تفسير الميزان - السيد الطباطبائي ج 3
تفسير الميزان
السيد الطباطبائي ج 3
[ 1 ]
الميزان في تفسير القرآن 3
[ 3 ]
تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره
[ 4 ]
الميزان في تفسير القران كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره المجلد الثالث منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة
[ 5 ]
بسم الله الرحمن الرحيم " سورة آل عمران مدنية وهي مائتا آية بسم الله الرحمن الرحيم آلم (1) - ألله لا إله إلا هو الحي القيوم (2) - نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والانجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان (3) - إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام (4).
إن الله لا يخفى عليه شئ في الارض ولا في السماء (5). هو الذى يصوركم في الارحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم (6). بيان غرض السورة دعوة المؤمنين إلى توحيد الكلمة في الدين والصبر والثبات في حماية حماه بتنبيههم بما هم عليه من دقة الموقف لمواجهتهم أعداءا كاليهود والنصارى والمشركين وقد جمعوا جمعهم وعزموا عزمهم على إطفاء نور الله تعالى بأيديهم وبأفواههم. ويشبه أن تكون هذه السورة نازلة دفعة واحدة فإن آياتها - وهى مئتا آية ظاهرة الاتساق والانتظام من أولها إلى آخرها متناسبة آياتها مرتبطة أغراضها. ولذلك كان مما يترجح في النظر أن تكون السورة إنما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد استقر له الامر بعض الاستقرار ولما يتم استقراره فإن فيها ذكر غزوة أحد وفيها ذكر المباهلة مع نصارى نجران وذكرا من أمر اليهود وحثا على
[ 6 ]
المشركين ودعوة إلى الصبر والمصابرة والمرابطة وجميع ذلك يؤيد أن السورة نزلت أيام كان المسلمون مبتلين بالدفاع عن حمى الدين بعامة قواهم وجميع أركانهم فمن جانب كانوا يقاومون الفشل والفتور الذين يدبان في داخل جماعتهم بفتنه اليهود والنصارى ويحاجونهم ويجاوبونهم ومن جانب كانوا يقاتلون المشركين ويعيشون في حال الحرب وانسلاب الامن فقد كان الاسلام في هذه الايام قد انتشر صيته فثارت الدنيا عليه من اليهود والنصارى ومشركى العرب ووراء ذلك الروم والعجم وغيرهم والله سبحانه يذكر المؤمنين في هذه السورة من حقائق دينه الذى هداهم به ما يطيب به نفوسهم ويزول به رين الشبهات والوساوس الشيطانية وتسويلات أهل الكتاب عن قلوبهم ويبين لهم أن الله سبحانه لم يغفل عن تدبير ملكه ولم يعجزه
خلقه وإنما اختار دينه وهدى جمعا من عباده إليه على طريقه العادة الجارية والسنة الدائمة وهى سنة العلل والاسباب فالمؤمن والكافر جاريان على سنة الاسباب فيوم للكافر ويوم للمؤمن فالدار دار الامتحان واليوم يوم العمل والجزاء غدا قوله تعالى الله لا إله إلا هو الحى القيوم قد مر الكلام فيه في تفسير آية الكرسي وتحصل من هناك أن المراد به بيان قيامه تعالى أتم القيام على أمر الايجاد و التدبير فنظام الموجودات بأعيانها وآثارها تحت قيمومة الله لا مجرد قيمومة التأثير كالقيمومة في الاسباب الطبيعية الفاقدة للشعور بل قيمومة حياه تستلزم العلم والقدرة فالعلم الالهى نافذ فيها لا يخفى عليه شئ منها والقدرة مهيمنه عليها لا يقع منها إلا ما شاء وقوعه وأذن فيه ولذلك عقبه بقوله بعد آيتين إن الله لا يخفى عليه شئ في الارض ولا في السماء هو الذى يصوركم في الارحام كيف يشاء. ولما كانت هذه الآيات الست في أول السورة على طريق براعه الاستهلال مشتملة على إجمال ما تحتويه السورة من التفصيل وقد مر ذكر غرض السورة كانت هذه الآية بمنزلة تصدير الكلام بالبيان الكلى الذى يستنتج به الغرض كما أن الآيتين الاخيرتين أعنى قوله إن الله لا يخفى عليه الخ بمنزلة التعليل بعد البيان وعلي هذا فالكلام التى يتم به أمر براعة الاستهلال هما الآيتان المتوسطتان أعنى قوله نزل عليك الكتاب إلى قوله عزيز ذو انتقام وعلي هذا فيعود المعنى إلى أنه يجب على المؤمنين أن يتذكروا أن الله الذى آمنوا به واحد في الوهيته قائم على الخلق والتدبير قيام حياة لا
[ 7 ]
يغلب في ملكه ولا يكون إلا ما شاء وأذن فيه. فإنهم إذا تذكروا ذلك علموا أنه هو المنزل للكتاب الهادى إلى الحق والفرقان المميز بين الحق والباطل وأنه إنما جرى في ذلك على ما أجرى عليه عالم الاسباب وظرف الاختيار فمن آمن فله
أجره ومن كفر فإن الله سيجزيه لانه عزيز ذو انتقام، وذلك أنه الله الذى لا إله غيره حتى يحكم في هذه الجهات ولا يخفى عليه أمرهم، ولا يخرج عن إرادته ومشيئته فعالهم وكفرهم قوله تعالى: نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه قد مر أن التنزيل يدل على التدريج كما أن الانزال يدل على الدفعة. وربما ينقض ذلك بقوله: " لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة " الفرقان - 32 وبقوله تعالى: " أن ينزل علينا مائدة " المائدة - 112 وقوله تعالى " لو لا نزل عليه آية " الانعام - 37 وقوله تعالى: " قل إن الله قادر على أن ينزل آية " الانعام - 37 ولذلك ذكر بعض المفسرين أن الاولى أن يقال إن معنى نزل عليك الكتاب أنزله إنزالا بعد إنزال دفعا للنقض. والجواب: أن المراد بالتدريج في النزول ليس هو تخلل زمان معتد به بين نزول كل جزء من اجزاء الشئ وبين جزئه الآخر بل الاشياء المركبة التى توجد بوجود أجزائها لوجودها نسبة إلى مجموع الاجزاء وبذلك يصير الشئ أمرا واحدا غير منقسم والتعبير عنه من هذه الجهة بالنزول كقوله تعالى انزل من السماء مائا " الرعد - 17 وهو الغيث ونسبة من حيث وجوده بوجود أجزائه واحدا بعد واحد سواء تخلل بينهما زمان معتد به أو لم يتخلل وهو التدريج والتعبير عنه بالتنزيل كقوله تعالى وهو الذى ينزل الغيث: الشورى - 28 ومن هنا يظهر أن الآيات المذكورة للنقض غير ناقضة فإن المراد بقوله لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة الآية أن ينزل عليه القرآن آية بعد آية في زمان متصل واحد من غير تخلل زمان معتد به كما كان عليه الامر في نزول القرآن في الشؤون والحوادث والاوقات المختلفة وبذلك يظهر الجواب عن بقية الآيات المذكورة وأما ما ذكره البعض المزبور فهو على أنه استحسان غير جائز في اللغة البتة
[ 8 ]
لا يدفع شيئا من النقض بالآيات المذكورة بل هي بحالها وهو ظاهر قد جرى كلامه تعالى ان يعبر عن إفاضة الكتاب على النبي ص بالتنزيل والنزول والنزول يستلزم مقاما أو مكانا عاليا رفيعا يخرج منه الشئ نوعا من الخروج ويقصد مقاما أو مكانا آخر أسفل فيستقر فيه وقد وصف نفسه تعالت ذاته بالعلو ورفعة الدرجات وقد وصف كتابه أنه من عنده قال تعالى إنه على حكيم الشورى - 51 وقال تعالى ولما جائهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم: البقرة - 89 فصح بذلك استعمال لفظ النزول في مورد استقرار الوحى في قلب رسول الله ص وقد ذكروا أن الحق هو الخبر من حيث إن بحذائه خارجا ثابتا كما ان الصدق هو الخبر من حيث إنه مطابق للخارج وعلى هذا فإطلاق الحق على الاعيان الخارجية والامور الواقعية كما يطلق على الله سبحانه أنه حق وعلى الحقائق الخارجية أنها حقه إنما هو من جهة أن كلا منها حق من جهة الخبر عنها وكيف كان فالمراد بالحق في الآية الامر الثابت الذى لا يقبل البطلان والظاهر أن الباء في قوله بالحق للمصاحبة والمعنى نزل عليك الكتاب تنزيلا يصاحب الحق ولا يفارقه فيوجب مصاحبة الحق ان لا يطرء عليه ولا يخالطه باطل فهو في أمن من جهة ظهور الباطل عليه ففى قوله نزل عليك الكتاب بالحق استعارة بالكناية وقد قيل في معنى الباء وجوه اخر لا يخلو عن سقم. والتصديق من الصدق يقال صدقت مقالا كذا أي قررته على الصدق واعترفت بكونه صدقا وصدقت فلانا أي اعترفت بصدقه فيما يخبر به. والمراد مما بين يديه التوراة والانجيل كما قال تعالى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى إلى ان قال وآتيناه الانجيل فيه هدى إلى ان قال وأنزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب الآية: المائدة
- 48 والكلام لا يخلو عن دلالة على أن ما بأيدى اليهود والنصارى من التوراة والانجيل لا يخلو عن بعض ما أنزله الله على موسى وعيسى عليهما السلام وإن كانا لا يخلوان عن السقط والتحريف فان الدائر بينهم في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو التوراة الموجودة اليوم والاناجيل الاربعة المشهورة فالقرآن يصدق التوراة والانجيل الموجودين لكن في الجملة لا بالجملة لمكان الآيات
[ 9 ]
الناطقة بالتحريف والسقط فيهما قال تعالى ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل إلى ان قال وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به إلى ان قال ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به الآية: المائدة - 14. قوله تعالى وأنزل التوراة والانجيل من قبل هدى للناس التوراة كلمة عبرانية بمعنى الشريعة والانجيل لفظ يونانى وقيل فارسي الاصل معناه البشارة وسيجئ استيفاء البحث عن الكتابين في قوله تعالى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور الآيات: المائدة - 44. ومما أصر عليه القرآن تسميه كتاب عيسى عليه السلام بالانجيل بصيغة الافراد والقول بأنه نازل من عند الله سبحانه مع أن الاناجيل كثيرة والمعروفة منها أعنى الاناجيل الاربعة كانت موجوده قبل نزول القرآن وفي عهده وهى التى ينسب تأليفها إلى لوقا ومرقس ومتى ويوحنا ولا يخلو ما ذكرناه من إفراد الاسم والتوصيف بالنزول عن دلالة على التحريف والاسقاط وكيف كان لا يخلو ذكر التوراة والانجيل في هذه الآية وفي أول السورة من التعريض لليهود والنصارى على ما سيذكره من أمرهم وقصص تولد عيسى ونبوته ورفعه. قوله تعالى وأنزل الفرقان الفرقان ما يفرق به بين الحق والباطل على ما في الصحاح واللفظ بمادته يدل على الاعم من ذلك وهو كل ما يفرق به بين شئ وشئ.
قال تعالى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان " الانفال - 41 وقال تعالى يجعل لكم فرقانا " الانفال - 29 وإذا كان الفرق المطلوب عند الله فيما يرجع إلى معنى الهداية هو الفرق بين الحق والباطل في العقائد والمعارف وبين وظيفة العبد وما ليس بوظيفة له بالنسبة إلى الاعمال الصادرة عنه في الحياة الدنيا انطبق معناه على مطلق المعارف الاصلية والفرعية التى أنزلها الله تعالى على أنبيائه بالوحى أعم من الكتاب وغيره. قال تعالى ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان " الانبياء - 48 وقال تعالى " واذ آتينا موسى الكتاب والفرقان " البقرة - 53 وقال تعالى تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا " الفرقان - 1. وقد عبر تعالى عن هذا المعنى بالميزان في قوله " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات
[ 10 ]
وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط " الحديد - 25 وهو في وزان قوله " كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " البقره - 213 فالميزان كالفرقان هو الدين الذى يحكم بين الناس بالعدل مع ما ينضم إليه من المعارف ووظائف العبودية والله أعلم وقيل المراد بالفرقان القرآن وقيل الدلالة الفاصلة بين الحق والباطل وقيل الحجة القاطعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على من حاجه في أمر عيسى وقيل النصر وقيل العقل والوجه ما قدمناه. قوله تعالى إن الذين كفروا بآيات الله إلى قوله ذو انتقام الانتقام ما قيل مجازاة المسئ على إساءته وليس من لازم المعنى أن يكون للتشفي فإن ذلك من لوازم الانتقامات التى بيننا حيث إن إساءة المسئ يوجب منقصة وضررا في جانبنا فنتدارك ذلك بالمجازاة الشديدة التى توجب تشفى قلوبنا وأما هو تعالى فأعز ساحة من
أن ينتفع أو يتضرر بشئ من أعمال عباده لكنه وعد - وله الوعد الحق - أن سيقضى بين عباده بالحق إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا قال تعالى والله يقضى بالحق " المؤمن - 20 وقال تعالى ليجزى الذين أساؤوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى " النجم - 31 كيف وهو عزيز على الاطلاق منيع الجانب من أن ينتهك محارمه وقد قيل إن الاصل في معنى العزة الامتناع. وقوله تعالى إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد من حيث إطلاق العذاب وعدم تقييده بالآخرة أو يوم القيمة ربما تضمن الوعيد بالعذاب في الدنيا كما في الآخرة وهذا من الحقائق القرآنية التى ربما قصر الباحثون في استيفاء البحث عنه وليس ذلك إلا لكوننا لا نعد شيئا عذابا إلا إذا اشتمل على شئ من الآلام الجسمانية أو نقص أو فساد في النعم المادية كذهاب الاموال وموت الاعزة ونقاهة الابدان مع أن الذى يعطيه القرآن بتعليمه أمر وراء ذلك كلام في معنى العذاب في القرآن القرآن يعد معيشة الناسي لربه ضنكا وإن اتسعت في أعيننا كل الاتساع
[ 11 ]
قال تعالى من أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا " طه - 124 ويعد الاموال والاولاد عذابا وإن كنا نعدها نعمه هنيئة قال تعالى " ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله ان يعذبهم بها في الدنيا وتزهق انفسهم وهم كافرون " التوبة - 85. وحقيقة الامر كما مر إجمال بيانه في تفسير قوله تعالى " وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنه " البقرة - 35 أن سرور الانسان وغمه وفرحه وحزنه ورغبته ورهبته وتعذبه وتنعمه كل ذلك يدور مدار ما يراه سعادة أو شقاوة هذا أولا وأن النعمة والعذاب وما يقاربهما من الامور تختلف باختلاف ما تنسب إليه فللروح سعادة وشقاوة وللجسم سعادة وشقاوة وكذا للحيوان منهما شئ وللانسان منهما شئ وهكذا
وهذا ثانيا والانسان المادى الدنيوي الذى لم يتخلق بأخلاق الله تعالى ولم يتأدب بأدبه يرى السعادة المادية هي السعادة ولا يعبأ بسعادة الروح وهى السعادة المعنوية فيتولع في اقتناء المال والبنين والجاه وبسط السلطة والقدرة وهو وإن كان يريد من قبل نفس هذا الذى ناله لكنه ما كان يريد إلا الخالص من التنعم واللذه على ما صورته له خياله وإذا ناله رأى الواحد من اللذة محفوفا بالالوف من الالم فما دام لم ينل ما يريده كان امنية وحسرة وإذا ناله وجده غير ما كان يريده لما يرى فيه من النواقص ويجد معه من الآلام وخذلان الاسباب التى ركن إليها ولم يتعلق قلبه بأمر فوقها فيه طمأنينة القلب والسلوة عن كل فائتة فكان أيضا حسرة فلا يزال فيما وجده متألما به معرضا عنه طالبا لما هو خير منه لعله يشفى غليل صدره وفيما لم يجده متقلبا بين الآلام والحسرات فهذا حاله فيما وجده وذاك حاله فيما فقده. وأما القرآن فإنه يرى أن الانسان أمر مؤلف من روح خالد وبدن مادى متحول متغير وهو على هذا الحال حتى يرجع إلى ربه فيتم له الخلود من غير زوال فما كان فيه سعادة الروح محضا كالعلم ونحو ذلك فهو من سعادته وما كان فيه سعادة جسمه وروحه معا كالمال والبنين إذا لم تكن شاغلة عن ذكر الله وموجبة للاخلاد إلى الارض فهو أيضا من سعادته ونعمت السعادة وكذا ما كان فيه شقاء الجسم ونقص لما يتعلق بالبدن وسعادة الروح الخالد كالقتل في سبيل الله وذهاب المال واليسار لله تعالى فهو أيضا من سعادته بمنزلة التحمل لمر الدواء ساعة لحيازة الصحة دهرا. وأما ما فيه سعادة الجسم وشقاء الروح فهو شقاء للانسان وعذاب له والقرآن
[ 12 ]
يسمى سعادة الجسم فقط متاعا قليلا لا ينبغي أن يعبأ به قال تعالى لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأويهم جهنم وبئس المهاد " آل عمران - 196، 197.
وكذا ما فيه شقاء الجسم والروح معا يعده القرآن عذابا كما يعدونه عذابا لكن وجه النظر مختلف فإنه عذاب عنده لما فيه من شقاء الروح وعذاب عندهم لما فيه من شقاء الجسم وذلك كأنواع العذاب النازلة على الامم السالفة قال تعالى: " ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الاوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد " الفجر - 6، 14. والسعادة والشقاوة لذوي الشعور يتقومان بالشعور والادراك فإنا لا نعد الامر اللذيذ الذى نلناه ولم نحس به سعادة لانفسنا كما لا نعد الامر المؤلم غير المشعور به شقاء ومن هنا يظهر أن هذا التعليم القرآني الذى يسلك في السعادة والشقاوة غير مسلك المادة والانسان المولع بالمادة لا بد من أن يستتبع نوع تربية يرى بها الانسان السعادة الحقيقية التي يشخصها القرآن سعادة والشقاوة الحقيقية شقاوة وهو كذلك فإنه يلقن على أهله: أن لا يتعلق قلوبهم بغير الله ويروا أن ربهم هو المالك الذي يملك كل شئ فلا يستقل شئ إلا به ولا يقصد شئ إلا له. وهذا الانسان لا يرى لنفسه في الدنيا إلا السعادة: بين ما كان فيه سعادة روحه وجسمه وما كان فيه سعادة روحه محضا وأما ما دون ذلك فإنه يراه عذابا ونكالا وأما الانسان المتعلق بهوى النفس ومادة الدنيا فإنه وإن كان ربما يرى ما اقتناه من زينة الدنيا سعادة لنفسه وخيرا ولذة فإنه سوف يطلع على خبطه في مشيه وانقلبت سعادته المظنونة بعينها شقاوة عليه قال تعالى: " فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذى يوعدون " المعارج - 42 وقال تعالى: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد " ق - 22، وقال تعالى: " فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحيوة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم " النجم - 30، على أنهم لا يصفو لهم عيش إلا وهو منغص بما يربو عليه من الغم والهم. ومن هنا يظهر: أن الادراك والفكر الموجود في أهل الله وخاصه لقرآن
[ 13 ]
غيرهما في غيرهم مع كونهم جميعا من نوع واحد هو الانسان وبين الفريقين وسائط من أهل الايمان ممن لم يستكمل التعليم والتربية الالهيين. فهذا ما يتحصل من كلامه تعالى في معنى العذاب وكلامه تعالى مع ذلك لا يستنكف عن تسمية الشقاء الجسماني عذابا لكن نهايته أنه عذاب في مرحلة الجسم دون الروح قال تعالى حكاية عن أيوب عليه السلام: " أنى مسني الشيطان بنصب وعذاب " ص - 41 وقال تعالى: " وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبنائكم ويستحيون نسائكم وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم " الاعراف - 141 فسمى ما يصنعون بهم بلاء وامتحانا من الله وعذابا في نفسه لا منه سبحانه. قوله تعالى: إن الله لا يخفى عليه شئ في الارض ولا في السماء إلخ قد علل تعالى عذاب الذين كفروا بآياته بأنه عزيز ذو انتقام لكن لما كان هذا التعليل لا يخلو عن حاجة إلى ضميمة تنضم إليه ليتم المطلوب فإن العزيز ذا الانتقام يمكن أن يخفي عليه كفر بعض من كفر بنعمته فلا يبادر بالعذاب والانتقام فعقب لذلك الكلام بقوله: إن الله لا يخفى عليه فبين أنه عزيز لا يخفى عليه شئ ظاهر على الحواس ولا غائب عنها ومن الممكن أن يكون المراد مما في الارض وما في السماء الاعمال الظاهره القائمة بالجوارح والخفية الكامنة في القلوب على حد ما نبهنا عليه في قوله تعالى لله ما في السموات وما في الارض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية " البقرة - 284. قوله تعالى: هو الذى يصوركم في الارحام كيف يشاء التصوير إلقاء الصورة على الشئ و الصورة تعم ما له ظل كالتمثال وما لا ظل له والارحام جمع رحم وهو مستقر الجنين من الاناث. وهذه الآية في معنى الترقي بالنسبة إلى ما سبقها من الآيتين فإن محصل الآيتين: أن الله تعالى يعذب الذين كفروا بآياته لانه العزيز المنتقم العالم بالسر والعلانية فلا يغلب
في أمره بل هو الغالب ومحصل هذه الآية أن الامر أعظم من ذلك ومن يكفر بآياته ويخالف عن أمره أذل وأوضع من أن يكفر باستقلال من نفسه واعتماد على قدرته من غير أن يأذن الله في ذلك فيغلب هو على أمره تعالى ويبطل النظام الاحسن الذى نظم الله سبحانه عليه الخلقة فتظهر إرادته على إرادة ربه بل الله سبحانه هو أذن
[ 14 ]
له في ذلك بمعنى أنه نظم الامور نوع نظم يؤدي إلى وجود الاختيار في الانسان وهو الوصف الذى يمكنه به ركوب صراط الايمان والطاعة أو التزام طريق الكفر والمعصية ليتم بذلك أمر الفتنة والامتحان فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وما يشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين. فما من كفر ولا إيمان ولا غيرهما إلا عن تقدير وهو نظم الاشياء على نحو يتيسر لكل شئ ما يتوجه إليه من مقاصده التى سوف يستوفيها بعمله بتصويره بصورته الخاصة التي تمهد له السلوك إلى ما يسلك إليه فالله سبحانه هو الغالب على أمره القاهر في إرادته المهيمن على خلقه يظن الانسان أنه يفعل ما يشاء ويتصرف فيما يريد ويقطع بذلك النظم المتصل الذى نظمه الله في الكون فيسبق التقدير وهذا بعينه من القدر. وهذا هو المراد بقوله يصوركم في الارحام كيف يشاء أي ينظم أجزاء وجودكم في بدء الامر على نحو يؤدي إلى ما يشاءه في ختمه مشية اذن لا مشية حتم. وإنما خص الكلام بالتقدير الجاري في الانسان ولم يذكر التقدير العام الجاري في العالم كله لينطبق على المورد ولما مر أن في الآيات تعريضا للنصارى في قولهم في المسيح عليه السلام والآيات منتهية إلى ما هو الحق من أمره فإن النصارى لا ينكرون كينونته عليه السلام في الرحم وأنه لم يكون نفسه. والتعميم بعد التخصيص في الخطاب أعنى قوله: يصوركم بعد قوله نزل عليك للدلاله على أن ايمان المؤمنين أيضا ككفر الكافرين غير خارج عن حكم القدر فتطيب نفوسهم بالرحمة والموهبة الالهية في حق أنفسهم ويتسلوا بما سمعوه من أمر القدر ومن أمر الانتقام فيما يعظم عليهم من كفر الكافرين.
قوله تعالى: لا إله إلا هو العزيز الحكيم فيه عود إلى ما بدء به الكلام في الآيات من التوحيد وهو بمنزلة تلخيص الدليل للتأكيد. فإن هذه الامور المذكورة أعني: هداية الخلق بعد ايجادهم وإنزال الكتاب والفرقان وإتقان التدبير بتعذيب الكافرين امور لا بد أن تستند إلى إله يدبرها واذ لا إله إلا الله تعالى شأنه فهو الذى يهدي الناس وهو الذى ينزل الكتاب والفرقان
[ 15 ]
وهو يعذب الكافرين بآياته وإنما يفعل ما يفعل من الهداية والانزال والانتقام والتقدير بعزته وحكمته (بحث روائي) في المجمع عن الكلبي ومحمد بن إسحق والربيع بن أنس: نزلت أوائل السورة إلى نيف وثمانين آية في وفد نجران، وكانوا ستين راكبا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيهم أربعه عشر رجلا من أشرافهم، وفي الاربعة عشر ثلاثة نفر يؤل إليهم أمرهم: العاقب أمير القوم وصاحب مشورتهم الذى لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم واسمه الايهم وأبو حارثة بن علقمة اسقفهم وحبرهم وامامهم وصاحب مدارسهم، وكان قد شرف فيهم ودرس كتبهم وكانت ملوك الروم قد شرفوه ومولوه وبنوا له الكنائس لعلمه واجتهاده، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ودخلوا مسجده حين صلى العصر عليهم ثياب الحبرات: جبب وأردية في جمال رجال بلحرث بن كعب يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما رأينا وفدا مثلهم وقد حانت صلاتهم، فأقبلوا يضربون بالناقوس وقاموا فصلوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت الصحابة: يا رسول الله هذا في مسجدك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دعوهم فصلوا إلى المشرق، فكلم السيد والعاقب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسلما - قالا قد أسلمنا قبلك قال: كذبتما
يمنعكما من الاسلام دعائكما لله ولداو عبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير - قالا إن لم يكن ولدا لله فمن أبوه ؟ وخاصموه جميعا في عيسى فقال لهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه ؟ قالوا بلى قال ألستم تعلمون أن ربنا حى لا يموت وأن عيسى يأتيه الفناء - قالوا بلى قال ألستم تعلمون ان ربنا قيم على كل شئ ويحفظه ويرزقه ؟ قالوا بلى قال فهل يملك عيسى من ذلك شيئا ؟ قالوا لا قال: ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شئ في الارض ولا في السماء ؟ قالوا: بلى قال فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علم ؟ قالوا لا قال فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء - وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث قالوا بلى قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته امه كما تحمل المراه ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها - ثم غذي كما
[ 16 ]
يغذي الصبي ثم كان يطعم ويشرب ويحدث ؟ قالوا: بلى، قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم ؟ فسكتوا فأنزل الله فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية. أقول: وروى هذا المعنى السيوطي في الدر المنثور عن أبي إسحق وابن جرير وابن المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير وعن ابن إسحق عن محمد بن سهل بن أبي أمامة أما القصة فسيجئ نقلها وأما نزول أول السورة في ذلك فكأنه اجتهاد منهم وقد تقدم: أن ظاهر سياقها نزولها دفعة. عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من سعد في بطن أمه. وفي الكافي عن الباقر عليه السلام قال: إن الله إذا أراد أن يخلق النطفة التي هي مما أخذ عليه الميثاق من صلب آدم أو ما يبدو له فيه ويجعلها في الرحم حرك الرجل للجماع وأوحى إلى الرحم أن افتحي بابك حتى يلج فيك خلقي وقضائي النافذ وقدري فتفتح بابها، فتصل النطفة إلى الرحم، فتردد فيه أربعين يوما، ثم تصير علقة أربعين يوما ثم تصير مضغة أربعين يوما، ثم تصير لحما تجري فيه عروق مشتبكة، ثم يبعث
الله ملكين خلاقين يخلقان في الارحام ما يشاء الله يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة فيصلان إلى الرحم وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فينفخان فيها روح الحياة والبقاء، ويشقان له السمع والبصر والجوارح وجميع ما في البطن بإذن الله تعالى، ثم يوحي الله إلى الملكين: اكتبا عليه قضائي وقدري ونافذ أمري واشترطا لى البداء فيما تكتبان. فيقولان: يا رب ما نكتب ؟ فيوحي الله عز وجل إليهما: أن ارفعا رؤسكما إلى رأس امه، فيرفعان رؤسهما فإذا اللوح يقرع جبهه امه، فينظران فيه، فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه سعيدا أو شقيا وجميع شأنه، فيملي أحدهما على صاحبه فيكتبان جميع ما في اللوح ويشترطان البداء فيما يكتبان ثم يختمان الكتاب ويجعلانه بين عينيه ثم يقيمانه قائما في بطن أمه، قال: فربما عتا فانقلب ولا يكون ذلك إلا في كل عات أو مارد وإذا بلغ أوان خروج الولد تاما أو غير تام أوحى الله إلى الرحم: أن افتحي بابك حتى يخرج خلقي إلى أرضي وينفذ فيه أمري فقد بلغ أوان خروجه، قال: فتفتح الرحم باب الولد فينقلب فتصير رجلاه فوق رأسه ورأسه في أسفل البطن ليسهل الله على المرأة وعلى الولد الخروج، فبعث الله عز وجل إليه ملكا يقال له: زاجر فيزجره زجرة
[ 17 ]
فيفزع منها الولد فإذا احتبس زجره الملك زجرة اخرى فيفزع منها، فيسقط الولد إلى الارض باكيا فزعا من الزجرة. أقول: قوله: إذا أراد أن يخلق النطفة، أي يجعلها بشرا تاما سويا وتقييدها بقوله: التي هي مما اخذ عليها الميثاق إشارة إلى ما سيجئ بيانه ان الانسان الذي في هذه النشأة الدنيوية وأحواله مسبوقة الوجود بنشأة اخرى سابقة عليه تجري هذه على صراط تلك وهي المسماة في لسان الاخبار بعالم الذر والميثاق فما اخذ عليه الميثاق لا بد من أن يخلق في هذه النشأة الدنيوية وما يخلق في هذه النشأة هو مما اخذ
عليه الميثاق من غير أن يقبل التغيير والتبديل فذلك من القضاء المحتوم. ولذلك ردد الكلام بينه وبين قوله: أو ما يبدو له فيه أي يبدو له البداء في تمام خلقه، فلا يتم ويعود سقطا فالقسم المقابل له لا بداء فيه كما ذكرنا. وقوله ويجعلها في الرحم، عطف على قوله: يخلق النطفة. قوله عليه السلام: يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة يمكن أن يكون قوله من فم المرأة من كلام الراوي كما يؤيده وضع الظاهر موضع المضمر وعلى ظاهر الحال من كونه من كلام الامام عليه السلام هو من الشواهد على كون دخولهما واقتحامهما في بطن المرأة من غير سنخ دخول الجسم في الجسم، إذ لا طريق إلى الرحم من غير الفرج إلا العروق ومنها العرق الذي يدر منه دم الحيض فينصب في الرحم وليس هذا المنفذ بأسهل للدخول من جدران الرحم، فللدخول من الفم سبب غير سهولة الطريق وهو ظاهر. قوله عليه السلام: وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام النساء كأنها الروح النباتية التي هي المبدء للتغذي والتنمي. قوله عليه السلام: فينفخان فيها روح الحيوة والبقاء ظاهره رجوع الضمير إلى الروح القديمة فروح الحيوة والبقاء منفوخة في الروح النباتية ولو فرض رجوعه إلى المضغة مثلا كانت منفوخة في المضغة الحية بالروح النباتية فتصير المضغة النباتية منفوخة فيها وعلى أي حال يفيد الكلام أن نفخ الروح الانساني إنما هو نوع ترق للروح النباتية بالاشتداد (على ما قتضيه القول بالحركة الجوهرية.
[ 18 ]
وبذلك يظهر معنى انتقال الروح القديمة في أصلاب الرجال وأرحام النساء فالروح متحد الوجود مع البدن بوجه وهو النطفة وما يمدها من دم الحيض وهي المتحدة مع بدنى الابوين وهما مع النطفة وهلم جرا فما يجري على الانسان متعين في الجملة في وجود آبائه وامهاته مشهود في صور أشخاصهم وهو بوجه كالفهرس المأخوذ من الكتاب الموضوع قبله.
وبه يظهر معنى قوله عليه السلام: فيوحي الله عز وجل إليهما أي إلى الملكين أن ارفعا رؤسكما إلى رأس امه وذلك أن الذي لابيه من شرح قضائه وقدره قد انقطع عنه بانفصال النطفة فما بقي متصلا به إلا امه وهو قوله عليه السلام: فإذا اللوح يقرع جبهة امه والجبهة مجتمع حواس الانسان وطليعة وجهه فينتظران فيه فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه سعيدا أو شقيا وجميع شأنه فيملي أحدهما على صاحبه فنسبتهما شبيهة بنسبة الفاعل والقابل فيكتبان جميع ما في اللوح. قوله عليه السلام: ويشترطان البداء فيما يكتبان وذلك لعدم اشتمال صورته على تمام علل حوادثه المستقبلة فإن الصورة وإن كانت مبدئا لجميع ما يجرى على الانسان من أحواله والحوادث المختصة به لكن ليست بالمبدء كله بل للامور والحوادث الخارجة عنه دخالة في ذلك ولذلك كان الذي يتراءى منها من الحوادث غير حتمي الوقوع فكانت مظنة للبداء. وأعلم: أن نسبة تفاصيل الولادة إلى تحريك الله سبحانه الرجل ووحيه إلى الرحم وإرسال الملكين الخلاقين والملك الزاجر إلى غير ذلك لا ينافي استناد هذه الحوادث ومنها الولادة إلى أسبابها الطبيعية فإن هذين القبيلين من الاسباب أعنى الاسباب المعنوية والاسباب المادية واقعان أحدهما في طول الآخر لا في عرضه حتى يبطل أحدهما الآخر أو يتدافعا فيبطلا معا، أو يعود الامر إلى تركب العلة التامة من مجموع السببين بل كل منهما علة تامة لكن في مرتبته. فمن أقامه الله سبحانه لهداية الناس إلى سعادتهم المعنوية وسلوكهم إلى مرضاته وهم الانبياء عليهم السلام - والطريق طريق الباطن - فإنما وظيفته أن يكلم الناس بلسان يسلك بهم مسلك الباطن ويذكرهم مقام ربهم في جميع بياناته وهو توسيط الملائكة واستناد الحوادث إلى أعمالهم ونسبة السعادة إلى تأييدهم ونسبة الشقاء
[ 19 ]
بخصوصياته إلى الشياطين وتسويلهم ونسبة الجميع إلى الله سبحانه على ما يليق بساحة قدسه وحضرة ربوبيته ليستنتج من ذلك صور الهداية والضلال والربح والخسران وبالجملة جميع شؤون الحيوة الآخرة وهم مع ذلك لم يهملوا أمر الاسباب الطبيعية ولم يضيعوا حقها فإنها أحد ركني حيوة الانسان والاساس الذي تستند إليه الحيوة الدنيا، ولا بد للانسان أن يعرف جملة أمرها كما لا بد له أن يعرف جملة الامر في الاسباب المعنوية حتى يتم له معرفة نفسه فيعرف ربه. * * * هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الالباب - 7. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب - 8. ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله تبلا يخلف الميعاد - 9. (البيان) قوله تعالى: هو الذي أنزل عليك الكتاب، عبر تعالى بالانزال دون التنزيل لان المقصود بيان بعض أوصاف مجموع الكتاب النازل وخواصه، وهو أنه مشتمل على آيات محكمة واخر متشابهة ترجع إلى المحكمات وتبين بها، فالكتاب مأخوذ بهذا النظر أمرا واحدا من غير نظر إلى تعدد وتكثر، فناسب استعمال الانزال دون التنزيل. قوله تعالى: منه آيات محكمات هن ام الكتاب واخر متشابهات، مادة حكم
[ 20 ]
تفيد معنى كون الشئ بحيث يمنع ورود ما يفسده أو يبعضه أو يخل أمره عليه، ومنه
الاحكام والتحكيم، والحكم بمعنى القضاء، والحكمة بمعنى المعرفة التامة والعلم الجازم النافع والحكمة بفتح الحاء لزمام الفرس ففى الجميع شئ من معنى المنع والاتقان، وربما قيل: إن المادة تدل على معنى المنع مع إصلاح. والمراد ههنا من إحكام المحكمات إتقان هذه الآيات من حيث عدم وجود التشابه فيها كالمتشابهات فإنه تعالى وإن وصف كتابه بإحكام الايات في قوله: " كتاب احكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير " هود - 1، لكن اشتمال الآية على ذكر التفصيل بعد الاحكام دليل على أن المراد بالاحكام حال من حالات الكتاب كان عليها قبل النزول وهي كونه واحدا لم يطرأ عليه التجزي والتبعض بعد بتكثر الآيات فهو إتقانه قبل وجود التبعض فهذا الاحكام وصف لتمام الكتاب بخلاف وصف الاحكام والاتقان الذي لبعض آياته بالنسبة إلى بعض آخر من جهة امتناعها عن التشابه في المراد. وبعبارة اخرى لما كان قوله: منه آيات محكمات هن ام الكتاب وأخر متشابهات مشتملا على تقسيم آيات الكتاب إلى قسمي المحكم والمتشابه علمنا به أن المراد بالاحكام غير الاحكام الذي وصف به جميع الكتاب في قوله كتاب احكمت آياته الآية وكذا المراد بالتشابه فيه غير التشابه الذي وصف به جميع الكتاب في قوله: " كتابا متشابها مثاني " الزمر - 23. وقد وصف المحكمات بأنها ام الكتاب والام بحسب أصل معناه ما يرجع إليه الشئ وليس إلا أن الآيات المتشابهة ترجع إليها فالبعض من الكتاب وهي المتشابهات ترجع إلى بعض آخر وهي المحكمات، ومن هنا يظهر: أن الاضافة في قوله: ام الكتاب ليست لاميه كقولنا ام الاطفال بل هي بمعنى من كقولنا نساء القوم وقدماء الفقهاء ونحو ذلك فالكتاب يشتمل على آيات هي ام آيات اخر وفي إفراد كلمة الام من غير جمع دلالة على كون المحكمات غير مختلفة في أنفسها بل هي متفقة مؤتلفة. وقد قوبلت المحكمات في الآية بقوله: وأخر متشابهات والتشابه توافق أشياء
مختلفة واتحادها في بعض الاوصاف والكيفيات وقد وصف الله سبحانه جميع القرآن
[ 21 ]
بهذا الوصف حيث قال: " كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم الآية الزمر - 23 والمراد به لا محالة كون آيات الكتاب ذات نسق واحد من حيث جزالة النظم وإتقان الاسلوب وبيان الحقائق والحكم والهداية إلى صريح الحق كما تدل عليه القيود المأخوذة في الآية فهذا التشابه وصف لجميع الكتاب وأما التشابه المذكور في هذه الآية أعني قوله وأخر متشابهات، فمقابلته لقوله منه آيات محكمات هن ام الكتاب وذكر اتباع الذين في قلوبهم زيغ لها ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل كل ذلك يدل على أن المراد بالتشابه كون الآية بحيث لا يتعين مرادها لفهم السامع بمجرد استماعها بل يتردد بين معنى ومعنى حتى يرجع إلى محكمات الكتاب فتعين هي معناها وتبينها بيانا فتصير الآية المتشابهة عند ذلك محكمة بواسطة الآية المحكمة والآية المحكمة محكمة بنفسها كما أن قوله " الرحمن على العرش استوى " طه - 5، يشتبه المراد منه على السامع أول ما يسمعه فإذا رجع إلى مثل قوله تعالى: " ليس كمثله شئ " الشورى - 11، استقر الذهن على أن المراد به التسلط على الملك والاحاطة على الخلق دون التمكن والاعتماد على المكان المستلزم للتجسم المستحيل على الله سبحانه وكذا قوله تعالى: " إلى ربها ناظرة " القيامة - 23 إذا ارجع إلى مثل قوله: " لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار " الانعام - 103، علم به أن المراد بالنظر غير النظر بالبصر الحسي، وكذا إذا عرضت الآية المنسوخة على الآية الناسخة تبين أن المراد بها حكم محدود بحد الحكم الناسخ وهكذا. فهذا ما يتحصل من معنى المحكم والمتشابه ويتلقاه الفهم الساذج من مجموع قوله تعالى: هو الذي أنزل عليك الكتاب فيه آيات محكمات هن ام الكتاب واخر متشابهات فإن الآية محكمة بلا شك ولو فرض جميع القرآن غيرها متشابها.
ولو كانت هذه الآية متشابهة عادت جميع آيات القرآن متشابهة وفسد التقسيم الذي يدل عليه قوله منه آيات إلخ وبطل العلاج الذي يدل عليه قوله هن ام الكتاب ولم يصدق قوله " كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا " حم السجدة - 4 ولم يتم الاحتجاج الذي يشتمل عليه قوله: " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " النساء - 82 إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن القرآن نور وهدى وتبيان وبيان ومبين وذكر ونحو ذلك.
[ 22 ]
على أن كل من يرعى نظره في آيات القرآن من أوله إلى آخره لا يشك في أن ليس بينها آية لها مدلول وهي لا تنطق بمعناها وتضل في مرادها بل ما من آية إلا وفيها دلالة على المدلول: إما مدلول واحد لا يرتاب فيه العارف بالكلام أو مداليل يلتبس بعضها ببعض وهذه المعاني الملتبسة لا تخلو عن حق المراد بالضرورة وإلا بطلت الدلالة كما عرفت وهذا المعنى الواحد الذى هو حق المراد لا محالة لا يكون أجنبيا عن الاصول المسلمة في القرآن كوجود الصانع وتوحيده وبعثة الانبياء وتشريع الاحكام والمعاد ونحو ذلك بل هو موافق لها وهي تستلزمه وتنتجه وتعين المراد الحق من بين المداليل المتعددة المحتملة فالقرآن بعضه يبين بعضا وبعضه أصل يرجع إليه البعض الآخر. ثم إن هذا الناظر إذا عثر بعد هذه النظرة على قوله تعالى منه آيات محكمات هن ام الكتاب وأخر متشابهات لم يشك في أن المراد بالمحكمات هي الآيات المتضمنة للاصول المسلمة من القرآن وبالمتشابهات الآيات التي تتعين وتتضح معانيها بتلك الاصول. فان قلت: رجوع الفروع إلى الاصول مما لا ريب فيه فيما كان هناك اصول متعرقة وفروع متفرقة سواء فيه المعارف القرآنية وغيرها لكن ذلك لا يستوجب حصول التشابه فما وجه ذلك ؟
قلت وجهه أحد أمرين فإن المعارف التي يلقيها القرآن على قسمين: فمنها معارف عالية خارجة عن حكم الحس والمادة والافهام العادية لا تلبث دون أن تتردد فيها بين الحكم الجسماني الحسي وبين غيره كقوله تعالى: " إن ربك لبالمرصاد " الفجر - 14 وقوله تعالى: " وجاء ربك " الفجر - 22. فيتبادر منها إلى الذهن المستأنس بالمحسوس من الاحكام معان هي من اوصاف الاجسام وخواصها وتزول بالرجوع إلى الاصول التي تشتمل على نفي حكم المادة والجسم عن المورد وهذا مما يطرد في جميع المعارف والابحاث غير المادية والغائبة عن الحواس ولا يختص بالقرآن الكريم بل يوجد في غيره من الكتب السماوية بما تشتمل عليه من المعارف العاليه من غير تحريف ويوجد أيضا في المباحث الالهية من الفلسفة وهو الذي يشير إليه القرآن بلسان آخر في قوله تعالى: " انزل من السماء ماءا ؟ ؟ فسالت أودية بقدرها الآية " الرعد - 17 وقوله: " إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم " الزخرف - 4
[ 23 ]
ومنها ما يتعلق بالنواميس الاجتماعية والاحكام الفرعية واشتمال هذا القسم من المعارف على الناسخ والمنسوخ بالنظر إلى تغير المصالح المقتضية للتشريعات ونحوها من جهة ونزول القرآن نجوما من جهة اخرى يوجب ظهور التشابه في آياتها ويرتفع التشابه بإرجاع المتشابه إلى المحكم والمنسوخ إلى الناسخ. قوله تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله الزيغ هو الميل عن الاستقامة ويلزمه اضطراب القلب وقلقه بقرينة ما يقابله في ذيل الآية من قوله: والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا فإن الآية تصف حال الناس بالنسبذ إلى تلقي القرآن بمحكمه ومتشابهه وأن منهم من هو زائغ القلب ومائله ومضطربه فهو يتبع المتشابه ابتغاءا ؟ ؟ للفتنه والتأويل ومنهم من هو راسخ العلم مستقر القلب يأخذ بالمحكم ويؤمن بالمتشابه ولا يتبعه ويسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلبه بعد الهداية. ومن هنا يظهر أن المراد باتباع المتشابه اتباعه عملا لا إيمانا وان هذا الاتباع
المذموم اتباع للمتشابه من غير ارجاعه إلى المحكم إذ على هذا التقدير يصير الاتباع اتباعا للمحكم ولا ذم فيه. والمراد بابتغاء الفتنه طلب إضلال الناس فإن الفتنة تقارب الاضلال في المعنى يقول تعالى يريدون باتباع المتشابه إضلال الناس في آيات الله سبحانه وأمرا آخر هو أعظم من ذلك وهو الحصول والوقوف على تأويل القرآن ومآخذ أحكام الحلال والحرام حتى يستغنوا عن اتباع محكمات الدين فينتسخ بذلك دين الله من أصله. والتأويل من الاول وهو الرجوع فتأويل المتشابه هو المرجع الذي يرجع إليه وتأويل القرآن هو المأخذ الذي يأخذ منه معارفه. وقد ذكر الله سبحانه لفظ التأويل في موارد من كلامه فقال سبحانه " ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله ويقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق " الاعراف - 53 أي بالحق فيما أخبروا به وأنبأوا أن الله هو موليهم الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وان النبوة حق وأن الدين حق وأن الله يبعث من في القبور وبالجملة
[ 24 ]
كل ما يظهر حقيقته يوم القيامة من أنباء النبوة وأخبارها. ومن هنا ما قيل: إن التأويل في الآية هو الخارج الذي يطابقه الخبر الصادق كالامور المشهودة يوم القيامة التي هي مطابقات (اسم مفعول) أخبار الانبياء والرسل والكتب. ويرده: ان التأويل على هذا يختص بالايات المخبرة عن الصفات وبعض الافعال وعن ما سيقع يوم القيامة وأما الايات المتضمنة لتشريع الاحكام فإنها لاشتمالها على الانشاء لا مطابق لها في الخارج عنها وكذا ما دل منها على ما يحكم به صريح العقل كعدة من أحكام الاخلاق فإن تأويلها معها وكذا ما دل على قصص الانبياء والامم الماضية فإن تأويلها على هذا المعنى يتقدمها من غير أن يتأخر إلى يوم القيامة مع ان
ظاهر الآية يضيف التأويل إلى الكتاب كله لا إلى قسم خاص من آياته. ومثلها قوله تعالى: " وما كان هذا القرآن أن يفتري إلى أن قال أم يقولون افتريه إلى ان قال: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبه الظالمين " يونس - 39، والايات كما ترى تضيف التأويل إلى مجموع الكتاب. ولذلك ذكر بعضهم أن التأويل هو الامر العيني الخارجي الذي يعتمد عليه الكلام وهو في مورد الاخبار المخبر به الواقع في الخارج إما سابقا كقصص الانبياء والامم الماضية وإما لاحقا كما في الايات المخبرة عن صفات الله وأسمائه ومواعيده وكل ما سيظهر يوم القيامة وفي مورد الانشاء كآيات الاحكام المصالح المتحققة في الخارج كما في قوله تعالى: " وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا " أسرى - 35 فإن تأويل إيفاء الكيل وإقامه الوزن هو المصلحة المترتبة عليهما في المجتمع وهو استقامه أمر الاجتماع الانساني. وفيه اولا: أن ظاهر هذه الآية: أن التأويل أمر خارجي وأثر عيني مترتب على فعلهم الخارجي الذي هو إيفاء الكيل وإقامة الوزن لا الامر التشريعي الذي يتضمنه قوله. وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا الآية، فالتأويل أمر خارجي هو مرجع ومآل لامر خارجي آخر فتوصيف آيات الكتاب بكونها ذات تأويل من جهة حكايتها
[ 25 ]
عن معان خارجية (كما في الاخبار) أو تعلقها بأفعال أو امور خارجية (كما في الانشاء) لها تأويل فالوصف وصف بحال متعلق الشئ لا بحال نفس الشئ. وثانيا: أن التأويل وإن كان هو المرجع الذي يرجع ويؤل إليه الشئ لكنه رجوع خاص لا كل رجوع فإن المرئوس يرجع إلى رئيسه وليس بتأويل له والعدد يرجع إلى الواحد وليس بتأويل له فلا محالة هو مرجع بنحو خاص لا مطلقا. يدل
على ذلك قوله تعالى في قصة موسى والخضر عليهما السلام: " سانبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا " الكهف - 78، وقوله تعالى: " ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا " الكهف - 82، والذي نبأه لموسى صور وعناوين لما فعله عليه السلام في موارد ثلث كان موسى عليه السلام قد غفل عن تلك الصور والعناوين وتلقى بدلها صورا وعناوين اخرى أوجبت اعتراضه بها عليه فالموارد الثلث: هي قوله تعالى: " حتى إذا ركبا في السفينة خرقها " الكهف - 71 وقوله تعالى: " حتى إذا لقيا غلاما فقتله " الكهف - 74 وقوله تعالى: " حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه " الكهف - 77. والذي تلقاه موسى عليه السلام من صور هذه القضايا وعناوينها قوله: " أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا " الكهف - 71 وقوله: " أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا " الكهف - 74 وقوله لو شئت لتخذت عليه أجرا " الكهف - 77. والذي نبأ به الخضر من التأويل قوله: " أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان ورائهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكوة وأقرب رحما وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك " الكهف - 82 ثم أجاب عن جميع ما اعترض عليه موسى عليه السلام جملة بقوله: " وما فعلته عن أمري " الكهف - 82 فالذي اريد من التأويل في هذه الآيات كما ترى هو رجوع الشئ إلى صورته وعنوانه نظير رجوع الضرب إلى التأديب ورجوع الفصد إلى العلاج لا نظير رجوع قولنا: جاء زيد إلى مجئ زيد في الخارج.
[ 26 ]
ويقرب من ذلك ما ورد من لفظ التأويل في عدة مواضع من قصه يوسف عليه السلام
كقوله تعالى: " إذ قال يوسف لابيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين: يوسف - 4 وقوله تعالى " ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا " يوسف - 100 فرجوع ما رآه من الرؤيا إلى سجود أبويه وإخوته له وإن كان رجوعا لكنه من قبيل رجوع المثال إلى الممثل وكذا قوله تعالى " وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واخر يابسات يا أيها الملا افتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الاحلام بعالمين وقال الذي نجا منهما وادكر بعد امة أنا انبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا إلى أن قال: قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون " يوسف - 48. وكذا قوله تعالى: " ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نريك من المحسنين إلى ان قال: يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الامر الذي فيه تستفتيان " يوسف - 41. وكذا قوله تعالى: " ويعلمك من تأويل الاحاديث " يوسف - 61 وقوله تعالى: " ولنعلمه من تأويل الاحاديث " يوسف - 21 وقوله تعالى: " وعلمتني من تأويل الاحاديث " يوسف - 101 فقد استعمل التأويل في جميع هذه الموارد من قصة يوسف عليه السلام فيما يرجع إليه الرويا من الحوادث وهو الذي كان يراه النائم فيما يناسبه من الصورة والمثال فنسبة التأويل إلى ذي التأويل نسبة المعنى إلى صورته التي يظهر بها والحقيقة المتمثلة إلى مثالها الذي تتمثل به كما كان الامر يجري هذا المجرى فيما
أوردناه من الآيات في قصة موسى والخضر عليهما السلام وكذا في قوله تعالى: وأوفوا الكيل إذا كلتم إلى قوله: وأحسن تأويلا. الآية اسرى - 35. والتدبر في آيات القيامة يعطي أن المراد هو ذلك أيضا في لفظة التأويل في قوله تعالى: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله الآية وقوله تعالى: " هل ينظرون
[ 27 ]
إلا تأويله يوم يأتي تأويله الآية " فإن أمثال قوله تعالى: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد " ق - 22 تدل على أن مشاهدة وقوع ما أخبر به الكتاب وأنبأ به الانبياء يوم القيامة من غير سنخ المشاهدة الحسية التي نعهدها في الدنيا كما أن نفس وقوعها والنظام الحاكم فيها غير ما نألفه في نشأتنا هذه وسيجئ مزيد بيان له فرجوع أخبار الكتاب والنبوة إلى مضامينها الظاهرة يوم القيامة ليس من قبيل رجوع الاخبار عن الامور المستقبلة إلى تحقق مضامينها في المستقبل. فقد تبين بما مر أولا أن كون الآية ذات تأويل ترجع إليه غير كونها متشابهة ترجع إلى آية محكمة. وثانيا أن التأويل لا يختص بالآيات المتشابهة بل لجميع القرآن تأويل فللآية المحكمة تأويل كما أن للمتشابهة تأويلا. وثالثا أن التأويل ليس من المفاهيم التي هي مداليل للالفاظ بل هو من الامور الخارجية العينية واتصاف الآيات بكونها ذات تأويل من قبيل الوصف بحال المتعلق وأما إطلاق التأويل وإرادة المعنى المخالف لظاهر اللفظ فاستعمال مولد نشأ بعد نزول القرآن لا دليل أصلا على كونه هو المراد من قوله تعالى وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله الآية كما لا دليل على أكثر المعاني المذكورة للتأويل مما سننقله عن قريب. قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله ظاهر الكلام رجوع الضمير إلى ما تشابه
لقربه كما هو الظاهر أيضا في قوله وابتغاء تأويله وقد عرفت أن ذلك لا يستلزم كون التأويل مقصورا على الآيات المتشابهة ومن الممكن أيضا رجوع الضمير إلى الكتاب كالضمير في قوله ما تشابه منه. وظاهر الحصر كون العلم بالتأويل مقصورا عليه سبحانه وأما قوله والراسخون في العلم فظاهر الكلام أن الواو للاستيناف بمعنى كونه طرفا للترديد الذي يدل عليه قوله في صدر الآية فأما الذين في قلوبهم زيغ والمعنى أن الناس في الاخذ بالكتاب قسمان: فمنهم من يتبع ما تشابه منه ومنهم من يقول إذا تشابه عليه شئ منه: آمنا به كل من عند ربنا وإنما اختلفا لاختلافهم من جهه زيغ القلب ورسوخ العلم.
[ 28 ]
على أنه لو كان الواو للعطف وكان المراد بالعطف تشريك الراسخين في العلم بالتأويل كان منهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو أفضلهم وكيف يتصور أن ينزل القرآن على قلبه وهو لا يدرى ما اريد به ومن دأب القرآن إذا ذكر الامة أو وصف أمر جماعة وفيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يفرده بالذكر أولا ويميزه بالشخص تشريفا له وتعظيما لامره ثم يذكرهم جميعا كقوله تعالى: " آمن الرسول بما انزل إليه من ربه والمؤمنون " البقره - 285 وقوله تعالى: " ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين " التوبه - 26 وقوله تعالى: " لكن الرسول والذين آمنوا معه " التوبه - 88 وقوله تعالى: " وهذا النبي والذين آمنوا " آل عمران - 68 وقوله تعالى لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه " التحريم - 8 إلى غير ذلك فلو كان المراد بقوله: والراسخون في العلم إنهم عالمون بالتأويل - ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم قطعا كان حق الكلام كما عرفت أن يقال: وما يعلم تأويله إلا الله ورسوله والراسخون في العلم هذا وإن أمكن أن يقال إن قوله في صدر الآية هو الذي أنزل عليك الكتاب " إلخ " يدل على كون النبي عالما بالكتاب
فلا حاجة إلى ذكره ثانيا. فالظاهر أن العلم بالتأويل مقصور في الآية عليه تعالى ولا ينافي ذلك ورود الاستثناء عليه كما أن الآيات دالة على انحصار علم الغيب عليه تعالى مع ورود الاستثناء عليه كما في قوله تعالى: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول " الجن - 27، ولا ينافيه أيضا كون المستثنى الراسخين في العلم بعينهم إذ لا منافاة بين أن تدل هذه الآية على شأن من شئون الراسخين في العلم وهو الوقوف عند الشبهة والايمان والتسليم في مقابل الزائغين قلبا وبين أن تدل آيات اخر على أنهم أو بعضا منهم عالمون بحقيقة القرآن وتأويل آياته على ما سيجئ بيانه. قوله تعالى والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا الرسوخ هو أشد الثبات ووقوع الراسخين في العلم في مقابلة الذين في قلوبهم زيغ ثم توصيفهم بأنهم يقولون آمنا به كل من عند ربنا يدل على تمام تعريفهم وهو أن لهم علما بالله وبآياته لا يدخله ريب وشك فما حصل لهم من العلم بالمحكمات ثابت لا يتزلزل وهم يؤمنون به ويتبعونه أي يعلمون به وإذا وردت عليهم آية متشابهة لم يوجب تشابهها اضطراب قلوبهم فيما عندهم من العلم الراسخ بل آمنوا بها وتوقفوا عن اتباعها عملا
[ 29 ]
وفي قولهم: آمنا به كل من عند ربنا ذكر الدليل والنتيجة معا فإن كون المحكم والمتشابه جميعا من عند الله تعالى يوجب الايمان بالكل: محكمه ومتشابهه ووضوح المراد في المحكم يوجب اتباعه عملا والتوقف في المتشابه من غير رده لانه من عند الله ولا يجوز اتباع ما ينافي المحكم من معانيه المتشابهة لسطوع البيان في المحكم فيجب أن يتبع من معانيه المحتملة ما يوافق معنى المحكم وهذا بعينه إرجاع المتشابه إلى المحكم فقوله: كل من عند ربنا بمنزلة الدليل على الامرين جميعا أعني: الايمان والعمل في
المحكم والايمان فقط في المتشابه والرجوع في العمل إلى المحكم. قوله تعالى: وما يذكر إلا اولوا الالباب التذكر هو الانتقال إلى دليل الشئ لاستنتاجه ولما كان قولهم كل من عند ربنا كما مر استدلالا منهم وانتقالا لما يدل على فعلهم سماه الله تعالى تذكرا ومدحهم به. والالباب جمع لب وهو العقل الزكي الخالص من الشوائب وقد مدحهم الله تعالى مدحا جميلا في موارد من كلامه وعرفهم بأنهم أهل الايمان بالله والانابه إليه واتباع أحسن القول ثم وصفهم بأنهم على ذكر من ربهم دائما فأعقب ذلك أنهم أهل التذكر أي الانتقال إلى المعارف الحقة بالدليل وأهل الحكمة والمعرفة قال تعالى: " والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه اولئك الذين هديهم الله واولئك هم اولوا الالباب " الزمر - 18 وقال تعالى: " أن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات لاولي الالباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم " آل عمران - 191 وهذا الذكر الدائم وما يتبعه من التذلل والخضوع هو الانابة الموجبة لتذكرهم بآيات الله وانتقالهم إلى المعارف الحقة كما قال تعالى: " وما يتذكر إلا من ينيب " الغافر - 13 وقد قال " وما يذكر إلا اولوا الالباب " البقره - 269، آل عمران - 7. قوله تعالى: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب وهذا من آثار رسوخهم في العلم فإنهم لما علموا بمقام ربهم وعقلوا عن الله سبحانه أيقنوا أن الملك لله وحده وأنهم لا يملكون لانفسهم شيئا فمن الجائز أن يزيغ قلوبهم بعد رسوخ العلم فالتجأوا إلى ربهم وسألوه أن لا يزيغ قلوبهم بعد إذ هداهم وأن يهب لهم من لدنه رحمه تبقى لهم هذه النعمة ويعينهم على السير في
[ 30 ]
صراط الهداية والسلوك في مراتب القرب.
وأما سؤال أن يهبهم رحمة بعد سؤال أن لا يزيغ قلوبهم فلان عدم إزاغه القلب لا يستلزم بقاء الرسوخ في العلم فمن الجائز أن لا يزاغ قلوبهم وينتزع عنها العلم فتبقى سدى مهملة لا سعداء بالعلم ولا أشقياء بالازاغة بل في حال الجهل والاستضعاف وهم في حاجة مبرمة إلى ما هم عليه من العلم ومع ذلك لا تقف حاجتهم في ما هم عليه من الموقف بل هم سائروا طريق يحتاجون فيه إلى أنواع من الرحمة لا يعلمها ولا يحصيها إلا الله سبحانه وهم مستشعرون بحاجتهم هذه والدليل عليه قولهم بعد ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه. فقولهم: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا استعاذه من نزول الزيغ إلى قلوبهم وإزاحته العلم الراسخ الذى فيها وقولهم: وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب استمطار لسحاب الرحمة حتى تدوم بها حياة قلوبهم وتنكير الرحمة وتوصيفها بكونها من لدنه إظهار منهم الجهل بشأن هذه الرحمة وأنها كيف ينبغي أن تكون غير أنهم يعلمون أنه لولا رحمة من ربهم ولولا كونها من لدنه لم يتم لهم أمر. وفي الاستعاذة من الزيغ إلى الله محضا واستيهاب الرحمة من لدنه محضا دلالة على أنهم يرون تمام الملك لله محضا من غير توجه إلى أمر الاسباب. قوله تعالى ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد هذا منهم بمنزلة التعليل لسؤال الرحمة وذلك لعلمهم بان إقامة نظام الخلقة ودعوة الدين وكدح الانسان في مسير وجوده كل ذلك مقدمة لجمعهم إلى يوم القيامة الذي لا يغني فيه ولا ينصر أحد إلا بالرحمة كما قال تعالى: " ان يوم الفصل ميقاتهم أجمعين يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون إلا من رحم الله " الدخان - 42 ولذلك سألوا رحمة من ربهم وفوضوا تعيينها وتشخيصها إليه لينفعهم في أمرهم. وقد وصفوا هذا اليوم بأنه لا ريب فيه ليتجه بذلك كمال اهتمامهم بالسؤال والدعاء وعللوا هذا التوصيف أيضا بقولهم: إن الله لا يخلف الميعاد لان شأنهم الرسوخ في العلم ولا يرسخ العلم بشئ ولا يستقر تصديق إلا مع العلم بعلته المنتجة وعلة عدم
ارتيابهم في تحقق هذا اليوم هو ميعاد الله سبحانه به فذكروه.
[ 31 ]
ونظير هذا الوجه جار في تعليلهم قولهم وهب لنا من لدنك رحمة بقولهم: إنك أنت الوهاب فكونه تعالى وهابا يعلل به سؤالهم الرحمة وإتيانهم بلفظة أنت وتعريف الخبر باللام المفيد للحصر يعلل به قولهم من لدنك الدال على الاختصاص وكذا يجري مثل الوجه في قولهم ربنا لا تزغ قلوبنا حيث عقبوه بما يجري مجرى العله بالنسبة إليه وهو قولهم بعد إذ هديتنا وقد مر آنفا أن قولهم آمنا به من حيث تعقيبه بقولهم كل من عند ربنا من هذا القبيل أيضا. فهؤلاء رجال آمنوا بربهم وثبتوا عليه فهداهم الله سبحانه وكمل عقولهم فلا يقولون الا عن علم ولا يفعلون الا عن علم فسماهم الله تعالى راسخين في العلم وكنى عنهم باولي الالباب وأنت إذا تدبرت ما عرف الله به اولى الالباب وجدته منطبقا على ما ذكره من شانهم في هذه الآيات قال تعالى والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه اولئك الذين هداهم الله واولئك هم اولوا الالباب: الزمر - 18 فوصفهم بالايمان واتباع أحسن القول والانابة إلى الله سبحانه وقد وصف بهذه الاوصاف الراسخين في العلم في هذه الآيات. وأما الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله ان الله لا يخلف الميعاد فلان هذا الميعاد لا يختص بهم بل يعمهم وغيرهم فكان الاولى تبديل قولهم ربنا إلى لفظة الجلالة لان حكم الالوهية عام شامل لكل شئ. كلام تفصيلي في المحكم والمتشابه والتأويل هذا الذي أوردناه من الكلام في معنى المحكم والمتشابه والتأويل فيما مر هو الذي يتحصل من تدبر كلامه سبحانه ويستفاد من المأثور عن أئمة أهل البيت عليهم السلام سيجئ في البحث الروائي.
لكن القوم اختلفوا في المقام وقد شاع الخلاف واشتد الانحراف بينهم وينسحب ذيل النزاع والمشاجرة إلى الصدر الاول من مفسري الصحابة والتابعين وقلما يوجد في ما نقل الينا من لامهم ما يقرب مما مر من البيان فضلا عن أن ينطبق
[ 32 ]
عليه تمام الانطباق. والسبب العمدة في ذلك الخلط بين البحث عن المحكم والمتشابه وبين البحث عن معنى التأويل فأوجب ذلك اختلالا عجيبا في عقد المسألة وكيفية البحث والنتيجة المأخوذة منه ونحن نورد تفصيل القول في كل واحد من أطراف هذه الابحاث وما قيل فيها وما هو المختار من الحق مع تمييز مورد البحث بما تيسر في ضمن فصول: 1 - المحكم والمتشابه الاحكام والتشابه من الالفاظ المبينة المفاهيم في اللغة وقد وصف بهما الكتاب كما في قوله تعالى " كتاب أحكمت آياته " هود - 1 وقوله تعالى " كتابا متشابها مثاني " الزمر - 23 ولم يتصف بهما الا جملة الكتاب من جهة إتقانه في نظمه وبيانه ومن جهة تشابه نظمه وبيانه في البلوغ إلى غاية الاتقان والاحكام. لكن قوله تعالى هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن ام الكتاب وأخر متشابهات الآية لما اشتمل على تقسيم نفس آيات الكتاب إلى المحكمات والمتشابهات علمنا أن المراد بالاحكام والتشابه هاهنا غير ما يتصف به تمام الكتاب وكان من الحري البحث عن معناهما وتشخيص مصداقهما من الآيات وفيه أقوال ربما تجاوزت العشرة أحدها أن المحكمات هو قوله تعالى في سورة الانعام " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا إلى آخر الآيات الثلاث " الانعام - 152
و المتشابهات هي التى تشابهت على اليهود وهى الحروف المقطعة النازلة في أوائل عدة من السور القرآنية مثل ألم وألر وحم وذلك أن اليهود أولوها على حساب الجمل فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الامة وعمرها فاشتبه عليهم الامر نسب إلى ابن عباس من الصحابة. وفيه أنه قول من غير دليل ولو سلم فلا دليل على انحصارهما فيهما على أن لازمه وجود قسم ثالث ليس بمحكم ولا متشابه مع أن ظاهر الآية يدفعه. لكن الحق أن النسبة في غير محلها والذي نقل عن ابن عباس انه قال إن
[ 33 ]
الآيات الثلاث من المحكمات لا أن المحكمات هي الآيات الثلاث ففي الدر المنثور أخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن عبد الله بن قيس سمعت ابن عباس يقول في قوله منه آيات محكمات قال - الثلاث آيات من آخر سورة الانعام محكمات - قل تعالوا والآيتان بعدها. ويؤيد ذلك ما رواه عنه أيضا في قوله ": آيات محكمات قال من هاهنا - قل تعالوا إلى آخر ثلاث آيات ومن هاهنا - وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه إلى آخر ثلاث آيات فالروايتان تشهدان أنه إنما ذكر هذه الآيات مثالا لسائر المحكمات لا أنه قصرها فيها. وثانيها عكس الاول وهو أن المحكمات هي الحروف المقطعة في فواتح السور والمتشابهات غيرها نقل ذلك عن أبي فاختة حيث ذكر في قوله تعالى ": هن ام الكتاب أنهن فواتح السور منها يستخرج القرآن - ألم ذلك الكتاب منها استخرجت البقره وألم الله لا إله إلا هو الحى القيوم - منها استخرجت آل عمران وعن سعيد بن جبير مثله في معنى قوله ": هن ام الكتاب قال - أصل الكتاب لانهن مكتوبات في جميع الكتب انتهى ويدل ذلك على أنهما يذهبان في معنى فواتح السور إلى أن المراد بها
الفاظ الحروف بعناية أن الكتاب الذى نزل عليكم هو هذه الحروف المقطعة التى تتالف منها الكلمات والجمل كما هو أحد المذاهب في معنى فواتح السور. وفيه مضافا إلى أنه مبنى على ما لا دليل عليه أصلا أعنى تفسير الحروف المقطعة في فواتح السور بما عرفت أنه لا ينطبق على نفس الآية فإن جميع القرآن غير فواتح السور يصير حينئذ من المتشابه وقد ذم الله سبحانه اتباع المتشابه وعده من زيغ القلب مع أنه تعالى مدح اتباع القرآن بل عده من أوجب الواجبات كقوله تعالى " واتبعوا النور الذى انزل معه " الاعراف - 157 وغيره من الآيات. وثالثها أن المتشابه هو ما يسمى مجملا والمحكم هو المبين. وفيه أن ما بين من أوصاف المحكم والمتشابه في الآية لا ينطبق على المجمل والمبين. بيان ذلك: أن اجمال اللفظ هو كونه بحيث يختلط ويندمج بعض جهات
[ 34 ]
معناه ببعض فلا ينفصل الجهة المرادة عن غيرها ويوجب ذلك تحير المخاطب أو السامع في تشخيص المراد وقد جرى دأب أهل اللسان في ظرف التفاهم أن لا يتبعوا ما هذا شأنه من الافأاظ بل يستريحون إلى لفظ آخر مبين يبين هذا المجمل فيصير بذلك مبينا فيتبع فهذا حال المجمل مع مبينه فلو كان المحكم والمتشابه هما المجمل والمبين بعينهما كان المتبع هو المتشابه إذا رد إلى المحكم دون نفس المحكم وكان هذا الاتباع مما لا يجوزه قريحة التكلم والتفاهم فلم يقدم على مثله أهل اللسان سواء في ذلك أهل الزيغ منهم والراسخون في العلم ولم يكن اتباع المتشابه أمرا يلحقه الذم ويوجب زيغ القلب رابعها أن المتشابهات هي الآيات المنسوخة لانها يؤمن بها ولا يعمل بها والمحكمات هي الآيات الناسخة لانها يؤمن بها ويعمل بها ونسب إلى ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة ولذلك كان ابن عباس يحسب أنه يعلم تأويل القرآن. وفيه أنه على تقدير صحته لا دليل فيه على انحصار المتشابهات في الآيات المنسوخة فإن الذي ذكره تعالى من خواص اتباع المتشابه من ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل جار
في كثير من الآيات غير المنسوخة كآيات الصفات والافعال على أن لازم هذا القول وجود الواسطة بين المحكم والمتشابه. وفيما نقل عن ابن عباس ما يدل على أن مذهبه في المحكم والمتشابه أعم مما ينطبق على الناسخ والمنسوخ وأنه إنما ذكرهما من باب المثال ففي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس قال: المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به والمتشابهات منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به انتهى. خامسها أن المحكمات ما كان دليله واضحا لائحا كدلائل الوحدانية والقدرة والحكمة والمتشابهات ما يحتاج في معرفته إلى تأمل وتدبر. وفيه أنه إن كان المراد من كون الدليل واضحا لائحا أو محتاجا إلى التأمل والتدبر كون مضمون الآية ذا دليل عقلي قريب من البداهة أو بديهى وعدم كونه كذلك كان لازمه كون آيات الاحكام والفرائض ونحوها من المتشابه لفقدانها الدليل العقلي اللائح الواضح وحينئذ يكون اتباعها مذموما مع انها واجبه الاتباع وإن
[ 35 ]
كان المراد به كونه ذا دليل واضح لائح من نفس الكتاب و عدم كونه كذلك فجميع الآيات من هذه الجهة على وتيرة واحدة وكيف لا وهو كتاب متشابه مثاني ونور ومبين ولازمه كون الجميع محكما وارتفاع المتشابه المقابل له من الكتاب وهو خلف الفرض وخلاف النص. سادسها أن المحكم كل ما أمكن تحصيل العلم به بدليل جلي أو خفي والمتشابه ما لا سبيل إلى العلم به كوقت قيام الساعة ونحوه. وفيه أن الاحكام والتشابه وصفان لآية الكتاب من حيث أنها آية أي دالة على معرفة من المعارف الالهية والذي تدل عليه آية من آيات الكتاب ليس بعادم للسبيل
ولا ممتنع الفهم إما بنفسه أو بضميمة غيره وكيف يمكن أن يكون هناك أمر مراد من لفظ الآية ولا يمكن نيله من جهدة اللفظ مع أنه وصف كتابه بأنه هدى وأنه نور وأنه مبين وأنه في معرض فهم الكافرين فضلا عن المؤمنين حيث قال تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون " حم السجدة - 4 وقال تعالى: " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " النساء - 82 فما تعرضت له آية من آيات الكتاب ليس بممتنع الفهم ولا الوقوف عليه مستحيل وما لا سبيل إلى الوقوف عليه كوقت قيام الساعة وسائر ما في الغيب المكنون لم يتعرض لبيانه آية من الآيات بلفظها حتى تسمى متشابها. على أن في هذا القول خلطا بين معنى المتشابه وتأويل الآية كما مر. سابعها أن المحكمات آيات الاحكام والمتشابهات غيرها مما يصرف بعضها بعضا نسب هذا القول إلى مجاهد وغيره. وفيه أن المراد بالصرف الذي ذكره إن كان مطلق ما يعين على تشخيص المراد باللفظ حتى يشمل مثل التخصيص بالمخصص والتقييد بالمقيد وسائر القرائن المقامية كانت آيات الاحكام أيضا كغيرها متشابهات وإن كان خصوص ما لا إبهام في دلالته على المراد ولا كثرة في محتملاته حتى يتعين المراد به بنفسه ويتعين المراد بغيره بواسطته كان لازم كون ما سوى آيات الاحكام متشابهة أن لا يحصل العلم بشئ
[ 36 ]
من معارف القرآن غير الاحكام لان المفروض عدم وجود آية محكمة فيها ترجع إليها المتشابهات منها ويتبين بذلك معانيها ثامنها أن المحكم من الآيات ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجها كثيرة ونسب إلى الشافعي وكأن المراد به أن المحكم
ما لا ظهور له إلا في معنى واحد كالنص والظاهر القوى في ظهوره والمتشابه خلافه. وفيه أنه لا يزيد على تبديل اللفظ باللفظ شيئا فقد بدل لفظ المحكم بما ليس له إلا معنى واحد والمتشابه بما يحتمل معاني كثيرة على أنه أخذ التأويل بمعنى التفسير أي المعنى المراد باللفظ وقد عرفت أنه خطأ ولو كان التأويل هو التفسير بعينه لم يكن لاختصاص علمه بالله أو بالله وبالراسخين في العلم وجه فإن القرآن يفسر بعضه بعضا والمؤمن والكافر والراسخون في العلم وأهل الزيغ في ذلك سواء. تاسعها أن المحكم ما احكم وفصل فيه خبر الانبياء مع اممهم والمتشابه ما اشتبهت ألفاظه من قصصهم بالتكرير في سور متعددة ولازم هذا القوم اختصاص التقسيم بآيات القصص. وفيه أنه لا دليل على هذا التخصيص أصلا على أن الذى ذكره تعالى من خواص المحكم والمتشابه وهو ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل في اتباع المتشابه دون المحكم لا ينطبق عليه فإن هذه الخاصة توجد في غير آيات القصص كما توجد فيها وتوجد في القصة الواحدة كقصة جعل الخلافة في الارض كما توجد في القصص المتكررة. عاشرها أن المتشابه ما يحتاج إلى بيان والمحكم خلافه وهذا الوجه منسوب إلى الامام أحمد. وفيه أن آيات الاحكام محتاجة إلى بيان النبي على الله عليه وآله وسلم مع أنها من المحكمات قطعا لما تقدم بيانه مرارا وكذا الآيات المنسوخة من المتشابه كما تقدم مع عدم احتياجها إلى بيان لكونها نظائر لسائر آيات الاحكام. الحادي عشر أن المحكم ما يؤمن به ويعمل به والمتشابه ما يؤمن به ولا يعمل به ونسب إلى ابن تيمية ولعل المراد به أن الاخبار متشابهات والانشاءات
[ 37 ]
محكمات كما استظهره بعضهم وإلا لم يكن قولا برأسه لصحة انطباقه على عدة من الاقوال المتقدمة. وفيه أن لازمه كون غير آيات الاحكام متشابهات ولازمه أن لا يمكن
حصول العلم بشئ من المعارف الالهية في غير الاحكام إذ لا يتحقق فيها عمل مع عدم وجود محكم فيها يرجع إليه ما تشابه منها ومن جهة اخرى الآيات المنسوخة إنشائات وليست بمحكمات قطعا. والظاهر أن مراده من الايمان والعمل بالمحكم والايمان من غير عمل بالمتشابه ما يدل عليه لفظ الآية فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا إلا أن الامرين أعنى الايمان والعمل معا في المحكم والايمان فقط في المتشابه لما كانا وظيفتين لكل من آمن بالكتاب كان عليه أن يشخص المحكم والمتشابه قبلا حتى يؤدي وظيفته وعلي هذا فلا يكفي معرفة المحكم والمتشابه بهما في تشخيص مصداقهما وهو ظاهر. الثاني عشر أن المتشابهات هي آيات الصفات خاصة أعم من صفات الله سبحانه كالعليم والقدير والحكيم والخبير وصفات أنبيائه كقوله تعالى في عيسى بن مريم عليهما السلام: " وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه " النساء - 171 وما يشبه ذلك نسب إلى ابن تيمية. وفيه أنه مع تسليم كون آيات الصفات من المتشابهات لا دليل على انحصارها فيها. والذى يظهر من بعض كلامه المنقول على طوله: أنه يأخذ المحكم والمتشابه بمعناهما اللغوي وهو ما احكمت دلالته وما تشابهت احتمالاته والمعنيان نسبيان فربما اشتبهت دلالة آية على قوم كالعامة وعلمها آخرون بالبحث وهم العلماء وهذا المعنى في آيات الصفات أظهر فإنها بحيث تشتبه مراداتها لغالب الناس لكون أفهامهم قاصرة عن الارتقاء إلى ما وراء الحس فيحسبون ما أثبته الله تعالى لنفسه من العلم والقدرة والسمع والبصر والرضا والغضب واليد والعين وغير ذلك امورا جسمانية أو معاني ليست بالحق وتقوم بذلك الفتن وتظهر البدع وتنشأ المذاهب فهذا معنى المحكم
[ 38 ]
والمتشابه وكلاهما مما يمكن أن يحصل به العلم والذى لا يمكن نيله والعلم به هو تأويل المتشابهات بمعنى حقيقة المعاني التى تدل عليها أمثال آيات الصفات فهب أنا علمنا معنى قوله إن الله على كل شئ قدير وإن الله بكل شئ عليم ونحو ذلك لكنا لا ندرى حقيقة علمه وقدرته وسائر صفاته وكيفية أفعاله الخاصة به فهذا هو تأويل المتشابهات الذى لا يعلمها إلا الله تعالى انتهى ملخصا وسيأتي ما يتعلق بكلامه من البحث عند ما نتكلم في التأويل إنشاء الله. الثالث عشر أن المحكم ما للعقل إليه سبيل والمتشابه بخلافه. وفيه أنه قول من غير دليل والآيات القرآنية وإن انقسمت إلى ما للعقل إليه سبيل وما ليس للعقل إليه سبيل لكن ذلك لا يوجب كون المراد بالمحكم والمتشابه فبهذه الآية استيفاء هذا التقسيم وشئ مما ذكر فيها من نعوت المحكم والمتشابه لا ينطبق عليه انطباقا صحيحا على أنه منقوض بآيات الاحكام فإنها محكمة ولا سبيل للعقل إليها. الرابع عشر أن المحكم ما اريد به ظاهره والمتشابه ما اريد به خلاف ظاهره وهذا قول شائع عند المتأخرين من أرباب البحث وعليه يبتني اصطلاحهم في التأويل أنه المعنى المخالف لظاهر الكلام وكأنه ايضا مراد من قال إن المحكم ما تأويله تنزيله والمتشابه ما لا يدرك إلا بالتأويل. وفيه أنه اصطلاح محض لا ينطبق عليه ما في الآية من وصف المحكم والمتشابه فإن المتشابه إنما هو متشابه من حيث تشابه مراده ومدلوله وليس المراد بالتأويل المعنى المراد من المتشابه حتى يكون المتشابه متميزا عن المحكم بأن له تأويلا بل المراد بالتأويل في الآية أمر يعم جميع الآيات القرآنية من محكمها ومتشابهها كما مر بيانه على أنه ليس في القرآن آية اريد فيها ما يخالف ظاهرها وما يوهم ذلك من الآيات إنما
اريد بها معان يعطيها لها آيات اخر محكمة والقرآن يفسر بعضه بعضا ومن المعلوم أن المعنى الذي تعطيه القرائن متصلة أو منفصلة للفظ ليس بخارج عن ظهوره وبالخصوص في كلام نص متكلمه على أن ديدنه أن يتكلم بما يتصل بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض ويرتفع كل اختلاف وتناف مترائي بالتدبر فيه قال تعالى " أ فلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " النساء - 82
[ 39 ]
الخامس عشر ما عن الاصم أن المحكم ما اجمع على تأويله والمتشابه ما اختلف فيه وكأن المراد بالاجماع والاختلاف كون مدلول الآية بحيث يختلف فيه الانظار أو لا يختلف. وفيه أن ذلك مستلزم لكون جميع الكتاب متشابها وينافيه التقسيم الذي في الاية إذ ما من آيه من آي الكتاب إلا وفيه اختلاف ما إما لفظا أو معنى أو في كونها ذات ظهور أو غيرها حتى ذهب بعضهم إلى أن القرآن كله متشابه مستدلا بقوله تعالى كتابا متشابها " الزمر - 23 غفلة عن أن هذا الاستدلال منه يبتني على كون ما استدل به آية محكمة وهو يناقض قوله وذهب آخرون إلى أن ظاهر الكتاب ليس بحجة أي أنه لا ظاهر له. السادس عشر أن المتشابه ما أشكل تفسيره لمشابهته غيره سواء كان الاشكال من جهه اللفظ أو من جهة المعنى ذكره الراغب. قال في مفردات القرآن والمتشابه من القرآن ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره إما من حيث اللفظ أو من حيث المعنى فقال الفقهاء المتشابه ما لا ينبئ ظاهره عن مراده وحقيقة ذلك أن الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب محكم على الاطلاق ومتشابه على الاطلاق ومحكم من وجه متشابه من وجه. فالمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب متشابه من جهة اللفظ فقط ومتشابه من
جهة المعنى فقط ومتشابه من جهتهما والمتشابه من جهة اللفظ ضربان أحدهما يرجع إلى الالفاظ المفردة وذلك إما من جهة غرابته نحو الاب ويزفون وإما من جهة مشاركة في اللفظ كاليد والعين والثاني يرجع إلى جملة الكلام المركب وذلك ثلاثة أضرب ضرب لاختصار الكلام نحو وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء وضرب لبسط الكلام نحو ليس كمثله شئ لانه لو قيل ليس مثله شئ كان أظهر للسامع وضرب لنظم الكلام نحو " أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما " تقديره الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا وقوله ولو لا رجال مؤمنون إلى قوله لو تزيلوا. والمتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى وأوصاف يوم القيامة فإن تلك
[ 40 ]
الصفات لا تتصور لنا إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه أو لم يكن من جنس ما لم نحسه والمتشابه من جهة المعنى واللفظ جميعا خمسة أضرب الاول من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو اقتلوا المشركين والثاني من جهة الكيفية كالوجوب والندب نحو فانكحوا ما طاب لكم والثالث من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو اتقوا الله حق تقاته والرابع من جهة المكان أو الامور التى نزلت فيها نحو وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها وقوله انما النسئ زيادة في الكفر فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه معرفة تفسير هذه الآية والخامس من جهة الشروط التى بها يصح الفعل أو يفسد كشروط الصلوة والنكاح. وهذه الجملة إذا تصورت علم أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم نحو قول من قال المتشابه ألم وقول قتادة المحكم الناسخ والمتشابه المنسوخ وقول الاصم المحكم ما اجمع على تأويله والمتشابه ما اختلف فيه.
ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب ضرب لا سبيل للوقوف عليه كوقت الساعة وخروج دابة الارض وكيفية الدابة ونحو ذلك وضرب للانسان سبيل إلى معرفته كالالفاظ الغريبة والاحكام الغلقة وضرب متردد بين الامرين يجوز أن يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم ويخفى على من دونهم وهو الضرب المشار إليه بقوله عليه السلام في علي رضي الله عنه: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل وقوله لابن عباس مثل ذلك انتهى كلامه وهو أعم الاقوال ف معنى المتشابه جمع فيها بين عدة من الاقوال المتقدمة. وفيه أولا أن تعميمه المتشابه لموارد الشبهات اللفظية كغرابة اللفظ وإغلاق التركيب والعموم والخصوص ونحوها لا يساعد عليه ظاهر الآية فإن الآية جعلت المحكمات مرجعا يرجع إليه المتشابهات ومن المعلوم أن غرابة اللفظ وأمثالها لا تنحل عقدتها من جهة دلالة المحكمات بل لها مرجع آخر ترجع إليه وتتضح به. وأيضا الآية تصف المتشابهات بأنها من شأنها أن تتبع لابتغاء الفتنة ومن المعلوم أن اتباع العام من غير رجوع إلى مخصصه والمطلق من غير رجوع إلى مقيده
[ 41 ]
وأخذ اللفظ الغريب مع الاعراض عما يفسره في اللغة مخالف لطريقة أهل اللسان لا تجوزه قريحتهم فلا يكون بالطبع موجبا لاثارة الفتنة لعدم مساعدة اللسان عليه. وثانيا أن تقسيمه المتشابه بما يمكن فهمه لعامة الناس وما لا يمكن فهمه لاحد وما يمكن فهمه لبعض دون بعض ظاهر في أنه يرى اختصاص التأويل بالمتشابه وقد عرفت خلافه. هذا هو المعروف من أقوالهم في معنى المحكم والمتشابه وتمييز مواردهما وقد عرفت ما فيها وعرفت أيضا أن الذى يظهر من الآية على ظهورها وسطوع نورها خلاف ذلك كله وأن الذي تعطيه الآية في معنى المتشابه أن تكون الآية مع حفظ كونها
آية دالة على معنى مريب مردد لا من جهة اللفظ بحيث يعالجه الطرق المألوفة عند أهل اللسان كإرجاع العام والمطلق إلى المخصص والمقيد ونحو ذلك بل من جهة كون معناها غير ملائم لمعنى آية اخرى محكمة لا ريب فيه تبين حال المتشابهة. ومن المعلوم أن معنى آية من الآيات لا يكون على هذا الوصف إلا مع كون ما يتبع من المعنى مألوفا مأنوسا عند الافهام العامية تسرع الاذهان الساذجة إلى تصديقه أو يكون ما يرام من تأويل الآية أقرب إلى قبول هذه الافهام الضعيفة الادراك والتعقل. وأنت إذا تتبعت البدع والاهواء والمذاهب الفاسدة التى انحرف فيها الفرق الاسلاميه عن الحق القويم بعد زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سواء كان في المعارف أو في الاحكام وجدت أكثر مواردها من اتباع المتشابه والتأويل في الآيات بما لا يرتضيه الله سبحانه ففرقة تتمسك من القرآن بآيات للتجسيم واخرى للجبر واخرى للتفويض واخرى لعثرة الانبياء واخرى للتنزيه المحض بنفي الصفات واخرى للتشبيه الخالص وزيادة الصفات إلى غير ذلك كل ذلك للاخذ بالمتشابه من غير إرجاعه إلى المحكم الحاكم فيه. وطائفة ذكرت أن الاحكام الدينية إنما شرعت لتكون طريقا إلى الوصول فلو كان هناك طريق أقرب منها كان سلوكه متعينا لمن ركبه فإنما المطلوب هو الوصول بأي طريق اتفق وتيسر واخرى قالت إن التكليف إنما هو لبلوغ الكمال ولا معنى لبقائه بعد الكمال بتحقق الوصول فلا تكليف لكامل.
[ 42 ]
وقد كانت الاحكام والفرائض والحدود وسائر السياسات الاسلامية قائمة ومقامة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يشذ منها شاذ ثم لم تزل بعد ارتحاله صلى الله عليه وآله وسلم تنقص وتسقط حكما فحكما يوما فيوما بيد الحكومات الاسلامية ولم يبطل حكم أو حد إلا واعتذر المبطلون أن الدين إنما شرع لصلاح الدنيا وإصلاح الناس وما
أحدثوه أصلح لحال الناس اليوم حتى آل الامر إلى ما يقال إن الغرض الوحيد من شرائع الدين إصلاح الدنيا باجرائها والدنيا اليوم لا تقبل السياسة الدينية ولا تهضمها بل تستدعى وضع قوانين ترتضيها مدنية اليوم وأجرائها وإلى ما يقال إن التلبس بالاعمال الدينية لتطهير القلوب وهدايتها إلى الفكره والارادة الصالحتين والقلوب المتدربة بالتربية الاجتماعية والنفوس الموقوفة على خدمة الخلق في غنى عن التطهر بامثال الوضوء والغسل والصلوه والصوم. إذا تأملت في هذه وأمثالها وهي لا تحصى كثرة وتدبرت في قوله تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله الآية لم تشك في صحة ما ذكرناه وقضيت بأن هذه الفتن والمحن التي غادرت الاسلام والمسلمين لم تستقر قرارها إلا من طريق اتباع المتشابه وابتغاء تأويل القرآن. و هذا والله أعلم هو السبب في تشديد القرآن الكريم في هذا الباب وإصراره البالغ على النهي عن اتباع المتشابه وابتغاء الفتنة والتأويل والالحاد في آيات الله والقول فيها بغير علم واتباع خطوات الشيطان فإن من دأب القرآن أنه يبالغ في التشديد في موارد سينثلم من جهتها ركن من أركان الدين فتنهدم به بنيته كالتشديد الواقع في تولي الكفار ومودة ذوي القربى وقرار أزواج النبي ومعاملة الربا واتحاد الكلمة في الدين وغير ذلك. ولا يغسل رين الزيغ من القلوب ولا يسد طريق ابتغاء الفتنة الذين منشأهما الركون إلى الدنيا والاخلاد إلى الارض واتباع الهوى إلا ذكر يوم الحساب كما قال تعالى ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " ص - 26 ولذلك ترى الراسخين في العلم المتأبين تأويل القرآن بما لا يرتضيه ربهم يشيرون إلى ذلك في خاتمة مقالهم حيث يقولون ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد.
[ 43 ]
ما معنى كون المحكمات ام الكتاب ؟ ذكر جماعة: أن كون الآيات المحكمة ام الكتاب كونها أصلا في الكتاب عليه تبتنى قواعد الدين واركانها فيؤمن بها ويعمل بها وليس الدين إلا مجموعا من الاعتقاد والعمل وأما الآيات المتشابهة فهي لتزلزل مرادها وتشابه مدلولها لا يعمل بها بل إنما يؤمن بها إيمانا. وأنت بالتأمل فيما تقدم من الاقوال تعلم أن هذا لازم بعض الاقوال المتقدمة وهي التي ترى أن المتشابه إنما صار متشابها لاشتماله على تأويل يتعذر الوصول إليه وفهمه أو أن المتشابه يمكن حصول العلم به ورفع تشابهه في الجملة أو بالجملة بالرجوع إلى عقل أو لغة أو طريقة عقلائية يستراح إليها في رفع الشبهات اللفظية. وقال آخرون أن معنى امومة المحكمات رجوع المتشابهات إليها وكلامهم مختلف في تفسير هذا الرجوع فظاهر بعضهم أن المراد بالرجوع هو قصر المتشابهات على الايمان والاتباع العملي في مواردها للمحكم كالآية المنسوخة يؤمن بها ويرجع في موردها إلى العمل بالناسخة وهذا القول لا يغاير القول الاول كثير مغائرة وظاهر بعض آخر أن معناها كون المحكمات مبينة للمتشابهات رافعة لتشابهها. والحق هو المعنى الثالث فإن معنى الامومة الذي تدل عليه قوله هن ام الكتاب الآية يتضمن عناية زائدة وهو أخص من معنى الاصل الذي فسرت به الام في القول الاول فإن في هذه اللفظة أعني لفظة الام عناية بالرجوع الذي فيه انتشاء واشتقاق وتبعض فلا تخلو اللفظة عن الدلالة على كون المتشابهات ذات مداليل ترجع وتتفرع على المحكمات ولازمه كون المحكمات مبينة للمتشابهات. على أن المتشابه إنما كان متشابها لتشابه مراده لا لكونه ذا تأويل فإن التأويل كما مر يوجد للمحكم كما يوجد للمتشابه والقرآن يفسر بعضه بعضا فللمتشابه مفسر وليس الا المحكم مثال ذلك قوله تعالى " إلى ربها ناظرة " القيامة - 23 فإنه آية متشابهة وبإرجاعها إلى قوله تعالى " ليس كمثله شئ " الشورى - 11
وقوله تعالى " لا تدركه الابصار " الانعام - 103 يتبين: أن المراد بها نظرة ورؤية من غير سنخ رؤية البصر الحسي وقد قال تعالى " ما كذب الفؤاد ما رأى
[ 44 ]
أفتمارونه على ما يرى إلى أن قال: لقد رأى من آيات ربه الكبرى " النجم - 18 فأثبت للقلب رؤية تخصه وليس هو الفكر فإن الفكر إنما يتعلق بالتصديق والمركب الذهني والرؤية إنما تتعلق بالمفرد العيني فيتبين بذلك أنه توجه من القلب ليست بالحسية المادية ولا بالعقلية الذهنية والامر على هذه الوتيرة في سائر المتشابهات. 3 - ما معنى التأويل ؟ فسر قوم من المفسرين التأويل بالتفسير وهو المراد من الكلام وإذ كان المراد من بعض الآيات معلوما بالضرورة كان المراد بالتأويل عليهذا من قوله تعالى " وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله الآية هو المعنى المراد بالآية المتشابهة فلا طريق إلى العلم بالآيات المتشابآ على هذا القول لغير الله سبحانه أو لغيره وغير الراسخين في العلم. وقالت طائفة اخرى أن المراد بالتأويل هو المعنى المخالف لظاهر اللفظ وقد شاع هذا المعنى بحيث عاد اللفظ حقيقه ثانية فيه بعد ما كان بحسب اللفظ لمعنى مطلق الارجاع أو المرجع. وكيف كان فهذا المعنى هو الشائع عند المتأخرين كما أن المعنى الاول هو الذي كان شائعا بين قدماء المفسرين سواء فيه من كان يقول إن التأويل لا يعلمه إلا الله ومن كان يقول إن الراسخين في العلم أيضا يعلمونه كما نقل عن ابن عباس أنه كان يقول: أنا من الراسخين في العلم وأنا أعلم تأويله. وذهب طائفة اخرى إلى أن التأويل معنى من معاني الآية لا يعلمه إلا الله تعالى أو لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم مع عدم كونه خلاف ظاهر اللفظ فيرجع الامر إلى أن للآية المتشابهة معاني متعددة بعضها تحت بعض منها ما هو تحت
اللفظ يناله جميع الافهام ومنها ما هو أبعد منه لا يناله إلا الله سبحانه أو هو تعالى والراسخون في العلم. وقد اختلفت أنظارهم في كيفية ارتباط هذه المعاني باللفظ فإن من المتيقن أنها من حيث كونها مرادة من اللفظ ليست في عرض واحد وإلا لزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد وهو غير جائز على ما بين في محله فهي لا محالة معان مترتبة في
[ 45 ]
الطول فقيل إنها لوازم معنى اللفظ إلا أنها لوازم مترتبة بحيث يكون للفظ معني مطابقي وله لازم وللازمه لازم وهكذا وقيل إنها معان مترتبة بعضها على بعض ترتب الباطن على ظاهره فإرادة المعنى المعهود المألوف إرادة لمعنى اللفظ وإرادة لباطنه بعين إرادته نفسه كما أنك إذا قلت اسقني فلا تطلب بذاك إلا السقي وهو بعينه طلب للارواء وطلب لرفع الحاجة الوجودية وطلب للكمال الوجودي وليس هناك أربعة أوامر ومطالب بل الطلب الواحد المتعلق بالسقي متعلق بعينه بهذه الامور التى بعضها في باطن بعض والسقي مرتبط بها ومعتمد عليها. وهيهنا قول رابع وهو أن التأويل ليس من قبيل المعاني المرادة باللفظ بل هو الامر العيني الذي يعتمد عليه الكلام فإن كان الكلام حكما إنشائيا كالامر والنهي فتأويله المصلحة التي توجب إنشاء الحكم وجعله وتشريعه فتأويل قوله أقيموا الصلاة مثلا هو الحالة النورانية الخارجية التي تقوم بنفس المصلي في الخارج فتنهاه عن الفحشاء والمنكر وإن كان الكلام خبريا فإن كان إخبارا عن الحوادث الماضية كان تأويله نفس الحادثة الواقعة في ظرف الماضي كالآيات المشتملة على أخبار الانبياء والامم الماضية فتأويلها نفس القضايا الواقعة في الماضي وإن كان إخبارا عن الحوادث والامور الحالية والمستقبلة فهو على قسمين فإما أن يكون المخبر به من الامور التي تناله الحواس أو تدركه العقول كان أيضا تأويله ما هو في الخارج من القضية الواقعة
كقوله تعالى وفيكم سماعون لهم " التوبة - 47 وقوله تعالى " غلبت الروم في أدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين " الروم - 4 وإن كان من الامور المستقبلة الغيبية التي لا تناله حواسنا الدنيوية ولا يدرك حقيقتها عقولنا كالامور المربوطة بيوم القيامة ووقت الساعة وحشر الاموات والجمع والسؤال والحساب وتطائر الكتب أو كان مما هو خارج من سنخ الزمان وإدراك العقول كحقيقة صفاته وأفعاله تعالى فتأويلها أيضا نفس حقائقها الخارجية. والفرق بين هذا القسم أعنى الآيات المبينة لحال صفات الله تعالى وأفعاله وما يلحق بها من أحوال يوم القيامة ونحوها وبين الاقسام الاخر أن الاقسام الاخر يمكن حصول العلم بتأويلها بخلاف هذا القسم فإنه لا يعلم حقيقة تأويله إلا الله تعالى نعم يمكن ان يناله الراسخون في العلم بتعليم الله تعالى بعض النيل على قدر ما تسعه عقولهم
[ 46 ]
وأما حقيقة الامر الذي هو حق التأويل فهو مما استأثر الله سبحانه بعلمه. فهذا هو الذي يتحصل من مذاهبهم في معنى التأويل وهي أربعة. وهيهنا أقوال أخر ذكروها هي في الحقيقة من شعب القول الاول وإن تحاشى القائلون بها عن قبوله. فمن جملتها أن التفسير أعم من التأويل وأكثر استعماله في الالفاظ ومفرداتها وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجمل وأكثر ما يستعمل التأويل في الكتب الالهية ويستعمل التفسير فيها وفي غيرها. ومن جملتها أن التفسير بيان معنى اللفظ الذي لا يحتمل إلا وجها واحدا والتأويل تشخيص أحد محتملات اللفظ بالدليل استنباطا. ومن جملتها أن التفسير بيان المعنى المقطوع من اللفظ والتأويل ترجيح أحد المحتملات من المعاني غير المقطوع بها وهو قريب من سابقه. ومن جملتها أن التفسير بيان دليل المراد والتأويل بيان حقيقه المراد مثاله
قوله تعالى إن ربك لبالمرصاد فتفسيره أن المرصاد مفعال من قولهم رصد يرصد إذا راقب وتأويله التحذير عن التهاون بامر الله والغفلة عنه. ومن جملتها أن التفسير بيان المعنى الظاهر من اللفظ والتأويل بيان المعنى المشكل. ومن جملتها أن التفسير يتعلق بالرواية والتأويل يتعلق بالدراية. ومن جملتها أن التفسير يتعلق بالاتباع والسماع والتأويل يتعلق بالاستنباط والنظر فهذه سبعة أقوال هي في الحقيقة من شعب القول الاول الذي نقلناه يرد عليها ما يرد عليه وكيف كان فلا يصح الركون إلى شئ من هذه الاقوال الاربعة وما ينشعب منها. أما إجمالا فلانك قد عرفت: أن المراد بتأويل الآية ليس مفهوما من المفاهيم تدل عليه الآية سواء كان مخالفا لظاهرها أو موافقا، بل هو من قبيل الامور الخارجية، ولا كل أمر خارجي حتى يكون المصداق الخارجي للخير تأويلا له، بل أمر خارجي
[ 47 ]
مخصوص نسبته إلى الكلام نسبة الممثل إلى المثل (بفتحتين) والباطن إلى الظاهر. وأما تفصيلا فيرد على القول الاول: أن أقل ما يلزمه أن يكون بعض الآيات القرآنية لا ينال تأويلها أي تفسيرها أي المراد من مداليلها اللفظية عامة الافهام، وليس في القرآن آيات كذلك بل القرآن ناطق بانه أنما أنزل قرآنا ليناله الافهام، ولا مناص لصاحب هذا القول إلا أن يختار أن الآيات المتشابهة إنما هي فواتح السور من الحروف المقطعة حيث لا ينال معانيها عامة الافهام، ويرد عليه: أنه لا دليل عليه، ومجرد كون التأويل مشتملا على معنى الرجوع وكون التفسير أيضا غير خال عن معنى الرجوع لا يوجب كون التأويل هو التفسير كما أن الام مرجع لاولادها وليست بتأويل لهم، والرئيس مرجع للمرؤوس وليس بتأويل له.
على أن ابتغاء الفتنة عد في الآية خاصة مستقلة للتشابه وهو يوجد في غير فواتح السور فإن أكثر الفتن المحدثة في الاسلام إنما حدثت باتباع علل الاحكام وآيات الصفات وغيرها. وأما القول الثاني فيرد عليه: أن لازمه وجود آيات في القرآن اريد بها معان يخالفها ظاهرها الذي يوجب الفتنة في الدين بتنافيه مع المحكمات ومرجعه إلى أن في القرآن اختلافا بين الآيات لا يرتفع إلا بصرف بعضها عن ظواهرها إلى معان لا يفهمها عامة الافهام وهذا يبطل الاحتجاج الذي في قوله تعالى " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " النساء - 82 إذ لو كان ارتفاع اختلاف آية مع آية بان يقال إنه اريد بإحديهما أو بهما معا غير ما يدل عليه الظاهر بل معنى تأويلي باصطلاحهم لا يعلمه إلا الله سبحانه مثلا لم تنجح حجة الآية فان انتفاء الاختلاف بالتأويل باصطلاحهم في كل مجموع من الكلام ولو كان لغير الله أمر ممكن ولا دلالة فيه على كونه غير كلام البشر إذ من الواضح أن كل كلام حتى القطعي الكذب واللغو يمكن أرجاعه إلى الصدق والحق بالتأويل والصرف عن ظاهره فلا يدل ارتفاع الاختلاف بهذا المعنى عن مجموع كلام على كونه كلام من يتعالى عن اختلاف الاحوال وتناقض الآراء والسهو والنسيان والخطاء والتكامل بمرور الزمان كما هو المعني بالاحتجاج في الآية فالآية بلسان احتجاجها صريح في أن القرآن معرض لعامة الافهام ومسرح للبحث والتامل والتدبر وليس فيه آية اريد
[ 48 ]
بها معنى يخالف ظاهر الكلام العربي ولا أن فيه احجية وتعمية وأما القول الثالث فيرد عليه أن اشتمال الآيات القرآنية على معان مترتبة بعضها فوق بعض وبعضها تحت بعض مما لا ينكره إلا من حرم نعمة التدبر إلا أنها جميعا وخاصة لو قلنا أنها لوازم المعنى مداليل لفظية مختلفة من حيث الانفهام
وذكاء السامع المتدبر وبلادته وهذا لا يلائم قوله تعالى في وصف التأويل وما يعلم تأويله إلا الله فان المعارف العالية والمسائل الدقيقة لا يختلف فيها الاذهان من حيث التقوى وطهارة النفس بل من حيث الحدة وعدمها وإن كانت التقوى وطهارة النفس معينين في فهم المعارف الطاهرة الالهية لكن ذلك ليس على نحو الدوران والعلية كما هو ظاهر قوله وما يعلم تأويله إلا الله. وأما القول الرابع فيرد عليه أنه وأن أصاب في بعض كلامه لكنه أخطأ في بعضه الآخر فإنه وإن أصاب في القول بأن التأويل لا يختص بالمتشابه بل يوجد لجميع القرآن وأن التأويل ليس من سنخ المدلول اللفظي بل هو أمر خارجي يبتني عليه الكلام لكنه أخطأ في عد كل أمر خارجي مرتبط بمضمون الكلام حتى مصاديق الاخبار الحاكية عن الحوادث الماضية والمستقبلة تأويلا للكلام وفي حصر المتشابه الذي لا يعلم تأويله في آيات الصفات وآيات القيامة. توضيحه أن المراد حينئذ من التأويل في قوله تعالى وابتغاء تأويله " إلخ " إما أن يكون تأويل القرآن برجوع ضميره إلى الكتاب فلا يستقيم قوله ولا يعلم تأويله إلا الله إلخ فإن كثيرا من تأويل القرآن وهو تأويلات القصص بل الاحكام أيضا وآيات الاخلاق مما يمكن أن يعلمه غيره تعالى وغير الراسخين في العلم من الناس حتى الزائغون قلبا على قوله فإن الحوادث التي تدل عليها آيات القصص يتساوى في إدراكها جميع الناس من غير أن يحرم عنه بعضهم وكذا الحقائق الخلقية والمصالح التي يوجدها العمل بالاحكام من العبادات والمعاملات وسائر الامور المشرعة. وإن كان المراد بالتأويل فيه تأويل المتشابه فقط استقام الحصر في قوله وما يعلم تأويله إلا الله إلخ وأفاد أن غيره تعالى وغير الراسخين في العلم مثلا لا ينبغي لهم ابتغاء تأويل المتشابه وهو يؤدي إلى الفتنة واضلال الناس لكن لا وجه لحصر المتشابه الذي لا يعلم تأويله في آيات الصفات والقيامة فإن الفتنة والضلال كما يوجد في تأويلها
[ 49 ]
يوجد في تأويل غيرها من آيات الاحكام والقصص وغيرهما كأن يقول القائل وقد قيل إن المراد من تشريع الاحكام إحياء الاجتماع الانساني بإصلاح شأنه بما ينطبق
على الصلاح فلو فرض أن صلاح المجتمع في غير الحكم المشرع أو أنه لا ينطبق على صلاح الوقت وجب اتباعه وإلغاء الحكم الديني المشرع وكأن يقول القائل وقد قيل إن المراد من كرامات الانبياء المنقولة في القرآن امور عادية وإنما نقل بألفاظ ظاهرها خلاف العادة لصلاح استمالة قلوب العامة لانجذاب نفوسهم وخضوع قلوبهم لما يتخيلونه خارقا للعادة قاهرا لقوانين الطبيعة ويوجد في المذاهب المنشعبة المحدثة في الاسلام شئ كثير من هذه الاقاويل وجميعها من التأويل في القرآن ابتغاءا للفتنة بلا شك فلا وجه لقصر المتشابه على آيات الصفات وآيات القيامة. إذا عرفت ما مر علمت: أن الحق في تفسير التأويل أنه الحقيقة الواقعية التي تستند إليها البيانات القرآنية من حكم أو موعظة أو حكمة وأنه موجود لجميع الآيات القرآنية محكمها ومتشابهها وأنه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالالفاظ بل هي من الامور العينية المتعالية من أن يحيط بها شبكات الالفاظ وإنما قيدها الله سبحانه بقيد الالفاظ لتقريبها من أذهاننا بعض التقريب فهى كالامثال تضرب ليقرب بها المقاصد وتوضح بحسب ما يناسب فهم السامع كما قال تعالى " والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في ام الكتاب لدينا لعلى حكيم " الزخرف - 4 وفي القرآن تصريحات وتلويحات بهذا المعنى. على أنك قد عرفت فيما مر من البيان أن القرآن لم يستعمل لفظ التأويل في الموارد التي استعملها وهي ستة عشر موردا على ما عدت إلا في المعنى الذي ذكرناه. 4 - هل يعلم تأويل القرآن غير الله سبحانه ؟ هذه المسألة أيضا من موارد الخلاف الشديد بين المفسرين ومنشأه الخلاف الواقع بينهم في تفسير قوله تعالى: والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا الآية وأن الواو هل هو للعطف أو للاستيناف فذهب بعض القدماء والشافعية ومعظم المفسرين من الشيعة إلى أن الواو للعطف وأن الراسخين في العلم يعلمون
[ 50 ]
تأويل المتشابه من القرآن وذهب معظم القدماء والحنفية من أهل السنة إلى أنه للاستيناف وأنه لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله وهو مما استأثر الله سبحانه بعلمه وقد استدلت الطائفة الاولى على مذهبها بوجوه كثيرة وببعض الروايات والطائفة الثانية بوجوه اخر وعدة من الروايات الواردة في أن تأويل المتشابهات مما استأثر الله سبحانه بعلمه وتمادت كل طائفة في مناقضة صاحبتها والمعارضة مع حججها. والذي ينبغي أن يتنبه له الباحث في المقام أن المسألة لم تخل عن الخلط والاشتباه من أول ما دارت بينهم ووقعت موردا للبحث والتنقير فاختلط رجوع المتشابه إلى المحكم وبعبارة اخرى المعنى المراد من المتشابه بتأويل الآية كما ينبئ به ما عنونا به المسألة وقررنا عليه الخلاف وقول كل من الطرفين آنفا. ولذلك تركنا التعرض لنقل حجج الطرفين لعدم الجدوى في إثباتها أو نفيها بعد ابتنائها على الخلط وأما الروايات فإنها مخالفة لظاهر الكتاب فإن الروايات المثبتة أعنى الدالة على أن الراسخين في العلم يعلمون التأويل فإنها أخذت التأويل مرادفا للمعنى المراد من لفظ المتشابه ولا تأويل في القرآن بهذا المعنى كما روى من طرق أهل السنة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا لابن عباس فقال - اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل وما روي من قول ابن عباس: أنا من الراسخين في العلم وأنا أعلم تأويله ومن قوله: إن المحكمات هي الآيات الناسخة - والمتشابهات هي المنسوخة فإن لازم هذه الروايات على ما فهموه أن يكون معنى الآية المحكمة تأويلا للآية المتشابهة وهو الذى أشرنا إليه أن التأويل بهذا المعنى ليس موردا لنظر الآية. وأما الروايات النافية أعنى الدالة على أن غيره لا يعلم تأويل المتشابهات مثل ما روى أن ابن عباس كان يقرأ: وما يعلم تأويله إلا الله - ويقول الراسخون في العلم آمنا به وكذلك كان يقرأ أبى بن كعب وما روي أن ابن مسعود كان يقرأ: وإن تأويله إلا عند الله - والراسخون في العلم يقولون آمنا به فهذه لا تصلح لاثبات شئ أما أولا فلان هذه القراءات لا حجية فيها وأما ثانيا فلان غاية دلالتها أن الآية لا تدل
على علم الراسخين في العلم بالتأويل وعدم دلالة الآية عليه غير دلالتها على عدمه كما هو المدعى فمن الممكن أن يدل عليه دليل آخر. ومثل ما في الدر المنثور عن الطبراني عن ابي مالك الاشعري أنه سمع رسول
[ 51 ]
الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا أخاف على امتي إلا ثلاث خصال - أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتلوا - وأن يفتح لهم الكتاب - فيأخذه المؤمن يبتغى تأويله - وما يعلم تأويله إلا الله - والراسخون في العلم يقولون آمنا به - كل من عند ربنا وما يذكر إلا اولوا الالباب - وأن يكثر علمهم فيضيعونه ولا يبالون به وهذا الحديث على تقدير دلالته على النفي لا يدل إلا على نفيه عن مطلق المؤمن لا عن خصوص الراسخين في العلم ولا ينفع المستدل إلا الثاني. ومثل الروايات الدالة على وجوب اتباع المحكم والايمان بالمتشابه وعدم دلالتها على النفي مما لا يرتاب فيه. ومثل ما في تفسير الآلوسي عن ابن جرير عن ابن عباس مرفوعا: أنزل القرآن على أربعة أحرف: حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تفسره العلماء ومتشابه لا يعلمه إلا الله ومن ادعى علمه سوى الله تعالى فهو كاذب والحديث مع كونه مرفوعا ومعارضا بما نقل عنه من دعوة الرسول له وادعائه العلم به لنفسه مخالف لظاهر القرآن: أن التأويل غير المعنى المراد بالمتشابه على ما عرفت فيما مر. والذي ينبغي ؟ ؟ أن يقال أن القرآن يدل على جواز العلم بتأويله لغيره تعالى وأما هذه الآية فلا دلالة لها على ذلك. أما الجهة الثانية فلما مر في البيان السابق أن الآية بقرينة صدرها وذيلها وما تتلوها من الآيات إنما هي في مقام بيان انقسام الكتاب إلى المحكم والمتشابه وتفرق الناس في الاخذ بها فهم بين مائل إلى اتباع المتشابه لزيغ في قلبه وثابت على اتباع المحكم
والايمان بالمتشابه لرسوخ في علمه فإنما القصد الاول في ذكر الراسخين في العلم بيان حالهم وطريقتهم في الاخذ بالقرآن ومدحهم فيه قبال ما ذكر من حال الزائغين وطريقتهم وذمهم والزائد على هذا القدر خارج عن القصد الاول ولا دليل على تشريكهم في العلم بالتأويل مع ذلك إلا وجوه غير تامة تقدمت الاشارة إليها فيبقى الحصر المدلول عليه بقوله تعالى " وما يعلم تأويله إلا الله من غير ناقض ينقضه من عطف واستثناء وغير ذلك فالذي تدل عليه الآية هو انحصار العلم بالتأويل فيه تعالى واختصاصه به. لكنه لا ينافي دلالة دليل منفصل يدل على علم غيره تعالى به بإذنه كما في نظائره
[ 52 ]
مثل العلم بالغيب قال تعالى " قل لا يعلم من في السموات والارض الغيب إلا الله " النمل - 65 وقال تعالى " إنما الغيب لله " يونس - 20 وقال تعالى " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو " الانعام - 59 فدل جميع ذلك على الحصر ثم قال تعالى " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول " الجن - 27. فأثبت ذلك لبعض من هو غيره وهو من ارتضى من رسول ولذلك نظائر في القرآن. وأما الجهه الاولى - وهى أن القرآن يدل على جواز العلم بتأويله لغيره تعالى في الجملة فبيانه أن الآيات كما عرفت تدل على أن تأويل الآية أمر خارجي نسبته إلى مدلول الآية نسبة الممثل إلى المثل فهو وإن لم يكن مدلولا للآية بما لها من الدلالة لكنه محكي لها محفوظ فيها نوعا من الحكاية والحفظ نظير قولك " في الصيف ضيعت اللبن " لمن أراد أمرا قد فوت أسبابه من قبل فإن المفهوم المدلول عليه بلفظ المثل وهو تضييع المرئة اللبن في الصيف لا ينطبق شئ منه على المورد وهو مع ذلك ممثل لحال المخاطب حافظ له يصوره في الذهن بصورة مضمنة في الصورة التي يعطيها الكلام بمدلوله. كذلك أمر التأويل فالحقيقة الخارجية التي توجب تشريع حكم من الاحكام أو بيان معرفة من المعارف الالهية أو وقوع حادثة هي مضمون قصة من القصص القرآنية
وإن لم تكن أمرا يدل عليه بالمطابقة نفس الامر والنهي أو البيان أو الواقعة الكذائية إلا أن الحكم أو البيان أو الحادثة لما كان كل منها ينتشي منها ويظهر بها فهو أثرها الحاكي لها بنحو من الحكاية والاشارة كما أن قول السيد لخادمه اسقني ينتشي عن اقتضاء الطبيعة الانسانية لكمالها فإن هذه الحقيقة الخارجية هي التي تقتضي حفظ الوجود والبقاء وهو يقتضي بدل ما يتحلل من البدن وهو يقتضي الغذاء اللازم وهو يقتضي الري وهو يقتضي الامر بالسقي مثلا فتأويل قوله اسقني هو ما عليه الطبيعة الخارجية الانسانية من اقتضاء الكمال في وجوده وبقائه ولو تبدلت هذه الحقيقة الخارجية إلى شئ آخر يباين الاول مثلا لتبدل الحكم الذي هو الامر بالسقي إلى حكم آخر وكذا الفعل الذي يعرف فيفعل أو ينكر فيجتنب في واحد من المجتمعات الانسانية على اختلافها الفاحش في الآداب والرسوم إنما يرتضع من ثدي الحسن والقبح الذي عندهم وهو يستند إلى مجموعة متحدة متفقة من علل زمانية ومكانية وسوابق عادات ورسوم مرتكزة في ذهن الفاعل بالوراثة ممن سبقه وتكرر المشاهدة ممن شاهده
[ 53 ]
من أهل منطقته فهذه العلة المؤتلفة الاجزاء هي تأويل فعله أو تركه من غير أن تكون عين فعله أو تركه لكنها محكية مضمنة محفوظة بالفعل أو الترك ولو فرض تبدل المحيط الاجتماعي لتبدل ما أتى به من الفعل أو الترك. فالامر الذي له التأويل سواء كان حكما أو قصة أو حادثة يتغير بتغير التأويل لا محالة ولذلك ترى أنه تعالى في قوله فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله الآية لما ذكر اتباع أهل الزيغ ما ليس بمراد من المتشابه ابتغاءا للفتنة ذكر أنهم بذلك يبتغون تأويله الذي ليس بتأويل له وليس إلا لان التأويل الذي يأخذون به لو كان هو التأويل الحقيقي لكان اتباعهم للمتشابه اتباعا حقا غير مذموم وتبدل الامر الذي يدل عليه المحكم وهو
المراد من المتشابه إلى المعنى غير المراد الذي فهموه من المتشابه واتبعوه. فقد تبين أن تأويل القرآن حقائق خارجية تستند إليه آيات القرآن في معارفها وشرائعها وسائر ما بينته بحيث لو فرض تغير شئ من تلك الحقائق انقلب ما في الآيات من المضامين. وإذا أجدت التدبر وجدت أن هذا ينطبق تمام الانطباق على قوله تعالى " والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم " الزخرف - 4 فإنه يدل على أن القرآن النازل كان عند الله أمرا أعلى وأحكم من أن يناله العقول أو يعرضه التقطع والتفصل لكنه تعالى عناية بعباده جعله كتابا مقررا وألبسه لباس العربية لعلهم يعقلون ما لا سبيل لهم إلى عقله ومعرفته ما دام في ام الكتاب وام الكتاب هذا هو المدلول عليه بقوله " يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب " الرعد - 39. وبقوله " بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ " البروج - 22. ويدل على إجمال مضمون الآية أيضا قوله تعالى " كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير " هود - 1 فالاحكام كونه عند الله بحيث لا ثلمة فيه ولا فصل والتفصيل هو جعله فصلا فصلا وآية آية وتنزيله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ويدل على هذه المرتبة الثانية التي تستند إلى الاولى قوله تعالى " وقرآنا فرقناه
[ 54 ]
لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا " أسرى - 106 فقد كان القرآن غير مفروق الآيات ثم فرق ونزل تنزيلا واوحي نجوما. وليس المراد بذلك أنه كان مجموع الآيات مرتب السور على الحال الذي هو عليه الآن عندنا كتابا مؤلفا مجموعا بين الدفتين مثلا ثم فرق وانزل على النبي نجوما ليقرأه على الناس على مكث كما يفرقه المعلم المقري منا قطعات ثم يعلمه ويقريه متعلمه كل يوم قطعة
على حسب استعداد ذهنه. وذلك أن بين إنزال القرآن نجوما على النبي وبين إلقائه قطعة قطعة على المتعلم فرقا بينا وهو دخالة أسباب النزول في نزول الآيه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا شئ من ذلك ولا ما يشبهه في تعلم المتعلم فالقطعات المختلفة الملقاة إلى المتعلم في أزمنة مختلفة يمكن أن تجمع وينضم بعضها إلى بعض في زمان واحد ولا يمكن أن تجمع أمثال قوله تعالى " فاعف عنهم واصفح " المائدة - 13 وقوله تعالى " قاتلوا الذين يلونكم من الكفار " التوبة - 123 وقوله تعالى " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها " المجادلة - 1 وقوله تعالى " خذ من أموالهم صدقة " التوبة - 103 ونحو ذلك فيلغى سبب النزول وزمانها ثم يفرض نزولها في أول البعثة أو في آخر زمان حيوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فالمراد بالقرآن في قوله: وقرآنا فرقناه غير القرآن بمعنى الآيات المؤلفة. وبالجملة فالمحصل من الآيات الشريفة أن وراء ما نقرأه ونعقله من القرآن أمرا هو من القرآن بمنزلة الروح من الجسد والمتمثل من المثال وهو الذي يسميه تعالى بالكتاب الحكيم وهو الذي تعتمد وتتكي عليه معارف القرآن المنزل ومضامينه وليس من سنخ الالفاظ المفرقة المقطعة ولا المعاني المدلول عليها بها وهذا بعينه هو التأويل المذكور في الآيات المشتملة عليه لانطباق أوصافه ونعوته عليه وبذلك يظهر حقيقة معنى التأويل ويظهر سبب امتناع التأويل عن أن تمسه الافهام العادية والنفوس غير المطهرة. ثم إنه تعالى قال " إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون " الواقعة - 79 ولا شبهة في ظهور الآيات في أن المطهرين من عباد الله هم يمسون القرآن الكريم الذي في الكتاب المكنون والمحفوظ من التغير ومن التغير تصرف الاذهان
[ 55 ]
بالورود عليه والصدور منه وليس هذا المس إلا نيل الفهم والعلم ومن المعلوم أيضا
أن الكتاب المكنون هذا هو ام الكتاب المدلول عليه بقوله يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب وهو المذكور في قوله وإنه في ام الكتاب لدينا لعلى حكيم. وهؤلاء قوم نزلت الطهارة في قلوبهم وليس ينزلها إلا الله سبحانه فإنه تعالى لم يذكرها إلا كذلك أي منسوبة إلى نفسه كقوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " الاحزاب - 33 وقوله تعالى ولكن يريد ليطهركم " المائدة - 6 وما في القرآن شئ من الطهارة المعنوية إلا منسوبة إلى الله أو بإذنه وليست الطهارة إلا زوال الرجس من القلب وليس القلب من الانسان إلا ما يدرك به ويريد به فطهارة القلب طهارة نفس الانسان في اعتقادها وإرادتها وزوال الرجس عن هاتين الجهتين ويرجع إلى ثبات القلب فيما اعتقده من المعارف الحقة من غير ميلان إلى الشك ونوسان بين الحق والباطل وثباته على لوازم ما علمه من الحق من غير تمائل إلى اتباع الهوى ونقض ميثاق العلم وهذا هو الرسوخ في العلم فإن الله سبحانه ما وصف الراسخين في العلم إلا بأنهم مهديون ثابتون على ما علموا غير زائغة قلوبهم إلى ابتغاء الفتنة فقد ظهر أن هؤلاء المطهرين راسخون في العلم هذا. ولكن ينبغي أن لا تشتبه النتيجة التي ينتجها هذا البيان فإن المقدار الثابت بذلك أن المطهرين يعلمون التأويل ولازم تطهيرهم أن يكونوا راسخين في علومهم لما أن تطهير قلوبهم منسوب إلى الله وهو تعالى سبب غير مغلوب لا أن الراسخين في العلم يعلمونه بما أنهم راسخون في العلم أي إن الرسوخ في العلم سبب للعلم بالتأويل فإن الآية لا تثبت ذلك بل ربما لاح من سياقها جهلهم بالتأويل حيث قال تعالى يقولون آمنا به كل من عند ربنا الآية وقد وصف الله تعالى رجالا من أهل الكتاب برسوخ العلم ومدحهم بذلك وشكرهم على الايمان والعمل الصالح في قوله لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما انزل اليك وما انزل من قبلك الآية " النساء - 162 ولم يثبت مع ذلك كونهم عالمين بتأويل الكتاب. وكذلك إن الآية أعني قوله تعالى لا يمسه إلا المطهرون لم تثبت للمطهرين إلا
مس الكتاب في الجملة وأما أنهم يعلمون كل التأويل ولا يجهلون شيئا منه ولا في وقت فهي ساكتة عن ذلك ولو ثبت لثبت بدليل منفصل
[ 56 ]
5 - ما هو السبب في اشتمال الكتاب على المتشابه ؟ ومن الاعتراضات التي اوردت على القرآن الكريم الاعتراض باشتماله على المتشابهات وهو أنكم تدعون أن تكاليف الخلق إلى يوم القيامة فيه وأنه قول فصل يميز بين الحق والباطل ثم إنا نراه يتمسك به كل صاحب مذهب من المذاهب المختلفة بين المسلمين لاثبات مذهبه وليس ذلك إلا لوقوع التشابه في آياته أ فليس أنه لو جعله جليا نقيا عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى الغرض المطلوب وأقطع لمادة الخلاف والزيغ. وأجيب عنه بوجوه من الجواب بعضها ظاهر السخافة كالجواب بأن وجود المتشابهات يوجب صعوبة تحصيل الحق ومشقة البحث وذلك موجب لمزيد الاجر والثواب وكالجواب بأنه لو لم يشتمل إلا على صريح القول في مذهب لنفر ذلك سائر أرباب المذاهب فلم ينظروا فيه لكنه لوجود التشابه فيه أطمعهم في النظر فيه وكان في ذلك رجاء أن يظفروا بالحق فيؤمنوا به وكالجواب بأن اشتماله على المتشابه أوجب الاستعانة بدلالة العقل وفي ذلك خروج عن ظلمة التقليد ودخول في ضوء النظر والاجتهاد وكالجواب بأن اشتماله على المتشابه أوجب البحث عن طرق التأويلات المختلفة وفي ذلك فائدة التضلع بالفنون المختلفة كعلم اللغة والصرف والنحو واصول الفقه. فهذه أجوبة سخيفة ظاهرة السخافة بأدنى نظر والذي يستحق الايراد والبحث من الاجوبة وجوه ثلثة الاول أن اشتمال القرآن الكريم على المتشابهات لتمحيص القلوب في التصديق به فإنه لو كان كل ما ورد في الكتاب معقولا واضحا لا شبهة فيه عند أحد لما كان في الايمان شئ من معنى الخضوع لامر الله تعالى والتسليم لرسله. وفيه أن الخضوع هو نوع انفعال وتأثر من الضعيف في مقابل القوي والانسان
إنما يخضع لما يدرك عظمته أو لما لا يدركه لعظمته وبهوره الادراك كقدرة الله غير المتناهية وعظمته غير المتناهية وسائر صفاته التي إذا واجهها العقل رجع القهقرى لعجزه عن الاحاطة بها وأما الامور التي لا ينالها العقل لكنه يغتر ويغادر باعتقاد
[ 57 ]
أنه يدركها فما معنى خضوعه لها ؟ كالآيات المتشابهة التي يتشابه أمرها على العقل فيحسب أنه يعقلها وهو لا يعقل. الثاني أن اشتماله على المتشابه إنما هو لبعث العقل على البحث والتنقير لئلا يموت بإهماله بإلقاء الواضحات التي لا يعمل فيها عامل الفكر فإن العقل أعز القوى الانسانية التي يجب تربيتها بتربية الانسان. وفيه أن الله تعالى أمر الناس بإعمال العقل والفكر في الآيات الآفاقية والانفسية إجمالا في موارد من كلامه وتفصيلا في موارد اخرى كخلق السموات والارض والجبال والشجر والدواب والانسان واختلاف ألسنته وألوانه وندب إلى التعقل والتفكر والسير في الارض والنظر في أحوال الماضين وحرض على العقل والفكر ومدح العلم بأبلغ المدح وفي ذلك غنى عن البحث في امور ليس إلا مزالق للاقدام ومصارع للافهام. الثالث أن الانبياء بعثوا إلى الناس وفيهم العامة والخاصة والذكي والبليد والعالم والجاهل وكان من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته وتشرح كنهه بحيث يفهمه الجميع على السواء فالحري في أمثال هذه المعاني أن تلقى بحيث يفهمه الخاصة ولو بطريق الكناية والتعريض ويؤمر العامة فيها بالتسليم وتفويض الامر إلى الله تعالى. وفيه أن الكتاب كما يشتمل على المتشابهات كذلك يشتمل على المحكمات التي تبين المتشابهات بالرجوع إليها ولازم ذلك أن لا تتضمن المتشابهات أزيد مما يكشف
عنها المحكمات وعند ذلك يبقى السؤال (وهو أنه ما فائدة وجود المتشابهات في الكتاب ولا حاجة إليها مع وجود المحكمات ؟) على حاله ومنشأ الاشتباه أن المجيب أخذ المعاني نوعين متبائنين معان يفهمها جميع المخاطبين من العامة والخاصة وهي مداليل المحكمات ومعان سنخها بحيث لا يتلقاها الا الخاصة من المعارف العالية والحكم الدقيقة فصار بذلك المتشابهات لا ترجع معانيها إلى المحكمات وقد مر أن ذلك مخالف لمنطوق الآيات الدالة على أن القرآن يفسر بعضه بعضا وغير ذلك. والذي ينبغي أن يقال أن وجود المتشابه في القرآن ضروري ناش عن وجود
[ 58 ]
التأويل الموجب لتفسير بعضه بعضا بالمعنى الذي أوضحناه للتأويل فيما مر. ويتضح ذلك بعض الاتضاح بإجادة التدبر في جهات البيان القرآني والتعليم الالهي والامور التي بنيت عليها معارفه والغرض الاقصى من ذلك وهى امور منها أن الله سبحانه ذكر أن لكتابه تأويلا هو الذي تدور مداره المعارف القرآنية والاحكام والقوانين وسائر ما يتضمنه التعليم الالهي وأن هذا التأويل الذي تستقبله وتتوجه إليه جميع هذه البيانات أمر يقصر عن نيله الافهام وتسقط دون الارتقاء إليه العقول إلا نفوس طهرهم الله وأزال عنهم الرجس فإن لهم خاصة أن يمسوه وهذا غاية ما يريده تعالى من الانسان المجيب لدعوته في ناحية العلم أن يهتدي إلى علم كتابه الذي هو تبيان كل شئ ومفتاحه التطهير الالهي وقد قال تعالى " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم " المائدة - 7 فجعل الغاية لتشريع الدين هي التطهير الالهي. وهذا الكمال الانساني كسائر الكمالات المندوب إليها لا يظفر بكمالها إلا أفراد خاصة وإن كانت الدعوة متعلقة بالجميع متوجهة إلى الكل فتربية الناس بالتربية الدينية إنما تثمر كمال التطهير في أفراد خاصة وبعض التطهير في آخرين ويختلف ذلك باختلاف درجات الناس كما أن الاسلام يدعو إلى حق التقوى في العمل قال تعالى
" اتقوا الله حق تقاته " آل عمران - 102 ولكن لا يحصل كماله إلا في أفراد وفيمن دونهم دون ذلك على طريق الامثل فالامثل كل ذلك لاختلاف الناس في طبائعهم وأفهامهم وهكذا جميع الكمالات الاجتماعية من حيث التربية والدعوة يدعو داعي الاجتماع إلى الدرجة القصوى من كل كمال كالعلم والصنعة والثروة والراحة وغيرها لكن لا ينالها إلا البعض ومن دونه ما دونها على اختلاف مراتب الاستعدادات. وبالحقيقه امثال هذه الغايات ينالها المجتمع من غير تخلف دون كل فرد منه. ومنها أن القرآن قطع بأن الطريق الوحيد إلى إيصال الانسان إلى هذه الغاية الشريفة تعريف نفس الانسان لنفسه بتربيته في ناحيتي العلم والعمل أما في ناحية العلم فبتعليمه الحقائق المربوطة به من المبدء والمعاد وما بينهما من حقائق العالم حتى يعرف نفسه بما ترتبط به من الواقعيات معرفة حقيقية وأما في ناحية العمل فبتحميل قوانين
[ 59 ]
اجتماعية عليه بحيث تصلح شأن حيوته الاجتماعية ولا تشغله عن التخلص إلى عالم العلم والعرفان ثم بتحميل تكاليف عبادية يوجب العمل بها والمزاولة عليها توجه نفسه وخلوص قلبه إلى المبدء والمعاد وإشرافه على عالم المعنى والطهارة والتجنب عن قذارة الماديات وثقلها. وأنت إذا أحسنت التدبر في قوله تعالى " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " الفاطر - 10 وضممته إلى ما سمعت إجماله في قوله تعالى ولكن يريد ليطهركم الآية وإلى قوله تعالى: " عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " المائدة - 105 وقوله تعالى: " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات " المجادلة - 11 وما يشابهه من الآيات اتضح لك الغرض الالهي في تشريع الدين وهداية الانسان إليه والسبيل الذي سلكه لذلك فافهم.
و يتفرع على هذا البيان نتيجة مهمة: هي أن القوانين الاجتماعية في الاسلام مقدمة للتكاليف العبادية مقصودة لاجلها والتكاليف العبادية مقدمة للمعرفة بالله وبآياته فأدنى الاخلال أو التحريف أو التغيير في الاحكام الاجتماعية من الاسلام يوجب فساد العبودية وفساد العبودية يؤدي إلى اختلال أمر المعرفة. وهذه النتيجة على أنها واضحة التفرع على البيان - تؤيدها التجربة أيضا فإنك إذا تأملت جريان الامر في طروق الفساد في شئون الدين الاسلامي بين هذه الامة وأمعنت النظر فيه من أين شرع وفي أين ختم وجدت أن الفتنة ابتدأت من الاجتماعيات ثم توسطت في العباديات ثم انتهت إلى رفض المعارف وقد ذكرناك فيما مر أن الفتنة شرعت باتباع المتشابهات وابتغاء تأويلها ولم يزل الامر على ذلك حتى اليوم. ومنها أن الهداية الدينية إنما بنيت على نفي التقليد عن الناس وركوز العلم بينهم ما أستطيع فإن ذلك هو الموافق لغايتها التي هي المعرفة وكيف لا ؟ ولا يوجد بين كتب الوحي كتاب ولا بين الاديان دين يعظمان من أمر العلم ويحرضان عليه بمثل ما جاء به القرآن والاسلام ! وهذا المعنى هو الموجب لان يبين الكتاب للانسان حقائق المعارف أولا وارتباط ما شرعه له من الاحكام العملية بتلك الحقائق ثانيا وبعبارة اخرى إن يفهمه:
[ 60 ]
أنه موجود مخلوق لله تعالى خلقه بيده ووسط في خلقه وبقائه ملائكته وسائر خلقه من سماء وأرض ونبات وحيوان ومكان وزمان وما عداها وأنه سائر إلى معاده وميعاده سيرا اضطراريا وكادح إلى ربه كدحا فملاقيه ثم يجزى جزاء ما عمله أيما إلى جنة أيما إلى نار فهذه طائفة من المعارف. ثم يفهمه أن الاعمال التي تؤديه إلى سعادة الجنة ما هي وما تؤديه إلى شقوة النار ما هي ؟ أي يبين له الاحكام العبادية والقوانين الاجتماعية وهذه طائفة اخرى.
ثم يبين له أن هذه الاحكام والقوانين مؤدية إلى السعادة أي يفهمه أن هذه الطائفة الثانية مرتبطة بالطائفة الاولى وأن تشريعها وجعلها للانسان إنما هو لمراعاة سعادته لاشتمالها على خير الانسان في الدنيا والآخرة وهذه طائفة ثالثة. وظاهر عندك أن الطائفة الثانية بمنزلة المقدمة والطائفة الاولى بمنزلة النتيجة والطائفة الثالثة بمنزلة الرابط الذي يربط الثانية بالاولى ودلالة الآيات على كل واحدة من هذه الطوائف المذكورة واضحة ولا حاجة إلى إيرادها. ومنها أنه لما كانت عامه الناس لا يتجاوز فهمهم المحسوس ولا يرقى عقلهم إلى ما فوق عالم المادة والطبيعة وكان من ارتقى فهمه منهم بالارتياضات العلمية إلى الورود في إدراك المعاني وكليات القواعد والقوانين يختلف أمره باختلاف الوسائل التي يسرت له الورود في عالم المعاني والكليات كان ذلك موجبا لاختلاف الناس في فهم المعاني الخارجة عن الحس والمحسوس اختلافا شديدا ذا عرض عريض على مراتب مختلفة وهذا أمر لا ينكره أحد. ولا يمكن إلقاء معنى من المعاني إلى إنسان إلا من طريق معلوماته الذهنية التي تهيأت عنده في خلال حيوته وعيشته فإن كان مأنوسا بالحس فمن طريق المحسوسات على قدر ما رقى إليه من مدارج الحس كما يمثل لذة النكاح للصبي بحلاوة الحلواء وأن كان نائلا للمعاني الكلية فبما نال وعلى قدر ما نال وهذا ينال المعاني من البيان الحسي والعقلي معا بخلاف المأنوس بالحس. ثم إن الهداية الدينية لا تختص بطائفة دون طائفة من الناس بل تعم جميع الطوائف وتشمل عامة الطبقات وهو ظاهر
[ 61 ]
وهذا المعنى أعنى اختلاف الافهام وعموم أمر الهداية مع ما عرفت من وجود التأويل للقرآن هو الموجب أن يساق البيانات مساق الامثال وهو أن يتخذ ما يعرفه الانسان ويعهده ذهنه من المعاني فيبين به ما لا يعرفه لمناسبة ما بينهما نظير توزين المتاع بالمثاقيل ولا مسانخة بينهما في شكل أو صورة أو حجم أو نوع إلا ما بينهما من المناسبة وزنا.
والآيات القرآنية المذكورة سابقا كقوله تعالى: " إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم " الزخرف - 4 وما يشابهه من الآيات وإن بينت هذا الامر بطريق الاشارة والكناية لكن القرآن لم يكتف بذلك دون أن بينه بما ضربه مثلا في أمر الحق والباطل فقال تعالى: أنزل من السماء ماءا فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاءا وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض كذلك يضرب الله الامثال " الرعد - 17 فبين أن حكم المثل جار في أفعاله تعالى كما هو جار في أقواله ففعله تعالى كقوله الحق إنما قصد منهما الحق الذي يحويانه ويصاحب كلا منهما امور غير مقصودة ولا نافعة يعلوهما ويربوهما لكنها ستزول وتبطل ويبقى الحق الذي ينفع الناس وإنما يزول ويزهق بحق آخر هو مثله وهذا كالآية المتشابهة تتضمن من المعنى حقا مقصودا ويصاحبه ويعلو عليه بالاستباق إلى الذهن معنى آخر باطل غير مقصود لكنه سيزول بحق آخر يظهر الحق الاول على الباطل الذي كان يعلوه ليحق الحق بكلماته ويبطل الباطل ولو كره المجرمون والكلام في انطباق هذا المثل على أفعاله الخارجية المتقررة في عالم الكون كالكلام في أقواله عز من قائل. وبالجملة المتحصل من الآية الشريفة أن المعارف الحقة الالهية كالماء الذي أنزله الله تعالى من السماء هي في نفسها ماء فحسب من غير تقييد بكمية ولا كيفية ثم إنها كالسيل السائل في الاودية تتقدر بأقدار مختلفة من حيث السعه والضيق وهذه الاقدار امور ثابتة كل في محله كالحال في اصول المعارف والاحكام التشريعية ومصالح الاحكام التي ذكرنا فيما مر أنها روابط تربط الاحكام بالمعارف الحقة وهذا حكمها في نفسها مع قطع النظر عن البيان اللفظي وهي في مسيرها ربما صحبت ما هو
[ 62 ]
كالزبد يظهر ظهورا ثم يسرع في الزوال وذلك كالاحكام المنسوخة التي تنسخه النواسخ من الآيات فإن المنسوخ مقتضى ظاهر طباعه أن يدوم لكن الحكم الناسخ يبطل دوامه ويضع مكانه حكما آخر هذا بالنظر إلى نفس هذه المعارف مع قطع النظر عن ورودها في وادى البيان اللفظي. وأما المعارف الحقة من حيث كونها واردة في ظرف اللفظ والدلالة فإنها بورودها أودية الدلالات اللفظية تتقدر بأقدارها تتشكل بأشكال المرادات الكلامية بعد إطلاقها وهذه أقوال ثابتة من حيث مراد المتكلم بكلامه إلا أنها مع ذلك أمثال يمثل بها أصل المعنى المطلق غير المتقدر ثم إنها بمرورها في الاذهان المختلفة تحمل معاني غير مقصودة كالزبد في السيل لان الاذهان من جهة ما تخزنه من المرتكزات والمألوفات تتصرف في المعاني الملقاة إليها وجل هذا التصرف إنما هو في المعاني غير المألوفة كالمعارف الاصلية ومصالح الاحكام وملاكاتها كما مر وأما الاحكام والقوانين فلا تصرف فيها مع قطع النظر عن ملاكاتها فإنها مألوفة ومن هنا يظهر أن المتشابهات إنما هي الآيات من حيث اشتمالها على الملاكات والمعارف دون متن الاحكام والقوانين الدينية. ومنها أنه تحصل من البيان السابق أن البيانات اللفظية القرآنية أمثال للمعارف الحقة الالهية لان البيان نزل في هذه الآيات إلى سطح الافهام العامة التي لا تدرك إلا الحسيات ولا تنال المعاني الكلية إلا في قالب الجسمانيات ولما استلزم ذلك في إلقاء المعاني الكلية المجردة عن عوارض الاجسام والجسمانيات أحد محذورين فإن الافهام في تلقيها المعارف المرادة منها إن جمدت في مرتبة الحس والمحسوس انقلبت الامثال بالنسبة إليها حقائق ممثلة وفيه بطلان الحقائق وفوت المرادات والمقاصد وإن لم تجمد وانتقلت إلى المعاني المجردة بتجريد الامثال عن الخصوصيات غير الدخيلة لم يؤمن من الزيادة والنقيصة.
نظير ذلك أنا لو القي الينا المثل السائر: عند الصباح يحمد القوم السرى أو تمثل لنا بقول صخر: أهم بأمر الحزم لا أستطيعه * وقد حيل بين العير والنزوان.
[ 63 ]
فإنا من جهة سبق عهد الذهن بالقصة أو الامر الممثل له نجرد المثل عن الخصوصيات المكتنفة بالكلام كالصباح والقوم والسرى ونفهم من ذلك أن المراد أن حسن تأثير عمل وتحسين فعله إنما يظهر إذا فرغ منه وبدا أثره وأما هو ما دام الانسان مشتغلا به محسا تعب فعله فلا يقدر قدره ويظهر ذلك تجريد ما تمثل به من الشعر وأما إذا لم نعهد الممثل وجمدنا على الشعر أو المثل خفي عنا الممثل وعاد المثل خبرا من الاخبار ولو لم نجمد وانتقلنا إجمالا إلى أنه مثل لم يمكنا تشخيص المقدار الذى يجب طرحه بالتجريد وما يجب حفظه للفهم وهو ظاهر. ولا مخلص عن هذين المحذورين إلا بتفريق المعاني الممثل لها إلى أمثال مختلفة وتقليبها في قوالب متنوعة حتى يفسر بعضها بعضا ويوضح بعضها أمر بعض فيعلم بالتدافع الذي بينها أولا أن البيانات أمثال ولها في ما ورائها حقائق ممثلة وليست مقاصدها ومراداتها مقصورة على اللفظ المأخوذ من مرتبة الحس والمحسوس وثانيا بعد العلم بأنها أمثال يعلم بذلك المقدار الذي يجب طرحه من الخصوصيات المكتنفة بالكلام وما يجب حفظه منها للحصول على المرام وإنما يحصل ذلك بأن هذا يتضمن نفي بعض الخصوصيات الموجودة في ذلك وذاك نفى بعض ما في هذا. وإيضاح المقاصد المبهمة والمطالب الدقيقة بإيراد القصص المتعددة والامثال والامثلة الكثيرة المتنوعة أمر دائر في جميع الالسنة واللغات من غير اختصاص بقوم دون قوم ولغة دون لغة وليس ذلك إلا لان الانسان يشعر بقريحة البيان مساس حاجته إلى نفي الخصوصيات الموهمة لخلاف المراد في القصة الواحدة أو المثل الواحد بالخصوصيات النافية الموجودة في قصة اخرى مناسبة أو مثل آخر مناسب.
فقد تبين أن من الواجب أن يشتمل القرآن الكريم على الآيات المتشابهة وأن يرفع التشابه الواقع في آية بالاحكام الواقع في آية اخرى واندفع بذلك الاشكال باشتمال القرآن على المتشابهات لكونها مخلة لغرض الهداية والبيان. وقد ظهر من جميع ما تقدم من الابحاث على طولها امور: الاول: أن الآيات القرآنية تنقسم إلى قسمين محكم ومتشابه وذلك من جهة اشتمال الآية وحدها على مدلول متشابه وعدم اشتمالها. الثاني أن لجميع القرآن محكمه ومتشابهه تأويلا وأن التأويل ليس من قبيل
[ 64 ]
المفاهيم اللفظية بل من الامور الخارجية نسبته إلى المعارف والمقاصد المبينة نسبة الممثل إلى المثال وأن جميع المعارف القرآنية أمثال مضروبة للتأويل الذي عند الله. الثالث أن التأويل يمكن أن يعلمه المطهرون وهم راسخون في العلم. الرابع: أن البيانات القرآنية أمثال مضروبة لمعارفها ومقاصدها وهذا المعنى غير ما ذكرناه في الامر الثاني من كون معارفه أمثالا وقد أوضحناه فيما مر. الخامس أن من الواجب أن يشتمل القرآن على المتشابهات كما أن من الواجب أن يشتمل على المحكمات. السادس أن المحكمات ام الكتاب إليها ترجع المتشابهات رجوع بيان. السابع: أن الاحكام والتشابه وصفان يقبلان الاضافة والاختلاف بالجهات بمعنى أن آية ما يمكن أن تكون محكمه من جهة متشابهة من جهة اخرى فتكون محكمة بالاضافة إلى آية ومتشابهة بالاضافة إلى اخرى ولا مصداق للمتشابه على الاطلاق في القرآن ولا مانع من وجود محكم على الاطلاق. الثامن أن من الواجب أن يفسر بعض القرآن بعضا. التاسع أن للقرآن مراتب مختلفة من المعنى مترتبة طولا من غير أن تكون
الجميع في عرض واحد فيلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد أو مثل عموم المجاز ولا هي من قبيل اللوازم المتعددة لملزوم واحد بل هي معان مطابقية يدل على كل واحد منها اللفظ بالمطابقة بحسب مراتب الافهام. ولتوضيح ذلك نقول قال الله تبارك وتعالى: " اتقوا الله حق تقاته " آل عمران - 102 فأنبأ أن للتقوى الذي هو الانتهاء عما نهى الله عنه والايتمار بما أمر الله به مرتبة هي حق التقوى ويعلم بذلك أن هناك من التقوى ما هو دون هذه المرتبة الحقة فللتقوى الذي هو بوجه العمل الصالح مراتب ودرجات بعضها فوق بعض. وقال أيضا: " أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأويه جهنم وبئس المصير هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون " آل عمران - 163 فبين أن العمل مطلقا سواء كان صالحا أو طالحا درجات ومراتب والدليل على أن المراد بها
[ 65 ]
درجات العمل قوله والله بصير بما يعملون ونظير الآية قوله تعالى ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون " الاحقاف - 19 وقوله تعالى: " ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون " الانعام - 132 والآيات في هذا المعنى كثيرة وفيها ما يدل على أن درجات الجنة ودركات النار بحسب مراتب الاعمال ودرجاتها. ومن المعلوم أن العمل من أي نوع كان هو من رشحات العلم يترشح من اعتقاد قلبي يناسبه وقد استدل تعالى على كفر اليهود وعلى فساد ضمير المشركين وعلى نفاق المنافقين من المسلمين وعلى إيمان عدة من الانبياء والمؤمنين بأعمالهم وأفعالهم في آيات كثيرة جدا يطول ذكرها فالعمل كيف كان يلازم ما يناسبه من العلم ويدل عليه. وبالعكس يستلزم كل نوع من العمل ما يناسبه من العلم ويحصله ويركزه في النفس كما قال تعالى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين "
العنكبوت - 69 وقال تعالى: " واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " الحجر - 99 وقال أيضا: " ثم كان عاقبة الذين أسائوا السوآي أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون " الروم - 10 وقال: " فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون " البراءة - 77 والآيات في هذا المعنى أيضا كثيرة تدل الجميع على أن العمل صالحا كان أو طالحا يولد من أقسام المعارف والجهالات (وهي العلوم المخالفة للحق) ما يناسبه وقال تعالى وهو كالكلمة الجامعة في العمل الصالح والعلم النافع " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " الفاطر - 10 فبين أن شأن الكلم الطيب وهو الاعتقاد الحق أن يصعد إلى الله تعالى ويقرب صاحبه منه وشأن العمل الصالح أن يرفع هذا العلم والاعتقاد ومن المعلوم أن ارتفاع العلم في صعوده إنما هو بخلوصه من الشك والريب وكمال توجه النفس إليه وعدم تقسيم القلب فيه وفي غيره (وهو مطلق الشرك) فكلما كمل خلوصه من الشك والخطوات اشتد صعوده وارتفاعه. ولفظ الآية لا يخلو عن دلالة على ذلك فإنها عبرت في الكلم الطيب بالصعود
[ 66 ]
ووصف العمل بالرفع والصعود يقابل النزول كما أن الرفع يقابل الوضع وهما أعني الصعود والارتفاع وصفان يتصف بهما المتحرك من السفل إلى العلو بنسبته إلى الجانبين فهو صاعد بالنظر إلى قصده العلو واقترابه منه ومرتفع من جهة انفصاله من السفل وابتعاده منه فالعمل يبعد الانسان ويفصله من الدنيا والاخلاد إلى الارض بصرف نفسه عن التعلق بزخارفها الشاغلة والتشتت والتفرق بهذه المعلومات الفانية غير الباقية وكلما زاد الرفع والارتفاع زاد صعود الكلم الطيب وخلصت المعرفة عن شوائب الاوهام وقذارات الشكوك ومن المعلوم أيضا كما مر أن العمل الصالح ذو مراتب ودرجات فلكل درجة من العمل الصالح رفع الكلم الطيب وتوليد العلوم والمعارف الحقة الالهية
على ما يناسب حالها والكلام في العمل الطالح ووضعه الانسان نظير الكلام في العمل الصالح ورفعه وقد مر بعض الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى: " اهدنا الصراط المستقيم " الحمد - 6. فظهر أن للناس بحسب مراتب قربهم وبعدهم منه تعالى مراتب مختلفة من العمل والعلم ولازمه أن يكون ما يتلقاه أهل واحدة من المراتب والدرجات غير ما يتلقيه أهل المرتبة والدرجة الاخرى التي فوق هذه أو تحتها فقد تبين أن للقرآن معاني مختلفة مترتبة. وقد ذكر الله سبحانه أصنافا من عباده وخص كل صنف بنوع من العلم والمعرفة لا يوجد في الصنف الآخر كالمخلصين وخص بهم العلم بأوصاف ربهم حق العلم قال تعالى سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين " الصافات - 160 وخص بهم أشياء أخر من المعرفة والعلم سيجئ بيانها أنشاء الله تعالى وكالموقنين وخص بهم مشاهدة ملكوت السموات والارض قال تعالى: " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين: " الانعام - 75 وكالمنيبين وخص بهم التذكر قال تعالى " وما يتذكر إلا من ينيب " المؤمن - 13 وكالعالمين وخص بهم عقل أمثال القرآن قال تعالى وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون " العنكبوت - 43 وكأنهم اولوا الالباب والمتدبرون لقوله تعالى " أ فلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " محمد صلى الله عليه وآله وسلم - 24 ولقوله تعالى " أ فلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " النساء - 82 فإن مؤدى الآيات
[ 67 ]
الثلاث يرجع إلى معنى واحد وهو العلم بمتشابه القرآن ورده إلى محكمه وكالمطهرين خصهم الله بعلم تأويل الكتاب قال تعالى " إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون " الواقعة - 79 وكالاولياء وهم أهل الوله والمحبة لله وخص بهم
أنهم لا يلتفتون إلى شئ إلا الله سبحانه ولذلك لا يخافون شيئا ولا يحزنون لشئ قال تعالى " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " يونس - 62 وكالمقربين والمجتبين والصديقين والصالحين والمؤمنين ولكل منهم خواص من العلم والادراك يختصون بها سنبحث عنها في المحال المناسبة لها. ونظير هذه المقامات الحسنة مقامات سوء في مقابلها ولها خواص رديئة في باب العلم والمعرفة ولها أصحاب كالكافرين والمنافقين والفاسقين والظالمين وغيرهم ولهم انصباء من سوء الفهم وردائة الادراك لآيات الله ومعارفه الحقة طوينا ذكرها إيثارا للاختصار وسنتعرض لها في خلال أبحاث هذا الكتاب إنشاء الله. العاشر أن للقرآن اتساعا من حيث انطباقه على المصاديق وبيان حالها فالآيه منه لا يختص بمورد نزولها بل يجري في كل مورد يتحد مع مورد النزول ملاكا كالامثال التي لا تختص بمواردها الاول بل تتعداها إلى ما يناسبها وهذا المعنى هو المسمى بجرى القرآن وقد مر بعض الكلام فيه في أوائل الكتاب. = بحث روائي = في تفسير العياشي: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن المحكم والمتشابه قال: المحكم ما يعمل به والمتشابه ما اشتبه على جاهله اقول وفيه تلويح إلى أن المتشابه مما يمكن العلم به. وفيه أيضا عنه عليه السلام: أن القرآن محكم ومتشابه - فأما المحكم فتؤمن به وتعمل به وتدين - وأما المتشابه فتؤمن به ولا تعمل به - وهو قول الله عز وجل - وأما الذين في قلوبهم زيغ - فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا والراسخون في العلم هم آل محمد
[ 68 ]
اقول وسيجئ كلام في معنى قوله عليه السلام: والراسخون في العلم هم آل محمد.
وفيه أيضا عن مسعدة بن صدقة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الناسخ والمنسوخ - والمحكم والمتشابه قال: الناسخ الثابت المعمول به والمنسوخ ما قد كان يعمل به ثم جاء ما نسخه -، والمتشابه ما اشتبه على جاهله قال: وفي رواية: الناسخ الثابت والمنسوخ ما مضى والمحكم ما يعمل به والمتشابه ما يشبه بعضه بعضا وفي الكافي عن الباقر عليه السلام في حديث قال: فالمنسوخات من المتشابهات وفي العيون عن الرضا عليه السلام: من رد متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم ثم قال إن في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن، فردوا متشابهها إلى محكمها - ولا تتبعوا متشابهها فتضلوا. أقول: الاخبار كما ترى متقاربة في تفسير المتشابه وهي تؤيد ما ذكرناه في البيان السابق أن التشابه يقبل الارتفاع وأنه إنما يرتفع بتفسير المحكم له وأما كون المنسوخات من المتشابهات فهو كذلك كما تقدم ووجه تشابهها ما يظهر منها من استمرار الحكم وبقائه ويفسره الناسخ ببيان أن استمراره مقطوع. وأما ما ذكره عليه السلام في خبر العيون أن في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن ومحكما كمحكم القرآن فقد وردت في هذا المعنى عنهم عليهم السلام روايات مستفيضة والاعتبار يساعده فإن الاخبار لا تشتمل إلا على ما اشتمل عليه القرآن الشريف ولا تبين إلا ما تعرض له وقد عرفت فيما مر: أن التشابه من أوصاف المعنى الذي يدل عليه اللفظ وهو كونه بحيث يقبل الانطباق على المقصود وعلى غيره لا من أوصاف اللفظ من حيث دلالته على المعنى نظير الغرابة والاجمال ولا من أوصاف الاعم من اللفظ والمعنى. وبعبارة اخرى إنما عرض التشابه لما عرض عليه من الآيات لكون بياناتها جارية مجرى الامثال بالنسبة إلى المعارف الحقة الالهية وهذا المعنى بعينه موجود في الاخبار ففيها متشابه ومحكم كما في القرآن وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إنا معاشر الانبياء نكلم الناس على قدر عقولهم وفي تفسير العياشي عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام: أن رجلا قال لامير المؤمنين عليه السلام: هل تصف لنا ربنا نزداد له حبا ومعرفة ؟ فغضب وخطب
[ 69 ]
الناس فقال فيما قال - عليك يا عبد الله بما دلك عليه القرآن من صفته - وتقدمك فيه الرسول من معرفته - واستضئ من نور هدايته - فإنما هي نعمة وحكمة أوتيتها - فخذ ما اوتيت وكن من الشاكرين، وما كلفك الشيطان عليه مما ليس عليك في الكتاب فرضه ولا في سنة الرسول وأئمة الهدى أمره فكل علمه إلى الله - ولا تقدر عظمة الله واعلم يا عبد الله - أن الراسخين في العلم - الذين اختارهم الله عن الاقتحام - في السدد المضروبة دون الغيوب فلزموا الاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب - فقالوا آمنا به كل من عند ربنا - وقد مدح الله اعترافهم بالعجز - عن تناول ما لم يحيطوا به علما - وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عنه - منهم رسوخا فاقتصر على ذلك - ولا تقدر عظمة الله على قدر عقلك فتكون من الهالكين. أقول قوله عليه السلام واعلم يا عبد الله أن الراسخين في العلم إلخ ظاهر في أنه على السلام أخذ الواو في قوله تعالى والراسخون في العلم يقولون للاستيناف دون العطف كما استظهرناه من الآية ومقتضى ذلك أن ظهور الآية لا يساعد على كون الراسخين في العلم عالمين بتأويله لا أنه يساعد على عدم إمكان علمهم به فلا ينافي وجود بيان آخر يدل عليه كما تقدم بيانه وهو ظاهر بعض الاخبار عن أئمه أهل البيت كما سيأتي وقوله عليه السلام: الذين أغناهم الله عن الاقتحام في السدد المضروبة دون الغيوب خبر إن والكلام ظاهر في تحضيض المخاطب وترغيبه أن يلزم طريقة الراسخين في العلم بالاعتراف بالجهل فيما جهله فيكون منهم وهذا دليل على تفسيره عليه السلام الراسخين في العلم بمطلق من لزم ما علمه ولم يتعد إلى ما جهله والمراد بالغيوب المحجوبة بالسدد المعاني المرادة بالمتشابهات المخفية عن الافهام العامة ولذا أردفه بقوله ثانيا فلزموا الاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره ولم يقل بجملة ما جهلوا تأويله فافهم. وفي الكافي عن الصادق على السلام: نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله. أقول والرواية لا تخلو عن ظهور في كون قوله تعالى والراسخون في العلم
معطوفا على المستثنى في قوله وما يعلم تأويله إلا الله لكن هذا الظهور يرتفع بما مر من البيان وما تقدم من الرواية ولا يبعد كل البعد أن يكون المراد بالتويل هو المعنى المراد بالمتشابه فإن هذا المعنى من التأويل المساوق لتفسير المتشابه كان شائعا في الصدر الاول بين الناس.
[ 70 ]
وأما قوله عليه السلام نحن الراسخون في العلم وقد تقدم في رواية للعياشي عن الصادق على السلام قوله: والراسخون في العلم هم آل محمد وهذه الجملة مروية في روايات اخر أيضا فجميع ذلك من باب الجرى والانطباق كما يشهد بذلك ما تقدم ويأتى من الروايات. وفي الكافي أيضا عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر على السلام إلى أن قال يا هشام إن الله حكى عن قوم صالحين - انهم قالوا ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب علموا أن القلوب تزيغ وتعود إلى عماها ورداها - إنه لم يخف الله من لم يعقل عن الله ومن لم يعقل عن الله - لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة ينظرها - ويجد حقيقتها في قلبه - ولا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدقا - وسره لعلانيته موافقا - لان الله عز اسمه لم يدل على الباطن الخفي من العقل - إلا بظاهر منه وناطق عنه أقول قوله عليه السلام لم يخف الله من لم يعقل عن الله في معنى قوله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وقوله على السلام ومن لم يعقل عن الله " إلخ " أحسن بيان لمعنى الرسوخ في العلم لان الامر ما لم يعقل حق التعقل لم ينسد طرق الاحتمالات فيه ولم يزل القلب مضطربا في الاذعان به وإذا تم التعقل وعقد القلب عليه لم يخالفه باتباع ما يخالفه من الهوى فكان ما في قلبه هو الظاهر في جوارحه وكان ما يقوله هو الذي يفعله وقوله ولا يكون أحد كذلك " الخ " بيان لعلامة الرسوخ في العلم. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أنس وأبي أمامة
ووائلة بن اسقف وأبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الراسخين في العلم فقال - من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه - ومن عف بطنه وفرجه فذلك من الراسخين في العلم. أقول ويمكن توجيه الرواية بما يرجع إلى معنى الحديث السابق. وفي الكافي عن الباقر عليه السلام: أن الراسخين في العلم من لا يختلف في علمه. أقول وهو منطبق على الآية فإن الراسخين في العلم قوبل به فيها قوله الذين في قلوبهم زيغ فيكون رسوخ العلم عدم اختلاف العالم وارتيابه.
[ 71 ]
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن ام سلمه: أن رسول الله كان يكثر في دعائه أن يقول اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك - قلت يا رسول الله وإن القلوب لتتقلب ؟ قال نعم ما خلق الله من بشر من بني آدم - إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله - فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه الحديث. أقول وروي هذا المعنى بطرق عديدة عن عدة من الصحابة كجابر ونواس ابن شمعان وعبد الله بن عمر وأبي هريرة والمشهور في هذا الباب ما في حديث نواس قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن وقد روى اللفظة (فيما اظن) الشريف الرضي في المجازات النبوية. وروي عن علي عليه السلام: أنه قيل له هل عندكم شئ من الوحي ؟ قال لا والذي فلق الحبة وبرء النسمة إلا أن يعطي الله عبدا فهما في كتابه. أقول وهو من غرر الاحاديث وأقل ما يدل عليه أن ما نقل من أعاجيب المعارف الصادرة عن مقامه العلمي الذي يدهش العقول مأخوذ من القرآن الكريم. وفي الكافي عن الصادق عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال قال رسول الله
عليه السلام: يا أيها الناس إنكم في دار هدنة وأنتم على ظهر سفر والسير بكم سريع - وقد رأيتم الليل والنهار - والشمس والقمر يبليان كل جديد - ويقربان كل بعيد ويأتيان بكل موعود - فأعدوا الجهاز لبعد المجاز - قال فقام المقداد بن الاسود فقال - يا رسول الله وما دار الهدنة - فقال دار بلاغ وانقطاع - فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم - فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع - وماحل مصدق ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة - ومن جعله خلفه ساقه إلى النار - وهو الدليل يدل على خير سبيل - وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل - وهو الفصل ليس بالهزل وله ظهر وبطن - فظاهره حكم وباطنه علم - ظاهره أنيق وباطنه عميق - له تخوم وعلى تخومه تخوم - لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه - فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة - ودليل على المعرفة لمن عرف الصفه - فليجل جال بصره وليبلغ الصفة نظره - ينج من عطب ويخلص من نشب - فإن التفكر حيوة قلب البصير - كما يمشي المستنير في الظلمات - فعليكم بحسن التخلص وقلة التربص.
[ 72 ]
أقول ورواه العياشي في تفسيره إلى قوله فليجل جال. وفي الكافي وتفسير العياشي أيضا عن الصادق عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: القرآن هدى من الضلالة وتبيان من العمى - واستقالة من العثرة ونور من الظلمة - وضياء من الاحداث وعصمة من الهلكة ورشد من الغواية وبيان من الفتن - وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة وفيه كمال دينكم وما عدل أحد من القرآن إلا إلى النار. أقول والروايات في هذا المساق كثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمة من أهل بيته عليهم السلام. وفي تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الرواية: ما في القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن - وما فيه حرف إلا وله حد ولكل حد مطلع - يعني بقوله ظهر وبطن ؟ قال: ظهره تنزيله وبطنه تأويله - منه ما مضى
ومنه ما لم يكن بعد - يجري كما يجري الشمس والقمر - كلما جاء منه شئ وقع - قال الله وما يعلم تأويله - إلا الله والراسخون في العلم نحن نعلمه. أقول الرواية المنقولة في ضمن الرواية هي ما روته الجماعة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بألفاظ مختلفة وإن كان المعنى واحدا كما في تفسير الصافي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا وفيه عنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضا: إن للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطنا إلى سبعة أبطن. وقوله عليه السلام منه ما مضى ومنه ما ياتي ظاهره رجوع الضمير إلى القرآن باعتبار اشتماله على التنزيل والتأويل فقوله يجري كما يجري الشمس والقمر يجري فيهما معا فينطبق في التنزيل على الجري الذي اصطلح عليه الاخبار في انطباق الكلام بمعناه على المصداق كانطباق قوله " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " التوبة - 120 على كل طائفة من المؤمنين الموجودين في الاعصار المتأخرة عن زمان نزول الآية وهذا نوع من الانطباق وكانطباق آيات الجهاد على جهاد النفس وانطباق آيات المنافقين على الفاسقين من المؤمنين وهذا نوع آخر من الانطباق أدق من الاول وكانطباقها وانطباق آيات المذنبين على أهل المراقبة والذكر والحضور في تقصيرهم ومساهلتهم في ذكر الله تعالى وهذا نوع آخر أدق من ما تقدمه وكانطباقها عليهم
[ 73 ]
في قصورهم الذاتي عن أداء حق الربوبية وهذا نوع آخر أدق من الجميع. ومن هنا يظهر أولا أن للقرآن مراتب من المعاني المرادة بحسب مراتب أهله ومقاماتهم وقد صور الباحثون عن مقامات الايمان والولاية من معانيه ما هو أدق مما ذكرناه. وثانيا أن الظهر والبطن أمران نسبيان فكل ظهر بطن بالنسبة إلى ظهره
وبالعكس كما يظهر من الرواية التالية. وفي تفسير العياشي عن جابر قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن شئ من تفسير القرآن - فأجابني ثم سألته ثانية فأجابني بجواب آخر - فقلت جعلت فداك - كنت أجبت في المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم - فقال يا جابر إن للقرآن بطنا وللبطن بطن - وظهرا وللظهر ظهر - يا جابر وليس شئ أبعد من عقول الرجال من تفسير القران - إن الآية تكون أولها في شئ - وأوسطها في شئ وآخرها في شئ - وهو كلام متصل ينصرف على وجوه وفيه أيضا عنه عليه السلام في حديث قال: ولو أن الآية إذا نزلت في قوم - ثم مات اولئك القوم ماتت الآية لما بقى من القرآن شئ - ولكن القرآن يجري أوله على آخره - ما دامت السموات والارض - ولكل قوم آية يتلونها هم منها من خير أو شر. وفي المعاني عن حمران بن أعين قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن ظهر القرآن وبطنه فقال - ظهره الذين نزل فيهم القرآن - وبطنه الذين عملوا بأعمالهم - يجري فيهم ما نزل في اولئك وفي تفسير الصافي عن علي عليه السلام: ما من آية إلا ولها أربعة معان - ظاهر وباطن وحد ومطلع - فالظاهر التلاوة والباطن الفهم - والحد هو أحكام الحلال والحرام - والمطلع هو مراد الله من العبد بها. أقول المراد بالتلاوة ظاهر مدلول اللفظ بدليل أنه عليه السلام عده من المعاني فالمراد بالفهم في تفسيره الباطن ما هو في باطن الظاهر من المعنى والمراد بقوله هو أحكام الحلال والحرام ظاهر المعارف المتلقاة من القرآن في أوائل المراتب أو أواسطها في مقابل المطلع الذى هو المرتبة العليا والحد والمطلع نسبيان كما أن الظاهر والباطن
[ 74 ]
نسبيان كما عرفت فيما تقدم فكل مرتبة عليا هي مطلع بالنسبة إلى السفلى.
والمطلع إما بضم الميم وتشديد الطاء وفتح اللام اسم مكان من الاطلاع أو بفتح الميم واللام وسكون الطاء اسم مكان من الطلوع وهو مراد الله من العبد بها كما ذكره عليه السلام. وقد ورد هذه الامور الاربعة في النبوي المعروف هكذا: إن القرآن انزل على سبعة أحرف - لكل آية منها ظهر وبطن ولكل حد مطلع وفي رواية: ولكل حد ومطلع. ومعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم ولكل حد مطلع على ما في إحدى الروايتين أن لكل واحد من الظهر والبطن الذي هو حد مطلع يشرف عليه هذا هو الظاهر ويمكن أن يرجع إليه ما في الرواية الاخرى ولكل حد ومطلع بأن يكون المعنى ولكل منهما حد هو نفسه ومطلع وهو ما ينتهى إليه الحد فيشرف على التأويل لكن هذا لا يلائم ظاهرا ما في رواية علي عليه السلام ما من آية إلا ولها أربعة معان " إلخ " إلا أن يراد أن لها أربعة اعتبارات من المعنى وإن كان ربما انطبق بعضها على بعض. وعلي هذا فالمتحصل من معاني الامور الاربعة أن الظهر هو المعنى الظاهر البادئ من الآية والباطن هو الذي تحت الظاهر سواء كان واحدا أو كثيرا قريبا منه أو بعيدا بينهما واسطة والحد هو نفس المعنى سواء كان ظهرا أو بطنا والمطلع هو المعنى الذي طلع منه الحد وهو بطنه متصلا به فافهم. وفي الحديث المروي من طرق الفريقين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: انزل القرآن على سبعة أحرف. اقول والحديث وإن كان مرويا باختلاف ما في لفظه لكن معناها مروي مستفيضا والروايات متقاربة معنى روتها العامة والخاصة وقد اختلف في معنى الحديث اختلافا شديدا ربما انهي إلى أربعين قولا والذي يهون الخطب أن في نفس الاخبار تفسيرا لهذه السبعة الاحرف وعليه التعويل.
ففي بعض الاخبار: نزل القرآن على سبعة أحرف - أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل وقصص ومثل وفي بعضها: زجر وأمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال
[ 75 ]
وعن علي عليه السلام: أن الله أنزل القرآن على سبعة أقسام - كل منها كاف شاف وهي أمر وزجر وترغيب - وترهيب وجدل ومثل وقصص. فالمتعين حمل السبعة الاحرف على أقسام الخطاب وأنواع البيان وهي سبعة على وحدتها في الدعوة إلى الله وإلى صراطه المستقيم ويمكن ان يستفاد من هذه الرواية حصر اصول المعارف الالهية في الامثال فإن بقية السبعة لا تلائمها إلا بنوع من العناية على ما لا يخفى = بحث آخر روائي = في الصافي عن النبي صلى الله هليه وآله وسلم: من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار أقول وهذا المعنى رواه الفريقان وفي معناه أحاديث اخر رووه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام. وفي منية المريد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قال في القرآن بغير علم فليتبوء مقعده من النار. أقول ورواه أبو داود في سننه. وفيه عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قال في القرآن بغير علم - جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار وفيه عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ. أقول ورواه أبو داود و الترمذي والنسائي. وفيه عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: أكثر ما أخاف على امتى من بعدي - رجل يناول القرآن يضعه على غير مواضعه وفي تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من فسر القرآن
برأيه إن أصاب لم يؤجر - وإن أخطأ فهو أبعد من السماء وفيه عن يعقوب بن يزيد عن ياسر عن الرضا عليه السلام قال: الرأي في كتاب الله كفر.
[ 76 ]
اقول وفي معناها روايات اخر مروية في العيون والخصال وتفسير العياشي وغيرها. قوله صلى الله عليه وآله وسلم من فسر القرآن برأيه الرأي هو الاعتقاد عن اجتهاد وربما اطلق على القول عن الهوى والاستحسان وكيف كان لما ورد قوله برأيه مع الاضافة إلى الضمير علم منه أن ليس المراد به النهي عن الاجتهاد المطلق في تفسير القرآن حتى يكون بالملازمة أمرا بالاتباع والاقتصار بما ورد من الروايات في تفسير الآيات عن النبي وأهل بيته صلى الله عليه وعليهم على ما يراه أهل الحديث على أنه ينافي الآيات الكثيرة الدالة على كون القرآن عربيا مبينا والآمرة بالتدبر فيه وكذا ينافي الروايات الكثيرة الآمرة بالرجوع إلى القرآن وعرض الاخبار عليه. بل الاضافة في قوله برأيه تفيد معنى الاختصاص والانفراد والاستقلال بأن يستقل المفسر في تفسير القرآن بما عنده من الاسباب في فهم الكلام العربي فيقيس كلامه تعالى بكلام الناس فإن قطعة من الكلام من أي متكلم إذا ورد علينا لم نلبث دون أن نعمل فيه القواعد المعمولة في كشف المراد الكلامي ونحكم بذلك أنه أراد كذا كما نجري عليه في الاقارير والشهادات وغيرهما كل ذلك لكون بياننا مبنيا على ما نعلمه من اللغة ونعهده من مصاديق الكلمات حقيقة ومجازا. والبيان القرآني غير جار هذا المجرى على ما تقدم بيانه في الابحاث السابقة بل هو كلام موصول بعضها ببعض في عين أنه مفصول ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض كما قاله علي عليه السلام فلا يكفي ما يتحصل من آية واحدة بإعمال القواعد المقررة
في العلوم المربوطة في انكشاف المعنى المراد منها دون أن يتعاهد جميع الآيات المناسبة لها ويجتهد في التدبر فيها كما يظهر من قوله تعالى " أ فلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " النساء - 82 وقد مر بيانه في الكلام على الايجاز وغيره. فالتفسير بالرأي المنهي عنه أمر راجع إلى طريق الكشف دون المكشوف وبعبارة اخرى إنما نهى ع عليه السلام عن تفهم كلامه على نحو ما يتفهم به كلام غيره وإن كان هذا النحو من التفهم ربما صادف الواقع والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الرواية الاخرى: من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ - فإن الحكم بالخطأ مع فرض الاصابة - ليس إلا
[ 77 ]
لكون الخطأ في الطريق وكذا قوله عليه السلام في حديث العياشي: إن أصاب لم يوجر. ويؤيده ما كان عليه الامر في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن القرآن لم يكن مؤلفا بعد ولم يكن منه إلا سور أو آيات متفرقة في أيدي الناس فكان في تفسير كل قطعة قطعة منه خطر الوقوع في خلاف المراد. والمحصل أن المنهي عنه إنما هو الاستقلال في تفسير القرآن واعتماد المفسر على نفسه من غير رجوع إلى غيره ولازمه وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع إليه وهذا الغير لا محالة إما هو الكتاب أو السنة وكونه هي السنة ينافي القرآن ونفس السنة الآمرة بالرجوع إليه وعرض الاخبار عليه فلا يبقى للرجوع إليه والاستعداد منه في تفسير القرآن إلا نفس القرآن. ومن هنا يظهر حال ما فسروا به حديث التفسير بالرأي فقد تشتتوا في معناه على أقوال احدها أن المراد به التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير وهي خمسة عشر علما على ما أنهاه السيوطي في الاتقان اللغة والنحو والتصريف و
الاشتقاق والمعاني والبيان والبديع والقراءة واصول الدين واصول الفقه وأسباب النزول وكذا القصص والناسخ والمنسوخ والفقه والاحاديث المبينة لتفسير المجملات والمبهمات وعلم الموهبة ويعني بالاخير ما أشار إليه الحديث النبوي: من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم. الثاني أن المراد به تفسير المتشابه الذى لا يعلمه إلا الله. الثالث التفسير المقرر للمذهب الفاسد بأن يجعل المذهب أصلا والتفسير تبعا فيرد إليه بإي طريق أمكن وإن كان ضعيفا. الرابع التفسير بأن مراد الله تعالى كذا على القطع من غير دليل. الخامس التفسير بالاستحسان والهوى وهذه الوجوه الخمسة نقلها ابن النقيب على ما ذكره السيوطي في الاتقان وهنا وجوه اخر نتبعها بها. السادس أن المراد به هو القول في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذاهب
[ 78 ]
الاوائل من الصحابة والتابعين ففيه تعرض لسخط الله تعالى السابع القول في القرآن بما يعلم أن الحق غيره نقلهما ابن الانباري. الثامن أن المراد به القول في القرآن بغير علم وتثبت سواء علم أن الحق خلافه أم لا. التاسع هو الاخذ بظاهر القرآن بناءا على أنه لا ظهور له بل يتبع في مورد الآية النص الوارد عن المعصوم وليس ذلك تفسيرا للآية بل اتباعا للنص ويكون التفسير على هذا من الشئون الموقوفة على المعصوم. العاشر أنه الاخذ بظاهر القرآن بنائا على أن له ظهورا لانفهمه بل المتبع في تفسير الآية هو النص عن المعصوم. فهذه وجوه عشرة وربما أمكن إرجاع بعضها إلى بعض وكيف كان فهي
وجوه خالية عن الدليل على أن بعضها ظاهر البطلان أو يظهر بطلانه بما تقدم في المباحث السابقة فلا نطيل بالتكرار. وبالجملة فالمتحصل من الروايات والآيات التي تؤيدها كقوله تعالى أ فلا يتدبرون القرآن الآية وقوله تعالى " الذين جعلوا القرآن عضين " الحجر - 91 وقوله تعالى " إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة الآية " حم السجدة - 40 وقوله تعالى " يحرفون الكلام عن مواضعه " النساء - 46 وقوله تعالى " ولا تقف ما ليس لك به علم " أسرى - 36 إلى غير ذلك أن النهى في الروايات إنما هو متوجه إلى الطريق وهو أن يسلك في تفسير كلامه تعالى الطريق المسلوك في تفسير كلام غيره من المخلوقين. وليس اختلاف كلامه تعالى مع كلام غيره في نحو استعمال الالفاظ وسرد الجمل وإعمال الصناعات اللفظية فإنما هو كلام عربي روعي فيه جميع ما يراعى في كلام عربي وقد قال تعالى " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم " إبراهيم - 4 وقال تعالى " وهذا لسان عربي مبين " النحل - 103 وقال تعالى " إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون " الزخرف - 3. وإنما الاختلاف من جهة المراد والمصداق الذي ينطبق عليه مفهوم الكلام.
[ 79 ]
توضيح ذلك: أنا من جهة تعلق وجودنا بالطبيعة الجسمانية وقطوننا المعجل في الدنيا المادية ألفنا من كل معنى مصداقه المادي واعتدنا بالاجسام والجسمانيات فإذا سمعنا كلام واحد من الناس الذين هم أمثالنا يحكي عن حال أمر من الامور وفهمنا منه معناه حملناه على ما هو المعهود عندنا من المصداق والنظام الحاكم فيه لعلمنا بأنه لا يعني إلا ذلك لكونه مثلنا لا يشعر إلا بذلك وعند ذلك يعود النظام الحاكم في المصداق يحكم في المفهوم فربما خصص به العام أو عمم به الخاص أو تصرف في المفهوم بأي تصرف آخر وهو الذي نسميه بتصرف القرائن العقلية غير اللفظية.
مثال ذلك أنا إذا سمعنا عزيزا من أعزتنا ذا سؤدد وثروة يقول وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وتعقلنا مفهوم الكلام ومعاني مفرداته حكمنا في مرحلة التطبيق على المصداق أن له أبنية محصورة حصينة تسع شيئا كثيرا من المظروفات فان الخزانة هكذا تتخذ إذا اتخذت وأن له فيها مقدارا وفرا من الذهب والفضة والورق والاثاث والزينه والسلاح فإن هذه الامور هي التى يمكن أن تخزن عندنا وتحفظ حفظا وأما الارض والسماء والبر والبحر والكوكب والانسان فهي وإن كانت أشياء لكنها لا تخزن ولا تتراكم ولذلك نحكم بأن المراد من الشئ بعض من أفراده غير المحصورة وكذا من الخزائن قليل من كثير فقد عاد النظام الموجود في المصداق وهو أن كثيرا من الاشياء لا يخزن وأن ما يختزن منها إنما يختزن في بناء حصين مأمون عن الغيلة والغارة أوجب تقييدا عجيبا في إطلاق مفهوم الشئ والخزائن. ثم إذا سمعنا الله تعالى ينزل على رسوله قوله " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه " الحجر - 21 فإن لم يرق أذهاننا عن مستواها الساذج الاولي فسرنا كلامه بعين ما فسرنا به كلام الواحد من الناس مع أنه لا دليل لنا على ذلك البتة فهو تفسير بما نراه من غير علم. وإن رقت أذهاننا عن ذلك قليلا وأذعنا بأنه تعالى لا يخزن المال وخاصة إذا سمعناه تعالى يقول في ذيل الآية: وما ننزله إلا بقدر معلوم ويقول أيضا: " وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الارض بعد موتها " الجاثية - 5، حكمنا بأن المراد بالشئ الرزق من الخبز والماء وأن المراد بنزوله نزول المطر لانا لا نشعر بشئ ينزل من السماء غير المطر فاختزان كل شئ عند الله ثم نزوله بالقدر كناية عن اختزان المطر
[ 80 ]
ونزوله لتهيئة المواد الغذائية وهذا أيضا تفسير بما نراه من غير علم إذ لا مستند له إلا
أنا لا نعلم شيئا ينزل من السماء غير المطر والذي بأيدينا هيهنا عدم العلم دون العلم بالعدم. وإن تعالينا عن هذا المستوى أيضا واجتنبنا ما فيه من القول في القرآن بغير علم وأبقينا الكلام على إطلاقه التام وحكمنا أن قوله " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه " يبين أمر الخلقة غير أنا لما كنا لا نشك في أن ما نجده من الاشياء المتجددة بالخلقة كالانسان والحيوان والنبات وغيرها لا تنزل من السماء وإنما تحدث حدوثا في الارض حكمنا بأن قوله: وإن من شئ إلا عندنا خزائنه، كناية عن مطاوعة الاشياء في وجودها لارادة الله تعالى وأن الارادة بمنزلة مخزن يختزن فيه جميع الاشياء المخلوقة وإنما يخرج منه وينزل من عنده تعالى ما يتعلق به مشيته تعالى وهذا أيضا كما ترى تفسير للآية بما نراه من غير علم إذا لا مستند لنا فيه سوى أنا نجد الاشياء غير نازلة من عند الله بالمعنى الذي نعهده من النزول ولا علم لنا بغيره. وإذا تأملت ما وصفه الله تعالى في كتابه من أسماء ذاته وصفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله والقيامة وما يتعلق بها وحكم أحكامه وملاكاتها وتأملت ما نرومه في تفسيرها من إعمال القرائن العقلية وجدت أن ذلك كله من قبيل التفسير بالرأي من غير علم وتحريف لكلمه عن مواضعها. وقد تقدم في الفصل الخامس من البحث في المحكم والمتشابه أن البيانات القرآنية بالنسبة إلى المعارف الالهية كالامثال أو هي أمثال بالنسبة إلى ممثلاتها وقد فرقت في الآيات المتفرقة وبينت ببيانات مختلفة ليتبين ببعض الآيات ما يمكن أن يختفي معناه في بعض ولذلك كان بعضها شاهدا على البعض والآية مفسره للآية ولولا ذلك لاختل أمر المعارف الالهية في حقائقها ولم يمكن التخلص في تفسير الآية من القول بغير علم على ما تقدم بيانه. ومن هنا يظهر أن التفسير بالرأي كما بيناه لا يخلو عن القول بغير علم كما يشير الحديث النبوي السابق: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار.
ومن هنا يظهر أيضا أن ذلك يؤدي إلى ظهور التنافي بين الآيات القرآنية من حيث إبطاله الترتيب المعنوي الموجود في مضامينها فيؤدي إلى وقوع الآية في غير
[ 81 ]
موقعها ووضع الكلمة في غير موضعها ويلزمها تأويل بعض القرآن أو أكثر آياتها بصرفها عن ظاهرها كما يتأول المجبرة آيات الاختيار والمفوضة آيات القدر وغالب المذاهب في الاسلام لا يخلو عن التأول في الآيات القرآنية وهي الآيات التي لا يوافق ظاهرها مذهبهم فيتشبثون في ذلك بذيل التأويل استنادا إلى القرينة العقلية وهو قولهم إن الظاهر الفلاني قد ثبت خلافه عند العقل فيجب صرف الكلام عنه. وبالجملة يؤدي ذلك إلى اختلاط الآيات بعضها ببعض ببطلان ترتيبها ودفع مقاصد بعضها ببعض ويبطل بذلك المراد ان جميعا إذ لا اختلاف في القرآن فظهور الاختلاف بين الآيات - بعضها مع بعض - ليس إلا لاختلال الامر واختلاط المراد فيهما معا. وهذا هو الذي ورد التعبير عنه في الروايات بضرب بعض القرآن ببعض كما في الروايات التالية: في الكافي وتفسير العياشي عن الصادق عن أبيه عليهما السلام قال: ما ضرب رجل من القرآن بعضه ببعض إلا كفر. وفي المعاني والمحاسن مسندا وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام ما ضرب رجل من القرآن بعضه ببعض إلا كفر. قال الصدوق سألت ابن الوليد عن معنى هذا الحديث فقال: هو أن تجيب الرجل في تفسير آية بتفسير آية اخرى. أقول ما أجاب به لا يخلو عن إبهام فإن أراد به الخلط المذكور وما هو المعمول عند الباحثين في مناظراتهم من معارضة الآية بالآية وتأويل البعض بالتمسك بالبعض فحق وإن أراد به تفسير الآية بالآية والاستشهاد بالبعض للبعض فخطأ والروايتان التاليتان تدفعانه. وفي تفسير النعماني بإسناده إلى إسمعيل بن جابر قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن
محمد الصادق عليهما السلام يقول: أن الله تبارك وتعالى بعث محمدا فختم به الانبياء فلا نبي بعده وأنزل عليه كتابا فختم به الكتب فلا كتاب بعده أحل فيه حلالا وحرم
[ 82 ]
حراما فحلاله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة فيه شرعكم وخبر من قبلكم وبعدكم، وجعله النبي صلى الله عليه وآله علما باقيا في أوصيائه، فتركهم الناس وهم الشهداء على أهل كل زمان وعدلوا عنهم ثم قتلوهم، واتبعوا غيرهم ثم أخلصوا لهم الطاعة حتى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الامر وطلب علومهم، قال الله سبحانه: " فنسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم " وذلك أنهم ضربوا بعض القرآن ببعض، واحتجوا بالمنسوخ وهم يظنون أنه الناسخ، واحتجوا بالمتشابه وهم يرون أنه المحكم واحتجوا بالخاص وهم يقدرون أنه العام واحتجوا بأول الآية وتركوا السبب في تأويلها ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه ولم يعرفوا موارده ومصادره إذ لم يأخذوه عن أهله فضلوا وأضلوا. واعلموا رحمكم الله: أنه من لم يعرف من كتاب الله عز وجل الناسخ من المنسوخ والخاص من العام والمحكم من المتشابه والرخص من العزائم والمكي والمدني وأسباب التنزيل والمبهم من القرآن في ألفاظه المنقطعة والمؤلفة وما فيه من علم القضاء والقدر والتقديم والتأخير والمبين والعميق والظاهر والباطن والابتداء والانتهاء والسؤال والجواب والقطع والوصل والمستثنى منه والجار فيه والصفة لما قبل مما يدل على ما بعد والمؤكد منه والمفصل وعزائمه ورخصه ومواضع فرائضه وأحكامه ومعنى حلاله وحرامه الذي هلك فيه الملحدون والموصول من الالفاظ والمحمول على ما قبله وعلى ما بعده فليس بعالم بالقرآن ولا هو من أهله. ومتى ما ادعى معرفة هذه الاقسام مدع بغير دليل فهو كاذب مرتاب مفتر على الله
الكذب ورسوله ومأواه جهنم وبئس المصير. وفي نهج البلاغة والاحتجاج قال عليه السلام: ترد على أحدهم القضية في حكم من الاحكام فيحكم فيها برأيه ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ثم تجتمع القضاة بذلك عند الامام الذي استقضاهم فيصوب آرائهم جميعا وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد، افأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فاطاعوه ؟ أم نهاهم عنه فعصوه ؟ أم أنزل الله دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه ؟ أم كانوا شركاء فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى ؟ أم أنزل الله دينا تاما فقصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن تبليغه وأدائه ؟ والله سبحانه يقول: ما فرطنا في الكتاب من شئ وفيه تبيان كل شئ،
[ 83 ]
وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا وأنه لا اختلاف فيه فقال سبحانه: ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وإن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق لا تحصى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلا به. أقول والرواية كما ترى ناصة على أن كل نظر ديني يجب أن ينتهي إلى القرآن، وقوله فيه تبيان نقل للآية بالمعنى. وفي الدر المنثور وأخرج ابن سعد وابن الضريس في فضائله وابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج على قوم يتراجعون في القرآن وهو مغضب فقال: بهذا ضلت الامم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضرب الكتاب بعضه ببعض قال: وإن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا ولكن نزل يصدق بعضه بعضا فما عرفتم فاعملوا به وما تشابه عليكم فآمنوا به. وفيه أيضا وأخرج أحمد من وجه آخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوما يتدارئون فقال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وانما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا فلا تكذبوا بعضه ببعض
فما علمتم منه فقولوا - وما جهلتم فكلوه إلى عالمه. أقول والروايات كما ترى يعد ضرب القرآن بعضه ببعض مقابلا لتصديق بعض القرآن بعضا وهو الخلط بين الآيات من حيث مقامات معانيها والاخلال بترتيب مقاصدها كأخذ المحكم متشابها والمتشابه محكما ونحو ذلك. فالتكلم في القرآن بالرأي والقول في القرآن بغير علم كما هو موضوع الروايات المنقولة سابقا وضرب القرآن بعضه ببعضه كما هو مضمون الروايات المنقولة آنفا يحوم الجميع حول معنى واحد وهو الاستمداد في تفسير القرآن بغيره. فان قلت لا ريب أن القرآن إنما نزل ليعقله الناس ويفهموه كما قال تعالى " إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس " الزمر - 41 وقال تعالى " هذا بيان للناس " آل عمران - 138 إلى غير ذلك من الآيات ولا ريب أن مبينه هو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما قال تعالى " وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم " النحل - 44 وقد بينه للصحابة ثم أخذ عنهم التابعون فما نقلوه عنه صلى الله عليه وآله وسلم الينا فهو بيان نبوى لا يجوز
[ 84 ]
التجافي والاغماض عنه بنص القرآن وما تكلموا فيه من غير إسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو وإن لم يجر مجرى النبويات في حجيتها لكن القلب إليه أسكن فإن ما ذكروه في تفسير الآيات إما مسموع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو شئ هداهم إليه الذوق المكتسب من بيانه وتعليمه صلى الله عليه وآله وسلم وكذا ما ذكره تلامذتهم من التابعين ومن يتلوهم وكيف يخفى عليهم معاني القرآن مع تعرقهم في العربية وسعيهم في تلقيها من مصدر الرسالة واجتهادهم البالغ في فقه الدين على ما يقصه التاريخ من مساعي رجال الدين في صدر الاسلام. ومن هنا يظهر أن العدول عن طريقتهم وسنتهم والخروج من جماعتهم وتفسير آية من الآيات بما لا يوجد بين أقوالهم وآرائهم بدعة والسكوت عما سكتوا
عنه واجب. وفي ما نقل عنهم كفاية لمن أراد فهم كتاب الله تعالى فانه يبلغ زهاء الوف من الروايات وقد ذكر السيوطي أنه أنهاه إلى سبعة عشر ألف رواية عن النبي وعن الصحابة والتابعين. قلت قد مر فيما تقدم أن الآيات التي تدعو الناس عامة من كافر أو مؤمن ممن شاهد عصر النزول أو غاب عنه إلى تعقل القرآن وتامله والتدبر فيه وخاصة قوله تعالى: " أ فلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا النساء - 82 تدل دلالة واضحة على أن المعارف القرآنية يمكن أن ينالها الباحث بالتدبر والبحث ويرتفع به ما يترائى من الاختلاف بين الآيات والآية في مقام التحدي ولا معنى لارجاع فهم معاني الآيات والمقام هذا المقام إلى فهم الصحابة وتلامذتهم من التابعين حتى إلى بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن ما بينه إما أن يكون معنى يوافق ظاهر الكلام فهو مما يؤدى إليه اللفظ ولو بعد التدبر والتأمل والبحث وإما أن يكون معنى لا يوافق الظاهر ولا أن الكلام يؤدي إليه فهو مما لا يلائم التحدي ولا تتم به الحجة وهو ظاهر. نعم تفاصيل الاحكام مما لا سبيل إلى تلقيه من غير بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما أرجعها القرآن إليه في قوله تعالى: " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " الحشر - 7 وما في معناه من الآيات وكذا تفاصيل القصص والمعاد مثلا.
[ 85 ]
ومن هنا يظهر أن شأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المقام هو التعليم فحسب والتعليم إنما هو هداية المعلم الخبير ذهن المتعلم وإرشاده إلى ما يصعب عليه العلم به والحصول عليه لا ما يمتنع فهمه من غير تعليم فإنما التعليم تسهيل للطريق وتقريب للمقصد لا ايجاد للطريق وخلق للمقصد والمعلم في تعليمه إنما يروم ترتيب المطالب العلمية ونضدها على
نحو يستسهله ذهن المتعلم ويأنس به فلا يقع في جهد الترتيب وكد التنظيم فيتلف العمر وموهبة القوة أو يشرف على الغلط في المعرفة. وهذا هو الذي يدل عليه أمثال قوله تعالى: " وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم الآية " النحل - 44 وقوله تعالى " ويعلمهم الكتاب والحكمة " الجمعه - 2 فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما يعلم الناس ويبين لهم ما يدل عليه القرآن بنفسه ويبينه الله سبحانه بكلامه ويمكن للناس الحصول عليه بالاخرة لانه صلى الله عليه وآله وسلم يبين لهم معاني لا طريق إلى فهمها من كلام الله تعالى فإن ذلك لا ينطبق البتة على مثل قوله تعالى " كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون " حم السجدة - 3 وقوله تعالى وهذا لسان عربي مبين " النحل - 103. على أن الاخبار المتواترة عنه صلى الله عليه وآله وسلم المتضمنة لوصيته بالتمسك بالقرآن والاخذ به وعرض الروايات المنقولة عنه صلى الله عليه وآله وسلم على كتاب الله لا يستقيم معناها إلا مع كون جميع ما نقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يمكن استفادته من الكتاب ولوتوقف ذلك على بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان من الدور الباطل وهو ظاهر. على أن ما ورد به النقل من كلام الصحابة مع قطع النظر عن طرقه لا يخلو عن الاختلاف فيما بين الصحابة أنفسهم بل عن الاختلاف فيما نقل عن الواحد منهم على ما لا يخفى على المتتبع المتأمل في أخبارهم والقول بأن الواجب حينئذ أن يختاروا أحد الاقوال المختلفة المنقولة عنهم في الآية ويجتنب عن خرق إجماعهم والخروج عن جماعتهم مردود بأنهم أنفسهم لم يسلكوا هذا الطريق ولم يستلزموا هذا المنهج ولم يبالوا بالخلاف فيما بينهم فكيف يجب على غيرهم أن يقفوا على ما قالوا به ولم يختصوا بحجية قولهم على غيرهم ولا بتحريم الخلاف على غيرهم دونهم. على أن هذا الطريق وهو الاقتصار على ما نقل من مفسري صدر الاسلام من
[ 86 ]
الصحابة والتابعين في معاني الآيات القرآنية يوجب توقف العلم في سيره وبطلان
البحث في أثره كما هو مشهود في ما بأيدينا من كلمات الاوايل والكتب المؤلفة في التفسير في القرون الاولى من الاسلام ولم ينقل منهم في التفسير إلا معان ساذجة بسيطة خالية عن تعمق البحث وتدقيق النظر فأين ما يشير إليه قوله تعالى " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ " النحل - 89 من دقائق المعارف في القرآن ؟ وأما استبعاد أن يختفى عليهم معاني القرآن مع ما هم عليه من الفهم والجد والاجتهاد فيبطله نفس الخلاف الواقع بينهم في معاني كثير من الآيات والتناقض الواقع في الكلمات المنقولة عنهم إذ لا يتصور اختلاف ولا تناقض إلا مع فرض خفاء الحق واختلاط طريقه بغيره. فالحق أن الطريق إلى فهم القرآن الكريم غير مسدود وإن البيان الالهي والذكر الحكيم بنفسه هو الطريق الهادي إلى نفسه أي انه لا يحتاج في تبيين مقاصده إلى طريق فكيف يتصور أن يكون الكتاب الذي عرفه الله تعالى بأنه هدى وأنه نور وأنه تبيان لكل شئ مفتقرا إلى هاد غيره ومستنيرا بنور غيره ومبينا بأمر غيره ؟ فإن قلت: قد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في آخر خطبة خطبها: إني تارك فيكم الثقلين - الثقل الاكبر والثقل الاصغر - فأما الاكبر فكتاب ربي - وأما الاصغر فعترتي أهل بيتي - فاحفظوني فيهما فلن تضلوا ما تمسكتم بهما رواه الفريقان بطرق متواترة عن جم غفير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنه أنهى علماء الحديث عدتهم إلى خمس وثلاثين صحابيا وفي بعض الطرق لن يفترقا حتى يردا على الحوض والحديث دال على حجية قول أهل البيت عليهم السلام في القرآن ووجوب اتباع ما ورد عنهم في تفسيره والاقتصار على ذلك وإلا لزم التفرقة بينهم وبينه. قلت ما ذكرناه في معنى اتباع بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم آنفا جار هيهنا بعينه والحديث غير مسوق لابطال حجية ظاهر القرآن وقصر الحجية على ظاهر بيان أهل البيت عليهم السلام كيف وهو صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لن يفترقا فيجعل الحجية لهما معا
فللقرآن الدلالة على معانيه والكشف عن المعارف الالهية ولاهل البيت الدلالة على الطريق وهداية الناس إلى أغراضه ومقاصده.
[ 87 ]
على أن نظير ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوة الناس إلى الاخذ بالقرآن والتدبر فيه وعرض ما نقل عنه عليه وارد عن أهل البيت عليهم السلام. على أن جما غفيرا من الروايات التفسيرية الواردة عنهم عليهم السلام مشتملة على الاستدلال بآية على آية والاستشهاد بمعنى على معنى ولا يستقيم ذلك إلا بكون المعنى مما يمكن أن يناله المخاطب ويستقل به ذهنه لوروده من طريقه المتعين له. على أن هيهنا روايات عنهم عليهم السلام تدل على ذلك بالمطابقة كما رواه في المحاسن بإسناده عن أبى لبيد البحراني عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: فمن زعم أن كتاب الله مبهم فقد هلك وأهلك. ويقرب منه ما فيه وفي الاحتجاج عنه عليه السلام قال: إذا حدثتكم بشئ - فاسألوني عنه من كتاب الله الحديث. وبما مر من البيان يجمع بين أمثال هذه الاحاديث الدالة على إمكان نيل المعارف القرآنية منه وعدم احتجابها من العقول وبين ما ظاهره خلافه كما في تفسير العياشي عن جابر قال قال أبو عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن للقرآن بطنا وللبطن ظهرا - ثم قال يا جابر وليس شئ أبعد من عقول الرجال منه - إن الآية لتنزل أولها في شئ وأوسطها في شئ وآخرها في شئ وهو كلام متصل ينصرف على وجوه وهذا المعنى وارد في عدة روايات وقد رويت الجملة أعني قوله وليس شئ أبعد " إلخ " في بعضها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد روي عن علي عليه السلام: أن القرآن حمال ذو وجوه الحديث فالذي ندب إليه تفسيره من طريقه والذي نهى عنه تفسيره من غير طريقه وقد تبين أن المتعين في التفسير الاستمداد بالقرآن على فهمه وتفسير الآية بالآية وذلك بالتدرب بالآثار المنقولة عن النبي وأهل بيته صلى الله عليه وعليهم وتهيئة ذوق مكتسب منها ثم الورود
والله الهادي = ان الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا = وأولئك هم وقود النار (10) - كدأب آل فرعون والذين من قبلهم
[ 88 ]
كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب (11) - قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد (12) - قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لاولي الابصار (13) - زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعام والحرث ذلك متاع الحيوة الدنيا والله عنده حسن المئاب (14) - قل أنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد (15) - الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار (16) - الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالاسحار (17) - شهد الله أنه لا إله إلا هو والملئكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم (18). = بيان = قد تقدم أن المسلمين عند نزول السورة كانوا مبتلين في داخل جماعتهم بالمنافقين وآخرين سماعين لهم ولما يلقيه إليهم أعداء الاسلام من النزعات والوساوس لتقليب
[ 89 ]
الامور عليهم وإفساد دعوتهم ومبتلين في خارج جمعهم بثوران الدنيا عليهم وانتهاض
المشركين واليهود والنصارى لابطال دعوتهم وإخماد نارهم وإطفاء نورهم بأى وسيلة أمكنت من لسان أو يد وأن غرض السورة دعوتهم إلى توحيد الكلمة وإلى الصبر والثبات ليصلح بذلك أمرهم وينقطع ما نشأ من الفساد في داخل جوهم وما يطرأ ويهجم عليهم منه من خارجه. وقد كانت الآيات السابقة أعني قوله تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب إلى قوله تعالى إن الله لا يخلف الميعاد تعريضا للمنافقين والزائغين قلبا ودعوة للمسلمين إلى التثبت فيما فهموه من معارف الدين والتسليم والايمان فيما اشتبه لهم ولم يفتهموه من كنهه وحقيقته بالتنبيه على أن شر ما يفسد أمر الدين ويجر المسلمين إلى الفتنة واختلال نظام السعادة هو اتباع المتشابهات وابتغاء التأويل فيتحول بذلك الهداية الدينية إلى الغي والضلال ويتبدل به الاجتماع افتراقا والشمل شتاتا. ثم وقع التعرض في هذه الآيات لحال الكفار والمشركين وأنهم سيغلبون وليسوا بمعجزين لله سبحانه ولا ناجحين في عتوهم بالتنبيه على أن الذي أوجب ضلالهم والالتباس عليهم هو ما زين لهم من مشتهيات الدنيا فزعموا بما رزقوا من مالها وولدها أن ذلك مغن لهم من الله سبحانه شيئا وقد أخطأوا في زعمهم فالله سبحانه هو الغالب في أمره ولو كان المال والاولاد وما أشبهها مغنية من الله شيئا لاغنت آل فرعون ومن قبلهم من الامم الظالمة اولي الشوكة والقدرة لكنها لم تغن عنهم شيئا وأخذهم الله بذنوبهم فكذلك هؤلاء سيغلبون ويؤخذون فمن الواجب على المؤمنين أن يتقوا الله في هذه المشتهيات حتى ينالوا بذلك سعادة الدنيا وثواب الآخرة ورضوان ربهم سبحانه. فالآيات كما تعطيه مضامينها متعرضة لحال الكفار كما أن الآيات التالية لهذه الآيات متعرضة لحال أهل الكتاب من اليهود والنصارى على ما سيأتي. قوله تعالى إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أغنى عنه ماله من فلان أي أعطاه الغنى ورفع حاجته فلا حاجة به إليه والانسان في
بادي تكونه وشعوره يرى نفسه محتاجة إلى الخارج منه وهذا أول علمه الفطري إلى احتياجه إلى الصانع المدبر ثم إنه لما توسط في الاسباب وأحس بحوائجه بدء بإحساس الحاجة إلى كماله البدني النباتي وهو الغذاء والولد ثم عرفت له نفسه سائر الكمالات
[ 90 ]
الحيوانية وهي التي يزينها له الخيال من زخارف الدنيا من زينة الملبس والمسكن والمنكح وغير ذلك وعندئذ يتبدل طلب الغذاء إلى طلب المال الذي يظنه مفتاحا لحل جميع مشكلات الحيوة لان العادة الغالبة تجري على ذلك فيظن أن سعادة حيوته في المال والولد بعد ما كان يظن أن ضامن سعادته هو الغذاء والولد ثم انكباب نفسه على مشتهياته وقصر همه على الاسباب يوجب أن يقف قلبه عند الاسباب ويعطي لها الاستقلال وحينئذ ينسى ربه ويتشبث بذيل المال والولد وفي هذا الجهل هلاكه فإنه يستر به آيات ربه ويكفر بها وقد التبس عليه الامر فإن ربه هو الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا يستغني عنه شئ بحال ولا يغني عنه شي بحال. وبهذا البيان يظهر وجه تقديم الاموال على الاولاد في الآية فإن الركون إلى المال وقد عرفت أن الاصل فيه الغذاء أقدم عند الانسان من الركون إلى الاولاد وأعرف منه وإن كان حب الولد ربما غلب عند الانسان على حب المال. وفي الآية إيجاز شبيه دفع الدخل والتقدير إن الذين كفروا كذبوا بآياتنا وزعموا أن أموالهم وأولادهم تغنيهم من الله وقد أخطأوا فلا غنى من الله سبحانه في وقت ولا في شئ على ما تدل عليه الآية التالية. قوله تعالى واولئك هم وقود النار الوقود بفتح الواو ما توقد به النار وتشتعل والآية جارية مجرى قوله تعالى: " فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة " البقرة - 24 وقوله تعالى " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " الانبياء - 98 وقد مر بعض الكلام في معنى ذلك في سورة البقرة.
والاتيان بالجملة الاسمية والابتداء باسم الاشارة وكونه دالا على البعد وتوسيط ضمير الفصل وإضافه الوقود إلى النار دون أن يقال وقود كل ذلك يؤكد ظهور الكلام في الحصر ولازمه كون المكذبين من الكفار هم الاصل في عذاب النار وإيقاد جهنم وإن غيرهم إنما يحترقون بنارهم ويتأيد بذلك ما سيأتي بيانه في قوله تعالى " ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض الآية " الانفال - 37. قوله تعالى كدأب آل فرعون والذين من قبلهم إلى آخر الآية الدأب على ما ذكروه هو السير المستمر قال تعالى " وسخر لكم الشمس والقمر دائبين " إبراهيم - 33
[ 91 ]
ومنه تسمية العادة دأبا لانه سير مستمر وهذا المعنى هو المراد في الآية. وقوله كدأب متعلق بمقدر يدل عليه قوله في الآية السابقة لن تغني عنهم ويفسر الدأب قوله كذبوا بآياتنا وهو في موضع الحال وتقدير الكلام كما مرت إليه الاشارة إن الذين كفروا كذبوا بآياتنا واستمروا عليها دائبين فزعموا أن في أموالهم وأولادهم غنى لهم من الله كدأب آل فرعون ومن قبلهم وقد كذبوا بآياتنا. وقوله فأخذهم الله بذنوبهم ظاهر الباء أنها تفيد السببية يقال أخذته بذنبه أي بسبب ذنبه لكن مقتضى المحاذاة التي بين الآيتين وقياسه حال هؤلاء الذين كفروا في دأبهم على آل فرعون والذين من قبلهم في دأبهم أن يكون الباء للآلة فإنه ذكر في الذين كفروا أنهم وقود النار تشتعل عليهم أنفسهم ويعذبون بها فكذلك آل فرعون ومن قبلهم إنما أخذوا بذنوبهم وكان العذاب الذي حل بساحتهم هو عين الذنوب التي اذنبوها وكان مكرهم هو الحائق بهم وظلمهم عائدا إليهم قال تعالى " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " الفاطر - 43 وقال تعالى وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " البقرة - 57. ومن هنا يتبين معنى كونه شديد العقاب فإن عقابه تعالى لا يقصد الانسان ولا يتوجه إليه من جهة دون جهة وفي محل دون محل وعلى شرط دون شرط كما
أن عقاب غيره كذلك فإن الشر الذي يوجهه إلى الانسان مثله مثلا إنما يتوجه إليه من بعض الجهات دون بعض كفوق وتحت وفي بعض الاماكن دون بعض فيدفع بالفرار والتوقي والالتجاء مثلا وهذا بخلاف عقابه تعالى فإنه يأخذ الانسان بعمله وذنبه وهو مع الانسان في باطنه وظاهره من غير أن ينفك عنه ويجعل الانسان وقودا لنار أحاط به سرداقها ولا ينفعه فرار ولا قرار ولا يوجد منه مناص ولا خلاص فهو شديد العقاب. وفي قوله تعالى كذبوا بآياتنا فأخذهم الله التفات من الغيبة إلى الحضور أولا ثم من الحضور إلى الغيبة ثانيا أما قوله كذبوا بآياتنا ففيه تنشيط لذهن السامع وتقريب للخبر إلى الصدق فإنه بمنزلة أن يقول القائل إن فلانا بذي فحاش سيئ المحاضرة وقد ابتليت به فيجب الاجتناب عن معاشرته فجملة وقد ابتليت به
[ 92 ]
تصحيح للخبر وإثبات لصدقه بإرجاعه إلى الدراية ونحو من الشهادة. فالمعنى والله أعلم أن آل فرعون كانوا دائبين على دأب هؤلاء الذين كفروا في الكفر وتكذيب الآيات ولا ريب في هذا الخبر فإنا كنا حاضرين شاهدين وقد كذبوا بآياتنا نحن فأخذناهم. وأما قوله فأخذهم الله فهو رجوع بعد استيفاء المقصود إلى الاصل في الكلام وهو اسلوب الغيبة وفيه مع ذلك اإجاع الحكم إلى مقام الالوهية القائمة بجميع شئون العالم والمهيمنة على كل ما دق وجل ولذلك كرر لفظ الجلالة ثانيا في قوله والله شديد العقاب ولم يقل وهو شديد العقاب للدلالة على أن كفرهم وتكذيبهم هذا منازعة ومحاربة مع من له جلال الالوهية ويهون عليه أخذ المذنب بذنبه وهو شديد العقاب لانه الله جل اسمه. قوله تعالى قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى آخر الآية الحشر هو
اخراج الجماعة عن مقرهم بالازعاج ولا يستعمل في الواحد قال تعالى " وحشرناهم فلم نغادر منهم احدا " الكهف - 47 والمهاد هو الفراش وظاهر السياق أن المراد بالذين كفروا هم المشركون كما انه ظاهر الآية السابقة إن الذين كفروا لن تغني عنهم " الخ " دون اليهود وهذا هو الانسب لاتصال الآيتين حيث تذكر هذه الآية الغلبظة عليهم وحشرهم إلى جهنم وقد أشارت الآية السابقة إلى تقويم و تعززهم بالاموال والاولاد. قوله تعالى قد كان لكم آية في فئتين التقتا ظاهر السياق أن يكون الخطاب للذين كفروا والكلام من تتمة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ستغلبون وتحشرون " الخ " ومن الممكن أن يكون خطابا للمؤمنين بدعوتهم إلى الاعتبار والتفكر بما من الله عليهم يوم بدر حيث أيدهم بنصره تأييدا عجيبا بالتصرف في إبصار العيون وعلي هذا يكون الكلام مشتملا على نوع من الالتفات بتوسعة خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله " قل للذين " بتوجيهه إليه وإلى من معه من المؤمنين لكن السياق كما عرفت للاول انسب. والآية بما تشتمل عليه من قصة التقاء الفئتين ونصره تعالى للفئة المقاتلة في سبيل الله وان لم تتعرض بتشخيص القصة وتسمية الوقعة غير أنها قابلة الانطباق على وقعه بدر والسورة نازلة بعدها بل وبعد احد.
[ 93 ]
على أن الآية ظاهرة في أن هذه القصة كانت معهودة عند المخاطبين بهذه الخصوصية وهم على ذكر منها حيث يقول قد كان لكم آية الخ ولم يقص تعالى قصة يذكر فيها التصرف في أبصار المقاتلين غير قصة بدر والذي ذكره في قصة بدر في سورة الانفال من قوله تعالى وإذ يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الامور الانفال - 44 وإن كان هو التقليل دون التكثير لكن لا يبعد أن يكون قد قلل فيها المؤمنين في أعين المشركين ليجترئوا عليهم ولا يتولوا عن المقارعة ثم كثرهم في أعينهم بعد التلاقي
والاختلاط لينهزموا بذلك. وكيف كان فالمعتمد ما كان في ذكرهم من التكثير في العيون فعلى تقدير أن يكون الخطاب في الآية متوجها إلى المشركين لا تنطبق الآية على غير وقعة بدر على أن قرائة ترونهم بالتاء أيضا تؤيد ما ذكرناه. فمحصل معنى الآية أنكم أيها المشركون لو كنتم من اولى الابصار والبصائر لكفاكم في الاعتبار والدلالة على أن الغلبة للحق وأن الله يؤيد بنصره من يشاء ولا يغلب بمال ولا ولد ما رأيتموه يوم بدر فقد كان المؤمنون مقاتلين في سبيل الله سبحانه وقد كانوا فئة قليلة مستذلين لا يبلغون ثلث الفئة الكافرة ولا يقاسون بهم قوة كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ليس لهم إلا ستة أدرع وثمانية سيوف وفرسان وكان جيش المشركين قريبا من ألف مقاتل لهم من العدة والقوة والخيل والجمال والهيئة ما لا يقدر بقدر فنصر الله المؤمنين على قلتهم وذلتهم على أعدائه وكثرهم في أعينهم فكانوا يرونهم مثليهم رأى العين وأيدهم الملائكة فلم ينفع المشركين ما كانوا يتعززون به من أموال وأولاد ولم يغنم جمعهم ولا كثرتهم وقوتهم من الله شيئا. وقد ذكر الله سبحانه دأب آل فرعون والذين من قبلهم في تكذيب آيات الله وأخذهم بذنوبهم في سورة الانفال عند ذكر القصة مرتين ما ذكره هيهنا بعينه. وفي موعظتهم بتذكير وقعة بدر إيماء إلى أن المراد بالغلبة في الآيات السابقة الغلبة بالقتل والابادة ففى آياته تهديد بالقتال. قوله تعالى فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة لم يقل وأخرى في سبيل
[ 94 ]
الشيطان أو في سبيل الطاغوت ونحو ذلك لان الكلام غير مسوق للمقايسة بين السبيلين بل لبيان أن لا غنى من الله تعالى وأن الغلبة له فالمقابلة بالحقيقة بين الايمان بالله والجهاد في سبيله وبين الكفر به تعالى
والظاهر من السياق أن الضميرين في قوله يرونهم مثليهم راجعان إلى قوله فئة تقاتل أي الفئة الكافرة يرون المؤمنين مثلى المؤمنين فهم يرونهم ستمائة وستة وعشرين ولقد كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا وأما احتمال اختلاف الضميرين مرجعا بأن يكون المعنى يرون المؤمنين مثلى عدد الكافرين فبعيد عن اللفظ وهو ظاهر. وربما احتمل أن يكون الضميران راجعين إلى الفئة الكافرة ويكون المعنى يرى الكافرون أنفسهم مضاعفة مثلي عددهم (يرون الالف ألفين) ولازمه تقليلهم المؤمنين في النسبة فكانوا يرونهم سدس أنفسهم عددا مع كونهم ثلثا لهم في النسبة وذلك ليطابق ما ذكره في هذه الآية قوله تعالى في قصة بدر وإذ يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم: الانفال - 44 فإن الآية تنافي الآية. وأجيب بإن ذلك يؤدي إلى اللبس غير اللائق بأبلغ الكلام بل كان من اللازم عليهذا أن يقال يرون أنفسهم مثليهم أو ما يؤدي ذلك وأما التنافي بين الآيتين فإنما يتحقق مع اتحاد المؤقف والمقام ولا دليل على ذلك لامكان أن يقلل الله سبحانه كلا من الطائفتين في عين صاحبتها في بدء التلاقي لتشد بذلك قلوبهم وتزيد جرأتهم حتى إذا نشبت المقارعة وحمي الوطيس رأي الكافرون المؤمنين مثلى عددهم فانهزموا بذلك وولوا الادبار وهذا نظير قوله تعالى في وصف يوم القيامة " لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان الرحمن - 39 مع قوله وقفوهم إنهم مسئولون " الصافات - 24 وليس إلا أن الموقف غير الموقف. وفي شأن الضميرين أعني في قوله يرونهم مثليهم احتمالات أخر ذكروها غير أن الجميع تشترك في كونها خلاف ظاهر اللفظ ولذلك تركنا ذكرها والله العالم. قوله تعالى والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لاولي الابصار التأييد من الايد وهو القو ة والمراد بالابصار قيل هو العيون الظاهرية لكون الآية
مشتملة على التصرف في رؤية العيون وقيل هو البصائر لان العبرة إنما تكون
[ 95 ]
بالبصيرة القلبية دون البصر الظاهري والامر هين فإن الله سبحانه في كلامه يعد من لا يعتبر بالعبر والمثلات أعمى ويذكر أن العين يجب أن تبصر وتميز الحق من الباطل وفي ذلك دعوى أن الحق الذي يدعو إليه ظاهر متجسد محسوس يجب أن يبصره البصر الظاهر وأن البصيرة والبصر في مورد المعارف الالهية واحد (بنوع من الاستعارة) لنهاية ظهورها ووضوحها والآيات في ذلك كثيرة جدا ومن أحسنها دلالة على ما ذكرنا قوله تعالى " فإنها لاتعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " الحج - 46 أي أن الابصار إنما هي في القلوب دون الرؤوس وقوله تعالى ولهم أعين لا يبصرون بها " الاعراف - 179 والآية في مقام التعجيب وقوله تعالى " وجعل على بصره غشاوة " الجاثية - 23 إلى غير ذلك من الآيات فالمراد بالابصار فيما نحن فيه هو العيون الظاهرية بدعوى أنها هي التي تعتبر وتفهم فهو من الاستعارة بالكناية والنكتة فيه ظهور المعنى كأنه بالغ حد الحس ويزيد في لطفه أن المورد يتضمن التصرف في رؤية العين الظاهرة. وظاهر قوله إن في ذلك " إلخ " أنه تتمة لكلامه تعالى الذي يخاطب به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس تتمة لقول النبي المدلول عليه بقوله قل للذين كفروا إلخ والدليل عليه الكاف في قوله ذلك فإنه خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيهذا العدول إلى الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إيماء إلى قلة فهمهم وعمى قلوبهم أن يعتبروا بأمثال هذه العبر. قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء إلخ الآية وما يتلوها بمنزلة البيان وشرح حقيقة الحال لما تقدم من قوله تعالى آنفا إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا إلخ إذ يظهر منه أنهم يعتقدون الاستغناء بالاموال والاولاد من الله سبحانه فالآية تبين أن سبب ذلك أنهم انكبوا على حب
هذه المشتهيات وانقطعوا إليها عن ما يهمهم من أمر الآخرة وقد اشتبه عليهم الامر فإن ذلك متاع الحيوة الدنيا ليس لها الا انها مقدمة لنيل ما عند الله من حسن المآب مع أنهم غير مبدعين في هذا الحب والاشتهاء ولا مبتكرون بل مسخرون بالتسخير الالهي بتغريز أصل هذا الحب فيهم ليتم لهم الحيوة الارضية فلو لا ذلك لم يستقم أمر النوع الانساني في حيوته وبقائه بحسب ما قدره الله سبحانه من أمرهم حيث قال ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين " البقرة - 36.
[ 96 ]
وإنما قدر لهم ذلك ليتخذوها وسيلة إلى الدار الآخرة ويأخذوا من متاع هذه ما يتمتعون به في تلك لا لينظروا إلى ما في الدنيا من زخرفها وزينتها بعين الاستقلال وينسوا بها ما ورائها ويأخذوا الطريق مكان المقصد في عين أنهم سائرون إلى ربهم قال تعالى " إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا " الكهف - 8. إلا أن هؤلاء المغفلين أخذوا هذه الوسائل الظاهرة الالهية التي هي مقدمات وذرائع إلى رضوان الله سبحانه امورا مستقلة في نفسها محبوبة لذاتها وزعموا أنها تغني عنهم من الله شيئا فصارت نقمة عليهم بعد ما كانت نعمة ووبالا بعد ما كانت مثوبة مقربة قال تعالى " إنما مثل الحيوة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض مما يأكل الناس والانعام حتى إذا أخذت الارض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالامس إلى أن قال ويوم يحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركائكم فزيلنا بينهم إلى أن قال وردوا إلى الله موليهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون " يونس - 30 تشير الآيات إلى أن أمر الحيوة وزينتها بيده تعالى لا ولي لها دونه لكن الانسان باغتراره بظاهرها يظن أن أمرها إليه وأنه قادر على تدبيرها وتنظيمها فيتخذ لنفسه فيها
شركاء - كالاصنام وما بمعناها من المال والولد وغيرهما إن الله سيوقفه على زلته فيذهب هذه الزينة ويزيل الروابط التي بينه وبين شركائه وعند ذلك يضل عن الانسان ما افتراه على الله من شريك في التأثير ويظهر له معنى ما علمه في الدنيا وحقيقته ورد إلى الله موليه الحق. وهذا التزين أعني ظهور الدنيا للانسان بزينة الاستقلال وجمال الغاية والمقصد لا يستند إلى الله سبحانه فإن الرب العليم الحكيم أمنع ساحة من أن يدبر خلقه بتدبير لا يبلغ به غايته الصالحة وقد قال تعالى " إن الله بالغ أمره " الطلاق - 3 وقال تعالى " والله غالب على أمره " يوسف - 21 بل إن استند فإنما يستند إلى الشيطان قال تعالى " وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون " الانعام - 43 وقال تعالى " وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم " الانفال - 48. نعم لله سبحانه الاذن في ذلك ليتم أمر الفتنة وتستقيم التربية كما قال تعالى
[ 97 ]
" أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون " العنكبوت - 4 وعلي هذا الاذن يمكن أن يحمل قوله تعالى: " كذلك زينا لكل امة عملهم ": الانعام - 108 وإن أمكن أيضا أن يحمل على ما مر من معنى التزيين المنسوب إليه تعالى في قوله تعالى " إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا " الكهف - 7. وبالجملة التزيين تزيينان تزيين للتوسل بالدنيا إلى الآخرة وابتغاء مرضاته في مواقف الحياة المتنوعة بالاعمال المختلفة المتعلقة بالمال والجاه والاولاد والنفوس وهو سلوك إلهي حسن نسبه الله تعالى إلى نفسه كما مر من قوله إنا جعلنا ما على الارض زينة لها الآيات وكقوله تعالى " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات
من الرزق " الاعراف - 32. وتزيين لجلب القلوب وإيقافها على الزينة وإلهائها عن ذكر الله وهو تصرف شيطاني مذموم نسبه الله سبحانه إلى الشيطان وحذر عباده عنه كما مر من قوله تعالى " وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون الآية وقوله تعالى فيما يحكيه من قول الشيطان " قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الارض ولاغوينم أجمعين " الحجر - 39 وقوله تعالى " زين لهم سوء أعمالهم " التوبة - 37 إلى غير ذلك من الآيات. وهذا القسم ربما نسب إليه تعالى من حيث أن الشيطان وكل سبب من أسباب الخير أو الشر إنما يعمل ما يعمل ويتصرف في ملكه ما يتصرف بإذنه لينفذ ما أراده وشاءه وينتظم بذلك أمر الصنع والايجاد ويفوز الفائزون بحسن إرادتهم واختيارهم ويمتاز المجرمون. وبما مر من البيان يظهر أن المراد من فاعل التزيين المبهم في قوله: زين للناس حب الشهوات إلخ ليس هو الله سبحانه فإن التزيين المذكور وإن كان له نسبة إليه تعالى سواء كان تزيينا صالحا لان يدعو إلى عبادته تعالى وهو المنسوب إليه بالاستقامة أو تزيينا ملهيا عن ذكره تعالى وهو المنسوب إليه بالاذن لكن لاشتمال الآية على ما
[ 98 ]
لا ينسب إليه مستقيما كما يجئ بيانه كان الاليق بأدب القرآن أن ينسب إلى غيره تعالى كالشيطان أو النفس. ومن هنا يظهر صحه ما ذكره بعض المفسرين أن فاعل زين هو الشيطان لان حب الشهوات أمر مذموم وكذا حب كثرة المال مذموم وقد خص تعالى بنفسه ما ذكره في آخر الآية وفي ما يتلوها. ويظهر به فساد ما ذكره بعضهم أن الكلام في طبيعة البشر والحب الناشي فيها ومثله لا يسند إلى الشيطان بحال وإنما يسند إليه ما هو قبيل الوسوسة التي تزين
للانسان عملا قبيحا. قال: ولذلك لم يسند إليه القرآن إلا تزيين الاعمال قال تعالى " وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم " وقال " وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون " وأما الحقائق وطبائع الاشياء فلا تسند إلا إلى الخالق الحكيم الذي لا شريك له قال عز وجل " إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا " وقال " كذلك زينا لكل امة عملهم " فالكلام في الامم كلام في طبائع الاجتماع انتهى. وجه الفساد أنه وإن أصاب في قوله إن الحقائق وطبائع الاشياء لا تسند إلا إلى الخالق الحكيم الذي لا شريك له لكنه أخطا في قوله إن الكلام في طبيعة البشر وما ينشا منها بحسب الطبع وذلك أن السورة كما علمت في مقام بيان أن الله سبحانه هو القيوم على خلقه في جميع ما هم عليه من الخلق والتدبير والايمان والكفر والاطاعة والعصيان خلق الخلق وهداهم إلى سعادتهم وأن الذين نافقوا في دينه من المنافقين أو كفروا بأياته من الكافرين أو بغوا بالاختلاف في كتابه من أهل الكتاب وبالجملة الذين أطاعوا الشيطان واتبعوا الهوى ليسوا بمعجزين لله غالبين عليه مفسدين لقيمومته بل الجميع راجع إلى قدره وتدبيره أمر خلقه في تحكيم ناموس الاسباب لتقوم بذلك سنه الامتحان فهو الخالق للطبائع وقواها وميولها وأفعالها لتسلك بها إلى جوار ربها جوار القرب والكرامة وهو الذي أذن لابليس ولم يمنعه من الوسوسة والنزعة ولم يمنع الانسان من اتباعه باتباع الهوى ليتم أمر الامتحان وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منهم شهداء وإنما بين ذلك في هذه السورة ليتسلى بذلك نفوس المؤمنين ويطيب بذلك قلوبهم بما هم عليه عند نزول السورة من العسرة والشدة والابتلاء من الداخل بنفاق المنافقين وجهالة
[ 99 ]
الذين في قلوبهم مرض بإفساد الامور وتقليبها عليهم والتقصير في طاعة الله ورسوله ومن الخارج بالدعوة الشاقة الدينية ووثوب الكفار من العرب عليهم من جانب وأهل
الكتاب واليهود منهم خاصه من جانب آخر وتهديد الكفار كالروم والعجم بالقوة والعدة من جانب آخر وهؤلاء الكافرون ومن يحذو حذوهم اشتبه عليهم الامر في الركون إلى الدنيا وزخارفها حيث أخذوها غاية وهي مقدمة والغاية أمامها. فالسورة كما ترى تبحث عن طبائع الامم لكن بنحو وسيع يشمل جهات خلقهم وتكوينهم وجميع ما يتعقب ذلك في مسير حيوتهم من الخصائل وأعمال السعادة والشقاوة والطاعة والمعصية فتبين أن ذلك كله تحت قيمومته تعالى لا يقهر في قدرته ولا يغلب في أمره لا في الدنيا ولا في الآخرة أما في الدنيا فإنما هو إذن وامتحان وأما في الآخرة فإنما هو الجزاء إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وكذلك الآيات أعني قوله إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم إلى تمام تسع آيات في مقام بيان أن الكفار وإن كذبوا آيات ربهم وبدلوا نعم الله التي أنعمها عليهم ليتوسلوا بها إلى رضوانه وجنته فركنوا واعتمدوا عليها واستغنوا بها عن ربهم ونسوا مقامه ليسوا بمعجزين ولا غالبين فسيأخذهم الله بنفس أعمالهم ويؤيد عباده المؤمنين عليهم وسيحشرهم إلى جهنم وبئس المهاد وهم مع ذلك غالطون في الركون إلى ما ليس إلا متاعا في الحياة الدنيا وعند الله حسن المآب فالآيات أيضا تبحث عن طبيعة الكفار لكن بنحو وسيع يشمل الصالح والطالح من أعمالهم. على أن الآية التي ذكرها هذا القائل مستشهدا بها على أن الحقائق لا تسند إلا إلى الله وإنما يسند إلى الشيطان الاعمال أعنى قوله تعالى " كذلك زينا لكل أمة عملهم " يدل بما حف عليه من القرائن على خلاف ذلك ويؤيد ما ذكرناه وهو قوله تعالى " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون " الانعام - 108 وهو ظاهر. وكذا يظهر فساد ما ذكره بعضهم أن التزيين على قسمين محمود ومذموم والاعمال نوعان حسنة وسيئة وإنما يسند إلى الله سبحانه ما هو منها محمود ممدوح حسن والباقي للشيطان
[ 100 ]
وهو وإن كان حقا من وجه ولكنه إنما يصح في النسبة المستقيمة التي يعبر عنه بالفعل ونحوه فالله سبحانه لا يفعل إلا الجميل ولا يأمر بالسوء والفحشاء وأما النسبة غير المستقيمة وبالواسطة التي يعبر عنه بالاذن ونحوه فلا مانع عنها ولولا ذلك لم يستقم ربوبيته لكل شئ وخلقه لكل شئ وملكه لكل شئ وانتفاء الشريك عنه على الاطلاق والقرآن مشحون من هذه النسبة كقوله تعالى " يضل من يشاء " الرعد - 27 وقوله " أزاغ الله قلوبهم " الصف - 5 وقوله " الله يستهزء بهم ويمدهم في طغيانهم " البقرة - 15 وقوله " أمرنا مترفيها ففسقوا " الاسراء - 16 إلى غير ذلك من الآيات، ولم ينشأ خطأهم هذا إلا من جهة ما قصروا في البحث عن روابط الاشياء وآثارها وأفعالها فحسبوا كل واحد من هذه الامور الموجودة أمرا مستقل الوجود منقطع الذات عما يحتف به من مجموعة الاشياء وقبيل المصنوعات وما يتقدم عليها وما يتأخر عنها. ولزم ذلك أن يضعوا الحوادث التي هي نتائج تفاعل الاسباب والعلل على ما فطرها الله عليه في مسير السببية متقطعة متفرقة غير متصلة ولا مرتبطة فكانت كل حادثة حدثت عن أسبابها وكل فعل فعله فاعله منقطع الوجود عن غيره مملوكا لصاحبه ليس لغير سببه المتصل به فيه نصيب ولا في حدوثه حظ فأجرام تدور وبحر تسري وفلك تجري وأرض تقل ونبات ينبت وحيوان يدب وإنسان يعيش ويكدح لا التيام روحي معنوي يجمعها ولا وحدة جسمية من المادة وقوتها توحدها. ثم تعقب ذلك أن يظنوا نظير هذا الانفصال والتلاشي بين عناوين الاعمال وصور الافعال من خير وشر وسعادة وشقاء وهدى وضلال وطاعة ومعصية وإحسان وإساءه وعدل وظلم وغير ذلك فكانت غير مرتبطة الوجود ولا متشابكة التحقق. وقد ذهلوا عن أن هذا العالم بما يشتمل عليه من أعيان الموجودات وأنواع المخلوقات مرتبط الاجزاء متلائم الابعاض يتبدل جزء منه إلى جزء ويتحول بعضه
إلى بعض فيوما إنسان ويوما نبات ويوما جماد ويوما جمع ويوما فرق وحيوة البعض بعينها ممات الآخر وكون الجديد منه فساد للقديم بعينه. وكذلك الحوادث الجارية مرتبطة ارتباط حلقات السلسلة أي وضع فرض لواحدة منها مؤثر في أوضاع ما يقارنها وما يتقدمها إلى أقدم العهود المفروضة للعالم
[ 101 ]
الطبيعي كالسلسلة التي تنجر بجر الحلقة منها جميع الحلقات وهو السلسلة فأدنى تغير مفروض في ذرة من ذرات هذا العالم يوجب تغير الحال في الجميع وإن عزب عن علمنا وإدراكنا أو خفي عن إحساسنا فعدم العلم لا يستلزم عدم الوجود فهذا مما بينت في الابحاث العلمية منذ القديم وأوضحته الابحاث الطبيعية والرياضية اليوم أتم ايضاح ولقد كان القرآن ينبئنا بذلك أحسن الانباء قبل أن نأخذ في هذه الابحاث من فلسفيها وطبيعيها ورياضيها بالنقل عن كتب الآخرين ثم بالاستقلال في البحث وذلك بما يذكر من اتصال التدبير في الآيات السماوية والارضية وارتباط ما بينها ونفع بعضها في بعض واشتراك الجميع في إقامة غرض الخلقة ونفوذ القدر في جميعها والسلوك إلى المعاد وأن إلى ربك المنتهى. وكذلك أوصاف الافعال وعناوين الاعمال مرتبطة الاطراف كارتباط الامور المتقابلة المتعاندة فلولا أحد المتعاندين لم يستقم أمر الآخر كما نشاهده من أمر الصنع والايجاد أن تكون شئ ما يحتاج إلى فساد آخر وسبق أمر يتوقف على لحوق آخر. ولو لم يتحقق أحد الطرفين من أوصاف الاعمال لم يستقم أمر الآخر في آثاره المطلوبة منه في الاجتماع الانساني الطبيعي ولا في الاجتماع الالهي الذي هو الدين الحق فإن الاطاعة مثلا حسنة لان المعصية سيئة والحسنة موجبة للثواب لان السيئة موجبة للعقاب والثواب لذيذ للعامل لان العقاب مولم له واللذة سعادة مرغوب فيها لان الالم شقاوة مهروب عنها والسعادة هي التي يتوجه وجوده بحسب الخلقة إليها والشقاوة هي التي يتوجه عنها ولولا هذه الحركة الوجودية لبطل الوجود.
فالاطاعة ثم الحسنة ثم الثواب ثم اللذة ثم السعادة هي بحيال المعصية فالعقاب فالالم فالشقاء وإنما يظهر كل منها بخفاء ما يقابله ويحيى بموته وكيف يمكن أن تقع دعوة إلى شئ من غير تحذير عما يخالفه ؟ وكيف يمكن أن يكون خلافه ممكنا دون أن يكون واقعا بما يدعو إليه من الاغراض والميول ؟ فقد تبين من ما ذكرناه أن الواجب في الحكمة أن يشتمل هذا العالم على الفساد كما يشتمل على الصلاح وعلى المعصية كما يشتمل على الطاعة على ما قدره الله في نظام صنعه وخلقه غير أن الكون والفساد في غير الاعمال وأوصافها ينسبان إلى الله سبحانه لان الخلق
[ 102 ]
والامر له لا شريك له وقبيل السعادة من الاعمال تنسب إليه بالهداية نسبة مستقيمة وقبيل الشقاوة منها كوسوسة الشيطان وتسليط الهوى على الانسان وتأمير الظالمين على الناس ونحو ذلك ينسب إليه تعالى بالاضلال والاخزاء والخذلان ونحوها نسبة غير مستقيمة وهي التي يعبر عنها بالاذن فيقال إنه تعالى اذن للشيطان أن ينزع بالوسوسة والتسويل ولم يمنع الانسان أن يتبع الهوى ولم يضرب بين الظالم وما يريده من الظلم بحجاب لان السعادة والشقاوة مبنيتان على الاختيار فمن سعد فباختياره ومن شقي فباختياره ولو لا ذلك لم تتم الحجة ولم تجر سنة الاختيار والامتحان. ولم يمنع هؤلاء الباحثين عن الاسترسال في هذه المباحث إلا استيحاشهم من وخيم نتائجها بزعمهم فأما المجبرة منهم فزعموا أن لو قالوا بارتباط الاشياء وضرورة تأثير الاسباب واعترفوا بذلك لزمهم الايجاب في جانب الصانع تعالى وسلب قدرته المطلقة على التصرف في مصنوعاته. وأما غيرهم فزعموا أن لو أذعنوا بذلك في مرحلة الاعمال وأسندوها إلى إرادته وقدره تعالى لزمهم القول بالايجاب والاجبار في جانب المصنوع وهو الانسان وببطلان الاختيار يبطل الثواب والعقاب والتكليف والتشريع.
مع أنهم كان يسعهم أن يستأنسوا من غير استيحاش بكلامه تعالى حيث يقول: والله غالب على أمره " يوسف - 21 ويقول " إلا له الخلق والامر " الاعراف - 54 ويقول: " لله ما في السموات والارض " يونس - 55 على أنها وما يماثلها آيات تعطي البرهان في ذلك وقد تقدمت نبذة من هذا البحث في الكلام على قوله تعالى إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا " البقرة - 26. ولنرجع إلى ما كنا فيه من الكلام في قوله تعالى زين للناس حب الشهوات فنقول الظاهر أن فاعل زين غيره تعالى وهو الشيطان أو النفس أما أولا فلان المقام مقام ذم الكفار بركونهم إلى هذه المشتهيات من المال والاولاد واستغنائهم بتزينها لهم عن الله سبحانه والاليق بمثل هذه الزينة الصارفة عن الله الشاغلة عن ذكره أن لا ينسب إليه تعالى. وأما ثانيا فلانه لو كان هذا هو التزيين المنسوب إليه تعالى لكان المراد به الميل
[ 103 ]
الغريزي الذي للانسان إلى هذه الامور فكان الانسب في التعبير أن يقال زين للانسان أو لبني آدم ونحوها كقوله تعالى " لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين " التين - 5 وقوله تعالى: " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر الآية " الاسرى - 70 وأما لفظ الناس فالاعرف منه أن يستعمل في الموارد التي فيها شئ من إلغاء الميز أو حقاره الشخص ودناءة الفكر نحو قوله فأبى أكثر الناس إلا كفورا " الاسرى - 89 وقوله يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى " الحجرات - 13 وغير ذلك. وأما ثالثا فلان الامور التي عدها تعالى بيانا لهذه الشهوات لا تناسب التزيين الفطري إذ كان الانسب عليه أن يبدل لفظ النساء بما يؤدي معنى مطلق الزوجية ولفظ البنين بالاولاد ولفظ القناطير المقنطرة بالاموال فإن الحب الطبيعي موجود
في النساء بالنسبة إلى الرجال كما هو موجود في الرجال بالنسبة إلى النساء وكذا هو مغروز في الانسان بالنسبة إلى مطلق الاولاد ومطلق الاموال دون خصوص البنين وخصوص القناطير المقنطرة ولذلك اضطر القائل بكون فاعل زين هو الله سبحانه أن يقول إن المراد حب مطلق الزوجية ومطلق الاولاد ومطلق الاموال وإنما ذكرت النساء والبنين والقناطير لكونها أقوى الافراد وأعرفها ثم تكلف في بيان ذلك بما لا موجب له. واما رابعا فلان كون التزيين هو المنسوب إلى الله سبحانه لا يلائم قوله تعالى في آخر الآية ذلك متاع الحيوة الدنيا والله عنده حسن المآب قل أأنبئكم بخير من ذلكم فإن ظاهره أنه كلام موضوع لصرفهم عن هذه الشهوات الدنيوية وتوجيه نفوسهم إلى ما عند الله من الجنان والازواج والرضوان ولا معنى للصرف عن المقدمة إلى ذي المقدمة فإن في ذلك مناقضة ظاهرة وإبطالا للامرين معا كالذي يريد الشبع ويمتنع عن الاكل. فان قلت الآية أعنى قوله زين للناس حب الشهوات الخ بحسب الملخص من معناها مساوقة لقوله تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحيوة الدنيا خالصة يوم القيامة " الاعراف - 32 ولازم انطباق المعنى أن يكون فاعل التزيين في هذه الآية أيضا هو الله سبحانه
[ 104 ]
قلت بين الآيتين فرق من حيث المقام فإن المقام فيما نحن فيه مقام ذم هذه الشهوات المحبوبة للناس لصرفها وإلهائها الناس عما لهم عند الله وحثهم على الاعراض عنها والتوجه إلى ما عند الله سبحانه بخلاف تلك الآية فإنها مسوقة لبيان أن هذه النعم زينت للانسان وأنها للمؤمنين في هذه الدنيا بالاشتراك في الدنيا وبالاختصاص في الآخرة ولذلك بدل لفظ الناس هناك بلفظ العباد وعدت هذه الزينة رزقا طيبا.
وان قلت إن التزيين علق في الآية على حب الشهوات دون نفس الشهوات ومن المعلوم أن تزيين الحب للانسان وجذبه لنفسه وجلبه لقلبه أمر طبيعي وخاصة ذاتية له فيؤل معنى تزيين الحب للناس إلى جعل الحب مؤثرا في قلوبهم أي خلق الحب في قلوبهم ولا ينسب الخلق إلا إلى الله سبحانه فهو الفاعل في قوله زين. قلت لازم ما ذكرناه من القرائن أن يكون المراد بتزيين الحب جعل الحب بحيث يجذب الناس إلى نفسه ويصدهم عن غيره فإن الزينة هي الامر المطلوب الجالب الذى ينضم إلى غيره ليجلب الانسان إلى ذلك الغير بتبع جلبه إلى نفسه كما أن المرأة تتزين بضم امور تستصحب الحسن والجمال إلى نفسها ليقصدها الرجل بها فالمقصود هو بالحقيقة تلك الامور والمنتفع من هذا القصد هي المرأة وبالجملة فيؤل معنى تزيين الحب للناس إلى جعله في أعينهم بحيث يؤدي إلى التوله فيه والولوع في الاشتغال به لا أصل تأثير الحب كما هو الظاهر من معنى قوله تعالى " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلوة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا " مريم - 59 ويؤيد هذا المعنى ما سيأتي من الكلام في العد الواقع في قوله من النساء والبنين والقناطير على أن لفظ الشهوات ربما لم يخل عن الدلالة بالشغف والولوع وإن كان بمعنى المشتهيات. قوله تعالى من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة " إلخ " النساء جمع لا واحد له من لفظه والبنين جمع ابن وهو ذكور الاولاد بواسطة أو بلا واسطة والقناطير جمع قنطار وهو ملا مسك ذهبا أو هو المسك المملوء والمقنطرة اسم مفعول مشتق من القنطار وهو جامد وهذا من دأبهم يعتبرون في الجوامد شيئا من النسب يكسب بها معنى مصدريا ثم يشتقون منه المشتقات كالباقل والتامر والعطار لبائع البقل والتمر والعطر وفائدة توصيف الشئ بالوصف المأخوذ من لفظه تثبيت معناه له والتلميح إلى أنه واجد لمعنى لفظه غير فاقده كما يقال دنانير مدنرة ودواوين
[ 105 ]
مدونة ويقال حجاب محجوب وستر مستور والخيل هو الافراس والمسومة مأخوذة من سامت الابل سوما بمعنى ذهبت لترعى فهي سائمة أو من سمت الابل في المرعى وأسمتها وسومتها بمعنى أعلمتها فالخيل المسومة إما المرسلة للرعي أو المعلمة والانعام جمع نعم بفتحتين وهو الابل والبقر والغنم والبهائم أعم منه ويطلق على غير الوحش والطير والحشرات والحرث هو الزرع وفيه معنى الكسب وهو تربية النبات أو النبات المربى للانتفاع به في المعاش. وبناء التعداد في الآية ليس على تكثر حب الشهوات بحسب تكثر المشتهيات أعني متعلقات الشهوة بمعنى أن الانسان بحسب طبعه يميل إلى الازواج والاولاد والمال حتى يتكلف في توجيه التعبيرات الواقعة في الآية كالتعبير عن الانسان بالناس والتعبير عن الاولاد بخصوص البنين والتعبير عن المال بالقناطير المقنطرة " إلخ " بما تكلف به جمع من المفسرين. بل على كون الناس أصنافا في الشغف والولوع بمشتهيات الدنيا فمن شهواني لا هم له إلا التعشق بالنساء وغرامهن والتقرب اليهن والانس بصحبتهن ويستصحب ذلك أذنابا من وجوه الفساد ومعاصي الله سبحانه كاتخاذ المعازف والاغاني وشرب المسكرات وامور أخر غيرهما وهذا مما يختص بالرجال عادة ولا يوجد في النساء إلا في غاية الشذوذ ومن محب للبنين والتكاثر والتقوى بهم كما يوجد غالبا في أهل البدو ويختص أيضا بالبنين دون البنات ومن مغرم بالمال أكبر همه أن يقنطر القناطير ويملا المخازن من وجوه النقد وظهور هذا الجنون أيضا في جمع المال إنما هو في وجوه النقد من الذهب والفضة أو ما يتقوم بهما دون أمثال الاثاث إلا أن يراد لاجلهما بوجه ويوجد غالبا في الحاضر دون البادي أو أن المختار عنده اتخاذ الخيل المسومة كالمغرمين بالفروسة وأمثالهم أو اتخاذ الماشية من الانعام أو يستحب الحرث وربما يجتمع البعض من هذه الثلاثة الاخيرة مع البعض وربما تفترق.
وهذه أقسام الشهوات التي ينسل الناس إليها صنفا صنفا بالتعلق بواحد منها وجعله أصلا في اقتناء مزايا الحيوة وجعل غيره فرعا مقصودا بالقصد الثاني وقلما يوجد (أو لا يوجد أصلا) في الناس من ساوى بين جميعها وقصد الجميع قصدا أولا معتدلا. وأما مثل الجاه والمقام والصدارة ونحوها فهي جميعا امور وهمية بالحقيقة إنما
[ 106 ]
تتعلق الرغبة إليها بالقصد الثاني لا يعد الالتذاذ بها التذاذا شهويا على أن الآية ليست في مقام حصر الشهوات. ومن هنا يتأيد ما تقدمت الاشارة إليه من أن المراد بحب الشهوات التوغل والانغمار في حبها وهو المنسوب إلى الشيطان دون أصل الحب المودع في الفطرة وهو المنسوب إلى الله سبحانه. قوله تعالى ذلك متاع الحياة الدنيا أي هذه الشهوات امور يتمتع بها لاقامة هذه الحيوة التي هي أقرب الحيوتين منكم وهما الحيوة الدنيا والحيوة الاخرى والحيوة الدنيا وكذا المتاع الذي يتمتع به لها أمر فان داثر ليس لها عاقبة باقية صالحة وصلاح العقبى وحسن المآب إنما هو عند الله سبحانه وهو قوله تعالى والله عنده حسن المآب. قوله تعالى قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات إلى آخر الآية الآية مسوقة لبيان قوله والله عنده حسن المآب وقد وضع فيها محل هذه الشهوات الفانية الباطلة امور هي خير للانسان لكونها باقية وحسنة حقيقة من غير بطلان وهي امور مجانسة لهذه الشهوات في ما يريده الانسان من خواصها وآثارها غير أنها خالية عن القبح والفساد غير صارفة للانسان عن ما هو خير منها وهي الجنة ومطهرات الازواج ورضوان الله تعالى. وقد اختصت الازواج بالذكر مع كون ذكر الجنة كالمشتمل عليها لكون الوقاع أعظم اللذائذ الجسمية عند الانسان ولذلك أيضا قدم ذكر النساء في قوله من النساء
والبنين والقناطير المقنطرة الخ. وأما الرضوان بكسر الراء وضمها فهو الرضا وهو أن يلائم الامر الواقع نفس صاحبه من غير أن يمتنع منه ويدافعه ويقابله السخط. وقد تكرر في القرآن ذكر رضى الله سبحانه وهو منه تعالى كما يتصور بالنسبة إلى فعل عباده في باب الطاعة كذلك يتصور بالنسبة إلى غير باب الطاعة كالاوصاف والاحوال وغير ذلك إلا أن جل الموارد التي ذكر فيها أو كلها من قبيل الرضا بالطاعة ولذلك ربما قوبل بينه وبين رضا العبد فرضاه عن عبده لطاعته ورضى العبد عنه
[ 107 ]
لجزائه الحسن أو لحكمه كقوله تعالى رضي الله عنهم ورضوا عنه: البينة - 8 وقوله تعالى يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية: الفجر - 28 وقوله تعالى والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات الآية: البرائة - 100. وذكر الرضوان هيهنا أعني في عداد ما هو خير للناس من مشتهيات الحيوة الدنيا يدل على أنه نفسه من مشتهيات الانسان أو يستلزم أمرا هو كذلك ولذلك عنى بذكره في مقابل الجنات والازواج في هذه الآية وكذا في مقابل الفضل والمغفرة والرحمة في قوله فضلا من ربهم ورضوانا: المائدة - 2 وقوله ومغفرة من الله ورضوان: الحديد - 29 وقوله برحمة منه ورضوان: البرائة - 21 ولعل الذي يكشف عن هذا الذي أبهمته هذه الآية هو التدبر في المعنى الذي ذكرناه وفي قوله تعالى رضى الله عنهم الآية وقوله راضية مرضية الآية حيث علق رضاه بأنفسهم والرضا عن أنفسهم غير الرضا عن أفعالهم فيعود المعنى إلى أنه لا يمنعهم عن نفسه فيما يسألونه فيؤل إلى معنى قوله لهم ما يشائون فيها: ق - 35 ففي رضوان الله عن الانسان المشية المطلقة للانسان. ومن هنا يظهر أن الرضوان في هذه الآية قوبل به من الشهوات المذكورة في الآية السابقة أن الانسان يحسب أنه لو اقتناها وخاصة القناطير المقنطرة من بينها افادته
إطلاق المشية وأعطته سعة القدرة فله ما يشاء وعنده ما يريد وقد اشتبه عليه الامر فإنما يتم ذلك برضا الله الذي إليه أمر كل شئ. قوله تعالى والله بصير بالعباد لما تحصل من هذه الآية والتي قبلها أن الله أعد للانسان في كلتا الدارين الدنيا والآخرة نعما يتنعم بها ومآرب اخرى مما تلتذ به نفسه كالازواج وما يؤكل ويشرب والملك ونحوها وهي متشابهة في الدارين غير أن ما في الدنيا مشترك بين الكافر والمؤمن مبذول لهما معا وما في الآخرة مختص بالمؤمن لا يشاركه فيها الكفار كان المقام مظنة سؤال الفرق في ذلك وبلفظ آخر سؤال وجه المصلحة في اختصاص المؤمن بنعم الآخرة أجاب عنه بقوله والله بصير بالعباد ومعناه أن هذا الفرق الذي فرق الله به بين المؤمن والكافر ليس مبنيا على العبث والجزاف
[ 108 ]
تعالى عن ذلك بل إن في الفريقين أمرا هو المستدعي لهذا الفرق والله بصير بهم يرى ما فيهم من الفرق وهو التقوى في المؤمن دون الكافر وقد وصف هذا التقوى وعرفه بما يلحق بهذه الآية من قوله الذين يقولون ربنا إلى آخر الآيتين وملخصه أنهم يظهرون فاقتهم إلى ربهم وعدم استغنائهم عنه ويصدقون ذلك بالعمل الصالح ولكن الكافر يستغني عن ربه بشهوات الدنيا وينسى آخرته وعاقبة أمره. ومن ألطف ما يستفاد من الآيتين أعني قوله تعالى ذلك متاع الحيوة الدنيا والله عنده حسن المآب قل أؤنبئكم بخير من ذلك إلى آخر الآية وما في معناهما من الآيات كقوله تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحيوة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون: الاعراف - 32 الجواب عن إشكال استوجهه كثير من الباحثين على ظواهر الآيات الواصفة لنعم الجنة أما الاشكال فهو أن المتأمل في أطوار وجود هذه الموجودات المشهودة في هذا
العالم لا يشك في أن الافعال الصادرة منها وأعمالها التي يعملها إنما هي متفرعة على القوى والادوات التي جهز بها كل واحد منها ليدفع بها عن وجوده ويحفظ بها بقائه كما يحققه البحث عن الغايات الوجودية وأن الوجود لا يستند إلى اتفاق أو جزاف أو عبث. فهو ذا الانسان مجهز في جميع بدنه بجهاز دقيق في غاية الدقة يتمشى به أمر تغذيه وإنما يتغذى لتهيئة بدل ما يتحلل من أجزائه وإنما يفعل ذلك ليمد وجوده للبقاء وأيضا هو مجهز بجهاز التناسل على ما فيه من الادوات والقوى الفعالة والمترتبة ليحفظ بقاء نوعه والامر في وجود النبات والحيوان نظير الامر في تجهيز الانسان. ثم إن الخلقة احتالت في تسخيرها وخاصة في تسخير ذوات الشعور منها وهي الحيوان والانسان بإبداع لذائذ في أفعالها وإيداعها في القوى لتتسابق إلى الافعال لاجل هذه اللذائذ وهى لا تشعر أن الخلقة تريد منها غايتها وهي بقاء الوجود وتغرها بتطميعها باللذة التي تزينها لها فيحصل بذلك ما يريده الخلقة ويلتذ الفاعل بهذه الزينة التي تغرها ويلعب بها فلو لا ما في الغذاء والنكاح مثلا من اللذة لما قصدهما الانسان مثلا لمجرد كونهما مقدمة للبقاء وبطل بذلك غرض الخلقة لكن الله سبحانه أودع
[ 109 ]
فيه لذة الغذاء ولذة النكاح لا يستريح الانسان في طريق النيل إليهما دون أن يتحمل كل تعب وعناء ويقاسي كل مصيبة وبلاء وهو في اقتناء هذه الشهوات مختال فخور بما ليس فيه إلا الغرور وأما الصنع والخلقة فينال بغيته و يبلغ امنيته فإنه ما كان يريد بهذا التدبير إلا بقاء وجود الفرد وقد حصل بالتغذي وإلابقاء وجود النوع وقد حصل بالنكاح والسفاد ولم يبق للانسان مثلا فيما كان يريده إلا الخيال. وإذا كان هذه اللذائذ الدنيوية مقصودة في الخلقة لاجل غرض محدود معجل فلا
معنى لتحققها في ما لا تحقق هناك لذلك الغرض فلذة الاكل والشرب وجميع اللذائذ الراجعة إلى التغذي مقصودة في الطبيعة لاجل حفظ البدن عن آفة التحلل وفساد التركيب وهو الموت ولذة النكاح وجميع اللذائذ المرتبطة به وهي امور جمة إنما تقصدها الخلقة لاجل حفظ النوع من الفناء والاضمحلال فلو فرض للانسان وجود لا يلحقه موت ولا فناء وحيوة مأمونة من كل شر ومكروه فأي فائدة تترتب على وجود القوى البدنية التي تعمل لاجل تحصيل بقاء الشخص أو النوع وأي ثمرة يثمرها تجهيزات البدن وأعضائه كالكلي والمثانة والطحال والكبد وغيرها وجميعها إنما أوجدت لاعمال تنفع في البقاء المعجل المحدود دون البقاء المخلد المؤبد. وأما الجواب فهو أن الله سبحانه إنما خلق ما خلق من لذائذ الدنيا والنعم التي تتعلق بها هذه اللذائذ زينة في الارض ليقصدها الانسان فينجذب إلى الحيوة ويتعلق بها كما قال إنا جعلنا ما على الارض زينة لها: الكهف - 7 وقال المال والبنون زينة الحيوة الدنيا: الكهف - 46 وقال تبتغون عرض الحيوة الدنيا: النساء - 94 وقال وهو أجمع للغرض ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحيوة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى: طه - 131 وقال أيضا وما اوتيتم من شئ فمتاع الحيوة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون: القصص - 60 إلى غير ذلك من الآيات وجميعها تبين أن هذه النعم الموجودة في الدنيا واللذائذ المتعلقة بها امور مقصودة لاجل الحيوة وأمتعة يتمتع بها لاجل الحيوة هذه الحيوة المحدودة التي لا تتعدى أياما قلائل فلو لا الحيوة لما كانت هي مقصودة ولا مخلوقة وهذا هو حق الامر. لكن يجب أن يعلم أن وجود الانسان الباقي ليس إلا هذا الوجود الذي يمكث
[ 110 ]
هيهنا برهة من الزمان بتحوله من طور إلى طور وليس ذلك إلا روحا كائنا من بدن
وعلى بدن هو مجموع هذه الاجزاء المأخوذة من هذه العناصر والقوى الفعالة فيها ولو فرض ارتفاع هذه الامور التي نعدها مقدمات مقصودة للبقاء لم يبق وجود ولا بقاء أعني أن فرض عدمها هو فرض عدم الانسان رأسا لا فرض عدم استمرار وجود الانسان فافهم ذلك. فالانسان في الحقيقة هو الذي ينشعب أفرادا ويأكل ويشرب وينكح ويتصرف في كل شئ بالاخذ والاعطاء ويحس ويتخيل ويعقل ويسر ويفرح ويبتهج وهكذا كل ذلك ملائم لذاته الذي هو كالمجموع منها وبعضها مقدمة لبعضها وهو السائر الدائر في مثل مسافة دورية. فإذا نقله الله من دار الفناء إلى دار البقاء وكتب عليه الخلود والدوام إما بثواب دائم أو بعقاب دائم لم يكن ذلك بابطال وجوده وإيجاد وجود باق بل بإثبات وجوده بعد ما كان متغيرا في معرض الزوال فهو لا محالة إما متنعم بنعم من سنخ نعم الدنيا لكنها باقية أو نقم ومصائب من سنخ نقم الدنيا ومصائبها وكل ذلك منكوح أو مأكول أو مشروب أو ملبوس أو مسكون أو قرين أو سرور أو نحو ذلك. فالانسان هو الانسان وما يحتاج إليه ويستكمل به هو الذي كان يحتاج إليه ويستكمل به من مطالبه ومقاصده وإنما الفرق هو اختلاف الدارين بالبقاء وما يلحق به. هذا هو الذي يظهر من كلامه سبحانه حيث يبين حقيقة البنية الانسانية فيقول " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون " المؤمنون - 16 انظر إلى موضع قوله ولقد خلقنا والخلق هو الجمع والتركيب وإلى موضع قوله ثم أنشأناه الدال على تبديل نحو الخلق والايجاد وإلى موضع قوله ثم إنكم يوم القيامة والمخاطب به هو الذي أنشئ خلقا آخر.
ويقول أيضا " قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون " الاعراف - 25 فيفيد أن حيوة الانسان حيوة أرضية مؤلفة من نعمها ومن نقمها وتقدم بعض الكلام
[ 111 ]
في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى " كان الناس أمة واحدة الآية " البقرة - 213. وقد قال تعالى في هذه النعم الارضية " ذلك متاع الحيوة الدنيا " ثم قال وما الحيوة الدنيا في الآخرة إلا متاع " الرعد - 26، فجعل نفس الحيوة الدنيا متاعا في الآخرة يتمتع به وهذا من أبدع البيان وباب ينفتح به للمتدبر الف باب وفيه تصديق قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون. وبالجملة الحيوة الدنيا هي الوجود الدنيوي بما كسب من حسنة أو سيئة وهو الذي يتمتع به في الآخرة من حيث سعادته وشقائه أي ما يراه فوزا وفلاحا لنفسه وما يراه خيبة وخسرانا فيعطي سعادته بإعطاء لذائذه أو يحرم من نيلها وهما نعيم الجنة وعذاب النار. وبعبارة اخرى واضحة للانسان مثلا سعادة بحسب الطبيعة وشقاء بحسبها في بقائه شخصا ونوعا وهما منوطتان بفعله الطبيعي من الاكل والشرب والنكاح وقد زينت له بلذائذ مقدمية وهذا بحسب الطبيعة ثم إذا أخذ الانسان في الاستكمال وأخذ في الفعالية بالشعور والارادة صار نوعا كماله هو الذي يختاره شعوره وإرادته فما لا يشعر به ولا يشائه ليس كمالا لهذا الموجود الشاعر المريد وإن كان كمالا طبيعيا وكذا العكس كما نرى أنا لا نلتذ بما لا نشعر به وإن كان من سعادة الطبيعة كصحة البدن والمال والولد ونلتذ بما نشعر به من اللذائذ وإن لم يطابق الخارج كالمريض المعتقد للصحه ونظائر ذلك فهذه اللذائذ المقدمية تصير كمالا حقيقيا لهذا الانسان وان كانت كمالات مقدمية للطبيعة فإذا أبقى الله سبحانه هذا الانسان بقائا مخلدا كانت سعادته هي التي يشائها من اللذائذ وشقائها هو الذي لا يشائه سواء كانت بحسب الطبيعة مقدمة أو لم يكن إذ من البديهي أن خير الشخص أو القوة الشاعرة المريدة هو فيما
يعلم به ويشائه وشره فيما يعلم به ولا يريده. فقد تحصل أن سعادة الانسان أن ينال في الآخرة ما كان يريده من لذائذ الحيوة في الدنيا من الاكل والشرب والنكاح وما فوق ذلك وهو الجنة وشقائه أن لا ينال ذلك وهو النار قال تعالى " لهم فيها ما يشائون " النحل - 31. قوله تعالى الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار وصف
[ 112 ]
للمتقين المدلول عليهم بقوله في الآية السابقة للذين اتقوا فوصفهم أنهم يقولون ربنا وفيه إظهار للعبودية بذكره تعالى بالربوبية واسترحام منه تعالى فيما يسألونه بقولهم إننا آمنا والجملة ليست في مقام الامتنان عليه تعالى فان المن منه تعالى بالايمان كما قال تعالى " بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان " الحجرات - 17 بل استنجاز لما وعد الله تعالى عباده أنه يغفر لمن آمن منهم قال تعالى " وآمنوا به يغفر لكم " الاحقاف - 31 ولذلك فرعوا عليه قولهم فاغفر لنا ذنوبنا بفاء التفريع وفي تأكيد قولهم بان دلالة على صدقهم وثباتهم في إيمانهم. والمغفرة للذنوب لا يستلزم التخلص من العذاب بمعنى أن الوقاية من عذاب النار فضل من الله سبحانه بالنسبة إلى من آمن به وعبده من غير استحقاق من العبد يثبت له حقا على الله سبحانه أن يجيره من عذاب النار أو ينعمه بالجنة فإن الايمان والاطاعة أيضا من نعمه ولا يملك غيره تعالى منه شيئا الا ما جعله على نفسه من حق ومن الحق الذي جعل على نفسه لعباده أن يغفر لهم ويقيهم عذاب النار ان آمنوا به قال تعالى " وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم " الاحقاف - 31. وربما استفيد من بعض الآيات أن الوقاية من عذاب النار هو المغفرة والجنة كقوله تعالى " هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم
ويدخلكم جنات تجري من تحتها الانهار ومساكن طيبة في جنات عدن " الصف - 12 فإن في الآيتين الاخيرتين تفصيل لما اجمل في الآية الاولى من قوله هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم وهذا معنى دقيق سنشرحه في مورد يناسبه ان وفقنا له. قوله تعالى الصابرين والصادقين إلى آخر الآية وصفهم بخمس خصال لا يشذ منها تقوى من متق فالصبر لسبقه على بقية الخصال وإطلاقه يشمل أقسام الصبر وهى ثلاث صبر على الطاعة وصبر عن المعصية وصبر عند المصيبة. والصدق وإن كان بحسب تحليل حقيقته هو مطابقة ظاهر الانسان من قول وفعل لباطنه لكنه بهذا المعنى يشتمل جميع الفضائل الباقية كالصبر والقنوت وغيرهما وليس بمراد فالمراد به (والله أعلم) الصدق في القول فحسب. والقنوت هو الخضوع لله سبحانه ويشمل العبادات وأقسام النسك والانفاق هو
[ 113 ]
بذل المال لمن يستحق البذل والاستغفار بالاسحار يستلزم قيام آخر الليل والاستغفار فيه والسنة تفسره بصلوة الليل والاستغفار في قنوت الوتر وقد ذكر الله أنه سبيل الانسان إلى ربه كما في سورتي المزمل والدهر من قوله تعالى بعد ذكر قيام الليل والتهجد به " أن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا " المزمل - 19 الدهر - 29. قوله تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة واولوا العلم قائما بالقسط أصل الشهادة هو المعاينة أعني تحمل العلم عن حضور وحس ثم استعمل في أدائها وإظهار الشاهد ما تحمله من العلم ثم صار كالمشترك بين التحمل والتأدية بعناية وحدة الغرض فإن التحمل يكون غالبا لحفظ الحق والواقع من أن يبطل بنزاع أو تغلب أو نسيان أو خفاء فكانت الشهادة تحفظا على الحق والواقع فبهذه العناية كان التحمل والتأدية كلاهما شهادة أي حفظا وإقامة للحق والقسط هو العدل. ولما كانت الآيات السابقة أعني قوله إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا إلى قوله والمستغفرين بالاسحار تبين أن الله سبحانه لا
إله غيره ولا يغني عنه شئ وأن ما يحسبه الانسان مغنيا عنه ويركن إليه في حيوته ليس إلا زينة وإلا متاعا خلقه الله ليتمتع به في سبيل ما هو خير منه ولا ينال الا بتقوى الله تعالى وبعبارة أخرى هذه النعم التي يحن إليها الانسان مشتركة في الدنيا بين الكافر والمؤمن مختصة في الآخرة بالمؤمن أقام الشهادة في هذه الآية على أن هذا الذي بينته الآيات حق لا ينبغي أن يرتاب فيه. فشهد وهو الله عز اسمه على أنه لا إله إلا هو واذ ليس هناك إله غيره فليس هناك أحد يغني منه شيئا من مال أو ولد أو غير ذلك من زينة الحيوة أو أي سبب من الاسباب إذ لو أغني شئ من هذه منه شيئا لكان الها دونه أو معتمدا إلى إله دونه منتهيا إليه ولا إله غيره. شهد بهذه الشهادة وهو قائم بالقسط في فعله حاكم بالعدل في خلقه إذ دبر أمر العالم بخلق الاسباب والمسببات والقاء الروابط بينها وجعل الكل راجعا إليه بالسير والكدح والتكامل وركوب طبق عن طبق ووضع في مسير هذا المقصد نعما لينتفع
[ 114 ]
منها الانسان في عاجله لآجله وفي طريقه لمقصده لا ليركن إليه ويستقر عنده فالله يشهد بذلك وهو شاهد عدل. ومن لطيف الامر أن عدله يشهد على نفسه وعلى وحدته في الوهيته أي إن عدله ثابت بنفسه ومثبت لوحدانيته بيان ذلك أنا إنما نعتبر في الشاهد العدالة ليكون جاريا على مستوى طريق الحيوة ملازما لصراط الفطرة من غير أن يميل إلى إفراط أو تفريط فيضع الفعل في غير موضعه فتكون شهادته مأمونة عن الكذب والزور فملازمة الصدق والمجاراة مع صراط التكوين يوجب عدالة الانسان فنفس النظام الحاكم في العالم والجاري بين أجزائه الذي هو فعله سبحانه هو العدل محضا. ونحن في جميع الوقائع التي لا ترضى بها نفوسنا من الحوادث الكونية أو نجدها
على خلاف ما نميل إليه ونطمع فيه ثم نعترض عليها ونناقش فيها إنما نذكر في الاعتراض عليه ما يظهر لنا من حكم عقولنا أو تميل إليه غرائزنا وجميع ذلك مأخوذة من نظام الكون ثم نبحث عنها فيظهر سبب الحادثة فتسقط الشبهة أو نعجز عن الحصول على السبب فلا يقع في أيدينا إلا الجهل بالسبب أي عدم العلم دون العلم بالعدم فنظام الكون وهو فعل الله سبحانه هو العدل فافهم ذلك. ولو كان هناك إله يغني منه في شئ من الامور لم يكن نظام التكوين عدلا مطلقا بل كان فعل كل إله عدلا بالنسبه إليه وفي دائرة قضائه وعمله. وبالجملة فالله سبحانه يشهد وهو شاهد عدل على أنه لا إله إلا هو يشهد لذلك بكلامه وهو قوله شهد الله أنه لا إله إلا هو على ما هو ظاهر الآية الشريفة فالآية في اشتمالها على شهادته تعالى للتوحيد نظيرة قوله تعالى " لكن الله يشهد بما أنزل اليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا " النساء - 166. والملائكة يشهدون بأنه لا إله إلا هو فإن الله يخبر في آيات مكية نازلة قبل هذه الآيات بأنهم عباد مكرمون لا يعصون ربهم ويعملون بأمره ويسبحونه وفي تسبيحهم شهادة أن لا إله غيره قال تعالى بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " الانبياء - 27 وقال تعالى والملائكة يسبحون بحمد ربهم " الشورى - 5
[ 115 ]
وأولوا العلم يشهدون أنه لا إله إلا هو يشاهدون من آياته الآفاقية والانفسية وقد ملات مشاعرهم ورسخت في عقولهم. وقد ظهر مما تقدم أولا أن المراد بالشهادة شهادة القول على ما هو ظاهر الآية الشريفة دون شهادة الفعل وإن كانت صحيحة حقة في نفسها فإن عالم الوجود يشهد على وحدانيته في الالوهية بالنظام الواحد المتصل الجاري فيه وبكل جزء من أجزائه
التي هي أعيان الموجودات. وثانيا أن قوله تعالى قائما بالقسط حال من فاعل قوله شهد الله والعامل فيه شهد وبعبارة اخرى قيامه بالقسط ليس بمشهود له لا له تعالى ولا للملائكة واولي العلم بل الله سبحانه حال كونه قائما بالقسط يشهد أن لا إله إلا هو والملائكة واولوا العلم يشهدون بالوحدانية كما هو ظاهر الآية حيث فرقت بين قوله لا إله إلا هو وقوله قائما بالقسط بتوسيط قوله والملائكة واولوا العلم ولو كان القيام بالقسط من أجزاء الشهادة لكان حق الكلام أن يقال إنه لا إله إلا هو قائما بالقسط والملائكة ومن ذلك يظهر ما فيما ذكره عدة من المفسرين في تفسير الآية من الجهتين جميعا كما لا يخفى على من راجع ما ذكروه في المقام. ومن أردء الاشكال ما ذكره بعضهم أن حمل الشهادة على الشهادة الكلامية كما مر يوجب الاستناد في أمر التوحيد إلى النقل دون العقل مع كونه حينئذ متوقفا على صحة الوحي فإن صدق هذه الشهادة يتوقف على كون القرآن وحيا حقا وهو متوقف عليه فيكون بيانا دوريا ومن هنا ذكر بعضهم أن المراد بالشهادة هنا معنى استعاري بدعوى أن دلالة جميع ما خلقه الله من خلق على ما فيها من وحدة الحاجة واتصال النظام على وحدة صانعها بمنزلة نطقه وإخباره تعالى بأنه واحد لا إله غيره وكذا عبادة ملائكته له وإطاعتهم لامره وكذا ما يشاهده اولوا العلم من أفراد الانسان من آيات وحدانيته بمنزلة شهادتهم على وحدانيته تعالى. والجواب أن فيه خلطا ومغالطة فإن النقل إنما لا يعتمد عليه فيما للعقل أو الحس إليه سبيل لكونه لا يفيد العلم فيما يجب فيه تحصيل العلم، أما لو غرض إفادته من العلم ما يفيد العقل مثلا أو أقوى منه كان في الاعتبار مثل العقل أو أقوى منه كما أن المتواتر من الخبر أقوى أثرا وأجلى صدقا من القضية التي أقيم عليها برهان مؤلف من
[ 116 ]
مقدمات عقلية نظرية وإن كانت يقينية وأنتجت اليقين. فإذا كان الشاهد المفروض يمتنع عليه الكذب والزور بصريح البرهان كانت شهادته تفيد ما يفيده البرهان من اليقين والله سبحانه (وهو الله الذي لا سبيل للنقص والباطل إليه) لا يتصور في حقه الكذب فشهادته على وحدانية نفسه شهادة حق كما أن إخباره عن شهادة الملائكة واولي العلم يثبت شهادتهم. على أن من أثبت له شركاء كالاصنام وأربابها فإنما يثبتها بعنوان أنها شفعاء عند الله ووسائط بينه وبين خلقه كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " الزمر - 3، وكذا من اتخذ له شريكا بالشرك الخفي من هوى أو رئيس مطاع أو مال أو ولد إنما يتخذه سببا من الله غير أنه مستقل بالتأثير بعد حصوله له وبالجملة ما اتخذ له من شريك فأنما يشاركه فيما يشاركه بتشريكه لا بنفسه، وإذا شهد الله على أنه لم يتخذ لنفسه شريكا أبطل ذلك دعوى من يدعي له شريكا، وجرى الكلام مجرى قوله: " قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الارض " يونس - 18، فإنه إبطال لدعوى وجود الشريك بأن الله لا يعلم به في السموات والارض ولا يخفى عليه شئ وبالحقيقة هو خبر مثل سائر الاخبار الصادرة عن مصدر الربوبية والعظمة كقوله " سبحانه وتعالى عما يشركون " يونس - 18 ونحو ذلك غير أنه لوحظ فيه انطباق معنى الشهادة عليه لكونه خبرا في مورد دعوى والمخبر به قائم بالقسط فكان شهادة فعبر بلفظ الشهادة تفننا في الكلام فيؤل المعنى إلى انه لو كان في الوجود أرباب من دون الله مؤثرون في الخلق والتدبير شركاء أو شفعاء في ذلك لعلمه الله وشهد به لكنه يخبر أنه ليس يعلم لنفسه شريكا فلا شريك له ولعلم واعترف به الملائكة الكرام الذين هم الوسائط المجرون للامر في الخلق والتدبير لكنهم يشهدون أن لا شريك له ولعلم به وشهد أثره اولوا العلم لكنهم يشهدون بما شاهدوا من الآيات أن لا شريك له.
فالكلام نظير قولنا لو كان في المملكة الفلانية ملك مؤثر في شئون المملكة وإداره امورها غير الملك الذي نعرفه لعلم به الملك وعرفه لانه من المحال أن لا يحس بوجوده وهو يشاركه ولعلم به القوى المجريه والعمال المتوسطون بين العرش والرعية وكيف يمكن أن لا يشعروا بوجوده وهم يحملون أوامره ويجرون أحكامه بين ما في المجلد:
[ 117 ]
أيديهم من الاحكام والاوامر ؟ ولعلم به العقلاء من عامة أهل المملكة وكيف لا وهم يطيعون أوامره وعهوده ويعيشون في ملكه لكن الملك ينكر وجوده وعمال الدولة لا يعرفونه وعقلاء الرعية لا يشاهدون ما يدل على وجوده فليس قوله تعالى لا إله إلا هو العزيز الحكيم الجملة كالمعترضة الدخيلة في الكلام لاستيفاء حق معترض يفوت لو لا ذكره مع عدم كونه مقصودا في الكلام أصالة ومن أدب القرآن أن يظهر تعظيم الله جل شأنه في موارد يذكر أمره ذكرا يخطر منه بالبال ما لا يليق بساحة كبريائه كقوله تعالى قالوا اتخذا الله ولدا سبحانه " يونس - 68 فقوله سبحانه قصد به التعظيم في مقام يحكى فيه قول لا يلائم حقه تعالى ونظيره بوجه قوله تعالى وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم الآية " المائدة - 64. وبالجملة لما اشتمل أول الآية على شهادة الله والملائكة واولي العلم بنفي الشريك كان من حق الله سبحانه على من يحكي ويخبر عن هذه الشهادة أعني المتكلم وهو في الآية هو الله سبحانه وعلى من يسمع ذلك أن يوحد الله بنفي الشريك عنه فيقول لا إله إلا هو نظير ذلك قوله تعالى في قصة الافك ولو لا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم " النور - 16 فإن من حقه تعالى عليهم أن إذا سمعوا بهتانا وأرادوا تنزيه من بهت عليه أن ينزهوا الله قبله فإنه تعالى أحق
من يجب تنزيهه. فموضع قوله لا إله إلا هو العزيز الحكيم موضع الثناء عليه تعالى لاستيفاء حق تعظيمه ولذا تمم بالاسمين العزيز الحكيم ولو كان في محل النتيجة من الشهادة لكان حق الكلام أن يتمم بوصفي الوحدة والقيام بالقسط فهو تعالى حقيق بالتوحيد إذا ذكرت الشهادة المذكورة على وحدانيته لانه المتفرد بالعزة التي يمنع جانبه أن يستذل بوجود شريك له في مقام الالوهية والمتوحد بالحكمة التي تمنع غيره أن ينقض أمره في خلقه أو ينفذ في خلال تدبيره وما نظمه من أمر العالم فيفسد عليه ما أراده. وقد تبين بما مر من البيان وجه تكرار كلمة التوحيد في الآية وكذا وجه تتميمها بالاسمين العزيز الحكيم والله العالم.
[ 118 ]
= بحث روائي = في المجمع: في قوله تعالى: قل للذين كفروا ستغلبون الآية روى محمد بن إسحاق عن رجاله قال: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريشا ببدر وقدم المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع فقال يا معشر اليهود - احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر - وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم - وقد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم - فقالوا يا محمد لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا - لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة إنا والله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس فأنزل الله هذه الآية. أقول ورواه في الدر المنثور عن ابن إسحاق وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس وروى ما يقرب منه القمي في تفسيره وقد عرفت مما تقدم أن سياق الآيات لا يلائم نزولها في حق اليهود كل الملائمة وأن الانسب بسياقها أن تكون نازلة بعد غزوة احد والله أعلم. وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: ما تلذذ الناس في الدنيا والآخرة -
بلذة أكبر لهم من لذة النساء وهو قوله - زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين - الآية ثم قال وإن أهل الجنة ما يتلذذون بشئ من الجنة - أشهى عندهم من النكاح لا طعام ولا شراب. أقول وقد استفيد ذلك من الترتيب المجعول في الآية للشهوات ثم تقديم النساء على باقي المشتهيات ثم جعل هذه الشهوات متاع الدنيا وشهوات الجنة خيرا منها. ومراده عليه السلام من الحصر في كون النكاح أكبر لذائذ الناس إنما هو الحصر الاضافي أي أن النكاح أكبر لذة بالنسبة إلى هذه الشهوات المتعلقة بجسم الانسان وأما غيرها كالتذاذ الانسان بوجود نفسه أو التذاذ ولي من أولياء الله تعالى بقرب ربه ومشاهدة آياته الكبرى ولطائف رضوانه وإكرامه وغيرهما فذلك خارج عن مورد كلامه عليه السلام وقد قامت البراهين العلمية على أن أعظم اللذائذ التذاذ الشئ بنعمة وجوده واخرى على أن التذاذ الاشياء بوجود ربها أعظم من التذاذها بنفسها وهناك روايات كثيرة دالة على أن التذاذ العبد بلذة الحضور والقرب منه تعالى أكبر عنده من كل لذة
[ 119 ]
روي في الكافي عن الباقر عليه السلام كان علي بن الحسين عليهما السلام يقول: إنه يسخي نفسي في سرعة الموت - والقتل فينا قول الله تعالى - أ ولم يروا أنا نأتي الارض ننقصها من أطرافها وهو ذهاب العلماء وسيجئ عدة من هذه الروايات في المواضع المناسبة لها من هذا الكتاب. وفي المجمع: في قوله تعالى القناطير المقنطرة عن الباقر والصادق عليهما السلام القنطار ملؤ مسك ثور ذهبا وفي تفسير القمي قال عليه السلام: الخيل المسومة المرعية وفي الفقيه والخصال عن الصادق عليه السلام: من قال في وتره إذا أوتر - أستغفر الله وأتوب إليه سبعين مرة - وهو قائم فواظب على ذلك - حتى تمضي سنة كتبه الله عنده من
المستغفرين بالاسحار ووجبت له المغفرة من الله تعالى. أقول وهذا المعنى مروي في روايات أخر عن أئمة أهل البيت وهو من سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وروي ما يقرب منه في الدر المنثور أيضا عن ابن جرير عن جعفر بن محمد قال من صلى من الليل ثم استغفر في آخر الليل سبعين مرة كتب من المستغفرين - وقوله عليه السلام ووجبت له المغفرة من الله مستفاد من قوله تعالى حكاية عنهم - فاغفر لنا ذنوبنا فإن في الحكاية لدعائهم من غير رد إمضائا للاستجابة = إن الدين عند الله الاسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جائهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب (19) - فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والاميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد (20)
[ 120 ]
إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم (21) - أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين (22) - ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون (23) - ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون (24) - فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (25)). = بيان = الآيات متعرضة لحال أهل الكتاب وهم آخر الفرق الثلاث التي تقدم أنها عرضة للكلام في هذه السورة وأهمهم بحسب قصد الكلام أهل الكتاب من اليهود والنصارى
ففيهم وفي أمرهم نزل معظم السورة واليهم يعود. قوله تعالى إن الدين عند الله الاسلام قد مر معنى الاسلام بحسب اللغة وكأن هذا المعنى هو المراد هيهنا بقرينة ما يذكره من اختلاف أهل الكتاب بعد العلم بغيا بينهم فيكون المعنى إن الدين عند الله سبحانه واحد لا اختلاف فيه لم يأمر عباده إلا به ولم يبين لهم فيما أنزله من الكتاب على أنبيائه إلا إياه ولم ينصب الآيات الدالة إلا له وهو الاسلام الذي هو التسليم للحق الذي هو حق الاعتقاد وحق العمل وبعبارة اخرى هو التسليم للبيان الصادر عن مقام الربوبية في المعارف والاحكام وهو وإن اختلف كما وكيفا في شرائع أنبيائه ورسله على ما يحكيه الله سبحانه في كتابه غير أنه ليس في الحقيقة إلا أمرا واحدا وإنما اختلاف الشرائع بالكمال والنقص دون
[ 121 ]
التضاد والتنافي والتفاضل بينها بالدرجات ويجمع الجميع أنها تسليم وإطاعة لله سبحانه فيما يريده من عباده على لسان رسله. فهذا هو الدين الذي أراده الله من عباده وبينه لهم ولازمه أن يأخذ الانسان بما تبين له من معارفه حق التبين ويقف عند الشبهات وقوف التسليم من غير تصرف فيها من عند نفسه وأما اختلاف أهل الكتاب من اليهود والنصارى في الدين مع نزول الكتاب الالهي عليهم وبيانه تعالى لما هو عنده دين وهو الاسلام له فلم يكن عن جهل منهم بحقيقة الامر وكون الدين واحدا بل كانوا عالمين بذلك وانما حملهم على ذلك بغيهم وظلمهم من غير عذر وذلك كفر منهم بآيات الله المبينة لهم حق الامر وحقيقته لا بالله فإنهم يعترفون به ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب يحاسبه سريعا في دنياه وآخرته أما في الدنيا فبالخزي وسلب سعادة الحيوة عنه وأما في الآخرة فبأليم عذاب النار. والدليل على عموم سرعة الحساب للدنيا والآخرة قوله تعالى بعد آيتين اولئك
الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين ومما تقدم يظهر أولا أن المراد بكون الدين عند الله وحضوره لديه سبحانه هو الحضور التشريعي بمعنى كونه شرعا واحدا لا يختلف إلا بالدرجات وبحسب استعدادات الامم المختلفة دون كونه واحدا بحسب التكوين بمعنى كونه واحدا مودعا في الفطرة الانسانية على وتيرة واحدة. وثانيا أن المراد بالآيات هو آيات الوحي والبيانات الالهية التي ألقاها إلى أنبيائه دون الآيات التكوينية الدالة على الوحدانية وما يزاملها من المعارف الالهية. والآية تشتمل على تهديد أهل الكتاب بما يستدل عليه بالبغي وهو الانتقام كما يشتمل قوله تعالى في الآيات السابقة قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم الآية على تهديد المشركين والكفار ولعل هذا هو السبب في أنه جمع أهل الكتاب والمشركين معا في الآية التالية في الخطاب بقوله قل للذين اوتوا الكتاب والاميين أأسلمتم إلخ وفيه إشعار بالتهديد أيضا. قوله تعالى فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن الضمير في حاجوك
[ 122 ]
راجع إلى أهل الكتاب وهو ظاهر والمراد به محاجتهم في أمر الاختلاف بأن يقولوا أن اختلافنا ليس لبغى منا بعد البيان بل إنما هو شئ ساقنا إليه عقولنا وأفهامنا واجتهادنا في تحصيل العلم بحقائق الدين من غير أن ندع التسليم لجانب الحق سبحانه وأن ما تراه وتدعو إليه يا محمد من هذا القبيل أو يقولوا ما يشابه ذلك والدليل على ذلك قوله فقل أسلمت وجهي لله وقوله وقل للذين اوتوا الكتاب والاميين أأ سلمتم فإن الجملتين حجة سيقت لقطع خصامهم وحجاجهم لا إعراض عن المحاجة معهم. ومعناها مع حفظ ارتباطها بما قبلها أن الدين عند الله الاسلام لا يختلف فيه كتب الله ولا يرتاب فيه سليم العقل ويتفرع عليه أن لا حجة عليك في إسلامك وأنت مسلم فإن حاجوك في أمر الدين فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن فهذا هو الدين
ولا حجة بعد الدين في أمر الدين ثم سلهم أأسلموا فإن أسلموا فقد اهتدوا وليقبلوا ما أنزل الله عليك وعلى من قبلك ولا حجة عليهم ولا مخاصمة بعد ذلك بينكم وإن تولوا فلا تخاصمهم ولا تحاجهم فلا ينبغي الخصام في أمر ضروري وهو أن الدين هو التسليم لله سبحانه وما عليك إلا البلاغ. وقد أشرك سبحانه في الآية بين أهل الكتاب والاميين بقوله وقل للذين اوتوا الكتاب والاميين أأسلمتم لكون الدين مشتركا بينهم وإن اختلفوا في التوحيد و التشريك. وقد علق الاسلام على الوجه وهو ما يستقبلك من الشئ أو الوجه بالمعنى الاخص لكون إسلام الوجه لاشتماله على معظم الحواس والمشاعر إسلاما لجميع البدن ليدل على معنى الاقبال والخضوع لامر الرب تعالى وعطف قوله ومن اتبعن حفظا لمقام التبعية وتشريفا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى وقل للذين اوتوا الكتاب والاميين أأسلمتم إلى آخر الآية المراد باللاميين المشركين سموا بذلك لتسمية من وضع في مقابلهم بأهل الكتاب وكذا كان أهل الكتاب يسمونهم كما حكاه تعالى من قوله ليس علينا في الاميين سبيل: آل عمران - 75 والامي هو الذي لا يكتب ولا يقرء. وفي قوله تعالى وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد دلالة اولا على النهي عن المراء والالحاح في المحاجة فإن المحاجة مع من ينكر الضروري
[ 123 ]
لا تكون إلا مرائا ولجاجا في البحث وثانيا على أن الحكم في حق الناس والامر مطلقا إلى الله سبحانه وليس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنه رسول مبلغ لا حاكم مسيطر كما قال تعالى ليس لك من الامر شئ: آل عمران - 128 وقال تعالى لست عليهم بمسيطر: الغاشية - 23 وثالثا على تهديد أهل الكتاب والمشركين فإن ختم الكلام بقوله والله بصير
بالعباد بعد قوله فإنما عليك البلاغ لا يخلو من ذلك ويدل على ذلك ما وقع من التهديد في نظير الآية وهو قوله تعالى قولوا آمنا بالله إلى أن قال ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم: البقرة - 137 تذكر الآية أن أهل الكتاب إن تولوا عن الاسلام فهم مصرون على الخلاف ثم يهددهم بما يسلي به النبي ويطيب نفسه فالآية أعني قوله وإن تولوا فإنما عليك البلاغ كناية عن الامر بتخلية ما بينهم وبين ربهم وإرجاع أمرهم إليه وهو بصير بعباده يحكم فيهم بما تقتضيه حالهم ويسأله لسان استعدادهم. ومن هنا يظهر أن ما ذكره بعض المفسرين أن في الآية دليلا على حرية الاعتقاد في أمر الدين وأن لا إكراه فيه ليس بوجيه فإن الآية كما عرفت مسوقه لغير ذلك. وفي قوله بصير بالعباد حيث أخذ عنوان العبودية ولم يقل بصير بهم أو بصير بالناس ونحو ذلك إشعار بأن حكمه نافذ فيهم ماض عليهم فإنهم عباده ومربوبون له أسلموا أو تولوا. قوله تعالى إن الذين يكفرون بآيات الله إلى آخر الآية الكلام في الآية وإن كان مسوقا سوق الاستيناف لكنه مع ذلك لا يخلو عن إشعار وبيان للتهديد الذي يشعر به آخر الآية السابقة فإن مضمونها منطبق على أهل الكتاب وخاصة اليهود. وقوله يكفرون ويقتلون في موضعين للاستمرار ويدلان على كون الكفر بآيات الله وهو الكفر بعد البيان بغيا وقتل الانبياء وهو قتل من غير حق وقتل الذين يدعون إلى القسط والعدل وينهون عن الظلم والبغي دأبا وعادة جارية فيما بينهم كما يشتمل عليه تاريخ اليهود فقد قتلوا جمعا كثيرا وجما غفيرا من أنبيائهم وعبادهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وكذا النصارى جروا مجريهم.
[ 124 ]
وقوله فبشرهم بعذاب أليم تصريح بشمول الغضب ونزول السخط وليس هو
العذاب الاخروي فحسب بدليل قوله تعالى عقيب الآية اولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة إلخ فهم مبشرون بالعذاب الدنيوي والاخروي معا أما الاخروي فأليم عذاب النار وأما الدنيوي فهو ما لقوه من التقتيل والاجلاء وذهاب الاموال والانفس وما سخط الله عليهم بإلقاء العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة على ما تصرح به آيات الكتاب العزيز. وفي قوله تعالى اولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين دلالة اولا على حبط عمل من قتل رجلا من جهة أمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر وثانيا على عدم شمول الشفاعة له يوم القيامة لقوله وما لهم من ناصرين. قوله تعالى أ لم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب إلى آخر الآية يومي إلى تسجيل البغي على أهل الكتاب حسب ما نسبه الله تعالى إليهم وأنهم يبغون باتخاذ الخلاف وإيجاد اختلاف الكلمة في الدين فإنهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب كتاب الله بينهم لم يسلموا له وتولوا وأعرضوا عنه وليس ذلك إلا باغترارهم بقولهم لن تمسنا الخ وبما افتروه على الله في دينهم. والمراد بالذين اوتوا نصيبا من الكتاب أهل الكتاب وإنما لم يقل اوتوا الكتاب وقيل اوتوا نصيبا من الكتاب ليدل على أن الذي في أيديهم من الكتاب ليس إلا نصيبا منه دون جميعه لان تحريفهم له وتغييرهم وتصرفهم في كتاب الله أذهب كثيرا من أجزائه كما يومي إليه قوله في آخر الآية التالية وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون وكيف كان فالمراد والله أعلم أنهم يتولون عن حكم كتاب الله اعتزازا بما قالوا واغترارا بما وضعوه من عند أنفسهم واستغنائا به عن الكتاب. قوله تعالى ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار الخ معناه واضح واغترارهم بفريتهم التي افترتها أنفسهم مع أن الانسان لا ينخدع عن نفسه مع العلم بأنها خدعة باطلة إنما هو لكون المغرورين غير المفترين وعلى هذا فنسبة الافتراء الذي توسل إليها
سابقوهم إلى هؤلاء المغرورين من اللاحقين لكونهم امه واحدة يرضى بعضهم بفعال بعض. وإما لان الاغترار بغرور النفس والغرور بالفرية الباطلة مع العلم بكونها فرية
[ 125 ]
باطلة وذكر المغرور أنه هو الذي افترى ما يغتر به من الفرية ليس من أهل الكتاب ومن اليهود خاصة ببعيد وقد حكى الله عنهم مثله بل ما هو أعجب من ذلك حيث قال تعالى وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلى بعضهم إلى بعض قالوا أ تحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون: البقرة - 77. على أن الانسان يجري في أعماله وأفعاله على ما تحصل عنده من الاحوال أو الملكات النفسانية والصور التي زينتها ونمقتها له نفسه دون الذي حصل له العلم به كما أن المعتاد باستعمال المضرات كالبنج والدخان وأكل التراب ونحوها يستعملها وهو يعلم أنها مضرة وأن استعمال المضر مما لا ينبغي إلا أن الهيئة الحاصلة في نفسه ملذة له جاذبة إياه إلى الاستعمال لا تدع له مجالا للتفكر والاجتناب ونظائر ذلك كثيرة. فهم لاستحكام الكبر والبغي وحب الشهوات في أنفسهم يجرون على طبق ما تدعوهم إليه فريتهم فكانت فريتهم هي الغارة لهم في دينهم وهم مع ذلك كرروا ذكر ما افتروه على الله سبحانه ولم يزالوا يكررونه ويلقنونه أنفسهم حتى أذعنوا به أي اطمأنوا وركنوا إليه بالتلقين الذي يؤثر أثر العلم كما بينه علماء النفس فصارت الفرية الباطلة بالتكرار والتلقين تغرهم في دينهم وتمنعهم عن التسليم لله والخضوع للحق الذي أنزله في كتابه. قوله تعالى فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه إلى آخر الآية مدخول كيف مقدر يدل عليه الكلام مثل يصنعون ونحوه وفي الآية إيعاد لهؤلاء الذين تولوا إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم وهم معرضون غير أنه لما اريد بيان أنهم غير
معجزين لله سبحانه اخذ في الكلام من حالهم يوم القيامة وهم مستسلمون يومئذ ما يضاهي حالهم في الدنيا عند الدعوة إلى حكم كتاب الله وهم غير مسلمين له مستكبرون عنه ولهذا اخذ بالمحاذاة بين الكلامين وعبر عن ما يجري عليهم يوم القيامة بمثل قوله إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه الخ دون أن يقال إذا أحييناهم أو بعثناهم أو ما يماثل ذلك. والمعنى والله أعلم أنهم يتولون ويعرضون إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم اغترارا بما افتروه في دينهم واستكبارا عن الحق فكيف يصنعون إذا جمعناهم
[ 126 ]
ليوم لا ريب فيه وهو يوم القضاء الفصل والحكم الحق ووفيت كل نفس ما كسبت والحكم حكم عدل وهم لا يظلمون وإذا كان كذلك كان الواجب عليهم أن لا يتولوا ويعرضوا مظهرين بذلك أنهم معجزون لله غالبون على أمره فإن القدرة كله لله وما هي إلا أيام مهلة وفتنة. = بحث روائي = في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم قال ": سألته عن قوله إن الدين عند الله الاسلام فقال الذي فيه الايمان وعن ابن شهر آشوب عن الباقر عله السلام: في قوله تعالى إن الدين عند الله الاسلام الآية قال التسليم لعلي بن أبيطالب بالولاية. أقول وهو من الجري ولعل ذلك هو المراد أيضا من الرواية السابقة. وعنه أيضا عن علي عليه السلام قال: لانسبن الاسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي - ولا ينسبها أحد بعدي الاسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين - واليقين هو التصديق والتصديق هو الاقرار - والاقرار هو الاداء والاداء هو العمل - المؤمن أخذ دينه عن ربه - إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله - وإن الكافر يعرف كفره بانكاره -.
أيها الناس دينكم دينكم - فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره - إن السيئة فيه تغفر وإن الحسنة في غيره لا تقبل. أقول قوله عليه السلام لانسبن الاسلام نسبة المراد بالنسبة التعريف كما سميت سورة التوحيد في الاخبار بنسبة الرب والذي عرف به تعريف باللازم في غير الاول أعني قوله الاسلام هو التسليم فإنه تعريف لفظي عرف فيه اللفظ بلفظ آخر أوضح منه ويمكن أن يراد بالاسلام المعنى الاصطلاحي له وهو هذا الدين الذي أتى به محمد صلى الله عليه وآله وسلم إشارة إلى قوله تعالى إن الدين عند الله الاسلام وبالتسليم الخضوع والانقياد ذاتا وفعلا فيعود الجميع إلى التعريف باللازم. والمعنى ان هذا الدين المسمى بالاسلام يستتبع خضوع الانسان لله سبحانه
[ 127 ]
ذاتا وفعلا ووضعه نفسه وأعماله تحت أمره وإرادته وهو التسليم والتسليم لله يستتبع أو يلزم اليقين بالله و ارتفاع الريب فيه واليقين يستتبع التصديق وإظهار صدق الدين والتصديق يستتبع الاقرار وهو الاذعان بقراره وكونه ثابتا لا يتزلزل في مقره ولا يزول عن مكانه وإقراره يستتبع أدائه وأدائه يستتبع العمل. وقوله عليه السلام وإن الحسنة في غيره لا تقبل المراد بعدم القبول عدم الثواب بإزائه في الآخرة أو عدم الاثر الجميل المحمود عند الله في الدنيا بسعادة الحيوة وفي الآخرة بنعيم الجنة فلا ينافي ما ورد أن الكفار يوجرون في مقابل حسناتهم بشئ من حسنات الدنيا قال تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره: الزلزال - 7. وفي المجمع عن أبي عبيدة الجراح قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذابا يوم القيامة - قال رجل قتل نبيا - أو رجلا أمر بمعروف أو نهى عن منكر ثم قرء - الذين يقتلون النبيين بغير حق - ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس - ثم قال يا أبا عبيدة - قتلت بنوا إسرائيل ثلثة وأربعين نبيا في ساعة - فقام مأة رجل واثنا عشر رجلا
من عباد بني إسرائيل - فامروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر - فقتلوا جميعا آخر النهار من ذلك اليوم - وهو الذي ذكره الله. اقول وروي هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي عبيدة. وفي الدر المنثور أخرج ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيت المدراس على جماعه من يهود - فدعاهم إلى الله فقال له النعمان بن عمرو وحرث بن زيد - على أي دين أنت يا محمد قال - على ملة إبراهيم ودينه قالا - فإن ابراهيم كان يهوديا فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - فهلما إلى التوراة فهي بيننا وبينكم - فأبيا عليه فأنزل الله - ألم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم إلى قوله وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون. أقول وروى بعضهم أن قوله تعالى ألم تر نزل في قصة الرجم وسيجئ ذكرها في ذيل الكلام على قوله تعالى يا أهل الكتاب قد جائكم رسولنا يبين لكم
[ 128 ]
كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب الآية: المائدة - 15 والروايتان من الآحاد وليستا بتلك القوة = قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير (26). تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب (27): = بيان = الآيتان لا تخلوان عن ارتباط ما بما تقدمهما من الكلام في شأن أهل الكتاب وخاصة اليهود لاشتماله على وعيدهم وتهديدهم بعذاب الدنيا والآخرة ومن العذاب ما
سلب الله عنهم الملك وضرب عليهم الذل والمسكنة إلى يوم القيامة وأخذ أنفاسهم وذهب باستقلالهم في السؤدد. على أن غرض السورة كما مر بيان أن الله سبحانه هو القائم على خلق العالم وتدبيره فهو مالك الملك يملك من يشاء ويعز من يشاء وبالجملة هو المعطي للخير لمن يشاء وهو الآخذ النازع للملك والعزة ولكل خير عمن يشاء فمضمون الآيتين غير خارج عن غرض السورة. قوله تعالى قل اللهم مالك الملك أمر بالالتجاء إلى الله تعالى الذي بيده الخير على الاطلاق وله القدرة المطلقة ليتخلص من هذه الدعاوي الوهمية التي نشبت في قلوب المنافقين والمتمردين من الحق من المشركين وأهل الكتاب فضلوا وهلكوا بما قدروه لانفسهم من الملك والعزة والغنى من الله سبحانه ويعرض الملتجي نفسه على إفاضة مفيض الخير والرازق لمن يشاء بغير حساب. والملك بكسر الميم مما نعرفه فيما بيننا ونعهده من غير ارتياب في أصله فمن
[ 129 ]
الملك بكسر الميم ما هو حقيقي وهو كون شئ كالانسان مثلا بحيث يصح له أن يتصرف في شئ أي تصرف أمكن بحسب التكوين والوجود كما يمكن للانسان أن يتصرف في باصرته بإعمالها وإهمالها بأي نحو شاء وأراد وكذا في يده بالقبض والبسط والاخذ بها والترك ونحو ذلك ولا محالة بين المالك وملكه بهذا المعنى رابطة حقيقية غير قابلة التغير يوجب قيام المملوك بالمالك نحو قيام لا يستغنى عنه ولا يفارقه إلا بالبطلان كالبصر واليد إذا فارقا الانسان ومن هذا القبيل ملكه تعالى بكسر الميم للعالم ولجميع أجزائه وشئونه على الاطلاق فله أن يتصرف فيما شاء كيفما شاء. ومن الملك بكسر الميم ما هو وضعي اعتباري وهو كون الشئ كالانسان بحيث يصح له أن يتصرف في شئ كيف شاء بحسب الرابطة التي اعتبرها العقلاء من أهل الاجتماع لغرض نيل الغايات والاغراض الاجتماعية وإنما هو محاذاة منهم لما عرفوه
في الوجود من الملك الحقيقي وآثاره فاعتبروا مثله في ظرف اجتماعهم بالوضع والدعوى لينالوا بذلك من هذه الاعيان والامتعة فوائد نظير ما يناله المالك الحقيقي من ملكه الحقيقي التكويني. ولكون الرابطة بين المالك والمملوك في هذا النوع من الملك بالوضع والاعتبار نرى ما نرى فيه من جواز التغير والتحول فمن الجائز أن ينتقل هذا النوع من الملك من إنسان إلى آخر بالبيع والهبة وسائر أسباب النقل. وأما الملك بالضم فهو وإن كان من سنخ الملك بالكسر إلا أنه ملك لما يملكه جماعة الناس فإن المليك مالك لما يملكه رعاياه له أن يتصرف فيما يملكونه من غير أن يعارض تصرفهم تصرفه ولا أن يزاحم مشيئتهم مشيئته فهو في الحقيقة ملك على ملك وهو ما نصطلح عليه بالملك الطولي كملك المولى للعبد وما في يده ولهذا كان للملك بالضم من الاقسام ما ذكرناه للملك بالكسر. والله سبحانه مالك كل شئ ملكا مطلقا أما أنه مالك لكل شئ على الاطلاق فلان له الربوبية المطلقة والقيمومة المطلقة على كل شئ فإنه خالق كل شئ وإله كل شئ قال تعالى ذلكم الله ربكم خالق كل شئ لا إله إلا هو: المؤمن - 62
[ 130 ]
وقال تعالى له ما في السموات وما في الارض: البقرة - 255 إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن كل ما يسمى شيئا فهو قائم الذات به مفتقر الذات إليه لا يستقل دونه فلا يمنعه فيما أراده منها وفيها شئ وهذا هو الملك بالكسر كما مر. وأما أنه مليك على الاطلاق فهو لازم إطلاق كونه مالكا للموجودات فإن الموجودات أنفسها يملك بعضها بعضا كالاسباب حيث تملك مسبباتها والاشياء تملك قواها الفعالة والقوى الفعالة تملك أفعالها كالانسان يملك أعضائه وقواه الفعالة من سمع وبصر وغير ذلك وهي تملك أفعالها وإذ كان الله سبحانه يملك كل شئ فهو يملك كل
من يملك منها شيئا ويملك ما يملكه و هذا هو الملك بالضم فهو مليك على الاطلاق قال تعالى له الملك وله الحمد: التغابن - 1 وقال تعالى عند مليك مقتدر: القمر - 55 إلى غير ذلك من الآيات هذا هو الحقيقي من الملك والملك. وأما الاعتباري منها فإنه تعالى مالك لانه هو المعطي لكل من يملك شيئا من المال ولو لم يملك لم يصح منه ذلك ولكان معطيا لما لا يملك لمن لا يملك قال تعالى وآتوهم من مال الله الذي آتاكم: النور - 33. وهو تعالى مليك يملك ما في أيدي الناس لانه شارع حاكم يتصرف بحكمه فيما يملكه الناس كما يتصرف الملوك فيما عند رعاياهم من المال قال تعالى قل أعوذ برب الناس ملك الناس: الناس - 2 وقال تعالى وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها: إبراهيم - 34 وقال تعالى وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه: الحديد - 7 وقال تعالى وما لكم أن لا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والارض: الحديد - 10 وقال تعالى لمن الملك اليوم لله الواحد القهار: المؤمن - 16 فهو تعالى يملك ما في أيدينا قبلنا ويملكه معنا وسيراه بعدنا عز ملكه. ومن التأمل فيما تقدم يظهر أن قوله تعالى اللهم مالك الملك مسوق اولا لبيان ملكه تعالى بالكسر لكل ملك بالضم ومالكية الملك بالضم هو الملك على الملك بالضم فيهما فهو ملك الملوك الذي هو المعطي لكل ملك ملكه كما قال تعالى أن آتاه الله الملك: البقرة - 258 وقال تعالى وآتيناهم ملكا عظيما: النساء - 54.
[ 131 ]
وثانيا يدل بتقديم لفظ الجلالة على بيان السبب فهو تعالى مالك الملك لانه الله جلت كبريائه وهو ظاهر.
وثالثا أن المراد بالملك في الآية الشريفة والله أعلم ما هو أعم من الحقيقي والاعتباري فإن ما ذكر من أمره تعالى في الآية الاولى أعني قوله تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء على ما سنوضحه من شؤون الملك الاعتباري وما ذكره في الآية الثانية من شؤون الملك الحقيقي فهو مالك الملك مطلقا. قوله تعالى تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء الملك باطلاقه شامل لكل ملك حقا أو باطلا عدلا أو جورا فان الملك كما تقدم بيانه في قوله أن آتاه الله الملك الآية: البقرة - 258 في نفسه موهبة من مواهب الله ونعمة يصلح لان يترتب عليه آثار حسنة في المجتمع الانساني وقد جبل الله النفوس على حبه والرغبة فيه والملك الذي تقلده غير أهله ليس بمذموم من حيث إنه ملك وإنما المذموم إما تقلد من لا يليق بتقلده كمن تقلده جورا وغصبا وإما سيرته الخبيثة مع قدرته على حسن السيرة ويرجع هذا الثاني أيضا بوجه إلى الاول. وبوجه آخر يكون الملك بالنسبة إلى من هو أهله نعمة من الله سبحانه إليه وبالنسبة إلى غير أهله نقمة وهو على كل حال منسوب إلى الله سبحانه وفتنة يمتحن به عباده. وقد تقدم أن التعليق على المشية في أفعاله تعالى كما في هذه الآية ليس معناه وقوع الفعل جزافا تعالى عن ذلك بل المراد عدم كونه تعالى مجبرا في فعله ملزما عليه فهو تعالى يفعل ما يفعل بمشيته المطلقة من غير أن يجبره أحد أو يكرهه وأن جرى فعله على المصلحة دائما. قوله تعالى وتعز من تشاء وتذل من تشاء العز كون الشئ بحيث يصعب مناله ولذا يقال للشئ النادر الوجود أنه عزيز الوجود أي صعب المنال ويقال عزيز القوم لمن يصعب قهره والغلبة عليه من بينهم فهو صعب المنال بالقهر والغلبة وصعب
المنال من حيث مقامه فيهم ووجد انه كل ما لهم من غير عكس ثم استعمل في كل
[ 132 ]
صعوبة كما يقال يعز على كذا قال تعالى عزيز عليه ما عنتم: التوبة - 128 أي صعب عليه واستعمل في كل غلبة كما يقال من عز بز أي من غلب سلب قال تعالى وعزني في الخطاب: ص - 23 أي غلبني والاصل في معناه ما مر. ويقابله الذل وهو سهولة المنال بقهر محقق أو مفروض قال تعالى ضربت عليهم الذلة والمسكنة: البقرة - 61 وقال تعالى واخفض لهما جناح الذل الاسراء - 24 وقال تعالى أذلة على المؤمنين: المائدة - 54. والعزة من لوازم الملك على الاطلاق وكل من سواه إذا تملك شيئا فهو تعالى خوله ذلك وملكه وإن ملك على قوم فهو تعالى آتاه ذلك فكانت العزة له تعالى محضا وما عند غيره منها فانما هو بايتائه وإفضاله قال تعالى أيبتغون عندهم العزة فان العزة لله جميعا - النساء - 139 وقال تعالى ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين: المنافقون - 8 وهذه هي العزة الحقيقية وأما غيرها فانما هي ذل في صورة عز قال تعالى بل الذين كفروا في عزة وشقاق: ص - 2 ولذا أردفه بقوله كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص: ص - 3. وللذل بالمقابلة ما يقابل العز من الحكم فكل شئ غيره تعالى ذليل في نفسه إلا من أعزه الله تعالى تعز من تشاء وتذل من تشاء. قوله تعالى بيدك الخير إنك على كل شئ قدير الاصل في معنى الخير هو الانتخاب وإنما نسمي الشئ خيرا لانا نقيسه إلى شئ آخر نريد أن نختار أحدهما فننتخبه فهو خير ولا نختاره إلا لكونه متضمنا لما نريده ونقصده فما نريده هو الخير بالحقيقة وإن كنا أردناه أيضا لشئ آخر فذلك الآخر هو الخير بالحقيقة وغيره خير
من جهته فالخير بالحقيقة هو المطلوب لنفسه يسمى خيرا لكونه هو المطلوب إذا قيس إلى غيره وهو المنتخب من بين الاشياء إذا أردنا واحدا منها وترددنا في اختياره من بينها. فالشئ كما عرفت إنما يسمى خيرا لكونه منتخبا إذا قيس إلى شئ آخر مؤثرا بالنسبة إلى ذلك الآخر ففي معناه نسبة إلى الغير ولذا قيل إنه صيغة التفضيل وأصله أخير وليس بأفعل التفضيل وإنما يقبل انطباق معنى التفضيل على مورده فيتعلق
[ 133 ]
بغيره كما يتعلق أفعل التفضيل يقال زيد أفضل من عمرو وزيد أفضلهما ويقال زيد خير من عمرو وزيد خيرهما. ولو كان خير صيغة التفضيل لجرى فيه ما يجري عليه ويقال أفضل وأفاضل وفضلي وفضليات ولا يجرى ذلك في خير بل يقال خير وخيرة وأخيار وخيرات كما يقال شيخ وشيخة وأشياخ وشيخات فهو صفة مشبهة. ومما يؤيده استعماله في موارد لا يستقيم فيه معنى أفعل التفضيل كقوله تعالى قل ما عند الله خير من اللهو: الجمعة - 11 فلا خير في اللهو حتى يستقيم معنى أفعل وقد اعتذروا عنه وعن أمثاله بأنه منسلخ فيها عن معنى التفضيل وهو كما ترى فالحق أن الخير إنما يفيد معنى الانتخاب واشتمال ما يقابله من المقيس عليه على شئ من الخير من الخصوصيات الغالبة في الموارد ويظهر مما تقدم أن الله سبحانه هو الخير على الاطلاق لانه الذي ينتهي إليه كل شئ ويرجع إليه كل شئ ويطلبه ويقصده كل شئ لكن القرآن الكريم لا يطلق عليه سبحانه الخير إطلاق الاسم كسائر أسمائه الحسنى جلت أسمائه وإنما يطلقه عليه إطلاق التوصيف كقوله تعالى والله خير وأبقى: طه - 73 وكقوله تعالى
أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار: يوسف - 39. نعم وقع الاطلاق على نحو التسمية بالاضافة كقوله تعالى والله خير الرازقين: الجمعة - 11 وقوله وهو خير الحاكمين: الاعراف - 87 وقوله وهو خير الفاصلين: الانعام - 57 وقوله وهو خير الناصرين: آل عمران - 150 وقوله والله خير الماكرين: آل عمران - 54 وقوله وأنت خير الفاتحين: الاعراف - 89 وقوله وأنت خير الغافرين: الاعراف - 155 وقوله وأنت خير الوارثين: الانبياء - 89 وقوله وأنت خير المنزلين: المؤمنون - 29 وقوله وأنت خير الراحمين: المؤمنون - 109. ولعل الوجه في جميع ذلك اعتبار ما في مادة الخير من معنى الانتخاب فلم يطلق اطلاق الاسم عليه تعالى صونا لساحته تعالى أن يقاس إلى غيره بنحو الاطلاق وقد عنت الوجوه لجنابه وأما التسمية عند الاضافة والنسبة وكذا التوصيف في الموارد
[ 134 ]
المقتضية لذلك فلا محذور فيه. والجملة أعنى قوله تعالى بيدك الخير تدل على حصر الخير فيه تعالى لمكان اللام وتقديم الظرف الذي هو الخبر والمعنى أن أمر كل خير مطلوب إليك وأنت المعطي المفيض إياه. فالجملة في موضع التعليل لما تقدمت عليها من الجمل أعني قوله تؤتي الملك من تشاء إلخ من قبيل تعليل الخاص بما يعمه وغيره أعني أن الخير الذي يؤتيه تعالى أعم من الملك والعزة وهو ظاهر. وكما يصح تعليل إيتاء الملك والاعزاز بالخير الذي بيده تعالى كذلك يصح تعليل نزع الملك والاذلال فانهما وإن كانا شرين لكن ليس الشر إلا عدم الخير فنزع الملك ليس إلا عدم الاعزاز فانتهاء كل خير إليه تعالى هو الموجب لانتهاء كل حرمان من الخير بنحو إليه تعالى نعم الذي يجب انتفائه عنه تعالى هو الاتصاف بما لا يليق بساحة قدسه من نواقص أفعال العباد وقبائح المعاصي إلا بنحو الخذلان وعدم التوفيق
كما مر البحث عن ذلك. وبالجملة هناك خير وشر تكوينيان كالملك والعزة ونزع الملك والذلة والخير التكويني أمر وجودي من إيتاء الله تعالى والشر التكويني إنما هو عدم إيتاء الخير ولا ضير في انتسابه إلى الله سبحانه فإنه هو المالك للخير لا يملكه غيره فإذا أعطى غيره شيئا من الخير فله الامر وله الحمد وإن لم يعط أو منع فلا حق لغيره عليه حتى يلزمه عليه فيكون امتناعه من الاعطاء ظلما على أن إعطائه ومنعه كليهما مقارنان للمصالح العامة الدخيلة في صلاح النظام الدائر بين أجزاء العالم. وهناك خير وشر تشريعيان وهما أقسام الطاعات والمعاصي وهما الافعال الصادرة عن الانسان من حيث انتسابها إلى اختياره ولا تستند من هذه الجهة إلى غير الانسان قطعا وهذه النسبة هي الملاك لحسنها وقبحها ولو لا فرض اختيار في صدورها لم تتصف بحسن ولا قبح وهي من هذه الجهة لا تنتسب إليه تعالى إلا من حيث توفيقه تعالى وعدم توفيقه لمصالح تقتضي ذلك. فقد تبين إن الخير كله بيد الله وبذلك ينتظم أمر العالم في اشتماله على كل
[ 135 ]
وجدان وحرمان وخير وشر وقد ذكر بعض المفسرين أن في قوله بيدك الخير ايجازا بالحذف والتقدير بيدك الخير والشر كما قيل نظير ذلك في قوله تعالى وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر " النحل - 81 أي والبرد. وكأن السبب في ذلك الفرار عن الاعتزال لقول المعتزلة بعدم استناد الشرور إليه تعالى وهو من عجيب الاجتراء على كلامه تعالى والمعتزلة وان أخطاوا في نفي الانتساب نفيا مطلقا حتى بالواسطة لكنه لا يجوز هذا التقدير الغريب وقد تقدم البحث عن ذلك وبيان حقيقة الامر.
قوله تعالى إنك على كل شئ قدير في مقام التعليل لكون الخير بيده تعالى فإن القدرة المطلقة على كل شئ توجب أن لا يقدر أحد على شئ إلا بإقداره تعالى اياه على ذلك ولو قدر أحد على شئ من غير أن تستند قدرته إلى إقداره تعالى كان مقدوره من هذه الجهة خارجا عن سعة قدرته تعالى فلم يكن قديرا على كل شئ وإذا كانت لقدرته هذه السعة كان كل خير مفروض مقدورا عليه له تعالى وكان أيضا كل خير أفاضه غيره منسوبا إليه مفاضا عن يديه فهو له أيضا فجنس الخير الذي لا يشذ منه شاذ بيده وهذا هو الحصر الذي يدل عليه قوله تعالى بيدك الخير. قوله تعالى تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل الولوج هو الدخول والظاهر كما ذكروه أن المراد من إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل ما هو المشاهد من اختلاف الليل والنهار في عرض السنة بحسب اختلاف عروض البقاع والامكنة على بسيط الارض واختلاف ميول الشمس فتأخذ الايام في الطول والليالي في القصر وهو ولوج النهار في الليل بعد انتهاء الليالى في الطول من أول الشتاء إلى أول الصيف ثم يأخذ الليالي في الطول والايام في القصر وهو ولوج الليل في النهار بعد انتهاء النهار في الطول من أول الصيف إلى أول الشتاء كل ذلك في البقاع الشمالية والامر في البقاع الجنوبية على عكس الشمالية منها فالطول في جانب قصر في الجانب الآخر فهو تعالى يولج الليل في النهار والنهار في الليل دائما أما الاستواء في خط الاستواء والقطبين فإنما هو بحسب الحس وأما في الحقيقة فحكم التغيير دائم وشامل.
[ 136 ]
قوله تعالى وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وذلك إخراج المؤمن من صلب الكافر وإخراج الكافر من صلب المؤمن فإنه تعالى سمى الايمان حيوة ونورا والكفر موتا وظلمة كما قال تعالى أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها: الانعام - 122 ويمكن أن يراد الاعم
من ذلك ومن خلق الاحياء كالنبات والحيوان من الارض العديمة الشعور وإعادة الاحياء إلى الارض بإماتتها فإن كلامه تعالى كالصريح في أنه يبدل الميت إلى الحي والحي إلى الميت قال تعالى ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون: المؤمنون - 15 إلى غيرها من الآيات. وأما ما ذهب إليه بعض علماء الطبيعة أن الحيوة التى تنتهي إلى جراثيمها تسلك فيها سلوكا من جرثومة حية إلى اخرى مثلها من غير أن تنتهي إلى المادة الفاقدة للشعور وذلك لانكاره الكون الحادث فيبطله الموت المحسوس الذي تثبته التجربة في جراثيم الحيوة فتبدل الحيوة إلى الموت يكشف عن الربط بينهما ولبقية الكلام مقام آخر. والآية أعني قوله تعالى تولج الليل في النهار إلخ تصف تصرفه تعالى في الملك الحقيقي التكويني كما أن الآية السابقة أعني قوله تؤتي الملك من تشاء إلخ تصف تصرفه في الملك الاعتباري الوضعي وتوابعه. وقد وضع في كل من الآيتين أربعة أنحاء من التصرف بنحو التقابل فوضع في الاولى إيتاء الملك ونزعه وبحذائهما في الثانية إيلاج الليل في النهار وعكسه ووضع الاعزاز والاذلال وبحذائهما إخراج الحي من الميت وعكسه وفي ذلك من عجيب اللطف ولطيف المناسبة ما لا يخفى فإن إيتاء الملك نوع تسليط لبعض أفراد الناس على الباقين بإعفاء قدر من حريتهم وإطلاقهم الغريزي وإذهابها كتسليط الليل على النهار بإذهاب الليل بعض ما كان يظهره النهار ونزع الملك بالعكس من ذلك وكذا إعطاء العزة نوع إحياء لمن كان خامد الذكر خفي الاثر لولاها نظير إخراج الحي من الميت والاذلال بالعكس من ذلك وفي العزة حيوة وفي الذلة ممات. وهنا وجه آخر وهو أن الله عد النهار في كلامه آية مبصرة والليل آية ممحوة قال تعالى فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة: الاسراء - 12 ومظهر
[ 137 ]
هذا الاثبات والامحاء في المجتمع الانساني ظهور الملك والسلطنة وزواله وعد الحيوة والموت مصدرين للآثار من العلم والقدرة كما قال تعالى أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون: النحل - 21 وخص العزة لنفسه ولرسوله وللمؤمنين حيث قال ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين: المنافقون - 8 وهم الذين يذكرهم بالحيوة فصارت العزة والذلة مظهرين في المجتمع الانساني للحيوة والموت ولهذا قابل ما ذكره في الآية الاولى من إيتاء الملك ونزعه والاعزاز والاذلال بما في الآية الثانية من إيلاج الليل في النهار وعكسه وإخراج الحي من الميت وعكسه. ثم وقعت المقابلة بين ما ذكره في الآية الثانية وترزق من تشاء بغير حساب وما ذكره في الآية الاولى بيدك الخير كما سيجئ بيانه. قوله تعالى وترزق من تشاء بغير حساب المقابلة المذكورة آنفا تعطي أن يكون قوله وترزق إلخ بيانا لما سبقه من إيتاء الملك والعز والايلاج وغيره فالعطف عطف تفسير فيكون من قبيل بيان الخاص من الحكم بما هو أعم منه كما أن قوله بيدك الخير بالنسبة إلى ما سبقه من هذا القبيل والمعنى إنك متصرف في خلقك بهذه التصرفات لانك ترزق من تشاء بغير حساب. = معنى الرزق في القرآن الرزق معروف والذي يتحصل من موارد استعماله أن فيه شوبا من معنى العطاء كرزق الملك الجندي ويقال لما قرره الملك لجنديه مما يؤتاه جملة رزقة وكان يختص بما يتغذى به لا غير كما قال تعالى وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف: البقرة - 233 فلم يعد الكسوة رزقا. ثم توسع في معناه فعد كل ما يصل الانسان من الغذاء رزقا كأنه عطية بحسب الحظ والجد وإن لم يعلم معطيه ثم عمم فسمى كل ما يصل إلى الشئ مما ينتفع به رزقا
وإن لم يكن غذائا كسائر مزايا الحيوة من مال وجاه وعشيرة وأعضاد وجمال وعلم وغير ذلك قال تعالى ام تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين " المؤمنون - 72 وقال فيما يحكى عن شعيب قال يا قوم أرأيتم إن كنت على
[ 138 ]
بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا: هود - 88 والمراد به النبوة والعلم إلى غير ذلك من الآيات. والمتحصل من قوله تعالى إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين " الذاريات - 58 والمقام مقام الحصر اولا أن الرزق بحسب الحقيقة لا ينتسب إلا إليه فما ينسب إلى غيره تعالى من الرزق كما يصدقه أمثال قوله تعالى والله خير الرازقين: الجمعة - 11 حيث أثبت رازقين وعده تعالى خيرهم وقوله وارزقوهم فيها واكسوهم: النساء - 5 كل ذلك من قبيل النسبة بالغير كما أن الملك والعزة لله تعالى لذاته ولغيره بإعطائه وإذنه فهو الرزاق لا غير. وثانيا أن ما ينتفع به الخلق في وجودهم مما ينالونه من خير فهو رزقهم والله رازقه ويدل على ذلك مضافا إلى آيات الرزق على كثرتها آيات كثيرة أخر كالآيات الدالة على أن الخلق والامر والحكم والملك بكسر الميم والمشية والتدبير والخير لله محضا عز سلطانه. وثالثا أن ما ينتفع به الانسان انتفاعا محرما لكونه سببا للمعصية لا ينسب إليه تعالى لانه تعالى نفي نسبة المعصية إلى نفسه من جهة التشريع قال تعالى قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون: الاعراف - 28 وقال تعالى إن الله يأمر بالعدل والاحسان إلى أن قال وينهي عن الفحشاء والمنكر: النحل - 90 وحاشاه سبحانه أن ينهي عن شئ ثم يأمر به أو ينهي عنه ثم يحصر رزقه فيه. ولا منافاة بين عدم كون نفع محرم رزقا بحسب التشريع وكونه رزقا بحسب
التكوين إذ لا تكليف في التكوين حتى يستتبع ذلك قبحا وما بينه القرآن من عموم الرزق إنما هو بحسب حال التكوين وليس البيان الالهي بموقوف على الافهام الساذجة العامية حتى يضرب صفحا عن التعرض للمعارف الحقيقية وفي القرآن شفاء لجميع القلوب لا يستضر به إلا الخاسرون قال تعالى وننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " الاسراء - 82. على ان الآيات تنسب الملك الذي لامثال نمرود وفرعون والاموال والزخارف التي بيد أمثال قارون إلى إيتاء الله سبحانه فليس إلا أن ذلك كله بإذن الله آتاهم
[ 139 ]
ذلك امتحانا وإتماما للحجة وخذلانا واستدراجا ونحو ذلك وهذا كله نسب تشريعية وإذا صحت النسبة التشريعية من غير محذور لزوم القبح فصحة النسبة التكوينية التي لا مجال للحسن والقبح العقلائيين فيها أوضح. ثم إنه تعالى ذكر أن كل شئ فهو مخلوق له منزل من عنده من خزائن رحمته كما قال وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " الحجر - 21 وذكر أيضا أن ما عنده فهو خير قال تعالى وما عند الله خير: القصص - 60 وانضمام الآيتين وما في معناهما من الآيات يعطي أن كل ما يناله شئ في العالم ويتلبس به مدى وجوده فهو من الله سبحانه وهو خير له ينتفع به ويتنعم بسببه كما يفيده أيضا قوله تعالى الذي أحسن كل شئ خلقه " الم السجدة - 7 مع قوله تعالى ذلكم الله ربكم خالق كل شئ لا إله إلا هو: المؤمن - 64. وأما كون بعض ما ينال الاشياء من المواهب الالهية شرا يستضر به فإنما شريته وإضراره نسبي متحقق بالنسبة إلى ما يصيبه خاصة مع كونه خيرا نافعا بالنسبة إلى آخرين وبالنسبة إلى علله وأسبابه في نظام الكون كما مر يشير إليه قوله تعالى وما
أصابك من سيئة فمن نفسك " النساء - 79 وقد مر البحث عن هذا المعنى فيما مر. وبالجملة جميع ما يفيضه الله على خلقه من الخير وكله خير ينتفع به يكون رزقا بحسب انطباق المعنى إذ ليس الرزق إلا العطية التي ينتفع بها الشئ المرزوق وربما أشار إليه قوله تعالى ورزق ربك خير: طه - 131. ومن هنا يظهر أن الرزق والخير والخلق بحسب المصداق على ما يبينه القرآن امور متساوية فكل رزق خير ومخلوق وكل خلق رزق وخير وإنما الفرق أن الرزق يحتاج إلى فرض مرزوق يرتزق به فالغذاء رزق للقوة الغاذية لاحتياجها إليه والغاذية رزق للواحد من الانسان لاحتياجه إليها والواحد من الانسان رزق لوالديه لانتفاعهما به وكذا وجود الانسان خير للانسان بفرضه عاريا عن هذه النعمة الالهية قال تعالى الذي أعطى كل شئ خلقه: طه - 50. والخير يحتاج إلى فرض محتاج طالب يختار من بين ما يواجهه ما هو مطلوبه فالغذاء خير للقوة الغاذية بفرضها محتاجة إليه طالبة له تنتخبه وتختاره إذا أصابته والقوه الغاذية خير للانسان ووجود الانسان خير له بفرضه محتاجا طالبا
[ 140 ]
وأما الخلق والايجاد فلا يحتاج من حيث تحقق معناه إلى شئ ثابت أو مفروض فالغذاء مثلا مخلوق موجد في نفسه وكذا القوة الغاذية مخلوقة والانسان مخلوق. ولما كان كل رزق لله وكل خير لله محضا فما يعطيه تعالى من عطية وما أفاضه من خير وما يرزقه من رزق فهو واقع من غير عوض وبلا شئ مأخوذ في مقابله إذ كل ما فرضنا من شئ فهو له تعالى حقا ولا استحقاق هناك إذ لا حق لاحد عليه تعالى إلا ما جعل هو على نفسه من الحق كما جعله في مورد الرزق قال تعالى وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها: هود - 6 وقال تعالى فورب السماء والارض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون: الذاريات - 23. فالرزق مع كونه حقا على الله لكونه حقا مجعولا من قبله عطية منه من غير
استحقاق للمرزوق من جهة نفسه بل من جهة ما جعله على نفسه من الحق. ومن هنا يظهر أن للانسان المرتزق بالمحرمات رزقا مقدرا من الحلال بنظر التشريع فإن ساحته تعالى منزهة من أن يجعل رزق إنسان حقا ثابتا على نفسه ثم يرزقه من وجه الحرام ثم ينهاه عن التصرف فيه ويعاقبه عليه. وتوضيحه ببيان آخر أن الرزق لما كان هو العطية الالهية بالخير كان هو الرحمة التي له على خلقه وكما أن الرحمة رحمتان رحمة عامة تشمل جميع الخلق من مؤمن وكافر ومتق وفاجر وإنسان وغير إنسان ورحمة خاصة وهي الرحمة الواقعة في طريق السعادة كالايمان والتقوى والجنة كذلك الرزق منه ما هو رزق عام وهو العطية الالهية العامة الممدة لكل موجود في بقاء وجوده ومنه ما هو رزق خاص وهو الواقع في مجرى الحل. وكما أن الرحمة العامة والرزق العام مكتوبان مقدران قال تعالى وخلق كل شئ فقدره تقديرا: الفرقان - 2 كذلك الرحمة الخاصة والرزق الخاص مكتوبان مقدران وكما أن الهدى وهو رحمة خاصة مكتوب مقدر تقديرا تشريعيا لكل إنسان مؤمنا كان أو كافرا ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب قال تعالى وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون ما اريد منهم من رزق وما اريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين: الذاريات - 58 وقال تعالى وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه: الاسراء - 23 فالعبادة وهى تستلزم الهدى وتتوقف عليه مقضية مقدرة
[ 141 ]
تشريعا كذلك الرزق الخاص هو الذى عن مجرى الحل مقضى مقدر قال تعالى قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افترائا على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين: الانعام - 140 وقال تعالى والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء: النحل - 71 والآيتان كما ترى ذواتا إطلاق قطعي يشمل الكافر والمؤمن ومن
يرتزق بالحلال ومن يرتزق بالحرام. ومن الواجب أن يعلم أن الرزق كما مر من معناه هو الذي ينتفع به من العطية على قدر ما ينتفع فمن اوتي الكثير من المال وهو لا يأكل إلا القليل منه فإنما رزقه هو الذي أكله والزائد الباقي ليس من الرزق إلا من جهة الايتاء دون الاكل فسعة الرزق وضيقه غير كثرة المال مثلا وقلته وللكلام في الرزق تتمة ستمر بك في قوله تعالى وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين: هود - 6. ولنرجع إلى ما كنا فيه من الكلام في قوله تعالى وترزق من تشاء بغير حساب فنقول توصيف الرزق بكونه بغير حساب إنما هو لكون الرزق منه تعالى بالنظر إلى حال المرزوقين بلا عوض ولا استحقاق لكون ما عندهم من استدعاء أو طلب أو غير ذلك مملوكا له تعالى محضا فلا يقابل عطيته منهم شئ فلا حساب لرزقه تعالى. وأما كون نفى الحساب راجعا إلى التقدير بمعنى كونه غير محدود ولا مقدر فيدفعه آيات القدر كقوله تعالى إنا كل شئ خلقناه بقدر: القمر - 49 وقوله ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شئ قدرا " الطلاق - 3 فالرزق منه تعالى عطية بلا عوض لكنه مقدر على ما يريده تعالى. وقد تحصل من الآيتين اولا أن الملك بضم الميم كله لله كما أن الملك بكسر الميم كله لله. وثانيا أن الخير كله بيده ومنه تعالى. وثالثا أن الرزق عطية منه تعالى بلا عوض واستحقاق.
[ 142 ]
ورابعا أن الملك والعزة وكل خير اعتباري من خيرات الاجتماع كالمال والجاه
والقوة وغير ذلك كل ذلك من الرزق المرزوق. = بحث روائي = في الكافي عن عبد الاعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له قل اللهم مالك الملك - تؤتي الملك من تشاء - وتنزع الملك ممن تشاء أليس قد آتى الله بني أمية الملك قال - ليس حيث تذهب إن الله عز وجل آتانا الملك - وأخذته بني أمية بمنزلة الرجل يكون له الثوب - فيأخذه الآخر فليس هو للذي أخذه: اقول وروى مثله العياشي عن داود بن فرقد عنه عليه السلام وإيتاء الملك على ما تقدم بيانه يكون على وجهين إيتاء تكويني وهو انبساط السلطنة على الناس ونفوذ القدرة فيهم سواء كان ذلك بالعدل أو بالظلم كما قال تعالى في نمرود أن آتاه الله الملك وأثره نفوذ الكلمة ومضى الامر والارادة وسنبحث عن معنى كونه تكوينيا وإيتاء تشريعي وهو القضاء بكونه ملكا مفترض الطاعة كما قال تعالى إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا " البقرة - 247 وأثره افتراض الطاعة وثبوت الولاية ولا يكون إلا العدل وهو مقام محمود عند الله سبحانه والذي كان لبني أمية من الملك هو المعنى الاول وأثره وقد اشتبه الامر على راوي الحديث فأخذ ملكهم بالمعنى الاول وأخذ معه أثر المعنى الثاني وهو المقام الشرعي والحمد الديني فنبهه عليه السلام أن الملك بهذا المعنى ليس لبني أمية بل هو لهم ولهم أثره وبعبارة اخرى الملك الذي لبني أمية إنما يكون محمودا إذا كان في أيديهم عليهم وأما في أيدي بني أمية فليس إلا مذموما لانه مغصوب وعلى هذا فلا ينسب إلى إيتاء الله إلا بنحو المكر والاستدراج كما في ملك نمرود وفرعون. وقد اشتبه الامر على هؤلاء أنفسهم أعني بني أمية في هذه الآية ففي الارشاد في قصة إشخاص يزيد بن معاوية رؤوس شهداء الطف قال المفيد ولما وضعت الرؤوس وفيها رأس الحسين عليه السلام قال يزيد
نفلق هاما من رجال أعزة * علينا وهم كانوا أعق وأظلما.
[ 143 ]
قال ثم أقبل على أهل مجلسه فقال إن هذا كان يفخر على ويقول أبي خير من أب يزيد وامي خير من امه وجدى خير من جده وأنا خير منه فهذا الذي قتله فأما قوله بأن أبي خير من أب يزيد فلقد حاج أبي أباه فقضى الله لابي على أبيه وأما قوله بأن امي خير من ام يزيد فلعمري لقد صدق إن فاطمة بنت رسول الله خير من امي وأما قوله جدي خير من جده فليس لاحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول بأنه خير من محمد وأما قوله بأنه خير مني فلعله لم يقرء هذه الآية قل اللهم مالك الملك الآية. وردت زينب بنت علي عليه وعليها السلام عليه قوله بمثل ما ذكره الصادق عليه السلام في الرواية السابقة على ما رواه السيد بن طاووس وغيره فقالت فيما خاطبته: أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الارض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الاسارى ان بنا على الله هوانا وبك عليه كرامة وأن ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان مسرورا حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والامور متسقة وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا مهلا مهلا أنسيت قول الله: ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لانفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين " الخطبة. وفي المجمع في قوله تعالى وتخرج الحي من الميت الآية قيل معناه وتخرج المؤمن من الكافر وتخرج الكافر من المؤمن قال وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام. أقول وروى قريبا منه الصدوق عن العسكري عليه السلام. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه من طريق أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود
أو عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي قال المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن. وفيه أيضا بالطريق السابق عن سلمان الفارسي قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما خلق الله آدم عليه السلام أخرج ذريته فقبض قبضه بيمينه فقال: هؤلاء أهل الجنة ولا ابالي وقبض بالاخرى قبضة فجاء فيها كل ردئ فقال: هؤلاء أهل النار ولا ابالي
[ 144 ]
فخلط بعضهم ببعض فيخرج الكافر من المؤمن - ويخرج المؤمن من الكافر فذلك قوله - تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي. أقول وروي هذا المعنى عن عدة من أصحاب التفسير عن سلمان أيضا مقطوعا والرواية من أخبار الذر والميثاق وسيجئ بيانها في موضع يليق بها إنشاء الله. وفي الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد وعدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن ابن محبوب عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله في حجة الوداع: ألا إن الروح الامين نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب - ولا يحملنكم استبطاء شئ من الرزق أن تطلبوه بشئ من معصية الله فإن الله تعالى قسم الارزاق بين خلقه حلالا ولم يقسمها حراما فمن اتقى الله وصبر اتاه رزقه من حله، ومن هتك حجاب ستر الله عز وجل وأخذه من غير حله قص به من رزقه الحلال وحوسب عليه. وفي النهج قال عليه السلام: الرزق رزقان رزق تطلبه ورزق يطلبك فإن لم تأته أتاك فلا تحمل هم سنتك يومك كفاك كل يوم ما فيه فإن تكن السنة من عمرك فإن الله تعالى جده سيؤتيك في كل غد جديد ما قسم لك - وإن لم تكن السنة من عمرك فما تصنع بالهم لما ليس لك ولن يسبقك إلى رزقك طالب ولن يغلبك عليه غالب ولن يبطئ عنك ما قد قدر لك. وفي قرب الاسناد ابن طريف عن ابن علوان عن جعفر عن أبيه عليهما السلام
قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الرزق لينزل من السماء إلى الارض على عدد قطر المطر إلى كل نفس بما قدر لها ولكن لله فضول فاسألوا الله من فضله. أقول والروايات في هذه المعاني كثيرة وسيجئ استيفاء البحث عن أخبار الرزق في سورة هود إنشاء الله تعالى. (بحث علمي) قد تقدم في بعض ما مر من الابحاث السابقة أن اعتبار أصل الملك (بالكسر) من الاعتبارات الضرورية التي لا غنى للبشر عنها في حال سواء كان منفردا أو مجتمعا
[ 145 ]
وأن أصله ينتهي إلى اعتبار الاختصاص فهذا حال الملك (بالكسر). وأما الملك (بالضم) وهو السلطنة على الافراد فهو أيضا من الاعتبارات الضرورية التي لا غنى للانسان عنها لكن الذي يحتاج إليه ابتدائا هو الاجتماع من حيث تألفه من أجزاء كثيرة مختلفة المقاصد متبائنة الارادات دون الفرد من حيث إنه فرد فإن الافراد المجتمعين لتبائن إراداتهم واختلاف مقاصدهم لا يلبثون دون أن يقع الاختلاف بينهم فيتغلب كل على الآخرين في أخذ ما بأيديهم والتعدي على حومة حدودهم وهضم حقوقهم فيقع الهرج والمرج ويصير الاجتماع الذي اتخذوه وسيلة إلى سعادة الحيوة ذريعة إلى الشقاء والهلاك ويعود الدواء دائا ولا سبيل إلى رفع هذه الغائلة الطارية إلا بجعل قوة قاهرة على سائر القوى مسيطرة على جميع الافراد المجتمعين حتى تعيد القوى الطاغية المستعلية إلى حاق الوسط وترفع الدانية المستهلكة إليه أيضا فتتحد جميع القوى من حيث المستوى ثم تضع كل واحدة منها في محلها الخاص وتعطي كل ذي حق حقه. ولما لم تكن الانسانية في حين من الاحيان خالية الذهن عن فكر الاستخدام كما مر بيانه سالفا لم يكن الاجتماعات في الاعصار السالفة خالية عن رجال متغلبين على الملك مستعلين على سائر الافراد المجتمعين ببسط الرقية والتملك على النفوس والاموال
وكانت بعض فوائد الملك الذي ذكرناه وهو وجود من يمنع عن طغيان بعض الافراد على بعض يترتب على وجود هذا الصنف من المتغلبين المستعلين المتظاهرين باسم الملك في الجملة وإن كانوا هم أنفسهم وأعضادهم وجلاوزتهم قوى طاغية من غير حق مرضي وذلك لكونهم مضطرين إلى حفظ الافراد في حال الذلة والاضطهاد حتى لا يتقوى من يثب على حقوق بعض الافراد فيثب يوما عليهم أنفسهم كما أنهم أنفسهم وثبوا على ما في أيدي غيرهم. وبالجملة بقاء جل الافراد على حال التسالم خوفا من الملوك المسيطرين عليهم كان يصرف الناس عن الفكر في اعتبار الملك الاجتماعي وإنما يشتغلون بحمد سيرة هؤلاء المتغلبين أذا لم يبلغ تعديهم مبلغ جهدهم ويتظلمون ويشتكون إذا بلغ بهم الجهد وحمل عليهم من التعدي ما يفوق طاقتهم.
[ 146 ]
نعم ربما فقدوا بعض هؤلاء المتسمين بالملوك والرؤساء بهلاك أو قتل أو نحو ذلك وأحسوا بالفتنة والفساد وهددهم اختلال النظم ووقوع الهرج فبادروا إلى تقديم بعض اولي الطول والقوة منهم وألقوا إليه زمام الملك فصار ملكا يملك أزمة الامور ثم يعود الامر على ما كان عليه من التعدي والتحميل. ولم تزل الاجتماعات على هذه الحال برهة بعد برهة حتى تضجرت من سوء سير هؤلاء المتسمين بالملوك في مظالمهم باستبدادهم في الرأي وإطلاقهم فيما يشائون فوضعت قوانين تعين وظائف الحكومة الجارية بين الامم وأجبرت الملوك باتباعها وصار الملك ملكا مشروطا بعد ما كان مطلقا واتحد الناس على التحفظ على ذلك وكان الملك موروثا. ثم أحست اجتماعات ببغي ملوكهم وسوء سيرهم ولا سبيل إليهم بعد ركوب أريكة الملك و تثبيتهم كون الملك موهبة غير متغيرة موروثة فبدلوا الملك برئاسة الجمهور فانقلب الملك المؤبد المشروط إلى ملك مؤجل مشروط وربما وجد في
الاقوام والامم المختلفة أنواع من الملك دعاهم إلى وضعه الفرار عن المظالم التي شاهدوها ممن بيده زمام أمرهم وربما حدث في مستقبل الايام ما لم ينتقل أفهامنا إليه إلى هذا الآن. لكن الذي يتحصل من جميع هذه المساعى التي بذلتها الاجتماعات في سبيل إصلاح هذا الامر أعني إلقاء زمام الامة إلى من يدبر أمرها ويجمع شتات إراداتها المتضادة وقواها المتنافية أن لا غنى للمجتمع الانساني عن هذا المقام وهو مقام الملك وإن تغيرت أسمائه وتبدلت شرائطه بحسب اختلاف الامم ومرور الايام فإن طروق الهرج والمرج واختلال امر الحياة الاجتماعية على جميع التقادير من لوازم عدم اجتماع أزمة الارادات والمقاصد في إرادة واحدة لانسان واحد أو مقام واحد. وهذا هو الذي تقدم في أول الكلام أن الملك من الاعتبارات الضرورية في الاجتماع الانساني. وهو مثل سائر الموضوعات الاعتبارية التي لم يزل الاجتماع بصدد تكميلها وإصلاحها ورفع نواقصها وآثارها المضادة لسعادة الانسانية. وللنبوة في هذا الاصلاح السهم الاوفى فإن من المسلم في علم الاجتماع أن انتشار
[ 147 ]
قول ما من الاقوال بين العامة وخاصة إذا كان مما يرتبط بالغريزة ويستحسنه القريحة ويطمأن إليه النفوس المتوقعة أقوى سبب لتوحيد الميول المتفرقة وجعل الجماعات المتشتتة يدا واحدا تقبض وتبسط بإرادة واحدة لا يقوم لها شئ. ومن الضروري أن النبوة منذ أقدم عهود ظهورها تدعو الناس إلى العدل وتمنعهم عن الظلم وتندبهم إلى عبادة الله والتسليم له وتنهاهم عن اتباع الفراعنة الطاغين والنماردة المستكبرين المتغلبين ولم تزل هذه الدعوة بين الامم منذ قرون متراكمة جيلا بعد جيل وامة بعد امة وإن اختلفت بحسب السعة والضيق باختلاف
الامم والازمنة ومن المحال أن يلبث مثل هذا العامل القوى بين الاجتماعات الانسانية قرونا متمادية وهو منعزل عن الاثر خال عن الفعل. وقد حكى القرآن الكريم في ذلك شيئا كثيرا من الوحي المنزل على الانبياء عليهم السلام كما حكى عن نوح فيما يشكوه لربه رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم: نوح - 23 وكذا ما وقع بينه وبين عظماء قومه من الجدال على ما يحكيه القرآن قال تعالى قالوا أنؤمن لك واتبعك الارذلون قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون: الشعراء - 113 وقول هود عليه السلام لقومه أ تبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم جبارين " الشعراء 130 وقول صالح عليه السلام لقومه فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الارض ولا يصلحون " الشعراء - 152. ولقد قام موسى عليه السلام للدفاع عن بني إسرائيل ومعارضة فرعون في سيرته الجائرة الظالمة وانتهض قبله إبراهيم عليه السلام لمعارضة نمرود ومن بعده عيسى بن مريم عليه السلام وسائر أنبياء بني إسرائيل في معارضة مترفي أعصارهم من الملوك والعظماء وتقبيح سيرهم الظالمة ودعوة الناس إلى رفض طاعة المفسدين واتباع الطاغين. وأما القرآن فاستنهاضه الناس على الامتناع عن طاعة الافساد والاباء عن الضيم وإنبائه عن عواقب الظلم والفساد والعدوان والطغيان مما لا يخفى قال تعالى ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الاوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك
[ 148 ]
سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد: الفجر - 14 إلى غير ذلك من الآيات. وأما أن الملك بالضم من ضروريات المجتمع الانساني فيكفي في بيانه أتم بيان قوله تعالى بعد سرد قصة طالوت ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت
الارض ولكن الله ذو فضل على العالمين: البقرة - 251 وقد مر بيان كيفية دلالة الآية بوجه عام. وفي القرآن آيات كثيرة تتعرض للملك والولاية وافتراض الطاعة ونحو ذلك واخرى تعده نعمة وموهبة كقوله تعالى وآتيناهم ملكا عظيما: النساء - 54 وقوله تعالى وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين: المائدة - 20 وقوله تعالى والله يؤتي ملكه من يشاء: البقرة - 247 إلى غير ذلك من الآيات. غير أن القرآن إنما يعده كرامة إذا اجتمع مع التقوى لحصره الكرامة على التقوى من بين جميع ما ربما يتخيل فيه شئ من الكرامة من مزايا الحيوة قال تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم: الحجرات - 13 والتقوى حسابه على الله ليس لاحد أن يستعلي به على أحد فلا فخر لاحد على أحد بشئ لانه إن كان أمرا دنيويا فلا مزية لامر دنيوي ولا قدر إلا للدين وإن كان أمرا اخرويا فأمره إلى الله سبحانه وعلى الجملة لا يبقى للانسان المتلبس بهذه النعمة أعني الملك في نظر رجل مسلم إلا تحمل الجهد ومشقة التقلد والاعباء نعم له عند ربه عظيم الاجر ومزيد الثواب إن لازم صراط العدل والتقوى. وهذا هو روح السيرة الصالحة التي لازمها أولياء الدين وسنشبع إن شاء الله العزيز هذا المعنى في بحث مستقل في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله والطاهرين من آله الثابتة بالآثار الصحيحة وأنهم لم ينالوا من ملكهم إلا أن يثوروا على الجبابرة في فسادهم في الارض ويعارضوهم في طغيانهم واستكبارهم. ولذلك لم يدع القرآن الناس إلى الاجتماع على تأسيس الملك وتشييد بنيان القيصرية والكسروية وإنما تلقى الملك شأنا من الشئون اللازمة المراعاة في المجتمع الانساني نظير التعليم أو إعداد القوة لارهاب الكفار.
بل إنما دعا الناس إلى الاجتماع والاتحاد والاتفاق على الدين ونهاهم عن
[ 149 ]
التفرق والشقاق فيه وجعله هو الاصل فقال تعالى وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله: الانعام - 153 وقال تعالى قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون: آل عمران - 64 فالقرآن كما ترى لا يدعو الناس إلا إلى التسليم لله وحده ويعتبر من المجتمع المجتمع الدينى ويدحض ما دون ذلك من عبادة الانداد والخضوع لكل قصر مشيد ومنتدي رفيع وملك قيصري وكسروي والتفرق بافراز الحدود وتفريق الاوطان وغير ذلك = بحث فلسفي = لا ريب أن الواجب تعالى هو الذي تنتهي إليه سلسلة العلية في العالم وأن الرابطة بينه وبين العالم جزءا وكلا هي رابطة العلية وقد تبين في أبحاث العلة والمعلول أن العلية إنما هي في الوجود بمعنى أن الوجود الحقيقي في المعلول هو المترشح من وجود علته وأما غيره كالماهية فهو بمعزل عن الترشح والصدور والافتقار إلى العلة وينعكس بعكس النقيض إلى أن ما لا وجود حقيقي له فليس بمعلول ولا منته إلى الواجب تعالى. ويشكل الامر في استناد الامور الاعتبارية المحضة إليه تعالى إذ لا وجود حقيقي لها أصلا وإنما وجودها وثبوتها ثبوت اعتباري لا يتعدى ظرف الاعتبار والوضع وحيطة الفرض وما يشتمل عليه الشريعة من الامر والنهى والاحكام والاوضاع كلها امور اعتبارية فيشكل نسبتها إليه تعالى وكذا أمثال الملك والعز والرزق وغير ذلك.
والذي تحل به العقدة أنها وإن كانت عارية عن الوجود الحقيقي إلا أن لها آثارا هي الحافظة لاسمائها كما مر مرارا وهذه الآثار امور حقيقية مقصودة بالاعتبار ولها نسبة إليه تعالى فهذه النسبة هي المصححة لنسبتها فالملك الذي بيننا أهل الاجتماع وإن كان أمرا اعتباريا وضعيا لا نصيب لمعناه من الوجود الحقيقي وإنما هو
[ 150 ]
معنى متوهم لنا جعلناه وسيلة إلى البلوغ إلى آثار خارجية لم يكن يمكننا البلوغ إليها لولا فرض هذا المعنى الموهوم وتقديره وهي قهر المتغلبين واولي السطوة والقوة من أفراد الاجتماع الواثبين على حقوق الضعفاء والخاملين ووضع كل من الافراد في مقامه الذي له وإعطاء كل ذي حق حقه وغير ذلك. لكن لما كان حقيقة معنى الملك واسمه باقيا ما دامت هذه الآثار الخارجية باقية مترتبة عليه فاستناد هذه الآثار الخارجية إلى عللها الخارجية هو عين استناد الملك إليه وكذلك القول في العزة الاعتبارية وآثارها الخارجية واستنادها إلى عللها الحقيقة وكذلك الامر في غيرها كالامر والنهي والحكم والوضع ونحو ذلك. ومن هنا يتبين أن لها جميعا استنادا إلى الواجب تعالى باستناد آثارها إليه على حسب ما يليق بساحة قدسه وعزه. لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقية ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير (28) - قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السموات وما في الارض والله على كل شئ قدير (29) - يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤف بالعباد (30) - قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني
يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (31) - قل اطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين (32)
[ 151 ]
= بيان = الآيات غير خالية عن الارتباط بما تقدمها بناء على ما ذكرناه في الآيات السابقة أن المقام مقام التعرض لحال أهل الكتاب والمشركين والتعريض لهم فالمراد بالكافرين إن كان يعم أهل الكتاب فهذه الآيات تنهى عن توليهم والامتزاج الروحي بالمشركين وبهم جميعا وإن كان المراد بهم المشركين فحسب فالآيات متعرضة لهم ودعوة إلى تركهم والاتصال بحزب الله وحب الله وطاعة رسوله. قوله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين الاولياء جمع الولي من الولاية وهي في الاصل ملك تدبير أمر الشئ فولي الصغير أو المجنون أو المعتوه هو الذي يملك تدبير امورهم وامور أموالهم فالمال لهم وتدبير أمره لوليهم ثم استعمل وكثر استعماله في مورد الحب لكونه يستلزم غالبا تصرف كل من المتحابين فط امور الآخر لافضائه إلى التقرب والتأثر عن ارادة المحبوب وسائر شؤونه الروحية فلا يخلو الحب عن تصرف المحبوب في امور المحب في حيوته. فاتخاذ الكافرين أولياء هو الامتزاج الروحي بهم بحيث يؤدي إلى مطاوعتهم والتأثر منهم في الاخلاق وسائر شؤون الحيوة وتصرفهم في ذلك ويدل على ذلك تقييد هذا النهي بقوله من دون المؤمنين فان فيه دلالة على ايثار حبهم على حب المؤمنين والقاء أزمة الحيوة إليهم دون المؤمنين وفيه الركون إليهم والاتصال بهم والانفصال عن المؤمنين. وقد تكرر ورود النهي في الآيات الكريمة عن تولي الكافرين واليهود والنصارى واتخاذهم أولياء لكن موارد النهي مشتملة على ما يفسر معنى التولي المنهي عنه ويعرف كيفية الولاية المنهي عنها كاشتمال هذه الاية على قوله من دون المؤمنين بعد
قوله لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء واشتمال قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء الاية المائدة - 51 على قوله بعضهم أولياء بعض وتعقب قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء الاية: الممتحنة - 1 بقوله لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين إلى آخر الآيات. وعلى هذا فأخذ هذه الاوصاف في قوله لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من
[ 152 ]
دون المؤمنين للدلاله على سبب الحكم وعلته وهو أن صفتي الكفر والايمان مع ما فيهما من البعد والبينونة ولا محالة يسري ذلك إلى من اتصف بهما فيفرق بينهما في المعارف والاخلاق وطريق السلوك إلى الله تعالى وسائر شؤون الحيوة لا يلائم حالهما مع الولاية فان الولاية يوجب الاتحاد والامتزاج وهاتان الصفتان توجبان التفرق والبينونة وإذا قويت الولاية كما إذا كان من دون المؤمنين أوجب ذلك فساد خواص الايمان وآثاره ثم فساد أصله ولذلك عقبه بقوله ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ ثم عقبه أيضا بقوله الا أن تتقوا منهم تقية فاستثنى التقية فان التقية إنما توجب صورة الولاية في الظاهر دون حقيقتها. ودون في قوله من دون المؤمنين كأنه ظرف يفيد معنى عند مع شوب من معنى السفالة والقصور والمعنى مبتدئا من مكان دون مكان المؤمنين فإنهم أعلى مكانا. والظاهر أن ذلك هو الاصل في معنى دون فكان في الاصل يفيد معنى الدنو مع خصوصية الانخفاض فقولهم دونك زيد أي هو في مكان يدنو من مكانك واخفض منه كالدرجة دون الدرجة ثم استعمل بمعنى غير كقوله إلهين من دون الله: المائدة - 116 وقوله ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء: النساء - 48 أي ما سوى ذلك أو ما هو أدون من ذلك وأهون كذا استعمل اسم فعل كقولهم دونك زيدا
أي الزمه كل ذلك من جهة الانطباق على المورد دون الاشتراك اللفظي. قوله تعالى ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ أي ومن يتخذهم أولياء من دون المؤمنين وإنما بدل من لفظ عام للاشعار بنهاية نفرة المتكلم منه حتى أنه لا يتلفظ به الا بلفظ عام كالتكنية عن القبائح وهو شائع في اللسان ولذلك أيضا لم يقل ومن يفعل ذلك من المؤمنين كأن فيه صونا للمؤمنين من أن ينسب إليهم مثل هذا الفعل. ومن في قوله من الله للابتداء ويفيد في أمثال هذا المقام معنى التحزب أي ليس من حزب الله في شئ كما قال تعالى ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون: المائدة - 56 وكما فيما حكاه عن ابراهيم عليه السلام من قوله فمن تبعني فإنه مني: إبراهيم - 36 أي من حزبي وكيف كان فالمعنى والله أعلم ليس من حزب الله مستقرا في شئ من الاحوال والآثار.
[ 153 ]
قوله تعالى إلا أن تتقوا منهم تقية الاتقاء في الاصل أخذ الوقاية للخوف ثم ربما استعمل بمعنى الخوف استعمالا للمسبب في مورد السبب ولعل التقية في المورد من هذا القبيل. والاستثناء منقطع فإن التقرب من الغير خوفا بإظهار آثار التولي ظاهرا من غير عقد القلب على الحب والولاية ليس من التولي في شئ لان الخوف والحب أمران قلبيان متبائنان ومتنافيان أثرا في القلب فكيف يمكن اتحادهما ؟ فاستثناء الاتقاء استثناء منقطع. وفي الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقية على ما روي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام كما تدل عليه الآية النازلة في قصة عمار وأبويه ياسر وسمية وهي قوله تعالى من كفر بالله من بعد ايمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم: النحل - 106.
وبالجملة الكتاب والسنة متطابقان في جوازها في الجملة والاعتبار العقلي يؤكده إذ لا بغية للدين ولا هم لشارعه إلا ظهور الحق وحياته وربما يترتب على التقية والمجاراة مع أعداء الدين ومخالفي الحق من حفظ مصلحة الدين وحيوة الحق ما لا يترتب على تركها وإنكار ذلك مكابرة وتعسف وسنستوفي الكلام فيها في البحث الروائي التالي وفي الكلام على قوله تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان: النحل - 106. قوله تعالى ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير التحذير تفعيل من الحذر وهو الاحتراز من أمر مخيف وقد حذر الله عباده من عذابه كما قال تعالى ان عذاب ربك كان محذورا: أسرى - 57 وحذر من المنافقين وفتنة الكفار فقال هم العدو فاحذرهم: المنافقين - 4 وقال واحذرهم ان يفتنوك: المائدة - 49 وحذرهم من نفسه كما في هذه الآية وما يأتي بعد آيتين وليس ذلك إلا للدلالة على أن الله سبحانه نفسه هو المخوف الواجب الاحتراز فيهذه المعصية أي ليس بين هذا المجرم وبينه تعالى شئ مخوف آخر حتى يتقى عنه بشئ أو يتحصن منه بحصن وإنما هو الله الذي لا عاصم منه ولا أن بينه وبين الله سبحانه أمر مرجو في دفع الشر عنه من ولي
[ 154 ]
ولا شفيع ففي الكلام أشد التهديد ويزيد في اشتداده تكراره مرتين في مقام واحد ويؤكده تذييله أولا بقوله وإلى الله المصير وثانيا بقوله و الله رؤوف بالعباد على ما سيجئ من بيانه ومن جهة اخرى يظهر من مطاوي هذه الآية وسائر الآيات الناهية عن اتخاذ غير المؤمنين أولياء أنه خروج عن زي العبودية ورفض لولاية الله سبحانه ودخول في حزب أعدائه لافساد أمر الدين وبالجملة هو طغيان وإفساد لنظام الدين الذي هو أشد وأضر بحال الدين من كفر الكافرين وشرك المشركين فإن العدو الظاهر
عدواته المبائن طريقته مدفوع عن الحومة سهل الاتقاء والحذر وأما الصديق والحميم إذا استأنس مع الاعداء ودب فيه أخلاقهم وسننهم فلا يلبث فعاله إلا أن يذهب بالحومة وأهلها من حيث لا يشعرون وهو الهلاك الذي لا رجاء للحياة والبقاء معه. وبالجملة هو طغيان وأمر الطاغي في طغيانه إلى الله سبحانه نفسه قال تعالى أ لم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الاوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد: الفجر - 14 فالطغيان يسلك بالطاغي مسلكا يورده المرصاد الذي ليس به ألا الله جلت عظمته فيصب عليه سوط عذاب ولا مانع. ومن هنا يظهر إن التهديد بالتحذير من الله نفسه في قوله ويحذركم الله نفسه لكون المورد من مصاديق الطغيان على الله بإبطال دينه وإفساده. ويدل على ما ذكرناه قوله تعالى فاستقم كما امرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون " هود - 113 وهذه آية ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله أنها شيبته على ما في الرواية فإن الآيتين كما هو ظاهر للمتدبر ظاهرتان في أن الركون إلى الظالمين من الكافرين طغيان يستتبع مس النار استتباعا لا ناصر معه وهو الانتقام الالهي لا عاصم منه ولا دافع له كما تقدم بيانه. ومن هنا يظهر أيضا أن في قوله ويحذركم الله نفسه دلالة على أن التهديد إنما هو بعذاب مقضي قضائا حتما من حيث تعليق التحذير بالله نفسه الدال على عدم
[ 155 ]
حائل يحول في البين ولا عاصم من الله سبحانه وقد أوعد بالعذاب فينتج قطعية الوقوع كما يدل على مثله قوله في آيتي سورة هود فتمسكم النار وما لكم من ناصرين. وفي قوله وإلى الله المصير دلالة على أن لا مفر لكم منه ولا صارف له ففيه
تأكيد التهديد السابق عليه. و الآيات أعني قوله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء الآية وما يتبعها من الآيات من ملاحم القرآن وسيجئ بيانه إنشاء الله في سورة المائدة. قوله تعالى قل إن تخفوا ما في أنفسكم أو تبدوه يعلمه الله الآيه نظيرة قوله تعالى وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله: البقرة - 284 غير أنه لما كان الانسب بحال العلم أن يتعلق بالمخفي بخلاف الحساب فإن الانسب له أن يتعلق بالبادي الظاهر قدم ذكر الاخفاء في هذه الآية على ذكر الابداء وجرى بالعكس منه في آية البقرة كما قيل. وقد أمر في الآية رسوله بإبلاغ هذه الحقيقة وهو علمه بما تخفيه أنفسهم أو تبديه من دون أن يباشره بنفسه كسابق الكلام وليس ذلك إلا ترفعا عن مخاطبة من يستشعر من حاله أنه سيخالف ما وصاه كما مر ما يشبه ذلك في قوله ومن يفعل ذلك. وفي قوله تعالى ويعلم ما في السموات والارض والله على كل شئ قدير مضاهاة لما مر من آية البقرة وقد مر الكلام فيه. قوله تعالى يوم تجد كل نفس ما علمت من خير محضرا وما علمت من سوء الظاهر من اتصال السياق أنه من تتمة القول في الآية السابقة الذي أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم والظرف متعلق بمقدر أي واذكر يوم تجد أو متعلق بقوله يعلمه الله ويعلم ولا ضير في تعليق علمه تعالى بما سنشاهده من أحوال يوم القيامة فإن هذا اليوم ظرف لعلمه تعالى بالنسبة إلى ظهور الامر لنا لا بالنسبة إلى تحققه منه تعالى وذلك كظهور ملكه وقدرته وقوته في اليوم قال تعالى يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار: المؤمن - 16 وقال لا عاصم اليوم من الله: هود - 43 وقال ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا: البقرة - 165
[ 156 ]
وقال والامر يومئذ لله: الانفطار - 19 إذ من المعلوم أن الله سبحانه له كل الملك والقدرة والقوة والامر دائما قبل القيامة وفيها وبعدها وإنما اختص يوم القيامة بظهور هذه الامور لنا معاشر الخلائق ظهورا لا ريب فيه. ومن ذلك يظهر أن تعلق الظرف بقوله يعلمه الله لا يفيد تأخر علمه تعالى بسرائر عباده من خير أو شر إلى يوم القيامة. على أن في قوله تعالى محضرا دون أن يقول حاضرا دلالة على ذلك فإن الاحضار إنما يتم فيما هو موجود غائب فالاعمال موجودة محفوظة عن البطلان يحضرها الله تعالى لخلقه يوم القيامة ولا حافظ لها إلا الله سبحانه قال تعالى وربك على كل شئ حفيظ: سبأ - 21 وقال وعندنا كتاب حفيظ: ق - 4 وقوله تجد من الوجدان خلاف الفقدان ومن في قوله من خير ومن سوء للبيان والتنكير للتعميم أي تجد كل ما عملت من الخير وإن قل وكذا من السوء وقوله وما عملت من سوء معطوف على قوله ما عملت من خير على ما هو ظاهر السياق والآية من الآيات الدالة على تجسم الاعمال وقد مر البحث عنها في سورة البقرة. قوله تعالى تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا الظاهر أنه خبر لمبتدأ محذوف وهو الضمير الراجع إلى النفس ولو للتمني وقد كثر دخوله في القرآن على أن المفتوحة المشددة فلا يعبأ بما قيل من عدم جوازه و تأويل ما ورد فيه ذلك من الموارد. والامد يفيد معنى الفاصلة الزمانية قال الراغب في مفردات القرآن الامد والابد يتقاربان لكن الابد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود ولا يتقيد لا يقال أبد كذا والامد مدة لها حد مجهول إذا اطلق وقد ينحصر نحو أن يقال أمد كذا كما يقال زمان كذا والفرق بين الزمان والامد أن الامد يقال باعتبار الغاية والزمان عام في المبدء والغاية ولذا قال بعضهم الامد والمدى يتقاربان انتهى.
وفي قوله تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا دلالة على أن حضور سئ العمل يسوء النفس كما يشعر بالمقابلة بأن حضور خير العمل يسرها وإنما تود الفاصلة الزمانية بينها وبينه دون أن تود أنه لم يكن من أصله لما يشاهد من بقائه بحفظ الله فلا يسعها
[ 157 ]
إلا أن تحب بعده وعدم حضوره في أشق الاحوال وعند أعظم الاهوال كما يقول لقرين السوء نظير ذلك قال تعالى نقيض له شيطانا فهو له قرين إلى أن قال حتى إذ جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين: الزخرف - 38. قوله تعالى ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد ذكر التحذير ثانيا يعطي من أهمية المطلب والبلوغ في التهديد ما لا يخفى ويمكن أن يكون هذا التحذير الثاني ناظرا إلى عواقب المعصية في الآخرة كما هو مورد نظر هذه الآية والتحذير الاول ناظرا إلى وبالها في الدنيا أو في الاعم من الدنيا والآخرة. وأما قوله والله رؤوف بالعباد فهو على كونه حاكيا عن رأفته وحنانه تعالى المتعلق بعباده كما يحكي عن ذلك الاتيان بوصف العبودية والرقية دليل آخر على تشديد التهديد إذ أمثال هذا التعبير في موارد التخويف والتحذير إنما يؤتى بها لتثبيت التخويف وايجاد الاذعان بأن المتكلم ناصح لا يريد الا الخير والصلاح تقول إياك أن تتعرض لي في أمر كذا فإني آليت أن لا اسامح مع من تعرض لي فيه انما اخبرك بهذا رأفة بك وشفقة. فيؤل المعنى والله أعلم إلى مثل أن يقال ان الله لرأفته بعباده ينهاهم قبلا أن يتعرضوا لمثل هذه المعصية التي وبال أمرها واقع لا محاله من غير أن يؤثر فيه شفاعة شافع ولا دفع دافع. قوله تعالى قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله قد تقدم كلام في معنى الحب وأنه يتعلق بحقيقة معناه بالله سبحانه كما يتعلق بغيره في تفسير قوله
تعالى " والذين آمنوا أشد حبا لله الآية: البقرة - 165. ونزيد عليه هيهنا أنه لا ريب أن الله سبحانه على ما ينادي به كلامه إنما يدعو عبده إلى الايمان به وعبادته بالاخلاص له والاجتناب عن الشرك كما قال تعالى " ألا لله الدين الخالص " الزمر - 3 وقال تعالى " وما امروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين " البينة - 5 وقال تعالى " فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " المؤمن - 14 إلى غير ذلك من الآيات. ولا شك أن الاخلاص في الدين إنما يتم على الحقيقة إذا لم يتعلق قلب الانسان
[ 158 ]
الذي لا يريد شيئا ولا يقصد أمرا إلا عن حب نفسي وتعلق قلبي بغيره تعالى من معبود أو مطلوب كصنم أو ند أو غاية دنيوية بل ولا مطلوب اخروي كفوز بالجنة أو خلاص من النار وإنما يكون متعلق قلبه هو الله تعالى في معبوديته فالاخلاص لله في دينه إنما يكون بحبه تعالى. ثم الحب الذي هو بحسب الحقيقة الوسيلة الوحيدة لارتباط كل طالب بمطلوبه وكل مريد بمراده إنما يجذب المحب إلى محبوبه ليجده ويتم بالمحبوب ما للمحب من النقص ولا بشرى للمحب أعظم من أن يبشر أن محبوبه يحبه وعند ذلك يتلاقى حبان ويتعاكس دلالان. فالانسان إنما يحب الغذاء وينجذب ليجده ويتم به ما يجده في نفسه من النقص الذي آتيه الجوع وكذا يحب النكاح ليجد ما تطلبه منه نفسه الذي علامته الشبق وكذا يريد لقاء الصديق ليجده ويملك لنفسه الانس وله يضيق صدره وكذا العبد يحب مولاه والخادم ربما يتوله لمخدومه ليكون مولى له حق المولوية ومخدوما له حق المخدومية ولو تأملت موارد التعلق والحب أو قرأت قصص العشاق والمتولهين على اختلافهم لم تشك في صدق ما ذكرناه. فالعبد المخلص لله بالحب لا بغية له إلا أن يحبه الله سبحانه كما أنه يحب الله
ويكون الله له كما يكون هو لله عز اسمه فهذا هو حقيقة الامر غير أن الله سبحانه لا يعد في كلامه كل حب له حبا (والحب في الحقيقة هو العلقة الرابطة التي تربط أحد الشيئين بالآخر) على ما يقضي به ناموس الحب الحاكم في الوجود فإن حب الشئ يقتضي حب جميع ما يتعلق به ويوجب الخضوع والتسليم لكل ما هو في جانبه والله سبحانه هو الله الواحد الاحد الذي يعتمد عليه كل شئ في جميع شئون وجوده ويبتغي إليه الوسيلة ويصير إليه كل ما دق وجل فمن الواجب أن يكون حبه والاخلاص له بالتدين له بدين التوحيد وطريق الاسلام على قدر ما يطيقه إدراك الانسان وشعوره وإن الدين عند الله الاسلام وهذا هو الدين الذي يندب إليه سفرائه ويدعو إليه أنبيائه ورسله وخاصة دين الاسلام الذي فيه من الاخلاص ما لا إخلاص فوقه وهو الدين الفطري الذي يختم به الشرائع وطرق النبوه كما يختم بصادعه الانبياء عليهم السلام وهذا الذى ذكرناه مما لا يرتاب فيه المتدبر في كلامه تعالى.
[ 159 ]
وقد عرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبيله الذي سلكه بسبيل التوحيد وطريقة الاخلاص على ما أمره الله سبحانه حيث قال قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين: يوسف - 108 فذكر أن سبيله الدعوة إلى الله على بصيرة والاخلاص لله من غير شرك فسبيله دعوة وإخلاص واتباعه واقتفاء أثره إنما هو في ذلك فهو صفة من اتبعه. ثم ذكر الله سبحانه أن الشريعة التي شرعها له صلى الله عليه وآله وسلم هي الممثلة لهذا السبيل سبيل الدعوة والاخلاص فقال ثم جعلناك على شريعة من الامر فاتبعها: الجاثية - 18 وذكر أيضا أنه إسلام لله حيث قال فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن: آل عمران - 20 ثم نسبه إلى نفسه وبين أنه صراطه المستقيم فقال وان
هذا صراطي مستقيما فاتبعوه: الانعام - 153 فتبين بذلك كله أن الاسلام وهو الشريعة المشرعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو مجموع المعارف الاصلية والخلقية والعملية وسيرته في الحيوة هو سبيل الاخلاص عند الله سبحانه الذي يعتمد ويبتني على الحب فهو دين الاخلاص وهو دين الحب. ومن جميع ما تقدم على طوله يظهر معنى الآية التي نحن بصدد تفسيرها أعني قوله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله فالمراد والله أعلم إن كنتم تريدون أن تخلصوا لله في عبوديتكم بالبناء على الحب حقيقة فاتبعوا هذه الشريعة التي هي مبنية على الحب الذي ممثله الاخلاص والاسلام وهو صراط الله المستقيم الذي يسلك بسالكه إليه تعالى فإن اتبعتموني في سبيلي وشأنه هذا الشأن أحبكم الله وهو أعظم البشارة للمحب وعند ذلك تجدون ما تريدون وهذا هو الذى يبتغيه محب بحبه هذا هو الذى تقتضيه الآية الكريمة بإطلاقها. وأما بالنظر إلى وقوعها بعد الآيات الناهية عن اتخاذ الكفار أولياء وارتباطها بما قبلها فهذه الولاية لكونها تستدعى في تحققها تحقق الحب بين الانسان وبين من يتولى كما تقدم كانت الآية ناظرة إلى دعوتهم إلى اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن كانوا صادقين في دعويهم ولاية الله وأنهم من حزبه فان ولاية الله لا يتم باتباع الكافرين في أهوائهم ولا ولاية إلا باتباع وابتغاء ما عندهم من مطامع الدنيا من عز ومال بل تحتاج إلى اتباع نبيه في دينه كما قال تعالى ثم جعلناك على شريعة من الامر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين
[ 160 ]
لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين: الجاثية - 19 انظر إلى الانتقال من معنى الاتباع إلى معنى الولاية في الآية الثانية. فمن الواجب على من يدعي ولاية الله بحبه أن يتبع الرسول حتى ينتهى ذلك إلى ولاية الله له بحبه. وإنما ذكر حب الله دون ولايته لانه الاساس الذى تبتنى عليه الولاية وإنما
اقتصر على ذكر حب الله تعالى فحسب لان ولاية النبي والمؤمنين تؤل بالحقيقة إلى ولاية الله. قوله تعالى ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم الرحمة الواسعة الالهية وما عنده من الفيوضات المعنوية والصورية غير المتناهية غير موقوفة على شخص أو صنف من أشخاص عباده وأصنافهم ولا استثناء هناك يحكم على إطلاق إفاضته ولا سبيل يلزمه على الامساك إلا حرمان من جهة عدم استعداد المستفيض المحروم أو مانع أبداه بسوء اختياره قال تعالى وما كان عطاء ربك محظورا: أسرى - 20. والذنوب هي المانعة من نيل ما عنده من كرامه القرب والزلفى وجميع الامور التى هي من توابعها كالجنة وما فيها وإزالة رينها عن قلب الانسان ومغفرتها وسترها عليه هي المفتاح الوحيد لانفتاح باب السعادة والدخول في دار الكرامة ولذلك عقب قوله يحببكم الله بقوله ويغفر لكم ذنوبكم فإن الحب كما تقدم يجذب المحب إلى المحبوب وكما كان حب العبد لربه يستدعى منه التقرب بالاخلاص له وقصر العبودية فيه كذلك حبه تعالى لعبده يستدعى قربه من العبد وكشفه حجب البعد وسبحات الغيبة ولا حجاب إلا الذنب فيستدعى ذلك مغفرة الذنوب وأما ما بعده من الكرامة والافاضة فالجود كاف فيه كما تقدم آنفا. والتأمل في قوله تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون: المطففين - 15 مع قوله تعالى فيهذه الآية يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم كاف في تأييد ما ذكرناه. قوله تعالى قل أطيعوا الله والرسول الخ لما كانت الآية السابقة تدعو إلى
[ 161 ]
اتباع الرسول والاتباع وهو اقتفاء الاثر لا يتم إلا مع كون المتبع اسم مفعول سالك سبيل والسبيل الذى يسلكه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو الصراط المستقيم الذى هو لله
سبحانه وهو الشريعة التى شرعها لنبيه وافترض طاعته فيه كرر ثانيا في هذه الآية معنى اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قالب الاطاعة إشعارا بأن سبيل الاخلاص الذى هو سبيل النبي هو بعينه مجموع أوامر ونواه ودعوة وإرشاد فيكون اتباع الرسول في سلوك سبيله هو إطاعة الله ورسوله في الشريعة المشرعة ولعل ذكره تعالى مع الرسول للاشعار بأن الامر واحد وذكر الرسول معه سبحانه لان الكلام في اتباعه. ومن هنا يظهر عدم استقامة ما ذكره بعضهم في الآية أن المعنى أطيعوا الله في كتابه والرسول في سنته وذلك أنه مناف لما يلوح من المقام من أن قوله قل أطيعوا الله والرسول إلخ كالمبين لقوله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني على أن الآية مشعرة بكون إطاعة الله و إطاعة الرسول واحدة ولذا لم يكرر الامر ولو كان مورد الاطاعة مختلفا في الله ورسوله لكان الانسب أن يقال أطيعوا الله وأطيعوا الرسول كما في قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم: النساء - 59 كما لا يخفى. واعلم أن الكلام فيهذه الآية من حيث إطلاقها ومن حيث انطباقها على المورد نظير الكلام في الآية السابقة. قوله تعالى فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين فيه دلالة على كفر المتولي عن هذا الامر كما يدل على ذلك سائر آيات النهى عن تولى الكفار وفيه أيضا إشعار بكون هذه الآية كالمبينة لسابقتها حيث ختمت بنفى الحب عن الكافرين بأمر الاطاعة وقد كانت الآية الاولى متضمنة لاثبات الحب للمؤمنين المنقادين لامر الاتباع فافهم ذلك. وقد تبين من الكلام في هذه الآيات الكريمة أمور أحدها الرخصة في التقيه في الجملة. وثانيها أن مؤاخذة تولى الكفار والتمرد عن النهى فيه لا يتخلف البتة
[ 162 ]
وهى من القضاء الحتم. وثالثها أن الشريعة الالهية ممثلة للاخلاص لله والاخلاص له ممثل لحب الله سبحانه وبعبارة أخرى الدين الذى هو مجموع المعارف الالهية والامور الخلقية والاحكام العملية على ما فيها من العرض العريض لا ينتهى بحسب التحليل إلا إلى الاخلاص فقط وهو وضع الانسان ذاته وصفات ذاته وهي الاخلاق وأعمال ذاته وأفعاله على أساس أنها لله الواحد القهار والاخلاص المذكور لا يحلل إلا إلى الحب هذا من جهة التحليل ومن جهة التركيب ينتهي الحب إلى الاخلاص والاخلاص إلى مجموع الشريعة كما أن الدين بنظر آخر ينحل إلى التسليم والتسليم إلى التوحيد. ورابعها أن تولى الكافرين كفر والمراد به الكفر في الفروع دون الاصول ككفر مانع الزكوة وتارك الصلوة ويمكن أن يكون كفر المتولي بعناية ما ينجر إليه أمر التولى على ما مر بيانه وسيأتى في سورة المائدة. = بحث روائي = في الدر المنثور ": في قوله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء الآية - أخرج ابن إسحق وابن جرير - وابن أبى حاتم عن ابن عباس قال - كان الحجاج بن عمرو حليف كعب بن الاشرف - وابن أبى الحقيق وقيس بن زيد - وقد بطنوا بنفر من الانصار ليفتنوهم عن دينهم - فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير - وسعد بن خثيمة لاولئك النفر - اجتنبوا هؤلاء النفر من يهود - واحذروا مباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم - فأبى اولئك النفر فأنزل الله - لا يتخذ المؤمنون الكافرين إلى قوله - والله على كل شئ قدير. أقول الرواية لا تلائم ظاهر الآية لما تقدم أن الكافرين في القرآن غير معلوم الاطلاق على أهل الكتاب فأولى بالقصة أن تكون سببا لنزول الآيات الناهية عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء دون هذه الآيات. وفي الصافى: في قوله تعالى إلا أن تتقوا منهم تقية الآية عن كتاب الاحتجاج
عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث وأمرك أن تستعمل التقية في دينك فإن الله يقول
[ 163 ]
وإياك ثم إياك أن تتعرض للهلاك - وأن تترك التقية التى أمرتك بها فإنك شائط بدمك ودماء إخوانك معرض لزوال نعمك ونعمهم - مذلهم في أيدى أعداء دين الله - وقد أمرك الله بإعزازهم وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام قال كان رسول الله يقول: لا دين لمن لا تقية له ويقول قال الله إلا أن تتقوا منهم تقية وفي الكافي عن الباقر عليه السلام: التقية في كل شئ يضطر إليه ابن آدم وقد أحل الله له. اقول والاخبار في مشروعية التقية من طرق أئمة أهل البيت كثيرة جدا ربما بلغت حد التواتر وقد عرفت دلالة الآية عليها دلالة غير قابلة للدفع. وفي معاني الاخبار عن سعيد بن يسار قال: قال لى أبو عبد الله هل الدين إلا الحب - إن الله عز وجل يقول - قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله. اقول ورواه في الكافي عن الباقر عليه السلام وكذا القمى والعياشي في تفسيريهما عن الحذاء عنه على السلام: وكذا العياشي في تفسيره عن بريد عنه عليه السلام وعن ربعى عن الصادق عليه السلام والرواية تؤيد ما أوضحناه في البيان المتقدم. وفي المعاني عن الصادق عليه السلام قال: ما أحب الله من عصاه ثم تمثل بقوله - تعصي الاله وأنت تظهر حبه * هذا لعمري في الفعال بديع. لو كان حبك صادقا لاطعته * إن المحب لمن يحب مطيع وفي الكافي ع ن الصادق عليه السلام في حديث قال: ومن سره أن يعلم أن الله يحبه - فليعمل بطاعة الله وليتبعنا - أ لم يسمع قول الله عز وجل لنبيه - قل إن كنتم تحبون الله
فاتبعوني يحببكم الله - ويغفر لكم ذنوبكم الحديث. اقول وسيأتى بيان كون اتباعهم اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكلام على قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم الآية: النساء - 59 وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
[ 164 ]
من رغب عن سنتى فليس منى ثم تلا هذه الآية - قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله إلى آخر الآية وفيه أيضا أخرج ابن أبى حاتم وأبو نعيم في الحلية والحاكم عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء - وأدناه أن يحب على شئ من الجور - ويبغض على شئ من العدل - وهل الدين إلا الحب والبغض في الله قال الله تعالى - قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وفيه أيضا أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم عن أبى رافع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا ألقين أحدكم متكئا على أريكته - يأتيه الامر من أمرى مما أمرت به أو نهيت عنه - فيقول لا ندرى ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه = إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (33) - ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم (34)) = بيان = افتتاح لقصص عيسى بن مريم وما يلحق بها وذكر حق القول فيها والاحتجاج على أهل الكتاب فيها وبالآيتين يرتبط ما بعدهما بما قبلهما من الآيات المتعرضة لحال أهل الكتاب. قوله تعالى إن الله اصطفى آدم ونوحا إلى آخر الآية الاصطفاء كما مر بيانه في قوله تعالى لقد اصطفيناه في الدنيا: البقرة - 130 أخذ صفوة الشئ وتخليصه مما يكدره فهو قريب من معنى الاختيار وينطبق من مقامات الولاية على مقام الاسلام
وهو جرى العبد في مجرى التسليم المحض لامر ربه فيما يرتضيه له. لكن ذلك غير الاصطفاء على العالمين ولو كان المراد بالاصطفاء هنا ذاك الاصطفاء لكان الانسب أن يقال من العالمين وأفاد اختصاص الاسلام بهم واختل
[ 165 ]
معنى الكلام فالاصطفاء على العالمين نوع اختيار وتقديم لهم عليهم في أمر أو أمور لا يشاركهم فيه أو فيها غيرهم. ومن الدليل على ما ذكرناه من اختلاف الاصطفاء قوله تعالى وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين: آل عمران - 42 حيث فرق بين الاصطفائين فالاصطفاء غير الاصطفاء. وقد ذكر سبحانه في هؤلاء المصطفين آدم ونوحا فأما آدم فقد اصطفى على العالمين بأنه أول خليفة من هذا النوع الانساني جعله الله في الارض قال تعالى وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل في الارض خليفة: البقرة - 30 وأول من فتح به باب التوبة قال تعالى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى: طه - 122 وأول من شرع له الدين قال تعالى فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى الآيات: طه - 123 فهذه أمور لا يشاركه فيها غيره ويا لها من منقبة له عليه السلام. وأما نوح فهو أول الخمسة اولى العزم صاحب الكتاب والشريعه كما مر بيانه في تفسير قوله تعالى كان الناس أمه واحدة فبعث الله النبيين: البقرة - 213 وهو الاب الثاني لهذا النوع وقد سلم الله تعالى عليه في العالمين قال تعالى وجعلنا ذريته هم الباقين وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين: الصافات - 79. ثم ذكر سبحانه آل إبراهيم وآل عمران من هؤلاء المصطفين والآل خاصة الشئ قال الراغب في المفردات الآل قيل مقلوب عن الاهل ويصغر على أهيل إلا أنه خص بالاضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الازمنة والامكنة يقال آل
فلان ولا يقال آل رجل وآل زمان كذا أو موضع كذا ولا يقال آل الخياط بل يضاف إلى الاشرف الافضل يقال آل الله وآل السلطان والاهل يضاف إلى الكل يقال أهل الله وأهل الخياط كما يقال أهل زمن كذا وبلد كذا وقيل هو في الاصل اسم الشخص ويصغر أويلا ويستعمل فيمن يختص بالانسان اختصاصا ذاتيا إما بقرابة قريبة أو بموالاة انتهى موضع الحاجة فالمراد بآل إبراهيم وآل عمران خاصتهما من أهلهما والملحقين بهما على ما عرفت. فأما آل إبراهيم فظاهر لفظه أنهم الطيبون من ذريته كإسحاق وإسرائيل
[ 166 ]
والانبياء من بنى إسرائيل وإسماعيل والطاهرون من ذريته وسيدهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم والملحقون بهم في مقامات الولاية إلا أن ذكر آل عمران مع آل إبراهيم يدل على أنه لم يستعمل على تلك السعة فإن عمران هذا إما هو أبو مريم أو أبو موسى عليه السلام وعلى أي تقدير هو من ذرية إبراهيم وكذا آله وقد أخرجوا من آل إبراهيم فالمراد بآل إبراهيم بعض ذريته الطاهرين لا جميعهم. وقد قال الله تعالى فيما قال أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما: النساء - 54 والآية في مقام الانكار على بنى إسرائيل وذمهم كما يتضح بالرجوع إلى سياقها وما يحتف بها من الآيات ومن ذلك يظهر أن المراد من آل ابراهيم فيها غير بنى إسرائيل أعنى غير إسحق ويعقوب وذرية يعقوب وهم أي ذرية عقوب بنو إسرائيل فلم يبق لآل ابراهيم إلا الطاهرون من ذريته من طريق إسماعيل وفيهم النبي وآله. على أنا سنبين إنشاء الله أن المراد بالناس في الآية هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه داخل في آل ابراهيم بدلالة الآية. على أنه يشعر به قوله تعالى في ذيل هذه الآيات إن أولى الناس بإبراهيم
للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا الآية: آل عمران - 68 وقوله تعالى وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسمعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا امة مسلمة لك وأرنا مناسكنا إلى أن قال ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم الآيات: البقرة - 129. فالمراد بآل إبراهيم الطاهرون من ذريته من طريق إسمعيل والآية ليست في مقام الحصر فلا تنافى بين عدم تعرضها لاصطفاء نفس إبراهيم واصطفاء موسى وسائر الانبياء الطاهرين من ذريته من طريق إسحق وبين ما تثبتها آيات كثيرة من مناقبهم وسمو شأنهم وعلو مقامهم وهى آيات متكثرة جدا لا حاجة إلى إيرادها فإن إثبات الشئ لا يستلزم نفى ما عداه. وكذا لا ينافى مثل ما ورد في بنى إسرائيل من قوله تعالى ولقد آتينا بنى
[ 167 ]
اسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين: الجاثية - 16 كل ذلك ظاهر ولا أن تفضيلهم على العالمين ينافى تفضيل غيرهم على العالمين ولا تفضيل غيرهم عليهم فإن تفضيل قوم واحد أو أقوام مختلفين على غيرهم إنما يستلزم تقدمهم في فضيلة دنيوية أو اخروية على من دونهم من الناس ولو نافى تفضيلهم على الناس تفضيل غيرهم أو نافى تفضيل هؤلاء المذكورين في الآية أعنى آدم ونوح وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين تفضيل غيرهم على العالمين لاستلزم ذلك التنافى بين هؤلاء المذكورين في الآية أنفسهم وهو ظاهر. ولا أن تفضيل هؤلاء على غيرهم ينافى وقوع التفاضل فيما بينهم أنفسهم فقد فضل الله النبيين على سائر العالمين وفضل بعضهم على بعض قال تعالى وكلا فضلنا على
العالمين: الانعام - 86 وقال أيضا ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض: أسرى - 55. وأما آل عمران فالظاهر أن المراد بعمران أبو مريم كما يشعر به تعقيب هاتين الآيتين بالآيات التى تذكر قصة امرأة عمران ومريم ابنة عمران وقد تكرر ذكر عمران أبى مريم باسمه في القرآن الكريم ولم يرد ذكر عمران أبى موسى حتى في موضع واحد يتعين فيه كونه هو المراد بعينه وهذا يؤيد كون المراد بعمران في الآية أبا مريم عليها السلام وعلى هذا فالمراد بآل عمران هو مريم وعيسى عليهما السلام أو هما وزوجة عمران. وأما ما يذكر أن النصارى غير معترفين بكون اسم أبى مريم عمران فالقرآن غير تابع لهواهم. قوله تعالى ذرية بعضها من بعض الذرية - في الاصل صغار الاولاد على ما ذكروا ثم استعملت في مطلق الاولاد وهو المعنى المراد في الآية وهى منصوبة عطف بيان. وفي قوله بعضها من بعض دلالة على أن كل بعض فرض منها يبتدئ وينتهى من البعض الآخر واليه ولازمه كون المجموع متشابه الاجزاء لا يفترق البعض من البعض في أوصافه وحالاته وإذا كان الكلام في اصطفائهم أفاد ذلك أنهم ذرية لا يفترقون في صفات الفضيلة التى اصطفاهم الله لاجلها على العالمين إذ لا جزاف ولا لعب
[ 168 ]
في الافعال الالهية ومنها الاصطفاء الذى هو منشأ خيرات هامة في العالم. قوله تعالى والله سميع عليم أي سميع بأقوالهم الدالة على باطن ضمائرهم عليم بباطن ضمائرهم وما في قلوبهم فالجملة بمنزلة التعليل لاصطفائهم كما أن قوله ذرية بعضها من بعض بمنزلة التعليل لشمول موهبة الاصطفاء لهؤلاء الجماعة فالمحصل من الكلام ان الله اصطفى هؤلاء على العالمين وإنما سرى الاصطفاء إلى جميعهم لانهم ذرية متشابهة الافراد بعضهم يرجع إلى البعض في تسليم القلوب وثبات القول بالحق
وإنما أنعم عليهم بالاصطفاء على العالمين لانه سميع عليم يسمع أقوالهم ويعلم ما في قلوبهم. = بحث روائي = في العيون في حديث الرضا مع المأمون: فقال المأمون هل فضل الله العترة على سائر الناس - فقال أبو الحسن - إن الله أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه - فقال المأمون أين ذلك في كتاب الله - فقال له الرضا عليه السلام في قوله - إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم - وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض الحديث. وفي تفسير العياشي عن أحمد بن محمد عن الرضا عن أبى جعفر عليهما السلام: من زعم أنه فرغ من الامر فقد كذب - لان المشية لله في خلقه - يريد ما يشاء ويفعل ما يريد قال الله - ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم - آخرها من أولها وأولها من آخرها - فإذا أخبرتم بشئ منها بعينه - أنه كائن وكان في غيره منه - فقد وقع الخبر على ما أخبرتم عنه. أقول وفيه دلالة على ما تقدم في البيان السابق من معنى قوله ذرية بعضها من بعض الآية. وفيه أيضا عن الباقر عليه السلام: أنه تلا هذه الآية فقال - نحن منهم ونحن بقية تلك العترة. أقول قوله عليه السلام ونحن بقية تلك العترة - العترة بحسب الاصل في معناها الاصل الذى يعتمد عليه الشئ ومنه العترة للاولاد والاقارب الادنين ممن مضى وبعبارة اخرى العمود المحفوظ في العشيرة ومنه يظهر أنه عليه السلام استفاد من قوله
[ 169 ]
تعالى ذرية بعضها من بعض أنها عترة محفوظة آخذة من آدم إلى نوح إلى آل إبراهيم وآل عمران ومن هنا يظهر النكتة في ذكر آدم ونوح مع آل إبراهيم وعمران فهى إشارة إلى اتصال السلسلة في الاصطفاء = إذ قالت امرأة عمران رب إنى نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل منى إنك أنت السميع العليم (35) - فلما وضعتها قالت رب إنى وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالانثى وإنى
سميتها مريم وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم (36) - فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب (37) - هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لى من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء (38) - فنادته الملائكة وهو قائم يصلى في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين (39) - قال رب أنى يكون لى غلام وقد بلغني الكبر وامرأتى عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء (40) - قال رب اجعل لى آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشى والابكار (41).
[ 170 ]
= بيان = قوله تعالى إذ قالت أمرأة عمران رب إنى نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل منى إنك أنت السميع العليم النذر إيجاب الانسان على نفسه ما ليس بواجب و التحرير هو الاطلاق عن وثاق ومنه تحرير العبد عن الرقية وتحرير الكتاب كأنه إطلاق للمعانى عن محفظة الذهن والفكر والتقبل هو القبول عن رغبة ورضى كتقبل الهدية وتقبل الدعاء ونحو ذلك. وفي قوله قالت امرأة عمران رب إنى نذرت لك ما في بطني دلالة على أنها إنما قالت هذا القول حينما كانت حاملا وأن حملها كان من عمران ولا يخلو الكلام من إشعار بأن زوجها عمران لم يكن حيا عندئذ وإلا لم يكن لها أن تستقل بتحرير ما في بطنها هذا الاستقلال كما يدل عليه أيضا ما سيأتي من قوله تعالى وما كنت لديهم
إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم الآية: آل عمران - 44 على ما سيجئ من البيان. ومن المعلوم أن تحرير الاب أو الام للولد ليس تحريرا عن الرقية وإنما هو تحرير عن قيد الولاية التى للوالدين على الولد من حيث تربيته واستعماله في مقاصدهما وافتراض طاعتهما فبالتحرير يخرج من تسلط أبويه عليه في استخدامه وإذا كان التحرير منذورا لله سبحانه يدخل في ولاية الله يعبده ويخدمه أي يخدم في البيع والكنائس والاماكن المختصة بعبادته تعالى في زمان كان فيه تحت ولاية الابوين لو لا التحرير وقد قيل إنهم كانوا يحررون الولد لله فكان الابوان لا يستعملانه في منافعهما ولا يصرفانه في حوائجهما بل كان يجعل في الكنيسة يكنسها ويخدمها لا يبرح حتى يبلغ الحلم ثم يخير بين الاقامة والرواح فإن أحب أن يقيم أقام وإن أحب الرواح ذهب لشأنه. وفي الكلام دلالة على أنها كانت تعتقد أن ما في بطنها ذكر لا اناث حيث إنها تناجى ربها عن جزم وقطع من غير اشتراط وتعليق حيث تقول نذرت لك ما في بطني محررا من غير أن تقول مثلا إن كان ذكرا ونحو ذلك. وليس تذكير قوله محررا من جهة كونه حالا عن ما الموصولة التى يستوى فيه المذكر والمؤنث إذ لو كانت نذرت تحرير ما في بطنها سواء كان ذكرا أو انثى لم
[ 171 ]
يكن وجه لما قالتها تحزنا وتحسرا لما وضعتها رب إنى وضعتها انثى ولا وجه ظاهر لقوله تعالى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالانثى على ما سيجئ بيانه. وفي حكايته تعالى لما قالتها عن جزم دلالة على أن اعتقادها ذلك لم يكن عن جزاف أو اعتمادا على بعض القرائن الحدسية التى تسبق إلى أذهان النسوان بتجارب ونحوه فكل ذلك ظن والظن لا يغنى من الحق شيئا وكلامه تعالى لا يشتمل على باطل إلا مع إبطاله وقد قال تعالى الله يعلم ما تحمل كل انثى وما تغيض الارحام وما تزداد: الرعد - 8 وقال تعالى عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في
الارحام: لقمان - 34 فجعل العلم بما في الارحام من الغيب المختص به تعالى وقال تعالى عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى: الجن - 27 فجعل علم غيره بالغيب منتهيا إلى الوحى فحكايته عنها الجزم في القول فيما يختص علمه بالله سبحانه يدل على أن علمها بذكورة ما في بطنها كان ينتهى بوجه إلى الوحى ولذلك لما تبينت أن الولد انثى لم تيأس عن ولد ذكر فقالت ثانيا عن جزم وقطع وإنى اعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم الآية فأثبتت لها ذرية ولا سبيل إلى العلم به ظاهرا. ومفعول قولها فتقبل منى وإن كان محذوفا محتملا لان يكون هو. نذرها من حيث إنه عمل صالح أو يكون هو ولدها المحرر لكن قوله تعالى فتقبلها ربها بقبول حسن لا يخلو عن إشعار أو دلالة على كون مرادها هو قبول الولد المحرر. قوله تعالى فلما وضعتها قالت رب إنى وضعتها انثى في وضع الضمير المؤنث موضع ما في بطنها إيجاز لطيف والمعنى فلما وضعت ما في بطنها وتبينت أنه انثى قالت رب إنى وضعتها انثى وهو خبر اريد به التحسر والتحزن دون الاخبار وهو ظاهر. قوله تعالى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالانثى جملتان معترضتان وهما جميعا مقولتان له تعالى لا لامرأة عمران ولا أن الثانية مقولة لها والاولى مقولة لله. أما الاولى فهى ظاهرة لكن لما كانت قولها رب إنى وضعتها انثى مسوقا لاظهار التحسر كان ظاهر قوله والله أعلم بما وضعت أنه مسوق لبيان أنا نعلم أنها
[ 172 ]
انثى لكنا أردنا بذلك إنجاز ما كانت تتمناه بأحسن وجه وأرضى طريق ولو كانت تعلم ما أردناه من جعل ما في بطنها انثى لم تتحسر ولم تحزن ذاك التحسر والتحزن والحال أن الذكر الذى كانت ترجوه لم يكن ممكنا أن يصير مثل هذا الانثى التى
وهبناها لها ويترتب عليه ما يترتب على خلق هذه الانثى فإن غاية أمره أن يصير مثل عيسى نبيا مبرئا للاكمه والابرص ومحييا للموتى لكن هذه الانثى ستتم به كلمة الله وتلد ولدا بغير أب وتجعل هي وابنها آية للعالمين ويكلم الناس في المهد ويكون روحا وكلمة من الله مثله عند الله كمثل آدم إلى غير ذلك من الآيات الباهرات في خلق هذه الانثى الطاهرة المباركة وخلق ابنها عيسى عليهما السلام. ومن هنا يظهر أن قوله وليس الذكر كالانثى مقول له تعالى لا لامرأة عمران ولو كان مقولا لها لكان حق الكلام ان يقال وليس الانثى كالذكر لا بالعكس وهو ظاهر فإن من كان يرجو شيئا شريفا أو مقاما عاليا ثم رزق ما هو أخس منه واردأ إنما يقول عند التحسر ليس هذا الذى وجدته هو الذى كنت أطلبه وأبتغيه أو ليس ما رزقته كالذى كنت أرجوه ولا يقول ليس ما كنت أرجوه كهذا الذى رزقته البتة وظهر من ذلك أن اللام في الذكر والانثى معا أو في الانثى فقط للعهد. وقد أخذ أكثر المفسرين قوله وليس الذكر كالانثى تتمة قول امرأة عمران وتكلفوا في توجيه تقديم الذكر على الانثى بما لا يرجع إلى محصل من أراده فليرجع إلى كتبهم. قوله تعالى وإنى سميتها مريم وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم معنى مريم في لغتهم العابدة والخادمة على ما قيل ومنه يعلم وجه مبادرتها إلى تسمية المولودة عند الوضع ووجه ذكره تعالى لتسميتها بذلك فإنها لما أيست من كون الولد ذكرا محررا للعبادة وخدمة الكنيسة بادرت إلى هذه التسمية وأعدتها بالتسمية للعبادة والخدمة فقولها وإنى سميتها مريم بمنزلة أن تقول إنى جعلت ما وضعتها محررة لك والدليل على كون هذا القول منها في معنى النذر قوله تعالى فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا الآية. ثم أعاذتها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم ليستقيم لها العبادة والخدمة ويطابق اسمها المسمى.
[ 173 ]
والكلام في قولها وذريتها من حيث أنه قول مطلق من شرط وقيد لا يصح التفوه به في حضرة التخاطب ممن لا علم له به مع أن مستقبل حال الانسان من الغيب الذى لا يعلمه إلا الله سبحانه نظير الكلام في قولها رب إنى نذرت لك ما في بطني محررا على ما تقدم بيانه فليس إلا أنها كانت تعلم أن سترزق من عمران ولدا ذكرا صالحا ثم لما حملت وتوفى عمران لم تشك أن ما في بطنها هو ذلك الولد الموعود ثم لما وضعتها وبان لها خطأ حدسها أيقنت أنها سترزق ذلك الولد من نسل هذه البنت المولودة فحولت نذرها من الابن إلى البنت وسمتها مريم العابدة الخادمة وأعاذتها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم هذا ما يعطيه التدبر في كلامه تعالى. قوله تعالى فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا القبول إذا قيد بالحسن كان بحسب المعنى هو التقبل الذى معناه القبول عن الرضا فالكلام في معنى قولنا فتقبلها ربها تقبلا فإنما حلل التقبل إلى القبول الحسن ليدل على أن حسن القبول مقصود في الكلام ولما في التصريح بحسن القبول من التشريف البارز. وحيث قوبل بهاتين الجملتين أعنى قوله فتقبلها إلى قوله حسنا الجملتان في قولها وإنى سميتها إلى قولها الرجيم كان مقتضى الانطباق أن يكون قوله فتقبلها ربها بقبول حسن قبولا لقولها وإنى سميتها مريم وقوله وأنبتها نباتا حسنا قبولا وإجابة لقولها وإنى اعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم فالمراد بتقبلها بقبول حسن ليس هو القبول بمعنى قبول تقرب امرأة عمران بالنذر وإعطاء الثواب الاخروي لعملها فإن القبول إنما نسب إلى مريم لا إلى النذر وهو ظاهر بل قبول البنت بما أنها مسماة بمريم ومحررة فيعود معناه إلى اصطفائها وقد مر أن معنى الاصطفاء هو التسليم التام لله سبحانه فافهم ذلك. والمراد بإنباتها نباتا حسنا أعطاء الرشد والزكاة لها ولذريتها وإفاضة الحيوة لها ولمن ينمو منها من الذرية حيوة لا يمسها نفث الشيطان ورجس تسويله ووسوسته
وهو الطهارة. وهذان أعنى القبول الحسن الراجع إلى الاصطفاء والنبات الحسن الراجع إلى التطهير هما اللذان يشير اليهما قوله تعالى في ذيل هذه الآيات: وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك الآية وسنوضحه بيانا إنشاء الله العزيز
[ 174 ]
فقد تبين أن اصطفاء مريم وتطهيرها إنما هما استجابة لدعوة امها كما أن اصطفائها على نساء العالمين في ولادة عيسى وكونها وابنها آية للعالمين تصديق لقوله تعالى وليس الذكر كالانثى. قوله تعالى وكفلها زكريا وانما كفلها بإصابة القرعة حيث اختصموا في تكفلها ثم تراضوا بينهم بالقرعة فأصابت القرعة زكريا كما يدل عليه قوله تعالى وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون الآية. قوله تعالى كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا الخ المحراب المكان المخصوص بالعبادة من المسجد والبيت قال الراغب ومحراب المسجد قيل سمى بذلك لانه موضع محاربة الشيطان والهوى وقيل سمى بذلك لكون حق انإسان فيه أن يكون حريبا أي سليبا من أشغال الدنيا ومن توزع الخاطر وقيل الاصل فيه أن محراب البيت صدر المجلس ثم اتخذت المساجد فسمى صدره به وقيل بل المحراب أصله في المسجد وهو اسم خص به صدر المجلس فسمى صدر البيت محرابا تشبيها بمحراب المسجد وكأن هذا أصح قال عز وجل يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل انتهى. وذكر بعضهم أن المحراب هنا هو ما يعبر عنه أهل الكتاب بالمذبح وهو مقصورة في مقدم المعبد لها باب يصعد إليه بسلم ذى درجات قليلة ويكون من فيه
محجوبا عمن في المعبد. أقول واليه ينتهى اتخاذ المقصورة في الاسلام. وفي تنكير قوله رزقا إشعار بكونه رزقا غير معهود كما قيل إنه كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ويؤيده أنه لو كان من الرزق المعهود وكان تنكيره يفيد أنه ما كان يجد محرابها خاليا من الرزق بل كان عندها رزق ما دائما لم يقنع زكريا بقولها هو من عند الله إن الله يرزق الخ في جواب قوله يا مريم أنى لك هذا لامكان أن يكون يأتيها بعض الناس ممن كان يختلف إلى المسجد لغرض حسن أو سيئ.
[ 175 ]
على أن قوله تعالى هنالك دعا زكريا ربه الخ يدل على أن زكريا تلقى وجود هذا الرزق عندها كرامة إلهية خارقة فأوجب ذلك أن يسأل الله أن يهب له من لدنه ذرية طيبة فقد كان الرزق رزقا يدل بوجوده على كونه كرامة من الله سبحانه لمريم الطاهرة ومما يشعر بذلك قوله تعالى قال يا مريم الخ على ما سيجئ من البيان. وقوله قال يا مريم أنى لك الخ فصل الكلام من غير أن يعطف على قوله وجد عندها رزقا يدل على أنه عليه السلام إنما قال لها ذلك مرة واحدة فأجابت بما قنع به واستيقن أن ذلك كرامة لها وهنالك دعا وسأل ربه ذرية طيبة. قوله تعالى هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لى من لدنك ذرية طيبة الخ طيب الشئ ملائمته لصاحبه فيما يريده لاجله فالبلد الطيب ما يلائم حيوة أهله من حيث الماء والهواء والرزق ونحو ذلك قال تعالى والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه: الاعراف - 58 والعيشة الطيبة والحيوة الطيبة ما يلائم بعض أجزائها بعضا ويسكن إليها قلب صاحبها ومنه الطيب للعطر الزكي فالذرية الطيبة هو الولد الصالح لابيه مثلا الذى يلائم من حيث صفاته وأفعاله ما عند أبيه من الرجاء والامنية فقول
زكريا عليه السلام رب هب لى من لدنك ذرية طيبة لما كان الباعث له عليه ما شاهد من أمر مريم وخصوص كرامتها على الله وامتلاء قلبه من شأنها لم يملك من نفسه دون أن يسأل الله أن يهب له مثلها خطرا وكرامة فكون ذريته طيبة أن يكون لها ما لمريم من الكرامة عند الله والشخصية في نفسها ولذلك استجيب في عين ما سأله من الله ووهب له يحيى وهو أشبه الانبياء بعيسى عليهما السلام وأجمع الناس لما عند عيسى وامه مريم الصديقة من صفات الكمال والكرامة ومن هنا ما سماه تعالى بيحيى وجعله مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين وهذه أقرب ما يمكن أن يشابه بها إنسان مريم وابنه عيسى عليهما السلام على ما سنبينه ان شاء الله تعالى. قوله تعالى فنادته الملائكة وهو قائم يصلى في المحراب أن الله يبشرك بيحيى إلى آخر الآية ضمائر الغيبة والخطاب لزكريا والبشرى والابشار والتبشير الاخبار بما يفرح الانسان بوجوده. وقوله أن الله يبشرك بيحيى دليل على أن تسميته بيحيى إنما هو من جانب
[ 176 ]
الله سبحانه كما تدل عليه نظائر هذه الآيات في سورة مريم قال تعالى يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا: مريم - 7. وتسميته بيحيى وكون التسمية من عند الله سبحانه في بدء ما بشر به زكريا قبل تولد يحيى وخلقه يؤيد ما ذكرناه آنفا أن الذى طلبه زكريا من ربه أن يرزقه ولدا يكون شأنه شأن مريم وقد كانت مريم هي وابنها عيسى عليهما السلام آية واحدة كما قال تعالى وجعلناها وابنها آية للعالمين: الانبياء - 91. فروعي في يحيى ما روعى فيهما من عند الله سبحانه وقد روعى في عيسى كمال ما روعى في مريم فالمرعى في يحيى هو الشبه التام والمحاذاة الكاملة مع عيسى عليهما السلام فيما يمكن ذلك ولعيسى في ذلك كله التقدم التام لان وجوده كان مقدرا قبل استجابة دعوة زكريا في حق يحيى ولذلك سبقه عيسى في كونه من اولى العزم
صاحب شريعة وكتاب وغير ذلك لكنهما تشابها وتشابه أمرهما فيما يمكن. وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبر فيما ذكر الله تعالى من قصتهما في سورة مريم فقال في يحيى يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا إلى أن قال يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا وزكوة وكان تقيا وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا: مريم - 15 وقال في عيسى عليه السلام فأرسلنا إليها روحنا إلى أن قال إنما أنا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا إلى أن قال قال ربك هو على هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا إلى أن قال فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إنى عبد الله آتانى الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلوة والزكوة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا: مريم - 33 ويقرب منها من حيث الدلالة على تقارب أمرهما آيات هذه السورة التى نحن فيها عند التطبيق. و بالجملة فقد سماه الله سبحانه يحيى وسمى ابن مريم عيسى وهو بمعنى يعيش على ما قيل وجعله مصدقا بكلمة منه وهو عيسى كما قال تعالى بكلمة منه اسمه المسيح عيسى وآتاه الحكم وعلمه الكتاب صبيا كما فعل بعيسى وعده حنانا من لدنه وزكاة وبرا بوالديه غير جبار كما كان عيسى كذلك وسلم عليه في المواطن الثلاث
[ 177 ]
كعيسى وعده سيدا كما جعل عيسى وجيها عنده وجعله حصورا ونبيا ومن الصالحين مثل عيسى كل ذلك استجابة لمسألة زكريا ودعوته حيث سأل ذرية طيبة ووليا رضيا عند ما امتلا قلبه بما شاهد من أمر مريم وعجيب شأنها وكرامتها على الله كما مر بيانه. وفي قوله مصدقا بكلمة من الله دلالة على كونه من دعاة عيسى فالكلمة هو عيسى المسيح كما ذكره تعالى في ذيل هذه الآيات في بشارة الروح لمريم. والسيد هو الذى يتولى أمر سواد الناس وجماعتهم في أمر حيوتهم ومعاشهم أو
في فضيلة من الفضائل المحمودة عندهم ثم غلب استعماله في شريف القوم لما أن التولى المذكور يستلزم شرفا بالحكم أو المال أو فضيلة اخرى. والحصور هو الذى لا يأتي النساء والمراد بذلك في الآية بقرينة السياق الممتنع عن ذلك للاعراض عن مشتهيات النفس زهدا. قوله تعالى قال رب أنى يكون لى غلام وقد بلغني الكبر وامرأتى عاقر استفهام تعجيب واستعلام لحقيقة الحال لا استبعاد واستعظام مع تصريح البشارة بذلك وأن الله سبحانه سيرزقه ما سأله من الولد مع أنه ذكر هذين الوصفين اللذين جعلهما منشأ للتعجب والاستعلام في ضمن مسألته على ما في سورة مريم حيث قال رب إنى وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا وإنى خفت الموالى من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لى من لدنك وليا: مريم - 5. لكن المقام يمثل معنى آخر فكأنه عليه السلام لما انقلب حالا من مشاهدة أمر مريم وتذكر انقطاع عقبه لم يشعر إلا وقد سأل ربه ما سأل وقد ذكر في دعائه ما له سهم وافر في تأثره وتحزنه وهو بلوغ الكبر وكون امرأته عاقرا فلما استجيبت دعوته وبشر بالولد كأنه صحا وأفاق مما كان عليه من الحال وأخذ يتعجب من ذلك وهو بالغ الكبر وامرأته عاقر فصار ما كان يثير على وجهه غبار اليأس وسيماء الحزن يغيره إلى نظرة التعجب المشوب بالسرور. على أن ذكر نواقص الامر بعد البشارة بقضاء أصل الحاجة واستعلام كيفية رفع واحد واحد منها إنما هو طلب تفهم خصوصيات الافاضة والانعام التذاذا بالنعمة الفائضة بعد
[ 178 ]
النعمة نظير ما وقع في بشرى إبراهيم بالذرية قال تعالى ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام
عليم قال أبشرتمون على أن مسني الكبر فبم تبشرون قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون: الحجر - 56 فذكر في جواب نهى الملائكة إياه عن القنوط أن استفهامه لم يكن عن قنوط كيف وهو غير ضال والقنوط ضلالة بل السيد إذا أقبل على عبده إقبالا يؤذن بالقرب والانس والكرامة أوجب ذلك انبساطا من العبد وابتهاجا يستدعي تلذذه من كل حديث وتمتعه في كل باب. وفي قوله وقد بلغني الكبر من مراعاة الادب ما لا يخفى فإنه كناية عن أنه لا يجد من نفسه شهوة النكاح لبلوغ الشيخوخة والهرم. وقد اجتمعت في امرأته الكبر والعقر معا فإن ذلك ظاهر قوله وكانت امرأتي عاقرا ولم يقل وامرأتي عاقر. قوله تعالى: قال كذلك الله يفعل ما يشاء فاعل قال وإن كان هو الله سبحانه سواء كان من غير وساطة الملائكة وحيا أو بواسطة الملائكة الذين كانوا ينادونه فالقول على اي حال قوله تعالى لكن الظاهر أنه منسوب إليه تعالى بواسطة الملك فالقائل هو الملك وقد نسب إليه تعالى لانه بأمره والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة مريم في القصة " قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا " مريم - 9. ومنه يظهر اولا أنه سمع الصوت من حيث كان يسمعه أولا وثانيا أن قوله كذلك خبر لمبتدء محذوف والتقدير الامر كذلك أي الذي بشرت به من الموهبة هو كذلك كائن لا محالة وفيه إشارة إلى كونه من القضاء المحتوم الذي لا ريب في وقوعه نظير ما ذكره الروح في جواب مريم على ما حكاه الله تعالى " قال كذلك قال ربك هو علي هين - إلى أن قال -: وكان أمرا مقضيا " مريم - 21 وثالثا أن قوله الله يفعل ما يشاء كلام مفصول في مقام التعليل لمضمون
قوله: كذلك اه. قوله تعالى قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا
[ 179 ]
رمزا إلى آخر الآية قال في المجمع الرمز الايماء بالشفتين وقد يستعمل في الايماء بالحاجب والعين واليد والاول أغلب انتهى والعشي الطرف المؤخر من النهار وكأنه مأخوذ من العشوة وهي الظلمة الطارئة في العين المانعة عن الابصار فأخذوا ذلك وصفا للوقت لرواحه إلى الظلمة والابكار صدر النهار والطرف المقدم منه والاصل في معناه الاستعجال. ووقوع هذه الآية في ولادة يحيى من وجوه المضاهاة بينه وبين عيسى فإنها تضاهي قول عيسى لمريم بعد تولده " فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا " مريم - 26. وسؤاله عليه السلام من ربه أن يجعل له آية والآية هي العلامة الدالة على الشئ هل هو ليستدل به على أن البشارة إنما هي من قبل ربه وبعبارة أخرى هو خطاب رحماني ملكي لا شيطاني ؟ أو لانه أراد أن يستدل بها على حمل امرأته ويعلم وقت الحمل خلاف بين المفسرين. والوجه الثاني لا يخلو عن بعد من سياق الآيات وجريان القصة لكن الذي أوجب تحاشي القوم عن الذهاب إلى أول الوجهين أعني كون سؤال الآية لتمييز أن الخطاب رحماني هو ما ذكروه أن الانبياء لعصمتهم لا بد أن يعرفوا الفرق بين كلام الملك ووسوسة الشيطان ولا يجوز أن يتلاعب الشيطان بهم حتى يختلط عليهم طريق الافهام. وهو كلام حق لكن يجب أن يعلم أن تعرفهم إنما هو بتعريف الله تعالى لهم لا من قبل أنفسهم واستقلال ذواتهم وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يتعرف زكريا
من ربه أن يجعل له آية يعرف به ذلك ؟ وأي محذور في ذلك ؟ نعم لو لم يستجب دعائه ولم يجعل الله له آية كان الاشكال في محله. على أن خصوصية نفس الآية وهي عدم التكليم ثلاثة أيام تؤيد بل تدل على ذلك فإن الشيطان وإن أمكن أن يمس الانبياء في أجسامهم أو بتخريب أو إفساد في ما يرجونه من نتائج أعمالهم في رواج الدين واستقبال الناس أو تضعيف أعداء الدين كما يدل عليه قوله تعالى " وأذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان
[ 180 ]
بنصب وعذاب " ص - 41 وقوله تعالى " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى القى الشيطان في امنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته الآية " الحج - 52 وقوله تعالى " فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان " الكهف - 63. لكن هذه وأمثالها من مس الشيطان وتعرضه لا تنتج إلا إيذاء النبي وأما مسه الانبياء في نفوسهم فالانبياء معصومون من ذلك وقد مر في ما تقدم من المباحث إثبات عصمتهم عليهم السلام. والذي جعله الله تعالى آيه لزكريا على ما يدل عليه قوله: آيتك أن لا تكلم الناس ثلثه أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والابكار هو أنه كان لا يقدر ثلثه أيام على تكليم أحد ويعتقل لسانه إلا بذكر الله وتسبيحه وهذه آية واقعة على نفس النبي ولسانه وتصرف خاص فيه لا يقدر عليه الشيطان لمكان العصمة فليس إلا رحمانيا وهذه الآية كما ترى متناسبة مع الوجه الاول دون الوجه الثاني. فان قلت لو كان الامر كذلك فما معنى قوله قال رب أنى يكون لى غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك يفعل الله ما يشاء الآية فإن ظاهره أنه خاطب ربه وسأله ما سأل ثم أجيب بما أجيب فما معنى هذه المخاطبة لو كان شاكا في
أمر النداء ؟ ولو لم يكن شاكا عندئذ فما معنى سؤال التمييز ؟ قلت مراتب الركون والاعتقاد مختلفة فمن الممكن أن يكون قد اطمأنت نفسه على كون النداء رحمانيا من جانب الله ثم يسأل ربه من كيفية الولادة التي كانت تتعجب منه نفسه الشريفة كما مر فيجاب بنداء آخر ملكي تطمئن إليه نفسه ثم يسأل ربه آية توجب اليقين بأنه كان رحمانيا فيزيد بذلك وثوقا وطمأنينة. ومما يؤيد ذلك قوله تعالى فنادته الملائكة فإن النداء إنما يكون من بعيد ولذلك كثر اطلاق النداء في مورد الجهر بالقول لكونه عندنا من لوازم البعد وليس بلازم بحسب أصل معنى الكلمة كما يشهد به قوله تعالى في ما حكى فيه دعاء زكريا " إذ نادى ربه ندائا خفيا " مريم - 3 فقد أطلق عليه النداء بعنايه تذلل زكريا وتواضعه قبال تعزز الله سبحانه وترفعه وتعاليه ثم وصف النداء بالخفاء فالكلام لا يخلو عن إشعار بكون زكريا لم ير الملك نفسه وإنما سمع صوتا يهتف به هاتف.
[ 181 ]
وقد ذكر بعض المفسرين أن المراد من جعله تعالى عدم التكليم آية نهيه عن تكليم الناس ثلثة أيام والانقطاع فيها إلى ذكر الله وتسبيحه دون اعتقال لسانه قال الصواب أن زكريا أحب بمقتضى الطبيعة البشرية أن يتعين لديه الزمن الذي ينال به تلك المنحة الالهية ليطمئن قلبه ويبشر أهله فسأل عن الكيفية ولما أجيب بما اجيب به سأل ربه أن يخصه بعبادة يتعجل بها شكره ويكون اتمامه إياها آية وعلامة على حصول المقصود فأمره بأن لا يكلم الناس ثلثه أيام بل ينقطع إلى الذكر والتسبيح مسائا صباحا مده ثلثه أيام فإذا احتاج إلى خطاب الناس أومأ إليهم إيمائا على هذا تكون بشارته لاهله بعد مضي الثلاث الليال انتهى. وأنت خبير بأنه ليس لما ذكره (من مسألته عبادة تكون شكرا للمنحة وانتهائها إلى حصول المقصود وكون انتهائها هو الآية وكون قوله أن لا تكلم مسوقا للنهي
التشريعي وكذا إرادته بشارة أهله) في الآية عين ولا أثر. (كلام في الخواطر الملكية والشيطانية وما يلحق بها من التكليم) قد مر كرارا أن الالفاظ موضوعة لمعانيها من حيث اشتمالها على الاغراض المقصودة منها وأن القول أو الكلام مثلا إنما يسمى به الصوت لافادته معنى مقصودا يصح السكوت عليه فما يفاد به ذلك كلام وقول سواء كان مفيده صوتا واحدا أو أصواتا متعددة مؤلفة أو غير صوت كالايماء والرمز والناس لا يتوقفون في تسمية الصوت المفيد فائدة تامة كلاما وإن لم يخرج عن شق فم وكذلك في تسمية الايماء قولا وكلاما وإن لم يشتمل على صوت. والقرآن أيضا يسمي المعاني الملقاة في القلوب من الشيطان كلاما له وقولا منه قال تعالى حكاية عن الشيطان " ولآمرنهم فليبتكن آذان الانعام " النساء - 119 وقال " كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر " الحشر - 16 وقال " يوسوس في صدور الناس " الناس - 5 وقال " يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول " الانعام - 112 وقال أيضا حكاية عن إبليس " إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم " إبراهيم - 22 وقال " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا
[ 182 ]
والله واسع عليم يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا " البقرة - 269 ومن الواضح أن هذه هي الخواطر الواردة على القلوب نسبت إلى الشيطان وسميت بالامر والقول والوسوسة والوحي والوعد وجميعها قول وكلام ولم تخرج عن شق فم ولا تحريك لسان. ومن هنا يعلم أن ما تشتمل عليه الآية الاخيرة من وعده تعالى بالمغفرة والفضل قبال وعد الشيطان هو الكلام الملكي في قبال الوسوسة من الشيطان وقد سماه تعالى الحكمة ومثلها قوله تعالى " ويجعل لكم نورا تمشون به " الحديد - 28 وقوله
" هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السموات والارض " الفتح - 4 وقد مر بيانها في الكلام على السكينة في ذيل قوله تعالى " فيه سكينة من ربكم " البقرة - 248 وكذا قوله " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون " الانعام - 125 وقد سمى الوسوسة رجزا فقال " رجز الشيطان " الانفال - 11 فمن جميع ذلك يظهر أن الشياطين والملائكة يكلمون الانسان بإلقاء المعاني في قلبه. وهنا قسم آخر من التكليم يختص به تعالى كما ذكره بقوله " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب الآية " الشورى - 51 فسماه تكليما وقسمه إلى الوحي وهو الذي لا حجاب فيه بينه وبين العبد المكلم وإلى التكليم من وراء حجاب هذه أقسام من الكلام لله سبحانه وللملائكة والشياطين. أما كلام الله سبحانه المسمى بالوحي فهو متميز متعين بذاته فإن الله سبحانه ألقى التقابل بينه وبين التكليم من وراء حجاب فهو تكليم حيث لا حجاب بين الانسان وبين ربه، ومن المحال أن يقع هناك لبس، وهو ظاهر وأما غيره فيحتاج إلى تسديد ينتهي إلى الوحي. وأما الكلام الملكي والشيطاني فالآيات المذكورة آنفا تكفي في التمييز بينها فإن الخاطر الملكي يصاحب انشراح الصدر، ويدعو إلى المغفرة والفضل وينتهي بالاخرة إلى ما يطابق دين الله المبين في كتابه وسنة نبيه، والخاطر الشيطاني يلازم
[ 183 ]
تضيق الصدر وشح النفس ويدعو إلى متابعة الهوى ويعد الفقر ويأمر بالفحشاء وبالاخرة ينتهي إلى ما لا يطابق الكتاب والسنة ويخالف الفطرة. ثم إن الانبياء ومن يتلوهم ربما تيسر لهم مشاهدة الملك والشيطان ومعرفتهما
كما حكى الله تعالى عن آدم وإبراهيم ولوط فأغنى ذلك عن استعمال المميز وأما مع عدم المشاهدة فلا بد من استعماله كسائر المؤمنين وينتهي بالاخرة إلى تمييز الوحي وهو ظاهر. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: إذ قالت امرأة عمران الآية عن الصادق عليه السلام قال إن الله أوحى إلى عمران أني واهب لك ذكرا سويا مباركا يبرئ الاكمه والابرص ويحيي الموتى بإذن الله وجاعله رسولا إلى بني إسرائيل فحدث عمران امرأته حنة بذلك وهي ام مريم - فلما حملت كان حملها بها عند نفسها غلاما - فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها انثى - وليس الذكر كالانثى لا تكون البنت رسولا يقول الله والله أعلم بما وضعت فلما وهب الله لمريم عيسى كان هو الذي بشر به عمران ووعده إياه فإذا قلنا في الرجل منا شيئا وكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك. أقول وروى قريبا منه في الكافي عنه عليه السلام وفي تفسير العياشي عن الباقر عليه السلام. وفي تفسير العياشي في الآية عن الصادق عليه السلام: أن المحرر يكون في الكنيسة لا يخرج منها فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها انثى وليس الذكر كالانثى إن الانثى تحيض فتخرج من المسجد، والمحرر لا يخرج من المسجد. وفيه عن أحدهما: نذرت ما في بطنها للكنيسة أن يخدم العباد وليس الذكر كالانثى في الخدمة قال فشبت وكانت تخدمهم وتناولهم حتى بلغت فأمر زكريا أن تتخذ لها حجابا دون العباد. أقول والروايات كما ترى تنطبق على ما قدمناه في البيان السابق إلا أن ظاهرها: أن قوله وليس الذكر كالانثى كلام لامرأة عمران لا له تعالى ويبقى عليه وجه
[ 184 ]
تقديم الذكر على الانثى في الجملة مع أن مقتضى القواعد العربية خلافه وكذا يبقى عليه وجه تسميتها بمريم وقد مر أنه في معنى التحرير إلا أن يفرق بين التحرير وجعلها خادمة فليتأمل. وفي الرواية الاولى دلالة على كون عمران نبيا يوحي إليه ويدل عليه ما في البحار عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر عليهما السلام عن عمران أكان نبيا ؟ فقال نعم كان نبيا مرسلا إلى قومه الحديث. وتدل الرواية أيضا على كون اسم امرأة عمران حنة وهو المشهور وفي بعض الروايات مرثار ولا يهمنا البحث عن ذلك. وفي تفسير القمي في ذيل الرواية السابقة فلما بلغت مريم صارت في المحراب وأرخت على نفسها سترا وكان لا يراها أحد وكان يدخل عليها زكريا المحراب فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فكان يقول أنى لك هذا فتقول هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام قال: ان زكريا لما دعا ربه أن يهب له ولدا فنادته الملائكة بما نادته به أحب أن يعلم أن ذلك الصوت من الله فأوحى إليه أن آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثه أيام فلما أمسك لسانه ولم يتكلم علم أنه لا يقدر على ذلك إلا الله وذلك قول الله رب اجعل لي آية. اقول وروى قريبا منه القمي في تفسيره وقد عرفت فيما تقدم أن سياق الآيات لا يأبى عن ذلك. وبعض المفسرين شدد النكير على ما تضمنته هذه الروايات كالوحي إلى عمران ووجود الفاكهة في محراب مريم في غير وقتها وكون سؤال زكريا للآية للتمييز فقال إن هذه امور لا طريق إلى إثباتها فلا هو سبحانه ذكرها ولا رسوله قالها ولا هي
مما يعرف بالرأي ولم يثبتها تاريخ يعتد به وليس هناك الا روايات إسرائيلية وغير إسرائيلية ولا موجب للتكلف في تحصيل معنى القرآن وحمله على أمثال هذه الوجوه البعيدة عن الافهام. وهو منه كلام من غير حجة والروايات وإن كانت آحادا غير خالية عن ضعف
[ 185 ]
الطريق لا يجب على الباحث الاخذ بها والاحتجاج بما فيها لكن التدبر في الآيات يقرب الذهن منها والذي نقل منها عن أئمة أهل البيت عليهم السلام لا يشتمل على أمر غير جائز عند العقل. نعم في بعض ما نقل عن قدماء المفسرين امور غير معقولة كما نقل عن قتادة وعكرمة ": أن الشيطان جاء إلى زكريا وشككه في كون البشارة من الله تعالى وقال - لو كانت من الله لاخفى لك في ندائه كما أخفيت له في ندائك إلى غير ذلك فهي معان لا مجوز لتسليمها كما ورد في انجيل لوقا - أن جبرئيل قال لزكريا - وها أنت تكون صامتا - ولا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا لانك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته انجيل لوقا 1 - 20 = بحث روائي آخر = وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: ما من قلب إلا وله اذنان - على إحديهما ملك مرشد وعلى الاخرى شيطان مفتن هذا يأمره وهذا يزجره - الشيطان يأمره بالمعاصى والملك يزجره عنها - وذلك قول الله عز وجل ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد عن اليمين وعن الشمال قعيد. أقول والروايات في هذا المعنى كثيرة سيأتي شطر منها وتطبيقه عليه السلام الآية على الملك والشيطان في هذه الرواية لا ينافي تطبيقه إياها على الملكين الكاتبين للحسنات والسيئات في رواية اخرى فإن الآية لا تدل على أزيد من وجود رقيب عتيد عند الانسان يرقبه في جميع ما يتكلم به وأنه متعدد عن يمين الانسان وشماله وأما
أنه من الملائكة محضا أو ملك وشيطان فالآية غير صريحة في ذلك قابلة للانطباق على كل من المحتملين. وفيه أيضا عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرسول وعن النبي وعن المحدث - قال الرسول الذى يعاين الملك يأتيه بالرسالة من ربه يقول - يأمرك كذا وكذا والرسول يكون نبيا مع الرسالة والنبي لا يعاين الملك ينزل عليه الشئ النبأ على قلبه فيكون كالمغمى عليه فيرى في منامه قلت فما علمه أن الذي في منامه حق قال - يبينه الله حتى يعلم أن ذلك حق - ولا يعاين الملك الحديث.
[ 186 ]
اقول قوله والرسول يكون نبيا إشارة إلى إمكان اجتماع الوصفين وقد تقدم الكلام في معنى الرسالة والنبوة في تفسير قوله تعالى كان الناس امة واحدة فبعث الله الآية: البقرة - 213. وقوله فيكون كالمغمى عليه تفسير معنى رؤيته في المنام وأن معناه الغيبة عن الحس دون المنام المعروف وقوله يبينه الله الخ إشارة إلى التمييز بين الالقاء الملكى والشيطانى بما بينه الله من الحق. وفي البصائر عن بريد عن الباقر والصادق عليهما السلام في حديث قال بريد: فما الرسول والنبى والمحدث - قال الرسول الذي يظهر الملك فيكلمه - والنبي يرى في المنام - وربما اجتمعت النبوة والرسالة لواحد - والمحدث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة - قال قلت أصلحك الله كيف يعلم - أن الذي رأى في المنام هو الحق وأنه من الملك قال - يوفق لذلك حتى يعرفه - لقد ختم الله بكتابكم الكتب وبنبيكم الانبياء الحديث. اقول وهو في مساق الحديث السابق وبيانه عليه السلام واف بتمييز المحدث ما يسمعه من صوت الهاتف وفي قوله لقد ختم الله الخ إشارة إلى ذلك وسيأتي
الكلام في المحدث في ذيل الآيات التالية وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين (42) - يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين (43) - ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون (44) - إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيها في الدنيا
[ 187 ]
والآخرة ومن المقربين (45) - ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين (46) - قالت رب أنى يكون لى ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (47) - ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل (48) - ورسولا إلى بني أسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الاكمه والابرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين (49) - ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون (50) - إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط
مستقيم (51) - فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون (52). ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين (53). ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين (54) - إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيمة ثم إلي مرجعكم
[ 188 ]
فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون (55) - فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين (56). وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين (57) - ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم (58). إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59) - الحق من ربك فلا تكن من الممترين (60)) (بيان) قوله تعالى: وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله أصطفيك وطهرك الجملة معطوفة على قوله إذ قالت امرأة عمران فتكون شرحا مثله لاصطفاء آل عمران المشتمل عليه قوله تعالى إن الله اصطفى الآية. وفي الآية دليل على كون مريم محدثة تكلمها الملائكة وهي تسمع كلامهم كما يدل عليه أيضا قوله في سورة مريم فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا إلى آخر الآيات وسيأتي الكلام في المحدث. وقد تقدم في قوله تعالى فتقبلها ربها بقبول حسن الآية أن ذلك بيان لاستجابة دعوة ام مريم وإني سميتها مريم وإني اعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم الآية وأن قول الملائكة لمريم إن الله اصطفيك وطهرك إخبار لها بما لها عند
الله سبحانه من الكرامة والمنزلة فارجع إلى هناك. فاصطفائها تقبلها لعبادة الله وتطهيرها اعتصامها بعصمة الله فهي مصطفاة معصومة وربما قيل إن المراد من تطهيرها جعلها بتولا لا تحيض فيتهيأ لها بذلك أن لا تضطر إلى الخروج من الكنيسة ولا بأس به غير أن الذي ذكرناه هو الاوفق بسياق الآيات.
[ 189 ]
قوله تعالى واصطفاك على نساء العالمين قد تقدم في قوله تعالى إن الله اصطفى إلى قوله على العالمين أن الاصطفاء المتعدي بعلى يفيد معنى التقدم وأنه غير الاصطفاء المطلق الذي يفيد معنى التسليم وعلى هذا فاصطفائها على نساء العالمين تقديم لها عليهن. وهل هذا التقديم تقديم من جميع الجهات أو من بعضها ظاهر قوله تعالى فيما بعد الآية إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك الآية وقوله تعالى " والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين " الانبياء - 91 وقوله تعالى " ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين " التحريم - 12 حيث لم تشتمل مما تختص بها من بين النساء إلا على شأنها العجيب في ولادة المسيح عليه السلام أن هذا هو وجه اصطفائها وتقديمها على النساء من العالمين. وأما ما اشتملت عليه الآيات في قصتها من التطهير والتصديق بكلمات الله وكتبه والقنوت وكونها محدثة فهي امور لا تختص بها بل يوجد في غيرها وأما ما قيل إنها مصطفاة على نساء عالمي عصرها فإطلاق الآية يدفعه. قوله تعالى يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين القنوت هو لزوم الطاعة عن خضوع على ما قيل والسجدة معروفة والركوع هو الانحناء أو
مطلق التذلل. ولما كان النداء يوجب تلفيت نظر المنادى (اسم مفعول) وتوجيه فهمه نحو المنادي (اسم فاعل) كان تكرار النداء في المقام بمنزلة أن يقال لها إن لك عندنا نبأ بعد نبأ فاستمعي لهما وأصغي اليهما أحدهما ما أكرمك الله به من منزلة وهو مالك عند الله والثاني ما يلزمك من وظيفة العبودية بالمحاذاة وهو ما لله سبحانه عندك فيكون هذا إيفائا للعبودية وشكرا للمنزلة فيؤل معنى الكلام إلى كون قوله يا مريم اقنتي " الخ " بمنزلة التفريع لقوله يا مريم إن الله اصطفيك " الخ " أي إذا كان كذلك فاقنتي واسجدي واركعي مع الراكعين ولا يبعد أن يكون كل واحدة من الخصال الثلاث المذكورة في هذه الآية فرعا لواحدة من الخصال الثلاث المذكورة في الآية السابقة وإن لم يخل عن خفاء فليتأمل.
[ 190 ]
قوله تعالى ذلك من أنباء الغيب نوحيه اليك عده من أنباء الغيب نظير ما عدت قصة يوسف عليه السلام من أنباء الغيب التي توحي إلى رسول الله قال تعالى: " ذلك من أنباء الغيب نوحيه اليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون " يوسف - 102 وأما ما يوجد من ذلك عند أهل الكتاب فلا عبرة به لعدم سلامته من تحريف المحرفين كما أن كثيرا من الخصوصيات المقتصة في قصص زكريا غير موجودة في كتب العهدين على ما وصفه الله في القرآن. ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى في ذيل الآية وما كنت لديهم إذ يلقون " الخ ". على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقومه كانوا اميين غير عالمين بهذه القصص ولا أنهم قرئوها في الكتب كما ذكره تعالى بعد سرد قصة نوح " تلك من أنباء الغيب نوحيها اليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا " هود - 49 والوجه الاول أوفق بسياق الآية.
قوله تعالى وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم " الخ " القلم بفتحتين القدح الذي يضرب به القرعة ويسمى سهما أيضا وجمعه أقلام فقوله يلقون أقلامهم أي يضربون بسهامهم ليعينوا بالقرعة أيهم يكفل مريم. وفي هذه الجملة دلالة على أن الاختصام الذي يدل عليه قوله وما كنت لديهم إذ يختصمون إنما هو اختصامهم وتشاحهم في كفالة مريم وأنهم لم يتناهوا حتى تراضوا بالاقتراع بينهم فضربوا بالقرعة فخرج السهم لزكريا فكفلها بدليل قوله وكفلها زكريا الآية. وربما احتمل بعضهم أن هذا الاختصام والاقتراع بعد كبرها وعجز زكريا عن كفالتها وكأن منشائه ذكر هذا الاقتراع والاختصام بعد تمام قصة ولادتها واصطفائها وذكر كفالة زكريا في أثنائها فيكونان واقعتين اثنتين. وفيه أنه لا ضير في إعادة بعض خصوصيات القصة أو ما هو بمنزلة الاعادة لتثبيت الدعوى كما وقع نظيره في قصة يوسف حيث قال تعالى بعد تمام القصة " ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون " يوسف - 102 يشير بذلك إلى معنى قوله تعالى في أوائل القصة " إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى
[ 191 ]
أبينا منا ونحن عصبة إلى أن قال لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين: يوسف - 10. قوله تعالى إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك إلخ الظاهر أن هذه البشارة هي التى يشتمل عليها قوله تعالى في موضع آخر فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا الآيات: مريم - 19 فتكون البشارة المنسوبة إلى الملائكة هيهنا هي المنسوبة إلى الروح فقط هناك.
وقد قيل في وجهه أن المراد بالملائكة هو جبرئيل عبر بالجمع عن الواحد تعظيما لامره كما يقال سافر فلان فركب الدواب وركب السفن وإنما ركب دابة واحدة وسفينة واحدة ويقال قال له الناس كذا وإنما قاله واحد وهكذا ونظير الآية قوله في قصة زكريا السابقة فنادته الملائكة ثم قوله قال كذلك الله يفعل ما يشاء الآية. وربما قيل إن جبرئيل كان معه غيره فاشتركوا في ندائها. والذى يعطيه التدبر في الآيات التى تذكر شأن الملائكة أن بين الملائكة تقدما وتأخرا من حيث مقام القرب وأن للمتأخر التبعية المحضة لاوامر المتقدم بحيث يكون فعل المتأخر رتبة عين فعل المتقدم وقوله عين قوله نظير ما نشاهده ونذعن به من كون أفعال قوانا وأعضائنا عين أفعالنا من غير تعدد فيه تقول رأته عيناى وسمعته اذناى وريته وسمعته ويقال فعلته جوارحي وكتبته يدى ورسمته أناملي وفعلته أنا وكتبته أنا وكذلك فعل المتبوع من الملائكة فعل التابعين له المؤتمرين لامره بعينه وقوله قولهم من غير اختلاف وبالعكس كما أن فعل الجميع فعل الله سبحانه وقولهم قوله كما قال تعالى الله يتوفى الانفس حين موتها: الزمر - 42 فنسب التوفى إلى نفسه وقال قل يتوفيكم ملك الموت الذى وكل بكم: السجدة - 11 فنسبه إلى ملك الموت وقال حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا: الانعام - 61 فنسبه إلى جمع من الملائكة. ونظيره قوله تعالى إنا أوحينا اليك: النساء - 163 وقوله نزل به الروح الامين على قلبك: الشعراء - 194 وقوله من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على
[ 192 ]
قلبك: البقرة - 97 وقوله كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدى سفرة كرام بررة: عبس - 16.
فظهر أن بشارة جبرئيل هي عين بشارة من هو تحت أمره من جماعة الملائكة وهو من سادات الملائكة ومقربيهم على ما يدل عليه قوله تعالى إنه لقول رسول كريم ذى قوة عند ذى العرش مكين مطاع ثم أمين: التكوير - 21 وسيأتى زيادة توضيح لهذا الكلام في سورة فاطر انشاء الله تعالى. ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى في الآية التالية قال كذلك الله يفعل ما يشاء فإن ظاهره أن القائل هو الله سبحانه مع أنه نسب هذا القول في سورة مريم في القصة إلى الروح قال تعالى قال إنما أنا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا قالت أني يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو على هين الآيات: مريم - 21. وفي تكلم الملائكة والروح مع مريم دلالة على كونها محدثة بل قوله تعالى في سورة مريم في القصة بعينها فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا: مريم - 17 يدل على معاينتها الملك زيادة على سماعها صوته وسيجئ تمام الكلام في المعنى في البحث الروائي الآتي إنشاء الله. قوله تعالى بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم قد مر البحث في معنى كلامه تعالى في تفسير قوله تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض: البقرة - 253 والكلمة والكلم كالتمرة والتمر جنس وفرد وتطلق الكلمة على اللفظ الواحد الدال على المعنى وعلى الجملة سواء صح السكوت عليها مثل زيد قائم أو لم يصح مثل إن كان زيد قائما هذا بحسب اللغة وأما بحسب ما يصطلح عليه القرآن أعني الكلمة المنسوبة إلى الله تعالى فهي الذي يظهر به ما أراده الله تعالى من أمر نحو كلمة الايجاد وهو قوله تعالى لشئ أراده كن أو كلمة الوحي والالهام ونحو ذلك. وأما المراد بالكلمة فقد قيل إن المراد به المسيح عليه السلام من جهة أن من سبقه من الانبياء أو خصوص أنبياء بني إسرائيل بشروا به بعنوان أنه منجي بني إسرائيل يقال في نظير المورد هذه كلمتي التي كنت أقولها ونظيره قوله تعالى في ظهور موسى
[ 193 ]
عليه السللام: " وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا " الاعراف - 137 وفيه أن ذلك وإن كان ربما ساعده كتب العهدين لكن القرآن الكريم خال عن ذلك بل القرآن يعد عيسى بن مريم مبشرا لا مبشرا به على أن سياق قوله اسمه المسيح لا يناسبه فإن الكلمة على هذا ظهور عيسى المخبر به قبلا لا نفس عيسى وظاهر قوله اسمه المسيح أن المسيح اسم الكلمة لا اسم من تقدمت في حقه الكلمة. وربما قيل إن المراد به عيسى عليه السلام لايضاحه مراده تعالى بالتوراة وبيانه تحريفات اليهود وما اختلفوا فيه من امور الدين كما حكى الله تعالى عنه ذلك فيما يخاطب به بني إسرائيل " ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه: الزخرف - 63 وفيه أنه نكتة تصحح هذا التعبير لكنها خالية عما يساعدها من القرائن. وربما قيل إن المراد بكلمة منه البشارة نفسها وهي الاخبار بحملها بعيسى وولادته فمعنى قوله يبشرك بكلمة منه يبشرك ببشارة هي أنك ستلدين عيسى من غير مس بشر وفيه أن سياق الذيل أعني قوله اسمه المسيح لا يلائمه وهو ظاهر. وربما قيل إن المراد به عيسى عليه السلام من جهة كونه كلمة الايجاد أعني قوله كن وإنما اختص عيسى عليه السلام بذلك مع كون كل إنسان بل كل شئ موجودا بكلمة كن التكوينية لان سائر الافراد من الانسان يجرى ولادتهم على مجرى الاسباب العادية المألوفة في العلوق من ورود ماء الرجل على نطفة الاناث وعمل العوامل المقارنة في ذلك ولذلك يسند العلوق إليه كما يسند سائر المسببات إلى أسبابها ولما لم يجر علوق عيسى هذا المجرى وفقد بعض الاسباب العادية التدريجية كان وجوده بمجرد كلمة التكوين من غير تخلل الاسباب العادية فكان نفس الكلمة كما يؤيده قوله تعالى " وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه: النساء - 171 وقوله تعالى في آخر هذه
الآيات " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الآية " وهذا أحسن الوجوه. والمسيح هو الممسوح سمي به عيسى عليه السلام لانه كان مسيحا باليمن والبركه أو لانه مسح بالتطهير من الذنوب أو مسح بدهن زيت بورك فيه وكانت الانبياء يمسحون
[ 194 ]
به أو لان جبرائيل مسحه بجناحه حين ولادته ليكون عوذة من الشيطان أو لانه كان يمسح رؤوس اليتامى أو لانه كان يمسح عين الاعمى بيده فيبصر أو لانه كان لا يمسح ذا عاهه بيده إلا برء فهذه وجوه ذكروها في تسميته بالمسيح. لكن الذي يمكن أن يعول عليه أن هذا اللفظ كان واقعا في ضمن البشارة التي بشر بها جبرائيل مريم عليه السلام على ما يحكيه تعالى بقوله " إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم " وهذا اللفظ بعينه معرب " مشيحا " الواقع في كتب العهدين. والذى يستفاد منها أن بني إسرائيل كان من دأبهم أن الملك منهم إذا قام بأمر الملك مسحته الكهنة بالدهن المقدس ليبارك له في ملكه فكان يسمى مشيحا فمعناه إما الملك وإما المبارك. وقد يظهر من كتبهم أنه عليهم السلام إنما سمي مشيحا من جهة كون بشارته متضمنا لملكه وأنه سيظهر في بني إسرائيل ملكا عليهم منجيا لهم كما يلوح ذلك من إنجيل لوقا في بشارة مريم قال: فلما دخل إليها الملك قال السلام لك - يا ممتلية نعمة الرب معك مباركة أنت في النساء - فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت ما هذا السلام فقال لها الملك لا تخافي يا مريم فقد ظفرت بنعمة من عند الله وأنت تحبلين وتلدين ابنا وتدعين اسمه يسوع هذا يكون عظيما وابن العلي يدعى ويعطيه الرب له كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الابد ولا يكون لملكه انقضاء " لوقا 1 - 34.
ولذلك تتعلل اليهود عن قبول نبوته بأن البشارة لاشتمالها على ملكه لا تنطبق على عيسى عليه السلام لانه لم ينل الملك أيام دعوته وفي حيوته ولذلك أيضا ربما وجهته النصارى وتبعه بعض المفسرين من المسلمين بأن المراد بملكه الملك المعنوي دون الصوري أقول وليس من البعيد أن يقال إن تسميته بالمسيح في البشارة بمعنى كونه مباركا فإن التدهين عندهم إنما كان للتبريك ويؤيده قوله تعالى " قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت " مريم - 31. وعيسى أصله يشوع فسروه بالمخلص وهو المنجي وفي بعض الاخبار تفسيره بيعيش وهو أنسب من جهة تسمية ابن زكريا بيحيى على ما مر من المشابهة التامة بين
[ 195 ]
هذين النبيين. وتقييد عيسى بابن مريم مع كون الخطاب في الآية لمريم للتنبيه على أنه مخلوق من غير أب ويكون معروفا بهذا النعت وأن مريم شريكته في هذه الآية كما قال تعالى " وجعلناها وابنها آية للعالمين " الانبياء - 91. قوله تعالى وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين الوجاهة هي المقبولية وكونه عليه السلام مقبولا في الدنيا مما لا خفاء فيه وكذا في الآخرة بنص القرآن. ومعنى المقربين ظاهر فهو مقرب عند الله داخل في صف الاولياء والمقربين من الملائكة من حيث التقريب كما ذكره تعالى بقوله " لن يستنكف المسيح أن يكون عبد الله ولا الملائكة المقربون " النساء - 172 وقد عرف تعالى معنى التقريب بقوله " إذا وقعت الواقعة - إلى أن قال -: وكنتم أزواجا ثلثة إلى أن قال: والسابقون السابقون اولئك المقربون " الواقعة - 11 والآية كما ترى تدل على أن هذا التقرب وهو تقرب إلى الله سبحانه حقيقته سبق الانسان سائر أفراد نوعه في سلوك
طريق العود إلى الله الذي سلوكه مكتوب على كل إنسان بل كل شئ قال تعالى " يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " الانشقاق - 6 وقال تعالى ألا إلى الله تصير الامور " الشورى - 53. وأنت إذا تأملت كون المقربين صفة الافراد من الانسان وصفة الافراد من الملائكة علمت أنه لا يلزم أن يكون مقاما اكتسابيا فإن الملائكة لا يحرزون ما أحرزوه من المقام عند الله سبحانه بالكسب فلعله مقام تناله المقربون من الملائكة بهبة إلهيه والمقربون من الانسان بالعمل. وقوله وجيها في الدنيا والآخرة حال وكذا ما عطف عليه من قوله ومن المقربين ويكلم اه ومن الصالحين ويكلمه اه رسولا اه. قوله تعالى ويكلم الناس في المهد وكهلا، المهد ما يهيا للصبي من الفراش والكهل من الكهولة وهو ما بين الشباب والشيخوخة وهو ما يكون الانسان فيه رجلا تاما قويا ولذا قيل الكهل من وخطه الشيب أي خالطه وربما قيل إن الكهل من بلغ أربعا وثلاثين.
[ 196 ]
وكيف كان ففيه دلالة على أنه سيعيش حتى يبلغ سن الكهولة ففيه بشارة اخرى لمريم. وفي التصريح بذلك مع دلالة الاناجيل على أنه لم يعش في الارض أكثر من ثلاث وثلاثين سنة نظر ينبغي أن يمعن فيه ولذا ربما قيل إن تكليمه للناس كهلا إنما هو بعد نزوله من السماء فإنه لم يمكث في الارض ما يبلغ به سن الكهولة وربما قيل إن الذي يعطيه التاريخ بعد التثبت أن عيسى عليه السلام عاش نحوا من أربع وستين سنه خلافا لما يظهر من الاناجيل. والذي يظهر من سياق قوله في المهد وكهلا أنه لا يبلغ سن الشيخوخة
وإنما ينتهي إلى سن الكهولة وعلى هذا فقد أخذ في البيان كلامه في طرفي عمره الصبي والكهولة. والمعهود من وضع الصبي في المهد أن يوضع فيه أوائل عمره ما دام في القماط قبل أن يدرج ويمشي وهو في السنة الثانية فما دونها غالبا وهو سن الكلام فكلام الصبي في المهد وإن لم يكن في نفسه من خوارق العادة لكن ظاهر الآية أنه يكلم الناس في المهد كلاما تاما يعتني به العقلاء من الناس كما يعتنون بكلام الكهل وبعبارة أخرى يكلمهم في المهد كما يكلمهم كهلا والكلام من الصبي بهذه الصفة آية خارقة. على أن القصة في سورة مريم تبين أن تكليمه الناس إنما كان لاول ساعة أتت به مريم إلى الناس بعد وضعه وكلام الصبي لاول يوم ولادته آية خارقة لا محالة قال تعالى " فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا اخت هرون ما كان أبوك امرء سوء وما كانت امك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت الآيات " مريم - 31. قوله تعالى قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر خطابها لربها مع كون المكلم إياها الروح المتمثل بنائا على ما تقدم أن خطاب الملائكة وخطاب الروح وكلامهم كلام الله سبحانه فقد كانت تعلم أن الذي يكلمها هو الله سبحانه وإن كان الخطاب متوجها إليها من جهة الروح المتمثل أو الملائكة ولذلك خاطبت ربها.
[ 197 ]
ويمكن أن يكون الكلام من قبيل قوله تعالى " قال رب ارجعون " المؤمنون - 99 فهو من الاستغاثة المعترضة في الكلام. قوله سبحانه قال كذلك الله يفعل ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون قد مرت الاشارة إلى أن تطبيق هذا الجواب بما في سورة مريم من قوله
" قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا " مريم - 21 يفيد أن يكون قوله هيهنا كذلك كلاما تاما تقديره الامر كذلك ومعناه أن الذي بشرت به أمر مقضي لا مرد له. وأما التعجب من هذا الامر فإنما يصح لو كان هذا الامر مما لا يقدر عليه الله سبحانه أو يشق أما القدرة فإن قدرته غير محدودة يفعل ما يشاء وأما صعوبته ومشقته فإن العسر والصعوبة إنما يتصور إذا كان الامر مما يتوسل إليه بالاسباب فكلما كثرت المقدمات والاسباب وعزت وبعد منالها اشتد الامر صعوبة والله سبحانه لا يخلق ما يخلق بالاسباب بل إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون. فقد ظهر أن قوله كذلك كلام تام أريد به رفع اضطراب مريم وتردد نفسها وقوله الله يخلق ما يشاء رفع العجز الذي يوهمه التعجب وقوله إذا قضى رفع لتوهم العسر والصعوبة. قوله تعالى ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل اللام في الكتاب والحكمة للجنس وقد مر أن الكتاب هو الوحي الرافع لاختلافات الناس والحكمة هي المعرفة النافعة المتعلقة بالاعتقاد أو العمل وعلى هذا فعطف التوراة والانجيل على الكتاب والحكمة مع كونهما كتابين مشتملين على الحكمة من قبيل ذكر الفرد بعد الجنس لاهمية في اختصاصه بالذكر وليست لام الكتاب للاستغراق لقوله تعالى " ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون " الزخرف - 63 وقد مر بيانه. وأما التوراة فالذي يريده القرآن منها هو الذي نزله الله على موسى عليه السلام في الميقات في ألواح على ما يقصه الله سبحانه في سورة الاعراف وأما الذي عند اليهود من الاسفار فهم معترفون بانقطاع اتصال السند ما بين بختنصر من ملوك بابل وكورش
[ 198 ]
من ملوك الفرس غير أن القرآن يصدق أن التوراة الموجود بأيديهم في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير مخالفة للتوراة الاصل بالكلية وإن لعبت بها يد التحريف ودلالة آيات القرآن على ذلك واضحة. وأما الانجيل ومعناه البشارة فالقرآن يدل على أنه كان كتابا واحدا نازلا على عيسى فهو الوحي المختص به قال تعالى " وأنزل التوراة والانجيل من قبل هدى للناس " آل عمران - 4 وأما هذه الاناجيل المنسوبة إلى متى ومرقس ولوقا ويوحنا فهي كتب مؤلفة بعده عليه السلام. ويدل أيضا على أن الاحكام إنما هي في التوراة وأن الانجيل لا تشتمل إلا على بعض النواسخ كقوله في هذه الآيات مصدقا لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم الآية وقوله " وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه " المائدة - 47 ولا يبعد أن يستفاد من الآية أن فيه بعض الاحكام الاثباتية. ويدل أيضا على أن الانجيل مشتمل على البشارة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كالتوراة قال تعالى " الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل " الاعراف - 157. قوله تعالى ورسولا إلى بني إسرائيل ظاهره أنه عليه السلام كان مبعوثا إلى بني إسرائيل خاصة كما هو اللائح من الآيات في حق موسى عليه السلام وقد مر في الكلام على النبوة في ذيل قوله تعالى " كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين الآية " البقرة - 213 أن عيسى عليه السلام كموسى من أولي العزم وهم مبعوثون إلى أهل الدنيا كافة. لكن العقدة تنحل بما ذكرناه هناك في الفرق بين الرسول والنبي أن النبوة هي منصب البعث والتبليغ والرسالة هي السفارة الخاصة التي تستتبع الحكم والقضاء بالحق بين الناس إما بالبقاء والنعمة أو بالهلاك كما يفيده قوله تعالى " ولكل امة
رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط " يونس - 47. وبعبارة اخرى النبي هو الانسان المبعوث لبيان الدين للناس والرسول هو المبعوث لاداء بيان خاص يستتبع رده الهلاك وقبوله البقاء والسعادة كما يؤيده بل
[ 199 ]
يدل عليه ما حكاه الله سبحانه من مخاطبات الرسل لاممهم كنوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم عليهم السلام. وإذا كان كذلك لم يستلزم الرسالة إلى قوم خاص البعثة إليهم وكان من الممكن أن يكون الرسول إلى قوم خاص نبيا مبعوثا إليهم وإلى غيرهم كموسى وعيسى عليهم السلام. وعلى ذلك شواهد من القرآن الكريم كرسالة موسى إلى فرعون قال تعالى " اذهب إلى فرعون إنه طغى " طه - 24 وإيمان السحرة لموسى وظهور قبول إيمانهم ولم يكونوا من بني إسرائيل قال تعالى " قالوا آمنا برب هارون وموسى " طه - 70 ودعوة قوم فرعون قال تعالى " ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم " الدخان - 17 ونظير ذلك ما كان من أمر إيمان الناس بعيسى فلقد آمن به عليه السلام قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الروم وأمم عظيمة من الغربيين كالافرنج والنمسا والبروس وإنجلترا وأمم من الشرقيين كنجران وهم جميعهم ليسوا من بني إسرائيل والقرآن لم يخص فيما يذكر فيه النصارى - نصارى بني إسرائيل خاصة بالذكر بل يعمم مدحه أو ذمه الجميع. قوله تعالى أني قد جئتكم بآية من ربكم اني أخلق لكم من الطين إلى قوله واحيي الموتى بإذن الله الخلق جمع أجزاء الشئ وفيه نسبة الخلق إلى غيره تعالى كما يشعر به أيضا قوله تعالى " فتبارك الله أحسن الخالقين " المؤمنون - 14. والاكمه هو الذي يولد مطموس العين وقد يقال لمن تذهب عينه قال
كمهت عيناه حتى ابيضتا قاله الراغب والابرص من كان به برص وهو مرض جلدى معروف. وفي قوله واحيي الموتى حيث علق الاحياء بالموتى وهو جمع دلالة ولا أقل من الاشعار بالكثرة والتعدد. وكذا قوله بإذن الله سيق للدلالة على أن صدور هذه الآيات المعجزة منه عليه السلام مستند إلى الله تعالى من غير أن يستقل عيسى عليه السلام بشئ من ذلك وإنما كرر تكرارا يشعر بالاصرار لما كان من المترقب أن يضل فيه الناس فيعتقدوا بالوهيته
[ 200 ]
استدلالا بالآيات المعجزة الصادرة عنه عليه السلام ولذا كان يقيد كل آية يخبر بها عن نفسه مما يمكن أن يضلوا به كالخلق وإحياء الموتى بإذن الله ثم ختم الكلام بقوله إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم. وظاهر قوله أني أخلق لكم " الخ " أن هذه الآيات كانت تصدر عنه صدورا خارجيا لا أن الكلام مسوق لمجرد الاحتجاج والتحدي ولو كان مجرد قول لقطع العذر وإتمام الحجة لكان من حق الكلام أن يقيد بقيد يفيد ذلك كقولنا إن سألتم أو أردتم أو نحو ذلك. على أن ما يحكيه الله سبحانه من مشافهته لعيسى يوم القيامة يدل على وقوع هذه الآيات أتم الدلالة قال " إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك - إلى إن قال -: وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الاكمه والابرص بإذني وإذ تخرج الموتى الآية " المائدة - 110. ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم أن قصارى ما تدل عليه الآية أن الله سبحانه جعل في عيسى بن مريم هذا السر وأنه احتج على الناس بذلك وأتم
الحجة عليهم بحيث لو سألوه شيئا من ذلك لآتى به أما أن كلها أو بعضها وقع فلا دلالة فيها على ذلك. قوله تعالى وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم وهذا إخبار بالغيب المختص بالله تعالى ومن خصه من رسله بالوحي وهو آية اخرى وإخبار بغيب صريح التحقق لا يتطرق إليه الشك والريب فإن الانسان لا يشك عادة فيما أكله ولا فيما ادخره في بيته. وإنما لم يقيد هذه الآية بإذن الله مع أن الآية لا تتحقق إلا بإذن منه تعالى كما قال " وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله " المؤمن - 78 لان هذه الآية عبر عنها بالانباء وهو كلام قائم بعيسى عليه السلام يعد فعلا له فلا يليق أن يسند إلى ساحة القدس بخلاف الآيتين السابقتين أعني الخلق والاحياء فإنها فعل الله بالحقيقة ولا ينسبان إلى غيره إلا بإذنه. على أن الآيتين المذكورتين ليستا كالانباء فإن الضلال إلى الناس فيهما أسرع منه
[ 201 ]
في الانباء فإن القلوب الساذجة تقبل الوهية خالق الطير ومحيي الموتى بأدنى وسوسة ومغلطة بخلاف الوهية من يخبر بالمغيبات فإنها لا تذعن باختصاص الغيب بالله سبحانه بل تعتقده أمرا مبتذلا جايز النيل لكل مرتاض أو كاهن مشعبذ فكان من الواجب عند مخاطبتهم أن يقيد الآيتين المذكورتين بالاذن دون الاخيرة وكذا الابراء فيكفي فيها مجرد ذكر أنها آية من الله وخاصة إذا القي الخطاب إلى قوم يدعون أنهم مؤمنون ولذلك ذيل الكلام بقوله إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين أي إن كنتم صادقين في دعويكم الايمان. قوله تعالى ومصدقا لما بين يدى من التوراة ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم عطف على قوله ورسولا إلى بني إسرائيل وكون المعطوف مبنيا على
التكلم مع كون المعطوف عليه مبنيا على الغيبة أعني كون عيسى عليه السلام في قوله ومصدقا لما بين يدي متكلما وفي قوله ورسولا إلى بني إسرائيل غائبا ليس مما يضر بالعطف بعد تفسير قوله ورسولا إلى بني إسرائيل بقول عيسى أني قد جئتكم فإن وجه الكلام يتبدل بذلك من الغيبة إلى الحضور فيستقيم به العطف وتصديقه للتوراة التي بين يديه إنما هو تصديق لما علمه الله من التوراة على ما تفيده الآية السابقة وهو التوراة الاصل النازلة على موسى عليهما السلام فلا دلالة لكونه مصدقا للتوراة التي في زمانه على كونها غير محرفة كما لا دلالة لتصديق نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتوراة التي بين يديه على كونها غير محرفة. قوله تعالى ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم فإن الله تعالى كان حرم عليهم بعض الطيبات قال تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم الآية: النساء - 160. والكلام لا يخلو عن دلالة على إمضائه عليه السلام لاحكام التوراة إلا ما نسخه الله تعالى بيده من الاحكام الشاقة المكتوبة على اليهود ولذا قيل ان الانجيل غير مشتمل على الشريعة وقوله ولاحل معطوف على قوله بآية من ربكم واللام للغاية والمعنى قد جئتكم لانسخ بعض الاحكام المحرمة المكتوبة عليكم. قوله تعالى وجئتكم بآية من ربكم الظاهر أنه لبيان أن قوله فاتقوا الله
[ 202 ]
وأطيعون متفرع على إتيان الآية لا على إحلال المحرمات فهو لدفع الوهم ويمكن أن يكون هو مراد من قال إن إعادة الجملة للتفرقة بين ما قبلها وما بعدها فإن مجرد التفرقة ليست من المزايا في الكلام. قوله تعالى إن الله ربي وربكم فاعبدوه فيه قطع لعذر من اعتقد الوهيته لتفرسه عليه السلام ذلك منهم أو لعلمه بذلك بالوحي كما ذكرنا نظير ذلك في تقييد قوله
فيكون طيرا وقوله واحيي الموتى بقوله بإذن الله لكن الظاهر من قوله تعالى فيما يحكى قول عيسى عليه السلام ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم: المائدة - 117 أن ذلك كان بأمر من ربه ووحى منه. قوله تعالى فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله لما كانت البشارة التي بشر بها مريم مشتملة على جمل قصص عيسى عليه السلام من حين حمله إلى حين رسالته ودعوته اقتصر عليها اقتصاصا إيجازا في الكلام وفرع عليها تتمة الجملة من قصته وهو انتخابه حوارييه ومكر قومه به ومكر الله بهم في تطهيره منهم وتوفيه ورفعه إليه وهو تمام القصة. وقد اعتبر في القصة المقدار الذي يهم إلقائه إلى النصارى حين نزول الآيات وهم نصارى نجران الوفد الذين أتوا المدينة للبحث الاحتجاج ولذلك اسقط منها بعض الخصوصيات التي تشتمل عليه قصصه المذكورة في سائر السور القرآنية كسورة النساء والمائدة والانبياء والزخرف والصف. وفي استعمال لفظ الاحساس في مورد الكفر مع كونه أمرا قلبيا إشعار بظهوره منهم حتى تعلق به الاحساس أو أنهم هموا بإيذائه وقتله بسبب كفرهم فاحس به فقوله فلما أحس عيسى أي استشعر واستظهر منهم أي من بني إسرائيل المذكور اسمهم في البشارة الكفر قال من أنصاري إلى الله وإنما أراد بهذا الاستفهام أن يتميز عدة من رجال قومه فيتمحضوا للحق فتستقر فيهم عدة الدين وتتمركز فيهم قوته ثم تنتشر من عندهم دعوته وهذا شأن كل قوة من القوى الطبيعية والاجتماعية وغيرها إنها إذا شرعت في الفعل ونشر التأثير وبث العمل كان من اللازم أن تتخذ لنفسها كانونا تجتمع فيه وتعتمد عليه وتستمد منه ولو لا ذلك لم تستقر على عمل وذهبت سدى لا تجدي نفعا.
[ 203 ]
و نظير ذلك في دعوة الاسلام بيعة العقبة وبيعة الشجرة أراد بها رسول الله صلى الله عليه وآله ركوز القدرة وتجمع القوة ليستقيم به أمر الدعوة. فلما أيقن عيسى عليه السلام أن دعوته غير ناجحة في بني إسرائيل كلهم أو جلهم وأنهم كافرون به لا محالة وأنهم لو أخمدوا أنفاسه بطلت الدعوة واشتدت المحنة مهد لبقاء دعوته هذا التمهيد فاستنصر منهم للسلوك إلى الله سبحانه فأجابه الحواريون على ذلك فتميزوا من سائر القوم بالايمان فكان ذلك أساسا لتميز الايمان من الكفر وظهوره عليه بنشر الدعوة وإقامة الحجة كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني اسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين: الصف - 14. وقد قيد الانصار في قوله من أنصاري بقوله إلى الله ليتم به معنى التشويق والتحريص الذي سيق لاجله هذا الاستفهام نظير قوله تعالى من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا: البقرة - 245. والظرف متعلق بقوله أنصاري بتضمين النصرة معنى السلوك والذهاب أو ما يشابههما كما حكى عن إبراهيم عليه السلام من قوله إني ذاهب إلى ربي سيهدين الصافات - 99. وأما ما احتمله بعض المفسرين من كون إلى بمعنى مع فلا دليل عليه ولا يساعد أدب القرآن أن يجعله تعالى في عداد غيره فيعد غير الله ناصرا كما يعده ناصرا ولا يساعد عليه أدب عيسى عليه السلام اللائح مما يحكيه القرآن من قوله على أن قوله تعالى قال الحواريون نحن أنصار الله أيضا لا يساعد عليه إذ كان من اللازم على ذلك أن يقولوا نحن أنصارك مع الله فليتأمل. قوله تعالى قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون حواري الانسان من اختص به من الناس وقيل أصله من الحور وهو شدة البياض ولم
يستعمل القرآن هذا اللفظ إلا في خواص عيسى عليه السلام من أصحابه. وقولهم آمنا بالله بمنزل التفسير لقولهم نحن أنصار الله وهذا مما يؤيد كون
[ 204 ]
قوله أنصاري إلى الله جاريا مجرى التضمين كما مر فإنه يفيد معنى السلوك في الطريق إلى الله والايمان طريق. وهل هذا أول إيمانهم بعيسى عليه السلام ربما استفيد من قوله تعالى كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة: الصف - 14 أنه إيمان بعد إيمان ولا ضير فيه كما يظهر بالرجوع إلى ما أوضحناه من كون الايمان والاسلام ذوي مراتب مختلفة بعضها فوق بعض. بل ربما دل قوله تعالى وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا وأشهد باننا مسلمون: المائدة - 111 أن إجابتهم إنما كانت بوحي من الله تعالى إليهم وأنهم كانوا أنبياء فيكون الايمان الذي أجابوه به هو الايمان بعد الايمان. على أن قولهم وأشهد بأننا مسلمون ربنا آمنا بما أنزلت وأتبعنا الرسول وهذا الاسلام هو التسليم المطلق لجميع ما يريده الله تعالى منهم وفيهم يدل أيضا على ذلك فإن هذا الاسلام لا يتأتى إلا من خلص المؤمنين لا من كل من شهد بالتوحيد والنبوة مجرد شهادة بيان ذلك أنه قد مر في البحث عن مراتب الايمان والاسلام أن كل مرتبة من الايمان تسبقها مرتبة من مراتب الاسلام كما يدل عليه قولهم آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون حيث أتوا في الايمان بالفعل وفي الاسلام بالصفة فأول مراتب الاسلام هو التسليم والشهادة على أصل الدين إجمالا ويتلوه الاذعان القلبي بهذه الشهادة الصورية في الجملة ويتلوه وهو المرتبة الثانية من الاسلام التسليم القلبي لمعنى الايمان وينقطع عنده السخط والاعتراض الباطني بالنسبة إلى جميع ما يأمر به الله ورسوله وهو الاتباع العملي في الدين ويتلوه وهو المرتبة الثانية من الايمان خلوص العمل واستقرار وصف
العبودية في جميع الاعمال والافعال ويتلوه وهو المرتبة الثالثة من الاسلام التسليم لمحبة الله وإرادته تعالى فلا يحب ولا يريد شيئا إلا بالله ولا يقع هناك إلا ما أحبه الله وأراده ولا خبر عن محبة العبد وإرادته في نفسه ويتلوه وهو المرتبة الثالثة من الايمان شيوع هذا التسليم العبودي في جميع الاعمال. فإذا تذكرت هذا الذي ذكرناه وتأملت في قوله عليه السلام فيما نقل من دعوته فاتقوا الله وأطيعون إن ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم الآية وجدت أنه عليه السلام أمر أولا بتقوى الله وإطاعة نفسه ثم علل ذلك بقوله إن الله ربي وربكم
[ 205 ]
أي إن الله ربكم معشر الامة ورب رسوله الذي أرسله اليكم فيجب عليكم أن تتقوه بالايمان وأن تطيعوني بالاتباع وبالجملة يجب عليكم أن تعبدوه بالتقوى وطاعة الرسول أي الايمان والاتباع فهذا هو المستفاد من هذا الكلام ولذا بدل التقوى والاطاعة في التعليل من قوله فاعبدوه وإنما فعل ذلك ليتضح ارتباط الامر بالله لظهور الارتباط به في العبودية ثم ذكر أن هذه العبادة صراط مستقيم فجعله سبيلا ينتهى بسالكه إلى الله سبحانه. ثم لما أحس منهم الكفر ولاحت أسباب اليأس من إيمان عامتهم قال من أنصاري إلى الله فطلب أنصارا لسلوك هذا الصراط المستقيم الذي كان يندب إليه وهو العبودية أعني التقوى والاطاعة فأجابه الحواريون بعين ما طلبه فقالوا نحن أنصار الله ثم ذكروا ما هو كالتفسير له فقالوا آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون ومرادهم بالاسلام إطاعته وتبعيته ولذا لما خاطبوا ربهم خطاب تذلل والتجاء وذكروا له ما وعدوا به عيسى عليه السلام قالوا ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فبدلوا الاسلام من الاتباع ووسعوا في الايمان بتقييده بجميع ما أنزل الله. فأفاد ذلك أنهم آمنوا بجميع ما أنزل الله مما علمه عيسى بن مريم من الكتاب
والحكمة والتوراة والانجيل واتبعوا الرسول في ذلك وهذا كما ترى ليس أول درجة من الايمان بل من أعلى درجاته وأسماها. وإنما استشهدوا عيسى عليه السلام في إسلامهم واتباعهم ولم يقولوا آمنا بالله وإنا مسلمون أو ما يفيد معناه ليكونوا على حجة في عرضهم حالهم على ربهم إذ قالوا ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فكأنهم قالوا ربنا حالنا هذا الحال ويشهد بذلك رسولك. قوله تعالى ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين مقول قول الحواريين حذف القول من اللفظ للدلالة على حكاية نفس الواقعة وهو من الاساليب اللطيفة في القرآن الكريم وقد مر بيانه وقد سألوا ربهم أن يكتبهم من الشاهدين وفرعوا ذلك على إيمانهم وإسلامهم جميعا لان تبليغ الرسول رسالته إنما يتحقق ببيانه ما أنزله الله عليه قولا وفعلا أي بتعليمه معالم الدين وعمله بها فالشهادة على التبليغ
[ 206 ]
إنما يكون بتعلمها من الرسول واتباعه عملا حتى يشاهد أنه عامل بما يدعو إليه لا يتخطاه ولا يتعداه والظاهر أن هذه الشهادة هي التي يومي إليها قوله تعالى فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين: الاعراف - 6 وهي الشهادة على التبليغ وأما قوله تعالى وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين: المائدة - 83 فهو شهادة على حقية رسالة الرسول دون التبليغ والله أعلم. وربما أمكن أن يستفاد من قولهم فاكتبنا مع الشاهدين بعد استشهادهم الرسول على إسلامهم أن المسئول أن يكتبهم الله من شهداء الاعمال كما يلوح ذلك مما حكاه
الله تعالى في دعاء إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا امة مسلمة لك وأرنا مناسكنا: البقرة - 128 وليرجع إلى ما ذكرناه في ذيل الآية. قوله تعالى ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين، الماكرون هم بنو إسرائيل بقرينة قوله فلما أحس عيسى منهم الكفر وقد مر الكلام في معنى المكر المنسوب إليه تعالى في ذيل قوله وما يضل به إلا الفاسقين: البقرة - 26. قوله تعالى إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك التوفى أخذ الشئ أخذا تاما ولذا يستعمل في الموت لان الله يأخذ عند الموت نفس الانسان من بدنه قال تعالى توفته رسلنا: الانعام - 61 أي أماتته وقال تعالى وقالوا أئذا ضللنا في الارض أئنا لفي خلق جديد إلى أن قال قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم: السجدة - 11 وقال تعالى الله يتوفى الانفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الاخرى: الزمر - 42 والتأمل في الآيتين الاخيرتين يعطي أن التوفي لم يستعمل في القرآن بمعنى الموت بل بعناية الاخذ والحفظ وبعبارة اخرى إنما استعمل التوفي بما في حين الموت من الاخذ للدلالة على أن نفس الانسان لا يبطل ولا يفني بالموت الذي يظن الجاهل أنه فناء وبطلان بل الله تعالى يحفظها حتى يبعثها للرجوع إليه وإلا فهو سبحانه يعبر في الموارد التي لا تجري فيه هذه العناية بلفظ الموت دون التوفي كما في قوله تعالى وما محمد إلا رسول قد خلت
[ 207 ]
من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم: آل عمران - 144 وقوله تعالى لا يقضى عليهم فيموتوا: الفاطر - 36 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدا حتى ما ورد في عيسى عليه السلام بنفسه كقوله والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا: مريم - 33 وقوله وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم
القيامة يكون عليهم شهيدا: النساء - 159 فمن هذه الجهة لا صراحة للتوفي في الموت. على أن قوله تعالى في رد دعوى اليهود وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا: النساء - 159 يؤيد ذلك فإن اليهود كانت تدعى أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم عليه السلام وكذلك كانت تظن النصارى أن اليهود قتلت عيسى بن مريم عليه السلام بالصلب غير أنهم كانوا يزعمون أن الله سبحانه رفعه بعد قتله من قبره إلى السماء على ما في الاناجيل والآيات كما ترى تكذب قصة القتل والصلب صريحا. والذي يعطيه ظاهر قوله وإن من أهل الكتاب الآية أنه حي عند الله ولن يموت حتى يؤمن به أهل الكتاب عليهذا فيكون توفيه عليه السلام أخذه من بين اليهود لكن الآية مع ذلك غير صريحة فيه وإنما هو الظهور وسيجئ تمام الكلام في ذلك في آخر سورة النساء. قوله تعالى ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا الرفع خلاف الوضع والطهارة خلاف القذارة وقد مر الكلام في معنى الطهارة. وحيث قيد الرفع بقوله إلى أفاد ذلك أن المراد بالرفع الرفع المعنوي دون الرفع الصوري إذ لا مكان له تعالى من سنخ الامكنة الجسمانية التي تتعاورها الاجسام والجسمانيات بالحلول فيها والقرب والبعد منها فهو من قبيل قوله تعالى في ذيل الآية ثم إلى مرجعكم وخاصة لو كان المراد بالتوفي هو القبض لظهور أن المراد حينئذ هو رفع الدرجة والقرب من الله سبحانه نظير ما ذكره تعالى في حق المقتولين في سبيله أحياء عند ربهم: آل عمران - 169 وما ذكره في حق إدريس عليه السلام ورفعناه مكانا عليا:
مريم - 57.
[ 208 ]
وربما يقال إن المراد برفعه إليه رفعه بروحه وجسده حيا إلى السماء على ما يشعر به ظاهر القرآن الشريف أن السماء أي الجسمانية هي مقام القرب من الله سبحانه ومحل نزول البركات ومسكن الملائكة المكرمين ولعلنا نوفق للبحث عن معنى السماء فيما سيأتي إنشاء الله تعالى. والتطهير من الكافرين حيث أتبع به الرفع إلى الله سبحانه أفاد معنى التطهير المعنوي دون الظاهري الصوري فهو إبعاده من الكفار وصونه عن مخالطتهم والوقوع في مجتمعهم المتقذر بقذارة الكفر والجحود. قوله تعالى وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة وعد منه تعالى له عليه السلام أنه سيفوق متبعي عيسى عليه السلام على مخالفيه الكافرين بنبوته وأن تفوقهم هذا سيدوم إلى يوم القيامة وإنما ذكر تعالى في تعريف هؤلاء الفائقين على غيرهم أن الفائقين هم الذين اتبعوه وأن غيرهم هم الذين كفروا من غير أن يقول هم بنو إسرائيل أو اليهود المنتحلون بشريعة موسى عليه السلام أو غير ذلك. غير أنه تعالى لما أخذ الكفر في تعريف مخالفيه ظهر منه أن المراد باتباعه هو الاتباع على الحق أعني الاتباع المرضي لله سبحانه فيكون الذين اتبعوه هم أتباعه المستقيمون من النصارى قبل ظهور الاسلام ونسخه دين عيسى والمسلمون بعد ظهور الاسلام فإنهم هم أتباعه على الحق وعلى هذا فالمراد بالتفوق هو التفوق بحسب الحجة دون السلطنة والسيطرة فمحصل معنى الجملة أن متبعيك من النصارى والمسلمين ستفوق حجتهم على حجة الكافرين بك من اليهود إلى يوم القيامة هذا ما ذكره وارتضاه المفسرون في معنى الآية.
والذي أراه أن الآية لا تساعد عليه لا بلفظها ولا بمعناها فإن ظاهر قوله إني متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك أنه إخبار عن المستقبل وأنه سيتحقق فيما يستقبل حال التكلم توف ورفع وتطهير وجعل على أن قوله وجاعل الذين اتبعوك وعد حسن وبشرى وما هذا شأنه لا يكون إلا في ما سيأتي ومن المعلوم أن ليست حجة متبعي عيسى عليه السلام إلا حجة عيسى نفسه وهي التي ذكرها الله تعالى في ضمن آيات البشارة أعني بشارة مريم وهذه الحجج حجج فائقة حين حضور عيسى قبل الرفع وبعد رفع عيسى بل كانت قبل رفعه عليه السلام أقطع لعذر
[ 209 ]
الكفار ومنبت خصومتهم وأوضح في رفع شبههم فما معنى وعده عليه السلام أنه ستفوق حجة متبعيه على حجة مخالفيه ثم ما معنى تقييد هذه الغلبة والتفوق بقوله إلى يوم القيامة مع أن الحجة في غلبتها لا تقبل التقييد بوقت ولا يوم على أن تفوق الحجة على الحجة باق على حاله يوم القيامة على ما يخبر به القرآن في ضمن أخبار القيامة. فان قلت لعل المراد من تفوق الحجة تفوقها من جهة المقبولية بأن يكون الناس أسمع لحجة المتبعين وأطوع لها فيكونوا بذلك أكثر جمعا وأوثق ركنا وأشد قوة. قلت مرجع ذلك إما إلى تفوق متبعيه الحقيقيين من حيث السلطنة والقوة والواقع خلافه واحتمال أن يكون إخبارا عن ظهور للمتبعين وتفوق منهم سيتحقق في آخر الزمان لا يساعد عليه لفظ الآية واما إلى كثرة العدد بأن يراد أن متبعيه عليه السلام سيفوقون الكافرين أي يكون أهل الحق بعد عيسى أكثر جمعا من أهل الباطل ففيه مضافا إلى أن الواقع لا يساعد عليه فلم يزل أهل الباطل يربو ويزيد جمعهم على أهل الحق من زمن عيسى إلى يومنا هذا وقد بلغ الفصل عشرين قرنا أن لفظ الآية لا يساعد عليه فإن الفوقية في الآية وخاصة من جهة كون المقام مقام الانباء عن نزول السخط الالهي على اليهود وشمول الغضب عليهم انما يناسب القهر والاستعلاء اما من
حيث الحجة البالغة أو من حيث السلطة والقوة وأما من حيث كثرة العدد فلا يناسب المقام كما هو ظاهر. والذي ينبغي أن يقال أن الذي أخذ في الآية معرفا للفرقتين هو قوله الذين اتبعوك وقوله الذين كفروا والفعل إنما يدل على التحقق والحدوث دون التلبس الذي يدل عليه الوصف كالمتبعين و الكافرين ومجرد صدور فعل من بعض أفراد امة مع رضاء الباقين به وسلوك اللاحقين مسلك السابقين وجريهم على طريقتهم كاف في نسبة ذلك الفعل إليهم كما أن القرآن يؤنب اليهود ويوبخهم على كثير من أفعال سلفهم كقتل الانبياء وإيذائهم والاستكبار عن امتثال أوامر الله سبحانه ورسله وتحريف آيات الكتاب وغير ذلك. وعلي هذا صح أن يراد بالذين كفروا اليهود وبالذين اتبعوا النصارى لما صدر من
[ 210 ]
صدرهم وسلفهم من الايمان بعيسى عليه السلام واتباعه وقد كان إيمانا مرضيا واتباعا حقا وإن كان الله سبحانه لم يرتض اتباعهم له عليه السلام بعد ظهور الاسلام ولا اتباع أهل التثليث منهم قبل ظهور الدعوة الاسلامية. فالمراد جعل النصارى وهم الذين اتبع أسلافهم عيسى عليه السلام فوق اليهود وهم الذين كفروا بعيسى عليه السلام ومكروا به والغرض في المقام بيان نزول السخط الالهي على اليهود وحلول المكر بهم وتشديد العذاب على امتهم ولا ينافي ما ذكرناه كون المراد بالاتباع هو الاتباع على الحق كما استظهرناه في أول الكلام كما لا يخفى. ويؤيد هذا المعنى تغيير الاسلوب في الآية الآتية أعني قوله وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات إذ لو كان المراد بالذين اتبعوا هم أهل الحق والنجاة من النصارى والمسلمين فقط كان الانسب أن يقال وأما الذين اتبعوك فيوفيهم اجورهم من غير
تغيير للسياق كما لا يخفى. وهيهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالذين اتبعوا هم النصارى والمسلمون قاطبة وتكون الآية مخبرة عن كون اليهود تحت إذلال من يذعن لزوم اتباع عيسى إلى يوم القيامة والتقريب عين التقريب وهذا أحسن الوجوه في توجيه الآية عند التدبر. قوله تعالى ثم إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون وقد جمع سبحانه في هذا الخطاب بين عيسى وبين الذين اتبعوه والذين كفروا به وهذا مآل أمرهم يوم القيامة وبذلك يختتم أمر عيسى وخبره من حين البشارة به إلى آخر أمره ونبأه. قوله تعالى فأما الذين كفروا فاعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة ظاهره أنه متفرع على قوله فأحكم بينكم تفرع التفصيل على الاجمال فيكون بيانا للحكم الالهي في يوم القيامة بالعذاب لليهود الذين كفروا وتوفية الاجر للمؤمنين. لكن اشتمال التفريع على قوله في الدنيا يدل على كونه متفرعا على مجموع قوله وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا ثم إلى مرجعكم الخ فيدل على أن نتيجة هذا الجعل والرجوع تشديد العذاب عليهم في الدنيا بيد الذين فوقهم الله تعالى عليهم وفي الآخرة بالنار وما لهم في ذلك من ناصرين
[ 211 ]
وهذا أحد الشواهد على أن المراد بالتفويق في الآية السابقة هو التسليط بالسيطرة والقوة دون التأييد بالحجة. وفي قوله وما لهم من ناصرين دلالة على نفى الشفاعة المانعة عن حلول العذاب بساحتهم وهو حتم القضاء كما تقدم. قوله تعالى وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم اجورهم وهذا وعد حسن بالجزاء الخير للذين اتبعوا إلا أن مجرد صدق الاتباع لما لم يستلزم استحقاق جزيل الثواب لان الاتباع كما عرفت وصف صادق على الامة بمجرد تحققه وصدوره عن عدة
من أفرادها وحينئذ إنما يؤثر الاثر الجميل والثواب الجزيل بالنسبة إلى من تلبس به شخصا دون من انتسب إليه اسما فلذلك بدل الذين اتبعوك من مثل قوله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستقيم المعنى فإن السعادة والعاقبة الحسنى تدور مدار الحقيقة دون الاسم كما يدل عليه قوله تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون: البقرة - 62. فهذا أجر الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الذين اتبعوا عيسى عليه السلام أن الله يوفيهم اجورهم وأما غيرهم فليس لهم من ذلك شئ وقد اشير إلى ذلك في الآية بقوله والله لا يحب الظالمين. ومن هنا يظهر السر في ختم الآية وهي آية الرحمة والجنة بمثل قوله والله لا يحب الظالمين مع أن المعهود في آيات الرحمة والنعمة أن تختتم بأسماء الرحمة والمغفرة أو بمدح حال من نزلت في حقه الآية نظير قوله تعالى وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير: الحديد - 10 وقوله تعالى إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم: التغابن - 17 وقوله تعالى ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم: التغابن - 9 وقوله تعالى فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين: الجاثيه - 30 إلى غير ذلك من الآيات. فقوله والله لا يحب الظالمين مسوق لبيان حال الطائفة الاخرى ممن انتسب
[ 212 ]
إلى عيسى عليه السلام بالاتباع وهم غير الذين آمنوا وعملوا الصالحات. قوله تعالى ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم إشارة إلى اختتام القصة والمراد بالذكر الحكيم القرآن الذي هو ذكر لله محكم من حيث آياته وبياناته
لا يدخله باطل ولا يلج فيه هزل. قوله تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون تلخيص لموضع الحاجة مما ذكره من قصة عيسى في تولده تفصيلا والايجاز بعد الاطناب وخاصة في مورد الاحتجاج والاستدلال من مزايا الكلام والآيات نازلة في الاحتجاج ومتعرضة لشأن وفد النصارى نصارى نجران فكان من الانسب ان يوجز البيان في خلقته بعد الاطناب في قصته ليدل على أن كيفية ولادته لا تدل على أزيد من كونه بشرا مخلوقا نظير آدم عليهما السلام فليس من الجائز أن يقال فيه أزيد وأعظم مما قيل في آدم وهو أنه بشر خلقه الله من غير أب. فمعنى الآية أن مثل عيسى عند الله أي وصفه الحاصل عنده تعالى أي ما يعلمه الله تعالى من كيفية خلق عيسى الجاري بيده أن كيفية خلقه يضاهي كيفية خلق آدم وكيفية خلقه أنه جمع أجزائه من تراب ثم قال له كن فتكون تكونا بشريا من غير أب. فالبيان بحسب الحقيقة منحل إلى حجتين تفي كل واحدة منهما على وحدتها بنفي الالوهية عن المسيح (ع). إحديهما أن عيسى مخلوق لله على ما يعلمه الله ولا يضل في علمه خلقة بشر وإن فقد الاب ومن كان كذلك كان عبدا لا ربا. وثانيهما أن خلقته لا تزيد على خلقة آدم فلو اقتضى سنخ خلقه أن يقال بالوهيته بوجه لاقتضى خلق آدم ذلك مع أنهم لا يقولون بها فيه فوجب أن لا يقولوا بها في عيسى ع أيضا لمكان المماثلة. ويظهر من الآية أن خلقة عيسى كخلقة آدم خلقة طبيعية كونية وإن كانت خارقة للسنة الجارية في النسل وهي حاجة الولد في تكونه إلى والد. والظاهر أن قوله فيكون أريد به حكاية الحال الماضية ولا ينافي ذلك دلالة
[ 213 ]
قوله ثم قال له كن على انتفاء التدريج فإن النسبة مختلفة فهذه الموجودات بأجمعها
أعم من التدريجي الوجود وغيره مخلوقة لله سبحانه موجودة بأمره الذي هو كلمة كن كما قال تعالى إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون: يس - 82 وكثير منها تدريجية الوجود إذا قيست حالها إلى أسبابها التدريجية وأما إذا لوحظ بالقياس إليه تعالى فلا تدريج هناك ولا مهلة كما قال تعالى وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر: القمر - 50 وسيجئ زيادة توضيح لهذا المعنى إنشاء الله تعالى في محله المناسب له. على أن عمدة ما سيق لبيانه قوله ثم قال له كن إنه تعالى لا يحتاج في خلق شئ إلى الاسباب حتى يختلف حال ما يريد خلقه من الاشياء بالنسبة إليه تعالى بالامكان والاستحالة والهوان والعسر والقرب والبعد باختلاف أحوال الاسباب الدخيلة في وجوده فما أراده وقال له كن كان من غير حاجة إلى الاسباب الدخيلة عادة. قوله تعالى الحق من ربك فلا تكن من الممترين تأكيد لمضمون الآية السابقة بعد تأكيده بأن ونحوه نظير تأكيد تفصيل القصة بقوله ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم الآية وفيه تطييب لنفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه على الحق وتشجيع له في المحاجة. وهذا أعنى قوله الحق من ربك من أبدع البيانات القرآنية حيث قيد الحق بمن الدالة على الابتداء دون غيره بأن يقال الحق مع ربك لما فيه من شائبة الشرك ونسبة العجز إليه تعالى بحسب الحقيقة. وذلك أن هذه الاقاويل الحقة والقضايا النفس الامرية الثابتة كائنة ما كانت وان كانت ضرورية غير ممكنة التغير عما هي عليه كقولنا الاربعة زوج والواحد نصف الاثنين ونحو ذلك إلا أن الانسان إنما يقتنصها من الخارج الواقع في الوجود والوجود كله منه تعالى فالحق كله منه تعالى كما أن الخير كله منه ولذلك كان تعالى لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون فإن فعل غيره إنما يصاحب الحق إذا كان حقا وأما
فعله تعالى فهو الوجود الذي ليس الحق إلا صورته العلمية.
[ 214 ]
(بحث روائي) في تفسير القمي: في قوله تعالى يا مريم إن الله اصطفيك - وطهرك واصطفيك على نساء العالمين قال قال ع اصطفاها مرتين - أما الاولى فاصطفاها أي اختارها - وأما الثانية فإنها حملت من غير فحل - فاصطفاها بذلك على نساء العالمين وفي المجمع قال أبو جعفر ع: معنى الآية اصطفاك لذرية الانبياء وطهرك من السفاح واصطفيك لولادة عيسى من غير فحل. اقول معنى قوله اصطفاك لذرية الانبياء اختارك لتكوني ذرية صالحة جديرة للانتساب إلى الانبياء ومعنى قوله وطهرك من السفاح أعطاك العصمة منه وهو العمدة في موردها لكونها ولدت عيسى من غير فحل فالكلام مسوق لبيان بعض لوازم اصطفائها وتطهيرها فالروايتان غير متعارضتين كما هو ظاهر وقد مر دلالة الآية على ذلك. وفي الدر المنثور أخرج أحمد والترمذي وصححه وابن المنذر وابن حبان والحاكم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: حسبك من نساء العالمين - مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد - وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآسية امرأة فرعون: قال السيوطي وأخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن مرسلا: وفيه أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أفضل نساء العالمين - خديجة وفاطمة ومريم وآسية امرأة فرعون وفيه أخرج ابن مردويه عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله اصطفى على نساء العالمين أربعة - آسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران - وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم
وفيه أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن فاطمة رضى الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - أنت سيدة نساء أهل الجنة لا مريم البتول وفيه أخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران - ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون
[ 215 ]
وفيه أخرج ابن عساكر من طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أربع نسوة سادات عالمهن - مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد - وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأفضلهن عالما فاطمة وفيه أخرج ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة سيدة نساء العالمين بعد مريم ابنة عمران - وآسية امرأة فرعون وخديجة ابنة خويلد وفي الخصال بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال: خط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربع خطوط ثم قال - خير نساء الجنة مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد - وفاطمة بنت محمد وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون وفيه أيضا بإسناده عن أبي الحسن الاول عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله عز وجل اختار من النساء أربعا: مريم وآسية وخديجة وفاطمة الخبر. أقول والروايات فيما يقرب من هذا المضمون من طرق الفريقين كثيرة وكون هؤلاء سيدات النساء لا ينافي وجود التفاضل بينهن أنفسهن كما يظهر من الخبر السادس المنقول من الدر المنثور وأخبار اخرى وقد مر نظير هذا البحث في تفسير قوله تعالى " إن الله اصطفى آدم ونوحا الآية " آل عمران - 33. ومما ينبغي أن يتنبه له أن الواقع في الآية هو الاصطفاء وقد مر أنه الاختيار والذي وقع في الاخبار هو السيادة وبينهما فرق بحسب المعنى فالثاني من مراتب
كمال الاول. وفي تفسير العياشي في قوله تعالى إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم عن الباقر عليه السلام يقرعون بها حين ايتمت من أبيها. وفي تفسير القمي: وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين قال اصطفاها مرتين أما الاولى فاصطفاها أي اختارها وأما الثانية فانها حملت من غير فحل - فاصطفاها بذلك على نساء العالمين - إلى أن قال القمي ثم قال الله لنبيه - ذلك من أنباء الغيب نوحيه اليك يا محمد وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم
[ 216 ]
أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون قال لما ولدت اختصموا آل عمران فيها وكلهم قالوا: نحن نكفلها فخرجوا وضربوا بالسهام بينهم فخرج سهم زكريا الخبر. أقول وقد مر من البيان ما يؤيد هذا الخبر وما قبلها. واعلم أن هناك روايات كثيرة في بشارة مريم وولادة عيسى عليه السلام ودعوته ومعجزاته لكن ما وقع في الآيات الشريفة من جمل قصصه كاف فيما هو المهم من البحث التفسيري ولذلك تركنا ذكرها إلا ما يهم ذكره منها. وفي تفسير القمي في قوله تعالى وأنبئكم بما تأكلون الآية عن الباقر عليه السلام أن عيسى كان يقول لبني إسرائيل إني رسول الله اليكم وإني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وابرء الاكمه والابرص والاكمه هو الاعمى قالوا ما نرى الذي تصنع إلا سحرا فأرنا آية نعلم أنك صادق قال - أرأيتكم إن أخبرتكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم يقول ما أكلتم في بيوتكم قبل أن تخرجوا وما ادخرتم بالليل تعلمون أني صادق ؟ قالوا: نعم فكان يقول أنت أكلت كذا وكذا وشربت كذا وكذا ورفعت كذا وكذا - فمنهم من يقبل منه فيؤمن ومنهم من يكفر - وكان لهم في ذلك آية إن كانوا مؤمنين.
اقول وتغيير سياق الآية في حكاية ما ذكره عليه السلام من الآيات أولا وآخرا يؤيد هذه الرواية وقد مرت الاشارة إليه. وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم الآية عن الصادق عليه السلام قال كان بين داود وعيسى أربعمأه سنة - وكانت شريعة عيسى أنه بعث بالتوحيد والاخلاص وبما أوصى به نوح وإبراهيم وموسى - وأنزل عليه الانجيل وأخذ عليه الميثاق الذي أخذ على النبيين وشرع له في الكتاب إقام الصلوة مع الدين والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحريم الحرام وتحليل الحلال - وأنزل عليه في الانجيل مواعظ وأمثال وحدود ليس فيها قصاص ولا أحكام حدود ولا فرض مواريث وأنزل عليه تخفيف ما كان على موسى في التوراة وهو قول الله في الذي قال عيسى لبني إسرائيل ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم وأمر عيسى من معه ممن اتبعه من المؤمنين أن يؤمنوا بشريعة التوراة والانجيل.
[ 217 ]
اقول وروى الرواية في قصص الانبياء مفصلة عن الصادق عليه السلام وفيها: كان بين داود وعيسى أربعمائة سنة وثمانون سنة ولا يوافق شيئ منهما تاريخ أهل الكتاب. وفي العيون عن الرضا عليه السلام: أنه سئل لم سمي الحواريون الحواريين ؟ قال: أما عند الناس فإنهم سموا حواريين لانهم كانوا قصارين يخلصون الثياب من الوسخ بالغسل وهو اسم مشتق من الخبز الحوار وأما عندنا فسمي الحواريون الحواريين لانهم كانوا مخلصين في أنفسهم ومخلصين غيرهم من أوساخ الذنوب بالوعظ والتذكير وفي التوحيد عنه عليه السلام: إنهم كانوا اثنا عشر رجلا وكان أفضلهم وأعلمهم لوقا وفي الاكمال عن الصادق عليه السلام في حديث: بعث الله عيسى بن مريم - واستودعه النور والعلم والحكم وجميع علوم الانبياء قبله وزاده الانجيل وبعثه إلى بيت المقدس
إلى بني إسرائيل - يدعوهم إلى كتابه وحكمته والى الايمان بالله ورسوله فأبى أكثرهم إلا طغيانا وكفرا فلما لم يؤمنوا دعا ربه وعزم عليه فمسخ منهم شياطين ليريهم آية فيعتبروا فلم يزدهم ذلك إلا طغيانا وكفرا فأتى بيت المقدس فمكث يدعوهم ويرغبهم فيما عند الله ثلاثة وثلاثين سنة حتى طلبته اليهود وادعت أنها عذبته ودفنته في الارض حيا وادعى بعضهم أنهم قتلوه وصلبوه - وما كان الله ليجعل لهم سلطانا عليه وإنما شبه لهم وما قدروا على عذابه وقتله ولا على قتله وصلبه - لانهم لو قدروا على ذلك لكان تكذيبا لقوله ولكن رفعه الله بعد أن توفاه. أقول قوله عليه السلام فمسخ منهم شياطين أي مسخ جمعا من شرارهم. وقوله (ع) فمكث يدعوهم الخ لعله إشارة إلى مدة عمره على ما هو المشهور فإنه ع كان يكلمهم من المهد إلى الكهولة وكان نبيا من صباه على ما يدل عليه قوله على ما حكاه الله عنه " فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا " مريم - 30. وقوله (ع) لكان تكذيبا لقوله: ولكن رفعه الله بعد أن توفاه نقل بالمعنى لقوله تعالى ولكن رفعه الله الآية وقوله تعالى: إني متوفيك ورافعك إلي الآية وقد استفاد من تقديم التوفي على الرفع في اللفظ الترتيب بينهما في الوجود.
[ 218 ]
وفي تفسير القمي عن الباقر (ع) قال: إن عيسى وعد أصحابه ليلة رفعه الله إليه فاجتمعوا إليه عند المساء وهم اثنا عشر رجلا فأدخلهم بيتا ثم خرج إليهم من عين في زاوية البيت وهو ينفض رأسه عن الماء فقال - إن الله أوحى إلي أنه رافعي إليه الساعة ومطهري من اليهود فأيكم يلقى عليه شبحي فيقتل ويصلب ويكون معي في درجتي فقال شاب منهم أنا يا روح الله قال فأنت هو ذا فقال لهم عيسى - أما
إن منكم من يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة فقال رجل منهم أنا هو يا نبي الله فقال له عيسى - أتحس بذلك في نفسك ؟ فلتكن هو ثم قال لهم عيسى أما إنكم ستفترقون بعدي ثلاث فرق فرقتين مفتريتين على الله في النار - وفرقة تتبع شمعون صادقة على الله في الجنة ثم رفع الله عيسى إليه من زاوية البيت وهم ينظرون إليه. ثم قال إن اليهود جاءت في طلب عيسى من ليلتهم - فأخذوا الرجل الذي قال له عيسى إن منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة وأخذوا الشاب الذي القي عليه شبح عيسى فقتل وصلب وكفر الذي قال له عيسى يكفر قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة. اقول وروي قريب منه عن ابن عباس وقتادة وغيرهما وقال بعضهم إن الذي القي عليه شبح عيسى هو الذي دلهم ليقبضوا عليه ويقتلوه وقيل غير ذلك والقرآن ساكت عن ذلك وسيأتي استيفاء البحث عنه في الكلام على قوله تعالى " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم الآية " النساء - 157. وفي العيون عن الرضا (ع) قال: إنه ما شبه أمر أحد من أنبياء الله وحججه على الناس إلا أمر عيسى وحده لانه رفع من الارض حيا - وقبض روحه بين السماء والارض ثم رفع إلى السماء ورد عليه روحه وذلك قوله عز وجل إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك - وقال الله حكاية لقول عيسى يوم القيامة وكنت شهيدا عليهم ما دمت فيهم - فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد. وفي تفسير العياشي عن الصادق (ع) قال: رفع عيسى بن مريم بمدرعة صوف من غزل مريم ومن نسج مريم ومن خياطة مريم فلما انتهى إلى السماء نودي يا عيسى ألق عنك زينة الدنيا.
[ 219 ]
اقول وسيأتي توضيح معنى الروايتين في أواخر سورة النساء إنشاء الله تعالى. وفي الدر المنثور: في قوله تعالى إن مثل عيسى عند الله الآية أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال ذكر لنا أن سيدي أهل نجران واسقفيهم السيد والعاقب لقيا نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم فسئلاه عن عيسى فقال كل آدمي له أب فما شأن عيسى لا أب له فأنزل الله فيه هذه الآية إن مثل عيسى عند الله الآية. اقول وروي ما يقرب منه عن السدي وعكرمة وغيرهما وروي القمي في تفسيره أيضا نزول الآية في المورد. (بحث روائي آخر في معنى المحدث) في البصائر عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن الرسول وعن النبي وعن المحدث قال: الرسول الذي يعاين الملك يأتيه بالرسالة من ربه يقول يأمرك كذا وكذا والرسول يكون نبيا مع الرسالة. والنبي لا يعاين الملك ينزل عليه الشئ النبأ على قلبه فيكون كالمغمى عليه فيرى في منامه قلت: فما علمه أن الذي رأى في منامه حق ؟ قال يبينه الله حتى يعلم أن ذلك حق ولا يعاين الملك. والمحدث الذي يسمع الصوت ولا يرى شاهدا. اقول ورواه في الكافي عن أبي عبد الله (ع) قوله شاهدا أي صائتا حاضرا ويمكن أن يكون حالا من فاعل لا يرى. وفيه أيضا عن بريد عن الباقر والصادق عليهما السلام في حديث قال بريد: فما الرسول والنبي والمحدث ؟ قال: الرسول الذي يظهر الملك فيكلمه - والنبي يرى في المنام - وربما اجتمعت النبوة والرسالة لواحد - والمحدث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة قال قلت أصلحك الله كيف يعلم أن الذي رأى في المنام هو الحق وأنه من الملك ؟ قال يوفق لذلك حتى يعرفه - لقد ختم الله بكتابكم الكتب وبنبيكم الانبياء الحديث. وفيه عن محمد بن مسلم قال: ذكرت المحدث عند أبي عبد الله (ع) قال فقال:
إنه يسمع الصوت ولا يرى الصورة فقلت أصلحك الله كيف يعلم أنه كلام الملك ؟ قال إنه يعطى السكينة والوقار حتى يعلم أنه ملك.
[ 220 ]
وفيه أيضا عن أبي بصير عنه (ع) قال: كان علي محدثا وكان سلمان محدثا قال قلت فما آية المحدث ؟ قال: يأتيه الملك فينكت في قلبه كيت وكيت. وفيه عن حمران بن أعين قال: أخبرني أبو جعفر عليهما السلام أن عليا كان محدثا فقال أصحابنا ما صنعت شيئا إلا سألته من يحدثه ؟ فقضي أني لقيت أبا جعفر فقلت ألست أخبرتني أن عليا كان محدثا ؟ قال بلى قلت من كان يحدثه ؟ قال ملك قلت فأقول إنه نبي أو رسول ؟ قال لا بل قل مثله مثل صاحب سليمان وصاحب موسى ومثله مثل ذي القرنين أما سمعت أن عليا سئل عن ذي القرنين أنبيا كان ؟ قال لا ولكن كان عبدا أحب الله فأحبه - وناصح الله فنصحه فهذا مثله. اقول والروايات في معنى المحدث عن ائمة أهل البيت كثيرة جدا رواها في البصائر والكافي والكنز والاختصاص وغيرها ويوجد في روايات أهل السنة أيضا. وأما الفرق الوارد في الاخبار المذكورة بين النبي والرسول والمحدث فقد مر الكلام في الفرق بين الرسول والنبي وأن الوحي بمعنى تكليم الله سبحانه لعبده فهو يوجب العلم اليقيني بنفس ذاته من غير حاجة إلى حجة فمثله في الالقاءات الالهية مثل العلوم البديهية التي لا تحتاج في حصولها للانسان إلى سبب تصديقي كالقياس ونحوه. وأما المنام فالروايات كما ترى تفسره بمعنى غير المعنى المعهود منه أعني الرؤيا يراها الانسان في النوم العادي العارض له في يومه وليلته بل هو حال يشبه الاغماء تسكن فيه حواس الانسان النبي فيشاهد عند ذلك نظير ما نشاهده في اليقظة ثم يسدده الله سبحانه بإفاضته على نفسه اليقين بأنه من جانب الله سبحانه لا من تصرف الشيطان.
وأما التحديث فهو سماع صوت الملك غير أنه بسمع القلب دون سمع الحس وليس من قبيل الخطور الذهني الذي لا يسمى سمع صوت إلا بنحو من المجاز البعيد ولذلك ترى أن الروايات تجمع فيه بين سماع الصوت والنكت في القلب وتسميه مع ذلك تحديثا وتكليما فالمحدث يسمع صوت الملك في تحديثه ويعيه بسمعه نظير
[ 221 ]
ما نسمعه ويسمعه من الكلام المعتاد والاصوات المسموعة في عالم المادة غير أنه لا يشاركه في ما يسمعه من كلام الملك غيره ولذا كان أمرا قلبيا. وأما علمه بأن ما حدث به من كلام الملك لا من نزغة الشيطان فذلك بتأييد من الله سبحانه وتسديد كما يشير إليه ما في رواية محمد بن مسلم المتقدمة أنه يعطي السكينة والوقار حتى يعلم أنه ملك وذلك أن النزغة الشيطانية إما باطل في صورته الباطلة عند الانسان المؤمن فظاهر أنه ليس من حديث الملائكة المكرمين الذين لا يعصون الله وأما باطل في صورة حق وسيستتبع باطلا فالنور الالهي الذي يلازم العبد المؤمن يبين حاله قال تعالى " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس " الانعام - 122 والنزغة والوسوسة مع ذلك كله لا تخلو عن اضطراب في النفس وتزلزل في القلب كما أن ذكر الله وحديثه لا ينفك عن الوقار وطمأنينة الباطن قال تعالى " ذلكم الشيطان يخوف أوليائه " آل عمران - 175 وقال " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " الرعد - 28 وقال " إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون " الاعراف - 201 فالسكينة والطمأنينة عندما يلقى إلى الانسان من حديث أو خاطر دليل كونه إلقائا رحمانيا كما أن الاضطراب والقلق دليل على كونه إلقاء شيطانا ويلحق بذلك العجلة والجزع والخفة ونحوها. وأما ما في الروايات من أن المحدث يسمع الصوت ولا يعاين الملك فمحمول على
الجهة دون التمانع بين المعنيين بمعنى أن الملاك في كون الانسان محدثا أن يسمع الصوت من غير لزوم الرؤية فإن اتفق أن شاهد الملك حين ما يسمع الصوت فليس ذلك لانه محدث وذلك لان الآيات صريحآ في رؤية بعض المحدثين للملائكة حين التحديث كقوله تعالى في مريم " فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال انما انا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا الآيات " مريم - 19 وقوله تعالى - في زوجة إبراهيم في قصة البشارة " ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام إلى إن قال -: وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشئ عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد " هود - 73.
[ 222 ]
وهيهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالمعاينة المنفية معاينة حقيقة الملك في نفسه دون مثاله الذي يتمثل به فإن الآيات لا تثبت أزيد من معاينة المثال كما هو ظاهر. وهيهنا وجه آخر ثالث احتمله بعضهم وهو أن المنفي من المعاينة الوحي التشريعي بأن يظهر للمحدث فيلقي إليه حكما شرعيا وذلك صون من الله لمقام المشرعين من أنبيائه ورسله ولا يخلو عن بعد. * * * فمن حاجك فيه من بعد ما جائك من العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين (61). إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم (62). فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين (63) = بيان =
قوله تعالى فمن حاجك فيه من بعد ما جائك من العلم الفاء للتفريع وهو تفريع المباهلة على التعليم الالهي بالبيان البالغ في أمر عيسى بن مريم عليهما السلام مع ما أكده في ختمه بقوله الحق من ربك فلا تكن من الممترين والضمير في قوله فيه راجع إلى عيسى أو إلى الحق المذكور في الآية السابقة. وقد كان البيان السابق منه تعالى مع كونه بيانا إلهيا لا يرتاب فيه مشتملا على البرهان الساطع الذي يدل عليه قوله إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم الآية فالعلم الحاصل فيه علم من جهة البرهان أيضا ولذلك كان يشمل أثره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغيره من كل سامع فلو فرض تردد من نفس السامع المحاج من جهة كون البيان وحيا إلهيا لم يجز الارتياب فيه من جهة كونه برهانا يناله العقل السليم ولعله لذلك قيل من
[ 223 ]
بعد ما جائك من العلم ولم يقل من بعد ما بيناه لهم. وهيهنا نكتة اخرى وهي أن في تذكيره صلى الله عليه وآله وسلم بالعلم تطييبا لنفسه الشريفة أنه غالب بإذن الله وأن ربه ناصره وغير خاذله البتة. قوله تعالى فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم المتكلم مع الغير في قوله ندع غيره في قوله أبنائنا ونسائنا وأنفسنا فإنه في الاول مجموع المتخاصمين من جانب الاسلام والنصرانية وفي الثاني وما يلحق به من جانب الاسلام ولذا كان الكلام في معنى قولنا ندع الابناء والنساء والانفس فندعو نحن أبنائنا و نسائنا وأنفسنا وتدعون أنتم أبنائكم ونسائكم وأنفسكم ففي الكلام إيجاز لطيف. والمباهلة والملاعنة وإن كانت بحسب الظاهر كالمحاجة بين رسول الله وبين رجال النصارى لكن عممت الدعوة للابناء والنساء ليكون أدل على اطمينان الداعي بصدق دعواه وكونه على الحق لما أودعه الله سبحانه في قلب الانسان من محبتهم والشفقة عليهم فتراه يقيهم بنفسه ويركب الاهوال والمخاطرات دونهم وفي سبيل حمايتهم والغيرة
عليهم والذب عنهم ولذلك بعينه قدم الابناء على النساء لان محبة الانسان بالنسبة إليهم أشد وأدوم. ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بقوله ندع أبنائنا وأبنائكم الخ ندع نحن أبنائكم ونسائكم وأنفسكم وتدعوا أنتم أبنائنا ونسائنا وانفسنا وذلك لابطاله ما ذكرناه من وجه تشريك الابناء والنساء في المباهلة. وفي تفصيل التعداد دلالة اخرى على اعتماد الداعي وركونه إلى الحق كأنه يقول ليباهل الجمع الجمع فيجعل الجمعان لعنة الله على الكاذبين حتى يشمل اللعن والعذاب الابناء والنساء والانفس فينقطع بذلك دابر المعاندين وينبت أصل المبطلين. وبذلك يظهر أن الكلام لا يتوقف في صدقه على كثرة الابناء ولا على كثرة النساء ولا على كثرة الانفس فإن المقصود الاخير أن يهلك أحد الطرفين بمن عنده من صغير وكبير وذكور وإناث وقد أطبق المفسرون واتفقت الرواية وأيده التاريخ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حضر للمباهلة ولم يحضر معه إلا على وفاطمة والحسنان عليهم السلام فلم يحضر لها إلا نفسان وابنان وامرأة واحدة وقد امتثل أمر الله سبحانه فيها. على أن المراد من لفظ الآية أمر والمصداق الذي ينطبق عليه الحكم بحسب
[ 224 ]
الخارج أمر آخر وقد كثر في القرآن الحكم أو الوعد والوعيد للجماعة ومصداقه بحسب شأن النزول واحد كقوله تعالى الذين يظاهرون منكم من نسائهم ماهن امهاتهم الآية: المجادلة - 2 وقوله تعالى والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا: المجادلة - 3 و قوله تعالى لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء: آل عمران - 181 وقوله تعالى ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو: البقرة - 219 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي وردت بلفظ الجمع ومصداقها بحسب شأن النزول مفرد. قوله تعالى ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين الابتهال من البهلة
بالفتح والضم وهي اللعنة هذا أصله ثم كثر استعماله في الدعاء والمسألة إذا كان مع إصرار وإلحاح. وقوله فنجعل لعنة الله كالبيان للابتهال وقد قيل فنجعل ولم يقل فنسأل إشارة إلى كونها دعوة غير مردودة حيث يمتاز بها الحق من الباطل على طريق التوقف والابتناء. وقوله الكاذبين مسوق سوق العهد دون الاستغراق أو الجنس إذ ليس المراد جعل اللعنة على كل كاذب أو على جنس الكاذب بل على الكاذبين الواقعين في أحد طرفي المحاجة الواقعة بينه صلى الله عليه وآله وسلم وبين النصارى حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله لا إله غيره وإن عيسى عبده ورسوله وقالوا إن عيسى هو الله أو إنه ابن الله - أو إن الله ثالث ثلاثة. وعلى هذا فمن الواضح أن لو كانت الدعوى والمباهلة عليها بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين النصارى أعني كون أحد الطرفين مفردا والطرف الآخر جمعا كان من الواجب التعبير عنه بلفظ يقبل الانطباق على المفرد والجمع معا كقولنا فنجعل لعنة الله على من كان كاذبا فالكلام يدل على تحقق كاذبين بوصف الجمع في أحد طرفي المحاجة والمباهلة على أي حال إما في جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإما في جانب النصارى وهذا يعطى أن يكون الحاضرون للمباهلة شركاء في الدعوى فإن الكذب لا يكون إلا في دعوى فلمن حضر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم على وفاطمة والحسنان عليهم السلام شركة في الدعوى والدعوة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا من أفضل المناقب التي خص الله به أهل
[ 225 ]
بيت نبيه عليهم السلام كما خصهم باسم الانفس والنساء والابناء لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم من بين رجال الامة ونسائهم وأبنائهم. فان قلت قد مر أن القرآن يكثر إطلاق لفظ الجمع في مورد المفرد وأن إطلاق النساء في الآية مع كون من حضرت منهن للمباهلة منحصرة في فاطمة عليها السلام فما المانع من تصحيح استعمال لفظ الكاذبين بهذا النحو.
قلت إن بين المقامين فارقا وهو أن إطلاق الآيات لفظ الجمع في مورد المفرد إنما هو لكون الحقيقة التي تبينها أمرا جائز التحقق من كثيرين يقضي ذلك بلحوقهم بمورد الآية في الحكم وأما فيما لا يجوز ذلك لكون مورد الآية مما لا يتعداه الحكم ولا يشمل غيره الوصف فلا ريب في عدم جوازه نظير قوله تعالى وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله: الاحزاب - 37 وقوله تعالى لسان الذي يلحدون إليه أعجمى وهذا لسان عربي مبين: النحل - 103 وقوله تعالى إنا أحللنا لك أزواجك اللاتى آتيت اجورهن إلى أن قال وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين: الاحزاب - 50. وأمر المباهلة في الآية مما لا يتعدى مورده وهو مباهلة النبي مع النصارى فلو لم يتحقق في المورد مدعون بوصف الجمع في كلا الطرفين لم يستقم قوله الكاذبين بصيغة الجمع البتة. فان قلت كما أن النصارى الوافدين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحاب دعوى وهي أن المسيح هو الله أو ابن الله أو هو ثالث ثلاثة من غير فرق بينهم أصلا ولا بين نسائهم وبين رجالهم في ذلك كذلك الدعوى التي كانت في جانب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وهي أن الله لا إله إلا هو وأن عيسى بن مريم عبده ورسوله كان القائمون بها جميع المؤمنين من غير اختصاص فيه بأحد من بينهم حتى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يكون لمن أحضره فضل على غيره غير أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحضر من أحضر منهم على سبيل الانموذج لما اشتملت عليه الآية من الابناء والنساء والانفس على أن الدعوى غير الدعوة وقد ذكرت أنهم شركاء في الدعوة.
[ 226 ]
قلت لو كان إتيانه بمن أتى به على سبيل الانموذج لكان من اللازم أن يحضر على الاقل رجلين ونسوة وأبناءا ثلاثة فليس الاتيان بمن أتى به إلا للانحصار وهو
المصحح لصدق الامتثال بمعنى أنه لم يجد من يمتثل في الاتيان به أمره تعالى إلا من أتى به وهو رجل وامرأة وابنان وإنك لو تأملت القصة وجدت أن وفد نجران من النصارى إنما وفدوا على المدينة ليعارضوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويحاجوه في أمر عيسى بن مريم فإن دعوى أنه عبد الله ورسوله إنما كانت قائمة به مستندة إلى الوحي الذي كان يدعيه لنفسه وأما الذين اتبعوه من المؤمنين فما كان للنصارى بهم شغل ولا لهم في لقائهم هوى كما يدل على ذلك قوله تعالى في صدر الآية فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل وكذا قوله تعالى قبل عدة آيات فإن حاجوك فقل اسلمت وجهي لله ومن اتبعن. ومن هنا يظهر أن إتيان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمن أتى به للمباهلة لم يكن إتيانا بنحو الانموذج إذ لا نصيب للمؤمنين من حيث مجرد إيمانهم في هذه المحاجة والمباهلة حتى يعرضوا للعن والعذاب المتردد بينهم وبين خصمهم وإنما أتى صلى الله عليه وآله وسلم بمن أتى به من جهة أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان طرف المحاجة والمداعاة فكان من حقه أن يعرض نفسه للبلاء المترقب على تقدير الكذب فلو لا أن الدعوى كانت قائمة بمن أتى به منهم كقيامها بنفسه الشريفة لم يكن لاتيانه بهم وجه فإتيانه بهم من جهة انحصار من هو قائم بدعواه من الابناء والنساء والانفس بهم لا من جهة الاتيان بالانموذج فقد صح أن الدعوى كانت قائمة بهم كما كانت قائمة به. ثم إن النصارى إنما قصدوه صلى الله عليه وآله لا لمجرد أنه كان يرى أن عيسى ابن مريم عليه السلام عبد الله ورسوله ويعتقد ذلك بل لانه كان يدعيه ويدعوهم إليه فالدعوة هي السبب العمدة التي بعثهم على الوفود والمحاجة فحضوره وحضور من حضر معه للمباهلة لمكان الدعوى والدعوة معا فقد كانوا شركائه في الدعوة الدينية كما شاركوه في الدعوى كما ذكرناه. فان قلت هب إن إتيانه بهم لكونهم منه وانحصار هذا الوصف بهم لكن
الظاهر كما تعطيه العادة الجارية أن إحضار الانسان أحبائه وأفلاذ كبده من النساء والصبيان في المخاطر والمهاول دليل على وثوقه بالسلامة والعافية و الوقاية فلا يدل إتيانه
[ 227 ]
صلى الله عليه وآله بهم على أزيد من ذلك وأما كونهم شركاء في الدعوة فهو بمعزل عن أن يدل عليه فعله. قلت نعم صدر الآية لا يدل على أزيد مما ذكر لكنك قد عرفت أن ذيلها أعنى قوله على الكاذبين يدل على تحقق كاذبين في أحد طرفي المحاجة والمباهلة البتة ولا يتم ذلك إلا بأن يكون في كل واحد من الطرفين جماعة صاحبة دعوى إما صادقة أو كاذبة فالذين أتى بهم النبي صلى الله عليه وآله مشاركون معه في الدعوى وفي الدعوة كما تقدم فقد ثبت أن الحاضرين كانوا بأجمعهم صاحبي دعوى ودعوة معه صلى الله عليه وآله وشركاء في ذلك. فان قلت لازم ما ذكرته كونهم شركاء في النبوة. قلت كلا فقد تبين (1) فيما أسلفناه من مباحث النبوة أن الدعوة والتبليغ ليسا بعين النبوة والبعثة وإن كانا من شؤونها ولوازمها ومن المناصب والمقامات الالهية التي يتقلدها وكذا تبين مما تقدم (2) من مبحث الامامة أيضا أنهما ليسا بعين الامامة وإن كانا من لوازمها بوجه. قوله تعالى إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله هذا إشارة إلى ما تقدم من قصص عيسى عليه السلام والكلام مشتمل على قصر القلب أي ما قصصناه هو الحق دون ما تدعيه النصارى من أمر عيسى. وفي الاتيان بإن واللام وضمير الفصل تأكيد بالغ لتطييب نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتشجيعه في أمر المباهلة بإيقاظ صفة يقينه وبصيرته ووثوقه بالوحي الذي أنزله الله سبحانه إليه ويتعقبه التأكيد الثاني بإيراد الحقيقة بلازمها وهو قوله وما من إله
إلا الله فإن هذه الجملة لازمة كون القصص المذكور حقا. قوله تعالى وإن الله لهو العزيز الحكيم معطوف على أول الآية وهو بما فيه من التأكيد البالغ تطييب آخر وتشجيع لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الله لا يعجز عن نصرة
(1) في تفسير آية 213 من سورة البقرة من المجلد الثاني. (2) في تفسير آية 124 من سورة البقرة من المجلد الاول.
[ 228 ]
الحق وتاييده ولا أنه يغفل أو يلهو عن ذلك بإهمال أو جهل فإنه هو العزيز فلا يعجز عما أراده الحكيم فلا يجهل ولا يهمل لا ما عملته أوهام خصماء الحق من إله غير الله سبحانه. ومن هنا يظهر وجه الايتان بالاسمين العزيز الحكيم وأن الكلام مسوق لنصر القلب أو الافراد. قوله تعالى فإن الله عليم بالمفسدين لما كان الغرض من المحاجة وكذا المباهلة بحسب الحقيقة هو إظهار الحق لم يكن يعقل التولى عن الطريق لمريد الغرض والمقصد فلو كانوا أرادوا بذلك إظهار الحق وهم يعلمون أن الله سبحانه ولى الحق لا يرضى بزهوقه ودحوضه لم يتولوا عنها فإن تولوا فإنما هو لكونهم لا يريدون بالمحاجة ظهور الحق بل الغلبة الظاهرية والاحتفاظ على ما في أيديهم من حاضر الوضع والسنة التي استحكمت عليه عادتهم فهم إنما يريدون ما تزينه لهم أهوائهم وهوساتهم من شكل الحياة لا الحياة الصالحة التي تنطبق على الحق والسعادة فهم لا يريدون إصلاحا بل إفساد الدنيا بإفساد الحياة السعيدة فإن تولوا فإنما هو لانهم مفسدون. ومن هنا يظهر أن الجزاء وضع فيه السبب مكان المسبب أعني الافساد مكان عدم إرادة ظهور الحق. وقد ضمن الجزاء وصف العلم حيث قيل فإن الله عليم ثم اكد بإن ليدل على
أن هذه الصفة متحققة في نفوسهم ناشبة في قلوبهم فيشعر بأنهم سيتولون عن المباهلة لا محالة وقد فعلوا وصدقوا قول الله بفعلهم. = بحث روائي = في تفسير القمي عن الصادق عليه السلام: أن نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - وكان سيدهم الاهتم والعاقب والسيد - وحضرت صلوتهم فأقبلوا يضربون الناقوس وصلوا - فقال أصحاب رسول الله يا رسول الله هذا في مسجدك - فقال دعوهم فلما فرغوا دنوا من رسول الله فقالوا إلى ما تدعو ؟ فقال إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وأن عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث قالوا فمن
[ 229 ]
أبوه ؟ فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال قل لهم ما تقولون في آدم أكان عبدا مخلوقا يأكل ويشرب ويحدث وينكح ؟ فسألهم النبي فقالوا نعم: قال فمن أبوه ؟ فبهتوا فأنزل الله إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب الآية وقوله فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم - إلى قوله فنجعل لعنه الله على الكاذبين فقال رسول الله - فباهلوني فإن كنت صادقا أنزلت اللعنة عليكم وان كنت كاذبا أنزلت علي فقالوا أنصفت فتواعدوا للمباهلة فلما رجعوا إلى منازلهم قال رؤسائهم السيد والعاقب والاهتم ان باهلنا بقومه باهلناه فإنه ليس نبيا وإن باهلنا باهل بيته خاصة لم نباهله فإنه لا يقدم إلى أهل بيته إلا وهو صادق فلما اصبحوا جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فقال النصارى: من هؤلاء ؟ فقيل لهم هذا ابن عمه ووصيه وختنه علي بن أبي طالب وهذا ابنته فاطمة وهذا ابناه الحسن والحسين ففرقوا فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعطيك الرضا فاعفنا من المباهلة فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الجزية وانصرفوا. وفي العيون بإسناده عن الريان بن الصلت عن الرضا عليه السلام في حديثه مع المأمون
والعلماء في الفرق بين العترة والامة وفضل العترة على الامة وفيه قالت العلماء: هل فسر الله الاصطفاء في كتابه ؟ فقال الرضا عليه السلام فسر الاصطفاء في الظاهر سوى الباطن في اثني عشر موضعا وذكر المواضع من القرآن وقال فيها وأما الثالثة حين ميز الله الطاهرين من خلقه وأمر نبيه بالمباهلة بهم في آية الابتهال فقال عز وجل فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم - فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم قالت العلماء عنى به نفسه قال أبو الحسن - غلطتم إنما عنى به على بن أبي طالب ومما يدل على ذلك قول النبي لينتهين بنوا وليعة أو لابعثن إليهم رجلا كنفسي يعني على بن أبي طالب وعني بالابناء الحسن والحسين وعني بالنساء فاطمة فهذه خصوصية لا يتقدمهم فيها أحد وفضل لا يلحقهم فيه بشر وشرف لا يسبقهم إليه خلق إذ جعل نفس علي كنفسه الحديث. وعنه بإسناده إلى موسى بن جعفر عليه السلام في حديث له مع الرشيد قال الرشيد له: كيف قلتم إنا ذرية النبي والنبي لم يعقب وإنما العقب للذكر لا للانثى وأنتم ولد البنت ولا يكون له عقب فقلت أساله بحق القرابة والقبر ومن فيه إلا
[ 230 ]
ما أعفاني عن هذه المسألة فقال تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي وأنت يا موسى يعسوبهم وإمام زمانهم كذا أنهي إلي ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب الله وأنتم تدعون معشر ولد علي أنه لا يسقط عنكم منه شئ لا ألف ولا واو إلا تأويله عندكم واحتججتم بقوله عز وجل ما فرطنا في الكتاب من شئ وقد استغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم. فقلت تأذن لي في الجواب ؟ فقال هات قلت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس من أبو عيسى يا أمير المؤمنين ؟
فقال ليس له أب فقلت إنما ألحقه بذراري الانبياء من طريق مريم وكذلك ألحقنا الله تعالى بذراري النبي من امنا فاطمة أزيدك يا أمير المؤمنين ؟ قال هات قلت قول الله عز وجل - فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ولم يدع أحد أنه أدخل النبي تحت الكساء - عند المباهلة مع النصارى إلا علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين فكان تأويل قوله أبنائنا الحسن والحسين ونسائنا فاطمة وأنفسنا علي بن أبي طالب. وفي سؤالات المأمون عن الرضا عليه السلام قال المأمون - ما الدليل على خلافة جدك علي بن أبي طالب ؟ قال آية أنفسنا قال لولا نسائنا قال لولا أبنائنا. أقول قوله آية أنفسنا يريد أن الله جعل نفس علي كنفس نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وقوله لو لا نسائنا معناه أن كلمة نسائنا في الآية دليل على أن المراد بالانفس الرجال فلا فضيلة فيه حينئذ وقوله لو لا أبنائنا معناه أن وجود أبنائنا فيها يدل على خلافه فإن المراد بالانفس لو كان هو الرجال لم يكن مورد لذكر الابناء. وفي تفسير العياشي بإسناده عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن أمير المؤمنين عليه السلام سئل عن فضائله فذكر بعضها ثم قالوا له زدنا فقال إن رسول الله صلى الله عليه وآله أتاه حبران من أحبار النصارى من أهل نجران فتكلما في أمر عيسي فأنزل الله هذه الآية إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم إلى آخر الآية فدخل رسول الله
[ 231 ]
فأخذ بيد علي والحسن والحسين وفاطمة ثم خرج ورفع كفه إلى السماء وفرج بين أصابعه ودعاهم إلى المباهلة قال وقال أبو جعفر عليهما السلام وكذلك المباهلة يشبك يده في يده يرفعهما إلى السماء فلما رآه الحبران قال أحدهما لصاحبه والله لئن كان نبيا لنهلكن وإن كان غير نبي كفانا قومه فكفا وانصرفا.
اقول وهذا المعنى أو ما يقرب منه مروي في روايات أخر من طرق الشيعة وفي جميعها أن الذين أتى بهم النبي صلى الله عليه وآله للمباهلة هم علي وفاطمة والحسنان فقد رواه الشيخ في أماليه بإسناده عن عامر بن سعد عن أبيه ورواه أيضا فيه بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن الصادق عليه السلام ورواه فيه أيضا بإسناده عن سالم ابن أبي الجعد يرفعه إلى أبي ذر رضوان الله عليه ورواه أيضا فيه بإسناده عن ربيعة ابن ناجد عن علي عليه السلام ورواه المفيد في كتاب الاختصاص بإسناده عن محمد بن الزبرقان عن موسى بن جعفر عليهما السلام ورواه أيضا فيه عن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جده ورواه العياشي في تفسيره عن محمد بن سعيد الاردني عن موسى بن محمد بن الرضا عن أخيه ورواه أيضا عن أبي جعفر الاحول عن الصادق عليه السلام ورواه أيضا فيه في رواية اخرى عن الاحول عنه عليه السلام وعن المنذر عن علي عليه السلام ورواه أيضا فيه بإسناده عن عامر بن سعد ورواه الفرات في تفسيره معنعنا عن أبي جعفر وعن أبي رافع والشعبي وعلى عليه السلام وشهر بن حوشب ورواه في روضة الواعظين وفي إعلام الورى وفي الخرائج وغيرها. وفي تفسير الثعلبي عن مجاهد والكلبي: أنه صلى الله عليه وآله لما دعاهم إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع وننظر فلما تخالوا قالوا للعاقب - وكان ذا رأيهم يا عبد المسيح ما ترى ؟ فقال والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لنهلكن فإن أبيتم إلا إلف دينكم والاقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله وقد غدا محتضنا بالحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفها وهو يقول: إذا أنا دعوت فأمنوا فقال اسقف نجران يا معشر النصارى إني لارى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لازاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا
[ 232 ]
ولا يبقى على وجه الارض نصراني إلى يوم القيامة فقالوا يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك ونثبت على ديننا قال فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم فأبوا قال فإني اناجزكم فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي اليك كل عام ألفي حلة ألف في صفر وألف في رجب وثلاثين درعا عادية من حديد فصالحهم على ذلك. وقال والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا. اقول وروى القصة قريبا منه في كتاب المغازي عن ابن إسحق ورواه أيضا المالكي في الفصول المهمة عن المفسرين قريبا منه ورواه الحموي عن ابن جريح قريبا منه. وقوله ألف في صفر المراد به المحرم وهو أول السنة عند العرب وقد كان يسمى صفرا في الجاهلية فيقال صفر الاول وصفر الثاني وقد كانت العرب تنسئ في الصفر الاول ثم أقر الاسلام الحرمة في الصفر الاول فسمي لذلك بشهر الله المحرم ثم اشتهر بالمحرم. وفي صحيح مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا فقال - ما يمنعك أن تسب أبا تراب قال أما ما ذكرت ثلاثا قالهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه لان يكون لي واحدة منهن أحب إلى من حمر النعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين خلفه في بعض مغازيه فقال له علي يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ؟ وسمعته
يقول يوم خيبر: لاعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله قال فتطاولنا لها فقال: أدعوا لي عليا فاتي به أرمد العين فبصق في عينيه ودفع الراية إليه ففتح الله على يده ولما نزلت هذه الآية قل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل دعا رسول الله عليا وفاطمة وحسنا وحسينا وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي.
[ 233 ]
اقول ورواه الترمذي في صحيحه ورواه أبو المؤيد الموفق بن أحمد في كتاب فضائل علي ورواه أيضا أبو نعيم في الحلية عن عامر بن سعد عن أبيه ورواه الحمويني في كتاب فرائد السمطين. وفي حلية الاولياء لابي نعيم بإسناده عن عامر بن أبي وقاص عن أبيه قال: لما نزلت هذه الآية - دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال اللهم هؤلاء أهل بيتي. وفيه بإسناده عن الشعبي عن جابر قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب فدعاهما إلى الاسلام فقالا أسلمنا يا محمد فقال كذبتما إن شئتما أخبرتكما ما يمنعكما من الاسلام فقالا فهات الينا قال حب الصليب وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير - قال جابر فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه إلى أن يفداه بالغداة فغدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ بيد علي والحسن والحسين وفاطمة فأرسل اليهما فأبيا أن يجيباه وأقرا له فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذي بعثني بالحق لو فعلا لامطر عليهم الوادي نارا قال جابر فيهم نزلت ندع أبنائنا وأبنائكم قال جابر أنفسنا وأنفسكم رسول الله وعلي وأبنائنا الحسن والحسين ونسائنا فاطمة. أقول ورواه ابن المغازلي في مناقبه بإسناده عن الشعبي عن جابر ورواه ايضا الحمويني في فرائد السمطين بإسناده عنه ورواه المالكي في الفصول المهمة مرسلا عنه
ورواه أيضا عن أبي داود الطيالسي عن شعبة الشعبي مرسلا ورواه في الدر المنثور عن الحاكم وصححه وعن ابن مردويه وأبي نعيم في الدلائل عن جابر. وفي الدر المنثور خرج أبو نعيم في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: أن وفد نجران من النصارى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم منهم السيد وهو الكبير والعاقب وهو الذي يكون بعده وصاحب رأيهم ثم ساق القصة نحوا مما مر. وفيه أيضا أخرج البيهقي في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يشوع عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان: بسم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب من محمد رسول الله إلى اسقف نجران وأهل
[ 234 ]
نجران إن أسلمتم فإني أحمد اليكم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية من الله من ولاية العباد - فإن أبيتم فالجزية وإن أبيتم فقد آذنتكم بالحرب والسلام - فلما قرأ الاسقف الكتاب فظع به وذعر ذعرا شديدا فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة فدفع إليه كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقرأه فقال له الاسقف: ما رأيك ؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسمعيل من النبوة فما يؤمن أن يكون هذا الرجل ؟ ليس لي في النبوة رأي لو كان رأى من أمر الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك فبعث الاسقف إلى واحد بعد واحد من أهل نجران فكلهم قالوا مثل قول شرحبيل فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة وعبد الله بن شرحبيل وجبار بن فيض فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فانطلق الوفد حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألهم وسألوه فلم نزل به وبهم المسألة حتى قالوا له: ما تقول في عيسى بن مريم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما عندي فيه شئ
يومى هذا فأقيموا حتى اخبركم بما يقال في عيسى صبح الغد فأنزل الله هذه الآية إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب - إلى قوله فنجعل لعنة الله على الكاذبين فأبوا أن يقروا بذلك فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميلة له وفاطمة تمشي خلف ظهره للملاعنة وله يومئذ عدة نسوة فقال شرحبيل لصاحبيه إني أرى أمرا مقبلا إن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعناه لا يبقى على وجه الارض منا شعر ولا ظفر إلا هلك فقالا له ما رأيك ؟ فقال رأيي أن احكمه فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا فقالا له أنت وذلك فتلقى شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك قال: وما هو ؟ قال حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح فمهما حكمت فينا فهو جائز فرجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يلاعنهم وصالحهم على الجزية. وفيه أخرج ابن جرير عن علباء بن أحمر اليشكري قال: لما نزلت هذه الآية قل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم الآية أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين ودعا اليهود ليلاعنهم فقال شاب من اليهود ويحكم إليس عهدتم الامس إخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير ؟ لا تلاعنوا فانتهوا.
[ 235 ]
أقول والرواية تؤيد أن يكون الضمير في قوله تعالى فمن حاجك فيه راجعا إلى الحق في قوله: الحق من ربك فيتم بذلك حكم المباهلة لغير خصوص عيسى بن مريم عليه السلام وتكون حينئذ هذه قصة اخرى واقعة بعد قصة دعوة وفد نجران إلى المباهلة على ما تقصه الاخبار الكثيرة المتظافرة المنقولة أكثرها فيما تقدم. وقال ابن طاوس في كتاب سعد السعود رأيت في كتاب تفسير ما نزل من القرآن في النبي وأهل بيته تأليف محمد بن العباس بن مروان أنه روى خبر المباهلة من أحد وخمسين طريقا عمن سماه من الصحابة وغيرهم وعد منهم الحسن بن علي عليهما السلام
وعثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وبكر بن سمال وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عباس وأبا رافع مولى النبي وجابر بن عبد الله والبراء بن عازب وانس بن مالك. وروى ذلك في المناقب عن عدة من الرواة والمفسرين وكذا السيوطي في الدر المنثور. ومن عجيب الكلام ما ذكره بعض المفسرين حيث قال إن الروايات متفقة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اختار للمباهلة عليا وفاطمة وولديهما ويحملون كلمة نسائنا على فاطمة وكلمة أنفسنا على علي فقط ومصادر هذه الروايات الشيعة ومقصدهم منها معروف وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة نسائنا لا يقولها العربي ويريد بها بنته لا سيما إذا كان له أزواج ولا يفهم هذا من لغتهم وأبعد من ذلك أن يراد بأنفسنا علي ثم إن وفد نجران الذين قالوا: إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نسائهم واولادهم وكل ما يفهم من الآيه امر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعوا المحاجين والمجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا ونسائا وأطفالا ويجمع هو المؤمنين رجالا ونسائا وأطفالا ويبتهلون إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى. وهذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه وثقته بما يقول كما يدل امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب سواء كانوا نصارى نجران أو غيرهم على امترائهم في حجاجهم ومما راتهم فيما يقولون وزلزالهم فيما يعتقدون وكونهم على غير بينة ولا يقين وأنى لمن يؤمن بالله أن يرضى بأن يجتمع هذا الجمع من الناس المحقين والمبطلين في
[ 236 ]
صعيد واحد متوجهين إلى الله في طلب لعنه وإبعاده من رحمته ؟ وأي جرأة على الله واستهزاء بقدرته وعظمته أقوى من هذا.
قال أما كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى عليه السلام فحسبنا في بيانه قوله تعالى: من بعد ما جاءك من العلم فالعلم في هذه المسائل الاعتقادية لا يراد به إلا اليقين وفي قوله: ندع أبنائنا وأبنائكم " الخ " وجهان: أحدهما: أن كل فريق يدعو الآخر فأنتم تدعون أبنائنا ونحن ندعو أبنائكم، وهكذا الباقي. وثانيهما أن كل فريق يدعو أهله فنحن المسلمون ندعو أبنائنا ونسائنا وأنفسنا وأنتم كذلك. ولا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الانفس وإنما الاشكال فيه على قول الشيعة ومن شايعهم على القول بالتخصيص انتهى. اقول وهذا الكلام - وأحسب أن الناظر فيه يكاد يتهمنا في نسبته إلى مثله واللبيب لا يرضى بإيداعه وأمثاله في الزبر العلمية إنما أوردناه على وهنه وسقوطه ليعلم أن النزعة والعصبية إلى أين يورد صاحبه من سقوط الفهم وردائة النظر فيهدم كل ما بنى عليه ويبني كل ما هدمه ولا يبالي ولان الشر يجب أن يعلم ليجتنب عنه. والكلام في مقامين أحدهما دلالة الآية على أفضلية علي عليه السلام وهو بحث كلامي خارج عن الغرض الموضوع له هذا الكتاب وهو النظر في معاني الآيات القرآنية. وثانيهما البحث عما ذكره هذا القائل من حيث تعلقه بمدلول آية المباهلة والروايات الواردة في ما جرى بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين وفد نجران وهذا بحث تفسيري داخل في غرضنا. وقد عرفت ما تدل عليه الآية وأن الذي نقلناه من الاخبار المتكثرة المتظافرة هو الذي يطابق مدلول الآية وبالتأمل في ذلك يتضح وجوه الفساد في هذه الحجة المختلقة والنظر الواهي الذي لا يرجع إلى محصل وهاك تفصيلها: منها أن قوله ومصادر هذه الروايات الشيعة إلى قوله وقد اجتهدوا في
[ 237 ]
ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة بعد قوله إن الروايات متفقة ليت شعري أي روايات يعنى بهذا القول ؟ أمراده هذه الروايات المتظافرة التي أجمعت على نقلها وعدم طرحها المحدثون وليست بالواحدة والاثنتين والثلاث أطبق على نقلها وتلقيها بالقبول أهل الحديث وأثبتها أرباب الجوامع في جوامعهم ومنهم مسلم في صحيحه والترمذي في صحيحه وأيدها أهل التاريخ. ثم أطبق المفسرون على إيرادها وإيداعها في تفاسيرهم من غير اعتراض أو ارتياب وفيهم جمع من أهل الحديث والتاريخ كالطبري وأبي الفداء بن كثير والسيوطي وغيرهم ثم من الذي يعنيه من الشيعة المصادر لهذه الروايات ؟ أيريد بهم الذين تنتهي إليهم سلاسل الاسناد في الروايات أعني سعد بن أبي وقاص وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس وغيرهم من الصحابة ؟ أو التابعين الذين نقلوا عنهم بالاخذ والرواية كأبي صالح والكلبي والسدي والشعبي وغيرهم وأنهم تشيعوا لنقلهم ما لا يرتضيه بهواه فهؤلاء وأمثالهم ونظرائهم هم الوسائط في نقل السنة ومع رفضهم لا تبقى سنة مذكورة ولا سيرة مأثورة وكيف يسع لمسلم أو باحث حتى ممن لا ينتحل بالاسلام أن يبطل السنة ثم يروم أن يطلع على تفاصيل ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تعليم وتشريع والقرآن ناطق بحجية قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته وناطق ببقاء الدين على حيوته ولو جاز بطلان السنه من رأس لم يبق للقرآن أثر ولا لانزاله ثمر. أو أنه يريد أن الشيعة دسوا هذه الاحاديث في جوامع الحديث وكتب التاريخ فيعود محذور سقوط السنة وبطلان الشريعة بل يكون البلوى أعم والفساد أتم. ومنها قوله وحملون كلمة نسائنا على فاطمة وكلمة أنفسنا على علي فقط مراده به أنهم يقولون بأن كلمة نسائنا أطلقت واريدت بها فاطمة وكذا المراد بكلمة أنفسنا علي فقط وكأنه فهمه مما يشتمل عليه بعض الروايات السابقة قال جابر:
نسائنا فاطمة وأنفسنا علي الخبر وقد أساء الفهم فليس المراد في الآية بلفظ نسائنا فاطمة وبلفظ أنفسنا علي بل المراد أنه صلى الله عليه وآله وسلم إذ لم يأت في مقام الامتثال إلا بها وبه كشف ذلك أنها هي المصداق الفرد لنسائنا وأنه هو المصداق الوحيد لانفسنا وأنهما مصداق أبنائنا وكان المراد بالابناء والنساء والانفس في الآية هو الاهل فهم
[ 238 ]
أهل بيت رسول الله وخاصته كما ورد في بعض الروايات بعد ذكر إتيانه صلى الله عليه وآله وسلم بهم أنه قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فإن معنى الجملة أني لم أجد من أدعوه غير هؤلاء. ويدل على ما ذكرناه من المراد ما وقع في بعض الروايات أنفسنا وأنفسكم رسول الله وعلي فإن اللفظ صريح في أن المقصود بيان المصداق دون معنى اللفظ. ومنها قوله ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة نسائنا لا يقولها العربي ويريد بها بنته لا سيما إذا كان له أزواج ولا يفهم هذا من لغتهم وأبعد من ذلك أن يراد بأنفسنا علي وهذا المعنى العجيب الذي توهمه هو الذي أوجب أن يطرح هذه الروايات على كثرتها ثم يطعن على رواتها وكل من تلقاها بالقبول ويرميهم بما ذكره وقد كان من الواجب عليه أن يتنبه لموقفه من تفسير الكتاب ويذكر هؤلاء الجم الغفير من أئمة البلاغة وأساتيذ البيان وقد أوردوها في تفسيرهم وسائر مؤلفاتهم من غير أي تردد أو اعتراض. فهذا صاحب الكشاف وهو الذي ربما خطأ أئمة القراءة في قراءتهم يقول في ذيل تفسير الآية وفيه دليل لا شئ أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي صلى الله عله وآله وسلم لانه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك انتهى. فكيف خفي على هؤلاء العظماء أبطال البلاغة وفرسان الادب أن هذه الاخبار على كثرتها وتكررها في جوامع الحديث تنسب إلى القرآن أنه يغلط في بيانه فيطلق
النساء وهو جمع في مورد نفس واحدة. لا وعمري وإنما التبس الامر على هذا القائل واشتبه عنده المفهوم بالمصداق فتوهم أن الله عز اسمه لو قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم إلخ وصح أن المحاجين عند نزول الآية وفد نجران وهم أربعة عشر رجلا على ما في بعض الروايات ليس عندهم نساء ولا أبناء وصح أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى مباهلتهم وليس معه إلا علي وفاطمة والحسنان كان لازم ذلك أن معنى من حاج وفد نجران ومعنى نسائنا المرأة الواحدة ومعنى أنفسنا النفس الواحدة وبقي نسائكم وأبنائكم لا معنى لهما إذ لم يكن مع
[ 239 ]
الوفد نساء ولا أبناء. وكان عليه أن يضيف إلى ذلك لزوم استعمال الابناء وهو جمع في التثنية وهو أشنع من استعمال الجمع في المفرد فإن استعمال الجمع في المفرد ربما وجد في كلام المولدين وإن لم يوجد في العربية الاصيلة إلا في التكلم لغرض التعظيم لكن استعمال الجمع في المثنى مما لا مجوز له أصلا. فهذا هو الذي دعاه إلى طرح الروايات ورميها بالوضع وليس الامر كما توهمه. توضيح ذلك أن الكلام البليغ إنما يتبع فيه ما يقتضيه المقام من كشف ما يهم كشفه فربما كان المقام مقام التخاطب بين متخاطبين أو قبيلين ينكر أو يجهل كل منهما حال صاحبه فيوضع الكلام على ما يقتضيه الطبع والعادة فيؤتى في التعبير بما يناسب ذلك فأحد القبيلين المتخاصمين إذا أراد أن يخبر صاحبه أن الخصومة والدفاع قائمة بجميع أشخاص قبيله من ذكور واناث وصغير وكبير فإنما يقول نخاصمكم أو نقاتلكم بالرجال والظعائن والاولاد فيضع الكلام على ما تقتضيه الطبع والعادة فإن العادة تقتضي أن يكون للقبيل من الناس نساء وأولاد والغرض متعلق بأن يبين للخصم
أنهم يد واحدة على من يخاصمهم ويخاصمونه ولو قيل نخاصمكم أو نقاتلكم بالرجال والنساء وابنين لنا كان إخبارا بأمر زائد على مقتضى المقام محتاجا إلى عناية زائدة وتعرفا إلى الخصم لنكتة زائدة. وأما عند المتعارفين والاصدقاء والاخلة فربما يوضع الكلام على مقتضى الطبع والعادة فيقال في الدعوة للضيافة والاحتفال سنقرئكم بأنفسنا ونسائنا وأطفالنا وربما يسترسل في التعرف فيقال سنخدمكم بالرجال والبنت والسبطين الصبيين ونحو ذلك. فللطبع والعادة وظاهر الحال حكم ولواقع الامر وخارج العين حكم وربما يختلفان فمن بنى كلامه على حكاية ما يعلم من ظاهر حاله ويقضي به الطبع والعادة فيه ثم بدا حقيقة حاله وواقع أمره على خلاف ما حكاه من ظاهر حاله لم يكن غالطا في كلامه ولا كاذبا في خبره ولا لاغيا هازلا في قوله. والآية جارية على هذا المجرى فقوله فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا
[ 240 ]
ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم الخ اريد به على ما تقدم أدعهم إلى أن تحضر أنت وخاصتك من أهلك الذين يشاركونك في الدعوى والعلم ويحضروا بخاصتهم من أهليهم ثم وضع الكلام على ما يعطيه ظاهر الحال أن لرسول الله في أهله رجالا ونساءا وأبناءا ولهم في أهليهم رجال ونساء وأبناء فهذا مقتضى ظاهر الحال وحكم الطبع والعادة فيه وفيهم أما واقع الامر وحقيقته فهو أنه لم يكن له صلى الله عليه وآله وسلم من الرجال والنساء والبنين إلا نفس وبنت وابنان ولم يكن لهم إلا رجال من غير نساء ولا أبناء ولذلك لما أتاهم برجل وامرأة وولدين لم يجبهوه بالتلحين والتكذيب ولا أنهم اعتذروا عن الحضور بأنك أمرت بإحضار النساء والابناء وليس عندنا نساء ولا أبناء ولا أن من قصت عليه القصة رماها بالوضع والتمويه.
ومن هنا يظهر فساد ما أورده بقوله ثم وفد نجران الذين قالوا إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساء ولا أبناء. ومنها قوله وكل ما يفهم من الآية أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعو المحاجين والمجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا ونسائا وأطفالا ويجمع هو المؤمنين رجالا ونسائا وأطفالا ويبتهلون إلى الله بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى إلى قوله وأنى لمن يؤمن بالله أن يرضى أن يجتمع مثل هذا الجمع من الناس المحقين والمبطلين في صعيد واحد متوجهين إلى الله تعالى في طلب لعنه وإبعاده من رحمته وأي جرأة على الله واستهزاء بقدرته وعظمته أقوى من هذا. وملخصه أن الآية تدعو الفريقين إلى الاجتماع بأنفسهم ونسائهم وذراريهم في صعيد واحد ثم الابتهال بالملاعنة وينبغي أن يستبان ما هذا الاجتماع المدعو إليه أهو اجتماع الفريقين كافة أعني المؤمنين بأجمعهم وهم يومئذ (1) عرب ربيعة ومضر جلهم أو كلهم من اليمن والحجاز والعراق وغيرها والنصارى وهم أهل نجران من اليمن ونصارى الشام وسواحل البحر الابيض وأهل الروم والافرنج والانجليز والنمسا وغيرهم.
(1) وهو سنة تسع على ما ذكره بعض المؤرخين أو عشر على ما ذكره آخرون وإن لم يخل جميعا عن الاشكال على ما سيجئ في البحث الروائي عن الآيات التالية لهذه الآيات.
[ 241 ]
وهؤلاء الجماهير في مشارق الارض ومغاربها تربو نفوسهم بالرجال والنساء والذراري يومئذ على الملائين بعد الملائين ولا يشك ذو لب أن من المتعذر اجتماعهم في صعيد واحد فالاسباب العادية تأبى ذلك بجميع أركانها ولازم ذلك أن يندب القرآن الناس إلى المحال وينيط ظهور حجته وتبين الحق الذي يدعيه على ما لا يكون البتة وكان ذلك عذرا ونعم العذر للنصارى في عدم أجابتهم دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
إلى المباهلة وكان ذلك أضر لدعواه منه لدعويهم. أم هو اجتماع الحاضرين من الفريقين ومن في حكمهم أعني المؤمنين من أهل المدينة وما والاها وأهل نجران ومن والاهم وهذا وإن كان أقل وأخف شناعة من الوجه السابق لكنه من حيث استحالة التحقق وامتناع الوقوع كسابقه فمن الذي كان يسعه يومئذ أن يجمع أهل المدينة ونجران قاطبة حتى النساء والذراري منهم في صعيد للملاعنة وهل هذه الدعوة إلا تعليقا بالمحال واعترافا بأن الحق متعذر الظهور أم هو اجتماع المتلبسين بالخصام والجدال من الفريقين أعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم والحاضرين عنده من المؤمنين ووفد نجران من النصارى ويرد عليه حينئذ ما أورده بقوله ثم إن وفد نجران الذين قالوا إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساءهم وأولادهم وكان ذلك وقوعا فيما ذكره من المحذور. ومنها قوله أما كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى عليه السلام فحسبنا في بيانه قوله تعالى من بعد ما جاءك من العلم فالعلم في هذه المسائل الاعتقادية لا يراد به إلا اليقين. أقول أما كون العلم فيها بمعنى اليقين فهو حق وأما كون الآية دالة على كون المؤمنين على يقين من أمر عيسى عليه السلام فليت شعري من أين له إثبات ذلك والآية غير متعرضة بلفظها فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك الخ إلا لشأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومقام التخاطب أيضا لا يشمل غيره صلى الله عليه وآله وسلم من المؤمنين فإن الوفد من النصارى ما كان لهم هم إلا المحاجة والخصام مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن لهم هوى في لقاء المؤمنين ولا كلموهم بكلمة ولا كلمهم المؤمنون بكلمة.
[ 242 ]
نعم لو دلت الآية على حصول العلم لاحد غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لدل فيمن جئ به للمباهلة على ما استفدناه من قوله تعالى: على الكاذبين فيما تقدم.
بل القرآن يدل على عدم عموم العلم واليقين لجميع المؤمنين حيث يقول تعالى: " وما يؤمن أكثرهم بالله الا وهم مشركون " يوسف - 106 فوصفهم بالشرك وكيف يجتمع الشرك مع اليقين ويقول تعالى " وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا " الاحزاب - 12 ويقول تعالى " ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون اليك نظر المغشي عليه من الموت، فأولى لهم طاعة وقول معروف فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم - إلى أن قال -: اولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم " محمد - 23 فاليقين لا يتحقق به إلا بعض اولي البصيرة من متبعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى " فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن " آل عمران - 20 وقال تعالى " قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى " يوسف - 108. ومنها قوله وفي قوله ندع أبنائنا وأبنائكم الخ وجهان أحدهما أن كل فريق يدعو الآخر الخ قد عرفت فساد وجهه الاول وعدم انطباقه على لفظ الآية إذ قد عرفت أن الغرض كان مستوفى حاصلا لو قيل تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين وإنما زيد عليه قوله ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ليدل على لزوم إحضار كل من الفريقين عند المباهلة أعز الاشياء عنده وأحبها إليه وهو الابناء والنساء والانفس (الاهل والخاصة) وهذا إنما يتم لو كان معنى الآية ندعو نحن أبناءنا ونساءنا وأنفسنا وتدعون أنتم أبناءكم ونساءكم وأنفسكم ثم نبتهل وأما لو كان المعنى ندعو نحن أبنائكم ونسائكم وأنفسكم وتدعون أنتم أبناءنا ونساءنا وأنفسنا ثم نبتهل بطل الغرض المذكور. على أن هذا المعنى في نفسه مما لا يرتضيه الطبع السليم فما معنى تسليط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النصارى على أبنائه ونسائه وسؤاله أن يسلطوه على ذراريهم ونسائهم ليتداعوا
فيتم الحضور والمباهلة مع تأتي ذلك بدعوة كل فريق أهل نفسه لها. على أن هذا المعنى يحتاج في فهمه من الآية إلى فهم معنى التسليط وما يشابهه كما
[ 243 ]
تقدم منها وأنما لنا فهمه ؟ فالحق أن هذا الوجه ساقط وأن الوجه الآخر وهو أن يكون المراد دعوة كل أهل نفسه هو المتعين. ومنها قوله ولا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الانفس وإنما الاشكال فيه على قول الشيعة ومن شايعهم على القول بالتخصيص يريد بالاشكال ما اورد على الآية من لزوم دعوة الانسان نفسه وهذا الاشكال غير مرتبط بشئ من الوجهين أصلا وإنما هو إشكال على القول بكون المراد بأنفسنا هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يحكى عن بعض المناظرات المذهبية حيث ادعى أحد الخصمين أن المراد بأنفسنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاورد عليه بلزوم دعوة الانسان نفسه وهو باطل تشير إليه الرواية الثانية المنقولة عن العيون فيما تقدم. ومن هنا يظهر سقوط قوله إنما الاشكال فيه على قول الشيعة فإن قولهم على ما قدمنا أن المراد بأنفسنا هو الرجال من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم بحسب المصداق رسول الله وعلي عليهما السلام ولا إشكال في دعوة بعضهم بعضا. فلا إشكال عليهم حتى على ما نسبه إليهم بزعمه أن معنى أنفسنا علي فإنه لا إشكال في دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام. وقال تلميذه في المنار بعد الاشارة إلى الروايات وأخرج ابن عساكر عن جعفر ابن محمد عن أبيه: " قل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم " الآية قال فجاء بأبي بكر و ولده وعمر وولده وعثمان وولده قال والظاهر أن الكلام في جماعة المؤمنين. ثم قال بعد نقل كلام أستاذه المنقول سابقا وفي الآية ما ترى من الحكم بمشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمباراة القومية والمناضلة الدينية وهو مبني على اعتبار
المرئة كالرجل حتى في الامور العامة إلا ما استثنى منها إلى آخر ما أطنب به من الكلام. أقول أما ما ذكره من الرواية فهي رواية شاذة تخالف جميع روايات الآية على كثرتها واشتهارها وقد أعرض عن هذه الرواية المفسرون وهي مع ذلك تشتمل على ما لا يطابق الواقع وهو جعله لكل من المذكورين فيه ولدا ولا ولد يومئذ لجميعهم ألبتة.
[ 244 ]
وكأنه يريد بقوله والظاهر أن الكلام في جماعة المؤمنين أن يستظهر من الرواية الدلالة على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحضر جميع المؤمنين وأولادهم فيكون قوله فجاء بأبي بكر وولده إلخ كناية عن إحضاره عامة المؤمنين وكأنه يريد به تأييد شيخه فيما ذكره من المعنى وأنت ترى ما عليه الرواية من الشذوذ والاعراض والمتن ثم في الدلالة على ما ذكره من المعنى. وأما ما ذكره من دلالة الآية على مشاركة النساء الرجال في الحقوق العامة فلو تم ما ذكره دل على مشاركة الاطفال أيضا وفي هذا وحده كفاية في بطلان ما ذكره. وقد قدمنا الكلام في اشتراكهن معهم عند الكلام على آيات الطلاق في الجزء الثاني من الكتاب وسيأتي شطر في ما يناسبه من المورد من غير حاجة إلى مثل ما استفاده من الآية. قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا إشهدوا بأنا مسلمون - 64. يا أهل الكتاب لم تحاجون في ابراهيم وما أنزلت التورية والانجيل إلا من بعده أفلا تعقلون - 65. ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون
فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون - 66. ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين - 67. إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين - 68. ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم
[ 245 ]
وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون - 69. يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون - 70. يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون - 71. وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون - 72. ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشآء والله واسع عليم - 73. يختص برحمته من يشآء والله ذو الفضل العظيم - 74. ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الاميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون - 75. بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين - 76. إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيمة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم - 77. وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون - 78.
[ 246 ]
(بيان) شروع في المرحلة الثانية من البيان المتعرض لحال أهل الكتاب عامة والنصارى خاصة وما يلحق بذلك فقد كانت الآيات فيما مر تعرضت لحال أهل الكتاب عامة بقوله " إن الدين عند الله الاسلام " آل عمران - 19 وبقوله " ألم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب " آل عمران - 23 ثم انعطف البيان إلى شأن النصارى خاصة بقوله " إن الله اصطفى آدم ونوحا إلخ " آل عمران - 33 وتعرضت في أثنائها لولاية المؤمنين للكافرين بقوله " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء " آل عمران - 28 فهذا في المرحلة البادئة. ثم عادت إلى بيان ما ذكرته ثانيا بلسان آخر ونظم دون النظم السابق فتعرضت لحال أهل الكتاب عامة في هذه الآيات المنقولة آنفا وما سيلحق بذلك من متفرقات بحسب مساس خصوصيات البيانات بذلك كقوله " قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله إلخ " آل عمران - 98 وقوله " قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله إلخ " وتعرضت لحال النصارى وما تدعيه في أمر عيسى عليه السلام بقوله " ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب إلخ " آل عمران - 79 وتعرضت لامور ترجع إلى المؤمنين من دعوتهم إلى الاسلام والاتحاد والاتقاء من ولاية الكفار واتخاذ البطانة من دون المؤمنين في آيات كثيرة متفرقة. قوله تعالى " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم الخطاب لعامة أهل الكتاب والدعوة في قوله: تعالوا إلى كلمة إلخ بالحقيقة إنما هي إلى الاجتماع على معنى الكلمة بالعمل به وإنما تنسب إلى الكلمة لتدل على كونها دائرة بألسنتهم كقولنا اتفقت كلمة القوم على كذا فيفيد معنى الاذعان والاعتراف والنشر والاشاعة فالمعنى تعالوا نأخذ بهذه الكلمة متعاونين متعاضدين في نشرها والعمل
بما توجبه. والسواء في الاصل مصدر ويستعمل وصفا بمعنى مساوي الطرفين وسواء بيننا وبينكم أي مساو من حيث الاخذ والعمل بما توجبه وعلي هذا فتوصيف الكلمة بالسواء توصيف بحال المتعلق وهو الاخذ والعمل وقد عرفت أن العمل إنما يتعلق
[ 247 ]
بمعنى الكلمة لا نفسها كما أن تعليق الاجتماع أيضا على المعنى لا يخلو من عناية مجازية ففي الكلام وجوه من لطائف العنايات نسبه الاجتماع إلى المعنى ثم وضع الكلمة مكان المعنى ثم توصيف الكلمه بالسواء ! وربما قيل إن معنى كون الكلمة سواء أن القرآن والتوراة والانجيل متفقة في الدعوة إليها وهي كلمة التوحيد ولو كان المراد به ذلك كان قوله تعالى: أن لا نعبد إلا الله الخ من قبيل وضع التفسير الحق موضع الكلمة المتفق عليها والاعراض عما لعبت به أيديهم من تفسيره غير المرضي الذي تنطبق الكلمة بذلك على أهوائهم من الحلول واتخاذ الابن والتثليث وعبادة الاحبار والقسيسين والاساقفة ويكون محصل المعنى تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم وهي التوحيد ولازم التوحيد رفض الشركاء وعدم اتخاذ الارباب من دون الله سبحانه. والذي تختتم به الآية من قوله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون يؤيد المعنى الاول فإن محصل المعنى بالنظر إليه أنه يدعو إلى هذه الكلمة وهي أن لا نعبد إلا الله الخ لانها مقتضى الاسلام لله الذى هو الدين عند الله وإن كان الاسلام أيضا لازما من لوازم التوحيد لكن الدعوة في الآية إنما هي إلى التوحيد العملي وهو ترك عبادة غير الله سبحانه دون اعتقاد الوحدة فافهم ذلك. قوله تعالى أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله تفسير للكلمه السواء وهي التي يوجبها الاسلام لله. والمراد بقوله أن لا نعبد إلا الله نفى عبادة غير الله لا إثبات عبادة الله تعالى
على ما مرت الاشاره إليه في معنى كلمة الاخلاص (لا إله إلا الله) أن لازم كون إلا الله بدلا لا استثنائا كون الكلام مسوقا لبيان نفي الشريك دون إثبات الاله فإن القرآن يأخذ إثبات وجود الاله وحقيته مفروغا عنه. ولما كان الكلام مسوقا لنفي الشريك في العبادة ولا ينحسم به مادة الشرك اللازم من اعتقاد البنوة والتثليث ونحو ذلك أردفه بقوله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ الخ فإن تسمية العبادة بعبادة الله لا تصير العبادة عبادة لله سبحانه ما لم يخلص الاعتقاد ولم يتجرد الضمير من الاعتقادات والآراء المولودة من أصل الشرك لان العبادة حينئذ إنما
[ 248 ]
تكون عبادة إله له شريك والعبادة التي يعبد بها أحد الشريكين وإن خص باسمه ووجه نحوه ليست إلا نابتة منبت التشريك لانها لا تعدو أن تكون سهما يسهم له وحظا يقسم له من بين الشريكين أو الشركاء ففيها بعينها نحو عبادة للغير. وهذا الذي يدعو إليه النبي بأمر الله سبحانه وهو الذي يدل عليه قوله: أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله هو الذي يجمع عرض النبوة في السيرة التي كانت الانبياء تدعو إليها وتبسطها على المجتمع الانساني. فقد تقدم عند الكلام على قوله تعالى كان الناس أمة واحدة: البقرة - 213 أن النبوة انبعاث إلهي ونهضة حقيقية يراد بها بسط كلمة الدين وأن حقيقة الدين تعديل المجتمع الانساني في سيره الحيوي ويتبعه تعديل حيوة الانسان الفرد فينزل بذلك الكل منزلته التي نزله عليها الفطرة والخلقة فيعطي به المجتمع موهبة الحرية وسعادة التكامل الفطري على وجه العدل والقسط وكذلك الفرد فهو فيه حر مطلق في الانتفاع من جهات الحيوة فيما يهديه إليه فكره وإرادته إلا ما يضر بحيوة المجتمع وقد قيد جميع ذلك بالعبودية والاسلام لله سبحانه والخضوع لسيطرة الغيب وسلطنته. وخلاصة ذلك أن الذي كانت تندب إليه جماعة الانبياء عليهم السلام أن يسير
النوع الانساني فرادى ومجتمعين على ما تنطق به فطرتهم من كلمة التوحيد التي تقضي بوجوب تطبيق الاعمال الفردية والاجتماعية على الاسلام لله وبسط القسط والعدل أعني بسط التساوي في حقوق الحيوة والحرية في الارادة الصالحة والعمل الصالح. ولا يتأتى ذلك إلا بقطع منابت الاختلاف والبغي بغير الحق واستخدام القوى واستعباده للضعيف وتحكمه عليه وتعبد الضعيف للقوي فلا إله إلا الله ولا رب الا الله ولا حكم إلا لله سبحانه. وهذا هو الذى تدل عليه الآية أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله الآية وقال تعالى فيما يحكيه عن يوسف عليه السلام يا صاحبي السجن أ أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسمائا سميتموها أنتم وآبائكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم: يوسف - 40 وقال تعالى اتخذوا أحبارهم
[ 249 ]
ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو: التوبة - 31 إلى غير ذلك من الآيات. وفيما حكاه القرآن عن الانبياء السالفين كنوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب وموسى وعيسى عليهم السلام مما كلموا به اممهم شئ كثير من هذا القبيل كقول نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا: نوح - 21 وقول هود لقومه أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين: الشعراء - 130 وقول صالح لقومه ولا تطيعوا أمر المسرفين: الشعراء - 151 وقول إبراهيم لابيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آبائنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآبائكم في ضلال مبين: الانبياء - 54 وقوله تعالى لموسى وأخيه إذهبا إلى فرعون إنه طغى إلى أن قال فأتياه
فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم: طه - 47 وقول عيسى لقومه ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون: الزخرف - 63 فالدين الفطري هو الذي ينفي البغي والفساد وهذه المظالم والسلطات بغير الحق الهادمة لاساس السعادة والمخربة لبنيان الحق والحقيقة وإلى ذلك يشير قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع وقد ذكره المسعودي في حوادث سنة عشر من الهجرة في مروج الذهب ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والارض وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم يريد به رجوع الناس إلى حكم الفطرة باستقرار سيرة الاسلام بينهم. والكلام أعني قوله تعالى أن لا نعبد إلا الله الخ على كونه آخذا بمجامع غرض النبوة مفصح عن سبب الحكم وملاكه. أما قوله أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا فلان الالوهية هي التي يأله إليه ويتوله فيه كل شئ من كل وجه وهو أن يكون منشئا لكل كمال في الاشياء على كثرتها وارتباطها واتحادها في الحاجة وفيه كل كمال يفتاق إليه الاشياء وهذا المعنى لا يستقيم إلا إذا كان واحدا غير كثير ومالكا إليه تدبير كل شئ فمن الواجب أن يعبد الله لانه إله واحد لا شريك له ومن الواجب أن لا يتخذ له شريك في عبادته وبعبارة اخرى هذا العالم وجميع ما يحتوي عليه لا يصح ولا يجوز أن يخضع ويتصغر إلا لمقام واحد إذ هؤلاء المربوبون لوحدة نظامهم وارتباط وجودهم لا
[ 250 ]
رب لهم إلا واحد إذ لا خالق لهم إلا واحد. وأما قوله تعالى ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فمن حيث أفاد أن المجتمع الانساني على كثرة أفراده وتفرق أشخاصه أبعاض من حقيقة واحدة هي حقيقة الانسان ونوعه فما أودعته فيه يد الصنع والايجاد من الاستحقاق والاستعداد الموزع بينهم على حد سواء يقضي بتساويهم في حقوق الحياة واستوائهم على مستوى واحد
وما تفاوت فيه أحوال الافراد واستعدادهم في اقتناء مزايا الحياة من مواهب الانسانية العامة التي ظهرت في مظاهر خاصة من هيهنا وهناك وهنالك يجب أن تعطاه الانسانية لكن من حيث تسأله كما أن الازدواج والولادة والمعالجة مثلا من مسائل الانسانية العامة لكن الذي يعطي الازدواج هو الانسان البالغ الذكر أو الانثى والولادة يعطاها الانسان الانثى والعلاج يعطاه الانسان المريض. وبالجملة أفراد الانسان المجتمع أبعاض متشابهة من حقيقة واحدة متشابهة فلا ينبغي أن يحمل البعض إرادته وهواه على البعض إلا أن يتحمل ما يعادله وهو التعاون على اقتناء مزايا الحياة وأما خضوع المجتمع أو الفرد لفرد أعني الكل أو البعض لبعض بما يخرجه عن البعضية ويرفعه عن التساوي بالاستعلاء والتسيطر والتحكم بأن يؤخذ ربا متبع المشية يحكم مطلق العنان ويطاع فيما يأمر وينهى ففيه إبطال الفطرة وهدم بنيان الانسانية. وأيضا من حيث إن الربوبية مما يختص بالله لا رب سواه فتمكين الانسان مثله من نفسه يتصرف فيه بما يريد من غير انعكاس اتخاذ رب من دون الله لا يقدم عليه من يسلم لله الامر. فقد تبين أن قوله ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله يفصح عن حجتين فيما يفيده من المعنى إحديهما كون الافراد أبعاضا والآخر كون الربوبية من خصائص الالوهية. قوله تعالى فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون استشهاد بأنهم وهم النبي صلى الله علبيه وآله وسلم ومن اتبعه على الدين المرضي عند الله تعالى وهو الاسلام قال إن الدين عند الله الاسلام: آل عمران - 19 فينقطع بذلك خصامهم وحجاجهم إذ لا حجة على الحق وأهله.
[ 251 ]
وفيه إشارة إلى أن التوحيد في العبادة من لوازم الاسلام. قوله تعالى يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم إلى آخر الآية الظاهر أنه مقول القول الواقع في الآية السابقة وكذا ما يأتي بعد أربع آيات فيكون مقولا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان ظاهر سياق قوله بعد آيتين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا الآية أن يكون الخطاب من الله لا من رسوله بإذنه. ومحاجتهم في إبراهيم عليه السلام بضم كل طائفة إياه إلى نفسها يشبه أن تكون أولا بالمحاجة لاظهار المحقية كأن تقول اليهود إن إبراهيم عليه السلام الذي أثنى الله عليه في كتابه منا فتقول النصارى إن إبراهيم كان على الحق وقد ظهر الحق بظهور عيسى معه ثم تتبدل إلى اللجاج والعصبية فتدعي اليهود أنه كان يهوديا وتدعي النصارى أنه كان نصرانيا ومن المعلوم أن اليهودية والنصرانية إنما نشأتا جميعا بعد نزول التوراة والانجيل وقد نزلا جميعا بعد أبراهيم عليه السلام فكيف يمكن أن يكون عليه السلام يهوديا بمعنى المنتحل بالدين الذي يختص بموسى عليه السلام ولا نصرانيا بمعنى المتعبد بشريعة عيسى عليه السلام فلو قيل في إبراهيم شئ لوجب أن يقال إنه كان على الحق حنيفا من الباطل إلى الحق مسلما لله سبحانه وهذه الآيات في مساق قوله تعالى أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والاسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله: البقرة - 140 قوله تعالى ها انتم حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم الآية الآية تثبت لهم علما في المحاجة التي وقعت بينهم وتنفي علما وتثبته لله تعالى ولذلك ذكر المفسرون أن المعنى أنكم حاججتم في إبراهيم عليه السلام ولكم به علم ما كالعلم بوجوده ونبوته فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم وهو كونه يهوديا أو نصرانيا والله يعلم وأنتم لا تعلمون أو أن المراد بالعلم علم ما بعيسى وخبره والمعنى أنكم تحاجون في عيسى ولكم بخبره علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم وهو كون
إبراهيم يهوديا أو نصرانيا هذا ما ذكروه. وأنت تعلم أن شيئا من الوجهين لا ينطبق على ظاهر سياق الآية أما الاول فلانه لم تقع لهم محاجة في وجود إبراهيم ونبوته وأما الثاني فلان المحاجة التي وقعت منهم في عيسى لم يكونوا فيها على الصواب بل كانوا مخطئين في خبره ؟ ؟ كاذبين في
[ 252 ]
دعويهم فيه فكيف يمكن أن يسمى محاجة فيما لهم به علم وكلامه تعالى على أي حال يثبت منهم محاجة فيما لهم به علم كما يثبت لهم محاجة فيما ليس لهم به علم فما هذه المحاجة التي هي فيما لهم به علم ؟ على أن ظاهر الآية أن هاتين إنما جرتا جميعا فيما بين أهل الكتاب أنفسهم لا بينهم وبين المسلمين وإلا كان المسلمون على الباطل في الحجاج الذي أهل الكتاب فيه على علم وهو ظاهر. والذي ينبغي ان يقال والله العالم أن من المعلوم أن المحاجة كانت جارية بين اليهود والنصارى في جميع موارد الاختلاف التي كانت بينهم وعمدة ذلك نبوة عيسى عليه السلام وما كانت تقوله النصارى في حقه (إنه الله أو ابنه أو التثليث) فكانت النصارى تحاج اليهود في بعثته ونبوته وهم على علم منه وكانت اليهود تحاج النصارى وتبطل الوهيته ونبوته والتثليث وهم على علم منه فهذه محاجتهم فيما لهم به علم وأما محاجتهم فيما ليس لهم به علم فمحاجتهم في أمر إبراهيم أنه كان يهوديا أو نصرانيا. وليس المراد بجهلهم به جهلهم بنزول التوراة والانجيل بعده وهو ظاهر ولا ذهولهم عن أن السابق لا يكون تابعا لللاحق فإنه خلاف ما يدل عليه قوله تعالى " أفلا تعقلون فإنه يدل على أن الامر يكفي فيه أدنى تنبيه فهم عالمون بأنه كان سابقا على التوراة والانجيل لكنهم ذاهلون على مقتضى علمهم وهو أنه لا يكون حينئذ يهوديا ولا نصرانيا بل على دين الله الذي هو الاسلام لله. لكن اليهود مع ذلك قالوا إن الدين الحق لا يكون إلا واحدا وهو اليهودية
فلا محالة كان إبراهيم يهوديا وقالت النصارى مثل ذلك فنصرت إبراهيم وقد جهلوا في ذلك أمرا وليس بذهول وهو أن دين الله واحد وهو الاسلام لله وهو واحد مستكمل بحسب مرور الزمان واستعداد الناس من حيث تدرجهم بالكمال واليهودية والنصرانية شعبتان من شعب كمال الاسلام الذي هو أصل الدين والانبياء عليهم السلام بمنزلة بناة هذا البنيان لكل منهم موقعه فيما وضعه من الاساس ومما بنا عليه من هذا البنيان الرفيع. وبالجملة فاليهود والنصارى جهلوا أنه لا يلزم من كون إبراهيم مؤسسا للاسلام وهو الدين الاصيل الحق ثم ظهور دين حق باسم اليهودية أو النصرانية وهو اسم شعبة من شعب كماله ومراتب تمامه أن يكون إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا بل يكون مسلما
[ 253 ]
حنيفا متلبسا باسم الاسلام الذي أسسه وهو أصل اليهودية والنصرانية دون نفسهما والاصل لا ينسب إلى فرعه بل ينبغي أن يعطف الفرع عليه. وتسمية إبراهيم مسلما لا يهوديا ولا نصرانيا غير عده تابعا لدين النبي وشريعة القرآن ليرد الاشكال بأنه كما كان متقدما على نزول التوراة والانجيل فلا ينبغى أن يعد يهوديا أو نصرانيا كذلك كان متقدما على نزول القرآن وظهور الاسلام فلا ينبغي أن يعد مسلما (حذو النعل بالنعل). وذلك أن الاسلام بمعنى شريعة القرآن من الاصطلاحات الحادثة بعد نزول القرآن وانتشار صيت الدين المحمدي والاسلام الذي وصف به إبراهيم هو أصل التسليم لله سبحانه والخضوع لمقام ربوبيته فالاشكال غير متوجه من أصله. ولعل هذا الذي ذكرناه من وجه جهلهم بمعنى الدين الاصيل وكونه حقيقة ذات مراتب مختلفة ومتدرجة في الاستكمال هو المراد بقوله تعالى والله يعلم وأنتم لا تعلمون ما كان إبراهيم يهوديا الخ ويؤيده قوله إن أولى الناس بإبراهيم للذين
اتبعوه الآية وقوله تعالى في ذيل الآيات " قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما انزل على إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والاسباط وما أوتى موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه الآية: آل عمران - 85 على ما سيجئ من البيان. قوله تعالى ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا إلى آخر الآية قد مر تفسيره فيما مر وقد قيل إن اليهود والنصارى كما كانوا يدعون أن إبراهيم عليه السلام منهم وعلى دينهم كذلك عرب الجاهلية من الوثنية كانت تدعي أنهم على الدين الحنيف دين إبراهيم عليه السلام حتى كان أهل الكتاب يسمونهم الحنفاء ويدعون بالحنيفية الوثنية. ولما وصف الله سبحانه إبراهيم عليه السلام بقوله ولكن كان حنيفا وجب بيانه حتى لا يتوهم منه الوثنية فلذلك أردفه بقوله مسلما وما كان من المشركين أي كان على الدين المرضي عند الله تعالى وهو الاسلام وما كان من المشركين كعرب الجاهلية. قوله تعالى إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا الآية في موضع التعليل للكلام السابق وبيان للحق في المقام والمعنى والله العالم
[ 254 ]
أن هذا النبي المعظم إبراهيم لو أخذت النسبة بينه وبين من بعده من المنتحلين وغيرهم لكان الحق أن لا يعد تابعا لمن بعده بل يعتبر الاولوية به والاقربية منه والاقرب من النبي الذي له شرع وكتاب هم الذين يشاركونه في إتباع الحق والتلبس بالدين الذي جاء به والاولى بهذا المعنى بإبراهيم عليه السلام هذا النبي والذين آمنوا لانهم على الاسلام الذي اصطفى الله به إبراهيم وكذا كل من اتبعه دون من يكفر بآيات الله ويلبس الحق بالباطل. وفي قوله للذين اتبعوه تعريض لاهل الكتاب من اليهود والنصارى بنحو الكنايه أي لستم أولى بإبراهيم لعدم اتباعكم إياه في إسلامه لله.
وفي قوله وهذا النبي والذين آمنوا إفراد للنبى عليه السلام ومن اتبعه من المؤمنين من الذين اتبعوا إبراهيم اجلالا للنبي وصونا لمقامه أن يطلق عليه الاتباع كما يستشعر ذلك مثل قوله تعالى " اولئك الذين هدى الله فبهديهم اقتده: الانعام - 90 حيث لم يقل فبهم اقتده. وقد تمم التعليل والبيان بقوله والله ولي المؤمنين فإن ولاية إبراهيم (ولى الله) من ولاية الله والله ولي المؤمنين دون غيرهم الكافرين بآياته اللابسين الحق بالباطل. قوله تعالى ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون الطائفة الجماعة من الناس وكأن الاصل فيه أن الناس وخاصه العرب كانوا أولا يعيشون شعوبا وقبائل بدويين يطوفون صيفا وشتائا بماشيتهم في طلب الماء والكلاء وكانوا يطوفون وهم جماعة تحذرا من الغيلة والغارة فكان يقال لهم جماعة طائفة ثم اقتصر على ذكر الوصف (الطائفة) للدلالة على الجماعه. وأما كون أهل الكتاب لا يضلون إلا أنفسهم فإن أول الفضائل الانسانية الميل إلى الحق واتباعه فحب صرف الناس عن الحق إلى الباطل من جهة أنه من أحوال النفس وأخلاقها رذيلة نفسانية وبئست الرذيلة وإثم من آثامها ومعاصيها وبغيها بغير حق وماذا بعد الحق إلا الضلال فحبهم لاضلال المؤمنين وهم على الحق إضلال بعينه لانفسهم من حيث لا يشعرون. وكذا لو تمكنوا من بعضهم بإلقاء الشبهات فأضلوه بذلك فإنما يضلون أولا أنفسهم