين في قلوبهم مرض بهم فدفع هذا الوهم بأن علم الغيب مما استأثر الله به نفسه فلا يطلع عليه أحدا إلا من اجتبى من رسله فإنه ربما أطلعه عليه بالوحى وذلك قوله تعالى وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبى من رسله من يشاء. ثم ذكر أنه لما لم يكن من الابتلاء والتكميل محيد فآمنوا بالله ورسله حتى تنسلكوا في سلك الطيبين دون الخبثاء غير أن الايمان وحده لا يكفى في بقاء طيب الحياة حتى يتم الاجر إلا بعمل صالح يرفع الايمان إلى الله ويحفظ طيبه ولذلك قال أولا فآمنوا بالله ورسله ثم تممه ثانيا بقوله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم وقد ظهر من الآية أولا أن قضية تكميل النفوس وإيصالها إلى غايتها ومقصدها من السعادة والشقاء مما لا محيص عنه. وثانيا أن الطيب والخباثة في عين أنهما منسوبان إلى ذوات الاشخاص يدوران

[ 80 ]

مدار الايمان والكفر اللذين هما أمران اختياريان لهم وهذا من لطائف الحقائق القرآنية التى تنشعب منها كثير من أسرار التوحيد ويدل عليها قوله تعالى ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات: البقرة - 148 إذا انضم إلى قوله ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات: المائدة - 48 وسيجئ إشباع الكلام فيها في قوله تعالى ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض الآية: الانفال - 37 وثالثا أن الايمان بالله ورسله مادة لطيب الحياة وهو طيب الذات وأما الاجر فيتوقف على التقوى والعمل الصالح ولذلك ذكر تعالى أولا حديث الميز بين الطيب والخبيث ثم فرع عليه قوله فآمنوا بالله ورسله ثم لما أراد ذكر الاجر أضاف التقوى إلى الايمان فقال وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم. وبذلك يتبين في قوله تعالى من عمل صالحا من ذكر أو انثى وهو مؤمن فلنحيينه حيوة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون: النحل - 97 أن الاحياء المذكور ثمرة الايمان متفرع عليه والجزاء بالاجر متفرع على العمل الصالح فالايمان روح الحياة الطيبة وأما بقاؤها حتى يترتب عليها آثارها فيحتاج إلى العمل الصالح كالحياة الطبيعية التى تحتاج في تكونها وتحققها إلى روح حيوانى وبقاؤها يحتاج إلى استعمال القوى والاعضاء ولو سكنت الجميع بطلت وأبطلت الحياة. وقد كرر لفظ الجلالة مرات في الآية والثلاثة الاواخر من وضع الظاهر موضع المضمر وليس إلا للدلالة على مصدر الجلال والجمال في امور لا يتصف بها إلا هو بالوهيته وهو الامتحان والاطلاع على الغيب واجتباء الرسل وأهلية الايمان به. قوله تعالى ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله الآية لما بين حال إملاء الكافرين وكان الحال في البخل بالمال وعدم إنفاقه في سبيل الله مثله فإن البخيل فرح فخور بما يجمعه من المال عطف تعالى الكلام إليهم وبين أنه شر لهم وفي التعبير عن المال بقوله بما آتاهم الله من فضله إشعار بوجه لومهم وذمهم وقوله سيطوقون إلخ في مقام التعليل لكون البخل شرا لهم وقوله ولله ميراث السموات الظاهر أنه حال من يوم القيامة وكذا قوله والله بما تعملون خبير.

[ 81 ]

ويحتمل على بعد أن يكون قوله ولله ميراث حالا من فاعل قوله يبخلون وقوله والله بما تعملون خبير حالا منه أيضا أو جملة مستأنفة. = بحث روائي = في تفسير العياشي عن الباقر عليه السلام: أنه سئل عن الكافر الموت خير له أم الحياة - فقال الموت خير للمؤمن والكافر - لان الله يقول وما عند الله خير للابرار - ويقول لا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير الآية. أقول الاستدلال المذكور في الرواية لا يوافق مذاق أئمة أهل البيت كل الموافقة فإن الابرار طائفة خاصة من المؤمنين لا جميعهم إلا أن يقال إن المراد بالابرار جميع المؤمنين بما في كل منهم من شئ من البر وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن مسعود = لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الانبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق (181) - ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد (182) - الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جائكم رسل من قبلى بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين (183) - فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جائوا بالبينات والزبر والكتاب المنير

[ 82 ]

(184) - كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيمة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحيوة الدنيا إلا متاع الغرور (185) - لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الامور (186) - وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون (187) - لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم (188) - ولله ملك السموات والارض والله على كل شئ قدير (189)) = بيان = الآيات مرتبطة بما قبلها فقد كانت عامة الآيات السابقة في استنهاض الناس وترغيبهم على الجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وتحذيرهم عن الوهن والفشل والبخل فيرتبط بها قول اليهود إن الله فقير ونحن أغنياء وتقليبهم الامر على المسلمين وتكذيبهم آيات الرسالة وكتمانهم ما أخذ منهم الميثاق لبيانه وهذه هي التى تتعرض الآيات لبيانها مع ما فيها من تقوية قلوب المؤمنين على الاستقامة والصبر والثبات والتحريص على الانفاق في سبيل الله. قوله تعالى لقد سمع الله قول الذين قالوا أن الله فقير ونحن أغنياء القائلون هم اليهود بقرينة ما في ذيل الكلام من حديث قتلهم الانبياء وغير ذلك.

[ 83 ]

وإنما قالوا ذلك لما سمعوا أمثال قوله تعالى من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا الآية: البقرة - 245 ويشهد بذلك بعض الشهادة اتصاله بالآية السابقة ولا يحسبن الذين يبخلون الآية. أو أنهم قالوا ذلك لما رأوا فقر عامة المؤمنين وفاقتهم فقالوا ذلك تعريضا بأن ربهم لو كان غنيا لغار لهم وأغناهم فليس إلا فقيرا ونحن أغنياء. قوله تعالى سنكتب ما قالوا وقتلهم الانبياء بغير حق الآية المراد بالكتابة الحفظ والتثبيت أو الكتابة في صحائف أعمالهم والمال واحد والمراد بقتل الانبياء بغير حق القتل على العرفان والعمد دون السهو والخطأ والجهالة وقد قارن الله قولهم هذا بقتلهم الانبياء لكونه قولا عظيما وقوله عذاب الحريق الحريق النار أو اللهب وقيل هو بمعنى المحرق. قوله تعالى ذلك بما قدمت أيديكم الآية أي بما قدمتم أمامكم من العمل ونسب إلى الايدى لانها آلة التقديم غالبا وقوله وأن الله ليس بظلام للعبيد عطف على قوله ما قدمت وتعليل للكتابة والعذاب فلو لم يكن ذلك الحفظ والجزاء لكان إهمالا لامر نظام الاعمال وفي ذلك ظلم كثير بكثرة الاعمال فيكون ظلاما لعباده تعالى عن ذلك. قوله تعالى الذين قالوا إن الله عهد إلينا الآية نعت للذين قبله والعهد هو الامر والقربان ما يتقرب به من النعم وغيره وأكل النار كناية عن إحراقها والمراد بقوله قد جاءكم رسل من قبلى أمثال زكريا ويحيى من أنبياء بنى إسرائيل المقتولين بأيديهم. قوله تعالى فإن كذبوك فقد كذبت الآية تسلية للنبى صلى الله عليه وآله وسلم في تكذيبهم له والزبر جمع زبور وهو كتاب الحكم والمواعظ وقد اريد بالزبر والكتاب المنير مثل كتاب نوح وصحف إبراهيم والتوراة والانجيل. قوله تعالى كل نفس ذائقة الموت الآية تتضمن الوعد للمصدق والوعيد للمكذب وقد بدأ فيها بالحكم العام المقضى في حق كل ذى نفس والتوفية هو الاعطاء الكامل وقد استدل بعضهم بالآية على ثبوت البرزخ لدلالتها على سبق بعض الاعطاء

[ 84 ]

وأن الذى في يوم القيامة هو الاعطاء الكامل وهو استدلال حسن والزحزحة هو الابعاد وأصله تكرار الجذب بعجلة والفوز الظفر بالبغية والغرور مصدر غر أو هو جمع غار. قوله تعالى لتبلون في أموالكم وأنفسكم الآية الابلاء الاختبار بعد ما ذكر سبحانه جريان البلاء والابلاء على المؤمنين ثم ذكر قول اليهود وهو مما من شأنه أن يوهن عزم المؤمنين أخبرهم بأن هذا الابلاء الالهي والاقاويل الموذية من أهل الكتاب والمشركين ستتكرر على المؤمنين ويكثر استقبالها إياهم وقرعها سمعهم فعليهم أن يصبروا ويتقوا حتى يعصمهم ربهم من الزلل والفشل ويكونوا أرباب عزم وأرادة وهذا إخبار قبل الوقوع ليستعدوا لذلك استعدادهم ويوطنوا عليه أنفسهم. وقد وضع في قوله ولتسمعن إلى قوله أذى كثيرا الاذى الكثير موضع القول وهو من قبيل وضع الاثر موضع المؤثر مجازا. قوله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق النبذ الطرح ونبذه وراء ظهره كالمثل يراد به الترك وعدم الاعتناء كما أن قولهم جعله نصب عينيه كالمثل يراد به الاخذ واللزوم. قوله تعالى لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا إلى آخر الآيتين أي بما أنعم عليهم من المال ولازمه حب المال والبخل به والمفازة النجاة وإنما هلك هؤلاء لان قلوبهم تعلقت بالباطل فلا ولاية للحق عليهم. ثم ذكر تعالى حديث ملكه للسموات والارض وقدرته على كل شئ وهذان الوصفان يصلحان لتعليل مضامين جميع ما تقدم من الآيات = بحث روائي = في الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله لقد سمع الله الآية - قال ذكر لنا أنها نزلت في حيي بن أخطب لما نزل - من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا - فيضاعفه له أضعافا كثيرة قال - يستقرضنا ربنا أنما يستقرض الفقير الغني

[ 85 ]

وفي تفسير العياشي في الآية عن الصادق عليه السلام قال - والله ما رأوا الله حتى يعلموا أنه فقير - ولكنهم رأوا أولياء الله فقراء فقالوا - لو كان غنيا لاغنى أولياءه ففخروا على الله بالغنى وفي المناقب عن الباقر عليه السلام: هم الذين يزعمون أن الامام يحتاج إلى ما يحملونه إليه. اقول أما الروايتان الاوليان فقد تقدم انطباق مضمونهما على الآية وأما الثالثة فهى من الجرى. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام قال: كان بين القائلين والقاتلين خمسمائة عام - فألزمهم الله القتل برضاهم بما فعلوا أقول ما ذكر من السنين لا يوافق التاريخ الميلادى الموجود فارجع إلى ما تقدم من البحث التاريخي. وفي الدر المنثور في قوله تعالى كل نفس ذائقة الموت الآية - أخرج ابن أبى حاتم عن على بن أبى طالب - قال لما توفى النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية - جاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه - فقال السلام عليكم يا أهل البيت ورحمة الله وبركاته - كل نفس ذائقة الموت - وإنما توفون اجوركم يوم القيامة - إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك - ودركا من كل ما فات فبالله فثقوا - وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب فقال على هذا الخضر وفيه أخرج ابن مردويه عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها - ثم تلا هذه الآية فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز أقول ورواه فيه ببعض طرق أخر عن غيره واعلم أن هنا روايات كثيرة في أسباب نزول هذه الآيات تركنا إيرادها لظهور كونها من التطبيق النظري = إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات

[ 86 ]

لاولى الالباب (190) - الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والارض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار (191) - ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار (192) - ربنا إننا سمعنا مناديا ينادى للايمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الابرار (193) - ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيمة إنك لا تخلف الميعاد (194) - فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلى وقاتلوا وقتلوا لاكفرن عنهم سيئاتهم ولادخلنهم جنات تجرى من تحتها الانهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب (195) - لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد (196) - متاع قليل ثم مأويهم جهنم وبئس المهاد (197) - لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للابرار (198) - وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب (199)

[ 87 ]

= بيان = الآيات بمنزلة تلخيص ما تقدم من بيان حال المؤمنين والمشركين وأهل الكتاب في هذه السورة بيان أن حال أبرار المؤمنين هو ذكر الله سبحانه والتفكر في آياته والاستجارة بالله من عذاب النار وسؤال المغفرة والجنة وأن الله استجاب لهم وسيرزقهم ما سألوه هذه عامة حالهم وأن الذين كفروا حالهم أنهم يتقلبون في متاع قليل ثم لهم مهاد النار فلا يقاس حال المؤمنين بحالهم وقد استثنى منهم المتبعين للحق من أهل الكتاب فهم مع المؤمنين. قوله تعالى إن في خلق السموات والارض كأن المراد بالخلق كيفية وجودها وآثارها وأفعالها من حركة وسكون وتغير وتحول فيكون خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار مشتملا على معظم الآيات المحسوسة وقد تقدم بيانها في سورة البقرة (1) وتقدم أيضا معنى اولى الالباب (2). قوله تعالى الذين يذكرون الله قياما وقعودا الخ أي يذكرون الله في جميع حالاتهم من القيام والقعود والاضطجاع وقد مر البحث في معنى الذكر والتفكر ومحصل معنى الآيتين أن النظر في آيات السموات والارض واختلاف الليل والنهار أورثهم ذكرا دائما لله فلا ينسونه في حال وتفكرا في خلق السموات والارض يتذكرون به أن الله سيبعثهم للجزاء فيسألون عندئذ رحمته ويستنجزون وعده. قوله تعالى ربنا ما خلقت هذا باطلا إنما قيل هذا مع كون المشار إليه جمعا ومؤنثا إذ الغرض لا يتعلق بتمييز أشخاصها وأسمائها والجميع في أنها خلق واحد وهذا نظير ما حكى الله تعالى من قول إبراهيم فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربى هذا أكبر: الانعام - 78 لعدم علمه بعد بحقيقتها واسمها سوى أنها شئ. والباطل ما ليس له غاية يتعلق به الغرض قال تعالى فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض الرعد - 17 ولذلك لما نفوا البطلان عن


(1) في تفسير آية: 16 من سورة البقرة. (2) في تفسير الآية السابعة من هذه السورة.

[ 88 ]

الخلق لاح لهم أن الله سيحشر الناس للجزاء وأنه تعالى سيجزى هناك الظالمين جزاء خزى وهو النار ولا راد يرد مصلحة العقاب وإلا لبطل الخلقة وهذا معنى قولهم فقنا عذاب النار ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار. قوله تعالى ربنا إننا سمعنا مناديا المراد بالمنادى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقوله أن آمنوا بيان للنداء وأن تفسيرية ولما ذكروا إيمانهم بالمنادى وهو الرسول وهو يخبرهم بامور عن الله تعالى يحذرهم من بعضها كالذنوب والسيئات والموت على الكفر والذنب ويرغبهم في بعضها كالمغفرة والرحمة وتفاصيل الجنة التى وعد الله عباده المؤمنين الابرار بها سألوا ربهم أن يغفر لهم ويكفر عن سيئاتهم ويتوفاهم مع الابرار وسألوه أن ينجزهم ما وعدهم من الجنة والرحمة على ما ضمنه لهم الرسل بإذن الله فقالوا فاغفر لنا ذنوبنا الخ فقوله تعالى على رسلك أي حملته على رسلك وضمنه عليك الرسل وقوله ولا تخزنا أي بإخلاف الوعد ولذا عقبه بقوله إنك لا تخلف الميعاد. وقد تبين من الآيات أنهم إنما حصلوا الاعتقاد بالله واليوم الآخر وبأن لله رسلا بالنظر في الآيات وأما تفاصيل ما جاء به النبي فمن طريق الايمان بالرسول فهم على الفطرة فيما يحكم به الفطرة وعلى السمع والطاعة فيما فيه ذلك. قوله تعالى " فاستجاب لهم ربهم " الخ التعبير بالرب وإضافته إليهم يدل على ثوران الرحمة الالهية ويدل عليه أيضا التعميم الذي في قوله أني لا اضيع عمل عامل منكم فلا فرق عنده تعالى بين عمل وعمل ولا بين عامل وعامل. وعلى هذا فقوله تعالى في مقام التفريع: فالذين هاجروا واخرجوا من ديارهم واوذوا الخ في مقام تفصيل صالحات الاعمال لتثبيت ثوابها والواو للتفصيل دون الجمع حتى يكون لبيان ثواب المستشهدين من المهاجرين فقط. والآية مع ذلك لا تفصل إلا الاعمال التي تندب إليها هذه السورة وتبالغ في التحريص والترغيب فيها وهو إيثار الدين على الوطن وتحمل الاذى في سبيل الله والجهاد. والظاهر أن المراد بالمهاجرة ما يشمل المهاجرة عن الشرك والعشيرة والوطن لاطلاق اللفظ ولمقابلته قوله واخرجوا من ديارهم وهو هجره خاصه ولقوله

[ 89 ]

بعده لاكفرن عنهم سيئاتهم فإن ظاهر السيئات في القرآن صغائر المعاصي فهم هاجروا الكبائر بالاجتناب والتوبة فالمهاجرة المذكورة أعم فافهم ذلك. قوله تعالى " لا يغرنك تقلب " الخ هذا بمنزلة دفع الدخل والتقدير هذا حال أبرار المؤمنين وهذا أجرهم وأما ما ترى فيه الكفار من رفاه الحال وترف الحياة ودر المعاش فلا يغرنك ذلك (الخطاب للنبي والمقصود به الناس) لانه متاع قليل لا دوام له. قوله تعالى لكن الذين اتقوا ربهم الخ النزل ما يعد للنازل من طعام وشراب وغيرهما والمراد بهم الابرار بدليل ما في آخر الآية وهذا يؤيد ما ذكرناه من أن الآية السابقة دفع دخل. قوله تعالى وإن من أهل الكتاب الخ المراد أنهم مشاركون للمؤمنين في حسن الثواب والغرض منه أن السعادة الاخروية ليست جنسية حتى يمنع منها أهل الكتاب وإن آمنوا بل الامر دائر مدار الايمان بالله وبرسله فلو آمنوا كانوا هم والمؤمنون سواء. وقد نفى عن هؤلاء الممدوحين من أهل الكتاب ما ذمهم الله به في سوابق الآيات وهو التفريق بين رسل الله وكتمان ما اخذ ميثاقهم لبيانه اشتراءا بآيات الله ثمنا قليلا. (بحث فلسفي ومقايسة) المشاهدة والتجربة تقضيان أن الرجل والمرأة فردان من نوع جوهري واحد وهو الانسان فإن جميع الآثار المشهودة في صنف الرجل مشهودة في صنف المرأة من غير فرق وبروز آثار النوع يوجب تحقق موضوعه بلا شك نعم يختلف الصنف بشدة وضعف في بعض الآثار المشتركة وهو لا يوجب بطلان وجود النوعية في الفرد وبذلك يظهر أن الاستكمالات النوعية الميسورة لاحد الصنفين ميسورة في الآخر ومنها الاستكمالات المعنوية الحاصلة بالايمان والطاعات والقربات وبذلك يظهر عليك أن أحسن كلمة وأجمعها في إفادة هذا المعنى قوله سبحانه " إني لا اضيع عمل عامل منكم من ذكر أو انثى بعضكم من بعض ". وإذا قايست ذلك إلى ما ورد في التوراة بان لك الفرق بين موقعي الكتابين

[ 90 ]

ففي سفر الجامعة من التوراة " درت أنا وقلبي لاعلم ولابحث ولاطلب حكمة وعقلا، ولاعرف الشر أنه جهالة والحماقة أنها جنون فوجدت أمر من الموت المرأة التي هي شباك، وقلبها أشراك ويداها قيود - إلى أن قال رجلا واحدا بين ألف وجدت أما امرأة فبين كل اولئك لم أجد " وقد كانت أكثر الامم القديمة لا ترى قبول عملها عند الله سبحانه وكانت تسمى في اليونان رجسا من عمل الشيطان وكانت ترى الروم وبعض اليونان أن ليس لها نفس مع كون الرجل ذا نفس مجردة إنسانية وقرر مجمع فرنسا سنه 586 م بعد البحث الكثير في أمرها أنها إنسان لكنها مخلوقة لخدمة الرجل وكانت في انجلترا قبل مائة سنه تقريبا لا تعد جزء المجتمع الانساني فارجع في ذلك إلى كتب الآراء والعقائد وآداب الملل تجد فيها عجائب من آرائهم (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله. اقول وروى هذا المعنى أيضا بطرق اخرى عن عدة من الصحابة كعبد الله ابن سلام وابن عمر عنه صلى الله عليه وآله وسلم والرواية مروية من طرق الشيعة أيضا والمراد بالتفكر في الله أو في ذات الله على اختلاف الروايات التفكر في كنهه وقد قال تعالى " ولا يحيطون به علما " طه - 110 وأما صفاته تعالى فالقرآن أعدل شاهد على أنه تعالى يعرف بها وقد ندب إلى معرفته بها في آيات كثيرة. وفيه أخرج أبو الشيخ في العظمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة. أقول وفي بعض الروايات: من عبادة ليلة وفي بعضها من عبادة سنة وهو مروي من طرق الشيعة أيضا. وقد ورد من طرق أهل السنة: أن قوله تعالى فاستجاب لهم ربهم الآية نزلت في ام سلمة لما قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرد بشئ فأنزل الله فاستجاب لهم الآية.

[ 91 ]

وورد من طرق الشيعة: أن قوله فالذين هاجروا وأخرجوا الآية، نزلت في علي عليه السلام لما هاجر ومعه الفواطم - فاطمة بنت أسد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفاطمة بنت الزبير - ثم لحق بهم في ضجنان ام أيمن ونفر من ضعفاء المؤمنين - فساروا وهم يذكرون الله في جميع أحوالهم حتى لحقوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد نزلت الآيات. وورد من طرق أهل السنة أنها نزلت في المهاجرين وورد أيضا أن قوله لا يغرنك تقلب الآيات نزل حين تمنى بعض المؤمنين ما عليه الكفار من حسن الحال وورد أيضا أن قوله وإن من أهل الكتاب الآية نزل في النجاشي ونفر من أصحابه لما مات هو فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المدينة فطعن فيه بعض المنافقين أنه يصلى على من ليس في دينه فأنزل الله وإن من أهل الكتاب الآية. فهذه جميعا روايات تطبق الآيات على القصص وليست بأسباب للنزول حقيقة (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون - 200) (بيان) الآية بمنزلة الفذلكة لتفصيل البيان الوارد في السورة وفيه تخلص منه بأخذ النتيجة وإعطائها. قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا الخ الاوامر مطلقة فالصبر يراد به الصبر على الشدائد والصبر في طاعة الله والصبر عن معصيته وعلى أي حال هو الصبر من الفرد بقرينة ما يقابله. والمصابرة هي التصبر وتحمل الاذى جماعة باعتماد صبر البعض على صبر آخرين فيتقوى الحال ويشتد الوصف ويتضاعف تأثيره وهذا أمر محسوس في تأثير الفرد إذا اعتبرت شخصيته في حال الانفراد وفي حال الاجتماع والتعاون بإيصال القوى بعضها ببعض وسنبحث فيه إن شاء الله بحثا مستوفى في محله.

[ 92 ]

قوله تعالى ورابطوا أعم معنى من المصابرة وهي إيجاد الجماعة الارتباط بين قواهم وأفعالهم في جميع شؤون حياتهم الدينية أعم من حال الشدة وحال الرخاء ولما كان المراد بذلك نيل حقيقة السعادة المقصودة للدنيا والآخرة وإلا فلا يتم بها إلا بعض سعادة الدنيا وليست بحقيقة السعادة عقب هذه الاوامر بقوله تعالى واتقوا الله لعلكم تفلحون يعنى الفلاح التام الحقيقي. كلام في المرابطة في المجتمع الاسلامي 1 - الانسان والاجتماع كون النوع الانساني نوعا اجتماعيا لا يحتاج في إثباته إلى كثير بحث فكل فرد من هذا النوع مفطور على ذلك ولم يزل الانسان يعيش في حال الاجتماع على ما يحكيه التاريخ والآثار المشهودة الحاكية لاقدم العهود التي كان هذا النوع يعيش فيها ويحكم على هذه الارض. وقد أنبأ عنه القرآن أحسن إنباء في آيات كثيرة كقوله تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا الآية " الحجرات - 13 " وقال تعالى نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحيوة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا: الزخرف - 32 وقال تعالى بعضكم من بعض: آل عمران - 195 وقال تعالى وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا: الفرقان - 54 إلى غير ذلك (1). 2 - الانسان ونموه في اجتماعه الاجتماع الانساني كسائر الخواص الروحية الانسانية وما يرتبط بها لم يوجد حين وجد تاما كاملا لا يقبل النماء والزيادة بل هو كسائر الامور الروحية الادراكية الانسانية لم يزل يتكامل بتكامل الانسان في كمالاته المادية والمعنوية وعلى الحقيقة لم يكن من المتوقع أن يستثنى هذه الخاصة من بين جميع الخواص الانسانية فتظهر أول ظهورها تامة كاملة أتم ما يكون وأكمله بل هي كسائر الخواص الانسانية التى لها ارتباط بقوتى العلم والارادة تدريجية الكمال في الانسان. والذى يظهر من التأمل في حال هذا النوع أن أول ما ظهر من الاجتماع فيه


(1) وليرجع في دلالة كل واحدة من الآيات إلى المحل المختص بها من هذا التفسير.

[ 93 ]

الاجتماع المنزلي بالازدواج لكون عامله الطبيعي وهو جهاز التناسل أقوى عوامل الاجتماع لعدم تحققه إلا بأزيد من فرد واحد أصلا بخلاف مثل التغذى وغيره ثم ظهرت منه الخاصة التى سميناها في المباحث المتقدمة من هذا الكتاب بالاستخدام وهو توسيط الانسان غيره في سبيل رفع حوائجه ببسط سلطته وتحميل إرادته عليه ثم برز ذلك في صورة الرئاسة كرئيس المنزل ورئيس العشيرة ورئيس القبيلة ورئيس الامة وبالطبع كان المقدم المتعين من بين العدة أولا أقواهم وأشجعهم ثم أشجعهم وأكثرهم مالا وولدا وهكذا حتى ينتهي إلى أعلمهم بفنون الحكومة والسياسة وهذا هو السبب الابتدائي لظهور الوثنية وقيامها على ساقها حتى اليوم وسنستوفي البحث عنها فيما سيأتي إن شاء الله العزيز. وخاصة الاجتماع بتمام أنواعها المنزلى وغيره وإن لم تفارق الانسانية في هذه الادوار ولو برهة إلا أنها كانت غير مشعور بها للانسان تفصيلا بل كانت تعيش وتنمو بتبع الخواص الاخرى المعنى بها للانسان كالاستخدام والدفاع ونحو ذلك. والقرآن الكريم يخبر أن أول ما نبه الانسان بالاجتماع تفصيلا واعتنى بحفظه استقلالا نبهته به النبوة قال تعالى وما كان الناس إلا امة واحدة فاختلفوا: يونس - 19 وقال كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه: البقرة - 213 حيث ينبئ أن الانسان في أقدم عهوده كان امة واحدة ساذجة لا اختلاف بينهم حتى ظهرت الاختلافات وبانت المشاجرات فبعث الله الانبياء وأنزل معهم الكتاب ليرفع به الاختلاف ويردهم إلى وحدة الاجتماع محفوظة بالقوانين المشرعة. وقال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا اليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه: الشورى - 13 فأنبأ أن رفع الاختلاف من بين الناس وإيجاد الاتحاد في كلمتهم إنما كان في صورة الدعوة إلى إقامة الدين وعدم التفرق فيه فالدين كان يضمن اجتماعهم الصالح. والآية كما ترى تحكي هذه الدعوة دعوة الاجتماع والاتحاد عن نوح عليه السلام وهو أقدم الانبياء اولى الشريعة والكتاب ثم عن إبراهيم ثم عن موسى ثم عيسى عليهم السلام

[ 94 ]

وقد كان في شريعة نوح وإبراهيم النزر اليسير من الاحكام وأوسع هؤلاء الاربعة شريعة موسى وتتبعه شريعة عيسى على ما يخبر به القرآن وهو ظاهر الاناجيل وليس في شريعة موسى على ما قيل إلا ستمائة حكم تقريبا. فلم تبدء الدعوة إلى الاجتماع دعوة مستقلة صريحة إلا من ناحية النبوة في قالب الدين كما يصرح به القرآن والتاريخ يصدقه على ما سيجئ. 4 - الاسلام وعنايته بالاجتماع لا ريب أن الاسلام هو الدين الوحيد الذي أسس بنيانه على الاجتماع صريحا ولم يهمل أمر الاجتماع في شأن من شؤونه فانظر إن أردت زيادة تبصر في ذلك إلى سعة الاعمال الانسانية التي تعجز عن إحصائها الفكرة وإلى تشعبها إلى أجناسها وأنواعها وأصنافها ثم انظر إلى إحصاء هذه الشريعة الالهية لها وإحاطتها بها وبسط أحكامها عليها ترى عجبا ثم انظر إلى تقليبه ذلك كله في قالب الاجتماع ترى أنه أنفذ روح الاجتماع فيها غاية ما يمكن من الانفاذ. ثم خذ في مقايسة ما وجدته بسائر الشرائع الحقة التي يعتنى بها القرآن وهي شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى حتى تعاين النسبة وتعرف المنزلة. وأما ما لا يعتنى به القرآن الكريم من الشرائع كأديان الوثنية والصابئة والمانوية والثنوية وغيرها فالامر فيها أظهر وأجلى. وأما الامم المتمدنة وغيرها فالتاريخ لا يذكر من أمرها إلا أنها كانت تتبع ما ورثته من أقدم عهود الانسانية من استتباع الاجتماع بالاستخدام واجتماع الافراد تحت جامع حكومة الاستبداد والسلطة الملوكية فكان الاجتماع القومي والوطني والاقليمى يعيش تحت راية الملك والرئاسة ويهتدي بهداية عوامل الوراثة والمكان وغيرهما من غير أن يعتنى امة من هذه الامم عناية مستقلة بأمره وتجعله موردا للبحث والعمل حتى الامم المعظمة التي كانت لها سيادة الدنيا حينما شرقت شارقة الدين وأخذت في إشراقها وإنارتها أعني امبراطورية الروم والفرس فإنها لم تكن إلا قيصرية وكسروية تجتمع اممها تحت لواء الملك والسلطنة ويتبعها الاجتماع في رشده ونموه ويمكث بمكثها. نعم يوجد فيما ورثوه أبحاث اجتماعية في مسفورات حكمائهم من أمثال سقراط

[ 95 ]

وأفلاطون وأرسطو وغيرهم إلا أنها كانت أوراقا وصحائف لا ترد مورد العمل، ومثلا ذهنية لا تنزل مرحلة العين والخارج والتاريخ الموروث أعدل شاهد على صدق ما ذكرناه. فأول نداءقرع سمع النوع الانساني ودعى به هذا النوع إلى الاعتناء بأمر الاجتماع بجعله موضوعا مستقلا خارجا عن زاوية الاهمال وحكم التبعية هو الذي نادى به صادع الاسلام عليه أفضل الصلاة والسلام، فدعى الناس بما نزل عليه من آيات ربه إلى سعادة الحياة وطيب العيش مجتمعين قال تعالى: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم " الانعام: 153 " وقال: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا إلى أن قال: ولتكن منكم امة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (يشير إلى حفظ المجتمع عن التفرق والانشعاب) واولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات " آل عمران: 105 " وقال: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ " الانعام: 159 " إلى غير ذلك من الآيات المطلقة الداعية ألى أصل الاجتماع والاتحاد. وقال تعالى: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم " الحجرات: 10 " وقال ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم " الانفال: 46 " وقال: وتعاونوا على البر والتقوى " المائدة: 2 " وقال ولتكن منكم امة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " آل عمران: 104 " إلى غير ذلك من الآيات الآمرة ببناء المجتمع الاسلامي على الاتفاق والاتحاد في حيازة منافعها ومزاياها المعنوية والمادية والدفاع عنه على ما سنوضحه بعض الايضاح. 4 - اعتبار الاسلام رابطة الفرد والمجتمع الصنع والايجاد يجعل أولا أجزاءا ابتدائية لها آثار وخواص ثم يركبها ويؤلف بينها على ما فيها من جهات البينونة فيستفيد منها فوائد جديدة مضافة إلى ما للاجزاء من الفوائد المشهودة فالانسان مثلا له أجزاء وأبعاض وأعضاء وقوى لها فوائد متفرقة مادية وروحية ربما ائتلفت فقويت وعظمت كثقل كل واحد من الاجزاء وثقل المجموع والتمكن والانصراف من جهة إلى جهة وغير ذلك وربما لم تأتلف وبقيت على حال التبائن والتفرق كالسمع والبصر والذوق والارادة والحركة إلا أنها جميعا من جهة الوحدة في التركيب تحت سيطرة

[ 96 ]

الواحد الحادث الذي هو الانسان وعند ذلك يوجد من الفوائد ما لا يوجد عند كل واحد من أجزائه وهي فوائد جمة من قبيل الفعل والانفعال والفوائد الروحية والمادية ومن فوائده حصول كثرة عجيبة في تلك الفوائد في عين الوحدة فإن المادة الانسانية كالنطفة مثلا إذا استكملت نشأتها قدرت على إفراز شئ من المادة من نفسها وتربيتها إنسانا تاما آخر يفعل نظائر ما كان يفعله أصله ومحتده من الافعال المادية والروحية فأفراد الانسان على كثرتها إنسان وهو واحد وأفعالها كثيرة عددا واحدة نوعا وهي تجتمع وتأتلف بمنزلة الماء يقسم إلى آنية فهى مياه كثيرة ذو نوع واحد وهي ذات خواص كثيرة نوعها واحد وكلما جمعت المياه في مكان واحد قويت الخاصة وعظم الاثر. وقد اعتبر الاسلام في تربية أفراد هذا النوع وهدايتها إلى سعادتها الحقيقية هذا المعنى الحقيقي فيها ولا مناص من اعتباره قال تعالى وهو الذى خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا: الفرقان - 54 وقال يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى: الحجرات - 13 وقال بعضكم من بعض: آل عمران - 195. وهذه الرابطة الحقيقية بين الشخص والمجتمع لا محالة تؤدى إلى كينونة اخرى في المجتمع حسب ما يمده الاشخاص من وجودهم وقواهم وخواصهم وآثارهم فيتكون في المجتمع سنخ ما للفرد من الوجود وخواص الوجود وهو ظاهر مشهود ولذلك اعتبر القرآن للامة وجودا وأجلا وكتابا وشعورا وفهما وعملا وطاعة ومعصية فقال ولكل امة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون: الاعراف - 34 وقال كل امة تدعى إلى كتابها: الجاثية - 28 وقال زينا لكل امة عملهم: الانعام - 108 وقال منهم امة مقتصدة: المائدة - 66 وقال امة قائمة يتلون آيات الله: آل عمران - 113 وقال وهمت كل امة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب: غافر - 5 وقال ولكل امة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط: يونس - 47. ومن هنا ما نرى أن القرآن يعتنى بتواريخ الامم كاعتنائه بقصص الاشخاص بل أكثر حينما لم يتداول في التواريخ إلا ضبط أحوال المشاهير من الملوك والعظماء ولم يشتغل المؤرخون بتواريخ الامم والمجتمعات إلا بعد نزول القرآن فاشتغل بها بعض الاشتغال آحاد منهم كالمسعودي وابن خلدون حتى ظهر التحول الاخير في التاريخ النقلي

[ 97 ]

بتبديل الاشخاص أمما وأول من سنه على ما يقال " اغوست كنت الفرنسي المتوفى سنة 1857 ميلادية. وبالجملة لازم ذلك على ما مرت الاشارة إليه تكون قوى وخواص اجتماعية قوية تقهر القوى والخواص الفردية عند التعارض والتضاد على أن الحس والتجربة يشهدان بذلك في القوى والخواص الفاعلة والمنفعلة معا فهمة الجماعة وإرادتها في أمر كما في موارد الغوغاءات وفي الهجمات الاجتماعية لا تقوم لها إرادة معارضة ولا مضادة من واحد من أشخاصها وأجزائها فلا مفر للجزء من أن يتبع كله ويجري على ما يجري عليه حتى أنه يسلب الشعور والفكر من أفراده وأجزائه وكذا الخوف العام والدهشة العامة كما في موارد الانهزام وانسلاب الامن والزلزلة والقحط والوباء أو ما هو دونها كالرسومات المتعارفة والازياء القومية ونحوهما تضطر الفرد على الاتباع وتسلب عنه قوة الادراك والفكر. وهذا هو الملاك في اهتمام الاسلام بشأن الاجتماع ذلك الاهتمام الذي لا نجد ولن نجد ما يماثله في واحد من الاديان الاخر ولا في سنن الملل المتمدنة ولعلك لا تكاد تصدق ذلك فإن تربية الاخلاق والغرائز في الفرد وهو الاصل في وجود المجتمع لا تكاد تنجح مع كينونة الاخلاق والغرائز المعارضة والمضادة القوية القاهرة في المجتمع إلا يسيرا لا قدر له عند القياس والتقدير. فوضع أهم أحكامه وشرائعه كالحج والصلاة والجهاد والانفاق وبالجملة التقوى الديني على أساس الاجتماع وحافظ على ذلك مضافا إلى قوى الحكومة الاسلامية الحافظة لشعائر الدين العامة وحدودها ومضافا إلى فريضة الدعوة إلى الخير والامر بالمعروف والنهي عن المنكر العامة لجميع الامة بجعل غرض المجتمع الاسلامي - وكل مجتمع لا يستغني عن غرض مشترك - هي السعادة الحقيقية والقرب والمنزلة عند الله وهذا رقيب باطني لا يخفى عليه ما في سريرة الانسان وسره - فضلا عما في ظاهره - وإن خفي على طائفة الدعاة وجماعة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا هو الذي ذكرنا أن الاسلام تفوق سنة اهتمامه بشأن الاجتماع سائر السنن والطرائق.

[ 98 ]

5 - هل تقبل سنة الاسلام الاجتماعية الاجراء والبقاء ؟ ولعلك تقول لو كان ما ذكر من كون نظر الاسلام في تكوين المجتمع الصالح أرقي بناءا وأتقن أساسا حتى من المجتمعات التي كونتها الملل المتمدنة المترقية حقا فما باله لم يقبل الاجراء إلا برهة يسيرة ثم لم يملك نفسه دون أن تبدل قيصرية وكسروية ؟ وتحول إمبراطورية أفجع وأشنع أعمالا مما كان قبله بخلاف المدنية الغربية التي تستديم البقاء. وهذا هو الدليل على كون مدنيتهم أرقي وسنتهم في الاجتماع أتقن وأشد استحكاما وقد وضعوا سنتهم الاجتماعية وقوانينهم الدائرة على أساس إرادة الامة واقتراح الطباع والميول ثم اعتبروا فيها إرادة الاكثر واقتراحهم لاستحالة اجتماع الكل بحسب العادة إرادة وغلبة الاكثر سنة جارية في الطبيعة مشهودة فإنا نجد كلا من العلل المادية والاسباب الطبيعية مؤثرة على الاكثر لا على الدوام وكذا العوامل المختلفة المتنازعة إنما يؤثر منها الاكثر دون الكل ودون الاقل فمن الحرى أن يبنى هيكل الاجتماع بحسب الغرض وبحسب السنن والقوانين الجارية فيه على إرادة الاكثر وأما فرضية الدين فليست في الدنيا الحاضرة إلا أمنية لا تتجاوز مرحلة الفرض ومثالا عقليا غير جائز النيل. وقد ضمنت المدنية الحاضرة فيما ظهرت فيه من الممالك قوة المجتمع وسعادتها وتهذب الافراد وطهارتهم من الرذائل وهي الامور التي لا يرتضيها المجتمع كالكذب والخيانة والظلم والجفاء والجفاف ونحو ذلك. وهذا الذي أوردناه محصل ما يختلج في صدور جمع من باحثينا معاشر الشرقيين وخاصة المحصلين من فضلائنا المتفكرين في المباحث الاجتماعية والنفسية غير أنهم وردوا هذا البحث من غير مورده فاختلط عليهم حق النظر ولتوضيح ذلك نقول أما قولهم إن السنة الاجتماعية الاسلامية غير قابلة الجريان في الدنيا على خلاف سنن المدنية الحاضرة في جو الشرائط الموجودة ومعناه أن الاوضاع الحاضرة في الدنيا لا تلائم الاحكام المشرعة في الاسلام فهو مسلم لكنه لا ينتج شيئا فإن جميع السنن الدائرة في الجامعة الانسانية إنما حدثت بعد ما لم تكن وظهرت في حين لم تكن عامة الاوضاع والشرائط الموجودة إلا مناقضة له طاردة إياه فانتهضت ونازعت السنن السابقة المستمرة المتعرقة وربما اضطهدت وانهزمت في أول نهضتها ثم عادت ثانيا وثالثا

[ 99 ]

حتى غلبت وتمكنت وملكت سيطرتها وربما بادت وانقرضت إذ لم يساعدها العوامل والشرائط بعد والتاريخ يشهد (1) بذلك في جميع السنن الدينية والدنيوية حتى في مثل الديموقراطية والاشتراك وإلى مثله يشير قوله تعالى قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين: آل عمران - 137 يشير إلى أن السنة التي تصاحب تكذيب آيات الله لا تنتهي إلى عاقبة حسنة محمودة. فمجرد عدم انطباق سنة من السنن على الوضع الانساني الحاضر ليس يكشف عن بطلانه وفساده بل هو من جملة السنن الطبيعية الجارية في العالم لتتميم كينونة الحوادث الجديدة إثر الفعل والانفعال وتنازع العوامل المختلفة. والاسلام كسائر السنن من جهة النظر الطبيعي والاجتماعي وليس بمستثنى من هذه الكلية فحاله من حيث التقدم والتأخر والاستظهار بالعوامل والشرائط حال سائر السنن وليس حال الاسلام اليوم وقد تمكن في نفوس ما يزيد على أربعمائة مليون من أفراد البشر ونشب في قلوبهم بأضعف من حاله في الدنيا زمان دعوة نوح وإبراهيم ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد قامت دعوة كل منهم بنفس واحدة ولم تكن تعرف الدنيا وقتئذ غير الفساد ثم انبسطت وتعرقت وعاشت واتصل بعضها ببعض فلم ينقطع حتى اليوم. وقد قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة ولم يكن معه من يستظهر به يومئذ إلا رجل وامرأة ثم لم يزل يلحق بهم واحد بعد واحد واليوم يوم العسرة كل العسرة حتى أتاهم نصر الله فتشكلوا مجتمعا صالحا ذا أفراد يغلب عليهم الصلاح والتقوى ومكثوا برهة على الصلاح الاجتماعي حتى كان من أمر الفتن بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان. وهذا الانموذج اليسير على قصر عمره وضيق نطاقه لم يلبث حتى انبسط في أقل


(1) ومن أوضح الشواهد أن السنة الديمقراطية بعد الحرب العالمية الاولى (وهي اليوم السنة العالمية المرضية الوحيدة) تحولت في روسيا إلى الشيوعية والحكومة الاشتراكية ثم لحق لها بعد الحرب العالمية الثانية ممالك الاروبا الشرقية ومملكة الصين فخسرت بذلك صفقة الديموقراطية فيما يقرب من نصف المجتمع البشري. وقد أعلنت المجتمعات الشيوعية قبل سنة تقريبا أن قائدها الفقيد " ستالين " كان قد حرف مدى حكومته وهو ثلاثون سنة تقريبا بعد حكومة لينين الحكومة الاشتراكية إلى الحكومة الفردية الاستبدادية وحتى اليوم لا تزال تؤمن به طائفة بعد الكفر وترتد عنها طائفة بعد الايمان وهي تطوى وتبسط وهناك نماذج وامثلة اخرى كثيرة في التاريخ. (*)

[ 100 ]

من نصف قرن على مشارق الارض ومغاربها وحول التاريخ تحويلا جوهريا يشاهد آثاره الهامة إلى يومنا وستدوم ثم تدوم. ولا يستطيع أن يستنكف الابحاث الاجتماعية والنفسية في التاريخ النظري عن الاعتراف بأن المنشأ القريب والعامل التام للتحول المعاصر المشهود في الدنيا هو ظهور السنة الاسلامية وطلوعها ولم يهمل جل الباحثين من اوربا استيفاء البحث عن تأثيرها في جامعة الانسان إلا لعصبية دينية أو علل سياسية وكيف يسع لباحث خبير لو أنصف النظر أن يسمي النهضة المدنية الحديثة نهضة مسيحية ويعد المسيح عليه السلام قائدها وحامل لوائها والمسيح يصرح (1) بأنه إنما يهتم بأمر الروح ولا يشتغل بأمر الجسم ولا يتعرض لشأن الدولة والسياسة ؟ وهو ذا الاسلام يدعو إلى الاجتماع والتألف ويتصرف في جميع شؤون المجتمع الانساني وأفراده من غير استثناء فهل هذا الصفح والاغماض منهم إلا لاطفاء نور الاسلام (ويأبى الله إلا أن يتم نوره) وإخماد ناره عن القلوب بغيا وعدوا حتى يعود جنسية لا أثر لها إلا أثر الانسال المنشعبة. وبالجملة قد أثبت الاسلام صلوحه لهداية الناس إلى سعادتهم وطيب حياتهم وما هذا شأنه لا يسمى فرضية غير قابلة الانطباق على الحياة الانسانية ولا مأيوسا من ولاية أمر الدنيا يوما (مع كون مقصده سعادة الانسان الحقيقية) وقد تقدم في تفسير قوله كان الناس أمة واحدة: البقرة - 213 أن البحث العميق في أحوال الموجودات الكونية يؤدي إلى أن النوع الانساني سيبلغ غايته وينال بغيته وهي كمال ظهور الاسلام بحقيقته في الدنيا وتوليه التام أمر المجتمع الانساني وقد وعده الله تعالى طبق هذه النظرية في كتابه العزيز قال فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون في الله لومة لائم: المائدة - 54 وقال وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا الآية: النور - 55 وقال أن الارض يرثها عبادي الصالحون الانبياء - 105 إلى غير ذلك من الآيات.


(1) راجع الجزء الثالث في تفسير آية 79 - 80 من سورة آل عمران. (*)

[ 101 ]

وهنا جهة اخرى أغفلها هؤلاء في بحثهم وهي أن الاجتماع الاسلامي شعاره الوحيد هو اتباع الحق في النظر والعمل والاجتماع المدني الحاضر شعاره اتباع ما يراه ويريده الاكثر وهذان الشعاران يوجبان اختلاف الغاية في المجتمع المتكون فغاية الاجتماع الاسلامي السعادة الحقيقية العقلية بمعنى أن يأخذ الانسان بالاعتدال في مقتضيات قواه فيعطي للجسم مشتهياته مقدار ما لا يعوقه عن معرفة الله من طريق العبودية بل يكون مقدمة توصل إليها وفيه سعادة الانسان بسعادة جميع قواه وهي الراحة الكبرى (وإن كنا لا ندركها اليوم حق الادراك لاختلال التربية الاسلامية فينا) ولذلك وضع الاسلام قوانينه على أساس مراعاة جانب العقل المجبول على اتباع الحق وشدد في المنع عما يفسد العقل السليم وألقى ضمان إجراء الجميع من الاعمال والاخلاق والمعارف الاصلية إلى عهدة المجتمع مضافا إلى ما تحتفظ عليه الحكومة والولاية الاسلامية من إجراء السياسات والحدود وغيرها وهذا على أي حال لا يوافق طباع العامة من الناس ويدفعه هذا الانغمار العجيب في الاهواء والاماني الذي نشاهده من كافة المترفين والمعدمين ويسلب حريتهم في الاستلذاذ والتلهي والسبعية والافتراس إلا بعد مجاهدة شديدة في نشر الدعوة وبسط التربية على حد سائر الامور الراقية التي يحتاج الانسان في التلبس بها إلى همة قاطعة وتدرب كاف وتحفظ على ذلك مستدام. واما غاية الاجتماع المدني الحاضر فهي التمتع من المادة ومن الواضح أن هذه تستتبع حياة إحساسية تتبع ما يميل إليه الطبع سواء وافق ما هو الحق عند العقل أو لم يوافق بل إنما يتبع العقل فيما لا يخالف غايته وغرضه. ولذلك كانت القوانين تتبع في وضعها وإجرائها ما يستدعيه هوى أكثرية المجتمع وميول طباعهم وينحصر ضمان الاجراء في مواد القانون المتعلقة بالاعمال وأما الاخلاق والمعارف الاصلية فلا ضامن لاجرائها بل الناس في التلبس بها وتبعيتها وعدمه إلا أن تزاحم القانون في مسيره فتمنع حينئذ. ولازم ذلك أن يعتاد المجتمع الذي شأنه ذلك بما يوافق هواه من رذائل الشهوة والغضب فيستحسن كثيرا مما كان يستقبحه الدين وأن يسترسل باللعب بفضائل الاخلاق والمعارف العالية مستظهرا بالحرية القانونية. ولازم هذا اللازم أن يتحول نوع الفكرة عن المجرى العقلي إلى المجرى الاحساسي

[ 102 ]

العاطفي فربما كان الفجور والفسق في مجرى العقل تقوى في مجرى الميول والاحساسات وسمي فتوة وبشرا وحسن خلق كمعظم ما يجري في اوربا بين الشبان وبين الرجال والنساء المحصنات أو الابكار وبين النساء والكلاب وبين الرجال وأولادهم ومحارمهم وما يجري في الاحتفالات ومجالس الرقص وغير ذلك مما ينقبض عن ذكره لسان المتأدب بأدب الدين. وربما كان عاديات الطريق الديني غرائب وعجائب مضحكة عندهم وبالعكس كل ذلك لاختلاف نوع الفكرة والادراك باختلاف الطريق ولا يستفاد في هذه السنن الاحساسية من التعقل كما عرفت إلا بمقدار ما يسوى به الطريق إلى التمتع والتلذذ فهو الغاية الوحيدة التي لا يعارضها شئ ولا يمنع منها شئ إلا في صورة المعارضة بمثلها حتى إنك تجد بين مشروعات القوانين الدائرة أمثال الانتحار ودئل وغيرهما فللنفس ما تريده وتهويه إلا أن يزاحم ما يريده ويهواه المجتمع. إذا تأملت هذا الاختلاف تبين لك وجه أوفقية سنة المجتمع الغربي لمذاق الجامعة البشرية دون سنة المجتمع الديني غير أنه يجب أن يتذكر أن سنة المدنية الغربية وحدها ليست هي الموافقة لطباع الناس حتى تترجح بذلك وحدها بل جميع السنن المعمولة الدائرة في الدنيا بين أهلها من أقدم أعصار الانسانية إلى عصرنا هذا من سنن البداوة والحضارة تشترك في أن الناس يرجحونها على الدين الداعي إلى الحق في أول ما يعرض عليهم لخضوعهم للوثنية المادية. ولو تأملت حق التأمل وجدت هذه الحضارة الحاضرة ليست إلا مؤلفة من سنن الوثنية الاولى غير أنها تحولت من حال الفردية إلى حال الاجتماع ومن مرحلة السذاجة إلى مرحلة الدقة الفنية. والذى ذكرناه من بناء السنة الاسلامية على اتباع الحق دون موافقة الطبع من أوضح الواضحات في بيانات القرآن قال تعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق: التوبة - 33 وقال تعالى والله يقضي بالحق: المؤمن - 20 وقال في وصف المؤمنين وتواصوا بالحق: العصر - 3 وقال لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون: الزخرف - 78 فاعترف بأن الحق لا يوافق طباع الاكثرين وأهواءهم ثم رد لزوم موافقة أهواء الاكثرية بأنه يؤول إلى الفساد فقال بل جاءهم بالحق

[ 103 ]

وأكثرهم للحق كارهون ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والارض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون: المؤمنون - 71 ولقد صدق جريان الحوادث وتراكم الفساد يوما فيوما ما بينه تعالى في هذه الآية وقال تعالى فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون: يونس - 32 والآيات في هذا المعنى وما يقرب منه كثيرة جدا وإن شئت زيادة تبصر فيه فراجع سورة يونس فقد كرر فيه ذكر الحق بضعا وعشرين مرة. و أما قولهم إن اتباع الاكثر سنة جارية في الطبيعة فلا ريب أن الطبيعة تتبع الاكثر في آثارها إلا أنها ليست بحيث تبطل أو تعارض وجوب اتباع الحق فإنها نفسها بعض مصاديق الحق فكيف تبطل نفسها توضيح ذلك يحتاج إلى بيان امور أحدها أن الامور الخارجية التي هي اصول عقائد الانسان العلمية والعملية تتبع في تكونها وأقسام تحولها نظام العلية والمعلولية وهو نظام دائم ثابت لا يقبل الاستثناء أطبق على ذلك المحصلون من أهل العلم والنظر وشهد به القرآن على ما مر (1) فالجريان الخارجي لا يتخلف عن الدوام والثبات حتى أن الحوادث الاكثرية الوقوع التي هي قياسية هي في أنها أكثرية دائمة ثابتة، مثلا النار التي تفعل السخونة غالبا بالقياس إلى جميع مواردها " سخونتها الغالبية " أثر دائم لها وهكذا وهذا هو الحق. والثاني أن الانسان بحسب الفطرة يتبع ما وجده أمرا واقعيا خارجيا بنحو فهو يتبع الحق بحسب الفطرة حتى أن من ينكر وجود العلم الجازم إذا القي إليه قول لا يجد من نفسه التردد فيه خضع له بالقبول. والثالث: أن الحق كما عرفت هو الامر الخارجي الذي يخضع له الانسان في اعتقاده أو يتبعه في عمله وأما نظر الانسان وإدراكه فإنما هو وسيلة يتوسل بها إليه كالمرآة بالنسبة إلى المرئي. إذا عرفت هذه الامور تبين لك أن الحقية وهي دوام الوقوع أو أكثرية الوقوع


(1) في الكلام على الاعجاز في الجزء الاول من الكتاب. (*)

[ 104 ]

في الطبيعة الراجعة إلى الدوام والثبات أيضا إنما هي صفة الخارج الواقع وقوعا دائميا أو أكثريا دون العلم والادراك وبعبارة اخرى هي صفة الامر المعلوم لا صفة العلم فالوقوع الدائمي والاكثري أيضا بوجه من الحق وأما آراء الاكثرين وأنظارهم واعتقاداتهم في مقابل الاقلين فليست بحق دائما بل ربما كانت حقا إذا طابقت الواقع وربما لم تكن إذا لم تطابق وحينئذ فلا ينبغي أن يخضع لها الانسان ولا أنه يخضع لها لو تنبه للواقع فإنك إذا أيقنت بأمر ثم خالفك جميع الناس فيه لم تخضع بالطبع لنظرهم وإن اتبعتهم فيه ظاهرا فإنما تتبعهم لخوف أو حياء أو عامل آخر لا لانه حق واجب الاتباع في نفسه ومن أحسن البيان في أن رأي الاكثر ونظرهم لا يجب أن يكون حقا واجب الاتباع قوله تعالى بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون: المؤمنون - 70 فلو كان كل ما يراه الاكثر حقا لم يمكن أن يكرهوا الحق ويعارضوه. وبهذا البيان يظهر فساد بناء اتباع الاكثرية على سنة الطبيعة فإن هذه السنة جارية في الخارج الذي يتعلق به العلم دون نفس العلم والفكر والذي يتبعه الانسان من هذه السنة في إرادته وحركاته إنما هو ما في الخارج من أكثرية الوقوع لا ما اعتقده الاكثرون أعني أنه يبني أفعاله وأعماله على الصلاح الاكثري وعليه جرى القرآن في حكم تشريعاته ومصالحها قال تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون: المائدة - 6 وقال تعالى كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون: البقرة - 183 إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على ملاكات غالبية الوقوع للاحكام المشرعة. وأما قولهم إن المدنية الحاضرة سمحت للممالك المترقية سعادة المجتمع وهذب الافراد وطهرهم عن الرذائل التي لا يرتضيها المجتمع فكلام غير خال من الخلط والاشتباه. وكأن مرادهم من السعادة الاجتماعية تفوق المجتمع في عدتها وقوتها وتعاليها في استفادتها من المنابع المادية وقد عرفت كرارا أن الاسلام لا يعد ذلك سعادة والبحث البرهاني أيضا يؤيده بل السعادة الانسانية أمر مؤلف من سعادة الروح والبدن وهي تنعم الانسان من النعم المادية وتحليه بفضائل الاخلاق والمعارف الحقة الالهية وهي التي تضمن سعادته في الحياة الدنيا والحياة الاخرى وأما الانغمار في لذائذ المادة مع إهمال سعادة الروح فليس عنده إلا شقاء.

[ 105 ]

وأما استعجابهم بما يرون من الصدق والصفاء والامانة والبشر وغير ذلك فيما بين أفراد الملل المترقية فقد اختلط عليهم حقيقة الامر فيه وذلك أن جل المتفكرين من باحثينا معاشر الشرقيين لا يقدرون على التفكر الاجتماعي وإنما يتفكرون تفكرا فرديا فالذي يراه الواحد منا نصب العين أنه موجود إنساني مستقل عن كل الاشياء غير مرتبط بها ارتباطا تبطل استقلاله الوجودي مع أن الحق خلافه ثم لا يتفكر في حياته إلا لجلب المنافع إلى نفسه ودفع المضار عن نفسه فلا يشتغل إلا بشأن نفسه وهو التفكر الفردي ويستتبع ذلك أن يقيس غيره على نفسه فيقضي فيه بما يقضي على هذا النحو من الاستقلال. وهذا القضاء إن صح فإنما يصح فيمن يجرى في تفكره هذا المجرى وأما من يتفكر تفكرا اجتماعيا ليس نصب عينيه إلا انه جزء غير منفك ولا مستقل عن المجتمع وأن منافعه جزء من منافع مجتمعه يرى خير المجتمع خير نفسه وشره شر نفسه وكل وصف وحال له وصفا وحالا لنفسه فهذا الانسان يتفكر نحوا آخر من التفكر ولا يشتغل في الارتباط بغيره إلا بمن هو خارج عن مجتمعه وأما اشتغاله بأجزاء مجتمعه فلا يهتم به ولا يقدره شيئا. واستوضح ذلك بما نورده من المثال الانسان مجموع مؤلف من أعضاء وقوى عديدة تجتمع الجميع نوع اجتماع يعطيها وحدة حقيقية نسميها الانسانية يوجب ذلك استهلاك الجميع ذاتا وفعلا تحت استقلاله فالعين والاذن واليد والرجل تبصر وتسمع وتبطش وتمشي للانسان وإنما يلتذ كل بفعله في ضمن التذاذ الانسان به وكل واحدة من هذه الاعضاء والقوى همها أن ترتبط بالخارج الذى يريد الانسان الواحد الارتباط به بخير أو شر فالعين أو الاذن أو اليد أو الرجل إنما تريد الاحسان أو الاساءة إلى من يريد الانسان الاحسان أو الاساءة إليه من الناس مثلا وأما معاملة بعضها مع بعض والجميع تحت لواء الانسانية الواحدة فقلما يتفق أن يسئ بعضها إلى بعض أو يتضرر بعضها ببعض. فهذا حال أجزاء الانسان وهي تسير سيرا واحدا اجتماعيا وفي حكمه حال أفراد مجتمع إنساني إذا تفكروا تفكرا اجتماعيا فصلاحهم وتقواهم أو فسادهم وإجرامهم وإحسانهم وإسائتهم إنما هي ما لمجتمعهم من هذه الاوصاف إذا أخذ ذا شخصية واحدة. وهكذا صنع القرآن في قضائه على الامم والاقوام التى ألجأتهم التعصبات المذهبية

[ 106 ]

أو القومية أن يتفكروا تفكرا اجتماعيا كاليهود والاعراب وعدة من الامم السالفة فتراه يؤاخذ اللاحقين بذنوب السابقين ويعاتب الحاضرين ويوبخهم بأعمال الغائبين والماضين كل ذلك لانه القضاء الحق فيمن يتفكر فكرا اجتماعيا وفي القرآن الكريم من هذا الباب آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها. نعم مقتضى الاخذ بالنصفة أن لا يضطهد حق الصالحين من الافراد بذلك إن وجدوا في مجتمع واحد فإنهم وإن عاشوا بينهم واختلطوا بهم إلا أن قلوبهم غير متقذرة بالفكر الفاسد والمرض المتبطن الفاشي في مثل هذا المجتمع وأشخاصهم كالاجزاء الزائدة في هيكله وبنيته وهكذا فعل القرآن في آيات العتاب العام فاستثنى الصلحاء والابرار. ويتبين مما ذكرنا أن القضاء بالصلاح والطلاح على أفراد المجتمعات المتمدنة الراقية على خلاف أفراد الامم الاخرى لا ينبغى أن يبنى على ما يظهر من معاشرتهم ومخالطتهم فيما بينهم وعيشتهم الداخلية بل بالبناء على شخصيتهم الاجتماعية البارزة في مماستها ومصاكتها سائر الامم الضعيفة ومخالطتها الحيوية سائر الشخصيات الاجتماعية في العالم. فهذه هي التى يجب أن تراعى وتعتبر في القضاء بصلاح المجتمع وطلاحه وسعادته وشقائه وعلى هذا المجرى يجب أن يجري باحثونا ثم إن شاؤوا فليستعجبوا وإن شاؤوا فليتعجبوا. ولعمري لو طالع المطالع المتأمل تاريخ حياتهم الاجتماعية من لدن النهضة الحديثة الاوروبية وتعمق فيما عاملوا به غيرهم من الامم والاجيال المسكينة الضعيفة لم يلبث دون أن يرى أن هذه المجتمعات التى يظهرون أنهم امتلؤوا رأفة ونصحا للبشر يفدون بالدماء والاموال في سبيل الخدمة لهذا النوع وإعطاء الحرية والاخذ بيد المظلوم المهضوم حقا وإلغاء سنة الاسترقاق والاسر يرى أنهم لا هم لهم إلا استعباد الامم الضعيفة مساكين الارض ما وجدوا إليه سبيلا بما وجدوا إليه من سبيل فيوما بالقهر ويوما بالاستعمار ويوما بالاستملاك ويوما بالقيمومة ويوما باسم حفظ المنافع المشتركة ويوما باسم الاعانة على حفظ الاستقلال ويوما باسم حفظ الصلح ودفع ما يهدده ويوما باسم الدفاع عن حقوق الطبقات المستأصلة المحرومة ويوما... ويوما....

[ 107 ]

والمجتمعات التي هذا شأنها لا ترتضي الفطرة الانسانية السليمة أن تصفها بالصلاح أو تذعن لها بالسعادة وإن اغمضت النظر عما يشخصه قضاء الدين وحكم الوحى والنبوة من معنى السعادة. وكيف ترضى الطبيعة الانسانية أن تجهز أفرادها بما تجهزها على السواء ثم تناقض نفسها فتعطي بعضا منهم عهدا أن يتملكوا الآخرين تملكا يبيح لهم دماءهم وأعراضهم وأموالهم ويسوى لهم الطريق إلى اللعب بمجامع حياتهم ووجودهم والتصرف في إدراكهم وإرادتهم بما لم يلقه ولا قاساه إنسان القرون الاولى والمعول في جميع ما نذكره تواريخ حياة هؤلاء الامم وما يقاسيه الجيل الحاضر من أيديهم فإن سمى ما عندهم سعادة وصلاحا فلتكن بمعنى التحكم وإطلاق المشية. 6 - بما ذا يتكون ويعيش الاجتماع الاسلامي ؟ لا ريب أن الاجتماع أي اجتماع كان إنما يتحقق ويحصل بوجود غاية واحدة مشتركة بين أفراده المتشتتة وهو الروح الواحدة السارية في جميع أطرافه التى تتحد بها نوع اتحاد وهذه الغاية والغرض في نوع الاجتماعات المتكونة غير الدينية إنما هي غاية الحياة الدنيوية للانسان لكن على نحو الاشتراك بين الافراد لا على نحو الانفراد وهي التمتع من مزايا الحياة المادية على نحو الاجتماع. والفرق بين التمتع الاجتماعي والانفرادي من حيث الخاصية أن الانسان لو استطاع أن يعيش وحده كان مطلق العنان في كل واحد من تمتعاته حيث لا معارض له ولا رقيب إلا ما قيد به بعض جهازاته بعضا فإنه لا يقدر أن يستنشق كل الهواء فإن الرئة لا تسعه وإن اشتهاه ولا يسعه أن يأكل من المواد الغذائية لا إلى حد فإن جهاز الهاضمة لا يتحمله فهذا حاله بقياس بعض قواه وأعضائه إلى بعض وأما بالنسبة إلى إنسان آخر مثله فأذ كان لا شريك له في ما يستفيد منه من المادة على الفرض فلا سبب هناك يقتضي تضييق ميدان عمله ولا تحديد فعل من أفعاله وعمل من أعماله. وهذا بخلاف الانسان الواقع في ظرف الاجتماع وساحته فإنه لو كان مطلق العنان في إرادته وأعماله لادى ذلك إلى التمانع والتزاحم الذي فيه فساد العيش وهلاك النوع وقد بينا ذلك في مباحث النبوة السابقة أو في بيان

[ 108 ]

وهذا هو السبب الوحيد الذي يدعو إلى حكومة القانون الجارى في المجتمع غير أن المجتمعات الهمجية لا تتنبه لوضعها عن فكر وروية وإنما يكون الآداب والسنن فيها المشاجرات والمنازعات المتوفرة بين أفرادها فتضطر الجميع إلى رعاية امور تحفظ مجتمعهم بعض الحفظ ولما لم تكن مبنية على أساس مستحكم كانت في معرض النقض والابطال تتغير سريعا وتنقرض ولكن المجتمعات المتمدنة تبنيه على أساس قويم بحسب درجاتهم في المدنية والحضارة فيرفعون به التضاد والتمانع الواقع بين الارادات وأعمال المجتمع بتعديلها بوضع حدود وقيود لها ثم ركز القدرة والقوة في مركز عليه ضمان إجراء ما ينطق به القانون. ومن هنا يظهر أولا أن القانون حقيقة هو ما تعدل به ارادات الناس وأعمالهم برفع التزاحم والتمانع من بينهما بتحديدها. وثانيا أن أفراد المجتمع الذي يحكم فيه القانون أحرار فيما وراءه كما هو مقتضى تجهز الانسان بالشعور والارادة بعد التعديل ولذا كانت القوانين الحاضرة لا تتعرض لامر المعارف الالهية والاخلاق وصار هذان المهمان يتصوران بصورة يصورهما بها القانون فيتصالحان ويتوافقان معه على ما هو حكم التبعية فيعودان عاجلا أو آجلا رسوما ظاهرية فاقدة للصفاء المعنوي ولذلك السبب أيضا ما نشاهده من لعب السياسة بالدين فيوما تقضى عليه وتدحضه ويوما تميل إليه فتبالغ في إعلاء كلمته ويوما تطوى عنه كشحا فتخليه وشأنه. وثالثا أن هذه الطريقة لا تخلو عن نقص فإن القانون وإن حمل ضمان إجرائه على القدرة التي ركزها في فرد أو أفراد لكن لا ضمان على إجرائه بالاخرة بمعنى أن منبع القدرة والسلطان لو مال عن الحق وحول سلطة النوع على النوع إلى سلطة شخصه على النوع وانقلبت الدائرة على القانون لم يكن هناك ما يقهر هذا القاهر فيحوله إلى مجراه العدل وعلى هذا القول شواهد كثيرة مما شاهدناه في زماننا هذا وهو زمان الثقافة والمدنية فضلا عما لا يحصى من الشواهد التاريخية وأضف إلى هذا النقص نقصا آخر وهو خفاء نقض القانون على القوة المجرية أحيانا أو خروجه عن حومة قدرته ولنرجع إلى أول الكلام. وبالجملة الاجتماعات المدنية توحدها الغاية الواحدة التي هي التمتع من مزايا الحياة.

[ 109 ]

الدنيا وهي السعادة عندهم لكن الاسلام لما كان يرى أن الحياة الانسانية أوسع مدارا من الحياة الدنيا المادية بل في مدار حياته الحياة الاخروية التي هي الحياة ويرى أن هذه الحياة لا تنفع فيها إلا المعارف الالهية التي تنحل بجملتها إلى التوحيد ويرى أن هذه المعارف لا تنحفظ إلا بمكارم الاخلاق وطهارة النفس من كل رذيلة ويرى أن هذه الاخلاق لا تتم ولا تكمل إلا بحياة اجتماعية صالحة معتمدة على عبادة الله سبحانه والخضوع لما تقتضيه ربوبيته ومعاملة الناس على أساس العدل الاجتماعي أخذ أعني الاسلام الغاية التي يتكون عليها المجتمع البشرى ويتوحد بها دين التوحيد ثم وضع القانون الذي وضعه على أساس التوحيد ولم يكتف فيه على تعديل الارادات والافعال فقط بل تممه بالعباديات وأضاف إليها المعارف الحقة والاخلاق الفاضلة. ثم جعل ضمان إجرائها في عهدة الحكومة الاسلامية أولا ثم في عهدة المجتمع ثانيا وذلك بالتربية الصالحة علما وعملا والامر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن أهم ما يشاهد في هذا الدين ارتباط جميع أجزائه ارتباطا يؤدي إلى الوحدة التامة بينها بمعنى أن روح التوحيد سارية في الاخلاق الكريمة التي يندب إليها هذا الدين وروح الاخلاق منتشرة في الاعمال التي يكلف بها أفراد المجتمع فالجميع من أجزاء الدين الاسلامي ترجع بالتحليل إلى التوحيد والتوحيد بالتركيب يصير هو الاخلاق والاعمال فلو نزل لكان هي ولو صعدت لكانت هو إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه. فان قلت ما اورد من النقص على القوانين المدنية فيما إذا عصت القوة المجرية عن إجرائها أو فيما يخفى عليها من الخلاف مثلا وارد بعينه على الاسلام وأوضح الدليل عليه ما نشاهده من ضعف الدين وزوال سيطرته على المجتمع الاسلامي وليس إلا لفقدانه من يحمل نواميسه على الناس يوما. قلت حقيقة القوانين العامة سواء كانت الهية أو بشرية ليست إلا صورا ذهنية في أذهان الناس وعلوما تحفظها الصدور وإنما ترد مورد العمل وتقع موقع الحس بالارادات الانسانية تتعلق بها فمن الواضح أن لو عصت الارادات لم توجد في الخارج ما تنطبق عليه القوانين وإنما الشأن فيما يحفظ به تعلق هذه الارادات بالوقوع

[ 110 ]

حتى تقوم القوانين على ساقها والقوانين المدنية لا تهتم بأزيد من تعليق الافعال بالارادات أعني إرادة الاكثرية ثم لم يهتموا بما تحفظ هذه الارادة فمهما كانت الارادة حية شاعرة فاعلة جرى بها القانون وإذا ماتت من جهة انحطاط يعرض لنفوس الناس وهرم يطرأ على بنية المجتمع أو كانت حية لكنها فقدت صفة الشعور والادراك لانغمار المجتمع في الملاهي وتوسعه في الاتراف والتمتع أو كانت حية شاعرة لكنها فقدت التأثير لظهور قوة مستبدة فائقة غالبة تقهر إرادتها إرادة الاكثرية وكذا في الحوادث التي لا سبيل للقوة المجرية على الوقوف عليها كالجنايات السرية أو لا سبيل لها إلى بسط سيطرتها عليها كالحوادث الخارجة عن منطقة نفوذها ففي جميع هذه الموارد لا تنال الامة امنيتها من جريان القانون وانحفاظ المجتمع عن التفاسد والتلاشى وعمدة الانشعابات الواقعة في الامم الاوربية بعد الحرب العالمية الكبرى الاولى والثانية من أحسن الامثلة في هذا الباب. وليس ذلك أعني انتقاض القوانين وتفاسد المجتمع وتلاشيه إلا لان المجتمع لم يهتم بالسبب الحافظ لارادات الامة على قوتها وسيطرتها وهي الاخلاق العالية إذ لا تستمد الارادة في بقائها واستدامة حياتها إلا من الخلق المناسب لها كما بين ذلك في علم النفس فلو لا استقرار السنة القائمة في المجتمع واعتماد القانون الجارى فيه على أساس قويم من الاخلاق العالية كانت كشجرة اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار. واعتبر في ذلك ظهور الشيوعية فليست إلا من مواليد الديموقراطية أنتجها إتراف طبقة من طبقات المجتمع وحرمان آخرين فكان بعدا شاسعا بين نقطتي القساوة وفقد النصفة و السخط وتراكم الغيظ والحنق وكذا في الحرب العالمية التي وقعت مرة بعد مرة وهى تهدد الانسانية ثالثة وقد أفسدت الارض وأهلكت الحرث والنسل ولا عامل لها إلا غريزة الاستكبار والشره والطمع هذا. ولكن الاسلام بنى سنته الجارية وقوانينه الموضوعة على أساس الاخلاق وبالغ في تربية الناس عليها لكون القوانين الجارية في الاعمال في ضمانها وعلى عهدتها فهي مع الانسان في سره وعلانيته وخلوته وجلوته تؤدي وظيفتها وتعمل عملها أحسن مما يؤديه شرطى مراقب أو أي قوة تبذل عنايتها في حفظ النظم. نعم تعتني المعارف العمومية في هذه الممالك بتربية الناس على الاخلاق المحمودة

[ 111 ]

وتبذل جهدها في حض الناس وترغيبهم إليها لكن لا ينفعهم ذلك شيئا. أما أولا فلان المنشأ الوحيد لرذائل الاخلاق ليس إلا الاسراف والافراط في التمتع المادي والحرمان البالغ فيه وقد أعطت القوانين للناس الحرية التامة فيه فأمتعت بعضا وحرمت آخرين فهل الدعوة إلى فضائل الاخلاق والترغيب عليها إلا دعوة إلى المتناقضين أو طلبا للجمع بين الضدين ؟ على أن هؤلاء كما عرفت يفكرون تفكرا اجتماعيا ولا تزال مجتمعاتهم تبالغ في اضطهاد المجتمعات الضعيفة ودحض حقوقهم والتمتع بما في أيديهم واسترقاق نفوسهم والتوسع في التحكم عليهم ما قدروا والدعوة إلى الصلاح والتقوى مع هذه الخصيصة ليست إلا دعوة متناقضة لا تزال عقيمة. وأما ثانيا فلان الاخلاق الفاضلة أيضا تحتاج في ثباتها واستقرارها إلى ضامن يضمن حفظها وكلاءتها وليس الا التوحيد أعني القول بأن للعالم إلها واحدا ذا أسماء حسنى خلق الخلق لغاية تكميلهم و سعادتهم وهو يحب الخير والصلاح ويبغض الشر والفساد وسيجمع الجميع لفصل القضاء وتوفية الجزاء فيجازي المحسن بإحسانه والمسئ بإساءته ومن الواضح أن لو لا الاعتقاد بالمعاد لم يكن هناك سبب أصيل رادع عن اتباع الهوى والكف عن حظوظ النفس الطبيعية فانما الطبيعة الانسانية تريد وتشتهي مشتهيات نفسها لا ما ينتفع به غيرها كطبيعة الفرد الآخر إلا إذا رجع بنحو إلى مشتهى نفسها (أحسن التأمل فيه). ففيما كان للانسان مثلا تمتع في إماتة حق من حقوق الغير ولا رادع يردعه ولا مجازي يجازيه ولا لائم معاتب يلومه ويعاتبه فأي مانع يمنعه من اقتراف الخطيئة وارتكاب المظلمة وإن عظمت ما عظمت ؟ وأما ما يتوهم وكثيرا ما يخطي فيه الباحث من الروادع المختلفة كالتعلق بالوطن وحب النوع والثناء الجميل ونحو ذلك فانما هي عواطف قلبية ونزوعات باطنية لا سبب حافظا عليها إلا التعليم والتربية من غير استنادها إلى السبب الموجب فهي إذن أوصاف اتفاقية وامور عادية لا مانع معها يمنع من زوالها فلماذا يجب على الانسان أن يفدي بنفسه غيره ليتمتع بالعيش بعده وهو يرى أن الموت فناء وبطلان ؟ والثناء الجميل إنما هو في لسان آخرين ولا لذة يلتذ به الفادي بعد بطلان ذاته.

[ 112 ]

وبالجملة لا يرتاب المتفكر البصير في أن الانسان لا يقدم على حرمان لا يرجع إليه فيه جزاء ولا يعود إليه منه نفع والذي يعده ويمنيه في هذه الموارد ببقاء الذكر الحسن والثناء الجميل الخالد والفخر الباقي ببقاء الدهر فإنما هو غرور يغتر به وخدعة ينخدع بها بهيجان إحساساته وعواطفه فيخيل إليه أنه بعد موته وبطلان ذاته حاله كحاله قبل موته فيشعر بذكره الجميل فيلتذ به وليس ذلك إلا من غلط الوهم كالسكران يتسخر بهيجان إحساساته فيعفو ويبذل من نفسه وعرضه وماله أو كل كرامة له ما لا يقدم عليه لو صحا وعقل وهو سكران لا يعقل ويعد ذلك فتوه وهو سفه وجنون. فهذه العثرات وأمثالها مما لا حصن للانسان يتحصن فيه منها غير التوحيد الذي ذكرناه ولذلك وضع الاسلام الاخلاق الكريمة التي جعلها جزءا من طريقته الجارية على أساس التوحيد الذي من شؤونه القول بالمعاد ولازمه أن يلتزم الانسان بالاحسان ويجتنب الاساءة أينما كان ومتى ما كان سواء علم به أو لم يعلم وسواء حمده حامد أو لم يحمد وسواء كان معه من يحمله عليه أو يردعه عنه أو لم يكن فإن معه الله العليم الحفيظ القائم على كل نفس بما كسبت وورائه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء وفيه تجزى كل نفس بما كسبت 7 منطقان منطق التعقل ومنطق الاحساس أما منطق الاحساس فهو يدعو إلى النفع الدنيوي ويبعث إليه فإذا قارن الفعل نفع وأحس به الانسان فالاحساس متوقد شديد التوقان في بعثه وتحريكه وإذا لم يحس الانسان بالنفع فهو خامد هامد وأما منطق التعقل فإنما يبعث إلى اتباع الحق ويرى أنه أحسن ما ينتفع به الانسان أحس مع الفعل بنفع مادى أو لم يحس فإن ما عند الله خير وأبقى وقس في ذلك بين قول عنترة وهو على منطق الاحساس وقولى كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريحي. يريد إني أستثبت نفسي كلما تزلزلت في الهزاهز والمواقف المهولة من القتال بقولى لها اثبتي فإن قتلت يحمدك الناس على الثبات وعدم الانهزام وإن قتلت العدو استرحت ونلت بغيتك فالثبات خير على أي حال وبين قوله تعالى وهو على منطق التعقل قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون

[ 113 ]

قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون: التوبة - 52 يريد أن أمر ولايتنا وانتصارنا إلى الله سبحانه لا نريد في شئ مما يصيبنا من خير أو شر إلا ما وعدنا من الثواب على الاسلام له والالتزام لدينه كما قال تعالى لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا ألا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون: التوبة - 121. وإذا كان كذلك فإن قتلتمونا أو أصابنا منكم شئ كان لنا عظيم الاجر والعاقبة الحسنى عند ربنا وإن قتلناكم أو أصبنا منكم شيئا كان لنا عظيم الثواب والعاقبة الحسنى والتمكن في الدنيا من عدونا فنحن على أي حال سعداء مغبوطون ولا تتحفون لنا في قتالنا ولا تتربصون بنا في أمرنا إلا إحدى الحسنيين فنحن على الحسنى والسعادة على أي حال وأنتم على السعادة ونيل البغية بعقيدتكم على أحد التقديرين وفي إحدى الحالين وهو كون الدائرة لكم علينا فنحن نتربص بكم ما يسوؤكم وأنتم لا تتربصون بنا إلا ما يسرنا ويسعدنا. فهذان منطقان أحدهما يعني الثبات وعدم الزوال على مبنى إحساسي وهو أن للثابت أحد نفعين إما حمد الناس وإما الراحة من العدو هذا إذا كان هناك نفع عائد إلى الانسان المقاتل الذي يلقي بنفسه إلى التهلكة أما إذا لم يكن هناك نفع عائد كما لو لم يحمده الناس لعدم تقديرهم قدر الجهاد وتساوى عندهم الخدمة والخيانة أو كانت الخدمة مما ليس من شأنه أن يظهر لهم البتة أو لا هي ولا الخيانة أو لم يسترح الاحساس بفناء العدو بل إنما يستريح به الحق فليس لهذا المنطق إلا العي واللكنة. وهذه الموارد المعدودة هي الاسباب العامة في كل بغي وخيانة وجناية يقول الخائن المساهل في أمر القانون إن خدمته لا تقدر عند الناس بما يعدلها وإن الخادم والخائن عندهم سواء بل الخائن أحسن حالا وأنعم عيشا ويرى كل باغ وجان أنه سيتخلص من قهر القانون وأن القوى المراقبة لا يقدرون على الحصول عليه فيخفى أمره ويلتبس

[ 114 ]

على الناس شخصه ويعتذر كل من يتثبط ويتثاقل في إقامة الحق والثورة على أعدائه ويداهنهم بأن القيام على الحق يذلله بين الناس ويضحك منه الدنيا الحاضرة ويعدونه من بقايا القرون الوسطى أو أعصار الاساطير فإن ذكرته بشرافة النفس وطهارة الباطن رد عليك قائلا ما أصنع بشرافة النفس إذا جرت إلى نكد العيش وذلة الحياة هذا. وأما المنطق الآخر وهو منطق الاسلام فهو يبنى أساسه على اتباع الحق وابتغاء الاجر والجزاء من الله سبحانه وإنما يتعلق الغرض بالغايات والمقاصد الدنيوية في المرتبة التالية وبالقصد الثاني ومن المعلوم أنه لا يشذ عن شموله مورد من الموارد ولا يسقط كليته من العموم والاطراد فالعمل أعم من الفعل والترك إنما يقع لوجهه تعالى وإسلاما له واتباعا للحق الذي أراده وهو الحفيظ العليم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ولا عاصم منه ولا يخفى عليه شئ في الارض ولا في السماء والله بما تعملون خبير. فعلى كل نفس فيما وردت مورد عمل أو صدرت رقيب شهيد قائم بما كسبت سواء شهده الناس أو لا حمدوه أو لا قدروا فيه على شئ أو لا. وقد بلغ من حسن تأثير التربية الاسلامية أن الناس كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيعترفون عنده بجرائمهم وجناياتهم بالتوبة ويذوقون مر الحدود التي تقام عليهم القتل فما دونه ابتغاء رضوان الله وتطهيرا لانفسهم من قذارة الذنوب ودرن السيئات وبالتأمل في هذه النوادر الواقعة يمكن للباحث أن ينتقل إلى عجيب تأثير البيان الدينى في نفوس الناس وتعويده لهم السماحة في ألذ الاشياء وأعزها عندهم وهي الحياة وما في تلوها ولو لا أن البحث قرآني لاوردنا طرفا من الامثلة التاريخية فيه. 8 ما معنى ابتغاء الاجر عند الله والاعراض عن غيره ربما يتوهم المتوهم أن جعل الاجر الاخروي وهو الغرض العام في حياة الانسان الاجتماعية يوجب سقوط الاغراض الحيوية التي تدعو إليه البنية الطبيعية الانسانية وفيه فساد نظام الاجتماع والانحطاط إلى منحط الرهبانية وكيف يمكن الانقطاع إلى مقصد من المقاصد مع التحفظ على المقاصد المهمة الاخرى وهل هذا إلا تناقض. لكنه توهم ناش من الجهل بالحكمة الالهية والاسرار التي تكشف عنها المعارف القرآنية فإن الاسلام يبني تشريعه على أصل التكوين كما مر ذكره مرارا في المباحث

[ 115 ]

السابقة من هذا الكتاب قال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم: الروم - 30. وحاصله أن سلسلة الاسباب الواقعية التكوينية تعاضدت على إيجاد النوع الانساني في ذيلها وتوفرت على سوقه نحو الغاية الحيوية التي هيأت له فيجب له أن يبني حياته في ظرف الكدح والاختيار على موافقة الاسباب فيما تريد منه وتسوقه إليه حتى لا تناقضها حياته فيؤديه ذلك إلى الهلاك والشقاء وهذا لو تفهمه المتوهم هو الدين الاسلامي بعينه ولما كان هناك فوق الاسباب سبب وحيد هو الموجد لها المدبر لامرها فيما دق وجل وهو الله سبحانه الذي هو السبب التام فوق كل سبب بتمام معنى الكلمة كان الواجب على الانسان الاسلام له والخضوع لامره وهذا معنى كون التوحيد هو الاساس الوحيد للدين الاسلامي. ومن هنا يظهر أن حفظ كلمة التوحيد والاسلام لله وابتغاء وجهه في الحياة جرى على موافقة الاسباب طرا وإعطاء كل ذي حق منها حقه من غير شرك ولا غفلة فعند المرء المسلم غايات وأغراض دنيوية واخرى اخروية وله مقاصد مادية واخرى معنوية لكنه لا يعتني في أمرها بازيد مما ينبغي من الاعتناء والاهتمام ولذلك بعينه نرى ان الاسلام يندب إلى توحيد الله سبحانه والانقطاع إليه والاخلاص له والاعراض عن كل سبب دونه ومبتغي غيره ومع ذلك يأمر الناس باتباع نواميس الحياة والجري على المجاري الطبيعية. ومن هنا يظهر أن أفراد المجتمع الاسلامي هم السعداء بحقيقة السعادة في الدنيا وفي الآخرة وأن غايتهم وهو ابتغاء وجه الله في الاعمال لا تزاحم سائر الغايات الحيوية إذا ظهرت واستوثرت. ومن هنا يظهر أيضا فساد توهم آخر وهو الذي ذكره جمع من علماء الاجتماع من الباحثين أن حقيقة الدين والغرض الاصلي منه هو إقامة العدالة الاجتماعية والعباديات فروع متفرعة عليها فالذي يقيمها فهو على الدين ولو لم يتلبس بعقيدة ولا عبودية. والباحث المتدبر في الكتاب والسنة وخاصة في السيرة النبوية لا يحتاج في الوقوف على بطلان هذا التوهم إلى مؤونة زائدة وتكلف استدلال على أن هذا الكلام الذي

[ 116 ]

يتضمن إسقاط التوحيد وكرائم الاخلاق من مجموعة النواميس الدينية فيه إرجاع للغاية الدينية التي هي كلمة التوحيد إلى الغاية المدنية التي هي التمتع وقد عرفت أنهما غايتان مختلفتان لا ترجع إحديهما إلى الاخرى لا في أصلها ولا في فروعها وثمراتها. 9 - ما معنى الحرية في الاسلام ؟ كلمة الحرية على ما يراد بها من المعنى لا يتجاوز عمرها في دورانها على الالسن عدة قرون ولعل السبب المبتدع لها هي النهضة المدنية الاوربية قبل بضعة قرون لكن معناها كان جائلا في الاذهان وامنية من أماني القلوب منذ أعصار قديمة. والاصل الطبيعي التكويني الذي ينتشي منه هذا المعنى هو ما تجهز به الانسان في وجوده من الارادة الباعثة إياه على العمل فإنها حالة نفسية في إبطالها إبطال الحس والشعور المنجر إلى إبطال الانسانية. غير أن الانسان لما كان موجودا اجتماعيا تسوقه طبيعته إلى الحياة في المجتمع وإلقاء دلوه في الدلاء بإدخال إرادته في الارادات وفعله في الافعال المنجر إلى الخضوع لقانون يعدل الارادات والاعمال بوضع حدود لها فالطبيعة التي أعطته إطلاق الارادة والعمل هي بعينها تحدد الارادة والعمل وتقيد ذلك الاطلاق الابتدائي والحرية الاولية. والقوانين المدنية الحاضرة لما وضعت بناء أحكامها على أساس التمتع المادي كما عرفت أنتج ذلك حرية الامة في أمر المعارف الاصلية الدينية من حيث الالتزام بها وبلوازمها وفي أمر الاخلاق وفي ما وراء القوانين من كل ما يريده ويختاره الانسان من الارادات والاعمال فهذا هو المراد بالحرية عندهم. وأما الاسلام فقد وضع قانونه على أساس التوحيد كما عرفت ثم في المرتبة التالية على أساس الاخلاق الفاضلة ثم تعرضت لكل يسير وخطير من الاعمال الفردية والاجتماعية كائنة ما كانت فلا شئ مما يتعلق بالانسان أو يتعلق به الانسان إلا وللشرع الاسلامي فيه قدم أو أثر قدم فلا مجال ولا مظهر للحرية بالمعنى المتقدم فيه. نعم للانسان فيه الحرية عن قيد عبودية غير الله سبحانه وهذا وإن كان لا يزيد على كلمة واحدة غير أنه وسيع المعنى عند من بحث بحث تعمق في السنة الاسلامية

[ 117 ]

والسيرة العملية التي تندب إليها وتقرها بين أفراد المجتمع وطبقاته ثم قاس ذلك إلى ما يشاهد من سنن السؤدد والسيادة والتحكمات في المجتمعات المتمدنة بين طبقاتها وأفرادها أنفسها وبين كل امه قوية وضعيفة. وأما من حيث الاحكام فالتوسعة فيما أباحه الله من طيبات الرزق ومزايا الحياة المعتدلة من غير إفراط أو تفريط قال تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق الآية " الاعراف - 32 " وقال تعالى خلق لكم ما في الارض جميعا " البقرة: 29 وقال تعالى وسخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعا منه: الجاثية - 13. ومن عجيب الامر ما رامه بعض الباحثين والمفسرين وتكلف فيه من إثبات حرية العقيدة في الاسلام بقوله تعالى لا إكراه في الدين " البقرة - 256 " وما يشابهه من الآيات الكريمة. وقد مر البحث التفسيري عن معنى الآية في سورة البقرة والذي نضيف إليها هيهنا أنك عرفت أن التوحيد أساس جميع النواميس الاسلامية ومع ذلك كيف يمكن أن يشرع حرية العقائد ؟ وهل ذلك إلا التناقض الصريح ؟ فليس القول بحرية العقيدة إلا كالقول بالحرية عن حكومة القانون في القوانين المدنية بعينه. وبعبارة اخرى العقيدة بمعنى حصول إدراك تصديقي ينعقد في ذهن الانسان ليس عملا اختياريا للانسان حتى يتعلق به منع أو تجويز أو استعباد أو تحرير وإنما الذي يقبل الحظر والاباحة هو الالتزام بما تستوجبه العقيدة من الاعمال كالدعوة إلى العقيدة وإقناع الناس بها وكتابتها ونشرها وإفساد ما عند الناس من العقيدة والعمل المخالفين لها فهذه هي التي تقبل المنع والجواز ومن المعلوم أنها إذا خالفت مواد قانون دائر في المجتمع أو الاصل الذي يتكي عليه القانون لم يكن مناص من منعها من قبل القانون ولم يتك الاسلام في تشريعه على غير دين التوحيد (التوحيد والنبوة والمعاد) وهو الذي يجتمع عليه المسلمون واليهود والنصارى والمجوس (أهل الكتاب) فليست الحرية إلا فيها وليست فيما عداها إلا هدما لاصل الدين نعم هيهنا حرية اخرى وهي الحرية من حيث إظهار العقيدة في مجرى البحث وسنبحث عنها في الفصل 14 الآتي. 10 - ما هو الطريق إلى التحول والتكامل في المجتمع الاسلامي ؟ ربما أمكن

[ 118 ]

أن يقال هب أن السنة الاسلامية سنة جامعة للوازم الحياة السعيدة والمجتمع الاسلامي مجتمع سعيد مغبوط لكن هذه السنة لجامعيتها وانتفاء حرية العقيدة فيها تستوجب ركود المجتمع ووقوفه عن التحول والتكامل وهو من عيوب المجتمع الكامل كما قيل فإن السير التكاملي يحتاج إلى تحقق القوى المتضادة في الشئ وتفاعلها حتى تولد بالكسر والانكسار مولودا جديدا خاليا من نواقص العوامل المولدة التي زالت بالتفاعل فإذا فرض أن الاسلام يرفع الاضداد والنواقص وخاصة العقائد المتضادة من أصلها فلازمه أن يتوقف المجتمع الذي يكونه عن السير التكاملي. اقول وهو من إشكالات المادية التحولية (ماترياليسم ديالكتيك) وفيه خلط عجيب فإن العقائد والمعارف الانسانية على نوعين نوع يقبل التحول والتكامل وهو العلوم الصناعية التي تستخدم في طريق ترفيع قواعد الحياة المادية وتذليل الطبيعة العاصية للانسان كالعلوم الرياضية والطبيعية وغيرهما وهذه العلوم والصناعات وما في عدادها كلما تحولت من النقص إلى الكمال أوجب ذلك تحول الحياة الاجتماعية لذلك. ونوع آخر لا يقبل التحول وإن كان يقبل التكامل بمعنى آخر وهو العلوم والمعارف العامة الالهية التي تقضي في المبدأ والمعاد والسعادة والشقاء وغير ذلك قضاءا قاطعا واقفا غير متغير ولا متحول وإن قبلت الارتقاء والكمال من حيث الدقة والتعمق وهذه العلوم والمعارف لا تؤثر في الاجتماعات وسنن الحياة إلا بنحو كلي فوقوف هذه المعارف والآراء وثبوتها على حال واحد لا يوجب وقوف الاجتماعات عن سيرها الارتقائي كما نشاهد أن عندنا آراءا كثيرة كلية ثابتة على حال واحد من غير أن يقف اجتماعنا لذلك عن سيره كقولنا إن الانسان يجب أن ينبعث إلى العمل لحفظ حياته وإن العمل يجب أن يكون لنفع عائد إلى الانسان وإن الانسان يجب أن يعيش في حال الاجتماع وقولنا إن العالم موجود حقيقة لا وهما وإن الانسان جزء من العالم وإن الانسان جزء من العالم الارضي وإن الانسان ذو أعضاء وأدوات وقوى إلى غير ذلك من الآراء والمعلومات الثابتة التي لا يوجب ثبوتها ووقوفها وقوف الاجتماعات وركودها ومن هذا القبيل القول بأن للعالم إلها واحدا شرع للناس شرعا جامعا لطرق السعادة من طريق النبوة وسيجمع الجميع إلى يوم يوفيهم فيه جزاء أعمالهم وهذه هي الكلمة الوحيدة التي بنى عليها الاسلام مجتمعه وتحفظ عليها كل التحفظ ومن المعلوم أنه مما لا يوجب

[ 119 ]

باصطكاك ثبوته ونفيه وإنتاج رأي آخر فيه إلا انحطاط المجتمع كما بين مرارا وهذا شأن جميع الحقائق الحقة المتعلقة بما وراء الطبيعة فإنكارها بأي وجه لا يفيد للمجتمع إلا انحطاطا وخسة. والحاصل أن المجتمع البشري لا يحتاج في سيره الارتقائي إلا إلى التحول والتكامل يوما فيوما في طرق الاستفادة من مزايا الطبيعة وهذا إنما يتحقق بالبحث الصناعي المداوم وتطبيق العمل على العلم دائما والاسلام لا يمنع من ذلك شيئا. وأما تغير طريق إدارة المجتمعات وسنن الاجتماع الجارية م كالاستبداد الملوكي والديموقراطية والكمونيزم ونحوها فليس بلازم إلا من جهة نقصها وقصورها عن إيفاء الكمال الانساني الاجتماعي المطلوب لا من جهة سيرها من النقص إلى الكمال فالفرق بينها لو كان فإنما هو فرق الغلط والصواب لا فرق الناقص والكمال فإذا استقر أمر السنة الاجتماعية على ما يقصده الانسان بفطرته وهو العدالة الاجتماعية واستظل الناس تحت التربية الجيدة بالعلم النافع والعمل الصالح ثم أخذوا يسيرون مرتاحين ناشطين نحو سعادتهم بالارتقاء في مدارج العلم والعمل ولا يزالون يتكاملون ويزيدون تمكنا واتساعا في السعادة فما حاجتهم إلى تحول السنة الاجتماعية زائدا على ذلك ؟ ومجرد وجوب التحول على الانسان من كل جهة حتى فيما لا يحتاج فيه إلى التحول مما لا ينبغي أن يقضي به ذو نظر وبصيرة. فان قلت لا مناص من عروض التحول في جميع ما ذكرت أنه مستغن عنه كالاعتقادات والاخلاق الكلية ونحوها فإنها جميعا تتغير بتغير الاوضاع الاجتماعية والمحيطات المختلفة ومرور الازمنة فلا يجوز أن ينكر أن الانسان الجديد تغاير أفكاره أفكار الانسان القديم وكذا الانسان يختلف نحو تفكره بحسب اختلاف مناطق حياته كالاراضي الاستوائية والقطبية والنقاط المعتدلة وكذا بتفاوت أوضاع حياته من خادم ومخدوم وبدوي وحضري ومثر ومعدم وفقير وغني ونحو ذلك فالافكار والآراء تختلف باختلاف العوامل وتتحول بتحول الاعصار بلا شك كائنة ما كانت. قلت الاشكال مبني على نظرية نسبية العلوم والآراء الانسانية ولازمها كون الحق والباطل والخير والشر امورا نسبية إضافية فالمعارف الكلية النظرية المتعلقة بالمبدء والمعاد وكذا الآراء الكلية العملية كالحكم بكون الاجتماع خيرا للانسان وكون

[ 120 ]

العدل خيرا (حكما كليا لا من حيث انطباقه على المورد) تكون أحكاما نسبية متغيرة بتغير الازمنة والاوضاع والاحوال وقد بينا في محله فساد هذه النظرية من حيث كليتها. وحاصل ما ذكرناه هناك أن النظرية غير شاملة للقضايا الكلية النظرية وقسم من الآراء الكلية العملية. وكفى في بطلان كليتها أنها لو صحت أي كانت كلية مطلقة ثابتة أثبتت قضية مطلقة غير نسبية وهي نفسها ولو لم تكن كلية مطلقة بل قضية جزئية أثبتت بالاستلزام قضية كلية مطلقة فكليتها باطلة على أي حال وبعبارة اخرى لو صح أن " كل رأي واعتقاد يجب أن يتغير يوما " وجب أن يتغير نفس هذا الرأي يوما أي لا يتغير بعض الاعتقادات أبدا فافهم ذلك. 11 - هل الاسلام بشريعته يفي باسعاد هذه الحياة الحاضرة ؟ ربما يقال هب أن الاسلام لتعرضه لجميع شؤون الانسانية الموجودة في عصر نزول القرآن كان يكفي في إيصاله مجتمع ذاك العصر إلى سعادتهم الحقيقية وجميع أمانيهم في الحياة لكن مرور الزمان غير طرق الحياة الانسانية فالحياة الثقافية والعيشة الصناعية في حضارة اليوم لا تشبه الحياة الساذجة قبل أربعة عشر قرنا المقتصرة على الوسائل الطبيعية الابتدائية فقد بلغ الانسان إثر مجاهداته الطويلة الشاقة مبلغا من الارتقاء والتكامل المدني لو قيس إلى ما كان عليه قبل عدة قرون كان كالقياس بين نوعين متبائنين فكيف تفي القوانين الموضوعة لتنظيم الحياة في ذلك العصر للحياة المتشكلة العبقرية اليوم ؟ وكيف يمكن أن تحمل كل من الحياتين أثقال الاخرى ؟. والجواب أن الاختلاف بين العصرين من حيث صورة الحياة لا يرجع إلى كليات شؤونها وإنما هو من حيث المصاديق والموارد وبعبارة اخرى يحتاج الانسان في حياته إلى غذاء يتغذى به ولباس يلبسه ودار يقطن فيه ويسكنه ووسائل تحمله وتحمل أثقاله وتنقلها من مكان إلى مكان ومجتمع يعيش بين أفراده وروابط تناسلية وتجارية وصناعية وعملية وغير ذلك وهذه حاجة كلية غير متغيرة ما دام الانسان إنسانا ذا هذه الفطرة والبنية وما دام حياته هذه الحياة الانسانية والانسان الاولي وإنسان هذا اليوم في ذلك على حد سواء. وإنما الاختلاف بينهما من حيث مصاديق الوسائل التي يرفع الانسان بها حوائجه المادية ومن حيث مصاديق الحوائج حسب ما يتنبه لها وبوسائل رفعها.

[ 121 ]

فقد كان الانسان الاولي مثلا يتغذى بما يجده من الفواكه والنبات ولحم الصيد على وجه بسيط ساذج وهو اليوم يهيئ منها ببراعته وابتداعه الوفا من ألوان الطعام والشراب ذات خواص تستفيد منها طبيعته وألوان يستلذ منها بصره وطعوم يستطيبها ذوقه وكيفيات يتنعم بها لمسه وأوضاع وأحوال اخرى يصعب إحصاؤها وهذا الاختلاف الفاحش لا يفرق الثاني من الاول من حيث إن الجميع غذاء يتغذى به الانسان لسد جوعه وإطفاء نائرة شهوته. وكما أن هذه الاعتقادات الكلية التي كانت عند الانسان أولا لم تبطل بعد تحوله من عصر إلى عصر بل انطبق الاول على الآخر انطباقا كذلك القوانين الكلية الموضوعة في الاسلام طبق دعوة الفطرة واستدعاء السعادة لا تبطل بظهور وسيله مكان وسيلة ما دام الوفاق مع أصل الفطرة محفوظا من غير تغير وانحراف وأما مع المخالفة فالسنة الاسلامية لا توافقها سواء في ذلك العصر القديم والعصر الحديث. وأما الاحكام الجزئية المتعلقة بالحوادث الجارية التي تحدث زمانا وزمانا وتتغير سريعا بالطبع كالاحكام المالية والانتظامية المتعلقة بالدفاع وطرق تسهيل الارتباطات والمواصلات والانتظامات البلدية ونحوها فهي مفوضة إلى اختيار الوالي ومتصدي أمر الحكومة فإن الوالي نسبته إلى ساحة ولايته كنسبة الرجل إلى بيته فله أن يعزم ويجري فيها ما لرب البيت أن يتصرف به في بيته وفيما أمره إليه فلوالي الامر أن يعزم على امور من شؤون المجتمع في داخله أو خارجه مما يتعلق بالحرب أو السلم مالية أو غير مالية يراعي فيها صلاح حال المجتمع بعد المشاورة مع المسلمين كما قال تعالى وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله: آل عمران - 159 كل ذلك في الامور العامة. وهذه أحكام وعزمات جزئية تتغير بتغير المصالح والاسباب التي لا تزال يحدث منها شئ ويزول منها شئ غير الاحكام الالهية التي يشتمل عليها الكتاب والسنة ولا سبيل للنسخ إليها ولبيانه التفصيلي محل آخر. 12 - من الذي يتقلد ولاية المجتمع في الاسلام وما سيرته ؟ كان ولاية أمر المجتمع الاسلامي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وافتراض طاعته صلى الله عليه وآله وسلم على الناس واتباعه صريح القرآن الكريم.

[ 122 ]

قال تعالى وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول: التغابن - 12 وقال تعالى لتحكم بين الناس بما أريك الله: النساء - 105 وقال تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم: الاحزاب - 6 وقال تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله: آل عمران - 31 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التى يتضمن كل منها بعض شؤون ولايته العامة في المجتمع الاسلامي أو جميعها. والوجه الوافى لغرض الباحث في هذا الباب أن يطالع سيرته صلى الله عليه وآله وسلم ويمتلئ منه نظرا ثم يعود إلى مجموع ما نزلت من الآيات في الاخلاق والقوانين المشرعة في الاحكام العبادية والمعاملات والسياسات وسائر المرابطات والمعاشرات فإن هذا الدليل المتخذ بنحو الانتزاع من ذوق التنزيل الالهي له من اللسان الكافي والبيان الوافى ما لا يوجد في الجملة والجملتين من الكلام البتة وهيهنا نكتة اخرى يجب على الباحث الاعتناء بأمرها وهو أن عامة الآيات المتضمنة لاقامة العبادات والقيام بأمر الجهاد وإجراء الحدود والقصاص وغير ذلك توجه خطاباتها إلى عامة المؤمنين دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة كقوله تعالى وأقيموا الصلاة: النساء - 77 وقوله وأنفقوا في سبيل الله: البقرة - 195 وقوله كتب عليكم الصيام: البقرة - 183 وقوله ولتكن منكم امة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر: آل عمران - 104 وقوله وجاهدوا في سبيله: المائدة - 35 وقوله وجاهدوا في الله حق جهاده: الحج - 78 وقوله الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما: النور - 2 وقوله والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما: المائدة - 38 وقوله ولكم في القصاص حيوة: البقرة - 179 وقوله وأقيموا الشهادة لله: الطلاق - 2 وقوله واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا: آل عمران - 103 وقوله أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه: الشورى - 13 وقوله وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين: آل عمران - 144 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. ويستفاد من الجميع أن الدين صبغة اجتماعية حمله الله على الناس ولا يرضى لعباده الكفر ولم يرد إقامته إلا منهم بأجمعهم فالمجتمع المتكون منهم أمره إليهم من غير

[ 123 ]

مزية في ذلك لبعضهم ولا اختصاص منهم ببعضهم والنبى ومن دونه في ذلك سواء قال تعالى أنى لا اضيع عمل عامل منكم من ذكر أو انثى بعضكم من بعض: آل عمران - 195 فإطلاق الآية تدل على أن التأثير الطبيعي الذى لاجزاء المجتمع الاسلامي في مجتمعهم مراعى عند الله سبحانه تشريعا كما راعاه تكوينا وأنه تعالى لا يضيعه وقال تعالى إن الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين: الاعراف - 128 نعم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة والهداية والتربية قال تعالى يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة: الجمعة - 2 فهو صلى الله عليه وآله وسلم المتعين من عند الله للقيام على شأن الامة وولاية امورهم في الدنيا والآخرة وللامامة لهم ما دام حيا. لكن الذى يجب أن لا يغفل عنه الباحث أن هذه الطريقة غير طريقة السلطة الملوكية التى تجعل مال الله فيئا لصاحب العرش وعباد الله أرقاء له يفعل بهم ما يشاء ويحكم فيهم ما يريد وليست هي من الطرق الاجتماعية التى وضعت على أساس التمتع المادى من الديموقراطية وغيرها فإن بينها وبين الاسلام فروقا بينه مانعة من التشابه والتماثل. ومن أعظمها أن هذه المجتمعات لما بنيت على أساس التمتع المادى نفخت في قالبها روح الاستخدام والاستثمار وهو الاستكبار الانساني الذى يجعل كل شئ تحت إرادة الانسان وعمله حتى الانسان بالنسبة إلى الانسان ويبيح له طريق الوصول إليه والتسلط على ما يهواه ويأمله منه لنفسه وهذا بعينه هو الاستبداد الملوكى في الاعصار السالفة وقد ظهرت في زى الاجتماع المدنى على ما هو نصب أعيننا اليوم من مظالم الملل القوية وإجحافاتهم وتحكماتهم بالنسبة إلى الامم الضعيفة وعلى ما هو في ذكرنا من أعمالهم المضبوطة في التواريخ. فقد كان الواحد من الفراعنة والقياصرة والاكاسرة يجرى في ضعفاء عهده بتحكمه ولعبه كل ما يريده ويهواه ويعتذر لو اعتذر أن ذلك من شؤون السلطنة ولصلاح المملكة وتحكيم أساس الدولة ويعتقد أن ذلك حق نبوغه وسيادته ويستدل عليه بسيفه كذلك إذا تعمقت في المرابطات السياسية الدائرة بين أقوياء

[ 124 ]

الامم وضعفائهم اليوم وجدت أن التاريخ وحوادثه كرت علينا ولن تزال تكر غير أنها أبدلت الشكل السابق الفردى بالشكل الحاضر الاجتماعي والروح هي الروح والهوى هو الهوى وأما الاسلام فطريقته بريئة من هذه الاهواء ودليله السيرة النبوية في فتوحاته وعهوده. ومنها أن أقسام الاجتماعات على ما هو مشهود ومضبوط في تاريخ هذا النوع لا تخلو عن وجود تفاضل بين أفرادها مؤد إلى الفساد فأن اختلاف الطبقات بالثروة أو الجاه والمقام المؤدى بالاخرة إلى بروز الفساد في المجتمع من لوازمها لكن المجتمع الاسلامي مجتمع متشابه الاجزاء لا تقدم فيها للبعض على البعض ولا تفاضل ولا تفاخر ولا كرامة وإنما التفاوت الذى تستدعيه القريحة الانسانية ولا تسكت عنه إنما هو في التقوى وأمره إلى الله سبحانه لا إلى الناس قال تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم: الحجرات - 13 وقال تعالى فاستبقوا الخيرات: البقرة - 148 فالحاكم والمحكوم والامير والمأمور والرئيس والمرؤوس والحر والعبد والرجل والمرأة والغنى والفقير والصغير والكبير في الاسلام في موقف سواء من حيث جريان القانون الدينى في حقهم ومن حيث انتفاء فواصل الطبقات بينهم في الشؤون الاجتماعية على ما تدل عليه السيرة النبوية على سائرها السلام والتحية. ومنها أن القوة المجرية في الاسلام ليست هي طائفة متميزة في المجتمع بل تعم جميع أفراد المجتمع فعلى كل فرد أن يدعو إلى الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهناك فروق اخر لا يخفى على الباحث المتتبع. هذا كله في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأما بعده فالجمهور من المسلمين على أن انتخاب الخليفة الحاكم في المجتمع إلى المسلمين والشيعة من المسلمين على أن الخليفة منصوص من جانب الله ورسوله وهم اثنا عشر إماما على التفصيل المودوع في كتب الكلام. ولكن على أي حال أمر الحكومة الاسلامية بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعد غيبة الامام كما في زماننا الحاضر إلى المسلمين من غير إشكال والذى يمكن أن يستفاد من الكتاب في ذلك أن عليهم تعيين الحاكم في المجتمع على سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهى سنة الامامة دون الملوكية والامبراطورية والسير فيهم بحفاظة الاحكام من غير تغيير

[ 125 ]

والتولى بالشور في غير الاحكام من حوادث الوقت والمحل كما تقدم والدليل على ذلك كله جميع ما تقدم من الآيات في ولاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم مضافة إلى قوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة: الاحزاب - 21. 13 ثغر المملكة الاسلاميه هو الاعتقاد دون الحدود الطبيعية أو الاصطلاحية ألغى الاسلام أصل الانشعاب القومي من أن يؤثر في تكون المجتمع أثره ذاك الانشعاب الذى عامله الاصلى البدوية والعيش بعيشة القبائل والبطون أو اختلاف منطقة الحياة والوطن الارضى وهذان أعنى البدوية واختلاف مناطق الارض في طبائعها الثانوية من حرارة وبرودة وجدب وخصب وغيرهما هما العاملان الاصليان لانشعاب النوع الانساني شعوبا وقبائل واختلاف ألسنتهم وألوانهم على ما بين في محله. ثم صارا عاملين لحيازة كل قوم قطعة من قطعات الارض على حسب مساعيهم في الحياة وبأسهم وشدتهم وتخصيصها بأنفسهم وتسميتها وطنا يألفونه ويذبون عنه بكل مساعيهم. وهذا وإن كان أمرا ساقهم إلى ذلك الحوائج الطبيعية التى يدفعهم الفطرة إلى رفعها غير أن فيه خاصة تنافى ما يستدعيه أصل الفطرة الانسانية من حياة النوع في مجتمع واحد فإن من الضرورى أن الطبيعة تدعو إلى اجتماع القوى المتشتتة وتألفها وتقويها بالتراكم والتوحد لتنال ما تطلبه من غايتها الصالحة بوجه أتم وأصلح وهذا أمر مشهود من حال المادة الاصلية حتى تصير عنصرا ثم... ثم نباتا ثم حيوانا ثم انسانا. والانشعابات بحسب الاوطان تسوق الامة إلى توحد في مجتمعهم يفصله عن المجتمعات الوطنية الاخرى فيصير واحدا منفصل الروح والجسم عن الآحاد الوطنية الاخرى فتنعزل الانسانية عن التوحد والتجمع وتبتلي من التفرق والتشتت بما كانت تفر منه ويأخذ الواحد الحديث يعامل سائر الآحاد الحديثة أعنى الآحاد الاجتماعية بما يعامل به الانسان سائر الاشياء الكونية من استخدام واستثمار وغير ذلك والتجريب الممتد بامتداد الاعصار منذ أول الدنيا إلى يومنا هذا يشهد بذلك وما نقلناه من الآيات في مطاوي الابحاث السابقة يكفى في استفادة ذلك من القرآن الكريم. وهذا هو السبب في أن ألغى الاسلام هذه الانشعابات والتشتتات والتميزات

[ 126 ]

وبنى الاجتماع على العقيدة دون الجنسية والقومية والوطن ونحو ذلك حتى في مثل الزوجية والقرابة في الاستمتاع والميراث فإن المدار فيهما على الاشتراك في التوحيد لا المنزل والوطن مثلا. ومن أحسن الشواهد على هذا ما نراه عند البحث عن شرائع هذا الدين أنه لم يهمل أمره في حال من الاحوال فعلى المجتمع الاسلامي عند أوج عظمته واهتزاز لواء غلبته أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه وعليه عند الاضطهاد والمغلوبية ما يستطيعه من إحياء الدين وإعلاء كلمته وعلى هذا القياس حتى أن المسلم الواحد عليه أن يأخذ به ويعمل منه ما يستطيعه ولو كان بعقد القلب في الاعتقاديات والاشارة في الاعمال المفروضة عليه. ومن هنا يظهر أن المجتمع الاسلامي قد جعل جعلا يمكنه أن يعيش في جميع الاحوال وعلى كل التقادير من حاكمية ومحكومية وغالبية ومغلوبية وتقدم وتأخر وظهور وخفاء وقوة وضعف ويدل عليه من القرآن آيات التقية بالخصوص قال تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان الآية: النحل - 106 وقوله إلا أن تتقوا منهم تقاة: آل عمران - 28 وقوله فاتقوا الله ما استطعتم (1) وقوله يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون: آل عمران - 102. 14 الاسلام اجتماعي بجميع شؤونه يدل على ذلك قوله تعالى وصابروا ورابطوا لعلكم تفلحون الآية على ما مر بيانه وآيات أخر كثيرة. وصفة الاجتماع مرعية مأخوذة في الاسلام في جميع ما يمكن أن يؤدى بصفة الاجتماع من أنواع النواميس والاحكام بحسب ما يليق بكل منها من نوع الاجتماع وبحسب ما يمكن فيه من الامر والحث الموصل إلى الغرض فينبغي للباحث أن يعتبر الجهتين معا في بحثه فالجهة الاولى من الاختلاف ما نرى أن الشارع شرع الاجتماع مستقيما في الجهاد إلى حد يكفى لنجاح الدفاع وهذا نوع وشرع وجوب الصوم والحج مثلا للمستطيع غير المعذور ولازمه اجتماع الناس للصيام والحج وتمم ذلك بالعيدين الفطر والاضحى


(1) سورة التغابن: 16.

[ 127 ]

والصلاة المشروعة فيهما وشرع وجوب الصلوات اليومية عينيا لكل مكلف من غير أن يوجب فيها جماعة وتدارك ذلك بوجوب الجماعة في صلاة الجمعة في كل أسبوع مرة صلاة جماعة واحدة في كل أربعة فراسخ وهذا نوع آخر والجهة الثانية ما نرى أن الشارع شرع وجوب الاجتماع في أشياء بلا واسطة كما عرفت وألزم على الاجتماع في امور اخرى غير واجبة لم يوجب الاجتماع فيها مستقيما كصلاة الفريضة مع الجماعة فإنها مسنونة مستحبة غير أن السنة جرت على أدائها جماعة وعلى الناس أن يقيموا السنة (1) وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: في قوم من المسلمين تركوا الحضور في الجماعة - ليوشك قوم يدعون الصلاة في المسجد أن نأمر بحطب - فيوضع على أبوابهم فتوقد عليهم نار فتحرق عليهم بيوتهم وهذا هو السبيل في جميع ما سنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيجب حفظ سنته على المسلمين بأي وسيلة أمكنت لهم وبأي قيمة حصلت. وهذه امور سبيل البحث فيها الاستنباط الفقهى من الكتاب والسنة والمتصدي لبيانها الفقه الاسلامي. وأهم ما يجب هيهنا هو عطف عنان البحث إلى جهة اخرى وهى اجتماعية الاسلام في معارفه الاساسية بعد الوقوف على أنه يراعى الاجتماع في جميع ما يدعو الناس إليه من قوانين الاعمال العبادية والمعاملية والسياسية ومن الاخلاق الكريمة ومن المعارف الاصلية. نرى الاسلام يدعو الناس إلى دين الفطرة بدعوى أنه الحق الصريح الذى لا مرية فيه والآيات القرآنية الناطقة بذلك كثيرة مستغنية عن الايراد وهذا أول التألف والتأنس مع مختلف الافهام فإن الافهام على اختلافها وتعلقها بقيود الاخلاق والغرائز لا تختلف في أن الحق يجب اتباعه. ثم نراه يعذر من لم تقم عليه البينة ولم تتضح له المحجة وإن قرعت سمعه الحجة قال تعالى ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة: الانفال - 42 وقال تعالى إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فاولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا: النساء - 99 انظر إلى إطلاق الآية ومكان قوله لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا وهذا يعطى الحرية


(1) باب كراهة ترك حضور الجماعة من كتاب الصلاة من الوسائل.

[ 128 ]

التامة لكل متفكر يرى نفسه صالحة للتفكر مستعدة للبحث والتنقير أن يتفكر فيما يتعلق بمعارف الدين ويتعمق في تفهمها والنظر فيها على أن الآيات القرآنية مشحونة بالحث والترغيب في التفكر والتعقل والتذكر. ومن المعلوم أن اختلاف العوامل الذهنية والخارجية مؤثرة في اختلاف الافهام من حيث تصورها وتصديقها ونيلها وقضائها وهذا يؤدى إلى الاختلاف في الاصول التى بنى على أساسها المجتمع الاسلامي كما تقدم. إلا أن الاختلاف بين إنسانين في الفهم على ما يقضى به فن معرفة النفس وفن الاخلاق وفن الاجتماع يرجع ألى أحد امور أما إلى اختلاف الاخلاق النفسانية والصفات الباطنة من الملكات الفاضلة والردية فإن لها تأثيرا وافرا في العلوم والمعارف الانسانية من حيث الاستعدادات المختلفة التى تودعها في الذهن فما إدارك الانسان المنصف وقضاؤه الذهنى كادراك الشموس المتعسف ولا نيل المعتدل الوقور للمعارف كنيل العجول والمتعصب وصاحب الهوى والهمجى الذى يتبع كل ناعق والغوى الذي لا يدرى أين يريد ولا أنى يراد به والتربية الدينية تكفى مؤونة هذا الاختلاف فإنها موضوعة على نحو يلائم الاصول الدينية من المعارف والعلوم وتستولد من الاخلاق ما يناسب تلك الاصول وهى مكارم الاخلاق قال تعالى كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم: الاحقاف - 30 وقال تعالى يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم: المائدة - 16 وقال تعالى والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين: العنكبوت - 69 وانطباق الآيات على مورد الكلام ظاهر. وإما أن يرجع إلى اختلاف الافعال فإن الفعل المخالف للحق كالمعاصي وأقسام التهوسات الانسانية ومن هذا القبيل أقسام الاغواء والوساوس يلقن الانسان وخاصة العامي الساذج الافكار الفاسدة ويعد ذهنه لدبيب الشبهات وتسرب الآراء الباطلة فيه وتختلف إذ ذاك الافهام وتتخلف عن اتباع الحق وقد كفى مؤونة هذا أيضا الاسلام حيث أمر المجتمع بإقامة الدعوة الدينية دائما أولا وكلف المجتمع بالامر بالمعروف والنهى عن المنكر ثانيا وأمر بهجرة أرباب الزيغ والشبهات ثالثا قال تعالى

[ 129 ]

ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر الآية: آل عمران - 104 فالدعوة إلى الخير تستثبت الاعتقاد الحق وتقرها في القلوب بالتلقين والتذكير والامر بالمعروف والنهى عن المنكر يمنعان من ظهور الموانع من رسوخ الاعتقادات الحقة في النفوس وقال تعالى وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ ولكن ذكرى لعلهم يتقون وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحيوة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت الآيات: الانعام - 70 ينهى الله تعالى عن المشاركة في الحديث الذى فيه خوض في شئ من المعارف الالهية والحقائق الدينية بشبهة أو اعتراض أو استهزاء ولو بنحو الاستلزام أو التلويح ويذكر أن ذلك من فقدان الانسان أمر الجد في معارفه وأخذه بالهزل واللعب واللهو وأن منشأه الاغترار بالحياة الدنيا وأن علاجه التربية الصالحة والتذكير بمقامه تعالى. وإما أن يكون الاختلاف من جهة العوامل الخارجية كبعد الدار وعدم بلوغ المعارف الدينية إلا يسيرة أو محرفة أو قصور فهم الانسان عن تعقل الحقائق الدينية تعقلا صحيحا كالجربزة والبلاده المستندتين إلى خصوصية المزاج وعلاجه تعميم التبليغ والارفاق في الدعوة والتربية وهذان من خصائص السلوك التبليغى في الاسلام قال تعالى قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى: يوسف - 108 ومن المعلوم أن البصير بالامر يعرف مبلغ وقوعه في القلوب وأنحاء تأثيراته المختلفة باختلاف المتلقين والمستمعين فلا يبذل أحدا إلا مقدار ما يعيه منه وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما رواه الفريقان: إنا معاشر الانبياء نكلم الناس على قدر عقولهم وقال تعالى فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون: التوبة - 122 فهذه جمل ما يتقى به وقوع الاختلاف في العقائد أو يعالج به إذا وقع. وقد قرر الاسلام لمجتمعه دستورا اجتماعيا فوق ذلك يقيه عن دبيب الاختلاف المؤدى إلى الفساد والانحلال فقد قال تعالى وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا

[ 130 ]

تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصيكم به لعلكم تتقون: الانعام - 153 فبين أن اجتماعهم على اتباع الصراط المستقيم وتحذرهم عن اتباع سائر السبل يحفظهم عن التفرق ويحفظ لهم الاتحاد والاتفاق ثم قال يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا: آل عمران - 103 وقد مر أن المراد بحبل الله هو القرآن المبين لحقائق معارف الدين أو هو والرسول صلى الله عليه وآله وسلم على ما يظهر من قوله تعالى قبله يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم: آل عمران - 101. تدل الآيات على لزوم أن يجتمعوا على معارف الدين ويرابطوا أفكارهم ويمتزجوا في التعليم والتعلم فيستريحوا في كل حادث فكرى أو شبهة ملقاة إلى الآيات المتلوة عليهم والتدبر فيها لحسم مادة الاختلاف وقد قال تعالى أ فلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا: النساء - 82 وقال وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون: العنكبوت - 43 وقال فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون: النحل - 43 فأفاد أن التدبر في القرآن أو الرجوع إلى من يتدبر فيه يرفع الاختلاف من البين. وتدل على أن الارجاع إلى الرسول وهو الحامل لثقل الدين يرفع من بينهم الاختلاف ويبين لهم الحق الذى يجب عليهم أن يتبعوه قال تعالى وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون: النحل - 44 وقريب منه قوله تعالى ولو ردوه إلى الرسول وإلى اولى الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم: النساء - 83 وقوله يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا: النساء - 59 فهذه صورة التفكر الاجتماعي في الاسلام. ومنه يظهر أن هذا الدين كما يعتمد بأساسه على التحفظ على معارفه الخاصة الالهية كذلك يسمح للناس بالحرية التامة في الفكر ويرجع محصله إلى أن من الواجب على المسلمين أن يتفكروا في حقائق الدين ويجتهدوا في معارفه تفكرا واجتهادا بالاجتماع والمرابطة وإن حصلت لهم شبهة في شئ من حقائقه ومعارفه أو لاح لهم ما يخالفها

[ 131 ]

فلا بأس به وإنما يجب على صاحب الشبهة أو النظر المخالف أن يعرض ما عنده على كتاب الله بالتدبر ف‍ بحث اجتماعي فإن لم يداو داءه عرضه على الرسول أو من أقامه مقامه حتى تنحل شبهته أو يظهر بطلان ما لاح له إن كان باطلا قال تعالى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه اولئك الذين هداهم الله واولئك هم اولوا الالباب: الزمر - 18 والحرية في العقيدة والفكر على النحو الذى بيناه غير الدعوة إلى هذا النظر وإشاعته بين الناس قبل العرض فإنه مفض إلى الاختلاف المفسد لاساس المجتمع القويم. هذا أحسن ما يمكن أن يدبر به أمر المجتمع في فتح باب الارتقاء الفكري على وجهه مع الحفظ على حياته الشخصية وأما تحميل الاعتقاد على النفوس والختم على القلوب وإماتة غريزة الفكرة في الانسان عنوة وقهرا والتوسل في ذلك بالسوط أو السيف أو بالتكفير والهجرة وترك المخالطة فحاشا ساحة الحق والدين القويم أن يرضى به أو يشرع ما يؤيده وإنما هو خصيصة نصرانية وقد امتلا تاريخ الكنيسة من أعمالها وتحكماتها في هذا الباب و خاصة فيما بين القرن الخامس وبين القرن السادس عشر الميلاديين بما لا يوجد نظائره في أشنع ما عملته أيدي الجبابرة والطواغيت وأقساه. ولكن من الاسف أنا معاشر المسلمين سلبنا هذه النعمة وما لزمها الاجتماع الفكري وحرية العقيدة كما سلبنا كثيرا من النعم العظام التى كان الله سبحانه أنعم علينا بها لما فرطنا في جنب الله وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فحكمت فينا سيرة الكنيسة واستتبع ذلك أن تفرقت القلوب وظهر الفتور وتشتت المذاهب والمسالك يغفر الله لنا ويوفقنا لمرضاته ويهدينا إلى صراطه المستقيم. 15 الدين الحق هو الغالب على الدنيا بالآخرة والعاقبة للتقوى فإن النوع الانساني بالفطرة المودوعة فيه تطلب سعادته الحقيقية وهو استواؤه على عرش حياته الروحية والجسمية معا حياة اجتماعية بأعطاء نفسه حظه من السلوك الدنيوي والاخروي وقد عرفت أن هذا هو الاسلام ودين التوحيد. وأما الانحرافات الواقعة في سير الانسانية نحو غايته وفي ارتقائه إلى أوج كماله فإنما هو من جهة الخطأ في التطبيق لا من جهة بطلان حكم الفطرة والغاية التى يعقبها

[ 132 ]

الصنع والايجاد لا بد أن تقع يوما معجلا أو على مهل قال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون يريد أنهم لا يعلمون ذلك علما تفصيليا وإن علمته فطرتهم إجمالا إلى أن قال ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون إلى أن قال ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذى عملوا لعلهم يرجعون: الروم - 41 30 وقال تعالى فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم: المائدة - 54 وقال تعالى ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون: الانبياء - 105 وقال تعالى والعاقبة للتقوى: طه - 132 فهذه وأمثالها آيات تخبرنا أن الاسلام سيظهر ظهوره التام فيحكم على الدنيا قاطبة ولا تصغ إلى قول من يقول إن الاسلام وإن ظهر ظهورا ما وكانت أيامه حلقة من سلسلة التاريخ فأثرت أثرها العام في الحلقات التالية واعتمدت عليها المدنية الحاضرة شاعرة بها أو غير شاعرة لكن ظهوره التام أعنى حكومة ما في فرضية الدين بجميع موادها وصورها وغاياتها مما لا يقبله طبع النوع الانساني ولن يقبله أبدا ولم يقع عليه بهذه الصفة تجربة حتى يوثق بصحة وقوعه خارجا وحكومته على النوع تامة. وذلك أنك عرفت أن الاسلام بالمعنى الذى نبحث فيه غاية النوع الانساني وكماله الذى هو بغريزته متوجه إليه شعر به تفصيلا أو لم يشعر والتجارب القطعية الحاصلة في أنواع المكونات يدل على أنها متوجهة إلى غايات مناسبة لوجوداتها يسوقها إليها نظام الخلقة والانسان غير مستثنى من هذه الكلية. على أن شيئا من السنن والطرائق الدائرة في الدنيا الجارية بين المجتمعات الانسانية لم يتك في حدوثه وبقائه وحكومته على سبق تجربة قاطعة فهذه شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ظهرت حينما ظهرت ثم جرت بين الناس وكذا ما أتى به برهما وبوذا ومانى وغيرهم وتلك سنن المدنية المادية كالديموقراطية والكمونيسم وغيرهما كل ذلك جرى في المجتمعات الانسانية المختلفة بجرياناتها المختلفة من غير سبق تجربة. وإنما تحتاج السنن الاجتماعية في ظهورها ورسوخها في المجتمع إلى عزائم قاطعة وهمم عالية من نفوس قوية لا يأخذها في سبيل البلوغ إلى مأربها عى ولا نصب ولا

[ 133 ]

تذعن بأن الدهر قد لا يسمح بالمراد والمسعى قد يخيب ولا فرق في ذلك بين الغايات والمآرب الرحمانية والشيطانية. = بحث روائي = في المعاني عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا الآية - اصبروا على المصائب وصابروهم على الفتنة ورابطوا على من تقتدون به وفي تفسير العياشي عنه عليه السلام: اصبروا على دينكم وصابروا عدوكم ورابطوا امامكم اقول وروى ما يقرب منه من طرق أهل السنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الكافي عنه عليه السلام: اصبروا على الفرائض - وصابروا على المصائب ورابطوا على الائمة وفي المجمع عن على عليه السلام: رابطوا الصلوات - قال أي انتظروها لان المرابطة لم تكن حينئذ أقول اختلاف الروايات مستند إلى ما تقدم من إطلاق الاوامر. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن حيان عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أ لا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا - ويكفر به الذنوب قلنا بلى يا رسول الله - قال إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد - وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط: أقول ورواه بطرق اخرى عنه صلى الله عليه وآله وسلم والاخبار في فضيلة المرابطة أكثر من أن تحصى

[ 134 ]

سورة النساء مدنية وهى مائة وست وسبعون آية = بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الناس ا تقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذى تساءلون به والارحام إن الله كان عليكم رقيبا (1)): = بيان = غرض السورة كما يلوح إليه هذا الصدر بيان أحكام الزواج كعدد الزوجات ومحرمات النكاح وغير ذلك وأحكام المواريث وفيها امور اخرى من أحكام الصلاة والجهاد والشهادات والتجارة وغيرها وتعرض لحال أهل الكتاب. ومضامين آياتها تشهد أنها مدنية نزلت بعد الهجرة وظاهرها أنها نزلت نجوما لا دفعة واحدة وإن كانت أغلب آياتها غير فاقدة للارتباط فيما بينها. وأما هذه الآية في نفسها فهى وعدة من الآيات التالية لها المتعرضة لحال اليتامى والنساء كالتوطئة لما سيبين من أمر المواريث والمحارم وأما عدد الزوجات الواقعة في الآية الثالثة فإنه وإن كان من مهمات السورة إلا أنه ذكر في صورة التطفل بالاستفادة من الكلام المقدمى الذى وقع في الآية كما سيجئ بيانه. قوله تعالى يا أيها الناس اتقوا ربكم إلى قوله ونساء يريد دعوتهم إلى تقوى ربهم في أمر أنفسهم وهم ناس متحدون في الحقيقة الانسانية من غير اختلاف فيها بين الرجل منهم والمرأة والصغير والكبير والعاجز والقوى حتى لا يجحف الرجل منهم بالمرأة ولا يظلم كبيرهم الصغير في مجتمعهم الذى هداهم الله إليه لتتميم سعادتهم والاحكام والقوانين المعمولة بينهم التى ألهمهم إياها لتسهيل طريق حياتهم وحفظ

[ 135 ]

وجودهم وبقائهم فرادى ومجتمعين. ومن هناك تظهر نكتة توجيه الخطاب إلى الناس دون المؤمنين خاصة وكذا تعليق التقوى بربهم دون أن يقال اتقوا الله ونحوه فإن الوصف الذى ذكروا به أعنى قوله الذى خلقكم من نفس واحدة الخ يعم جميع الناس من غير أن يختص بالمؤمنين وهو من أوصاف الربوبية التى تتكفل أمر التدبير والتكميل لا من شؤون الالوهية. وأما قوله تعالى الذى خلقكم من نفس واحدة الخ فالنفس على ما يستفاد من اللغة عين الشئ يقال جاءني فلان نفسه وعينه وإن كان منشأ تعين الكلمتين النفس والعين لهذا المعنى ما به الشئ شئ مختلفا ونفس الانسان هو ما به الانسان إنسان وهو مجموع روح الانسان وجسمه في هذه الحياة الدنيا والروح وحدها في الحياة البرزخية على ما تحقق فيما تقدم من البحث في قوله تعالى ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات الآية: البقرة - 154. وظاهر السياق أن المراد بالنفس الواحدة آدم عليه السلام ومن زوجها زوجته وهما أبوا هذا النسل الموجود الذى نحن منه وإليهما ننتهي جميعا على ما هو ظاهر القرآن الكريم كما في قوله تعالى خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها: الزمر - 6 وقوله تعالى يا بنى آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة: الاعراف - 27 وقوله تعالى حكاية عن إبليس لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا: أسرى - 62. وأما ما احتمله بعض المفسرين أن المراد بالنفس الواحدة وزوجها في الآية مطلق الذكور والاناث من الانسان الزوجين اللذين عليهما مدار النسل فيؤول المعنى ألى نحو قولنا خلق كل واحد منكم من أب وام بشرين من غير فرق في ذلك بينكم فيناظر قوله تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم: الحجرات - 13 حيث إن ظاهره نفى الفرق بين الافراد من جهة تولد كل واحد منهم من زوجين من نوعه ذكر وانثى. ففيه فساد ظاهر وقد فاته أن بين الآيتين أعنى آية النساء وآية الحجرات فرقا بينا فإن آية الحجرات في مقام بيان اتحاد أفراد الانسان من حيث الحقيقة الانسانية

[ 136 ]

ونفى الفرق بينهم من جهة انتهاء تكون كل واحد منهم إلى أب وام إنسانين فلا ينبغى أن يتكبر أحدهم على الآخرين ولا يتكرم إلا بالتقوى وأما آية النساء فهى في مقام بيان اتحاد أفراد الانسان من حيث الحقيقة وأنهم على كثرتهم رجالا ونساءا إنما اشتقوا من أصل واحد وتشعبوا من منشأ واحد فصاروا كثيرا على ما هو ظاهر قوله وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا وهذا المعنى كما ترى لا يناسب كون المراد من النفس الواحدة وزوجها مطلق الذكر والانثى الناسلين من الانسان على أنه لا يناسب غرض السورة أيضا كما تقدم بيانه. وأما قوله وخلق منها زوجها فقد قال الراغب يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والانثى في الحيوانات المتزاوجة زوج ولكل قرينين فيها وفي غيرها زوج كالخف والنعل ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا زوج إلى أن قال وزوجة لغة رديئة انتهى. وظاهر الجملة أعنى قوله وخلق منها زوجها أنها بيان لكون زوجها من نوعها بالتماثل وأن هؤلاء الافراد المبثوثين مرجعهم جميعا إلى فردين متماثلين متشابهين فلفظة من نشوئية والآية في مساق قوله تعالى ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة: الروم - 21 وقوله تعالى والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة: النحل - 72 وقوله تعالى فاطر السموات والارض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الانعام أزواجا يذرؤكم فيه: الشورى - 11 ونظيرها قوله ومن كل شئ خلقنا زوجين: الذاريات - 49 فما في بعض التفاسير أن المراد بالآية كون زوج هذه النفس مشتقة منها وخلقها من بعضها وفاقا لما في بعض الاخبار أن الله خلق زوجة آدم من ضلع من أضلاعه مما لا دليل عليه من الآية. وأما قوله وبث منهما رجالا كثيرا ونساء البث هو التفريق بالاثارة ونحوها قال تعالى فكانت هباء منبثا: الواقعة - 6 ومنه بث الغم ولذلك ربما يطلق البث ويراد به الغم لانه مبثوث يبثه الانسان بالطبع قال تعالى قال إنما أشكوا بثى وحزني إلى الله: يوسف - 86 أي غمى وحزني. وظاهر الآية أن النسل الموجود من الانسان ينتهى إلى آدم وزوجته من غير

[ 137 ]

أن يشاركهما فيه غيرهما حيث قال وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ولم يقل منهما ومن غيرهما ويتفرع عليه أمران احدهما أن المراد بقوله رجالا كثيرا ونساءا أفراد البشر من ذريتهما بلا واسطة أو مع واسطة فكأنه قيل وبثكم منهما أيها الناس وثانيهما أن الازدواج في الطبقة الاولى بعد آدم وزوجته أعنى في أولادهما بلا واسطة إنما وقع بين الاخوة والاخوات ازدواج البنين بالبنات إذ الذكور والاناث كانا منحصرين فيهم يومئذ ولا ضير فيه فإنه حكم تشريعي راجع إلى الله سبحانه فله أن يبيحه يوما ويحرمه آخر قال تعالى والله يحكم لا معقب لحكمه: الرعد - 41 وقال إن الحكم إلا لله: يوسف - 40 وقال ولا يشرك في حكمه أحدا: الكهف - 26 وقال وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الاولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون: القصص - 70. قوله تعالى واتقوا الله الذى تسألون به والارحام المراد بالتسأل سؤال بعض الناس بعضا بالله يقول أحدهم لصاحبه أسألك بالله أن تفعل كذا وكذا هو إقسام به تعالى والتسائل بالله كناية عن كونه تعالى معظما عندهم محبوبا لديهم فإن الانسان إنما يقسم بشئ يعظمه ويحبه. وأما قوله والارحام فظاهره أنه معطوف على لفظ الجلالة والمعنى واتقوا الارحام وربما قيل إنه معطوف على محل الضمير في قوله به وهو النصب يقال مررت بزيد وعمرا وربما أيدته قراءة حمزة والارحام بالجر عطفا على الضمير المتصل المجرور وإن ضعفه النحاة فيصير المعنى واتقوا الله الذى تسألون به وبالارحام يقول أحدكم لصاحبه أسألك بالله وأسألك بالرحم هذا ما قيل لكن السياق ودأب القرآن في بياناته لا يلائمانه فإن قوله والارحام أن جعل صلة مستقلة للذى وكان تقدير الكلام واتقوا الله الذى تسألون بالارحام كان خاليا من الضمير وهو غير جائز وإن كان المجموع منه ومما قبله صلة واحدة للذى كان فيه تسوية بين الله عز اسمه وبين الارحام في أمر العظمة والعزة وهى تنافى أدب القرآن. وأما نسبة التقوى إلى الارحام كنسبته إليه تعالى فلا ضير فيها بعد انتهاء

[ 138 ]

الارحام إلى صنعه وخلقه تعالى وقد نسب التقوى في كلامه تعالى إلى غيره كما في قوله واتقوا يوما ترجعون فيه ألى الله: البقرة - 281 وقوله واتقوا النار التى اعدت للكافرين: آل عمران - 131 وقوله واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة: الانفال - 25. وكيف كان فهذا الشطر من الكلام بمنزلة التقييد بعد الاطلاق والتضييق بعد التوسعة بالنسبة إلى الشطر السابق عليه أعنى قوله يا أيها الناس اتقوا إلى قوله ونساء فإن محصل معنى الشطر الاول أن اتقوا الله من جهة ربوبيته لكم ومن جهة خلقه وجعله إياكم معاشر أفراد الانسان من سنخ واحد محفوظ فيكم ومادة محفوظة متكثرة بتكثركم وذلك هو النوعية الجوهرية الانسانية ومحصل معنى هذا الشطر أن اتقوا الله من جهة عظمته وعزته عندكم وذلك من شؤون الربوبية وفروعها واتقوا الوحدة الرحمية التى خلقها بينكم والرحم شعبة من شعب الوحدة والسنخية السارية بين أفراد الانسان. ومن هنا يظهر وجه تكرار الامر بالتقوى وإعادته ثانيا في الجملة الثانية فإن الجملة الثانية في الحقيقة تكرار للجملة الاولى مع زيادة فائدة وهى إفادة الاهتمام التام بأمر الارحام. والرحم في الاصل رحم المرأة وهى العضو الداخلي منها المعبأ لتربية النطفة وليدا ثم استعير للقرابة بعلاقة الظرف والمظروف لكون الاقرباء مشتركين في الخروج من رحم واحدة فالرحم هو القريب والارحام الاقرباء وقد اعتنى القرآن الشريف بأمر الرحم كما اعتنى بأمر القوم والامة فإن الرحم مجتمع صغير كما أن القوم مجتمع كبير وقد اعتنى القرآن بأمر المجتمع وعده حقيقة ذات خواص وآثار كما اعتنى بأمر الفرد من الانسان وعده حقيقة ذات خواص وآثار تستمد من الوجود قال تعالى وهو الذى مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا وهو الذى خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا: الفرقان - 54 وقال تعالى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا: الحجرات - 13 وقال تعالى واولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله: الاحزاب - 6 وقال تعالى فهل عسيتم ان توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم: سورة محمد - 22

[ 139 ]

وقال تعالى وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم الآية: النساء - 9 إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى إن الله كان عليكم رقيبا الرقيب الحفيظ والمراقبة المحافظة وكأنه مأخوذ من الرقبة بعناية أنهم كانوا يحفظون رقاب عبيدهم أو أن الرقيب كان يتطلع على من كان يرقبه برفع رقبته ومد عنقه وليس الرقوب مطلق الحفظ بل هو الحفظ على أعمال المرقوب من حركاته وسكناته لاصلاح موارد الخلل والفساد أو ضبطها فكأنه حفظ الشئ مع العناية به علما وشهودا ولذا يستعمل بمعنى الحراسة والانتظار والمحاذرة والرصد والله سبحانه رقيب لانه يحفظ على العباد أعمالهم ليجزيهم بها قال تعالى وربك على كل شئ حفيظ: سبأ - 21 وقال الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل: الشورى - 6 وقال فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد: الفجر - 14. وفي تعليل الامر بالتقوى في الوحدة الانسانية السارية بين أفراده وحفظ آثارها اللازمة لها بكونه تعالى رقيبا أعظم التحذير والتخويف بالمخالفة وبالتدبر فيه يظهر ارتباط الآيات المتعرضة لامر البغى والظلم والفساد في الارض والطغيان وغير ذلك وما وقع فيها من التهديد والانذار بهذا الغرض الالهي وهو وقاية الوحدة الانسانية من الفساد والسقوط. = كلام في عمر النوع الانساني والانسان الاولى = يذكر تاريخ اليهود أن عمر هذا النوع لا يزيد على ما يقرب من سبعة آلاف سنة والاعتبار يساعده فإنا لو فرضنا ذكرا وانثى زوجين اثنين من هذا النوع وفرضناهما عائشين زمانا متوسطا من العمر في مزاج متوسط في وضع متوسط من الامن والخصب والرفاهية ومساعده سائر العوامل والشرائط المؤثرة في حياة الانسان ثم فرضناهما وقد تزوجا وتناسلا وتوالدا في أوضاع متوسطة متناسبة ثم جعلنا الفرض بعينه مطردا فيما أولدا من البنين والبنات على ما يعطيه متوسط الحال في جميع ذلك وجدنا ما فرضناه من العدد أولا وهو اثنان فقط يتجاوز في قرن واحد رأس المائة الالف أي إن كل نسمة يولد في المائة سنة ما يقرب من خمس مائة نسمة.

[ 140 ]

ثم إذا اعتبرنا ما يتصدم به الانسان من العوامل المضادة له في الوجود والبلايا العامة لنوعه من الحر والبرد والطوفان والزلزلة والجدب والوباء والطاعون والخسف والهدم والمقاتل الذريعة والمصائب الاخرى غير العامة وأعطيناها حظها من هذا النوع أوفر حظ وبالغنا في ذلك حتى أخذنا الفناء يعم الافراد بنسبة تسعمائة وتسعة وتسعين إلى الالف وأنه لا يبقى في كل مائة سنة من الالف إلا واحد أي إن عامل التناسل في كل مائة سنة يزيد على كل اثنين بواحد وهو واحد من ألف. ثم إذا صعدنا بالعدد المفروض أولا بهذا الميزان إلى مدة سبعة آلاف سنة 70 قرنا وجدناه تجاوز بليونين ونصفا وهو عدد النفوس الانسانية اليوم على ما يذكره الاحصاء العالمي. فهذه الاعتبار يؤيد ما ذكر من عمر نوع الانسان في الدنيا لكن علماء الجيولوجي علم طبقات الارض ذكروا أن عمر هذا النوع يزيد على مليونات من السنين وقد وجدوا من الفسيلات الانسانية والاجساد والآثار ما يتقدم عهده على خمس مائة ألف سنة على ما استظهروه فهذا ما عندهم غير أنه لا دليل معهم يقنع الانسان ويرضي النفس باتصال النسل بين هذه الاعقاب الخالية والامم الماضية من غير انقطاع فمن الجائز أن يكون هذا النوع ظهر في هذه الارض ثم كثر ونما وعاش ثم انقرض ثم تكرر الظهور والانقراض ودار الامر على ذلك عدة أدوار على أن يكون نسلنا الحاضر هو آخر هذه الادوار. وأما القرآن الكريم فإنه لم يتعرض تصريحا لبيان أن ظهور هذا النوع هل ينحصر في هذه الدورة التي نحن فيها أو أن له أدوارا متعددة نحن في آخرها ؟ وإن كان ربما يستشم من قوله تعالى وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء الآية: البقرة - 30 سبق دورة انسانية اخرى على هذه الدورة الحاضرة وقد تقدمت الاشارة إليه في تفسير الآية. نعم في بعض الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ما يثبت للانسانية أدوارا كثيرة قبل هذه الدورة وسيجئ في البحث الروائي.

[ 141 ]

(كلام في أن النسل الحاضر ينتهي إلى آدم وزوجته) ربما قيل إن اختلاف الالوان في أفراد الانسان وعمدتها البياض كلون أهل النقاط المعتدلة من آسيا واوروبا والسواد كلون أهل إفريقيا الجنوبية والصفرة كلون أهل الصين واليابان والحمرة كلون الهنود الامريكيين يقضي بانتهاء النسل في كل لون إلى غير ما ينتهي إليه نسل اللون الآخر لما في اختلاف الالوان من اختلاف طبيعة الدماء وعلى هذا فالمبادئ الاول لمجموع الافراد لا ينقصون من أربعة أزواج للالوان الاربعة. وربما يستدل عليه بأن قارة أمريكا انكشفت ولها أهل وهم منقطعون عن الانسان القاطن في نصف الكرة الشرقي بالبعد الشاسع الذي بينهما انقطاعا لا يرجى ولا يحتمل معه أن النسلين يتصلان بانتهائهما إلى أب واحد وام واحدة والدليلان كما ترى مدخولان: أما مسألة اختلاف الدماء باختلاف الالوان فلان الابحاث الطبيعية اليوم مبنية على فرضية التطور في الانواع ومع هذا البناء كيف يطمأن بعدم استناد اختلاف الدماء فاختلاف الالوان إلى وقوع التطور في هذا النوع وقد جزموا بوقوع تطورات في كثير من الانواع الحيوانية كالفرس والغنم والفيل وغيرها وقد ظفر البحث والفحص بآثار أرضية كثيرة يكشف عن ذلك ؟ على أن العلماء اليوم لا يعتنون بهذا الاختلاف ذاك الاعتناء (1). وأما مسألة وجود الانسان في ما وراء البحار فإن العهد الانساني على ما يذكره علماء الطبيعة يزهو إلى ملايين من السنين والذي يضبطه التاريخ النقلي لا يزيد على ستة آلاف سنة وإذا كان كذلك فما المانع من حدوث حوادث فيما قبل التاريخ تجزي قارة أمريكا عن سائر القارات وهناك آثار أرضية كثيرة تدل على تغييرات هامة في سطح الارض بمرور الدهور من تبدل بحر إلى بر وبالعكس وسهل إلى جبل وبالعكس وما هو أعظم من ذلك كتبدل القطبين والمنطقد على ما يشرحه علوم


(1) وقد ورد في الجرائد في هذه الايام: أن جمعا من الاطباء قد اكتشفوا فورمول طبي يغير به لون بشرة الانسان كالسواد إلى البياض مثلا (*)

[ 142 ]

طبقات الارض والهيئة والجغرافيا فلا يبقى لهذا المستدل إلا الاستبعاد فقط هذا. وأما القرآن فظاهره القريب من النص أن هذا النسل الحاضر المشهود من الانسان ينتهي بالارتقاء إلى ذكر وأنثى هما الاب والام لجميع الافراد أما الاب فقد سماه الله تعالى في كتابه بآدم وأما زوجته فلم يسمها في كتابه ولكن الروايات تسميها حواء كما في التوراة الموجودة قال تعالى وبدء خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين " ألم السجدة - 8 " وقال تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون: آل عمران - 59 وقال تعالى وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الاسماء كلها الآية: البقرة - 31 وقال تعالى إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين الآيات: ص - 72 فإن الآيات كما ترى تشهد بأن سنة الله في بقاء هذا النسل أن يتسبب إليه بالنطفة لكنه أظهره حينما أظهره بخلقه من تراب وأن آدم خلق من تراب وأن الناس بنوه فظهور الآيات في انتهاء هذا النسل إلى آدم وزوجته مما لا ريب فيه وإن لم تمتنع من التأويل. وربما قيل إن المراد بآدم في آيات الخلقة والسجدة آدم النوعي دون الشخصي كأن مطلق الانسان من حيث انتهاء خلقه إلى الارض ومن حيث قيامه بأمر النسل والايلاد سمي بآدم وربما استظهر ذلك من قوله تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " الاعراف - 11 " فإنه لا يخلو عن إشعار بأن الملائكة إنما أمروا بالسجدة لمن هيأه الله لها بالخلق والتصوير وقد ذكرت الآية أنه جميع الافراد لا شخص إنساني واحد معين حيث قال ولقد خلقناكم ثم صورناكم وهكذا قوله تعالى قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي إلى أن قال قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين إلى أن قال " قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين: ص - 83 حيث أبدل ما ذكره مفردا أولا من الجمع ثانيا. ويرده مضافا إلى كونه على خلاف ظاهر ما نقلناه من الآيات ظاهر قوله تعالى بعد سرد قصة آدم وسجدة الملائكة وإباء إبليس في سورة الاعراف يا بني آدم

[ 143 ]

لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما " الاعراف - 27 " فظهور الآية في شخصية آدم مما لا ينبغي أن يرتاب فيه. وكذا قوله تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا قال أرأيتك هذا الذي كرمت على لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا: أسرى - 62 وكذا الآية المبحوث عنها يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء الآية بالتقريب الذي مر بيانه. فالآيات كما ترى تأبى أن يسمى الانسان آدم باعتبار وابن آدم باعتبار آخر وكذا تأبى أن تنسب الخلقة إلى التراب باعتبار وإلى النطفة باعتبار آخر وخاصة في مثل قوله تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الآية وإلا لم يستقم استدلال الآية على كون خلقه عيسى خلقة استثنائية ناقضة للعادة الجارية فالقول بأدم النوعي في حد التفريط والافراط الذي يقابله قول بعضهم إن القول بخلق أزيد من آدم واحد كفر ذهب إليه زين العرب من علماء أهل السنه. (كلام في أن الانسان نوع مستقل) (غير متحول من نوع آخر) الآيات السابقة تكفي مؤونة هذا البحث فإنها تنهي هذا النسل الجاري بالنطفة إلى آدم وزوجته وتبين أنهما خلقا من تراب فالانسانية تنتهي اليهما وهما لا يتصلان بآخر يماثلهما أو يجانسهما وإنما حدثا حدوثا. والشائع اليوم عند الباحثين عن طبيعة الانسان أن الانسان الاول فرد تكامل إنسانا وهذه الفرضية بخصوصها وإن لم يتسلمها الجميع تسلما يقطع الكلام واعترضوا عليه بامور كثيرة مذكورة في الكتب لكن أصل الفرضية وهي أن الانسان حيوان تحول إنسانا مما تسلموه وبنوا عليه البحث عن طبيعة الانسان. فإنهم فرضوا أن الارض وهي أحد الكواكب السيارة قطعة من الشمس

[ 144 ]

مشتقة منها وقد كانت في حال الاشتعال والذوبان ثم أخذت في التبرد من تسلط عوامل البرودة وكانت تنزل عليها أمطار غزيرة وتجري عليها السيول وتتكون فيها البحار ثم حدثت تراكيب مائية وأرضية فحدثت النباتات المائية ثم حدثت بتكامل النبات واشتمالها على جراثيم الحياة السمك وسائر الحيوان المائي ثم السمك الطائر ذو الحياتين ثم الحيوان البري ثم الانسان كل ذلك بتكامل عارض للتركيب الارضي الموجود في المرتبة السابقة يتحول به التركيب في صورته إلى المرتبة اللاحقة فالنبات ثم الحيوان المائي ثم الحيوان ذو الحياتين ثم الحيوان البري ثم الانسان على الترتيب هذا. كل ذلك لما يشاهد من الكمال المنظم في بنيها نظم المراتب الآخذة من النقص إلى الكمال ولما يعطيه التجريب في موارد جزئية التطور. وهذه فرضية افترضت لتوجيه ما يلحق بهذه الانواع من الخواص والآثار من غير قيام دليل عليها بالخصوص ونفي ما عداها مع إمكان فرض هذه الانواع متبائنة من غير اتصال بينها بالتطور وقصر التطور على حالات هذه الانواع دون ذواتها وهي التي جرى فيها التجارب فإن التجارب لم يتناول فردا من أفراد هذه الانواع تحول إلى فرد من نوع آخر كقردة إلى إنسان وإنما يتناول بعض هذه الانواع من حيث خواصها ولوازمها وأعراضها. واستقصاء هذا البحث يطلب من غير هذا الموضع وإنما المقصود الاشارة إلى أنه فرض افترضوه لتوجيه ما يرتبط به من المسائل من غير ان يقوم عليه دليل قاطع فالحقيقة التي يشير إليها القرآن الكريم من كون الانسان نوعا مفصولا عن سائر الانواع غير معارضة بشئ علمي. (كلام في ى تناسل الطبقة الثانية من الانسان) الطبقة الاولى من الانسان وهي آدم وزوجته تناسلت بالازدواج فأولدت بنين وبنات (إخوة وأخوات) فهل نسل هؤلاء بالازدواج بينهم وهم إخوة وأخوات أو بطريق غير ذلك ظاهر إطلاق قوله تعالى وبث منهما رجالا كثيرا ونساء الآية على ما تقدم من التقريب أن النسل الموجود من الانسان إنما ينتهي إلى آدم وزوجته من

[ 145 ]

غير أن يشاركهما في ذلك غيرهما من ذكر أو أنثى ولم يذكر القرآن للبث إلا أياهما ولو كان لغيرهما شركة في ذلك لقال وبث منهما ومن غيرهما أو ذكر ذلك بما يناسبه من اللفظ ومن المعلوم أن انحصار مبدأ النسل في آدم وزوجته يقضي بازدواج بنيهما من بناتهما. وأما الحكم بحرمته في الاسلام وكذا في الشرائع السابقة عليه على ما يحكى فإنما هو حكم تشريعي يتبع المصالح والمفاسد لا تكويني غير قابل للتغيير وزمامه بيد الله سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فمن الجائز أن يبيحه يوما لاستدعاء الضرورة ذلك ثم يحرمه بعد ذلك لارتفاع الحاجة واستيجابه انتشار الفحشاء في المجتمع. والقول بأنه على خلاف الفطرة وما شرعه الله لانبيائه دين فطري قال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم: الروم - 30 فاسد فإن الفطرة لا تنفيه ولا تدعو إلى خلافه من جهه تنفرها عن هذا النوع من المباشرة (مباشرة الاخ الاخت) وإنما تبغضه وتنفيه من جهة تأديته إلى شيوع الفحشاء والمنكر وبطلان غريزة العفة بذلك وارتفاعها عن المجتمع الانساني ومن المعلوم أن هذا النوع من التماس والمباشرة إنما ينطبق عليه عنوان الفجور والفحشاء في المجتمع العالمي اليوم وأما المجتمع يوم ليس هناك بحسب ما خلق الله سبحانه إلا الاخوة والاخوات والمشية الالهية متعلقة بتكثرهم وانبثاثهم فلا ينطبق عليه هذا العنوان. والدليل على أن الفطرة لا تنفيه من جهة النفرة الغريزية تداوله بين المجوس أعصارا طويلة على ما يقصه التاريخ وشيوعه قانونيا في روسيا على ما يحكى وكذا شيوعه سفاحا من غير طريق الازدواج القانوني في اوربا (1). وربما يقال إنه مخالف للقوانين الطبيعية وهي التي تجرى في الانسان قبل عقده


(1) من العادات الرائجة في هذه الازمنة في الملل المتمدنة من اوربا وامريكا أن الفتيات يزلن بكارتهن قبل الازدواج القانوني والبلوغ إلى سنه وقد أنتج الاحصاء أن بعضها انما هو من ناحية آبائهن أو اخوانهم (*).

[ 146 ]

المجتمع الصالح لاسعاده فإن الاختلاط والاستيناس في المجتمع المنزلي يبطل غريزة التعشق والميل الغريزي بين الاخوة والاخوات كما ذكره بعض علماء الحقوق (1). وفيه أنه ممنوع كما تقدم أولا ومقصور في صورة عدم الحاجة الضرورية ثانيا ومخصوص بما لا تكون القوانين الوضعية غير الطبيعية حافظة للصلاح الواجب الحفظ في المجتمع ومتكفلة لسعادة المجتمعين وإلا فمعظم القوانين المعمولة والاصول الدائرة في الحياة اليوم غير طبيعية. (بحث روائي) في التوحيد عن الصادق عليه السلام في حديث قال: لعلك ترى أن الله لم يخلق بشرا غيركم ؟ بلى والله لقد خلق ألف ألف آدم أنتم في آخر اولئك الآدميين. اقول ونقل ابن ميثم في شرح نهج البلاغه عن الباقر عليه السلام ما في معناه ورواه الصدوق في الخصال ايضا. وفي الخصال عن الصادق عليه السلام قال: إن الله تعالى خلق اثنى عشر ألف عالم كل عالم منهم أكبر من سبع سماوات وسبع أرضين - ما يرى عالم منهم أن الله عز وجل عالما غيرهم. وفيه عن أبي جعفر عليه السلام: لقد خلق الله عز وجل في الارض منذ خلقها سبعة عالمين ليس هم من ولد آدم خلقهم من أديم الارض فأسكنهم فيها واحدا بعد واحد مع عالمه ثم خلق الله عز وجل آدم أبا البشر وخلق ذريته منه الحديث. وفي نهج البيان للشيباني عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه قال: سألت أبا جعفر عليه السلام من أي شئ خلق الله حواء ؟ فقال عليه السلام: أي شئ يقولون هذا الخلق ؟ قلت يقولون إن الله خلقها من ضلع من أضلاع آدم فقال كذبوا أكان الله يعجزه أن يخلقها من غير ضلعه ؟ فقلت جعلت فداك من أي شئ خلقها ؟ فقال أخبرني أبي عن آبائه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله تبارك وتعالى قبض قبضة من طين فخلطها


(1) مونتسكيو في كتابه روح القوانين. (*)

[ 147 ]

بيمينه وكلتا يديه يمين فخلق منها آدم - وفضلت فضلة من الطين فخلق منها حواء أقول ورواه الصدوق عن عمرو مثله وهناك روايات اخر تدل على أنها خلقت من خلف آدم وهو أقصر أضلاعه من الجانب الايسر وكذا ورد في التوراة في الفصل الثاني من سفر التكوين وهذا المعنى وإن لم يستلزم في نفسه محالا إلا أن الآيات القرآنية خالية عن الدلالة عليها كما تقدم. وفي الاحتجاج عن السجاد عليه السلام في حديث له مع قرشي يصف فيه تزويج هابيل بلوزا اخت قابيل - وتزويج قابيل بإقليما اخت هابيل - قال فقال له القرشى فأولداهما ؟ قال نعم - فقال له القرشى فهذا فعل المجوس اليوم - قال فقال إن المجوس فعلوا ذلك بعد التحريم من الله - ثم قال له لا تنكر هذا إنما هي شرائع الله جرت - أليس الله قد خلق زوجة آدم منه ثم أحلها له - فكان ذلك شريعة من شرائعهم - ثم أنزل الله التحريم بعد ذلك الحديث أقول وهذا الذى ورد في الحديث هو الموافق لظاهر الكتاب والاعتبار وهناك روايات اخر تعارضها وهى تدل على أنهم تزوجوا بمن نزل إليهم من الحور والجان وقد عرفت الحق في ذلك. وفي المجمع: في قوله تعالى واتقوا الله الذى تساءلون به والارحام - عن الباقر عليه السلام واتقوا الارحام أن تقطعوها أقول وبناؤه على قراءة النصب. وفي الكافي وتفسير العياشي: هي أرحام الناس إن الله عز وجل أمر بصلتها وعظمها - أ لا ترى أنه جعلها معه أقول قوله أ لا ترى الخ بيان لوجه التعظيم والمراد بجعلها معه الاقتران الواقع في قوله تعالى واتقوا الله الذى تساءلون به والارحام. وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد عن عكرمة: في قوله الذى تساءلون به والارحام قال قال ابن عباس - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى صلوا أرحامكم - فإنه أبقى لكم في الحياة الدنيا وخير لكم في آخرتكم.

[ 148 ]

أقول قوله فإنه أبقى لكم الخ إشارة إلى ما ورد مستفيضا أن صلة الرحم تزيد في العمر وقطعها بالعكس من ذلك ويمكن أن يستأنس لوجهه بما سيأتي في تفسير قوله تعالى وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم الآية: النساء - 9 ويمكن أن يكون المراد بكونه أبقى كون الصلة أبقى للحياة من حيث أثرها فإن الصلة تحكم الوحدة السارية بين الاقارب فيتقوى بذلك الانسان قبال العوامل المخالفة لحياته المضادة لرفاهية عيشه من البلايا والمصائب والاعداء. وفي تفسير العياشي عن الاصبغ بن نباتة قال سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: إن أحدكم ليغضب فما يرضى حتى يدخل النار - فأيما رجل منكم غضب على ذى رحمه - فليدن منه فإن الرحم إذا مستها الرحم استقرت - وأنها متعلقة بالعرش تنقضه انتقاض الحديد فتنادى - اللهم صل من وصلنى واقطع من قطعني - وذلك قول الله في كتابه - واتقوا الله الذى تساءلون به والارحام إن الله كان بكم رقيبا - وأيما رجل غضب وهو قائم - فليلزم الارض من فوره فإنه يذهب رجز الشيطان أقول والرحم كما عرفت هي جهة الوحدة الموجودة بين أشخاص الانسان من حيث اتصال مادة وجودهم في الولادة من أب وام أو أحدهما وهى جهة حقيقية سائرة بين اولى الارحام لها آثار حقيقية خلقية وخلقية وروحية وجسمية غير قابلة الانكار وإن كان ربما توجد معها عوامل مخالفة تضعف أثرها أو تبطله بعض الابطال حتى يلحق بالعدم ولن يبطل من رأس. وكيف كان فالرحم من أقوى أسباب الالتيام الطبيعي بين أفراد العشيرة مستعدة للتأثير أقوى الاستعداد ولذلك كان ما ينتجه المعروف بين الارحام أقوى وأشد مما ينتجه ذلك بين الاجانب وكذلك الاساءة في مورد الاقارب أشد أثرا منها في مورد الاجانب. وبذلك يظهر معنى قوله عليه السلام فأيما رجل منكم غضب على ذى رحمه فليدن منه الخ فإن الدنو من ذى الرحم رعاية لحكمها وتقوية لجانبها فتتنبه بسببه وتحرك لحكمها ويتجدد أثرها بظهور الرأفة والمحبة.

[ 149 ]

وكذلك قوله عليه السلام في ذيل الرواية وأيما رجل غضب وهو قائم فليلزم الارض الخ فأن الغضب إذا كان عن طيش النفس ونزقها كان في ظهوره وغليانه مستندا إلى هواهاو إغفال الشيطان إياها وصرفها إلى أسباب واهية وهمية وفي تغيير الحال من القيام إلى القعود صرف النفس عن شأن إلى شأن جديد يمكنها بذلك أن تشتغل بالسبب الجديد فتنصرف عن الغضب بذلك لان نفس الانسان بحسب الفطرة أميل إلى الرحمة منها إلى الغضب ولذلك بعينه ورد في بعض الروايات مطلق تغيير الحال في حال الغضب كما في المجالس عن الصادق عن أبيه عليهما السلام: أنه ذكر الغضب فقال - إن الرجل ليغضب حتى ما يرضى أبدا ويدخل بذلك النار - فأيما رجل غضب وهو قائم فليجلس - فإنه سيذهب عنه رجز الشيطان وإن كان جالسا فليقم - وأيما رجل غضب على ذى رحم فليقم إليه وليدن منه وليمسه - فإن الرحم إذا مست الرحم سكنت أقول وتأثيره محسوس مجرب. قوله عليه السلام وإنها متعلقة بالعرش تنقضه انتقاض الحديد الخ أي تحدث فيه صوتا مثل ما يحدث في الحديد بالنقر وفي الصحاح الانقاض صويت مثل النقر وقد تقدم في الكلام على الكرسي إشارة إجمالية سيأتي تفصيلها في الكلام على العرش أن المراد بالعرش مقام العلم الاجمالي الفعلى بالحوادث وهو من الوجود المرحلة التى تجتمع عندها شتات أزمة الحوادث ومتفرقات الاسباب والعلل الكونية فهى تحرك وحدها سلاسل العلل والاسباب المختلفة المتفرقة أي تتعلق بروحها السارى فيها المحرك لها كما أن أزمة المملكة على اختلاف جهاتها وشؤونها وأشكالها تجتمع في عرش الملك والكلمة الواحدة الصادرة منه تحرك سلاسل القوى والمقامات الفعالة في المملكة وتظهر في كل مورد بما يناسبه من الشكل والاثر. والرحم كما عرفت حقيقة هي كالروح السالب في قوالب الاشخاص الذين يجمعهم جامع القرابة فهي من متعلقات العرش فإذا ظلمت واضطهدت لاذت بما تعلقت به واستنصرت وهو قوله عليه السلام تنقضه انتقاض الحديد وهو من أبدع التمثيلات شبه فيه ما يحدث في هذا الحال بالنقر الواقع على الحديد الذى يحدث فيه رنينا يستوعب بالارتعاش الاهتزاز جميع جسامة الحديد كما في نقر الاجراس والجامات وغيرها.

[ 150 ]

قوله عليه السلام فتنادى اللهم صل من وصلنى واقطع من قطعني حكاية لفحوى التجائها واستنصارها وفي الروايات الكثيرة أن صلة الرحم تزيد في العمر وأن قطعها يقطعه وقد مر في البحث عن ارتباط الاعمال والحوادث الخارجية من أحكام الاعمال في الجزء الثاني من الكتاب أن مدير هذا النظام الكونى يسوقه نحو الاغراض والغايات الصالحة ولن يهمل في ذلك وإذا فسد جزء أو أجزاء منه عالج ذلك إما بإصلاح أو بالحذف والازالة وقاطع الرحم يحارب الله في تكوينه فإن لم يصلح بالاستصلاح بتر الله عمره وقطع دابره وأما أن الانسان اليوم لا يحس بهذه الحقيقة وأمثالها فلا غرو لان الادواء قد أحاطت بجثمان الانسانية فاختلطت وتشابهت وأزمنت فالحس لا يجد فراغا يقوى به على إدراك الالم والعذاب = وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا (2) - و إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فأن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا (3) - وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا (4) - ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا (5) - وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها أسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف

[ 151 ]

فإذا دفعتم إليهم أموالهم فاشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا (6)): = بيان = الآيات تتمة التهميد والتوطئة التى وضعت في أول السورة لبيان أحكام المواريث وعمدة أحكام التزويج كعدد النساء وتعيين المحارم وهذان البابان من أكبر أبواب القوانين الحاكمة في المجتمع الانساني وأعظمها ولهما أعظم التأثير في تكون المجتمع وبقائه فان النكاح يتعين به وضع المواليد من الانسان الذين هم أجزاء المجتمع والعوامل التى تكونه والارث يتعلق بتقسيم الثروة الموجودة في الدنيا التى يبتنى عليها بنية المجتمع في عيشته وبقائه. وقد تعرضت الآيات في ضمن بيانها للنهى عن الزنا والسفاح والنهى عن أكل المال بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض وعند ذلك تأسس أساسان قيمان لامر المجتمع في أهم ما يشكله وهو أمر المواليد وأمر المال. ومن هنا يظهر وجه العناية بالتمهيد المسوق لبيان هذه الاحكام التى تعلقت بالاجتماع الانساني ونشبت في اصوله وجذوره وصرف الناس عما اعتادت عليه جماعتهم والتحمت عليه أفكارهم ونبتت عليه لحومهم ومات عليه أسلافهم ونشأ عليه أخلافهم عسير كل العسر. وهذا شأن ما شرع في صدر هذه السورة من الاحكام المذكورة يتضح ذلك بتأمل إجمالي في وضع العالم الانساني يومئذ بالعموم وفي وضع العالم العربي ودارهم دار نزول القرآن وظهور الاسلام بالخصوص وفي كيفيد تدرج القرآن في نزوله وظهور الاحكام الاسلامية في تشريعها. = كلام في الجاهلية الاولى = القرآن يسمى عهد العرب المتصل بظهور الاسلام بالجاهلية وليس إلا أشارة منه إلى أن الحاكم فيهم يومئذ الجهل دون العلم والمسيطر عليهم في كل شئ الباطل

[ 152 ]

وسفر الرأي دون الحق وكذلك كانوا على ما يقصه القرآن من شؤونهم قال تعالى يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية: آل عمران - 154 وقال أ فحكم الجاهلية يبغون: المائدة - 50 وقال أذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية: الفتح - 26 وقال ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى: الاحزاب - 33. كانت العرب يومئذ تجاور في جنوبها الحبشة وهى نصرانية وفي مغربها إمبراطورية الروم وهى نصرانية وفي شمالها الفرس وهم مجوس وفي غير ذلك الهند ومصر وهما وثنيتان وفي أرضهم طوائف من اليهود وهم أعنى العرب مع ذلك وثنيون يعيش أغلبهم عيشة القبائل وهذا كله هو الذى أوجد لهم اجتماعا همجيا بدويا فيه أخلاط من رسوم اليهودية والنصرانية والمجوسية وهم سكارى جهالتهم قال تعالى وإن تطع أكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون: الانعام - 116. وقد كانت العشائر وهم البدو على ما لهم من خساسة العيش ودناءته يعيشون بالغزوات وشن الغارات واختطاف كل ما في أيدى آخرين من متاع أو عرض فلا أمن بينهم ولا أمانة ولا سلم ولا سلامة والامر إلى من غلب والملك لمن وضع عليه يده. أما الرجال فالفضيلة بينهم سفك الدماء والحمية الجاهلية والكبر والغرور واتباع الظالمين وهضم حقوق المظلومين والتعادى والتنافس والقمار وشرب الخمر والزنا وأكل الميتة والدم وحشف التمر. وأما النساء فقد كن محرومات من مزايا المجتمع الانساني لا يملكن من أنفسهن إرادة ولا من أعمالهن عملا ولا يملكن ميراثا ويتزوج بهن الرجال من غير تحديد بحد كما عند اليهود وبعض الوثنية ومع ذلك فقد كن يتبرجن بالزينة ويدعون من أحببن إلى أنفسهن وفشا فيهن الزنا والسفاح حتى في المحصنات المزوجات منهن ومن عجيب بروزهن أنهن ربما كن يأتين بالحج عاريات. وأما الاولاد فكانوا ينسبون إلى الآباء لكنهم لا يورثون صغارا ويذهب الكبار بالميراث ومن الميراث زوجة المتوفى ويحرم الصغار ذكورا وإناثا والنساء. غير أن المتوفى لو ترك صغيرا ورثه لكن الاقوياء يتولون أمر اليتيم ويأكلون

[ 153 ]

ماله ولو كان اليتيم بنتا تزوجوها وأكلوا مالها ثم طلقوها وخلوا سبيلها فلا مال تقتات به ولا راغب في نكاحها ينفق عليها والابتلاء بأمر الايتام من أكثر الحوادث المبتلى بها بينهم لمكان دوام الحروب والغزوات والغارات فبالطبع كان القتل شائعا بينهم. وكان من شقاء أولادهم أن بلادهم الخربة وأراضيهم القفرة البائرة كان يسرع الجدب والقحط إليها فكان الرجل يقتل أولاده خشية الاملاق الانعام آية 151 وكانوا يئدون البنات التكوير آية 8 وكان من أبغض الاشياء عند الرجل أن يبشر بالانثى الزخرف آية 17 وأما وضع الحكومة بينهم فأطراف شبه الجزيرة وإن كانت ربما ملك فيها ملوك تحت حماية أقوى الجيران وأقربها كإيران لنواحي الشمال والروم لنواحي الغرب والحبشة لنواحي الجنوب إلا أن قرى الاوساط كمكة ويثرب والطائف وغيرها كانت تعيش في وضع أشبه بالجمهورية وليس بها والعشائر في البدو بل حتى في داخل القرى كانت تدار بحكومة رؤسائها وشيوخها وربما تبدل الوضع بالسلطنة. فهذا هو الهرج العجيب الذى كان يبرز في كل عدة معدودة منهم بلون ويظهر في كل ناحية من أرض شبه الجزيرة في شكل مع الرسوم العجيبة والاعتقادات الخرافية الدائرة بينهم وأضف إلى ذلك بلاء الامية وفقدان التعليم والتعلم في بلادهم فضلا عن العشائر والقبائل. وجميع ما ذكرناه من أحوالهم وأعمالهم والعادات والرسوم الدائرة بينهم مما يستفاد من سياق الآيات القرآنية والخطابات التى تخاطبهم بها أوضح استفادة فتدبر في المقاصد التى ترومها الآيات والبيانات التى تلقيها إليهم بمكة أولا ثم بعد ظهور الاسلام وقوته بالمدينة ثانيا وفي الاوصاف التى تصفهم بها والامور التى تذمها منهم وتلومهم عليها والنواهي المتوجهة إليهم في شدتها وضعفها إذا تأملت كل ذلك تجد صحة ما تلوناه عليك على أن التاريخ يذكر جميع ذلك ويتعرض من تفاصيلها ما لم نذكره لاجمال الآيات الكريمة وإيجازها القول فيه وأوجز كلمة وأوفاها لافادة جمل هذه المعاني ما سمى القرآن هذا العهد بعهد الجاهلية فقد أجمل في معناها جميع هذه التفاصيل هذا حال عالم العرب ذلك اليوم.

[ 154 ]

وأما العالم المحيط بهم ذلك اليوم من الروم والفرس والحبشة والهند وغيرهم فالقرآن يجمل القول فيه أما أهل الكتاب منهم أعنى اليهود والنصارى ومن يلحق بهم فقد كانت مجتمعاتهم تدار بالاهواء الاستبدادية والتحكمات الفردية من الملوك والرؤساء والحكام والعمال فكانت مقتسمة طبعا إلى طبقتين طبقة حاكمة فعالة لما تشاء تعبث بالنفس والعرض والمال وطبقة محكومة مستعبدة مستذلة لا أمن لها في مال وعرض ونفس ولا حرية إرادة إلا ما وافق من يفوقها وقد كانت الطبقة الحاكمة استمالت علماء الدين وحملة الشرع وائتلفت بهم وأخذت مجامع قلوب العامة وأفكارهم بأيديهم فكانت بالحقيقة هي الحاكمة في دين الناس ودنياهم تحكم في دين الناس كيفما أرادت بلسان العلماء وأقلامهم وفي دنياهم بالسوط والسيف. وقد اقتسمت الطبقة المحكومة أيضا على حسب قوتها في السطوة والجدة فيما بينهم نظير الاقتسام الاول والناس على دين ملوكهم إلى طبقتي الاغنياء المترفين والضعفاء والعجزة والعبيد وكذا إلى رب البيت ومربوبيه من النساء والاولاد وكذا إلى الرجال المالكين لحرية الارادة والعمل في جميع شؤون الحياة والنساء المحرومات من جميع ذلك التابعات للرجال محضا الخادمات لهم في ما أرادوه منهن من غير استقلال ولو يسيرا. وجوامع هذه الحقائق التاريخية ظاهرة من قوله تعالى قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون: آل عمران - 64 وقد أدرجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه إلى هرقل عظيم الروم وقد قيل إنه كتب بها أيضا إلى عظيم مصر وعظيم الحبشة وملك الفرس وألى نجران. وكذا قوله تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم: الحجرات - 13 وقوله في ما وصى به التزوج بالاماء والفتيات بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن: النساء - 25 وقوله في النساء أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض: آل عمران - 195 إلى غير ذلك من الآيات. وأما غير أهل الكتاب وهم يومئذ الوثنية ومن يلحق بهم فقد كان الوضع فيهم أردأ وأشأم من وضع أهل الكتاب والآيات النازلة في الاحتجاج عليهم تكشف عن

[ 155 ]

خيبة سعيهم وخسران صفقتهم في جميع شؤون الحياة وضروب السعادة قال تعالى ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين قل إنما يوحى إلى إنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء: الانبياء - 109 وقال تعالى واوحى إلى هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ: الانعام - 19. = كيف ظهرت الدعوة الاسلامية = كان وضع المجتمع الانساني يومئذ عهد الجاهلية ما سمعته من إكباب الناس على الباطل وسلطة الفساد والظلم عليهم في جميع شؤون الحياة وهو ذا دين التوحيد وهو الدين الحق يريد أن يؤمر الحق ويوليه عليهم تولية مطلقة ويطهر قلوبهم من ألواث الشرك ويزكى أعمالهم ويصلح مجتمعهم بعد ما تعرق الفساد في جذوره وأغصانه وباطنه وظاهره. وبالجملة يريد الله ليهديهم إلى الحق الصريح وما يريد ليجعل عليهم من حرج ولكن يريد ليطهرهم وليتم نعمته عليهم فما هم عليه من الباطل وما يريد منهم كلمة الحق في نقطتين متقابلتين وقطبين متخالفين فهل كان يجب أن يستمال منهم البعض ويصلح بهم الباقين من أهل الباطل ثم بالبعض البعض حرصا على ظهور الحق مهما كان وبأي وسيلة تيسر كما قيل إن أهمية الغاية تبيح المقدمة ولو كانت محظورة وهذا هو السلوك السياسي الذى يستعمله أهل السياسة. وهذا النحو من السلوك إلى الغرض قلما يتخلف عن الايصال إلى المقاصد في أي باب جرى غير أنه لا يجرى في باب الحق الصريح وهو الذى تؤمه الدعوة الاسلامية فإن الغاية وليدة مقدماتها ووسائلها وكيف يمكن أن يلد الباطل حقا وينتج السقيم صحيحا والوليد مجموعة مأخوذة من اللذين يلدانه. وبغية السياسة وهواها أن تبلغ السلطة والسيطرة وتحوز السبق والتصدر والتعين والتمتع بأي نحو اتفق وعلى أي وصف من أوصاف الخير والشر والحق والباطل انطبق ولا هوى لها في الحق ولكن الدعوة الحقة لا تبتغى إلا الغرض

[ 156 ]

الحق ولو توسلت إليه بباطل لكان ذلك منها إمضاءا وإنفاذا للباطل فتصير دعوة باطلة لا دعوة حقة. ولهذه الحقيقة ظهورات بارزة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والطاهرين من آله عليهم السلام. وبذلك أمره صلى الله عليه وآله وسلم ربه ونزل به القرآن في مواطن راودوه فيها للمساهلة أو المداهنة ولو يسيرا في أمر الدين قال تعالى قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولى دين: سورة الكافرون - وقال تعالى وفيه لحن التهديد ولو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذن لاذقناك ضعف الحياة وضعف الممات: أسرى - 75 وقال تعالى وما كنت متخذ المضلين عضدا: الكهف - 51 وقال تعالى وهو مثل وسيع المعنى والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذى خبث لا يخرج إلا نكدا: الاعراف - 58. وإذ كان الحق لا يمازج الباطل ولا يلتئم به فقد أمره الله سبحانه حينما أعباه ثقل الدعوة بالرفق والتدرج في أمرها بالنظر إلى نفس الدعوة والمدعو والمدعو إليه من ثلاث جهات. الاولى من جهة ما اشتمل عليه الدين من المعارف الحقة والقوانين المشرعة التى من شأنها إصلاح شؤون المجتمع الانساني وقطع منابت الفساد فإن من الصعب المستصعب تبديل عقائد الناس ولا سيما إذا كانت ناشبة في الاخلاق والاعمال وقد استقرت عليها العادات ودارت عليها القرون وسارت عليها الاسلاف ونشأت عليها الاخلاف ولا سيما إذا عمت كلمة الدين ودعوته جميع شؤون الحياة واستوعبت جميع الحركات الانسانية وسكناتها في ظاهرها وباطنها في جميع أزمنتها ولجميع أشخاصها وأفرادها ومجتمعاتها من غير استثناء كما أنه شأن الاسلام فإن ذلك مما يدهش الفكرة تصوره أو هو محال عادى. وصعوبة هذا الامر ومشقته في الاعمال أزيد منها في الاعتقادات فإن استيناس الانسان واعتياده ومساسه بالعمل أقدم منه بالاعتقاد وهو أظهر لحسه وآثر عند

[ 157 ]

شهواته وأهوائه ولذلك أظهرت الدعوة الاعتقادات الحقة في أول أمرها جملة لكن القوانين والشرائع الالهية ظهرت بالتدريج حكما فحكما. وبالجملة تدرجت الدعوة في إلقاء مضمراتها إلى الناس لئلا يشمس عن تلقيها الطباع ولا تتزلزل النفوس في نضد بعض أجزاء الدعوة على بعض وهذا الذى ذكرناه ظاهر للمتدبر الباحث في هذه الحقائق فانه يجد الآيات القرآنية مختلفة في إلقاء المعارف الالهية والقوانين المشرعة في مكيتها ومدنيتها الآيات المكية تدعو إلى كليات أجمل فيها القول والمدنية ونعنى بها ما نزلت بعد الهجرة أينما نزلت تفصل القول وتأتى بالتفاصيل من الاحكام التى سبقت في المكية كلياتها ومجملاتها قال تعالى كلا إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى أرأيت الذى ينهى عبدا إذا صلى أ رأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أرأيت إن كذب وتولى أ لم يعلم بأن الله يرى: العلق - 14 والآيات نازلة في أول الرسالة بعد النبوة على ما مرت إليه الاشارة في آيات الصوم من الجزء الثاني وفيها إجمال التوحيد والمعاد وإجمال أمر التقوى والعبادة. وقال تعالى يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر: المدثر - 3 وهى أيضا من الآيات النازلة في أول البعثة وقال تعالى ونفس وما سويها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكيها وقد خاب من دسيها: الشمس - 10 وقال تعالى قد أفلح من تزكى وذكر إسم ربه فصلى: الاعلى - 15 وقوله تعالى قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكوة وهم بالآخرة هم كافرون إن الذين آمنوا وعلموا الصالحات لهم أجر غير ممنون: حم السجدة - 8 وهذه الآيات أيضا من الآيات النازلة في أوائل البعثة. وقال تعالى قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون: الانعام - 153

[ 158 ]

فانظر إلى سياق الآيات الشريفة كيف اجمل القول فيها في النواهي الشرعية أولا وفي الاوامر الشرعية ثانيا وأنما أجمل بجمع الجميع تحت وصف لا يستنكف حتى العقل العامي من قبوله فإن الفواحش لا يتوقف في شناعتها ولزوم اجتنابها والكف عنها ذو مسكة وكذا الاجتماع على صراط مستقيم يؤمن به التفرق والضعف والوقوع في الهلكة والردى لا يرتاب فيه أحد بحكم الغريزة فقد استمد في هذه الدعوة من غرائز المدعوين ولذلك بعينه ذكر ما ذكر من المحرمات بعنوان التفصيل كعقوق الوالدين والاساءة اليهما وقتل الاولاد من إملاق وقتل النفس المحترمة وأكل مال اليتيم إلى آخر ما ذكر فأن العواطف الغريزية من الانسان تؤيد الدعوة في أمرها لاشمئزازها في حالها العادى عن ارتكاب هذه الجرائم والمعاصي وهناك آيات اخر يعثر عليها المتدبر ويرى أن الحال فيها نظير ما ذكرناه فيما نقلنا من الآيات. وكيف كان فالآيات المكية شأنها الدعوة إلى مجملات فصلتها بعد ذلك الآيات المدنية ومع ذلك فالآيات المدنية نفسها لا تخلو عن مثل هذا التدرج فما جميع الاحكام والقوانين الدينية نزلت في المدينة دفعة واحدة بل تدريجا ونجوما ويكفيك التدبر في أنموذج منها قد تقدمت الاشارة إليها وهى آيات حرمة الخمر فقد قال تعالى ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا: النحل - 67 والآية مكية ذكر فيها أمر الخمر وسكت عنه إلا ما في قوله ورزقا حسنا من الايماء إلى أن السكر ليس من الرزق الحسن ثم قال قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم: الاعراف - 33 والآية أيضا مكية تحرم الاثم صريحا لكن لم تبين أن شرب الخمر إثم إرفاقا في الدعوة إلى ترك عادة سيئة اجتذبتهم إليها شهواتهم ونبتت عليها لحومهم وشدت عظامهم ثم قال يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما: البقرة - 219 والآية مدنية تبين أن شرب الخمر من الاثم الذى حرمته آية الاعراف ولسان الآية كما ترى لسان رفق ونصح ثم قال تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلوة فهل أنتم منتهون: المائدة - 91 والآية مدنية ختم بها أمر التحريم.

[ 159 ]

ونظيرها الارث فقد آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولا بين أصحابه وورث أحد الاخوين الآخر في أول الامر إعدادا لهم لما سيشرعه الله في أمر الوراثة ثم نزل قوله تعالى واولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين: الاحزاب - 6 وعلى هذا النحو غالب الاحكام المنسوخة والناسخة. ففى جميع هذه الموارد وأشباهها تدرجت الدعوة في إظهار الاحكام وإجرائها أخذا بالارفاق لحكمة الحفظ لسهولة التحميل وحسن التلقى بالقبول قال تعالى وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا: أسرى - 106 ولو كان القرآن نزل عليه صلى الله عليه وآله وسلم دفعة واحدة ثم بين الرسول تفاصيل شرائعه على ما يوظفه عليه قوله تعالى وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم: النحل - 44 فأتى ببيان جميع معارفه الاعتقادية والاخلاقية وكليات الاحكام العبادية والقوانين الجارية في المعاملات والسياسات وهكذا لم تستطع الافهام عندئذ تصورها وحملها فضلا عن قبول الناس لها وعملهم بها وحكومتها على قلوبهم في أرادتها وعلى جوارحهم وأبدانهم في فعلها فتنزيله على مكث هو الذى هيأ للدين إمكان القبول والوقوع في القلوب وقال تعالى وقال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا: الفرقان - 32 وفي الآية دلالة على أن سبحانه كان يرفق برسوله صلى الله عليه وآله وسلم في إنزال القرآن نجوما كما أرفق بامته فتدبر في ذلك وتأمله وفي ذيل الآية قوله ورتلناه ترتيلا. ومن الواجب أن يتذكر أن السلوك من الاجمال إلى التفصيل والتدرج في إلقاء الاحكام إلى الناس من باب الارفاق وحسن التربية ورعاية المصلحة غير المداهنة والمساهلة وهو ظاهر. الثانية السلوك التدريجي من حيث انتخاب المدعوين وأخذ الترتيب فيهم فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مبعوثا إلى كافة البشر من غير اختصاص دعوته بقوم دون قوم ولا بمكان دون مكان ولا بزمان دون زمان ومرجع الاخيرين إلى الاول في الحقيقة البتة قال تعالى قل يا أيها الناس إنى رسول الله اليكم جميعا الذى له ملك السموات والارض: الاعراف - 158 وقال تعالى واوحى إلى هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ: الانعام - 19 وقال تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين: الانبياء - 107

[ 160 ]

على أن التاريخ يحكى دعوته صلى الله عليه وآله وسلم اليهود وهم من بنى إسرائيل والروم والعجم والحبشة ومصر وليسوا من العرب وقد آمن به من المشاهير سلمان وهو من العجم ومؤذنه بلال وهو من الحبشة وصهيب وهو من الروم فعموم نبوته صلى الله عليه وآله وسلم في زمانه لا ريب فيه والآيات السابقة تشمل بعمومها الازمان والامكنة أيضا. على أن قوله تعالى وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد: حم السجدة - 42 وقوله تعالى ولكن رسول الله وخاتم النبيين: الاحزاب - 40 تدلان على عموم النبوة وشمولها للامكنة والازمنة أيضا والبحث التفصيلي عن هذه الآيات يطلب من تفسيرها في مواردها. وكيف كان فالنبوة عامة والمتأمل في سعة المعارف والقوانين الاسلامية وما كان عليه الدنيا يوم ظهر الاسلام من ظلمة الجهل وقذارة الفساد والبغى لا يرتاب في عدم إمكان مواجهة الدنيا ومكافحة الشرك والفساد حينئذ دفعة. بل كان من الواجب في الحكمة أن تبدأ الدعوة بالبعض وأن يكون ذلك البعض هو قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم يظهر بركوز الدين فيهم على غيرهم وهكذا كان قال تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم: إبراهيم - 4 وقال ولو نزلناه على بعض الاعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين: الشعراء - 199 والآيات التى تدل على ارتباط الدعوة والانذار بالعرب لا تدل على أزيد من كونهم بعض من تعلقت بهم الدعوة والانذار وكذا الآيات النازلة في التحدي بالقرآن لو كان فيها ما ينحصر تحديه بالبلاغة فحسب إنما هي لكون البلاغة إحدى جهات التحدي بالاعجاز ولا دليل في ذلك على كون الامة العربية هي المقصودة بالدعوة فقط نعم اللسان مقصود بالاستقلال للبيان كما مر من قوله وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم الآية وقوله نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا اليك هذا القرآن: يوسف - 3 وقوله وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين: الشعراء - 195 فاللسان العربي هو المظهر للمعانى والمقاصد الذهنية أتم إظهار ولذلك اختاره الله سبحانه لكتابه العزيز من بين الالسن وقال إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون: الزخرف - 3. وبالجملة أمره الله تعالى بعد القيام بأصل الدعوة أن يبدأ بعشيرته فقال وأنذر

[ 161 ]

عشيرتك الاقربين: الشعراء - 214 فامتثل أمره وجمع عشيرته ودعاهم إلى ما بعث له ووعدهم أن أول من لباه فهو خليفته من بعده فأجابه إلى ذلك على عليه السلام فشكر له ذلك واستهزأ به الباقون على ما في صحاح الروايات (1) وكتب التاريخ والسير ثم لحق به اناس من أهله كخديجة ه زوجته وعمه حمزة بن عبد المطلب وعبيد وعمه أبى طالب على ما روته الشيعة وفي أشعاره تصريحات وتلويحات بذلك (2) وإنما لم يتظاهر بالايمان ليتمكن من حمايته صلى الله عليه وآله وسلم. ثم أمره الله سبحانه أن يوسع الدعوة لقومه على ما يظهر من قوله وكذلك أوحينا اليك قرآنا عربيا لتنذر ام القرى ومن حولها: الشورى - 7 وقوله لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون: الم السجدة - 3 وقوله واوحى إلى هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ وهذه الآية من الشواهد على أن الدعوة غير مقصورة عليهم وإنما بدأ بهم حكمة ومصلحة. ثم أمره الله سبحانه بتوسعة الدعوة للدنيا من جميع المليين وغيرهم كما يدل عليه الآيات السابقة كقوله تعالى قل يا أيها الناس إنى رسول الله اليكم جميعا وقوله ولكن رسول الله وخاتم النبيين وغيرهما مما تقدم. الثالثة الاخذ بالمراتب من حيث الدعوة والارشاد والاجراء وهى الدعوة بالقول والدعوة السلبية والجهاد. أما الدعوة بالقول فهى مما يستفاد من جميع القرآن بالبداهة وقد أمره الله سبحانه برعاية الكرامات الانسانية والاخلاق الحسنة في ذلك قال تعالى قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى ألى: الكهف - 110 وقال واخفض جناحك للمؤمنين: الحجر - 88 وقال ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هي أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم: حم السجدة 34 وقال ولا تمنن تستكثر: المدثر - 6 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.


(1) راجع سادس البحار وسيرة ابن هشام وغيرهما. (2) راجع ديوان أبي طالب.

[ 162 ]

وأمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يستعمل جميع فنون البيان على حسب اختلاف الافهام واستعدادات الاشخاص قال تعالى ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " النحل - 125 ". وأما الدعوة السلبية فهو اعتزال المؤمنين الكافرين في دينهم وأعمالهم وتكوين مجتمع إسلامي لا يمازجه دين غيرهم ممن لا يوحد الله سبحانه ولا أعمال غير المسلمين من المعاصي وسائر الرذائل الاخلاقية إلا ما أوجبته ضرورة الحياة من المخالطة قال تعالى لكم دينكم ولي دين: الكافرون - 6 وقال فاستقم كما امرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون: هود - 113 وقال فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لاعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا واليه المصير: الشورى - 15 وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق إلى أن قال لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم ؟ ؟ أن تولوهم ومن يتولهم فاولئك هم الظالمون: الممتحنة - 9 والآيات في معنى التبري والاعتزال عن أعداء الدين كثيرة وهي كما ترى تشرح معنى هذا التبري وكيفيته وخصوصيته. وأما الجهاد فقد تقدم الكلام فيه في ذيل آيات الجهاد من سورة البقرة وهذه المراتب الثلاث من مزايا الدين الاسلامي ومفاخره والمرتبة الاولى لازمه في الاخيرتين وكذا الثانية في الثالثة فقد كانت من سيرته صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة والموعظة في غزواته قبل الشروع فيها على ما أمره به ربه سبحانه فقال فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء ". ومن أخنى القول ما نبذوا به الاسلام أنه دين السيف دون الدعوة مع أن الكتاب والسيرة والتاريخ تشهد به وتنوره ولكن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور. وهؤلاء المنتقدون بعضهم من أهل الكنيسه التي كانت عقدت منذ قرون فيها محكمة دينية تقضي على المنحرفين عن الدين بالنار تشبها بالمحكمة الالهية يوم القيامة

[ 163 ]

فكان عمالها يجولون في البلاد فيجلبون إليها من الناس من اتهموه بالردة ولو بالاقوال الحديثة في الطبيعيات والرياضيات مما لم يقل به الفلسفة الاسكو لاستيكية التي كانت الكنيسة تروجها. فليت شعري هل بسط التوحيد وقطع منابت الوثنية وتطهير الدنيا من قذارة الفساد أهم عند العقل السليم أو تخنيق من قال بمثل حركة الارض أو نفي الفلك البطليموسي ورد أنفاسه إلى صدره والكنيسة هي التي أثارت العالم المسيحي على المسلمين باسم الجهاد مع الوثنية فأقامت الحروب الصليبية على ساقها مائتي سنة تقريبا وخربت البلاد وأفنت الملايين من النفوس وأباحت الاعراض. وبعضهم من غير أهل الكنيسة من المدعين للتمدن والحرية ! ! وهؤلاء هم الذين يوقدون نار الحروب العالمية ويقلبون الدنيا ظهر البطن كلما هتفت بهم مزاعمهم توجه خطر يسير على بعض منافعهم المادية فهل استقرار الشرك في الدنيا وانحطاط الاخلاق وموت الفضائل وإحاطة الشؤم والفساد على الارض ومن فيها أضر أم زوال السلطة على أشبار من الارض أو الخسارة في دريهمات يسيرة ؟ ! نعم إن الانسان لربه لكنود. ويعجبني نقل ما ذكره بعض المحققين الاعاظم (1) في هذا الباب في بعض رسائله قال رحمه الله الوسائل المتبعة للاصلاح الاجتماعي وتحقيق العدل وتمزيق الظلم ومقاومة الشر والفساد تكاد تنحصر في ثلاثة أنواع: 1 - وسائل الدعوة والارشاد بالخطب والمقالات والمؤلفات والنشرات وهذه هي الخطة الشريفة التي أشار إليها الحق جل شأنه بقوله ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن وقوله ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وهذه هي الطريقة التي استعملها الاسلام في أول البعثة إلى أن قال: 2 - وسائل المقاومة السلمية والسلبية كالمظاهرات والاضرابات والمقاطعة الاقتصادية وعدم التعاون مع الظالمين وعدم الاشتراك في أعمالهم وحكومتهم


(1) الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء في رسالة: المثل العليا في الاسلام لا في بحمدون. (*)

[ 164 ]

وأصحاب هذه الطريقة لا يبيحون اتخاذ طريق الحرب والقتل والعنف وهي المشار إليها بقوله تعالى ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ولا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء وفي القرآن الكريم كثير من الآيات التي تشير إلى هذه الطريقة وأشهر من دعا إلى هذه الطريقة وأكد عليها النبي الهندي بوذا والمسيح عليه السلام والاديب الروسي تولستوي والزعيم الهندي الروحي غاندي. 3 - الحرب والثورة والقتال. والاسلام يتدرج في هذه الاساليب الثلاثة الاولى الموعظة الحسنة والدعوة السليمة فإن لم ينجح في دفع الظالمين ودرء فسادهم واستبدادهم فالثانية المقاطعة السلمية أو السلبية وعدم التعاون والمشاركة معهم فإن لم تجد وتنفع فالثالثة الثورة المسلحة فإن الله لا يرضى بالظلم أبدا بل والراضي الساكت شريك الظالم. الاسلام عقيدة وقد غلط وركب الشطط من قال إن الاسلام نشر دعوته بالسيف والقتال فإن الاسلام إيمان وعقيدة والعقيدة لا تحصل بالجبر والاكراه وإنما تخضع للحجة والبرهان والقرآن المجيد ينادي بذلك في عدة آيات منها لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي. والاسلام إنما استعمل السيف وشهر السلاح على الظالمين الذين لم يقتنعوا بالآيات والبراهين استعمل القوة في سبيل من وقف حجر عثرة في سبيل الدعوة إلى الحق أجهز السلاح لدفع شر المعاندين لا إلى إدخالهم في حظيرة الاسلام يقول جل شأنه قاتلوهم حتى لا تكون فتنة فالقتال إنما هو لدفع الفتنة لا لاعتناق الدين والعقيدة. فالاسلام لا يقاتل عبطة واختيارا وإنما يحرجه الاعداء فيلتجئ إليه اضطرارا ولا يأخذ منه إلا بالوسائل الشريفة فيحرم في الحرب والسلم التخريب والاحراق والسم وقطع الماء عن الاعداء كما يحرم قتل النساء والاطفال وقتل الاسرى ويوصي بالرفق بهم والاحسان إليهم مهما كانوا من العداء والبغضاء للمسلمين ويحرم الاغتيال في الحرب والسلم ويحرم قتل الشيوخ والعجزة ومن لم يبدأ بالحرب ويحرم الهجوم على العدو ليلا وانبذ إليهم على سواء ويحرم القتل على الظنة والتهمة والعقاب قبل ارتكاب الجريمة إلى أمثال ذلك من الاعمال التي يأباها الشرف والمروءة والتي تنبعث من الخسة والقسوة والدناءة والوحشية.

[ 165 ]

كل تلك الاعمال التي أبى شرف الاسلام ارتكاب شئ منها مع الاعداء في كل ما كان له من المعارك والحروب قد ارتكبتها بأفظع صورها وأهول أنواعها الدول المتمدنة في هذا العصر الذي يسمونه عصر النور نعم أباح عصر النور قتل النساء والاطفال والشيوخ والمرضى والتبييت ليلا والهجوم ليلا بالسلاح والقنابل على العزل والمدنيين الآمنين وأباح القتل بالجملة. ألم يرسل الالمان في الحرب العالمية الثانية القنابل الصاروخية إلى لندن فهدمت المباني وقتلت النساء والاطفال والسكان الآمنين ؟ ! ألم يقتل الالمان الوف الاسرى ؟ ! ألم يرسل الحلفاء في الحرب الماضية الوف الطائرات إلى ألمانيا لتخريب مدنها ؟ ! ألم يرم الامريكان القنابل الذرية إلى المدن اليابانية. وبعد اختراع وسائل الدمار الحديثة كالصواريخ والقنابل الذرية والهيدروجينية لا يعلم إلا الله ماذا يحل بالارض من عذاب وخراب ومآسي وآلام إذا حدثت حرب عالمية ثالثة ولجأت الدول المتحاربة إلى استعمال تلك الوسائل أرشد الله الانسان إلى طريق الصواب وهداه الصراط المستقيم انتهى. قوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم إلى آخر الآية أمر بإيتاء اليتامى أموالهم وهو توطئة للجملتين اللاحقتين ولا تتبدلوا إلخ أو الجملتان كالمفسر لهذه الجملة غير أن التعليل الذي في آخر الآية لكونه راجعا إلى الجملتين أو الجملة الاخيرة يؤيد أن الجملة الاولى موضوعة في الكلام تمهيدا للنهي الذي في الجملتين اللاحقتين. أصل النهي عن التصرف المضار في أموال اليتامى كما تقدم بيانه توطئة وتمهيد لما سيذكر من أحكام الارث ولما سيذكر في الآية التالية من حكم التزوج. وأما قوله تعالى ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب أي لا تتبدلوا الخبيث من أموالكم من الطيب من أموالهم بأن يكون لهم عندكم مال طيب فتعزلوه لانفسكم وتردوا إليهم ما يعادله من ردي أموالكم ويمكن أن يكون المراد لا تتبدلوا أكل الحرام من أكل الحلال كما قيل لكن المعنى الاول أظهر فإن الظاهر أن كلا من الجملتين أعني قوله ولا تتبدلوا الخ وقوله ولا تأكلوا الخ بيان لنوع خاص من التصرف غير الجائز وقوله وآتوا اليتامى الخ تمهيد لبيانهما معا وأما قوله إنه كان حوبا كبيرا

[ 166 ]

الحوب الاثم مصدر واسم مصدر قوله تعالى وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانحكوا ما طاب لكم من النساء قد مرت الاشارة فيما مر إلى أن أهل الجاهلية من العرب وكانوا لا يخلون في غالب الاوقات عن الحروب والمقاتل والغيلة والغارة وكان يكثر فيهم حوادث القتل كان يكثر فيهم الايتام وكانت الصناديد والاقوياء منهم يأخذون إليهم يتامى النساء وأموالهن فيتزوجون بهن ويأكلون أموالهن إلى أموالهم ثم لا يقسطون فيهن وربما أخرجوهن بعد أكل مالهن فيصرن عاطلات ذوات مسكنة لا مال لهن يرتزقن به ولا راغب فيهن فيتزوج بهن وينفق عليهن وقد شدد القرآن الكريم النكير على هذا الدأب الخبيث والظلم الفاحش وأكد النهي عن ظلم اليتامى وأكل أموالهم كقوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا: النساء - 10 وقوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا الآية: النساء - 2 فأعقب ذلك أن المسلمين أشفقوا على أنفسهم كما قيل وخافوا خوفا شديدا حتى أخرجوا اليتامى من ديارهم خوفا من الابتلاء بأموالهم والتفريط في حقهم ومن أمسك يتيما عنده أفرز حظه من الطعام والشراب وكان إذا فضل من غذائهم شئ لم يدنوا منه حتى يبقى ويفسد فاصبحوا متحرجين من ذلك وسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك وشكوا إليه فنزل ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لاعنتكم إن الله عزيز حكيم البقرة - 220 فأجاز لهم أن يؤووهم ويمسكوهم إصلاحا لشأنهم وإن يخالطوهم فإنهم إخوانهم فجلى عنهم وفرج همهم. إذا تأملت في ذلك ثم رجعت إلى قوله تعالى وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا الخ وهو واقع عقيب قوله وآتوا اليتامى أموالهم الآية اتضح لك أن الآية واقعة موقع الترقي بالنسبة إلى النهي الواقع في الآية السابقة والمعنى والله أعلم: اتقوا أمر اليتامى ولا تتبدلوا خبيث أموالكم بطيب أموالهم ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم حتى أنكم إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتيمات منهم ولم تطب نفوسكم أن تنكحوهن وتتزوجوا بهن فدعوهن وانكحوا نساءا غيرهن ما

[ 167 ]

طاب لكم مثنى وثلاث ورباع. فالشرطية أعني قوله إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء في معنى قولنا إن لم تطب لكم اليتامى للخوف من عدم القسط فلا تنكحوهن وانكحوا نساءا غيرهن فقوله فانكحوا ساد مسد الجزاء الحقيقي وقوله ما طاب لكم يغني عن ذكر وصف النساء أعني لفظ غيرهن وقد قيل ما طاب لكم ولم يقل من طاب لكم إشارة إلى العدد الذي سيفصله بقوله مثنى وثلاث إلخ ووضع قوله إن خفتم أن لا تقسطوا موضع عدم طيب النفس من وضع السبب موضع المسبب مع الاشعار بالمسبب في الجزاء بقوله ما طاب لكم هذا. وقد قيل في معنى الآية امور أخر غير ما مر على ما ذكر في مطولات التفاسير وهي كثيرة منها أنه كان الرجل منهم يتزوج بالاربع والخمس وأكثر ويقول ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان فإذا فنى ماله مال إلى مال اليتيم الذي في حجره فنهاهم الله عن أن يتجاوزوا الاربع لئلا يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيم ظلما. ومنها أنهم كانوا يشددون في أمر اليتامى ولا يشددون في أمر النساء فيتزوجون منهن عددا كثيرا ولا يعدلون بينهن فقال تعالى إن كنتم تخافون أمر اليتامى فخافوا في النساء فانكحوا منهن واحدة إلى أربع. ومنها أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى وأكل أموالهم فقال سبحانه إن كنتم تحرجتم من ذلك فكذلك تحرجوا من الزنا وانكحوا ما طاب لكم من النساء ومنها أن المعنى إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتيمة المرباة في حجوركم فانكحوا ما طاب لكم من النساء مما احل لكم من يتامى قرباتكم مثنى وثلاث ورباع. ومنها أن المعنى إن كنتم تتحرجون عن مواكلة اليتامى فتحرجوا من الجمع بين النساء وأن لا تعدلوا بينهن ولا تتزوجوا منهن إلا من تأمنون معه الجور فهذه وجوه ذكروها لكنك بصير بأن شيئا منها لا ينطبق على لفظ الآية ذاك الانطباق فالمصير إلى ما قدمناه. قوله تعالى مثنى وثلاث ورباع بناء مفعل وفعال في الاعداد تدلان على تكرار المادة فمعنى مثنى وثلاث ورباع اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا ولما

[ 168 ]

كان الخطاب متوجها إلى أفراد الناس وقد جئ بواو التفصيل بين مثنى وثلاث ورباع الدال على التخيير أفاد الكلام أن لكل واحد من المؤمنين أن يتخذ لنفسه زوجتين أو ثلاثا أو أربعا فيصرن بالاضافة إلى الجميع مثنى وثلاث و رباع. وبذلك وبقرينة قوله بعده وإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم وكذا آية المحصنات بجميع ذلك يدفع أن يكون المراد بالآية أن تنكح الاثنتان بعقد واحد أو الثلاث بعقد واحد مثلا أو يكون المراد أن تنكح الاثنتان معا ثم الاثنتان معا وهكذا وكذا في الثلاث والاربع أو يكون المراد اشتراك أزيد من رجل واحد في الزوجد الواحدة مثلا فهذه محتملات لا تحتملها الآية. على أن الضرورة قاضية أن الاسلام لا ينفذ الجمع بين أزيد من أربع نسوة أو اشتراك أزيد من رجل في زوجة واحدة. وكذا يدفع بذلك احتمال أن يكون الواو للجمع فيكون في الكلام تجويز الجمع بين تسع نسوة لان مجموع الاثنتين والثلاث والاربع تسع وقد ذكر في المجمع أن الجمع بهذا المعنى غير محتمل البتة فأن من قال دخل القوم البلد مثنى وثلاث ورباع لم يلزم منه اجتماع الاعداد فيكون دخولهم تسعة تسعة ولان لهذا العدد لفظا موضوعا وهو تسع فالعدول عنه إلى مثنى وثلاث ورباع نوع من العى جل كلامه عن ذلك وتقدس. قوله تعالى وأن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أي فانكحوا واحدة لا أزيد وقد علقه تعالى على الخوف من ذلك دون العلم لان العلم في هذه الامور ولتسويل النفس فيها أثر بين لا يحصل غالبا فتفوت المصلحة. قوله تعالى أو ما ملكت أيمانكم وهى الاماء فمن خاف أن لا يقسط فيهن فعليه أن ينكح واحدة وأن أحب أن يزيد في العدد فعليه بالاماء إذ لم يشرع القسم في الاماء. ومن هنا يظهر أن ليس المراد التحضيض على الاماء بتجويز الظلم والتعدى عليهن فأن الله لا يحب الظالمين وليس بظلام للعبيد بل لما لم يشرع القسم فيهن فأمر العدل فيهن أسهل ولهذه النكتة بعينها كان المراد بذكر ملك اليمين الاكتفاء باتخاذهن وأتيانهن بملك اليمين دون نكاحهن بما يبلغ العدد أو يكثر عليه فأن مسألة نكاحهن

[ 169 ]

سيتعرض لها في ما سيجئ من قوله ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات الآية: النساء - 25. قوله تعالى ذلك أدنى أن لا تعولوا العول هو الميل أي هذه الطريقة على ما شرعت أقرب من أن لا تميلوا عن العدل ولا تتعدوا عليهن في حقوقهن وربما قيل إن العول بمعنى الثقل وهو بعيد لفظا ومعنى. وفي ذكر هذه الجملة التى تتضمن حكمة التشريع دلالة على أن أساس التشريع في أحكام النكاح على القسط ونفى العول والاجحاف في الحقوق. قوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة الصدقة بضم الدال وفتحها والصداق هو المهر والنحلة هي العطية من غير مثامنة. وفي إضافة الصدقات إلى ضمير هن دلالة على أن الحكم بوجوب الايتاء مبنى على المتداول بين الناس في سنن الازدواج من تخصيص شئ من المال أو أي شئ له قيمة مهرا لهن كأنه يقابل به البضع مقابلة الثمن المبيع فإن المتداول بين الناس أن يكون الطالب الداعي للازدواج هو الرجل على ما سيأتي في البحث العلمي التالى وهو الخطبة كما أن المشترى يذهب بالثمن إلى البائع ليأخذ سلعته وكيف كان ففى الآية إمضاء هذه العادة الجارية عند الناس. ولعل إمكان توهم عدم جواز تصرف الزوج في المهر أصلا حتى برضى من الزوجة هو الموجب للاتيان بالشرط في قوله فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا مع ما في اشتراط الاكل بطيب النفس من تأكيد الجملة السابقة المشتملة على الحكم والدلالة على أن الحكم وضعي لا تكليفي. والهناء سهولة الهضم وقبول الطبع ويستعمل في الطعام والمرئ من الرى وهو في الشراب كالهنئ في الطعام غير أن الهناء يستعمل في الطعام والشراب معا فإذا قيل هنيئا مريئا اختص الهناء بالطعام والرى بالشراب. قوله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما السفه خفة العقل وكأن الاصل في معناه مطلق الخفة فيما من شأنه أن لا يخف ومنه الزمام السفيه أي كثير الاضطراب وثوب سفيه أي ردئ النسج ثم غلب في خفة النفس واختلف

[ 170 ]

باختلاف الاغراض والمقاصد فقيل سفيه لخفيف الرأي في الامور الدنيوية وسفيه للفاسق غير المبالي في أمر دينه وهكذا. وظاهر ما يتراءى من الآية أنه نهى عن الاكثار في الانفاق على السفهاء وإعطائهم من المال أزيد من حاجاتهم الضرورية في الارتزاق غير أن وقوع الآية في سياق الكلام في أموال اليتامى التى يتولى أمر إدارتها وإنمائها الاولياء قرينة معينة على كون المراد بالسفهاء هم السفهاء من اليتامى وأن المراد بقوله أموالكم في الحقيقة أموالهم اضيف إلى الاولياء بنوع من العناية كما يشهد به أيضا قوله بعد و ارزقوهم فيها واكسوهم وإن كان ولا بد من دلالة الآية على أمر سائر السفهاء غير اليتامى فالمراد بالسفهاء ما يعم اليتيم وغير اليتيم لكن الاول أرجح. وكيف كان فلو كان المراد بالسفهاء سفهاء اليتامى فالمراد بقوله أموالكم أموال اليتامى وإنما اضيفت إلى الاولياء المخاطبين بعناية أن مجموع المال والثروة الموجودة في الدنيا لمجموع أهلها وإنما اختص بعض أفراد المجتمع ببعض منه وآخر بآخر للصلاح العام الذى يبتنى عليه أصل الملك والاختصاص فيجب أن يتحقق الناس بهذه الحقيقة ويعلموا أنهم مجتمع واحد والمال كله لمجتمعهم وعلى كل واحد منهم أن يكلاه ويتحفظ به ولا يدعه يضيع بتبذير نفوس سفيهة وتدبير كل من لا يحسن التدبير كالصغير والمجنون وهذا من حيث الاضافة كقوله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم: النساء - 25 ومن المعلوم أن المراد بالفتيات ليس الاماء اللاتى يملكها من يريد النكاح. ففى الآية دلالة على حكم عام موجه إلى المجتمع وهو أن المجتمع ذو شخصية واحدة له كل المال الذى أقام الله به صلبه وجعله له معاشا فيلزم على المجتمع أن يدبره ويصلحه ويعرضه معرض النماء ويرتزق به ارتزاقا معتدلا مقتصدا ويحفظه عن الضيعة والفساد ومن فروع هذا الاصل أنه يجب على الاولياء أن يتولوا أمر السفهاء فلا يؤتوهم أموالهم فيضيعوها بوضعها في غير ما ينبغى أن توضع فيه بل عليهم أن يحبسوها عنهم ويصلحوا شأنها وينموها بالكسب والاتجار والاسترباح ويرزقوا اولئك السفهاء من فوائدها ونمائها دون أصلها حتى لا ينفد رويدا رويدا وينتهى إلى مسكنة صاحب المال وشقوته.

[ 171 ]

ومن هنا يظهر أن المراد بقوله وارزقوهم فيها واكسوهم أن يرتزق السفيه في المال بأن يعيش من نمائه ونتاجه وأرباحه لا من المال بأن يشرع في الاكل من أصله على ركود منه من غير جريان ودوران فينفد عن آخره وهذه هي النكتة في قوله فيها دون أن يقول منها كما ذكره الزمخشري. ولا يبعد أن يستفاد من الآية عموم ولاية المحجور عليهم بمعنى أن الله لا يرضى بإهمال أمر هؤلاء بل على المجتمع الاسلامي تولى أمرهم فإن كان هناك واحد من الاولياء الاقربين كالاب والجد فعليه التولى والمباشرة وإلا فعلى الحكومة الشرعية أو على المؤمنين أن يقوموا بالامر على التفصيل المذكور في الفقه = كلام في أن جميع المال لجميع الناس = هذه حقيقة قرآنية هي أصل لاحكام وقوانين هامة في الاسلام أنى ما تفيده هذه الآية أن المال لله ملكا حقيقيا جعله قياما ومعاشا للمجتمع الانساني من غير أن يقفه على شخص دون شخص وقفا لا يتغير ولا يتبدل وهبة تنسلب معها قدرة التصرف التشريعي ثم أذن في اختصاصهم بهذا الذى خوله الجميع على طبق نسب مشرعة كالوراثة والحيازة والتجارة وغير ذلك وشرط لتصرفهم امورا كالعقل والبلوغ ونحو ذلك. والاصل الثابت الذى يراعى حاله ويتقدر به فروعه هو كون الجميع للجميع فإنما تراعى المصالح الخاصة على تقدير انحفاظ المصلحة العامة التى تعود إلى المجتمع وعدم المزاحمة وأما مع المزاحمة والمفاوتة فالمقدم هو صلاح المجتمع من غير تردد. ويتفرع على هذا الاصل الاصيل في الاسلام فروع كثيرة هامة كأحكام الانفاق ومعظم أحكام المعاملات وغير ذلك وقد أيده الله تعالى في موارد من كتابه كقوله تعالى خلق لكم ما في الارض جميعا: البقرة - 29 وقد أوردنا بعض الكلام المتعلق بهذا المقام في البحث عن آيات الانفاق من سورة البقرة فليراجع هناك. قوله تعالى وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا قد تقدم استيفاء الكلام في معنى الرزق في قوله تعالى وترزق من تشاء بغير حساب: آل عمران - 27 وقوله وارزقوهم فيها واكسوهم كقوله وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن

[ 172 ]

البقرة - 233 فالمراد بالرزق هو الغذاء الذى يغتذى به الانسان والكسوة ما يلبسه مما يقيه الحر والبرد غير أن لفظ الرزق والكسوة في عرف القرآن كالكسوة والنفقة في لساننا كالكناية تكنى بها عن مجموع ما ترتفع به حوائج الانسان المادية الحيوية فيدخل فيه سائر ما يحتاج إليه الانسان كالمسكن ونحوه كما أن الاكل ذو معنى خاص بحسب أصله ثم يكنى به عن مطلق التصرفات كقوله فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا الآية. وأما قوله وقولوا لهم قولا معروفا فإنما هو كلمة أخلاقية يصلح بها أمر الولاية فأن هؤلاء وإن كانوا سفهاء محجورين عن التصرف في أموالهم غير أنهم ليسوا حيوانا أعجم ولا من الانعام السائمة بل بشر يجب أن يعامل معهم معاملة الانسان فيكلموا بما يكلم به الانسان لا بالمنكر من القول ويعاشروا بما يعاشر به الانسان. ومن هنا يظهر أن من الممكن أن يكون قوله وقولوا لهم قولا معروفا كناية عن المعاملة الحسنة والمعاشرة الممدوحة غير المذمومة كما في قوله تعالى وقولوا للناس حسنا: البقرة - 83. قوله تعالى وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم ألى قوله أموالهم الابتلاء الامتحان والمراد من بلوغ النكاح بلوغ أوانه ففيه مجاز عقلي والايناس المشاهدة وفيه شوب من معنى الالفة فإن مادته الانس والرشد خلاف الغى وهو الاهتداء إلى مقاصد الحياة ودفع مال اليتيم إليه كناية عن إعطائه إياه وإقباضه له كأن الولى يدفعه إليه ويبعده من نفسه فهو على ابتذاله كناية لطيفة. وقوله حتى إذا بلغوا النكاح متعلق بقوله وابتلوا ففيه دلالة ما على الاستمرار بأن يشرع الولى في ابتلائه من أول ما يأخذ في التمييز ويصلح للابتلاء حتى ينتهى إلى أوان النكاح ويبلغ مبلغ الرجال ومن طبع هذا الحكم ذلك فأن إيناس الرشد لا يحصل بابتلاء الصبى في واقعة أو واقعتين بل يجب تكراره إلى أن يحصل الايناس ويتمشى بالطبع في مدة مديدة حتى يبلغ الرهاق ثم النكاح. وقوله فإن آنستم الخ تفريع على قوله وابتلوا والمعنى وامتحنوهم فإن آنستم منهم الرشد فادفعوا إليهم أموالهم والكلام يؤذن بأن بلوغ النكاح بمنزلة المقتضى لدفع

[ 173 ]

المال إلى اليتيم واستقلاله بالتصرف في مال نفسه والرشد شرط لنفوذ التصرف وقد فصل الاسلام النظر في أمر البلوغ من الانسان فاكتفى في أمر العبادات وأمثال الحدود والديات بمجرد السن الشرعي الذى هو سن النكاح واشترط في نفوذ التصرفات المالية والاقارير ونحوها مما تفصيل بيانه في الفقه مع بلوغ النكاح الرشد وذلك من لطائف سلوكه في مرحلة التشريع فإن اهمال أمر الرشد وألغاءه في التصرفات المالية ونحوها مما يختل به نظام الحياة الاجتماعية في قبيل الايتام ويكون نفوذ تصرفاتهم وأقاريرهم مفضيا إلى غرور الافراد الفاسدة إياهم وإخراج جميع وسائل الحياة من أيديهم بأدنى وسيلة بالكلمات المزيفة والمواعيد الكاذبة والمعاملات الغررية ألى ذلك فالرشد لا محيص من اشتراطه في هذا النوع من الامور وأما أمثال العبادات فعدم الحاجة فيها إلى الاشتراط ظاهر وكذا أمثال الحدود والديات فإن ادراك قبح هذه الجنايات والمعاصي وفهم وجوب الكف عنها لا يحتاج فيه إلى الرشد بل الانسان يقوى على تفهم ذلك قبله ولا يختلف حاله في ذلك قبل الرشد و بعده. قوله تعالى ولا تأكلوها أسرافا وبدارا أن يكبروا اه الاسراف هو التعدي عن الاعتدال في العمل والبدار هو المبادرة إلى الشئ وقوله وبدارا أن يكبروا في معنى حذر أن يكبروا فلا يدعوكم أن تأكلوا وحذف النفى أو ما في معناه قبل أن وأن قياسي على ما ذكره النحاة قال تعالى يبين الله لكم أن تضلوا: النساء - 176 أي لئلا تضلوا أو حذر أن تضلوا. والتقابل الواقع بين الاكل إسرافا والاكل بدارا أن يكبروا يعطى أن الاكل إسرافا هو التعدي إلى أموالهم من غير حاجة ولا شائبة استحقاق بل إجحافا من غير مبالاة والاكل بدارا أن يأكل الولى منها مثل ما يعد اجرة لعمله فيها عادة غير أن اليتيم لو كبر أمكن أن يمنعه عن مثل هذا الاكل فالجميع ممنوع إلا أن يكون الولى فقيرا لا محيص له من أن يشتغل بالاكتساب لسد جوعه أو يعمل لليتيم ويسد حاجته الضرورية من ماله وهذا بالحقيقة يرجع إلى ما يأخذ العامل للتجارة والبناية ونحوهما وهو الذى ذكره بقوله من كان غنيا أي لا يحتاج في معاشه إلى الاخذ من مال اليتيم فليستعفف أي ليطلب طريق العفة وليلزمه فلا يأخذ من أموالهم ومن كان فقيرا فليأكل منها بالمعروف وذكر بعض المفسرين أن المعنى فليأكل بالمعروف من مال نفسه لا من

[ 174 ]

أموالهم وهو لا يلائم التفصيل بين الغنى والفقير. وأما قوله تعالى فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم فتشريع للاستشهاد عند الدفع تحكيما للامر ورفعا لغائلة الخلاف والنزاع فمن الممكن أن يدعى اليتيم بعد الرشد وأخذ المال من الولى عليه ثم ذيل الجميع بقوله تعالى وكفى بالله حسيبا ربطا للحكم بمنشأه الاصلى الاولى أعنى محتد كل حكم من أسمائه وصفاته تعالى فإنه تعالى لما كان حسيبا لم يكن ليخلى أحكام عباده من غير حساب دقيق وهو تشريعه المحكم وتتميما للتربية الدينية الاسلامية فإن الاسلام يأخذ في تربية الناس على أساس التوحيد إذ الاشهاد وإن كان رافعا غالبا للخلاف والنزاع لكن ربما تخلف عنه لانحراف من الشهود في عدالتهم أو غير ذلك من متفرقات العوامل لكن السبب المعنوي العالي القوى هو تقوى الله الذى كفى به حسيبا فلو جعل الولى والشهود واليتيم الذى دفع إليه المال هذا المعنى نصب أعينهم لم يقع هناك اختلاف ولا نزاع البتة. فانظر إلى الآيتين كيف أبدعتا في البيان فقد بينتا أولا رؤوس مسائل الولاية على أموال اليتامى والمحجور عليهم ومهماتها من كيفية الاخذ والحفظ والانماء والتصرف والرد ووقت الاخذ والدفع وتحكيم مبناه ببيان وجه المصلحة العامة في ذلك كله وهو أن المال لله جعله قياما للانسان على ما تقدم بيانه. وثانيا الاصل الاخلاقي الذى يربى الانسان على وفق هذه الشرائع وهو الذى ذكره تعالى بقوله وقولوا لهم قولا معروفا. وثالثا ببناء الجميع على أصل التوحيد الحاكم بوحدته في جميع الاحكام العملية والاخلاقية والباقى على حسن تأثيره في جميع الموارد لو فرض ضعف الاحكام العملية والدستورات الاخلاقية من حيث الاثر وهو الذى ذكره بقوله وكفى بالله حسيبا. = بحث روائي = في الدر المنثور: في قوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم الآية - أخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير قال - إن رجلا من غطفان - كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم - فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عنه - فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية وآتوا اليتامى

[ 175 ]

أموالهم الحديث وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: لا يحل لماء الرجل أن يجرى في أكثر من أربعة أرحام من الحرائر وفي الكافي عنه عليه السلام: إذا جمع الرجل أربعا فطلق إحداهن فلا يتزوج الخامسة - حتى تنقضي عدة المرأة التى طلق أقول والروايات في الباب كثيرة. وفي العلل بإسناده عن محمد بن سنان: أن الرضا عليه السلام كتب إليه فيما كتب - من جواب مسائله علة تزويج الرجل أربع نسوة - وتحريم أن تتزوج المرأة أكثر من واحد - لان الرجل إذا تزوج أربع نسوة كان الولد منسوبا إليه - والمرأة لو كان لها زوجان أو أكثر من ذلك لم يعرف الولد لمن هو - إذ هم مشتركون في نكاحها - وفي ذلك فساد الانساب والمواريث والمعارف - قال محمد بن سنان ومن علل النساء الحرائر (1) وتحليل أربع نسوة لرجل واحد أنهن أكثر من الرجال - فلما نظر والله أعلم يقول الله عز وجل - فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع - فذلك تقدير قدره الله تعالى ليتسع فيه الغنى و الفقير - فيتزوج الرجل على قدر طاقته الحديث وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: في حديث قال والغيرة للرجال - ولذلك حرم على المرأة إلا زوجها - وأحل للرجل أربعا - فإن الله أكرم من أن يبتليهن بالغيرة - ويحل للرجل معها ثلاثا أقول و يوضح ذلك أن الغيرة هي إحدى الاخلاق الحميدة والملكات الفاضلة وهى تغير الانسان عن حاله المعتاد ونزوعه إلى الدفاع والانتقام عند تعدى الغير إلى بعض ما يحترمه لنفسه من دين أو عرض أو جاه ويعتقد كرامته عليه وهذه الصفة الغريزية لا يخلو عنها في الجملة إنسان أي إنسان فرض فهى من فطريات الانسان والاسلام دين مبنى على الفطرة تؤخذ فيه الامور التى تقضى بها فطرة الانسان فتعدل بقصرها فيما هو صلاح الانسان في حياته ويحذف عنها ما لا حاجة إليه فيها من وجوه الخلل والفساد كما في اقتناء المال والمأكل والمشرب والملبس والمنكح وغير ذلك. * ((1) كذا في النسخ.

[ 176 ]

فإذا فرض أن الله سبحانه أحل للرجل مع المرأة الواحدة ثلاثا اخرى والدين مبنى على رعاية حكم الفطرة كان لازم ذلك أن يكون ما يتراءى من حال النساء وتغيرهن على الرجال في أمر الضرائر حسدا منهن لا غيرة وسيتضح مزيد اتضاح في البحث الآتى عن تعدد الزوجات أن هذا الحال حال عرضى طار عليهن لا غريزى فطرى. وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن الصادق عليه السلام قال: لا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته - ولا المرأة فيما تهب لزوجها جيزت أو لم تجز - أ ليس الله تبارك وتعالى يقول - ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا - وقال فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا - وهذا يدخل في الصداق والهبة وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن القداح عن أبى عبد الله عن أبيه عليهما السلام قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام - فقال يا أمير المؤمنين بى وجع في بطني - فقال له أمير المؤمنين عليه السلام أ لك زوجة قال نعم - قال استوهب منها شيئا طيبة به نفسها من مالها - ثم اشتر به عسلا ثم اسكب عليه من ماء السماء - ثم اشربه فإنى سمعت الله يقول في كتابه وأنزلنا من السماء ماء مباركا - وقال يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس - وقال فإن طبن لكم منه شيئا فكلوه هنيئا مريئا - شفيت إن شاء الله تعالى قال ففعل ذلك فشفى: اقول ورواه أيضا في الدر المنثور عن عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه عليه السلام وهو نوع من الاستفادة لطيف وبناؤه على التوسعة في المعنى ويوجد له نظائر في الاخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام سنورد بعضها في الموارد المناسبة له. وفي الكافي عن الباقر عليه السلام: إذا حدثتكم بشئ فسألوني من كتاب الله - ثم قال في بعض حديثه - إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن القيل والقال - وفساد المال وكثرة السؤال - فقيل له يا ابن رسول الله أين هذا من كتاب الله - قال إن الله عز وجل يقول لا خير في كثير من نجويهم - إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس - وقال ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما - وقال ولا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم

[ 177 ]

وفي تفسير العياشي عن يونس بن يعقوب قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله - ولا تؤتوا السفهاء أموالكم قال من لا تثق به وفيه عن ابراهيم بن عبد الحميد قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن هذه الآية - ولا تؤتوا السفهاء أموالكم قال كل من يشرب الخمر فهو سفيه وفيه عن على بن أبى حمزة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله ولا تؤتوا السفهاء أموالكم قال - هم اليتامى لا تعطوهم أموالهم حتى تعرفوا منهم الرشد - فقلت فكيف يكون أموالهم أموالنا - قال إذا كنت أنت الوارث لهم وفي تفسير القمي عن الباقر عليه السلام: في الآية فالسفهاء النساء - والولد إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة - وولده سفيه مفسد - لم ينبغ له أن يسلط واحدا منهما - على ماله الذي جعل الله له قياما يقول معاشا الحديث أقول والروايات في هذه المعاني كثيرة وهى تؤيد ما قدمناه أن للسفه معنى وسيع ذو مراتب كالسفيه المحجور عليه والصبي قبل أن يرشد والمرأة المتلهية المتهوسة وشارب الخمر ومطلق من لا تثق به وبحسب اختلاف هذه المصاديق يختلف معنى إيتاء المال وكذا معنى إضافة أموالكم وعليك بالتطبيق والاعتبار. وقوله في رواية ابن أبي حمزة إذا كنت أنت الوارث لهم إشارة إلى ما قدمناه أن المال كله للمجتمع بحسب الاصل ثم لكل من الاشخاص ثانيا وللمصالح الخاصة فإن اشتراك المجتمع في المال أولا هو الموجب لانتقاله من واحد إلى آخر. وفي الفقيه عن الصادق عليه السلام: انقطاع يتم اليتيم الاحتلام وهو أشده - وإن احتلم ولم يؤنس منه رشد وكان سفيها أو ضعيفا - فليمسك عنه وليه ماله وفيه عنه عليه السلام: في قوله تعالى وابتلوا اليتامى الآية - قال إيناس الرشد حفظ المال اقول وقد تقدم وجه دلالة الآية عليه. وفي التهذيب عنه عليه السلام: في قول الله ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف قال - فذاك رجل يحبس نفسه عن المعيشة - فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم - فإن كان المال قليلا فلا يأكل منه شيئا وفي الدر المنثور أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن أبي حاتم

[ 178 ]

والنحاس في ناسخه عن ابن عمر: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال - ليس لي مال ولي يتيم فقال - كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالا - ومن غير أن تقى مالك بماله اقول والروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق أهل البيت عليهم السلام وغيرهم وهناك مباحث فقهية وأخبار ناظرة إليها من أرادها فعليه بجوامع الحديث وكتب الفقه. وفي تفسير العياشي عن رفاعة عنه عليه السلام: في قوله تعالى فليأكل بالمعروف - قال عليه السلام كان أبى يقول إنها منسوخة وفي الدر المنثور أخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ وابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس ": ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف قال نسختها - إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية اقول وكون الآية منسوخة لا يلائم ميزان النسخ إذ ليس بين الآيات الكريمة ما نسبتها إلى هذه الآية نسبة الناسخة إلى المنسوخة وأما قوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية فهو لا ينافي بمضمونه مضمون هذه الآية فإن الاكل في هذه الآية المجوزة مقيد بالمعروف وفي تلك الآية المحرمة بالظلم ولا تنافى بين تجويز الاكل بالمعروف وتحريم الاكل ظلما فالحق أن الآية غير منسوخة والروايتان لا توافقان الكتاب على ما فيهما من الضعف. وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن المغيرة عن جعفر بن محمد عليه السلام: في قول الله فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم - قال فقال إذا رأيتموهم يحبون آل محمد فارفعوهم درجة أقول وهو من الجرى من باطن التنزيل فإن أئمة الدين آباء المؤمنين والمؤمنون أيتام المعارف عند انقطاعهم عنهم فإذا صح انتسابهم إليهم بالحب فليرفعوا درجة بتعليم المعارف الحقة التي هي ميراث آبائهم. = بحث علمي في فصول ثلاثة = 1 - النكاح من مقاصد الطبيعة أصل التواصل بين الرجل والمرأة مما تبينه

[ 179 ]

الطبيعة الانسانية بل الحيوانية بأبلغ بيانها والاسلام دين الفطرة فهو مجوزه لا محالة. وأمر الايلاد والافراخ الذي هو بغية الطبيعة وغرض الخلقة في هذا الاجتماع هو السبب الوحيد والعامل الاصلي في تقليب هذا العمل في قالب الازدواج وإخراجه من مطلق الاختلاط للسفاد والمقاربة إلى شكل النكاح والملازمة ولهذا ترى أن الحيوان الذي يشترك في تربيته الوالدان معا كالطيور في حضانة بيضها وتغذية أفراخها وتربيتها وكالحيوان الذى يحتاج في الولادة والتربية إلى وكر تحتاج الاناث منه في بنائه وحفظه إلى معاونة الذكور يختار لهذا الشأن الازدواج وهو نوع من الملازمة والاختصاص بين الزوجين الذكور والاناث منه فيتواصلان عندئذ ويتشاركان في حفظ بيض الاناث وتدبيرها وإخراج الافراخ منها وهكذا إلى آخر مدة تربية الاولاد ثم ينفصلان إن انفصلا ثم يتجدد الازدواج وهكذا فعامل النكاح والازدواج هو الايلاد وتربية الاولاد وأما إطفاء نائرة الشهوة أو الاشتراك في الاعمال الحيوية كالكسب وجمع المال وتدبير الاكل والشرب والاثاث وإدارة البيت فامور خارجة عن مستوى غرض الطبيعة والخلقة وإنما هي امور مقدمية أو فوائد مترتبة. ومن هنا يظهر أن الحرية والاسترسال من الزوجين بأن يتواصل كل من الزوجين مع غير زوجه أينما أراد ومهما أراد من غير امتناع كالحيوان العجم الذي ينزو الذكور منه على الاناث أينما وجدها على ما يكاد يكون هو السنة الجارية بين الملل المتمدنة اليوم وكذا الزنا وخاصة زنا المحصنة منه. وكذا تثبيت الازدواج الواقع وتحريم الطلاق والانفصال بين الزوجين وترك الزوج واتخاذ زوج آخر ما دامت الحياة تجمع بينهما. وكذا إلغاء التوالد وتربية الاولاد وبناء الازدواج على أساس الاشتراك في الحياة المنزلية على ما هو المتداول اليوم بين الملل الراقية ونظيره إرسال المواليد إلى المعاهد العامة المعدة للرضاع والتربية كل ذلك على خلاف سنة الطبيعة وقد جهز الانسان بما ينافى هذه السنن الحديثة على ما مرت الاشارة إليه. نعم الحيوان الذى لا حاجة في ولادته وتربيته إلى أزيد من حمل الام إياه وإرضاعها له وتربيته بمصاحبتها فلا حاجة طبيعية فيه إلى الازدواج والمصاحبة

[ 180 ]

والاختصاص فهذا النوع من الحيوان له حرية السفاد بمقدار ما لا يضر بغرض الطبيعة من جهة حفظ النسل. وإياك أن تتوهم أن الخروج عن سنة الخلقة وما تستدعيه الطبيعة لا بأس به بعد تدارك النواقص الطارئة بالفكر والروية مع ما فيه من لذائذ الحياة والتنعم فإن ذلك من أعظم الخبط فإن هذه البنيات الطبيعية التى منها البنية الانسانية مركبات مؤلفة من أجزاء كثيرة تستوجب بوقوع كل في موقعه الخاص على شرائطه المخصوصة به وضعا هو الملائم لغرض الطبيعة والخلقة وهو المناسب لكمال النوع كالمعاجين والمركبات من الادوية التي تحتاج إلى أجزاء بأوصاف ومقادير وأوزان وشرائط خاصة لو خرج واحد منها عن هيئته الخاصة أدنى خروج وانحراف سقط الاثر. فالانسان مثلا موجود طبيعي تكويني ذو أجزاء مركبة تركيبا خاصا يستتبع أوصافا داخلية وخواص روحية تستعقب أفعالا وأعمالا فإذا حول بعض أفعاله وأعماله من مكانته الطبيعية إلى غيرها يستتبع ذلك انحرافا وتغيرا في صفاته وخواصه الروحية وانحرف بذلك جميع الخواص والصفات عن مستوى الطبيعة وصراط الخلقة وبطل بذلك ارتباطه بكماله الطبيعي والغاية التي يبتغيها بحسب الخلقة. وإذا بحثنا في المصائب العامة التي تستوعب اليوم الانسانية وتحبط أعمال الناس ومساعيهم لنيل الراحة والحياة السعيدة وتهدد الانسانية بالسقوط والانهدام وجدنا أن أقوى العوامل فيها بطلان فضيلة التقوى وتمكن الخرق والقسوة والشدة والشره من نفوس الجوامع البشرية وأعظم أسبابه وعلله الحرية والاسترسال والاهمال في نواميس الطبيعة في أمر الزوجية وتربية الاولاد فإن سنة الاجتماع المنزلى وتربية الاولاد اليوم تميت قرائح الرأفة والرحمة والعفة والحياء والتواضع من الانسان من أول حين يأخذ في التمييز إلى آخر ما يعيش. وأما تدارك هذه النواقص بالفكر والروية فهيهات ذلك فإنما الفكر كسائر لوازم الحياة وسيلة تكوينية اتخذتها الطبيعة وسيلة لرد ما خرج وانحرف عن صراط الطبيعة والتكوين إليه لا لابطال سعى الطبيعة والخلقة وقتلها بنفس السيف الذي أعطته للانسان لدفع الشر عنها ولو استعمل الفكر الذى هو أحد وسائل الطبيعة في تأييد ما أفسد من شؤون الطبيعة عادت هذه الوسيلة أيضا فاسدة منحرفة كسائر

[ 181 ]

الوسائل ولذلك ترى أن الانسان اليوم كلما أصلح بقوة فكره واحدا من المفاسد العامة التي تهدد اجتماعه أنتج ذلك ما هو أمر وأدهى وزاد البلاء والمصيبة شيوعا وشمولا. نعم ربما قال القائل من هؤلاء إن الصفات الروحية التي تسمى فضائل نفسانية هي بقايا من عهد الاساطير والتوحش لا تلائم حياة الانسان الراقي اليوم كالعفة والسخاء والحياء والرأفة والصدق فإن العفة تقييد لطبيعة النفس فيما تشتهيه من غير وجه والسخاء إبطال لسعى الانسان في جمعه المال وما قاساه من المحن في طريق اكتسابه على أنه تعويد للمسكين بالبطالة في الاكتساب وبسط يده لذل السؤال والحياء لجام يلجم الانسان عن مطالبة حقوقه وإظهار ما في ضميره والرأفة تضعف القلب والصدق لا يلائم الحياة اليومية وهذا الكلام بعينه من مصاديق الانحراف الذى ذكرناه. ولم يدر هذا القائل أن هذه الفضائل في المجتمع الانساني من الواجبات الضرورية التى لو ارتفعت من أصلها لم يعش المجتمع بعدها في حال الاجتماع ولا ساعة. فلو ارتفعت هذه الخصال وتعدى كل فرد إلى ما لكل فرد من مختصات الحقوق والاموال والاعراض ولم يسخ أحد ببذل ما مست إليه حاجة المجتمع ولم ينفعل أحد من مخالفة ما يجب عليه رعايته من القوانين ولم يرأف أحد بالعجزة الذين لا ذنب لهم في عجزهم كالاطفال ومن في تلوهم وكذب كل أحد لكل أحد في جميع ما يخبر به ويعده وهكذا تلاشى المجتمع الانساني من حينه. فينبغي لهذا القائل أن يعلم أن هذه الخصال لا ترتحل ولن ترتحل عن الدنيا وأن الطبيعة الانسانية مستمسكة بها حافظة لحياتها ما دامت داعية للانسان إلى الاجتماع وإنما الشأن كل الشأن في تنظيم هذه الصفات وتعديلها بحيث توافق غرض الطبيعة والخلقة في دعوتها الانسان إلى سعادة الحياة ولو كانت الخصال الدائرة في المجتمع المترقي اليوم فضائل للانسانية معدلة بما هو الحرى من التعديل لما أوردت المجتمع مورد الفساد والهلكة ولاقر الناس في مستقر أمن وراحة وسعادة. ولنعد إلى ما كنا فيه من البحث فنقول الاسلام وضع أمر الازدواج فيما ذكرناه موضعه الطبيعي فأحل النكاح وحرم الزنا والسفاح ووضع علقة الزوجية على أساس جواز المفارقة وهو الطلاق ووضع هذه العلقة على أساس الاختصاص في الجملة على ما

[ 182 ]

سنشرحه ووضع عقد هذا الاجتماع على أساس التوالد والتربية ومن الاحاديث النبوية المشهورة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: تناكحوا تناسلوا تكثروا الحديث 2 استيلاء الذكور على الاناث ثم إن التأمل في سفاد الحيوانات يعطى أن للذكور منها شائبة استيلاء على الاناث في هذا الباب فإنا نرى أن الذكر منها كأنه يرى نفسه مالكا للبضع مسلطا على الانثى ولذلك ما ترى أن الفحولة منها تتنازع وتتشاجر على الاناث من غير عكس فلا تثور الانثى على مثلها إذا مال إليها الذكر بخلاف العكس وكذا ما يجرى بينها مجرى الخطبة من الانسان إنما يبدأ من ناحية الذكران دون الاناث وليس إلا أنها ترى بالغريزة أن الذكور في هذا العمل كالفاعل المستعلي والاناث كالقابل الخاضع وهذا المعنى غير ما يشاهد من نحو طوع من الذكور للاناث في مراعاة ما تميل إليه نفسها ويستلذه طبعها فإن ذلك راجع إلى مراعاة جانب العشق والشهوة واستزادة اللذة وأما نحو الاستيلاء والاستعلاء المذكور فإنه عائد إلى قوة الفحولة وإجراء ما تأمر به الطبيعة. وهذا المعنى أعني لزوم الشدة والبأس لقبيل الذكور واللين والانفعال لقبيل الاناث مما يوجد الاعتقاد به قليلا أو كثيرا عند جميع الامم حتى سرى إلى مختلف اللغات فسمى كل ما هو شديد صعب الانقياد بالذكر وكل لين سهل الانفعال بالانثى يقال حديد ذكر وسيف ذكر ونبت ذكر ومكان ذكر وهكذا. وهذا الامر جار في نوع الانسان دائر بين المجتمعات المختلفة والامم المتنوعة في الجملة وإن كان ربما لم يخل من الاختلاف زيادة ونقيصة. وقد اعتبره الاسلام في تشريعه قال الله تعالى الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض: النساء - 34 فشرع وجوب إجابتها له إذا دعاها إلى المواقعة إن أمكنت لها. 3 تعدد الزوجات وأمر الوحدة والتعدد فيما نشاهده من أقسام الحيوان غير واضح ففيما كان بينها اجتماع منزلي تتأحد الاناث وتختص بالذكور لما أن الذكور في شغل شاغل في مشاركتها في تدبير المنزل وحضانة الافراخ وتربيتها وربما تغير الوضع الجاري بينها بالصناعة والتدبير والكفالة أعنى بالتأهيل والتربية كما يشاهد من

[ 183 ]

أمر الديك والدجاج والحمام ونحوها. وأما الانسان فاتخاذ الزوجات المتعدده كانت سنة جارية في غالب الامم القديمة كمصر والهند والصين والفرس بل والروم واليونان فإنهم كانوا ربما يضيفون إلى الزوجة الواحدة في البيت خدنا يصاحبونها بل وكان ذلك عند بعض الامم لا ينتهي إلى عدد يقف عليه كاليهود والعرب فكان الرجل منهم ربما تزوج العشرة والعشرين وأزيد وقد ذكروا أن سليمان الملك تزوج مئات من النساء. وأغلب ما كان يقع تعدد الزوجات أنما هو في القبائل ومن يحذو حذوهم من سكان القرى والجبال فإن لرب البيت منهم حاجة شديدة إلى الجمع وكثرة الاعضاء فكانوا يقصدون بذلك التكاثر في البنين بكثرة الاستيلاد ليهون لهم أمر الدفاع الذي هو من لوازم عيشتهم وليكون ذلك وسيلة يتوسلون بها إلى الترؤس والسودد في قومهم على ما في كثرة الازدواج من تكثر الاقرباء بالمصاهرة. وما ذكره بعض العلماء أن العامل في تعدد الزوجات في القبائل وأهل القرى إنما هو كثرة المشاغل والاعمال فيهم كأعمال الحمل والنقل والرعي والزراعة والسقاية والصيد والطبخ والنسج وغير ذلك فهو وإن كان حقا في الجملة إلا أن التأمل في صفاتهم الروحية يعطي أن هذه الاعمال في الدرجة الثانية من الاهمية عندهم وما ذكرناه هو الذي يتعلق به قصد الانسان البدوي أولا وبالذات كما أن شيوع الادعاء والتبني أيضا بينهم سابقا كان من فروع هذا الغرض. على أنه كان في هذه الامم عامل أساسي آخر لتداول تعدد الزوجات بينهم وهو زيادة عدة النساء على الرجال بما لا يتسامح فيه فإن هذه الامم السائرة بسيرة القبائل كانت تدوم فيهم الحروب والغزوات وقتل الفتك والغيلة فكان القتل يفني الرجال ويزيد عدد النساء على الرجال زيادة لا ترتفع حاجة الطبيعة معها إلا بتعدد الزوجات هذا. والاسلام شرع الازدواج بواحدة وأنفذ التكثير إلى أربع بشرط التمكن من القسط بينهن مع إصلاح جميع المحاذير المتوجهد ألى التعدد على ما سنشير إليها قال الله تعالى ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف: البقرة - 228.

[ 184 ]

وقد استشكلوا على حكم تعدد الزوجات اولا انه يضع آثارا سيئة في المجتمع فإنه يقرع قلوب النساء في عواطفهن ويخيب آمالهن ويسكن فورة الحب في قلوبهن فينعكس حس الحب إلى حس الانتقام فيهملن أمر البيت ويتثاقلن في تربية الاولاد ويقابلن الرجال بمثل ما أساؤا إليهن فيشيع الزنا والسفاح والخيانة في المال والعرض فلا يلبث المجتمع دون أن ينحط في أقرب وقت. وثانيا: أن التعدد في الزوجات يخالف ما هو المشهود المتراءى من عمل الطبيعة فإن الاحصاء في الامم والاجيال يفيد أن قبيلي الذكورة والاناث متساويان عددا تقريبا فالذي هيأته الطبيعة هو واحدة لواحد وخلاف ذلك خلاف غرض الطبيعة. وثالثا أن في تشريع تعدد الزوجات ترغيبا للرجال إلى الشره والشهوة وتقوية لهذه القوة في المجتمع. ورابعا أن في ذلك حطا لوزن النساء في المجتمع بمعادلة الاربع منهن بواحد من الرجال وهو تقويم جائر حتى بالنظر إلى مذاق الاسلام الذي سوي فيه بين مرأتين ورجل كما في الارث والشهادة وغيرهما ولازمه تجويز التزوج باثنتين منهن لا أزيد ففي تجويز الاربع عدول عن العدل على أي حال من غير وجه وهذه الاشكالات مما اعترض بها النصارى على الاسلام أو من يوافقهم من المدنيين المنتصرين لمسألة تساوي حقوق الرجال والنساء في المجتمع. والجواب عن الاول ما تقدم غير مرة في المباحث المتقدمة أن الاسلام وضع بنية المجتمع الانساني على أساس الحياة التعقلية دون الحياة الاحساسية فالمتبع عنده هو الصلاح العقلي في السنن الاجتماعية دون ما تهواه الاحساسات وتنجذب إليه العواطف. وليس في ذلك إماتة العواطف والاحساسات الرقيقة وإبطال حكم المواهب الالهية والغرائز الطبيعية فإن من المسلم في الابحاث النفسية أن الصفات الروحية والعواطف والاحساسات الباطنة تختلف كما وكيفا باختلاف التربية والعادة كما أن كثيرا من الآداب والرسوم الممدوحة عند الشرقيين مثلا مذمومة عند الغربيين وبالعكس وكل امة تختلف مع غيرها في بعضها.

[ 185 ]

والتربية الدينية في الاسلام تقيم المرأة الاسلامية مقاما لا تتألم بأمثال ذلك عواطفها نعم المرأة الغربية حيث اعتادت منذ قرون بالوحدة ولقنت بذلك جيلا بعد جيل استحكم في روحها عاطفة نفسانية تضاد التعدد ومن الدليل على ذلك الاسترسال الفظيع الذي شاعت بين الرجال والنساء في الامم المتمدنة ! اليوم. أليس رجالهم يقضون أوطار الشهوة من كل من هووها وهوتهم من نسائهم من محارم وغيرها ومن بكر أو ثيب ومن ذات بعل أو غيرها حتى أن الانسان لا يقدر أن يقف في كل ألف منهم بواحد قد سلم من الزنا سواء في ذلك الرجال والنساء ولم يقنعوا بذلك حتى وقعوا في الرجال وقوعا قل ما يسلم منه فرد حتى بلغ الامر مبلغا رفعوا قبيل سنة إلى برلمان بريطانيا العظمى أن يبيح لهم اللواط سنة قانونية وذلك بعد شيوعه بينهم من غير رسمية وأما النساء وخاصة الابكار وغير ذوات البعل من الفتيات فالامر فيهن أغرب وأفظع. فليت شعري كيف لا تأسف النساء هناك ولا يتحرجن ولا تنكسر قلوبهن ولا تتألم عواطفهن حين يشاهدن كل هذه الفضائح من رجالهن ؟ وكيف لا تتألم عواطف الرجل وإحساساته حين يبنى بفتاه ثم يجدها ثيبا فقدت بكارتها وافترشت لا للواحد والاثنين من الرجال ثم لا يلبث حتى يباهي بين الاقران أن السيدة ممن توفرت عليها رغبات الرجال وتنافس في القضاء منها العشرات والمئات ! ! وهل هذا إلا أن هذه السيئات تكررت بينهم ونزعه الحرية تمكنت من أنفسهم حتى صارت عادة عريقة مألوفة لا تمتنع منها العواطف والاحساسات ولا تستنكرها النفوس ؟ فليس إلا أن السنن الجارية تميل العواطف والاحساسات إلى ما يوافقها ولا يخالفها. وأما ما ذكروه من استلزام ذلك إهمالهن في تدبير البيت وتثاقلهن في تربية الاولاد وشيوع الزنا والخيانة فالذي أفادته التجربة خلاف ذلك فإن هذا الحكم جرى في صدر الاسلام وليس في وسع أحد من أهل الخبرة بالتاريخ أن يدعى حصول وقفة في أمر المجتمع من جهته بل كان الامر بالعكس. على أن هذه النساء اللاتى يتزوج بهن على الزوجة الاولى في المجتمع الاسلامي وسائر المجتمعات التى ترى ذلك أعنى الزوجة الثانية والثالثة والرابعة إنما يتزوج بهن عن رضاء ورغبة منهن وهن من نساء هذه المجتمعات ولم يسترققهن الرجال من مجتمعات

[ 186 ]

اخرى ولا جلبوهن للنكاح من غير هذه الدنيا وإنما رغبن في مثل هذا الازدواج لعلل اجتماعية فطباع جنس المرأة لا يمتنع عن مسألة تعدد الزوجات ولا قلوبهن تتألم منها بل لو كان شئ من ذلك فهو من لوازم أو عوارض الزوجية الاولى أعنى أن المرأة إذا توحدت للرجل لا تحب أن ترد عليها وعلى بيتها اخرى لخوفها أن تميل عنها بعلها أو تترأس عليها غيرها أو يختلف الاولاد ونحو ذلك فعدم الرضاء والتألم فيما كان إنما منشأه حالة عرضية التوحد بالبعل لا غريزة طبيعية. والجواب عن الثاني أن الاستدلال بتسوية الطبيعة بين الرجال والنساء في العدد مختل من وجوه. منها أن أمر الازدواج لا يتكى على هذا الذى ذكروه فحسب بل هناك عوامل وشرائط اخرى لهذا الامر فأولا الرشد الفكري والتهيؤ لامر النكاح أسرع إلى النساء منها إلى الرجال فالنساء وخاصة في المناطق الحارة إذا جزن التسع صلحن للنكاح والرجال لا يتهيؤون لذلك غالبا قبل الست عشرة من السنين وهو الذى اعتبره الاسلام للنكاح. ومن الدليل على ذلك السنة الجارية في فتيات الامم المتمدنة فمن الشاذ النادر أن تبقى فتاة على بكارتها إلى سن البلوغ القانوني فليس إلا أن الطبيعة هيأتها للنكاح قبل تهيئتها الرجال لذلك. ولازم هذه الخاصة أن لو اعتبرنا مواليد ست عشرة سنة من قوم والفرض تساوى عدد الذكورة والاناث فيهم كان الصالح للنكاح في السنة السادسة عشر من الرجال وهى سنة أول الصلوح مواليد سنة واحدة وهم مواليد السنة الاولى المفروضة والصالحة للنكاح من النساء مواليد سبع سنين وهى مواليد السنة الاولى إلى السابعة ولو اعتبرنا مواليد خمسة وعشرين سنة وهى سن بلوغ الاشد من الرجال حصل في السنة الخامسة والعشرين على الصلوح من الرجال مواليد عشرة سنين ومن النساء مواليد خمس عشرة سنة وإذا أخذنا بالنسبة الوسطى حصل لكل واحد من الرجال اثنتان من النساء بعمل الطبيعة. وثانيا أن الاحصاء كما ذكروه يبين أن النساء أطول عمرا من الرجال ولازمه أن

[ 187 ]

تهيئ سنة الوفاة والموت عددا من النساء ليس بحذائهن رجال (1). وثالثا أن خاصة النسل والتوليد تدوم في الرجال أكثر من النساء فالاغلب على النساء أن يئسن من الحمل في سن الخمسين ويمكث ذلك في الرجال سنين عديدة بعد ذلك وربما بقي قابلية التوليد في الرجال إلى تمام العمر الطبيعي وهي مائة سنة فيكون عمر صلاحية الرجال للتوليد وهو ثمانون سنة تقريبا ضعفه في المرأة وهو أربعون تقريبا وإذا ضم هذا الوجه إلى الوجه السابق أنتج أن الطبيعة والخلقة أباح للرجال التعدي من الزوجة الواحدة إلى غيرها فلا معنى لتهيئة قوة التوليد والمنع عن الاستيلاد من محل شأنه ذلك فإن ذلك مما تأباه سنة العلل والاسباب الجارية. ورابعا أن الحوادث المبيدة لافراد المجتمع من الحروب والمقاتل وغيرهما تحل بالرجال وتفنيهم أكثر منها بالنساء بما لا يقاس كما تقدم أنه كان أقوى العوامل لشيوع تعدد الزوجات في القبائل فهذه الارامل والنساء العزل لا محيص لهن عن قبول التعدد أو الزنا أو خيبة القوة المودعة في طبائعهن وبطلانها. ومما يتأيد به هذه الحقيقة ما وقع في الآلمان الغربي قبل عدة شهور من كتابة هذه الاوراق أظهرت جمعية النساء العزل تحرجها من فقدان البعولة وسألت الحكومة أن يسمح لهن بسنة تعدد الزوجات الاسلامية حتى يتزوج من شاء من الرجال بأزيد من واحدة ويرتفع بذلك غائلة الحرمان غير أن الحكومة لم تجبهن في ذلك وامتنعت الكنيسة من قبوله ورضيت بفشو الزنا وشيوعه وفساد النسل به. ومنها أن الاستدلال بتسوية الطبيعة النوعية بين الرجال والنساء في العدد مع


(1) ومما يؤيد ذلك ما نشره بعض الجرائد في هذه الايام (جريدة الاطلاعات المنتشرة في طهران المؤرخة بالثلاثاء 11 ديماه سنة 1335 شمسي) حكاية عن دائرة الاحصاء في فرنسا ما حاصله قد تحصل بحسب الاحصاء أنه يولد في فرنسا حذاء كل " 100 " مولودة من البنات " 105 " من البنين ومع ذلك فإن الاناث يربو عدتهم على عدة الذكور بما يعادل " 1765000 " نسمة ونفوس المملكة " 40 مليونا تقريبا " والسبب فيه أن البنين أضعف مقاومة من البنات قبال الامراض ويهلك بها " 5 % " الزائد منهم إلى سنة " 19 " من الولادة. ثم يأخذ عدة الذكور في النقص ما بين 25 - 30 من السنين حتى إذا بلغوا سني 60 - 65 لم يبق تجاه كل " 15000000 " من الاناث إلا " 7500000 " من الذكور. (*)

[ 188 ]

الغض عما تقدم إنما يستقيم فيما لو فرض أن يتزوج كل رجل في المجتمع بأكثر من الواحدة إلى أربع من النساء لكن الطبيعة لا تسمح بإعداد جميع الرجال لذلك ولا يسع ذلك بالطبع إلا لبعضهم دون جميعهم والاسلام لم يشرع تعدد الزوجات بنحو الفرض والوجوب على الرجال بل إنما أباح ذلك لمن استطاع أن يقيم القسط منهم ومن أوضح الدليل على عدم استلزام هذا التشريع حرجا ولا فسادا أن سير هذه السنة بين المسلمين وكذا بين سائر الامم الذين يرون ذلك لم يستلزم حرجا من قحط النساء وإعوازهن على الرجال بل بالعكس من ذلك أعد تحريم التعدد في البلاد التي فيها ذلك ألوفا من النساء حرمن الازواج والاجتماع المنزلي واكتفين بالزنا. ومنها أن الاستدلال المذكور مع الاغماض عن ما سبق إنما يستقيم لو لم يصلح هذا الحكم ولم يعدل بتقييده بقيود ترتفع بها المحاذير المتوهمة فقد شرط الاسلام على من يريد من الرجال التعدد أن يقيم العدل في معاشرتهن بالمعروف وفي القسم والفراش وفرض عليهم نفقتهن ثم نفقة أولادهن ولا يتيسر الانفاق على أربع نسوة مثلا ومن يلدنه من الاولاد مع شريطة العدل في المعاشرة وغير ذلك إلا لبعض اولى الطول والسعة من الناس لا لجميعهم. على أن هناك طرقا دينية شرعية يمكن أن تستريح إليها المرأة فتلزم الزوج على الاقتصار عليها والاغماض عن التكثير. والجواب عن الثالث أنه مبني على عدم التدبر في نحو التربية الاسلامية ومقاصد هذه الشريعة فإن التربية الدينية للنساء في المجتمع الاسلامي الذي يرتضيه الدين بالستر والعفاف والحياء وعدم الخرق تنمي المرأة وشهوة النكاح فيها أقل منها في الرجل (على الرغم مما شاع أن شهوة النكاح فيها أزيد وأكثر واستدل عليه بتولعها المفرط بالزينة والجمال طبعا) وهذا أمر لا يكاد يشك فيه رجال المسلمين ممن تزوج بالنساء الناشئات على التربية الدينية فشهوة النكاح في المتوسط من الرجال تعادل ما في أكثر من امرأة واحدة بل والمرأتين والثلاث. ومن جهة اخرى من عناية هذا الدين أن يرتفع الحرمان في الواجب من مقتضيات الطبع ومشتهيات النفس فاعتبر أن لا تختزن الشهوة في الرجل ولا يحرم منها فيدعوه ذلك إلى التعدي إلى الفجور والفحشاء والمرأة الواحدة ربما اعتذرت فيما يقرب من ثلث

[ 189 ]

أوقات المعاشرة والمصاحبة كأيام العادة وبعض أيام الحمل والوضع والرضاع ونحو ذلك والاسراع في رفع هذه الحاجة الغريزية هو لازم ما تكرر منا في المباحث السابقة من هذا الكتاب أن الاسلام يبني المجتمع على أساس الحياه التعقلية دون الحياة الاحساسية فبقاء الانسان على حالة الاحساس الداعية إلى الاسترسال في الاهواء والخواطر السوء كحال التعزب ونحوه من أعظم المخاطر في نظر الاسلام. ومن جهة اخرى من أهم المقاصد عند شارع الاسلام تكثر نسل المسلمين وعمارة الارض بيد مجتمع مسلم عمارة صالحه ترفع الشرك والفساد. فهذه الجهات وأمثالها هي التي أهتم بها الاسلام في تشريع تعدد الزوجات دون ترويج أمر الشهوة وترغيب الناس إلى الانكباب عليها ولو أنصف هؤلاء المستشكلون كان هذه السنن الاجتماعية المعروفة بين هؤلاء البانين للاجتماع على أساس التمتع المادي أولي بالرمي بترويج الفحشاء والترغيب إلى الشره من الاسلام الباني للاجتماع على أساس السعادة الدينية. على أن في تجويز تعدد الزوجات تسكينا لثورة الحرص التي هي من لوازم الحرمان فكل محروم حريص ولا هم للممنوع المحبوس إلا أن يهتك حجاب المنع والحبس فالمسلم وإن كان ذا زوجة واحدة فإنه على سكن وطيب نفس من أنه ليس بممنوع عن التوسع في قضاء شهوته لو تحرجت نفسه يوما إليه وهذا نوع تسكين لطيش النفس وإحصان لها عن الميل إلى الفحشاء وهتك الاعراض المحرمة. وقد أنصف بعض الباحثين من الغربيين حيث قال لم يعمل في إشاعة الزنا والفحشاء بين الملل المسيحية عامل أقوى من تحريم الكنيسة تعدد الزوجات (1). والجواب عن الرابع أنه ممنوع فقد بينا في بعض المباحث السابقة عند الكلام في حقوق (2) المرأة في الاسلام أنه لم يحترم النساء ولم يراع حقوقهن كل المراعاة أي


(1) رسالة المستر جان ديون بورت الانجليزي في الاعتذار إلى حضرة محمد والقرآن ترجمة الفاضل: السعيدي بالفارسية. (2) البحث العلمي من الجزء الثاني ص 260.

[ 190 ]

سنة من السنن الدينية أو الدنيوية من قديمها وحديثها بمثل ما احترمهن الاسلام وسنزيد في ذلك وضوحا وأما تجويز تعدد الزوجات للرجل فليس بمبنى على ما ذكر من إبطال الوزن الاجتماعي وإماتة حقوقهن والاستخفاف بموقفهن في الحياة وإنما هو مبنى على جهات من المصالح تقدم بيان بعضها. وقد اعترف بحسن هذا التشريع الاسلامي وما في منعه من المفاسد الاجتماعية والمحاذير الحيوية جمع من باحثى الغرب من الرجال والنساء من أراده فليراجع إلى مظانه. وأقوى ما تشبث به مخالفوا سنة التعدد من علماء الغرب وزوقوه في أعين الناظرين ما هو مشهود في بيوت المسلمين تلك البيوت المشتملة على زوجات عديدة ضرتان أو ضرائر فإن هذه البيوت لا تحتوى على حياة صالحة ولا عيشة هنيئة لا تلبث الضرتان من أول يوم حلتا البيت دون أن تأخذا في التحاسد حتى أنهم سموا الحسد بداء الضرائر وعندئذ تنقلب جميع العواطف والاحساسات الرقيقة التى جبلت عليها النساء من الحب ولين الجانب والرقة والرأفة والشفقة والنصح وحفظ الغيب والوفاء والمودة والرحمة والاخلاص بالنسبة إلى الزوج وأولاده من غير الزوجة وبيته وجميع ما يتعلق به إلى أضدادها فينقلب البيت الذى هو سكن للانسان يستريح فيه من تعب الحياة اليومي وتألم الروح والجسم من مشاق الاعمال والجهد في المكسب معركة قتال يستباح فيها النفس والعرض والمال والجاه لا يؤمن فيه من شئ لشئ ويتكدر فيه صفو العيش وترتحل لذة الحياة ويحل محلها الضرب والشتم والسب واللعن والسعاية والنميمة والرقابة والمكر والمكيدة واختلاف الاولاد وتشاجرهم وربما انجر الامر إلى هم الزوجة بإهلاك الزوج وقتل بعض الاولاد بعضا أو أباهم وتتبدل القرابة بينهم إلى الاوتار التى تسحب في الاعقاب سفك الدماء وهلاك النسل وفساد البيت أضف إلى ذلك ما يسرى من ذلك إلى المجتمع من الشقاء وفساد الاخلاق والقسوة الظلم والبغى والفحشاء وانسلاب الامن والوثوق وخاصة إذا اضيف إلى ذلك جواز الطلاق فإباحة تعدد الزوجات والطلاق ينشئان في المجتمع رجالا ذواقين مترفين لا هم لهم إلا اتباع الشهوات والحرص والتولع على أخذ هذه وترك تلك ورفع واحدة ووضع اخرى وليس فيه إلا تضييع نصف المجتمع وإشقاؤه وهو قبيل النساء وبذلك

[ 191 ]

يفسد النصف الآخر. هذا محصل ما ذكروه وهو حق غير أنه إنما يرد على المسلمين لا على الاسلام وتعاليمه ومتى عمل المسلمون بجقيقة ما ألقته إليهم تعاليم الاسلام حتى يؤخذ الاسلام بالمفاسد التي أعقبته أعمالهم ؟ وقد فقدوا منذ قرون الحكومة الصالحة التي تربي الناس بالتعاليم الدينية الشريفة بل كان أسبق الناس إلى هتك الاستار التي أسدلها الدين ونقض قوانينه وإبطال حدوده هي طبقة الحكام والولاة على المسلمين والناس على دين ملوكهم ولو اشتغلنا بقص بعض السير الجارية في بيوت الملوك والفضائح التي كان يأتي بها ملوك الاسلام وولاته منذ أن تبدلت الحكومة الدينية بالملك والسلطنة المستبدة لجاء بحياله تأليفا مستقلا وبالجملة لو ورد الاشكال فهو وارد على المسلمين في اختيارهم لبيوتهم نوع اجتماع لا يتضمن سعادة عيشتهم ونحو سياسة لا يقدرون على إنفاذها بحيث لا تنحرف عن مستقيم الصراط والذنب في ذلك عائد إلى الرجال دون النساء والاولاد وإن كان على كل نفس ما اكتسبت من إثم وذلك أن سيرة هؤلاء الرجال وتفديتهم سعادة أنفسهم وأهليهم وأولادهم وصفاء جو مجتمعهم في سبيل شرههم وجهالتهم هو الاصل لجميع هذه المفاسد والمنبت لكل هذه الشقوة المبيدة وأما الاسلام فلم يشرع تعدد الزوجات على نحو الايجاب والفرض على كل رجل وإنما نظر في طبيعة الافراد وما ربما يعرضهم من العوارض الحادثة واعتبر الصلاح القاطع في ذلك كما مر تفصيله ثم استقصى مفاسد التكثير ومحاذيره وأحصاها فأباح عند ذلك التعدد حفظا لمصلحة المجتمع الانساني وقيده بما يرتفع معه جميع هذه المفاسد الشنيعة وهو وثوق الرجل بأنه سيقسط بينهن ويعدل فمن وثق من نفسه بذلك ووفق له فهو الذى أباح له الدين تعدد الزوجات وأما هؤلاء الذين لا عناية لهم بسعادة أنفسهم وأهليهم وأولادهم ولا كرامة عندهم إلا ترضية بطونهم وفروجهم ولا مفهوم للمرأة عندهم إلا أنها مخلوقة في سبيل شهوة الرجل ولذته فلا شأن للاسلام فيهم ولا يجوز لهم إلا الازدواج بواحدة لو جاز لهم ذلك والحال هذه. على أن في أصل الاشكال خلطا بين جهتين مفرقتين في الاسلام وهما جهتا التشريع والولاية. توضيح ذلك أن المدار في القضاء بالصلاح والفساد في القوانين الموضوعة والسنن

[ 192 ]

الجارية عند الباحثين اليوم هو الآثار والنتائج المرضية أو غير المرضية الحاصلة من جريانها في الجوامع وقبول الجوامع لها بفعليتها الموجودة وعدم قبولها وما أظن أنهم على غفلة من أن المجتمع ربما اشتمل على بعض سنن وعادات وعوارض لا تلائم الحكم المبحوث عنه وأنه يجب تجهيز المجتمع بما لا ينافى الحكم أو السنة المذكورة حتى يرى إلى ما يصير أمره وما ذا يبقى من الاثر خيرا أو شرا أو نفعا أو ضرا ؟ إلا أنهم يعتبرون في القوانين الموضوعة ما يريده ويستدعيه المجتمع بحاضر إرادته وظاهر فكرته كيفما كان فما وافق إرادتهم ومستدعياتهم فهو القانون الصالح وما خالف ذلك فهو القانون غير الصالح. ولذلك لما رأوا المسلمين تائهين في أودية الغى فاسدين في معاشهم ومعادهم نسبوا ما يشاهدونه منهم من الكذب والخيانة والخنى وهضم الحقوق وفشو البغى وفساد البيوت واختلال الاجتماع إلى القوانين الدينية الدائرة بينهم زعما منهم أن السنة الاسلامية في جريانها بين الناس وتأثيرها أثرها كسائر السنن الاجتماعية التى تحمل على الناس عن إحساسات متراكمة بينهم ويستنتجون من ذلك أن الاسلام هو المولد لهذه المفاسد الاجتماعية ومنه ينشأ هذا البغى والفساد (وفيهم أبغى البغى وأخنى الخنى وكل الصيد في جوف الفراء ولو كان دينا واقعيا وكانت القوانين الموضوعة فيه جيدة متضمنة لصلاح الناس وسعادتهم لاثرت فيهم الآثار المسعدة الجميلة ولم ينقلب وبالا عليهم. ولكنهم خلطوا بين طبيعة الحكم الصالحة المصلحة وبين طبيعة الناس الفاسدة المفسدة والاسلام مجموع معارف أصلية وأخلاقية وقوانين عملية متناسبة الاطراف مرتبطة الاجزاء إذا أفسد بعض أجزائها أوجب ذلك فساد الجميع وانحرافها في التأثير كالادوية والمعاجين المركبة التى تحتاج في تأثيرها الصحى إلى سلامة أجزائها وإلى محل معد مهيأ لورودها وعملها ولو أفسد بعض أجزائها أو لم يعتبر في الانسان المستعمل لها شرائط الاستعمال بطل عنها وصف التأثير وربما أثرت ما يضاد أثرها المترقب منها. هب أن السنة الاسلامية لم تقو على إصلاح الناس ومحق الذمائم والرذائل العامة لضعف مبانيها التقنينية فما بال السنة الديموقراطية لا تنجع في بلادنا الشرقية أثرها في

[ 193 ]

البلاد الاوربية وما بالنا كلما أمعنا في السير والكدح بالغنا في الرجوع على أعقابنا القهقرى ولا يشك شاك أن الذمائم والرذائل اليوم أشد تصلبا وتعرقا فينا ونحن مدنيون متنورون منها قبل نصف قرن ونحن همجيون وليس لنا حظ من العدل الاجتماعي وحياة الحقوق البشرية والمعارف العامة العالية وكل سعادة اجتماعية إلا أسماءا نسميها وألفاظا نسمعها. فهل يمكن لمعتذر عن ذلك إلا بأن هذه السنن المرضية إنما لم تؤثر أثرها لانكم لا تعملون بها ولا تهتمون بإجرائها فما بال هذا العذر يجرى فيها وينجع ولا يجرى في الاسلام ولا ينجع. وهب أن الاسلام لوهن أساسها والعياذ بالله عجز عن التمكن في قلوب الناس والنفوذ الكامل في أعماق المجتمع فلم تدم حكومته ولم يقدر على حفظ حياته في المجتمع الاسلامي فلم يلبث دون أن عاد مهجورا فما بال السنة الديموقراطية وكانت سنة مرضية عالمية ارتحلت بعد الحرب العالمية الكبرى الاولى عن روسيا وانمحت آثارها وخلفتها السنة الشيوعية وما بالها انقلبت إلى السنة الشيوعية بعد الحرب العالمية الكبرى الثانية في ممالك الصين ولتونى واستونى وليتوانى ورومانيا والمجر ويوغوسلاوى وغيرها وهى تهدد سائر الممالك وقد نفذت فيها نفوذا. وما بال السنة الشيوعية بعد ما عمرت ما يقرب من أربعين سنة وانبسطت وحكمت فيما يقرب من نصف المجتمع الانساني ولم يزل دعاتها وأولياؤها يتباهون في فضيلتها أنها المشرعة الصافية الوحيدة التى لا يشوبها تحكم الاستبداد ولا استثمار الديموقراطية وأن البلاد التى تعرقت فيها هي الجنة الموعودة ثم لم يلبث هؤلاء الدعاة والاولياء أنفسهم دون أن انتهضوا قبل سنتين على تقبيح حكومة قائدها الوحيد ستالين الذى كان يتولى إمامتها وقيادتها منذ ثلاثين سنة وأوضحوا أن حكومته كانت حكومة تحكم واستبداد واستعباد في صورة الشيوعية ولا محالة كان له التأثير العظيم في وضع القوانين الدائرة وإجرائها وسائر ما يتعلق بذلك فلم ينتش شئ من ذلك إلا عن إرادة مستبدة مستعبدة وحكومة فردية تحيى ألوفا وتميت ألوفا وتسعد أقواما وتشقى

[ 194 ]

آخرين والله يعلم من الذى يأتي بعد هؤلاء ويقضى عليهم بمثل ما قضوا به على من كان قبلهم. والسنن والآداب والرسوم الدائرة في المجتمعات أعم من الصحيحة والفاسدة ثم المرتحلة عنها لعوامل متفرقة أقواها خيانة أولياؤها وضعف إرادة الافراد المستنين بها كثيرة يعثر عليها من راجع كتب التواريخ. فليت شعرى ما الفارق بين الاسلام من حيث إنها سنة اجتماعية وبين هذه السنن المتقلبة المتبدلة حيث يقبل العذر فيها ولا يقبل في الاسلام نعم كلمة الحق اليوم واقعة بين قدرة هائلة غربية وجهالة تقليد شرقية فلا سماء تظلها ولا أرض تقلها وعلى أي حال يجب أن يتنبه مما فصلناه أن تأثير سنة من السنن أثرها في الناس وعدمه وكذا بقاؤها بين الناس وارتحالها لا يرتبط كل الارتباط بصحتها وفسادها حتى يستدل عليه بذلك بل لسائر العلل والاسباب تأثير في ذلك فما من سنة من السنن الدائرة بين الناس في جميع الاطوار والعهود إلا وهى تنتج يوما وتعقم آخر وتقيم بين الناس برهة من الزمان وترتحل عنهم في اخرى لعوامل مختلفة تعمل فيها وتلك الايام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء. وبالجملة القوانين الاسلامية والاحكام التى فيها تخالف بحسب المبنى والمشرب سائر القوانين الاجتماعية الدائرة بين الناس فإن القوانين الاجتماعية التى لهم تختلف باختلاف الاعصار و تتبدل بتبدل المصالح لكن القوانين الاسلامية لا تحتمل الاختلاف والتبدل من واجب أو حرام أو مستحب أو مكروه أو مباح غير أن الافعال التى للفرد من المجتمع أن يفعلها أو يتركها وكل تصرف له أن يتصرف به أو يدعه فلوالى الامر أن يأمر الناس بها أو ينهاهم عنها ويتصرف في ذلك كأن المجتمع فرد والوالى نفسه المتفكرة المريدة. فلو كان للاسلام وال أمكنه أن يمنع الناس عن هذه المظالم التى يرتكبونها باسم تعدد الزوجات وغير ذلك من غير أن يتغير الحكم الالهى بإباحته وإنما هو عزيمة إجرائية عامة لمصلحة نظير عزم الفرد الواحد على ترك تعدد الزوجات لمصلحة يراها لا لتغيير في الحكم بل لانه حكم إباحى له أن يعزم على تركه

[ 195 ]

= بحث علمي آخر ملحق به = في تعدد أزواج النبي = ومما اعترضوا عليه تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالوا إن تعدد الزوجات لا يخلو في نفسه عن الشره والانقياد لداعى الشهوة وهو صلى الله عليه وآله وسلم لم يقنع بما شرعه لامته من الاربع حتى تعدى إلى التسع من النسوة. والمسألة ترتبط بآيات متفرقة كثيرة في القرآن والبحث من كل جهة من جهاتها يجب أن يستوفى عند الكلام على الآية المربوطة بها ولذلك أخرنا تفصيل القول إلى محاله المناسبة له وإنما نشير ههنا إلى ذلك إشارة اجمالية. فنقول من الواجب أن يلفت نظر هذا المعترض المستشكل إلى أن قصة تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليست على هذه السذاجة أنه صلى الله عليه وآله وسلم بالغ في حب النساء حتى أنهى عدة أزواجه إلى تسع نسوة بل كان اختياره لمن اختارها منهن على نهج خاص في مدى حياته فهو صلى الله عليه وآله وسلم كان تزوج أول ما تزوج بخديجة رضى الله عنها وعاش معها مقتصرا عليها نيفا وعشرين سنة وهى ثلثا عمره الشريف بعد الازدواج منها ثلاث عشرة سنة بعد نبوته قبل الهجرة من مكة ثم هاجر إلى المدينة وشرع في نشر الدعوة وإعلاء كلمة الدين وتزوج بعدها من النساء منهن البكر ومنهن الثيب ومنهن الشابة ومنهن العجوز والمكتهلة وكان على ذلك ما يقرب من عشرة سنين ثم حرم عليه النساء بعد ذلك إلا من هي في حبالة نكاحه ومن المعلوم أن هذا الفعال على هذه الخصوصيات لا يقبل التوجيه بمجرد حب النساء والولوع بهن والوله بالقرب منهن فأول هذه السيرة وآخرها يناقضان ذلك. على أنا لا نشك بحسب ما نشاهده من العادة الجارية أن المتولع بالنساء المغرم بحبهن والخلاء بهن والصبوة إليهن مجذوب إلى الزينة عشيق للجمال مفتون بالغنج والدلال حنين إلى الشباب ونضارة السن وطراوة الخلقة وهذه الخواص أيضا لا تنطبق على سيرته صلى الله عليه وآله وسلم فإنه بنى بالثيب بعد البكر وبالعجوز بعد الفتاة الشابة فقد بنى بام سلمة وهى مسنة وبنى بزينب بنت جحش وسنها يومئذ يربو على خمسين بعد ما تزوج بمثل عائشة وام حبيبة وهكذا.

[ 196 ]

وقد خير صلى الله عليه وآله وسلم نساءه بين التمتيع والسراح الجميل وهو الطلاق إن كن يردن الدنيا وزينتها وبين الزهد في الدنيا وترك التزيين والتجمل إن كن يردن الله ورسوله والدار الآخرة على ما يشهد به قوله تعالى في القصة يا أيها النبي قل لازواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين امتعكن واسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما: الاحزاب - 29 وهذا المعنى أيضا كما ترى لا ينطبق على حال رجل مغرم بجمال النساء صاب إلى وصالهن. فلا يبقى حينئذ للباحث المتعمق إذا أنصف إلا أن يوجه كثرة ازدواجه صلى الله عليه وآله وسلم فيما بين أول أمره وآخر أمره بعوامل اخر غير عامل الشره والشبق والتلهى. فقد تزوج صلى الله عليه وآله وسلم ببعض هؤلاء الازواج اكتسابا للقوة وازديادا للعضد والعشيرة وببعض هؤلاء استمالة للقلوب وتوقيا من بعض الشرور وببعض هؤلاء ليقوم على أمرها بالانفاق وإدارة المعاش وليكون سنة جارية بين المؤمنين في حفظ الارامل والعجائز من المسكنة والضيعة وببعضها لتثبيت حكم مشروع وإجرائه عملا لكسر السنن المنحطة والبدع الباطلة الجارية بين الناس كما في تزوجه بزينب بنت جحش وقد كانت زوجة لزيد بن حارثة ثم طلقها زيد وقد كان زيد هذا يدعى ابن رسول الله على نحو التبني وكانت زوجة المدعو ابنا عندهم كزوجة الابن الصلبى لا يتزوج بها الاب فتزوج بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزل فيها الآيات. وكان صلى الله عليه وآله وسلم تزوج لاول مرة بعد وفات خديجة بسودة بنت زمعة وقد توفى عنها زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية وكانت سودة هذه مؤمنة مهاجرة ولو رجعت إلى أهلها وهم يومئذ كفار لفتنوها كما فتنوا غيرها من المؤمنين والمؤمنات بالزجر والقتل والاكراه على الكفر. وتزوج بزينب بنت خزيمة بعد قتل زوجها عبد الله بن جحش في أحد وكانت من السيدات الفضليات في الجاهلية تدعى ام المساكين لكثرة برها للفقراء والمساكين وعطوفتها بهم فصان بازدواجها ماء وجهها. وتزوج بام سلمة واسمها هند وكانت من قبل زوجة عبد الله أبى سلمة ابن عمة

[ 197 ]

النبي وأخيه من الرضاعة أول من هاجر إلى الحبشة وكانت زاهدة فاضلة ذات دين ورأي فلما توفى عنها زوجها كانت مسنة ذات أيتام فتزوج بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وتزوج بصفية بنت حيي بن أخطب سيد بنى النضير قتل زوجها يوم خيبر وقتل أبوها مع بنى النظير وكانت في سبى خيبر فاصطفاها وأعتقها وتزوج بها فوقاها بذلك من الذل ووصل سببه ببنى إسرائيل. وتزوج بجويرية واسمها برة بنت الحارث سيد بنى المصطلق بعد وقعة بنى المصطلق وقد كان المسلمون أسروا منهم مئتى بيت بالنساء والذراري فتزوج صلى الله عليه وآله وسلم بها فقال المسلمون هؤلاء أصهار رسول الله لا ينبغى أسرهم وأعتقوهم جميعا فأسلم بنو المصطلق بذلك ولحقوا عن آخرهم بالمسلمين وكانوا جما غفيرا وأثر ذلك أثرا حسنا في سائر العرب. وتزوج بميمونة واسمها برة بنت الحارث الهلالية وهى التى وهبت نفسها للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة زوجها الثاني أبى رهم بن عبد العزى فاستنكحها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتزوج بها وقد نزل فيها القرآن. وتزج بام حبيبة واسمها رملة بنت أبى سفيان وكانت زوجة عبيد الله بن جحش وهاجر معها إلى الحبشة الهجرة الثانية فتنصر عبيد الله هناك وثبتت هي على الاسلام وأبوها أبو سفيان يجمع الجموع على الاسلام يومئذ فتزوج بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحصنها. وتزوج بحفصة بنت عمر وقد قتل زوجها خنيس بن حذاقة ببدر وبقيت أرملة وتزوج بعائشة بنت أبى بكر وهى بكر. فالتأمل في هذه الخصوصيات مع ما تقدم في صدر الكلام من جمل سيرته في أول أمره وآخره وما سار به من الزهد وترك الزينة وندبه نساءه إلى ذلك لا يبقى للمتأمل موضع شك في أن ازدواجه صلى الله عليه وآله وسلم بمن تزوج بها من النساء لم يكن على حد غيره من عامة الناس أضف إلى ذلك جمل صنائعه صلى الله عليه وآله وسلم في النساء وإحياء ما كانت قرون الجاهلية وأعصار الهمجية أماتت من حقوقهن في الحياة وأخسرته من وزنهن في المجتمع الانساني حتى روى أن آخر ما تكلم به صلى الله عليه وآله وسلم هو توصيتهن لجامعة الرجال قال صلى الله عليه وآله وسلم: الصلاة الصلاة - وما ملكت أيمانكم لا تكلفوهم ما لا يطيقون - الله الله

[ 198 ]

في النساء فإنهن عوان في أيديكم الحديث. وكانت سيرته صلى الله عليه وآله وسلم في العدل بين نسائه وحسن معاشرتهن ورعاية جانبهن مما يختص به صلى الله عليه وآله وسلم على ما سيأتي شذرة منه في الكلام على سيرته في مستقبل المباحث إن شاء الله وكان حكم الزيادة على الاربع كصوم الوصال من مختصاته التى منعت عنها الامة وهذه الخصال وظهورها على الناس هي التى منعت أعداءه من الاعتراض عليه بذلك مع تربصهم الدوائر به = للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والاقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا (7) - وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا (8) - وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا (9) - إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا (10)) = بيان = شروع في تشريع أحكام الارث بعد تمهيد ما مهدت من المقدمات وقد قدم بيان جملى لحكم الارث من قبيل ضرب القاعدة لايذان أن لا حرمان في الارث بعد ثبوت الولادة أو القرابة حرمانا ثابتا لبعض الارحام والقرابات كتحريم صغار الورثة والنساء وزيد مع ذلك في التحذير عن تحريم الايتام من الوراثة فإنه يستلزم أكل سائر الورثة أموالهم ظلما وقد شدد الله في النهى عنه وقد ذكر مع ذلك مسألة رزق

[ 199 ]

اولى القربى واليتامى والمساكين إذا حضروا قسمة التركة ولم يكونوا ممن يرث تطفلا. قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون الآية النصيب هو الحظ والسهم وأصله من النصب بمعنى الاقامة لان كل سهم عند القسمة ينصب على حدته حتى لا يختلط بغيره والتركة ما بقى من مال الميت بعده كأنه يتركه ويرتحل فاستعماله الاصلى استعمال استعارى ثم ابتذل والاقربون هم القرابة الادنون واختيار هذا اللفظ على مثل الاقرباء واولى القربى ونحوهما لا يخلو من دلالة على أن الملاك في الارث أقربية الميت من الوارث على ما سيجئ البحث عنه في قوله تعالى آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا: النساء - 11 والفرض قطع الشئ الصلب وإفراز بعضه من بعض ولذا يستعمل في معنى الوجوب لكون إتيانه وامتثال الامر به مقطوعا معينا من غير تردد والنصيب المفروض هو المقطوع المعين. وفي الآية إعطاء للحكم الكلى وتشريع لسنة حديثة غير مألوفة في أذهان المكلفين فإن حكم الوراثة على النحو المشروع في الاسلام لم يكن قبل ذلك مسبوقا بالمثل وقد كانت العادات والرسوم على تحريم عدة من الوراث عادت بين الناس كالطبيعة الثانية تثير النفوس وتحرك العواطف الكاذبة لو قرع بخلافها أسماعهم. وقد مهد له في الاسلام أولا بتحكيم الحب في الله والايثار الدينى بين المؤمنين فعقد الاخوة بين المؤمنين ثم جعل التوارث بين الاخوين وانتسخ بذلك الرسم السابق في التوارث وانقلع المؤمنون من الانفة والعصبية القديمة ثم لما اشتد عظم الدين وقام صلبه شرع التوارث بين اولى الارحام في حين كان هناك عدة كافية من المؤمنين يلبون لهذا التشريع أحسن التلبية. وبهذه المقدمة يظهر أن المقام مقام التصريح ورفع كل لبس متوهم بضرب القاعدة الكلية بقوله للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون فالحكم مطلق غير مقيد بحال أو وصف أو غير ذلك أصلا كما أن موضوعه أعنى الرجال عام غير مخصص بشئ متصل فالصغار ذووا نصيب كالكبار. ثم قال وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والاقربون وهو كسابقه عام من غير شائبة تخصيص فيعم جميع النساء من غير تخصيص أو تقييد وقد أظهر في قوله مما ترك

[ 200 ]

الوالدان والاقربون مع أن المقام مقام الاضمار إيفاءا لحق التصريح والتنصيص ثم قال مما قل منه أو كثر زيادة في التوضيح وأن لا مجال للمسامحة في شئ منه لقلة وحقارة ثم قال نصيبا الخ وهو حال من النصيب لما فيه من المعنى المصدرى وهو بحسب المعنى تأكيد على تأكيد وزيادة في التنصيص على أن السهام مقطوعة معينة لا تقبل الاختلاط والابهام. وقد استدل بالآية على عموم حكم الارث لتركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيره وعلى بطلان التعصيب في الفرائض. قوله تعالى وإذا حضر القسمة اولوا القربى الخ ظاهر الآية أن المراد من حضورهم القسمة أن يشهدوا قسمة التركة حينما يأخذ الورثة في اقتسامها لا ما ذكره بعضهم أن المراد حضورهم عند الميت حينما يوصى ونحو ذلك وهو ظاهر. وعلى هذا فالمراد من اولى القربى الفقراء منهم ويشهد بذلك أيضا ذكرهم مع اليتامى والمساكين ولحن قوله فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا الظاهر في الاسترحام والاسترفاق ويكون الخطاب حينئذ لاولياء الميت والورثة. وقد اختلف في أن الرزق المذكور في الآية على نحو الوجوب أو الندب وهو بحث فقهى خارج عن وضع هذا الكتاب كما اختلف في أن الآية هل هي محكمة أو منسوخة بآية المواريث مع أن النسبة بين الآيتين ليست نسبة التناقض لان آية المواريث تعين فرائض الورثة وهذه الآية تدل على غيرهم وجوبا أو ندبا في الجملة من غير تعيين سهم فلا موجب للنسخ وخاصة بناءا على كون الرزق مندوبا كما أن الآية لا تخلو من ظهور فيه. قوله تعالى وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم الآية الخشية التأثر القلبى مما يخاف نزوله مع شائبة تعظيم وإكبار وسداد القول وسدده كونه صوابا مستقيما. ولا يبعد أن تكون الآية متعلقة نحو تعلق بقوله للرجال نصيب الآية لاشتماله على إرث الايتام الصغار بعمومه فتكون مسوقة سوق التهديد لمن يسلك مسلك تحريم صغار الورثة من الارث ويكون حينئذ قوله وليقولوا قولا سديدا كناية عن اتخاذ

[ 201 ]

طريقة التحريم والعمل بها وهضم حقوق الايتام الصغار والكناية بالقول عن الفعل للملازمة بينهما غالبا شائع في اللسان كقوله تعالى وقولوا للناس حسنا الآية: البقرة - 83 ويؤيده توصيف القول بالسديد دون المعروف واللين ونحوهما فإن ظاهر السداد في القول كونه قابلا للاعتقاد والعمل به لا قابلا لان يحفظ به كرامة الناس وحرمتهم وكيف كان فظاهر قوله الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم أنه تمثيل للرحمة والرأفة على الذرية الضعاف الذين لا ولى لهم يتكفل أمرهم ويذود عنهم الذل والهوان وليس التخويف والتهديد المستفاد من الآية مخصوصا بمن له ذرية ضعفاء بالفعل لمكان لو في قوله لو تركوا ولم يقل لو تركوا ذريتهم الضعاف بل هو تمثيل يقصد به بيان الحال والمراد الذين من صفتهم أنهم كذا أي أن في قلوبهم رحمة إنسانية ورأفة وشفقة على ضعفاء الذرية الذين مات عنهم آباؤهم وهم الايتام والذين من صفتهم كذا هم الناس وخاصة المسلمون المتأدبون بأدب الله المتخلقون بأخلاقه فيعود المعنى إلى مثل قولنا وليخش الناس وليتقوا الله في أمر اليتامى فإنهم كأيتام أنفسهم في أنهم ذرية ضعاف يجب أن يخاف عليهم ويعتنى بشأنهم ولا يضطهدوا ولا يهضم حقوقهم فالكلام في مساق قولنا من خاف الذل والامتهان فليشتغل بالكسب وكل يخاف ذلك. ولم يؤمر الناس في الآية بالترحم والترؤف ونحو ذلك بل بالخشية واتقاء الله وليس إلا أنه تهديد بحلول ما أحلوا بأيتام الناس من إبطال حقوقهم وأكل مالهم ظلما بايتام أنفسهم بعدهم وارتداد المصائب التى أوردوها عليهم إلى ذريتهم بعدهم. وأما قوله وليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا فقد تقدم أن الظاهر أن المراد بالقول هو الجرى العملي ومن الممكن أن يراد به الرأي. = كلام في انعكاس العمل إلى صاحبه = من ظلم يتيما في ماله فإن ظلمه سيعود إلى الايتام من أعقابه وهذا من الحقائق العجيبة القرآنية وهو من فروع ما يظهر من كلامه تعالى أن بين الاعمال الحسنة والسيئة وبين الحوادث الخارجية ارتباطا وقد تقدم بعض الكلام فيه في البحث عن

[ 202 ]

أحكام الاعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب. الناس يتسلمون في الجملة أن الانسان إنما يجنى ثمر عمله وأن المحسن الخير من الناس يسعد في حياته والظلوم الشرير لا يلبث دون أن يذوق وبال عمله وفي القرآن الكريم آيات تدل على ذلك باطلاقها كقوله تعالى من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها: حم السجدة - 46 وقوله فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره: الزلزال - 8 وكذا قوله تعالى قال أنا يوسف وهذا أخى قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع أجر المحسنين: يوسف - 90 وقوله له في الدنيا خزى: الحج - 9 وقوله وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم الآية: الشورى - 30 إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الخير والشر من العمل له نوع انعكاس وارتداد إلى عامله في الدنيا. والسابق إلى أذهاننا المأنوسة بالافكار التجربية الدائرة في المجتمع من هذه الآيات أن هذا الانعكاس إنما هو من عمل الانسان إلى نفسه إلا أن هناك آيات دالة على أن الامر أوسع من ذلك وأن عمل الانسان خيرا أو شرا ربما عاد إليه في ذريته وأعقابه قال تعالى وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك: الكهف - 82 فظاهر الآية أن لصلاح أبيهما دخلا فيما أراده الله رحمة بهما وقال تعالى وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم الآية. وعلى هذا فأمر إنعكاس العمل أوسع وأعم والنعمة أو المصيبة ربما تحلان بالانسان بما كسبت يدا شخصه أو أيدى آبائه. والتدبر في كلامه تعالى يهدى إلى حقيقة السبب في ذلك فقد تقدم في الكلام على الدعاء في الجزء الثاني من هذا الكتاب في قوله تعالى وإذا سألك عبادي عنى: البقرة - 186 دلالة كلامه تعالى على أن جميع ما يحل الانسان من جانبه تعالى إنما هو لمسألة سألها ربه وأن ما مهده من مقدمة وداخله من الاسباب سؤال منه لما ينتهى إليه من الحوادث والمسببات قال تعالى يسأله من في السموات والارض كل يوم هو في شأن: الرحمن - 29 وقال تعالى وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة

[ 203 ]

الله لا تحصوها: ابراهيم - 34 ولم يقل وإن تعدوه لا تحصوه لان فيما سألوه ما ليس بنعمة والمقام مقام الامتنان بالنعم واللون على كفرها ولذا ذكر بعض ما سألوه وهو النعمة. ثم إن ما يفعله الانسان لنفسه ويوقعه على غيره من خير أو شر يرتضيه لمن أوقع عليه وهو إنسان مثله فليس إلا أنه يرتضيه لنفسه ويسأله لشخصه فليس هناك إلا الانسانية ومن ههنا يتضح للانسان أنه أن احسن لاحد فانما سأل الله ذلك الاحسان لنفسه دعاءا مستجابا وسؤالا غير مردود وإن أساء على أحد أو ظلمه فانما طلب ذلك لنفسه وارتضاه لها وما يرتضيه لاولاد الناس ويتاماهم يرتضيه لاولاد نفسه ويسأله لهم من خير أو شر قال تعالى ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات: البقرة - 148 فان معناه أن استبقوا الخيرات لتكون وجهتكم خيرا. والاشتراك في الدم ووحدة الرحم يجعل عمود النسب وهو العترة شيئا واحدا فأي حال عرضت لجانب من جوانب هذا الواحد وأي نازلة نزلت في طرف من أطرافها فانما عرضت ونزلت على متنه وهو في حساب جميع الاطراف وقد مر شطر من الكلام في الرحم في أول هذه السورة. فقد ظهر بهذا البيان أن ما يعامل به الانسان غيره أو ذرية غيره فلا محيص من أن ينعكس إلى نفسه أو ينقلب إلى ذريته إلا أن يشاء الله وإنما استثنينا لان في الوجود عوامل وجهات غير محصورة لا يحيط بجميعها إحصاء الانسان ومن الممكن أن تجرى هناك عوامل وأسباب لم نتنبه لها أو لم نطلع عليها توجب خلاف ذلك كما يشير إليه بعض الاشارة قوله تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير: الشورى - 30. قوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا الآية يقال أكله وأكله في بطنه وهما بمعنى واحد غير أن التعبير الثاني أصرح والآية كسابقتها متعلقة المضمون بقوله للرجال نصيب الآية وهى تخويف وردع للناس عن هضم حقوق اليتامى في الارث. والآية مما يدل على تجسم الاعمال على ما مر في الجزء الاول من هذا الكتاب في

[ 204 ]

قوله تعالى إن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا ما: البقرة - 26 ولعل هذا مراد من قال من المفسرين أن قوله إنما يأكلون في بطونهم نارا كلام على الحقيقة دون المجاز وعلى هذا لا يرد عليه ما أورده بعض المفسرين أن قوله يأكلون اريد به الحال دون الاستقبال بقرينة عطف قوله وسيصلون سعيرا عليه وهو فعل دخل عليه حرف الاستقبال فلو كان المراد به حقيقة الاكل ووقته يوم القيامة لكان من اللازم أن يقال سيأكلون في بطونهم نارا ويصلون سعيرا فالحق أن المراد به المعنى المجازى وأنهم في أكل مال اليتيم كمن يأكل في بطنه نارا انتهى ملخصا وهو غفلة عن معنى تجسم الاعمال. وأما قوله وسيصلون سعيرا فهو إشارة إلى العذاب الاخروي والسعير من أسماء نار الآخرة يقال صلى النار يصلاها صلى وصليا أي احترق بها وقاسى عذابها. = بحث روائي = في المجمع: في قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان الآية - اختلف الناس في هذه الآية على قولين - أحدهما أنها محكمة غير منسوخة وهو المروى عن الباقر عليه السلام أقول وعن تفسير على بن إبراهيم أنها منسوخة بقوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم الآية ولا وجه له وقد ظهر في البيان السابق أن الآية بيان كلى لحكم المواريث ولا تنافى بينها وبين سائر آيات الارث المحكمة حتى يقال بانتساخها بها. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن عكرمة في الآية قال نزلت في ام كلثوم وابنة أم كحلة أو ام كحلة - وثعلبة بن أوس وسويد وهم من الانصار - كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها فقالت يا رسول الله - توفى زوجي وتركني وابنته فلم نورث من ماله فقال عم ولدها - يا رسول الله لا تركب فرسا ولا تنكى عدوا - ويكسب عليها ولا تكتسب فنزلت للرجال نصيب الآية أقول وفي بعض الروايات عن ابن عباس أنها نزلت في رجل من الانصار مات وترك ابنتين فجاء ابنا عمه وهما عصبته فقالت امرأته تزوجا بهما وكان بهما دمامة

[ 205 ]

فأبيا فرفعت الامر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت آيات المواريث الرواية ولا بأس بتعدد هذه الاسباب كما مر مرارا. وفي المجمع في قوله تعالى وإذا حضر القسمة أولوا القربى الآية - اختلف الناس في هذه الآية على قولين - أحدهما أنها محكمة غير منسوخة قال - وهو المروى عن الباقر عليه السلام: وفي نهج البيان للشيباني أنه مروى عن الباقر والصادق عليهما السلام أقول وفي بعض الروايات أنها منسوخة بآية المواريث وقد تقدم فط البيان المتقدم أنها غير صالحة للنسخ. وفي تفسير العياشي عن أبى عبد الله وأبى الحسن عليهما السلام: إن الله أوعد في مال اليتيم عقوبتين اثنتين - أما إحديهما فعقوبة الآخرة النار وأما الاخرى فعقوبة الدنيا - قوله وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا - خافوا عليهم وليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا - قال يعنى بذلك ليخش أن أخلفه في ذريته كما صنع بهؤلاء اليتامى: أقول وروى مثله في الكافي عن الصادق عليه السلام وفي المعاني عن الباقر عليه السلام وفيه عن عبد الاعلى مولى آل سام قال أبو عبد الله عليه السلام مبتدئا: من ظلم سلط الله عليه من يظلمه أو على عقبه أو على عقب عقبه - قال فذكرت في نفسي فقلت - يظلم هو فيسلط على عقبه وعقب عقبه - فقال لي قبل أن أتكلم إن الله يقول - وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا - خافوا عليهم وليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبى الله صلى الله عليه وسلم قال اتقوا الله في الضعيفين - اليتيم والمرأة أيتمه ثم أوصى به وابتلاه وابتلى به أقول والاخبار في أكل مال اليتيم وأنها كبيرة موبقة من طرق الفريقين كثيرة مستفيضة = يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين فإن كن

[ 206 ]

نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولابويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلامه الثلث فإن كان له إخوة فلامه السدس من بعد وصية يوصى بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما (11) - ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم (12) - تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم (13) - ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين (14)).

[ 207 ]

= بيان = قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين الايصاء والتوصية هو العهد والامر وقال الراغب في مفردات القرآن الوصية التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ انتهى. وفي العدول عن لفظ الابناء إلى الاولاد دلالة على أن حكم السهم والسهمين مخصوص بما ولده الميت بلا واسطة وأما أولاد الاولاد فنازلا فحكمهم حكم من يتصلون به فلبنت الابن سهمان ولابن البنت سهم واحد إذا لم يكن هناك من يتقدم على مرتبتهم كما أن الحكم في أولاد الاخوة والاخوات حكم من يتصلون به وأما لفظ الابن فلا يقضى بنفى الواسطة كما أن الاب أعم من الوالد. وأما قوله تعالى في ذيل الآية آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فسيجئ أن هناك عناية خاصة تستوجب إختيار لفظ الابناء على الاولاد. وأما قوله للذكر مثل حظ الانثيين ففي انتخاب هذا التعبير إشعار بإبطال ما كانت عليه الجاهلية من منع توريث النساء فكأنه جعل أرث الانثى مقررا معروفا وأخبر بأن للذكر مثله مرتين أو جعله هو الاصل في التشريع وجعل إرث الذكر محمولا عليه يعرف بالاضافة إليه ولو لا ذلك لقال للانثى نصف حظ الذكر وإذن لا يفيد هذا المعنى ولا يلتئم السياق معه كما ترى هذا ما ذكره بعض العلماء ولا بأس به وربما أيد ذلك بأن الآية لا تتعرض بنحو التصريح مستقلا إلا لسهام النساء وإن صرحت بشئ من سهام الرجال فمع ذكر سهامهن معه كما في الآية التالية والآية التى في آخر السورة. وبالجملة قوله للذكر مثل حظ الانثيين في محل التفسير لقوله يوصيكم الله في أولادكم واللام في الذكر والانثيين لتعريف الجنس أي إن جنس الذكر يعادل في السهم أنثيين وهذا إنما يكون إذا كان هناك في الوراث ذكر وانثى معا فللذكر ضعفا الانثى سهما ولم يقل للذكر مثل حظى الانثى أو مثلا حظ الانثى ليدل الكلام على سهم الانثيين إذا انفردتا بإيثار الايجاز على ما سيجئ.

[ 208 ]

وعلى أي حال إذا تركبت الورثة من الذكور والاناث كان لكل ذكر سهمان ولكل انثى سهم إلى أي مبلغ بلغ عددهم. قوله تعالى فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ظاهر وقوع هذا الكلام بعد قوله للذكر مثل حظ الانثيين أنه على تقدير معطوف عليه محذوف كأنه قيل هذا إذا كانوا نساءا ورجالا فإن كن نساءا إلخ وهو شائع في الاستعمال ومنه قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله فان احصرتم فما استيسر من الهدى: البقرة - 196 وقوله أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام اخر: البقرة - 184. والضمير في كن راجع إلى الاولاد في قوله في أولادكم وتأنيث الضمير لتأنيث الخبر والضمير في قوله ترك راجع إلى الميت المعلوم من سياق الكلام. قوله تعالى وإن كانت واحدة فلها النصف الضمير إلى الولد المفهوم من السياق وتأنيثه باعتبار الخبر والمراد بالنصف نصف ما ترك فاللام عوض عن المضاف إليه. ولم يذكر سهم الانثيين فإنه مفهوم من قوله للذكر مثل حظ الانثيين فإن ذكرا وانثى إذا اجتمعا كان سهم الانثى الثلث للآية وسهم الذكر الثلثين وهو حظ الانثيين فحظ الانثيين الثلثان فهذا المقدار مفهوم من الكلام إجمالا وليس في نفسه متعينا للفهم إذ لا ينافى ما لو كان قيل بعده وإن كانتا اثنتين فلهما النصف أو الجميع مثلا لكن يعينه السكوت عن ذكر هذا السهم والتصريح الذى في قوله فإن كن نساء فوق اثنتين فإنه يشعر بالتعمد في ترك ذكر حظ الانثيين. على أن كون حظهما الثلثين هو الذى عمل به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجرى العمل عليه منذ عهده صلى الله عليه وآله وسلم إلى عهدنا بين علماء الامة سوى ما نقل من الخلاف عن ابن عباس. وهذا أحسن الوجوه في توجيه ترك التصريح بسهم الانثيين قال الكليني رحمه الله في الكافي إن الله جعل حظ الانثيين الثلثين بقوله للذكر مثل حظ الانثيين وذلك أنه إذا ترك الرجل بنتا وابنا فللذكر مثل حظ الانثيين وهو الثلثان فحظ الانثيين الثلثان واكتفا بهذا البيان أن يكون ذكر الانثيين بالثلثين انتهى ونقل مثله عن

[ 209 ]

أبي مسلم المفسر أنه يستفاد من قوله تعالى للذكر مثل حظ الانثيين وذلك أن الذكر مع الانثى الواحدة يرث الثلثين فيكون الثلثان هما حظ الانثيين انتهى وإن كان ما نقل عنهما لا يخلو من قصور يحتاج في التتميم إلى ما أوضحناه آنفا فليتأمل فيه. وهناك وجوه أخر سخيفة ذكروها في توجيه الآية كقول بعضهم إن المراد بقوله تعالى فإن كن نساء فوق اثنتين الاثنتان وما فوقهما فهذه الجملة تتضمن بيان حظ الانثيين والنساء فوق اثنتين جميعا ومثل قول بعضهم أن حكم البنتين ههنا معلوم بالقياس إلى حكم الاختين في آخر آية من السورة حيث ذكرت لهما الثلثين إلى غير ذلك مما يجعل عن أمثالها كلامه تعالى. قوله تعالى ولابويه لكل واحد منهما السدس إلى قوله فلامه السدس في عطف الابوين في الحكم على الاولاد دلالة على أن الابوين يشاركان الاولاد في طبقتهم وقوله وورثه أبواه أي انحصر الوارث فيهما وفي قوله فإن كان له إخوة الخ بعد قوله فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه دلالة على أن الاخوة واقعة في طبقة ثانية لاحقة لطبقة الابناء والبنات لا ترث مع وجودهم غير أن الاخوة تحجب الام عن الثلث. قوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين أما الوصية فهى التى تندب إليها قوله كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية الآية " البقرة - 180 ولا ينافي تقدمها في الآية على الدين ما ورد في السنة أن الدين مقدم على الوصية لان الكلام ربما يقدم فيه غير الاهم على الاهم لان الاهم لمكانته وقوة ثبوته ربما لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه غيره من التأكيد والتشديد ومنه التقديم وعلى هذا فقوله أو دين في مقام الاضراب والترقى طبعا. وبذلك يظهر وجه توصيف الوصية بقوله يوصى بها ففيه دلالة على التأكيد ولا يخلو مع ذلك من الاشعار بلزوم إكرام الميت ومراعاة حرمته فيما وصى به كما قال تعالى فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه الآية: البقرة - 181. قوله تعالى آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا الخطاب للورثة أعنى لعامة المكلفين من حيث إنهم يرثون أمواتهم وهو كلام ملقى للايماء

[ 210 ]

إلى سر اختلاف السهام في وراثة الآباء والابناء ونوع تعليم لهم خوطبوا به بلسان لا تدرون وأمثال هذه التعبيرات شائعة في اللسان. على أنه لو كان الخطاب لغير الورثة أعنى للناس من جهة أنهم سيموتون ويورثون آباءهم وأبناءهم لم يكن وجه لقوله أقرب لكم نفعا فإن الظاهر أن المراد بالانتفاع هو الانتفاع بالمال الموروث وهو إنما يعود إلى الورثة دون الميت. وتقديم الآباء على الابناء يشعر بكون الآباء أقرب نفعا من الابناء كما في قوله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله: البقرة - 158 وقد مرت الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أبدء بما بدء الله الحديث. والامر على ذلك بالنظر إلى آثار الرحم واعتبار العواطف الانسانية فإن الانسان أرأف بولده منه بوالديه وهو يرى بقاء ولده بقاءا لنفسه دون بقاء والديه فأباء الانسان أقوى ارتباطا وأمس وجودا به من أبنائه وإذا بنى الانتفاع الارثي على هذا الاصل كان لازمه أن يذهب الانسان إذا ورث أباه مثلا بسهم أزيد منه إذا ورث ابنه مثلا وإن كان ربما يسبق إلى الذهن البدوى أن يكون الامر بالعكس. وهذه الآية أعنى قوله آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا من الشواهد على أنه تعالى بنى حكم الارث على أساس تكويني خارجي كسائر الاحكام الفطرية الاسلامية. على أن الآيات المطلقة القرآنية الناظرة إلى أصل التشريع أيضا كقوله فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم: الروم - 30 تدل على ذلك وكيف يتصور مع وجود أمثال هذه الآيات أن يرد في الشريعة أحكام إلزامية وفرائض غير متغيرة وليس لها أصل في التكوين في الجملة. وربما يمكن أن يستشم من الآية أعنى قوله آباؤكم وأبناؤكم إلخ تقدم أولاد الاولاد على الاجداد والجدات فإن الاجداد والجدات لا يرثون مع وجود الاولاد وأولاد الاولاد. قوله تعالى فريضة من الله الخ الظاهر أنه منصوب بفعل مقدر والتقدير خذوا أو ألزموا ونحو ذلك وتأكيد بالغ أن هذه السهام المذكورة قدمت إليكم وهي مفرزة

[ 211 ]

معينة لا تتغير عما وضعت عليه. وهذه الآية متكفلة لبيان سهام الطبقة الاولى وهى الاولاد والاب والام على جميع تقاديرها إما تصريحا كسهم الاب والام وهو السدس لكل واحد منهما مع وجود الاولاد والثلث أو السدس للام مع عدمهم على ما ذكر في الآية وكسهم البنت الواحدة وهو النصف وسهم البنات إذا تفردن وهو الثلثان وسهم البنين والبنات إذا اجتمعوا وهو للذكر مثل حظ الانثيين ويحلق بها سهم البنتين وهو الثلثان كما تقدم. وإما تلويحا كسهم الابن الواحد فانه يرث جميع المال لقوله للذكر مثل حظ الانثيين وقوله في البنت وإن كانت واحدة فلها النصف وكذا الابناء إذا تفردوا لما يفهم من قوله للذكر مثل حظ الانثيين أن الابناء متساوون في السهام وأمر الآية في إيجازها عجيب. واعلم أيضا أن مقتضى إطلاق الآية عدم الفرق في إيراث المال وإمتاع الورثة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين سائر الناس وقد تقدم نظير هذا الاطلاق أو العموم في قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون وللنساء نصيب الآية وما ربما قيل إن خطابات القرآن العامة لا تشمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجريانها على لسانه فهو مما لا ينبغى أن يصغى إليه. نعم هاهنا نزاع بين أهل السنة والشيعة في أن النبي هل يورث أو أن ما تركه صدقة ومنشأه الرواية التى رواها أبو بكر في قصة فدك والبحث فيه خارج عن وضع هذا الكتاب ولذلك نرى التعرض له هاهنا فضلا فليراجع محله المناسب له. قوله تعالى ولكم نصف ما ترك أزواجكم إلى قوله توصون بها أو دين المعنى ظاهر وقد استعمل النصف بالاضافة فقيل نصف ما ترك والربع بالقطع فقيل ولهن الربع مما تركتم فإن القطع عن الاضافة يستلزم التتميم بمن ظاهرة أو مقدرة ومن هذه تفيد معنى الاخذ والشروع من الشئ وهذا المعنى يناسب كون مدخول من كالجزء التابع من الشئ المبتدء منه وكالمستهلك فيه وهذا إنما يناسب ما إذا كان المدخول قليلا أو ما هو كالقليل بالنسبة إلى المبتدء منه كالسدس والربع

[ 212 ]

والثلث من المجموع دون مثل النصف والثلثين ولذا قال تعالى السدس مما ترك وقال فلامه الثلث وقال ولكم الربع بالقطع عن الاضافة في جميع ذلك وقال ولكم نصف ما ترك وقال فلهن ثلثا ما ترك بالاضافة وقال فلها النصف أي نصف ما ترك فاللام عوض عن المضاف إليه. قوله تعالى وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة إلى آخر الآية أصل الكلالة مصدر بمعنى الاحاطة ومنه الاكليل لاحاطته بالرأس ومنه الكل بضم الكاف لاحاطته بالاجزاء ومنه الكل بفتح الكاف لنوع إحاطة منه ثقيلة على من هو كل عليه قال الراغب الكلالة اسم لما عدا الولد والوالد من الورثة قال وروى: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الكلالة فقال من مات وليس له ولد ولا والد فجعله اسما للميت وكلا القولين صحيح فإن الكلالة مصدر يجمع الوارث والموروث جميعا انتهى. اقول وعلى هذا فلا مانع من كون كان ناقصة ورجل اسمها ويورث وصفا للرجل وكلالة خبرها والمعنى وإن كان الميت كلالة للوارث ليس أبا له ولا ابنا ويمكن أن يكون كان تامة ورجل يورث فاعله وكلالة مصدرا وضع موضع الحال ويؤول المعنى أيضا إلى كون الميت كلالة للورثة وقال الزجاج على ما نقل عنه من قرأ يورث بكسر الراء فكلالة مفعول ومن قرأ يورث بفتح الراء فكلالة منصوب على الحال. وقوله غير مضار منصوب على الحال والمضارة هو الاضرار وظاهره أن المراد به الاضرار بالدين من قبل الميت كأن يعتمل بالدين للاضرار بالورثة وتحريمهم الارث أو المراد المضارة بالدين كما ذكروا بالوصية بما يزيد على ثلث المال. قوله تعالى تلك حدود الله إلى آخر الآيتين الحد هو الحاجز بين الشيئين الذى يمنع اختلاط أحدهما بالآخر وارتفاع التمايز بينهما كحد الدار والبستان والمراد بها أحكام الارث والفرائض المبينة وقد عظم الله أمرها بما ذكر في الآيتين من الثواب على إطاعته وإطاعة رسوله فيها والعذاب الخالد المهين على المعصية = كلام في الارث على وجه كلي = هاتان الآيتان اعني قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم إلى آخر الآيتين والآية

[ 213 ]

التى في آخر السورة يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إلى آخر الآية مع قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان الآية ومع قوله تعالى واولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله: الاحزاب - 6 الانفال - 75 خمس آيات أو ستة هي الاصل القرآني للارث في الاسلام والسنة تفسرها أوضح تفسير وتفصيل. والكليات المنتزعة المستفادة منها التى هي الاصل في تفاصيل الاحكام امور. منها ما تقدم في قوله آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ويظهر منها أن للقرب والبعد من الميت تأثيرا في باب الارث وإذا ضمت الجملة إلى بقية الآية أفادت أن ذلك مؤثر في زيادة السهم وقلته وعظمه وصغره وإذا ضمت إلى قوله تعالى واولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله أفادت أن الاقرب نسبا في باب الارث يمنع الابعد. فأقرب الاقارب إلى الميت الاب والام والابن والبنت إذ لا واسطة بينهم وبين الميت والابن والبنت يمنعان أولاد أنفسهما لانهم يتصلون به بواسطتهم فإذا فقدت واسطتهم فهم يقومون مقامها. وتتلوها المرتبة الثانية وهم إخوة الميت وأخواته وجده وجدته فإنهم يتصلون بالميت بواسطة واحدة وهى الاب أو الام وأولاد الاخ والاخت يقومون مقام أبيهم وامهم وكل بطن يمنع من بعده من البطون كما مر. وتتلو هذه المرتبة مرتبة أعمام الميت وأخواله وعماته وخالاته فإن بينهم وبين الميت واسطتين وهما الجد أو الجدة والاب أو الام والامر على قيام ما مر. ويظهر من مسألة القرب والبعد المذكورة أن ذا السببين مقدم على ذى السبب الواحد ومن ذلك تقدم كلالة الابوين على كلالة الاب فلا ترث معها وأما كلالة الام فلا تزاحمها كلالة الابوين. ومنها أنه قد اعتبر في الوراث تقدم وتأخر من جهة اخرى فإن السهام ربما اجتمعت فتزاحمت بالزيادة على أصل التركة فمنهم من عين له عند الزحام سهم آخر كالزوج يذهب بالنصف فإذا زاحمه الولد عاد إلى الربع بعينه ومثله الزوجة في ربعها وثمنها

[ 214 ]

وكالام تذهب بالثلث فإذا زاحمها ولد أو إخوة عادت إلى السدس والاب لا يزول عن سدسه مع وجود الولد وعدمه ومنهم من عين له سهم ثم إذا زاحمه آخر سكت عنه ولم يذكر له سهم بعينه كالبنت والبنات والاخت والاخوات يذهبن بالنصف والثلثين وقد سكت عن سهامهم عند الزحام ويستفاد منه أن اولئك المقدمين لا يزاحمون ولا يرد عليهم نقص في صورة زيادة السهام على الاصل وإنما يرد ما يرد من النقص على الآخرين المسكوت عن سهامهم عند الزحام. ومنها أن السهام قد تزيد على المال كما إذا فرض زوج وأخوه وأخوات من كلالة الابوين فهناك نصف وثلثان وهو زائد على مخرج المال وكذا لو فرض أبوان وبنتان وزوج فتزيد السهام على أصل التركة فإنها سدسان وثلثان وربع. وكذلك قد تزيد التركة على الفريضة كما إذا كانت هناك بنت واحد أو بنتان فقط وهكذا والسنة المأثورة التى لها شأن تفسير الكتاب على ما ورد من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام أنه في صورة زيادة السهام على أصل المال يدخل النقص على هؤلاء الذين لم يعين لهم إلا سهم واحد وهم البنات والاخوات دون غيرهم وهو الاب والام والزوج الذين عين الله فرائضهما بحسب تغير الفروض وكذا في صورة زيادة أصل التركة على السهام يرد الزائد على من يدخل عليه النقص في الصورة السابقة كما في بنت وأب فللاب السدس وللبنت نصف المال بالفريضة والباقى بالرد. وقد سن عمر بن الخطاب أيام خلافته في صورة زيادة السهام العول وعمل الناس في الصدر الاول في صورة زيادة التركة بالتعصيب وسيجئ الكلام فيهما في البحث الروائي الآتى إن شاء الله تعالى. ومنها أن التأمل في سهام الرجال والنساء في الارث يفيد أن سهم المرأة ينقص عن سهم الرجل في الجملة إلا في الابوين فإن سهم الام قد يربو على سهم الاب بحسب الفريضة ولعل تغليب جانب الام على جانب الاب أو تسويتهما لكونها في الاسلام أمس رحما بولدها ومقاساتها كل شديدة في حمله ووضعه وحضانته وتربيته قال تعالى ووصينا الانسان بوالديه إحسانا حملته امه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا: الاحقاف - 15 وخروج سهمها عن نصف ما للرجل إلى حد المساواة أو الزيادة تغليب لجانبها قطعا.

[ 215 ]

وأما كون سهم الرجل في الجملة ضعف سهم المرأة فقد اعتبر فيه فضل الرجل على المرأة بحسب تدبير الحياة عقلا وكون الانفاق اللازم على عهدته قال تعالى الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم: النساء - 34 والقوام من القيام وهو إدارة المعاش والمراد بالفضل هو الزيادة في التعقل فإن حياته حياة تعقلية وحياة المرأة إحساسية عاطفية وإعطاء زمام المال يدا عاقلة مدبرة أقرب إلى الصلاح من إعطائه يدا ذات إحساس عاطفي وهذا الاعطاء والتخصيص إذا قيس إلى الثروة الموجودة في الدنيا المنتقلة من الجيل الحاضر إلى الجيل التالى يكون تدبير ثلثى الثروة الموجودة إلى الرجال وتدبير ثلثها إلى النساء فيغلب تدبير التعقل على تدبير الاحساس والعواطف فيصلح أمر المجتمع وتسعد الحياة. وقد تدورك هذا الكسر الوارد على النساء بما أمر الله سبحانه الرجل بالعدل في أمرها الموجب لاشتراكها مع الرجل فيما بيده من الثلثين فتذهب المرأة بنصف هذين الثلثين من حيث المصرف وعندها الثلث الذى تتملكها وبيدها أمر ملكه ومصرفه. وحاصل هذا الوضع والتشريع العجيب أن الرجل والمرأة متعاكسان في الملك والمصرف فللرجل ملك ثلثى ثروة الدنيا وله مصرف ثلثها وللمرأة ملك ثلث الثروة ولها مصرف ثلثيها وقد لوحظ في ذلك غلبة روح التعقل على روح الاحساس والعواطف في الرجل والتدبير المالى بالحفظ والتبديل والانتاج والاسترباح أنسب وأمس بروح التعقل وغلبة العواطف الرقيقة والاحساسات اللطيفة على روح التعقل في المرأة وذلك بالمصرف أمس وألصق فهذا هو السر في الفرق الذى اعتبره الاسلام في باب الارث والنفقات بين الرجال والنساء. وينبغى أن يكون زيادة روح التعقل بحسب الطبع في الرجل ومزيته على المرأة في هذا الشأن هو المراد بالفضل الذى ذكره الله سبحانه في قوله عز من قائل الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض الآية دون الزيادة في البأس والشدة والصلابة فإن الغلظة والخشونة في قبيل الرجال وإن كانت مزية وجودية يمتاز بها الرجل من المرأة وتترتب عليها في المجتمع الانساني آثار عظيمة في أبواب الدفاع والحفظ والاعمال الشاقة وتحمل الشدائد والمحن والثبات والسكينة في الهزاهز والاهوال وهذه شؤون ضرورية في الحياة لا يقوم لها قبيل النساء بالطبع.

[ 216 ]

لكن النساء أيضا مجهزات بما يقابلها من الاحساسات اللطيفة والعواطف الرقيقة التى لا غنى للمجتمع عنها في حياته ولها آثار هامة في أبواب الانس والمحبة والسكن والرحمة والرأفة وتحمل أثقال التناسل والحمل والوضع والحضانة والتربية والتمريض وخدمة البيوت ولا يصلح شأن الانسان بالخشونة والغلظة لو لا اللينة والرقة ولا بالغضب لو لا الشهوة ولا أمر الدنيا بالدفع لو لا الجذب. وبالجملة هذان تجهيزان متعادلان في الرجل والمرأة يتعادل بهما كفتا الحياة في المجتمع المختلط المركب من القبيلين وحاشاه سبحانه أن يحيف في كلامه أو يظلم في حكمه أم يخافون أن يحيف الله عليهم (1) ولا يظلم ربك أحدا (2) وهو القائل بعضكم من بعض: آل عمران - 195 وقد أشار إلى هذا الالتيام والبعضية بقوله في الآية بما فضل الله بعضهم على بعض. وقال أيضا ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ؟ ؟ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون: الروم - 21 فانظر إلى عجيب بيان الآيتين حيث وصف الانسان وهو الرجل بقرينة المقابلة بالانتشار وهو السعي في طلب المعاش وإليه يعود جميع أعمال اقتناء لوازم الحياة بالتوسل إلى القوة والشدة حتى ما في المغالبات والغزوات والغارات ولو كان للانسان هذا الانتشار فحسب لانقسم أفراده إلى واحد يكر وآخر يفر. لكن الله سبحانه خلق النساء وجهزهن بما يوجب أن يسكن اليهن الرجال وجعل بينهم مودة ورحمة فاجتذبن الرجال بالجمال والدلال والمودة والرحمة فالنساء هن الركن الاول والعامل الجوهرى للاجتماع الانساني. ومن هنا ما جعل الاسلام الاجتماع المنزلى وهو الازدواج هو الاصل في هذا الباب قال تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم: الحجرات - 13 فبدأ بأمر ازدواج الذكر والانثى


(1) سورة النور: 50. (2) سورة الكهف 49.

[ 217 ]

وظهور التناسل بذلك ثم بنى عليه الاجتماع الكبير المتكون من الشعوب والقبائل. ومن ذيل الآية يظهر أن التفضيل المذكور في قوله الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض الآية إنما هو تفضيل في التجهيز بما ينتظم به أمر الحياة الدنيوية أعنى المعاش أحسن تنظيم ويصلح به حال المجتمع إصلاحا جيدا وليس المراد به الكرامة التى هي الفضيلة الحقيقية في الاسلام وهى القربى والزلفى من الله سبحانه فإن الاسلام لا يعبأ بشئ من الزيادات الجسمانية التى لا يستفاد منها إلا للحياة المادية وإنما هي وسائل يتوسل بها لما عند الله. فقد تحصل من جميع ما قدمنا أن الرجال فضلوا على النساء بروح التعقل الذى أوجب تفاوتا في أمر الارث وما يشبهه لكنها فضيلة بمعنى الزيادة وأما الفضيلة بمعنى الكرامة التى يعتنى بشأنها الاسلام فهى التقوى أينما كانت = بحث روائي = في الدر المنثور أخرج عبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقي في سننه من طرق جابر بن عبد الله قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين - فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئا فدعا بماء فتوضأ منه - ثم رش على فأفقت فقلت ما تأمرني أن أصنع في مالى يا رسول الله - فنزلت يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين. أقول قد تقدم مرارا أن أسباب النزول المروية لا تأبى أن تتعدد وتجتمع عدة منها في آية ولا تنافى عدم انحصار عناية الآية النازلة فيها ولا أن يتصادف النزول فينطبق عليها مضمون الآية فلا يضر بالرواية ما فيها من قول جابر ما تأمرني أن أصنع بمالى يا رسول الله فنزلت الخ مع أن قسمة المال لم يكن عليه حتى يجاب بالآية وأعجب منه ما رواه أيضا عن عبد بن حميد والحاكم عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعودني وأنا مريض - فقلت كيف اقسم مالى بين ولدى - فلم يرد على شيئا ونزلت يوصيكم الله في أولادكم

[ 218 ]

وفيه أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن السدى قال ": كان أهل الجاهلية لا يورثون الجوارى ولا الضعفاء من الغلمان - لا يرث الرجل من والده إلا من أطاق القتال - فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر - وترك امرأة له يقال لها ام كحة - وترك خمس جوار فجاءت الورثة فأخذوا ماله - فشكت ام كحة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم - فأنزل الله هذه الآية فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك - وإن كانت واحدة فلها النصف ثم قال في ام كحة - ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد - فإن كان لكم ولد فلهن الثمن وفيه أيضا عنهما عن ابن عباس قال ": لما نزلت آية الفرائض - التى فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والانثى والابوين - كرهها الناس أو بعضهم وقالوا - تعطى المرأة الربع أو الثمن وتعطى الابنة النصف - ويعطى الغلام الصغير - وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة - وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية - لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم ويعطونه الاكبر فالاكبر أقول وكان منه التعصيب وهو إعطاء الميراث عصبة الاب إذا لم يترك الميت ابنا كبيرا يطيق القتال وقد عمل به أهل السنة في الزائد على الفريضة فيما إذا لم يستوعب السهام التركة وربما وجد شئ من ذلك في رواياتهم لكن وردت الروايات من طرق أهل البيت عليهم السلام بنفى التعصيب وأن الزائد على الفرائض يرد على من ورد عليه النقص وهم الاولاد والاخوة من الابوين أو الاب وإلى الاب في بعض الصور والذى يستفاد من الآيات يوافق ذلك على ما مر. وفيه أخرج الحاكم والبيهقي عن ابن عباس قال ": أول من أعال الفرائض عمر تدافعت عليه وركب بعضها بعضا - قال والله ما أدرى كيف أصنع بكم - والله ما أدرى أيكم قدم الله وأيكم أخر - وما أجد في هذا المال شيئا أحسن من ان اقسمه عليكم بالحصص - ثم قال ابن عباس وأيم الله - لو قدم من قدم الله وأخر من أخر الله ما عالت فريضة - فقيل له وأيها قدم الله قال - كل فريضة لم يهبطها الله من فريضة إلا إلى فريضة - فهذا ما قدم الله - وكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقى - فتلك التى أخر الله فالذي قدم كالزوجين والام - والذى أخر كالاخوات والبنات - فإذا اجتمع من قدم الله وأخر بدئ بمن قدم فاعطي حقه كاملا - فإن بقى شئ كان

[ 219 ]

لهن وإن لم يبق شئ فلا شئ لهن وفيه أيضا أخرج سعيد بن منصور عن ابن عباس قال ": أ ترون الذى أحصى رمل عالج عددا - جعل في المال نصفا وثلثا وربعا - إنما هو نصفان وثلاثة أثلاث وأربعة أرباع وفيه أيضا عنه عن عطاء قال ": قلت لابن عباس - إن الناس لا يأخذون بقولى ولا بقولك - ولو مت أنا وأنت ما اقتسموا ميراثا على ما تقول - قال فليجتمعوا فلنضع أيدينا على الركن - ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ما حكم الله بما قالوا أقول وهذا المعنى منقول عن ابن عباس من طرق الشيعة أيضا كما يأتي. في الكافي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: جالست ابن عباس فعرض ذكر الفرائض من المواريث - فقال ابن عباس سبحان الله العظيم - أترون الذى أحصى رمل عالج عددا جعل في مال نصفا ونصفا وثلثا - فهذان النصفان قد ذهبا بالمال فأين موضع الثلث - فقال له زفر بن أوس البصري - يا أبا العباس فمن أول من أعال هذه الفرائض - فقال عمر بن الخطاب لما التفت عنده الفرائض - ودفع بعضها بعضا قال والله ما أدرى أيكم قدم الله وأيكم أخر - وما أجد شيئا أوسع من أن اقسم عليكم هذا المال بالحصص - وأدخل على كل ذى حق حقه فادخل عليه من عول الفرائض - وأيم الله لو قدم من قدم الله وأخر من أخر الله ما عالت الفريضة فقال له زفر ابن أوس وأيها قدم وأيها أخر - فقال كل فريضة لم يهبطها الله عن فريضة إلا إلى فريضة - فهذا ما قدم الله وأما ما أخر الله - فكل فريضة إذا زالت عن فرضها - لم يكن لها إلا ما بقى فتلك التى أخر - فأما التى قدم فالزوج له النصف - فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شئ - و الزوجة لها الربع فإذا زالت إلى الثمن لا يزيلها عنه شئ - والام لها الثلث - فإذا زالت عنه صارت إلى السدس ولا يزيلها عنه شئ - فهذه الفرائض التى قدم الله عز وجل - وأما التى أخر ففريضة البنات والاخوات لها النصف والثلثان فإذا أزالتهن الفرائض عن ذلك لم يكن لها إلا ما بقى - فتلك التى أخر الله فإذا اجتمع ما قدم الله وما أخر بدء بما قدم الله - فاعطى حقه كاملا - فإن بقى شئ كان لمن أخر وإن لم يبق شئ فلا شئ له - فقال له زفر فما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر فقال هيبته

[ 220 ]

اقول وهذا القول من ابن عباس مسبوق بقول على عليه السلام بنفى العول وهو مذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام كما يأتي. في الكافي عن الباقر عليه السلام في حديث قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول - إن الذى أحصى رمل عالج ليعلم أن السهام لا تعول على ستة لو تبصرون وجهها لم تجز ستة أقول في الصحاح إن عالج موضع بالبادية به رمل وقوله عليه السلام إن السهام لا تعول على ستة أي لا تميل على الستة حتى تغيرها إلى غيرها والستة هي السهام المصرحة بها في الكتاب وهى النصف والثلث والثلثان والربع والسدس والثمن. وفيه عن الصادق عليه السلام قال قال أمير المؤمنين عليه السلام: الحمد لله الذى لا مقدم لما أخر ولا مؤخر لما قدم - ثم ضرب بإحدى يديه على الاخرى - ثم قال يا أيتها الامة المتحيرة بعد نبيها - لو كنتم قدمتم من قدم الله وأخرتم من أخر الله - وجعلتم الولاية والوراثة حيث جعلها الله ما عال ولي الله - ولا عال سهم من فرائض الله - ولا اختلف اثنان في حكم الله - ولا تنازعت الامة في شئ من أمر الله - إلا وعند على علمه من كتاب الله - فذوقوا وبال أمركم وما فرطتم فيما قدمت أيديكم - وما الله بظلام للعبيد وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون أقول وتوضيح ورود النقص على حظوظ الورثة زيادة على ما مر أن الفرائض المذكورة في كلامه تعالى ست النصف والثلثان والثلث والسدس والربع والثمن وهذه السهام قد يجتمع بعضها مع بعض بحيث يحصل التزاحم كما أنه قد يجتمع النصف والسدسان والربع في الطبقة الاولى كبنت وأب وأم وزوج فتزيد السهام على الاصل وكذا الثلثان والسدسان والربع كبنتين وأبوين وزوج فتتزاحم وكذلك يجتمع النصف والثلث والربع والسدس في الطبقة الثانية كأخت وجدين للاب والام وزوجة وكذا الثلثان والثلث والربع والسدس كأختين وجدين وزوج. فإن أوردنا النقص على جميع السهام كان العول وإن حفظنا فريضة الابوين والزوجين وكلالة الام وهى الثلث والسدس والنصف والربع والثمن عن ورود النقص عليها لان الله عين هذه السهام ولم يبهمها في حال بخلاف سهام البنت الواحدة فما زادت والاخت الواحدة لابوين أو لاب فما زادت وبخلاف سهام الذكر والانثى عند

[ 221 ]

الوحدة والكثرة ورد النقص دائما على الاولاد والاخوة والاخوات لما مر. وأما كيفية الرد فليراجع فيها إلى جوامع الحديث وكتب الفقه. وفي الدر المنثور أخرج الحاكم والبيهقي في سننه عن زيد بن ثابت: أنه كان يحجب الام بالاخوين فقالوا له - يا أبا سعيد إن الله يقول فإن كان له إخوة - وأنت تحجبها بأخوين - فقال إن العرب تسمى الاخوين إخوة اقول وهو المروى عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وإن كان المعروف أن الاخوة جمع الاخ ولا يطلق الجمع على ما دون الثلاثة. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام قال: لا يحجب الام عن الثلث - إلا أخوان أو أربع أخوات لاب وام أو لاب أقول والاخبار في ذلك كثيرة وأما الاخوة لام فإنهم يتقربون بالام وهى بوجودها تمنعهم وفي أخبار الفريقين أن الاخوة يحجبون الام ولا يرثون لوجود من يتقدم عليهم في الميراث وهو الابوان فحجب الاخوة الام مع عدم إرثهم إنما هو نوع مراعاة لحال الاب من حيث رد الزائد على الفريضة إليه ومنه يعلم وجه عدم حجب الاخوة للام فإنهم ليسوا عالة للاب. وفي المجمع: في قوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين - عن أمير المؤمنين عليه السلام إنكم تقرؤون في هذه الآية الوصية قبل الدين - وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالدين قبل الوصية: أقول ورواه السيوطي في الدر المنثور عن عدة من أرباب الجوامع والتفاسير وفي الكافي: في معنى الكلالة عن الصادق عليه السلام - من ليس بوالد ولا ولد وفيه عنه عليه السلام: في قوله تعالى وإن كان رجل يورث كلالة الآية إنما عنى بذلك الاخوة والاخوات من الام خاصة أقول والاخبار في ذلك كثيرة وقد رواها أهل السنة وقد استفاضت الروايات بذلك وأن حكم كلالة الاب والابوين هو المذكور في الآية الخاتمة للسورة يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة الآية.

[ 222 ]

ومن الشواهد على ذلك أن الفرائض المذكورة للكلالة في آخر السورة تربو على ما ذكر لهم في هذه الآية زيادة ضعف أو أزيد ومن المستفاد من سياق الآيات وذكر الفرائض أنه تعالى يرجح سهم الرجال على النساء في الجملة ترجيح المثلين على المثل أو ما يقرب من ذلك مهما أمكن والكلالة إنما يتقرب إلى الميت من جهة الام والاب أو أحدهما فالتفاوت المراعى في جانب الاب والام يسرى إليهم فيترجح لا محالة فرائض كلالة الابوين أو الاب على كلالة الام ويكشف بذلك أن القليل لكلالة الام والكثير لغيره. وفي المعاني بإسناده إلى محمد بن سنان: أن أبا الحسن الرضا عليه السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله - علة إعطاء النساء نصف ما يعطى الرجال من الميراث - لان المرأة إذا تزوجت أخذت والرجل يعطى - فلذلك وفر على الرجال - وعلة اخرى في إعطاء الذكر مثلى ما تعطى الانثى - لان الانثى من عيال الذكر إن احتاجت - وعليه أن يعولها وعليه نفقتها - وليس على المرأة أن تعول الرجل - ولا تؤخذ بنفقته إن احتاج فوفر على الرجال لذلك - وذلك قول الله عز وجل الرجال قوامون على النساء - بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم وفي الكافي بإسناده عن الاحول قال قال ابن أبى العوجاء: ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهما واحدا ويأخذ الرجال سهمين - فذكر ذلك بعض أصحابنا لابي عبد الله عليه السلام - فقال إن المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا معقلة فإنما ذلك على الرجال - فلذلك جعل للمرأة سهما واحدا وللرجل سهمين أقول والروايات في هذا المعنى كثيرة وقد مر دلالة الكتاب أيضا على ذلك = بحث علمي في فصول = 1 - ظهور الارث كأن الارث أعنى تملك بعض الاحياء المال الذى تركه الميت من أقدم السنن الدائرة في المجتمع الانساني وقد خرج عن وسع ما بأيدينا من تواريخ الامم والملل الحصول على مبدأ حصوله ومن طبيعة الامر أيضا ذلك فإنا نعلم بالتأمل في طبيعة الانسان الاجتماعية أن المال وخاصة لو كان مما لا يد عليه يحن

[ 223 ]

إليه الانسان ويتوق إليه نفسه لصرفه في حوائجه وحيازته وخاصة فيما لا مانع عنه من دؤوبه الاولية القديمة والانسان في ما كونه من مجتمعه همجيا أو مدنيا لا يستغنى عن اعتبار القرب والولاية المنتجين للاقربية والاولوية بين أفراد المجتمع الاعتبار الذى عليه المدار في تشكل البيت والبطن والعشيرة والقبيلة ونحو ذلك فلا مناص في المجتمع من كون بعض الافراد أولى ببعض كالولد بوالديه والرحم برحمه والصديق بصديقه والمولى بعبده وأحد الزوجين بالآخر والرئيس بمرؤوسه حتى القوى بالضعيف وإن اختلفت المجتمعات في تشخيص ذلك اختلافا شديدا يكاد لا تناله يد الضبط. ولازم هذين الامرين كون الارث دائرا بينهم من أقدم العهود الاجتماعية. 2 - تحول الارث تدريجيا: لم تزل هذه السنة كسائر السنن الجارية في المجتمعات الانسانية تتحول من حال إلى حال وتلعب به يد التطور والتكامل منذ أول ظهورها غير أن الامم الهمجية لما لم تستقر على حال منتظم تعسر الحصول في تواريخهم على تحوله المنتظم حصولا يفيد وثوقا به. والقدر المتيقن من أمرهم أنهم كانوا يحرمون النساء والضعفاء الارث وإنما كان يختص بالاقوياء وليس إلا لانهم كانوا يعاملون مع النساء والضعفاء من العبيد والصغار معاملة الحيوان المسخر والسلع والامتعة التى ليس لها إلا أن ينتفع بها الانسان دون أن تنتفع هي بالانسان وما في يده أو تستفيد من الحقوق الاجتماعية التى لا تتجاوز النوع الانساني. ومع ذلك كان يختلف مصداق القوى في هذا الباب برهة بعد برهة فتارة مصداقه رئيس الطائفة أو العشيرة وتارة رئيس البيت وتارة اخرى أشجع القوم وأشدهم بأسا وكان ذلك يوجب طبعا تغير سنة الارث تغيرا جوهريا. ولكون هذه السنن الجارية لا تضمن ما تقترحه الفطرة الانسانية من السعادة المقترحة كان يسرع إليها التغير والتبدل حتى أن الملل المتمدنة التى كان يحكم بينهم القوانين أو ما يجرى مجراها من السنن المعتادة الملية كان شأنهم ذلك كالروم واليونان وما عمر قانون من قوانين الارث الدائرة بين الامم حتى اليوم مثل ما عمرت سنة الارث الاسلامية فقد حكمت في الامم الاسلامية منذ أول ظهورها إلى اليوم ما يقرب من أربعة عشر قرنا.

[ 224 ]

3 - الوراثة بين الامم المتمدنة من خواص الروم أنهم كانوا يرون للبيت في نفسه استقلالا مدنيا يفصله عن المجتمع العام ويصونه عن نفوذ الحكومة العامة في جل ما يرتبط بأفراده من الحقوق الاجتماعية فكان يستقل في الامر والنهى والجزاء والسياسة ونحو ذلك. وكان رب البيت هو معبودا لاهله من زوجة وأولاد وعبيد وكان هو المالك من بينهم ولا يملك دونه أحد ما دام أحد أفراد البيت وكان هو الولى عليهم القيم بأمرهم باختياره المطلق النافذ فيهم وكان هو يعبد رب البيت السابق من أسلافه. وإذا كان هناك مال يرثه البيت كما إذا مات بعض الابناء فيما ملكه بإذن رب البيت اكتسابا أو بعض البنات فيما ملكته بالازدواج صداقا وأذن لها رب البيت أو بعض الاقارب فإنما كان يرثه رب البيت لانه مقتضى ربوبيته وملكه المطلق للبيت وأهله. وإذا مات رب البيت فإنما كان يرثه أحد أبنائه أو إخوانه ممن في وسعه ذلك وورثه الابناء فإن انفصلوا وأسسوا بيوتا جديدة كانوا أربابها وإن بقوا في بيتهم القديم كان نسبتهم إلى الرب الجديد أخيهم مثلا هي النسبة السابقة إلى أبيهم من الورود تحت قيمومته وولايته المطلقة. وكذا كان يرثه الادعياء لان الادعاء والتبنى كان دائرا عندهم كما بين العرب في الجاهلية. وأما النساء كالزوجة والبنت والام فلم يكن يرثن لئلا ينتقل مال البيت بانتقالهن إلى بيوت اخرى بالازدواج فإنهم ما كانوا يرون جواز انتقال الثروة من بيت إلى آخر وهذا هو الذى ربما ذكره بعضهم فقال إنهم كانوا يقولون بالملكية الاشتراكية الاجتماعية دون الانفرادية الفردية وأظن أن مأخذه شئ آخر غير الملك الاشتراكي فإن الاقوام الهمجية المتوحشة أيضا من أقدم الازمنة كانوا يمتنعون من مشاركة غيرهم من الطوائف البدوية فيما حازوه من المراعى والاراضي الخصبة وحموه لانفسهم وكانوا يحاربون عليه ويدفعون عن محمياتهم وهذا نوع من الملك العام الاجتماعي الذى مالكه هيئة المجتمع الانساني دون أفراده وهو مع ذلك لا ينفى أن يملك كل فرد من المجتمع شيئا من هذا الملك العام اختصاصا.

[ 225 ]

وهذا ملك صحيح الاعتبار غير أنهم ما كانوا يحسنون تعديل أمره والاستدرار منه وقد احترمه الاسلام كما ذكرناه فيما تقدم قال تعالى خلق لكم ما في الارض جميعا: البقرة - 29 فالمجتمع الانساني وهو المجتمع الاسلامي ومن هو تحت ذمته هو المالك لثروة الارض بهذا المعنى ثم المجتمع الاسلامي هو المالك لما في يده من الثروة ولذلك لا يرى الاسلام إرث الكافر من المسلم. ولهذا النظر آثار ونماذج في بعض الملل الحاضرة حيث لا يرون جواز تملك الاجانب شيئا من الاراضي والاموال غير المنقولة من أوطانهم ونحو ذلك. ولما كان البيت في الروم القديم ذا استقلال وتمام في نفسه كان قد استقر فيه هذه العادة القديمة المستقرة في الطوائف والممالك المستقلة. وكان قد أنتج استقرار هذه العادة أو السنة في بيوت الروم مع سنتهم في التزويج من منع الازدواج بالمحارم أن القرابة انقسمت عندهم قسمين أحدهما القرابة الطبيعية وهى الاشتراك في الدم وكان لازمها منع الازدواج في المحارم وجوازه في غيرهم والثاني القرابة الرسمية وهى القانونية ولازمها الارث وعدمه والنفقة والولاية وغير ذلك فكان الابناء أقرباء ذوى قرابة طبيعية ورسمية معا بالنسبة إلى رب البيت ورئيسه وفي ما بينهم أنفسهم وكانت النساء جميعا ذوات قرابة طبيعية لا رسمية فكانت المرة لا ترث والدها ولا ولدها ولا أخاها ولا بعلها ولا غيرهم هذه سنة الروم القديم. وأما اليونان فكان وضعهم القديم في تشكل البيوت قريبا من وضع الروم القديم وكان الميراث فيهم يرثه أرشد الاولاد الذكور ويحرم النساء جميعا من زوجة وبنت واخت ويحرم صغار الاولاد وغيرهم غير أنهم كالروميين ربما كانوا يحتالون لايراث الصغار من أبنائهم ومن أحبوها وأشفقوا عليها من زوجاتهم وبناتهم وأخواتهم بحبل متفرقة تسهل الطريق لامتاعهن بشئ من الميراث قليل أو كثير بوصية أو نحوها وسيجئ الكلام في أمر الوصية. وأما الهند ومصر والصين فكان أمر الميراث في حرمان النساء منه مطلقا

[ 226 ]

وحرمان ضعفاء الاولاد أو بقاؤهم تحت الولاية والقيمومة قريبا مما تقدم من سنة الروم واليونان. وأما الفارس فإنهم كانوا يرون نكاح المحارم وتعدد الزوجات كما تقدم ويرون التبني وكانت أحب النساء إلى الزوج ربما قامت مقام الابن بالادعاء وترث كما يرث الابن والدعي بالسوية وكانت تحرم بقية الزوجات والبنت المزوجة لا ترث حذرا من انتقال المال إلى خارج البيت والتى لم تزوج بعد ترث نصف سهم الابن فكانت الزوجات غير الكبيرة والبنت المزوجة محرومات وكانت الزوجة الكبيرة والابن والدعي والبنت غير المزوجة بعد مرزوقين. وأما العرب فقد كانوا يحرمون النساء مطلقا والصغار من البنين ويمتعون أرشد الاولاد ممن يركب الفرس ويدفع عن الحرمة فإن لم يكن فالعصبة. هذا حال الدنيا يوم نزلت آيات الارث ذكرها وتعرض لها كثير من تواريخ آداب الملل ورسومهم والرحلات وكتب الحقوق وأمثالها من أراد الاطلاع على تفاصيل القول أمكنه أن يراجعها. وقد تلخص من جميع ما مر أن السنة كانت قد استقرت في الدنيا يومئذ على حرمان النساء بعنوان أنهن زوجة أو ام أو بنت أو اخت إلا بعناوين اخرى مختلفة وعلى حرمان الصغار والايتام إلا في بعض الموارد تحت عنوان الولاية والقيمومة الدائمة غير المنقطعة. 4 ما ذا صنع الاسلام والظرف هذا الظرف قد تقدم مرارا أن الاسلام يرى أن الاساس الحق للاحكام والقوانين الانسانية هو الفطرة التى فطر الناس عليها ولا تبديل لخلق الله وقد بنى الارث على أساس الرحم التى هي من الفطرة والخلقة الثابتة وقد ألغى إرث الادعياء حيث يقول تعالى وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدى السبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم: الاحزاب - 5. ثم أخرج الوصية من تحت عنوان الارث وأفردها عنوانا مستقلا يعطى به ويؤخذ وإن كانوا يسمون التملك من جهة الايصاء إرثا وليس ذلك مجرد اختلاف في التسمية

[ 227 ]

فإن لكل من الوصية والارث ملاكا آخر وأصلا فطريا مستقلا فملاك الارث هو الرحم ولا نفوذ لارادة المتوفى فيها أصلا وملاك الوصية نفوذ إرادة المتوفى بعد وفاته وإن شئت قل حين ما يوصى في ما يملكه في حياته واحترام مشيته فلو ادخلت الوصية في الارث لم يكن ذلك إلا مجرد تسمية. وأما ما كان يسميها الناس كالروم القديم مثلا إرثا فلم يكن لاعتبارهم في سنة الارث أحد الامرين إما الرحم وإما احترام إرادة الميت بل حقيقة الامر أنهم كانوا يبنون الارث على احترام الارادة وهى إرادة الميت بقاء المال الموروث في البيت الذى كان فيه تحت يد رئيس البيت وربه أو إرادته انتقاله بعد الموت إلى من يحبه الميت ويشفق عليه فكان الارث على أي حال يبتنى على احترام الارادة ولو كان مبتنيا على أصل الرحم واشتراك الدم لرزق من المال كثير من المحرومين منه وحرم كثير من المرزوقين. ثم إنه بعد ذلك عمد إلى الارث وعنده في ذلك أصلان جوهريان أصل الرحم وهو العنصر المشترك بين الانسان وأقربائه لا يختلف فيه الذكور والاناث والكبار والصغار حتى الاجنة في بطون أمهاتهم وإن كان مختلف الاثر في التقدم والتأخر ومنع البعض للبعض من جهة قوته وضعفه بالقرب من الانسان والبعد منه وانتفاء الوسائط وتحققها قليلا أو كثيرا كالولد والاخ والعم وهذا الاصل يقضى باستحقاق أصل الارث مع حفظ الطبقات المتقدمة والمتأخرة. وأصل اختلاف الذكر والانثى في نحو وجود القرائح الناشئة عن الاختلاف في تجهيزهما بالتعقل والاحساسات فالرجل بحسب طبعه إنسان التعقل كما أن المرأة مظهر العواطف والاحساسات اللطيفة الرقيقة وهذا الفرق مؤثر في حياتيهما التأثير البارز في تدبير المال المملوك وصرفه في الحوائج وهذا الاصل هو الموجب للاختلاف في السهام في الرجل والمرأة وإن وقعا في طبقة واحدة كالابن والبنت والاخ والاخت في الجملة على ما سنبينه. واستنتج من الاصل الاول ترتب الطبقات بحسب القرب والبعد من الميت لفقدان الوسائط وقلتها وكثرتها فالطبقة الاولى هي التى تتقرب من الميت بلا واسطة وهى الابن والبنت والاب والام والثانية الاخ والاخت والجد والجدة وهى تتقرب من

[ 228 ]

الميت بواسطة واحدة وهى الاب أو الام أو هما معا والثالثة العم والعمة والخال والخالة وهى تتقرب إلى الميت بواسطتين وهما أب الميت أو امه وجده أو جدته وعلى هذا القياس والاولاد في كل طبقة يقومون مقام آبائهم ويمنعون الطبقة اللاحقة وروعي حال الزوجين لاختلاط دمائهما بالزواج مع جميع الطبقات فلا يمنعهما طبقة ولا يمنعان طبقة. ثم استنتج من الاصل الثاني اختلاف الذكر والانثى في غير الام والكلالة المتقربة بالام بأن للذكر مثل حظ الانثيين. والسهام الستة المفروضة في الاسلام النصف والثلثان والثلث والربع والسدس والثمن وإن اختلفت وكذا المال الذى ينتهى إلى أحد الوراث وإن تخلف عن فريضته غالبا بالرد أو النقص الوارد وكذا الاب والام وكلالة الام وإن تخلفت فرائضهم عن قاعدة للذكر مثل حظ الانثيين ولذلك يعسر البحث الكلى الجامع في باب الارث إلا أن الجميع بحسب اعتبار النوع في تخليف السابق للاحق يرجع إلى استخلاف أحد الزوجين للآخر واستخلاف الطبقة المولدة وهم الآباء والامهات للطبقة المتولدة وهم الاولاد والفريضة الاسلامية في كل من القبيلين أعنى الازواج والاولاد للذكر مثل حظ الانثيين. وينتج هذا النظر الكلى أن الاسلام يرى اقتسام الثروة الموجودة في الدنيا بالثلث والثلثين فللانثى ثلث وللذكر ثلثان هذا من حيث التملك لكنه لا يرى نظير هذا الرأي في الصرف للحاجة فإنه يرى نفقة الزوجة على الزوج ويأمر بالعدل المقتضى للتساوي في المصرف ويعطى للمرأة استقلال الارادة والعمل فيما تملكه من المال لا مداخلة للرجل فيه وهذه الجهات الثلاث تنتج أن للمرأة أن تتصرف في ثلثى ثروة الدنيا الثلث الذى تملكها ونصف الثلثين اللذين يملكهما الرجل وليس في قبال تصرف الرجل إلا الثلث. 5 - علام استقر حال النساء واليتامى في الاسلام أما اليتامى فهم يرثون كالرجال الاقوياء ويربون وينمى أموالهم تحت ولاية الاولياء كالاب والجد أو عامة المؤمنين أو الحكومة الاسلامية حتى إذا بلغوا النكاح وأونس منهم الرشد دفعت إليهم أموالهم واستووا على مستوى الحياة المستقلة وهذا أعدل السنن المتصورة في حقهم.

[ 229 ]

وأما النساء فإنهن بحسب النظر العام يملكن ثلث ثروة الدنيا ويتصرفن في ثلثيها بما تقدم من البيان وهن حرات مستقلات فيما يملكن لا يدخلن تحت قيمومة دائمة ولا موقتة ولا جناح على الرجال فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف. فالمرأة في الاسلام ذات شخصية تساوى شخصية الرجل في حرية الارادة والعمل من جميع الجهات ولا تفارق حالها حال الرجل إلا في ما تقتضيه صفتها الروحية الخاصة المخالفة لصفة الرجل الروحية وهى أن لها حياة إحساسية وحياة الرجل تعقلية فاعتبر للرجل زيادة في الملك العام ليفوق تدبير التعقل في الدنيا على تدبير الاحساس والعاطفة وتدورك ما ورد عليها من النقص باعتبار غلبتها في التصرف وشرعت عليها وجوب إطاعة الزوج في أمر المباشرة وتدورك ذلك بالصداق وحرمت القضاء والحكومة والمباشرة للتقال لكونها امورا يجب بناؤها على التعقل دون الاحساس وتدورك ذلك بوجوب حفظ حماهن والدفاع عن حريمهن على الرجال ووضع على عاتقهم أثقال طلب الرزق والانفاق عليها وعلى الاولاد وعلى الوالدين ولها حق حضانة الاولاد من غير إيجاب وقد عدل جميع هذه الاحكام بامور اخرى دعين إليها كالتحجب وقلة مخالطة الرجال وتدبير المنزل وتربية الاولاد. وقد أوضح معنى امتناع الاسلام عن إعطاء التدابير العامة الاجتماعية كتدبير الدفاع والقضاء والحكومة للعاطفة والاحساس ووضع زمامها في يدها النتائج المرة التى يذوقها المجتمع البشري إثر غلبة الاحساس على التعقل في عصرنا الحاضر وأنت بالتأمل في الحروب العالمية الكبرى التى هي من هدايا المدنية الحاضرة وفي الاوضاع العامة الحاكمة على الدنيا وعرض هذه الحوادث على العقل والاحساس العاطفي تقف على تشخيص ما منه الاغراء وما إليه النصح والله الهادى. على أن الملل المتمدنة من الغربيين لم يألوا جهدا ولم يقصروا حرصا منذ مئات السنين في تربية البنات مع الابناء في صف واحد وإخراج ما فيهن من استعداد الكمال من القوة إلى الفعل وأنت مع ذلك إذا نظرت في فهرس نوابغ السياسة ورجال القضاء والتقنين وزعماء الحروب وقوادها وهي الخلال الثلاث المذكورة الحكومة القضاء القتال لم تجد فيه شيئا يعتد به من أسماء النساء ولا عددا يقبل المقايسة إلى المئات والالوف من الرجال وهذا في نفسه أصدق شاهد على أن طباع النساء لا تقبل الرشد

[ 230 ]

والنماء في هذه الخلال التى لا حكومة فيها بحسب الطبع إلا للتعقل وكلما زاد فيها دبيب العواطف زادت خيبة وخسرانا. وهذا وأمثاله من أقطع الاجوبة للنظرية المشهورة القائلة أن السبب الوحيد في تأخر النساء عن الرجال في المجتمع الانساني هو ضعف التربية الصالحة فيهن منذ أقدم عهود الانسانية ولو دامت عليهن التربية الصالحة الجيدة مع ما فيهن من الاحساسات والعواطف الرقيقة لحقن الرجال أو تقدمن عليهم في جهات الكمال. وهذا الاستدلال أشبه بالاستدلال بما ينتج نقيض المطلوب فإن اختصاصهن بالعواطف الرقيقة أو زيادتها فيهن هو الموجب لتأخرهن فيما يحتاج من الامور إلى قوة التعقل وتسلطه على العواطف الروحية الرقيقة كالحكومة والقضاء وتقدم من يزيد عليهن في ذلك وهم الرجال فإن التجارب القطعي يفيد أن من اختص بقوة صفة من الصفات الروحية فإنما تنجح تربيته فيما يناسبها من المقاصد والمآرب ولازمه أن تنجح تربية الرجال في أمثال الحكومة والقضاء ويمتازوا عنهن في نيل الكمال فيها وأن تنجح تربيتهن فيما يناسب العواطف الرقيقة ويرتبط بها من الامور كبعض شعب صناعة الطب والتصوير والموسيقى والنسج والطبخ وتربية الاطفال وتمريض المرضى وأبواب الزينة ونحو ذلك ويتساوى القبيلان فيما سوى ذلك. على أن تأخرهن فيما ذكر من الامور لو كان مستندا إلى الاتفاق والصدفة كما ذكر لانتقض في بعض هذه الازمنة الطويلة التى عاش فيها المجتمع الانساني وقد خمنوها بملايين من السنين كما أن تأخر الرجال فيما يختص من الامور المختصة بالنساء كذلك ولو صح لنا أن نعد الامور اللازمة للنوع غير المنفكة عن مجتمعهم وخاصة إذا ناسبت امورا داخلية في البنية الانسانية من الاتفاقيات لم يسع لنا أن نحصل على خلة طبيعية فطرية من خلال الانسانية العامة كميل طباعه إلى المدنية والحضارة وحبه للعلم وبحثه عن أسرار الحوادث ونحو ذلك فإن هذه صفات لازمة لهذا النوع وفي بنية أفراده ما يناسبها من القرائح نعدها لذلك صفات فطرية نظير ما نعد تقدم النساء في الامور الكمالية المستظرفة وتأخرهن في الامور التعقلية والامور الهائلة والصعبة الشديدة من مقتضى قرائحهن وكذلك تقدم الرجال وتأخرهم في عكس ذلك. فلا يبقى بعد ذلك كله إلا انقباضهن من نسبة كمال التعقل إلى الرجال وكمال

[ 231 ]

الاحساس والتعطف إليهن وليس في محله فإن التعقل والاحساس في نظر الاسلام موهبتان إلهيتان مودعتان في بنية الانسان لمأرب إلهية حقه في حياته لا مزية لاحداهما على الاخرى ولا كرامة إلا للتقوى وأما الكمالات الاخر كائنة ما كانت فإنما تنمو وتربو إذا وقعت في صراطه وإلا لم تعد إلا أوزارا سيئة. 6 - قوانين الارث الحديثة هذه القوانين والسنن وإن خالفت قانون الارث الاسلامي كما وكيفا على ما سيمر بك إجمالها غير أنها استظهرت في ظهورها واستقرارها بالسنة الاسلامية في الارث فكم بين موقف الاسلام عند تشريع إرث النساء في الدنيا وبين موقفهن من الفرق. فقد كان الاسلام يظهر أمرا ما كانت الدنيا تعرفه ولا قرعت أسماع الناس بمثله ولا ذكرته أخلاف عن أسلافهم الماضين وآبائهم الاولين وأما هذه القوانين فإنها أبديت وكلف بها امم حينما كانت استقرت سنة الاسلام في الارث بين الامم الاسلامية في معظم المعمورة بين مئات الملايين من الناس توارثها الاخلاف من أسلافهم في أكثر من عشرة قرون ومن البديهيات في أبحاث النفس أن وقوع أمر من الامور في الخارج ثم ثبوتها واستقرارها نعم العون في وقوع ما يشابهها وكل سنة سابقة من السنن الاجتماعية مادة فكرية للسنن اللاحقة المجانسة بل الاولى هي المادة المتحولة إلى الثانية فليس لباحث اجتماعي أن ينكر استظهار القوانين الجديدة في الارث بما تقدمها من الارث الاسلامي وتحوله إليها تحولا عادلا أو جائرا. ومن أغرب الكلام ما ربما يقال قاتل الله عصبية الجاهلية الاولى إن القوانين الحديثة إنما استفادت في موادها من قانون الروم القديمة وأنت قد عرفت ما كانت عليه سنة الروم القديمة في الارث وما قدمته السنة الاسلامية إلى المجتمع البشرى وأن السنة الاسلامية متوسطة في الظهور والجريان العملي بين القوانين الرومية القديمة وبين القوانين الغربية الحديثة وكانت متعرفة متعمقة في مجتمع الملايين ومئات الملايين من النفوس الانسانية قرونا متوالية متطاولة ومن المحال أن تبقى سدى وعلى جانب من التأثير في أفكار هؤلاء المقننين. وأغرب منه أن هؤلاء القائلين يذكرون أن الارث الاسلامي مأخوذ من الارث الرومي القديم.

[ 232 ]

وبالجملة فالقوانين الحديثة الدائرة بين الملل الغربية وإن اختلفت في بعض الخصوصيات غير أنها كالمطبقة على تساوى الرجال والنساء في سهم الارث فالبنات والبنون سواء و الامهات والآباء سواء في السهام وهكذا. وقد رتبت الطبقات في قانون فرنسا على هذا النحو 1 البنون والبنات 2 الآباء والامهات والاخوة والاخوات 3 الاجداد والجدات 4 الاعمام والعمات والاخوال والخالات وقد أخرجوا علقة الزوجية من هذه الطبقات وبنوها على أساس المحبة والعلقة القلبية ولا يهمنا التعرض لتفاصيل ذلك وتفاصيل الحال في سائر الطبقات من أرادها فليرجع إلى محلها. والذى يهمنا هو التأمل في نتيجة هذه السنة الجارية وهى اشتراك المرأة مع الرجل في ثروة الدنيا الموجودة بحسب النظر العام الذى تقدم غير أنهم جعلوا الزوجة تحت قيمومة الزوج لا حق لها في تصرف مالى في شئ من أموالها الموروثة إلا بإذن زوجها وعاد بذلك المال منصفا بين الرجل والمرأة ملكا وتحت ولاية الرجل تدبيرا وإدارة وهناك جمعيات منتهضة يبذلون مساعيهم لاعطاء النساء الاستقلال وإخراجهن من تحت قيمومة الرجال في أموالهن ولو وفقوا لما يريدون كانت الرجال والنساء متساويين من حيث الملك ومن حيث ولاية التدبير والتصرف. 7 - مقايسة هذه السنن بعضها إلى بعض ونحن بعد ما قدمنا خلاصة السنن الجارية بين الامم الماضية وقرونها الخالية إلى الباحث الناقد نحيل إليه قياس بعضها إلى البعض والقضاء على كل منها بالتمام والنقص ونفعه للمجتمع الانساني وضرره من حيث وقوعه في صراط السعادة ثم قياس ما سنه شارع الاسلام إليها والقضاء بما يجب أن يقضى به. والفرق الجوهرى بين السنة الاسلامية والسنن غيرها في الغاية والغرض فغرض الاسلام أن تنال الدنيا صلاحها وغرض غيره أن تنال ما تشتهيها وعلى هذين الاصلين يتفرع ما يتفرع من الفروع قال تعالى وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون: البقرة - 216 وقال تعالى وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا: النساء - 19.

[ 233 ]

8 - الوصية قد تقدم أن الاسلام أخرج الوصية من تحت الوراثة وأفردها عنوانا مستقلا لما فيها من الملاك المستقل وهو احترام إرادة المالك بالنسبة إلى ما يملكه في حياته وقد كانت الوصية بين الامم المتقدمة من طرق الاحتيال لدفع الموصى ماله أو بعض ماله إلى غير من تحكم السنة الجارية بإرثه كالاب ورئيس البيت ولذلك كانوا لا يزالون يضعون من القوانين ما يحدها ويسد بنحو هذا الطريق المؤدى إلى إبطال حكم الارث ولا يزال يجرى الامر في تحديدها هذا المجرى حتى اليوم وقد حدها الاسلام بنفوذها إلى ثلث المال فهى غير نافذة في الزائد عليه وقد تبعته في ذلك بعض القوانين الحديثة كقانون فرنسا غير أن النظرين مختلفان ولذلك كان الاسلام يحث عليها والقوانين تردع عنها أو هي ساكتة. والذى يفيده التدبر في آيات الوصية والصدقات والزكاة والخمس ومطلق الانفاق أن في هذه التشريعات تسهيل طريق أن يوضع ما يقرب من نصف رقبة الاموال والثلثان من منافعها للخيرات والمبرات وحوائج طبقة الفقراء والمساكين لتقرب بذلك الطبقات المختلفة في المجتمع ويرتفع الفواصل البعيدة من بينهم وتقام به أصلاب المساكين مع ما في القوانين الموضوعة بالنسبة إلى كيفية تصرف المثرين في ثروتهم من تقريب طبقتهم من طبقة المساكين ولتفصيل ذا البحث محل آخر سيمر بك إن شاء الله تعالى = واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا (15) - واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما (16)) (بيان) قوله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة إلى قوله منكم يقال أتاه وأتى

[ 234 ]

به أي فعله والفاحشة من الفحش وهو الشناعة فهي الطريقة الشنيعة وقد شاع استعمالها في الزنا وقد اطلقت في القرآن على اللواط أو عليه وعلى السحق معا في قوله تعالى إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين: العنكبوت - 28. والظاهر أن المراد بها ههنا الزنا على ما ذكره جمهور المفسرين ورووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر عند نزول آية الجلد - أن الجلد هو السبيل الذي جعله الله لهن إذا زنين ويشهد بذلك ظهور الآية في أن هذا الحكم سينسخ حيث يقول تعالى أو يجعل الله لهن سبيلا ولم ينقل أن السحق نسخ حده بشئ آخر ولا أن هذا الحد اجرى على أحد من اللاتي يأتينه وقوله أربعة منكم يشهد بأن العدد من الرجال. قوله تعالى فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت إلى آخر الآية رتب الامساك وهو الحبس المخلد على الشهادة لا على أصل تحقق الفاحشة وإن علم به إذا لم يشهد عليه الشهود وهو من منن الله سبحانه على الامة من حيث السماحة والاغماض. والحكم هو الحبس الدائم بقرينة الغاية المذكورة في الكلام أعني قوله حتى يتوفاهن الموت غير أنه لم يعبر عنه بالحبس والسجن بل بالامساك لهن في البيوت وهذا أيضا من واضح التسهيل والسماحة بالاغماض وقوله حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا أي طريقا إلى التخلص من الامساك الدائم والنجاة منه. وفي الترديد إشعار بأن من المرجو أن ينسخ هذا الحكم وهكذا كان فإن حكم الجلد نسخه فإن من الضروري أن الحكم الجاري على الزانيات في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعمول به بعده بين المسلمين هو الجلد دون الامساك في البيوت فالآية على تقدير دلالتها على حكم الزانيات منسوخة بآية الجلد والسبيل المذكور فيها هو الجلد بلا ريب. قوله تعالى واللذان يأتيانها منكم فآذوهما الآيتان متناسبتان مضمونا والضمير في قوله يأتيانها راجع إلى الفاحشة قطعا وهذا يؤيد كون الآيتين جميعا مسوقتين لبيان حكم الزنا وعلى ذلك فالآية الثانية متممة الحكم في الاولى فإن الاولى لم تتعرض إلا لما للنساء من الحكم و الثانية تبين الحكم فيهما معا وهو الايذاء فيتحصل من مجموع الآيتين حكم الزاني والزانية معا وهو إيذاؤهما وإمساك النساء في البيوت.

[ 235 ]

لكن لا يلائم ذلك قوله تعالى بعد فإن تابا واصلحا فاعرضوا عنهما فإنه لا يلائم الحبس المخلد فلا بد أن يقال إن المراد بالاعراض الاعراض عن الايذاء دون الحبس فهو بحاله. ولهذا ربما قيل تبعا لما ورد في بعض الروايات وسننقلها إن الآية الاولى لبيان حكم الزنا في الثيب والثانية مسوقة لحكم الابكار وإن المراد بالايذاء هو الحبس في الابكار ثم تخلية سبيلهن مع التوبة والاصلاح لكن يبقى أولا الوجه في تخصيص الاولى بالثيبات والثانية بالابكار من غير دليل يدل عليه من جهة اللفظ وثانيا وجه تخصيص الزانية بالذكر في الآية الاولى وذكرهما معا في الآية الثانية واللذان يأتيانها منكم. وقد عزي إلى أبي مسلم المفسر أن الآية الاولى لبيان حكم السحق بين النساء والآية الثانية تبين حكم اللواط بين الرجال والآيتان غير منسوختين. وفساده ظاهر أما في الآية الاولى فلما ذكرناه في الكلام على قوله و اللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم وأما في الآية الثانية فلما ثبت في السنة من أن الحد في اللواط القتل وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من عمل منكم عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول وهذا إما حكم ابتدائى غير منسوخ وإما حكم ناسخ لحكم الآية وعلى أي حال يبطل قوله. ومن الممكن أن يقال في معنى الآيتين نظرا إلى الظاهر السابق إلى الذهن من الآيتين والقرائن المحفوف بها الكلام وما تقدم من الاشكال فيما ذكروه من المعنى والله أعلم أن الآية متضمنة لبيان حكم زنا المحصنات ذوات الازواج ويدل عليه تخصيص الآية النساء بالذكر دون الرجال وإطلاق النساء على الازواج شائع في اللسان وخاصة إذا أضيفت إلى الرجال كما في قوله نسائكم قال تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة: النساء - 4 وقال تعالى من نسائكم اللاتي دخلتم بهن: النساء - 23. وعلى هذا فقد كان الحكم الاولى المؤجل لهن الامساك في البيوت ثم شرع لهن الرجم وليس نسخا للكتاب بالسنة على ما استدل به الجبائى فإن السنخ إنما هو رفع الحكم الظاهر بحسب الدليل في التأبيد وهذا حكم مقرون بما يشعر بأنه مؤجل

[ 236 ]

سينقطع بانقطاعه وهو قوله أو يجعل الله لهن سبيلا لظهوره في أن هناك حكما سيطلع عليهن ولو سمى هذا نسخا لم يكن به بأس فإنه غير متضمن لما يلزم نسخ الكتاب بالسنة من الفساد فإن القرآن نفسه مشعر بأن الحكم سيرتفع بانقطاع أمده والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مبين لمرادات القرآن الكريم. والآية الثانية متضمنة لحكم الزنا من غير إحصان وهو الايذاء سواء كان المراد به الحبس أو الضرب بالنعال أو التعيير بالقول أو غير ذلك والآية على هذا منسوخة بآية الجلد من سورة النور وأما ما ورد من الرواية في كون الآية متضمنة لحكم الابكار فمن الآحاد وهي مع ذلك مرسلة ضعيفة بالارسال والله أعلم هذا ولا يخلو مع ذلك من وهن. قوله تعالى فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إلخ تقييد التوبة بالاصلاح لتحقيق حقيقة التوبة وتبيين أنها ليست مجرد لفظ أو حالة مندفعة. (بحث روائي) في الصافي عن تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة الآية هي منسوخة - والسبيل هي الحدود وفيه عن الباقر عليه السلام: سئل عن هذه الآية فقال هي منسوخة - قيل كيف كانت - قال كانت المرأة إذا فجرت - فقام عليها أربعة شهود ادخلت بيتا ولم تحدث - ولم تكلم ولم تجالس - واوتيت بطعامها وشرابها - حتى تموت أو يجعل الله لهن سبيلا - قال جعل السبيل الجلد والرجم - الحديث قيل قوله واللذان يأتيانها منكم - قال يعني البكر - إذا أتت الفاحشة التي أتتها هذه الثيب فآذوهما - قال تحبس أقول القصة أعني كون الحكم المجرى عليهن في صدر الاسلام الامساك في البيوت حتى الوفاة مما رويت بعدة من طرق أهل السنة عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم ونقل عن السدى أن الحبس في البيوت كان حكما للثيبات والايذاء الواقع في الآية الثانية كان حكما للجواري والفتيان الذين لم ينكحوا وقد عرفت ما ينبغي أن يقال في المقام


(1) فان اشعار المنسوخ بالنسخ لا ينافي النسخ " منه ".

[ 237 ]

= إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما (17) - وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما (18)): (بيان) مضمون الآيتين لا يخلو عن ارتباط بما تقدمهما من الآيتين فإنهما قد اختتمتا بذكر التوبة فمن الممكن أن يكون هاتان نزلتا مع تينك وهاتان الآيتان مع ذلك متضمنتان لمعنى مستقل في نفسه وهو إحدى الحقائق العالية الاسلامية والتعاليم الراقية القرآنية وهي حقيقة التوبة وشأنها وحكمها. قوله تعالى إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب التوبة هي الرجوع وهي رجوع من العبد إلى الله سبحانه بالندامة والانصراف عن الاعراض عن العبودية ورجوع من الله إلى العبد رحمة بتوفيقه للرجوع إلى ربه أو بغفران ذنبه وقد مر مرارا أن توبة واحدة من العبد محفوفة بتوبتين من الله سبحانه على ما يفيده القرآن الكريم. وذلك أن التوبة من العبد حسنة تحتاج إلى قوة والحسنات من الله والقوة لله جميعا فمن الله توفيق الاسباب حتى يتمكن العبد من التوبة ويتمشى له الانصراف عن التوغل في غمرات البعد والرجوع إلى ربه ثم إذا وفق للتوبة والرجوع احتاج في التطهر من هذه الالواث وزوال هذه القذارات والورود و الاستقرار في ساحة القرب إلى رجوع آخر من ربه إليه بالرحمة والحنان والعفو والمغفرة.

[ 238 ]

وهذان الرجوعان من الله سبحانه هما التوبتان الحافتان لتوبة العبد ورجوعه قال تعالى ثم تاب عليهم ليتوبوا: التوبة - 118 وهذه هي التوبة الاولى وقال تعالى فاولئك أتوب عليهم: البقرة - 160 وهذه هي التوبة الثانية وبين التوبتين منه تعالى توبة العبد كما سمعت. وأما قوله على الله للذين لفظة على واللام تفيدان معنى النفع والضرر كما في قولنا دارت الدائرة لزيد على عمرو وكان السباق لفلان على فلان ووجه إفادة على واللام معنى الضرر والنفع أن على تفيد معنى الاستعلاء واللام معنى الملك والاستحقاق ولازم ذلك أن المعاني المتعلقة بطرفين ينتفع بها أحدهما ويتضرر بها الآخر كالحرب والقتال والنزاع ونحوها فيكون أحدهما الغالب والآخر المغلوب ينطبق على الغالب منهما معنى الملك وعلى المغلوب معنى الاستعلاء وكذا ما أشبه ذلك كمعنى التأثير بين المتأثر والمؤثر ومعنى العهد والوعد بين المتعهد والمتعهد له والواعد والموعود له وهكذا فظهر أن كون على واللام لمعنى الضرر والنفع إنما هو أمر طار من ناحية مورد الاستعمال لا من ناحية معنى اللفظ. ولما كان نجاح التوبة إنما هو لوعد وعده الله عباده فأوجبها بحسبه على نفسه لهم قال ههنا إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة فيجب عليه تعالى قبول التوبة لعباده لكن لا على أن لغيره أن يوجب عليه شيئا أو يكلفه بتكليف سواء سمى ذلك الغير بالعقل أو نفس الامر أو الواقع أو الحق أو شيئا آخر تعالى عن ذلك وتقدس بل على أنه تعالى وعد عباده أن يقبل توبة التائب منهم وهو لا يخلف الميعاد فهذا معنى وجوب قبول التوبة على الله فيما يجب وهو أيضا معنى وجوب كل ما يجب على الله من الفعل وظاهر الآية أولا أنها لبيان أمر التوبة التي لله أعني رجوعه تعالى بالرحمة إلى عبده دون توبة العبد وإن تبين بذلك أمر توبة العبد بطريق اللزوم فإن توبة الله سبحانه إذا تمت شرائطها لم ينفك ذلك من تمام شرائط توبة العبد وهذا أعني كون الآية في مقام بيان توبة الله سبحانه لا يحتاج إلى مزيد توضيح. وثانيا أنها تبين أمر التوبة أعم مما إذا تاب العبد من الشرك والكفر بالايمان أو تاب من المعصية إلى الطاعة بعد الايمان فإن القرآن يسمى الامرين جميعا بالتوبة قال

[ 239 ]

تعالى الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك: المؤمن - 7 يريد للذين آمنوا بقرينة أول الكلام فسمى الايمان توبة وقال تعالى ثم تاب عليهم: التوبة - 118. والدليل على أن المراد هي التوبة أعم من أن تكون من الشرك أو المعصية التعميم الموجود في الآية التالية وليست التوبة الخ فإنها تتعرض لحال الكافر والمؤمن معا وعلى هذا فالمراد بقوله يعملون السوء ما يعم حال المؤمن والكافر معا فالكافر كالمؤمن الفاسق ممن يعمل السوء بجهالة إما لان الكفر من عمل القلب والعمل أعم من عمل القلب والجوارح أو لان الكفر لا يخلو من أعمال سيئة من الجوارح فالمراد من الذين يعملون السوء بجهالة الكافر والفاسق إذا لم يكونا معاندين في الكفر و المعصية. وأما قوله تعالى بجهالة فالجهل يقابل العلم بحسب الذات غير أن الناس لما شاهدوا من أنفسهم أنهم يعملون كلا من أعمالهم الجارية عن علم وإرادة وأن الارادة إنما تكون عن حب ما وشوق ما سواء كان الفعل مما ينبغي أن يفعل بحسب نظر العقلاء في المجتمع أو مما لا ينبغي أن يفعل لكن من له عقل مميز في المجتمع عندهم لا يقدم على السيئة المذمومة عند العقلاء فأذعنوا بأن من اقترف هذه السيئات المذمومة لهوى نفساني وداعية شهوية أو غضبية خفي عليه وجه العلم وغاب عنه عقله المميز الحاكم في الحسن والقبيح والممدوح والمذموم وظهر عليه الهوى وعندئذ يسمى حاله في علمه وإرادته جهالة في عرفهم وإن كان بالنظر الدقيق نوعا من العلم لكن لما لم يؤثر ما عنده من العلم بوجه قبح الفعل وذمه في ردعه عن الوقوع في القبح والشناعة الحق بالعدم فكان هو جاهلا عندهم حتى أنهم يسمون الانسان الشاب الحدث السن قليل التجربة جاهلا لغلبة الهوى وظهور العواطف والاحساسات النيئة على نفسه ولذلك أيضا تراهم لا يسمون حال مقترف السيئات إذا لم ينفعل في اقتراف السيئة عن الهوى والعاطفة جهالة بل يسمونها عنادا وعمدا وغير ذلك. فتبين بذلك أن الجهالة في باب الاعمال إتيان العمل عن الهوى وظهور الشهوة والغضب من غير عناد مع الحق ومن خواص هذا الفعل الصادر عن جهالة أن إذا سكنت ثورة القوى وخمد لهيب الشهوة أو الغضب باقتراف للسيئة أو بحلول مانع أو

[ 240 ]

بمرور زمان أو ضعف القوى بشيب أو مزاج عاد الانسان إلى العلم وزالت الجهالة وبانت الندامة بخلاف الفعل الصادر عن عناد وتعمد ونحو ذلك فإن سبب صدوره لما لم يكن طغيان شئ من القوى والعواطف والاميال النفسانية بل أمرا يسمى عندهم بخبث الذات ورداءة الفطرة لا يزول بزوال طغيان القوى والاميال سريعا أو بطيئا بل دام نوعا بدوام الحياة من غير أن يلحقه ندامة من قريب إلا أن يشاء الله. نعم ربما يتفق أن يرجع المعاند اللجوج عن عناده ولجاجه واستعلائه على الحق فيتواضع للحق ويدخل في ذل العبودية فيكشف ذلك عندهم عن أن عناده كان عن جهالة وفي الحقيقة كل معصية جهالة من الانسان وعلى هذا لا يبقى للمعاند مصداق إلا من لا يرجع عن سوء عمله إلى آخر عهده بالحياة والعافية. ومن هنا يظهر معنى قوله تعالى ثم يتوبون من قريب أي إن عامل السوء بجهالة لا يقيم عاكفا على طريقته ملازما لها مدى حياته من غير رجاء في عدوله إلى التقوى والعمل الصالح كما يدوم عليه المعاند اللجوج بل يرجع عن عمله من قريب فالمراد بالقريب العهد القريب أو الزمان القريب وهو قبل ظهور آيات الآخرة وقدوم الموت. وكل معاند لجوج في عمله إذا شاهد ما يسوؤه من جزاء عمله ووبال فعله ألزمته نفسه على الندامة والتبري من فعله لكنه بحسب الحقيقة ليس بنادم عن طبعه وهداية فطرته بل إنما هي حيلة يحتالها نفسه الشريرة للتخلص من وبال الفعل والدليل عليه أنه إذا اتفق تخلصه من الوبال المخصوص عاد ثانيا إلى ما كان عليه من سيئات الاعمال قال تعالى ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون: الانعام - 28. والدليل على أن المراد بالقريب في الآية هو ما قبل ظهور آية الموت قوله تعالى في الآية التالية وليست التوبة إلى قوله قال إنى تبت الآن. وعلى هذا يكون قوله ثم يتوبون من قريب كناية عن المساهلة المفضية إلى فوت الفرصة. ويتبين مما مر أن القيدين جميعا أعني قوله بجهالة وقوله ثم يتوبون من قريب احترازيان يراد بالاول منهما أن لا يعمل السوء عن عناد واستعلاء على الله وبالثاني منهما

[ 241 ]

أن لا يؤخر الانسان التوبة إلى حضور موته كسلا وتوانيا ومماطلة إذ التوبة هي رجوع العبد إلى الله سبحانه بالعبودية فيكون توبته تعالى أيضا قبول هذا الرجوع ولا معنى للعبودية إلا مع الحياة الدنيوية التي هي ظرف الاختيار وموطن الطاعة والمعصية ومع طلوع آية الموت لا اختيار تتمشى معه طاعة أو معصية قال تعالى يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: الانعام - 158 وقال تعالى فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التى قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون: المؤمن - 85 إلى غير ذلك من الآيات. وبالجملة يعود المعنى إلى أن الله سبحانه إنما يقبل توبة المذنب العاصي إذا لم يقترف المعصية استكبارا على الله بحيث يبطل منه روح الرجوع والتذلل لله ولم يتساهل ويتسامح في أمر التوبة تساهلا يؤدي إلى فوت الفرصة بحضور الموت. ويمكن أن يكون قوله بجهالة قيدا توضيحيا ويكون المعنى للذين يعملون السوء ولا يكون ذلك إلا عن جهل منهم فإنه مخاطرة بالنفس وتعرض لعذاب أليم أو لا يكون ذلك إلا عن جهل منهم بكنه المعصية وما يترتب عليها من المحذور ولازمه كون قوله ثم يتوبون من قريب إشارة إلى ما قبل الموت لا كناية عن المساهلة في أمر التوبة فإن من يأتي بالمعصية استكبارا ولا يخضع لسلطان الربوبية يخرج على هذا الفرض بقوله ثم يتوبون من قريب لا بقوله بجهالة وعلى هذا لا يمكن الكناية بقوله ثم يتوبون عن التكاهل والتوانى فافهم ذلك ولعل الوجه الاول أوفق لظاهر الآية. وقد ذكر بعضهم أن المراد بقوله ثم يتوبون من قريب أن تتحقق التوبة في زمان قريب من وقت وقوع المعصية عرفا كزمان الفراغ من إتيان المعصية أو ما يعد عرفا متصلا به لا أن يمتد إلى حين حضور الموت كما ذكر. وهو فاسد لافساده معنى الآية التالية فإن الآيتين في مقام بيان ضابط كلي لتوبة الله سبحانه أي لقبول توبة العبد على ما يدل عليه الحصر الوارد في قوله إنما التوبة على الله للذين إلخ والآية الثانية تبين الموارد التي لا تقبل فيها التوبة ولم يذكر في

[ 242 ]

الآية إلا موردان هما التوبة للمسئ المتسامح في التوبة إلى حين حضور الموت والتوبة للكافر بعد الموت ولو كان المقبول من التوبة هو ما يعد عرفا قريبا متصلا بزمان المعصية لكان للتوبة غير المقبولة مصاديق اخر لم تذكر في الآية. قوله تعالى فاولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما الاتيان بإسم الاشارة الموضوع للبعيد لا يخلو من إشارة إلى ترفيع قدرهم وتعظيم أمرهم كما يدل قوله يعملون السوء بجهالة على المساهلة في إحصاء معاصيهم على خلاف ما في الآية الثانية وليست التوبة للذين يعملون السيئات الخ وقد اختير لختم الكلام قوله وكان الله عليما حكيما دون أن يقال وكان الله غفورا رحيما للدلالة على أن فتح باب التوبة إنما هو لعلمه تعالى بحال العباد وما يؤديهم إليه ضعفهم وجهالتهم ولحكمته المقتضية لوضع ما يحتاج إليه إتقان النظام وإصلاح الامور وهو تعالى لعلمه وحكمته لا يغره ظواهر الاحوال بل يختبر القلوب ولا يستزله مكر ولا خديعة فعلى التائب من العباد أن يتوب حق التوبة حتى يجيبه الله حق الاجابة. قوله تعالى وليست التوبة للذين يعملون السيئات الخ في عدم إعادة قوله على الله مع كونه مقصودا ما لا يخفى من التلويح إلى انقطاع الرحمة الخاصة والعناية الالهية عنهم كما أن إيراد السيئات بلفظ الجمع يدل على العناية بإحصاء سيئاتهم وحفظها عليهم كما تقدمت الاشارة إليه. وتقييد قوله يعملون السيئات بقوله حتى إذا جاء أحدهم الموت المفيد لاستمرار الفعل إما لان المساهلة في المبادرة إلى التوبة وتسويفها في نفسه معصية مستمرة متكررة أو لانه بمنزلة المداومة على الفعل أو لان المساهلة في أمر التوبة لا تخلو غالبا عن تكرر معاص مجانسة للمعصية الصادرة أو مشابهة لها. وفي قوله حتى إذا حضر أحدهم الموت دون أن يقال حتى إذا جاءهم الموت دلالة على الاستهانة بالامر والاستحقار له أي حتى يكون أمر التوبة هينا هذا الهوان سهلا هذه السهولة حتى يعمل الناس ما يهوونه ويختاروا ما يشاؤونه ولا يبالون وكلما عرض لاحدهم عارض الموت قال إنى تبت الآن فتندفع مخاطر الذنوب ومهلكة

[ 243 ]

مخالفة الامر الالهي بمجرد لفظ يردده ألسنتهم أو خطور يخطر ببالهم في آخر الامر. ومن هنا يظهر معنى تقييد قوله قال إنى تبت بقوله الآن فإنه يفيد أن حضور الموت ومشاهدة هذا القائل سلطان الآخرة هما الموجبان له أن يقول تبت سواء ذكره أو لم يذكره فالمعنى إني تائب لما شاهدت الموت الحق والجزاء الحق وقد قال تعالى في نظيره حاكيا عن المجرمين يوم القيامة ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون: السجدة - 12. فهذه توبة لا تقبل من صاحبها لان اليأس من الحياة الدنيا وهول المطلع هما اللذان أجبراه على أن يندم على فعله ويعزم على الرجوع إلى ربه ولات حين رجوع حيث لا حياة دنيوية ولا خيرة عملية. قوله تعالى ولا الذين يموتون وهم كفار هذا مصداق آخر لعدم قبول التوبة وهو الانسان يتمادى في الكفر ثم يموت وهو كافر فإن الله لا يتوب عليه فان إيمانه وهو توبته لا ينفعه يومئذ وقد تكرر في القرآن الكريم أن الكفر لا نجاة معه بعد الموت وأنهم لا يجابون وإن سألوا قال تعالى إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فاولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار اولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون: البقرة - 162 وقال تعالى إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملؤ الارض ذهبا ولو افتدى به اولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين: آل عمران - 91 ونفى الناصرين نفي للشفاعة في حقهم كما تقدم في الكلام على الآية في الجزء الثالث من الكتاب. وتقييد الجملة بقوله وهم كفار يدل على التوبة للعاصي المؤمن إذا مات على المعصية من غير استكبار ولا تساهل فإن التوبة من العبد بمعنى رجوعه إلى عبودية اختيارية و إن ارتفع موضوعها بالموت كما تقدم لكن التوبة منه تعالى بمعنى الرجوع بالمغفرة والرحمة يمكن أن يتحقق بعد الموت لشفاعة الشافعين وهذا في نفسه من الشواهد على أن المراد بالآيتين بيان حال توبة الله سبحانه لعباده لا بيان حال توبة العبد إلى الله إلا بالتبع.

[ 244 ]

قوله تعالى أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما اسم الاشارة يدل على بعدهم من ساحة القرب والتشريف والاعتاد والاعداد أو الوعد. (كلام في التوبة) التوبة بتمام معناها الوارد في القرآن من التعاليم الحقيقية المختصة بهذا الكتاب السماوي فإن التوبة بمعنى الايمان عن كفر وشرك وإن كانت دائرة في سائر الاديان الالهية كدين موسى وعيسى عليهما السلام لكن لا من جهة تحليل حقيقة التوبة وتسريتها إلى الايمان بل باسم أن ذلك إيمان. حتى أنه يلوح من الاصول التي بنوا عليها الديانة المسيحية المستقلة عدم نفع التوبة واستحالة أن يستفيد منها الانسان كما يظهر مما أوردوه في توجيه الصلب والفداء وقد تقدم نقله في الكلام على خلقة المسيح في الجزء الثالث من هذا الكتاب. هذا وقد انجر أمر الكنيسة بعد إلى الافراط في أمر التوبة إلى حيث كانت تبيع أوراق المغفرة وتتجر بها وكان أولياء الدين يغفرون ذنوب العاصين فيما اعترفوا به عندهم لكن القرآن حلل حال الانسان بحسب وقوع الدعوة عليه وتعلق الهداية به فوجده بالنظر إلى الكمال والكرامة والسعادة الواجبة له في حياته الاخروية عند الله سبحانه التي لا غنى له عنها في سيره الاختياري إلى ربه فقيرا كل الفقر في ذاته صفر الكف بحسب نفسه قال تعالى يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني: فاطر - 15 وقال ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا: الفرقان - 3. فهو واقع في مهبط الشقاء ومنحط البعد ومنعزل المسكنة كما يشير إليه قوله تعالى لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين: التين - 5 وقوله وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا: مريم - 72 وقوله فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى: طه - 117. وإذا كان كذلك فوروده منزلة الكرامة واستقراره في مستقر السعادة يتوقف على انصرافه عما هو فيه من مهبط الشقاء ومنحط البعد وانقلاعه عنه برجوعه إلى ربه

[ 245 ]

وهو توبته إليه في أصل السعادة وهو الايمان وفي كل سعادة فرعية وهي كل عمل صالح أعني التوبة و الرجوع عن أصل الشقاء وهو الشرك بالله سبحانه وعن فروعات الشقاء وهي سيئات الاعمال بعد الشرك فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله والانخلاع عن ألواث البعد والشقاء يتوقف عليها الاستقرار في دار الكرامة بالايمان والتنعم بأقسام نعم الطاعات والقربات وبعبارة اخرى يتوقف القرب من الله ودار كرامته على التوبة من الشرك ومن كل معصية قال تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون: النور - 31 فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله تعم التوبتين جميعا بل تعمهما وغيرهما على ما سيجئ إن شاء الله. ثم إن الانسان لما كان فقيرا في نفسه لا يملك لنفسه خيرا ولا سعادة قط إلا بربه كان محتاجا في هذا الرجوع أيضا إلى عناية من ربه بأمره وإعانة منه له في شأنه فيحتاج رجوعه إلى ربه بالعبودية والمسكنة إلى رجوع من ربه إليه بالتوفيق والاعانة وهو توبة الله سبحانه لعبده المتقدمة على توبة العبد إلى ربه كما قال تعالى ثم تاب عليهم ليتوبوا: التوبة - 118 وكذلك الرجوع إلى الله سبحانه يحتاج إلى قبوله بمغفرة الذنوب وتطهيره من القذارات وألواث البعد وهذه هي التوبة الثانية من الله سبحانه المتأخرة عن توبة العبد إلى ربه كما قال تعالى فاولئك يتوب الله عليهم الآية. وإذا تأملت حق التأمل وجدت أن التعدد في توبة الله سبحانه إنما عرض لها من حيث قياسها إلى توبة العبد وإلا فهي توبة واحدة هي رجوع الله سبحانه إلى عبده بالرحمة ويكون ذلك عند توبة العبد رجوعا إليه قبلها وبعدها وربما كان مع عدم توبة من العبد كما تقدم استفادة ذلك من قوله ولا الذين يموتون وهم كفار وأن قبول الشفاعة في حق العبد المذنب يوم القيامة من مصاديق التوبة ومن هذا الباب قوله تعالى والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما (1). وكذلك القرب والبعد لما كانا نسبيين أمكن أن يتحقق البعد في مقام القرب بنسبة بعض مواقفه ومراحله إلى بعض ويصدق حينئذ معنى التوبة على رجوع بعض المقربين من عباد الله الصالحين من موقفه الذي هو فيه إلى موقف أرفع منه وأقرب إلى ربه كما يشهد به ما يحكيه تعالى من توبة الانبياء وهم معصومون بنص كلامه كقوله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه: البقرة - 37 وقوله تعالى وإذ يرفع


(1) سورة النساء آية 27.

[ 246 ]

إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل إلى قوله وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم: البقرة - 128 وقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام سبحانك تبت اليك وأنا أول المؤمنين: الاعراف - 143 وقوله تعالى خطابا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والابكار: المؤمن - 55 وقوله تعالى لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة: التوبة - 117. وهذه التوبة العامة من الله سبحانه هي التى يدل عليها إطلاق آيات كثيرة من كلامه تعالى كقوله تعالى غافر الذنب وقابل التوب: المؤمن - 3 وقوله تعالى يقبل التوبة عن عباده: الشورى - 25 إلى غير ذلك. فتلخص مما مر أولا أن نشر الرحمة من الله سبحانه على عبده لمغفرة ذنوبه وإزالة ظلمة المعاصي عن قلبه سواء في ذلك الشرك وما دونه توبة منه تعالى لعبده وأن رجوع العبد إلى ربه لمغفرة ذنوبه وإزالة معاصيه سواء في ذلك الشرك وغيره توبه منه إلى ربه. ويتبين به أن من الواجب في الدعوة الحقة أن تعتني بأمر المعاصي كما تعتني بأصل الشرك وتندب إلى مطلق التوبة الشامل للتوبة عن الشرك والتوبة عن المعاصي. وثانيا أن التوبة من الله سبحانه لعبده أعم من المبتدئة واللاحقة فضل منه كسائر النعم التي يتنعم بها خلقه من غير إلزام وإيجاب يرد عليه تعالى من غيره وليس معنى وجوب قبول التوبة عليه تعالى عقلا إلا ما يدل عليه أمثال قوله تعالى وقابل التوب " غافر - 3 وقوله وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون " النور - 31 " وقوله إن الله يحب التوابين الآية: البقرة - 222 وقوله فاولئك يتوب الله عليهم الآية من الآيات المتضمنة لتوصيفه تعالى بقبول التوبة والنادبة إلى التوبة الداعية إلى الاستغفار والانابة وغيرها المشتملة على وعد القبول بالمطابقة أو الالتزام والله سبحانه لا يخلف الميعاد. ومن هنا يظهر أن الله سبحانه غير مجبور في قبول التوبة بل له الملك من غير استثناء يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فله أن يقبل ما يقبل من التوبة على ما وعد ويرد ما يرد منها كما هو ظاهر قوله تعالى إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم

[ 247 ]

" آل عمران - 90 " ويمكن أن يكون من هذا الباب قوله تعالى إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا " النساء - 137 " ومن عجيب ما قيل في هذا الباب قول بعضهم في قوله تعالى في قصة غرق فرعون وتوبته حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين: يونس - 91. قال ما محصله ان الآية لا تدل على رد توبته وليس في القرآن أيضا ما يدل على هلاكه الابدي وانه من المستبعد عند من يتامل سعة رحمة الله وسبقتها غضبه أن يجوز عليه تعالى أنه يرد من التجأ إلى باب رحمته وكرامته متذللا مستكينا بالخيبة واليأس والواحد منا إذا أخذ بالاخلاق الانسانية الفطرية من الكرم والجود والرحمة ليرحم أمثال هذا الانسان النادم حقيقة على ما قدم من سوء الفعال فكيف بمن هو أرحم الراحمين وأكرم الاكرمين وغياث المستغيثين. وهو مدفوع بقوله تعالى وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا جاء أحدهم الموت قال إنى تبت الآن الآية وقد تقدم أن الندامة حينئذ ندم كاذب يسوق الانسان إلى إظهاره مشاهدته وبال الذنب ونزول البلاء. ولو كان كل ندم توبة وكل توبة مقبولة لدفع ذلك قوله تعالى حكاية لحال المجرمين يوم القيامة وأسروا الندامة لما رأوا العذاب: سبأ - 33 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الحاكية لندمهم على ما فعلوا وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا والرد عليهم بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون. وإياك أن تتوهم أن الذى سلكه القرآن الكريم من تحليل التوبة على ما تقدم توضيحه تحليل ذهني لا عبرة به في سوق الحقائق وذلك أن البحث في باب السعادة والشقاء والصلاح والطلاح الانسانيين لا ينتج غير ذلك فإنا إذا اعتبرنا حال الانسان العادى في المجتمع على ما نراه من تأثير التعليم والتربية في الانسان وجدناه خاليا في نفسه عن الصلاح والطلاح الاجتماعيين قابلا للامرين جميعا ثم إذا أراد أن يتحلى بحلية الصلاح ويتلبس بلباس التقوى الاجتماعي لم يمكن له ذلك إلا بتوافق الاسباب على خروجه من

[ 248 ]

الحال الذى فيه وذلك يحاذي التوبة الاولى من الله سبحانه في باب السعادة المعنوية ثم انتزاعه وانصراف نفسه عما هو فيه من رثاث الحال وقيد التثبط والاهمال وهو توبه بمنزلة التوبة من العبد فيما نحن فيه ثم زوال هيئة الفساد ووصف الرذالة المستولية على قلبه حتى يستقر فيه وصف الكمال ونور الصلاح فإن القلب لا يسع الصلاح والطلاح معا وهذا يحاذي قبول التوبة والمغفرة فيما نحن فيه وكذلك يجرى في مرحلة الصلاح الاجتماعي الذى يسير فيه الانسان بفطرته جميع ما اعتبره الدين في باب التوبة من الاحكام والآثار جريا على الفطرة التى فطر الله الناس عليها. وثالثا أن التوبة كما يستفاد من مجموع ما تقدم من الآيات المنقولة وغيرها إنما هي حقيقة ذات تأثير في النفس الانسانية من حيث إصلاحها وإعدادها للصلاح الانساني الذى فيه سعادة دنياه وآخرته وبعبارة اخرى التوبة إنما تنفع إذا نفعت في إزالة السيئات النفسانية التى تجر إلى الانسان كل شقاء في حياته الاولى والاخرى وتمنعه من الاستقرار على أريكة السعادة وأما الاحكام الشرعية والقوانين الدينية فهى بحالها لا ترتفع عنه بتوبة كما لا ترتفع عنه بمعصية. نعم ربما ارتبط بعض الاحكام بها فارتفعت بالتوبة بحسب مصالح الجعل وهذا غير كون التوبة رافعة لحكم من الاحكام قال تعالى واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما: النساء - 16 وقال تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض ذلك لهم خزى في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم: المائدة - 34 إلى غير ذلك. ورابعا أن الملاك الذى شرعت لاجله التوبة على ما تبين مما تقدم هو التخلص من هلاك الذنب وبوار المعصية لكونها وسيلة الفلاح ومقدمة الفوز بالسعادة كما يشير إليه قوله تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون: النور - 31 ومن فوائدها مضافة إلى ذلك أن فيها حفظا لروح الرجاء من الانخماد والركود فإن الانسان لا يستقيم سيره الحيوى إلا بالخوف والرجاء المتعادلين حتى يندفع عما يضره وينجذب إلى ما ينفعه ولو لا ذلك لهلك قال تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم

[ 249 ]

لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم: الزمر - 54 ولا يزال الانسان على ما نعرف من غريزته على نشاط من الروح الفعالة وجد في العزيمة والسعى ما لم تخسر صفقته في متجر الحياة وإذا بدا له ما يخسر عمله ويخيب سعيه ويبطل امنيته استولى عليه اليأس وانسلت به أركان عمله وربما انصرف بوجهه عن مسيره آئسا من النجاح خائبا من الفوز والفلاح والتوبة هي الدواء الوحيد الذى يعالج داءه ويحيى به قلبه وقد أشرف على الهلكة والردى. ومن هنا يظهر سقوط ما ربما يتوهم أن في تشريع التوبة والدعوة إليها إغراء بالمعصية وتحريصا على ترك الطاعة فإن الانسان إذا أيقن أن الله يقبل توبته إذا اقترف أي معصية من المعاصي لم يخلف ذلك في نفسه أثرا دون أن تزيد جرأته على هتك حرمات الله والانغمار في لجج المعاصي والذنوب فيدق باب كل معصية قاصدا أن يذنب ثم يتوب. وجه سقوطه أن التوبة إنما شرعت مضافا إلى توقف التحلى بالكرامات على غفران الذنوب للتحفظ على صفة الرجاء وتأثيره حسن أثره وأما ما ذكر من استلزامه أن يقصد الانسان كل معصية بنية أن يعصى ثم يتوب فقد فاته أن التوبة بهذا النعت لا يتحقق معها حقيقة التوبة فإنها انقلاع عن المعصية ولا انقلاع في هذا الذى يأتي به والدليل عليه أنه كان عازما على ذلك قبل المعصية ومع المعصية وبعد المعصية ولا معنى للندامة أعنى التوبة قبل تحقق الفعل بل مجموع الفعل والتوبة في أمثال هذه المعاصي مأخوذ فعلا واحدا مقصود بقصد واحد مكرا وخديعة يخدع بها رب العالمين ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله. وخامسا أن المعصية وهى الموقف السوء من الانسان ذو أثر سئ في حياته لا يتاب منها ولا يرجع عنها إلا مع العلم والايقان بمساءتها ولا ينفك ذلك عن الندم على وقوعها أولا والندم تأثر خاص باطني من فعل السئ ويتوقف على استقرار هذا الرجوع ببعض الافعال الصالحة المنافية لتلك السيئة الدالة على الرجوع والتوبة ثانيا. وإلى هذا يرجع جميع ما اعتبر شرعا من آداب التوبة كالندم والاستغفار والتلبس بالعمل الصالح والانقلاع عن المعصية إلى غير ذلك مما وردت به الاخبار وتعرض له كتب الاخلاق.

[ 250 ]

وسادسا أن التوبة وهى الرجوع الاختياري عن السيئة إلى الطاعة والعبودية إنما تتحقق في ظرف الاختيار وهو الحياة الدنيا التى هي مستوى الاختيار وأما فيما لا اختيار للعبد هناك في انتخاب كل من طريقي الصلاح والطلاح والسعادة والشقاوة فلا مسرح للتوبة فيه وقد تقدم ما يتضح به ذلك. ومن هذا الباب التوبة فيما يتعلق بحقوق الناس فإنها إنما تصلح ما يتعلق بحقوق الله سبحانه وأما ما يتعلق من السيئة بحقوق الناس مما يحتاج في زواله إلى رضاهم فلا يتدارك بها البتة لان الله سبحانه احترم الناس بحقوق جعلها لهم في أموالهم وأعراضهم ونفوسهم وعد التعدي إلى أحدهم في شئ من ذلك ظلما وعدوانا وحاشاه أن يسلبهم شيئا مما جعله لهم من غير جرم صدر منهم فيأتي هو نفسه بما ينهى عنه ويظلمهم بذلك وقد قال عز من قائل إن الله لا يظلم الناس شيئا: يونس - 44. إلا أن الاسلام وهو التوبة من الشرك يمحو كل سيئة سابقة وتبعة ماضية متعلقة بالفروع كما يدل عليه قوله عليه السلام: الاسلام يجب ما قبله وبه تفسر الآيات المطلقة الدالة على غفران السيئات جميعا كقوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له: الزمر - 54. ومن هذا الباب أيضا توبة من سن سنة سيئة أو أضل الناس عن سبيل الحق وقد وردت أخبار أن عليه مثل أوزار من عمل بها أو ضل عن الحق فإن حقيقة الرجوع لا تتحقق في أمثال هذه الموارد لان العاصى أحدث فيها حدثا له آثار يبقى ببقائها ولا يتمكن من إزالتها كما في الموارد التي لا تتجاوز المعصية ما بينه وبين ربه عز اسمه. وسابعا أن التوبة وإن كانت تمحو ما تمحوه من السيئات كما يدل عليه قوله تعالى فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله: البقرة - 275 على ما تقدم من البيان في الجزء الثاني من هذا الكتاب بل ظاهر قوله تعالى إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فاولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ومن تاب وعمل عملا صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا: الفرقان - 71 وخاصة بملاحظة الآية الثانية أن التوبة بنفسها أو بضميمة الايمان والعمل الصالح توجب تبدل السيئات

[ 251 ]

حسنات إلا أن اتقاء السيئة أفضل من اقترافها ثم إمحائها بالتوبة فإن الله سبحانه أوضح في كتابه أن المعاصي كيفما كانت إنما تنتهى إلى وساوس شيطانية نوع انتهاء ثم عبر عن المخلصين المعصومين عن زلة المعاصي وعثرة السيئات بما لا يعادله كل مدح ورد في غيرهم قال تعالى قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الارض ولاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط على مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان الآيات الحجر - 42 وقال تعالى حكاية عن إبليس أيضا في القصة ولا تجد أكثرهم شاكرين: الاعراف - 17. فهؤلاء من الناس مختصون بمقام العبودية التشريفية اختصاصا لا يشاركهم فيه غيرهم من الصالحين التائبين. (بحث روائي) في الفقيه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: في آخر خطبة خطبها - من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه - ثم قال إن السنة لكثيرة ومن تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه - ثم قال وإن الشهر لكثير ومن تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه - ثم قال وإن اليوم لكثير ومن تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه - ثم قال وإن الساعة لكثيرة من تاب وقد بلغت نفسه هذه - وأهوى بيده إلى حلقه تاب الله عليه وسئل الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل - وليست التوبة للذين يعملون السيئات - حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن قال - ذلك إذا عاين أمر الآخرة أقول الرواية الاولى رواها في الكافي مسندا عن الصادق عليه السلام وهي مروية من طرق أهل السنة وفي معناها روايات اخر. والرواية الثانية تفسر الآية وتفسر الروايات الواردة في عدم قبول التوبة عند حضور الموت بأن المراد من حضور الموت العلم به ومشاهدة آيات الآخرة ولا توبة عندئذ وأما الجاهل بالامر فلا مانع من قبول توبته ونظيرها بعض ما يأتي من الروايات. وفي تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا بلغت النفس هذه

[ 252 ]

وأهوى بيده إلى حنجرته - لم يكن للعالم توبة وكانت للجاهل توبة وفي الدر المنثور أخرج أحمد والبخاري في التاريخ والحاكم وابن مردويه عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله يقبل توبة عبده أو يغفر لعبده ما لم يقع الحجاب - قيل وما وقوع الحجاب قال تخرج النفس وهي مشركة وفيه أخرج ابن جرير عن الحسن قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال - إن إبليس لما رأى آدم أجوف قال - وعزتك لا أخرج من جوفه ما دام فيه الروح - فقال الله تبارك وتعالى - وعزتي لا أحول بينه وبين التوبة ما دام الروح فيه وفي الكافي عن على الاحمسي عن أبي جعفر عليه السلام قال: والله ما ينجو من الذنوب إلا من أقر بها - قال وقال أبو جعفر عليه السلام كفى بالندم توبة وفيه بطريقين عن ابن وهب قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إذا تاب العبد توبة نصوحا أحبه الله تعالى فستر عليه - فقلت وكيف يستر عليه قال - ينسى ملكيه ما كانا يكتبان عليه - ثم يوحى الله إلى جوارحه وإلى بقاع الارض - أن اكتمي عليه ذنوبه فيلقى الله حين يلقاه - وليس شئ يشهد عليه بشئ من الذنوب وفيه عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليهما السلام قال: يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورة له - فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة - أما والله إنها ليست إلا لاهل الايمان - قلت فإن عاد بعد التوبة والاستغفار في الذنوب وعاد في التوبة - فقال يا محمد بن مسلم أ ترى العبد المؤمن يندم على ذنبه - فيستغفر الله منه ويتوب ثم لا يقبل الله توبته - قلت فإن فعل ذلك مرارا يذنب ثم يتوب ويستغفر - فقال كلما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد الله تعالى عليه بالمغفرة - وإن الله غفور رحيم يقبل التوبة - ويعفو عن السيئات فإياك أن تقنط المؤمنين من رحمة الله وفي تفسير العياشي عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه السلام: في قوله تعالى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى قال - لهذه الآية تفسير يدل على ذلك التفسير - أن الله لا يقبل من عبد عملا إلا لمن لقيه بالوفاء منه بذلك التفسير - وما اشترط فيه على المؤمنين - وقال إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة - يعنى كل ذنب عمله العبد - وإن كان به عالما فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربه - وقد قال في ذلك

[ 253 ]

يحكى قول يوسف لاخويه - هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون - فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله أقول والرواية لا تخلو عن اضطراب في المتن والظاهر أن المراد بالصدر أن العمل إنما يقبل إذا وفي به العبد ولم ينقضه فالتوبة إنما تقبل إذا كانت زاجرة ناهية عن الذنب ولو حينا وقوله وقال إنما التوبة الخ كلام مستأنف أراد به بيان أن قوله بجهالة قيد توضيحي وأن في مطلق المعصية جهالة على أحد التفسيرين السابقين في ما تقدم وقد روى هذا الذيل في المجمع أيضا عنه عليه السلام = يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا (19) - وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا (20) - وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا (21) - ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا (22)) (بيان) رجوع إلى أمر النساء بذكر بعض آخر مما يتعلق بهن والآيات مع ذلك مشتملة على قوله وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله

[ 254 ]

فيه خيرا كثيرا فإنه أصل قرآني لحياة المرأة الاجتماعية. قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم إلى قوله كرها كان أهل الجاهلية على ما في التاريخ والرواية يعدون نساء الموتى من التركة إذا لم تكن المرأة أما للوارث فيرثونهن مع التركة فكان أحد الوراث يلقي ثوبا على زوجة الميت ويرثها فإن شاء تزوج بها من غير مهر بل بالوراثة وإن كره نكاحها حبسها عنده فإن شاء زوجها من غيره فانتفع بمهرهاوإن شاء عضلها ومنها النكاح وحبسها حتى تموت فيرثها إن كان لها مال. والآية وإن كان ظاهرها أنها تنهى عن سنة دائرة بينهم وهي التي ذكرناها من إرث النساء فتكون مسوقة للردع عن هذه السنة السيئة على ما ذكره بعض المفسرين إلا أن قوله في ذيل الجملة كرها لا يلائم ذلك سواء أخذ قيدا توضيحيا أو احترازيا. فإنه لو كان قيدا توضيحيا أفاد أن هذه الوراثة تقع دائما على كره من النساء وليس كذلك وهو ظاهر ولو كان قيدا احترازيا أفاد أن النهي إنما هو إذا كانت الوراثة على كره من النساء دون ما إذا كان على رضى منهن وليس كذلك. نعم الكره أمر متحقق في العضل عن الازدواج طمعا في ميراثهن دائما أو غالبا بعد القبض عليهن بالارث فالظاهر أن الآية في مقام الردع عن هذا الارث على كره وأما نكاحهن بالارث فالمتعرض للنهي عنه قوله تعالى فيما سيأتي ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الآية وأما تزويجهن من الغير والذهاب بمهرهن فينهى عنه مثل قوله تعالى وللنساء نصيب مما اكتسبن: النساء - 32 ويدل على الجميع قوله تعالى فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف: البقرة 234. وأما قوله بعد ولا تعضلوهن لتذهبوا الخ فهو غير هذا العضل عن الازدواج للذهاب بالمال إرثا لما في تذييله بقوله لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من الدلالة على أن المراد به الذهاب ببعض المهر الذي آتاه الزوج العاضل دون المال الذي امتلكته من غير طريق هذا المهر وبالجملة الآية تنهي عن وراثة أموال النساء كرها منهن دون وراثة أنفسهن فإضافة الارث إلى النساء إنما هي بتقدير الاموال أو يكون مجازا عقليا. قوله تعالى ولا تعضلوهن لتذهبوا إلى قوله مبينة إما معطوف على

[ 255 ]

قوله ترثوا والتقدير ولا أن تعضلوهن وإما نهى معطوف على قوله لا يحل لكم لكونه في معنى النهى والعضل هو المنع والتضييق والتشديد والفاحشة الطريقة الشنيعة كثر استعمالها في الزنا والمبينة المتبينة وقد نقل عن سيبويه أن أبان واستبان وبين وتبين بمعنى واحد تتعدى ولا تتعدى يقال أبان الشئ واستبان وبين وتبين ويقال أبنت الشئ واستبنته وبينته وتبينته والآية تنهى عن التضييق عليهن بشئ من وجوه التضييق ليضطررن إلى بذل شئ من الصداق لفك عقدة النكاح والتخلص من ضيق العيشة فالتضييق بهذا القصد محرم على الزوج إلا أن يأتي الزوجة بفاحشة مبينة فله حينئذ أن يعضلها ويضيق عليها لتفارقه بالبذل والآية لا تنافى الآية الاخرى في باب البذل ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به: البقرة - 229 وإنما هو التخصيص تخصص هذه الآية آية البقرة بصورة إتيان الفاحشة وأما البذل الذي في آية البقرة فإنما هو واقع على تراض منهما فلا تخصص بها هذه الآية. قوله تعالى وعاشروهن بالمعروف إلى آخر الآية المعروف هو الامر الذي يعرفه الناس في مجتمعهم من غير أن ينكروه ويجهلوه وحيث قيد به الامر بالمعاشرة كان المعنى الامر بمعاشرتهن المعاشرة المعروفة بين هؤلاء المأمورين. والمعاشر التي يعرفها الرجال ويتعارفونه بينهم أن الواحد منهم جزء مقوم للمجتمع يساوى سائر الاجزاء في تكوينه المجتمع الانساني لغرض التعاون والتعاضد العمومي النوعي فيتوجه على كل منهم من التكليف أن يسعى بما في وسعه من السعي فيما يحتاج إليه المجتمع فيقتنى ما ينتفع به فيعطى ما يستغنى عنه ويأخذ ما يحتاج إليه فلو عومل مع واحد من أجزاء المجتمع غير هذه المعاملة وليس إلا أن يضطهد بإبطال استقلاله في الجزئية فيؤخذ تابعا ينتفع به ولا ينتفع هو بشئ يحاذيه وهذا هو الاستثناء. وقد بين الله تعالى في كتابه أن الناس جميعا رجالا ونساءا فروع أصل واحد إنساني وأجزاء وأبعاض لطبيعة واحدة بشرية والمجتمع في تكونه محتاج

[ 256 ]

إلى هؤلاء كما هو محتاج إلى اولئك على حد سواء كما قال تعالى بعضكم من بعض: النساء - 25. ولا ينافى ذلك اختصاص كل من الطائفتين بخصلة تختص به كاختصاص الرجال بالشدة والقوة نوعا واختصاص النساء بالرقة والعاطفة طبعا فإن الطبيعة الانسانية في حياتها التكوينية والاجتماعية جميعا تحتاج إلى بروز الشدة وظهور القوة كما تحتاج إلى سريان المودة والرحمة والخصلتان جميعا مظهرا الجذب والدفع العامين في المجتمع الانساني. فالطائفتان متعادلتان وزنا وأثرا كما أن أفراد طائفة الرجال متساوية في الوزن والتأثير في هذه البنية المكونة مع اختلافهم في شؤونهم الطبيعية والاجتماعية من قوة وضعف وعلم وجهل وكياسة وبلادة وصغر وكبر ورئاسة ومرؤوسية ومخدومية وخادمية وشرف وخسة وغير ذلك. فهذا هو الحكم الذي ينبعث من ذوق المجتمع المتوسط الجاري على سنة الفطرة من غير انحراف وقد قوم الاسلام أود الاجتماع الانساني وأقام عوجه فلا مناص من أن يجرى فيه حكم التسوية في المعاشرة وهو الذى نعبر عنه بالحرية الاجتماعية وحرية النساء كالرجال وحقيقتها أن الانسان بما هو إنسان ذو فكر وإرادة له أن يختار ما ينفعه على ما يضره مستقلا في اختياره ثم إذا ورد المجتمع كان له أن يختار ما يختار ما لم يزاحم سعادة المجتمع الانساني مستقلا في ذلك من غير ان يمنع عنه أو يتبع غيره من غير اختيار. وهذا كما عرفت لا ينافي اختصاص بعض الطبقات أو بعض الافراد من طبقة واحدة بمزايا أو محروميته عن مزايا كاختصاص الرجال في الاسلام بالقضاء والحكومة والجهاد ووجوب نفقتهن على الرجال وغير ذلك وكحرمان الصبيان غير البالغين عن نفوذ الاقرار والمعاملات وعدم توجه التكاليف إليهم ونحو ذلك فجميع ذلك خصوصيات أحكام تعرض الطبقات وأشخاص المجتمع من حيت اختلاف أوزانهم في المجتمع بعد اشتراكهم جميعا في أصل الوزن الانساني الاجتماعي الذي ملاكه أن الجميع إنسان ذو فكر وإرادة. ولا تختص هذه المختصات بشريعة الاسلام المقدسة بل توجد في جميع القوانين

[ 257 ]

المدنية بل في جميع السنن الانسانية حتى الهمجية قليلا أو كثيرا على اختلافها والكلمة الجامعة لجميع هذه المعاني هي قوله تعالى وعاشروهن بالمعروف على ما تبين. وأما قوله تعالى فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا فهو من قبيل إظهار الامر المعلوم في صورة المشكوك المحتمل اتقاء من تيقظ غريزة التعصب في المخاطب نظير قوله تعالى قل من يرزقكم من السموات والارض قل الله وإنا أو إياكم لعلي هدى أو في ضلال مبين قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون: سبأ - 25. فقد كان المجتمع الانساني يومئذ عصر نزول القرآن لا يوقف النساء في موقفها الانساني الواقعي ويكره ورودها في المجتمع ورود البعض المقوم بل المجتمعات القائمة على ساقها يومئذ بين ما يعدهن طفيليات خارجة لاحقة ينتفع بوجودها وما يعدهن إنسانا ناقصا في الانسانية كالصبيان والمجانين إلا أنهن لا يبلغن الانسانية أبدا فيجب أن يعشن تحت الاتباع والاستيلاء دائما ولعل قوله تعالى فإن كرهتموهن حيث نسب الكراهة إلى أنفسهن دون نكاحهن إشارة إلى ذلك. قوله تعالى وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج إلى آخر الآية الاستبدال استفعال بمعنى طلب البدل وكأنه بمعنى إقامة زوج مقام زوج أو هو من قبيل التضمين بمعنى إقامة امرأة مقام أخرى بالاستبدال ولذلك جمع بين قوله أردتم وبين قوله استبدال الخ مع كون الاستبدال مشتملا على معنى الارادة والطلب وعلى هذا فالمعنى وإن أردتم أن تقيموا زوجا مقام اخرى بالاستبدال. والبهتان ما بهت الانسان أي جعله متحيرا ويغلب استعماله في الكذب من القول وهو في الاصل مصدر وقد استعمل في الآية في الفعل الذي هو الاخذ من المهر وهو في الآية حال من الاخذ وكذا قوله إثما والاستفهام إنكاري. والمعنى إن أردتم أن تطلقوا بعض أزواجكم وتتزوجوا باخرى مكانها فلا تأخذوا من الصداق الذى آتيتموها شيئا وإن كان ما آتيتموها مالا كثيرا وما تأخذونه قليلا جدا.

[ 258 ]

قوله تعالى وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض إلى آخر الآية الاستفهام للتعجيب والافضاء هو الاتصال بالمماسة وأصله الفضاء بمعنى السعة. ولما كان هذا الاخذ إنما هو بالبغي والظلم ومورده مورد الاتصال والاتحاد أوجب ذلك صحة التعجب حيث إن الزوجين يصيران بسبب ما أوجبه الازدواج من الافضاء والاقتراب كشخص واحد ومن العجيب أن يظلم شخص واحد نفسه ويؤذيها أو يؤذى بعض أجزائه بعضا. وأما قوله وأخذن منكم ميثاقا غليظا فالظاهر أن المراد بالميثاق الغليظ هو العلقه التي أبرمها الرجل بالعقد ونحوه ومن لوازمها الصداق الذي يسمى عند النكاح وتستحقه المرأة من الرجل. وربما قيل إن المراد بالميثاق الغليظ العهد المأخوذ من الرجل للمرأة من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان على ما ذكره الله تعالى وربما قيل إن المراد به حكم الحلية المجعول شرعا في النكاح ولا يخفى بعد الوجهين جميعا بالنسبة إلى لفظ الآية (بحث روائي) في تفسير العياشي عن هاشم بن عبد الله عن السري البجلي قال: سألته عن قوله ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن قال - فحكى كلاما ثم قال كما يقول النبطية إذا طرح عليها الثوب عضلها فلا تستطيع تزويج غيره - وكان هذا في الجاهلية وفي تفسير القمى في رواية أبى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها - فإنه كان في الجاهلية في أول ما أسلموا من قبائل العرب - إذا مات حميم الرجل وله امرأة - ألقى الرجل ثوبه عليها فورث نكاحها بصداق حميمه - الذى كان أصدقها يرث نكاحها كما يرث ماله - فلما مات أبو قيس بن الاسلت - ألقى محصن بن أبى قيس ثوبه على امرأة أبيه - وهى كبيشة بنت معمر بن معبد فورث نكاحها - ثم تركها لا يدخل بها ولا ينفق عليها - فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت يا رسول الله - مات أبو قيس بن الاسلت فورث محصن ابنه نكاحي - فلا يدخل على ولا ينفق على ولا يخلي سبيلي فألحق بأهلي - فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ارجعي

[ 259 ]

إلى بيتك - فإن يحدث الله في شأنك شيئا أعلمتك فنزل - ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف - إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا فلحقت بأهلها - وكانت نساء في المدينة قد ورث نكاحهن كما ورث نكاح كبيشة غير أنه ورثهن من الابناء فأنزل الله يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها أقول آخر الرواية لا يخلو عن اضطراب في المعنى وقد وردت هذه القصة ونزول الآيات فيها في عدة من روايات أهل السنة أيضا غير أن الروايات أو معظمها تذكر نزول قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا الآية في القصة وقد عرفت في البيان السابق عدم مساعدة السياق على ذلك. ومع ذلك فتحقق القصة وارتباط الآيات بوجه بها بالعادة الجارية فيما بينهم عند النزول في الجملة لا ريب فيه فالمعول في ذلك ما قدمناه في البيان السابق. وفي المجمع: في قوله تعالى إلا أن يأتين بفاحشة مبينة الآية - قال الاولى حمل الآية على كل معصية - قال وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام وفي تفسير البرهان عن الشيباني: الفاحشة يعني الزنا - وذلك إذا اطلع الرجل منها على فاحشة فله أخذ الفدية - وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام وفي الدر المنثور أخرج أبن جرير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله - واستحللتم فروجهن بكلمة الله - وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وفيه أخرج ابن جرير عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أيها الناس إن النساء عندكم عوان أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن حق ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا ولا يعصينكم في معروف وإذا فعلن ذلك فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف. أقول: وقد تقدم ما يتبين به معنى هذه الروايات. وفي الكافي وتفسير العياشي عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: وأخذن منكم ميثاقا غليظا قال: الميثاق الكلمة التي عقد بها النكاح الرواية. وفي المجمع قال: الميثاق الغليظ هو العقد المأخوذ على الزوج حالة العقد من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان قال: وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.

[ 260 ]

أقول: وهذا المعنى منقول عن عدة من مفسري السلف كابن عباس وقتادة وأبي مليكة والآية لا تأباه بانظر إلى أن ذلك حكم يصدق عليه أنه ميثاق مأخوذ على الرجال والنساء وإن كان الاظهر أن يكون المراد هو العقد المجرى حين الازدواج. وفي الدر المنثور أخرج الزبير بن بكار في الموفقيات عن عبد الله بن مصعب قال قال عمر ": لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية - فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال - فقالت امرأة ما ذاك لك قال ولم - قالت لان الله يقول وآتيتم إحداهن قنطارا الآية - فقال عمر امرأة أصابت ورجل أخطأ: أقول ورواه أيضا عن عبد الرزاق وابن المنذر عن عبد الرحمن السلمي وأيضا عن سعيد بن منصور وأبي يعلى بسند جيد عن مسروق وفيه أربعمائة درهم مكان أربعين أوقية وأيضا عن سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن بكر بن عبد الله المزني والروايات متقاربة المعنى. وفيه أخرج ابن جرير عن عكرمة: في قوله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء - قال نزلت في أبي قيس بن الاسلت - خلف على ام عبيد بنت ضمرة كانت تحت الاسلت أبيه - وفي الاسود بن خلف وكان خلف على بنت أبي طلحة - بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار - وكانت عند أبيه خلف - وفي فاختة ابنة الاسود بن المطلب بن أسد - كانت عند امية بن خلف فخلف عليها صفوان بن امية - وفي منظور بن رباب وكان خلف على مليكة ابنة خارجة - وكانت عند أبيه رباب بن سيار وفيه أخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال: كان الرجل إذا توفى عن امرأة - كان ابنه أحق بها أن ينكحها إن شاء - إن لم يكن امه أو ينكحها من شاء - فلما مات أبو قيس بن الاسلت قام ابنه محصن - فورث نكاح امرأته ولم ينفق عليها ولم يورثها من المال شيئا - فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له - فقال ارجعي لعل الله ينزل فيك شيئا فنزلت - ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الآية ونزلت لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها أقول وقد تقدم ما يدل على ذلك من روايات الشيعة. وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال ": كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الاب والجمع بين الاختين - فأنزل الله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم

[ 261 ]

من النساء وأن تجمعوا بين الاختين أقول وفي معناه أخبار أخر = حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم و أخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الاخ وبنات الاخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الاختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما (23) - والمحصنات من النساء إلا ما ملكت إيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما (24) - ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب

[ 262 ]

ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم (25) - يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم (26) - والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما (27) - يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا (28)) - 26 (بيان) آيات محكمة تعد محرمات النكاح وما احل من نكاح النساء والآية السابقة عليها المبينة لحرمة نكاح ما نكح الآباء وإن كانت بحسب المضمون من جملتها إلا أن ظاهر سياقها لما كان من تتمة السياق السابق أوردناها في جملة الآيات السابقة مع كونها بحسب المعنى ملحقة بها. وبالجملة جملة الآيات متضمنة لبيان كل محرم نكاحي من غير تخصيص أو تقييد وهو الظاهر من قوله تعالى بعد تعداد المحرمات واحل لكم ما وراء ذلكم الآية ولذلك لم يختلف أهل العلم في الاستدلال بالآية على حرمة بنت الابن والبنت وام الاب أو الام وكذا على حرمة زوجة الجد بقوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم الآية وبه يستفاد نظر القرآن في تشخيص الابناء والبنات بحسب التشريع على ما سيجئ إن شاء الله. قوله تعالى حرمت عليكم امهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الاخ وبنات الاخت هؤلاء هن المحرمات بحسب النسب وهي سبعة أصناف والام من اتصل إليها نسب الانسان بالولادة كمن ولدته من غير واسطة أو بواسطة كوالدة الاب أو الام فصاعدة والبنت من اتصل نسبها بالانسان بسبب ولادتها منه كالمولودة من صلبه بلا واسطة وكبنت الابن والبنت فنازلة والاخت من اتصل نسبها بالانسان من جهة ولادتهما معا من الاب أو الام أو منهما جميعا بلا واسطة والعمة اخت

[ 263 ]

الاب وكذا اخت الجد من جهة الاب أو الام والخالة اخت الام وكذا اخت الجدة من جهة الاب أو الام. والمراد بتحريم الامهات وما يتلوها من الاصناف حرمة نكاحهن على ما يفيده الاطلاق من مناسبة الحكم والموضوع كما في قوله تعالى حرمت عليكم الميتة والدم " المائدة - 3 " أي أكلهما وقوله تعالى فإنها محرمة عليهم: المائدة - 26 أي سكنى الارض وهذا مجاز عقلي شائع هذا. ولكنه لا يلائم ما سيأتي من قوله تعالى إلا ما ملكت أيمانكم فإنه استثناء من الوطئ دون علقة النكاح على ما سيجئ وكذا قوله تعالى أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين على ما سيجئ فالحق أن المقدر هو ما يفيد معنى الوطئ دون علقه النكاح وإنما لم يصرح تأدبا وصونا للسان على ما هو دأب كلامه تعالى. واختصاص الخطاب بالرجال دون أن يقال حرم عليهن أبنائهن الخ أو يقال مثلا لا نكاح بين المرأة وولدها الخ لما أن الطلب والخطبة بحسب الطبع إنما يقع من جانب الرجال فحسب. وتوجيه الخطاب إلى الجمع مع تعليق الحرمة بالجمع كالامهات والبنات الخ تفيد الاستغراق في التوزيع أي حرمت على كل رجل منكم امه وبنته إذ لا معنى لتحريم المجموع على المجموع ولا لتحريم كل ام وبنت لكل رجل مثلا على كل رجل لاوله إلى تحريم أصل النكاح فمآل الآية إلى أن كل رجل يحرم عليه نكاح امه وبنته واخته الخ. قوله تعالى وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة شروع في بيان المحرمات بالسبب وهي سبع ست منها ما في هذه الآية وسابعتها ما يتضمنه قوله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الآية. والآية بسياقها تدل على جعل الامومة والبنوة بين المرأة ومن أرضعته وكذا الاخوة بين الرجل واخته من الرضاعة حيث ارسل الكلام فيها إرسال المسلم فالرضاعة تكون الروابط النسبية بحسب التشريع وهذا مما يختص بالشريعة الاسلامية على ما ستجئ الاشارة إليه.

[ 264 ]

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الفريقان أنه قال: إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب ولازمه أن تنتشر الحرمة بالرضاع فيما يحاذي محرمات النسب من الاصناف وهي الام والبنت والاخت والعمة والخالة وبنت الاخ وبنت الاخت سبعة أصناف. وأما ما به يتحقق الرضاع وما له في نشره الحرمة من الشرائط من حيث الكم والكيف والمدة وما يلحق بها من الاحكام فهو مما يتبين في الفقه والبحث فيه خارج عن وضع هذا الكتاب وأما قوله: وأخواتكم من الرضاعة فالمراد به الاخوات الملحقة بالرجل من جهة إرضاع امه إياها بلبن أبيه وهكذا. قوله تعالى " وامهات نسائكم " سواء كانت النساء أي الازواج مدخولا بهن أو غير مدخول بهن فإن النساء إذا اضيفت إلى الرجال دلت على مطلق الازواج والدليل على ذلك التقييد الآتي في قوله تعالى من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن الآية. قوله تعالى " وربائبكم اللاتي في حجوركم " إلى قوله " فلا جناح عليكم " الربائب جمع الربيبة وهي بنت زوجة الرجل من غيره لان تدبير أمر من مع المرأة من الولد إلى زوجها فهو الذي يربها ويربيها في العادة الغالبة وإن لم يكن كذلك دائما. وكذلك كون الربيبة في حجر الزوج أمر مبني على الغالب وإن لم يجر الامر عليه دائما ولذلك قيل: إن قوله: اللاتي في حجوركم قيد مبني على الغالب فالربيبة محرمة سواء كانت في حجر زوج امها أو لم يكن فالقيد توضيحي لا احترازي. ومن الممكن أن يقال إن قوله اللاتي في حجوركم إشارة إلى ما يستفاد من حكمة تشريع الحرمة في محرمات النسب والسبب على ما سيجئ البحث عنه وهو الاختلاط الواقع المستقر بين الرجل وبين هؤلاء الاصناف من النساء والمصاحبة الغالبة بين هؤلاء في المنازل والبيوت فلولا حكم الحرمة المؤبدة لم يمكن الاحتراز من وقوع الفحشاء بمجرد تحريم الزنا (على ما سيجئ بيانه). فيكون قوله " اللاتي في حجوركم " مشيرا إلى أن الربائب لكونهن غالبا في حجوركم وفي صحابتكم تشارك سائر الاصناف في الاشتمال على ملاك التحريم وحكمته.

[ 265 ]

وكيفما كان ليس قوله اللاتي في حجوركم قيدا احترازيا يتقيد به التحريم حتى تحل الربيبة لرابها إذا لم تكن في حجره كالبنت الكبيرة يتزوج الرجل بامها والدليل على ذلك المفهوم المصرح به في قوله تعالى: " فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم " حيث ذكر فيه ارتفاع قيد الدخول لكون الدخول دخيلا في التحريم ولو كان الكون في الحجور مثله لكان من اللازم ذكره وهو ظاهر. وقوله: فلا جناح عليكم أي في أن تنكحوهن حذف إيثارا للاختصار لدلالة السياق عليه. قوله تعالى وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم الحلائل جمع حليلة قال في المجمع والحلائل جمع الحليلة وهي بمعنى محللة مشتقة من الحلال والذكر حليل وجمعه أحلة كعزيز وأعزة سميا بذلك لان كل واحدة منهما يحل له مباشرة صاحبه وقيل هو من الحلول لان كل واحد منهما يحال صاحبه أي يحل معه في الفراش انتهى. والمراد بالابناء من اتصل بالانسان بولادة سواء كان ذلك بلا واسطة أو بواسطة ابن أو بنت وتقييده بقوله الذين من أصلابكم احتراز عن حليلة من يدعى ابنا بالتبني دون الولادة. قوله تعالى وأن تجمعوا بين الاختين إلا ما قد سلف " المراد به بيان تحريم نكاح اخت الزوجة ما دامت الزوجة حية باقية تحت حبالة الزوجية فهو أوجز عبارة وأحسنها في تأدية المراد وإطلاق الكلام ينصرف إلى الجمع بينهما في النكاح في زمان واحد فلا مانع من أن ينكح الرجل إحدى الاختين ثم يتزوج بالاخرى بعد طلاق الاولى أو موتها ومن الدليل عليه السيرة القطعية بين المسلمين المتصلة بزمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما قوله إلا ما قد سلف فهو كنظيره المتقدم في قوله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ناظر إلى ما كان معمولا به بين عرب الجاهلية من الجمع بين الاختين والمراد به بيان العفو عما سلف من عملهم بالجمع بين الاختين قبل نزول هذه الآية دون ما لو كان شئ من ذلك في زمان النزول بنكاح سابق فإن الآية تدل على منعه لانه جمع بين الاختين بالفعل كما يدل عليه أيضا ما تقدم نقله من أسباب نزول قوله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم الآية حيث فرق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول

[ 266 ]

الآية بين الابناء وبين نساء آبائهم مع كون النكاح قبل نزول الآية. ورفع التحريم وهو الجواز عن نكاح سالف لا يبتلى به بالفعل والعفو عنه من حيث نفس العمل المنقضي وإن كان لغوا لا أثر له لكنه لا يخلو عن الفائدة من حيث آثار العمل الباقية بعده كطهارة المولد واعتبار القرابة مع الاستيلاد ونحو ذلك. وبعبارة اخرى لا معنى لتوجيه الحرمة أو الاباحة إلى نكاح سابق قد جمع بين الاختين إذا ماتتا مثلا أو ماتت إحديهما أو حل الطلاق بهما أو بإحديهما لكن يصح رفع الالغاء والتحريم عن مثل هذا النكاح باعتبار ما استتبعه من الاولاد من حيث الحكم بطهارة مولدهم ووجود القرابة بينهم وبين آبائهم المولدين لهم وسائر قرابات الآباء المؤثر ذلك في الارث والنكاح وغير ذلك. وعلى هذا فقوله " إلا ما قد سلف " استثناء من الحكم باعتبار آثاره الشرعية لا باعتبار أصل تعلقه بعمل قد انقضى قبل التشريع ومن هنا يظهر أن الاستثناء متصل لا منقطع كما ذكره المفسرون. ويمكن أن يرجع الاستثناء إلى جميع الفقرات المذكورة في الآية من غير أن يختص بقوله وأن تجمعوا بين الاختين " فإن العرب وإن كانت لا ترتكب من هذه المحرمات إلا الجمع بين الاختين ولم تكن تقترف نكاح الامهات والبنات وسائر ما ذكرت في الآية إلا أن هناك امما كانت تنكح أقسام المحارم كالفرس والروم وسائر الامم المتمدنة وغير المتمدنة يوم نزول الآيات على اختلافهم فيه والاسلام يعتبر صحة نكاح الامم غير المسلمة الدائر بينهم على مذاهبهم فيحكم بطهارة مولدهم ويعتبر صحة قرابتهم بعد الدخول في دين الحق هذا لكن الوجه الاول أظهر. قوله تعالى إن الله كان غفورا رحيما تعليل راجع إلى الاستثناء وهو من الموارد التي تعلقت فيها المغفرة بآثار الاعمال في الخارج دون الذنوب والمعاصي. قوله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم المحصنات بفتح الصاد اسم مفعول من الاحصان وهوالمنع ومنه الحصن الحصين أي المنيع يقال أحصنت المرأة إذا عفت فحفظت نفسها وامتنعت عن الفجور قال تعالى التي أحصنت فرجها " التحريم - 12 " أي عفت ويقال أحصنت المرأة بالبناء للفاعل والمفعول

[ 267 ]

إذا تزوجت فأحصن زوجها أو التزوج إياها من غير زوجها ويقال أحصنت المرأة إذا كانت حره فمنعها ذلك من أن يمتلك الغير بضعها أو منعها ذلك من الزنا لان ذلك كان فاشيا في الاماء. والظاهر أن المراد بالمحصنات في الآية هو المعنى الثاني أي المتزوجات دون الاول والثالث لان الممنوع المحرم في غير الاصناف الاربعة عشر المعدودة في الآيتين هو نكاح المزوجات فحسب فلا منع من غيرها من النساء سواء كانت عفيفة أو غيرها وسواء كانت حرة أو مملوكة فلا وجه لان يراد بالمحصنات في الآية العفائف مع عدم اختصاص حكم المنع بالعفائف ثم يرتكب تقييد الآية بالتزويج أو حمل اللفظ على إرادة الحرائر مع كون الحكم في الاماء أيضا مثلهن ثم ارتكاب التقييد بالتزويج فإن ذلك أمر لا يرتضيه الطبع السليم. فالمراد بالمحصنات من النساء المزوجات وهي التي تحت حبالة التزويج وهو عطف على موضع امهاتكم والمعنى وحرمت عليكم كل مزوجة من النساء ما دامت مزوجة ذات بعل. وعلى هذا يكون قوله إلا ما ملكت أيمانكم " رفعا لحكم المنع عن محصنات الاماء على ما ورد في السنة أن لمولى الامة المزوجة أن يحول بين مملوكته وزوجها ثم ينالها عن استبراء ثم يردها إلى زوجها. وأما ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بقوله إلا ما ملكت أيمانكم إلا ما ملكت أيمانكم بالنكاح أو بملك الرقبة من العفائف فالمراد بالملك ملك الاستمتاع والتسلط على المباشرة ففيه أولا أنه يتوقف على أن يراد بالمحصنات العفائف دون المزوجات وقد عرفت ما فيه وثانيا أن المعهود من القرآن إطلاق هذه العبارة على غير هذا المعنى وهو ملك الرقبة دون التسلط على الانتفاع ونحوه. وكذا ما ذكره بعض آخر أن المراد بما ملكته الايمان الجواري المسبيات إذا كن ذوات أزواج من الكفار وأيد ذلك بما روي عن أبي سعيد الخدري: أن الآية نزلت في سبي أوطاس حيث أصاب المسلمون نساء المشركين وكانت لهن أزواج في دار الحرب فلما نزلت نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إلا لا توطأ الحبالى حتى يضعن ولا غير الحبالى حتى يستبرأن.

[ 268 ]

وفيه مضافا إلى ضعف الرواية أن ذلك تخصيص للآية من غير مخصص فالمصير إلى ما ذكرناه. قوله تعالى كتاب الله عليكم أي الزموا حكم الله المكتوب المقضي عليكم وقد ذكر المفسرون أن قوله " كتاب الله عليكم " منصوب مفعولا مطلقا لفعل مقدر والتقدير كتب الله كتابا عليكم ثم حذف الفعل واضيف المصدر إلى فاعله واقيم مقامه ولم يأخذوا لفظ عليكم اسم فعل لما ذكره النحويون أنه ضعيف العمل لا يتقدم معموله عليه هذا. قوله تعالى واحل لكم ما وراء ذلكم ظاهر التعبير بما الظاهرة في غير اولى العقل وكذا الاشارة بذلكم الدال على المفرد المذكر وكذا قوله بعده أن تبتغوا بأموالكم أن يكون المراد بالموصول واسم الاشارة هو المقدر في قوله حرمت عليكم امهاتكم المتعلق به التحريم من الوطئ والنيل أو ما هو من هذا القبيل والمعنى واحل لكم من نيلهن ما هو غير ما ذكر لكم وهو النيل بالنكاح في غير من عد من الاصناف الخمسة عشر أو بملك اليمين وحينئذ يستقيم بدليه قوله أن تبتغوا بأموالكم من قوله واحل لكم ما وراء ذلكم كل الاستقامة. وقد ورد عن المفسرين في هذه الجملة من الآية تفاسير عجيبة كقول بعضهم إن معنى قوله واحل لكم ما وراء ذلكم احل لكم ما وراء ذات المحارم من أقاربكم وقول بعض آخر إن المراد احل لكم ما دون الخمس وهي الاربع فما دونها أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح وقول بعض آخر إن المعنى احل لكم ما وراء ذلكم مما ملكت أيمانكم وقول بعض آخر معناها احل لكم ما وراء ذات المحارم والزيادة على الاربع أن تبتغوا بأموالكم نكاحا أو ملك يمين. وهذه وجوه سخيفة لا دليل على شئ منها من قبل اللفظ في الآية على أنها تشترك في حمل لفظة ما في الآية على اولي العقل ولا موجب له كما عرفت آنفا على أن الآية في مقام بيان المحرم من نيل النساء من حيث أصناف النساء لا من حيث عدد الازواج فلا وجه لتحميل إراده العدد على الآية فالحق أن الجملة في مقام بيان جواز نيل النساء فيما سوى الاصناف المعدودة منهن في الآيتين السابقتين بالنكاح أو بملك اليمين. قوله تعالى أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين بدل أو عطف بيان

[ 269 ]

من قوله ما وراء ذلكم يتبين به الطريق المشروع في نيل النساء ومباشرتهن وذلك أن الذي يشمله قوله واحل لكم ما وراء ذلكم من المصداق ثلاثة النكاح وملك اليمين والسفاح وهو الزنا فبين بقوله أن تبتغوا بأموالكم الخ المنع عن السفاح وقصر الحل في النكاح وملك اليمين ثم اعتبر الابتغاء بالاموال وهو في النكاح المهر والاجرة ركن من أركانه وفي ملك اليمين الثمن وهو الطريق الغالب في تملك الاماء فيؤول معنى الآية إلى مثل قولنا احل لكم فيما سوى الاصناف المعدودة أن تطلبوا مباشرة النساء ونيلهن بإنفاق أموالكم في اجرة المنكوحات من النساء نكاحا من غير سفاح أو انفاقها في ثمن الجواري والاماء. ومن هنا يظهر أن المراد بالاحصان في قوله محصنين غير مسافحين إحصان العفة دون إحصان التزوج وإحصان الحرية فإن المراد بابتغاء الاموال في الآية أعم مما يتعلق بالنكاح أو بملك اليمين ولا دليل على قصرها في النكاح حتى يحمل الاحصان على إحصان التزوج وليس المراد بإحصان العفة الاحتراز عن مباشرة النساء حتى ينافي المورد بل ما يقابل السفاح أعني التعدي إلى الفحشاء بأي وجه كان بقصر النفس في ما أحل الله وكفها عما حرم الله من الطرق العادية في التمتع المباشري الذي اودع النزوع إليه في جبلة الانسان وفطرته. وبما قدمناه يظهر فساد ما ذكره بعضهم أن قوله أن تبتغوا بأموالكم بتقدير لام الغاية أو ما يؤدي معناها والتقدير لتبتغوا أو إرادة أن تبتغوا. وذلك أن مضمون قوله أن تبتغوا بوجه عين ما اريد بقوله ما وراء ذلكم لا أنه أمر مترتب عليه مقصود لاجله وهو ظاهر. وكذا ما يظهر من كلام بعضهم أن المراد بالمسافحة مطلق سفح الماء وصبه من غير أن يقصد به الغاية التي وضع الله سبحانه هذه الداعية الشهوية الفطرية في الانسان لاجلها وهي غرض تكوين البيت وإيجاد النسل والولد وبالمقابلة يكون الاحصان هو الازدواج الدائم الذي يكون الغرض منه التوالد والتناسل هذا. وإني لست أرى هذا القائل إلا أنه اختلط عليه طريق البحث فخلط البحث في ملاك الحكم المسمى بحكمة التشريع بالبحث عن نفس الحكم فلزمه ما لا يسعه الالتزام به من اللوازم.

[ 270 ]

وأحد البحثين وهو البحث عن الملاك عقلي والآخر وهو البحث عن الحكم الشرعي وما له من الموضوع والمتعلق والشرائط والموانع لفظي يتبع في السعة والضيق البيان اللفظي من الشارع وإنا لا نشك أن جميع الاحكام المشرعة تتبع مصالح وملاكات حقيقية وحكم النكاح الذي هو أيضا أحدها يتبع في تشريعه مصلحة واقعية وملاكا حقيقيا وهو التوالد والتناسل ونعلم أن نظام الصنع والايجاد أراد من النوع الانساني البقاء النوعي ببقاء الافراد ما شاء الله ثم احتيل إلى هذا الغرض بتجهيز البنية الانسانية بجهاز التناسل الذي يفصل أجزاء منه فيربيه ويكونه إنسانا جديدا يخلف الانسان القديم فتمتد به سلسلة النوع من غير انقطاع واحتيل إلى تسخير هذا الجهاز للعمل والانتاج بإيداع القوة الشهوانية التي يحن بها أحد القبيلين الذكر والانثى من الافراد إلى الآخر وينجذب بها كل إلى صاحبه بالوقوع عليه والنيل ثم كمل ذلك بالعقل الذي يمنع من إفساد هذا السبيل الذي يندب إليه نظام الخلقه. وفي عين أن نظام الخلقة بالغ أمره وواجد غرضه الذي هو بقاء النوع لسنا نجد أفراد هذه الاتصالات المباشرية بين الذكر والانثى ولا أصنافها موصلة إلى غرض الخلقة دائما بل إنما هي مقدمة غالبية فليس كل ازدواج مؤديا إلى ظهور الولد ولا كل عمل تناسلي كذلك ولا كل ميل إلى هذا العمل يؤثر هذا الاثر ولا كل رجل أو كل امرأة ولا كل ازدواج يهدي هداية اضطرارية إلى الذواق فالاستيلاد فالجميع امور غالبية. فالتجهز التكويني يدعو الانسان إلى الازدواج طلبا للنسل من طريق الشهوة والعقل المودوع فيه يضيف إلى ذلك التحرز وحفظ النفس عن الفحشاء المفسد لسعادة العيش الهادم لاساس البيوت القاطع للنسل. وهذه المصلحة المركبة أعني مصلحة الاستيلاد والامن من دبيب الفحشاء هي الملاك الغالبي الذي بني عليه تشريع النكاح في الاسلام غير أن الاغلبية من أحكام الملاك وأما الاحكام المشرعة لموضوعاتها فهي لا تقبل إلا الدوام. فليس من الجائز أن يقال إن النكاح أو المباشرة يتبعان في جوازهما الغرض والملاك المذكور وجودا وعدما فلا يجوز نكاح إلا بنية التوالد ولا يجوز نكاح العقيم

[ 271 ]

ولا نكاح العجوز التي لا ترى الحمرة ولا يجوز نكاح الصغيرة ولا يجوز نكاح الزاني ولا يجوز مباشرة الحامل ولا مباشرة من غير إنزال ولا نكاح من غير تأسيس بيت ولا يجوز... ولا يجوز.... بل النكاح سنة مشروعة بين قبيلي الذكر والانثى لها أحكام دائمية وقد اريد بهذه السنة المشروعة حفظ مصلحة عامة غالبية كما عرفت فلا معنى لجعل سنة مشروعة تابعة لتحقق الملاك وجودا وعدما والمنع عما لا يتحقق به الملاك من أفراده أو أحكامه. قوله تعالى فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن فريضة كأن الضمير في قوله به راجع إلى ما يدل عليه قوله واحل لكم ما وراء ذلكم وهو النيل أو ما يؤدي معناه فيكون ما للتوقيت وقوله منهن متعلقا بقوله استمتعتم والمعنى مهما استمتعتم بالنيل منهن فآتوهن اجورهن فريضة. ويمكن أن يكون ما موصولة واستمتعتم صلة لها وضمير به راجعا إلى الموصول وقوله منهن بيانا للموصول والمعنى ومن استمتعتم به من النساء الخ. والجملة أعني قوله فما استمتعتم الخ تفريع لما تقدمها من الكلام لمكان الفاء تفريع البعض على الكل أو تفريع الجزئي على الكلي بلا شك فإن ما تقدم من الكلام أعني قوله أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين كما تقدم بيانه شامل لما في النكاح وملك اليمين فتفريع قوله فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن عليه يكون من تفريع الجزء على الكل أو تفريع بعض الاقسام الجزئية على المقسم الكلي. وهذا النوع من التفريع كثير الورود في كلامه تعالى كقوله عز من قائل أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر الآية: البقرة - 184 وقوله فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج الآية: البقرة - 196 وقوله لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله الآية: البقرة - 256 إلى غير ذلك. والمراد بالاستمتاع المذكور في الآية نكاح المتعة بلا شك فإن الآية مدنية نازلة

[ 272 ]

في سورة النساء في النصف الاول من عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة على ما يشهد به معظم آياتها وهذا النكاح أعني نكاح المتعة كانت دائرة بينهم معمولة عندهم في هذه البرهة من الزمان من غير شك وقد أطبقت الاخبار على تسلم ذلك سواء كان الاسلام هو المشرع لذلك أو لم يكن فأصل وجوده بينهم بمرئى من النبي ومسمع منه لا شك فيه وكان اسمه هذا الاسم ولا يعبر عنه إلا بهذا اللفظ فلا مناص من كون قوله فما استمتعتم به منهن محمولا عليه مفهوما منه هذا المعنى كما أن سائر السنن والعادات والرسوم الدائرة بينهم في عهد النزول بأسمائها المعروفة المعهودة كلما نزلت آية متعرضة لحكم متعلق بشئ من تلك الاسماء بإمضاء أو رد أو امر أو نهي لم يكن بد من حمل الاسماء الواردة فيها على معانيها المسماة بها من غير أن تحمل على معانيها اللغوية الاصلية. وذلك كالحج والبيع والربا والربح والغنيمة وسائر ما هو من هذا القبيل فلم يمكن لاحد أن يدعي أن المراد بحج البيت قصده وهكذاو كذلك ما أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الموضوعات الشرعية ثم شاع الاستعمال حتى عرفت بأساميها الشرعية كالصلاة والصوم والزكاة وحج التمتع وغير ذلك لا مجال بعد تحقق التسمية لحمل ألفاظها الواقعة في القرآن الكريم على معانيها اللغوية الاصلية بعد تحقق الحقيقة الشرعية أو المتشرعية فيها. فمن المتعين أن يحمل الاستمتاع المذكور في الآية على نكاح المتعة لدورانه بهذا الاسم عندهم يوم نزول الآية سواء قلنا بنسخ نكاح المتعة بعد ذلك بكتاب أو سنة أو لم نقل فإنما هو أمر آخر. وجملة الامر أن المفهوم من الآية حكم نكاح المتعة وهو المنقول عن القدماء من مفسري الصحابة والتابعين كابن عباس وابن مسعود وابي بن كعب وقتادة ومجاهد والسدي وابن جبير والحسن وغيرهم وهو مذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام. ومنه يظهر فساد ما ذكره بعضهم في تفسير الآية أن المراد بالاستمتاع هو النكاح فإن إيجاد علقة النكاح طلب للتمتع منها هذا وربما ذكر بعضهم أن السين والتاء في استمتعتم للتأكيد والمعنى تمتعتم.

[ 273 ]

وذلك لان تداول نكاح المتعة بهذا الاسم ومعروفيته بينهم لا يدع مجالا لخطور هذا المعنى اللغوي بذهن المستمعين. على أن هذا المعنى على تقدير صحته وانطباق معنى الطلب على المورد أو كون استمتعتم بمعنى تمتعتم لا يلائم الجزاء المترتب عليه أعني قوله فآتوهن اجورهن فإن المهر يجب بمجرد العقد ولا يتوقف على نفس التمتع ولا على طلب التمتع الصادق على الخطبة وإجراء العقد والملاعبة والمباشرة وغير ذلك بل يجب نصفه بالعقد ونصفه الآخر بالدخول. على أن الآيات النازلة قبل هذه الآية قد استوفت بيان وجوب إيتاء المهر على جميع تقاديره فلا وجه لتكرار بيان الوجوب وذلك كقوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة الآية: النساء - 4 وقوله تعالى وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا الآيتان: النساء - 20 وقوله تعالى لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره إلى أن قال وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم الآيتان: البقرة - 237. وما احتمله بعضهم أن الآية أعني قوله فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن فريضة مسوقة للتأكيد يرد عليه أن سياق ما نقل من الآيات وخاصة سياق ذيل قوله وإن أردتم استبدال الآيتين أشد وآكد لحنا من هذه الآية فلا وجه لكون هذه مؤكدة لتلك. وأما النسخ فقد قيل إن الآية منسوخة بآية المؤمنون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فاولئك هم العادون: المؤمنون - 7 وقيل منسوخة بآية العدة يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن: الطلاق - 1 والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء الآية: البقرة - 228 حيث إن انفصال الزوجين إنما هو بطلاق وعدة وليسا في نكاح المتعة وقيل منسوخة بآيات الميراث ولكم نصف ما ترك أزواجكم

[ 274 ]

الآية: النساء - 12 حيث لا إرث في نكاح المتعة وقيل منسوخة بآية التحريم حرمت عليكم امهاتكم وبناتكم الآية فإنها في النكاح وقيل منسوخة بآية العدد فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع الآية: النساء - 3 وقيل منسوخة بالسنة نسخها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام خيبر وقيل عام الفتح وقيل في حجه الوداع وقيل ابيحت متعة النساء ثم حرمت مرتين أو ثلاثا وآخر ما وقع واستقر عليه من الحكم الحرمة. أما النسخ بآية المؤمنون ففيه أنها لا تصلح للنسخ فإنها مكية وآية المتعة مدنية ولا تصلح المكية لنسخ المدنية على أن عدم كون المتعة نكاحا والمتمتع بها زوجة ممنوع وناهيك في ذلك ما وقع في الاخبار النبوية وفي كلمات السلف من الصحابة والتابعين من تسميتها نكاحا والاشكال عليه بلزوم التوارث والطلاق وغير ذلك سيأتي الجواب عنه. وأما النسخ بسائر الآيات كآية الميراث وآية الطلاق وآية العدد ففيه أن النسبة بينها وبين آية المتعة ليست نسبة الناسخ والمنسوخ بل نسبة العام والمخصص أو المطلق والمقيد فإن آية الميراث مثلا يعم الازواج جميعا من كل دائم ومنقطع والسنة تخصصها بإخراج بعض أفرادها وهو المنقطع من تحت عمومها وكذلك القول في آية الطلاق وآية العدد وهو ظاهر ولعل القول بالنسخ ناش من عدم التمييز بين النسبتين. نعم ذهب بعض الاصوليين فيما إذا ورد خاص ثم عقبه عام يخالفه في الاثبات والنفي إلى أن العام ناسخ للخاص لكن هذا مع ضعفه على ما بين في محله غير منطبق على مورد الكلام وذلك لوقوع آيات الطلاق وهي العام في سورة البقرة وهي أول سورة مدنية نزلت قبل سورة النساء المشتملة على آية المتعة وكذلك آية العدد واقعة في سورة النساء متقدمة على آية المتعة وكذلك آية الميراث واقعة قبل آية المتعة في سياق واحد متصل في سورة واحدة فالخاص أعني آية المتعة متأخر عن العام على أي حال. وأما النسخ بآية العدة فبطلانه أوضح فإن حكم العدة جار في المنقطعة كالدائمة وإن اختلفتا مدة فيؤول إلى التخصيص أيضا دون النسخ. وأما النسخ بآية التحريم فهو من أعجب ما قيل في هذا المقام أما اولا فلان مجموع

[ 275 ]

الكلام الدال على التحريم والدال على حكم نكاح المتعة كلام واحد مسرود متسق الاجزاء متصل الابعاض فكيف يمكن تصور تقدم ما يدل على المتعة ثم نسخ ما في صدر الكلام لذيله ؟ وأما ثانيا فلان الآية غير صريحة ولا ظاهرة في النهي عن الزوجية غير الدائمة بوجه من الوجوه وإنما هي في مقام بيان أصناف النساء المحرمة على الرجال ثم بيان جواز نيل غيرها بنكاح أو بملك يمين ونكاح المتعة نكاح على ما تقدم فلا نسبة بين الامرين بالمباينة حتى يؤول إلى النسخ. نعم ربما قيل إن قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين حيث قيد حلية النساء بالمهر وبالاحصان من غير سفاح ولا إحصان في النكاح المنقطع ولذلك لا يرجم الرجل المتمتع إذا زنا لعدم كونه محصنا يدفع كون المتعة مرادة بالآية. لكن يرد عليه ما تقدم أن المراد بالاحصان في قوله محصنين غير مسافحين هو إحصان العفة دون إحصان التزوج لكون الكلام بعينه شاملا لملك اليمين كشموله النكاح ولو سلم أن المراد بالاحصان هو إحصان التزوج عاد الامر إلى تخصيص الرجم في زنا المحصن بزنا المتمتع المحصن بحسب السنة دون الكتاب فإن حكم الرجم غير مذكور في الكتاب من أصله. وأما النسخ بالسنة ففيه مضافا إلى بطلان هذا القسم من النسخ من أصله لكونه مخالفا للاخبار المتواترة الآمرة بعرض الاخبار على الكتاب وطرح ما خالفه والرجوع إلى الكتاب ما سيأتي في البحث الروائي. قوله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات الطول الغنى والزيادة في القدرة وكلا المعنيين يلائمان الآية والمراد بالمحصنات الحرائر بقرينه مقابلته بالفتيات وهذا بعينه يشهد على أن ليس المراد بها العفائف وإلا لم تقابل بالفتيات بل بها وبغير العفائف وليس المراد بها ذوات الازواج إذ لا يقع عليها العقد ولا المسلمات وإلا لاستغنى عن التقييد بالمؤمنات. والمراد بقوله فمما ملكت أيمانكم ما ملكته أيمان المؤمنين غير من يريد الازدواج والا فتزوج الانسان بملك يمين نفسه باطل غير مشروع وقد نسب ملك

[ 276 ]

اليمين إلى المؤمنين وفيهم المريد للتزوج بعد الجميع واحدا غير مختلف لاتحادهم في الدين واتحاد مصالحهم ومنافعهم كأنهم شخص واحد. وفي تقييد المحصنات وكذا الفتيات بالمؤمنات إشارة إلى عدم جواز تزوج غير المؤمنات من كتابية ومشركة ولهذا الكلام تتمة ستمر بك إن شاء الله العزيز في أوائل سورة المائدة. ومحصل معنى الآية أن من لم يقدر منكم على أن ينكح الحرائر المؤمنات لعدم قدرته على تحمل أثقال المهر والنفقة فله أن ينكح من الفتيات المؤمنات من غير ان يتحرج من فقدان القدرة على الحرائر ويعرض نفسه على خطرات الفحشاء ومعترض الشقاء. فالمراد بهذا النكاح هو النكاح الدائم والآية في سياق التنزل أي إن لم يمكنكم كذا فيمكنكم كذا وإنما قصر الكلام في صورة التنزل على بعض أفراد المنزل عنه أعني على النكاح الدائم الذي هو بعض أفراد النكاح الجائز لكون النكاح الدائم هو المتعارف المتعين بالطبع في نظر الانسان المريد تأسيس البيت وإيجاد النسل وتخليف الولد ونكاح المتعة تسهيل ديني خفف الله به عن عباده لمصلحة سد طريق الفحشاء وقطع منابت الفساد. وسوق الكلام على الجهة الغالبة أو المعروفة السابقة إلى الذهن وخاصة في مقام تشريع الاحكام والقوانين كثير شائع في القرآن الكريم كقوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر: البقرة - 185 مع أن العذر لا ينحصر في المرض والسفر وقوله تعالى وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا: النساء - 43 والاعذار وقيود الكلام كما ترى مبنية على الغالب المعروف إلى غير ذلك من الآيات. هذا على ما ذكروه من حمل الآية على النكاح الدائم ولا يوجب ذلك من حيث اشتماله على معنى التنزل والتوسعة اختصاص الآية السابقة بالنكاح الدائم وكون قوله فما استمتعتم به منهن غير مسوق لبيان حكم نكاح المتعة كما توهمه بعضهم لان هذا التنزل والتوسعة واقع بطرفيه (المنزل عنه والمنزل إليه) في نفس هذه الآية أعني قوله:

[ 277 ]

فمن لم يجد منكم طولا الخ. على أن الآية بلفظها لا تأبى عن الحمل على مطلق النكاح الشامل للدائم والمنقطع كما سيتضح بالكلام على بقية فقراتها. قوله تعالى والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض لما كان الايمان المأخوذ في متعلق الحكم أمرا قلبيا لا سبيل إلى العلم بحقيقته بحسب الاسباب وربما أوهم تعليقا بالمتعذر أو المتعسر وأوجب تحرج المكلفين منه بين تعالى أنه هو العالم بإيمان عباده المؤمنين وهو كناية عن أنهم إنما كلفوا الجرى على الاسباب الظاهرية الدالة على الايمان كالشهادتين والدخول في جماعة المسلمين والاتيان بالوظائف العامة الدينية فظاهر الايمان هو الملاك دون باطنه. وفي هداية هؤلاء المكلفين غير المستطيعين إلى الازدواج بالاماء نقص وقصور آخر في الوقوع موقع التأثير والقبول وهو أن عامة الناس يرون لطبقة المملوكين من العبيد والاماء هوانا في الامر وخسة في الشأن ونوع ذلة وانكسار فيوجب ذلك انقباضهم وجماح نفوسهم من الاختلاط بهم والمعاشرة معهم وخاصة بالازدواج الذى هو اشتراك حيوى وامتزاج باللحم والدم. فأشار سبحانه بقوله بعضكم من بعض إلى حقيقة صريحة يندفع بالتأمل فيها هذا التوهم الفاسد فالرقيق إنسان كما أن الحر إنسان لا يتميزان في ما به يصير الانسان واجدا لشؤون الانسانية وإنما يفترقان بسلسلة من أحكام موضوعة يستقيم بها المجتمع الانساني في إنتاجه سعادة الناس ولا عبرة بهذه التميزات عند الله والذى به العبرة هو التقوى الذى به الكرامة عند الله فلا ينبغى للمؤمنين أن ينفعلوا عن أمثال هذه الخطرات الوهمية التى تبعدهم عن حقائق المعارف المتضمنة سعادتهم وفلاحهم فإن الخروج عن مستوى الطريق المستقيم وإن كان حقيرا في بادى أمره لكنه لا يزال يبعد الانسان من صراط الهداية حتى يورده أودية الهلكة. ومن هنا يظهر أن الترتيب الواقع في صدر الآية في صورة الاشتراط والتنزل أعنى قوله ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم إنما هو جرى في الكلام على مجرى الطبع والعادة وليس إلزاما للمؤمنين

[ 278 ]

على الترتيب بمعنى أن يتوقف جواز نكاح الامة على فقدان الاستطاعة على نكاح الحرة بل لكون الناس بحسب طباعهم سالكين هذا المسلك خاطبهم أن لو لم يقدروا على نكاح الحرائر فلهم أن يقدموا على نكاح الفتيات من غير انقباض ونبه مع ذلك على أن الحر والرق من نوع واحد بعض أفراده يرجع إلى بعض. ومن هنا يظهر أيضا فساد ما ذكره بعضهم في قوله تعالى في ذيل الآية وأن تصبروا خير لكم أن المعنى وصبركم عن نكاح الاماء مع العفة خير لكم من نكاحهن لما فيه من الذل والمهانة والابتذال هذا فإن قوله بعضكم من بعض ينافى ذلك قطعا. قوله تعالى فانكحوهن بإذن أهلهن إلى قوله أخدان المراد بالمحصنات العفائف فإن ذوات البعولة لا يقع عليهن نكاح والمراد بالمسافحات ما يقابل متخذات الاخدان والاخدان جمع خدن بكسر الخاء وهو الصديق يستوى فيه المذكر والمؤنث والمفرد والجمع وإنما اتى به بصيغة الجمع للدلالة على الكثرة نصا فمن يأخذ صديقا للفحشاء لا يقنع بالواحد والاثنين فيه لان النفس لا تقف على حد إذا اطيعت فيما تهواه. وبالنظر إلى هذه المقابلة قال من قال إن المراد بالسفاح الزنا جهرا وباتخاذ الخدن الزنا سرا وقد كان اتخاذ الخدن متداولا عند العرب حتى عند الاحرار والحرائر لا يعاب به مع ذمهم زنا العلن لغير الاماء. فقوله فانكحوهن بإذن أهلهن إرشاد إلى نكاح الفتيات مشروطا بأن يكون بإذن مواليهن فإن زمام أمرهن إنما هو بيد الموالى لا غير وإنما عبر عنهم بقوله أهلهن جريا على ما يقتضيه قوله قبل بعضكم من بعض فالفتاة واحدة من أهل بيت مولاها ومولاها أهلها. والمراد بإتيانهن اجورهن بالمعروف توفيتهن مهور نكاحهن وإتيان الاجور إياهن إعطاؤها مواليهن وقد أرشد إلى الاعطاء بالمعروف عن غير بخس ومماطلة وإيذاء. قوله تعالى فإذا احصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب قرئ احصن بضم الهمزة بالبناء للمفعول وبفتح الهمزة بالبناء للفاعل وهو الارجح. الاحصان في الآية إن كان هو إحصان الازدواج كان أخذه في الشرط المجرد

[ 279 ]

كون مورد لكلام في ما تقدم ازدواجهن وذلك أن الامة تعذب نصف عذاب الحرة إذا زنت سواء كانت محصنة بالازدواج أو لا من غير أن يؤثر الاحصان فيها شيئا زائدا. وأما إذا كان إحصان الاسلام كما قيل ويؤيده قراءة فتح الهمزة تم المعنى من غير مؤونة زائدة وكان عليهن إذا زنين نصف عذاب الحرائر سواء كن ذوات بعولة أو لا والمراد بالعذاب هو الجلد دون الرجم لان الرجم لا يقبل الانتصاف وهو الشاهد على أن المراد بالمحصنات الحرائر غير ذوات الازواج المذكورة في صدر الآية واللام للعهد فمعنى الآية بالجملة أن الفتيات المؤمنات إذا أتين بفاحشة وهو الزنا فعليهن نصف حد المحصنات غير ذوات الازواج وهو جلد خمسين سوطا. ومن الممكن أن يكون المراد بالاحصان إحصان العفة وتقريره أن الجوارى يومئذ لم يكن لهن الاشتغال بكل ما تهواه أنفسهن من الاعمال بما لهن من اتباع أوامر مواليهن وخاصة في الفاحشة والفجور وكانت الفاحشة فيهن لو اتفقت بأمر من مواليهن في سبيل الاستغلال بهن والاستدرار من عرضهن كما يشعر به النهى الوارد في قوله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا: النور - 33 فالتماسهن الفجور واشتغالهن بالفحشاء باتخاذها عادة ومكسبا كان فيما كان بأمر مواليهن من دون أن يسع لهن الاستنكاف والتمرد وإذا لم يكرههن الموالى على الفجور فالمؤمنات منهن على ظاهر تقوى الاسلام وعفة الايمان وحينئذ إن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب وهو قوله تعالى فإذا احصن فإن أتين بفاحشة الخ. ومن هنا يظهر أن لا مفهوم لهذه الشرطية على هذا المعنى وذلك أنهن إذا لم يحصن ولم يعففن كن مكرهات من قبل مواليهن مؤتمرات لامرهم كما لا مفهوم لقوله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا: النور - 33 حيث إنهن إن لم يردن التحصن لم يكن موضوع لاكراههن من قبل الموالى لرضاهن بذلك فافهم.

[ 280 ]

قوله تعالى ذلك لمن خشى العنت منكم العنت الجهد والشدة والهلاك وكأن المراد به الزنا الذى هو نتيجة وقوع الانسان في مشقة الشبق وجهد شهوة النكاح وفيه هلاك الانسان والاشارة على ما قيل إلى نكاح الجوارى المذكور في الآية وعليه فمعنى قوله وأن تصبروا خير لكم أن تصبروا عن نكاح الاماء أو عن الزنا خير لكم ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى وجوب نكاح الاماء أو وجوب مطلق النكاح لو استفيد شئ منهما من سابق سياق الآية والله أعلم. وكيف كان فكون الصبر خيرا إن كان المراد هو الصبر عن نكاح الاماء إنما هو لما فيه من حقوق مواليهن وفي أولادهن على ما فصل في الفقه وإن كان المراد الصبر عن الزنا إنما هو لما في الصبر من تهذيب النفس وتهيئة ملكة التقوى فيها بترك اتباع هواها في الزنا من غير ازدواج أو معه والله غفور رحيم يمحو بمغفرته آثار خطرات السوء عن نفوس المتقين من عباده ويرحمهم برحمته. قوله تعالى يريد الله ليبين لكم إلى آخر الآية بيان وإشارة إلى غاية تشريع ما سبق من الاحكام في الآيات الثلاث والمصالح التى تترتب عليها إذا عمل بها فقوله يريد الله ليبين لكم أي أحكام دينه مما فيه صلاح دنياكم وعقباكم وما في ذلك من المعارف والحكم وعلى هذا فمعمول قوله يبين محذوف للدلالة على فخامة أمره وعظم شأنه ويمكن أن يكون قوله يبين لكم وقوله ويهديكم متنازعين في قوله سنن الذين. قوله تعالى ويهديكم سنن الذين من قبلكم أي طرق حياة السابقين من الانبياء والامم الصالحة الجارين في الحياة الدنيا على مرضاة الله الحائزين به سعادة الدنيا والآخرة والمراد بسننهم على هذا المعنى سننهم في الجملة لا سننهم بتفاصيلها وجميع خصوصياتها فلا يرد عليه أن من احكامهم ما تنسخه هذه الآيات بعينها كازدواج الاخوة بالاخوات في سنة آدم والجمع بين الاختين في سنة يعقوب عليه السلام وقد جمع عليه السلام بين الاختين ليا ام يهودا وراحيل ام يوسف على ما في بعض الاخبار هذا. وهنا معنى آخر قيل به وهو أن المراد الهداية إلى سنن جميع السابقين سواء كانوا على الحق أو على الباطل يعني أنا بينا لكم جميع السنن السابقة من حق وباطل لتكونوا على بصيرة فتأخذوا بالحق منها وتدعوا الباطل.

[ 281 ]

وهذا معنى لا بأس به غير أن الهداية في القرآن غير مستعمل في هذا المعنى وإنما استعمل فيما استعمل في الايصال إلى الحق أو إرادة الحق كقوله إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء: القصص - 56 وقوله إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا: الانسان - 3 والاوفق بمذاق القرآن أن يعبر عن أمثال هذه المعاني بلفظ التبيين والقصص ونحو ذلك. نعم لو جعل قوله يبين وقوله ويهديكم متنازعين في قوله سنن الذين من قبلكم وقوله ويتوب عليكم أيضا راجعا إليه وآل المعنى إلى أن الله يبين لكم سنن الذين من قبلكم ويهديكم إلى الحق منها ويتوب عليكم فيما ابتليتم به من باطلها كان له وجه فإن الآيات السابقة فيها ذكر من سنن السابقين والحق والباطل منها والتوبة على ما قد سلف من السنن الباطلة. قوله تعالى ويتوب عليكم والله عليم حكيم التوبة المذكورة هو رجوعه إلى عبده بالنعمة والرحمة وتشريع الشريعة وبيان الحقيقة والهداية إلى طريق الاستقامة كل ذلك توبة منه سبحانه كما أن قبول توبة العبد ورفع آثار المعصية توبة. وتذييل الكلام بقوله والله عليم حكيم ليكون راجعا إلى جميع فقرات الآية ولو كان المراد رجوعه إلى آخر الفقرات لكان الانسب ظاهرا أن يقال والله غفور رحيم. قوله تعالى والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين الخ كأن تكرار ذكر توبته للمؤمنين للدلالة على أن قوله ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما إنما يقابل من الفقرات الثلاث في الآية السابقة الفقرة الاخيرة فقط إذ لو ضم قوله ويريد الذين الخ إلى الآية السابقة من غير تكرار قوله والله يريد الخ أفاد المقابلة في معنى جميع الفقرات ولغى المعنى قطعا. والمراد بالميل العظيم هتك هذه الحدود الالهية المذكورة في الآيات بإتيان المحارم وإلغاء تأثير الانساب والاسباب واستباحة الزنا والمنع عن الاذأ بما سنه الله من السنة القويمة. قوله تعالى يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا كون الانسان

[ 282 ]

ضعيفا لما ركب الله فيه القوى الشهوية التي لا تزال تنازعه في ما تتعلق به من المشتهيات وتبعثه إلى غشيانها فمن الله عليهم بتشريع حلية ما تنكسر به سورة شهوتهم بتجويز النكاح بما يرتفع به غائلة الحرج حيث قال واحل لكم ما وراء ذلكم وهو النكاح وملك اليمين فهداهم بذلك سنن الذين من قبلهم وزادهم تخفيفا منه لهم لتشريع نكاح المتعة إذ ليس معه كلفة النكاح وما يستتبعه من أثقال الوظائف من صداق ونفقة وغير ذلك. وربما قيل إن المراد به إباحة نكاح الاماء عند الضرورة تخفيفا وفيه أن نكاح الاماء عند الضرورة كان معمولا به بينهم قبل الاسلام على كراهة وذم والذي ابتدعته هذه الآيات هو التسبب إلى نفى هذه الكراهة والنفرة ببيان أن الامة كالحرة إنسان لا تفاوت بينهما وأن الرقية لا توجب سقوط صاحبها عن لياقة المصاحبة والمعاشرة. وظاهر الآيات بما لا ينكر أن الخطاب فيها متوجه إلى المؤمنين من هذه الامة فالتخفيف المذكور في الآية تخفيف على هذه الامة والمراد به ما ذكرناه. وعلى هذا فتعليل التخفيف بقوله وخلق الانسان ضعيفا مع كونه وصفا مشتركا بين جميع الامم هذه الامة والذين من قبلهم وكون التخفيف مخصوصا بهذه الامة إنما هو من قبيل ذكر المقتضى العام والسكوت عما يتم به في تأثيره فكأنه قيل إنا خففنا عنكم لكون الضعف العام في نوع الانسان سببا مقتضيا للتخفيف لو لا المانع لكن لم تزل الموانع تمنع عن فعلية التخفيف وانبساط الرحمة في سائر الامم حتى وصلت النوبة اليكم فعمتكم الرحمة وظهرت فيكم آثاره فبرز حكم السبب المذكور وشرع فيكم حكم التخفيف وقد حرمت الامم السابقة من ذلك كما يدل عليه قوله ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا: البقرة - 286 وقوله هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج: الحج - 78. ومن هنا يظهر أن النكتة في هذا التعليل العام بيان ظهور تمام النعم الانسانية في هذه الامة

[ 283 ]

= بحث روائي = عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: الرضاع لحمة كلحمة النسب وفي الدر المنثور أخرج مالك و عبد الرزاق عن عائشة قالت ": كان فيما انزل من القرآن عشر رضعات معلومات - فنسخن بخمس معلومات - فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن أقول وروى فيه عنها ما يقرب منه بطرق اخرى وهى من روايات التحريف مطروحة بمخالفة الكتاب. وفيه أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه من طريقين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا نكح الرجل المرأة - فلا يحل له أن يتزوج امها دخل بالابنة أو لم يدخل - وإذا تزوج الام فلم يدخل بها - ثم طلقها فإن شاء تزوج الابنة أقول وهذا المعنى مروى من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وهو مذهبهم وهو المستفاد من الكتاب كما مر في البيان المتقدم وقد روى من طرق أهل السنة عن علي عليه السلام: أن ام الزوجة لا بأس بنكاحها قبل الدخول بالبنت - وأنها بمنزلة الربيبة - وأن الربيبة إذا لم تكن في حجر زوج امها - لم تحرم عليه نكاحها وهذه امور يدفعها المروي عنهم عليهم السلام من طرق الشيعة. وفي الكافي بإسناده عن منصور بن حازم قال: كنت عند أبى عبد الله عليه السلام - فأتاه رجل فسأله عن رجل تزوج امرأة - فماتت قبل أن يدخل بها أ يتزوج بامها - فقال أبو عبد الله عليه السلام قد فعله رجل منا فلم ير به بأسا - فقلت جعلت فداك ما تفتخر الشيعة إلا بقضاء علي عليه السلام - في هذا في المشيخة (1) التي أفتاه ابن مسعود أنه لا بأس به بذلك


(1) لعل الصحيح: الشمخي لما في بعض أخبار أهل السنة أنه كان رجلا من بني شمخ أو الصحيح في الشمخية التي أفتى ابن مسعود.

[ 284 ]

ثم أتى عليا عليه السلام فسأله فقال له على عليه السلام - من أين يأخذها ؟ (1) فقال من قول الله عز وجل - وربائبكم اللاتى في حجوركم من نسائكم اللاتى دخلتم بهن - فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم - فقال على عليه السلام إن هذه مستثناة وهذه مرسلة - فقال أبو عبد الله عليه السلام للرجل - أما تسمع ما يروى هذا عن على عليه السلام ؟ فلما قمت ندمت وقلت أي شئ صنعت - يقول قد فعله رجل منا ولم ير به بأسا - وأقول أنا قضى على عليه السلام فيها فلقيته بعد ذلك وقلت جعلت فداك مسألة الرجل إنما كان الذى قلت كان زلة مني فما تقول فيها - فقال يا شيخ تخبرني أن عليا عليه السلام قضى فيها - وتسألني ما تقول فيها أقول وقصة قضائه عليه السلام في فتوى ابن مسعود على ما رواه في الدر المنثور عن سنن البيهقي وغيره: أن رجلا من بني شمخ تزوج امرأة ولم يدخل بها - ثم رأى امها فأعجبته - فاستفتي ابن مسعود فأمره أن يفارقها - ثم يتزوج امها ففعل وولدت له أولادا - ثم أتى ابن مسعود المدينة فقيل له لا تصلح - فلما رجع إلى الكوفة قال للرجل إنها عليك حرام ففارقها. لكن لم ينسب القول فيه إلى على عليه السلام بل ذكر أنه سأل عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي لفظ أنه سأل عنه عمر وفي بعض الروايات فاخبر أنه ليس كما قال وأن الشرط في الربائب. وفي الاستبصار بإسناده عن إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه: أن عليا عليه السلام كان يقول - الربائب عليكم حرام مع الامهات اللاتي دخلتم بهن - في الحجور وغير الحجور سواء - والامهات مبهمات دخل بالبنات أم لم يدخل - فحرموا وأبهموا ما أبهم الله أقول وقد عزى إليه عليه السلام في بعض الروايات من طرق أهل السنة اشتراط الحجور في حرمة الربائب لكن الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام تدفعه وهو الموافق لما يستفاد من الآية كما تقدم. والمبهمات من البهمة وهي كون الشئ ذا لون واحد لا يختلط به لون آخر ولا


(1) نسخة الوافي: من أين اخذ بها.

[ 285 ]

يختلف في لونه سمى به من طبقات النساء المحرمة من كانت حرمة نكاحها مرسلة غير مشروطة وهي الامهات والبنات والاخوات والعمات والخالات وبنات الاخ وبنات الاخت وما كان من الرضاعة وامهات النساء وحلائل الابناء. وفيه بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن الرجل تكون له الجارية فيصيب منها - أ له أن ينكح ابنتها قال لا هي كما قال الله تعالى - وربائبكم اللاتى في حجوركم وفي تفسير العياشي عن أبي عون قال سمعت أبا صالح الحنفي قال قال علي عليه السلام ذات يوم: سلوني - فقال ابن الكوا أخبرني عن بنت الاخت من الرضاعة - وعن المملوكتين الاختين فقال إنك لذاهب في التيه سل عما يعنيك أو ينفعك - فقال ابن الكوا إنما نسألك عما لا نعلم - وأما ما نعلم فلا نسألك عنه - ثم قال أما الاختان المملوكتان أحلتهما آية وحرمتهما آية - ولا احله ولا احرمه - ولا أفعله أنا ولا واحد من أهل بيتي وفي التهذيب بإسناده عن معمر بن يحيى بن سالم قال: سألنا أبا جعفر عليه السلام - عما يروى الناس عن أمير المؤمنين عليه السلام عن أشياء - لم يكن يأمر بها ولا ينهى إلا نفسه وولده - فقلت كيف يكون ذلك - قال قد أحلتها آية وحرمتها آية اخرى - فقلنا الاول أن يكون إحديهما نسخت الاخرى - أم هما محكمتان ينبغى أن يعمل بهما - فقال قد بين لهم إذ نهى نفسه وولده - قلنا ما منعه أن يبين ذلك للناس - قال خشى أن لا يطاع - فلو أن أمير المؤمنين ثبتت قدماه أقام كتاب الله كله والحق كله أقول والرواية المنقولة عنه عليه السلام هي التى نقلت عنه عليه السلام من طرق أهل السنة كما رواه في الدر المنثورعن البيهقي وغيره عن على بن أبي طالب قال في الاختين المملوكتين أحلتهما آية وحرمتهما آية ولا آمر ولا أنهى ولا احل ولا احرم ولا أفعله أنا ولا أهل بيتى. وروى فيه أيضا عن قبيصة بن ذؤيب: أن رجلا سأله عليه السلام عن ذلك فقال لو كان إلى من الامر شئ - ثم وجدت أحدا فعل ذلك لجعلته نكالا وفي التهذيب بإسناده عن عبد الله بن سنان قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:

[ 286 ]

إذا كانت عند الانسان الاختان المملوكتان فنكح إحداهما - ثم بدا له في الثانية فليس ينبغى له أن ينكح الاخرى - حتى تخرج الاولى من ملكه يهبها أو يبيعها - فإن وهبها لولده يجزيه وفي الكافي وتفسير العياشي عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قوله عز وجل - والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم - قال هو أن يأمر الرجل عبده وتحته أمته - فيقول له اعتزل امرأتك ولا تقربها - ثم يحبسها عنه حتى تحيض ثم يمسها - فإذا حاضت بعد مسه إياها ردها عليه بغير نكاح وفي تفسير العياشي عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام: في قول الله والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم قال - هن ذوات الازواج إلا ما ملكت أيمانكم - إن كنت زوجت أمتك غلامك نزعتها منه إذا شئت - فقلت أرأيت إن زوج غير غلامه - قال ليس له أن ينزع حتى تباع - فإن باعها صار بضعها في يد غيره فإن شاء المشتري فرق وإن شاء أقر. وفي الدر المنثور أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة عن فيروز الديلمي: أنه أدركه الاسلام وتحته اختان - فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم طلق أيتهما شئت. وفيه أخرج ابن عبد البر في الاستذكار عن أياس بن عامر قال: سألت علي بن أبي طالب فقلت إن لي اختين مما ملكت يميني اتخذت إحديهما سرية وولدت لي أولادا ثم رغبت في الاخرى فما أصنع ؟ قال تعتق التي كنت تطأ ثم تطأ الاخرى. ثم قال إنه يحرم عليك مما ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله من الحرائر إلا العدد أو قال إلا الاربع ويحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب. اقول ورواه بطرق أخر غير هذا الطريق عنه. وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يجمع بين المرأة وعمتها - ولا بين المرأة وخالتها.

[ 287 ]

اقول وهذا المعنى مروي بغير الطريقين من طرق أهل السنة لكن المروي من طرق أئمة أهل البيت خلاف ذلك والكتاب يساعده. وفي الدر المنثور أخرج الطيالسي وعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطحاوي وابن حيان والبيهقي في سننه عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث يوم حنين جيشا إلى أوطاس فلقوا عدوا فقاتلوهم فظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا فكأن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله في ذلك والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم يقول - إلا ما أفاء الله عليكم فاستحللنا بذلك فروجهن. أقول وروي ذلك عن الطبراني عن ابن عباس. وفيه أخرج عبد بن حميد عن عكرمة: أن هذه الآية التي في سورة النساء والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم - نزلت في امرأة يقال لها معاذة وكانت تحت شيخ من بني سدوس - يقال له شجاع بن الحارث وكان معها ضرة لها قد ولدت لشجاع أولادا رجالا - وإن شجاعا انطلق يمير أهله من هجر - فمر بمعاذة ابن عم لها فقالت له - احملني إلى اهلي فإنه ليس عند هذا الشيخ خير فاحتملها فانطلق بها فوافق ذلك جيئة الشيخ - فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال - يا رسول الله وأفضل العرب إني خرجت أبغيها الطعام في رجب - فتولت وألطت بالذنب وهي شر غالب لمن غلب رأت غلاما واركا على قتب لها وله أرب فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي علي فإن كان الرجل كشف بها ثوبا فارجموها - وإلا فردوا إلى الشيخ امرأته - فانطلق مالك بن شجاع وابن ضرتها فطلبها فجاء بها - ونزلت بيتها. اقول وقد مر مرارا أن أمثال هذه الاسباب المروية للنزول وخاصة فيما كانت متعلقة بأبعاض الآيات وأجزائها تطبيقات من الرواة وليست بأسباب حقيقية. في الفقيه سئل الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل والمحصنات من النساء قال هن ذوات الازواج فقيل: والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم - قال هن العفائف.

[ 288 ]

أقول ورواه العياشي أيضا عنه عليه السلام. وفي المجمع في قوله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا أي من لم يجد منكم غنى قال: وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام قال: لا ينبغي أن يتزوج الحر المملوكة اليوم إنما كان ذلك حيث قال الله عز وجل ومن لم يستطع منكم طولا - والطول المهر - ومهر الحرة اليوم مهر الامة أو أقل. اقول الغنى أحد مصاديق الطول كما تقدم والرواية لا تدل على أزيد من الكراهة. وفي التهذيب بإسناده عن أبي العباس البقباق قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: يتزوج الرجل الامة بغير علم أهلها ؟ قال هو زنا - إن الله تعالى يقول فانكحوهن بإذن أهلهن. وفيه بإسناده عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: سألت الرضا عليه السلام يتمتع بالامة بإذن أهلها ؟ قال نعم إن الله عز وجل يقول: فانكحوهن بإذن أهلهن. وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته عن قول الله في الاماء - فإذا أحصن ما إحصانهن قال يدخل بهن - قلت فإن لم يدخل بهن ما عليهن حد ؟ قال بلى. وفيه عن حريز قال: سألته عن المحصن فقال الذي عنده ما يغنيه. وفي الكافي بإسناده عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في العبيد والاماء - إذا زنا أحدهم أن يجلد خمسين جلده - إن كان مسلما أو كافرا أو نصرانيا - ولا يرجم ولا ينفى. وفيه بإسناده عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله عليه السلام: عن عبد مملوك قذف حرا - قال يجلد ثمانين هذا من حقوق الناس - فأما ما كان من حقوق الله عز وجل - فإنه يضرب نصف الحد. قلت الذي من حقوق الله عز وجل ما هو ؟ قال إذا زنا أو شرب خمرا

[ 289 ]

فهذا من الحقوق التي يضرب عليها نصف الحد. وفي التهذيب بإسناده عن بريد العجلي عن أبي جعفر عليه السلام: في الامة تزني قال: تجلد نصف الحد كان لها زوج أو لم يكن. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: المسافحات المعلنات بالزنا المتخذات أخدان ذات الخليل الواحد قال كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا - ويستحلون ما خفي يقولون أما ما ظهر منه فهو لؤم - وأما ما خفي فلا بأس بذلك - فأنزل الله ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. أقول والروايات فيما تقدم من المعاني كثيرة اقتصرنا منها على انموذج يسير. (بحث آخر روائي) في الكافي بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن المتعة - فقال: نزلت في القرآن - فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة. وفيه بإسناده عن ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنما نزلت فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى - فآتوهن اجورهن فريضة. أقول وروى هذه القراءة العياشي عن أبي جعفر عليه السلام ورواها الجمهور بطرق عديدة عن أبي بن كعب وعبد الله بن عباس كما سيأتي ولعل المراد بأمثال هذه الروايات الدلالة على المعنى المراد من الآية دون النزول اللفظي. وفيه بإسناده عن زرارة قال: جاء عبد الله بن عمير الليثى إلى أبي جعفر عليه السلام فقال له: ما تقول في متعة النساء ؟ فقال أحلها الله في كتابه وعلى لسان نبيه - فهي حلال إلى يوم القيامة - فقال يا أبا جعفر مثلك يقول هذا - وقد حرمها عمر ونهى عنها ؟ فقال وإن كان فعل - فقال إني اعيذك بالله من ذلك أن تحل شيئا حرمه عمر. قال فقال له فأنت على قول صاحبك - وأنا على قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،

[ 290 ]

فهلم ألاعنك أن القول ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وان الباطل ما قال صاحبك فأقبل عبد الله بن عمير فقال: أيسرك أن نساءك وبناتك وأخواتك وبنات عمك يفعلن ؟ قال فأعرض عنه أبو جعفر عليه السلام حين ذكر نساءه وبنات عمه. وفيه بإسناده عن أبي مريم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: المتعة نزل بها القرآن وجرت بها السنة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سمعت أبا حنيفة يسأل أبا عبد الله عليه السلام عن المتعة فقال أي المتعتين تسأل - قال سألتك عن متعة الحج فأنبئني عن متعة النساء أحق هي ؟ فقال سبحان الله أما قرأت كتاب الله عز وجل فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن فريضة فقال والله كأنها آية لم أقراها قط. وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنهم غزوا معه فأحل لهم المتعة ولم يحرمها وكان علي يقول - لو لا ما سبقني به ابن الخطاب يعني عمر ما زنى إلا شقي (1) وكان ابن عباس يقول - فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن اجورهن فريضة وهؤلاء يكفرون بها ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحلها ولم يحرمها. وفيه عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه عليه السلام في المتعة قال نزلت هذه الآية - فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة قال: لا بأس بأن تزيدها وتزيدك إذا انقطع الاجل فيما بينكما - يقول استحللتك بأجل آخر برضى منها - ولا تحل لغيرك حتى تنقضي عدتها وعدتها حيضتان. وعن الشيباني في قوله تعالى ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما والسلام أنهما قالا: هو أن يزيدها في الاجرة وتزيده في الاجل.


(1) وفي نسخة: الا الاشقى. (*)

[ 291 ]

أقول والروايات في المعاني السابقة مستفيضة أو متواترة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وإنما أوردنا طرفا منها وعلى من يريد الاطلاع عليها جميعا أن يراجع جوامع الحديث. * وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان متعة النساء في أول الاسلام - كان الرجل يقدم البلدة ليس معه من يصلح له ضيعته - ولا يحفظ متاعه فيتزوج المرأة إلى قدر ما يرى أنه يفرغ من حاجته فتنظر له متاعه وتصلح له ضيعته وكان يقرأ - فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى نسختها محصنين غير مسافحين وكان الاحصان بيد الرجل يمسك متى شاء - ويطلق متى شاء. وفي مستدرك الحاكم بإسناده عن أبي نضرة قال ": قرات على ابن عباس - فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن فريضة - قال ابن عباس فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فقلت ما نقرؤها كذلك فقال ابن عباس - والله لانزلها الله كذلك. أقول ورواه في الدر المنثور عنه وعن عبد بن حميد وابن جرير وابن الانباري في المصاحف. وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال ": في قراءة أبي ابن كعب فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى. وفي صحيح الترمذي عن محمد بن كعب عن ابن عباس قال ": إنما كانت المتعة في أول الاسلام كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه يقيم فيحفظ له متاعه ويصلح له شيئه حتى إذا نزلت الآية - إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم - قال ابن عباس فكل فرج سوى هذين فهو حرام. أقول ولازم الخبر أنها نسخت بمكة لان الآية مكية. وفي مستدرك الحاكم عن عبد الله بن أبي مليكة: سألت عائشة رضي الله عنها عن متعه النساء - فقالت بيني وبينكم كتاب الله قال وقرأت هذه الآية - والذين


(*) أخبار في قراءة: إلى أجل مسمى. (*)

[ 292 ]

هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم - أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين - فمن ابتغى وراء ما زوجه الله أو ملكه فقد عدا. وفي الدر المنثور (1) أخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر والنحاس من طريق عطاء عن ابن عباس في قوله فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن فريضة قال نسختها يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء - واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر. وفيه أخرج اأو داود في ناسخه وابن المنذر والنحاس والبيهقي عن سعيد بن المسيب قال ": نسخت آية الميراث المتعة. وفيه أخرج عبد الرزاق وابن المنذر والبيهقي عن ابن مسعود قال: المتعة منسوخة نسخها الطلاق والصدقة والعدة والميراث. وفيه أخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن علي قال: نسخ رمضان كل صوم - ونسخت الزكاة كل صدقة - ونسخ المتعة الطلاق والعدة والميراث - ونسخت الضحية كل ذبيحة. وفيه أخرج عبد الرزاق وأحمد ومسلم عن سبرة الجهني (2) قال: أذن لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام فتح مكة في متعة النساء - فخرجت أنا ورجل من قومي ولي عليه فضل في الجمال وهو قريب من الدمامة مع كل واحد منا برد - أما بردي فخلق وأما برد ابن عمي فبرد جديد غض حتى إذا كنا بأعلى مكة تلقتنا فتاة مثل البكرة العنطنطة فقلنا هل لك أن يستمتع منك أحدنا ؟ قالت وما تبذلان ؟ فنشر كل واحد منا برده فجعلت تنظر إلى الرجلين - فإذا رآها صاحبي قال إن برد هذا خلق - وبردي جديد غض فتقول وبرد هذا لا بأس به - ثم استمتعت منها - فلم نخرج حتى حرمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه أخرج مالك وعبد الرزاق وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والترمذي


(1) جملة من الاخبار الدالة على نسخ آية المتعة بالكتاب. (2) جملة من الاخبار الدالة على نسخ المتعة بالسنة. (*)

[ 293 ]

والنسائي وابن ماجة عن علي بن أبي طالب: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر - وعن أكل لحوم الحمر الانسية وفيه أخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم عن سلمة بن الاكوع قال رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام - ثم نهى عنها بعدها. وفي شرح ابن العربي لصحيح الترمذي عن إسماعيل عن أبيه عن الزهري: أن سبرة روى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنها في حجة الوداع خرجه أبو داود قال وقد رواه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن الربيع بن سبرة عن أبيه فذكر فيه أنه كان في حجة الوداع بعد الاحلال وأنه كان بأجل معلوم وقد قال الحسن إنها في عمرة القضاء. وفيه عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع المتعة في غزوة تبوك. أقول والروايات كما ترى تختلف في تشخيص زمان نهيه صلى الله عليه وآله وسلم بين قائلة أنه كان قبل الهجرة وقائلة بأنه بعد الهجرة بنزول آيات النكاح والطلاق والعدد والميراث أو بنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عام خيبر أو زمن عمرة القضاء أو عام أوطاس أو عام الفتح أو عام تبوك أو بعد حجة الوداع ولذا حمل على تكرر النهي عنها مرات عديدة وأن كلا من الروايات تحدث عن مرة منها لكن جلالة بعض رواتها كعلي وجابر وابن مسعود مع ملازمتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وخبرتهم بالخطير واليسير من سيرته تأبى أن يخفى عليهم نواهيه صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الدر المنثور أخرج البيهقي عن علي قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المتعة وإنما كانت لمن لم يجد فلما نزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة نسخت. وفيه أخرج النحاس عن علي بن أبي طالب: أنه قال لابن عباس - إنك رجل تائه إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن المتعة. وفيه أخرج البيهقي عن أبي ذر قال ": إنما أحلت لاصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المتعة ثلاثة أيام - ثم نهى عنه رسول الله صلى اللله عليه وآله وسلم. وفي صحيح البخاري عن أبي جمرة قال: سئل ابن عباس عن متعة النساء فرخص فيها - فقال له مولى له إنما كان ذلك وفي النساء قلة والحال شديد - فقال ابن عباس نعم

[ 294 ]

وفي الدر المنثور أخرج البيهقي عن عمر أنه خطب فقال ما بال رجال ينكحون هذه المتعة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عنها لا أوتى بأحد نكحها إلا رجمته. وفيه أخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم عن سبرة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما بين الركن والباب وهو يقول - يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع ألا وإن الله حرمها إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شي فليخل سبيلها - ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا. وفيه أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال: والله ما كانت المتعة إلا ثلاثة أيام أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وآ له وسلم فيها - ما كانت قبل ذلك ولا بعد. * وفي تفسير الطبري عن مجاهد ": فما استمتعتم به منهن قال يعني نكاح المتعة. وفيه عن السدي في الآية قال هذه المتعة الرجل ينكح المرأة بشرط إلى أجل مسمى فإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل وهي منه بريئة وعليها أن تستبرئ ما في رحمها وليس بينهما ميراث ليس يرث واحد منهما صاحبه. وفي صحيحي البخاري ومسلم ورواه في الدر المنثور عن عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال ": كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس معنا نساؤنا - فقلنا ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك - ورخص لنا أن نتزوج المرأة بالثوب إلى أجل ثم قرأ عبد الله يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة عن نافع أن ابن عمر سئل عن المتعة فقال حرام - فقيل له إن ابن عباس يفتي بها قال فهلا ترمرم بها في زمان عمر. وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر والطبراني والبيهقي من طريق سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: ماذا صنعت ؟ ذهب الركاب بفتياك - وقالت فيه الشعراء قال وما قالوا قلت قالوا - أقول للشيخ لما طال مجلسه * * يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس ؟ هل لك في رخصة الاطراف آنسة * * تكون مثواك حتى مصدر الناس ؟


(*) جملة من الاخبار الدالة على قول بعض الصحابة والتابعين عن المفسرين بجواز المتعة. (*)

[ 295 ]

فقال إنا لله وإنا إليه راجعون لا والله ما بهذا أفتيت ولا هذا أردت - ولا أحللتها إلا للمضطر - ولا أحللت منها إلا ما أحل الله من الميتة والدم ولحم الخنزير. وفيه أخرج ابن المنذر من طريق عمار مولى الشريد قال: سألت ابن عباس عن المتعة أسفاح هي أم نكاح ؟ فقال لا سفاح ولا نكاح قلت فما هي ؟ قال هي المتعة كما قال الله - قلت هل لها من عدة ؟ قال عدتها حيضة قلت هل يتوارثان قال لا. وفيه أخرج عبد الرزاق وابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس قال ": يرحم الله عمر ما كانت المتعة إلا رحمة من الله رحم بها امة محمد - ولولا نهيه عنها ما احتاج إلى الزنا إلا شقي - قال وهي التي في سورة النساء - فما استمتعتم به منهن إلى كذا وكذا من الاجل على كذا وكذا - قال وليس بينهما وراثة فإن بدا لهما أن يتراضيا ؟ ؟ بعد الاجل فنعم - وإن تفرقا فنعم وليس بينهما نكاح - وأخبر أنه سمع ابن عباس أنه يراها الآن حلالا. وفي تفسير الطبري ورواه في الدر المنثور عن عبد الرزاق وأبي داود في ناسخه عن الحكم أنه سئل عن هذه الآية أمنسوخة ؟ قال لا - وقال علي لو لا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي. * وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الايام - على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر - حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث أقول ونقل عن جامع الاصول لابن الاثير وزاد المعاد لابن القيم وفتح الباري لابن حجر وكنز العمال. وفي الدر المنثور أخرج مالك وعبد الرزاق عن عروة بن الزبير أن خولة بنت حكيم دخلت على عمر بن الخطاب فقالت إن ربيعة بن امية استمتع بامرأة مولدة فحملت منه - فخرج عمر بن الخطاب يجر رداءه فزعا - فقال هذه المتعة ولو كنت تقدمت فيها لرجمت. أقول ونقل عن الشافعي في كتاب الام والبيهقي في السنن الكبرى.


(*) جملة من الاخبار الدالة على نهى عمر عن المتعة. (*)

[ 296 ]

وعن كنز العمال عن سليمان بن يسار عن ام عبد الله ابنه أبي خيثمة أن رجلا قدم من الشام فنزل عليها - فقال إن العزبة قد اشتدت علي فابغيني امرأة أتمتع معها قالت فدللته على امرأة فشارطها وأشهدوا على ذلك عدولا - فمكث معها ما شاء الله أن يمكث ثم إنه خرج فاخبر عن ذلك عمر بن الخطاب - فارسل إلي فسألني أحق ما حدثت ؟ قلت نعم قال فإذا قدم فآذنيني فلما قدم أخبرته فأرسل إليه فقال ما حملك على الذي فعلته ؟ قال فعلته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم لم ينهنا عنه حتى قبضه الله ثم مع أبي بكر فلم ينهنا عنه حتى قبضه الله - ثم معك فلم تحدث لنا فيه نهيا فقال عمر أما والذي نفسي بيده - لو كنت تقدمت في نهي لرجمتك - بينوا حتى يعرف النكاح من السفاح. وفي صحيح مسلم ومسند أحمد عن عطاء: قدم جابر بن عبد الله معتمرا فجئناه في منزله - فسأله القوم عن أشياء ثم ذكروا المتعة فقال استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر - وفي لفظ أحمد حتى إذا كان في آخر خلافة عمر رضي الله عنه. وعن سنن البيهقي عن نافع عن عبد الله بن عمر ": أنه سئل عن متعة النساء فقال: حرام أما إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو أخذ فيها أحدا لرجمه بالحجارة. وعن مرآة الزمان لابن الجوزي: كان عمر رضي الله عنه يقول - والله لا اوتى برجل أباح المتعة إلا رجمته. وفي بداية المجتهد لابن رشد عن جابر بن عبد الله ": تمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ونصفا من خلافة عمر ثم نهى عنها عمر الناس. وفي الاصابة أخرج ابن الكلبي: أن سلمة بن امية بن خلف الجمحي استمتع من سلمى مولاة حكيم بن امية بن الاوقص الاسلمي فولدت له فجحد ولدها - فبلغ ذلك عمر فنهى المتعة. وعن زاد المعاد عن أيوب ": قال عروة لابن عباس ألا تتقي الله ترخص في المتعة ؟ فقال ابن عباس سل امك يا عرية فقال عروة أما أبو بكر وعمر فلم يفعلا - فقال ابن عباس - والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله - نحدثكم عن النبي صلى الله عليه وسلم وتحدثونا عن أبي بكر وعمر.

[ 297 ]

اقول وام عروة أسماء بنت أبي بكر تمتع منها الزبير بن العوام فولدت له عبد الله بن الزبير وعروة. وفي المحاضرات للراغب ": عير عبد الله بن الزبير عبد الله بن عباس بتحليله المتعة فقال له سل امك كيف سطعت المجامر بينها وبين أبيك ؟ فسألها فقالت ما ولدتك إلا في المتعة. وفي صحيح مسلم عن مسلم القري قال ": سألت ابن عباس عن المتعة فرخص فيها وكان ابن الزبير ينهى عنها فقال هذه ام ابن الزبير تحدث أن رسول الله رخص فيها - فادخلوا عليها فاسألوها - قال فدخلنا عليها فإذا امرأة ضخمة عمياء فقالت قد رخص رسول الله فيها. اقول وشاهد الحال المحكي يشهد أن السؤال عنها كان في متعة النساء وتفسره الروايات الاخر أيضا. وفي صحيح مسلم عن أبي نضرة قال كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه آت فقال ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين فقال جابر فعلناهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما. اقول ورواه البيهقي في السنن على ما نقل وروي هذا المعنى في صحيح مسلم في مواضع ثلاث بألفاظ مختلفة وفي بعضها قال جابر: فلما قام عمر قال - إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء - فأتموا الحج والعمرة كما أمر الله وانتهوا عن نكاح هذه النساء لا اوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته. وروى هذا المعنى البيهقي في سننه وفي أحكام القرآن للجصاص وفي كنز العمال وفي الدر المنثور وفي تفسير الرازي ومسند الطيالسي. وفي تفسير القرطبي عن عمر: أنه قال في خطبة متعتان كانتا على عهد رسول الله عليه السلام وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما متعة الحج ومتعة النساء. اقول: وخطبته هذه مما تسالم عليه أهل النقل وأرسلوه إرسال المسلمات كما عن تفسير الرازي والبيان والتبيين وزاد المعاد وأحكام القرآن والطبري وابن عساكر وغيرهم.

[ 298 ]

وعن المستبين للطبري عن عمر أنه قال ": ثلاث كن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا محرمهن ومعاقب عليهن متعة الحج ومتعة النساء وحي على خير العمل في الاذان. وفي تاريخ الطبري عن عمران بن سوادة قال ": صليت الصبح مع عمر فقرأ سبحان وسورة معها - ثم انصرف وقمت معه - فقال أحاجة ؟ قلت حاجة قال فالحق قال فلحقت فلما دخل أذن لي فإذا هو على سرير ليس فوقه شئ فقلت نصيحة فقال مرحبا بالناصح غدوا وعشيا - قلت عابت أمتك أربعا - قال فوضع رأس درته في ذقنه - ووضع أسفلها في فخذه ثم قال هات - قلت ذكروا أنك حرمت العمرة في أشهر الحج ولم يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر رضي الله عنه وهي حلال قال هي حلال ؟ لو أنهم اعتمروا في أشهر الحج رأوها مجزية من حجهم فكانت قائبة قوب عامها فقرع حجهم - وهو بهاء من بهاء الله وقد أصبت. قلت وذكروا أنك حرمت متعة النساء - وقد كانت رخصة من الله نستمتع بقبضة ونفارق عن ثلاث قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلها في زمان ضرورة ثم رجع الناس إلى السعة ثم لم أعلم أحدا من المسلمين عمل بها ولا عاد إليها فالآن من شاء نكح بقبضة وفارق عن ثلاث بطلاق وقد أصبت. قال قلت واعتقت الامة إن وضعت ذا بطنها بغير عتاقة سيدها - قال ألحقت حرمة بحرمة وما أردت إلا الخير - واستغفر الله قلت وتشكو منك نهر الرعية وعنف السياق قال فشرع الدرة ثم مسحها حتى أتى على آخرها - ثم قال أنا زميل محمد - وكان زامله في غزوة قرقرة الكدر - فوالله إني لارتع فاشبع وأسقي فاروي - وأنهز اللفوث وأزجر العروض - وأذب قدري وأسوق خطوي وأضم العنود وألحق القطوف - وأكثر الزجر وأقل الضرب وأشهر العصا وأدفع باليد لولا ذلك لاعذرت. قال فبلغ ذلك معاوية فقال كان والله عالما برعيتهم. أقول ونقله ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة عن ابن قتيبة. هذه عدة من الروايات الواردة في أمر متعة النساء والناظر المتأمل الباحث يرى ما فيها من التباين والتضارب ولا يتحصل للباحث في مضامينها غير أن عمر بن

[ 299 ]

الخطاب أيام خلافته حرمها ونهى عنها لرأي رآه في قصص عمرو بن حريث وربيعة ابن امية بن خلف الجمحي وأما حديث النسخ بالكتاب أو السنة فقد عرفت عدم رجوعه إلى محصل على أن بعض الروايات يدفع البعض في جميع مضامينها إلا في أن عمر بن الخطاب هو الناهي عنها المجري للمنع المقرر حرمة العمل وحد الرجم لمن فعل هذا أولا. وأنها كانت سنة معمولا بها في زمن النبي في الجملة بتجويز منه صلى الله عليه وآله وسلم إما إمضاء وإما تأسيسا وقد عمل بها من أصحابه من لا يتوهم في حقه السفاح كجابر بن عبد الله وعبد الله بن مسعود والزبير بن العوام وأسماء بنت أبي بكر وقد ولدت بها عبد الله بن الزبير وهذا ثانيا. وأن في الصحابة والتابعين من كان يرى إباحتها كابن مسعود وجابر وعمرو بن حريث وغيرهم ومجاهد والسدي وسعيد بن جبير وغيرهم وهذا ثالثا. وهذا الاختلاف الفاحش بين الروايات هو المفضي للعلماء من الجمهور بعد الخلاف فيها من حيث أصل الجواز والحرمة أولا إلى الخلاف في نحو حرمتها وكيفية منعها ثانيا وذهابهم فيها إلى أقوال مختلفة عجيبة ربما أنهي إلى خمسة عشر قولا. وإن للمسألة جهات من البحث لا يهمنا إلا الورود من بعضها فهناك بحث كلامي دائر بين الطائفتين أهل السنة والشيعة وبحث آخر فقهي فرعي ينظر فيها إلى حكم المسألة من حيث الجواز والحرمة وبحث آخر تفسيري من حيث النظر في قوله تعالى فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن فريضة الآية هل مفاده تشريع نكاح المتعة ؟ وهل هو بعد الفراغ عن دلالته على ذلك منسوخ بشئ من الآيات كآية المؤمنون أو آيات النكاح والتحريم والطلاق والعدة والميراث ؟ وهل هو منسوخ بسنة نبوية ؟ وهل هو على تقدير تشريعه يشرع حكما ابتدائيا أو حكما إمضائيا إلى غير ذلك. وهذا النحو الثالث من البحث هو الذي نعقبه في هذا الكتاب وقد تقدم خلاصة القول في ذلك فيما تقدم من البيان ونزيده الآن توضيحا بإلفات النظر إلى بعض ما قيل في المقام على دلالة الآية على نكاح المتعة وتسنينها ذلك بما ينافي ما مر في البيان المتقدم.

[ 300 ]

قال بعضهم بعد إصراره على أن الآية إنما سيقت لبيان إيفاء المهر في النكاح الدائم وذهبت الشيعة إلى أن المراد بالآية نكاح المتعة وهو نكاح المرأة إلى أجل معين كيوم أو اسبوع أو شهر مثلا واستدلوا على ذلك بقراءة شاذة رويت عن أبى وابن مسعود وابن عباس رضى الله عنهم وبالاخبار والآثار التى رويت في المتعة قال فأما القراءة فهى شاذة لم تثبت قرآنا وقد تقدم أن ما صحت فيه الرواية من مثل هذا آحادا فالزيادة فيه من قبيل التفسير وهو فهم لصاحبه وفهم الصحابي ليس حجة في الدين لا سيما إذا كان النظم والاسلوب يأباه كما هنا فإن المتمتع بالنكاح الموقت لا يقصد الاحصان دون المسافحة بل يكون قصده الاول المسافحة فإن كان هناك نوع ما من إحصان نفسه ومنعها من التنقل في زمن الزنا فإنه لا يكون فيه شئ ما من إحصان المرأة التى توجر نفسها كل طائفة من الزمن لرجل فتكون كما قيل كرة حذفت بصوالجة * فتلقاها رجل رجل أقول أما قوله إنهم استدلوا على ذلك بقراءة ابن مسعود وغيره فكل مراجع يراجع كلامهم يرى أنهم لم يستدلوا بها استدلالهم بحجة معتبرة قاطعة كيف وهم لا يرون حجية القراءات الشاذة حتى الشواذ المنقولة عن أئمتهم فكيف يمكن أن يستدلوا بما لا يرونه حجة على من لا يراه حجة ؟ فهل هذا إلا اضحوكة ؟ ! بل إنما هو استدلال بقول من قرأ بها من الصحابة بما أنه قول منهم بكون المراد بالآية ذلك سواء كان ذلك منهم قراءة مصطلحة أو تفسيرا دالا على أنهم فهموا من لفظ الآية ذلك. وذلك ينفعهم من جهتين إحديهما أن عدة من الصحابة قالوا بما قال به هؤلاء المستدلون وقد قال به على ما نقل جم غفير من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتابعين ويمكن المراجع في الحصول على صحة ذلك أن يراجع مظانه. والثانية أن الآية دالة على ذلك ويدل على ذلك قراءة هؤلاء من الصحابة كما يدل ما ورد عنهم في نسخ الآية أيضا أنهم تسلموا دلالتها على نكاح المتعة حتى رأوا نسخها أو رووا نسخها وهى روايات كثيرة تقدمت عدة منها فالشيعة يستفيدون من روايات النسخ كما يستفيدون من القراءة الشاذة المذكورة على حد سواء من دون أن

[ 301 ]

يقولوا بحجية القراءة الشاذة كما لا يلزمهم القول بوقوع النسخ وإنما يستفيدون من الجميع من جهة الدلالة على أن هؤلاء القراء والرواة كانوا يرون دلالة الآية على نكاح المتعة. وأما قوله لا سيما إذا كان النظم والاسلوب يأباه كما هنا فكلامه يعطي أنه جعل المراد من المسافحة مجرد سفح الماء وصبه - أخذا بالاصل اللغوي المشتق منه ثم جعله أمرا منوطا بالقصد ولزمه أن الازدواج الموقت بقصد قضاء الشهوة وصب الماء سفاح لا نكاح، وقد غفل عن أن الاصل اللغوي في النكاح أيضا هو الوقاع ففي لسان العرب: قال الازهري أصل النكاح في كلام العرب الوطئ ولازم ما سلكه أن يكون النكاح أيضا سفاحا ويختل به المقابلة بين النكاح والسفاح. على أن لازم القول بأن قصد صب الماء يجعل الازدواج الموقت سفاحا أن يكون النكاح الدائم بقصد قضاء الشهوة وصب الماء سفاحا وهل يرضى رجل مسلم أن يفتي بذلك ؟ فإن قال: بين النكاح الدائم والمؤجل في ذلك فرق فإن النكاح الدائم موضوع بطبعه على قصد الاحصان بالازدواج وإيجاد النسل وتشكيل البيت بخلاف النكاح المؤجل فهذا منه مكابرة فإن جميع ما يترتب على النكاح الدائم من الفوائد كصون النفس عن الزنا والتوقي عن اختلال الانساب وإيجاد النسل والولد وتأسيس البيت يمكن أن يترتب على النكاح المؤجل ويختص بأن فيه نوع تسهيل وتخفيف على هذه الامة يصون به نفسه من لا يقدر على النكاح الدائم لفقره أو لعدم قدرته على نفقة الزوجة أو لغربة أو لعوامل مختلفة اخر تمنعه عن النكاح الدائم. وكذا كل ما يترتب على النكاح المؤجل - مما عده ملاكا للسفاح - كقصد صب الماء وقضاء الشهوة فإنه جائز الترتب على النكاح الدائم ودعوى أن النكاح الدائم بالطبع موضوع للفوائد السابقة ونكاح المتعة موضوع بالطبع لهذه المضار اللاحقة - على أن تكون مضارا - دعوى واضحة الفساد. وإن قال إن نكاح المتعة لما كان سفاحا كان زنا يقابل النكاح رد عليه: بأن السفاح الذي فسره بصب الماء أعم من الزنا وربما شمل النكاح الدائم ولا سيما إذا كان بقصد صب الماء. وأما قوله فإن كان هناك نوع ما من إحصان نفسه الخ فمن عجيب الكلام

[ 302 ]

وليت شعري ما الفرق الفارق بين الرجل والمرأة في ذلك حتى يكون الرجل المتمتع يمكنه أن يحصن نفسه بنكاح المتعة من الزنا وتكون المرأة لا يصح منها هذا القصد وهل هذا إلا مجازفة. وأما ما أنشده من الشعر في بحث حقيقي يتعرض لكشف حقيقة من الحقائق الدينية التي تتفرع عليها آثار هامة حيوية دنيوية واخروية لا يستهان بها سواء كان نكاح المتعة محرما أو مباحا. فماذا ينفع الشعر وهو نسيج خيالي الباطل أعرف عنده من الحق والغواية أمس به من الهداية. وهلا أنشده في ذيل ما مر من الروايات ولا سيما في ذيل قول عمر في رواية الطبري المتقدم فالآن من شاء نكح بقبضة وفارق عن ثلاث بطلاق. وهل لهذا الطعن غرض يتوجه إليه إلا الله ورسوله في أصل تشريع هذا النوع من النكاح تأسيسا أو إمضاء وقد كان دائرا بين المسلمين في أول الاسلام بمرئى من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومسمع بلا شك فإن قال إنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما أذن فيه لقيام الضرورة عليه من شمول الفقر وإكباب الفاقة على عامة المسلمين وعروض الغزوات كما يظهر من بعض الروايات المتقدمة. قلنا مع فرض تداوله في أول الاسلام بين الناس وشهرته باسم نكاح المتعة والاستمتاع لا مناص من الاعتراف بدلالة الآية على جوازه مع إطلاقها وعدم صلاحية شئ من الآيات و الروايات على نسخها فالقول بارتفاع إباحته تأول في دلالة الآية من غير دليل. سلمنا أن إباحته كانت بإذن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمصلحة الضرورة لكنا نسأل أن هذه الضرورة هل كانت في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشد وأعظم منها بعده ولا سيما في زمن الراشدين وقد كان يسير جيوش المسلمين إلى مشارق الارض ومغاربها بالالوف بعد الالوف من الغزاة ؟ وأي فرق بين أوائل خلافة عمر وأواخره من حيث تحول هذه الضرورة من فقر وغزوة واغتراب في الارض وغير ذلك وما هو الفرق بين الضرورة والضرورة. وهل الضرورة المبيحة اليوم وفي جو الاسلام الحاضر أشد وأعظم أو في زمن

[ 303 ]

النبي صلى الله عليه وآله وسلم والنصف الاول من عهد الراشدين وقد أظل الفقر العام على بلاد المسلمين وقد مضت حكومات الاستعمار والدول القاهرة المستعلية والفراعنة من أولياء امور المسلمين كل لبن في ضرعهم وحصدوا الرطب من زرعهم واليابس. وقد ظهرت الشهوات في مظاهرها وازينت بأحسن زينتها وأجملها ودعت إلى اقترافها بأبلغ دعوتها ولا يزال الامر يشتد والبلية تعم البلاد والنفوس وشاعت الفحشاء بين طبقات الشبان من المتعلمين والجنديين وعملة المعامل وهم الذين يكونون المعظم من سواد الانسانية ونفوس المعمورة. ولا يشك شاك ولن يشك في أن الضرورة الموقعة لهم في فحشاء الزنا واللواط وكل انخلاع شهواني عمدتها العجز من تهيئة نفقة البيت والمشاغل المؤقتة المؤجلة المانعة من إتخاذ المنزل والنكاح الدائم بغربة أو خدمة أو دراسة ونحو ذلك فما بال هذه الضرورات تبيح في صدر الاسلام وهي أقل وأهون عند القياس نكاح المتعة لكنها لا تقوم للاباحة في غير ذلك العهد وقد أحاطت البلية وعظمت الفتنة. ثم قال ثم إنه ينافى ما تقرر في القرآن بمعنى هذا كقوله عزو جل في صفة المؤمنين والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فاولئك هم العادون: المؤمنون - 7 أي المتجاوزون ما أحل الله لهم إلى ما حرمه عليهم وهذه الآيات لا تعارض الآية التي نفسرها يعني قوله فما استمتعتم به الآية بل هي بمعناها فلا نسخ والمرأة المتمتع بها ليست زوجة فيكون لها على الرجل مثل الذي عليها بالمعروف كما قال الله تعالى وقد نقل عن الشيعة أنفسهم أنهم لا يعطونها أحكام الزوجة ولوازمها فلا يعدونها من الاربع اللواتي يحل للرجل أن يجمع بينها مع عدم الخوف من الجور بل يجوزون للرجل أن يتمتع بالكثير من النساء ولا يقولون برجم الزاني المتمتع إذ لا يعدونه محصنا وذلك قطع منهم بأنه لا يصدق عليه قوله تعالى في المستمتعين محصنين غير مسافحين وهذا تناقض صريح منهم. ونقل عنهم بعض المفسرين أن المرأة المتمتع بها ليس لها إرث ولا نفقة ولا طلاق ولا عدة والحاصل أن القرآن بعيد من هذا القول ولا دليل في هذه الآية ولا شبه دليل عليه البتة.

[ 304 ]

أقول أما قوله ثم إنه ينافى ما تقرر في القرآن بمعنى هذا الخ محصله أن آيات المؤمنون والذين هم لفروجهم حافظون الآيات تقصر الحل في الازواج والمتمتع بها ليست زوجة فالآيات مانعة من حلية المتعة اولا ومانعة من شمول قوله فما استمتعتم به منهن الآية لها ثانيا. فأما أن الآيات تحرم المتعة فقد أغمض فيه عن كون الآيات مكية والمتعة كانت دائرة بعد الهجرة في الجملة فهل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبيح ما حرمه القرآن بإجازته المتعة وقوله صلى الله عليه وآله وسلم حجة بنص القرآن فيعود ذلك إلى التناقض في نفس القرآن أو أن إباحته كانت ناسخة لآيات الحرمة والذين هم الآيات ثم منع عنها القرآن أو النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحييت بذلك الآيات بعد موتها واستحكمت بعد نسخها وهذا أمر لا يقول به ولا قال به أحد من المسلمين ولا يمكن أن يقال به. وهذا في نفسه نعم الشاهد على أن المتمتع بها زوجة وأن المتعة نكاح وأن هذه الآيات تدل على كون التمتع تزوجا وإلا لزم أن تنتسخ بترخيص النبي صلى الله عليه وآله وسلم فالآيات حجة على جواز التمتع دون حرمته. وبتقرير آخر آيات المؤمنون والمعارج والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم الآيات أقوى دلالة على حلية المتعة من سائر الآيات فمن المتفق عليه بينهم أن هذه الآيات محكمة غير منسوخة وهى مكية ومن الضرورى بحسب النقل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص في المتعة ولو لا كون المتمتع بها زوجة كان الترخيص بالضرورة ناسخا للآيات وهى غير منسوخة فالتمتع زوجية مشرعة فإذا تمت دلالة الآيات على تشريعه فما يدعى من نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها فاسد أيضا لمنافاته الآيات واستلزامه نسخها وقد عرفت أنها غير منسوخة بالاتفاق. وكيف كان فالمتمتع بها على خلاف ما ذكره زوجة والمتعة نكاح وناهيك في ذلك ما وقع فيما نقلناه من الروايات من تسميته في لسان الصحابة والتابعين بنكاح المتعة حتى في لسان عمر بن الخطاب في الروايات المشتملة على نهيه كرواية البيهقى عن عمر في خطبته ورواية مسلم عن أبى نضرة حتى ما وقع من لفظه في رواية كنز العمال عن سليمان بن يسار بينوا حتى يعرف النكاح من السفاح فإن معناه أن المتعة نكاح

[ 305 ]

لا يتبين من السفاح وأنه يجب عليكم أن تبينوه منه فأتوا بنكاح يبين ويتميز منه والدليل على ذلك قوله بينوا. وبالجملة كون المتعة نكاحا وكون المتمتع بها زوجة في عرف القرآن ولسان السلف من الصحابة ومن تلاهم من التابعين مما لا ينبغى الارتياب فيه وإنما تعين اللفظان النكاح والتزويج في النكاح الدائم بعد نهى عمر وانتساخ العمل به بين الناس فلم يبق مورد لصدق اللفظين إلا النكاح الدائم فصار هو المتبادر من اللفظ إلى الذهن كسائر الحقائق المتشرعة. ومن هنا يظهر سقوط ما ذكره بعد ذلك فإن قوله وقد نقل عن الشيعة أنفسهم أنهم لا يعطونها أحكام الزوجة ولوازمها الخ يسأل عنه فيه ما هو المراد بالزوجة أما الزوجة في عرف القرآن فإنهم يعطونها أحكامها من غير استثناء وأما الزوجة في عرف المتشرعة كما ذكر المعروفة في الفقه فإنهم لا يعطونها أحكامها ولا محذور. وأما قوله وذلك قطع منهم بأنه لا يصدق عليه أي على الزانى المتمتع قوله تعالى محصنين غير مسافحين وهذا تناقض صريح منهم ففيه أنا ذكرنا في ذيل الآية فيما تقدم أن ظاهرها من جهة شمولها ملك اليمين أن المراد بالاحصان إحصان التعفف دون الازدواج ولو سلم أن المراد بالاحصان إحصان الازدواج فالآية شاملة لنكاح المتعة وأما عدم رجم الزانى المتمتع مع أن الرجم ليس حكما قرآنيا فإنما هو لبيان أو لتخصيص من السنة كسائر أحكام الزوجية من الميراث والنفقة والطلاق والعدد. وتوضيح ذلك أن آيات الاحكام إن كانت مسوقة على الاهمال لكونها واردة مورد أصل التشريع فما يطرأ عليها من القيود بيانات من غير تخصيص ولا تقييد وإن كانت عمومات أو إطلاقات كانت البيانات الواردة في السنة مخصصات أو مقيدات من غير محذور التناقض والمرجع في ذلك علم اصول الفقه. وهذه الآيات أعنى آيات الارث والطلاق والنفقة كسائر الآيات لا تخلو من التخصيص والتقييد كالارث والطلاق في المرتدة والطلاق عند ظهور العيوب المجوزة

[ 306 ]

لفسخ العقد والنفقة عند النشوز فلتخصص بالمتعة فالبيانات المخرجة للمتعة عن حكم الميراث والطلاق والنفقة مخصصات أو مقيدات وتعين ألفاظ التزويج والنكاح والاحصان ونحو ذلك في الدوام من جهة الحقيقة المتشرعة دون الحقيقة الشرعية فلا محذور أصلا كما نوهمه فإذا قال الفقيه مثلا الزانى المحصن يجب رجمه ولا رجم في الزانى المتمتع لعدم إحصانه فإنما ذلك لكونه يصطلح بالاحصان على دوام النكاح ذي الآثار الكذائية ولا ينافي ذلك كون الاحصان في عرف القرآن موجودا في الدائمة والمنقطعة معا وله في كل منهما آثار خاصة. وأما نقله عن بعضهم أن الشيعة لا تقول في المتعة بالعدة ففرية بينة فهذه جوامع الشيعة وهذه كتبهم الفقهية مملوءة بأن عدة المتمتع بها حيضتان وقد تقدم بعض الروايات في ذلك بطرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ثم قال وأما الاحاديث والآثار المروية في ذلك فمجموعها يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرخص لاصحابه فيها في بعض الغزوات ثم نهاهم عنها ثم رخص فيها مرة أو مرتين ثم نهاهم عنها نهيا مؤبدا. وأن الرخصة كانت للعلم بمشقة اجتناب الزنا مع البعد من نسائهم فكانت من قبيل ارتكاب أخف الضررين فإن الرجل إذا عقد على امرأة خلية نكاحا موقتا وأقام معها ذلك الزمن الذى عينه فذلك أهون من تصديه للزنا بأية امرأة يمكنه أن يستميلها. اقول ما ذكره أن مجموع الروايات تدل على الترخيص في بعض الغزوات ثم النهى ثم الترخيص فيها مرة أو مرتين ثم النهى المؤبد لا ينطبق على ما تقدم من الروايات على ما فيها من التدافع والتطارد فعليك بالرجوع إليها وقد تقدم أكثرها حتى ترى أن مجموعها يكذب ما ذكره من وجه الجمع حرفا حرفا. ثم قال ويرى أهل السنة أن الرخصة في المتعة مرة أو مرتين يقرب من التدريج في منع الزنا منعا باتا كما وقع التدريج في تحريم الخمر وكلتا الفاحشتين كانتا فاشيتين في الجاهلية ولكن فشو الزنا كان في الاماء دون الحرائر. اقول أما قوله إن الرخصة في المتعة نوع من التدرج في منع الزنا فمحصله أن المتعة كانت عندهم من أنواع الزنا وقد كانت كسائر الزنا فاشية في الجاهلية فتدرج

[ 307 ]

النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنع عن الزنا بالرفق ليقع موقع القبول من الناس فمنع عن غير المتعة من أقسامه وأبقى زنا المتعة فرخص فيه ثم منع ثم رخص حتى تمكن من المنع البات فمنعه منعا مؤبدا. ولعمري إنه من فضيح اللعب بالتشريعات الدينية الطاهرة التى لم يرد الله بها إلا تطهير هذه الامة وإتمام النعمة عليهم. ففيه اولا ما تقدم أن نسبة المنع ثم الترخيص ثم المنع ثم الترخيص في المتعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع فرض دلالة آيات سورتي المعارج والمؤمنون والذين هم لفروجهم حافظون الآيات وهى مكية على حرمة المتعة على ما أصر عليه هذا القائل ليس إلا نسبة نسخ الآيات إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالترخيص ثم نسخ هذا النسخ وإحكام الآيات ثم نسخ الآيات ثم إحكامها وهكذا وهل هذا إلا نسبة اللعب بكتاب الله إليه صلى الله عليه وآله وسلم. وثانيا أن الآيات الناهية عن الزنا في كتاب الله تعالى هي قوله في سورة الاسراء ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا: أسرى - 32 وأي لسان أصرح من هذا اللسان والآية مكية واقعة بين آيات المناهى وكذا قوله قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلى أن قال ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن: الانعام - 151 كلمة الفواحش جمع محلى باللام واقعة في سياق النهى مفيدة لاستغراق النهى كل فاحشة وزنا والآية مكية وكذا قوله قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن: الاعراف - 33 والآية أيضا مكية وكذا قوله والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فاولئك هم العادون المؤمنون - 7 المعارج - 31 والسورتان مكيتان والآيات تحرم المتعة على قول هذا القائل كما تحرم سائر أقسام الزنا. فهذه جل الآيات الناهية عن الزنا المحرمة للفاحشة وجميعها مكية صريحة في التحريم فأين ما ذكره من التدرج في التحريم والمنع أو أنه يقول كما هو اللازم الصريح لقوله بدلالة آيات المؤمنون على الحرمة إن الله سبحانه حرمها تحريما باتا ثم النبي صلى الله عليه وآله وسلم تدرج في المنع عملا بالرخصة بعد الرخصة مداهنة لمصلحة الايقاع موقع القبول وقد شدد الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الخلة بعينها قال تعالى وإن كادوا

[ 308 ]

ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لاذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا: أسرى - 75. وثالثا أن هذا الترخيص المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرة بعد مرة إن كان ترخيصا من غير تشريع للحل والفرض كون المتعة زنا وفاحشة كان ذلك مخالفة صريحة منه صلى الله عليه وآله وسلم لربه لو كان من عند نفسه وهو معصوم بعصمة الله تعالى ولو كان من عند ربه كان ذلك أمرا منه تعالى بالفحشاء وقد رده تعالى بصريح قوله خطابا لنبيه قل إن الله لا يأمر بالفحشاء الآية: الاعراف - 28. وإن كان ترخيصا مع تشريع للحل لم تكن زنا وفاحشة فإنها سنة مشروعة محدودة بحدود محكمة لا تجامع الطبقات المحرمة كالنكاح الدائم ومعها فريضة المهر كالنكاح الدائم والعدة المانعة عن اختلاط المياه واختلال الانساب ومعها ضرورة حاجة الناس إليها فما معنى كونها فاحشة وليست الفاحشة إلا العمل المنكر الذي يستقبحه المجتمع لخلاعته من الحدود وإخلاله بالمصلحة العامة ومنعه عن القيام بحاجة المجتمع الضرورية في حياتهم. ورابعا أن القول بكون التمتع من أنواع الزنا الدائرة في الجاهلية اختلاق في التاريخ واصطناع لا يرجع إلى مدرك تاريخي إذ لا عين منه في كتب التاريخ ولا أثر بل هو سنة مبتكرة إسلامية وتسهيل من الله تعالى على هذه الامة لاقامة أودهم ووقايتهم من انتشار الزنا وسائر الفواحش بينهم لو أنهم كانوا وفقوا لاقامة هذه السنة وإذا لم تكن الحكومات الاسلامية تغمض في أمر الزنا وسائر الفواحش هذا الاغماض الذي ألحقها تدريجيا بالسنن القانونية وامتلات بها الدنيا فسادا ووبالا. وأما قوله وكلتا الفاحشتين كانتا فاشيتين في الجاهلية ولكن فشو الزنا كان في الاماء دون الحرائر ظاهره أن مراده بالفاحشتين الزنا وشرب الخمر وهو كذلك إلا أن كون الزنا فاشيا في الاماء دون الحرائر مما لا أصل له يركن إليه فإن الشواهد التاريخية المختلفة المتفرقة تؤيد خلاف ذلك كالاشعار التي قيلت في ذلك وقد تقدم في رواية ابن عباس أن أهل الجاهلية لم تكن ترى بالزنا بأسا إذا لم يكن علنيا.

[ 309 ]

ويدل عليه أيضا مسألة الادعاء والتبني الدائر في الجاهلية فإن الادعاء لم يكن بينهم مجرد تسمية ونسبة بل كان ذلك أمرا دائرا بينهم يبتغي به أقوياؤهم تكثير العدة والقوة بالالحاق ويستندون فيه إلى زنا ارتكبوه مع الحرائر حتى ذوات الازواج منهم وأما الاماء فهم ولا سيما أقوياؤهم يعيبون الاختلاط بهن والمعاشقة والمغازلة معهن وإنما كانت شأن الاماء في ذلك أن مواليهن يقيمونهن ذلك المقام اكتسابا واسترباحا. ومن الدليل على ما ذكرناه ما ورد من قصص الالحاق في السير والآثار كقصة إلحاق معاوية بن أبي سفيان زياد بن أبيه لابيه أبي سفيان وما شهد به شاهد الامر عند ذلك وغيرها من القصص المنقولة نعم ربما يستشهد على عدم فشو الزنا بين الحرائر في الجاهلية بقول هند للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عند البيعة وهل الحرة تزني ؟ لكن الرجوع إلى ديوان حسان والتأمل فيما هجا به هندا بعد وقعتي بدر وأحد يرفع اللبس ويكشف ما هو حقيقة الامر. ثم قال بعد كلام له في تنقيح معنى الاحاديث ورفعه التدافع الواقع بينها على زعمه والعمدة عند أهل السنة في تحريمها وجوه أولها ما علمت من منافاتها لظاهر القرآن في أحكام النكاح والطلاق والعدة إن لم نقل لنصوصه وثانيها الاحاديث المصرحة بتحريمها تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة إلى أن قال وثالثها نهى عمر عنها وإشارته بتحريمها على المنبر وإقرار الصحابة له على ذلك وقد علم أنهم ما كانوا يقرون على منكر وأنهم كانوا يرجعونه إذا أخطأ. ثم اختار أن تحريمه لها لم يكن عن اجتهاد منه وإنما كان استنادا إلى التحريم الثابت بنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما يسند إليه التحريم من جهة أنه مبين للحرمة أو منفذ لها كما يقال حرم الشافعي النبيذ وأحله أبو حنيفة. أقول أما الوجه الاول والثانى فقد عرفت آنفا وفي البيان المتقدم حقيقة القول فيهما بما لا مزيد عليه وأما الوجه الثالث فتحريم عمر لها سواء كان ذلك باجتهاد منه أو باستناده إلى تحريم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما يدعيه هذا القائل وسواء كان سكوت الصحابة عنه هيبة له وخوفا من تهديده أو إقرارا له في تحريمه كما ذكره أو لعدم

[ 310 ]

وقوعه موقع قبول الناس منهم كما يدل عليه الروايات عن على وجابر وابن مسعود وابن عباس فتحريمه وحلفه على رجم مستحلها وفاعلها لا يؤثر في دلالة الآية عليها وعدم انثلام هذه الحلية بكتاب أو سنة فدلالة الآيات وإحكامها مما لا غبار عليه. وقد أغرب بعض الكتاب حيث ذكر أن المتعة سنة جاهلية لم تدخل في الاسلام قط حتى يحتاج إلى إخراجها منه وفي نسخها إلى كتاب أو سنة وما كان يعرفها المسلمون ولا وقعت إلا في كتب الشيعة. أقول وهذا الكلام المبنى على الصفح عما يدل عليه الكتاب والحديث والاجماع والتاريخ يتم به تحول الاقوال في هذه المسألة تحولها العجيب فقد كانت سنة قائمة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم نهى عنها في عهد عمر ونفذ النهى عند عامة الناس ووجه النهى بانتساخ آية الاستمتاع بآيات اخرى أو بنهي النبي عنها وخالف في ذلك عدة من الاصحاب (1) وجم غفير ممن تبعهم من فقهاء الحجاز واليمن وغيرهم حتى مثل ابن جريح من أئمة الحديث وكان يبالغ في التمتع حتى تمتع بسبعين امرأة (2) ومثل مالك أحد أئمة الفقه الاربعة (3) هذا ثم أعرض المتأخرون من أهل التفسير عن دلالة آية الاستمتاع على المتعة وراموا تفسيرها بالنكاح الدائم وذكروا أن المتعة كانت سنة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم نسخت بالحديث ثم راموا في هذه الاواخر أنها كانت من أنواع الزنا في الجاهلية رخص فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخصة بعد رخصة ثم نهى عنها نهيا مؤبدا إلى يوم القيامة ثم ذكر هذا القائل الاخير أنها زنا جاهلي محض لا خبر عنها في الاسلام قط إلا ما وقع في كتب الشيعة والله أعلم بما يصير إليه حال المسألة في مستقبل الزمان


(1) ومن عجيب الكلام ما ذكره الزجاج في هذه الآية: أن هذه آية غلط فيها قوم غلطا عظيما لجهلهم باللغة وذلك أنهم ذكروا أن قوله: " فما استمتعتم به منهن " من المتعة التي قد أجمع أهل العلم أنها حرام ثم ذكر أن معنى الاستمتاع هو النكاح وليتني أدرى أن أي فصل من كلامه يقبل الاصلاح أرميه امثال ابن عباس وابي وغيره بالجهل باللغة ؟ أم دعواه إجماع أهل العلم على الحرمة ؟ أم دعواه الخبرة باللغة وقد جعل الاستمتاع بمعنى النكاح ؟ (2) راجع ترجمة ابن جريح في تهذيب التهذيب وميزان الاعتدال. (3) راجع للحصول على هذه الاقوال الكتب الفقهية وفي تفصيل أبحاثها الفقهية والكلامية ما ألفه أساتذة الفن من القدماء والمتأخرين وخاصة أعلام العصر الحاضر من نظار باحثي الحجج. (*)

[ 311 ]

= بحث علمي = رابطة النسب وهي الرابطة التي تربط الفرد من الانسان بالفرد الآخر من جهة الولادة وجامع الرحم هي في الاصل رابطة طبيعية تكوينية تكون الشعوب والقبائل وتحمل الخصال المنبعثة عن الدم فتسريها حسب تسرية الدم وهي المبدأ للآداب والرسوم والسنن القوميه بما تختلط وتمتزج بسائر الاسباب والعلل المؤثرة. وللمجتمعات الانسانية المترقية وغير المترقية نوع اعتناء بها في السنن والقوانين الاجتماعية في الجملة في نكاح وإرث وغير ذلك وهم مع ذلك لا يزالون يتصرفون في هذه الرابطة النسبية توسعة وتضييقا بحسب المصالح المنبعثة عن خصوصيات مجتمعهم كما سمعت في المباحث السابقة أن غالب الامم السالفة كانوا لا يرون للمرأة قرابة رسما وكانوا يرون قرابة الدعي وبنوته وكما أن الاسلام ينفي القرابة بين الكافر المحارب والمسلم ويلحق الولد للفراش وغير ذلك. ولما اعتبر الاسلام للنساء القرابة بما أعطاهن من الشركة التامة في الاموال والحرية التامة في الارادة والعمل على ما سمعت في المباحث السابقة وصار بذلك الابن والبنت في درجة واحدة من القرابة والرحم الرسمي وكذلك الاب والام والاخ والاخت والجد والجدة والعم والعمة والخال والخالة صار عمود النسب الرسمي متنزلا من ناحية البنات كما كان يتنزل من ناحية البنين فصار ابن البنت ابنا للانسان كبنوة ابن الابن وهكذا ما نزل وكذا صار بنت الابن وبنت البنت بنتين للاإسان على حد سواء وعلى ذلك جرت الاحكام في المناكح والمواريث وقد عرفت فيما تقدم أن آية التحريم " حرمت عليكم امهاتكم وبناتكم " الآية دالة على ذلك. وقد قصر السلف من باحثينا في هذه المسألة وأشباهها (وهي مسألة اجتماعية وحقوقية) فحسبوها مسألة لغوية يستراح فيها إلى قضاء اللغة فاشتد النزاع بينهم فيما وضع له لفظ الابن مثلا فمن معمم ومن مخصص وكل ذلك من الخطاء. وقد ذكر بعضهم أن الذي تعرفه اللغة من البنوة ما يجرى من ناحية الابن وأما ابن البنت وكل ما يجري من ناحيتها فللحوق هؤلاء بآبائهم لا بجدهم الامي

[ 312 ]

لا يعدهم العرب أبناءا للانسان وأما قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للحسنين: ابناى هذان إمامان قاما أو قعدا وغير ذلك فهذا الاطلاق إطلاق تشريفي وأنشد في ذلك قول القائل. بنونا بنو أبنائنا وبناتنا * * بنوهن أبناء الرجال الاباعد. ونظيره قول الآخر: وإنما امهات الناس أوعية * * مستودعات وللانساب آباء أقول وقد اختلط عليه طريق البحث فحسبه بحثا لغويا زعم فيه أن العرب لو وضعت لفظ الابن لما يشمل ابن البنت تغيرت بذلك نتيجة البحث وهو غفلة عن أن الآثار والاحكام المترتبة في المجتمعات المختلفة البشرية على الابوة والبنوة ونحوهما لا تتبع اللغات وإنما تتبع نوع بنية المجتمع والسنن الدائرة فيها وربما تغيرت هذه الاحكام والآثار بتغيير السنة الاجتماعية في المجتمع مع بقاء اللغة على حالها وهذا يكشف عن كون البحث اجتماعيا أو عائدا إليه لا لفظيا لغويا. وأما ما أنشد من الشعر فليس يسوي الشعر في سوق الحقائق شيئا وليس إلا زخرفة خيالية وتزويقا وهميا حتى يستدل بكل ما تقوله شاعر لاغ ولا سيما فيما يداخله القرآن الذي هو قول فصل وليس بالهزل. وأما مسألة لحوق الابناء بآبائهم دون الاجداد من جانب الامهات فهي على أنها ليست مسألة لفظية لغوية ليست من فروع النسب حتى يستلزم لحوق الابن والبنت بالاب انقطاع نسبهما من جهة الام بل من فروع قيمومة الرجل على البيت من حيث الانفاق وتربية الاولاد ونحوها. وبالجملة فالام تنقل رابطة النسب إلى أولادها من ذكور أو إناث كما ينقلها الاب ومن آثاره البارزة في الاسلام الميراث وحرمة النكاح نعم هناك أحكام ومسائل أخر لها ملاكات خاصة كلحوق الولد والنفقة ومسألة سهم اولي القربى من السادات وكل تتبع ملاكها الخاص بها. (بحث علمي آخر) النكاح والازدواج من السنن الاجتماعية التي لم تزل دائرة في المجتمعات الانسانية

[ 313 ]

أي مجتمع كان على ما بيدنا من تاريخ هذا النوع إلى هذا اليوم وهو في نفسه دليل على كونه سنة فطرية. على أن من أقوى الدليل على ذلك كون الذكر والانثى مجهزين بحسب البنية الجسمانية بوسائل التناسل والتوالد كما ذكرناه مرارا والطائفتان الذكر والانثى في ابتغاء ذلك شرع سواء وإن زيدت الانثى بجهاز الارضاع والعواطف الفطرية الملائمة لتربية الاولاد. ثم إن هناك غرائز إنسانية تنعطف إلى محبة الاولاد وتقبل قضاء الطبيعة بكون الانسان باقيا ببقاء نسله وتذعن بكون المرأة سكنا للرجل وبالعكس وتحترم أصل الوراثة بعد احترامها لاصل الملك والاختصاص وتحترم لزوم تأسيس البيت. والمجتمعات التى تحترم هذه الاصول والاحكام الفطرية في الجملة لا مناص لها من الاذعان بسنة النكاح على نحو الاختصاص بوجه بمعنى أن لا يختلط الرجال والنساء على نحو يبطل الانساب وإن فرض التحفظ عن فساد الصحة العامة وقوة التوالد الذى يوجبه شيوع الزنا والفحشاء. هذه اصول معتبرة عند جميع الامم الجارية على سنة النكاح في الجملة سواء خصوا الواحد بالواحد أو جوزوا الكثير من النساء للواحد من الرجال أو بالعكس أو الكثير منهم للكثير منهن على اختلاف هذه السنن بين الامم فإنهم مع ذلك يعتبرون النكاح بخاصته التى هي نوع ملازمة ومصاحبة بين الزوجين. فالفحشاء والسفاح الذى يقطع النسل ويفسد الانساب أول ما تبغضه الفطرة الانسانية القاضية بالنكاح ولا تزال ترى لهذه المباغضة آثارا بين الامم المختلفة والمجتمعات المتنوعة حتى الامم التى تعيش على الحرية التامة في الرجال والنساء في المواصلات والمخالطات الشهوية فإنهم متوحشون من هذه الخلاعات المسترسلة وتراهم يعيشون بقوانين تحفظ لهم أحكام الانساب بوجه. والانسان مع إذعانه بسنة النكاح لا يتقيد فيه بحسب الطبع ولا يحرم على نفسه ذا قرابة أو أجنبيا ولا يجتنب الذكر من الانسان اما ولا اختا ولا بنتا ولا

[ 314 ]

غيرهن ولا الانثى منه أبا ولا أخا ولا ابنا بحسب الداعية الشهوية فالتاريخ والنقل يثبت نكاح الامهات و الاخوات والبنات وغيرهن في الامم العظيمة الراقية والمنحطة والاخبار تحقق الزنا الفاشى في الملل المتمدنة اليوم بين الاخوة والاخوات والآباء والبنات وغيرهن فطاغية الشهوة لا يقوم لها شئ وما كان بين هذه الامم من اجتناب نكاح الامهات والاخوات والبنات وما يلحق بهن فإنما هو سنة موروثة ربما انتهت إلى بعض الآداب والرسوم القومية. وإنك إذا قايست القوانين المشرعة في الاسلام لتنظيم أمر الازدواج بسائر القوانين والسنن الدائرة في الدنيا وتأملت فيها منصفا وجدتها أدق وأضمن لجميع شؤون الاحتياط في حفظ الانساب وسائر المصالح الانسانية الفطرية وجميع ما شرعه من الاحكام في أمر النكاح وما يلحق به يرجع إلى حفظ الانساب وسد سبيل الزنا. فالذي روعى فيه مصلحة حفظ الانساب من غير واسطة هو تحريم نكاح المحصنات من النساء وبذلك يتم إلغاء ازدواج المرأة بأكثر من زوج واحد في زمان واحد فإن فيه فساد الانساب كما أنه هو الملاك في وضع عدة الطلاق بتربص المرأة بنفسها ثلاثة قروء تحرزا من اختلاط المياه. وأما سائر أصناف النساء المحرم نكاحها وهى أربعة عشر صنفا المعدودة في آيات التحريم فإن الملاك في تحريم نكاحهن سد باب الزنا فإن الانسان وهو في المجتمع المنزلى أكثر ما يعاشر ويختلط ويسترسل ويديم في المصاحبة إنما هو مع هذه الاصناف الاربعة عشر ودوام المصاحبة ومساس الاسترسال يوجب كمال توجه النفس وركوز الفكر فيهن بما يهدى إلى تنبه الميول والعواطف الحيوانية وهيجان دواعى الشهوة وبعثها الانسان إلى ما يستلذه طبعه وتتوق له نفسه ومن يحم حول الحمى أوشك أن يقع فيه. فكان من الواجب أن لا يقتصر على مجرد تحريم الزنا في هذه الموارد فإن دوام المصاحبة وتكرر هجوم الوساوس النفسانية وورود الهم بعد الهم لا يدع للانسان مجال التحفظ على نهى واحد من الزنا. بل كان يجب أن تحرم هؤلاء تحريما مؤبدا وتقع عليه التربية الدينية حتى

[ 315 ]

يستقر في القلوب اليأس التام من بلوغهن والنيل منهن ويميت ذلك تعلق الشهوة بهن ويقطع منبتها ويقلعها من أصلها وهذا هو الذى نرى من كثير من المسلمين حتى في المتوغلين في الفحشاء المسترسلين في المنكرات منهم أنهم لا يخطر ببالهم الفحشاء بالمحارم وهتك ستر الامهات والبنات ولو لا ذلك لم يكد يخلو بيت من البيوت من فاحشة الزنا ونحوه وهذا كما أن الاسلام سد باب الزنا في غير المحارم بإيجاب الحجاب والمنع عن اختلاط الرجال بالنساء والنساء بالرجال ولو لا ذلك لم ينجح النهى عن الزنا في الحجز بين الانسان وبين هذا الفعال الشنيع فهناك أحد أمرين إما أن يمنع الاختلاط كما في طائفة وإما أن يستقر اليأس من النيل بالمرة بحرمة مؤبدة يتربى عليها الانسان حتى يستوى على هذه العقيدة لا يبصر مثاله فيما يبصر ولا يسمعه فيما يسمع فلا يخطر بباله أبدا. وتصديق ذلك ما نجده من حال الامم الغربيه فإن هؤلاء معاشر النصارى كانت ترى حرمة الزنا وتعد تعدد الزوجات في تلو الزنا أباحت اختلاط النساء بالرجال فلم تلبث حتى فشا الفحشاء فيها فشوا لا يكاد يوجد في الالف منهم واحد يسلم من هذا الداء ولا في ألف من رجالهم واحد يستيقن بكون من ينتسب إليه من أولاده من صلبه ثم لم يمكث هذا الداء حتى سرى إلى الرجال مع محارمهم من الاخوات والبنات والامهات ثم إلى ما بين الرجال والغلمان ثم الشبان أنفسهم ثم... وثم... آل الامر إلى أن صارت هذه الطائفة التى ما خلقها الله سبحانه إلا سكنا للبشر ونعمة يقيم بها صلب الانسانية ويطيب بها عيشة النوع مصيدة يصطاد بها في كل شأن سياسي واقتصادي واجتماعي ووسيلة للنيل إلى كل غرض يفسد حياة المجتمع والفرد وعادت الحياة الانسانية امنية تخيلية ولعبا ولهوا بتمام معنى الكلمة وقد اتسع الخرق على الراتق. هذا هو الذى بنى عليه الاسلام مسألة تحريم المحرمات من المبهمات وغيرها في باب النكاح إلا المحصنات من النساء على ما عرفت. وتأثير هذا الحكم في المنع عن فشو الزنا وتسربه في المجتمع المنزلي كتأثير حكم الحجاب في المنع عن ظهور الزنا وسريان الفساد في المجتمع المدني على ما عرفت. وقد تقدم أن قوله تعالى وربائبكم اللاتى في حجوركم الآية لا تخلو عن إشارة إلى هذه الحكمة ويمكن أن تكون الاشارة إليه بقوله تعالى في آخر آيات التحريم

[ 316 ]

يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا: النساء - 28 فإن تحريم هذه الاصناف الاربعة عشر من الله سبحانه تحريما باتا يرفع عن كاهل الانسان ثقل الصبر على هواهن والميل إليهن والنيل منهن على إمكان من الامر وقد خلق الانسان ضعيفا في قبال الميول النفسانية والدواعي الشهوانية وقد قال تعالى إن كيدكن عظيم: يوسف - 28 فإن من أمر الصبر أن يعيش الانسان مع واحدة أو أكثر من النساء الاجنبيات ويصاحبهن في الخلوة والجلوة ويتصل بهن ليلا ونهارا ويمتلئ سمعه وبصره من لطيف إشاراتهن وحلو حركاتهن حينا بعد حين ثم يصبر على ما يوسوسه نفسه في أمرهن ولا يجيبها في ما تتوق إليه والحاجة إحدى الحاجتين الغذاء والنكاح وما سواهما فضل يعود إليهما وكأنه هو الذى أشار إليه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: من تزوج أحرز نصف دينه - فليتق الله في النصف الآخر (1) = يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما (29) - ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا (30)) = بيان = في الآية شبه اتصال بما سبقتها حيث إنها تتضمن النهى عن أكل المال بالباطل وكانت الآيات السابقة متضمنة للنهى عن أكل مهور النساء بالعضل والتعدى ففي الآية انتقال من الخصوص إلى العموم. قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم إلى قوله منكم


(1) مروية في نكاح الوسائل

[ 317 ]

الاكل معروف وهو إنفاد ما يمكن أن يتغذى به بالتقامه وبلعه مثلا ولما فيه من معنى التسلط والانفاد يقال أكلت النار الحطب شبه فيه إعدام النار الحطب بإحراقه بإنفاد الآكل الغذاء بالتناول والبلع ويقال أيضا أكل فلان المال أي تصرف فيه بالتسلط عليه وذلك بعناية أن العمدة في تصرف الانسان في الاشياء هو التغذى بها لانه أشد ما يحتاج إليه الانسان في بقائه وأمسه منه ولذلك سمى التصرف أكلا لكن لا كل تصرف بل التصرف عن تسلط يقطع تسلط الغير على المال بالتملك ونحوه كأنه ينفده ببسط سلطته عليه والتصرف فيه كما ينفد الآكل الغذاء بالاكل. والباطل من الافعال ما لا يشتمل على غرض صحيح عقلائي والتجارة هي التصرف في رأس المال طلبا للربح على ما ذكره الراغب في مفرداته قال وليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذا اللفظ انتهى فتنطبق على المعاملة بالبيع والشرى. وفي تقييد قوله لا تأكلوا أموالكم بقوله بينكم الدال على نوع تجمع منهم على المال ووقوعه في وسطهم إشعارا أو دلالة بكون الاكل المنهى عنه بنحو إدارته فيما بينهم ونقله من واحد إلى آخر بالتعاور والتداول فتفيد الجملة أعنى قوله لا تأكلوا أموالكم بينكم بعد تقييدها بقوله بالباطل النهى عن المعاملات الناقلة التى لا تسوق المجتمع إلى سعادته ونجاحه بل تضرها وتجرها إلى الفساد والهلاك وهى المعاملات الباطلة في نظر الدين كالربا والقمار والبيوع الغررية كالبيع بالحصاة والنواة وما أشبه ذلك. وعلى هذا فالاستثناء الواقع في قوله إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم استثناء منقطع جئ به لدفع الدخل فإنه لما نهى عن أكل المال بالباطل ونوع المعاملات الدائرة في المجتمع الفاسد التى يتحقق بها النقل والانتقال المالى كالربويات والغرريات والقمار وأضرابها باطلة بنظر الشرع كان من الجائز أن يتوهم أن ذلك يوجب انهدام أركان المجتمع وتلاشى أجزائها وفيه هلاك الناس فاجيب عن ذلك بذكر نوع معاملة في وسعها أن تنظم شتات المجتمع وتقيم صلبه وتحفظه على استقامته وهى التجارة عن تراض ومعاملة صحيحة رافعة لحاجة المجتمع وذلك نظير قوله تعالى يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم: الشعراء - 89 فإنه لما نفى النفع عن المال والبنين يوم القيامة أمكن أن يتوهم أن لا نجاح يومئذ ولا فلاح فإن معظم ما ينتفع به الانسان إنما هو المال والبنون فإذا سقطا عن التأثير لم يبق إلا اليأس والخيبة فاجيب أن هناك

[ 318 ]

أمرا آخر نافعا كل النفع وإن لم يكن من جنس المال والبنين وهو القلب السليم. وهذا الذي ذكرناه من انقطاع الاستثناء هو الاوفق بسياق الآية وكون قوله بالباطل قيدا أصليا في الكلام نظير قوله تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس الآية: البقرة - 188 وعلى هذا لا تخصص الآية بسائر المعاملات الصحيحة والامور المشروعة غير التجارة مما يوجب التملك ويبيح التصرف في المال كالهبة والصلح والجعالة وكالامهار والارث ونحوها. وربما يقال إن الاستثناء متصل وقوله بالباطل قيد توضيحي جئ به لبيان حال المستثنى منه بعد خروج المستثنى وتعلق النهي والتقدير لا تأكلوا أموالكم بينكم إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم فإنكم إن أكلتموها من غير طريق التجارة كان أكلا بالباطل منهيا عنه كقولك لا تضرب اليتيم ظلما إلا تأديبا وهذا النحو من الاستعمال وإن كان جائزا معروفا عند أهل اللسان إلا أنك قد عرفت أن الاوفق لسياق الآية هو انقطاع الاستثناء. وربما قيل إن المراد بالنهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه الله وبالتجارة صرفه فيما يرضاه وربما قيل إن الآية كانت تنهى عن مطلق أكل مال الغير بغير عوض وإنه كان الرجل منهم يتحرج عن أن يأكل عند أحد من الناس بعدما نزلت هذه الآية حتى نسخ ذلك بقوله في سورة النور ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم إلى قوله أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا: النور - 61 وقد عرفت أن الآية بمعزل عن الدلالة على أمثال هذه المعاني. ومن غريب التفسير ما رام به بعضهم توجيه اتصال الاستثناء مع أخذ قوله بالباطل قيدا احترازيا فقال ما حاصله إن المراد بالباطل أكل المال بغير عوض يعادله فالجمله المستثنى منها تدل على تحريم أخذ المال من الغير بالباطل ومن غير عوض ثم استثنى من ذلك التجارة مع كون غالب مصاديقها غير خالية عن الباطل فإن تقدير العوض بالقسطاس المستقيم بحيث يعادل المعوض عنه في القيمة حقيقة متعسر جدا لو لم يكن متعذرا. فالمراد بالاستثناء التسامح بما يكون فيه أحد العوضين أكبر من الآخر وما يكون سبب التعاوض فيه براعة التاجر في تزيين سلعته وترويجها بزخرف القول من غير

[ 319 ]

غش ولا خداع ولا تغرير كما يقع ذلك كثيرا إلى غير ذلك من الاسباب. وكل ذلك من باطل التجارة أباحته الشريعة مسامحة وتسهيلا لاهلها ولو لم يجوز ذلك في الدين بالاستثناء لما رغب أحد من أهله في التجارة واختل نظام المجتمع الديني انتهى ملخصا. وفساده ظاهر مما قدمناه فإن الباطل على ما يعرفه أهل اللغة ما لا يترتب عليه أثره المطلوب منه وأثر البيع والتجارة تبدل المالين وتغير محل الملكين لرفع حاجة كل واحد من البيعين إلى مال الآخر بأن يحصل كل منهما على ما يرغب فيه وينال إربه بالمعادلة وذلك كما يحصل بالتعادل في القيمتين كذلك يحصل بمقابلة القليل الكثير إذا انضم إلى القليل شئ من رغبة الطالب أو رهبته أو مصلحة اخرى يعادل بانضمامها الكثير والكاشف عن جميع ذلك وقوع الرضا من الطرفين ومع وقوع التراضي لا تعد المبادلة باطلة البتة. على أن المستأنس باسلوب القرآن الكريم في بياناته لا يرتاب في أن من المحال أن يعد القرآن أمرا من الامور باطلا ثم يأمر به ويهدي إليه وقد قال تعالى في وصفه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم: الاحقاف - 30 وكيف يهدي إلى الحق ما يهدي إلى الباطل ؟ على أن لازم هذا التوجيه أن يهتدي الانسان اهتداء حقا فطريا إلى حاجته إلى المبادلة في الاموال ثم يهتدي اهتداء حقا فطريا إلى المبادلة بالموازنة ثم لا يكون ما يهتدي إليه وافيا لرفع حاجته حقا حتى ينضم إليه شئ من الباطل وكيف يمكن أن تهتدي الفطرة إلى أمر لا يكفي في رفع حاجتها ولا يفي إلا ببعض شأنها ؟ وكيف يمكن أن تهتدي الفطرة إلى باطل وهل الفارق بين الحق والباطل في الاعمال إلا اهتداء الفطرة وعدم اهتدائها ؟ فلا مفر لمن يجعل الاستثناء متصلا من أن يجعل قوله بالباطل قيدا توضيحيا. وأعجب من هذا التوجيه ما نقل عن بعضهم أن النكتة في هذا الاستثناء المنقطع هي الاشارة إلى أن جميع ما في الدنيا من التجارة وما في معناها من قبيل الباطل لانه لا ثبات له ولا بقاء فينبغي أن لا يشتغل به العاقل عن الاستعداد للدار الآخرة التى هي خير وأبقى انتهى.

[ 320 ]

وهو خطأ فإنه على تقدير صحته نكتة للاستثناء المتصل لا الاستثناء المنقطع على أن هذه المعنويات من الحقائق إنما يصح أن يذكر لمثل قوله تعالى وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهى الحيوان: العنكبوت - 64 وقوله تعالى ما عندكم ينفد وما عند الله باق: النحل - 96 وقوله تعالى قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة: الجمعة - 11 وأما ما نحن فيه فجريان هذه النكتة توجب تشريع الباطل ويجل القرآن عن الترخيص في الباطل بأي وجه كان. قوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم ظاهر الجملة أنها نهى عن قتل الانسان نفسه لكن مقارنتها قوله لا تأكلوا أموالكم بينكم حيث إن ظاهره أخذ مجموع المؤمنين كنفس واحدة لها مال يجب أن تأكلها من غير طريق الباطل ربما أشعرت أو دلت على أن المراد بالانفس جميع نفوس المجتمع الدينى المأخوذة كنفس واحدة نفس كل بعض هي نفس الآخر فيكون في مثل هذا المجتمع نفس الانسان نفسه ونفس غيره أيضا نفسه فلو قتل نفسه أو غيره فقد قتل نفسه وبهذه العناية تكون الجملة أعنى قوله ولا تقتلوا أنفسكم مطلقة تشمل الانتحار الذى هو قتل الانسان نفسه وقتل الانسان غيره من المؤمنين. وربما أمكن أن يستفاد من ذيل الآية أعنى قوله إن الله كان بكم رحيما أن المراد من قتل النفس المنهى عنه ما يشمل إلقاء الانسان نفسه في مخاطرة القتل والتسبيب إلى هلاك نفسه المؤدى إلى قتله وذلك أن تعليل النهى عن قتل النفس بالرحمة لهذا المعنى أوفق وأنسب كما لا يخفى ويزيد على هذا معنى الآية عموما واتساعا وهذه الملائمة بعينها تؤيد كون قوله إن الله كان بكم رحيما تعليلا لقوله ولا تقتلوا أنفسكم فقط. قوله تعالى ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما الآية العدوان مطلق التجاوز سواء كان جائزا ممدوحا أو محظورا مذموما قال تعالى فلا عدوان إلا على الظالمين: البقرة - 193 وقال تعالى وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان: المائدة - 2 فهو أعم موردا من الظلم ومعناه في الآية تعدى الحدود التى حدها الله تعالى والاصلاء بالنار الاحراق بها. وفي الآية من حيث اشتمالها على قوله ذلك التفات عن خطاب المؤمنين إلى

[ 321 ]

خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلويحا إلى أن من فعل ذلك منهم وهم نفس واحدة والنفس الواحدة لا ينبغى لها أن تريد هلاك نفسها فليس من المؤمنين فلا يخاطب في مجازاته المؤمنون وإنما يخاطب فيها الرسول المخاطب في شأن المؤمنين وغيرهم ولذلك بنى الكلام على العموم فقيل ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه ولم يقل ومن يفعل ذلك منكم. وذيل الآية أعنى قوله وكان ذلك على الله يسيرا يؤيد أن يكون المشار إليه بقوله ذلك هو النهى عن قتل الانفس بناء على كون قوله إن الله كان بكم رحيما ناظرا إلى تعليل النهى عن القتل فقط لما من المناسبة التامة بين الذيلين فإن الظاهر أن المعنى هو أن الله تعالى إنما ينهاكم عن قتل أنفسكم رحمة بكم ورأفة وإلا فمجازاته لمن قتل النفس بإصلائه النار عليه يسير غير عسير ومع ذلك فعود التعليل وكذا التهديد إلى مجموع الفقرتين في الآية الاولى أعنى النهى عن أكل المال بالباطل والنهى عن قتل النفس لا ضير فيه. وأما قول بعضهم إن التعليل والتهديد أو التهديد فقط راجع إلى جميع ما ذكر من المناهى من أول السورة إلى هذه الآية وكذا قول آخرين إن ذلك إشارة إلى جميع ما ذكر من المناهى من قوله يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها الآية: آية - 19 من السورة إلى هنا لعدم ذكر جزاء للمناهى الواقعة في هذه الآيات فمما لا دليل على اعتباره. وتغيير السياق في قوله فسوف نصليه نارا بالخصوص عن سياق الغيبة الواقع في قوله إن الله كان بكم رحيما إلى سياق التكلم تابع للالتفات الواقع في قوله ذلك عن خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول ثم الرجوع إلى الغيبة في قوله وكان ذلك على الله يسيرا اشعار بالتعليل أي وذلك عليه يسير لانه هو الله عز اسمه. = بحث روائي = في المجمع: في قوله تعالى بالباطل - قولان أحدهما أنه الربا والقمار والبخس والظلم - قال: وهو المروى عن الباقر عليه السلام

[ 322 ]

وفي نهج البيان عن الباقر والصادق عليه السلام: أنه القمار والسحت والربا والايمان وفي تفسير العياشي عن أسباط بن سالم قال: كنت عند أبى عبد الله عليه السلام فجاءه رجل - فقال له أخبرني عن قول الله - يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل - قال عنى بذلك القمار - وأما قوله ولا تقتلوا أنفسكم - عنى بذلك الرجل من المسلمين يشد على المشركين وحده - يجئ في منازلهم فيقتل فنهاهم الله عن ذلك أقول الآية عامة في الاكل بالباطل وذكر القمار وما أشبهه من قبيل عد المصاديق وكذا تفسير قتل النفس بما ذكر في الرواية تعميم للآية لا تخصيص بما ذكر. وفيه عن إسحاق بن عبد الله بن محمد بن علي بن الحسين قال حدثنى الحسن بن زيد عن أبيه عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الجبائر تكون على الكسير - كيف يتوضأ صاحبها وكيف يغتسل إذا اجنب - قال يجزيه المسح بالماء عليها في الجنابة والوضوء - قلت فإن كان في برد يخاف على نفسه - إذا أفرغ الماء على جسده فقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما وفي الفقيه قال الصادق عليه السلام: من قتل نفسه متعمدا فهو في نار جهنم خالدا فيها - قال الله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما - ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما - فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا أقول والروايات كما ترى تعمم معنى قوله ولا تقتلوا أنفسكم الآية كما استفدناه فيما تقدم وفي معنى ما تقدم روايات اخر. وفي الدر المنثور أخرج ابن ماجة وابن المنذر عن ابن سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما البيع عن تراض وفيه أخرج ابن جرير عن ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم باع رجلا ثم قال له - اختر فقال قد اخترت فقال هكذا البيع وفيه أخرج البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما للآخر اختر اقول قوله البيعان بالخيار ما لم يتفرقا مروى من طرق الشيعة أيضا وقوله أو يقول أحدهما للآخر اختر لتحقيق معنى التراضي

[ 323 ]

= إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما (31) = بيان = الآية غير عادمة الارتباط بما قبلها فإن فيما قبلها ذكرا من المعاصي الكبيرة. قوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه إلى قوله سيئاتكم الاجتناب أصله من الجنب وهو الجارحة بنى منها الفعل على الاستعاره فإن الانسان إذا أراد شيئا استقبله بوجهه ومقاديم بدنه وإذا أعرض عنه وتركه وليه بجنبه فاجتنبه فالاجتناب هو الترك قال الراغب وهو أبلغ من الترك انتهى وليس إلا لانه مبنى على الاستعارة ومن هذا الباب الجانب والجنيبة والاجنبى. والتكفير من الكفر وهو الستر وقد شاع استعماله في القرآن في العفو عن السيئات والكبائر جمع كبيرة وصف وضع موضع الموصوف كالمعاصي ونحوها والكبر معنى إضافي لا يتحقق إلا بالقياس إلى صغر ومن هنا كان المستفاد من قوله كبائر ما تنهون عنه أن هناك من المعاصي المنهى عنها ما هي صغيرة فيتبين من الآية اولا أن المعاصي قسمان صغيرة وكبيرة وثانيا أن السيئات في الآية هي الصغائر لما فيها من دلالة المقابلة على ذلك. نعم العصيان والتمرد كيفما كان كبير وأمر عظيم بالنظر إلى ضعف المخلوق المربوب في جنب الله عظم سلطانه غير أن القياس في هذا الاعتبار إنما هو بين الانسان وربه لا بين معصية ومعصية فلا منافاة بين كون كل معصية كبيرة باعتبار وبين كون بعض المعاصي صغيرة باعتبار آخر. وكبر المعصية إنما يتحقق بأهمية النهى عنها إذا قيس إلى النهى المتعلق بغيرها ولا يخلو قوله تعالى ما تنهون عنه من إشعار أو دلالة على ذلك والدليل على أهمية النهى تشديد الخطاب بإصرار فيه أو تهديد بعذاب من النار ونحو ذلك.

[ 324 ]

قوله تعالى وندخلكم مدخلا كريما المدخل بضم الميم وفتح الخاء اسم مكان والمراد منه الجنة أو مقام القرب من الله سبحانه وإن كان مرجعهما واحدا. = كلام في الكبائر والصغائر وتكفير السيئات = لا ريب في دلالة قوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم الآية على انقسام المعاصي إلى كبائر وصغائر سميت في الآية بالسيئات ونظيرها في الدلالة قوله تعالى ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها الآية: الكهف - 49 إذ إشفاقهم مما في الكتاب يدل على أن المراد بالصغيرة والكبيرة صغائر الذنوب وكبائرها. وأما السيئة فهى بحسب ما تعطيه مادة اللفظ وهيئته هي الحادثة أو العمل الذى يحمل المساءة ولذلك ربما يطلق لفظها على الامور والمصائب التى يسوء الانسان وقوعها كقوله تعالى وما أصابك من سيئة فمن نفسك الآية: النساء - 79 وقوله تعالى ويستعجلونك بالسيئة الآية: الرعد - 6 وربما اطلق على نتائج المعاصي وآثارها الخارجية الدنيوية والاخروية كقوله تعالى فأصابهم سيئات ما عملوا الآية: النحل - 34 وقوله تعالى سيصيبهم سيئات ما كسبوا: الزمر - 51 وهذا بحسب الحقيقة يرجع إلى المعنى السابق وربما اطلق على نفس المعصية كقوله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها الآية: الشورى - 40 والسيئة بمعنى المعصية ربما اطلقت على مطلق المعاصي أعم من الصغائر والكبائر كقوله تعالى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم و مماتهم ساء ما يحكمون: الجاثية - 21 إلى غير ذلك من الآيات. وربما اطلقت على الصغائر خاصة كقوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم الآية إذ مع فرض اجتناب الكبائر لا تبقى للسيئات إلا الصغائر. و بالجملة دلالة الآية على انقسام المعاصي إلى الصغائر والكبائر بحسب القياس الدائر بين المعاصي أنفسها مما لا ينبغى أن يرتاب فيه. وكذا لا ريب أن الآية في مقام الامتنان وهى تقرع أسماع المؤمنين بعناية لطيفة

[ 325 ]

إلهية أنهم إن اجتنبوا البعض من المعاصي كفر عنهم البعض الآخر فليس إغراء على ارتكاب المعاصي الصغار فإن ذلك لا معنى له لان الآية تدعو إلى ترك الكبائر بلا شك وارتكاب الصغيرة من جهة أنها صغيرة لا يعبأ بها ويتهاون في أمرها يعود مصداقا من مصاديق الطغيان والاستهانة بأمر الله سبحانه وهذا من أكبر الكبائر بل الآية تعد تكفير السيئات من جهة أنها سيئات لا يخلو الانسان المخلوق على الضعف المبنى على الجهالة من ارتكابها بغلبة الجهل والهوى عليه فمساق هذه الآية مساق الآية الداعية إلى التوبة التى تعد غفران الذنوب كقوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم الآية: الزمر - 54 فكما لا يصح أن يقال هناك إن الآية تغرى إلى المعصية بفتح باب التوبة وتطييب النفوس بذلك فكذا ههنا بل أمثال هذه الخطابات إحياء للقلوب الآئسة بالرجاء. ومن هنا يعلم أن الآية لا تمنع عن معرفة الكبائر بمعنى أن يكون المراد بها اتقاء جميع المعاصي مخافة الوقوع في الكبائر والابتلاء بارتكابها فإن ذلك معنى بعيد عن مساق الآية بل المستفاد من الآية أن المخاطبين هم يعرفون الكبائر ويميزون هؤلاء الموبقات من النهى المتعلق بها ولا أقل من أن يقال إن الآية تدعو إلى معرفة الكبائر حتى يهتم المكلفون في الاتقاء منها كل الاهتمام من غير تهاون في جنب غيرها فإن ذلك التهاون كما عرفت إحدى الكبائر الموبقة. وذلك أن الانسان إذا عرف الكبائر وميزها وشخصها عرف أنها حرمات لا يغمض من هتكها بالتكفير إلا عن ندامة قاطعة وتوبة نصوح ونفس هذا العلم مما يوجب تنبه الانسان وانصرافه عن ارتكابها. وأما الشفاعة فإنها وإن كانت حقه إلا أنك قد عرفت فيما تقدم من مباحثها أنها لا تنفع من استهان بأمر الله سبحانه واستهزأ بالتوبة والندامة واقتراف المعصية بالاعتماد على الشفاعة تساهل وتهاون في أمر الله سبحانه وهو من الكبائر الموبقة القاطعة لسبيل الشفاعة قطعا. ومن هنا يتضح معنى ما تقدم أن كبر المعصية إنما يعلم من شدة النهى الواقع عنها بإصرار أو تهديد بالعذاب كما تقدم

[ 326 ]

ومما تقدم من الكلام يظهر حال سائر ما قيل في معنى الكبائر وهى كثيرة منها ما قيل إن الكبيرة كل ما أوعد الله عليه في الآخرة عقابا ووضع له في الدنيا حدا وفيه أن الاصرار على الصغيرة كبيرة لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الاصرار رواه الفريقان مع عدم وضع حد فيه شرعا وكذا ولاية الكفار وأكل الربا مع أنهما من كبائر ما نهى عنه في القرآن. ومنها قول بعضهم إن الكبيرة كل ما أوعد الله عليه بالنار في القرآن وربما أضاف إليه بعضهم السنة وفيه أنه لا دليل على انعكاسه كليا. ومنها قول بعضهم إنها كل ما يشعر بالاستهانة بالدين وعدم الاكتراث به قال به إمام الحرمين واستحسنه الرازي وفيه أنه عنوان الطغيان والاعتداء وهى إحدى الكبائر وهناك ذنوب كبيرة موبقة وإن لم تقترف بهذا العنوان كأكل مال اليتيم وزنا المحارم وقتل النفس المؤمنة من غير حق. ومنها قول بعضهم إن الكبيرة ما حرمت لنفسها لا لعارض وهذا كالمقابل للقول السابق وفيه أن الطغيان والاستهانة ونحو ذلك من أكبر الكبائر وهى عناوين طارية وبطروها على معصية وعروضها لها تصير من الكبائر الموبقة. ومنها قول بعضهم إن الكبائر ما اشتملت عليه آيات سورة النساء من أول السورة إلى تمام ثلاثين آية وكأن المراد أن قوله إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية إشارة إلى المعاصي المبينة في الآيات السابقة عليه كقطيعة الرحم وأكل مال اليتيم والزنا ونحو ذلك وفيه أنه ينافي إطلاق الآية. ومنها قول بعضهم وينسب إلى ابن عباس كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة ولعله لكون مخالفته تعالى أمرا عظيما وفيه أنك قد عرفت أن انقسام المعصية إلى الكبيرة والصغيرة إنما هو بقياس بعضها إلى بعض وهذا الذى ذكره مبنى على قياس حال الانسان في مخالفته وهو عبد إلى الله سبحانه وهو رب كل شئ ومن الممكن أن يميل إلى هذا القول بعضهم بتوهم كون الاضافة في قوله تعالى كبائر ما تنهون عنه بيانية لكنه فاسد لرجوع معنى الآية حينئذ إلى قولنا إن تجتنبوا المعاصي جميعا نكفر عنكم سيئاتكم ولا سيئة مع اجتناب المعاصي وإن اريد تكفير

[ 327 ]

سيئات المؤمنين قبل نزول الآية اختصت الآية بأشخاص من حضر عند النزول وهو خلاف ظاهر الآية من العموم ولو عمت الآية عاد المعنى إلى أنكم إن عزمتم على اجتناب جميع المعاصي واجتنبتموها كفرنا عنكم سيئاتكم السابقة عليه وهذا أمر نادر شاذ المصداق أو عديمه لا يحمل عليه عموم الآية لان نوع الانسان لا يخلو عن السيئة واللمم إلا من عصمه الله بعصمته فافهم ذلك. ومنها أن الصغيرة ما نقص عقابه عن ثواب صاحبه والكبيرة ما يكبر عقابه عن ثوابه نسب إلى المعتزلة وفيه أن ذلك أمر لا يدل عليه هذه الآية ولا غيرها من آيات القرآن نعم من الثابت بالقرآن وجود الحبط في بعض المعاصي في الجملة لا في جميعها سواء كان على وفق ما ذكروه أو لا على وفقه وقد مر البحث عن معنى الحبط مستوفى في الجزء الثاني من هذا الكتاب. وقالوا أيضا يجب تكفير السيئات والصغائر عند اجتناب الكبائر ولا تحسن المؤاخذة عليها وهذا أيضا أمر لا تدل الآية عليه البتة. ومنها أن الكبر والصغر اعتباران يعرضان لكل معصية فالمعصية التى يقترفها الانسان استهانة بأمر الربوبية واستهزاء أو عدم مبالاة به كبيرة وهى بعينها لو اقترفت من جهة استشاطة غضب أو غلبة جبن أو ثورة شهوة كانت صغيرة مغفورة بشرط اجتناب الكبائر. ولما كان هذه العناوين الطارية المذكورة يجمعها العناد والاعتداء على الله أمكن أن يلخص الكلام بأن كل واحدة من المعاصي المنهى عنها في الدين إن اتى بها عنادا واعتداءا فهى كبيرة وإلا فهى صغيرة مغفورة بشرط اجتناب العناد والاعتداء. قال بعضهم إن في كل سيئة وفي كل نهى خاطب الله به كبيرة أو كبائر وصغيرة أو صغائر وأكبر الكبائر في كل ذنب عدم المبالاة بالنهي والامر واحترام التكليف ومنه الاصرار فإن المصر على الذنب لا يكون محترما ولا مباليا بالامر والنهى فالله تعالى يقول إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه أي الكبائر التى يتضمنها كل شئ تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم أي نكفر عنكم صغيره فلا نؤاخذكم عليه. وفيه أن استلزام اقتران كل معصية مقترفة بما يوجب كونها طغيانا واستعلاء

[ 328 ]

على الله سبحانه صيرورتها معصية كبيرة لا يوجب كون الكبر دائرا مدار هذا الاعتبار حتى لا يكون بعض المعاصي كبيرة في نفسها مع عدم عروض شئ من هذه العناوين عليه فإن زنا المحارم بالنسبة إلى النظر إلى الاجنبية وقتل النفس المحرمة ظلما بالنسبة إلى الضرب كبيرتان عرض لهما عارض من العناوين أم لم يعرض نعم كلما عرض شئ من هذه العناوين المهلكة اشتد النهى بحسبه وكبرت المعصية وعظم الذنب فما الزنا عن هوى النفس وغلبة الشهوة والجهالة كالزنا بالاستباحة. على أن هذا المعنى إن تجتنبوا في كل معصية كبائرها نكفر عنكم صغائرها معنى ردى لا يحتمله قوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم الآية بحسب ما لها من السياق على ما لا يخفى لكل من استأنس قليل استيناس بأساليب الكلام. ومنها ما يتراءى من ظاهر كلام الغزالي على ما نقل عنه (1) من الجمع بين الاقوال وهو أن بين المعاصي بقياس بعضها إلى بعض كبيرة وصغيرة كزنا المحصنة من المحارم بالنسبة إلى النظر إلى الاجنبية وإن كانت بعض المعاصي يكبر بانطباق بعض العناوين المهلكة الموبقة عليه كالاصرار على الصغائر فبذلك تصير المعصية كبيرة بعد ما لم تكن. فبهذا يظهر أن المعاصي تنقسم إلى صغيرة وكبيرة بحسب قياس البعض إلى البعض بالنظر إلى نفس العمل وجرم الفعل ثم هي مع ذلك تنقسم إلى القسمين بالنظر إلى أثر الذنب ووباله في إحباطه للثواب بغلبته عليه أو نقصه منه إذا لم يغلبه فيزول الذنب بزوال مقدار يعادله من الثواب فإن لكل طاعة تأثيرا حسنا في النفس يوجب رفعة مقامها وتخلصها من قذارة البعد وظلمة الجهل كما أن لكل معصية تأثيرا سيئا فيها يوجب خلاف ذلك من انحطاط محلها وسقوطها في هاوية البعد وظلمة الجهل. فإذا اقترف الانسان شيئا من المعاصي وقد هيأ لنفسه شيئا من النور والصفاء بالطاعة فلا بد من أن يتصادم ظلمة المعصية ونور الطاعة فإن غلبت ظلمة المعصية ووبال الذنب نور الطاعة وظهرت عليه أحبطته وهذه هي المعصية الكبيرة وإن غلبت الطاعة بما لها من النور والصفاء أزالت ظلمة الجهل وقذارة الذنب ببطلان مقدار


(1) نقله الفخر الرازي في تفسير عن الغزالي في منتخبات كتاب الاحياء

[ 329 ]

يعادل ظلمة الذنب من نور الطاعة ويبقى الباقي من نورها وصفائها تتنور وتصفو به النفس وهذا معنى التحابط وهو بعينه معنى غفران الذنوب الصغيرة وتكفير السيئات وهذا النوع من المعاصي هي المعاصي الصغيرة. وأما تكافؤ السيئة والحسنة بما لهما من العقاب والثواب فهو وإن كان مما يحتمله العقل في بادى النظر ولازمه صحة فرض إنسان أعزل لا طاعة له ولا معصية ولا نور لنفسه ولا ظلمة لكن يبطله قوله تعالى فريق في الجنة وفريق في السعير انتهى ملخصا. وقد رده الرازي بأنه يبتنى على اصول المعتزلة الباطلة عندنا وشدد النكير على الرازي في المنار قائلا: وإذا كان هذا (يعني انقسام المعصية إلى الصغيرة والكبيرة في نفسها) صريحا في القرآن فهل يعقل أن يصح عن ابن عباس إنكاره ؟ لا بل روى عبد الرزاق عنه أنه قيل له: هل الكبائر سبع ؟ فقال: هي إلى السبعين أقرب وروى ابن جبير أنه قال: هي إلى السبعمائة أقرب وإنما عزي القول بإنكاره تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر إلى الاشعرية. وكأن القائلين بذلك منهم أرادوا أن يخالفوا به المعتزلة ولو بالتأويل كما يعلم من كلام ابن فورك فإنه صحح كلام الاشعرية وقال: معاصي الله كلها كبائر وإنما يقال لبعضها: صغيرة وكبيرة بإضافة (1) وقالت المعتزلة: الذنوب على ضربين: صغائر وكبائر وهذا ليس بصحيح انتهى وأول الآية تأويلا بعيدا. وهل يؤول الآيات والاحاديث لاجل أن يخالف المعتزلة ولو فيما أصابوا فيه ؟ لا يبعد ذلك فإن التعصب للمذاهب هو الذي صرف كثيرا من العلماء الازكياء عن إفادة أنفسهم وأمتهم بفطنتهم وجعل كتبهم فتنة للمسلمين اشتغلوا بالجدل فيها عن حقيقة الدين وستري ما ينقله الرازي عن الغزالي ويرده لاجل ذلك وأين الرازي من الغزالي وأين معاوية من علي انتهى ويشير في آخر كلامه إلى ما نقلناه عن الغزالي والرازي.


(1) أي الاضافة بحسب قصود المعاصي المختلفة لا اضافة بعض المعاصي إلى بعضها في نفسها.

[ 330 ]

وكيف كان فما ذكره الغزالي وإن كان وجيها في الجملة لكنه لا يخلو عن خلل من جهات. الاولى: أن ما ذكره من انقسام المعاصي إلى الصغائر والكبائر بحسب تحابط الثواب والعقاب لا ينطبق دائما على ما ذكره من الانقسام بحسب نفس المعاصي ومتون الذنوب في أول كلامه فإن غالب المعاصي الكبيرة المسلمة في نفسها يمكن أن يصادف في فاعله ثوابا كبيرا يغلب عليها وكذا يمكن أن تفرض معصية صغيرة تصادف من الثواب الباقي في النفس ما هو أصغر منها وأنقص وبذلك يختلف الصغيرة والكبيرة بحسب التقسيمين فمن المعاصي ما هي صغيرة على التقسيم الاول كبيرة بحسب التقسيم الثاني ومنها ما هي بالعكس فلا تطابق كليا بين التقسيمين. والثانية أن التصادم بين آثار المعاصي والطاعات وإن كان ثابتا في الجملة لكنه مما لم يثبت كليا من طريق الظواهر الدينية من الكتاب والسنة أبدا وأي دليل من طريق الكتاب والسنة يدل على تحقق التزايل والتحابط بنحو الكلية بين عقاب المعاصي وثواب الطاعات. والذى أجرى تفصيل البحث فيه من الحالات الشريفة النورية النفسانية والحالات الاخرى الخسيسة الظلمانية كذلك أيضا فإنها وإن كانت تتصادم بحسب الغالب وتتزايل وتتفانى لكن ذلك ليس على وجه كلى دائمي بل ربما يثبت كل من الفضيلة والرذيلة في مقامها وتتصالح على البقاء وتقتسم النفس كأن شيئا منها للفضيلة خاصة وشيئا منها للرذيلة خاصة فترى الرجل المسلم مثلا يأكل الربا ولا يلوى عن ابتلاع أموال الناس ولا يصغى إلى استغاثة المطلوب المستأصل المظلوم ويجتهد في الصلوات المفروضة ويبالغ في خضوعه وخشوعه أو أنه لا يبالى في إهراق الدماء وهتك الاعراض والافساد في الارض ويخلص لله أي إخلاص في امور من الطاعات والقربات وهذا هو الذى يسميه علماء النفس اليوم بازدواج الشخصية بعد تعددها وتنازعها وهو أن تتنازع الميول المختلفة النفسانية وتثور بعضها على بعض بالتزاحم والتعارض ولا يزال الانسان في تعب داخلي من ذلك حتى تستقر الملكتان فتزدوجان وتتصالحان ويغيب كل عند ظهور الاخرى وانتهاضها و إمساكها على فريستها كما عرفت من المثال المذكور آنفا

[ 331 ]

والثالثة أن لازم ما ذكره أن يلغو اعتبار الاجتناب في تكفير السيئات فإن من لا يأتي بالكبائر لا لانه يكف نفسه عنها مع القدرة والتمايل النفساني عليها بل لعدم قدرته عليها وعدم استطاعته منها فإن سيئاته تنحبط بالطاعات لغلبة ثوابه على الفرض على ما له من العقاب وهو تكفير السيئات فلا يبقى لاعتبار اجتناب الكبائر وجه مرضى. قال الغزالي في الاحياء اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة والارادة كمن يتمكن من امرأة ومن مواقعتها فيكف نفسه عن الوقاع فيقتصر على نظر أو لمس فإن مجاهدة نفسه بالكف عن الوقاع أشد تأثيرا في تنوير قلبه من إقدامه على النظر في إظلامه فهذا معنى تكفيره فإن كان عنينا أو لم يكن امتناعه إلا بالضرورة للعجز أو كان قادرا ولكن امتنع لخوف أمر الآخرة فهذا لا يصلح للتكفير أصلا وكل من لا يشتهى الخمر بطبعه ولو أبيح له لما شربه فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التى هي من مقدماته كسماع الملاهي والاوتار نعم من يشتهى الخمر وسماع الاوتار فيمسك نفسه بالمجاهدة عن الخمر ويطلقها في السماع فمجاهدته النفس بالكف ربما يمحو عن قلبه الظلمة التى ارتفعت إليه من معصية السماع فكل هذه أحكام اخروية انتهى. وقال أيضا في محل آخر كل ظلمة ارتفعت إلى القلب لا يمحوها إلا نور يرتفع إليها بحسنة تضادها والمتضادات هي المتناسبات فلذلك ينبغى أن تمحى كل سيئة بحسنة من جنسها لكى تضادها فإن البياض يزال بالسواد لا بالحرارة والبرودة وهذا التدريج والتحقيق من التلطف في طريقة المحو فالرجاء فيه أصدق والثقة به أكثر من أن يواظب على نوع واحد من العبادات وإن كان ذلك أيضا مؤثرا في المحو انتهى كلامه. وكلامه كما ترى يدل على أن المحبط للسيئات هو الاجتناب الذى هو الكف مع أنه غير لازم على هذا القول. والكلام الجامع الذى يمكن أن يقال في المقام مستظهرا بالآيات الكريمة هو أن الحسنات والسيئات متحابطة في الجملة غير أن تأثير كل سيئة في كل حسنة وبالعكس بنحو النقص منه أو إفنائه مما لا دليل عليه ويدل عليه اعتبار حال الاخلاق والحالات النفسانية التى هي نعم العون في فهم هذه الحقائق القرآنية في باب الثواب والعقاب. وأما الكبائر والصغائر من المعاصي فظاهر الآية كما عرفت هو أن المعاصي بقياس

[ 332 ]

بعضها إلى بعض كقتل النفس المحترمة ظلما بالقياس إلى النظر إلى الاجنبية وشرب الخمر بالاستحلال بالقياس إلى شربها بهوى النفس بعضها كبيرة وبعضها صغيرة من غير ظهور ارتباط ذلك بمسألة الاحباط والتكفير بالكلية. ثم إن الآية ظاهرة في أن الله سبحانه يعد لمن اجتنب الكبائر أن يكفر عنه سيئاته جميعا ما تقدم منها وما تأخر على ما هو ظاهر إطلاق الآية ومن المعلوم أن الظاهر من هذا الاجتناب أن يأتي كل مؤمن بما يمكنه من اجتناب الكبائر وما يصدق في مورده الاجتناب من الكبائر لا أن يجتنب كل كبيرة بالكف عنها فإن الملتفت أدنى التفات إلى سلسلة الكبائر لا يرتاب في أنه لا يتحقق في الوجود من يميل إلى جميعها ويقدر عليها عامة أو يندر ندرة ملحقة بالعدم وتنزيل الآية هذه المنزلة لا يرتضيها الطبع المستقيم. فالمراد أن من اجتنب ما يقدر عليه من الكبائر وتتوق نفسه إليه منها وهى الكبائر التى يمكنه أن يجتنبها كفر الله سيئاته سواء جانسها أو لم يجانسها. وأما أن هذا التكفير للاجتناب بأن يكون الاجتناب في نفسه طاعة مكفرة للسيئات كما أن التوبة كذلك أو أن الانسان إذا لم يقترف الكبائر خلى ما بينه وبين الصغائر والطاعات الحسنة فالحسنات يكفرن سيئاته وقد قال الله تعالى إن الحسنات يذهبن السيئات: هود - 114 ظاهر الآية إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم الآية أن للاجتناب دخلا في التكفير وإلا كان الانسب بيان أن الطاعات يكفرن السيئات كما في قوله إن الحسنات الآية أو أن الله سبحانه يغفر الصغائر مهما كانت من غير حاجة إلى سرد الكلام جملة شرطية. والدليل على كبر المعصية هو شدة النهى الوارد عنها أو الايعاد عليها بالنار أو ما يقرب من ذلك سواء كان ذلك في كتاب أو سنة من غير دليل على الحصر. = بحث روائي = في الكافي عن الصادق عليه السلام: الكبائر التي أوجب الله عليها النار وفي الفقيه وتفسير العياشي عن الباقر عليه السلام: في الكبائر قال كل ما أوعد الله عليها النار

[ 333 ]

وفي ثواب الاعمال عن الصادق عليه السلام: من اجتنب ما أوعد الله عليه النار - إذا كان مؤمنا كفر الله عنه سيئاته ويدخله مدخلا كريما - والكبائر السبع الموجبات - قتل النفس الحرام وعقوق الوالدين - وأكل الربا والتعرب بعد الهجرة - وقذف المحصنة وأكل مال اليتيم - والفرار من الزحف أقول و الروايات من طرق الشيعة وأهل السنة في عد الكبائر كثيرة سيمر بك بعضها وقد عد الشرك بالله فيما نذكر منها إحدى الكبائر السبع إلا في هذه الرواية ولعله عليه السلام أخرجه من بينها لكونه أكبر الكبائر ويشير إليه قوله إذا كان مؤمنا. وفي المجمع روى عبد العظيم بن عبد الله الحسنى عن أبى جعفر محمد بن على عن أبيه على بن موسى الرضا عن موسى بن جعفر عليهم السلام قال: دخل عمرو بن عبيد البصري - على أبى عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام - فلما سلم وجلس تلا هذه الآية - الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش ثم أمسك - فقال أبو عبد الله ما أسكتك - قال احب أن أعرف الكبائر من كتاب الله - قال نعم يا عمرو أكبر الكبائر الشرك بالله - لقول الله عز وجل إن الله لا يغفر أن يشرك به - وقال من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار - وبعده اليأس من روح الله لان الله يقول - ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون - ثم الامن من مكر الله لان الله يقول - ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون - ومنها عقوق الوالدين لان الله تعالى جعل العاق جبارا شقيا - في قوله وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا - ومنها قتل النفس التى حرم الله إلا بالحق لانه يقول - ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها الآية - وقذف المحصنات لان الله يقول - إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات - لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم - وأكل مال اليتيم لقوله - الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية - والفرار من الزحف لان الله يقول - ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة - فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير - وأكل الربا لان الله يقول - الذين يأكلون الربا لا يقومون - إلا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان من المس - ويقول فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله - والسحر لان الله يقول - ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق - والزنا لان الله يقول - ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة - ويخلد فيه مهانا واليمين الغموس لان الله يقول - إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم

[ 334 ]

ثمنا قليلا - اولئك لا خلاق لهم في الآخرة الآية - والغلول قال الله ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة - ومنع الزكاة المفروضة لان الله يقول - يوم يحمى عليها في نار جهنم - فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم الآية - وشهادة الزور وكتمان الشهادة لان الله يقول - ومن يكتمها فإنه آثم قلبه - وشرب الخمر لان الله عدل بها عبادة الاوثان - وترك الصلاة متعمدا وشيئا مما فرض الله تعالى - لان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول - من ترك الصلاة متعمدا فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله - ونقض العهد وقطيعة الرحم لان الله يقول - اولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار - قال فخرج عمرو بن عبيد له صراخ من بكائه وهو يقول - هلك من قال برأيه ونازعكم في الفضل والعلم اقول قد روى من طرق أهل السنة ما يقرب منه عن ابن عباس ويتبين بالرواية أمران. الاول أن الكبيرة من المعاصي ما اشتد النهى عنها إما بالاصرار والبلوغ في النهى أو بالايعاد بالنار من الكتاب أو السنة كما يظهر من موارد استدلاله عليه السلام ومنه يظهر معنى ما مر في حديث الكافي أن الكبيرة ما أوجب الله عليها النار وما مر في حديث الفقيه وتفسير العياشي أن الكبيرة ما أوعد الله عليها النار فالمراد بإيجابها وإيعادها أعم من التصريح والتلويح في كلام الله أو حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأظن أن ما نقل في ذلك عن ابن عباس أيضا كذلك فمراده بالايعاد بالنار أعم من التصريح والتلويح في قرآن أو حديث ويشهد بذلك ما في تفسير الطبري عن ابن عباس قال الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب ويتبين بذلك أن ما نقل عنه أيضا في تفسير الطبري وغيره كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة ليس خلافا في معنى الكبيرة وإنما هو تكبير للمعاصي جميعا بقياس حقارة الانسان إلى عظمة ربه كما مر. والثاني أن حصر المعاصي الكبيرة في بعض ما تقدم وما يأتي من الروايات أو في ثمانية أو في تسع كما في بعض الروايات النبوية المروية من طرق السنة أو في عشرين كما في هذه الرواية أو في سبعين كما في روايات اخرى كل ذلك باعتبار اختلاف

[ 335 ]

مراتب الكبر في المعصية كما يدل عليه ما في الرواية من قوله عند تعداد الكبائر وأكبر الكبائر الشرك بالله. وفي الدر المنثور أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اجتنبوا السبع الموبقات قالوا وما هن يا رسول الله ؟ قال الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق - والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم - والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات. وفيه أخرج ابن حيان وابن مردويه عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والسنن والديات - وبعث به مع عمرو بن حزم. قال وكان في الكتاب - أن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة إشراك بالله - وقتل النفس المؤمنة بغير حق - والفرار يوم الزحف وعقوق الوالدين - ورمي المحصنة وتعلم السحر - وأكل الربا وأكل مال اليتيم. وفيه أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن أنس سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ألا إن شفاعتي لاهل الكبائر من امتي ثم تلا هذه الآية - إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم الآية. ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شئ عليما (32) - ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والاقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شئ شهيدا (33) - الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات

[ 336 ]

حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا (34) - وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا (35)): (بيان) الآيات مرتبطة بما تقدم من أحكام المواريث وأحكام النكاح يؤكد بها أمر الاحكام السابقة ويستنتج منها بعض الاحكام الكلية التي تصلح بعض الخلال العارضة في المعاشرة بين الرجال والنساء. قوله تعالى " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض " التمني قول الانسان ليت كذا كان كذا والظاهر أن تسمية القول بذلك من باب توصيف اللفظ بصفة المعنى وإنما التمني إنشاء نحو تعلق من النفس نظير تعلق الحب بما تراه متعذرا أو كالمتعذر سواء أظهر ذلك بلفظ أو لم يظهر. وظاهر الآية أنها مسوقة للنهي عن تمني فضل وزيادة موجودة ثابتة بين الناس وأنه ناش عن تلبس بعض طائفتي الرجال والنساء بهذا الفضل وأنه ينبغي الاعراض عن التعلق بمن له الفضل والتعلق بالله بالسؤال من الفضل الذي عنده تعالى وبهذا يتعين أن المراد بالفضل هو المزية التي رزقها الله تعالى كلا من طائفتي الرجال والنساء بتشريع الاحكام التي شرعت في خصوص ما يتعلق بالطائفتين كلتيهما كمزية الرجال على النساء في عدد الزوجات وزيادة السهم في الميراث ومزية النساء على الرجال في وجوب جعل المهر لهن ووجوب نفقتهن على الرجال. فالنهي عن تمني هذه المزية التي اختص بها صاحبها إنما هو لقطع شجرة الشر والفساد من أصلها فإن هذه المزايا مما تتعلق به النفس الانسانية لما أودعه الله في النفوس

[ 337 ]

من حبها والسعي لها لعمارة هذه الدار فيظهر الامر أولا في صورة التمني فإذا تكرر تبدل حسدا مستبطنا فإذا أديم عليه فاستقر في القلب سرى إلى مقام العمل والفعل الخارجي ثم إذا انضمت بعض هذه النفوس إلى بعض كان ذلك بلوى يفسد الارض ويهلك الحرث والنسل. ومن هنا يظهر أن النهي عن التمني نهي إرشادي يعود مصلحته إلى مصلحة حفظ الاحكام المشرعة المذكورة وليس بنهي مولوي. وفي نسبة الفضل إلى فعل الله سبحانه والتعبير بقوله بعضكم على بعض إيقاظ لصفة الخضوع لامر الله بإيمانهم به وغريزة الحب المثارة بالتنبه حتى يتنبه المفضل عليه أن المفضل بعض منه غير مبان. قوله تعالى للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ذكر الراغب أن الاكتساب إنما يستعمل فيما استفاده الانسان لنفسه والكسب أعم مما كان لنفسه أو لغيره والبيان المتقدم ينتج أن يكون هذه الجملة مبينة للنهي السابق عن التمني وبمنزلة التعليل له أي لا تتمنوا ذلك فإن هذه المزية إنما وجدت عند من يختص بها لانه اكتسبها بالنفسية التي له أو بعمل بدنه فإن الرجال إنما اختصوا بجواز اتخاذ أربع نسوة مثلا وحرم ذلك على النساء لان موقعهم في المجتمع الانساني موقع يستدعي ذلك دون موقع النساء وخصوا في الميراث بمثل حظ الانثيين لذلك أيضا وكذلك النساء خصصن بنصف سهم الرجال وجعل نفقتهن على الرجال وخصصن بالمهر لاستدعاء موقعهن ذلك وكذلك ما اكتسبته إحدى الطائفتين من المال بتجارة أو طريق آخر هو الموجب للاختصاص وما الله يريد ظلما للعباد. ومن هنا يظهر أن المراد بالاكتساب هو نوع من الحيازة والاختصاص أعم من أن يكون بعمل اختياري كالاكتساب بصنعة أو حرفة أو لا يكون بذلك لكنه ينتهي إلى تلبس صاحب الفضل بصفة توجب له ذلك كتلبس الانسان بذكورية أو أنوثية توجب له سهما ونصيبا كذا. وأئمة اللغة وإن ذكروا في الكسب والاكتساب أنهما يختصان بما يحوزه الانسان

[ 338 ]

بعمل اختياري كالطلب ونحوه لكنهم ذكروا أن الاصل في معنى الكسب هو الجمع وربما جاز أن يقال اكتسب فلان بجماله الشهرة ونحو ذلك وفسر الاكتساب في الآية بذلك بعض المفسرين وليس من البعيد أن يكون الاكتساب في الآية مستعملا فيما ذكر من المعنى على سبيل التشبيه والاستعارة. وأما كون المراد من الاكتساب في الآية ما يتحراه الانسان بعمله ويكون المعنى للرجال نصيب مما استفادوه لانفسهم من المال بعملهم وكذا النساء ويكون النهي عن التمني نهيا عن تمني ما بيد الناس من المال الذي استفادوه بصنعة أو حرفة فهو وإن كان معنى صحيحا في نفسه لكنه يوجب تضييق دائرة معنى الآية وانقطاع رابطتها مع ما تقدم من آيات الارث والنكاح. وكيف كان فمعنى الآية على ما تقدم من المعنى ولا تتمنوا الفضل والمزية المالي وغير المالي الذي خص الله تعالى به أحد القبيلين من الرجال والنساء ففضل به بعضكم على بعض فإن ذلك الفضل أمر خص به من خص به لانه أحرزه بنفسيته في المجتمع الانساني أو بعمل يده بتجارة ونحوها وله منه نصيب وإنما ينال كل نصيبه مما اكتسبه. قوله تعالى واسألوا الله من فضله الانعام على الغير بشئ مما عند المنعم لما كان غالبا بما هو زائد لا حاجة للمنعم إليه سمي فضلا ولما صرف الله تعالى وجوه الناس عن العناية بما أوتي أرباب الفضل من الفضل والرغبة فيه وكان حب المزايا الحيوية بل التفرد بها والتقدم فيها والاستعلاء من فطريات الانسان لا يسلب عنه حينا صرفهم تعالى إلى نفسه ووجه وجوههم نحو فضله وأمرهم أن يعرضوا عما في أيدي الناس ويقبلوا إلى جنابه ويسألوا من فضله فإن الفضل بيد الله وهو الذي أعطى كل ذي فضل فضله فله أن يعطيكم ما تزيدون به وتفضلون بذلك على غيركم ممن ترغبون فيما عنده وتتمنون ما أعطيه. وقد أبهم هذا الفضل الذي يجب أن يسأل منه بدخول لفظة من عليه وفيه من الفائدة أولا التعليم بأدب الدعاء والمسألة من جنابه تعالى فإن الاليق بالانسان المبني على الجهل بما ينفعه ويضره بحسب الواقع إذا سأل ربه العالم بحقيقة ما ينفع خلقه وما يضرهم القادر على كل شئ أن يسأله الخير فيما تتوق نفسه إليه ولا يطنب في تشخيص ما يسأله منه وتعيين الطريق إلى وصوله فكثيرا ما رأينا من كانت تتوق نفسه إلى حاجة من الحوائج الخاصة كمال أو ولد أو جاه ومنزلة أو صحة وعافية وكان

[ 339 ]

يلح في الدعاء والمسألة لاجلها لا يريد سواها ثم لما استجيب دعاؤه وأعطى مسألته كان في ذلك هلاكه وخيبة سعيه في الحياة. وثانيا الاشارة إلى أن يكون المسؤول ما لا يبطل به الحكمة الالهية في هذا الفضل الذي قرره الله تعالى بتشريع أو تكوين فمن الواجب أن يسألوا شيئا من فضل الله الذي اختص به غيرهم فلو سأل الرجال ما للنساء من الفضل أو بالعكس ثم أعطاهم الله ذلك بطلت الحكمة وفسدت الاحكام والقوانين المشرعة فافهم. فينبغي للانسان إذا دعا الله سبحانه عندما ضاقت نفسه لحاجة أن لا يسأله ما في أيدي الناس مما يرفع حاجته بل يسأله مما عنده وإذا سأله مما عنده أن لا يعلم لربه الخبير بحاله طريق الوصول إلى حاجته بل يسأله أن يرفع حاجته بما يعلمه خيرا من عنده. وأما قوله تعالى إن الله كان بكل شئ عليما فتعليل للنهي في صدر الآية أي لا تتمنوا ما أعطاه الله من فضله من أعطاه الله إن الله بكل شئ عليم لا يجهل طريق المصلحة ولا يخطئ في حكمه. (كلام في حقيقية قرآنية) اختلاف القرائح والاستعدادات في اقتناء مزايا الحياة في أفراد الانسان مما ينتهي إلى اصول طبيعية تكوينية لا مناص عن تأثيرها في فعلية اختلاف درجات الحياة وعلى ذلك جرى الحال في المجتمعات الانسانية من أقدم عهودها إلى يومنا هذا فيما نعلم. فقد كانت الافراد القوية من الانسان يستعبدون الضعفاء ويستخدمونهم في سبيل مشتهياتهم وهوى نفوسهم من غير قيد أو شرط وكان لا يسع لاولئك الضعفاء المساكين إلا الانقياد لاوامرهم ولا يهتدون إلا إلى إجابتهم بما يشتهونه ويريدونه منهم لكن القلوب ممتلئة غيظا وحنقا والنفوس متربصة ولا يزال الناس على هذه السنة التي ابتدأت سنة شيوخية وانتهت إلى طريقة ملوكية وامبراطورية. حتى إذا وفق النوع الانساني بالنهضة بعد النهضة على هدم هذه البنية المتغلبة وإلزام أولياء الحكومة والملك على اتباع الدساتير والقوانين الموضوعة لصلاح المجتمع وسعادته فارتحلت بذلك حكومة الارادات الجزافية وسيطرة السنن الاستبدادية ظاهرا وارتفع

[ 340 ]

اختلاف طبقات الناس وانقسامهم إلى مالك حاكم مطلق العنان ومملوك محكوم مأخوذ بزمامه غير أن شجرة الفساد أخذت في النمو في أرض غير الارض ومنظر غير منظره السابق والثمرة هي الثمرة وهو تمايز الصفات باختلاف الثروة بتراكم المال عند بعض وصفارة الكف عند آخر وبعد ما بين القبيلين بعدا لا يتمالك به المثري الواجد من نفسه إلا أن ينفذ بثروته في جميع شؤون حياة المجتمع ولا المسكين المعدم إلا أن ينهض للبراز ويقاوم الاضطهاد. فاستتبع ذلك سنة الشيوعية القائلة بالاشتراك في مواد الحياة وإلغاء المالكية وإبطال رؤوس الاموال وإن لكل فرد من المجتمع أن يتمتع بما عملته يداه وهيأه كماله النفساني الذي اكتسبه فانقطع بذلك أصل الاختلاف بالثروة والجدة غير أنه أورث من وجود الفساد ما لا يكاد تصيبه رمية السنة السابقة وهو بطلان حرية إرادة الفرد وانسلاب اختياره والطبيعة تدفع ذلك والخلقة لا توافقه وهيهات أن يعيش ما يرغم الطبيعة ويضطهد الخلقة. على أن أصل الفساد مع ذلك مستقر على قراره فإن الطبيعة الانسانية لا تنشط إلا لعمل فيه إمكان التميز والسبق ورجاء التقدم والفخر ومع إلغاء التمايزات تبطل الاعمال و فيه هلاك الانسانية وقد احتالوا لذلك بصرف هذه التميزات إلى الغايات والمقاصد الافتخارية التشريفية غير المادية وعاد بذلك المحذور جذعا فإن الانسان إن لم يذعن بحقيقتها لم يخضع لها وإن أذعن بها كان حال التمايز بها حال التمايز المادي. وقد احتالت الديموقراطية لدفع ما تسرب إليها من الفساد بإيضاح مفاسد هذه السنة بتوسعة التبليغ وبضرب الضرائب الثقيلة التي تذهب بجانب عظيم من أرباح المكاسب والمتاجر ولما ينفعهم ذلك فظهور دبيب الفساد في سنة مخالفيهم لا يسد طريق هجوم الشر على سنتهم أنفسهم ولا ذهاب جل الربح إلى بيت المال يمنع المترفين عن إترافهم ومظالمهم وهم يحيلون مساعيهم لمقاصدهم من تملك المال إلى التسلط وتداول المال في أيديهم فالمال يستفاد من التسلط ووضع اليد عليه وإدارته ما يستفاد من ملكه. فلا هؤلاء عالجوا الداء ولا اولئك ولا دواء بعد الكي وليس إلا لان الذي جعله البشر غاية وبغية لمجتمعه وهو التمتع بالحياة المادية بوصلة تهدي إلى قطب الفساد ولن تنقلب عن شأنها أينما حولت ومهما نصبت

[ 341 ]

والذي يراه الاسلام لقطع منابت هذا الفساد أن حرر الناس في جميع ما يهديهم إليه الفطرة الانسانية ثم قرب ما بين الطبقتين برفع مستوى حياة الفقراء بما وضع من الضرائب المالية ونحوها وخفض مستوى حياة الاغنياء بالمنع عن الاسراف والتبذير والتظاهر بما يبعدهم من حاق الوسط وتعديل ذلك بالتوحيد والاخلاق وصرف الوجوه عن المزايا المادية إلى كرامة التقوى وابتغاء ما عند الله من الفضل. وهو الذي يشير إليه قوله تعالى واسألوا الله من فضله الآية وقوله إن أكرمكم عند الله أتقاكم: الحجرات - 13 وقوله ففروا إلى الله: الذاريات - 50 وقد بينا فيما تقدم أن صرف وجوه الناس إلى الله سبحانه يستتبع اعتناءهم بأمر الاسباب الحقيقية الواقعية في تحري مقاصدهم الحيوية من غير أن يستتبع البطالة في اكتساب معيشة أو الكسل في ابتغاء سعادة فليس قول القائل إن الاسلام دين البطالة والخمود عن ابتغاء المقاصد الحيوية الانسانية إلا رمية من غير مرمى جهلا هذا ملخص القول في هذا المقصد وقد تكرر الكلام في أطرافه تفصيلا فيما تقدم من مختلف المباحث من هذا الكتاب. قوله تعالى ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والاقربون الآية الموالي جمع مولى وهو الولي وإن كثر استعماله في بعض المصاديق من الولاية كالمولى لسيد العبد لولايته عليه والمولى للناصر لولايته على أمر المنصور والمولى لابن العم لولايته على نكاح بنت عمه ولا يبعد أن يكون في الاصل مصدرا ميميا أو اسم مكان اريد به الشخص المتلبس به بوجه كما نطلق اليوم الحكومة والمحكمة ونريد بهما الحاكم. والعقد مقابل الحل واليمين مقابل اليسار واليمين اليد اليمنى واليمين الحلف وله غير ذلك من المعاني. ووقوع الآية مع قوله قبل ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض في سياق واحد واشتمالها على التوصية بإعطاء كل ذي نصيب نصيبه وأن الله جعل لكل موالي مما ترك الوالدان والاقربون يؤيد أن تكون الآية أعني قوله ولكل جعلنا الخ بضميمة الآية السابقة تلخيصا للاحكام والاوامر التي في آيات الارث ووصية إجمالية لما فيها من الشرائع التفصيلية كما كان قوله قبل آيات الارث للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون الآية تشريعا إجماليا كضرب القاعدة في باب الارث تعود إليه تفاصيل أحكام الارث.

[ 342 ]

ولازم ذلك أن ينطبق من اجمل ذكره من الوراث والمورثين على من ذكر منهم تفصيلا في آيات الارث فالمراد بالموالي جميع من ذكر وارثا فيها من الاولاد والابوين والاخوة والاخوات وغيرهم. والمراد بالاصناف الثلاث المذكورين في الآية بقوله الوالدان والاقربون والذين عقدت أيمانكم الاصناف المذكورة في آيات الارث وهم ثلاثه الوالدان والاقربون والزوجان فينطبق قوله الذين عقدت أيمانكم على الزوج والزوجة. فقوله ولكل أي ولكل واحد منكم ذكرا أو انثى جعلنا موالي أي أولياء في الوراثة يرثون ما تركتم من المال وقوله مما ترك من فيه للابتداء متعلق بالموالي كأن الولاية نشأت من المال أو متعلق بمحذوف أي يرثون أو يؤتون مما ترك وما ترك هو المال الذي تركه الميت المورث الذي هو الوالدان والاقربون نسبا والزوج والزوجة. وإطلاق الذين عقدت أيمانكم على الزوج والزوجة إطلاق كنائي فقد كان دأبهم في المعاقدات والمعاهدات أن يصافحوا فكأن أيمانهم التي يصافحون بها هي التي عقدت العقود وأبرمت العهود فالمراد الذين أوجدتم بالعقد سببية الازدواج بينكم وبينهم. وقوله فآتوهم نصيبهم الضمير للموالي والمراد بالنصيب ما بين في آيات الارث والفاء للتفريع والجملة متفرعة على قوله تعالى ولكل جعلنا موالي ثم أكد حكمه بإيتاء نصيبهم بقوله إن الله كان على كل شئ شهيدا. وهذا الذي ذكرناه من معنى الآية أقرب المعاني التي ذكروها في تفسيرها وربما ذكروا أن المراد بالموالي العصبة دون الورثة الذين هم أولى بالميراث ولا دليل عليه من جهة اللفظ بخلاف الورثة. وربما قيل إن من في قوله مما ترك الوالدان والاقربون بيانية والمراد بما الورثة الاولياء والمعنى ولكل منكم جعلنا أولياء يرثونه وهم الذين تركهم وخلفهم الوالدان والاقربون. وربما قيل إن المراد بالذين عقدت أيمانكم الحلفاء فقد كان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول دمي دمك وحربي حربك وسلمي سلمك وترثني وأرثك وتعقل عني وأعقل عنك فيكون للحليف السدس من مال الحليف.

[ 343 ]

وعلى هذا فالجملة مقطوعة عما قبلها والمعنى والحلفاء آتوهم سدسهم ثم نسخ ذلك بقوله واولوا الارحام بعضهم أولى ببعض وقيل إن المراد آتوهم نصيبهم من النصر والعقل والرفد ولا ميراث وعلى هذه فلا نسخ في الآية. وربما قيل إن المراد بهم الذين آخا بينهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة وكانوا يتوارثون بذلك بينهم ثم نسخ ذلك بآية الميراث. وربما قيل اريد بهم الادعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية فأمروا في الاسلام أن يوصوا لهم بوصية وذلك قوله تعالى فآتوهم نصيبهم. وهذه معان لا يساعدها سياق الآية ولا لفظها على ما لا يخفي للباحث المتأمل ولذلك أضربنا عن الاطناب في البحث عما يرد عليها. قوله تعالى الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم القيم هو الذي يقوم بأمر غيره والقوام والقيام مبالغة منه. والمراد بما فضل الله بعضهم على بعض هو ما يفضل ويزيد فيه الرجال بحسب الطبع على النساء وهو زيادة قوة التعقل فيهم وما يتفرع عليه من شدة البأس والقوة والطاقة على الشدائد من الاعمال ونحوها فإن حياة النساء حياة إحساسية عاطفية مبنية على الرقة واللطافة والمراد بما أنفقوا من أموالهم ما أنفقوه في مهورهن ونفقاتهن. وعموم هذه العلة يعطي أن الحكم المبني عليها أعني قوله الرجال قوامون على النساء غير مقصور على الازواج بأن يختص القوامية بالرجل على زوجته بل الحكم مجعول لقبيل الرجال على قبيل النساء في الجهات العامة التي ترتبط بها حياة القبيلين جميعا فالجهات العامة الاجتماعية التي ترتبط بفضل الرجال كجهتي الحكومة والقضاء مثلا الذين يتوقف عليهما حياة المجتمع وإنما يقومان بالتعقل الذي هو في الرجال بالطبع أزيد منه في النساء وكذا الدفاع الحربي الذي يرتبط بالشدة وقود التعقل كل ذلك مما يقوم به الرجال على النساء. وعلى هذا فقوله الرجال قوامون على النساء ذو إطلاق تام وأما قوله بعد فالصالحات قانتات الخ الظاهر في الاختصاص بما بين الرجل وزوجته على ما سيأتي فهو

[ 344 ]

فرع من فروع هذا الحكم المطلق وجزئي من جزئياته مستخرج منه من غير أن يتقيد به إطلاقه. قوله تعالى فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله المراد بالصلاح معناه اللغوي وهو ما يعبر عنه بلياقة النفس والقنوت هو دوام الطاعة والخضوع. ومقابلتها لقوله واللاتي تخافون نشوزهن الخ تفيد أن المراد بالصالحات الزوجات الصالحات وأن هذا الحكم مضروب على النساء في حال الازدواج لا مطلقا وأن قوله قانتات حافظات الذي هو إعطاء للامر في صورة التوصيف أي ليقنتن وليحفظن حكم مربوط بشؤون الزوجية والمعاشرة المنزلية وهذا مع ذلك حكم يتبع في سعته وضيقه علته أعني قيمومة الرجل على المرأة قيمومة زوجية فعليها أن تقنت له وتحفظه فيما يرجع إلى ما بينهما من شؤون الزوجية. وبعبارة اخرى كما أن قيمومة قبيل الرجال على قبيل النساء في المجتمع إنما تتعلق بالجهات العامة المشتركة بينهما المرتبطة بزيادة تعقل الرجل وشدته في البأس وهي جهات الحكومة والقضاء والحرب من غير أن يبطل بذلك ما للمرأة من الاستقلال في الارادة الفردية وعمل نفسها بأن تريد ما أحبت وتفعل ما شاءت من غير أن يحق للرجل أن يعارضها في شئ من ذلك في غير المنكر فلا جناح عليهم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف كذلك قيمومة الرجل لزوجته ليست بأن لا تنفذ للمرأة في ما تملكه إرادة ولا تصرف ولا أن لا تستقل المرأة في حفظ حقوقها الفردية والاجتماعية والدفاع عنها والتوسل إليها بالمقدمات الموصلة إليها بل معناها أن الرجل إذ كان ينفق ما ينفق من ماله بإزاء الاستمتاع فعليها أن تطاوعه وتطيعه في كل ما يرتبط بالاستمتاع والمباشرة عند الحضور وأن تحفظه في الغيب فلا تخونه عند غيبته بأن توطئ فراشه غيره وأن تمتع لغيره من نفسها ما ليس لغير الزوج التمتع منها بذلك ولا تخونه فيما وضعه تحت يدها من المال وسلطها عليه في ظرف الازدواج والاشتراك في الحياة المنزلية. فقوله فالصالحات قانتات أي ينبغي أن يتخذن لانفسهن وصف الصلاح وإذا كن صالحات فهن لا محاله قانتات أي يجب أن يقنتن ويطعن أزواجهن إطاعة دائمة فيما أرادوا منهن مما له مساس بالتمتع ويجب عليهن أن يحفظن جانبهم في جميع ما لهم من الحقوق إذا غابوا.

[ 345 ]

وأما قوله بما حفظ الله فالظاهر أن ما مصدرية والباء للآلة والمعنى إنهن قانتات لازواجهن حافظات للغيب بما حفظ الله لهم من الحقوق حيث شرع لهم القيمومة وأوجب عليهن الاطاعة وحفظ الغيب لهم. ويمكن أن يكون الباء للمقابلة والمعنى حينئذ أنه يجب عليهن القنوت وحفظ الغيب في مقابلة ما حفظ الله من حقوقهن حيث أحيا أمرهن في المجتمع البشري وأوجب على الرجال لهن المهر والنفقة والمعنى الاول أظهر. وهناك معان ذكروها في تفسير الآية أضربنا عن ذكرها لكون السياق لا يساعد شيئا منها. قوله تعالى واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن النشوز العصيان والاستكبار عن الطاعة والمراد بخوف النشوز ظهور آياته وعلائمه ولعل التفريع على خوف النشوز دون نفسه لمراعاة حال العظة من بين العلاجات الثلاث المذكورة فإن الوعظ كما أن له محلا مع تحقق العصيان كذلك له محل مع بدو آثار العصيان وعلائمه. والامور الثلاثة أعني ما يدل عليه قوله فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن وإن ذكرت معا وعطف بعضها على بعض بالواو فهي امور مترتبة تدريجية فالموعظة فإن لم تنجح فالهجرة فإن لم تنفع فالضرب ويدل على كون المراد بها التدرج فيها أنها بحسب الطبع وسائل للزجر مختلفة آخذه من الضعف إلى الشدة بحسب الترتيب المأخوذ في الكلام فالترتيب مفهوم من السياق دون الواو. وظاهر قوله واهجروهن في المضاجع أن تكون الهجرة مع حفظ المضاجعة كالاستدبار وترك الملاعبة ونحوها وإن أمكن أن يراد بمثل الكلام ترك المضاجعة لكنه بعيد وربما تأيد المعنى الاول بإتيان المضاجع بلفظ الجمع فإن المعنى الثاني لا حاجة فيه إلى إفادة كثرة المضجع ظاهرا. قوله تعالى فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إلخ أي لا تتخذوا عليهن علة تعتلون بها في إيذائهن مع إطاعتهن لكم ثم علل هذا النهي بقوله إن الله كان عليا كبيرا وهو إيذان لهم أن مقام ربهم على كبير فلا يغرنهم ما يجدونه من القوة والشدة في أنفسهم فيظلموهن بالاستعلاء والاستكبار عليهن.

[ 346 ]

قوله تعالى وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا الشقاق البينونة والعداوة وقد قرر الله سبحانه بعث الحكمين ليكون أبعد من الجور والتحكم وقوله إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما أي إن يرد الزوجان نوعا من الاصلاح من غير عناد ولجاج في الاختلاف فإن سلب الاختيار من أنفسهما وإلقاء زمام الامر إلى الحكمين المرضيين يوجب وفاق البين. واسند التوفيق إلى الله مع وجود السبب العادي الذي هو إرادتهما الاصلاح والمطاوعة لما حكم به الحكمان لانه تعالى هو السبب الحقيقي الذي يربط الاسباب بالمسببات وهو المعطي لكل ذى حق حقه ثم تمم الكلام بقوله إن الله كان عليما خبيرا ومناسبته ظاهرة. (كلام في معنى قيمومة الرجال على النساء) تقوية القرآن الكريم لجانب العقل الانساني السليم وترجيحه إياه على الهوى واتباع الشهوات والخضوع لحكم العواطف والاحساسات الحادة وحضه وترغيبه في اتباعه وتوصيته في حفظ هذه الوديعة الالهية عن الضيعة مما لا ستر عليه ولا حاجة إلى إيراد دليل كتابي يؤدي إليه فقد تضمن القرآن آيات كثيرة متكثرة في الدلالة على ذلك تصريحا وتلويحا وبكل لسان وبيان. ولم يهمل القرآن مع ذلك أمر العواطف الحسنة الطاهرة ومهام آثارها الجميلة التي يتربى بها الفرد ويقوم بها صلب المجتمع كقوله أشداء على الكفار رحماء بينهم الفتح - 29 وقوله لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة: الروم - 21 وقوله قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق: الاعراف - 32 لكنه عدلها بالموافقة لحكم العقل فصار اتباع حكم هذه العواطف والميول اتباعا لحكم العقل. وقد مر في بعض المباحث السابقة أن من حفظ الاسلام لجانب العقل وبنائه أحكامه المشرعة على ذلك أن جميع الاعمال والاحوال والاخلاق التي تبطل استقامة العقل في حكمه وتوجب خبطه في قضائه وتقويمه لشؤون المجتمع كشرب الخمر والقمار وأقسام المعاملات الغررية والكذب والبهتان والافتراء والغيبة كل ذلك محرمة في الدين.

[ 347 ]

والباحث المتأمل يحدس من هذا المقدار أن من الواجب أن يفوض زمام الامور الكلية والجهات العامة الاجتماعية التي ينبغي أن تدبرها قوة التعقل ويجتنب فيها من حكومة العواطف والميول النفسانية كجهات الحكومة والقضاء والحرب إلى من يمتاز بمزيد العقل ويضعف فيه حكم العواطف وهو قبيل الرجال دون النساء. وهو كذلك قال الله تعالى الرجال قوامون على النساء والسنة النبوية التي هي ترجمان البيانات القرآنية بينت ذلك كذلك وسيرته صلى الله عليه وآله وسلم جرت على ذلك أيام حياته فلم يول امرأة على قوم ولا أعطى امرأة منصب القضاء ولا دعاهن إلى غزاة بمعنى دعوتهن إلى أن يقاتلن. وأما غيرها من الجهات كجهات التعليم والتعلم والمكاسب والتمريض والعلاج وغيرها مما لا ينافي نجاح العمل فيها مداخلة العواطف فلم تمنعهن السنة ذلك والسيرة النبوية تمضى كثيرا منها والكتاب أيضا لا يخلو من دلالة على إجازة ذلك في حقهن فإن ذلك لازم ما اعطين من حرية الارادة والعمل في كثير من شؤون الحياة إذ لا معنى لاخراجهن من تحت ولاية الرجال وجعل الملك لهن بحيالهن ثم النهي عن قيامهن بإصلاح ما ملكته إيديهن بأي نحو من الاصلاح وكذا لا معنى لجعل حق الدعوى أو الشهادة لهن ثم المنع عن حضورهن عند الوالي أو القاضي وهكذا. اللهم إلا فيما يزاحم حق الزوج فإن له عليها قيمومة الطاعة في الحضور والحفظ في الغيبة ولا يمضى لها من شؤونها الجائزة ما يزاحم ذلك. (بحث روائي) في المجمع: في قوله تعالى ولا تتمنوا ما فضل الله الآية - أي لا يقل أحدكم - ليت ما اعطي فلان من النعمة والمرأة الحسنى كان لي فإن ذلك يكون حسدا ولكن يجوز أن يقول اللهم أعطني مثله قال: وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. أقول وروى العياشي في تفسيره عن الصادق عليه السلام مثله. في تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب عن الباقر والصادق عليهما السلام في قوله تعالى ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده وفي قوله ولا تتمنوا ما فضل الله به

[ 348 ]

بعضكم على بعض أنهما نزلتا في علي عليه السلام. أقول والرواية من باب الجري والتطبيق. وفي الكافي وتفسير القمي عن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن أبي جعفر عليه السلام قال: ليس من نفس إلا وقد فرض الله لها رزقها حلالا يأتيها في عافية وعرض لها بالحرام من وجه آخر فإن هي تناولت شيئا من الحرام - قاصها به من الحلال الذي فرض لها وعند الله سواهما فضل كثير وهو قول الله عز وجل واسألوا الله من فضله. أقول ورواه العياشي عن إسماعيل بن كثير رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وروى هذا المعنى أيضا عن أبي الهذيل عن الصادق عليه السلام وروى قريبا منه أيضا القمي في تفسيره عن الحسين بن مسلم عن الباقر عليه السلام. وقد تقدم كلام في حقيقة الرزق وفرضه وانقسامه إلى الرزق الحلال والحرام في ذيل قوله والله يرزق من يشاء بغير حساب: البقرة - 212 في الجزء الثاني فراجعه. وفي صحيح الترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير من طريق حكيم بن جبير عن رجل لم يسمه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل وإن من أفضل العبادة انتظار الفرج. وفي التهذيب بإسناده عن زرارة قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والاقربون - قال عنى بذلك اولى الارحام في المواريث ولم يعن أولياء النعمة فأولاهم بالميت أقربهم إليه من الرحم التي تجره إليها. وفيه أيضا بإسناده عن إبراهيم بن محرز قال: سأل أبا جعفر عليه السلام رجل وأنا عنده قال - فقال رجل لامرأته أمرك بيدك - قال أنى يكون هذا والله يقول - الرجال قوامون على النساء ليس هذا بشئ وفي الدر المنثور أخرج ابن أبى حاتم من طريق أشعث بن عبد الملك عن الحسن قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستعدى على زوجها أنه لطمها - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم

[ 349 ]

القصاص - فأنزل الله الرجال قوامون على النساء الآية - فرجعت بغير قصاص: أقول ورواه بطرق اخرى عنه صلى الله عليه وآله وسلم وفي بعضها قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أردت أمرا وأراد الله غيره ولعل المورد كان من موارد النشوز وإلا فذيل الآية فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ينفى ذلك. وفي ظاهر الروايات إشكال آخر من حيث إن ظاهرها أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم القصاص بيان للحكم عن استفتاء من السائل لا قضاء فيما لم يحضر طرفا الدعوى ولازمه أن يكون نزول الآية تخطئة للنبى صلى الله عليه وآله وسلم في حكمه وتشريعه وهو ينافي عصمته وليس بنسخ فإنه رفع حكم قبل العمل به والله سبحانه وإن تصرف في بعض أحكام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضعا أو رفعا لكن ذلك إنما هو في حكمه ورأيه في موارد ولايته لا في حكمه فيما شرعه لامته فإن ذلك تخطئة باطلة. وفي تفسير القمى في رواية أبى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام: في قوله قانتات يقول مطيعات وفي المجمع: في قوله تعالى فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن الآية: عن أبى جعفر عليه السلام قال: يحول ظهره إليها وفي معنى الضرب عن أبى جعفر عليه السلام: أنه الضرب بالسواك وفي الكافي بإسناده عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليه السلام: في قوله فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها - قال الحكمان يشترطان إن شاءا فرقا - وإن شاءا جمعا فإن فرقا فجائز - وإن جمعا فجائز أقول وروى هذا المعنى وما يقرب منه بعدة طرق اخر فيه وفي تفسير العياشي. وفي تفسير العياشي عن ابن مسلم عن أبى جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في امرأة تزوجها رجل - وشرط عليها وعلى أهلها ان تزوج عليها امرأة - وهجرها أو أتى عليها سرية فإنها طالق - فقال شرط الله قبل شرطكم إن شاء وفى بشرطه - وإن شاء أمسك امرأته ونكح عليها - وتسرى عليها وهجرها إن أتت سبيل ذلك - قال الله في كتابه - فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع - وقال احل لكم مما ملكت أيمانكم - وقال واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن - واهجروهن في المضاجع

[ 350 ]

واضربوهن - فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا وفي الدر المنثور أخرج البيهقى عن أسماء بنت يزيد الانصارية: أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه - فقالت بأبى أنت وامى إنى وافدة النساء اليك - واعلم نفسي لك الفداء - أنه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب - سمعت بمخرجي هذا إلا وهى على مثل رأيى - إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء - فآمنا بك وبإلهك الذى أرسلك - وإنا معشر النساء محصورات مقسورات - قواعد بيوتكم ومقضى شهواتكم - وحاملات أولادكم - وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمعة والجماعات - وعيادة المرضى وشهود الجنائز - والحج بعد الحج وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله - وإن الرجل منكم إذا خرج حاجا أو معتمرا - أو مرابطا حفظنا لكم أموالكم - وغزلنا لكم أثوابكم وربينا لكم أموالكم (1) - فما نشارككم في الاجر يا رسول الله - فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بوجهه كله - ثم قال هل سمعتم مقالة امرأة قط - أحسن من مساءلتها في أمر دينها من هذه - فقالوا يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدى إلى مثل هذا - فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليها - ثم قال لها انصرفي أيتها المرأة - وأعلمى من خلفك من النساء - أن حسن تبعل إحداكن لزوجها وطلبها مرضاته - واتباعها موافقته يعدل ذلك كله - فأدبرت المرأة وهى تهلل وتكبر استبشارا اقول والروايات في هذا المعنى كثيرة مروية في جوامع الحديث من طرق الشيعة وأهل السنة ومن أجمل ما روى فيه ما رواه في الكافي عن أبى إبراهيم موسى بن جعفر عليهما السلام: جهاد المرأة حسن التبعل ومن أجمع الكلمات لهذا المعنى مع اشتماله على اس ما بنى عليه التشريع ما في نهج البلاغة ورواه أيضا في الكافي بإسناده عن عبد الله ابن كثير عن الصادق عليه السلام عن علي عليه أفضل السلام وبإسناده أيضا عن الاصبغ ابن نباتة عنه عليه السلام في رسالته إلى ابنه: أن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة وما روى في ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنما المرأة لعبة من اتخذها فلا يضيعها - وقد كان يتعجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - كيف تعانق المرأة بيد ضربت بها ففي الكافي أيضا بإسناده عن أبى مريم عن أبى جعفر عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيضرب


(1) اولادكم ظ

[ 351 ]

أحدكم المرأة ثم يظل معانقها وأمثال هذه البيانات كثيرة في الاحاديث ومن التأمل فيها يظهر رأي الاسلام فيها. ولنرجع إلى ما كنا فيه من حديث أسماء بنت يزيد الانصارية فنقول يظهر من التأمل فيه وفي نظائره الحاكية عن دخول النساء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتكليمهن إياه فيما يرجع إلى شرائع الدين ومختلف ما قرره الاسلام في حقهن أنهن على احتجابهن واختصاصهن بالامور المنزلية من شؤون الحياة غالبا لم يكن ممنوعات من المراودة إلى ولي الامر والسعى في حل ما ربما كان يشكل عليهن وهذه حرية الاعتقاد التى باحثنا فيها في ضمن الكلام في المرابطة الاسلامية في آخر سورة آل عمران. ويستفاد منه ومن نظائره أيضا أولا أن الطريقة المرضية في حياة المرأة في الاسلام أن تشتغل بتدبير امور المنزل الداخلية وتربية الاولاد وهذه وإن كانت سنة مسنونة غير مفروضة لكن الترغيب والتحريض الندبى والظرف ظرف الدين والجو جو التقوى وابتغاء مرضاة الله وإيثار مثوبة الآخرة على عرض الدنيا والتربية على الاخلاق الصالحة للنساء كالعفة والحياء ومحبة الاولاد والتعلق بالحياة المنزلية كانت تحفظ هذه السنة. وكان الاشتغال بهذه الشؤون والاعتكاف على احياء العواطف الطاهرة المودعة في وجودهن يشغلهن عن الورود في مجامع الرجال واختلاطهن بهم في حدود ما أباح الله لهن ويشهد بذلك بقاء هذه السنة بين المسلمين على ساقها قرونا كثيرة بعد ذلك حتى نفذ فيهن الاسترسال الغربي المسمى بحرية النساء في المجتمع فجرت اليهن واليهم هلاك الاخلاق وفساد الحياة وهم لا يشعرون وسوف يعلمون ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتح الله عليهم بركات من السماء واكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ولكن كذبوا فاخذوا. وثانيا أن من السنة المفروضة في الاسلام منع النساء من القيام بأمر الجهاد كالقضاء والولاية. وثالثا أن الاسلام لم يهمل أمر هذه الحرمانات كحرمان المرأة من فضيلة الجهاد في سبيل الله دون أن تداركها وجبر كسرها بما يعادلها عنده بمزايا وفضائل فيها مفاخر حقيقية كما أنه جعل حسن التبعل مثلا جهادا للمرأة وهذه الصنائع والمكارم أوشك أن لا يكون لها عندنا وظرفنا هذا الظرف الحيوي الفاسد قدر لكن الظرف

[ 352 ]

الاسلامي الذى يقوم الامور بقيمها الحقيقية ويتنافس فيه في الفضائل الانسانية المرضية عند الله سبحانه وهو يقدرها حق قدرها يقدر لسلوك كل انسان مسلكه الذى ندب إليه وللزومه الطريق الذى خط له من القيمة ما يتعادل فيه أنواع الخدمات الانسانية وتتوازن أعمالها فلا فضل في الاسلام للشهادة في معركة القتال والسماحة بدماء المهج على ما فيه من الفضل على لزوم المرأة وظيفتها في الزوجية وكذا لا فخار لوال يدير رحى المجتمع الحيوى ولا لقاض يتكى على مسند القضاء وهما منصبان ليس للمتقلد بهما في الدنيا لو عمل فيما عمل بالحق وجرى فيما جرى على الحق إلا تحمل أثقال الولاية والقضاء والتعرض لمهالك ومخاطر تهددهما حينا بعد حين في حقوق من لا حامي له إلا رب العالمين وإن ربك لبالمرصاد فأي فخر لهؤلاء على من منعه الدين الورود موردهما وخط له خطا وأشار إليه بلزومه وسلوكه. فهذه المفاخر إنما يحييها ويقيم صلبها بإيثار الناس لها نوع المجتمع الذى يربى أجزاءه على ما يندب إليه من غير تناقض واختلاف الشؤون الاجتماعية والاعمال الانسانية بحسب اختلاف المجتمعات في أجوائها مما لا يسع أحدا إنكاره. هو ذا الجندي الذى يلقى بنفسه في أخطر المهالك وهو الموت في منفجر القنابل المبيدة ابتغاء ما يراه كرامة ومزيدا وهو زعمه أن سيذكر اسمه في فهرس من فدا بنفسه وطنه ويفتخر بذلك على كل ذي فخر في عين ما يعتقد بأن الموت فوت وبطلان وليس إلا بغية وهمية وكرامة خرافية وكذلك ما تؤثره هذه الكواكب الظاهرة في سماء السينماء آت ويعظم قدرهن بذلك الناس تعظيما لا يكاد يناله رؤساء الحكومات السامية وقد كان ما يعتورنه من الشغل وما يعطين من أنفسهن للملا دهرا طويلا في المجتمعات الانسانية أعظم ما يسقط به قدر النساء وأشنع ما يعيرن به فليس ذلك كله إلا أن الظرف من ظروف الحياة يعين ما يعينه على أن يقع من سواد الناس موقع القبول ويعظم الحقير ويهون الخطير فليس من المستبعد أن يعظم الاسلام امورا نستحقرها ونحن في هذه الظروف المضطربة أو يحقر امورا نستعظمها ونتنافس فيها فلم يكن الظرف في صدر الاسلام إلا ظرف التقوى وإيثار الآخرة على الاولى = واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي

[ 353 ]

القربى واليتامى والمساكين والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا (36) - الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (37) - والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا (38) - وما ذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما (39) - إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما (40) - فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا (41) - يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الارض ولا يكتمون الله حديثا (42)) = بيان = آيات سبع فيها حث على الاحسان والانفاق في سبيل الله ووعد جميل عليه وذم على تركه إما بالبخل أو بالانفاق مراءاة للناس. قوله تعالى واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا هذا هو التوحيد غير أن المراد به التوحيد العملي وهو إتيان الاعمال الحسنة ومنها الاحسان الذى هو مورد الكلام طلبا لمرضاة الله وابتغاء لثواب الآخرة دون اتباع الهوى والشرك به. والدليل على ذلك أنه تعالى عقب هذا الكلام أعنى قوله واعبدوا الله ولا تشركوا

[ 354 ]

به شيئا وعلله بقوله إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا وذكر أنه البخيل بماله والمنفق لرئاء الناس فهم الذين يشركون بالله ولا يعبدونه وحده ثم قال وما ذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا وظهر بذلك أن شركهم عدم إيمانهم باليوم الآخر وقال تعالى ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب: ص - 26 فبين أن الضلال باتباع الهوى وكل شرك ضلال إنما هو بنسيان يوم الحساب ثم قال أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم: الجاثية - 23 فبين أن اتباع الهوى عبادة له وشرك به. فتبين بذلك كله أن التوحيد العملي أن يعمل الانسان ابتغاء مثوبة الله وهو على ذكر من يوم الحساب الذى فيه ظهور المثوبات والعقوبات وأن الشرك في العمل أن ينسى اليوم الآخر ولو آمن به لم ينسه وأن يعمل عمله لا لطلب مثوبة بل لما يزينه له هواه من التعلق بالمال أو حمد الناس ونحو ذلك فقد أشخص هذا الانسان هواه تجاه ربه وأشرك به. فالمراد بعبادة الله والاخلاص له فيها أن يكون طلبا لمرضاته وابتغاء لمثوبته لا لاتباع الهوى. قوله تعالى وبالوالدين إحسانا إلى قوله أيمانكم الظاهر أن قوله إحسانا مفعول مطلق لفعل مقدر تقديره وأحسنوا بالوالدين إحسانا والاحسان يتعدى بالباء وإلى معا يقال أحسنت به وأحسنت إليه وقوله وبذي القربى هو وما بعده معطوف على الوالدين وذو القربى القرابة وقوله والجار ذي القربى والجار الجنب قرينة المقابلة في الوصف تعطى أن يكون المراد بالجار ذي القربى الجار القريب دارا وبالجار الجنب وهو الأجنبي الجار البعيد دارا وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: تحديد الجوار بأربعين ذراعا: وفي رواية: أربعون دارا ولعل الروايتين ناظرتان إلى الجار ذي القربى والجار الجنب. وقوله والصاحب بالجنب هو الذى يصاحبك ملازما لجنبك وهو بمفهومه يعم مصاحب السفر من رفقة الطريق ومصاحب الحضر والمنزل وغيرهم وقوله وابن السبيل هو الذى لا يعرف من حاله إلا أنه سالك سبيل كأنه ليس له من ينتسب إليه إلا السبيل فهو ابنه وأما كونه فقيرا ذا مسكنة عادما لزاد أو راحلة فكأنه خارج

[ 355 ]

من مفهوم اللفظ وقوله وما ملكت أيمانكم المراد به العبيد والاماء بقرينة عده في عداد من يحسن إليهم وقد كثر التعبير عنهم بما ملكته الايمان دون من ملكته. قوله تعالى إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا المختال التائه المتبختر المسخر لخياله ومنه الخيل للفرس لانه يتبختر في مشيته والفخور كثير الفخر والوصفان أعنى الاختيال وكثرة الفخر من لوازم التعلق بالمال والجاه والافراط في حبهما ولذلك لم يكن الله ليحب المختال الفخور لتعلق قلبه بغيره تعالى وما ذكره تعالى في تفسيره بقوله الذين يبخلون الخ وقوله والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس الخ يبين كون الطائفتين معروضتين للخيلاء والفخر فالطائفة الاولى متعلقة القلب بالمال والثانية بالجاه وإن كان بين الجاه والمال تلازم في الجملة. وكان من طبع الكلام أن يشتغل بذكر أعمالهما من البخل والكتمان وغيرهما لكن بدأ بالوصفين ليدل على السبب في عدم الحب كما لا يخفى. قوله تعالى الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل الآية أمرهم الناس بالبخل إنما هو بسيرتهم الفاسدة وعملهم به سواء أمروا به لفظا أو سكتوا فإن هذه الطائفة لكونهم اولى ثروة ومال يتقرب إليهم الناس ويخضعون لهم لما في طباع الناس من الطمع ففعلهم آمر وزاجر كقولهم وأما كتمانهم ما آتاهم الله من فضله فهو تظاهرهم بظاهر الفاقد المعدم للمال لتأذيهم من سؤال الناس ما في أيديهم وخوفهم على أنفسهم لو منعوا وخشيتهم من توجه النفوس إلى أموالهم والمراد بالكافرين الساترون لنعمة الله التى أنعم بها ومنه الكافر المعروف لستره على الحق بإنكاره. قوله تعالى والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس الخ أي لمراءآتهم وفي الآية دلالة على أن الرئاء في الانفاق أو هو مطلقا شرك بالله كاشف عن عدم الايمان به لاعتماد المرائى على نفوس الناس واستحسانهم فعله وشرك من جهة العمل لان المرائى لا يريد بعمله ثواب الآخرة وإنما يريد ما يرجوه من نتائج إنفاقه في الدنيا وعلى أن المرائى قرين الشيطان وساء قرينا. قوله تعالى وما ذا عليهم لو آمنوا الآية استفهام للتأسف أو التعجب وفي الآية دلالة على أن الاستنكاف عن الانفاق في سبيل الله ناش من فقدان التلبس بالايمان بالله وباليوم الآخر حقيقة وإن تلبس به ظاهرا

[ 356 ]

وقوله وكان الله بهم عليما تمهيد لما في الآية التالية من البيان والامس لهذه الجملة بحسب المعنى أن تكون حالا. قوله تعالى إن الله لا يظلم مثقال ذرة الآية المثقال هو الزنة والذرة هو الصغير من النمل الاحمر أو هو الواحد من الهباء المبثوث في الهواء الذى لا يكاد يرى صغرا وقوله مثقال ذرة نائب مناب المفعول المطلق أي لا يظلم ظلما يعدل مثقال ذرة وزنا. وقوله وإن تك حسنة قرئ برفع حسنة وبنصبها فعلى تقدير الرفع كان تامة وعلى تقدير النصب تقديره وإن تكن المثقال المذكور حسنة يضاعفها وتأنيث الضمير في قوله إن تك إما من جهة تأنيث الخبر أو لكسب المثقال التأنيث بالاضافة إلى ذرة. والسياق يفيد أن تكون الآية بمنزلة التعليل للاستفهام السابق والتقدير ومن الاسف عليهم ان لم يؤمنوا ولم ينفقوا فإنهم لو آمنوا وأنفقوا والله عليم بهم لم يكن الله ليظلمهم في مثقال ذرة أنفقوها بالاهمال وترك الجزاء وإن تك حسنة يضاعفها والله أعلم. قوله تعالى فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد الآية قد تقدم بعض الكلام في معنى الشهادة على الاعمال في تفسير قوله تعالى لتكونوا شهداء على الناس: البقرة - 143 من الجزء الاول من هذا الكتاب وسيجئ بعض آخر في محله المناسب له. قوله تعالى يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول الآية نسبة المعصية إلى الرسول يشهد أن المراد بها معصية أوامره صلى الله عليه وآله وسلم الصادرة عن مقام ولايته لا معصية الله تعالى في أحكام الشريعة وقوله لو تسوى بهم الارض كناية عن الموت بمعنى بطلان الوجود نظير قوله تعالى ويقول الكافر يا ليتنى كنت ترابا: النبأ - 40. وقوله ولا يكتمون الله حديثا ظاهر السياق أنه معطوف على موضع قوله يود الذين كفروا وفائدته الدلالة بوجه على ما يعلل به تمنيهم الموت وهو أنهم بارزون يومئذ لله لا يخفى عليه منهم شئ لظهور حالهم عليه تعالى بحضور أعمالهم وشهادة أعضائهم وشهادة الانبياء والملائكة وغيرهم عليهم والله من ورائهم محيط

[ 357 ]

فيودون عند ذلك أن لو لم يكونوا وليس لهم أن يكتموه تعالى حديثا مع ما يشاهدون من ظهور مساوى أعمالهم وقبائح أفعالهم. وأما قوله تعالى يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم: المجادلة - 18 فسيجئ إن شاء الله تعالى إن ذلك إنما هو لايجاب ملكة الكذب التى حصلوها في الدنيا لا للاخفاء وكتمان الحديث يوم لا يخفى على الله منهم شئ. = بحث روائي = في تفسير العياشي: في قوله تعالى وبالوالدين إحسانا الآية: عن سلام الجعفي عن أبى جعفر عليه السلام وأبان بن تغلب عن أبى عبد الله عليه السلام: نزلت في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي على عليه السلام ثم قال وروى مثل ذلك في حديث ابن جبلة قال قال وروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنا وعلى أبوا هذه الامة أقول وقال البحراني في تفسير البرهان بعد نقل الحديث قلت وروى ذلك صاحب الفائق. وروى العياشي هذا المعنى عن أبى بصير عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليه السلام ورواه ابن شهر آشوب عن أبان عن أبى جعفر عليه السلام والذى تعرض له الخبر هو من بطن القرآن بالمعنى الذى بحثنا عنه في مبحث المحكم والمتشابه في الجزء الثالث من هذا الكتاب إذ الاب أو الوالد هو المبدء الانساني لوجود الانسان والمربى له فمعلم الانسان ومربيه للكمال أبوه فمثل النبي والولى عليهما أفضل الصلاة أحق أن يكون أبا للمؤمن المهتدى به المقتبس من أنوار علومه ومعارفه من الاب الجسماني الذى لا شأن له إلا المبدئية والتربية في الجسم فالنبى والولى أبوان والآيات القرآنية التى توصى الاولاد بوالديه تشملهما بحسب الباطن وإن كانت بحسب ظاهرها لا تعدو الابوين الجسمانيين. وفي تفسير العياشي أيضا عن أبى صالح عن أبى العباس: في قول الله والجار ذي القربى والجار الجنب قال - الذى ليس بينك وبينه قرابة - والصاحب بالجنب قال الصاحب في السفر

[ 358 ]

أقول قوله الذى ليس بينك تفسير الجار ذي القربى والجنب معا وإن أمكن رجوعه إلى الجار الجنب فقط وقوله الصاحب في السفر لعله من قبيل ذكر بعض المصاديق. وفيه عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن جده قال قال أمير المؤمنين عليه السلام: في خطبة يصف هول يوم القيامة - ختم على الافواه فلا تكلم وتكلمت الايدى - وشهدت الارجل - وأنطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثا واعلم أن الاخبار كثيرة من طرق أهل السنة في أن الآيات نازلة في حق اليهود وهى وإن كان يؤيدها ما ينتهى إليه ذيل الآيات من التعرض لحال أهل الكتاب من اليهود في بخلهم وولعهم بجمع المال وادخاره وكذا وسوستهم للمؤمنين وترغيبهم على الكف عن الانفاق في سبيل الله وتفتينهم إياهم وإخزائهم لهم وإفساد الامر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكن الاخبار المذكورة مع ذلك أشبه بالتطبيق النظرى منها بنقل السبب في النزول كما هو الغالب في الاخبار الناقلة لاسباب النزول ولذلك تركنا نقلها على كثرتها. واعلم أيضا أن الاخبار الواردة عن النبي وآله صلى الله عليه وآله وسلم في إحسان الوالدين وذي القربى واليتامى وغيرهم من الطوائف المذكورة في الآية فوق حد الاحصاء على معروفيتها وشهرتها وهو الموجب للاغماض عن إيرادها ههنا على أن لكل منها وحده مواقع خاصة في القرآن ذكر ما يخصها من الاخبار هناك أنسب = يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلوة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابرى سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا (43))

[ 359 ]

بيان قد تقدم في الكلام على قوله تعالى يسألونك عن الخمر والميسر: البقرة - 219 أن الآيات المتعرضة لامر الخمر خمس طوائف وأن ضم هذه الآيات بعضها إلى بعض يفيد أن هذه الآية يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الآية نزلت بعد قوله تعالى تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا: النحل - 67 وقوله قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم: الاعراف - 33 وقبل قوله تعالى يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما: البقرة - 219 وقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه: المائدة - 90 وهذه آخر الآيات نزولا. ويمكن بوجه أن يتصور الترتيب على خلاف هذا الذي ذكرناه فتكون النازلة أولا آية النحل ثم الاعراف ثم البقرة ثم النساء ثم المائدة فيكون ما يفيده هذا الترتيب من قصة النهى القطعي عن شرب الخمر على خلاف ما يفيده الترتيب السابق فيكون ما في سورة الاعراف نهيا من غير تفسير ثم الذى في سورة البقرة نهيا باتا لكن المسلمين كانوا يتعللون في الاجتناب حتى نهوا عنها نهيا جازما في حال الصلاة في سورة النساء ثم نهيا مطلقا في جميع الحالات في سورة المائدة ولعلك إن تدبرت في مضامين الآيات رجحت الترتيب السابق على هذا الترتيب ولم تجوز بعد النهي الصريح الذي في آية البقرة النهى الذى في آية النساء المختص بحال الصلاة فهذه الآية قبل آية البقرة إلا أن نقول إن النهى عن الصلاة في حال السكر كناية عن الصلاة كسلان كما ورد في بعض الروايات الآتية. وأما وقوع الآية بين ما تقدمها وما تأخر عنها من الآيات فهي كالمتخللة المعترضة إلا أن ههنا احتمالا ربما صحح هذا النحو من التخلل والاعتراض وهو غير عزيز في القرآن وهو جواز أن تتنزل عدة من الآيات ذات سياق واحد متصل منسجم تدريجا في خلال أيام ثم تمس الحاجة إلى نزول آية أو آيات ولما تمت الآيات النازلة على سياق واحد فتقع الآية بين الآيات كالمعترضة المتخللة وليست بأجنبية بحسب الحقيقة وإنما هي كالكلام بين الكلام لرفع توهم لازم الدفع أو مس حاجة إلى إيراده نظير قوله تعالى

[ 360 ]

بل الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه كلا بل تحبون العاجلة الآيات: القيامة - 20 انظر إلى موضع قوله لا تحرك إلى قوله بيانه. وعلى هذا فلا حاجة إلى التكلف في بيان وجه ارتباط الآية بما قبلها وارتباط ما بعدها بها على أن القرآن إنما نزل نجوما ولا موجب لهذا الارتباط إلا في السور النازلة دفعة أو الآيات الواضحة الاتصال الكاشف ذلك عن الارتباط بينها. قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إلى قوله ما تقولون المراد بالصلاة المسجد والدليل عليه قوله ولا جنبا إلا عابرى سبيل والمقتضى لهذا التجوز قوله حتى تعلموا ما تقولون إذ لو قيل لا تقربوا المسجد وأنتم سكارى لم يستقم تعليله بقوله حتى تعلموا ما تقولون أو أفاد التعليل معنى آخر غير مقصود مع أن المقصود إفادة أنكم في حال الصلاة تواجهون مقام العظمة والكبرياء وتخاطبون رب العالمين فلا يصلح لكم أن تسكروا وتبطلوا عقولكم برجس الخمر فلا تعلموا ما تقولون وهذا المعنى كما ترى يناسب النهى عن اقتراب الصلاة لكن الصلاة لما كانت أكثر ما تقع تقع في المسجد جماعة على السنة وكان من القصد أن تذكر أحكام الجنب في دخوله المسجد أوجز في المقال وسبك الكلام على ما ترى. وعلى هذا فقوله حتى تعلموا ما تقولون في مقام التعليل للنهى عن شرب الخمر بحيث يبقى سكرها إلى حال دخول الصلاة أي نهيناكم عنه لغاية أن تعلموا ما تقولون وليس غاية للحكم بمعنى أن لا تقربوا إلى أن تعلموا ما تقولون فإذا علمتم ما تقولون فلا بأس. قوله تعالى ولا جنبا إلا عابرى سبيل إلى آخر الآية سيأتي الكلام في الآية في تفسير قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة: المائدة - 6. = بحث روائي = في تفسير العياشي عن محمد بن الفضل عن أبى الحسن عليه السلام: في قول الله لا تقربوا الصلاة - وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون قال - هذا قبل أن تحرم الخمر أقول ينبغى أن تحمل الرواية على أن المراد بتحريم الخمر توضيح تحريمها وإلا

[ 361 ]

فهى مخالفة للكتاب فإن آية الاعراف تحرم الخمر بعنوان أنه إثم صريحا وآية البقرة تصرح بأن في الخمر إثما كبيرا فقد حرمت الخمر في مكة قبل الهجرة لكون سورة الاعراف مكية ولم يختلف أحد في أن هذه الآية آية النساء مدنية ومثل هذه الرواية عدة روايات من طرق أهل السنة تصرح بكون الآية نازلة قبل تحريم الخمر ويمكن أن تكون الرواية ناظرة إلى كون المراد بالآية عن الصلاة كسلان. وفيه عن زرارة عن أبى جعفر عليه السلام قال: لا تقم إلى الصلاة متكاسلا ولا متناعسا - ولا متثاقلا فإنها من خلل النفاق - فإن الله نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة - وهم سكارى يعنى من النوم اقول قوله فإنها من خلل النفاق استفاد عليه السلام ذلك من قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا فالمتمرد عن هذا الخطاب منافق غير مؤمن وقوله يعنى من النوم يحتمل أن يكون من كلام الراوي ويحتمل أن يكون من كلامه عليه السلام ويكون تفسيرا للآية من قبيل بطن القرآن ويمكن أن يكون من الظهر. وقد وردت روايات أخر في تفسيره بالنوم رواها العياشي في تفسيره عن الحلبي في روايتين والكليني في الكافي بإسناده عن زيد الشحام عن الصادق عليه السلام وبإسناده عن زرارة عن الباقر عليه السلام وروى هذا المعنى أيضا البخاري في صحيحه عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم = ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل (44) والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا (45) - من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع

[ 362 ]

وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا (46) - يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا (47) - إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما (48) - أ لم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكى من يشاء ولا يظلمون فتيلا (49) - أنظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا (50) - أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا (51) - أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا (52) - أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا (53) - أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما (54) - فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا (55) - إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما (56) - والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا لهم

[ 363 ]

فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا (57) - إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا (58)) = بيان = آيات متعرضة لحال أهل الكتاب وتفصيل لمظالمهم وخياناتهم في دين الله وأوضح ما تنطبق على اليهود وهى ذات سياق واحد متصل والآية الاخيرة إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها الآية وإن ذكر بعضهم أنها مكية واستثناها في آيتين من سورة النساء المدنية وهي هذه الآية وقوله تعالى يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة الآية: النساء - 176 على ما في المجمع لكن الآية ظاهرة الارتباط بما قبلها من الآيات وكذا آية الاستفتاء فإنها في الارث وقد شرع في المدينة. قوله تعالى أ لم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب " الآية قد تقدم في الكلام على الآيات (36 - 42) أنها مرتبطة بعض الارتباط بهذه الآيات وقد سمعت القول في نزول تلك الآيات في حق اليهود. وبالجملة يلوح من هذه الآيات أن اليهود كانوا يلقون إلى المؤمنين المودة ويظهرون لهم النصح فيفتنونهم بذلك ويأمرونهم بالبخل والامساك عن الانفاق ليمنعوا بذلك سعيهم عن النجاح وجدهم في التقدم والتعالي وهذا لازم كون تلك الآيات نازلة في حق اليهود أو في حق من كان يسار اليهود ويصادقهم ثم تنحرف عن الحق بتحريفهم ويميل إلى حيث يميلونه فيبخل ثم يأمر بالبخل. وهذا هو الذي يستفاد من قوله ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم إلى آخر الآية. فمعنى الآيتين والله أعلم أن ما نبينه لكم تصديق ما بيناه لكم من حال الممسك عن الانفاق في سبيل الله بالاختيال والفخر والبخل والرئاء أنك ترى اليهود الذين

[ 364 ]

اوتوا نصيبا من الكتاب أي حظا منه لا جميعه كما يدعون لانفسهم يشترون الضلالة ويختارونه على الهدى ويريدون أن تضلوا السبيل فإنهم وإن لقوكم ببشر الوجه وظهروا لكم في زي الصلاح واتصلوا بكم اتصال الاولياء الناصرين فذكروا لكم ما ربما استحسنته طباعكم واستصوبته قلوبكم لكنهم ما يريدون إلا ضلالكم عن السبيل كما اختاروا لانفسهم الضلالة والله أعلم منكم بأعدائكم وهم أعداؤكم فلا يغرنكم ظاهر ما تشاهدون من حالهم فإياكم أن تطيعوا أمرهم أو تصغوا إلى أقوالهم المزوقة وإلقاءآتهم المزخرفة وأنتم تقدرون أنهم أولياءكم وأنصاركم فأنتم لا تحتاجون إلى ولايتهم الكاذبة ونصرتهم المرجوة وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا فأي حاجة مع ولايته ونصرته إلى ولايتهم ونصرتهم. قوله تعالى من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه إلى قوله في الدين من في قوله من الذين بيانية وهو بيان لقوله في الآية السابقة الذين اوتوا نصيبا من الكتاب أو لقوله بأعدائكم وربما قيل إن قوله من الذين هادوا خبر لمبتدء محذوف وهو الموصوف المحذوف لقوله يحرفون الكلم والتقدير من الذين هادوا قوم يحرفون أو من الذين هادوا من يحرفون قالوا وحذف الموصوف شائع كقول ذي الرمة: فظلوا ومنهم دمعه سابق له * * وآخر يشني دمعه العين بالمهل يريد ومنهم قوم دمعه أو ومنهم من دمعه. وقد وصف الله تعالى هذه الطائفة بتحريف الكلم عن مواضعه وذلك إما بتغيير مواضع الالفاظ بالتقديم والتأخير والاسقاط والزيادة كما ينسب إلى التوراة الموجودة وإما بتفسير ما ورد عن موسى عليه السلام في التوراة وعن سائر الانبياء بغير ما قصد منه من المعنى الحق كما أولوا ما ورد في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بشارات التوراة ومن قبل اولوا ما ورد في المسيح عليه السلام من البشارة وقالوا إن الموعود لم يجئ بعد وهم ينتظرون قدومه إلى اليوم. ومن الممكن أن يكون المراد بتحريف الكلم عن مواضعه ما سيذكره تعالى بقوله ويقولون سمعنا وعصينا فتكون هذه الجمل معطوفة على قوله يحرفون ويكون المراد حينئذ من تحريف الكلم عن مواضعه استعمال القول بوضعه في غير المحل الذي ينبغي أن

[ 365 ]

يوضع فيه فقول القائل سمعنا من حقه أن يوضع في موضع الطاعة فيقال سمعنا وأطعنا لا أن يقال سمعنا وعصينا أو يوضع سمعنا موضع التهكم والاستهزاء وكذا قول القائل اسمع ينبغي أن يقال فيه اسمع أسمعك الله لا أن يقال اسمع غير مسمع أي لا أسمعك الله وراعنا وهو يفيد في لغة اليهود معنى اسمع غير مسمع. وقوله ليا بألسنتهم وطعنا في الدين أصل اللي الفتل أي يميلون بألسنتهم فيظهرون الباطل من كلامهم في صورة الحق والازراء والاهانة في صور التأدب والاحترام فإن المؤمنين كانوا يخاطبون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين ما كانوا يكلمونه بقولهم راعنا يا رسول الله ومعناه انظرنا واسمع منا حتى نوفي غرضنا من كلامنا فاغتنمت اليهود ذلك فكانوا يخاطبون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم راعنا وهم يريدون به ما عندهم من المعنى المستهجن غير الحري بمقامه صلى الله عليه وآله وسلم فذموا به في هذه الآية وهو قوله تعالى " ويحرفون الكلم عن مواضعه " ثم فسره بقوله " ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع ثم عطف عليه كعطف التفسير قوله وراعنا ثم ذكر أن هذا الفعال المذموم منهم لي بالالسن وطعن في الدين فقال ليا بألسنتهم وطعنا في الدين والمصدران في موضع الحال والتقدير لاوين بألسنتهم وطاعنين في الدين. قوله تعالى ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا لكان خيرا لهم وأقوم كون هذا القول منهم وهو مشتمل على أدب الدين والخضوع للحق خيرا وأقوم مما قالوه مع اشتماله على اللي والطعن المذمومين ولا خير فيه ولا قوام) مبني على مقايسة الاثر الحق الذي في هذا الكلام الحق على ما يظنونه من الاثر في كلامهم وإن لم يكن له ذلك بحسب الحقيقة فالمقايسة بين الاثر الحق وبين الاثر المظنون حقا والمعنى أنهم لو قالوا سمعنا وأطعنا لكان فيه من الخير والقوام أكثر مما يقدرون في أنفسهم لهذا اللي والطعن فالكلام يجرى مجرى قوله تعالى وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين: الجمعة - 11. قوله تعالى ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا تأييس للسامعين من أن تقول اليهود سمعنا وأطعنا فإنه كلمة إيمان وهؤلاء ملعونون لا يوفقون للايمان ولذلك قيل لو أنهم قالوا الدال على التمني المشعر بالاستحالة. والظاهر أن الباء في قوله بكفرهم للسببية دون الآية فإن الكفر يمكن

[ 366 ]

أن يزاح بالايمان فهو لا يوجب بما هو كفر لعنة تمنع عن الايمان منعا قاطعا لكنهم لما كفروا وسيشرح الله تعالى في آخر السورة حال كفرهم لعنهم الله بسبب ذلك لعنا ألزم الكفر عليهم إلزاما لا يؤمنون بذلك إلا قليلا فافهم ذلك. وأما قوله فلا يؤمنون إلا قليلا فقد قيل إن قليلا حال والتقدير إلا وهم قليل أي لا يؤمنون إلا في حال هم قليل وربما قيل إن قليلا صفة لموصوف محذوف والتقدير فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا وهذا الوجه كسابقه لا بأس به لكن يجب أن يزاد فيه أن اتصاف الايمان بالقلة إنما هو من قبيل الوصف بحال المتعلق أي إيمانا المؤمن به قليل. وأما ما ذكره بعض المفسرين أن المراد به قليل الايمان في مقابل كامله وذكر أن المعنى فلا يؤمنون إلا قليلا من الايمان لا يعتد به إذ لا يصلح عمل صاحبه ولا يزكي نفسه ولا يرقي عقله فقد أخطأ فإن الايمان إنما يتصف بالمستقر والمستودع والكامل والناقص في درجات ومراتب مختلفة وأما القلة وتقابلها الكثرة فلا يتصف بهما وخاصة في مثل القرآن الذي هو أبلغ الكلام. على أن المراد بالايمان المذكور في الآية إما حقيقة الايمان القلبي في مقابل النفاق أو صورة الايمان التي ربما يطلق عليها الاسلام واعتباره على أي معنى من معانيه والاعتناء به في الاسلام مما لا ريب فيه والآيات القرآنية ناصة فيه قال تعالى ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا: النساء - 94 مع أن الذي يستثني الله تعالى منه قوله ولكن لعنهم الله بكفرهم كان يكفي فيه أقل درجات الايمان أو الاسلام الظاهري بحفظهم الظاهر بقولهم سمعنا وأطعنا كسائر المسلمين. والذي أوقعه في هذا الخطا ما توهمه أن لعنه تعالى إياهم بكفرهم لا يجوز أن يتخلف عن التأثير بإيمان بعضهم فقدر أن القلة وصف الايمان وهي ما لا يعتد به من الايمان حتى يستقيم قوله لعنهم الله بكفرهم وقد غفل عن أن هذه الخطابات وما تشتمل عليه من صفات الذم والمؤاخذات والتوبيخات كل ذلك متوجهة إلى المجتمعات من حيث الاجتماع فالذي لحقه اللعن والغضب والمؤاخذات العامة الاخرى إنما هو المجتمع اليهودي من حيث إنه مجتمع مكون فلا يؤمنون ولا يسعدون ولا يفلحون وهو كذلك إلى هذا اليوم وهم على ذلك إلى يوم القيامة.

[ 367 ]

وأما الاستثناء فإنما هو بالنسبة إلى الافراد وخروج بعض الافراد من الحكم المحتوم على المجتمع ليس نقضا لذلك الحكم والمحوج إلى هذا الاستثناء أن الافراد بوجه هم المجتمع فقوله فلا يؤمنون حيث نفي فيه الايمان عن الافراد وإن كان ذلك نفيا عنهم من حيث جهة الاجتماع وكان يمكن فيه أن يتوهم أن الحكم شامل لكل واحد واحد منهم بحيث لا يتخلص منه أحد استثنى فقيل إلا قليلا فالآية تجري مجرى قوله تعالى ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم: النساء - 66. قوله تعالى يا ايها الذين اوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا الخ الطمس محو أثر الشئ والوجه ما يستقبلك من الشئ ويظهر منه وهو من الانسان الجانب المقدم الظاهر من الرأس وما يستقبلك منه ويستعمل في الامور المعنوية كما يستعمل في الامور الحسية والادبار جمع دبر بضمتين وهو القفا والمراد بأصحاب السبت قوم من اليهود كانوا يعدون في السبت فلعنهم الله ومسخهم قال تعالى واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم - الاعراف - 163 وقال تعالى ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها: البقرة - 66. وقد كانت الآيات السابقة كما عرفت متعرضة لحال اليهود أو لحال طائفة من اليهود وانجر القول إلى أنهم بإزاء ما خانوا الله ورسوله وأفسدوا صالح دينهم ابتلوا بلعنة من الله لحق جمعهم وسلبهم التوفيق للايمان إلا قليلا فعم الخطاب لجميع أهل الكتاب على ما يفيده قوله يا أيها الذين اوتوا الكتاب ودعاهم إلى الايمان بالكتاب الذي نزله مصدقا لما معهم وأوعدهم بالسخط الذي يلحقهم لو تمردوا واستكبروا من غير عذر من طمس أو لعن يتبعانهم اتباعا لا ريب فيه. وذلك ما ذكره بقوله من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها فطمس الوجوه محو هذه الوجوه التي يتوجه بها البشر نحو مقاصدها الحيوية مما فيه سعادة الانسان المترقبة والمرجوة لكن لا المحو الذي يوجب فناء الوجوه وزوالها وبطلان آثارها بل محوا يوجب ارتداد تلك الوجوه على أدبارها فهي تقصد مقاصدها على الفطرة التي فطر عليها لكن لما كانت منصوبة إلى الاقفية ومردودة على الادبار لا تقصا

[ 368 ]

إلا ما خلفته وراءها ولا تمشي إليه إلا القهقري. وهذا الانسان وهو بالطبع والفطرة متوجه نحو ما يراه خيرا وسعادة لنفسه كلما توجه إلى ما يراه خيرا لنفسه وصلاحا لدينه أو لدنياه لم ينل إلا شرا وفسادا وكلما بالغ في التقدم زاد في التأخر وليس يفلح أبدا. وأما لعنهم كلعن أصحاب السبت فظاهره المسخ على ما تقدم من آيات أصحاب السبت التي تخبر عن مسخهم قردة. وعلى هذا فلفظة أو في قوله أو نلعنهم على ظاهرها من إفادة الترديد والفرق بين الوعيدين أن الاول أعني الطمس يوجب تغيير مقاصد المغضوب عليهم من غير تغيير الخلقة إلا في بعض كيفياتها والثاني أعني اللعن كلعن أصحاب السبت يوجب تغيير المقصد بتغيير الخلقة الانسانية إلى خلقه حيوانية كالقردة. فهؤلاء إن تمردوا عن الامتثال وسوف يتمردون على ما تفيده خاتمة الآية كان لهم إحدى سخطتين إما طمس الوجوه وإما اللعن كلعن أصحاب السبت لكن الآية تدل على أن هذه السخطة لا تعمهم جميعهم حيث قال وجوها فأتى بالجمع المنكر ولو كان المراد هو الجميع لم ينكر ولتنكير الوجوه وعدم تعيينه نكتة اخرى هي أن المقام لما كان مقام الايعاد والتهديد وهو إيعاد للجماعه بشر لا يحلق إلا ببعضهم كان إبهام الافراد الذين يقع عليهم السخط الالهي أوقع في الانذار والتخويف لان وصفهم على إبهامه يقبل الانطباق على كل واحد واحد من القوم فلا يأمن أحدهم أن يمسه هذا العذاب البئيس وهذه الصناعة شائعة في اللسان في مقام التهديد والتخويف. وفي قوله تعالى أو نلعنهم حيث أرجع فيه ضمير هم الموضوع لاولي العقل إلى قوله وجوها كما هو الظاهر تلويحا أو تصريحا بأن المراد بالوجوه الاشخاص من حيث استقبالهم مقاصدهم وبذلك يضعف احتمال أن يكون المراد بطمس الوجوه وردها على أدبارها تحويل وجوه الابدان إلى الاقفية كما قال به بعضهم ويقوى بذلك احتمال أن المراد من تحويل الوجوه إلى الادبار تحويل النفوس من حال استقامه الفكر وإدراك الواقعيات على واقعيتها إلى حال الاعوجاج والانحطاط الفكري بحيث لا يشاهد حقا إلا أعرض عنه واشمأز منه ولا باطلا إلا مال إليه وتولع به.

[ 369 ]

وهذا نوع من التصرف الالهي مقتا ونقمة نظير ما يدل عليه قوله تعالى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون: الانعام - 110. فتبين مما مر أن المراد بطمس الوجوه في الآية نوع تصرف إلهي في النفوس يوجب تغيير طباعها من مطاوعة الحق وتجنب الباطل إلى اتباع الباطل والاحتراز عن الحق في باب الايمان بالله وآياته كما يؤيده صدر الآية آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس الخ وكذا تبين أن المراد باللعن المذكور فيها المسخ. وربما قيل إن المراد بالطمس تحويل وجوه قوم إلى أقفيتهم ويكون ذلك في آخر الزمان أو يوم القيامة وفيه أن قوله أو نلعنهم ينافي ذلك كما تقدم بيانه. وربما قيل إن المراد بالطمس الخذلان الدنيوي فلا يزالون على ذلة ونكبة لا يقصدون غاية ذات سعادة إلا بدلها الله عليهم سرابا لا خير فيه وفيه أنه وإن كان لا يبعد كل البعد لكن صدر الآية كما تقدم ينافيه. وربما قيل إن المراد به إجلاؤهم وردهم ثانيا إلى حيث خرجوا منه وقد أخرجوا من الحجاز إلى أرض الشام وفلسطين وقد جاؤوا منهما وفيه أن صدر الآية بسياقه يؤيد غير ذلك كما عرفته. نعم من الممكن أن يقال إن المراد به تقليب افئدتهم وطمس وجوه باطنهم من الحق إلى نحو الباطل فلا يفلحون بالايمان بالله وآياته ثم إن الدين الحق لما كان هو الصراط الذي لا ينجح إنسان في سعادة حياته الدنيا إلا بركوبه والاستواء عليه وليس للناكب عنه إلا الوقوع في كانون الفساد والسقوط في مهابط الهلاك قال تعالى ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا: الروم: 41 وقال تعالى ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذبوا فأخذناهم: الاعراف - 96 ولازم هذه الحقيقة أن طمس الوجوه عن المعارف الحقة الدينية طمس لها عن حقائق سعادة الحياة الدنيا بجميع أقسامها فالمحروم من سعادة الدين محروم من سعادة الدنيا من استقرار الحال وتمهد الامن وسودد الاستقلال والملك وكل ما يطيب به العيش ويدر به ضرع العمل

[ 370 ]

اللهم إلا على قدر ما نسرب المواد الدينية في مجتمعهم وعلى هذا فلا بأس بالجمع بين الوجوه المذكورة جلها أو كلها. قوله تعالى وكان أمر الله مفعولا إشاره إلى أن الامر لا محالة واقع وقد وقع على ما ذكره الله في كتابه من لعنهم وإنزال السخط عليهم وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة وغير ذلك في آيات كثيرة. قوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ظاهر السياق أن الآية في مقام التعليل للحكم المذكور في الآية السابقة أعنى قوله آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس الخ فيعود المعنى إلى مثل قولنا فإنكم إن لم تؤمنوا به كنتم بذلك مشركين والله لا يغفر أن يشرك به فيحل عليكم غضبه وعقوبته فيطمس وجوهكم بردها على أدبارها أو يلعنكم فنتيجه عدم المغفرة هذه ترتب آثار الشرك الدنيوية من طمس أو لعن عليه. وهذا هو الفرق بين مضمون هذه الآية وقوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا: النساء - 116 فإن هذه الآية (آية 48) تهدد بآثار الشرك الدنيوية وتلك آية 116 تهدد بآثاره الاخروية وذلك بحسب الانطباق على المورد وإن كانتا بحسب الاطلاق كلتاهما شاملتين لجميع الآثار. ومغفرته سبحانه وعدم مغفرته لا يقع شئ منهما وقوعا جزافيا بل على وفق الحكمة وهو العزيز الحكيم فأما عدم مغفرته للشرك فإن الخلقة إنما تثبت على ما فيها من الرحمة على أساس العبودية والربوبية قال تعالى وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون الذاريات - 56 ولا عبودية مع شرك وأما مغفرته لسائر المعاصي والذنوب التي دون الشرك فلشفاعة من جعل له الشفاعة من الانبياء والاولياء والملائكة والاعمال الصالحة على ما مر تفصيله في بحث الشفاعة في الجزء الاول من هذا الكتاب. وأما التوبة فالآية غير متعرضة لشانها من حيث خصوص مورد الآية لان موردها عدم الايمان ولا توبة معه على أن التوبة يغفر معها جميع الذنوب حتى الشرك قال تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم: الزمر - 54.

[ 371 ]

والمراد بالشرك في الآية ما يعم الكفر لا محالة فإن الكافر أيضا لا يغفر له البتة وإن لم يصدق عليه المشرك بعنوان التسمية بناء على أن أهل الكتاب لا يسمون في القرآن مشركين وإن كان كفرهم بالقرآن وبما جاء به النبي شركا منهم أشركوا به (راجع تفسير آية 221 من البقرة) وإذا لم يؤمن أهل الكتاب بما نزل الله مصدقا لما معهم فقد كفروا به وأشركوا ما في أيديهم بالله سبحانه فإنه شئ لا يريده الله على الصفة التي أخذوه بها فالمؤمن بموسى عليه السلام إذا كفر بالمسيح عليه السلام فقد كفر بالله وأشرك به موسى ولعل ما ذكرناه هو النكتة لقوله تعالى أن يشرك به دون أن يقول المشرك أو المشركين. وقوله تعالى لمن يشاء تقييد للكلام لدفع توهم أن لاحد من الناس تأثيرا فيه تعالى يوجب به عليه المغفرة فيحكم عليه تعالى حاكم أو يقهره قاهر وتعليق الامور الثابتة في القرآن على المشيئة كثير والوجه في كلها أو جلها دفع ما ذكرناه من التوهم كقوله تعالى خالدين فيها ما دامت السموات والارض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ: هود - 108. على أن من الحكمة أن لا يغفر لكل مذنب ذنبه وإلا لغى الامر والنهى وبطل التشريع وفسد أمر التربية الالهية وإليه الاشارة بقوله لمن يشاء ومن هنا يظهر أن كل واحد من المعاصي لا بد أن لا يغفر بعض أفراده وإلا لغى النهي عنه وهذا لا ينافي عموم لسان آيات أسباب المغفرة فإن الكلام في الوقوع دون الوعد على وجه الاطلاق ومن المعاصي ما يصدر عمن لا يغفر له بشرك ونحوه. فمعنى الآية أنه تعالى لا يغفر الشرك من كافر ولا مشرك ويغفر سائر الذنوب دون الشرك بشفاعة شافع من عباده أو عمل صالح وليس هو تعالى مقهورا أن يغفر كل ذنب من هذه الذنوب لكل مذنب بل له أن يغفر وله أن لا يغفر كل ذلك لحكمة. قوله تعالى ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم قال الراغب أصل الزكاة النمو الحاصل من بركة الله تعالى إلى أن قال وتزكية الانسان نفسه ضربان أحدهما بالفعل وهو محمود وإليه قصد بقوله قد أفلح من تزكى والثاني بالقول كتزكيته لعدل غيره وذلك مذموم أن يفعل الانسان بنفسه وقد نهى الله تعالى عنه فقال لا تزكوا أنفسكم ونهيه عن ذلك تأديب لقبح مدح الانسان نفسه عقلا وشرعا ولهذا قيل

[ 372 ]

لحكيم ما الذي لا يحسن وإن كان حقا فقال مدح الرجل نفسه انتهى كلامه. ولما كانت الآية في ضمن الآيات المسرودة للتعرض لحال أهل الكتاب كان الظاهر أن هؤلاء المزكين لانفسهم هم أهل الكتاب أو بعضهم ولم يوصفوا بأهل الكتاب لان العلماء بالله وآياته لا ينبغي لهم أن يتلبسوا بأمثال هذه الرذائل فالاصرار عليها انسلاخ عن الكتاب وعلمه. ويؤيده ما حكاه الله تعالى عن اليهود من قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه " المائدة - 18 " وقولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودة: البقرة - 80 وزعمهم الولاية كما في قوله تعالى قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس: الجمعة - 6 فالآية تكني عن اليهود وفيها استشهاد لما تقدم ذكره في الآيات السابقة من استكبارهم عن الخضوع للحق واتباعه والايمان بآيات الله سبحانه واستقرار اللعن الالهي فيهم وأن ذلك من لوازم إعجابهم بأنفسهم وتزكيتهم لها. قوله تعالى بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا إضراب عن تزكيتهم لانفسهم ورد لهم فيما زكوه وبيان أن ذلك من شؤون الربوبية يختص به تعالى فإن الانسان وإن أمكن أن يتصف بفضائل ويتلبس بأنواع الشرف والسودد المعنوي غير أن اعتناءه بذلك واعتماده عليه لا يتم إلا بإعطائه لنفسه استغناء واستقلالا وهو في معنى دعوى الالوهية والشركة مع رب العالمين وأين الانسان الفقير الذي لا يملك لنفسه ضرا أو لا نفعا ولا موتا ولا حياة والاستغناء عن الله سبحانه في خير أو فضيلة ؟ والانسان في نفسه وفي جميع شؤون نفسه والخير الذي يزعم أنه يملكه وجميع أسباب ذلك الخير مملوك لله سبحانه محضا من غير استثناء فماذا يبقى للانسان ؟. وهذا الغرور والاعجاب الذي يبعث الانسان إلى تزكية نفسه هو العجب الذي هو من امهات الرذائل ثم لا يلبث هذا الانسان المغرور المعتمد على نفسه دون أن يمس غيره فيتولد من رذيلته هذه رذيلة اخرى وهي رذيلة التكبر ويتم تكبره في صورة الاستعلاء على غيره من عباد الله فيستعبد به عباد الله سبحانه ويجري به كل ظلم وبغي بغير حق وهتك محارم الله وبسط السلطة على دماء الناس وأعراضهم وأموالهم. وهذا كله إذا كان الوصف وصفا فرديا وأما إذا تعدى الفرد وصار خلقا اجتماعيا

[ 373 ]

وسيرة قومية فهو الخطر الذي فيه هلاك النوع وفساد الارض وهو الذي يحكيه تعالى عن اليهود إذ قالوا ليس علينا في الاميين سبيل: آل عمران - 75. فما كان لبشر أن يذكر لنفسه من الفضيلة ما يمدحها به سواء كان صادقا فيما يقول أو كاذبا لانه لا يملك ذلك لنفسه لكن الله سبحانه لما كان هو المالك لما ملكه والمعطي الفضل لمن يشاء وكيف يشاء كان له أن يزكى من شاء تزكية عملية بإعطاء الفضل وإفاضة النعمة وأن يزكى من يشاء تزكية قولية يذكره بما يمتدح به ويشرفه بصفات الكمال كقوله في آدم ونوح إن الله اصطفى آدم ونوحا: آل عمران - 33 وقوله في إبراهيم وإدريس إنه كان صديقا نبيا: مريم - 41، 56 وقوله في يعقوب وإنه لذو علم لما علمناه: يوسف - 68 وقوله في يوسف إنه من عبادنا المخلصين: يوسف - 24 وقوله في حق موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا: مريم - 51 وقوله في حق عيسى وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين: آل عمران - 45 وقوله في سليمان وأيوب نعم العبد إنه أواب: ص - 30، 44 وقوله في محمد صلى الله عليه وآله وسلم إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين: الاعراف - 196 وقوله وإنك لعلى خلق عظيم: القلم - 4 وكذا قوله تعالى في حق عدة من الانبياء ذكرهم في سور الانعام ومريم والانبياء والصافات وص وغيرها. وبالجملة فالتزكية لله سبحانه حق لا يشاركه فيه غيره إذ لا يصدر عن غيره إلا من ظلم وإلى ظلم ولا يصدر عنه تعالى إلا حقا وعدلا يقدر بقدره لا يفرط ولا يفرط ولذا ذيل قوله بل الله يزكي من يشاء بقوله وهو في معنى التعليل ولا يظلمون فتيلا وقد تبين مما مر أن تزكيته تعالى وإن كانت مطلقة تشمل التزكية العملية والتزكية القولية لكنها تنطبق بحسب مورد الكلام على التزكية القولية. قوله تعالى ولا يظلمون فتيلا الفتيل فعيل بمعنى المفعول من الفتل وهو اللي قيل المراد به ما يكون في شق النواة وقيل هو ما في بطن النواة وقد ورد في روايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام: أنه النقطة التي على النواة والنقير ما في ظهرها والقطمير قشرها وقيل هو ما فتلته بين إصبعيك من الوسخ وكيف كان هو كناية عن الشئ الحقير الذي لا يعتد به. وقد بان بالآية الشريفة أمران أحدهما أن ليس لصاحب الفضل أن يعجبه

[ 374 ]

فضله ويمدح نفسه بل هو مما يختص به تعالى فإن ظاهر الآية ان الله يختص به أن يزكي كل من جاز أن يتلبس بالتزكية فليس لغير صاحب الفضل أيضا أن يزكيه إلا بما زكاه الله به وينتج ذلك أن الفضائل هي التي مدحها الله وزكاها فلا قدر لفضل لا يعرفه الدين ولا يسميه فضلا ولا يستلزم ذلك أن تبطل آثار الفضائل عند الناس فلا يعرفوا لصاحب الفضل فضله ولا يعظموا قدره بل هي شعائر الله وعلائمه وقد قال تعالى ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب: الحج - 32 فعلى الجاهل أن يخضع للعالم ويعرف له قدره فإنه من اتباع الحق وقد قال تعالى هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون: الزمر - 9 وإن لم يكن للعالم أن يتبجح بعلمه ويمدح نفسه والامر في جميع الفضائل الحقيقية الانسانية على هذا الحال. وثانيهما أن ما ذكره بعض باحثينا واتبعوا في ذلك ما ذكره المغاربة أن من الفضائل الانسانية الاعتماد بالنفس أمر لا يعرفه الدين ولا يوافق مذاق القرآن والذي يراه القرآن في ذلك هو الاعتماد بالله والتعزز بالله قال تعالى الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل: آل عمران - 173 وقال أن القوة لله جميعا: البقرة - 165 وقال إن العزة لله جميعا: يونس - 65 إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى انظر كيف يفترون على الله الكذب الخ فتزكيتهم أنفسهم ببنوة الله وحبه وولايته ونحو ذلك افتراء على الله إذ لم يجعل الله لهم ذلك على أن أصل التزكية افتراء وإن كانت عن صدق فإنه كما تقدم بيانه إسناد شريك إلى الله وليس له في ملكه شريك قال تعالى ولم يكن له شريك في الملك: الاسراء - 111. وقوله وكفى به إثما مبينا أي لو لم يكن في التزكية إلا أنه افتراء على الله لكفى في كونه إثما مبينا والتعبير بالاثم وهو الفعل المذموم الذي يمنع الانسان من نيل الخيرات ويبطئها هو المناسب لهذه المعصية لكونه من اشراك الشرك وفروعه يمنع نزول الرحمة وكذا في شرك الكفر الذي يمنع المغفرة كما وقع في الآية السابقة ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما بعد قوله إن الله لا يغفر أن يشرك به. قوله تعالى ألم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت الجبت والجبس كل ما لا خير فيه وقيل وكل ما يعبد من دون الله سبحانه

[ 375 ]

والطاغوت مصدر في الاصل كالطغيان يستعمل كثيرا بمعنى الفاعل وقيل هو كل معبود من دون الله والآية تكشف عن وقوع واقعة قضى فيها بعض أهل الكتاب للذين كفروا على الذين آمنوا بأن سبيل المشركين أهدى من سبيل المؤمنين وليس عند المؤمنين إلا دين التوحيد المنزل في القرآن المصدق لما عندهم ولا عند المشركين إلا الايمان بالجبت والطاغوت فهذا القضاء اعتراف منهم بأن للمشركين نصيبا من الحق وهو الايمان بالجبت والطاغوت الذي نسبه الله تعالى إليهم ثم لعنهم الله بقوله اولئك الذين لعنهم الله الآية. وهذا يؤيد ما ورد في أسباب النزول أن مشركي مكة طلبوا من أهل الكتاب أن يحكموا بينهم وبين المؤمنين فيما ينتحلونه من الدين فقضوا لهم على المؤمنين وسيأتي الرواية في ذلك في البحث الروائي الآتي. وقد ذكر كونهم ذوي نصيب من الكتاب ليكون أوقع في وقوع الذم واللوم عليهم فإن إيمان علماء الكتاب بالجبت والطاغوت وقد بين لهم الكتاب أمرهما أشنع وأفظع. قوله تعالى أم لهم نصيب من الملك إلى قوله نقيرا " النقير فعيل بمعنى المفعول وهو المقدار اليسير الذي يأخذه الطير من الارض بنقر منقاره وقد مر له معنى آخر في قوله ولا يظلمون فتيلا الآية. وقد ذكروا أن أم في قوله أم لهم نصيب من الملك منقطعة والمعنى بل ألهم نصيب من الملك والاستفهام إنكاري أي ليس لهم ذلك. وقد جوز بعضهم أن تكون " أم " متصلة وقال إن التقدير أهم أولى بالنبوة أم لهم نصيب من الملك ؟ ورد بأن حذف الهمزة إنما يجوز في ضرورة الشعر ولا ضرورة في القرآن والظاهر أن أم متصلة وأن الشق المحذوف ما يدل عليه الآية السابقة ألم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب الآية والتقدير ألهم كل ما حكموا به من حكم أم لهم نصيب من الملك أم يحسدون الناس ؟ وعلى هذا تستقيم الشقوق وتترتب ويتصل الكلام في سوقه. والمراد بالملك هو السلطنة على الامور المادية والمعنوية فيشمل ملك النبوة والولاية والهداية وملك الرقاب والثروة وذلك أنه هو الظاهر من سياق الجمل السابقة واللاحقة فإن الآية السابقة تومئ إلى دعواهم أنهم يملكون القضاء والحكم على المؤمنين وهو

[ 376 ]

مسانخ للملك على الفضائل المعنوية وذيل الآية: " فإذن لا يؤتون الناس نقيرا " يدل على ملك الماديات أو ما يشمل ذلك فالمراد به الاعم من ملك الماديات والمعنويات. فيؤول معنى الآية إلى نحو قولنا أم لهم نصيب من الملك الذي أنعم الله به على نبيه بالنبوة والولاية والهداية ونحوه ولو كان لهم ذلك لم يؤتوا الناس أقل القليل الذي لا يعتد به لبخلهم وسوء سريرتهم فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لامسكتم خشية الانفاق: الاسراء - 100. قوله تعالى أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله وهذا آخر الشقوق الثلاثة المذكورة ووجه الكلام إلى اليهود جوابا عن قضائهم على المؤمنين بأن دين المشركين اهدى من دينهم. والمراد بالناس على ما يدل عليه هذا السياق هم الذين آمنوا وبما آتاهم الله من فضله هو النبوة والكتاب والمعارف الدينية غير أن ذيل الآية فقد آتينا آل إبراهيم الخ يدل على أن هذا الذي اطلق عليه الناس من آل إبراهيم فالمراد بالناس حينئذ هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما انبسط على غيره من هذا الفضل المذكور في الآية فهو من طريقه وببركاته العالية وقد تقدم في تفسير قوله تعالى إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم الآية: آل عمران - 33 أن آل إبراهيم هو النبي وآله. وإطلاق الناس على المفرد لا ضير فيه فإنه على نحو الكناية كقولك لمن يتعرض لك ويؤذيك لا تتعرض للناس وما لك وللناس ؟ تريد نفسك أي لا تتعرض لي. قوله تعالى فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة الجملة إيئاس لهم في حسدهم وقطع لرجائهم زوال هذه النعمة وانقطاع هذا الفضل بأن الله قد أعطى آل إبراهيم من فضله ما أعطى وآتاهم من رحمته ما آتى فليموتوا بغيظهم فلن ينفعهم الحسد شيئا. ومن هنا يظهر أن المراد بآل إبراهيم إما النبي وآله من أولاد إسماعيل أو مطلق آل إبراهيم من أولاد إسماعيل وإسحاق حتى يشمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو المحسود عند اليهود بالحقيقة وليس المراد بآل إبراهيم بني إسرائيل من نسل إبراهيم فإن الكلام على هذا التقدير يعود تقريرا لليهود في حسدهم النبي أو المؤمنين لمكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم

[ 377 ]

فيفسد معنى الجمله كما لا يخفى. وقد ظهر أيضا كما تقدمت الاشارة إليه أن هذه الجملة فقد آتينا آل إبراهيم الخ تدل على أن الناس المحسودين هم من آل إبراهيم فيتأيد به أن المراد بالناس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأما المؤمنون به فليسوا جميعا من ذرية إبراهيم ولا كرامة لذريته من المؤمنين على غيرهم حتى يحمل الكلام عليهم ولا يوجب مجرد الايمان واتباع ملة إبراهيم تسمية المتبعين بأنهم آل إبراهيم وكذا قوله تعالى إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا الآية: آل عمران - 68 لا يوجب تسمية الذين آمنوا بآل إبراهيم لمكان الاولوية فإن في الآية ذكرا من الذين اتبعوا إبراهيم وليسوا يسمون آل إبراهيم قطعا فالمراد بآل إبراهيم النبي أو هو وآله صلى الله عليه وآله وسلم وإسماعيل جده ومن في حذوه. قوله تعالى وآتيناهم ملكا عظيما قد تقدم أن مقتضى السياق أن يكون المراد بالملك ما يعم الملك المعنوي الذي منه النبوة والولاية الحقيقية على هداية الناس وإرشادهم ويؤيده أن الله سبحانه لا يستعظم الملك الدنيوي لو لم ينته إلى فضيلة معنوية ومنقبة دينية ويؤيد ذلك أيضا أن الله سبحانه لم يعد فيما عده من الفضل في حق آل إبراهيم النبوة والولاية إذ قال فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة فيقوى أن يكون النبوة والولاية مندرجتين في إطلاق قوله وآتيناهم ملكا عظيما. قوله تعالى فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه الصد الصرف وقد قوبل الايمان بالصد لان اليهود ما كانوا ليقنعوا على مجرد عدم الايمان بما أنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون أن يبذلوا مبلغ جهدهم في صد الناس عن سبيل الله والايمان بما نزله من الكتاب وربما كان الصد بمعنى الاعراض وحينئذ يتم التقابل من غير عناية زائدة. قوله تعالى وكفى بجهنم سعيرا تهديد لهم بسعير جهنم في مقابل ما صدوا عن الايمان بالكتاب وسعروا نار الفتنة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا معه. ثم بين تعالى كفاية جهنم في أمرهم بقوله إن الذين كفروا بآياتنا إلى آخر الآية وهو بيان في صورة التعليل ثم عقبه بقوله والذين آمنوا وعلموا الصالحات إلى آخر الآية ليتبين الفرق بين الطائفتين من آمن به ومن صد عنه ويظهر أنهما في قطبين

[ 378 ]

متخالفين من سعادة الحياة الاخرى وشقائها دخول الجنات وظلها الظليل وإحاطة سعير جهنم والاصطلاء بالنار أعاذنا الله ومعنى الآيتين واضح. قوله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها وإذا حكمتم الخ الفقرة الثانية من الآية وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ظاهرة الارتباط بالآيات السابقة عليها فإن البيان الالهي فيها يدور حول حكم اليهود للمشركين بأنهم أهدى سبيلا من المؤمنين وقد وصفهم الله تعالى في أول بيانه بأنهم اوتوا نصيبا من الكتاب والذي في الكتاب هو تبيين آيات الله والمعارف الالهية وهي أمانات مأخوذة عليها الميثاق أن تبين للناس ولا تكتم عن أهله. وهذا الذى ذكر من القرائن يؤيد أن يكون المراد بالامانات ما يعم الامانات المالية وغيرها من المعنويات كالعلوم والمعارف الحقة التي من حقها أن يبلغها حاملوها أهلها من الناس. وبالجملة لما خانت اليهود الامانات الالهية المودعة عندهم من العلم بمعارف التوحيد وآيات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكتموها ولم يظهروها في واجب وقتها ثم لم يقنعوا بذلك حتى جاروا في الحكم بين المؤمنين والمشركين فحكموا للوثنية على التوحيد فآل أمرهم فيه إلى اللعن الالهي وجر ذلك إياهم إلى عذاب السعير فلما كان من أمرهم ما كان غير سبحانه سياق الكلام من التكلم إلى الغيبة فأمر الناس بتأدية الامانات إلى أهلها وبالعدل في الحكم فقال إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس الخ. والذى وسعنا به معنى تأدية الامانات والعدل في الحكم هو الذى يقضى به السياق على ما عرفت فلا يرد عليه أنه عدول عن ظاهر لفظ الامانة والحكم فإن المتبادر في مرحلة التشريع من مضمون الآية وجوب رد الامانة المالية إلى صاحبها وعدل القاضى وهو الحكم في مورد القضاء الشرعي وذلك أن التشريع المطلق لا يتقيد بما يتقيد به موضوعات الاحكام الفرعية في الفقه بل القرآن مثلا يبين وجوب رد الامانة على الاطلاق ووجوب العدل في الحكم على الاطلاق فما كان من ذلك راجعا إلى الفقه من الامانة المالية والقضاء في المرافعات راجعه فيه الفقه وما كان غير ذلك استفاد منه فن اصول المعارف وهكذا.

[ 379 ]

= بحث روائي = في الدر المنثور أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال ": كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود - إذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه - وقال ارعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك - ثم طعن في الاسلام وعابه فأنزل الله فيه - ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة إلى قوله فلا يؤمنون إلا قليلا وفيه أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن السدى ": في قوله تعالى يا أيها الذين اوتوا الكتاب الآية - قال نزلت في مالك بن الصيف - ورفاعة بن زيد بن التابوت من بنى قينقاع وفيه أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار اليهود - منهم عبد الله بن سوريا وكعب بن أسد - فقال لهم يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا - فو الله إنكم لتعلمون أن الذى جئتكم به لحق - فقالوا ما نعرف ذلك يا محمد فأنزل الله فيهم - يا أيها الذين اوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا الآية أقول ظاهر الآيات الشريفة على ما تقدم في البيان السابق وإن كان نزولها في اليهود من أهل الكتاب إلا أن ما نقلناه من سبب النزول لا يزيد على أنه حكم تطبيقي كغالب نظائره من الاخبار الحاكية لاسباب النزول والله أعلم. وفي تفسير البرهان عن النعماني بإسناده عن جابر عن الباقر عليه السلام في حديث طويل يصف فيه خروج السفياني وفيه قال: وينزل أمير جيش السفياني البيداء فينادى مناد من السماء - يا بيداء أبيدى بالقوم فيخسف بهم - فلا يفلت منهم إلا ثلاثة نفر - يحول الله وجوههم ألى أقفيتهم وهم من كلب - وفيهم نزلت هذه الآية يا أيها الذين اوتوا الكتاب - آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم - من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها الآية: أقول ورواه عن المفيد أيضا بإسناده عن جابر عن الباقر عليه السلام في نظير الخبر في قصة السفياني

[ 380 ]

وفي الفقيه بإسناده عن ثوير عن أبيه أن عليا عليه السلام قال: ما في القرآن آية أحب إلى من قوله عز وجل - إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء: أقول ورواه في الدر المنثور عن الفريابى والترمذي وحسنه عن على وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عمر قال: لما نزلت يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم الآية - فقام رجل فقال والشرك يا نبى الله - فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال - إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية وفيه أخرج ابن المنذر عن أبى مجاز قال: لما نزلت هذه الآية - يا عبادي الذين أسرفوا الآية - قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فتلاها على الناس - فقام إليه رجل فقال والشرك بالله - فسكت مرتين أو ثلاثا فنزلت هذه الآية - إن الله لا يغفر أن يشرك به - ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء - فاثبتت هذه في الزمر واثبتت هذه في النساء اقول وقد عرفت فيما تقدم أن آية الزمر ظاهرة بحسب ما تتعقبه من الآيات في المغفرة بالتوبة ولا ريب أن التوبة يغفر معها كل ذنب حتى الشرك وأن آية النساء موردها غير مورد التوبة فلا تنافى بين الآيتين مضمونا حتى تكون إحداهما ناسخة أو مخصصة للاخرى. وفي المجمع عن الكلبى ": في الآية - نزلت في المشركين وحشى وأصحابه - وذلك أنه لما قتل حمزة - وكان قد جعل له على قتله أن يعتق فلم يوف له بذلك - فلما قدم مكة ندم على صنيعه هو وأصحابه - فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - أنا قد ندمنا على الذى صنعناه - وليس يمنعنا عن الاسلام إلا أنا سمعناك تقول وأنت بمكة - والذين لا يدعون مع الله إلها آخر - ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق - ولا يزنون الآيتان - وقد دعونا مع الله إلها آخر - وقتلنا النفس التى حرم الله وزنينا فلو لا هذه لاتبعناك - فنزلت الآية - إلا من تاب وعمل عملا صالحا الآيتين - فبعث بهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى وحشى وأصحابه - فلما قراهما كتبوا إليه أن هذا شرط شديد - نخاف أن لا نعمل عملا صالحا - فلا نكون من أهل هذه الآية - فنزلت إن الله لا يغفر الآية - فبعث بها إليهم فقرؤوها فبعثوا إليه - إنا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته - فنزلت يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم - لا تقنطوا من رحمة الله - إن الله يغفر الذنوب جميعا - فبعث بها إليهم فلما قرؤوها

[ 381 ]

دخل هو وأصحابه في الاسلام - ورجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقبل منهم - ثم قال لوحشي أخبرني كيف قتلت حمزة - فلما أخبره قال ويحك غيب شخصك عنى - فلحق وحشى بعد ذلك بالشام - وكان بها إلى أن مات: أقول وقد ذكر هذه الرواية الرازي في تفسيره عن ابن عباس والتأمل في موارد هذه الآيات التى تذكر الرواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يراجع بها وحشيا لا يدع للمتأمل شكا في أن الرواية موضوعة قد أراد واضعها أن يقدر أن وحشيا وأصحابه مغفور لهم وإن ارتكبوا من المعاصي كل كبيرة وصغيرة فقد التقط آيات كثيرة من مواضع مختلفة من القرآن فالاستثناء من موضع والمستثنى من موضع مع أن كلا منها واقعة في محل محفوفة بأطراف لها معها ارتباط واتصال وللمجموع سياق لا يحتمل التقطيع والتفصيل فقطعها ثم رتبها ونضدها نضدا يناسب هذه المراجعة العجيبة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وحشى. ولقد أجاد بعض المفسرين حيث قال بعد الاشارة إلى الرواية كأنهم يثبتون أن الله سبحانه كان يداعب وحشيا. فواضع الرواية لم يرد إلا أن يشرف وحشيا بمغفرة محتومة مختومة لا يضره معها أي ذنب أذنب وأي فظيعة أتى بها وعقب ذلك ارتفاع المجازاة على المعاصي ولازمه ارتفاع التكاليف عن البشر على ما يراه النصرانية بل أشنع فإنهم إنما رفعوا التكاليف بتفدية مثل عيسى المسيح وهذا يرفعه اتباعا لهوى وحشى. ووحشى هذا هو عبد لابن مطعم قتل حمزة بأحد ثم لحق مكة ثم أسلم بعد أخذ الطائف وقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم غيب شخصك عنى فلحق بالشام وسكن حمصا واشتغل في عهد عمر بالكتابة في الديوان ثم أخرج منه لكونه يدمن الخمر وقد جلد لذلك غير مرة ثم مات في خلافة عثمان قتله الخمر على ما روى. روى ابن عبد البر في الاستيعاب بإسناده عن ابن إسحاق عن عبد الله بن الفضل عن سليمان بن يسار عن جعفر بن عمرو بن امية الضمرى قال ": خرجت أنا وعبد الله ابن عدى بن الخيار - فمررنا بحمص وبها وحشى - فقلنا لو أتيناه وسألناه عن قتله حمزة كيف قتله - فلقينا رجلا ونحن نسأل عنه فقال - إنه رجل قد غلبت عليه الخمر - فإن تجداه صاحيا تجداه رجلا عربيا - يحدثكما ما شئتما من حديث - وإن تجداه على

[ 382 ]

غير ذلك فانصرفا عنه - قال فأقبلنا حتى انتهينا إليه الحديث وفيه ذكر كيفية قتله حمزة يوم احد. وفي المجمع روى مطرف بن شخير عن عمر بن الخطاب قال ": كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا مات الرجل منا على كبيرة - شهدنا بأنه من أهل النار - حتى نزلت الآية فأمسكنا عن الشهادات وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر من طريق المعتمر بن سليمان عن سليمان بن عتبة البارقى قال حدثنا إسماعيل بن ثوبان قال ": شهدت في المسجد قبل الداء الاعظم فسمعتهم يقولون - من قتل مؤمنا إلى آخر الآية - فقال المهاجرون والانصار قد أوجب له النار - فلما نزلت إن الله لا يغفر أن يشرك به - ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء قالوا ما شاء الله - يصنع الله ما يشاء أقول وروى ما يقرب من الروايتين عن ابن عمر بغير واحد من الطرق وهذه الروايات لا تخلو من شئ فلا نظن بعامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجهلوا أن هذه الآية إن الله لا يغفر أن يشرك به لا تزيد في مضمونها على آيات الشفاعة شيئا كما تقدم بيانه أو أن يغفلوا عن أن معظم آيات الشفاعة مكية كقوله تعالى في سورة الزخرف ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون: الزخرف - 86 ومثلها آيات الشفاعة الواقعة في سورة يونس والانبياء وطه والسبأ والنجم والمدثر كلها آيات مكية تثبت الشفاعة على ما مر بيانه وهى عامة لجميع الذنوب ومقيدة في جانب المشفوع له بالدين المرضى وهو التوحيد ونفى الشريك وفي جانب الله تعالى بالمشيئة فمحصل مفادها شمول المغفرة لجميع الذنوب إلا الشرك على مشيئة من الله وهذا بعينه مفاد هذه الآية إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. وأما الآيات التى توعد قاتل النفس المحترمة بغير حق وآكل الربا وقاطع الرحم بجزاء النار الخالد كقوله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها الآية النساء - 93 وقوله في الربا ومن عاد فاولئك أصحاب النار هم فيها خالدون: البقرة - 275 وقوله في قاطع الرحم اولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار: الرعد - 25 وغير ذلك من الآيات فهذه الآيات إنما توعد بالشر وتنبئ عن جزاء النار وأما كونه جزاءا محتوما لا يقبل التغيير والارتفاع فلا صراحة لها فيه.

[ 383 ]

وبالجملة لا يترجح آية إن الله لا يغفر على آيات الشفاعة بأمر زائد في مضمونها يمهد لهم ما ذكروه. فليس يسعهم أن يفهموا من آيات الكبائر تحتم النار حتى يجوز لهم الشهادة على مرتكبها بالنار ولا يسعهم أن يفهموا من آية المغفرة إن الله لا يغفر أن يشرك به الخ أمرا ليس يفتهم من آيات الشفاعة حتى يوجب لهم القول بنسخها أو تخصيصها أو تقييدها آيات الكبائر. ويومى إلى ذلك ما ورد في بعض هذه الروايات وهو ما رواه في الدر المنثور عن ابن الضريس وأبى يعلى وابن المنذر وابن عدى بسند صحيح عن ابن عمر قال: كنا نمسك عن الاستغفار لاهل الكبائر - حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلم - إن الله لا يغفر أن يشرك به - ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء - وقال إنى ادخرت دعوتي شفاعتي لاهل الكبائر من امتى - فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا - ثم نطقنا بعد ورجونا فظاهر الرواية أن الذى فهموه من آية المغفرة فهموا مثله من حديث الشفاعة لكن يبقى عليه سؤال آخر وهو أنه ما بالهم فهموا جواز مغفرة الكبائر من حديث الشفاعة ولم يكونوا يفهمونه من آيات الشفاعة المكية على كثرتها ودلالتها وطول العهد ما أدرى. وفي الدر المنثور ": في قوله أ لم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب - إلى قوله سبيلا ": أخرج البيهقى في الدلائل وابن عساكر في تاريخه عن جابر بن عبد الله قال ": لما كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم - ما كان اعتزل كعب بن الاشرف ولحق بمكة وكان بها - وقال لا اعين عليه ولا اقاتله فقيل له بمكة - يا كعب أ ديننا خير أم دين محمد وأصحابه - قال دينكم خير وأقدم ودين محمد حديث - فنزلت فيه - أ لم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب الآية. أقول وفي سبب نزول الآية روايات على وجوه مختلفة أسلمها ما أوردناه غير أن الجميع تشترك في أصل القصة وهو أن بعضا من اليهود حكموا لقريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن دينهم خير من دينه. وفي تفسير البرهان: في قوله تعالى أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله الآية: عن الشيخ في أماليه بإسناده عن جابر عن أبى جعفر عليه السلام أم يحسدون الناس

[ 384 ]

على ما آتاهم الله من فضله - قال نحن الناس وفي الكافي بإسناده عن بريد عن الباقر عليه السلام في حديث: أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله - نحن الناس المحسودون الحديث أقول وهذا المعنى مروى عن أئمة أهل البيت عليهم السلام مستفيضا بطرق كثيرة مودعة في جوامع الشيعة كالكافي والتهذيب والمعاني والبصائرو تفسيري القمى والعياشي وغيرها. وفي معناها من طرق أهل السنة ما عن ابن المغازلى يرفعه إلى محمد بن على الباقر عليهما السلام: في قوله تعالى - أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله - قال نحن الناس والله وما في الدر المنثورعن ابن المنذر والطبراني من طريق عطاء عن ابن عباس ": في قوله أم يحسدون الناس - قال نحن الناس دون الناس: وقد روى فيه أيضا تفسير الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن عكرمة ومجاهد ومقاتل وأبى مالك وقد مر فيما قدمناه من البيان أن الظاهر كون المراد بالناس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته ملحقون به. وفي تفسير العياشي عن حمران عن الباقر عليه السلام فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب قال النبوة والحكمة - قال الفهم والقضاء وملكا عظيما قال الطاعة أقول المراد بالطاعة الطاعة المفترضة على ما ورد في سائر الاحاديث والاخبار في هذه المعاني أيضا كثيرة وفي بعضها تفسير الطاعة المفترضة بالامامة والخلافة كما في الكافي بإسناده عن بريد عن الباقر عليه السلام. وفي تفسير القمى: في قوله تعالى إن الذين كفروا بآياتنا الآية - قال الآيات أمير المؤمنين والائمة عليهم السلام أقول وهو من الجرى. وفي مجالس الشيخ بإسناده عن حفص بن غياث القاضى قال: كنت عند سيد الجعافرة جعفر بن محمد عليهما السلام - لما قدمه المنصور فأتاه ابن أبى العوجاء وكان ملحدا - فقال ما تقول في هذه الآية - كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا

[ 385 ]

العذاب - هب هذه الجلود عصت فعذبت فما بال الغير - قال أبو عبد الله عليه السلام ويحك هي هي وهي غيرها - قال أعقلنى هذا القول فقال له - أ رأيت لو أن رجلا عمد إلى لبنة فكسرها - ثم صب عليها الماء وجبلها - ثم ردها إلى هيئتها الاولى ألم تكن هي هي وهي غيرها - فقال بلى أمتع الله بك: أقول ورواه في الاحتجاج أيضا عن حفص بن غياث عنه عليه السلام والقمى في تفسيره مرسلا ويعود حقيقة الجواب إلى أن وحدة المادة محفوظة بوحدة الصورة فبدن الانسان كأجزاء بدنه باق على وحدته ما دام الانسان هو الانسان وإن تغير البدن بإي تغير حدث فيه. وفي الفقيه قال: سئل الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل - لهم فيها أزواج مطهرة قال - الازواج المطهرة اللاتى لا يحضن ولا يحدثن وفي تفسير البرهان: في قوله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات الآية عن محمد بن أبراهيم النعماني بإسناده عن زرارة عن أبى جعفر محمد بن على عليهما السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل - إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها - وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل فقال - أمر الله الامام أن يؤدى الامانة إلى الامام الذى بعده - ليس له أن يزويها عنه أ لا تسمع قوله - وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل - إن الله نعما يعظكم به - هم الحكام يا زرارة إنه خاطب بها الحكام: أقول وصدر الحديث مروى بطرق كثيرة عنهم عليهم السلام وذيله يدل على أنه من باب الجرى وأن الآية نازلة في مطلق الحكم وإعطاء ذى الحق حقه فينطبق على مثل ما تقدم سابقا. وفي معناه ما في الدر المنثور عن سعيد بن منصور والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن على بن أبى طالب قال: حق على الامام أن يحكم بما أنزل الله - وأن يؤدى الامانة - فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له - وأن يطيعوا وأن يجيبوا إذا دعوا = يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر

[ 386 ]

منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (59) - ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا (60) - وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا (61) - فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا (62) - أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا (63) - وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما (64) - فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65) - ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا (66) - وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما (67) - ولهديناهم صراطا مستقيما (68) - ومن يطع الله والرسول

[ 387 ]

فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (69) - ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما (70)) = بيان = الآيات كما ترى غير عادمة الارتباط بما تقدمها من الآيات فإن آيات السورة آخذة من قوله تعالى واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا كأنها مسوقة لترغيب الناس في الانفاق في سبيل الله وإقامة صلب طبقات المجتمع وأرباب الحوائج من المؤمنين وذم الذين يصدون الناس عن القيام بهذا المشروع الواجب ثم الحث على إطاعة الله وإطاعة الرسول وأولى الامر وقطع منابت الاختلاف والتجنب عن التشاجر والتنازع وإرجاعه إلى الله ورسوله لو اتفق والتحرز عن النفاق ولزوم التسليم لاوامر الله ورسوله وهكذا إلى أن تنتهى إلى الآيات النادبة إلى الجهاد المبينة لحكمه أو الآمرة بالنفر في سبيل الله فجميع هذه الآيات مجهزة للمؤمنين للجهاد في سبيل الله ومنظمة لنظام أمورهم في داخلهم وربما تخللها آية أو آيتان بمنزلة الاعتراض في الكلام لا يخل باتصال الكلام كما تقدم الايماء إليه في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى: الآية - 43 من السورة. قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم لما فرغ من الندب إلى عبادة الله وحده لا شريك له وبث الاحسان بين طبقات المؤمنين وذم من يعيب هذا الطريق المحمود أو صد عنه صدودا عاد إلى أصل المقصود بلسان آخر يتفرع عليه فروع اخر بها يستحكم أساس المجتمع الاسلامي وهو التحضيض والترغيب في أخذهم بالائتلاف والاتفاق ورفع كل تنازع واقع بالرد إلى الله ورسوله. ولا ينبغى أن يرتاب في أن قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول جملة سيقت تمهيدا وتوطئة للامر برد الامر إلى الله ورسوله عند ظهور التنازع وإن كان مضمون الجملة أساس جميع الشرائع والاحكام الالهية. فإن ذلك ظاهر تفريع قوله فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول

[ 388 ]

ثم العود بعد العود إلى هذا المعنى بقوله أ لم تر إلى الذين يزعمون الخ وقوله وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله الخ وقوله فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم الخ. ولا ينبغى أن يرتاب في أن الله سبحانه لا يريد بإطاعته إلا إطاعته في ما يوحيه الينا من طريق رسوله من المعارف والشرائع وأما رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فله حيثيتان إحديهما حيثية التشريع بما يوحيه إليه ربه من غير كتاب وهو ما يبينه للناس من تفاصيل ما يشتمل على إجماله الكتاب وما يتعلق ويرتبط بها كما قال تعالى وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم: النحل - 44 والثانية ما يراه من صواب الرأي وهو الذى يرتبط بولايته الحكومة والقضاء قال تعالى لتحكم بين الناس بما أراك الله: النساء - 105 وهذا هو الرأي الذى كان يحكم به على ظواهر قوانين القضاء بين الناس وهو الذى كان صلى الله عليه وآله وسلم يحكم به في عزائم الامور وكان الله سبحانه أمره في اتخاذ الرأي بالمشاورة فقال وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله: آل عمران - 159 فاشركهم به في المشاورة ووحده في العزم. إذا عرفت هذا علمت أن لاطاعة الرسول معنى ولاطاعة الله سبحانه معنى آخر وإن كان إطاعة الرسول إطاعة لله بالحقيقة لان الله هو المشرع لوجوب إطاعته كما قال وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله فعلى الناس أن يطيعوا الرسول فيما يبينه بالوحى وفيما يراه من الرأي. وهذا المعنى والله أعلم هو الموجب لتكرار الامر بالطاعة في قوله وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول لا ما ذكره المفسرون أن التكرار للتأكيد فإن القصد لو كان متعلقا بالتأكيد كان ترك التكرار كما لو قيل وأطيعوا الله والرسول أدل عليه وأقرب منه فإنه كان يفيد أن إطاعة الرسول عين إطاعة الله سبحانه وأن الاطاعتين واحدة وما كل تكرار يفيد التأكيد. وأما اولوا الامر فهم كائنين من كانوا لا نصيب لهم من الوحى وإنما شأنهم الرأي الذى يستصوبونه فلهم افتراض الطاعة نظير ما للرسول في رأيهم وقولهم ولذلك لما ذكر وجوب الرد والتسليم عند المشاجرة لم يذكرهم بل خص الله والرسول فقال فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وذلك أن المخاطبين بهذا الرد هم المؤمنون المخاطبون بقوله في صدر الآية يا أيها الذين

[ 389 ]

آمنوا والتنازع تنازعهم بلا ريب ولا يجوز أن يفرض تنازعهم مع اولى الامر مع افتراض طاعتهم بل هذا التنازع هو ما يقع بين المؤمنين أنفسهم وليس في أمر الرأي بل من حيث حكم الله في القضية المتنازع فيها بقرينة الآيات التالية الذامة لمن يرجع إلى حكم الطاغوت دون حكم الله ورسوله وهذا الحكم يجب الرجوع فيه إلى أحكام الدين المبينة المقررة في الكتاب والسنة والكتاب والسنة حجتان قاطعتان في الامر لمن يسعه فهم الحكم منهما وقول اولى الامر في أن الكتاب والسنة يحكمان بكذا أيضا حجة قاطعة فإن الآية تقرر افتراض الطاعة من غير أي قيد أو شرط والجميع راجع بالاخرة إلى الكتاب والسنة ومن هنا يظهر أن ليس لاولى الامر هؤلاء كائنين من كانوا أن يضعوا حكما جديدا ولا أن ينسخوا حكما ثابتا في الكتاب والسنة وإلا لم يكن لوجوب ارجاع موارد التنازع إلى الكتاب والسنة والرد إلى الله والرسول معنى على ما يدل عليه قوله وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا: الاحزاب - 36 فقضاء الله هو التشريع وقضاء رسوله إما ذلك وإما الاعم وإنما الذى لهم أن يروا رأيهم في موارد نفوذ الولاية وأن يكشفوا عن حكم الله ورسوله في القضايا والموضوعات العامة. وبالجملة لما لم يكن لاولى الامر هؤلاء خيرة في الشرائع ولا عندهم إلا ما لله ورسوله من الحكم أعنى الكتاب والسنة لم يذكرهم الله سبحانه ثانيا عند ذكر الرد بقوله فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول فلله تعالى إطاعة واحدة وللرسول واولى الامر إطاعة واحدة ولذلك قال أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم. ولا ينبغى أن يرتاب في أن هذه الاطاعة المأمور بها في قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول إطاعة مطلقة غير مشروطة بشرط ولا مقيدة بقيد وهو الدليل على أن الرسول لا يأمر بشئ ولا ينهى عن شئ يخالف حكم الله في الواقعة وإلا كان فرض طاعته تناقضا منه تعالى وتقدس ولا يتم ذلك إلا بعصمة فيه صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا الكلام بعينه جار في اولى الامر غير أن وجود قوة العصمة في الرسول لما قامت عليه الحجج من جهة العقل والنقل في حد نفسه من غير جهة هذه الآية دون اولي

[ 390 ]

الامر ظاهرا أمكن أن يتوهم متوهم أن اولى الامر هؤلاء لا يجب فيهم العصمة ولا يتوقف عليها الآية في استقامة معناها. بيان ذلك أن الذى تقرره الآية حكم مجعول لمصلحة الامة يحفظ به مجتمع المسلمين من تسرب الخلاف والتشتت فيهم وشق عصاهم فلا يزيد على الولاية المعهودة بين الامم والمجتمعات تعطى للواحد من الانسان افتراض الطاعة ونفوذ الكلمة وهم يعلمون أنه ربما يعصى وربما يغلط في حكمه لكن إذا علم بمخالفته القانون في حكمه لا يطاع فيه وينبه فيما أخطأ وفيما يحتمل خطأه ينفذ حكمه وإن كان مخطئا في الواقع ولا يبالى بخطأه فإن مصلحة حفظ وحدة المجتمع والتحرز من تشتت الكلمة مصلحة يتدارك بها أمثال هذه الاغلاط والاشتباهات. وهذا حال اولى الامر الواقع في الآية في افتراض طاعتهم فرض الله طاعتهم على المؤمنين فإن أمروا بما يخالف الكتاب والسنة فلا يجوز ذلك منهم ولا ينفذ حكمهم لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقد روى هذا المعنى الفريقان وبه يقيد إطلاق الآية وأما الخطأ والغلط فإن علم به رد إلى الحق وهو حكم الكتاب والسنة وإن احتمل خطأه نفذ فيه حكمه كما فيما علم عدم خطأه ولا بأس بوجوب القبول وافتراض الطاعة فيما يخالف الواقع هذا النوع لان مصلحة حفظ الوحدة في الامة وبقاء السودد والابهة تتدارك بها هذه المخالفة ويعود إلى مثل ما تقرر في اصول الفقه من حجية الطرق الظاهرية مع بقاء الاحكام الواقعية على حالها وعند مخالفة مؤداها للواقع تتدارك المفسدة اللازمة بمصلحة الطريق. وبالجملة طاعة اولى الامر مفترضة وإن كانوا غير معصومين يجوز عليهم الفسق والخطأ فإن فسقوا فلا طاعة لهم وإن أخطأوا ردوا إلى الكتاب والسنة إن علم منهم ذلك ونفذ حكمهم فيما لم يعلم ذلك ولا بأس بإنفاذ ما يخالف حكم الله في الواقع دون الظاهر رعاية لمصلحة الاسلام والمسلمين وحفظا لوحدة الكلمة. وأنت بالتأمل فيما قدمناه من البيان تعرف سقوط هذه الشبهة من أصله وذلك أن هذا التقريب من الممكن أن نساعده في تقييد إطلاق الآية في صورة الفسق بما ذكر من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وما يؤدي هذا المعنى من الآيات القرآنية كقوله إن الله لا يأمر بالفحشاء: الاعراف - 28 وما في هذا

[ 391 ]

المعنى من الآيات. وكذا من الممكن بل الواقع أن يجعل شرعا نظير هذه الحجية الظاهرية المذكورة كفرض طاعة امراء السرايا الذين كان ينصبهم عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكذا الحكام الذين كان يوليهم على البلاد كمكة واليمن أو يخلفهم بالمدينة إذا خرج إلى غزاة وكحجية قول المجتهد على مقلده وهكذا لكنه لا يوجب تقيد الآية فكون مسألة من المسائل صحيحه في نفسه أمر وكونها مدلولا عليها بظاهر آية قرآنية أمر آخر. فالآية تدل على افتراض طاعة اولي الامر هؤلاء ولم تقيده بقيد ولا شرط وليس في الآيات القرآنية ما يقيد الآية في مدلولها حتى يعود معنى قوله وأطيعوا الرسول واولي الامر منكم إلى مثل قولنا وأطيعوا اولي الامر منكم فيما لم يأمروا بمعصية أو لم تعلموا بخطأهم فإن أمروكم بمعصية فلا طاعة عليكم وإن علمتم خطأهم فقوموهم بالرد إلى الكتاب والسنة فما هذا معنى قوله وأطيعوا الرسول واولي الامر منكم. مع أن الله سبحانه أبان ما هو أوضح من هذا القيد فيما هو دون هذه الطاعة المفترضة كقوله في الوالدين ووصينا الانسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما الآية: العنكبوت - 8 فما باله لم يظهر شيئا من هذه القيود في آية تشتمل على اس أساس الدين وإليها تنتهي عامة أعراق السعادة الانسانية. على أن الآية جمع فيها بين الرسول واولي الامر وذكر لهما معا طاعة واحدة فقال وأطيعوا الرسول واولي الامر منكم ولا يجوز على الرسول أن يأمر بمعصية أو يغلط في حكم فلو جاز شئ من ذلك على اولي الامر لم يسع إلا أن يذكر القيد الوارد عليهم فلا مناص من أخذ الآية مطلقة من غير أي تقييد ولازمه اعتبار العصمة في جانب اولي الامر كما اعتبر في جانب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير فرق. ثم إن المراد بالامر في اولي الامر هو الشأن الراجع إلى دين المؤمنين المخاطبين بهذا الخطاب أو دنياهم على ما يؤيده قوله تعالى وشاورهم في الامر: آل عمران - 159 وقوله في مدح المتقين وأمرهم شورى بينهم: الشورى - 38 وإن كان من الجائز بوجه أن يراد بالامر ما يقابل النهي لكنه بعيد. وقد قيد بقوله منكم وظاهره كونه ظرفا مستقرا أي اولي الامر كائنين

[ 392 ]

منكم وهو نظير قوله تعالى هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم: الجمعة - 2 وقوله في دعوة إبراهيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم: البقرة - 129 وقوله رسلا منكم يقصون عليكم آياتي: الاعراف - 35 وبهذا يندفع ما ذكره بعضهم أن تقييد اولي الامر بقوله منكم يدل على أن الواحد منهم إنسان عادي مثلنا وهم منا ونحن مؤمنون من غير مزية عصمة إلهية. ثم إن اولي الامر لما كان اسم جمع يدل على كثرة جمعية في هؤلاء المسمين باولي الامر فهذا لا شك فيه لكن يحتمل في بادئ النظر أن يكونوا آحادا يلي الامر ويتلبس بافتراض الطاعة واحد منهم بعد الواحد فينسب افتراض الطاعة إلى جميعهم بحسب اللفظ والاخذ بجامع المعنى كقولنا صل فرائضك وأطع سادتك وكبراء قومك. ومن عجيب الكلام ما ذكره الرازي أن هذا المعنى يوجب حمل الجمع على المفرد وهو خلاف الظاهر وقد غفل عن أن هذا استعمال شائع في اللغة والقرآن ملئ به كقوله تعالى فلا تطع المكذبين: القلم - 8 وقوله فلا تطع الكافرين: الفرقان - 52 وقوله إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا: الاحزاب - 67 وقوله ولا تطيعوا أمر المسرفين: الشعراء - 151 وقوله حافظوا على الصلوات: البقرة - 238 وقوله واخفض جناحك للمؤمنين: الحجر - 88 إلى غير ذلك من الموارد المختلفة بالاثبات والنفي والاخبار والانشاء. والذي هو خلاف الظاهر من حمل الجمع على المفرد هو أن يطلق لفظ الجمع ويراد به واحد من آحاده لا أن يوقع حكم على الجمع بحيث ينحل إلى أحكام متعددة بتعدد الآحاد كقولنا أكرم علماء بلدك أي أكرم هذا العالم وأكرم ذاك العالم وهكذا. ويحتمل أيضا أن يكون المراد باولى الامر هؤلاء الذين هم متعلق افتراض الطاعة الجمع من حيث هو جمع أي الهيئة الحاصلة من عدة معدودة كل واحد منهم من اولي الامر وهو أن يكون صاحب نفوذ في الناس وذا تأثير في امورهم كرؤساء الجنود والسرايا والعلماء وأولياء الدولة وسراة القوم بل كما ذكره في المنار هم أهل الحل والعقد الذين تثق بهم الامة من العلماء والرؤساء في الجيش والمصالح العامة كالتجارة والصناعات والزراعة وكذا رؤساء العمال والاحزاب ومديروا الجرائد المحترمة ورؤساء تحريرها ! فهذا معنى كون اولي الامر هم أهل الحل والعقد وهم الهيئة الاجتماعية

[ 393 ]

من وجوه الامة لكن الشأن في تطبيق مضمون تمام الآية على هذا الاحتمال. الآية دالة كما عرفت على عصمة اولي الامر وقد اضطر إلى قبول ذلك القائلون بهذا المعنى من المفسرين. فهل المتصف بهذه العصمة أفراد هذه الهيئة فيكون كل واحد واحد منهم معصوما فالجميع معصوم إذ ليس المجموع إلا الآحاد ؟ لكن من البديهي أن لم يمر بهذه الامة يوم يجتمع فيه جماعة من أهل الحل والعقد كلهم معصومون على إنفاذ أمر من امور الامة ومن المحال أن يأمر الله بشئ لا مصداق له في الخارج أو أن هذه العصمة وهي صفة حقيقية قائمة بتلك الهيئة قيام الصفة بموصوفها وإن كانت الاجزاء والافراد غير معصومين بل يجوز عليهم من الشرك والمعصية ما يجوز على سائر أفراد الناس فالرأي الذي يراه الفرد يجوز فيه الخطأ وأن يكون داعيا إلى الضلال والمعصية بخلاف ما إذا رأته الهيئة المذكورة لعصمتها ؟ وهذا أيضا محال وكيف يتصور اتصاف موضوع اعتباري بصفة حقيقية أعني اتصاف الهيئة الاجتماعية بالعصمة. أو أن عصمة هذه الهيئة ليست وصفا لافرادها ولا لنفس الهيئة بل حقيقته أن الله يصون هذه الهيئة أن تأمر بمعصية أو ترى رأيا فتخطئ فيه كما أن الخبر المتواتر مصون عن الكذب ومع ذلك ليست هذه العصمة بوصف لكل واحد من المخبرين ولا للهيئة الاجتماعية بل حقيقته أن العادة جارية على امتناع الكذب فيه وبعبارة اخرى هو تعالى يصون الخبر الذي هذا شأنه عن وقوع الخطأ فيه وتسرب الكذب عليه فيكون رأي اولي الامر مما لا يقع فيه الخطأ البتة وإن لم يكن آحادهم ولا هيئتهم متصفة بصفة زائدة بل هو كالخبر المتواتر مصون عن الكذب والخطأ وليكن هذا معنى العصمة في اولي الامر والآية لا تدل على أزيد من أن رأيهم غير خابط بل مصيب يوافق الكتاب والسنة وهو من عناية الله على الامة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا تجتمع أمتي على خطأ. أما الرواية فهي أجنبية عن المورد فإنها إن صحت فإنما تنفي اجتماع الامة على خطأ ولا تنفى اجتماع أهل الحل والعقد منهم على خطأ وللامة معنى ولاهل الحل والعقد معنى آخر ولا دليل على إرادة معنى الثاني من لفظ الاول وكذا لا تنفي الخطأ عن اجتماع الامه بل تنفي الاجتماع على خطأ وبينهما فرق.

[ 394 ]

ويعود معنى الرواية إلى أن الخطأ في مسألة من المسائل لا يستوعب الامة بل يكون دائما فيهم من هو على الحق إما كلهم أو بعضهم ولو معصوم واحد فيوافق ما دل من الآيات والروايات على أن دين الاسلام وملة الحق لا يرتفع من الارض بل هو باق إلى يوم القيامة قال تعالى فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين: الانعام: 89 وقوله وجعلها كلمة باقية في عقبه: الزخرف - 28 وقوله إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون: الحجر - 9 وقوله وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: فصلت - 42 إلى غير ذلك من الآيات. وليس يختص هذا بامة محمد بل الصحيح من الروايات تدل على خلافه وهي الروايات الواردة من طرق شتى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدالة على افتراق اليهود على إحدى وسبعين فرقة والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة والمسلمين على ثلاث وسبعين فرقة كلهم هالك إلا واحدة وقد نقلنا الرواية في المبحث الروائي الموضوع في ذيل قوله تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا: آل عمران - 103. وبالجملة لا كلام على متن الرواية إن صح سندها فإنها أجنبية عن مورد الكلام وإنما الكلام في معنى عصمة أهل الحل والعقد من الامة لو كان هو المراد بقوله واولي الامر منكم. ما هو العامل الموجب لعصمة أهل الحل والعقد من المسلمين فيما يرونه من الرأي ؟ هذه العصابة التي شأنها الحل والعقد في الامور غير مختصة بالامة المسلمة بل كل امة من الامم العظام بل الامم الصغيرة بل القبائل والعشائر لا تفقد عدة من أفرادها لهم مكانة في مجتمعهم ذات قوة وتأثير في الامور العامة وأنت إذا فحصت التاريخ في الحوادث الماضية وما في عصرنا من الامم والاجيال وجدت موارد كثيرة اجتمعت أهل الحل والعقد منهم في مهام الامور وعزائمها على رأي استصوبوه ثم عقبوه بالعمل فربما أصابوا وربما أخطأوا فالخطأ وإن كان في الآراء الفردية أكثر منه في الآراء الاجتماعية لكن الآراء الاجتماعية ليست بحيث لا تقبل الخطأ أصلا فهذا التاريخ وهذه المشاهدة يشهدان منه على مصاديق وموارد كثيرة جدا. فلو كان الرأي الاجتماعي من أهل الحل والعقد في الاسلام مصونا عن الخطأ فإنما هو بعامل ليس من سنخ العوامل العادية بل عامل من سنخ العوامل المعجزة الخارقة

[ 395 ]

للعادة ويكون حينئذ كرامة باهرة تختص بها هذه الامة تقيم صلبهم وتحفظ حماهم وتقيهم من كل شر يدب في جماعتهم ووحدتهم وبالاخرة سببا معجزا إلهيا يتلو القرآن الكريم ويعيش ما عاش القرآن نسبته إلى حياة الامة العملية نسبة القرآن إلى حياتهم العلمية فكان من اللازم أن يبين القرآن حدوده وسعة دائرته ويمتن الله به كما امتن بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ويبين لهذه العصابة وظيفتهم الاجتماعية كما بين لنبيه ذلك وأن يوصي به النبي صلى الله عليه وآله وسلم امته ولا سيما أصحابه الكرام وهم الذين صاروا بعده أهلا للحل والعقد وتقلدوا ولاية امور الامة وأن يبين أن هذه العصابة المسماة باولي الامر ما حقيقتها وما حدها وما سعة دائرة عملها وهل يتشكل هيئة حاكمة واحدة على جميع المسلمين في الامور العامة لجميع الامة الاسلامية ؟ أو تنعقد في كل جمعية إسلامية جمعية اولي الامر فيحكم في نفوسهم وأعراضهم وأموالهم ؟ ولكان من اللازم أن يهتم به المسلمون ولا سيما الصحابة فيسألوا عنه ويبحثوا فيه وقد سألوا عن أشياء لا قدر لها بالنسبة إلى هذه المهمة كالاهلة وماذا ينفقون والانفال قال تعالى يسألونك عن الاهلة وويسألونك ماذا ينفقون ويسألونك عن الانفال فما بالهم لم يسألوا ؟ أو أنهم سألوا ثم لعبت به الايدي فخفي علينا ؟ فليس الامر مما يخالف هوى أكثرية الامة الجارية على هذه الطريقة حتى يقضوا عليه بالاعراض فالترك حتى ينسى. ولكان من الواجب أن يحتج به في الاختلافات والفتن الواقعة بعد ارتحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينا بعد حين فما لهذه الحقيقة لا توجد لها عين ولا أثر في احتجاجاتهم ومناظراتهم وقد ضبطها النقلة بكلماتها وحروفها ولا توجد في خطاب ولا كتاب ؟ ولم تظهر بين قدماء المفسرين من الصحابة والتابعين حتى ذهب إليه شرذمة من المتأخرين الرازي وبعض من بعده ! حتى أن الرازي أورد على هذا الوجه بعد ذكره بأنه مخالف للاجماع المركب فإن الاقوال في معنى اولي الامر لا تجاوز أربعة الخلفاء الراشدون وامراء السرايا والعلماء والائمة المعصومون فالقول الخامس خرق للاجماع ثم أجاب بأنه في الحقيقة راجع إلى القول الثالث فأفسد على نفسه ما كان أصلحه فهذا كله يقضي بأن الامر لم يكن بهذه المثابة ولم يفهم منه أنه عطية شريفة وموهبة عزيزة من معجزات الاسلام وكراماته الخارقة لاهل الحل والعقد من المسلمين.

[ 396 ]

أو يقال إن هذه العصمة لا تنتهي إلى عامل خارق للعادة بل الاسلام بنى تربيته العامة على اصول دقيقة تنتج هذه النتيجة إن أهل الحل والعقد من الامة لا يغلطون فيما اجتمعوا عليه ولا يعرضهم الخطأ فيما رأوه. وهذا الاحتمال مع كونه باطلا من جهة منافاته الناموس العام وهو أن إدراك الكل هو مجموع إدراكات الابعاض وإذا جاز الخطأ على كل واحد واحد جاز على الكل يرد عليه أن رأي اولي الامر بهذا المعنى لو اعتمد في صحته وعصمته على مثل هذا العامل غير المغلوب لم يتخلف عن أثره فإلى أين تنتهي هذه الاباطيل والفسادات التي ملات العالم الاسلامي ؟ وكم من منتدى إسلامي بعد رحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم اجتمع فيه أهل الحل والعقد من المسلمين على ما اجتمعوا عليه ثم سلكوا طريقا يهديهم إليه رأيهم فلم يزيدوا إلا ضلالا ولم يزد إسعادهم المسمين إلا شقاء ولم يمكث الاجتماع الديني بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون أن عاد إلى إمبراطورية ظالمة حاطمة ! فليبحث الباحث الناقد في الفتن الناشئة منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما استتبعته من دماء مسفوكة وأعراض مهتوكة وأموال منهوبة وأحكام عطلت وحدود أبطلت ! ثم ليبحث في منشئها ومحتدها واصولها وأعراقها هل تنتهي الاسباب العاملة فيها إلا إلى ما رأته أهل الحل والعقد من الامة ثم حملوا ما رأوه على أكتاف الناس ؟ فهذا حال هذا الركن الركين الذي يعتمد عليه بناية الدين أعني رأي أهل الحل والعقد لو كان هو المراد باولي الامر المعصومين في رأيهم. فلا مناص على القول بأن المراد باولي الامر أهل الحل والعقد من أن نقول بجواز خطأهم وأنهم على حد سائر الناس يصيبون ويخطؤون غير أنهم لما كانوا عصابة فاضلة خبيرة بالامور مدربين مجربين يقل خطؤهم جدا وأن الامر بوجوب طاعتهم مع كونهم ربما يغلطون ويخطؤون من باب المسامحة في موارد الخطأ نظرا إلى المصلحة الغالبة في مداخلتهم فلو حكموا بما يغاير حكم الكتاب والسنة ويطابق ما شخصوه من مصلحة الامة بتفسير حكم من أحكام الدين بغير ما كان يفسر سابقا أو تغيير حكم بما يوافق صلاح الوقت أو طبع الامة أو وضع حاضر الدنيا كان هو المتبع وهو الذي يرتضيه الدين لانه لا يريد إلا سعادة المجتمع ورقيه في اجتماعه كما هو الظاهر المتراءى من سير الحكومات الاسلامية في صدر الاسلام ومن دونهم فلم يمنع حكم من الاحكام الدائرة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم

[ 397 ]

ولم يقض على سيرة من سيره وسننه إلا علل ذلك بأن الحكم السابق يزاحم حقا من حقوق الامة وأن صلاح حال الامة في إنفاذ حكم جديد يصلح شأنهم أو سن سنة حديثة توافق آمالهم في سعادة الحياة وقد صرح بعض الباحثين (1) أن الخليفة له أن يعمل بما يخالف صريح الدين حفظا لصلاح الامة. وعلى هذا فيكون حال الملة الاسلامية حال سائر المجتمعات الفاضلة المدنية في أن فيها جمعية منتخبة تحكم على قوانين المجتمع على حسب ما تراه وتشاهده من مقتضيات الاحوال وموجبات الاوضاع. وهذا الوجه أو القول كما ترى قول من يرى أن الدين سنة اجتماعية سبكت في قالب الدين وظهرت في صورته فهو محكوم بما يحكم على متون الاجتماعات البشرية وهياكلها بالتطور في أطوار الكمال التدريجي ومثال عال لا ينطبق إلا على حياة الانسان الذى كان يعيش في عصر النبوة وما يقاربه. فهى حلقة متقضية من حلق هذه السلسلة المسماة بالمجتمع الانساني لا ينبغى أن يبحث عنها اليوم إلا كما يبحث علماء طبقات الارض الجيولوجيا عن السلع المستخرجة من تحت أطباق الارض. والذى يذهب إلى مثل هذا القول لا كلام لنا معه في هذه الآية أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم الآية فإن القول يبتنى على أصل مؤثر في جميع الاصول والسنن المأثورة من الدين من معارف أصلية ونواميس أخلاقية وأحكام فرعية ولو حمل على هذا ما وقع من الصحابة في زمن النبي وفي مرض موته ثم الاختلافات التى صدرت منهم وما وقع من تصرف الخلفاء في بعض الاحكام وبعض سير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم في زمن معاوية ومن تلاه من الامويين ثم العباسيين ثم الذين يلونهم والجميع امور متشابهة أنتج نتيجة باهتة. ومن أعجب الكلام المتعلق بهذه الآية ما ذكره بعض المؤلفين أن قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم لا يدل على شئ مما ذكره المفسرون على اختلاف أقوالهم.


(1) صاحب فجر الاسلام فيه (*)

[ 398 ]

أما أولا فلان فرض طاعة اولى الامر كائنين من كانوا لا يدل على فضل ومزية لهم على غيرهم أصلا كما أن طاعة الجبابرة والظلام واجبة علينا في حال الاضطرار اتقاء من شرهم ولن يكونوا بذلك أفضل منا عند الله سبحانه. وأما ثانيا فلان الحكم المذكور في الآية لا يزيد على سائر الاحكام التى تتوقف فعليتها على تحقق موضوعاتها نظير وجوب الانفاق على الفقير وحرمة إعانة الظالم فليس يجب علينا أن نوجد فقيرا حتى ننفق عليه أو ظالما حتى لا نعينه. والوجهان اللذان ذكرهما ظاهرا الفساد مضافا إلى أن هذا القائل قدر أن المراد باولى الامر في الآية الحكام والسلاطين وقد تبين فساد هذا الاحتمال. أما الوجه الاول فلانه غفل عن أن القرآن مملوء من النهى عن طاعة الظالمين والمسرفين والكافرين ومن المحال أن يأمر الله مع ذلك بطاعتهم ثم يزيد على ذلك فيقرن طاعتهم بطاعة نفسه ورسوله ولو فرض كون هذه الطاعة طاعة تقية لعبر عنها بإذن ونحو ذلك كما قال تعالى إلا أن تتقوا منهم تقاة: آل عمران - 28 لا بالامر بطاعتهم صريحا حتى يستلزم كل محذور شنيع. وأما الوجه الثاني فهو مبنى على الوجه الاول من معنى الاية أما لو فرض افتراض طاعتهم لكونهم ذا شأن في الدين كانوا معصومين لما تقدم تفصيلا ومحال أن يأمر الله بطاعة من لا مصداق له أو له مصداق اتفاقي في آية تتضمن اس أساس المصالح الدينية وحكما لا يستقيم بدونه حال المجتمع الاسلامي أصلا وقد عرفت أن الحاجة إلى اولى الامر عين الحاجة إلى الرسول وهى الحاجة إلى ولاية أمر الامة وقد تكلمنا فيه في بحث المحكم والمتشابه. ولنرجع إلى أول الكلام في الآية ظهر لك من جميع ما قدمناه أن لا معنى لحمل قوله تعالى واولى الامر منكم على جماعة المجمعين من أهل الحل والعقد وهى الهيئة الاجتماعية بأي معنى من المعاني فسرناه فليس إلا أن المراد باولى الامر آحاد من الامة معصومون في أقوالهم مفترض طاعتهم فتحتاج معرفتهم إلى تنصيص من جانب الله سبحانه من كلامه أو بلسان نبيه فينطبق على ما روى من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام أنهم هم.

[ 399 ]

وأما ما قيل إن اولى الامر هم الخلفاء الراشدون أو أمراء السرايا أو العلماء المتبعون في أقوالهم و آرائهم فيدفع ذلك كله أولا أن الآية تدل على عصمتهم ولا عصمة في هؤلاء الطبقات بلا إشكال إلا ما تعتقده طائفة من المسلمين في حق على عليه السلام وثانيا أن كلا من الاقوال الثلاث قول من غير دليل يدل عليه. وأما ما اورد على كون المراد به أئمة أهل البيت المعصومين عليهم السلام اولا أن ذلك يحتاج إلى تعريف صريح من الله ورسوله ولو كان ذلك لم يختلف في أمرهم اثنان بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه أن ذلك منصوص عليه في الكتاب والسنة كآية الولاية وآية التطهير وغير ذلك وسيأتي بسط الكلام فيها وكحديث السفينة: مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وحديث الثقلين: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا وقد مر في بحث المحكم والمتشابه في الجزء الثالث من الكتاب وكأحاديث اولي الامر المروية من طرق الشيعة وأهل السنة وسيجئ بعضها في البحث الروائي التالي. وثانيا أن طاعتهم مشروطة بمعرفتهم فإنها من دون معرفتهم تكليف بما لا يطاق وإذا كانت مشروطة فالآية تدفعه لانها مطلقة. وفيه أن الاشكال منقلب على المستشكل فإن الطاعة مشروطة بالمعرفة مطلقا وإنما الفرق أن أهل الحل والعقد يعرف مصداقهم على قوله من عند أنفسنا من غير حاجة إلى بيان من الله ورسوله والامام المعصوم يحتاج معرفته إلى معرف يعرفه ولا فرق بين الشرط والشرط في منافاته الآية. على أن المعرفة وإن عدت شرطا لكنها ليست من قبيل سائر الشروط فإنها راجعة إلى تحقق بلوغ التكليف فلا تكليف من غير معرفة به وبموضوعه ومتعلقه وليست راجعة إلى التكليف والمكلف به ولو كانت المعرفة في عداد سائر الشرائط كالاستطاعة في الحج ووجدان الماء في الوضوء مثلا لم يوجد تكليف مطلق أبدا إذ لا معنى لتوجه التكليف إلى مكلف سواء علم به أو لم يعلم. وثالثا أنا في زماننا هذا عاجزون عن الوصول إلى الامام المعصوم وتعلم العلم

[ 400 ]

والدين منه فلا يكون هو الذي فرض الله طاعته على الامة إذ لا سبيل إليه. وفيه أن ذلك مستند إلى نفس الامة في سوء فعالها وخيانتها على نفسها لا إلى الله ورسوله فالتكليف غير مرتفع كما لو قتلت الامة نبيها ثم اعتذرت أنها لا تقدر على طاعته على أن الاشكال مقلوب عليه فإنا لا نقدر اليوم على امة واحدة في الاسلام ينفذ فيها ما استصوبته لها أهل الحل والعقد منها. ورابعا أن الله تعالى يقول فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول ولو كان المراد من اولي الامر الامام المعصوم لوجب أن يقال فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الامام. وفيه أن جوابه تقدم فيما مر من البيان والمراد بالرد الرد إلى الامام بالتقريب الذي تقدم. وخامسا أن القائلين بالامام المعصوم يقولون إن فائدة اتباعه إنقاذ الامة من ظلمة الخلاف وضرر التنازع والتفرق وظاهر الآية يبين حكم التنازع مع وجود اولي الامر وطاعة الامة لهم كأن يختلف اولوا الامر في حكم بعض النوازل والوقائع والخلاف والتنازع مع وجود الامام المعصوم غير جائز عند القائلين به لانه عندهم مثل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فلا يكون لهذه الزيادة فائدة على رأيهم. وفيه أن جوابه ظاهر مما تقدم أيضا فإن التنازع المذكور في الآية إنما هو تنازع المؤمنين في أحكام الكتاب والسنة دون أحكام الولاية الصادرة عن الامام في الوقائع والحوادث وقد تقدم أن لا حكم إلا لله ورسوله فإن تمكن المتنازعون من فهم الحكم من الكتاب والسنة كان لهم أن يستنبطوه منهما أو يسألوا الامام عنه وهو معصوم في فهمه وإن لم يتمكنوا من ذلك كان عليهم أن يسألوا عنه الامام وذلك نظير ما كان لمن يعاصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يتفقهون فيما يتمكنون منه أو يسألون عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويسألونه فيما لا يتمكنون من فهمه بالاستنباط. فحكم اولي الامر في الطاعة حكم الرسول على ما يدل عليه الآية وحكم التنازع هو الذي ذكره في الآية سواء في ذلك حضور الرسول كما يدل عليه ايات التالية وغيبته كما يدل عليه الامر في الاية بإطلاقه فالرد إلى الله والرسول المذكور في الآية

[ 401 ]

مختص بصوره تنازع المؤمنين كما يدل عليه قوله تنازعتم ولم يقل فإن تنازع اولوا الامر ولا قال فإن تنازعوا والرد إلى الله والرسول عند حضور الرسول هو سؤال الرسول عن حكم المسألة أو استنباطه من الكتاب والسنة للمتمكن منه وعند غيبته أن يسأل الامام عنه أو الاستنباط كما تقدم بيانه فلا يكون قوله فإن تنازعتم في شئ الخ زائدا من الكلام مستغنى عنه كما ادعاه المستشكل. فقد تبين من جميع ما تقدم أن المراد باولي الامر في الآية رجال من الامة حكم الواحد منهم في العصمة وافتراض الطاعة حكم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهذا مع ذلك لا ينافي عموم مفهوم لفظ اولي الامر بحسب اللغة وإرادته من اللفظ فإن قصد مفهوم من المفاهيم من اللفظ شئ وإرادة المصداق الذي ينطبق عليه المفهوم شئ آخر وذلك كما أن مفهوم الرسول معنى عام كلى وهو المراد من اللفظ في الآية لكن المصداق المقصود هو الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إلى آخر الآية تفريع على الحصر المستفاد من المورد فإن قوله أطيعوا الله الخ حيث أوجب طاعة الله ورسوله وهذه الطاعة إنما هي في المواد الدينية التي تتكفل رفع كل اختلاف مفروض وكل حاجة ممكنة لم يبق مورد تمس الحاجة الرجوع إلى غير الله ورسوله وكان معنى الكلام أطيعوا الله ولا تطيعوا الطاغوت وهو ما ذكرناه من الحصر. وتوجه الخطاب إلى المؤمنين كاشف عن أن المراد بالتنازع هو تنازعهم بينهم لا تنازع مفروض بينهم وبين اولي الامر ولا تنازع مفروض بين اولي الامر فإن الاول أعني التنازع بينهم وبين اولي الامر لا يلائم افتراض طاعة اولي الامر عليهم وكذا الثاني أعني التنازع بين اولي الامر فإن افتراض الطاعة لا يلائم التنازع الذي أحد طرفيه على الباطل على أنه لا يناسب كون الخطاب متوجها إلى المؤمنين في قوله فإن تنازعتم في شئ فردوه. ولفظ الشئ وإن كان يعم كل حكم وأمر من الله ورسوله واولي الامر كائنا ما كان لكن قوله بعد ذلك فردوه إلى الله والرسول يدل على أن المفروض هو النزاع

[ 402 ]

في شئ ليس لاولي الامر الاستقلال والاستبداد فيه من أوامرهم في دائرة ولايتهم كأمرهم بنفر أو حرب أو صلح أو غير ذلك إذ لا معنى لايجاب الرد إلى الله والرسول في هذه الموارد مع فرض طاعتهم فيها. فالآية تدل على وجوب الرد في نفس الاحكام الدينية التي ليس لاحد أن يحكم فيها بإنفاذ أو نسخ إلا الله ورسوله والآية كالصريح في أنه ليس لاحد أن يتصرف في حكم ديني شرعه الله ورسوله واولوا الامر ومن دونهم في ذلك سواء. وقوله إن كنتم تؤمنون بالله تشديد في الحكم وإشارة إلى أن مخالفته إنما تنتشى من فساد في مرحلة الايمان فالحكم يرتبط به ارتباطا فالمخالفة تكشف عن التظاهر بصفة الايمان بالله ورسوله واستبطان للكفر وهو النفاق كما يدل عليه الآيات التالية. وقوله ذلك خير وأحسن تأويلا أي الرد عند التنازع أو إطاعة الله ورسوله واولي الامر والتأويل هو المصلحة الواقعية التي تنشأ منها الحكم ثم تترتب على العمل وقد تقدم البحث عن معناه في ذيل قوله تعالى وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله الآية: آل عمران - 7 في الجزء الثالث من الكتاب. قوله تعالى ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك إلى آخر الآية الزعم هو الاعتقاد بكذا سواء طابق الواقع أم لا بخلاف العلم فإنه الاعتقاد المطابق للواقع ولكون الزعم يستعمل في الاعتقاد في موارد لا يطابق الواقع ربما يظن أن عدم مطابقة الواقع مأخوذ في مفهومه وليس كذلك والطاغوت مصدر بمعنى الطغيان كالرهبوت والجبروت والملكوت غير أنه ربما يطلق ويراد به اسم الفاعل مبالغة يقال طغى الماء إذا تعدى ظرفه لوفوره وكثرته وكان استعماله في الانسان أولا على نحو الاستعاره ثم ابتذل فلحق بالحقيقة وهو خروج الانسان عن طوره الذي حده له العقل أو الشرع فالطاغوت هو الظالم الجبار والمتمرد عن وظائف عبودية الله استعلاء عليه تعالى وهكذا وإليه يعود ما قيل إن الطاغوت كل معبود من دون الله. وقوله بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك بمنزلة أن يقال بما أنزل الله على رسله ولم يقل آمنوا بك وبالذين من قبلك لان الكلام في وجوب الرد إلى كتاب الله وحكمه وبذلك يظهر أن المراد بقوله وقد أمروا أن يكفروا به الامر في الكتب السماوية

[ 403 ]

والوحي النازل على الانبياء: محمد ومن قبله صلى الله عليه وآله وعليهم. وقوله ألم تر الخ الكلام بمنزلة دفع الدخل كأنه قيل ما وجه ذكر قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول الخ ؟ فقيل ألم تر إلى تخلفهم من الطاعة حيث يريدون التحاكم إلى الطاغوت ؟ والاستفهام للتأسف والمعنى من الاسف ما رأيته أن بعض الناس وهم معتقدون أنهم مؤمنون بما أنزل إليك من الكتاب وإلى سائر الانبياء والكتب السماوية إنما انزلت لتحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وقد بينه الله تعالى لهم بقوله كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه: البقرة - 213 يتحاكمون عند التنازع إلى الطاغوت وهم أهل الطغيان والمتمردون عن دين الله المتعدون على الحق وقد امروا في هذه الكتب أن يكفروا بالطاغوت وكفى في منع التحاكم إليهم أنه إلغاء لكتب الله وإبطال لشرائعه. وفي قوله ويريد الشيطان إن يضلهم ضلالا بعيدا دلالة على أن تحاكمهم إنما هو بإلقاء الشيطان وإغوائه والوجهة فيه الضلال البعيد. قوله تعالى وإذا قيل لهم تعالوا إلى آخر الآية تعالوا بحسب الاصل أمر من التعالي وهو الارتفاع وصد عنه يصد صدودا أي أعرض وقوله إلى ما أنزل الله وإلى الرسول بمنزلة أن يقال إلى حكم الله ومن يحكم به وفي قوله يصدون عنك إنما خص الرسول بالاعراض مع أن الذي دعوا إليه هو الكتاب والرسول معا لا الرسول وحده لان الاسف إنما هو من فعل الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل الله فهم ليسوا بكافرين حتى يتجاهروا بالاعراض عن كتاب الله بل منافقون بالحقيقة يتظاهرون بالايمان بما أنزل الله لكنهم يعرضون عن رسوله. ومن هنا يظهر أن الفرق بين الله ورسوله بتسليم حكم الله والتوقف في حكم الرسول نفاق البتة. قوله تعالى فكيف إذا أصابتهم مصيبة الخ إيذان بأن هذا الاعراض والانصراف عن حكم الله ورسوله والاقبال إلى غيره وهو حكم الطاغوت سيعقب مصيبة تصيبهم لا سبب لها إلا هذا الاعراض عن حكم الله ورسوله والتحاكم إلى الطاغوت وقوله ثم جاؤوك يحلفون بالله اه حكايه لمعذرتهم أنهم ما كانوا يريدون بركونهم إلى حكم الطاغوت سوء والمعنى والله أعلم فإذا كان حالهم هذا الحال كيف صنيعهم

[ 404 ]

إذا أصابهم بفعالهم هذا وباله السيئ ثم جاؤوك يحلفون بالله قائلين ما أردنا بالتحاكم إلى غير الكتاب والرسول إلا الاحسان والتوفيق وقطع المشاجرة بين الخصوم ؟ قوله تعالى اولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم الخ تكذيب لقولهم فيما اعتذروا به ولم يذكر حال ما في قلوبهم وأنه ضمير فاسد لدلالة قوله فأعرض عنهم وعظهم على ذلك إذ لو كان ما في قلوبهم غير فاسد كان قولهم صدقا وحقا ولا يؤمر بالاعراض عمن يقول الحق ويصدق في قوله. وقوله وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا أي قولا يبلغ في أنفسهم ما تريد أن يقفوا عليه ويفقهوه من مفاسد هذا الصنيع وأنه نفاق لو ظهر نزل بهم الويل من سخط الله تعالى. قوله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله رد مطلق لجميع ما تقدمت حكايته من هؤلاء المنافقين من التحاكم إلى الطاغوت والاعراض عن الرسول والحلف و الاعتذار بالاحسان والتوفيق فكل ذلك مخالفة للرسول بوجه سواء كانت مصاحبة لعذر يعتذر به أم لا وقد أوجب الله طاعته من غير قيد وشرط فإنه لم يرسله إلا ليطاع بإذن الله وليس لاحد أن يتخيل أن المتبع من الطاعة طاعة الله وإنما الرسول بشر ممن خلق إنما يطاع لحيازه الصلاح فإذا احرز صلاح من دون طاعته فلا بأس بالاستبداد في إحرازه وترك الرسول في جانب وإلا كان إشراكا بالله وعبادة لرسوله معه وربما كان يلوح ذلك في امور يكلمون فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول قائلهم له إذا عزم عليهم في مهمة أبأمر من الله أم منك. فذكر الله سبحانه أن وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجوب مطلق وليست إلا طاعة الله فإنها بأذنه نظير ما يفيده قوله تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله الآية: النساء - 80. ثم ذكر أنهم لو رجعوا إلى الله ورسوله بالتوبة حين ما خالفوا الرسول بالاعراض لكان خيرا لهم من أن يحلفوا بالله ويلفقوا أعذارا غير موجهة لا تنفع ولا ترضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لان الله سبحانه يخبره بحقيقة الامر وذلك قوله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك إلى آخر الآية. قوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك الخ الشجر بسكون الجيم والشجور الاختلاط يقال شجر شجرا وشجورا أي اختلط ومنه التشاجر

[ 405 ]

والمشاجرة كأن الدعاوي والاقوال اختلط بعضها مع بعض ومنه قيل للشجر شجر لاختلاط غصونها بعضها مع بعض والحرج الضيق. وظاهر السياق في بدء النظر أنه رد لزعم المنافقين أنهم آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم مع تحاكمهم إلى الطاغوت فالمعنى فليس كما يزعمون أنهم يؤمنون مع تحاكمهم إلى الطاغوت بل لا يؤمنون حتى يحكموك الخ. لكن شمول حكم الغاية أعني قوله حتى يحكموك الخ لغير المنافقين وكذا قوله بعد ذلك ولو أنا كتبنا عليهم إلى قوله ما فعلوه إلا قليل منهم يؤيد أن الرد لا يختص بالمنافقين بل يعمهم وغيرهم من جهة أن ظاهر حالهم أنهم يزعمون أن مجرد تصديق ما انزل من عند الله بما يتضمنه من المعارف والاحكام إيمان بالله ورسوله وبما جاء به من عند ربه حقيقة وليس كذلك بل الايمان تسليم تام باطنا وظاهرا فكيف يتأتى لمؤمن حقا أن لا يسلم للرسول حكما في الظاهر بأن يعرض عنه ويخالفه أو في باطن نفسه بأن يتحرج عن حكم الرسول إذا خالف هوى نفسه وقد قال الله تعالى لرسوله لتحكم بين الناس بما أراك الله: النساء - 105. فلو تحرج متحرج بما قضى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمن حكم الله تحرج لانه الذي شرفه بافتراض الطاعة ونفوذ الحكم. وإذا كانوا سلموا حكم الرسول ولم يتحرج قلوبهم منه كانوا مسلمين لحكم الله قطعا سواء في ذلك حكمه التشريعي والتكويني وهذا موقف من مواقف الايمان يتلبس فيه المؤمن بعدة من صفات الفضيلة أوضحها التسليم لامر الله ويسقط فيه التحرج والاعتراض والرد من لسان المؤمن وقلبه وقد أطلق في الآية التسليم إطلاقا. ومن هنا يظهر أن قوله فلا وربك إلى آخر الآية وإن كان مقصورا على التسليم لحكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحسب اللفظ لان مورد الآيات هو تحاكمهم إلى غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع وجوب رجوعهم إليه إلا أن المعنى عام لحكم الله ورسوله جميعا ولحكم التشريع والتكوين جميعا كما عرفت. بل المعنى يعم الحكم بمعنى قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكل سيرة سار بها أو عمل عمل به لان الاثر مشترك فكل ما ينسب بوجه إلى الله ورسوله بأي نحو كان لا يتأتى

[ 406 ]

لمؤمن بالله حق إيمانه أن يرده أو يعترض عليه أو يمله أو يسوأه بوجه من وجوه المساءة فكل ذلك شرك على مراتبه وقد قال تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون: يوسف - 106. قوله تعالى ولو أنا كتبنا عليهم إلى قوله ما فعلوه إلا قليل منهم قد تقدم في قوله ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا: آية - 46 من السورة أن هذا التركيب يدلي على أن الحكم للهيئة الاجتماعية من الافراد وهو المجتمع وأن الاستثناء لدفع توهم استغراق الحكم واستيعابه لجميع الافراد ولذلك كان هذا الاستثناء أشبه بالمنفصل منه بالمتصل أو هو برزخ بين الاستثنائين المتصل والمنفصل لكونه ذا جنبتين. على هذا فقوله ما فعلوه إلا قليل منهم وارد مورد الاخبار عن حال الجملة المجتمعة أنهم لا يمتثلون الاحكام والتكاليف الحرجية الشاقة التى تماس ما يتعلق به قلوبهم تعلق الحب الشديد كنفوسهم وديارهم واستثناء القليل لدفع التوهم. فالمعنى ولو أنا كتبنا أي فرضنا عليهم قتل أنفسهم والخروج من ديارهم وأوطانهم المألوفة لهم ما فعلوه أي لم يمتثلوا أمرنا ثم لما استشعر أن قوله ما فعلوه يوهم أن ليس فيهم من هو مؤمن حقا مسلم لحكم الله حقيقة دفع ذلك باستثناء القليل منهم ولم يكن يشمله الحكم حقيقة لان الاخبار عن حال المجتمع من حيث إنه مجتمع ولم تكن الافراد داخلة فيه إلا بتبع الجملة. ومن هنا يظهر أن المراد قتل الجملة الجملة وخروج الجملة وجلاؤهم من جملة ديارهم كالبلدة والقرية دون قتل كل واحد نفسه وخروجه من داره كما في قوله تعالى فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم: البقرة - 54 فإن المقصود بالخطاب هو الجماعة دون الافراد. قوله تعالى ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا في تبديل الكتابة في قوله ولو أنا كتبنا عليهم بالوعظ في قوله ما يوعظون به إشارة إلى أن هذه الاحكام الظاهرة في صورة الامر والفرض ليست إلا إشارات إلى ما فيه صلاحهم وسعادتهم فهي في الحقيقة مواعظ ونصائح يراد بها خيرهم وصلاحهم. وقوله لكان خيرا لهم أي في جميع ما يتعلق بهم من اولاهم واخراهم وذلك أن خير الآخرة لا ينفك من خير الدنيا بل يستتبعه وقوله وأشد تثبيتا أي

[ 407 ]

لنفوسهم وقلوبهم بالايمان لان الكلام فيه قال تعالى يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت الآية: إبراهيم - 27. قوله تعالى وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما أي حين تثبتوا بالايمان الثابت والكلام في إبهام قوله أجرا عظيما كالكلام في إطلاق قوله لكان خيرا لهم. قوله تعالى ولهديناهم صراطا مستقيما قد مضى الكلام في معنى الصراط المستقيم في ذيل قوله إهدنا الصراط المستقيم: الحمد - 6 في الجزء الاول من الكتاب. قوله تعالى ومن يطع الله والرسول إلى قوله وحسن اولئك رفيقا جمع بين الله والرسول في هذا الوعد الحسن مع كون الآيات السابقة متعرضة لاطاعة الرسول والتسليم لحكمه وقضائه لتخلل ذكره تعالى بينها في قوله ولو أنا كتبنا عليهم إلخ فالطاعة المفترضة طاعته تعالى وطاعة رسوله وقد بدأ الكلام على هذا النحو في قوله وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول الآية. وقوله فاولئك مع الذين أنعم الله عليهم يدل على اللحوق دون الصيرورة فهؤلاء ملحقون بجماعة المنعم عليهم وهم أصحاب الصراط المستقيم الذى لم ينسب في كلامه تعالى إلى غيره إلا إلى هذه الجماعة في قوله تعالى اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم: الحمد - 7 وبالجملة فهم ملحقون بهم غير صائرين منهم كما لا يخلو قوله وحسن اولئك رفيقا من تلويح إليه وقد تقدم أن المراد بهذه النعمة هي الولاية وأما هؤلاء الطوائف الاربع أعنى النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فالنبيون هم أصحاب الوحى الذين عندهم نبأ الغيب ولا خبرة لنا من حالهم بأزيد من ذلك إلا من حيث الآثار وقد تقدم أن المراد بالشهداء شهداء الاعمال فيما يطلق من لفظ الشهيد في القرآن دون المستشهدين في معركة القتال وأن المراد بالصالحين هم أهل اللياقة بنعم الله. وأما الصديقون فالذي يدل عليه لفظه هو أنه مبالغة من الصدق ومن الصدق ما هو في القول ومنه ما هو في الفعل وصدق الفعل هو مطابقته للقول لانه حاك عن الاعتقاد فإذا صدق في حكايته كان حاكيا لما في الضمير من غير تخلف وصدق القول مطابقته لما في الواقع وحيث كان القول نفسه من الفعل بوجه كان الصادق في فعله لا يخبر إلا عما يعلم صدقه وأنه حق ففي قوله الصدق الخبرى والمخبرى جميعا.

[ 408 ]

فالصديق الذى لا يكذب أصلا هو الذى لا يفعل إلا ما يراه حقا من غير اتباع لهوى النفس ولا يقول إلا ما يرى أنه حق ولا يرى شيئا إلا ما هو حق فهو يشاهد حقائق الاشياء ويقول الحق ويفعل الحق. وعلى ذلك فيترتب المراتب فالنبيون وهم السادة ثم الصديقون وهم شهداء الحقائق والاعمال والشهداء وهم شهداء الاعمال والصالحون وهم المتهيؤون للكرامة الالهية. وقوله تعالى وحسن اولئك رفيقا أي من حيث الرفاقة فهو تمييز قيل ولذلك لم يجمع وقيل المعنى حسن كل واحد منهم رفيقا وهو حال نظير قوله ثم نخرجكم طفلا: الحج - 5. قوله تعالى ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما تقديم ذلك وإتيانه بصيغة الاشارة الدالة على البعيد ودخول اللام في الخبر يدل على تفخيم أمر هذا الفضل كأنه كل الفضل وختم الآية بالعلم لكون الكلام في درجات الايمان التى لا سبيل إلى تشخيصها إلا العلم الالهى واعلم أن في هذه الآيات الشريفة موارد عديدة من الالتفات الكلامي متشابك بعضها مع بعض فقد أخذ المؤمنون في صدر الآيات مخاطبين ثم في قوله ولو أنا كتبنا عليهم كما مر غائبين وكذلك أخذ تعالى نفسه في مقام الغيبة في صدر الآيات في قوله أطيعوا الله الآية ثم في مقام المتكلم مع الغير في قوله وما أرسلنا من رسول الآية ثم الغيبة في قوله بإذن الله الآية ثم المتكلم مع الغير في قوله ولو أنا كتبنا الآية ثم الغيبة في قوله ومن يطع الله والرسول الآية. وكذلك الرسول اخذ غائبا في صدر الآيات في قوله وأطيعوا الرسول الآية ثم مخاطبا في قوله ذلك خير الآية ثم غائبا في قوله واستغفر لهم الرسول الآية ثم مخاطبا في قوله فلا وربك الآية ثم غائبا في قوله ومن يطع الله والرسول الآية ثم مخاطبا في قوله وحسن اولئك الآية فهذه عشر موارد من الالتفات الكلامي والنكات المختصة بكل مورد مورد ظاهرة للمتدبر. = بحث روائي = في تفسير البرهان عن ابن بابويه بإسناده عن جابر بن عبد الله الانصاري: لما أنزل

[ 409 ]

الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم - يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول - واولى الامر منكم - قلت يا رسول الله عرفنا الله ورسوله - فمن اولوا الامر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك - فقال صلى الله عليه وآله وسلم هم خلفائي يا جابر - وأئمة المسلمين من بعدى - أولهم على بن أبى طالب ثم الحسن - ثم الحسين ثم على بن الحسين - ثم محمد بن على المعروف في التوراة بالباقر - ستدركه يا جابر فإذا لقيته فاقرأه منى السلام - ثم الصادق جعفر بن محمد ثم موسى بن جعفر - ثم على بن موسى ثم محمد بن على - ثم على بن محمد ثم الحسن بن على - ثم سميى محمد وكنيى حجة الله في أرضه - وبقيته في عباده ابن الحسن بن على ذاك - الذى يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الارض ومغاربها - ذاك الذى يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة - لا يثبت فيه على القول بإمامته - إلا من امتحن الله قلبه للايمان - قال جابر فقلت له يا رسول الله - فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته - فقال صلى الله عليه وآله وسلم إي والذى بعثنى بالنبوة - إنهم يستضيؤون بنوره - وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس - وإن تجلاها سحاب - يا جابر هذا من مكنون سر الله - ومخزون علم الله فاكتمه إلا عن أهله اقول وعن النعماني بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي عن على عليه السلام ما في معنى الرواية السابقة ورواها على بن إبراهيم بإسناده عن سليم عنه عليه السلام وهناك روايات اخر من طرق الشيعة وأهل السنة وفيها ذكر إمامتهم بأسمائهم من أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى كتاب ينابيع المودة وكتاب غاية المرام للبحراني وغيرهما. وفي تفسير العياشي عن جابر الجعفي قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الآية - أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم قال الاوصياء اقول وفي تفسير العياشي عن عمر بن سعيد عن أبى الحسن عليه السلام: مثله وفيه على بن أبى طالب والاوصياء من بعده وعن ابن شهر آشوب: سأل الحسن بن صالح عن الصادق عليه السلام عن ذلك - فقال الائمة من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اقول وروى مثله الصدوق عن أبى بصير عن الباقر عليه السلام: وفيه قال الائمة من ولد على وفاطمة إلى أن تقوم الساعة

[ 410 ]

وفي الكافي بإسناده عن أبى مسروق عن أبى عبد الله عليه السلام قال: قلت له إنا نكلم أهل الكلام - فنحتج عليهم بقول الله عز وجل - أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم - فيقولون نزلت في المؤمنين - ونحتج عليهم بقول الله عز وجل - قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى - فيقولون نزلت في قربى المسلمين قال - فلم أدع شيئا مما حضرني ذكره من هذا وشبهه إلا ذكرته - فقال لى إذا كان ذلك فادعهم إلى المباهلة - قلت وكيف أصنع - فقال أصلح نفسك ثلاثا وأطبه - قال وصم واغتسل وابرز أنت وهو إلى الجبال - فتشبك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه - ثم أنصفه وابدأ بنفسك وقل - اللهم رب السموات السبع ورب الارضين السبع - عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم - إن كان أبو مسروق جحد حقا وادعى باطلا - فأنزل عليه حسبانا من السماء وعذابا أليما - ثم رد الدعوة عليه فقل - وإن جحد حقا وادعى باطلا - فأنزل عليه حسبانا من السماء وعذابا أليما - ثم قال لى فإنك لا تلبث أن ترى ذلك فيه - فو الله ما وجدت خلقا يجيبنى إليه وفى تفسير العياشي عن عبد الله بن عجلان عن أبى جعفر عليه السلام: في قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم - قال هي في على وفي الائمة - جعلهم الله مواضع الانبياء غير أنهم لا يحلون شيئا ولا يحرمونه اقول والاستثناء في الرواية هو الذى قدمنا في ذيل الكلام على الآية أنها تدل على أن لا حكم تشريعا إلا لله ورسوله. وفي الكافي بإسناده عن بريد بن معاوية قال: تلا أبو جعفر عليه السلام - أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم - فإن خفتم تنازعا في الامر - فارجعوه إلى الله وإلى الرسول وإلى اولى الامر منكم - قال كيف يأمر بطاعتهم ويرخص في منازعتهم - إنما قال ذلك للمارقين الذين قيل لهم - أطيعوا الله وأطيعوا الرسول اقول الرواية لا تدل على أزيد من كون ما تلاه عليه السلام تفسير للآية وبيانا للمراد منها وقد تقدم في البيان السابق توضيح دلالتها على ذلك وليس المراد هو القراءة كما ربما يستشعر من قوله تلا أبو جعفر عليه السلام ويدل على ذلك اختلاف اللفظ الموجود في الروايات كما في تفسير القمي بإسناده

[ 411 ]

عن حريز عن أبى عبد الله عليه السلام قال: نزلت - فإن تنازعتم في شئ - فارجعوه إلى الله وإلى الرسول وإلى اولى الامر منكم وما في تفسير العياشي عن بريد بن معاوية عن أبى جعفر عليه السلام وهو رواية الكافي السابقة وفي الحديث: ثم قال للناس يا أيها الذين آمنوا فجمع المؤمنين إلى يوم القيامة أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم - إيانا عنى خاصة فإن خفتم تنازعا في الامر - فارجعوا إلى الله وإلى الرسول واولى الامر منكم هكذا نزلت - وكيف يأمرهم بطاعة اولى الامر - ويرخص لهم في منازعتهم - إنما قيل ذلك للمأمورين الذين قيل لهم - أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم وفي تفسير العياشي في رواية أبى بصير عن أبى جعفر عليه السلام قال: نزلت يعنى آية أطيعوا الله - في على بن أبى طالب عليه السلام - قلت له إن الناس يقولون لنا - فما منعه أن يسمى عليا وأهل بيته في كتابه - فقال أبو جعفر عليه السلام قولوا لهم - إن الله أنزل على رسوله الصلاة ولم يسم ثلاثا ولا أربعا - حتى كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذى فسر ذلك لهم - وأنزل الحج ولم ينزل طوفوا اسبوعا - حتى فسر ذلك لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - والله أنزل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم - تنزلت في على والحسن والحسين عليهم السلام - وقال في على من كنت مولاه فعلى مولاه - وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اوصيكم بكتاب الله وأهل بيتى - إنى سألت الله أن لا يفرق بينهما - حتى يوردهما على الحوض فأعطاني ذلك - وقال فلا تعلموهم فإنهم أعلم منكم - إنهم لن يخرجوكم من باب هدى - ولن يدخلوكم في باب ضلال - ولو سكت رسول الله ولم يبين أهلها - لادعى آل عباس وآل عقيل وآل فلان - ولكن أنزل الله في كتابه - إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت - ويطهركم تطهيرا - فكان على والحسن والحسين وفاطمة عليهم السلام تأويل هذه الآية - فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيد على وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم - فأدخلهم تحت الكساء في بيت ام سلمة - وقال اللهم إن لكل نبى ثقلا وأهلا فهؤلاء ثقلى وأهلي - وقالت ام سلمة أ لست من أهلك - قال إنك إلى خير ولكن هؤلاء ثقلى وأهلي الحديث: أقول وروى في الكافي بإسناده عن أبى بصير عنه عليه السلام مثله مع اختلاف يسير في اللفظ وفي تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عن تفسير مجاهد: إنها نزلت في أمير المؤمنين

[ 412 ]

حين خلفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة - فقال يا رسول الله أ تخلفنى على النساء والصبيان - فقال يا أمير المؤمنين - أ ما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى - حين قال له اخلفنى في قومي وأصلح - فقال الله واولى الامر منكم - قال على بن أبى طالب ولاه الله أمر الامة بعد محمد - وحين خلفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة - فأمر الله العباد بطاعته وترك خلافه وفيه عنه عن إبانة الفلكي ": إنها نزلت حين شكا أبو بريدة من على عليه السلام الخبر وفي العبقات عن كتاب ينابيع المودة للشيخ سليمان بن إبراهيم البلخى عن المناقب عن سليم بن قيس الهلالي عن على في حديث قال: وأما أدنى ما يكون به العبد ضالا - أن لا يعرف حجة الله تبارك وتعالى وشاهده على عباده - الذى أمر الله عباده بطاعته وفرض ولايته - قال سليم قلت يا أمير المؤمنين صفهم لى - قال الذين قرنهم الله بنفسه ونبيه فقال - يا أيها الذين آمنوا - أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم - فقلت له جعلني الله فداك أوضح لى - فقال الذين قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مواضع - وفي آخر خطبته يوم قبضه الله عز وجل إليه - إنى تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدى - إن تمسكتم بهما كتاب الله عز وجل وعترتي أهل بيتى - فإن اللطيف الخبير قد عهد إلي أنهما لن يفترقا - حتى يردا على الحوض كهاتين وجمع بين مسبحتيه - ولا أقول كهاتين وجمع مسبحته والوسطى - فتمسكوا بهما ولا تقدموهم فتضلوا أقول والروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في المعاني السابقة كثيرة جدا وقد اقتصرنا فيما نقلناه على إيراد نموذج من كل صنف منها وعلى من يطلبها أن يراجع جوامع الحديث. وأما الذى روى عن قدماء المفسرين فهى ثلاثة أقوال الخلفاء الراشدون وامراء السرايا والعلماء وما نقل عن الضحاك أنهم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو يرجع إلى القول الثالث فإن اللفظ المنقول منه أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هم الدعاة الرواة وظاهره أنه تعليل بالعلم فيرجع إلى التفسير بالعلماء. واعلم أيضا أنه قد نقل في أسباب نزول هذه الآيات امور كثيرة وقصص مختلفة شتى لكن التأمل فيها لا يدع ريبا في أنها جميعا من قبيل التطبيق النظرى من رواتها ولذلك تركنا إيرادها لعدم الجدوى في نقلها وإن شئت تصديق ذلك فعليك بالرجوع

[ 413 ]

إلى الدر المنثورو تفسير الطبري وأشباههما. وفي محاسن البرقى بإسناده عن أبى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام: في قول الله تعالى فلا وربك لا يؤمنون الآية - قال التسليم الرضا والقنوع بقضائه وفي الكافي بإسناده عن عبد الله الكاهلى قال قال أبو عبد الله عليه السلام: لو أن قوما عبدوا الله وحده لا شريك له - وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا البيت - وصاموا شهر رمضان - ثم قالوا الشئ صنعه الله وصنع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم - لم صنع هكذا وكذا - ولو صنع خلاف الذى صنع - أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين - ثم تلا هذه الآية فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم - ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ثم قال أبو عبد الله عليه السلام عليكم بالتسليم وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن يحيى الكاهلى عن أبى عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول: والله لو أن قوما عبدوا الله وحده لا شريك له وأقاموا الصلاة - وآتوا الزكاة وحجوا البيت وصاموا شهر رمضان - ثم قالوا لشئ صنعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم صنع كذا وكذا - ووجدوا ذلك في أنفسهم لكانوا بذلك مشركين - ثم قرأ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم - ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا - مما قضى محمد وآل محمد ويسلموا تسليما اقول وفي معنى الروايتين روايات أخر والذى ذكره عليه السلام تعميم في الآية من جهة الملاك من جهتين من جهة أن الحكم لا يفرق فيه بين أن يكون حكما تشريعيا أو تكوينيا ومن جهة أن الحاكم بالحكم لا يفرق فيه بين أن يكون هو الله أو رسوله. واعلم أن هناك روايات تطبق الآيات أعنى قوله فلا وربك لا يؤمنون إلى آخر الآيات على ولاية على عليه السلام أو على ولاية أئمة أهل البيت عليهم السلام وهو من مصاديق التطبيق على المصاديق فإن الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والائمة من أهل البيت عليهم السلام مصاديق الآيات وهى جارية فيهم. وفي أمالى الشيخ بإسناده إلى على بن أبى طالب عليه السلام قال: جاء رجل من الانصار إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم - فقال يا رسول الله ما أستطيع فراقك - وإنى لادخل منزلي فأذكرك - فأترك ضيعتي واقبل حتى أنظر إليك حبا لك - فذكرت إذا كان يوم القيامة فادخلت الجنة - فرفعت في أعلى عليين فكيف لى بك يا نبى الله - فنزل ومن يطع الله والرسول فاولئك مع الذين أنعم الله عليهم - من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين - وحسن

[ 414 ]

اولئك رفيقا - فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرجل فقرأها عليه وبشره بذلك اقول وهذا المعنى مروى من طرق أهل السنة أيضا رواه في الدر المنثورعن الطبراني وابن مردويه وأبى نعيم في الحلية والضياء المقدسي في صفة الجنة وحسنه عن عائشة وعن الطبراني وابن مردويه من طريق الشعبى عن ابن عباس وعن سعيد بن منصور وابن المنذر عن الشعبى وعن ابن جرير عن سعيد بن جبير. وفي تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عن أنس بن مالك عمن سمى عن أبى صالح عن ابن عباس ": في قوله تعالى ومن يطع الله والرسول - فاولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين يعنى محمدا - والصديقين يعنى عليا وكان أول من صدق - والشهداء - يعنى عليا وجعفرا وحمزة والحسن والحسين عليهم السلام أقول وفي هذا المعنى أخبار أخر. وفي الكافي عن الباقر عليه السلام قال: أعينونا بالورع - فإنه من لقى الله بالورع كان له عند الله فرحا - فإن الله عز وجل يقول - ومن يطع الله والرسول وتلا الآية - ثم قال فمنا النبي ومنا الصديق ومنا الشهداء والصالحون وفيه عن الصادق عليه السلام: المؤمن مؤمنان مؤمن وفى الله بشروطه - التى اشترطها عليه - فذلك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين - وحسن اولئك رفيقا - وذلك ممن يشفع ولا يشفع له - وذلك ممن لا يصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الآخرة - ومؤمن زلت به قدم - فذلك كخامة الزرع كيفما كفأته الريح انكفأ - وذلك ممن يصيبه أهوال الدنيا وأهوال الآخرة - ويشفع له وهو على خير أقول في الصحاح - الخامة - الغضة الرطبة من النبات انتهى ويقال كفأت فلانا فانكفأ أي صرفته فانصرف ورجع وهو عليه السلام يشير في الحديث إلى ما تقدم في تفسير قوله صراط الذين أنعمت عليهم: الفاتحة - 7 أن المراد بالنعمة الولاية فينطبق على قوله تعالى إلا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون: يونس - 63 ولا سبيل لاهوال الحوادث إلى أولياء الله الذين ليس لهم إلا الله سبحانه = يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا (71) - وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد

[ 415 ]

أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا (72) - ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما (73) - فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما (74) - وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والوالدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا (75) - الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا (76) (بيان) الآيات بالنسبة إلى ما تقدمها كما ترى بمنزلة ذي المقدمة بالنسبة إلى المقدمة وهي تحث وتستنهض المؤمنين للجهاد في سبيل الله وقد كانت المحنة شديدة على المؤمنين أيام كانت تنزل هذه الآيات وهي كأنها الربع الثاني من زمن إقامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة كانت العرب هاجت عليهم من كل جانب لاطفاء نور الله وهدم ما ارتفع من بناية الدين يغزو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشركي مكة وطواغيت قريش ويسري السرايا إلى أقطار الجزيرة ويرفع قواعد الدين بين المؤمنين وفي داخلهم جمع المنافقين وهم ذو قوة وشوكة وقد بان يوم أحد أن لهم عددا لا ينقص من نصف عدة المؤمنين بكثير (1). وكانوا يقلبون الامور على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتربصون به الدوائر ويثبطون المؤمنين وفيهم مرضى القلوب سماعون لهم وحولهم اليهود يفتنون المؤمنين ويغزونهم


(1) وقد تقدم في أحاديث احد أن النبي صلى الله عليه وآله خرج إلى احد في ألف ثم رجع منهم ثلاثمائة من المنافقين مع عبد الله بن ابي وبقي مع النبي سبعمائة. (*)

[ 416 ]

وكانت عرب المدينة تحترمهم وتعظم أمرهم من قديم عهدهم فكانوا يلقون إليهم من باطل القول ومضلات الاحاديث ما يبطل به صادق إرادتهم وينتقض به مبرم جدهم ومن جانب آخر كانوا يشجعون المشركين عليهم ويطيبون نفوسهم في مقاومتهم والبقاء والثبات على كفرهم وجحودهم وتفتين من عندهم من المؤمنين. فالآيات السابقة كالمسوقة لابطال كيد اليهود للمسلمين وإمحاء آثار إلقاءاتهم على المؤمنين وما في هذه الآيات من حديث المنافقين هو كتتميم إرشاد المؤمنين وتكميل تعريفهم حاضر الحال ليكونوا على بصيرة من أمرهم وعلى حذر من الداء المستكن الذي دب في داخلهم ونفذ في جمعهم وليبطل بذلك كيد أعدائهم الخارجين المحيطين بهم ويرتد أنفاسهم إلى صدورهم وليتم نور الدين في سطوعه والله متم نوره ولو كره المشركون والكافرون. قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا الحذر بالكسر فالسكون ما يحذر به وهو آلة الحذر كالسلاح وربما قيل إنه مصدر كالحذر بفتحتين والنفر هو السير إلى جهة مقصودة وأصله الفزع فالنفر من محل السير فزع عنه وإلى محل السير فزع إليه والثبات جمع ثبة وهي الجماعة على تفرقة فالثبات الجماعة بعد الجماعة بحيث تتفصل ثانية عن اولى وثالثة عن ثانية ويؤيد ذلك مقابلة قوله فانفروا ثبات قوله أو انفروا جميعا. والتفريع في قوله فانفروا ثبات على قوله خذوا حذركم بظاهره يؤيد كون المراد بالحذر ما به الحذر على أن يكون كناية عن التهيؤ التام للخروج إالى الجهاد ويكون المعنى خذوا أسلحتكم أي أعدوا للخروج واخرجوا إلى عدوكم فرقة فرقة سرايا أو اخرجوا إليهم جميعا عسكرا. ومن المعلوم أن التهيؤ والاعداد يختلف باختلاف عدة العدو وقوته فالترديد في قوله أو انفروا ليس تخييرا في كيفية الخروج وإنما الترديد بحسب تردد العدو من حيث العدة والقوة أي إذا كان عددهم قليلا فثبة وإن كان كثيرا فجميعا. فيؤول المعنى وخاصة بملاحظة الآية التالية وإن منكم ليبطئن إلى نهيهم عن أن يضعوا أسلحتهم وينسلخوا عن الجد وبذل الجهد في أمر الجهاد فيموت عزمهم ويفتقد نشاطهم في إقامة أعلام الحق ويتكاسلوا أو يتبطؤوا أو يتثبطوا في قتال أعداء الله وتطهير الارض من قذارتهم.

[ 417 ]

قوله تعالى وإن منكم لمن ليبطئن قيل إن اللام الاولى لام الابتداء لدخولها على اسم إن واللام الثانية لام القسم لدخولها على الخبر وهي جملة فعلية مؤكدة بنون التأكيد الثقيلة والتبطئة والابطاء بمعنى وهو التأخير في العمل. وقوله وإن منكم يدل على أن هؤلاء من المؤمنين المخاطبين في صدر الآية بقوله يا أيها الذين آمنوا على ما هو ظاهر كلمة منكم كما يدل عليه ما سيأتي من قوله ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم فإن الظاهر أن هؤلاء أيضا كانوا من المؤمنين مع قوله تعالى بعد ذلك فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس وقوله وإن تصبهم حسنة إلخ وكذا قوله فليقاتل في سبيل الله الذين وقوله وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وقوله الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله كل ذلك تحريص واستنهاض للمؤمنين وفيهم هؤلاء المبطؤون على ما يلوح إليه اتصال الآيات. على أنه ليس في الآيات ما يدل بظاهره على أن هؤلاء المبطئين من المنافقين الذين لم يؤمنوا إلا بظاهر من القول مع أن في بعض ما حكى الله عنهم دلالة ما على إيمانهم في الجملة كقوله تعالى فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي وقوله تعالى ربنا لم كتبت علينا القتال (إلخ). نعم ذكر المفسرون أن المراد بقوله وإن منكم لمن المنافقون وأن معنى كونهم منهم دخولهم في عددهم أو اشتراكهم في النسب فهم منهم نسبا أو اشتراكهم مع المؤمنين في ظاهر حكم الشريعة بحقن الدماء والارث ونحو ذلك لتظاهرهم بالشهادتين وقد عرفت أن ذلك تصرف في ظاهر القرآن من غير وجه. وإنما دعاهم إلى هذا التفسير حسن الظن بالمسلمين في صدر الاسلام كل من لقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآمن به والبحث التحليلي فيما ضبطه التاريخ من سيرتهم وحياتهم مع النبي وبعد يضعف هذا الظن والخطابات القرآنية الحادة في خصوصهم توهن هذا التقدير. ولم تسمح الدنيا حتى اليوم بامة أو عصابة طاهرة تألفت من أفراد طاهرة من غير ستثناء مؤمنة واقفة على قدم صدق من غير عثرة قط (إلا ما نقل في حديث الطف) بل مؤمنوا صدر الاسلام كسائر الجماعات البشرية فيهم المنافق والمريض قلبه والمتبع هواه والطاهر سره. والذي يمتاز به الصدر الاول من المسلمين هو أن مجتمعهم كان مجتمعا فاضلا يقدمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويغشاهم نور الايمان ويحكم فيهم سيطرة الدين هذا حال مجتمعهم

[ 418 ]

من حيث إنه مجتمع وإن كان يوجد بينهم من الافراد الصالح والطالح جميعا وفي صفاتهم الروحية الفضيلة والرذيلة معا وكل لون من ألوان الاخلاق والملكات. وهذا هو الذي يذكره القرآن من حالهم ويبينه من صفاتهم قال تعالى محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود إلى أن قال وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما: الفتح - 29 فقد بدأ تعالى بذكر صفاتهم وفضائلهم الاجتماعية مطلقة وختم بذكر المغفرة والاجر لافرادهم مشروطة. قوله تعالى فإن أصابتكم مصيبة أي من قتل أو جرح قال قد أنعم الله علي أذ لم أكن معهم شهيدا حتى ابتلي بمثل ما ابتلى به المؤمنون. قوله تعالى ولئن أصابكم فضل من الله من قبيل غنيمة الحرب ونحوها والفضل هو المال وما يماثله وقوله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم تشبيه وتمثيل لحالهم فإنهم مؤمنون والمسلمون يد واحدة يربط بعضهم ببعض أقوى الروابط وهو الايمان بالله وآياته الذي يحكم على جميع الروابط الاخر من نسب أو ولاية أو بيعة أو مودة لكنهم لضعف إيمانهم لا يرون لانفسهم أدنى ربط يربطهم بالمؤمنين فيتمنون الكون معهم والحضور في جهادهم كما يتمنى الاجنبي فضلا ناله أجنبي فيقول أحدهم يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ومن علائم ضعف إيمانهم إكبارهم أمر هذه الغنائم وعدهم حيازة الفضل والمال فوزا عظيما وكل مصيبة أصابت المؤمنين في سبيل الله من قتل أو جرح أو تعب نقمة. قوله تعالى فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون قال في المجمع يقال شريت أي بعت واشتريت أي ابتعت فالمراد بقوله يشرون الحياة الدنيا بالآخرة أي يبيعون حياتهم الدنيا ويبدلونها الآخرة. والآية تفريع على ما تقدم من الحث على الجهاد وذم من يبطئ في الخروج إليه ففيها تجديد للحث على القتال في سبيل الله بتذكير أن هؤلاء جميعا مؤمنون قد شروا بإسلامهم لله تعالى الحياة الدنيا بالآخرة كما قال إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة: التوبة - 111 ثم صرح على فائدة القتال الحسنة وأنها الاجر العظيم على أي حال بقوله ومن يقاتل في سبيل الله إلخ. فبين أن أمر المقاتل في سبيل الله ينتهي إلى إحدى عاقبتين محمودتين أن يقتل

[ 419 ]

في سبيل الله أو يغلب عدو الله وله أي حال أجر عظيم ولم يذكر ثالث الاحتمالين وهو الانهزام تلويحا إلى أن المقاتل في سبيل الله لا ينهزم. وقدم القتل على الغلبة لان ثوابه أجزل وأثبت فإن المقاتل الغالب على عدو الله وإن كان يكتب له الاجر العظيم إلا أنه على خطر الحبط باقتراف بعض الاعمال الموجبة لحبط الاعمال الصالحة واستتباع السيئة بعد الحسنة بخلاف القتل إذ لا حياة بعده إلا حياة الآخرة فالمقتول في سبيل الله يستوفي أجره العظيم حتما وأما الغالب في سبيل الله فأمره مراعى في استيفاء أجره. قوله تعالى وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين الخ عطف على موضع لفظ الجلالة والآية تشتمل على حث وتحريض آخر على القتال في لفظ الاستفهام بتذكير أن قتالكم قتال في سبيل الله سبحانه وهو الذي لا بغية لكم في حياتكم السعيدة إلا رضوانه ولا سعادة أسعد من قربه وفي سبيل المستضعفين من رجالكم ونسائكم وولدانكم. ففي الآية استنهاض وتهييج لكافة المؤمنين وإغراء لهم أما المؤمنون خالصوا الايمان وطاهروا القلوب فيكفيهم ذكر الله جل ذكره في أن يقوموا على الحق ويلبوا نداء ربهم ويجيبوا داعيه وأما من دونهم من المؤمنين فإن لم يكفهم ذلك فليكفهم أن قتالهم هذا على أنه قتال في سبيل الله قتال في سبيل من استضعفه الكفار من رجالهم ونسائهم وذراريهم فليغيروا لهم وليتعصبوا. والاسلام وإن أبطل كل نسب وسبب دون الايمان إلا أنه أمضى بعد التلبس بالايمان الانساب والاسباب القومية فعلى المسلم أن يفدي عن أخيه المسلم المتصل به بالسبب الذي هو الايمان وعن أقربائه من رجاله ونسائه وذراريه إذا كانوا على الاسلام فإن ذلك يعود بالاخرة إلى سبيل الله دون غيره. وهؤلاء المستضعفون الذين هم أبعاضهم وأفلاذهم مؤمنون بالله سبحانه بدليل قوله الذين يقولون ربنا الخ وهم مع ذلك مذللون معذبون يستصرخون ويستغيثون بقولهم ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها وقد أطلق الظلم ولم يقل الظالم أهلها على أنفسهم وفيه إشعار بأنهم كانوا يظلمونهم بأنواع التعذيب والايذاء وكذلك كان الامر. وقد عبر عن استغاثتهم واستنصارهم بأجمل لفظ وأحسن عبارة فلم يحك عنهم أنهم يقولون يا للرجال يا للسراة يا قوماه يا عشيرتاه بل حكى أنهم يدعون ربهم

[ 420 ]

ويستغيثون بمولاهم الحق فيقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ثم يشيرون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإلى من معه من المؤمنين المجاهدين بقولهم واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا فهم يتمنون وليا ويتمنون نصيرا لكن لا يرضون دون أن يسألوا ربهم الولي والنصير. (كلام في الغيرة والعصبية) انظر إلى هذا الادب البارع الالهي الذي أتى به الكتاب العزيز وقسه إلى ما عندنا من ذلك بحسب قضاء الطبع ترى عجبا. لا شك أن في البنية الانسانية ما يبعثه إلى الدفاع عما يحترمه ويعظمه كالذراري والنساء والجاه وكرامة المحتد ونحو ذلك وهو حكم توجبه الفطرة الانسانية وتلهمه إياه لكن هذا الدفاع ربما كان محمودا إذا كان حقا وللحق وربما كان مذموما يستتبع الشقاء وفساد امور الحياة إذا كان باطلا وعلى الحق. والاسلام يحفظ من هذا الحكم أصله وهو ما للفطره ويبطل تفاصيله أولا ثم يوجهه إلى جهة الله سبحانه بصرفه عن كل شئ ثم يعود به إلى موارده الكثيرة فيسبك الجميع في قالب التوحيد بالايمان بالله فيندب الانسان أن يتعصب لرجاله ونسائه وذراريه ولكل حق بإرجاع الجميع إلى جانب الله فالاسلام يؤيد حكم الفطرة ويهذبه من شوب الاهواء والاماني الفاسدة ويصفي أمره في جميع الموارد ويجعلها جميعا شريعة إنسانية يسلكها الانسان على الفطرة ويخلصها من ظلمة التناقض إلى نور التوافق والتسالم فما يدعو إليه الاسلام ويشرعه لا تناقض ولا تضاد بين أجزائه وأطرافه يشترك جميعها في أنها من شؤون التوحيد ويجتمع كلها في أنها اتباع للحق فيعود جميع الاحكام حينئذ كلية ودائمة وثابتة من غير تخلف واختلاف. قوله تعالى الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله إلى قوله الطاغوت مقايسة بين الذين آمنوا والذين كفروا من جهة وصف قتالهم وبعبارة اخرى من جهة نية كل من الطائفتين في قتالهم ليعلم بذلك شرف المؤمنين على الكفار في طريقتهم وأن سبيل المؤمنين ينتهي إلى الله سبحانه ويعتمد عليه بخلاف سبيل الكفار ليكون ذلك محرضا آخر للمؤمنين على قتالهم. قوله تعالى فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا الذين كفروا لوقوعهم في سبيل الطاغوت خارجون عن ولاية الله فلا مولى لهم إلا ولي الشرك

[ 421 ]

وعبادة غير الله تعالى وهو الشيطان فهو وليهم وهم أوليائه. وإنما استضعف كيد الشيطان لانه سبيل الطاغوت الذي يقابل سبيل الله والقوة لله جميعا فلا يبقى لسبيل الطاغوت الذي هو مكيدة الشيطان إلا الضعف ولذلك حرض المؤمنين عليهم ببيان ضعف سبيلهم وشجعهم على قتالهم ولا ينافي ضعف كيد الشيطان بالنسبة إلى سبيل الله قوته بالنسبة إلى من اتبع هواه وهو ظاهر. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم الآية، قال سمي الاسلحة حذرا لانها الآلة التي بها يتقي الحذر: قال وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام قال وروي عن أبي جعفر عليه السلام: أن المراد بالثبات السرايا وبالجميع العسكر. وفي تفسير العياشي عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام: يا أيها الذين آمنوا فسماهم مؤمنين وليس هم بمؤمنين ولا كرامة، قال يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا إلى قوله - فأفوز فوزا عظيما ولو أن أهل السماء والارض قالوا قد أنعم الله علي إذ لم أكن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكانوا بذلك مشركين، وإذا أصابهم فضل من الله قال - يا ليتني كنت معهم فاقاتل في سبيل الله. اقول وروى هذا المعنى الطبرسي في المجمع والقمي في تفسيره عنه عليه السلام والمراد بالشرك في كلامه عليه السلام الشرك المعنوي لا الكفر الذي يسلب ظاهر أحكام الاسلام عمن تلبس به وقد تقدم بيانه. وفيه عن حمران عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى والمستضعفين من الرجال الآية قال نحن اولئك. أقول ورواه أيضا عن سماعة عن الصادق عليه السلام ولفظه فأما قوله (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم الآية، قال سمي الاسلحة حذرا لانها الآلة التي بها يتقي الحذر: قال وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام قال وروي عن أبي جعفر عليه السلام: أن المراد بالثبات السرايا وبالجميع العسكر. وفي تفسير العياشي عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام: يا أيها الذين آمنوا فسماهم مؤمنين وليس هم بمؤمنين ولا كرامة، قال يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا إلى قوله - فأفوز فوزا عظيما ولو أن أهل السماء والارض قالوا قد أنعم الله علي إذ لم أكن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكانوا بذلك مشركين، وإذا أصابهم فضل من الله قال - يا ليتني كنت معهم فاقاتل في سبيل الله. اقول وروى هذا المعنى الطبرسي في المجمع والقمي في تفسيره عنه عليه السلام والمراد بالشرك في كلامه عليه السلام الشرك المعنوي لا الكفر الذي يسلب ظاهر أحكام الاسلام عمن تلبس به وقد تقدم بيانه. وفيه عن حمران عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى والمستضعفين من الرجال الآية قال نحن اولئك. أقول ورواه أيضا عن سماعة عن الصادق عليه السلام ولفظه فأما قوله والمستضعفين الآية فاولئك نحن، الحديث والروايتان في مقام التطبيق والشكوى من بغي الباغين من هذه الامة وليستا في مقام التفسير. وفي الدر المنثور أخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابي أبي حاتم والبيهقي في سننه من طريق عطاء عن ابن عباس: في سورة النساء - " خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا " عصبا وفرقا، قال نسخها " وما كان المؤمنون لينفروا كافة الآية. أقول الآيتان غير متنافيتين حتى يحكم بنسخ الثانية للاولى، وهو ظاهر بل لو كان فإنما هو التخصيص أو التقييد والحمد لله.

مكتبة مكتبة شبكة أمل