تفسير الميزان - السيد الطباطبائي ج 1

تفسير الميزان

السيد الطباطبائي ج 1


[ 1 ]

الميزان في تفسير القرآن 1

[ 2 ]

تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره

[ 3 ]

الميزان في تفسير القران كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره المجلد الاول منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة

[ 4 ]

المقدمة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، والصلوة على من جعله شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا الى الله باذنه وسراجا منيرا، وعلى آله الذين أذهب عنهم الرجس أهل البيت وطهرهم تطهيرا. مقدمه: نعرف فيها مسلك البحث عن معاني آيات القرآن الكريم في هذا الكتاب بطريق الاختصار التفسير (وهو بيان معاني الايات القرآنية والكشف عن مقاصدها ومداليلها) من أقدم الاشتغالات العلمية التي تعهد من المسلمين، فقد شرع تاريخ هذا النوع من البحث والتنقير المسمى بالتفسير من عصر نزول القرآن كما يظهر من قوله تعالى وتقدس (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة الآية) البقرة - 151. وقد كانت الطبقة الاولى من مفسري المسلمين جماعة من الصحابة (والمراد بهم غير علي عليه السلام، فان له وللائمة من ولده نبأ آخر سنتعرض له) كابن عباس وعبد الله بن عمر وأبي وغيرهم اعتنوا بهذا الشأن، وكان البحث يومئذ لا يتجاوز عن بيان ما يرتبط، من الآيت بجهاتها الادبية وشأن النزول وقليل من الاستدلال بآية على آية وكذلك قليل من التفسير بالروايات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القصص ومعارف المبدء والمعاد وغيرها. وعلى هذا الوصف جرى الحال بين المفسرين من التابعين كمجاهد وقتادة وابن أبي ليلى والشعبي والسدي وغيرهم في القرنين الاولين من الهجرة، فإنهم لم يزيدوا على طريقة سلفهم من مفسري الصحابة شيئا غير انهم زادوا من التفسير بالروايات، (وبينها روايات دسها اليهود أو غيرهم)، فأوردوها في القصص والمعارف الراجعة إلى

[ 5 ]

الخلقة كابتداء السماوات وتكوين الارض والبحار وإرم شداد وعثرات الانبياء تحريف الكتاب واشياء أخر من هذا النوع، وقد كان يوجد بعض ذلك في المأثور عن الصحابة من التفسير والبحث ثم استوجب شيوع البحث الكلامي بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في زمن الخلفاء باختلاط المسلمين بالفرق المختلفة من أمم البلاد المفتوحة بيد المسلمين وعلماء الاديان والمذاهب المتفرقة من جهة. ونقل فلسفة يونان إلى العربية في السلطنة الاموية أواخر القرن الاول من الهجرة، ثم في عهد العباسيين، وانتشار البحث العقلي الفلسفي بين الباحثين من المسلمين من جهة أخرى ثانية. وظهور التصوف مقارنا لانتشار البحث الفلسفي وتمايل الناس ألى نيل المعارف الدينية من طريق المجاهدة والرياضة النفسانية دون البحث اللفظي والعقلي من جهة أخرى ثالثة بقاء جمع من الناس وهم أهل الحديث على التعبد المحض بالظواهر الدينية من غير بحث إلا عن اللفظ بجهاتها الادبية من جهة أخرى رابعة. ان اختلف الباحثون في التفسير في مسالكهم بعد ما عمل فيهم الانشعاب في لمذاهب ما عمل، ولم يبقى بينهم جامع في الرأي والنظر إلا لفظ لا إله إلا الله ومحمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واختلفوا في معنى الاسماء والصفات والافعال والسماوات وما فيها الارض وما عليها والقضاء والقدر والجبر والتفويض والثواب والعقاب وفي الموت وفي البرزخ والبعث والجنة والنار، وبالجملة في جميع ما تمسه الحقائق والمعارف الدينية ولو بعض المس، فتفرقوا في طريق البحث عن معاني الايات، وكل يتحفظ على متن ما اتخذه من المذهب والطريقة. فأما المحدثون، فاقتصروا على التفسير بالرواية عن السلف من الصحابد والتابعين فساروا وجدوا في لسير حيث ما يسير بهم المأثور ووقفوا فيا لم يؤثر فيه شئ ولم يظهر المعنى ظهورا لا يحتاج إلى البحث أخذا بقوله تعالى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا الآية) آل عمران - 7. وقد اخطأوا في ذلك فان الله سبحانه

[ 6 ]

لم يبطل حجة العقل في كتابه، وكيف يعقل ذلك وحجيته انما تثبت به ! ولم يجعل حجية في أقوال الصحابة والتابعين وانظارهم على اختلافها الفاحش، ولم يدع إلى السفسطة بتسليم المتناقضات والمتنافيات من الاقوال، ولم يندب الا إلى التدبر في آياتة، فرفع به أي اختلاف يترائى منها، وجعله هدى ونورا وتبيانا لكلشئ، فما بال النور يستنير بنور غيره ! وما شأن الهدى يهتدى بهداية سواه ! وكيف يتبين ما هو تبيان كلشئ بشئ دون نفسه !. واما المتكلمون فقد دعاهم الاقوال المذهبية على اختلافها أن يسيروا في التفسير على ما يوافق مذاهبهم باخذ ما وافق وتأويل ما خالف، على حسب ما يجوزه قول المذهب. واختيار المذاهب الخاصة واتخاذ المسالك والآراء المخصوصة وان كان معلولا لاختلاف الانظار العلمية أو لشئ آخر كالتقاليد والعصبيات القومية، وليس هيهنا محل الاشتغال بذلك، الا ان هذا الطريق من البحث أحرى به أن يسمى تطبيقا لا تفسيرا ففرق بين ان يقول الباحث عن معنى آية من الآيات: ما ذا يقول القرآن ؟ أو يقول: ما ذا يجب ان نحمل عليه الآية ؟ فان القول الاول يوجب ان ينسى كل امر نظري عند البحث، وان يتكى على ما ليس بنظري، والثاني يوجب وضع النظريات في المسألة وتسليمها وبناء البحث عليها، ومن المعلوم ان هذا النحو من البحث في الكلام ليس بحثا عن معناه في نفسه. وأما الفلاسفة، فقد عرض لهم ما عرض للمتكلمين من المفسرين من الوقوع في ورطة التطبيق وتأويل الآيات المخالفة بظاهرها للمسلمات في فنون الفلسفة بالمعنى الاعم اعني: الرياضيات والطبيعيات والالهيات والحكمة العملية، وخاصة المشائين، وقد تأولوا الآيات الواردة في حقائق ما وراء الطبيعة وآيات الخلقة وحدوث السموات والارض وآيات البرزخ وآيات المعاد، حتى أنهم ارتكبوا التأويل في الآيات التي لا تلائم الفرضيات والاصول الموضوعة التى نجدها في العلم الطبيعي: من نظام الافلاك الكلية والجزئية وترتيب العناصر والاحكام الفلكية والعنصرية إلى غير ذلك، مع انهم نصوا

[ 7 ]

على أن هذه الانظار مبتنية على اصول موضوعة لا بينة ولا مبينة. وأما المتصوفة، فإنهم لاشتغالهم بالسير في باطن الخلقة واعتنائهم بشأن الآيات الانفسية دون عالم الظاهر وآياته الآفاقية اقتصروا في بحثهم على التأويل، ورفضوا التنزيل، فاستلزم ذلك اجتراء الناس على التأويل، وتلفيق جمل شعرية والاستدلال من كل شئ على كل شئ، حتى آل الامر إلى تفسير الآيات بحساب الجمل ورد الكلمات إلى الزبر والبينات والحروف النورانية والظلمانية إلى غير ذلك. ومن الواضح أن القرآن لم ينزل هدى للمتصوفة خاصة، ولا أن المخاطبين به هم أصحاب علم الاعداد والاوفاق والحروف، ولا أن معارفه مبنية على أساس حساب الجمل الذي وضعه أهل التنجيم بعد نقل النجوم من اليونانية وغيرها إلى العربية. نعم قد وردت روايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمه أهل البيت عليهم السلام كقولهم: ان للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطنا إلى سبعة ابطن أو إلى سبعين بطنا الحديث. لكنهم (عليهم السلام) إعتبروا الظهر كما اعتبروا البطن، واعتنوا بأمر التنزيل كما اعتنوا بشأن التأويل، وسنبين في أوائل سورة آل عمران ان شاء الله: أن التأويل الذي يراد به المعنى المقصود الذي يخالف ظاهر الكلام من اللغات المستحدثة في لسان المسلمين بعد نزول القرآن وانتشار الاسلام، وان الذي يريده القرآن من لفظ التأويل فيما ورد فيه من الايات ليس من قبيل المعنى والمفهوم. وقد نشأ في هذه الاعصار مسلك جديد في التفسير وذلك أن قوما من منتحلي الاسلام في أثر توغلهم في العلوم الطبيعية وما يشابهها المبتنية على الحس والتجربة، والاجتماعية المبتنية على تجربة الاحصاء، مالوا إلى مذهب الحسيين من فلاسفة الاروبة سابقا، أو إلى مذهب أصالة العمل (لا قيمة للادراكات الاترتب العمل عليها بمقدار يعينه الحاجة الحيوية بحكم الجبر). فذكروا: ان المعارف الدينية لا يمكن أن تخالف الطريق الذي تصدقه العلوم وهو أن: (لا أصالة في الوجود إلا للمادة وخواصها المحسوسة) فما كان الدين يخبر عن وجوده مما يكذب العلوم ظاهره كالعرش والكرسي واللوح والقلم يجب أن يؤل تأويلا.

[ 8 ]

وما يخبر عن وجوده مما لا تتعرض العلوم لذلك كحقائق المعاد يجب أن يوجه بالقوانين المادية. وما يتكي عليه التشريع من الوحي والملك والشيطان والنبوة والرسالة والامامة وغير ذلك، إنما هي امور روحية، والروح مادية ونوع من الخواص المادية، والتشريع نبوغ خاص اجتماعي يبني قوانينه على الافكار الصالحة، لغاية إيجاد الاجتماع الصالح الراقي. ذكروا: أن الروايات، لوجود الخليط فيها لا تصلح للاعتماد عليها، إلا ما وافق الكتاب، وأما الكتاب فلا يجوز أن يبنى في تفسيره على الآراء والمذاهب السابقة المبتنية على الاستدلال من طريق العقل الذي أبطله العلم بالبناء على الحس والتجربة، بل الواجب أن يستقل بما يعطيه القرآن من التفسير إلا ما بينه العلم. هذه جمل ما ذكروه أو يستلزمه ما ذكروه، من اتباع طريق الحس والتجربة، فساقهم ذلك إلى هذا الطريق من التفسير، ولا كلام لنا هيهنا في اصولهم العلمية والفلسفية التي اتخذوها اصولا وبنوا عليها ما بنوا. وإنما الكلام في أن ما اوردوه على مسالك السلف من المفسرين (أن ذلك تطبيق وليس بتفسير) وارد بعينه على طريقتهم في التفسير، وإن صرحوا أنه حق التفسير الذي يفسر به القرآن بالقرآن. ولو كانوا لم يحملوا على القرآن في تحصيل معاني آياته شيئا، فما بالهم يأخذون الانظار العلمية مسلمة لا يجوز التعدي عنها ؟ فهم لم يزيدوا على ما أفسده السلف اصلاحا. وانت بالتأمل في جميع هذه المسالك المنقولة في التفسير تجد: ان الجميع مشتركة في نقص وبئس النقص، وهو تحميل ما انتجه الابحاث العلمية أو الفلسفية من خارج على مداليل الآيات، فتبدل به التفسير تطبيقا وسمي به التطبيق تفسيرا، وصارت بذلك حقائق من القرآن مجازات، وتنزيل عدة من الآيات تأويلات. ولازم ذلك (كما أومأنا إليه في أوائل الكلام) أن يكون القرآن الذي يعرف

[ 9 ]

نفسه (بأنه هدى للعالمين ونور مبين وتبيان لكل شئ) مهديا إليه بغيره ومستنيرا بغيره ومبينا بغيره، فما هذا الغير ! وما شأنه ! وبماذا يهدي إليه ! وما هو المرجع والملجا إذا اختلف فيه ! وقد اختلف واشتد الخلاف. وكيف كان فهذا الاختلاف لم يولده اختلاف النظر في مفهوم (مفهوم اللفظ المفرد أو الجملة بحسب اللغة والعرف العربي) الكلمات أو الآيات، فإنما هو كلام عربي مبين لا يتوقف في فهمه عربي ولا غيره ممن هو عارف باللغة واساليب الكلام العربي. وليس بين آيات القرآن (وهي بضع آلاف آية) آية واحدة ذات اغلاق وتعقيد في مفهومها بحيث يتحير الذهن في فهم معناها، وكيف ! وهو افصح الكلام ومن شرط الفصاحة خلو الكلام عن الاغلاق والتعقيد، حتى أن الآيات المعدودة من متشابه القرآن كالآيات المنسوخة وغيرها، في غاية الوضوح من جهة المفهوم، وإنما التشابه في المراد منها وهو ظاهر. وإنما الاختلاف كل الاختلاف في المصداق الذي ينطبق عليه المفاهيم اللفظية من مفردها ومركبها، وفي المدلول التصوري والتصديقي. توضيحه: ان الانس والعادة (كما قيل) يوجبان لنا ان يسبق إلى أذهاننا عند استماع الالفاظ معانيها المادية أو ما يتعلق بالمادة فإن المادة هي التي يتقلب فيها ابداننا وقوانا المتعلقة بها ما دمنا في الحيوة الدنيوية، فإذا سمعنا الفاظ الحيوة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والارادة والرضا والغضب والخلق والامر كان السابق إلى أذهاننا منها الوجودات المادية لمفاهيمها. وكذا إذا سمعنا الفاظ السماء والارض واللوح والقلم والعرش والكرسي والملك واجنحته والشيطان وقبيله وخيله ورجله إلى غير ذلك، كان المتبادر إلى افهامنا مصاديقها الطبيعية. وإذا سمعنا: إن الله خلق العالم وفعل كذا وعلم كذا وأراد أو يريد أو شاء وأو يشاء كذا قيدنا الفعل بالزمان حملا على المعهود عندنا. وإذا سمعنا نحو قوله: (ولدينا مزيد الآية) وقوله: (لا تخذناه من لدنا الآية)

[ 10 ]

وقوله: (وما عند الله خير الآية). وقوله: (إليه ترجعون الآية) قيدنا معنى الحضو بالمكان. وإذا سمعنا نحو قوله: (إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها الآية). أو قوله: (ونريد ان نمن الآية) أو قوله: (يريد الله بكم اليسر الآية) فهمنا: أن الجميع سنخ واحد من الارادة، لما إن الامر على ذلك فيما عندنا، وعلى هذا القياس. وهذا شأننا في جميع الالفاظ المستعملة، ومن حقنا ذلك، فإن الذي أوجب علينا وضع الفاظ إنما هي الحاجة الاجتماعية إلى التفهيم والتفهم، والاجتماع إنما تعلق به الانسان ليستكمل به في الافعال المتعلقة بالمادة ولواحقها، فوضعنا الالفاظ علائم لمسمياتها التي نريد منها غايات واغراضا عائدة الينا. وكان ينبغي لنا ان نتنبه: أن المسميات المادية محكومة بالتغير والتبدل بحسب تبدل الحوائج في طريق التحول والتكامل كما ان السراج أول ما عمله الانسان كان اناء فيه فتيلة وشئ من الدهن تشتعل به الفتيلة للاستضائه به في الظلمة، ثم لم يزل يتكامل حتى بلغ اليوم إلى السراج الكهربائي ولم يبق من اجزاء السراج المعمول أولا الموضوع بازائه لفظ السراج شئ ولا واحد. وكذا الميزان المعمول أولاو، الميزان المعمول اليوم لتوزين ثقل الحرارة مثلا. والسلاح المتخذ سلاحا أول يوم، السلاح المعمول اليوم إلى غير ذلك. فالمسميات بلغت في التغير إلى حيث فقدتجميع أجزائها السابقة ذاتا وصفة والاسم مع ذلك باق، وليس إلا لان المراد في التسمية إنما هو من الشئ غايتة، لا شكله وصورتة، فما دام غرض التوزين االاستضائة أو الدفاع باقيا كان اسم الميزان والسراج والسلاح وغيرها باقيا على حاله. فكان ينبغي لنا ان نتنبه أن المدار في صدق الاسم اشتمال المصداق على الغاية والغرض، لا جمود اللفظ على صورة واحدة، فذلك مما لا مطمع فيه البتة، ولكن العادة والانس منعانا ذلك، وهذا هو الذي دعى المقلدة من أصحاب الحديث من الحشوية والمجسمة ان يجمدوا على ظواهر الآيات في التفسير وليس في الحقيقة جمودا على الظواهر بل هو جمود على العادة والانس في تشخيص المصاديق.

[ 11 ]

لكن بين هذه الظواهر أنفسها امور تبين: أن الاتكاء والاعتماد على الانس والعادة في فهم معاني الآيات يشوش المقاصد منها ويختل به أمر الفهم كقوله تعالى: (ليس كمثله شئ الآية). وقوله: (لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير). وقوله: (سبحان الله عما يصفون). وهذا هو الذي دعى الناس أن لا يقتصروا على الفهم العادي والمصداق المأنوس به الذهن في فهم معاني الآيات كما كان غرض الاجتناب عالخطاء والحصول على النتائج المجهولة هو الذي دعى الانسان إلى ان يتمسك بذيل البحث العلمي، وأجاز ذلك للبحث ان يداخل في فهم حقائق القرآن وتشخيص مقاصدة العالية، وذلك على احد وجهين، احدهما: ان نبحث بحثا علميا أو فلسفيا أو غير ذلك عن مسألة من المسائل التي تتعرض له الآية حتى نقف على الحق في المسألة، ثم نأتي بالآية ونحملها عليه، وهذه طريقة يرتضيها البحث النظري، غير ان القرآن لا يرتضيها كما عرفت، وثانيهما: ان نفسر القرآن بالقرآن ونستوضح معنى الاية من نظيرتها بالتدبر المندوب إليه في نفس القرآن، ونشخص المصاديق ونتعرفها بالخواص التي تعطيها الايات، كما قال تعالى: (إنا نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكلشئ الاية). وحاشا أن يكون القرآن تبيانا لكلشئ ولا يكون تبيانا لنفسه، وقال تعالى: (هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان الآية). وقال تعالى: (إنا أنزلنا اليكم نورا مبينا الآية). وكيف يكون القرآن هدى وبينة وفرقانا ونورا مبينا للناس في جميع ما يحتاجون ولا يكفيهم في احتياجهم إليه وهو اشد الاحتياج ! وقال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا الاية). واي جهاد اعظم من بذل الجهد في فهم كتابه ! واي سبيل اهدى إليه من القرآن !. والايات في هذا المعنى كثيرة سنستفرغ الوسع فيها في بحث المحكم والمتشابه في اوائل سورة آل عمران. ثم إن النبي صلى الله عليه واله وسلم الذي علمه القرآن وجعله معلما لكتابه كما يقول تعالى: (نزل به الروح الامين على قلبك الاية). ويقول: (وانزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم الاية). ويقول: يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة الاية). وعترته واهل بيته (الذين اقامهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا المقام في الحديث المتفق

[ 12 ]

عليه بين الفريقين (إنى تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ابدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض). وصدقه الله تعالى في علمهم بالقرآن، حيث قال عز من قائل: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا). وقال: (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه الا إلمطهرون الاية) وقد كانت طريقتهم في التعليم والتفسير هذه الطريقة بعينها على ما وصل الينا من اخبارهم في التفسير. وسنورد ما تيسر لنا مما نقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وائمه أهل بيته في ضمن ابحاث روائية في هذا الكتاب، ولا يعثر المتتبع الباحث فيها على مورد واحد يستعان فيه على تفسير الاية بحجة نظرية عقلية ولا فرضية علمية. وقد قال النبي صلى الله عليه وإليه وسلم: (فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن، فانه شافع مشفع وما حل مصدق، من جعله امامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب تفصيل وبيان وتحصيل وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكمة وباطنه علم، ظاهره انيق وباطنه عميق، له نجوم وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة، ودليل على المعروف لمن عرف النصفة، فليرع رجل بصره، وليبلغ الصفة نظره ينجو من عطب ويخلص من نشب، فإن التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور، يحسن التخلص ويقل التربص). وقال علي عليه السلام: (يصف القرآن على ما في النهج) (ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض الخطبة). هذا هو الطريق المستقيم والصراط السوي الذي سلكه معلموا القرآن وهداته صلوات الله عليهم. وسنضع ما تيسر لنا بعون الله سبحانه من الكلام على هذه الطريقة في البحث عن الآيات الشريفة في ضمن بيانات، قد اجتنبنا فيها عن أن نركن إلى حجة نظرية فلسفية أو إلى فرضية علمية، أو إلى مكاشفة عرفانية. واحترزنا فيها عن أن نضع الانكتة ادبية يحتاج إليها فهم الاسلوب العربي أو مقدمة بديهية أو عملية لا يختلف فيها الافهام.

[ 13 ]

وقد تحصل من هذه البيانات الموضوعة على هذه الطريقة من البحث استفراغ الكلام فيما نذكره: (1) المعارف المتعلقة باسماء الله سبحانه وصفاته من الحيوة والعلم والقدرة والسمع والبصر والوحدة وغيرها، وأما الذات فستطلع أن القرآن يراه غنيا عن البيان. (2) المعارف المتعلقة بافعاله تعالى من الخلق والامر والارادة والمشية والهداية والاضلال والقضاء والقدر والجبر والتفويض والرضا والسخط، إلى غير ذلك من متفرقات الافعال. (3) المعارف المتعلقة بالوسائط الواقعة بينه وبين الانسان كالحجب واللوح والقلم والعرش والكرسي والبيت المعمور والسماء والارض والملائكة والشياطين والجن وغير ذلك. (4) المعارف المتعلقة بالانسان قبل الدنيا. (5) المعارف المتعلقة بالانسان في الدنيا كمعرفة تاريخ نوعه ومعرفة نفسه ومعرفة اصول اجتماعه ومعرفة النبوة والرسالة والوحي والالهام والكتاب والدين والشريعة، ومن هذا الباب مقامات الانبياء المستفادة من قصصهم المحكية. (6) المعارف المتعلقة بالانسان بعد الدنيا، وهو البرزخ والمعاد. (7) المعارف المتعلقة بالاخلاق الانسانية، ومن هذا الباب ما يتعلق بمقامات الاولياء في صراط العبودية من الاسلام والايمان والاحسان والاخبات والاخلاص وغير ذلك. وأما آيات الاحكام، فقد اجتنبنا تفصيل البيان فيها لرجوع ذلك إلى الفقه. وقد أفاد هذه الطريقة من البحث إرتفاع التأويل بمعنى الحمل على المعنى المخالف للظاهر من بين الآيات، وأما التأويل بالمعنى الذي يثبته القرآن في مواضع من الآيات، فسترى أنه ليس من قبيل المعاني. ثم وضعنا في ذيل البيانات متفرقات من ابحاث روائية نورد اما تيسر لنا ايراده من الروايات المنقولة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين من طرق العامة والخاصة، وأما الروايات الواردة عن مفسري الصحابة والتابعين. فإنها

[ 14 ]

على ما فيها من الخط والتناقض لا حجة فيها على مسلم. وسيطلع الباحث المتدبر في الروايات المنقولة عنهم عليه السلام، ان هذه الطريقة الحديثة التي بنيت عليها بيانات هذا الكتاب، أقدم الطرق المأثورة في التفسير التي سلكها معلموه سلام الله عليهم. ثم وضعنا ابحاثا مختلفة، فلسفية وعلمية وتأريخية واجتماعية وأخلاقية، حسب ما تيسر لنا من البحث، وقد أثرنا في كل بحث قصر الكلام على المقدمات المسانخة له، من غير تعد عن طور البحث. نسئل الله تعالى السداد والرشاد فانه خيرمعين وهاد الفقير إلى الله: محمد حسين الطباطبائي

[ 15 ]

(1 - سورة الحمد وهي سبع آيات) بسم الله الرحمن الرحيم - 1. الحمد لله رب العالمين - 2. الرحمن الرحيم - 3. مالك يوم الدين - 4. إياك نعبد واياك نستعين - 5. (بيان) قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الناس ربما يعملون عملا أو يبتدئون في عمل ويقرنونه باسم عزيز من أعزتهم أو كبير من كبرائهم، ليكون عملهم ذاك مبا ركا بذلك متشرفا، أو ليكون ذكرى يذكرهم به، ومثل ذلك موجود أيضا في باب التسمية فربما يسمون المولود الجديد من الانسان، أو شيئا مما صنعوه أو عملوه كدار بنوها أو مؤسسة اسسوها باسم من يحبونه أو يعظمونه، ليبقى لاسم ببقاء المسمى الجديد، ويبقى المسمى الاول نوع بقاء ببقاء الاسم كمن يسمى ولده باسم والده ليحيى بذلك ذكره فلا يزول ولا ينسى. وقد جرى كلامه تعالى هذا المجرى، فابتدأ الكلام باسمه عز إسمه، ليكون ما، يتضمنه من المعنى معلما باسمه مرتبطا به، وليكون أدبا يؤدب به العباد في الاعمال والافعال والاقوال، فيبتدئوا باسمه ويعملوا به، فيكون ما يعملونه معلما باسمه منعوتا بنعته تعالى مقصودا لاجله سبحانه فلا يكون العمل هالكا باطلا مبترا، لانه باسم الله الذي لا سبيل للهلاك والبطلان إليه. وذلك أن الله سبحانه يبين في مواضع من كلامه: أن ما ليس لوجهه الكريم هالك باطل، وأنه: سيقدم إلى كل عمل عملوه مما ليس لوجهه الكريم، فيجعله هبائا منثورا، ويحبط ما صنعوا ويبطل ما كانوا يعملون، وانه لا بقاء لشئ إلا وجهه الكريم فما عمل لوجهه الكريم وصنع باسمه هو الذي يبقى ولا يفنى، وكل أمر من الامور انما نصيبه من البقاء بقدر ما لله فيه نصيب، وهذا هو الذي يفيده ما رواه الفريقان عن

[ 16 ]

النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنه قال: [ كل امر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو ابتر الحديث ]. والابتر هو المنقطع الآخر، فالانسب ان متعلق الباء في البسملة ابتدئ بالمعنى الذي ذكرناه فقد ابتدء بها الكلام بما انه فعل من الافعال، فلا محالة له وحدة، ووحدة الكلام بوحدة مدلوله ومعناه، فلا محالة له معنى ذا وحدة، وهو المعنى المقصود افهامه من إلقاء الكلام، والغرض المحصل منه. وقد ذكر الله سبحانه الغرض المحصل من كلامه الذي هو جملة القرآن إذ قال تعالى: (قد جائكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله الآية) المائدة - 16. إلى غير ذلك من الآيات التي أفاد فيها: ان الغاية من كتابه وكلام هداية العباد، فالهداية جملة هي المبتدئة باسم الله الرحمن الرحيم، فهو الله الذي إليه مرجع العباد، وهو الرحمن يبين لعباده سبيل رحمته العامة للمؤمن والكافر، مما فيه خيرهم في وجودهم وحياتهم، وهو الرحيم يبين لهم سبيل رحمته الخاصة بالمؤمنين وهو سعادة آخرتهم ولقاء ربهم وقد قال تعالى: (ورحمتي وسعت كلشئ وفسأكتبها للذين يتقون). الاعراف - 156. فهذا بالنسبة إلى جملة القرآن. ثم إنه سبحانه كرر ذكر السورة في كلامه كثيرا كقوله تعالى: (فأتوا بسورة مثله) يونس - 38. وقوله: (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) هود - 13. وقوله تعالى: (إذا أنزلت سورة) التوبة - 86. وقوله: (سورة انزلناها وفرضناها) النور - 1. فبان لنا من ذلك: أن لكل طائفة من هذه الطوائف من كلامه (التي فصلها قطعا قطعا، وسمى كل قطعة سورة) نوعا من وحدة التأليف والتمام، لا يوجد بين أبعاض من سورة ولا بين سورة وسورة، ومن هنا نعلم: أن الاغراض والمقاصد المحصلة من السور مختلفة، وأن كل واحدة منها مسوقة لبيان معنى خاص ولغرض محصل لا تتم السورة إلا بتمامه، وعلي هذا فالبسملة في مبتدإ كل سورة راجعة إلى الغرض الخاص من تلك السورة. فالبسملة في سورة الحمد راجعة إلى غرض السورة و المعنى المحصل منه، والغرض الذي يدل عليه سرد الكلام في هذه السورة هو حمد الله باظهار العبودية له سبحانه بالافصاح

[ 17 ]

عن العبادة والاستعانة وسؤال الهداية، فهو كلام يتكلم به الله سبحانه نيابة عن العبد، ليكون متأدبا في مقام اظهار العبودية بما أدبه الله به. وإظهار العبودية من العبد هو العمل الذى يتلبس به العبد، والامر ذو البال الذي يقدم عليه، فالابتداء باسم الله سبحانه الرحمن الرحيم راجع إليه، فالمعنى بإسمك أظهر لك العبودية. فمتعلق الباء في بسملة الحمد الابتداء ويراد به تتميم الاخلاص في مقام العبودية بالتخاطب. وربما يقال انه الاستعانة ولا بأس به ولكن الابتداء انسب لاشتمال السورة على الاستعانة صريحا في قوله تعالى: (واياك نستعين). وأما الاسم، فهو اللفظ الدال على المسمى مشتق من السمة بمعنى العلامة أو من السمو بمعنى الرفعة وكيف كان فالذي يعرفه منه اللغة والعرف هو اللفظ الدال ويستلزم ذلك، أن يكون غير المسمى، وأما الاسلام بمعنى الذات مأخوذا بوصف من أوصافه فهو من الاعيان لامن الالفاظ وهو مسمى الاسم بالمعنى الاول كما ان لفظ العالم (من اسماء الله تعالى) اسم يدل على مسماه وهو الذات ماخوذة بوصف العلم وهو بعينه إسم بالنسبة إلى الذات الذي لا خبر عنه الا بوصف من اوصافه ونعت من نعوته والسبب في ذلك أنهم وجدوا لفظ الاسم موضوعا للدال على المسمى من الالفاظ، ثم وجدوا أن الاوصاف المأخوذة على وجه تحكي عن الذات وتدل عليه حالها حال اللفظ المسمى بالاسم في أنها تدل على ذوات خارجية، فسموا هذه الاوصاف الدالة على الذوات أيضا أسماء فانتج ذلك ان الاسم كما يكون أمرا لفظيا كذلك يكون أمرا عينيا، ثم وجدوا ان الدال على الذات القريب منه هو الاسم بالمعنى الثاني المأخوذ بالتحليل، وان الاسم بالمعنى الاول إنما يدل على الذات بواسطته، ولذلك سموا الذي بالمعنى الثاني إسما، والذي بالمعنى الاول اسم الاسم، هذا ولكن هذا كله أمر أدى إليه التحليل النظري ولا ينبغي أن يحمل على اللغة، فالاسم بحسب اللغة ما ذكرناه. وقد شاع النزاع بين المتكلمين في الصدر الاول من الاسلام في أن الاسم عين المسمى أو غيره وطالت المشاجرات فيه، ولكن هذا النوع من المسائل قد اتضحت اليوم إتضاحا يبلغ إلى حد الضرورة ولا يجوز الاشتغال بها بذكر ما قيل وما يقال فيها

[ 18 ]

والعناية بابطال ما هو الباطل وإحقاق ما هو الحق فيها، فالصفح عن ذلك اولى. وأما لفظ الجلالة فالله أصله الاله، حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال، وإله من أله الرجل يأله بمعني عبد، أو من اله الرجل أو وله الرجل أي تحير، فهو فعال بكسر الفاء بمعنى المفعول ككتاب بمعنى المكتوب سمي إلها لانه معبود أو لانه مما تحيرت في ذاته العقول، والظاهر انه علم بالغلبة، وقد كان مستعملا دائرا في الالسن قبل نزول القرآن يعرفه العرب الجاهلي كما يشعر به قوله تعالى: (ولئن سئلتهم من خلقهم ليقولن الله) الزخرف - 87، وقوله تعالى: (فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا) الانعام - 136. ومما يدل على كونه علما انه يوصف بجميع الاسماء الحسنى وسائر أفعاله المأخوذة من تلك الاسماء من غير عكس، فيقال: ألله لرحمن الرحيم ويقال: رحم الله وعلم الله، ورزق الله، ولا يقع لفظ الجلالة صفة لشئ منها ولا يؤخذ منه ما يوصف به شئ منها. ولما كان وجوده سبحانه، وهو آله كل شئ يهدي إلى إتصافه بجميع الصفات الكمالية كانت الجميع مدلولا عليها به بالالتزام، وصح ما قيل إن لفظ الجلالة اسم للذات الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال وإلا فهو علم بالغلبة لم تعمل فيه عناية غير ما يدل عليه مادة إله. واما الوصفان: الرحمن الرحيم، فهما من الرحمة، وهي وصف انفعالي وتأثر خاص يلم بالقلب عند مشاهدة من يفقد أو يحتاج إلى ما يتم به أمره فيبعث الانسان إلى تتميم نقصه ورفع حاجته، إلا ان هذا المعنى يرجع بحسب التحليل إلى الاعطاء والافاضة لرفع الحاجة وبهذا المعنى يتصف سبحانه بالرحمة. والرحمن، فعلان صيغة مبالغة تدل على الكثرة، والرحيم فعيل صفة مشبهة تدل على الثبات والبقاء ولذلك ناسب الرحمن ان يدل علي الرحمة الكثيرة المفاضة على المؤمن والكافر وهو الرحمة العامة، وعلى هذا المعنى يستعمل كثيرا في القرآن، قال تعالى: (الرحمن على العرش استوى) طه - 5. وقال (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا) مريم - 75. إلى غير ذلك، ولذلك أيضا ناسب الرحيم ان يدل على النعمة الدائمة والرحمة الثابتة الباقية التي تقاض على المؤمن كما قال تعالى: (وكان

[ 19 ]

بالمؤمنين رحيم) الاحزاب - 43. وقال تعالى: (إنه بهم رؤف رحيم) التوبة - 117. إلى غير ذلك، ولذلك قيل: ان الرحمن عام للمؤمن والكافر والرحيم خاص بالمؤمن. وقوله تعالى: الحمد لله، الحمد على ما قيل: هو الثناء على الجميل الاختياري والمدح اعم منه، يقال: حمدت فلانا أو مدحته لكرمه، ويقال: مدحت اللؤلؤ علي صفائه ولا يقال: حمدته على صفائه، واللام فيه للجنس أو الاستغراق والمال هيهنا واحد. وذلك ان الله سبحانه يقول: (ذلكم الله ربكم خالق كل شئ) غافر - 62. فأفاد أن كل ما هو شئ فهو مخلوق لله سبحانه، وقال: (الذي أحسن كل شئ خلقه) السجدة - 7 فأثبت الحسن لكل شئ مخلوق من جهة أنه مخلوق له منسوب إليه، فالحسن يدور مدار الخلق وبالعكس، فلا خلق إلا وهو حسن جميل باحسانه ولا حسن إلا وهو مخلوق له منسوب إليه، وقد قال تعالى: (هو الله الواحد القهار) الزمر - 4. وقال: (وعنت الوجوه للحي القيوم) طه - 111. فانباء انه لم يخلق ما خلق بقهر قاهر ولا يفعل ما فعل باجبار من مجبر بل خلقه عن علم واختيار فما من شئ إلا وهو فعل جميل اختياري له فهذا من جهة الفعل، وأما من جهة الاسم فقد قال تعالى: (الله لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى) طه - 8. وقال تعالى: (ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه) الاعراف - 180. فهو تعالى جميل في اسمائه وجميل في أفعاله، وكل جميل منه. فقد بان انه تعالى محمود على جميل اسمائه ومحمود على جميل أفعاله، وأنه ما من حمد يحمده حامد لامر محمود إلا كان لله سبحانه حقيقه لان الجميل الذي يتعلق به الحمد منه سبحانه، فلله سبحانه جنس الحمد وله سبحانه كل حمد. ثم ان الظاهر من السياق وبقرينة الالتفات الذي في قوله: (إياك نعبد لآية) إن السورة من كلام العبد، وانه سبحانه في هذه السورة يلقن عبده حمد نفسه وما ينبغي ان يتأدب به العبد عند نصب نفسه في مقام العبودية، وهو الذي يؤيده قوله: (الحمد لله)

[ 20 ]

وذلك إن الحمد توصيف، وقد نزه سبحانه نفسه عن وصف الواصفين من عباده حيث قال: (سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين) الصافات - 160. والكلام مطلق غير مقيد ولم يرد في كلامه تعالى ما يؤذن بحكاية الحمد عن غيره إلا ما حكاه عن عدة من أنبيائه المخلصين، قال تعالى في خطابه لنوح عليه السلام فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين) المؤمنون - 28. وقال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق) ابراهيم - 39. وقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بضعة مواضع من كلامه: (وقل الحمد لله) النمل - 93. وقال تعالى حكاية عن داود وسليمان عليه السلام (وقالا الحمد لله) النمل - 15. وإلا ما حكاه عن أهل الجنة وهم المطهرون من غل الصدور ولغو القول والتأثيم كقوله: (وآخر دعويهم أن الحمد لله رب العالمين) يونس - 10. وأما غير هذه الموارد فهو تعالى وان حكى الحمد عن كثير من خلقه بل عن جميعهم، كقوله تعالى: (والملائكة يسبحون بحمد ربهم) الشورى - 5. وقوله (ويسبح الرعد بحمده) الرعد - 13. وقوله (وإن من شئ إلا يسبح بحمده) الاسراء - 44. إلا أنه سبحانه شفع الحمد في جميعها بالتسبيح بل جعل التسبيح هو الاصل في الحكاية وجعل الحمد معه، وذلك أن غيره تعالى لا يحيط بجمال أفعاله وكمالها كما لا يحيطون بجمال صفاته وأسمائه التي منها جمال الافعال، قال تعالى: (ولا يحيطون به علما) طه - 110 فما وصفوه به فقد أحاطوا به وصار محدودا بحدودهم مقدرا بقدر نيلهم منه، فلا يستقيم ما أثنوا به من ثناء إلا من بعد أن ينزهوه ويسبحوه عن ما حدوه وقدروه بافهامهم، قال تعالى: (ان الله يعلم وانتم لا تعلمون) النحل - 74، وأما المخلصون من عباده تعالى فقد جعل حمدهم حمده ووصفهم وصفه حيث جعلهم مخلصين له، فقد بان ان الذي يقتضيه أدب العبودية ان يحمد العبد ربه بما حمد به نفسه ولا يتعدى عنه، كما في الحديث الذي رواه الفريقان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك الحديث) فقوله في أول هذه السورة: الحمد لله، تأديب بادب عبودي، ما كان للعبد

[ 21 ]

ان يقوله لو لا ان الله تعالى قاله نيابة وتعليما لما ينبغي الثناء به. وقوله تعالى: رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين اه (وقرا الاكثر ملك يوم الدين) فالرب هو المالك الذي يدبر امر مملوكه، ففيه معنى الملك، ومعنى الملك (الذي عندنا في ظرف الاجتماع) هو نوع خاص من الاختصاص وهو نوع قيام شئ بشئ يوجب صحة التصرفات فيه، فقولنا العين الفلانية ملكنا معناه: ان لها نوعا من القيام والاختصاص بنا يصح معه تصرفاتنا فيها ولو لا ذلك لم تصح تلك التصرفات وهذا في الاجتماع معنى وضعي اعتباري غير حقيقي وهو مأخوذ من معنى آخر حقيقي نسميه أيضا ملكا، وهو نحو قيام اجزاء وجودنا وقوانا بنا فان لنا بصرا وسمعا ويدا ورجلا، ومعنى هذا الملك انها في وجودها قائمة بوجودنا غير مستقلة دوننا بل مستقلة باستقلالنا ولنا ان نتصرف فيها كيف شئنا وهذا هو الملك الحقيقي. والذي يمكن انتسابه إليه تعالى بحسب الحقيقة هو حقيقة الملك دون الملك الاعتباري الذى يبطل ببطلان الاعتبار والوضع، ومن المعلوم ان الملك الحقيقي لا ينفك عن التدبير فان الشئ إذا افتقر في وجوده إلى شئ فلم يستقل عنه في وجوده لم يستقل عنه في آثار وجوده، فهو تعالى رب لما سواه لان الرب هو المالك المدبر وهو تعالى كذلك. واما العالمين: فهو جمع العالم بفتح اللام بمعنى ما يعلم به كالقالب والخاتم والطابع بمعنى ما يقلب به وما يختم به، وما يطبع به يطلق على جميع الموجودات وعلى كل نوع مؤلف الافراد والاجزاء منها كعالم الجماد وعالم النبات وعالم الحيوان وعالم الانسان وعلى كل صنف مجتمع الافراد ايضا كعالم العرب وعالم العجم وهذا المعنى هو الانسب لما يؤل إليه عد هذه الاسماء الحسنى حتى ينتهي إلى قوله مالك يوم الدين على ان يكون الدين وهو الجزاء يوم القيمة مختصا بالانسان أو الانس والجن فيكون المراد بالعالمين عوالم الانس والجن وجماعاتهم ويؤيده ورود هذا اللفظ بهذه العناية في القرآن كقوله تعالى (واصطفاك على نساء العالمين) آل عمران - 42. وقوله تعالى: (ليكون للعالمين نذيرا) فرقان - 1، وقوله تعالى: (أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من

[ 22 ]

العالمين) الاعراف - 80. واما مالك يوم الدين: فقد عرفت معنى المالك وهو المأخوذ من الملك بكسر الميم، واما الملك وهو مأخوذ من الملك بضم الميم، فهو الذي يملك النظام القومي وتدبيرهم دون العين، وبعبارة اخرى يملك الامر والحكم فيهم. وقد ذكر لكل من القرائتين، ملك ومالك، وجوه من التأييد غير ان المعنيين من السلطنة ثابتان في حقه تعالى، والذي تعرفه اللغة والعرف ان الملك بضم الميم هو المنسوب إلى الزمان يقال: ملك العصر الفلاني، ولا يقال مالك العصر الفلاني الا بعناية بعيدة، وقد قال تعالى: ملك يوم الدين فنسبه إلى اليوم، وقال ايضا: (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) غافر - 16. (بحث روائي) في العيون والمعاني عن الرضا عليه السلام في معنى قوله: بسم الله قال عليه السلام: يعني أسم نفسي بسمة من سمات الله وهى العبادة، قيل له: ما السمة ؟ قال العلامة. اقول وهذا المعنى كالمتولد من المعنى الذي اشرنا إليه في كون الباء للابتداء فان العبد إذا وسم عبادته باسم الله لزم ذلك ان يسم نفسه التي ينسب العبادة إليها بسمة من سماته، وفي التهذيب عن الصادق عليه السلام وفي العيون وتفسير العياشي عن الرضا عليه السلام: انها اقرب الى اسم الله الاعظم من ناظر العين إلى بياضها. اقول: وسيجئ معنى الرواية في الكلام على الاسم الاعظم. وفي العيون عن امير المؤمنين عليه السلام: انها من الفاتحة وان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرئها ويعدها آية منها، ويقول فاتحة الكتاب هي السبع المثاني. اقول: وروي من طرق اهل السنة والجماعة نظير هذا المعنى فعن الدار قطني عن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا قرأتم الحمد فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم، فانها ام القرآن والسبع المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم احدى آياتها. وفي الخصال عن الصادق عليه السلام قال: ما لهم ؟ قاتلهم الله عمدوا إلى اعظم آية في كتاب الله فزعموا انها بدعة إذا اظهروها.

[ 23 ]

وعن الباقر عليه السلام: سرقوا اكرم آية في كتاب الله، بسم الله الرحمن الرحيم، وينبغي الاتيان به عند افتتاح كل أمر عظيم أو صغير ليبارك فيه. اقول: والروايات عن أئمة أهل البيت في هذا المعنى كثيره، وهي جميعا تدل على ان البسملة جزء من كل سورة إلا سورة البراءة، وفي روايات اهل السنة والجماعة ما يدل على ذلك. ففي صحيح مسلم عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انزل علي آنفا سورة فقرا: بسم الله الرحمن الرحيم. وعن أبي داود عن ابن عباس (وقد صححوا سندها) قال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يعرف فصل السورة، (وفي رواية انقضاء السورة) حتى ينزل عليه، بسم الله الرحمن الرحيم. اقول: وروي هذا المعنى من طرق الخاصة عن الباقر عليه السلام. وفي الكافي والتوحيد والمعاني وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في حديث: والله إله كل شئ، الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بالمؤمنين خاصة، وروي عن الصادق عليه السلام: الرحمن اسم خاص بصفة عامة والرحيم اسم عام بصفة خاصة. اقول: قد ظهر مما مر وجه عموم الرحمن للمؤمن والكافر واختصاص الرحيم بالمؤمن، وأما كون الرحمن اسما خاصا بصفة عامة والرحيم اسما عاما بصفة خاصة فكأنه يريد به أن الرحمن خاص بالدنيا ويعم الكافر والمؤمن والرحيم عام للدنيا والآخرة ويخص المؤمنين، وبعبارة اخرى: الرحمن يختص بالافاضة التكوينية التي يعم المؤمن والكافر، والرحيم يعم التكوين والتشريع الذي بابه باب الهداية والسعادة، ويختص بالمؤمنين لان الثبات والبقاء يختص بالنعم التي تفاض عليهم والعاقبة للتقوي. وفي كشف الغمة عن الصادق عليه السلام قال: فقد لابي عليه السلام بغلة فقال لئن ردها الله علي لاحمدنه بمحامد يرضيها فما لبث أن أتى بها بسرجها ولجامها - فلما استوى وضم إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء وقال الحمد لله ولم يزد، ثم قال ما تركت ولا ابقيت

[ 24 ]

شيئا جعلت أنواع المحامد لله عز وجل، فما من حمد الا وهو داخل فيها. قلت: وفي العيون عن علي عليه السلام: انه سئل عن تفسيرها فقال: هو ان الله عرف عباده بعض نعمه عليهم جملا إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل لانها اكثر من ان تحصى أو تعرف، فقال: قولوا الحمد لله على ما انعم به علينا. اقول: يشير عليه السلام إلى ما مر من أن الحمد، من العبد وانما ذكره الله بالنيابة تأديبا وتعليما. (بحث فلسفي) البراهين العقلية ناهضة على ان استقلال المعلول وكل شأن من شئونه انما هو بالعلة، وان كل ما له من كمال فهو من اظلال وجود علته، فلو كان للحسن والجمال حقيقة في الوجود فكماله واستقلاله للواجب تعالى لانه العلة التي ينتهي إليه جميع العلل، والثناء والحمد هو اظهار موجود ما بوجوده كمال موجود آخر وهو لا محالة علته، وإذا كان كل كمال ينتهي إليه تعالى فحقيقة كل ثناء وحمد تعود وتنتهى إليه تعالى، فالحمد لله رب العالمين. قوله تعالى: إياك نعبد وإياك نستعين الآية، العبد هو المملوك من الانسان أو من كل ذي شعور بتجريد المعنى كما يعطيه قوله تعالى: (إن كل من في السموات والارض إلا اتي الرحمن عبدا) مريم - 93. والعبادة مأخوذة منه وربما تفرقت اشتقاقاتها أو المعاني المستعملة هي فيها لاختلاف الموارد، وما ذكره الجوهري في الصحاح أن أصل العبودية الخضوع فهو من باب الاخذ بلازم المعنى وإلا فالخضوع متعد باللام والعبادة متعدية بنفسها. وبالجملة فكأن العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام المملوكية لربه ولذلك كانت العبادة منافية للاستكبار وغير منافية للاشتراك فمن الجائزان يشترك ازيد من الواحد في ملك رقبة أو في عبادة عبد، قال تعالى: (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) غافر - 60 وقال تعالى: (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) الكهف - 110

[ 25 ]

فعد الاشراك ممكنا ولذلك نهى عنه، والنهى لا يمكن الا عن ممكن مقدور بخلاف الاستكبار عن العبادة فانه لا يجامعها. والعبودية انما يستقيم بين العبيد ومواليهم فيما يملكه الموالي منهم، واما ما لا يتعلق به الملك من شئون وجود العبد ككونه ابن فلان أو ذا طول في قامته فلا يتعلق به عبادة ولا عبودية، لكن الله سبحانه في ملكه لعباده على خلاف هذا النعت فلا ملكه يشوبه ملك ممن سواه ولا ان العبد يتبعض في نسبته إليه تعالى فيكون شئ منه مملوكا وشئ، آخر غير مملوك، ولا تصرف من التصرفات فيه جائز وتصرف آخر غير جائز كما ان العبيد فيما بيننا شئ منهم مملوك وهو افعالهم الاختيارية وشئ غير مملوك وهو الاوصاف الاضطرارية، وبعض التصرفات فيهم جائز كالاستفادة من فعلهم وبعضها غير جائز كقتلهم من غير جرم مثلا، فهو تعالى مالك على الاطلاق من غير شرط ولا قيد وغيره مملوك على الاطلاق من غير شرط ولا قيد فهناك حصر من جهتين، الرب مقصور في المالكية، والعبد مقصور في العبودية، وهذه هي التي يدل عليه قوله: اياك نعبد حيث قدم المفعول واطلقت العبادة. ثم ان الملك حيث كان مقتوم الوجود بمالكه كما عرفت مما مر، فلا يكون حاجبا عن مالكه ولا يحجب عنه، فانك إذا نظرت إلى دار زيد فان نظرت إليها من جهة انها دار امكنك ان تغفل عن زيد، وان نظرت إليها بما انها ملك زيد لم يمكنك الغفلة عن مالكها وهو زيد. ولكنك عرفت ان ما سواه تعالى ليس له الا المملوكية فقط وهذه حقيقتة فشئ منه في الحقيقة لا يحجب عنه تعالى، ولا النظر إليه يجامع الغفلة عنه تعالى، فله تعالى الحضور المطلق، قال سبحانه: (أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد ألا انهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شئ محيط) حم السجدة - 54 وإذا كان كذلك فحق عبادته تعالى ان يكون عن حضور من الجانبين. اما من جانب الرب عز وجل، فان يعبد عبادة معبود حاضر وهو الموجب للالتفات (المأخوذ في قوله تعالى اياك نعبد) عن الغيبة إلى الحضور.

[ 26 ]

واما من جانب العبد، فان يكون عبادته عبادة عبد حاضر من غير ان يغيب في عبادته فيكون عبادته صورة فقط من غير معنى وجسدا من غير روح، أو يتبعض فيشتغل بربه وبغيره، اما ظاهرا وباطنا كالوثنيين في عبادتهم لله ولاصنامهم معا، أو باطنا فقط كمن يشتغل في عبادته بغيره تعالى بنحو الغايات والاغراض، كأن يعبد الله وهمه في غيره، أو يعبد الله طمعا في جنة أو خوفا من نار فان ذلك كله من الشرك في العبادة الذي ورد عنه النهي، قال تعالى: (فا عبد الله مخلصا له الدين) الزمر - 2، وقال تعالى: (ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون) الزمر - 3. فالعبادة إنما تكون عبادة حقيقة، إذا كان على خلوص من العبد وهو الحضور الذي ذكرناه، وقد ظهر انه انما يتم إذا لم يشتغل بغيره تعالى في عمله فيكون قد اعطاه الشركة مع الله سبحانه في عبادته ولم يتعلق قلبه في عبادته رجائا أو خوفا هو الغاية في عبادته كجنة أو نار فيكون عبادته له لا لوجه الله، ولم يشتغل بنفسه فيكون منافيا لمقام العبودية التي لا تلائم الانية والاستكبار، وكأن الاتيان بلفظ المتكلم مع الغير للايماء إلى هذه النكتة فان فيه هضما للنفس بالغاء تعينها وشخوصها وحدها المستلزم لنحو من الانية والاستقلال بخلاف ادخالها في الجماعة وخلطها بسواد الناس فان فيه امحاء التعين واعفاء الاثر فيؤمن به ذلك. وقد ظهر من ذلك كله: ان اظهار العبودية بقوله: إياك نعبد، لا يشتمل على نقص من حيث المعنى ومن حيث الاخلاص الا ما في قوله: اياك نعبد من نسبة العبد العبادة إلى نفسه المشتمل بالاستلزام على دعوى الاستقلال في الوجود والقدرة والارادة مع انه مملوك والمملوك لا يملك شيئا، فكأنه تدورك ذلك بقوله تعالى واياك نستعين، أي انما ننسب العبادة إلى انفسنا وندعيه لنا مع الاستعانة بك لا مستقلين بذلك مدعين ذلك دونك، فقوله: إياك نعبد واياك نستعين، لابداء معنى واحد وهو العبادة عن اخلاص، ويمكن ان يكون هذا هو الوجه في اتحاد الاستعانة والعبادة في السياق الخطابي حيث قيل اياك نعبد واياك نستعين من دون ان يقال: اياك نعبد اعنا واهدنا الصراط المستقيم

[ 27 ]

واما تغيير السياق في قوله: اهدنا الصراط الآية. فسيجئ الكلام فيه ان شاء الله تعالى. فقد بان بما مر من البيان في قوله، اياك نعبد واياك نستعين الاية، الوجه في الالتفات من الغيبة إلى الحضور، والوجه في الحصر الذي يفيده تقديم المفعول، والوجه في اطلاق قوله: نعبد، والوجه في اختيار لفظ المتكلم مع الغير، والوجه في تعقيب الجملة الاولى بالثانية، والوجه في تشريك الجملتين في السياق، وقد ذكر المفسرون نكات اخرى في اطراف ذلك من ارادها فليراجع كتبهم وهو الله سبحانه غريم لا يقضى دينه.

[ 28 ]

اهدنا الصراط المستقيم - 6. صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين - 7. بيان قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم الخ، اما الهداية فيظهر معناها في ذيل الكلام على الصراط واما الصراط فهو والطريق والسبيل قريب المعنى، وقد وصف تعالى الصراط بالاستقامة ثم بين انه الصراط الذي يسلكه الذين انعم الله تعالى عليهم، فالصراط الذي من شأنه ذلك هو الذي سئل الهداية إليه وهو بمعنى الغاية للعبادة اي: ان العبد يسئل ربه ان تقع عبادته الخالصة في هذا الصراط. بيان ذلك: ان الله سبحانه قرر في كلامه لنوع الانسان بل لجميع من سواه سبيلا يسلكون به إليه سبحانه فقال تعالى: (يا ايها الانسان انك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه) الانشقاق - 6 وقال تعالى: (واليه المصير) التغابن - 3، وقال: (الا إلى الله تصير الامور) الشورى - 53، إلى غير ذلك من الآيات وهي واضحة الدلاله على ان الجميع سالكوا سبيل، وانهم سائرون إلى الله سبحانه. ثم بين: إن السبيل ليس سبيلا واحدا ذا نعت واحد بل هو منشعب إلى شعبتين منقسم إلى طريقين، فقال: الم اعهد اليكم يا بني آدم ان لا تعبدوا الشيطان انه لكم عدو مبين وان اعبدوني هذا صراط مستقيم) يس - 61. فهناك طريق مستقيم وطريق آخر ورائه، وقال تعالى (فاني قريب اجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) البقرة - 186، وقال تعالى: (ادعوني استجب لكم ان الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) غافر - 60، فبين تعالى: انه قريب من عباده وان الطريق الاقرب إليه تعالى طريق عبادته ودعائه، ثم قال تعالى في وصف الذين لا يؤمنون: (أولئك ينادون من مكان بعيد) السجدة - 44 فبين: ان غاية الذين لا يؤمنون في مسيرهم وسبيلهم بعيدة. فتبين: ان السبيل إلى الله سبيلان: سبيل قريب وهو سبيل المؤمنين وسبيل

[ 29 ]

بعيد وهو سبيل غيرهم فهذا نحو اختلاف في السبيل وهناك نحو آخر من الاختلاف، قال تعالى: (ان الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم ابواب السماء) الاعراف - 40 ولو لا طروق من متطرق لم يكن للباب معنى فهناك طريق من السفل إلى العلو، وقال تعالى: (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) طه - 81. والهوي هو السقوط إلى أسفل، فهناك طريق آخر آخذ في السفالة والانحدار، وقال تعالى: (ومن يتبدل الكفر بالايمان فقد ضل سواء السبيل) البقرة - 108، فعرف الضلال عن سواء السبيل بالشرك لمكان قوله: فقد ضل، وعند ذلك تقسم الناس في طرقهم ثلثه اقسام: من طريقه إلى فوق وهم الذين يؤمنون بآيات الله ولا يستكبرون عن عبادته، ومن طريقه إلى ألسفل، وهم المغضوب عليهم، ومن ضل الطريق وهو حيران فيه وهم الضالون، وربما اشعر بهذا التقسيم قوله تعالى: صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. والصراط المستقيم لا محالة ليس هو الطريقين الآخرين من الطرق الثلث اعني: طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين فهو من الطريق الاول الذي هو طريق المؤمنين غير المستكبرين إلا ان قوله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات) المجادلة - 11. يدل على ان نفس الطريق الاول ايضا يقع فيه انقسام. وبيانه: ان كل ضلال فهو شرك كالعكس على ما عرفت من قوله تعالى: (ومن يتبدل الكفر بالايمان فقد ضل سواء السبيل) البقرة - 108. وفي هذا المعنى قوله تعالى (أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا) يس - 62. والقرآن يعد الشرك ظلما وبالعكس، كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن الشيطان لما قضي الامر: (اني كفرت بما اشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم) ابراهيم - 22. كما يعد الظلم ضلالا في قوله تعالى (الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون) الانعام - 82 وهو ظاهر من ترتيب الاهتداء والامن من الضلال أو العذاب الذي يستتبعه الضلال، على ارتفاع الظلم ولبس الايمان به، وبالجملة الضلال والشرك والظلم امرها واحد وهي متلازمة مصداقا، وهذا هو المراد من قولنا: ان كل واحد منها معرف بالآخر أو

[ 30 ]

هو الآخر، فالمراد المصداق دون المفهوم. إذا عرفت هذا علمت ان الصراط المستقيم الذي هو صراط غير الضالين صراط لا يقع فيه شرك ولا ظلم البته كما لا يقع فيه ضلال البته، لا في باطن الجنان من كفر أو خطور لا يرضى به الله سبحانه، ولا في ظاهر الجوارح والاركان من فعل معصية أو قصور في طاعة، وهذا هو حق التوحيد علما وعملا إذ لا ثالث لهما وما ذا بعد الحق الا الضلال ؟ وينطبق على ذلك قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون) الانعام - 82، وفيه تثبيت للامن في الطريق ووعد بالاهتداء التام بنائا على ما ذكروه: من كون اسم الفاعل حقيقة في الاستقبال فليفهم فهذا نعت من نعوت الصراط المستقيم. ثم انه تعالى عرف هؤلاء المنعم عليهم الذين نسب صراط المستقيم إليهم بقوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول فاولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا) النساء - 68، وقد وصف هذا الايمان والاطاعة قبل هذه الآية بقوله (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ولو انا كتبنا عليهم ان اقتلوا انفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو انهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا) النساء - 66. فوصفهم بالثبات التام قولا وفعلا وظاهرا وباطنا على العبودية لا يشذ منهم شاذ من هذه الجهة ومع ذلك جعل هؤلاء المؤمنين تبعا لاولئك المنعم عليهم وفي صف دون صفهم لمكان مع ولمكان قوله: (وحسن اولئك رفيقا ولم يقل: فاولئك من الذين. ونظير هذه الآية قوله تعالى: (والذين آمنو بالله ورسله اولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونور هم) الحديد - 19. وهذا هو الحاق المؤمنين بالشهداء والصديقين في الآخرة، لمكان قوله: عند ربهم، وقوله: لهم اجرهم. فاؤلئك (وهم اصحاب الصراط المستقيم) أعلى قدرا وأرفع درجة ومنزلة من هؤلاء وهم المؤمنون الذين اخلصوا قلوبهم واعمالهم من الضلال والشرك والظلم، فالتدبر

[ 31 ]

في هذه الآيات يوجب القطع بان هؤلاء المؤمنين و (شأنهم هذا الشأن) فيهم بقية بعد لو تمت فيهم كانوا من الذين انعم الله عليهم، وارتقوا من منزلة المصاحبة معهم إلى درجة الدخول فيهم ولعلهم نوع من العلم بالله، ذكره في قوله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات) المجادلة - 11. فالصراط المستقيم أصحابه منعم عليهم بنعمة هي ارفع النعم قدرا، يربو على نعمة الايمان التام، وهذا ايضا نعت من نعوت الصراط المستقيم. ثم انه تعالى على انه كرر في كلامه ذكر الصراط والسبيل، لم ينسب لنفسه ازيد من صراط مستقيم واحد، وعد لنفسه سبلا كثيرة فقال عز من قائل: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) العنكبوت - 69. وكذا لم ينسب الصراط المستقيم إلى احد من خلقه إلا ما في هذه الآية (صراط الذين انعمت عليهم الاية) ولكنه نسب السبيل إلى غيره من خلقه، فقال تعالى: (قل هذه سبيلي ادعو إلى الله على بصيرة) يوسف - 108. وقال تعالى (سبيل من أناب الي) لقمان - 15. وقال: (سبيل المؤمنين) النساء - 114. ويعلم منها: ان السبيل غير الصراط المستقيم فانه يختلف ويتعدد ويتكثر باختلاف المتعبدين السالكين سبيل العبادة بخلاف الصراط المستقيم كما) يشير إليه قوله تعالى: (قد جائكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بأذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) المائدة - 16، فعد السبل كثيرة والصراط واحدا وهذا الصراط المستقيم اما هي السبل الكثيرة واما أنها تؤدي إليه باتصال بعضها إلى بعض واتحادها فيها. وأيضا قال تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) يوسف - 106. فبين ان من الشرك (وهو ضلال) ما يجتمع مع الايمان وهو سبيل، ومنه يعلم ان السبيل يجامع الشرك، لكن الصراط المستقيم لا يجامع الضلال كما قال: ولا الضالين. والتدبر في هذه الآيات يعطى ان كل واحد من هذه السبل يجامع شيئا من النقص أو الامتياز، بخلاف الصراط المستقيم، وان كلا منها هو الصراط المستقيم لكنه

[ 32 ]

غير الآخر ويفارقه لكن الصراط المستقيم يتحد مع كل منها في عين انه يتحد مع ما يخالفه، كما يستفاد من بعض الايات المذكورة وغيرها كقوله: (وان اعبدوني هذا صراط مستقيم) يس - 61. وقوله تعالى: (قل انني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة ابراهيم حنيفا) الانعام - 161. فسمى العبادة صراطا مستقيما وسمى الدين صراطا مستقيما وهما مشتركان بين السبل جميعا، فمثل الصراط المستقيم بالنسبة إلى سبل الله تعالى كمثل الروح بالنسبة إلى البدن، فكما ان للبدن اطوارا في حيوته هو عند كل طور غيره عند طور آخر، كالصبي والطفولية والرهوق والشباب والكهولة والشيب والهرم لكن الروح هي الروح وهي متحدة بها والبدن يمكن ان تطرء عليه اطوار تنافي ما تحبه وتقتضيه الروح لو خليت ونفسها بخلاف الروح فطرة الله التي فطر الناس عليها والبدن مع ذلك هو الروح أعني الانسان، فكذلك السبيل إلى الله تعالى هو صراط المستقيم إلا ان السبيل كسبيل المؤمنين وسبيل المنيبين وسبيل المتبعين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو غير ذلك من سبل الله تعالى، ربما اتصلت به آفة من خارج أو نقص لكنهما لا يعرضان الصراط المستقيم كما عرفت ان الايمان وهو سبيل ربما يجامع الشرك والضلال لكن لا يجتمع مع شئ من ذلك الصراط المستقيم، فللسبيل مراتب كثيرة من جهة خلوصه وشوبه وقربه وبعده، والجميع على الصراط المستقيم أو هي هو. وقد بين الله سبحانه هذا المعنى، اعني: اختلاف السبل إلى الله مع كون الجميع من صراطه المستقيم في مثل ضربه للحق والباطل في كلامه، فقال تعالى: (انزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فاما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض كذلك يضرب الله الامثال) الرعد - 17. فبين: ان القلوب والافهام في تلقي المعارف والكمال مختلفة، مع كون الجميع متكئة منتهية إلى رزق سماوي واحد، وسيجئ تمام الكلام في هذا المثل في سورة الرعد، وبالجملة فهذا ايضا نعت من نعوت الصراط المستقيم. 32 وإذا تأملت ما تقدم من نعوت الصراط المستقيم تحصل لك ان الصراط المستقيم

[ 33 ]

مهيمن على جميع السبل إلى الله والطرق الهادية إليه تعالى، بمعنى ان السبيل إلى الله إنما يكون سبيلا له موصلا إليه بمقدار يتضمنه من الصراط المستقيم حقيقة، مع كون الصراط المستقيم هاديا موصلا إليه مطلقا ومن غير شرط وقيد، ولذلك سماه الله تعالى صراطا مستقيما، فان الصراط هو الواضح من الطريق، مأخوذ من سرطت سرطا إذا بلعت بلعا، كأنه يبلع سالكيه فلا يدعهم يخرجوا عنه ولا يدفعهم عن بطنه، والمستقيم هو الذي يريد ان يقوم على ساق فيتسلط على نفسه وما لنفسه كالقائم الذي هو مسلط على أمره، ويرجع المعنى إلى انه الذي لا يتغير أمره ولا يختلف شأنه فالصراط المستقيم ما لا يتخلف حكمه في هدايته وايصاله سالكيه إلى غايته ومقصدهم قال تعالى: (فاما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما) النساء - 174. اي لا يتخلف امر هذه الهداية، بل هي على حالها دائما، وقال تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كانما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون وهذا صراط ربك مستقيما) الانعام - 126. أي هذه طريقته التي لا يختلف ولا يتخلف، وقال تعالى: (قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) الحجر - 42. أي هذه سنتي وطريقتي دائما من غير تغيير، فهو يجري مجرى قوله: (فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) الفاطر - 42. وقد تبين مما ذكرناه في معنى الصراط المستقيم امور. احدها: ان الطرق إلى الله مختلفة كمالا ونقصا وغلائا ورخصا، في جهة قربها من منبع الحقية والصراط المستقيم كالاسلام والايمان والعبادة والاخلاص والاخبات، كما ان مقابلاتها من الكفر والشرك والجحود والطغيان والمعصية كذلك، قال سبحانه (ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم اعمالهم وهم لا يظلمون) الاحقاف - 19. وهذا نظير المعارف الالهية التى تتلقاها العقول من الله فانها مختلفة باختلاف الاستعدادات ومتلونة بالوان القابليات على ما يفيده المثل المضروب في قوله تعالى:

[ 34 ]

(انزل من السماء ماء فسالت اودية بقدرها الآية). وثانيها: انه كما إن الصراط المستقيم مهيمن على جميع السبل، فكذلك اصحابه الذين مكنهم الله تعالى فيه وتولى امرهم وولاهم امر هداية عباده حيث قال: (وحسن اولئك رفيقا) النساء - 71. وقال تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوه وهم راكعون) المائدة - 55. والآية نازلة في أمير المؤمنين علي صلى الله عليه وآله وسلم بالاخبار المتواترة وهو عليه السلام اول فاتح لهذا الباب من الامة وسيجئ تمام الكلام في الآية. وثالثها: إن الهداية إلى الصراط يتعين معناها بحسب تعين معناه، وتوضيح ذلك ان الهداية هي الدلالة على ما في الصحاح، وفيه ان تعديتها لمفعولين لغة اهل الحجاز، وغيرهم يعدونه إلى المفعول الثاني بالى، وقوله هو الظاهر، وما قيل: ان الهداية إذا تعدت إلى المفعول الثاني بنفسها، فهي بمعنى الايصال إلى المطلوب، وإذا تعدت بالى فبمعنى إرائة، الطريق مستدلا بنحو قوله تعالى: (إنك لا تهدي من احببت ولكن الله يهدي من يشاء) القصص - 56. حيث ث إن هدايته بمعنى ارائة الطريق ثابتة فالمنفى غيرها وهو الايصال إلى المطلوب قال تعالى: (وهديناهم صراطا مستقيما) النساء - 70. وقال تعالى: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) الشورى - 52. فالهداية بالايصال إلى المطلوب تتعدى إلى المفعول الثاني بنفسها، والهداية بارائة الطريق بالى، وفيه ان النفي المذكور نفي لحقيقة الهداية التي هي قائمة بالله تعالى، لا نفي لها اصلا، وبعبارة اخرى هو نفي الكمال دون نفي الحقيقة، مضافا إلى انه منقوض بقوله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون: (يا قوم اتبعون اهدكم سبيل الرشاد) غافر - 38. فالحق انه لا يتفاوت معنى الهداية باختلاف التعدية، ومن الممكن ان يكون التعدية إلى المفعول الثاني من قبيل قولهم دخلت الدار. وبالجملة فالهداية هي الدلالة وارائة الغاية بارائة الطريق وهي نحو ايصال إلى المطلوب، وانما تكون من الله سبحانه، وسنته سنة الاسباب بإيجاد سبب ينكشف به المطلوب ويتحقق به وصول العبد إلى غايته في سيره، وقد بينه الله سبحانه بقوله: (فمن

[ 35 ]

يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام) الانعام - 125. وقوله: (ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء) الزمر - 23. وتعدية قوله تلين بالى لتضمين معنى مثل الميل والاطمينان، فهو ايجاده تعالى وصفا في القلب به يقبل ذكر الله ويميل ويطمئن إليه، وكما أن سبله تعالى مختلفة، فكذلك الهداية تختلف باختلاف السبل التي تضاف إليه فلكل سبيل هداية قبله تختص به. وإلى هذا الاختلاف يشير قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين) العنكبوت - 69. إذ فرق بين ان يجاهد العبد في سبيل الله، وبين أن يجاهد في الله، فالمجاهد في الاول يريد سلامة السبيل ودفع العوائق عنه بخلاف المجاهد في الثاني فانه إنما يريد وجه الله فيمده الله سبحانه بالهداية إلى سبيل دون سبيل بحسب استعداده الخاص به، وكذا يمده الله تعالى بالهداية إلى السبيل بعد السبيل حتى يختصه بنفسه جلت عظمته. ورابعها: ان الصراط المستقيم لما كان أمرا محفوظا في سبل الله تعالى على اختلاف مراتبها ودرجاتها، صح ان يهدي الله الانسان إليه وهو مهدي فيهديه من الصراط إلى الصراط، بمعنى أن يهيه إلى سبيل من سبله ثم يزيد في هدايته فيهتدي من ذلك السبيل إلى ما هو فوقها درجة، كما أن قوله تعالى: إهدنا الصراط (وهو تعالى يحكيه عمن هداه بالعبادة) من هذا القبيل، ولا يرد عليه: ان سؤال الهداية ممن هو مهتد بالفعل سؤال لتحصيل الحاصل وهو محال، وكذا ركوب الصراط بعد فرض ركوبه تحصيل للحاصل ولا يتعلق به سؤال، والجواب ظاهر. وكذا الايراد عليه: بأن شريعتنا أكمل وأوسع من جميع الجهات من شرائع الامم السابقة، فما معنى السؤال من الله سبحانه أن يهدينا إلى صراط الذين أنعم الله عليهم منهم ؟ وذلك ان كون شريعة اكمل من شريعة امر، وكون المتمسك بشريعة اكمل من المتمسك بشريعة امر آخر ورائه، فان المؤمن المتعارف من مؤمني شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم (مع كون شريعته اكمل وأوسع) ليس بأكمل من نوح وابراهيم عليهما السلام مع كون شريعتهما اقدم وأسبق، وليس ذلك إلا ان حكم الشرائع والعمل بها غير حكم الولاية الحاصلة من التمكن فيها والتخلق بها، فصاحب مقام التوحيد الخالص وان كان من اهل الشرائع السابقة أكمل وأفضل ممن لم يتمكن من مقام التوحيد ولم تستقر

[ 36 ]

حيوة المعرفة في روحه ولم يتمكن نور الهداية الالهية من قلبه، وإن كان عاملا بالشريعة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم التي هي اكمل الشرائع وأوسعها، فمن الجائز أن يستهدي صاحب المقام الداني من أهل الشريعة الكاملة ويسأل الله الهداية إلى مقام صاحب المقام العالي من أهل الشريعة التي هي دونها. ومن أعجب ما ذكر في هذا المقام، ما ذكره بعض المحققين من اهل التفسير جوابا عن هذه الشبهة: ان دين الله واحد وهو الاسلام، والمعارف الاصلية وهو التوحيد والنبوة والمعاد وما يتفرع عليها من المعارف الكلية واحد في الشرائع، وانما مزية هذه الشريعة على ما سبقها من الشرائع هي ان الاحكام الفرعية فيها اوسع واشمل لجميع شئون الحيوة، فهي اكثر عناية بحفظ مصالح العباد، على أن أساس هذه الشريعة موضوع على الاستدلال بجميع طرقها من الحكمة والموعظة والجدال الاحسن، ثم ان الدين وان كان دينا واحدا والمعارف الكلية في الجميع على السواء غير أنهم سلكوا سبيل ربهم قبل سلوكنا وتقدموا في ذلك علينا، فأمرنا الله النظر فيما كانوا عليه والاعتبار بما صاروا إليه هذا. أقول: وهذا الكلام مبنى على اصول في مسلك التفسير مخالفة للاصول التي يجب أن يبتني مسلك التفسير عليها، فانه مبني على أن حقائق المعارف الاصلية واحدة من حيث الواقع من غير اختلاف في المراتب والدرجات، وكذا سائر الكمالات الباطنية المعنوية، فأفضل الانبياء المقربين مع أخس المؤمنين من حيث الوجود وكماله الخارجي التكويني على حد سواء، وإنما التفاضل بحسب المقامات المجعولة بالجعل التشريعي من غير ان يتكي على تكوين، كما ان التفاضل بين الملك والرعية إنما هو بحسب المقام الجعلي الوضعي من غير تفاوت من حيث الوجود الانساني هذا. ولهذا الاصل أصل آخر يبنى عليه، وهو القول باصالة المادة ونفى الاصالة عما ورائها والتوقف فيه إلا في الله سبحانه بطريق الاستثناء بالدليل، وقد وقع في هذه الورطة من وقع لاحد امرين: إما القول بالاكتفاء بالحس اعتمادا على العلوم المادية وإما إلغاء التدبر في القرآن بالاكتفاء بالتفسير بالفهم العامي. وللكلام ذيل طويل سنورده في بعض الابحاث العلمية الآتية إن شاء الله تعالى.

[ 37 ]

وخامسها: ان مزية اصحاب الصراط المستقيم على غيرهم، وكذا صراطهم على سبيل غيرهم، إنما هو بالعلم لا العمل، فلهم من العلم بمقام ربهم ما ليس لغيرهم، إذ قد تبين مما مر: ان العمل التام موجود في بعض السبل التي دون صراطهم، فلا يبقى لمزيتهم إلا العلم، واما ما هذا العلم ؟ وكيف هو ؟ فنبحث عنه إن شاء الله في قوله تعالى: (انزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) الرعد - 17. ويشعر بهذا المعنى قوله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات) المجادلة - 11، وكذا قوله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) الملائكة - 10، فالذي يصعد إليه تعالى هو الكلم الطيب وهو الاعتقاد والعلم، واما العمل الصالح فشأنه رفع الكلم الطيب والامداد دون الصعود إليه تعالى، وسيجئ تمام البيان في البحث عن الآية. (بحث روائي) في الكافي عن الصادق عليه السلام في معنى العبادة قال: العبادة ثلاثة: قوم عبدوا الله خوفا، فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الاجراء، وقوم عبدوا الله عز وجل حبا، فتلك عبادة الاحرار، وهي افضل العبادة. وفي نهج البلاغة: ان قوما عبدوا الله رغبة، فتلك عبادة التجار، وان قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وان قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الاحرار. وفي العلل والمجالس والخصال، عن الصادق عليه السلام: ان الناس يعبدون الله على ثلاثة اوجه: فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء وهو الطمع، وآخرون يعبدونه خوفا من النار فتلك عبادة العبيد، وهي رهبة، ولكني اعبده حبا له عز وجل فتلك عبادة الكرام، لقوله عز وجل: (وهم من فزع يومئذ آمنون). ولقوله عز وجل (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)، فمن احب الله عز وجل

[ 38 ]

احبه، ومن احبه الله كان من الآمنين، وهذا مقام مكنون لا يمسه إلا المطهرون. اقول: وقد تبين معنى الروايات مما مر من البيان، وتوصيفهم عليهم السلام عبادة الاحرار تارة بالشكر وتارة بالحب، لكون مرجعهما واحدا، فان الشكر وضع الشئ المنعم به في محله، والعبادة شكرها ان تكون لله الذي يستحقها لذاته، فيعبد الله لانه الله، اي لانه مستجمع لجميع صفات الجمال والجلال بذاته، فهو الجميل بذاته المحبوب لذاته، فليس الحب إلا الميل إلى الجمال والانجذاب نحوه، فقولنا فيه تعالى هو معبود لانه هو، وهو معبود لانه جميل محبوب، وهو معبود لانه منعم مشكور بالعبادة يرجع جميعها إلى معنى واحد. وروي بطريق عامي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: إياك نعبد الاية، يعني: لا نريد منك غيرك ولا نعبدك بالعوض والبدل: كما يعبدك الجاهلون بك المغيبون عنك. اقول: والرواية تشير إلى ما تقدم، من استلزام معنى العبادة للحضور وللاخلاص الذي ينافي قصد البدل. وفي تحف العقول عن الصادق عليه السلام في حديث: ومن زعم انه يعبد بالصفة لا بالادراك فقد أحال على غائب، ومن زعم انه يعبد الصفة والموصوف فقد أبطل التوحيد لان الصفة غير الموصوف، ومن زعم انه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغر بالكبير، وما قدروا الله حق قدره. الحديث. وفي المعاني عن الصادق عليه السلام في معنى قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم يعني ارشدنا إلى لزوم الطريق المؤدي إلى محبتك، والمبلغ إلى جنتك، والمانع من أن نتبع اهواءنا فنعطب، أو ان نأخذ بارائنا فنهلك. وفي المعاني ايضا عن علي عليه السلام: في الآية، يعني، ادم لنا توفيقك الذي اطعناك به في ماضي ايامنا، حتى نطيعك كذلك في مستقبل اعمارنا. اقول: والروايتان وجهان مختلفان في الجواب عن شهبة لزوم تحصيل الحاصل من سؤال الهداية للمهدي، فالرواية الاولى ناظرة إلى اختلاف مراتب الهداية مصداقا والثانية إلى اتحادها مفهوما.

[ 39 ]

وفي المعاني أيضا عن علي عليه السلام: الصراط المستقيم في الدنيا ما قصر عن الغلو، وارتفع عن التقصير واستقام، وفي الآخرة طريق المؤمنين إلى الجنة. وفي المعاني أيضا عن علي عليه السلام: في معنى صراط الذين الآية: اي: قولوا: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك، لا بالمال والصحة، فانهم قد يكونون كفارا أو فساقا، قال: وهم الذين قال الله: " ومن يطع الله والرسول فاؤلئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن اولئك رفيقا). وفي العيون عن الرضا عليه السلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: قال الله عز وجل: قسمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سئل، إذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله جل جلاله بدء عبدي باسمي، وحق علي ان اتمم له اموره، وابارك له في احواله، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال الله جل جلاله: حمدني عبدي، وعلم ان النعم التي له من عندي وان البلايا التي دفعت عنه بتطولي، أشهدكم أني اضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة وأدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا، وإذا قال الرحمن الرحيم، قال الله جل جلاله: شهد لي عبدي اني الرحمن الرحيم اشهدكم لاوفرن من رحمتي حظه ولاجز لن من عطائي نصيبه، فإذا قال: مالك يوم الدين قال الله تعالى: أشهدكم، كما اعترف بأني أنا المالك يوم الدين، لاسهلن يوم الحساب حسابه، ولا تقبلن حسناته ولا تجاوزن عن سيئاته، فإذا قال: إياك نعبد، قال الله عز وجل: صدق عبدي، إياى يعبد اشهدكم لاثيبنه على عبادته ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادتة لي، فإذا قال: وإياك نستعين قال الله تعالى: بي استعان عبدي والي التجأ، اشهدكم لاعيننه على أمره، ولاغيثنه في شدائده ولآخذن بيده يوم نوائبه، فإذا قال: إهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة، قال الله عز وجل: هذا لعبدي ولعبدي ما سئل، وقد استجبت لعبدي واعطيته ما امل وآمنته مما منه وجل. اقول: وروى قريبا منه الصدوق في العلل عن الرضا عليه السلام، والرواية كما ترى

[ 40 ]

تفسر سورة الفاتحة في الصلوة فهي تؤيد ما مر مرارا أن السورة كلام له سبحانه النيابة عن عبده في ما يذكره في مقام العبادة واظهار العبودية من الثناء لربه واظهار عبادته، فهى سورة موضوعة للعبادة، وليس في القرآن سورة تناظرها في شأنها واعنى بذلك: اولا: ان السورة بتمامها كلام تكلم به الله سبحانه في مقام النيابة عن عبده فيما يقوله إذا وجه وجهه إلى مقام الربوبية ونصب نفسه في مقام العبودية. وثانيا: انها مقسمة قسمين، فنصف منها لله ونصف منها للعبد. وثالثا: أنها مشتملة على جميع المعارف القرآنية على ايجازها واختصارها فان القرآن على سعته العجيبة في معارفه الاصلية وما يتفرع عليها من الفروع من اخلاق واحكام في العبادات والمعاملات والسياسات والاجتماعيات ووعد ووعيد وقصص وعبر، يرجع جمل بياناتها إلى التوحيد والنبوة والمعاد وفروعاتها، وإلى هداية العباد إلى ما يصلح به اولاهم وعقباهم، وهذه السورة كما هو واضح تشتمل على جميعها في أوجز لفظ واوضح معنى. وعليك ان تقيس ما يتجلى لك من جمال هذه السورة التي وضعها الله سبحانه في صلوة المسلمين بما يضعه النصارى في صلوتهم من الكلام الموجود في انجيل متى: (6 - 9 - 13) وهو ما نذكره بلفظه العربي، (أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيتك كما في اسماء كذلك على الارض، خبزنا كفافنا، أعطنا اليوم، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين الينا، ولا تدخلنا في تجربة ولكن نجنا من الشرير آمين). تأمل في المعاني التي تفيدها الفاظ هذه الجمل بعنوان انها معارف سماوية، وما يشتمل عليه من الادب العبودي، إنها تذكر أولا: أن اباهم (وهو الله تقدس اسمه) في السموات ! ! ثم تدعو في حق الاب بتقدس اسمه واتيان ملكوته ونفوذ مشيتة في الارض كما هي نافذة في السماء، ولكن من الذي يستجيب هذا الدعاء الذي هو بشعارات الاحزاب السياسية اشبه ؟ ثم تسئل الله اعطاء خبز اليوم ومقابلة المغفرة بالمغفرة، و

[ 41 ]

جعل الاغماض عن الحق في مقابل الاغماض، وما ذا هو حقهم لو لم يجعل الله لهم حقا ؟ وتسئله ان لا يمتحنهم بل ينجيهم من الشرير، ومن المحال ذلك، فالدار دار الامتحان والاستكمال وما معنى النجاة لولا الابتلاء والامتحان ؟ ثم اقض العجب مما ذكره بعض المستشرقين (1) من علماء الغرب وتبعه بعض من المنتحلين: أن الاسلام لا يربو على غيره في المعارف، فان جميع شرائع الله تدعو إلى التوحيد وتصفية النفوس بالخلق الفاضل والعمل الصالح، وإنما تتفاضل الاديان في عراقة ثمراتها الاجتماعية ! ! (بحث آخر روائي) في الفقيه وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام قال: الصراط المستقيم أمير المؤمنين عليه السلام. وفي المعاني عن الصادق عليه السلام قال: هي الطريق إلى معرفة الله، وهما صراطان صراط في الدنيا وصراط في الآخرة، فاما الصراط في الدنيا فهو الامام المفترض الطاعة، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه مر على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه في الآخرة فتردى في نار جهنم. وفي المعاني ايضا عن السجاد عليه السلام قال: ليس بين الله وبين حجته حجاب، ولا لله دون حجته ستر، نحن ابواب الله ونحن الصراط المستقيم ونحن عيبة علمه، ونحن تراجمة وحيه ونحن أركان توحيده ونحن موضع سره. وعن ابن شهر آشوب عن تفسير وكيع بن الجراح عن الثوري عن السدي، عن اسباط ومجاهد، عن ابن عباس في قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم، قال: قولوا معاشر العباد ! ارشدنا إلى حب محمد صلى الله عليه وآله وسلم واهل بيته عليه السلام. اقول: وفي هذه المعاني روايات أخر، وهذه الاخبار من قبيل الجري، وعد المصداق للآية، واعلم ان الجري و (كثيرا ما نستعمله في هذا الكتاب) اصطلاح مأخوذ من قول أئمة أهل البيت عليه السلام.


القيس الفاضل كوستار لبون في تاريخ تمدن الاسلام. (*)

[ 42 ]

ففي تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الرواية، ما في القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن وما فيها حرف إلا وله حد، ولكل حد مطلع ما يعنى بقوله ظهر وبطن ؟ قال ؟ ظهره تنزيله وبطنه تأويله، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد، يجري كما يجري الشمس والقمر، كلما جاء منه شئ وقع الحديث. وفي هذا المعنى روايات أخر، وهذه سليقة أئمه أهل البيت فإنهم عليه السلام يطبقون الآية من القرآن على ما يقبل ان ينطبق عليه من الموارد وان كان خارجا عن مورد النزول، والاعتبار يساعده، فان القرآن نزل هدى للعالمين يهديهم إلى واجب الاعتقاد وواجب الخلق وواجب العمل، وما بينه من المعارف النظرية حقائق لا تختص بحال دون حال ولا زمان دون زمان، وما ذكره من فضيلة أو رذيلة أو شرعه من حكم عملي لا يتقيد بفرد دون فرد ولا عصر دون عصر لعموم التشريع. وما ورد من شأن النزول (وهو الامر أو الحادثة التي تعقب نزول آية أو آيات في شخص أو واقعة) لا يوجب قصر الحكم على الواقعة لينقضي الحكم بانقضائها ويموت بموتها لان البيان عام والتعليل مطلق، فان المدح النازل في حق افراد من المؤمنين أو الذم النازل في حق آخرين معللا بوجود صفات فيهم، لا يمكن قصرهما على شخص مورد النزول مع وجود عين تلك الصفات في قوم آخر بعدهم وهكذا، والقرآن ايضا يدل عليه، قال تعالى: (يهدي به الله من اتبع رضوانه) المائدة - 16 - وقال: (وانه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) حم سجده - 42. وقال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر - 9. والروايات في تطبيق الآيات القرآنية عليهم عليه السلام أو على اعدائهم اعني: روايات الجري، كثيرة في الابواب المختلفة، وربما تبلغ المئين، ونحن بعد هذا التنبيه العام نترك ايراد أكثرها في الابحاث الروائية لخروجها عن الغرض في الكتاب، إلا ما تعلق بها غرض في البحث فليتذكر.

[ 43 ]

(سورة البقرة وهي مأتان وست وثمانون آية) بسم الله الرحمن الرحيم الم - 1. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين - 2. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون - 3. والذين يؤمنون بما انزل اليك وما انزل من قبلك وبالاخرة هم يوقنون - 4. أولئك هدي من ربهم وأولئك هم المفلحون - 5. (بيان) لما كانت السورة نازلة نجوما لم يجمعها غرض واحد إلا ان معظمها تنبئ عن غاية واحدة محصلة وهو بيان ان من حق عبادة الله سبحانه أن يؤمن عبده بكل ما أنزله بلسان رسله من غير تفرقة بين وحي ووحي ولا بين رسول ورسول ولا غير ذلك، ثم تقريع الكافرين والمنافقين وملامة أهل الكتاب بما ابتدعوه من التفرقة في دين الله والتفريق بين رسله، ثم التخلص إلى بيان عدة من الاحكام كتحويل القبلة واحكام الحج والارث والصوم وغير ذلك. قوله تعالى: ألم، سيأتي بعض ما يتعلق من الكلام بالحروف المقطعة التي في اوائل السور، في اول سورة الشورى ان شاء الله، وكذلك الكلام في معنى هداية القرآن ومعنى كونه كتابا. وقوله تعالى: هدى للمتقين الذين يؤمنون الخ، المتقون هم المؤمنون، وليست التقوى من الاوصاف الخاصة لطبقة من طبقاتهم اعني: لمرتبة من مراتب الايمان حتى تكون مقاما من مقاماته نظير الاحسان والاخبات والخلوص، بل هي صفة مجامعة لجميع مراتب الايمان إذا تلبس الايمان بلباس التحقق، والدليل على ذلك انه تعالى لا يخص بتوصيفه طائفة خاصة من طوائف المؤمنين على اختلاف طبقاتهم ودرجاتهم والذي اخذه تعالى من الاوصاف المعرفة للتقوى في هذه الآيات التسع عشرة التي يبين فيها

[ 44 ]

حال المؤمنين والكفار والمنافقين، خمس صفات، وهي الايمان بالغيب، واقامة الصلوة، والانفاق مما رزق الله سبحانه، والايمان بما انزله على انبيائه، والايقان بالآخرة، وقد وصفهم بانهم على هدى من ربهم فدل ذلك على ان تلبسهم بهذه الصفات الكريمة بسبب تلبسهم بلباس الهداية من الله سبحانه، فهم انما صاروا متقين اولي هذه الصفات بهداية منه تعالى، ثم وصف الكتاب بانه هدى لهؤلاء المتقين بقوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) فعلمنا بذلك: ان الهداية غير الهداية، وان هؤلاء وهم متقون محفوفون بهدايتين، هداية اولى بها صاروا متقين، وهداية ثانية اكرمهم الله سبحانه بها بعد التقوى وبذلك صحت المقابلة بين المتقين وبين الكفار والمنافقين، فانه سبحانه يجعلهم في وصفهم بين ضلالين وعمائين، ضلال اول هو الموجب لاوصافهم الخبيثة من الكفر والنفاق، وضلال ثان يتأكد به ضلالهم الاول، ويتصفون به بعد تحقق الكفر والنفاق كما يقوله تعالى في حق الكفار: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى ابصارهم غشاوة) البقرة - 7، فنسب الختم إلى نفسه تعالى والغشاوة إلى انفسهم، وكما يقوله في حق المنافقين: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) البقرة - 10 فنسب المرض الاول إليهم والمرض الثاني إلى نفسه على حد ما يستفاد من قوله تعالى: (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به الا الفاسقين) البقرة - 26، وقوله تعالى: (فلما زاغوا ازاغ الله قلوبهم) الصف - 5. وبالجملة المتقون واقعون بين هدايتين، كما ان الكفار والمنافقين واقعون بين ضلالين. ثم ان الهداية الثانية لما كانت بالقرآن فالهداية الاولى قبل القرآن وبسبب سلامة الفطرة، فان الفطرة إذا سلمت لم تنفك من ان تتنبه شاهدة لفقرها وحاجتها إلى امر خارج عنها، وكذا احتياج كل ما سواها مما يقع عليه حس أو وهم أو عقل إلى امر خارج يقف دونه سلسلة الحوائج، فهي مؤمنة مذعنة بوجود موجود غائب عن الحس منه يبدء الجميع واليه ينتهي ويعود، وانه كما لم يهمل دقيقة من دقائق ما يحتاج إليه الخلقة كذلك لا يهمل هداية الناس إلى ما ينجيهم من مهلكات الاعمال والاخلاق، وهذا هو

[ 45 ]

الاذعان بالتوحيد والنبوة والمعاد وهي اصول الدين، ويلزم ذلك استعمال الخضوع له سبحانه في ربوبيتة، واستعمال ما في وسع الانسان من مال وجاه وعلم وفضيلة لاحياء هذا الامر ونشره، وهذان هما الصلاة والانفاق. ومن هنا يعلم: ان الذي اخذه سبحانه من اوصافهم هو الذي يقضي به الفطرة إذا سلمت وانه سبحانه وعدهم انه سيفيض عليهم امرا سماه هداية، فهذه الاعمال الزاكية منهم متوسطة بين هدايتين كما عرفت، هداية سابقة وهداية لاحقة، وبين الهدايتين يقع صدق الاعتقاد وصلاح العمل، ومن الدليل على أن هذه الهداية الثانية من الله سبحانه فرع الاولى، آيات كثيرة كقوله تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الآخرة) ابراهيم - 27. وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به) الحديد - 28. وقوله تعالى: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم) محمد صلى الله عليه وآله وسلم - 7. وقوله تعالى: والله لا يهدي القوم الظالمين) الصف - 7. وقوله تعالى: (والله لا يهدي القوم الفاسقين) الصف - 5. إلى غير ذلك من الآيات. والامر في ضلال الكفار والمنافقين كما في المتقين على ما سيأتي انشاء الله. وفي الآيات اشارة إلى حيوة اخرى للانسان كامنة مستبطنة تحت هذه الحيوة الدنيوية، وهي الحيوة التي بها يعيش الانسان في هذه الدار و بعد الموت وحين البعث، قال تعالى: (أو من كان ميتا فاحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) الانعام - 123 وسيأتي الكلام فيه انشاء الله. وقوله سبحانه: يؤمنون الايمان، تمكن الاعتقاد في القلب ماخوذ من الامن كأن المؤمن يعطي لما امن به الامن من الريب والشك وهو آفة الاعتقاد، والايمان كما مر معنى ذو مراتب، إذ الاذعان ربما يتعلق بالشئ نفسه فيترتب عليه اثره فقط، وربما يشتد بعض الاشتداد فيتعلق ببعض لوازمه، وربما يتعلق بجميع لوازمه فيستنتج منه ان للمؤمنين طبقات على حسب طبقات الايمان. وقوله سبحانه: بالغيب، الغيب خلاف الشهادة وينطبق على ما لا يقع عليه الحس، وهو الله سبحانه وآياته الكبرى الغائبة عن حواسنا، ومنها الوحي هو

[ 46 ]

الذي اشير إليه بقوله: (والذين يؤمنون بما انزل اليك وما انزل من قبلك) فالمراد بالايمان بالغيب في مقابل الايمان بالوحي والايقان بالآخرة، هو الايمان بالله تعالى ليتم بذلك الايمان بالاصول الثلاثة للدين، والقرآن يؤكد القول على عدم القصر على الحس فقط ويحرص على اتباع سليم العقل وخالص اللب. وقوله سبحانه: وبالاخرة هم يوقنون، العدول في خصوص الاذعان بالاخرة عن الايمان إلى الايقان، كأنه للاشارة إلى أن التقوى لا تتم إلا مع اليقين بالاخرة الذي لا يجامع نسيانها، دون الايمان المجرد، فان الانسان ربما يؤمن بشئ ويذهل عن بعض لوازمه فيأتي بما ينافيه، لكنه إذا كان على علم وذكر من يوم يحاسب فيه على الخطير واليسير من اعماله لا يقتحم معه الموبقات ولا يحوم حوم محارم الله سبحانه البتة قال تعالى: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ان الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) ص - 26. فبين تعالى: ان الضلال عن سبيل الله انما هو بنسيان يوم الحساب، فذكره واليقين به ينتج التقوى. وقوله تعالى: اؤلئك على هدى من ربهم، الهداية كلها من الله سبحانه، لا ينسب إلى غيره البتة الا على نحو من المجاز كما سيأتي ان شاء الله، ولما وصفهم الله سبحانه بالهداية وقد قال في نعتها: (فمن يرد الله ان يهديه يشرح صدره): لانعام - 125، وشرح الصدر سعته وهذا الشرح، يدفع عنه كل ضيق وشح، وقد قال تعالى: (ومن يوق شح نفسه فألئك هم المفلحون) الحشر - 9، عقب سبحانه ههنا أيضا قوله: اؤلئك على هدى من ربهم، بقوله: واولئك هم المفلحون الآية. (بحث روائي) في المعاني عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: الذين يؤمنون بالغيب، قال: من آمن بقيام القائم عليه السلام انه حق. اقول: وهذا المعنى مروي في غير هذه الرواية وهو من الجرى.

[ 47 ]

وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون) قال: ومما علمنا هم يبثون. وفي المعاني عنه عليه السلام: في الآية: ومما علمناهم يبثون، وما علمناهم من القرآن يتلون. اقول: والروايتان مبنيتان على حمل الانفاق على الاعم من انفاق المال كما ذكرناه. (بحث فلسفي) هل يجوز التعويل على غير الادراكات الحسية من المعاني العقلية ؟ هذه المسألة من معارك الآراء بين المتأخرين من الغربيين، وان كان المعظم من القدماو حكماء الاسلام على جواز التعويل على الحس والعقل معا، بل ذكروا ان البرهان العلمي لا يشمل المحسوس من حيث انه محسوس، لكن الغربيين مع ذلك اختلفوا في ذلك، والمعظم منهم وخاصة من علماء الطبيعة على عدم الاعتماد على غير الحس، وقد احتجوا على ذلك بان العقليات المحضة يكثر وقوع الخطأ والغلط فيها مع عدم وجود ما يميز به الصواب من الخطأ وهو الحس والتجربة المماسان للجزئيات بخلاف الادراكات الحسية فانا إذا أدركنا شيئا بواحد من الحواس اتبعنا ذلك بالتجربة بتكرار الامثال، ولا نزال نكرر حتى نستثبت الخاصة المطلوبة في الخارج ثم لا يقع فيه شك بعد ذلك، والحجة باطلة مدخولة. اولا: بأن جميع المقدمات المأخوذة فيها عقلية غير حسية فهي حجة على بطلان الاعتماد على المقدمات العقلية بمقدمات عقلية فيلزم من صحة الحجة فسادها. وثانيا: بأن الغلط في الحواس لا يقصر عددا من الخطأ والغلط في العقليات، كما يرشد إليه الابحاث التي اوردوها في المبصرات وسائر المحسوسات، فلو كان مجرد وقوع الخطأ في باب موجبا لسده وسقوط الاعتماد عليه لكان سد باب الحس اوجب والزم.

[ 48 ]

وثالثا: ان التميز بين الخطأ والصواب مما لا بد منه في جميع المدر كات غير ان التجربة وهو تكرر الحس ليست آلة لذلك التميز بل القضية التجربية تصير احدى المقدمات من قياس يحتج به على المطلوب، فانا إذا ادركنا بالحس خاصة من الخواص ثم اتبعناه بالتجربة بتكرار الامثال تحصل لنا في الحقيقة قياس على هذا الشكل: ان هذه الخاصة دائمي الوجود أو اكثري الوجود لهذا الموضوع، ولو كانت خاصة لغير هذا الموضوع لم يكن بدائمي أو اكثري، لكنه دائمي أو اكثري وهذا القياس كما ترى يشتمل على مقدمات عقلية غير حسية ولا تجريبية. ورابعا: هب ان جميع العلوم الحسية مؤيدة بالتجربة في باب العمل لكن من الواضح ان نفس التجربة ليس ثبوتها بتجربة اخرى وهكذا إلى غير النهاية بل العلم بصحته من طريق غير طريق الحس، فالاعتماد على الحس والتجربة اعتماد على العلم العقلي اضطرارا. وخامسا: ان الحس لا ينال غير الجزئي المتغير والعلوم لا تستنتج ولا تستعمل غير القضايا الكلية وهي غير محسوسة ولا مجربة، فان التشريح مثلا انما ينال من الانسان مثلا افرادا معدودين قليلين أو كثيرين، يعطي للحس فيها مشاهدة ان لهذا الانسان قلبا وكبدا مثلا، ويحصل من تكرارها عدد من المشاهدة يقل أو يكثر وذلك غير الحكم الكلي في قولنا: كل انسان فله قلب أو كبد، فلو اقتصرنا في الاعتماد والتعويل على ما يستفاد من الحس والتجربة فحسب من غير ركون على العقليات من رأس لم يتم لنا ادراك كلي ولا فكر نظري ولا بحث علمي، فكما يمكن التعويل أو يلزم على الحس في مورد يخص به كذلك التعويل فيما يخص بالقوة العقلية، ومرادنا بالعقل هو المبدأ لهذه التصديقات الكلية والمدرك لهذه الاحكام العامة، ولا ريب ان الانسان معه شئ شأنه هذا الشأن، وكيف يتصور ان يوجد ويحصل بالصنع والتكوين شئ شأنه الخطأ في فعله رأسا ؟ أو يمكن ان يخطئ في فعله الذي خصه به التكوين ؟ والتكوين انما يخص موجودا من الموجودات بفعل من الافعال بعد تثبت الرابطة الخارجية بينهما، وكيف يثبت رابطة بين موجود وما ليس بموجود أي خطأ وغلط ؟ واما وقوع الخطأ في العلوم أو الحواس فلبيان حقيقة الامر فيه محل آخر ينبغي الرجوع إليه والله الهادي.

[ 49 ]

(بحث آخر فلسفي) الانسان البسيط في أوائل نشأته حين ما يطأ موطأ الحيوة لا يرى من نفسه إلا انه ينال من الاشياء اعيانها الخارجية من غير ان يتنبه انه يوسط بينه وبينها وصف العلم، ولا يزال على هذا الحال حتى يصادف في بعض مواقفه الشك أو الظن، وعند ذلك يتنبه: انه لا ينفك في سيره الحيوي ومعاشه الدنيوي عن استعمال العلم لا سيما وهو ربما يخطئ ويغلط في تميزاته، ولا سبيل للخطأ والغلط إلى خارج الاعيان، فيتيقن عند ذلك بوجود صفة العلم (وهو الادراك المانع من النقيض) فيه. ثم البحث البالغ يوصلنا ايضا إلى هذه النتيجة، فان ادراكاتنا التصديقية تحلل إلى قضية اول الاوائل (وهى ان الايجاب والسلب لا يجتمعان معا ولا يرتفعان معا) فما من قضية بديهية أو نظرية الا وهي محتاجة في تمام تصديقها إلى هذه القضية البديهية الاولية، حتى انا لو فرضنا من انفسنا الشك فيها وجدنا الشك المفروض لا يجامع بطلان نفسه وهو مفروض، وإذا ثبتت هذه القضية على بداهتها ثبت جم غفير من التصديقات العلمية على حسب مساس الحاجة إلى اثباتها، وعليها معول الانسان في انظاره واعماله. فما من موقف علمي ولا واقعة عملية إلا ومعول الانسان فيه على العلم، حتى انه انما يشخص شكه بعلمه أنه شك، وكذا ظنه أو وهمه أو جهله بما يعلم انه ظن أو وهم أو جهل هذا. ولقد نشأ في عصر اليونانيين جماعة كانوا يسمون بالسو فسطائيين نفوا وجود العلم، وكانوا يبدون في كل شئ الشك حتى في انفسهم وفي شكهم، وتبعهم آخرون يسمون بالشكاكين قريبوا المسلك منهم نفوا وجود العلم عن الخارج عن انفسهم وافكارهم (ادراكاتهم) وربما لفقوا لذلك وجوها من الاستدلال. منها: أن اقوى العلوم والادراكات (وهي الحاصلة لنا من طرق الحواس) مملوءة

[ 50 ]

خطأ وغلطا فكيف بغيرها ؟ ومع هذا الوصف كيف يمكن الاعتماد على شئ من العلوم والتصديقات المتعلقة بالخارج منا ؟ ومنها: انا كلما قصدنا نيل شئ من الاشياء الخارجية لم ننل عند ذلك الا العلم به دون نفسه فكيف يمكن النيل لشئ من الاشياء ؟ إلى غير ذلك من الوجوه. والجواب عن الاول: أن هذا الاستدلال يبطل نفسه، فلو لم يجز الاعتماد على شئ من التصديقات لم يجز الاعتماد على المقدمات المأخوذة في نفس الاستدلال، مضافا إلى أن الاعتراف بوجود الخطأ وكثرته اعتراف بوجود الصواب بما يعادل الخطأ أو يزيد عليه، مضافا إلى أن القائل بوجود العلم لا يدعي صحة كل تصديق بل انما يدعيه في الجملة، وبعبارة اخرى يدعي الايجاب الجزئي في مقابل السلب الكلي والحجة لا تفي بنفي ذلك. والجواب عن الثاني: أن محل النزاع وهو العلم حقيقته الكشف عن ما ورائه فإذا فرضنا أنا كلما قصدنا شيئا من الاشياء الخارجية وجدنا العلم بذلك اعترفنا بأنا كشفنا عنه حينئذ، ونحن إنما ندعي وجود هذا الكشف في الجملة، ولم يدع احد في باب وجود العلم: انا نجد نفس الواقع وننال عين الخارج دون كشفه، وهؤلاء محجوجون بما تعترف به نفوسهم اعترافا اضطراريا في أفعال الحيوة الاختيارية وغيرها، فانهم يتحركون إلى الغذاء والماء عند احساس الم الجوع والعطش، وكذا إلى كل مطلوب عند طلبه لا عند تصوره الخالي، ويهربون عن كل محذور مهروب عنه عند العلم بوجوده لا عند مجرد تصوره، وبالجملة كل حاجة نفسانية الهمتها إليهم احساساتهم اوجدوا حركة خارجية لرفعها ولكنهم عند تصور تلك الحاجة من غير حاجة الطبيعة إليها لا يتحركون نحو رفعها، وبين التصورين فرق لا محالة، وهو ان احد العلمين يوجده الانسان باختياره ومن عند نفسه والاخر انما يوجد في الانسان بايجاد أمر خارج عنه مؤثر فيه، وهو الذي يكشف عنه العلم، فاذن العلم موجود وذلك ما اردناه. واعلم: أن في وجود العلم شكا قويا من وجه آخر وهو الذي وضع عليه اساس العلوم المادية اليوم من نفي العلم الثابت (وكل علم ثابت)، بيانه: ان البحث العلمي

[ 51 ]

يثبت في عالم الطبيعة نظام التحول والتكامل، فكل جزء من أجزاء عالم الطبيعة واقع في مسير الحركة متوجه إلى الكمال، فما من شئ إلا وهو في الآن الثاني من وجوده غيره وهو في الآن الآول من وجوده، ولا شك ان الفكر والادراك من خواص الدماغ فهي خاصة مادية لمركب مادي، فهي لا محالة واقعة تحت قانون التحول والتكامل، فهذه الادراكات (ومنها الادراك المسمى بالعلم) واقعة في التغير والتحول فلا معنى لوجود علم ثابت باق وانما هو نسبي، فبعض التصديقات أدوم بقاء وأطول عمرا أو أخفى نقيضا ونقضا من بعض آخر وهو المسمى بالعلم فيما وجد. والجواب عنه: أن الحجة مبنية على كون العلم ماديا غير مجرد في وجوده وليس ذلك بينا ولا مبينا بل الحق ان العلم ليس بمادي البتة، وذلك لعدم إنطباق صفات المادة وخواصها عليه. (1) فان الماديات مشتركة في قبول الانقسام وليس يقبل العلم بما أنه علم الانقسام البتة. (2) والماديات مكانية زمانية والعلم بما أنه علم لا يقبل مكانا ولا زمانا، والدليل عليه إمكان تعقل الحادثة الجزئية الواقعة في مكان معين وزمان معين في كل مكان وكل زمان مع حفظ العينية. (3) والماديات بأجمعها واقعة تحت سيطرة الحركة العمومية فالتغير خاصة عمومية فيها مع أن العلم بما أنه علم لا يتغير، فان حيثية العلم بالذات تنافي حيثية التغير والتبدل وهو ظاهر عند المتأمل. (4) ولو كان العلم مما يتغير بحسب ذاته كالماديات لم يمكن تعقل شئ واحد ولا حادثة واحدة فوقتين مختلفين معا ولا تذكر شئ أو حادثة سابقة في زمان لاحق، فان الشئ المتغير وهو في الآن الثاني غيره في الآن الآول، فهذه الوجوه ونظائرها دالة على ان العلم بما أنه علم ليس بمادي البتة، وأما ما يحصل في العضو الحساس أو الدماغ من تحقق عمل طبيعي فليس بحثنا فيه أصلا ولا دليل على أنه هو العلم، ومجرد تحقق عمل عند تحقق أمر من الامور لا يدل على كونهما أمرا واحدا، والزائد على هذا المقدار من البحث ينبغي أن يطلب من محل آخر.

[ 52 ]

إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون - 6. ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم - 7. (بيان) قوله تعالى: إن الذين كفروا، هؤلاء قوم ثبتوا على الكفر وتمكن الجحود من قلوبهم، ويدل عليه وصف حالهم بمساواة الانذار وعدمه فيهم، ولا يبعد أن يكون المراد من هؤلاء الذين كفروا هم الكفار من صناديد قريش وكبراء مكة الذين عاندوا ولجوا في أمر الدين ولم يألوا جهدا في ذلك ولم يؤمنوا حتى أفناهم الله عن آخرهم في بدر وغيره، ويؤيده أن هذا التعبير وهو قوله: سواء عليهم، أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، لا يمكن استطراده في حق جميع الكفار وإلا انسد باب الهداية القرآن ينادي على خلافه، وايضا هذا التعبير إنما وقع في سورة يس (وهي مكية) وفي هذه السورة (وهي سورة البقرة أول سورة نزلت في المدينة) نزلت ولم تقع غزوة بدر بعد، فالأشبه أن يكون المراد من الذين كفروا، هيهنا وفي ساير الموارد من كلامه تعالى: كفار مكة في اول البعثة إلا أن تقوم قرينة على خلافه، نظير ما سيأتي ان المراد من قوله تعالى: الذين آمنوا، فيما أطلق في القرآن من غير قرينة هم السابقون الاولون من المسلمين، خصوا بهذا الخطاب تشريفا. وقوله تعالى: ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم (الخ) يشعر تغيير السياق: (حيث نسب الختم إلى نفسه تعالى والغشاوة إليهم انفسهم) بأن فيهم حجابا دون الحق في أنفسهم وحجابا من الله تعالى عقيب كفرهم وفسوقهم، فأعمالهم متوسطة بين حجا بين: من ذاتهم ومن الله تعالى، وسيأتي بعض ما يتعلق بالمقام في قوله تعالى: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا). واعلم ان الكفر كالايمان وصف قابل للشدة والضعف فله مراتب مختلفة الآثار كالايمان.

[ 53 ]

(بحث روائي) في الكافي عن الزبيري عن الصادق عليه السلام قال: قلت له: أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله عز وجل، قال: الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه، فمنها كفر الجحود، والجحود على وجهين، والكفر بترك ما أمر الله، وكفر البرائة، وكفر النعم. فأما كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية وهو قول من يقول: لا رب ولا جنة ولا نار، وهو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم الدهرية وهم الذين يقولون وما يهلكنا إلا الدهر وهو دين وضعوه لانفسهم بالاستحسان منهم ولا تحقيق لشئ مما يقولون: قال عز وجل: ان هم إلا يظنون، أن ذلك كما يقولون، وقال: ان الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، يعني بتوحيد الله، فهذا أحد وجوه الكفر. وأما الوجه الآخر فهو الجحود على معرفة، وهو ان يجحد الجاحد وهو يعلم أنه حق قد استقر عنده، وقد قال الله عز وجل: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا)، وقال الله عز وجل: وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين، فهذا تفسير وجهى الجحود، والوجه الثالث من الكفر كفر النعم وذلك قوله سبحانه يحكي قول سليمان: هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن يكفر فإن الله غني كريم، وقال: لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد، وقال: فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون. والوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر الله عز وجل به، وهو قول عز وجل: (وإذا أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمائكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالاثم والعدوان وان يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم اخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) فكفرهم بترك ما أمر الله عز وجل به ونسبهم إلى الايمان ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده فقال: فما جزاء من يفعل

[ 54 ]

ذلك منكم إلا خزى في الحيوة الدنيا ويوم القيمة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون. والوجه الخامس من الكفر كفر البرائة وذلك قول الله عز وجل يحكي قول ابراهيم: وكفرنا بكم وبدأ بيننا وبينكم العداوة والبغضاء ابدا حتى تؤمنوا بالله وحده، يعني تبرأنا منكم، وقال: (يذكر ابليس وتبريه من أوليائه من الانس يوم القيامة) إني كفرت بما أشركتمون من قبل، وقال: انما اتخذتم من دون الله اوثانا مودة بينكم في الحيوة الدنيا ثم يوم القيمة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا، يعني يتبرأ بعضكم من بعض. اقول: وهي في بيان قبول الكفر الشدة والضعف كما مر. ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين - 8. يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون - 9. في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون - 10. وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا انما نحن مصلحون - 11. ألا انهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون - 12. وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء لكن لا يعلمون - 13. وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزون - 14. الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون - 15. أؤلئك

[ 55 ]

الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين - 16. مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما اضائت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون - 17. صم بكم عمي فهم لا يرجعون - 18. أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين - 19. يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شئ قدير - 20. (بيان) قوله تعالى: ومن الناس من يقول إلى آخر الآيات، الخدعة نوع من المكر، والشيطان هو الشرير ولذلك سمي إبليس شيطانا. وفي الآيات بيان حال المنافقين، وسيجئ إن شاء الله تفصيل القول فيهم في سورة المنافقين وغيرها. وقوله تعالى: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا (الخ) مثل يمثل به حالهم، انهم كالذي وقع في ظلمة عمياء لا يتميز فيها خير من شر ولا نافع من ضار فتسبب لرفعها بسبب من أسباب الاستضائة كنار يوقدها فيبصر بها ما حولها فلما توقدت وأضائت ما حولها أخمدها الله بسبب من الاسباب كريح أو مطر أو نحوهما فبقى فيما كان عليه

[ 56 ]

من الظلمة وتورط بين ظلمتين: ظلمة كان فيها وظلمة الحيرة وبطلان السبب. وهذه حال المنافق، يظهر الايمان فيستفيد بعض فوائد الدين باشتراكه مع المؤمنين في مواريثهم ومناكحهم وغيرهما حتى إذا حان حين الموت وهو الحين الذي فيه تمام الاستفادة من الايمان ذهب الله بنوره وأبطل ما عمله وتركه في ظلمة لا يدرك فيها شيئا ويقع بين الظلمة الاصلية وما أوجده من الظلمة بفعاله. وقوله تعالى: أو كصيب من السماء الخ، الصيب هو المطر الغزير، والبرق معروف، والرعد هو الصوت الحادث من السحاب عند الابراق، والصاعقة هي النازلة من البروق. وهذا مثل ثان يمثل به حال المنافقين في إظهارهم الايمان، انهم كالذي أخذه صيب السماء ومعه ظلمة تسلب عنه الابصار والتمييز، فالصيب يضطره إلى الفرار والتخلص، والظلمة تمنعه ذلك، والمهولات من الرعد والصاعقة محيطة به فلا يجد مناصا من أن يستفيد بالبرق وضوئه وهو غير دائم ولا باق متصل كلما أضاء له مشى وإذا أظلم عليه قام. وهذه حال المنافق فهو لا يحب الايمان ولا يجد بدا من اظهاره، ولعدم المواطأة بين قلبه ولسانه لا يستضئ له طريقه تمام الاستضائة، فلا يزال يخبط خبطا بعد خبط ويعثر عثرة بعد عثرة فيمشي قليلا ويقف قليلا ويفضحه الله بذلك ولو شاء الله لذهب بسمعه وبصره فيفتضح من اول يوم. يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون - 21. الذى جعل لكم الارض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون - 22. وإن كنتم في ريب مما نزلنا

[ 57 ]

على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدائكم من دون الله إن كنتم صادقين - 23. فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس الحجارة أعدت للكافرين - 24. وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الانهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها ازواج مطهرة وهم فيها خالدون - 25. (بيان) قوله تعالى: يا أيها الناس اعبدوا (الخ)، لما بين سبحانه: حال الفرق الثلاث: المتقين والكافرين، والمنافقين، وان المتقين على هدى من ربهم والقرآن هدى لهم، وان الكافرين مختوم على قلوبهم، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة وأن المنافقين مرضى وزادهم الله مرضا وهم صم بكم عمى (وذلك في تمام تسع عشرة آية) فرع تعالى على ذلك أن دعى الناس إلى عبادته وأن يلتحقوا بالمتقين دون الكافرين والمنافقين بهذه الآيات الخمس إلى قوله: خالدون. وهذا السياق يعطي كون قوله: لعلكم تتقون متعلقا بقوله: اعبدوا، دون قوله خلقكم وان كان المعنى صحيحا على كلا التقديرين. وقوله تعالى: فلا تجعلوا لله اندادا وانتم تعلمون، الانداد جمع ند كمثل، وزنا ومعنى وعدم تقييد قوله تعالى: وانتم تعلمون بقيد خاص وجعله حالا من قوله تعالى: فلا تجعلوا، يفيد التأكيد البالغ في النهي بأن الانسان وله علم ما كيفما كان لا يجوز له أن يتخذ لله سبحانه أندادا والحال انه سبحانه هو الذي خلقهم والذين من قبلهم ثم نظم النظام الكوني لرزقهم وبقائهم. وقوله تعالى: فأتوا بسورة من مثله أمر تعجيزي لابانة إعجاز القرآن، وأنه كتاب منزل من عند الله لا ريب فيه، إعجازا باقيا بمر الدهور وتوالي القرون،

[ 58 ]

وقد تكرر في كلامه تعالى هذا التعجيز كقوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) الاسراء - 88، وقوله تعالى: (أم يقولون افتريه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) هود - 13. وعلى هذا فالضمير في مثله عائد إلى قوله تعالى: مما نزلنا، ويكون تعجيزا بالقرآن نفسه وبداعة أسلوبه وبيانه. ويمكن أن يكون الضمير راجعا إلى قوله: عبدنا، فيكون تعجيزا بالقرآن من حيث ان الذي جاء به رجل امي لم يتعلم من معلم ولم يتلق شيئا من هذه المعارف الغالية العالية والبيانات البديعة المتقنة من أحد من الناس فيكون الآية في مساق قوله تعالى: (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدريكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون) يونس - 16، وقد ورد التفسيران معا في بعض الاخبار. واعلم: ان هذه الآية كنظائرها تعطي إعجاز أقصر سورة من القرآن كسورة الكوثر وسورة العصر مثلا، وما ربما يحتمل من رجوع ضمير مثله إلى نفس السورة كسورة البقرة أو سورة يونس مثلا يأباه الفهم المستأنس بأساليب الكلام إذ من يرمي القرآن بأنه افتراء على الله تعالى إنما يرميه جمعا ولا يخصص قوله ذاك بسورة دون سورة، فلا معنى لرده باتحدي بسورة البقرة أو بسورة يونس لرجوع المعنى حينئذ إلى مثل قولنا: وان تكنتم في من سورة الكوثر أو الاخلاص مثلا فأتوا بسورة مثل سورة يونس وهم بين الاستهجان هذا. (الاعجاز وماهيته) اعلم: ان دعوى القرآن أنها آية معجزة بهذا التحدي الذى أبدتها هذه الآية تنحل بحسب الحقيقة إلى دعويين، وهما دعوى ثبوت أصل الاعجاز وخرق العادة الجارية ودعوى ان القران مصداق من مصاديق الاعجاز ومعلوم ان الدعوى الثانية تثبت بثبوتها الدعوى الاولى، والقرآن ايضا يكتفى بهذا النمط من البيان ويتحدى بنفسه فيستنتج به كلتا النتيجتين غير أنه يبقى الكلام على كيفية تحقق الاعجاز مع

[ 59 ]

اشتماله على ما لا تصدقه العادة الجارية في الطبيعة من إستناد المسببات إلى أسبابها المعهودة المشخصة من غير استثناء في حكم السببية أو تخلف واختلاف في قانون العلية، والقرآن يبين حقيقة الامر ويزيل الشبهة فيه. فالقرآن يشدق في بيان الامر من جهتين. الاولى: أن الاعجاز ثابت ومن مصاديقه القران المثبت لاصل الاعجاز ولكون منه بالتحدي. الثانية: أنه ما هو حقيقة الاعجاز وكيف يقع في الطبيعة أمر يخرق عادتها وينقض كليتها. (إعجاز القرآن) لا ريب في أن القرآن يتحدى بالاعجاز في آيات كثيرة مختلفة مكية ومدنية تدل جميعها على أن القرآن آية معجزة خارقة حتى أن الآية السابقة أعني قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) الآية، اي من مثل لنبي (صلى إليه عليه وآله وسلم) إستدلال على كون القرآن معجزة بالتحدي على إتيان سورة نظيرة سورة من مثل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا أنه إستدلال على النبوة مستقيما وبلا واسطة، والدليل عليه قوله تعالى في اولها: (وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) ولم يقل وان كنتم في ريب من رسالة عبدنا، فجميع التحديات الواقعة في القرآن نحو استدلال على كون القرآن معجزة خارقة من عند الله، والآيات المشتملة على التحدي مختلفة في العموم والخصوص ومن أعمها تحديا قوله تعالى: (قل لئن إجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) الاسراء - 88، والآية مكية وفيها من عموم التحدي ما لا يرتاب فيه ذو مسكة. فلو كان التحدي ببلاغة بيان القرآن وجزالة اسلوبه فقط لم يتعد التحدي قوما خاصا وهم العرب العرباء من الجاهليين والمخضرمين قبل اختلاط اللسان وفساده، وقد قرع بالآية أسماع الانس والجن. وكذا غير البلاغة والجزالة من كل صفة خاصة إشتمل عليها القرآن كالمعارف

[ 60 ]

الحقيقية والاخلاق الفاضلة والاحكام التشريعية والاخبار المغيبة ومعارف اخرى لم يكشف البشر حين النزول عن وجهها النقاب إلى غير ذلك، كل واحد منها مما يعرفه بعض الثقلين دون جميعهم، فإطلاق التحدي على الثقلين ليس إلا في جميع ما يمكن فيه التفاضل في الصفات. فالقرآن آية للبليغ في بلاغته وفصاحته، وللحكيم في حكمته، وللعالم في علمه وللاجتماعي في اجتماعه، وللمقنين في تقنينهم وللسياسيين في سياستهم، وللحكام في حكومتهم، ولجميع العالمين فيما لا ينالونه جميعا كالغيب والاختلاف في الحكم والعلم والبيان. ومن هنا يظهر أن القرآن يدعي عموم إعجازه من جميع الجهات من حيث كونه اعجازا لكل فرد من الانس والجن من عامة أو خاصة أو عالم أو جاهل أو رجل أو امرأة أو فاضل بارع في فضله أو مفضول إذا كان ذا لب يشعر بالقول، فان الانسان مفطور على الشعور بالفضيلة وإدراك الزيادة والنقيصة فيها، فلكل إنسان أن يتأمل ما يعرفه من الفضيلة في نفسه أو في غيره من أهله ثم يقيس ما أدركه منها إلى ما يشتمل عليه القرآن فيقضي بالحق والنصفة، فهل يتأتى القوة البشرية أن يختلق معارف إلهية مبرهنة تقابل ما أتى به القرآن وتماثله في الحقيقة ؟ وهل يمكنها أن تاتي بأخلاق مبنية على أساس الحقائق تعادل ما أتى به القرآن في الصفاء والفضيلة ؟ وهل يمكنها أن يشرع أحكاما تامة فقهية تحصي جميع أعمال البشر من غير اختلاف يؤدي إلى التناقض مع حفظ روح التوحيد وكلمة التقوى في كل حكم ونتيجته، وسريان الطهارة في أصله وفرعه ؟ وهل يمكن أن يصدر هذا الاحصاء العجيب والاتقان الغريب من رجل امي لم يترب إلا في حجر قوم حظهم من الانسانية على مزاياها التي لا تحصى وكمالاتها التي لا تغيا أن يرتزقوا بالغارات الغزوات ونهب الاموال وأن يئدوا البنات ويقتلوا الاولاد خشية إملاق ويفتخروا بالآباء وينكحوا الامهات ويتباهوا بالفجور ويذموا العلم ويتظاهروا بالجهل وهم على أنفتهم وحميتهم الكاذبة اذلاء لكل مستذل وخطفة لكل خاطف فيوما لليمن ويوما للحبشة ويوما للروم ويوما للفرس ؟ فهذا حال عرب الحجاز في الجاهلية.

[ 61 ]

وهل يجتري عاقل على أن يأتي بكتاب يدعيه هدى للعالمين ثم يودعه أخبارا في الغيب مما مضى ويستقبل وفيمن خلت من الامم وفيمن سيقدم منهم لا بالواحد والاثنين في أبواب مختلفة من القصص والملاحم والمغيبات المستقبلة ثم لا يتخلف شئ منها عن صراط الصدق ؟. وهل يتمكن إنسان وهو أحد أجزاء نشأة الطبيعة المادية، والدار دار التحول والتكامل، أن يداخل في كل شأن من شئون العالم الانساني ويلقي إلى الدنيا معارف وعلوما وقوانين وحكما ومواعظ وأمثالا وقصصا في كل ما دق وجل ثم لا يختلف حاله في شئ منها في الكمال والنقص وهي متدرجة الوجود متفرقة الالقاء وفيها ما ظهر ثم تكرر وفيها فروع متفرعة على أصولها ؟ هذا مع ما نراه أن كل إنسان لا يبقى من حيث كمال العمل ونقصه على حال واحدة. فالانسان اللبيب القادر على تعقل هذه المعاني لا يشك في أن هذه المزايا الكلية وغيرها مما يشتمل عليه القرآن الشريف كلها فوق القوة البشرية ووراء الوسائل الطبيعية المادية وان لم يقدر على ذلك فلم يضل في انسانيته ولم ينس ما يحكم به وجدانه الفطري أن يراجع فيما لا يحسن إختباره ويجهل مأخذه إلى أهل الخبرة به. فان قلت: ما الفائدة في توسعة التحدي إلى العامة والتعدي عن حومه الخاصة فان العامة سريعة الانفعال للدعوة والاجابة لكل صنيعة وقد خضعوا لامثال الباب والبهاء والقادياني والمسيلمة على أن ما أتوا به واستدلوا عليه أشبه بالهجر والهذيان منه بالكلام. قلت: هذا هو السبيل في عموم الاعجاز والطريق الممكن في تمييز الكمال والتقدم في أمر يقع فيه التفاضل والسباق، فان أفهام الناس مختلفة اختلافا ضروريا والكمالات كذلك، والنتيجة الضرورية لهاتين المقدمتين أن يدرك صاحب الفهم العالي والنظر الصائب ويرجع من هو دون ذلك فهما ونظرا إلى صاحبه، و الفطرة حاكمة والغريزة قاضية. ولا يقبل شئ مما يناله الانسان بقواه المدركة ويبلغه فهمه العموم والشمول لكل فرد في كل زمان ومكان بالوصول والبلوغ والبقاء إلا ما هو من سنخ العلم والمعرفة

[ 62 ]

على الطريقة المذكورة، فان كل ما فرض آية معجزة غير العلم والمعرفة فانما هو موجود طبيعي أو حادث حسي محكوم بقوانين المادة محدود بالزمان والمكان فليس بمشهود إلا لبعض أفراد الانسان دون بعض ولو فرض محالا أو كالمحال عمومه لكل فرد منه فإنما يمكن في مكان دون جميع الامكنة، ولو فرض اتساعه لكل مكان لم يمكن اتساعه لجميع الازمنة والاوقات. فهذا ما تحدى به القرآن تحديا عاما لكل فرد في كل مكان في كل زمان. (تحديه بالعلم) وقد تحدى بالعلم والمعرفة خاصة بقوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) النحل - 89، وقوله (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) الانعام - 59، إلى غير ذلك من الآيات، فإن الاسلام كما يعلمه ويعرفه كل من سار في متن تعليماته من كلياته التي أعطاها القرآن وجزئياته التي أرجعها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بنحو قوله: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) الحشر - 7، وقوله تعالى: (لتحكم بين الناس بما أريك الله) النساء - 104، وغير ذلك متعرض للجليل والدقيق من المعارف الالهية (الفلسفية) والاخلاق الفاضلة والقوانين الدينية الفرعية من عبادات ومعاملات وسياسات واجتماعيات وكل ما يمسه فعل الانسان وعمله، كل ذلك على أساس الفطرة وأصل التوحيد بحيث ترجع التفاصيل إلى اصل التوحيد بالتحليل، ويرجع الاصل إلى التفاصيل بالتركيب. وقد بين بقائها جميعا وانطباقها على صلاح الانسان بمرور الدهور وكرورها بقوله تعالى: (وانه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) حم سجدة - 42. وقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر - 9، فهو كتاب لا يحكم عليه حاكم النسخ ولا يقضي عليه قانون التحول والتكامل. فان قلت: قد استقرت أنظار الباحثين عن الاجتماع وعلماء التقنين اليوم على

[ 63 ]

وجوب تحول القوانين الوضعية الاجتماعية بتحول الاجتماع واختلافها باختلاف الازمنة والاوقات وتقدم المدنية والحضارة. قلت: سيجئ البحث عن هذا الشأن والجواب عن الشبهة في تفسير قوله تعالى (كان الناس امة واحدة. الآية) البقرة - 213. وجملة القول وملخصه أن القرآن يبني أساس التشريع على التوحيد الفطري والاخلاق الفاضلة الغريزية ويدعي ان التشريع يجب أن ينمو من بذر التكوين والوجود. وهؤلاء الباحثون يبنون نظرهم على تحول الاجتماع مع الغاء المعنويات من معارف التوحيد وفضائل الاخلاق، فكلمتهم جامدة على سير التكامل الاجتماعي المادي العادم لفضيلة الروح، وكلمة الله هي العليا. (التحدي بمن أنزل عليه القرآن) وقد تحدى بالنبي الامي الذي جاء بالقرآن المعجز في لفظه ومعناه، ولم يتعلم عند معلم ولم يترب عند مرب بقوله تعالى: (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدريكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون) يونس - 16، فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم بينهم وهو أحدهم لا يتسامى في فضل ولا ينطق بعلم حتى لم يأت بشئ من شعر أو نثر نحوا من أربعين سنة وهو ثلثا عمره لا يحوز تقدما ولا يرد عظيمة من عظائم المعالي ثم أتى بما اتى به دفعة فأتى بما عجزت عنه فحولهم وكلت دونه ألسنة بلغائم، ثم بثه في أقطار الارض فلم يجترئ على معارضته معارض من عالم أو فاضل أو ذي لب وفطانة. وغاية ما أخذوه عليه: انه سافر إلى الشام للتجارة فتعلم هذه القصص ممن هناك من الرهبان ولم يكن أسفاره إلى الشام إلا مع عمه أبي طالب قبل بلوغه وإلا مع ميسرة مولى خديجة وسنه يومئذ خمسة وعشرون وهو مع من يلازمه في ليله ونهاره، ولو فرض محالا ذلك فما هذه المعارف والعلوم ؟ ومن أين هذه الحكم والحقائق ؟ وممن هذه البلاغة في البيان الذي خضعت له الرقاب وكلت دونه الالسن الفصاح ؟ وما أخذوه عليه انه كان يقف على قين بمكة من أهل الروم كان يعمل السيوف

[ 64 ]

ويبيعها فأنزل الله سبحانه: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر، لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) النحل - 103. وما قالوا عليه أنه يتعلم بعض ما يتعلم من سلمان الفارسي وهو من علماء الفرس عالم بالمذاهب والاديان مع ان سلمان إنما آمن به في المدينة وقد نزل أكثر القرآن بمكة وفيها من جميع المعارف الكلية والقصص ما نزلت منها بمدينة بل أزيد، فما الذي زاده ايمان سلمان وصحابته ؟ على أن من قرأ العهدين وتأمل ما فيهما ثم رجع إلى ما قصه القرآن من تواريخ الانبياء السالفين واممهم رأى أن التاريخ غير التاريخ والقصة غير القصة ففيهما عثرات وخطايا لانبياء الله الصالحين تنبو الفطرة وتتنفر من أن تنسبها إلى المتعارف من صلحاء الناس وعقلائهم، والقرآن يبرئهم منها وفيها أمور أخرى لا يتعلق بها معرفة حقيقية ولا فضيلة خلقية ولم يذكر القرآن منها إلا ما ينفع الناس في معارفهم وأخلاقهم وترك الباقي وهو الاكثر. (تحدي القرآن بالاخبار عن الغيب) وقد تحدى بالاخبار عن الغيب بآيات كثيرة، منها إخباره بقصص الانبياء السالفين وأممهم كقوله تعالى: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا الآية) هود - 49، وقوله تعالى بعد قصة يوسف: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون) يوسف - 102 وقوله تعالي في قصة مريم: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم ايهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) آل عمران - 44 وقوله تعالى: (ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون) مريم - 34 إلى غير ذلك من الآيات. ومنها الاخبار عن الحوادث المستقبلة كقوله تعالى: (غلبت الروم في أدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) الروم - 2 - 3، وقوله تعالى في رجوع النبي إلى مكة بعد الهجرة: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى المعاد) القصص -

[ 65 ]

85، وقوله تعالى (لتدخلن المسجد الحرام انشاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون الآية) الفتح - 27، وقوله تعالى: (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم) الفتح - 15، وقوله تعالى: (والله يعصمك من الناس) المائدة - 70، وقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون) الحجر - 9، وآيات أخر كثيرة في وعد المؤمنين وعيد كفار مكة ومشركيها. ومن هذا الباب آيات أخر في الملاحم نظير قوله تعالى: (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون حتى إذا فتحت ياجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين) الانبياء - 95، 97، وقوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض) النور - 55، وقوله تعالى (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم) الانعام - 65، ومن هذا الباب قوله تعالى: (وارسلنا الرياح لواقح) الحجر - 22، وقوله تعالى (وأنبتنا فيها من كل شئ موزون) الحجر - 19، وقوله تعال: (والجبال أوتادا) النباء - 7، مما يبتني حقيقة القول فيها على حقائق علمية مجهولة عند النزول حتى اكتشف الغطاء عن وجهها بالابحاث العلمية التي وفق الانسان لها في هذه الاعصار. ومن هذا الباب (وهو من مختصات هذا التفسير الباحث عن آيات القرآن باستنطاق بعضها ببعض واستشهاد بعضها على بعض) ما في سورة المائدة من قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، الآية) المائدة - 54. وما في سورة يونس من قوله تعالى: (ولكل امة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط إلى آخر الآيات) يونس - 47، وما في سورة الروم من قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها الآية الروم - 30، إلى غير ذلك من الآيات التي تنبئ عن الحوادث العظيمة التي تستقبل الامة الاسلامية أو الدنيا عامة بعد عهد نزول القرآن، وسنورد انشاء الله تعالى طرفا منها في البحث عن سورة الاسراء.

[ 66 ]

(تحدي القرآن بعدم الاختلاف فيه) وقد تحدى أيضا بعدم وجود الاختلاف فيه، قال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه إختلافا كثيرا) النساء - 82، فإن من الضروري أن النشة نشأة المادة والقانون الحاكم فيها قانون التحول والتكامل فما من موجود من الموجودات التي هي أجزاء هذا العالم الا وهو متدرج الوجود متوجه من الضعف إلى القوة ومن النقص إلى الكمال في ذاته وجميع توابع ذاته ولواحقه من الافعال والآثار ومن جملتها الانسان الذي لا يزال يتحول ويتكامل في وجوده وأفعاله وآثاره التي منها آثاره التي يتوسل إليها بالفكر والادراك، فما من واحد منا إلا وهو يرى نفسه كل يوم أكمل من أمس ولا يزال يعثر في الحين الثاني على سقطات في أفعاله وعثرات في اقواله الصادرة منه في الحين الاول، هذا أمر لا ينكره من نفسه إنسان ذو شعور. وهذا الكتاب جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم نجوما وقرأه على الناس قطعا قطعا في مدة ثلاث وعشرين سنة في أحوال مختلفة وشرائط متفاوتة في مكة والمدينة في الليل والنهار والحضر والسفر والحرب والسلم في يوم العسرة وفي يوم الغلبة ويوم الامن ويوم الخوف، ولالقاء المعارف الالهية وتعليم الاخلاق الفاضلة وتقنين الاحكام الدينية في جميع أبواب الحاجة، ولا يوجد فيه أدنى إختلاف في النظم المتشابه، كتابا متشابها مثانى ولم يقع في المعارف التي ألقاها والاصول التي أعطاها إختلاف يتناقض بعضها مع بعض وتنافي شئ منها مع آخر، فالآية تفسر الآية والبعض يبين البعض، والجملة تصدق الجملة كما قال علي عليه السلام: (ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض) (نهج البلاغة). ولو كان من عند غير الله لاختلف النظم في الحسن والبهاء والقول في الشداقة والبلاغة والمعنى من حيث الفساد والصحة ومن حيث الاتقان والمتانة. فان قلت: هذه مجرد دعوى لا تتكي على دليل وقد أخذ على القرآن مناقضات واشكالات جمة ربماألف فيه التأليفات، وهى اشكالات لفظية ترجع إلى قصوره في جهات البلاغة ومناقضات معنوية تعود إلى خطأه في آرائه وأنظاره وتعليماته، وقد

[ 67 ]

أجاب عنها المسلمون بما لا يرجع في الحقيقة إلا إلى التأويلات التي يحترزها الكلام الجاري على سنن الاستقامة وإرتضاء الفطرة السليمة. قلت: ما أشير إليه من المناقضات والاشكالات موجودة في كتب التفسير وغيرها مع أجوبتها ومنها هذا الكتاب، فالاشكال أقرب إلى الدعوى الخالية عن البيان. ولا تكاد تجد في هذه المؤلفات التي ذكرها المستشكل شبهة أوردوها أو مناقضة أخذوها الا وهي مذكور في مسفورات المفسرين مع اجوبتها فأخذوا الاشكالات وجمعوها ورتبوها وتركوا الاجوبة وأهملوها، ونعم ما قيل: لو كانت عين الحب متهمة فعين البغض أولى بالتهمة. فان قلت: فما تقول في النسخ الواقع في القرآن وقد نص عليه القرآن نفسه في قوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها) البقرة - 106 وقوله: (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل) النحل - 101، وهل النسخ إلا اختلاف في النظر لو سلمنا أنه ليس من قبيل المناقضة في القول ؟. قلت: النسخ كما أنه ليس من المناقضة في القول وهو ظاهر كذلك ليس من قبيل الاختلاف في النظر والحكم وانما هو ناش من الاختلاف في المصداق من حيث قبوله إنطباق الحكم يوما لوجود مصلحته فيه وعدم قبوله الانطباق يوما آخر لتبدل المصلحة من مصلحة اخرى توجب حكما آخر، ومن أوضع الشهود على هذا أن الآيات المنسوخة الاحكام في القرآن مقترنة بقرائن لفظية تومي إلى أن الحكم المذكور في الآية سينسخ كقوله تعالى: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن اربعة منكم فان شهدوا فامسكوهن في البيوت حتى يتوفيهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) النساء - 14، (انظر إلى التلويح الذي تعطيه الجملة الاخيرة)، وكقوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا) إلى أن قال (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره) البقرة - 109، حيث تمم الكلام بما يشعر بأن الحكم مؤجل.

[ 68 ]

التحدي بالبلاغة وقد تحدى القرآن بالبلاغة كقوله تعالى: (أم يقولون افتريه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما إنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون) هود - 13، 14. والآية مكية، وقوله تعالى: (أم يقولون افتريه قل فاتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من إستظعتم دون الله ان كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) يونس - 38، 39. والآية ايضا مكية وفيها التحدي بالنظم والبلاغة فإن ذلك هو الشأن الظاهر من شؤون العرب المخاطبين بالآيات يومئذ، فالتاريخ لا يرتاب أن العرب العرباء بلغت من البلاغة في الكلام مبلغا لم يذكره التاريخ لواحدة من الامم المتقدمة عليهم والمتأخرة عنهم ووطئوا موطئا لم تطأه أقدام غيرهم في كمال البيان وجزالة النظم ووفاء اللفظ ورعاية المقام وسهولة المنطق. وقد تحدى عليهم القرآن بكل تحد ممكن مما يثير الحمية ويوقد نار الانفة والعصبية. وحالهم في الغرور ببضاعتهم والاستكبار عن الخضوع للغير في صناعتهم مما لا يرتاب فيه، وقد طالت مدة التحدي وتمادى زمان الاستنهاض فلم يجيبوه إلا بالتجافي ولم يزدهم إلا العجز ولم يكن منهم إلا الاستخفاء والفرار، كما قال تعالى: (الا انهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه الاحين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون) هود - 5. وقد مضى من القرون والاحقاب ما يبلغ أربعة عشر قرنا ولم يأت بما يناظره آت ولم يعارضه أحد بشئ إلا أخزى نفسه وافتضح في أمره. وقد ضبط النقل بعض هذه المعارضات والمناقشات، فهذا مسيلمة عارض سورة الفيل بقوله: (الفيل ما الفيل وما أدريك ما الفيل له ذنب وبيل وخرطوم طويل) وفي كلام له في الوحي يخاطب السجاح النبية (فنولجه فيكن إيلاجا، ونخرجه منكن إخراجا) فانظر إلى هذه الهذيانات واعتبر، وهذه سورة عارض بها الفاتحة بعض النصارى (الحمد للرحمن. رب الاكوان الملك الديان. لك العبادة وبك المستعان اهدنا صراط الايمان) إلى غير ذلك من التقولات.

[ 69 ]

فان قلت: ما معنى كون التأليف الكلامي بالغا إلى مرتبة معجزة للانسان ووضع الكلام مما سمحت به قريحة الانسان ؟ فكيف يمكن ان يترشح من القريحة ما لا تحيط به والفاعل اقوى من فعله ومنشأ الاثر محيط بأثره ؟ وبتقريب آخر الانسان هو الذي جعل اللفظ علامة دالة على المعنى لضرورة الحاجة الاجتماعية إلى تفهيم الانسان ما في ضميره لغيره فخاصة الكشف عن المعنى في اللفظ خاصة وضعية اعتبارية مجعولة للانسان، ومن المحال أن يتجاوز هذه الخاصة المترشحة عن قريحة الانسان حد قريحته فتبلغ مبلغا لا تسعه طاقة القريحة، فمن المحال حينئذ أن يتحقق في اللفظ نوع من الكشف لا تحيط به القريحة والا كانت غير الدلالة الوضعية الاعتبارية، مضافا إلى أن التراكيب الكلامية لو فرض ان بينها تركيبا بالغا حد الاعجاز كان معناه أن كل معنى من المعاني المقصودة ذو تراكيب كلامية مختلفة في النقص والكمال والبلاغة وغيرها، وبين تلك التراكيب تركيب هو أرقاها وابلغها لا تسعها طاقة البشر، وهو التركيب المعجز، ولازمه أن يكون في كل معنى مطلوب تركيب واحد إعجازي، مع ان القرآن كثيرا ما يورد في المعنى الواحد بيانات مختلفة وتراكيب متفرقة، وهو في القصص واضح لا ينكر، ولو كانت تراكيبه معجزة لم يوجد منها في كل معنى مقصود الا واحد لا غير. قلت: هاتان الشبهتان وما شاكلهما هي الموجبة لجمع من الباحثين في أعجاز القرآن في بلاغته أن يقولوا بالصرف، ومعنى الصرف أن الاتيان بمثل القرآن أو سور أو سورة واحدة منه محال على البشر لمكان آيات التحدي وظهور العجز من أعداء القرآن منذ قرون، ولكن لا لكون التأليفات الكلامية التي فيها في نفسها خارجة عن طاقة الانسان وفائقة على القوة البشرية، مع كون التأليفات جميعا أمثالا لنوع النظم الممكن للانسان، بل لان الله سبحانه يصرف الانسان عن معارضتها والاتيان بمثلها بالارادة الالهية الحاكمة على إرادة الانسان حفظا لآية النبوة ووقاية لحمى الرسالة. وهذا قول فاسد لا ينطبق على ما يدل عليه آيات التحدي بظاهرها كقوله (قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين، فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله الآية) هود - 13 و 14، فان الجملة الاخيرة ظاهرة في ان الاستدلال بالتحدي إنما هو على كون القرآن نازلا لا كلاما تقوله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وان نزوله انما هو بعلم الله لا بإنزال الشياطين

[ 70 ]

كما قال تعالى (أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين) الطور - 34، وقوله تعالى: (وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون) الشعراء - 212، والصرف الذي يقولون به إنما يدل على صدق الرسالة بوجود آية هي الصرف، لا على كون القرآن كلاما لله نازلا من عنده، ونظير هذه الآية الآية الاخرى، وهي قوله: (قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله الآية) يونس - 39، فإنها ظاهرة في ان الذي يوجب إستحالة إتيان البشر بمثل القرآن وضعف قواهم وقوى كل من يعينهم على ذلك من تحمل هذا الشأن هو ان للقرآن تأويلا لم يحيطوا بعلمه فكذبوه، ولا يحيط به علما إلا الله فهو الذي يمنع المعارض عن أن يعارضه، لا أن الله سبحانه يصرفهم عن ذلك مع تمكنهم منه لو لا الصرف بإرادة من الله تعالى. وكذا قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه إختلافا كثيرا الآية) النساء - 82، فانه ظاهر في أن الذي يعجز الناس عن الاتيان بمثل القرآن إنما هو كونه في نفسه على صفة عدم الاختلاف لفظا ومعنى ولا يسع لمخلوق أن يأتي بكلام غير مشتمل على الاختلاف، لا أن الله صرفهم عن مناقضته بإظهار الاختلاف الذي فيه هذا، فما ذكروه من أن إعجاز القرآن بالصرف كلام لا ينبغي الركون إليه. وأما الاشكال باستلزام الاعجاز من حيث البلاغة المحال، بتقريب أن البلاغه من صفات الكلام الموضوع ووضع الكلام من آثار القريحة الانسانية فلا يمكن أن يبلغ من الكمال حدا لا تسعه طاقة القريحة وهو مع ذلك معلول لها لا لغيرها، فالجواب عنه أن الذي يستند من الكلام إلى قريحة الانسان إنما هو كشف اللفظ المفرد عن معناه، وأما سرد الكلام ونضد الجمل بحيث يحاكي جمال المعنى المؤلف وهيئته على ما هو عليه في الذهن بطبعه حكاية تامة أو ناقصة وإرائة واضحة أو خفية، وكذا تنظيم الصورة العلمية في الذهن بحيث يوافق الواقع في جميع روابطه ومقدماته ومقارناته ولواحقه أو في كثير منها أو في بعضها دون بعض فانما هو امر لا يرجع إلى وضع الالفاظ بل إلى نوع مهارة في صناعة البيان وفن البلاغة تسمح به القريحة في سرد الالفاظ ونظم

[ 71 ]

الادوات اللفظية ونوع لطف في الذهن يحيط به القوة الذاهنة على الواقعة المحكية باطرافها ولوازمها ومتعلقاتها. فهيهنا جهات ثلث يمكن أن تجتمع في الوجود أو تفترق فربما أحاط إنسان بلغة من اللغات فلا يشذ عن علمه لفظ لكنه لا يقدر على التهجي والتكلم، وربما تمهر الانسان في البيان وسرد الكلام لكن لا علم له بالمعارف والمطالب فيعجز عن التكلم فيها بكلام حافظ لجهات المعنى حاك لجمال صورته التي هو عليها في نفسه، وربما تبحر الانسان في سلسلة من المعارف والمعلومات ولطفت قريحته ورقت فطرته لكن لا يقدر على الافصاح عن ما في ضميره، وعى عن حكاية ما يشاهده من جمال المعنى ومنظره البهيج. فهذه امور ثلاثة: أولها راجع إلى وضع الانسان بقريحته الاجتماعية، والثانى والثالث راجعان إلى نوع من لطف القوة المدركة، ومن البين أن إدراك القوى المدركة منا محدودة مقدرة لا نقدر على الاحاطه بتفاصيل الحوادث الخارجية والامور الواقعية بجميع روابطها، فلسنا على أمن من الخطأ قط في وقت من الاوقات، ومع ذلك فالاستكمال التدريجي الذي في وجودنا أيضا يوجب الاختلاف التدريجي في معلوماتنا أخذا من النقص إلى الكمال، فأي خطيب اشدق واي شاعر مفلق فرضته لم يكن ما يأتيه في أول أمره موازنا لما تسمح به قريحته في أواخر أمره ؟ فلو فرضنا كلاما إنسانيا أي كلام فرضناه لم يكن في مأمن من الخطأ لفرض عدم إطلاع متكلمه بجميع أجزاء الواقع وشرائطه (أولا) ولم يكن على حد كلامه السابق ولا على زنة كلامه اللاحق بل ولا أوله يساوي آخره وإن لم نشعر بذلك لدقة الامر، لكن حكم التحول والتكامل عام (ثانيا)، وعلي هذا فلو عثرنا على كلام فصل لا هزل فيه (وجد الهزل هو القول بغير علم محيط) ولا إختلاف يعتريه لم يكن كلاما بشريا، وهو الذي يفيده القرآن بقوله: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه إختلافا كثيرا الآية) النساء - 82، وقوله تعالى: (والسماء ذات الرجع والارض ذات الصدع إنه لقول فصل وما هو بالهزل) الطارق - 14. انظر إلى موضع القسم بالسماء والارض المتغيرتين والمعنى المقسم به في عدم تغيره واتكائه على حقيقة ثابتة هي تأويله (وسيأتي ما يراد في القرآن من لفظ التأويل)، وقوله تعالى: (بل هو قرآن مجيد في لوح

[ 72 ]

محفوظ) البروج - 22، وقوله تعالى: (والكتاب المبين، إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون، وإنه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم) الزخرف - 4. وقوله تعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم. إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون) الواقعة - 79، فهذه الآيات ونظائرها تحكى عن إتكاء القرآن في معانيه على حقائق ثابتة غير متغيرة ولا متغير ما يتكي عليها. إذا عرفت ما مر علمت أن إستناد وضع اللغة إلى الانسان لا يقتضي أن لا يوجد تأليف كلامي فوق ما يقدر عليه الانسان الواضع له، وليس ذلك إلا كالقول بان القين الصانع للسيوف يجب أن يكون أشجع من يستعملها وواضع النرد والشطرنج يجب أن يكون امهر من يلعب بهما ومخترع العود يجب أن يكون أقوى من يضرب بها. فقد تبين من ذلك كله أن البلاغة التامة معتمدة على نوع من العلم المطابق للواقع من جهة مطابقة اللفظ للمعني ومن جهة مطابقة المعنى المعقول للخارج الذي يحكيه الصورة الذهنية. أما اللفظ فان يكون الترتيب الذي بين أجزاء اللفظ بحسب الوضع مطابقا للترتيب الذي بين أجزاء المعنى المعبر عنه باللفظ بحسب الطبع فيطابق الوضع الطبع كما قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني في دلائل الاعجاز. وأما المعنى فان يكون في صحته وصدقه معتمدا على الخارج الواقع بحيث لا يزول عما هو عليه من الحقيقة، وهذه المرتبة هي التي يتكى عليها المرتبة السابقة، فكم من هزل بليغ في هزليته لكنه لا يقاوم الجد، وكم من كلام بليغ مبنى على الجهالة لكنه لا يعارض ولا يسعه أن يعارض الحكمة، والكلام الجامع بين عذوبة اللفظ وجزالة الاسلوب وبلاغة المعنى وحقيقة الواقع هو ارقى الكلام. وإذا كان الكلام قائما على أساس الحقيقة ومنطبق المعنى عليها تمام الانطباق لم يكذب الحقائق الاخر ولم تكذبه فإن الحق مؤتلف الاجزاء ومتحد الاركان، لا يبطل حق حقا، ولا يكذب صدق صدقا، والباطل هو الذي ينافي الباطل وينافي الحق، انظر إلى مغزى قوله سبحانه وتعالى: (فما ذا بعد الحق إلا الضلال) يونس - 32، فقد جعل الحق واحدا لا تفرق فيه ولا تشتت. وانظر إلى قوله تعالى: (ولا

[ 73 ]

تتبعوا السبل فتفرق بكم) الانعام - 153. فقد جعل الباطل متشتتا ومشتتا ومتفرقا و مفرقا. وإذا كان الامر كذلك فلا يقع بين اجزاء الحق اختلاف بل نهاية الايتلاف، يجر بعضه إلى بعض، وينتج بعضه البعض كما يشهد بعضه على بعض ويحكي بعضه البعض. وهذا من عجيب أمر القرآن فإن الآية من آياته لا تكاد تصمت عن الدلالة ولا تعقم عن الانتاج، كلما ضمت آية إلى آية مناسبة أنتجت حقيقة من أبكار الحقائق ثم الآية الثالثة تصدقها وتشهد بها، هذا شأنه وخاصته، وستري في خلال البيانات في هذا الكتاب نبذا من ذلك، على ان الطريق متروك غير مسلوك ولو أن المفسرين ساروا هذا المسير لظهر لنا إلى اليوم ينابيع من بحاره العذبة وخزائن من أثقاله النفيسة. فقد اتضح بطلان الاشكال من الجهتين جميعا فإن أمر البلاغة المعجزة لا يدور مدار اللفظ حتى يقال ان الانسان هو الواضع للكلام فكيف لا يقدر على ابلغ الكلام وأفصحه وهو واضح أو يقال ان ابلغ التركيبات المتصورة تركيب واحد من بينها فكيف يمكن التعبير عن معنى واحد بتركيبات متعددة مختلفة السياق والجميع فائقة قدرة البشر بالغة حد الاعجاز بل المدار هو المعنى المحافظ لجميع جهات الذهن والخارج. (معنى الآية المعجزة في القرآن وما يفسر به حقيقتها) ولا شبهة في دلالة القرآن على ثبوت الآية المعجزة وتحققها بمعنى الامر الخارق للعادة الدال على تصرف ما وراء الطبيعة في عالم الطبيعة ونشأة المادة لا بمعنى الامر المبطل لضرورة العقل. وما تمحله بعض المنتسبين إلى العلم من تأويل الآيات الدالة على ذلك توفيقا بينها وبين ما يترائى من ظواهر الابحاث الطبيعية (العلمية) اليوم تكلف مردود إليه. والذي يفيده القرآن الشريف في معنى خارق العادة وإعطاء حقيقتة نذكره في

[ 74 ]

فصول من الكلام. 1 - تصديق القرآن لقانون العلية العامة إن القرآن يثبت للحوادث الطبيعية أسبابا ويصدق قانون العلية العامة كما يثبته ضرورة العقل وتعتمد عليه الابحاث العلمية والانظار الاستدلالية، فإن الانسان مفطور على ان يعتقد لكل حادث مادي علة موجبة من غير تردد وإرتياب. وكذلك العلوم الطبيعية وساير الابحاث العلمية تعلل الحوادث والامور المربوطة بما تجده من أمور أخرى صالحة للتعليل، ولا نعني بالعلة إلا ان يكون هناك أمر واحد أو مجموع أمور إذا تحققت في الطبيعة مثلا تحقق عندها أمر آخر نسميه المعلول بحكم التجارب كدلالة التجربة على انه كلما تحقق احتراق لزم ان يتحقق هناك قبله علة موجبة له من نار أو حركة أو اصطكاك أو نحو ذلك، ومن هنا كانت الكلية وعدم التخلف من أحكام العلية والمعلولية ولوازمهما. وتصديق هذا المعنى ظاهر من القرآن فيما جرى عليه وتكلم فيه من موت وحيوة ورزق وحوادث أخرى علوية سماوية أو سفلية أرضية على أظهر وجه، وان كان يسندها جميعا بالاخرة إلى الله سبحانه لفرض التوحيد. فالقرآن يحكم بصحة قانون العلية العامة بمعنى أن سببا من الاسباب إذا تحقق مع ما يلزمه ويكتنف به من شرائط التأثير من غير مانع لزمه وجود مسببه مترتبا عليه بإذن الله سبحانه وإذا وجد المسبب كشف ذلك عن تحقق سببه لا محالة. 2 - اثبات القرآن ما يخرق العادة ثم ان القرآن يقتص ويخبر عن جملة من الحوادث والوقائع لا يساعد عليه جريان العادة المشهودة في عالم الطبيعة على نظام العلة والمعلول الموجود، وهذه الحوادث الخارقة للعادة هي الآيات المعجزة التي ينسبها إلى عدة من الانبياء الكرام كمعجزات نوح وهود وصالح وابراهيم ولوط وداود وسليمان وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم فإنها امور خارقة للعادة المستمرة في نظام الطبيعة.

[ 75 ]

لكن يجب أن يعلم أن هذه الامور والحوادث وأن انكرتها العادة واستبعدتها الا أنها ليست امورا مستحيلة بالذات بحيث يبطلها العقل الضروري كما يبطل قولنا لايجاب والسلب يجتمعان معا ويرتفعان معا من كل جهة وقولنا الشئ يمكن أن يسلب عن نفسه وقولنا: لواحد ليس نصف الاثنين وأمثال ذلك من الامور الممتنعة بالذات كيف ؟ وعقول جم غفير من المليين منذ أعصار قديمة تقبل ذلك وترتضيه من غير انكار ورد ولو كانت المعجزات ممتنعه بالذات لم يقبلها عقل عاقل ولم يستدل بها على شئ ولم ينسبها أحد إلى احد. على أن أصل هذه الامور أعني المعجزات ليس مما تنكره عادة الطبيعة بل هي مما يتعاوره نظام المادة كل حين بتبديل الحى إلى ميت والميت إلى الحى وتحويل صورة إلى صورة وحادثة إلى حادثة ورخاء إلى بلاء وبلاء إلى رخاء، وإنما الفرق بين صنع العادة وبين المعجزة الخارقة هو أن الاسباب المادية المشهودة التي بين أيدينا إنما تؤثر أثرها مع روابط مخصوصة وشرائط زمانية ومكانية خاصة تقضي بالتدريج في التأثير، مثلا العصا وإن أمكن أن تصير حية تسعى والجسد البالى وإن أمكن أن يصير إنسانا حيا لكن ذلك إنما يتحقق في العادة بعلل خاصة وشرائط زمانية ومكانية مخصوصة تنتقل بها المادة من حال إلى حال وتكتسي صورة بعد صورة حتى تستقر وتحل بها الصورة الاخيرة المفروضة على ما تصدقه المشاهدة والتجربة لا مع أي شرط إتفق أو من غير علة أو بإرادة مريد كما هو الظاهر من حال المعجزات والخوارق التي يقصها القرآن. وكما ان الحس والتجربة الساذجين لا يساعدان على تصديق هذه الخوارق للعادة كذلك النظر العلمي الطبيعي، لكونه معتمدا على السطح المشهود من نظام العلة والمعلول الطبيعيين، اعني به السطح الذى يستقر عليه التجارب العلمي اليوم والفرضيات المعللة للحوادث المادية. إلا أن حدوث الحوادث الخارقة للعادة إجمالا ليس في وسع العلم إنكاره والستر عليه، فكم من أمر عجيب خارق للعادة يأتي به أرباب المجاهدة وأهل الارتياض كل يوم تمتلي به العيون وتنشره النشريات ويضبطه الصحف والمسفورات بحيث لا يبقى لذي لب في وقوعها شك ولا في تحققها ريب.

[ 76 ]

وهذا هو الذي ألجأ الباحثين في الآثار الروحية من علماء العصر أن يعللوه بجريان امواج مجهولة الكتريسية مغناطيسية فافترضوا أن الارتياضات الشاقة تعطي للانسان سلطة على تصريف أمواج مرموزة قوية تملكه أو تصاحبه إرادة وشعور وبذلك يقدر على ما يأتي به من حركات وتحريكات وتصرفات عجيبة في المادة خارقة للعادة بطريق القبض والبسط ونحو ذلك. وهذه الفرضية لو تمت وأطردت من غير انتقاض لادت إلى تحقق فرضية جديدة وسيعة تعلل جميع الحوادث المتفرقة التي كانت تعللها جميعا أو تعلل بعضها الفرضيات القديمة على محور الحركة والقوة ولساقت جميع الحوادث المادية إلى التعلل والارتباط بعلة واحدة طبيعية. فهذا قولهم والحق معهم في الجملة إذ لا معنى لمعلول طبيعي لا علة طبيعية له مع فرض كون الرابطة طبيعية محفوظة، وبعبارة أخرى إنا لا نعني بالعلة الطبيعية إلا أن تجتمع عدة موجودات طبيعية مع نسب وروابط خاصة فيتكون منها عند ذلك موجود طبيعي جديد حادث متأخر عنها مربوط بها بحيث لو انتقض النظام السابق عليه لم يحدث ولم يتحقق وجوده. واما القرآن الكريم فإنه وإن لم يشخص هذه العلة الطبيعية الاخيرة التي تعلل جميع الحوادث المادية العادية والخارقة للعادة (على ما نحسبه) بتشخيص إسمه وكيفية تأثيره لخروجه عن غرضه العام إلا انه مع ذلك يثبت لكل حادث مادي سببا ماديا باذن الله تعالى، وبعبارة اخرى يثبت لكل حادث مادي مستند في وجوده إلى الله سبحانه و (الكل مستند) مجرى ماديا وطريقا طبيعيا به يجري فيض الوجود منه تعالى إليه. قال تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شئ قدرا) الطلاق - 3، فان صدر الآية يحكم بالاطلاق من غير تقييد أن كل من اتقى الله وتوكل عليه وان كانت الاسباب العادية المحسوبة عندنا أسبابا تقضي بخلافه وتحكم بعدمه فإن الله سبحانه حسبه فيه وهو كائن لا محالة، كما يدل عليه أيضا اطلاق قوله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) البقرة - 186، وقوله تعالى: (ادعوني استجب لكم) المؤمن - 60، وقوله تعالى: (أليس الله بكاف عبده) الزمر - 36.

[ 77 ]

ثم الجملة التالية وهي قوله تعالى: (إن الله بالغ أمره) الطلاق - 3، يعلل إطلاق الصدر، وهذا المعنى قوله: (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) يوسف - 21. وهذه جملة مطلقة غير مقيدة بشئ البتة فلله سبحانه سبيل إلى كل حادث تعلقت به مشيته وإرادتة وإن كانت السبل العادية والطرق المألوفة مقطوعة منتفية هناك. وهذا يحتمل وجهين: أحدهما أن يتوسل تعالى إليه من غير سبب مادي وعلة طبيعية بل بمجرد الارادة وحدها، وثانيهما أن يكون هناك سبب طبيعي مستور عن علمنا يحيط به الله سبحانه ويبلغ ما يريده من طريقه الا أن الجملة التالية من الآية المعللة لما قبلها أعني قوله تعالى، قد جعل الله لكل شئ قدرا، تدل على ثاني الوجهين فإنها تدل على أن كل شئ من المسببات أعم مما تقتضيه الاسباب العادية أو لا تقتضيه فان له قدرا قدره الله سبحانه عليه، وإرتباطات مع غيره من الموجودات، واتصالات وجودية مع ما سواه، لله سبحانه أيتوسل منها إليه وان كانت الاسباب العادية مقطوعة عنه غير مرتبطة به إلا أن هذه الاتصالات والارتباطات ليست مملوكة للاشياء أنفسها حتى تطيع في حال وتعصى في أخرى بل مجعولة بجعله تعالى مطيعة منقادة له. فالآية تدل على أنه تعالى جعل بين الاشياء جميعها إرتباطات واتصالات له ان يبلغ إلى كل ما يريد من أي وجه شاء وليس هذا نفيا للعلية والسببية بين الاشياء بل إثبات أنها بيد الله سبحانه يحولها كيف شاء وأراد، ففي الوجود علية وارتباط حقيقي بين كل موجود وما تقدمه من الموجودات المنتظمة غير أنها ليست على ما نجده بين ظواهر الموجودات بحسب العادة (ولذلك نجد لفرضيات العلمية الموجودة قاصرة عن تعليل جميع الحوادث الوجودية) بل على ما يعلمه الله تعالى وينظمه. وهذه الحقيقة هي التي تدل عليها آيات القدر كقوله تعالى: (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) الحجر - 21، وقوله تعالى: (انا كل شئ خلقناه بقدر) القمر - 49، وقوله تعالى: (وخلق كل شئ فقدره تقديرا) الفرقان - 2، وقوله تعالى: (الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى) الاعلى - 3. وكذا قوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن

[ 78 ]

نبرأها) الحديد - 22، وقوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة إلا باذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شئ عليم) التغابن - 11. فان الآية الاولى وكذا بقية الآيات تدل على أن الاشياء تنزل من ساحة الاطلاق إلى مرحلة التعين والتشخص بتقدير منه تعالى وتحديد يتقدم على الشئ ويصاحبه، ولا معنى لكون الشئ محدودا مقدرا في وجوده إلا أن يتحدد ويتعين بجميع روابطه التي مع سائر الموجودات والموجود المادي مرتبط بمجموعة من الموجودات المادية الاخرى التي هي كالقالب الذي يقلب به الشئ ويعين وجوده ويحدده ويقدره فما من موجود مادي إلا وهو متقدر مرتبط بجميع الموجودات المادية التي تتقدمه وتصاحبه فهو معلول لآخر مثله لا محالة. ويمكن أن يستدل أيضا على ما مر بقوله تعالى: (ذلكم الله ربكم خالق كل شئ) المؤمن - 62، وقوله تعالى: (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) هود - 56. فإن الآيتين بانضمام ما مرت الاشارة إليه من أن الآيات القرآنية تصدق قانون العلية العام تنتج المطلوب. وذلك أن الآية الاولى تعمم الخلقة لكل شئ فما من شئ إلا وهو مخلوق لله عز شأنه، والآية الثانية تنطق بكون الخلقة والايجاد على وتيرة واحدة ونسق منتظم من غير إختلاف يؤدي إلى الهرج والجزاف. والقرآن كما عرفت يصدق قانون العلية العام في ما بين الموجودات المادية ينتج أن نظام الوجود في الموجودات المادية سواء كانت على جري العادة أو خارقة لها على صراط مستقيم غير متخلف ووتيرة واحدة في إستناد كل حادث فيه إلى العلة المتقدمة عليه الموجبة له. ومن هنا يستنتج أن الاسباب العادية التي ربما يقع التخلف بينها وبين مسبباتها ليست بأسباب حقيقية بل هناك اسباب حقيقية مطردة غير متخلفة الاحكام والخواص كما ربما يؤيده التجارب العلمي في جراثيم الحيوة وفي خوارق العادة كما مر. 3 - القرآن يسند ما أسند إلى العلة المادية إلى الله تعالى ثم ان القرآن كما يثبت بين الاشياء العلية والمعلولية ويصدق سببية البعض للبعض كذلك

[ 79 ]

يسند الامر في الكل إلى الله سبحانه فيستنتج منه أن الاسباب الوجودية غير مستقلة في التأثير والمؤثر الحقيقي بتمام معنى الكلمة ليس إلا الله عز سلطانه. قال تعالى: (ألا له الخلق وألامر) الاعراف - 53، وقال تعالى (لله ما في السموات وما في الارض) البقرة - 284، وقال تعالى: (له ملك السموات والارض) الحديد - 5، وقال تعالى: (قل كل من عند الله) النساء - 77. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على أن كل شئ مملوك محض لله لا يشاركه فيه احد، وله أن يتصرف فيها كيف شاء وأراد وليس لاحد أن يتصرف في شئ منها إلا من بعد أن يأذن الله لمن شاء ويملكه التصرف من غير إستقلال في هذا التمليك أيضا، بل مجرد إذن لا يستقل به المأذون له دون أن يعتمد على إذن الآذن، قال تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) آل عمران - 26، وقال تعالى: (الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) طه - 50، إلى غير ذلك من الآيات، وقال تعالى أيضا: (له ما في السموات وما في الارض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) البقرة - 255، وقال تعالى: (ثم استوى على العرش يدبر الامر ما من شفيع إلا من بعد إذنه) يونس - 3. فالاسباب تملكت السببية بتمليكه تعالى، وهي غير مستقلة في عين أنها مالكة. وهذا المعنى هو الذي يعبر سبحانه عنه بالشفاعة والاذن، فمن المعلوم أن الاذن إنما يستقيم معناه إذا كان هناك مانع من تصرف المأذون فيه، والمانع أيضا إنما يتصور فيما كان هناك مقتض موجود يمنع المانع عن تأثيره ويحول بينه وبين تصرفه. فقد بان أن في كل السبب مبدئا مؤثرا مقتضيا للتأثير به يؤثر في مسببه، والامر مع ذلك لله سبحانه. 4 - القرآن يثبت تأثيرا في نفوس الانبياء في الخوارق ثم إنه تعالى قال: (وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون) المؤمن - 78. فأفاد إناطة اتيان أية آية من أي رسول بإذن الله سبحانه فبين أن إتيان الآيات

[ 80 ]

المعجزة من الانبياء وصدورها عنهم إنما هو لمبدأ مؤثر موجود في نفوسهم الشريفة متوقف في تأثيره على الاذن كما مر في الفصل السابق. قال تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفرسليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من احد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من احد إلا باذن الله) البقرة - 102. ولآية كما انها تصدق صحة السحر في الجملة كذلك تدل على ان السحر ايضا كالمعجزة في كونه عن مبدأ نفساني في الساحر لمكان الاذن. وبالجملة جميع الامور الخارقة للعادة سواء سميت معجزة أو سحرا أو غير ذلك ككرامات الاولياء وسائر الخصال المكتسبة بالارتياضات والمجاهدات جميعها مستندة إلى مباد نفسانية ومقتضيات إرادية على ما يشير إليه كلامه سبحانه الا ان كلامه ينص على ان المبدأ الموجود عند الانبياء والرسل والمؤمنين هو الفائق الغالب على كل سبب وفي كل حال، قال تعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون) الصافات - 173، وقال تعالى: كتب الله لاغلبن أنا ورسلي) المجادلة - 21، وقال تعالى: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحيوة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد) المؤمن - 51. والآيات مطلقة غير مقيدة. ومن هنا يمكن أن يستنتج أن هذا المبدأ الموجود المنصور أمر وراء الطبيعة وفوق المادة. فان الامور المادية مقدرة محدودة مغلوبة لما هو فوقها قدرا وحدا عند التزاحم والمغالبة، والامور المجردة أيضا وان كانت كذلك إلا أنها لا تزاحم بينها ولا تمانع إلا ان تتعلق بالمادة بعض التعلق، وهذا المبدأ النفساني المجرد المنصور بإراده الله سبحانه إذا قابل مانعا ماديا إفاض إمدادا على السبب بما لا يقاومه سبب مادي يمنعه فافهم. 5 - القرآن كما يسند الخوارق إلى تأثير النفوس يسندها إلى أمر الله تعالى ثم ان الجملة الاخيرة من الاية السابقة في الفصل السابق أعني قوله تعالى: (فإذا

[ 81 ]

جاء أمر الله قضي بالحق الآية، تدل على ان تأثير هذا المقتضي يتوقف على أمر من الله تعالى يصاحب الاذن الذي كان يتوقف عليه ايضا فتأثير هذا المقتضى يتوقف على مصادفته الامر أو اتحاده معه. وقد فسر الامر في قوله تعالى (انما امره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون) يس - 82، بكلمة الايجاد وقول: كن. وقال تعالى: (ان هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاؤن إلا انشاء الله) الدهر - 29، 30 وقال: (ان هو إلا ذكر للعالمين. لمن شاء منكم ان يستقيم. وما تشاؤن إلا أن يشاء الله رب العالمين) التكوير - 27، 28، 29، دلت الآيات على ان الامر الذي للانسان أن يريده وبيده زمام اختياره لا يتحقق موجودا إلا أن يشاء الله ذلك بان يشاء أن يشاء الانسان ويريد إرادة الانسان فإن الآيات الشريفة في مقام أن أفعال الانسان الارادية وإن كانت بيد الانسان بإرادته لكن الارادة والمشية ليست بيد الانسان بل هي مستندة إلى مشية الله سبحانه، وليست في مقام بيان أن كل ما يريده الانسان فقد اراده الله فإنه خطأ فاحش ولازمه أن يتخلف الفعل عن إرادة الله سبحانه عند تخلفه عن إرادة الانسان، تعالى الله عن ذلك. مع أنه خلاف ظواهر الآيات الكثيرة الواردة في هذا المورد كقوله تعالى: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هديها) السجدة - 13. وقوله تعالى: (ولو شاء ربك لآمن من في الآرض كلهم جميعا) يونس - 99، إلى غير ذلك فإرادتنا ومشيئتنا إذا تحققت فينا فهي مرادة بإرادة الله ومشيتة لها وكذا افعالنا مرادة له تعالى من طريق إرادتنا ومشيتنا بالواسطة. وهما أعني الارادة والفعل جميعا متوقفان على أمر الله سبحانه وكلمة كن. فالامور جميعا سواء كانت عادية أو خارقة للعادة وسواء كان خارق العادة في جانب الخير والسعادة كالمعجزة والكرامة، أو في جانب الشر كالسحر والكهانة مستندة في تحققها إلى أسباب طبيعية، وهي مع ذلك متوقفة على ارادة الله، لا توجد إلا بأمر الله سبحانه أي بأن يصادف السبب أو يتحد مع أمر الله سبحانه. وجميع الاشياء وإن كانت من حيث إستناد وجودها إلى الامر الالهي على حد سواء بحيث إذا تحقق الاذن والامر تحققت عن أسبابها، وإذا لم يتحقق الاذن والامر لم تتحقق، أي لم تتم السببية إلا أن قسما منها وهو المعجزة من الانبياء أو ما سأله عبد

[ 82 ]

ربه بالدعاء لا يخلو عن إرادة موجبة منه تعالى وأمر عزيمة كما يدل عليه قوله: (كتب الله لاغلبن أنا ورسلي - الآية) المجادلة - 21، وقوله تعالى: (أجيب دعوة الداع إذا دعان الآية) البقرة - 186، وغير ذلك من الآيات المذكورة في الفصل السابق. 6 - القرآن يسند المعجزة إلى سبب غير مغلوب فقد تبين من الفصول السابقة من البحث أن المعجزة كسائر الامور الخارقة للعادة لا تفارق الاسباب العادية في الاحتياج إلى سبب طبيعي وان مع الجميع أسبابا باطنية وأن الفرق بينها أن الامور العادية ملازمة لاسباب ظاهرية تصاحبها الاسباب الحقيقية الطبيعية غالبا أو مع الاغلب ومع تلك الاسباب الحقيقية إرادة الله وأمره، والامور الخارقة للعادة من الشرور كالسحر والكهانة مستندة إلى أسباب طبيعية مفارقة للعادة مقارنة للسبب الحقيقي بالاذن والارادة كإستجابة الدعاء ونحو ذلك من غير تحد يبتني عليه ظهور حق الدعوة وأن المعجزة مستندة إلى سبب طبيعي حقيقي بإذن الله وأمره إذا كان هناك تحد يبتنى عليه صحة النبوة والرسالة والدعوة إلى الله تعالى وأن القسمين الآخرين يفارقان سائر الاقسام في أن سببهما لا يصير مغلوبا مقهورا قط بخلاف سائر المسببات. فان قلت: فعلى هذا لو فرضنا الاحاطة والبلوغ إلى السبب الطبيعي الذي للمعجزة كانت المعجزة ميسورة ممكنة الاتيان لغير النبي أيضا ولم يبق فرق بين المعجزة وغيرها إلا بحسب النسبة والاضافه فقط فيكون حينئذ أمر ما معجزة بالنسبة إلى قوم غير معجزة بالنسبة إلى آخرين، وهم المطلعون على سببها الطبيعي الحقيقي، وفي عصر دون عصر، وهو عصر العلم، فلو ظفر البحث العلمي على الاسباب الحقيقية الطبيعية القصوى لم يبق مورد للمعجزة ولم تكشف المعجزة عن الحق. ونتيجه هذا البحث أن المعجزة لا حجية فيها إلا على الجاهل بالسبب فليست حجة في نفسها. قلت: كلا فليست المعجزة معجزة من حيث أنها مستندة إلى سبب طبيعي مجهول حتى تنسلخ عن إسمها عند إرتفاع الجهل وتسقط عن الحجية، ولا أنها معجزة من حيث إستنادها إلى سبب مفارق للعادة، بل هي معجزة من حيث أنها مستندة

[ 83 ]

إلى أمر مفارق للعادة غير مغلوب السبب قاهرة العلة البتة، وذلك كما ان الامر الحادث من جهة إستجابة الدعاء كرامة من حيث إستنادها إلى سبب غير مغلوب كشفاء المريض مع أنه يمكن ان يحدث من غير جهته كجهة العلاج بالدواء غير أنه حينئذ أمر عادي يمكن أن يصير سببه مغلوبا مقهورا بسبب آخر أقوى منه. 7 - القرآن يعد المعجزة برهانا على صحة الرسالة لا دليلا عاميا وهيهنا سؤال وهو أنه ما هي الرابطة بين المعجزة وبين حقية دعوى الرسالة مع أن العقل لا يرى تلازما بين صدق الرسول في دعوته إلى الله سبحانه وبين صدور أمر خارق للعادة عن الرسول على أن الظاهر من القرآن الشريف، تقرير ذلك فيما يحكيه من قصص عدة من الانبياء كهود وصالح وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم فإنهم على ما يقصه القرآن حينما بثوا دعوتهم سئلوا عن آية تدل على حقية دعوتهم فأجابوهم فيما سئلوا وجاءوا بالآيات. وربما أعطوا المعجزة في أول البعثة قبل أن يسألهم أممهم شيئا من ذلك كما قال تعالى في موسى عليه السلام وهارون (إذهب أنت واخوك بآياتي ولا تنيا في ذكرى) طه - 42، وقال تعالى في عيسى عليه السلام: (ورسولا إلى بنى إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا باذن الله وأبرى الاكمه والابرص وأحيى الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) آل عمران - 49، وكذا إعطاء القرآن معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالجملة فالعقل الصريح لا يرى تلازما بين حقية ما أتى به الانبياء والرسل من معارف المبدأ والمعاد وبين صدور أمر يخرق العادة عنهم. مضافا إلى أن قيام البراهين الساطعة على هذه الاصول الحقة يغنى العالم البصير بها عن النظر في أمرالاعجاز، ولذا قيل إن المعجزات لاقناع نفوس العامة لقصور عقولهم عن إدراك الحقائق العقلية وأما الخاصة فإنهم في غنى عن ذلك. والجواب عن هذا السؤال أن الانبياء والرسل عليهم السلام لم يأتوا بالآيات المعجزة لاثبات شئ من معارف المبدأ والمعاد مما يناله العقل كالتوحيد والبعث وأمثالها

[ 84 ]

وإنما اكتفوا في ذلك بحجة للعقل والمخاطبة من طريق النظر والاستدلال كقوله تعالى: (قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والارض): إبراهيم - 10 في الاحتجاج على التوحيد قوله تعالى: (ما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار) ص - 28 في الاحتجاج على البعث. وانما سئل الرسل المعجزة وأتوابها لاثبات رسالتهم وتحقيق دعويها. وذلك أنهم ادعوا الرسالة من الله بالوحى وأنه بتكليم إلهي أو نزول ملك ونحو ذلك وهذا شئ خارق للعادة في نفسه من غير سنخ الادراكات الظاهرة والباطنة التي يعرفها عامة الناس ويجدونها من أنفسهم، بل إدراك مستور عن عامة النفوس لو صح وجوده لكان تصرفا خاصا من ما وراء الطبيعة في نفوس الانبياء فقط، مع أن الانبياء كغيرهم من افراد الناس في البشرية وقواها، ولذلك صادفوا إنكارا شديدا من الناس ومقاومة عنيفة في رده على أحد وجهين: فتارة حاول الناس إبطال دعويهم بالحجة كقوله تعالى: (قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آبائنا) إبراهيم - 102، إستدلوا فيها على بطلان دعويهم الرسالة بأنهم مثل سائر الناس والناس لا يجدون شيئا مما يدعونه من أنفسهم مع وجود المماثلة، ولو كان لكان في الجميع أو جاز للجميع هذا، ولهذا اجاب الرسل عن حجتهم بما حكاه الله تعالى عنهم بقوله: (قالت لهم رسلهم ان نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده) إبراهيم - 13، فردوا عليهم بتسليم المماثلة وان الرسالة من منن الله الخاصة، والاختصاص ببعض النعم الخاصة لا ينافي المماثلة فللناس إختصاصات، نعم لو شاء أن يمتن على من يشاء منهم فعل ذلك من غير مانع فالنبوة مختصة بالبعض وإن جاز على الكل. ونظير هذا الاحتجاج قولهم في النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما حكاه الله تعالى: (أأنزل عليه الذكر من بيننا) ص - 8، وقولهم كما حكاه الله: (لو لا انزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) الزخرف - 31. ونظير هذا الاحتجاج أو قريب منه ما في قول تعالى: (وقالوا ما لهذا الرسول

[ 85 ]

يأكل الطعام ويمشي في الاسواق لو لا انزل عليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها) الفرقان - 8، ووجه الاستدلال أن دعوى الرسالة توجب أن لا يكون بشرا مثلنا لكونه ذا احوال من الوحي وغيره ليس فينا فلم يأكل الطعام ويمشي في الاسواق لاكتساب المعيشة ؟ بل يجب أن ينزل معه ملك يشاركه في الانذار أو يلقي إليه كنز فلا يحتاج إلى مشي الاسواق للكسب أو تكون له جنة فيأكل منها لا مما نأكل منه من طعام، فرد الله تعالى عليهم بقوله: (انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلو افلا يستطيعون سبيلا) إلى أن قال: (وما ارسلنا قبلك من المرسلين الا انهم ليأكلون الطعام ويمشون في الاسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا) الفرقان - 20، ورد تعالى في موضع آخر مطالبتهم مباشرة الملك للانذار بقوله: (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون) الانعام - 9. وقريب من ذلك الاحتجاج أيضا ما في قوله تعالى: (وقال الذين لا يرجون لقائنا لو لا انزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد إستكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا) الفرقان - 21، فأبطلوا بزعمهم دعوى الرسالة بالوحي بمطالبة أن يشهدوا نزول الملك أو رؤية الرب سبحانه لمكان المماثلة مع النبي، فرد الله تعالى عليهم ذلك بقوله: (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا) الفرقان - 22، فذكر أنهم والحال حالهم لا يرون الملائكة إلا مع حال الموت كما ذكره في موضع آخر بقوله تعالى: (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين) الحجر - 8، ويشتمل هذه الآيات الاخيرة على زيادة في وجه الاستدلال، وهو تسليم صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعواه إلا أنه مجنون وما يحكيه ويخبر به أمر يسوله له الجنون غير مطابق للواقع كما في موضع آخر من قوله: (وقالوا مجنون وازدجر) القمر - 9. وبالجملة فأمثال هذه الآيات مسوقة لبيان إقامتهم الحجة على إبطال دعوى النبوة من طريق المماثلة. وتارة اخري أقاموا أنفسهم مقام الانكار وسؤال الحجة والبينة على صدق

[ 86 ]

الدعوة لاشتمالها على ما تنكره النفوس ولا تعرفه العقول (على طريقة المنع مع السند بإصطلاح فن المناظرة) وهذه البينة هي المعجزة، بيان ذلك أن دعوى النبوة والرسالة من كل نبي ورسول على ما يقصه القرآن إنما كانت بدعوى الوحى والتكليم الالهي بلا واسطة أو بواسطة نزول الملك، وهذا أمر لا يساعد عليه الحس ولا تؤيده التجربة فيتوجه عليه الاشكال من جهتين: أحديهما من جهة عدم الدليل عليه، والثانية من جهة الدليل على عدمه، فإن الوحى والتكليم الالهي وما يتلوه من التشريع والتربية الدينية مما لا يشاهده البشر من أنفسهم، والعادة الجارية في الاسباب والمسببات تنكرة فهو أمر خارق للعادة، وقانون العلية العامة لا يجوزه، فلو كان النبي صادقا في دعواه النبوة والوحى كان لازمه أنه متصل بما وراء الطبيعة، مؤيد بقوة إلهية تقدر على خرق العادة وأن الله سبحانه يريد بنبوته والوحى إليه خرق العادة، فلو كان هذا حقا ولا فرق بين خارق وخارق كان من الممكن إن يصدر من النبي خارق آخر للعادة من غير مانع وأن يخرق الله العادة بأمر آخر يصدق النبوة والوحى من غير مانع عنه فإن حكم الامثال واحد فلئن أراد الله هداية الناس بطريق خارق للعادة وهو طريق النبوة والوحى فليؤيدها وليصدقها بخارق آخر وهو المعجزة. وهذا هو الذي بعث الامم إلى سؤال المعجزة على صدق دعوى النبوة كلما جائهم رسول من أنفسهم بعثا بالفطرة والغريزة وكان سؤال المعجزة لتأييد الرسالة وتصديقها لا للدلالة على صدق المعارف الحقة التي كان الانبياء يدعون إليها مما يمكن أن يناله البرهان كالتوحيد والمعاد، ونظير هذا ما لو جاء رجل بالرسالة إلى قوم من قبل سيدهم الحاكم عليهم ومعه أوامر ونواه يدعيها للسيد فإن بيانه لهذه الاحكام وإقامتة البرهان على أن هذه الاحكام مشتملة على مصلحة القوم وهم يعلمون أن سيدهم لا يريد إلا صلاح شأنهم، إنما يكفي في كون الاحكام التي جاء بها حقة صالحة للعمل ولا تكفى البراهين والادلة المذكورة في صدق رسالتة وأن سيدهم أراد منهم بإرساله إليهم ما جاء به من الاحكام بل يطالبونه ببينة أو علامة تدل على صدقه في دعواه ككتاب بخطه وخاتمه يقرئونه، أو علامة يعرفونها، كما قال المشركون للنبي: (حتى تنزل علينا كتابا نقرأه) أسرى - 93. فقد تبين بما ذكرناه أولا: التلازم بين صدق دعوى الرسالة وبين المعجزة وأنها

[ 87 ]

الدليل على صدق دعواها لا يتفاوت في ذلك حال الخاصة والعامة في دلالتها وإثباتها، وثانيا ان ما يجده الرسول والنبي من الوحي ويدركه منه من غير سنخ ما نجده بحواسنا وعقولنا النظرية الفكرية، فالوحي غير الفكر الصائب، وهذا المعنى في كتاب الله تعالى من الوضوح والسطوع بحيث لا يرتاب فيه من له أدنى فهم وأقل إنصاف. وقد إنحرف في ذلك جمع من الباحثين من أهل العصر فراموا بناء المعارف الالهية والحقائق الدينية على ما وصفه العلوم الطبيعية من اصالة المادة المتحولة المتكاملة فقد رأوا أن الادراكات الانسانية خواص مادية مترشحة من الدماغ وأن الغايات الوجودية وجميع الكمالات الحقيقية إستكمالات فردية أو إجتماعية مادية. فذكروا ان النبوة نوع نبوغ فكري وصفاء ذهني يستحضر به الانسان المسمى نبيا كمال قومه الاجتماعي ويريد به أن يخلصهم من ورطة الوحشية والبربرية إلى ساحة الحضارة والمدنية فيستحضر ما ورثه من العقائد والآراء ويطبقها على مقتضيات عصره ومحيط حياته، فيقنن لهم اصولا إجتماعية وكليات عملية يستصلح بها أفعالهم الحيوية ثم يتمم ذلك بأحكام وامور عبادية ليستحفظ بها خواصهم الروحية لافتقار الجامعة الصالحة والمدنية الفاضلة إلى ذلك ويتفرع على هذا الافتراض: أولا: أن النبي إنسان متفكر نابغ يدعو قومه إلى صلاح محيطهم الاجتماعي. وثانيا: أن الوحي هو إنتقاش الافكار الفاضلة في ذهنه. وثالثا: أن الكتاب السماوي مجموع هذه الافكار الفاضلة المنزهة عن التهوسات النفسانية والاغراض النفسانية الشخصية. ورابعا: أن الملائكة التي أخبر بها النبي قوى طبيعية تدبر امور الطبيعة أو قوى نفسانية تفيض كمالات النفوس عليها، وأن روح القدس مرتبة من الروح الطبيعية المادية تترشح منها هذه الافكار المقدسة، وأن الشيطان مرتبة من الروح تترشح منها الافكار الردية وتدعو إلى الاعمال الخبيثة المفسدة للاجتماع، وعلى هذا الاسلوب فسروا الحقائق التي أخبر بها الانبياء كاللوح والقلم والعرش والكرسي والكتاب والحساب والجنة والنار بما يلائم الاصول المذكورة.

[ 88 ]

وخامسا: أن الاديان تابعة لمقتضيات أعصارها تتحول بتحولها. وسادسا: أن المعجزات المنقولة عن الانبياء المنسوبة إليهم خرافات مجعولة أو حوادث محرفة لنفع الدين وحفظ عقائد العامة عن التبدل بتحول الاعصار أو لحفظ مواقع أئمة الدين ورؤساء المذهب عن السقوط والاضمحلال إلى غير ذلك مما أبدعه قوم وتبعهم آخرون. هذه جمل ما ذكروه والنبوة بهذا المعنى لان تسمي لعبة سياسية أولى بها من أن تسمى نبوة إلهية والكلام التفصيلي في أطراف ما ذكروه خارج عن البحث المقصود في هذا المقام. والذي يمكن أن يقال فيه هيهنا أن الكتب السماوية والبيانات النبوية المأثورة على ما بأيدينا لا توافق هذا التفسير لا تناسبه أدنى مناسبة، وإنما دعاهم إلى هذا النوع من التفسير إخلادهم إلى الارض وركونهم إلى مباحث المادة فاستلزموا إنكار ما وراء الطبيعة وتفسير الحقائق المتعالية عن المادة بما يسلخها عن شأنها وتعيدها إلى المادة الجامدة. وما ذكره هؤلاء هو في الحقيقة تطور جديد فيما كان يذكره آخرون فقد كانوا يفسرون جميع الحقائق المأثورة في الدين بالمادة غير انهم كانوا يثبتون لها وجودات غائبة عن الحس كالعرش والكرسي واللوح والقلم والملائكة ونحوها من غير مساعدة الحس والتجربة على شئ من ذلك، ثم لما اتسع نطاق العلوم الطبيعية وجرى البحث على أساس الحس والتجربة لزم الباحثين على ذلك الاسلوب أن ينكروا لهذه الحقائق وجوداتها المادية الخارجة عن الحس أو البعيدة عنه وأن يفسروها بما تعيدها إلى الوجود المادي المحسوس ليوافق الدين ما قطع به العلم ويستحفظ بذلك عن السقوط. فهاتان الطائفتان بين باغ وعاد، أما القدماء من المتكلمين فقد فهموا من البيانات، الدينية مقاصدها حق الفهم من غير مجاز غير أنهم رأوا أن مصاديقها جميعا امور مادية محضة لكنها غائبة عن الحس غير محكومة بحكم المادة أصلا و الواقع خلافه، وأما المتأخرون من باحثي هذا العصر ففسروا البيانات الدينية بما أخرجوها به عن مقاصدها البينة الواضحة، وطبقوها على حقائق مادية ينالها الحس وتصدقها التجربة مع أنها

[ 89 ]

ليست بمقصودة، ولا البيانات اللفظية تنطبق على شئ منها. والبحث الصحيح يوجب أن تفسر هذه البيانات اللفظة على ما يعطيها اللفظ في العرف واللغة ثم يعتمد في أمر المصداق على ما يفسر به بعض الكلام بعضا ثم ينظر هل الانظار العلمية تنافيها أو تبطلها ؟ فلو ثبت فيها في خلال ذلك شئ خارج عن المادة وحكمها فإنما الطريق إليه إثباتا أو نفيا طور آخر من البحث غير البحث الطبيعي الذي تتكفلة العلوم الطبيعية، فما للعلم الباحث عن الطبيعة وللامر الخارج عنها ؟ فإن العلم الباحث عن المادة وخواصها ليس من وظيفته أن يتعرض لغير المادة خواصها لا إثباتا ولا نفيا. ولو فعل شيئا منه باحث من بحاثه كان ذلك منه شططا من القول، نظير ما لو أراد الباحث في علم اللغة أن يستظهر من علمه حكم الفلك نفيا أو إثباتا، ولنرجع إلى بقية الآيات. وقوله تعالى: (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة. سوق الآيات من أول السورة وإن كانت لبيان حال المتقين والكافرين والمنافقين (الطوائف الثلث) جميعا لكنه سبحانه حيث جمعهم طرا في قوله: يا أيها الناس أعبدوا ربكم، ودعاهم إلى عبادته تقسموا لا محالة إلى مؤمن وغيره فإن هذه الدعوة لا تحتمل من حيث إجابتها وعدمها غير القسمين: المؤمن والكافر وأما المنافق فإنما يتحقق بضم الظاهر إلى الباطن، واللسان إلى القلب فكان هناك من جمع بين اللسان والقلب إيمانا أو كفرا ومن أختلف لسانه وقلبه وهو المنافق، فلما ذكرنا (لعله) أسقط المنافقون من الذكر، وخص بالمؤمنين والكافرين ووضع الايمان مكان التقوى. ثم إن الوقود ما توقد به النار وقد نصت الآية على أنه نفس الانسان، فالانسان وقود وموقود عليه، كما في قوله تعالى ايضا: (ثم في النار يسجرون) المؤمن - 72. وقوله تعالى: (نار الله الموقدة التي تطلع على الافئدة) اللمزة - 7، فالانسان معذب بنار توقده نفسه، وهذه الجملة نظيرة قوله تعالى: (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها) البقرة - 25، ظاهرة في أنه ليس للانسان هناك إلا ما هيأه من هيهنا، كما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كما تعيشون تموتون وكما

[ 90 ]

تموتون تبعثون) الحديث. وإن كان بين الفريقين فرق من حيث أن لاهل الجنة مزيدا عند ربهم. قال تعالى: (لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد) ق - 35. والمراد بالحجارة في قوله: (وقودها الناس والحجارة الاصنام التي كانوا يعبدونها، ويشهد به قوله تعالى: (إنكم وما تعبدو من دون الله حصب جهنم الآية) الانبياء - 98، والحصب هو الوقود. وقوله تعالى: لهم فيها أزواج مطهرة، قرينة الازواج تدل على أن المراد بالطهارة هي الطهارة من أنواع الاقذار والمكاره التي تمنع من تمام الالتيام والالفة والانس من الاقذار والمكاره الخلقية والخلقية. (بحث روائي) روى الصدوق، قال: سئل الصادق عليه السلام عن الاية فقال: الازواج المطهرة اللاتي لا يحضن ولا يحدثن. أقول: وفي بعض الروايات تعميم الطهارة للبراءة عن جميع العيوب والمكاره. إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم و أما الذين كفروا فيقولون ما ذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين - 26. الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الارض أؤلئك هم الخاسرون - 27.

[ 91 ]

(بيان) قوله تعالى: إن الله لا يستحيي أن يضرب، البعوضة الحيوان المعروف وهو من أصغر الحيوانات المحسوسة وهذه الآية والتي بعدها نظيرة ما في سورة الرعد (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمي إنما يتذكر أولوا الالباب. الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق. والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل) الرعد - 19، 20، 21. وكيف كان فالآية تشهد على أن من الضلال والعمى ما يلحق الانسان عقيب أعماله السيئة غير الضلال والعمى الذي له في نفسه ومن نفسه حيث يقول تعالى: وما يضل به إلا الفاسقين، فقد جعل إضلاله في تلو الفسق لا متقدما عليه هذا. ثم إن الهداية والاضلال كلمتان جامعتان لجميع أنواع الكرامة والخذلان التي ترد منه تعالى على عباده السعداء والاشقياء، فإن الله تعالى وصف في كلامه حال السعداء من عبادة بأنه يحييهم حيوة طيبة، ويؤيدهم بروح الايمان، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويجعل لهم نورا يمشون به، وهو وليهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهو معهم يستجيب لهم إذا دعوه ويذكرهم إذا ذكروه، والملائكة تنزل عليهم بالبشرى والسلام إلى غير ذلك. ووصف حال الاشقياء من عباده بأنه يضلهم ويخرجهم من النور إلى الظلمات ويختم على قلوبهم، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، ويطمس وجوههم على أدبارهم ويجعل في أعناقهم أغلالا فهي إلى الاقان فهم مقمحون، ويجعل من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فيغشيهم فهم لا يبصرون، ويقيض لهم شياطين قرناء يضلونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون، ويزينون لهم أعمالهم، وهم أوليائهم، ويستدرجهم الله من حيث لا يشعرون، ويملي لهم أن كيده متين، ويمكربهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون. فهذه نبذة مما ذكره سبحانه من حال الفريقين وظاهرها أن للانسان في الدنيا وراء الحيوة التي يعيش بها فيها حيوة اخرى سعيدة أو شقية ذات اصول وأعراق يعيش بها فيها، وسيطلع ويقف عليها عند إنقطاع الاسباب وإرتفاع الحجاب، ويظهر

[ 92 ]

من كلامه تعالى أيضا أن للانسان حيوة اخرى سابقة على حيوته الدنيا يحذوها فيها كما يحذو حذو حيوته الدنيا فيما يتلوها. وبعبارة اخرى إن للانسان حيوة قبل هذه الحيوة الدنيا وحيوة بعدها، والحيوة الثالثة تتبع حكم الثانية والثانية حكم الاولى، فالانسان وهو في الدنيا واقع بين حيوتين: سابقة ولاحقة، فهذا هو الذي يقضي به ظاهر القرآن. لكن الجمهور من المفسرين حملوا القسم الاول من الايات وهي الواصفة للحيوة السابقة على ضرب من لسان الحال وإقتضاء الاستعداد، والقسم الثاني منها وهي الواصفة للحيوة اللاحقة على ضروب المجاز والاستعارة هذا، إلا أن ظواهر كثير من الآيات يدفع ذلك. أما القسم الاول وهي آيات الذر والميثاق فستأتي في مواردها، وأما القسم الثاني فكثير من الآيات دالة على أن الجزاء يوم الجزاء بنفس الاعمال وعينها كقوله تعالى: (لا تعتذروا اليوم أنما تجزون ما كنتم تعملون) التحريم - 7، وقوله تعالى: (ثم توفى كل نفس ما كسبت الآية) البقرة - 281، وقوله تعالى: (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة) البقرة - 23. وقوله تعالى: فليدع ناديه سندع الزبانية) العلق - 18، وقوله تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء) آل عمران - 28، وقوله تعالى: (ما يأكلون في بطونهم إلا النار) البقرة - 179، وقوله: (إنما يأكلون في بطونهم نارا) النساء - 10، إلى غير ذلك من الآيات. ولعمري لو لم يكن في كتاب الله تعالى - إلا قوله: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد) ق - 22، لكان فيه كفاية إذ الغفلة لا تكون إلا عن معلوم حاضر، وكشف الغطاء لا يستقيم إلا عن مغطى موجود فلو لم يكن ما يشاهده الانسان يوم القيامة موجودا حاضرا من قبل لما كان يصح أن يقال للانسان أن هذه أمور كانت مغفولة لك، مستورة عنك فهي اليوم مكشوف عنها الغطاء، مزالة منها الغفلة. ولعمري أنك لو سئلت نفسك أن تهديك إلى بيان يفي بهذه المعاني حقيقة من غير مجاز لما أجابتك إلا بنفس هذه البيانات والاوصاف التي نزل بها القرآن الكريم. ومحصل الكلام أن كلامه تعالى موضوع على وجهين:

[ 93 ]

أحدهما: وجه المجازاة بالثواب والعقاب، وعليه عدد جم من الآيات، تفيد: أن ما سيستقبل الانسان من خير أو شر كجنة أو نار أنما هو جزاء لما عمله في الدنيا من العمل. وثانيهما: وجه تجسم الاعمال وعليه عدة اخرى من الآيات، وهي تدل على أن الاعمال تهيئ بأنفسها أو باستلزامها وتأثيرها أمورا مطلوبة أو غير مطلوبة أي خيرا أو شرا هي التي سيطلع عليه الانسان يوم يكشف عن ساق. وإياك أن تتوهم أن الوجهين متنافيان فإن الحقائق إنما تقرب إلى الافهام بالامثال المضروبة كما ينص على ذلك القرآن. وقوله تعالى: إلا الفاسقين، الفسق كما قيل من الالفاظ التي أبدع القرآن إستعمالها في معناها المعروف، مأخوذ من فسقت التمرة إذا خرجت عن قشرها وجلدها ولذلك فسر بعده بقوله تعالى: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) الآية، والنقض إنما يكون عن إبرام، ولذلك أيضا وصف الفاسقين في آخر الآية بالخاسرين والانسان إنما يخسر فيما ملكه بوجه، قال تعالى: (إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة) الشورى - 45، وإياك أن تتلقى هذه الصفات التي أثبتها سبحانه في كتابه للسعداء من عباده أو الاشقياء مثل المقربين والمخلصين والمخبتين والصالحين والمطهرين وغيرهم، ومثل الظالمين والفاسقين والخاسرين والغاوين والضالين وأمثالها أوصافا مبتذلة أو مأخوذة لمجرد تزيين اللفظ، فتضطرب بذلك قريحتك في فهم كلامه تعالى فتعطف الجميع على واد واحد، وتأخذها هجائا عاميا وحديثا ساذجا سوقيا بل هي أوصاف كاشفة عن حقائق روحية ومقامات معنوية في صراطي السعادة والشقاوة، كل واحد منها في نفسة مبدأ لآثار خاصة ومنشأ لاحكام مخصوصة معينة، كما أن مراتب السن وخصوصيات القوى وأوضاع الخلقة في الانسان كل منها منشأ لاحكام وآثار مخصوصة لا يمكننا أن نطلب واحدا منها من غير منشأه ومحتده، ولئن تدبرت في مواردها من كلامه تعالى وأمعنت فيها وجدت صدق ما ادعيناه. بحث الجبر والتفويض وإعلم: أن بيانه تعالى أن الاضلال إنما يتعلق بالفاسقين يشرح كيفية تأثيره

[ 94 ]

تعالى في أعمال العباد ونتائجها (وهو الذي يراد حله في بحث الجبر والتفويض). بيان ذلك: أنه تعالى قال: (لله ما في السموات وما في الارض) البقرة - 284، وقال: (له ملك السموات والارض) الحديد - 5، وقال: (له الملك وله الحمد) التغابن - 1، فأثبت فيها وفي نظائرها من الآيات الملك لنفسه على العالم بمعنى أنه تعالى مالك على الاطلاق ليس بحيث يملك على بعض الوجوه ولا يملك على بعض الوجوه، كما أن الفرد من الانسان يملك عبدا أو شيئا آخر فيما يوافق تصرفاته أنظار العقلاء، وأما التصرفات السفهية فلا يملكها، وكذا العالم مملوك لله تعالى مملوكية على الاطلاق، لا مثل مملوكية بعض أجزاء العالم لنا حيث أن ملكنا ناقص إنما يصحح بعض التصرفات لا جميعها، فان الانسان المالك لحمار مثلا إنما يملك منه أن يتصرف فيه بالحمل والركوب مثلا وإما أن يقتلة عطشا أو جوعا أو يحرقه بالنار من غير سبب موجب فالعقلاء لا يرون له ذلك، أي كل مالكية في هذا الاجتماع الانساني مالكية ضعيفة إنما تصحح بعض التصرفات المتصورة في العين المملوكة لا كل تصرف ممكن، وهذا بخلاف ملكه تعالى للاشياء فإنها ليس لها من دون الله تعالى من رب يملكها وهي لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حيوة ولا نشورا فكل تصرف متصور فيها فهو له تعالى، فأي تصرف تصرف به في عباده وخلقه فله ذلك من غير أن يستتبع قبحا ولا ذما ولا لوما في ذلك، إذ التصرف من بين التصرفات انما يستقبح ويذم عليه فيما لا يملك المتصرف ذلك لان العقلاء لا يرون له ذلك، فملك هذا المتصرف محدود مصروف إلى التصرفات الجائزة عند العقل، وأما هو تعالى فكل تصرف تصرف به فهو تصرف من مالك وتصرف في مملوك فلا قبح ولا ذم ولا غير ذلك وقد أيد هذه الحقيقة بمنع الغير عن أي تصرف في ملكه إلا ما يشائه أو يأذن فيه وهو السائل المحاسب دون المسؤل المأخوذ، فقال تعالى: (من ذاالذي يشفع عنده إلا بإذنه) البقرة - 255، وقال تعالى: (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) يونس - 3، وقال تعالى: (ولو شاء الله لهدى الناس جميعا) الرعد - 33، وقال: (يضل من يشاء ويهدي من يشاء) النحل - 93، وقال تعالى: (وما تشاؤن إلا أن يشاء الله) الدهر - 30، وقال تعالى (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) الانبياء - 23، فالله هو المتصرف

[ 95 ]

الفاعل في ملكه وليس لشئ غيره شئ من ذلك إلا بإذنه ومشيته، فهذا ما يقتضيه ربوبيته. ثم انا نرى أنه تعالى نصب نفسه في مقام التشريع وجرى في ذلك على ما يجري عليه العقلاء في المجتمع الانساني، من إستحسان الحسن والمدح والشكر عليه وإستقباح القبيح والذم عليه كما قال تعالى: (إن تبدوا الصدقات فنعما هي) البقرة - 271، وقال: (بئس الاسم الفسوق) الحجرات - 11، وذكر أن تشريعاته منظور فيها إلى مصالح الانسان ومفاسده مرعي فيها أصلح ما يعالج به نقص الانسان فقال تعالى: (إذا دعاكم لما يحييكم) الانفال - 24، وقال تعالى: (ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) الصف - 11، وقال تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والاحسان (إلى أن قال) وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغى) النحل - 90، وقال تعالى: (إن الله لا يأمر بالفحشاء) الاعراف - 28، والآيات في ذلك كثيرة، وفي ذلك إمضاء لطريقة العقلاء في المجتمع، بمعني أن هذه المعاني الدائرة عند العقلاء من حسن وقبح ومصلحة ومفسدة وأمر ونهي وثواب وعقاب أو مدح وذم وغير ذلك والاحكام المتعلقة بها كقولهم: الخير يجب أن يؤثر والحسن يجب أن يفعل، والقبيح يجب أن يجتنب عنه إلى غير ذلك، كما انها هي الاساس للاحكام العامة العقلائية كذلك الاحكام الشرعية التي شرعها الله تعالى لعباده مرعى فيها ذلك، فمن طريقة العقلاء أن أفعالهم يلزم أن تكون معللة بأغراض ومصالح عقلائية ومن جملة أفعالهم تشريعاتهم وجعلهم للاحكام والقوانين، ومنها جعل الجزاء ومجازاة الاحسان بالاحسان والاساءة بالاساءة أن شاؤا فهذه كلها معللة بالمصالح والاغراض الصالحة، فلو لم يكن في مورد أمر أو نهي من الاوامر العقلائية ما فيه صلاح الاجتماع بنحو ينطبق على المورد لم يقدم العقلاء على مثله، وكل المجازاة إنما تكون بالمسانخة بين الجزاء وأصل العمل في الخيرية والشرية وبمقدار يناسب وكيف يناسب، ومن احكامهم أن الامر والنهي وكل حكم تشريعي لا يتوجه إلا إلى المختار دون المضطر والمجبر على الفعل وأيضا إن الجزاء الحسن أو السئ أعنى الثواب والعقاب لا يتعلقان إلا بالفعل الاختياري اللهم إلا فيما كان الخروج عن الاختيار والوقوع في الاضطرار مستندا إلى سوء الاختيار كمن أوقع نفسه في اضطرار المخالفة فإن العقلاء لا يرون عقابه قبيحا، ولا يبالون بقصة إضطراره.

[ 96 ]

فلو أنه سبحانه أجبر عباده على الطاعات أو المعاصي لم يكن جزا المطيع بالجنة والعاصي بالنار الا جزافا في مورد المطيع، وظلما في مورد العاصي، والجزاف والظلم قبيحان عند العقلاء ولزم الترجيح من غير مرجح وهو قبيح عندهم ايضا ولا حجة في قبيح وقد قال تعالى: (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) النساء - 165، وقال تعالى: (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة الانفال - 42، فقد اتضح بالبيان السابق أمور: أحدهما: أن التشريع ليس مبنيا على أساس الاجبار في الافعال، فالتكاليف مجعولة على وفق مصالح العباد في معاشهم ومعادهم أولا، وهي متوجهة إلى العباد من حيث أنهم مختارون في الفعل والترك ثانيا، والمكلفون انما يثابون أو يعاقبون بما كسبت أيديهم من خير أو شر اختيارا. ثانيها: أن ما ينسبه القرآن إليه تعالى من الاضلال والخدعة والمكر والامداد في الطغيان وتسليط الشيطان وتوليته على الانسان وتقييض القرين ونظائر ذلك جميعها منسوبة إليه تعالى على ما يلائم ساحة قدسه ونزاهته تعالى عن ألواث النقص والقبح والمنكر، فإن جميع هذه المعاني راجعة بالآخرة إلى الاضلال وشعبه وأنواعه، وليس كل إضلال حتى الاضلال البدوي وعلى سبيل الاغفال بمنسوب إليه ولا لائق بجنابه، بل الثابت له الاضلال مجازاة وخذلانا لمن يستقبل بسوء إختياره ذلك كما قال تعالى: ( يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين الاية) البقرة - 26، وقال: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) الصف - 5، وقال تعالى: (كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب) المؤمن - 34. ثالثها: أن القضاء غير متعلق بأفعال العباد من حيث أنها منسوبة إلى الفاعلين بالانتساب الفعلي دون الانتساب الوجودي وسيجئ لهذا القول زيادة توضيح في التذييل الآتي وفي الكلام على القضاء والقدر إن شاء الله تعالى. رابعها: أن التشريع كما لا يلائم الجبر كذلك لا يلائم التفويض، إذ لا معنى للامر والنهي المولويين فيما لا يملك المولى منه شيئا، مضافا إلى أن التفويض لا يتم الا مع سلب اطلاق الملك منه تعالى عن بعض ما في ملكه.

[ 97 ]

(بحث روائي) إستفاضت الروايات عن أئمة أهل البيت عليه السلام أنهم قالوا: (لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين الحديث). وفي العيون بعدة طرق لما إنصرف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من صفين قام إليه شيخ ممن شهد الواقعة معه فقال يا أمير المؤمنين أخبرنا من مسيرنا هذا أبقضاء من الله وقدر، فقال له أمير المؤمنين (أجل يا شيخ فو الله ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد الا بقضاء من الله وقدر)، فقال الشيخ عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين فقال: (مهلا يا شيخ لعلك تظن قضاء حتما وقدرا لازما، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والامر والنهي والزجر، ولسقط معنى الوعد والوعيد، ولم تكن على مسئ لائمة ولا لمحسن محمدة، ولكان المحسن أولى باللائمة من المذنب والمذنب أولى بالاحسان من المحسن، تلك مقالة عبدة الاوثان وخصماء الرحمن وقدرية هذه الامة ومجوسها. يا شيخ إن الله كلف تخييرا ونهى تحذيرا، وأعطى على القليل كثيرا ولم يعص مغلوبا، ولم يطع مكروها ولم يخلق السموات والارض وما بينهما باطلا. ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار الحديث). أقول: قوله: بقضاء من الله وقدر إلى قوله: عند الله أحتسب عنائي. ليعلم أن من أقدم المباحث التي وقعت في الاسلام موردا للنقض والابرام، وتشاغبت فيه الانظار مسألة الكلام ومسألة القضاء والقدر وإذ صوروا معنى القضاء والقدر وإستنتجوا نتيجتة فإذا هي أن الارادة الالهية الازلية تعلقت بكل شئ من العالم فلا شئ من العالم موجودا على وصف الامكان، بل إن كان موجودا فبالضرورة، لتعلق الارادة بها واستحالة تخلف مرادة تعالى عن إرادتة، وان كان معدوما فبالامتناع لعدم تعلق الارادة بها وإلا لكانت موجودة، وإذا اطردت هذه القاعدة في الموجودات وقع الاشكال في الافعال الاختيارية الصادرة منا فانا نرى في بادي النظر أن نسبة هذه الافعال وجودا وعدما الينا متساوية، وإنما يتعين واحد من الجانبين بتعلق الارادة به

[ 98 ]

بعد إختيار ذلك الجانب فأفعالنا إختيارية، والارادة مؤثرة في تحققه سبب في إيجاده، ولكن، فرض تعلق الارادة الالهية الازلية المستحيلة التخلف بالفعل يبطل إختيارية الفعل أولا، وتأثير إرادتنا في وجود الفعل ثانيا وحينئذ لم يكن معنى للقدرة قبل الفعل على الفعل، ولا معنى للتكليف لعدم القدرة قبل الفعل وخاصة في صورة الخلاف والتمرد فيكون تكليفا بما لا يطاق، ولا معنى لاثابة المطيع بالجبر لانه جزاف قبيح، ولا معنى لعقاب العاصي بالجبر لانه ظلم قبيح إلى غير ذلك من اللوازم، وقد إلتزم الجميع هؤلاء الباحثون فقالوا القدرة غير موجودة قبل الفعل، والحسن والقبح أمران غير واقعيين لا يلزم تقيد أفعاله تعالى بهما بل كل ما يفعله فهو حسن ولا يتصف فعله تعالى بالقبح، فلا مانع هناك من الترجيح بلا مرجح، ولا من الارادة الجزافية، ولا من التكليف بما لا يطاق، ولا من عقاب العاصي وإن لم يكن النقصان من قبله إلى غير ذلك من التوالي تعالى عن ذلك. وبالجملة كان القول بالقضاء والقدر في الصدر الاول مساوقا لارتفاع الحسن والقبح والجزاء بالاستحقاق ولذلك لما سمع الشيخ منه عليه السلام كون المسير بقضاء وقدر قال وهو في مقام التأثر واليأس: عند الله أحتسب عنائي أي إن مسيري وإرادتي فاقدة الجدوى من حيث تعلق الارادة الالهية بها فلم يبق لي إلا العناء والتعب من الفعل فأحتسبه عند ربي فهو الذي أتعبني بذلك فأجاب عنه الامام عليه السلام بقوله: لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب الخ، وهو أخذ بالاصول العقلائية التي أساس التشريع مبني عليها واستدل في آخر كلامه عليه السلام بقوله: ولم يخلق السموات والارض وما بينهما باطلا الخ، وذلك لان صحة الارادة الجزافية التي هي من لوازم ارتفاع الاختيار يوجب إمكان تحقق الفعل من غير غاية وغرض وهو يوجب امكان إرتفاع الغاية عن الخلقة والايجاد، وهذا الامكان يساوق الوجوب، فلا غاية على هذا التقدير للخلقة والايجاد، وذلك خلق السموات والارض وما بينهما باطلا، وفيه بطلان المعاد وفيه كل محذور، وقوله ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكروها كان المراد لم يعص والحال أن عاصيه مغلوب بالجبر ولم يطع والحال أن طوعه مكروه للمطيع. وفي التوحيد والعيون عن الرضا عليه السلام قال: ذكر عنده الجبر والتفويض فقال:

[ 99 ]

ألا أعلمكم في هذا أصلا لا تختلفون فيه ولا يخاصمكم عليه أحد إلا كسرتموه ؟ قلنا إن رأيت ذلك، فقال إن الله عز وجل لم يطع بإكراه، ولم يعص بغلبة ولم يهمل العباد في ملكة، هو المالك لما ملكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه فان إئتمر العباد بطاعته لم يكن الله منها صادا، ولا منها مانعا وان إئتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وان لم يحل فعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه ثم قال عليه السلام من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه. اقول: قد عرفت أن الذي ألزم المجبرة أن قالوا بما قالوا هو البحث في القضاء والقدر وإستنتاج الحتم واللزوم فيهما وهذا البحث صحيح وكذلك النتيجة أيضا نتيجة صحيحة غير أنهم اخطأوا في تطبيقها، واشتبه عليهم أمر الحقائق والاعتباريات، واختلط عليهم الوجوب والامكان، توضيح ذلك أن القضاء والقدر على تقدير ثبوتهما ينتجان أن الاشياء في نظام الايجاد والخلقة على صفة الوجوب واللزوم فكل موجود من الموجودات وكل حال من أحوال الموجود مقدرة محدودة عند الله سبحانه، معين له جميع ما هو معه من الوجود وأطواره واحواله لا يتخلف عنه ولا يختلف، ومن الواضح أن الضرورة والوجوب من شؤون العلة فإن العلخ التامة هي التي إذا قيس إليها الشئ صار متصفا بصفة الوجوب وإذا قيس إلى غيرها أي شئ كان لم يصر إلا متصفا بالامكان، فانبساط القدر والقضاء في العالم هو سريان العلية التامة والمعلولية في العالم بتمامه وجميعه، وذلك لا ينافي سريان حكم القوة والامكان في العام من جهة أخرى وبنظر آخر فالفعل الاختياري الصادر عن الانسان بإرادته إذا فرض منسوبا إلى جميع ما يحتاج إليه في وجوده من علم وإرادة وأدوات صحيحة ومادة يتعلق بها الفعل وسائر الشرائط الزمانية والمكانية كان ضروري الوجود، وهو الذي تعلقت به الارادة الالهية الازلية لكن كون الفعل ضروريا بالقياس إلى جميع أجزاء علته التامة ومن جهتها لا يوجب كونه ضروريا إذا قيس إلى بعض أجزاء علته التامة كما إذا قيس الفعل إلى الفاعل دون بقية أجزاء علته التامة فإنه لا يتجاوز حد الامكان، ولا يبلغ البتة حد الوجوب فلا معنى لما زعموه أن عموم القضاء وتعلق الارادة الالهية بالفعل يوجب زوال القدرة وارتفاع الاختيار، بل الارادة الالهية إنما تعلقت بالفعل بجميع شؤونه وخصوصيانه الوجودية ومنها إرتباطاته بعلله وشرائط وجوده، وبعبارة أخرى تعلقت الارادة

[ 100 ]

الالهية بالفعل الصادر من زيد مثلا لا مطلقا بل من حيث أنه فعل إختياري صادر من فاعل كذا في زمان كذا ومكان كذا فإذن تأثير الارادة الالهية في الفعل يوجب كون لفعل إختياريا وإلا تخلف متعلق الارادة الالهية عنها فإذن تأثير الارادة الالهية في صيرورة الفعل ضروريا يوجب كون الفعل إختياريا أي كون الفعل ضروريا بالنسبة إلى الارادة الالهية ممكنا إختياريا بالنسبة إلى الرادة الانسانية الفاعلية، فالارادة في طول الارادة وليست في عرضها حتى تتزاحما، ويلزم من تأثير الارادة الالهية بطلان تأثير الارادة الانسانية فظهر أن ملاك خطأ المجبرة فيما أخطأوا فيه عدم تمييزهم كيفية تعلق الارادة الالهية بالفعل، وعدم فرقهم بين الارادتين الطوليتين وبين الارادتين العرضيتين وحكمهم ببطلان تأثير إراد العبد في الفعل لتعلق إرادة الله تعالى به. والمعتزلة وإن خالفت المجبرة في إختيارية افعال العبد وسائر اللوازم إلا إنهم سلكوا في أثباته مسلكا لا يقصر من قول المجبرة فسادا، وهو أنهم سلموا للمجبرة أن تعلق ارادة الله بالفعل يوجب بطلان الاختيار، ومن جهة أخرى أصروا على اختيارية الافعال الاختيارية فنفوا بالاخرة تعلق الارادة الالهية بالافعال فلزمهم إثبات خالق آخر للافعال وهو الانسان، كما أن خالق غيرها هو الله سبحانه فلزمهم محذور الثنوية، ثم وقعوا في محاذير اخرى أشد مما وقعت فيه المجبرة، كما قال عليه السلام: مساكين القدرية أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من قدرته وسلطانه الحديث. فمثل هذا مثل المولى من الموالي العرفية يختار عبدا من عبيده ويزوجه إحدى فتياته ثم يقطع له قطيعة ويخصه بدار وأثاث وغير ذلك مما يحتاج إليه الانسان في حيوته إلى حين محدود وأجل مسمى، فإن قلنا إن المولى وإن اعطى لعبده ما أعطى وملكه ما ملك فإنه لا يملك وأين العبد من الملك كان ذلك قول المجبرة، وان قلنا أن للمولى باعطائه المال لعبده وتمليكه جعله مالكا وإنعزل هو عن المالكية وكان المالك هو العبد كان ذلك قول المعتزلة، ولو جمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين وقلنا: أن المولى مقامه في المولوية وللعبد مقامه في الرقية وإن العبد إنما يملك في ملك المولى، فالمولى مالك في عين أن العبد مالك فهنا ملك على ملك كان ذلك القول الحق الذى رآه أئمة أهل البيت عليه السلام، وقام عليه البرهان هذا

[ 101 ]

وفي الاحتجاج فيما سأله عباية بن ربعي الاسدي عن أمير المؤمنين على عليه السلام في معنى الاستطاعة، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: تملكها من دون الله أو مع الله ؟ فسكت عباية بن ربعي فقال له قل يا عباية، قال: وما أقول يا امير المؤمنين ؟ قال: تقول تملكها بالله الذي يملكها من دونك فإن ملككها كان ذلك من عطائه وإن سلبكها كان ذلك من بلائه وهو المالك لما ملكك والقادر على ما عليه أقدرك الحديث. أقول: ومعنى الرواية واضح مما بيناه آنفا. وفي شرح العقائد للمفيد قال: وقد روى عن أبي الحسن الثالث عليه السلام إنه سئل عن أفعال العباد أهي مخلوقة لله تعالى ؟ فقال عليه السلام: لو كان خالقا لها لما تبرا منها وقد قال سبحانه: إن الله برئ من المشركين ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم وإنما تبرا من شركهم وقبائحهم. اقول للافعال جهتان: جهة ثبوت ووجود، وجهة الانتساب إلى الفاعل، وهذه الجهة الثانية هي التي تتصف بها الافعال باأنها طاعة أو معصية أو حسنه أو سيئة فإن النكاح والزنا لا فرق بينهما من جهة الثبوت والتحقق، وإنما الفرق الفارق هو أن النكاح موافق لامر الله تعالى، والزنا فاقد للموافقة المذكورة، وكذا قتل النفس بالنفس وقتل النفس بغير نفس، وضرب اليتيم تأديبا وضربه ظلما، فالمعاصي فاقدة لجهة من جهات الصلاح أو لموافقة الامر أو الغاية الاجتماعية بخلاف غيرها، وقد قال تعالى: (الله خالق كل شئ) الزمر - 62، والفعل شئ بثبوته ووجوده، وقد قال عليه السلام: (كل ما وقع عليه اسم شئ فهو مخلوق ما خلا الله الحديث) ثم قال تعالى: (الذي أحسن كل شئ خلقه) السجدة - 7، فتبين أن كل شئ كما أنه مخلوق فهو في أنه مخلوق حسن، فالخلقة والحسن متلازمان متصاحبان لا ينفك أحدهما عن الآخر أصلا، ثم إنه تعالى سمى بعض الافعال سيئة فقال: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها) الانعام - 160، وهي المعاصي التي يفعلها الانسان بدليل المجازاة، وعلمنا بذلك أنها من حيث أنها معاص عدمية غير مخلوقة وإلا كانت حسنة، وقال تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) الحديد - 22، وقال: (ما أصاب من مصيبة

[ 102 ]

إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه) التغابن - 11، وقال: (ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) الشورى - 30، وقال: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) النساء - 79، وقال: (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك، قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) النساء - 78، علمنا بذلك أن هذه المصائب إنما هي سيئات نسبية بمعنى أن الانسان المنعم بنعمة من نعم الله كالامن والسلامة والصحة والغنى يعد واجدا فإذا فقدها لنزول نازلة وإصابة مصيبة كانت النازلة بالنسبة إليه سيئة لانها مقارنة لفقد ما وعدم ما، فكل نازلة فهى من الله وليست من هذه الجهة سيئة وإنما هي سيئة نسبية بالنسبة إلى الانسان وهو واجد، فكل سيئة فهي أمر عدمي غير منسوب من هذه الجهة إلى الله سبحانه البتة وإن كانت من جهة أخرى منسوبة إليه تعالى بالاذن فيه ونحو ذلك. وفي قرب الاسناد عن البزنطي، قال: قلت: للرضا عليه السلام إن أصحابنا بعضهم يقول: بالجبر، وبعضهم بالاستطاعة فقال لي: (أكتب، قال الله تبارك وتعالى يا بن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبقوتي أديت إلي فرائضي وبنعمتي قويت على معصيتي جعلتك سميعا بصيرا قويا، ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وذلك اني أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني، وذلك أني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون، فقد نظمت لك كل شئ تريد الحديث) وهو أو ما يقربه مروي بطرق عامية وخاصية اخرى وبالجملة فالذي لا تنسب إلى الله سبحانه من الافعال هي المعاصي من جهة أنها معاص خاصة، وبذلك يعلم معنى قوله عليه السلام في الرواية السابقة، لو كان خالقا لها لما تبرأ منها إلى قوله وإنما تبرأ من شركهم وقبائحهم الحديث. وفي التوحيد: عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام (قالا: إن الله عز وجل أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها، والله أعز من أن يريد أمرا فلا يكون) قال: فسئلا عليها السلام هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة ؟ قالا نعم أوسع مما بين السماء والارض

[ 103 ]

وفي التوحيد عن محمد بن عجلان، قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام فوض الله الامر إلى العباد ؟ قال: (الله أكرم من أن يفوض إليهم) قلت: فأجبر الله العباد على أفعالهم فقال: (الله أعدل من أن يجبر عبدا على فعل ثم يعذبه عليه). وفي التوحيد أيضا عن مهزم، قال قال أبو عبد الله عليه السلام أخبرني عما اختلف فيه من خلفك من موالينا، قال: قلت: في الجبر والتفويض ؟ قال: فاسألني قلت: أجبر الله العباد على المعاصي ؟ قال: (الله أقهر لهم من ذلك) قلت: ففوض إليهم ؟ قال الله أقدر عليهم من ذلك، قال قلت فأي شئ هذا، أصلحك الله ؟ قال: فقلب يده مرتين أو ثلاثا ثم قال: (لو أجبتك فيه لكفرت). اقول: قوله عليه السلام: الله أقهر لهم من ذلك، معناه أن الجبر إنما هو لقهر من المجبر يبطل به مقاومة القوة الفاعلة، وأقهر منه وأقوى أن يريد المريد وقوع الفعل الاختياري من فاعله من مجرى إختياره فيأتي به من غير أن يبطل إرادته وإختياره إو ينازع إرادة الفاعل إرادة الآمر. وفي التوحيد أيضا عن الصادق عليه السلام قال: قال: (رسول الله: من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله، ومن زعم أن الخير والشر بغير مشية الله فقد أخرج الله من سلطانه) وفي الطرائف: روي أن الحجاج بن يوسف كتب إلى الحسن البصري وإلى عمرو بن عبيد وإلى واصل بن عطاء وإلى عامر الشعبي أن يذكروا ما عندهم وما وصل إليهم في القضاء والقدر، فكتب إليه الحسن البصري أن احسن ما انتهى إلي ما سمعت أمير المؤمنين علي بن ابى طالب عليه السلام، إنه قال: أتظن ان الذي نهاك دهاك ؟ وإنما دهاك أسفلك وأعلاك، والله برئ من ذاك). وكتب إليه عمرو بن عبيد أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام (لو كان الزور في الاصل محتوما لكان المزور في القصاص مظلوما). وكتب إليه واصل بن عطاء أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام (أيدلك على الطريق ويأخذ عليك المضيق ؟ وكتب إليه الشعبي أحسن ما سمعت في القضاء والقدر

[ 104 ]

قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام (كلما استغفرت الله منه فهو منك، وكلما حمدت الله عليه فهو منه) فلما وصلت كتبهم إلى الحجاج ووقف عليها قال: لقد أخذوها من عين صافية. وفي الطرائف أيضا روى أن رجلا سأل جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن القضاء والقدر فقال: (ما أستطعت أن تلوم العبد عليه فهو منه، وما لم تستطع أن تلوم العبد عليه فهو من فعل الله) يقول الله للعبد: لم عصيت، لم فسقت، لم شربت الخمر، لم زنيت ؟ فهذا فعل العبد، ولا يقول له لم مرضت، لم قصرت، لم إبيضضت، لم إسوددت ؟ لانه من فعل الله تعالى. وفي النهج سئل عليه السلام عن التوحيد والعدل فقال: (التوحيد أن لا تتو همه، والعدل أن لا تتهمه). اقول: والاخبار فيما مر متكاثرة جدا غير أن الذي نقلناه حاو لمعاني ما تركناه ولئن تدبرت فيما تقدم من الاخبار وجدتها مشتملة على طرق خاصة عديدة من الاستدلال. منها: الاستدلال بنفس الامر والنهي والعقاب و الثواب وأمثالها على تحقق الاختيار من غير جبر ولا تفويض، كما في الخبر المنقول عن امير المؤمنين علي عليه السلام فيما أجاب به الشيخ، وهو قريب المأخذ مما استفدناه من كلامه تعالى. ومنها: الاستدلال بوقوع امور في القرآن لاتصدق لو صدق جبر أو تفويض، كقوله تعالى: (لله ملك السموات والارض وقوله: (وما ربك بظلام للعبيد)، وقوله تعالى: (قل ان الله لا يأمر بالفحشاء الآية، ويمكن أن يناقش فيه بأن الفعل إنما هو فاحشة أو ظلم بالنسبة إلينا وأما إذا نسب إليه تعالى فلا يسمى فاحشة ولا ظلما فلا يقع منه تعالى فاحشة ولا ظلم، ولكن صدر الآية بمدلولها الخاص يدفعها فإنه تعالى يقول: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليه آبائنا والله أمرنا بهذا قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) الآية، فالاشارة بقوله بهذا يوجب أن يكون النفي اللاحق متوجها إليه سواء سمي فحشاء أو لم يسم.

[ 105 ]

ومنها: الاستدلال من جهة الصفات وهو أن الله تسمى بأسماء حسنى وإتصف بصفات عليا لا تصدق ولا تصح ثبوتها على تقدير جبر أو تفويض فانه تعالى قهار قادر كريم رحيم، وهذه صفات لا تستقر معانيها إلا عند ما يكون وجود كل شئ منه تعالى ونقص كل شئ وفساده غير راجع إلى ساحة قدسه كما في الروايات التي نقلناها عن التوحيد. ومنها: الاستدلال بمثل الاستغفار وعروض اللوم فان الذنب لو لم يكن من العبد لم يكن معنى لاستغفاره ولو كان الفعل كله من الله لم يكن فرق بين فعل وفعل في عروض اللوم على بعضها وعدم عروضه على بعض آخر. وهيهنا روايات أخر مروية فيما ينسب إليه سبحانه من معنى الاضلال والطبع والاغواء وغير ذلك. ففى العيون عن الرضا عليه السلام في قوله تعالى: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) قال عليه السلام (إن الله لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه لكنه متى علم إنهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة و اللطف وخلى بينهم وبين اختيارهم). وفي العيون ايضا عنه عليه السلام في قوله تعالى: ختم الله على قلوبهم، قال: الختم هو الطبع على قلوب الكفار عقوبة على كفرهم، كما قال الله تعالى: بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا. وفي المجمع عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: إن الله لا يستحي الآية، هذا القول من الله رد على من زعم إن الله تبارك وتعالى يضل العباد ثم يعذبهم على ضلالتهم الحديث، أقول: قد مر بيان معناها. (بحث فلسفي) لا ريب ان الامور التي نسميها أنواعا في الخارج هي التي تفعل الافاعيل النوعية، وهي موضوعاتها، فإنا انما أثبتنا وجود هذه الانواع ونوعيتها الممتازة عن غيرها

[ 106 ]

من طريق الآثار والافاعيل، بأن شاهدنا من طرق الحواس أفاعيل متنوعة وآثارا مختلفة من غير أن تنال الحواس في إحساسها امرا وراء الآثار العرضية، ثم أثبتنا من طريق القياس والبرهان علة فاعلة لها وموضوعا يقومها ثم حكمنا باختلاف هذه الموضوعات أعني الانواع لاختلاف الآثار والافاعيل المشهودة لنا، فالاختلاف المشهود في آثار الانسان وساير الانواع الحيوانية مثلا هو الموجب للحكم بأن هناك انواعا مختلفة تسمى بكذا وكذا ولها آثار وأفاعيل كذا وكذا، وكذا، الاختلافات بين الاعراض والافاعيل إنما نثبتها ونحكم بها من ناحية موضوعاتها أو خواصها. وكيف كان فالافاعيل بالنسبة إلى موضوعاتها تنقسم بانقسام أولى إلى قسمين: الاول: الفعل الصادر عن الطبيعة من غير دخل للعلم في صدوره كأفعال النشوء والنمو والتغذي للنبات والحركات للاجسام، ومن هذا القبيل الصحة والمرض وأمثال ذلك فإنها وأن كانت معلومة لنا وقائمة بنا الا أن تعلق العلم بها لا يؤثر في وجودها وصدورها شيئا وانما هي مستندة تمام الاستناد إلى فاعلها الطبيعي، والثاني: الفعل الصادر عن الفاعل من حيث أنه معلوم تعلق به العلم كما في الافعال الارادية للانسان وساير ذوات الشعور من الحيوان، فهذا القسم من الفعل انما يفعله فاعله من حيث تعلق العلم به وتشخيصه وتمييزه، فالعلم فيه انما يفيد تعيينه وتمييزه من غيره، وهذا التمييز والتعيين انما يتحقق من جهة انطباق مفهوم يكون كمالا للفاعل انطباقا بواسطة العلم، فإن الفاعل أي فاعل كان إنما يفعل من الفعل ما يكون مقتضى كماله وتمام وجوده فالفعل الصادر عن العلم إنما يحتاج إلى العلم من جهة أن يتميز عند الفاعل ما هو كمال له عن ما ليس بكمال له. ومن هنا ما نرى أن الافعال الصادرة عن الملكات كصدور أصوات الحروف منظمة عن الانسان المتكلم، وكذا الافعال الصادرة عنها مع اقتضاء ما ومداخلة من الطبيعة كصدور التنفس عن الانسان، وكذا الافعال الصادرة عن الانسان بغلبة الحزن أو الخوف أو غير ذلك كل ذلك لا يحتاج إلى ترو من الفاعل، إذ ليس هناك إلا صورة علمية واحدة منطبقة على الفعل والفاعل لاحالة منتظرة لفعلة، فيفعل البتة، واما الافعال التي لها صور علمية متعددة تكون هي من جهة بعضها مصداق

[ 107 ]

كمال الانسان حقيقة أو تخيلا، ومن جهة بعضها غير مصداق لكماله الحقيقي أو التخيلي كما أن الخبز بالنسبة إلى زيد الجائع كذلك فإنه مشبع رافع لجوعه ويمكن أن يكون مال الغير ويمكن أن يكون مسموما ويمكن ان يكون قذرا يتنفر عنه الطبع، وهكذا والانسان انما يتروى فيما يتروى لترجيح أحد هذه العناوين في انطباقه على الخبز مثلا، فإذا تعين أحد العناوين وسقطت بقيتها وصار مصداقا كمال الفاعل لم يلبث الفاعل في فعله أصلا، والقسم الاول: نسميه فعلا إضطراريا كالتأثيرات الطبيعية. والقسم الثاني: نسميه فعلا إراديا كالمشي والتكلم. والفعل الارادي: الصادر عن علم وارادة ينقسم ثانيا إلى قسمين: فإن ترجيح احد جانبي الفعل والترك إما مستند إلى نفس الفاعل من غير أن يتأثر عن آخر كالجائع الذي يتروى في أكل خبز موجود عنده حتى رجح أن يبقيه ولا يأكله لانه كان مال الغير من غير إذن منه في التصرف فانتخب الحفظ واختاره أو رجح الاكل فأكله إختيارا، وإما أن يكون الترجيح والتعيين مستندا إلى تأثير الغير كمن يجبره جبار على فعل بتهديده بقتل أو نحوه ففعله إجبارا من غير أن يكون متعينا بانتخابه واختياره والقسم الاول. يسمى فعلا اختياريا، والثاني فعلا اجباريا هذا، وانت تجد بجودة التأمل أن الفعل الاجباري وإن أسندناه إلى إجبار المجبر وأنه هو الذي يجعل أحد الطرفين محالا وممتنعا بواسطة الاجبار فلا يبقى للفاعل إلا طرف واحد، لكن الفعل الاجباري أيضا كالاختياري لا يقع إلا بعد ترجيح الفاعل المجبور جانب الفعل على الترك وإن كان الذي يجبره هو المتسبب إلى الفعل بوجه، لكن الفعل ما لم يترجح بنظر الفاعل وإن كان نظره مستندا بوجه إلى اجبار المجبر وتهديده لم يقع، والوجدان الصحيح شاهد على ذلك، ومن هنا يظهر أن تقسيم الافعال الارادية إلى إختيارية وجبرية ليس تقسيما حقيقيا ينوع المقسم إلى نوعين مختلفين بحسب الذات والآثار، فإن الفعل الارادي انما يحتاج إلى تعيين وترجيح علمي يعين للفاعل مجرى فعله، وهو في الفعل الاختياري والجبري على حد سواء، وأما أن ترجيح الفاعل في أحدهما مستند إلى رسله وفي آخر إلى آخر فلا يوجب إختلافا نوعيا يؤدي إلى اختلاف الآثار. ألا ترى أن المستظل تحت حائط إذا شاهد أن الحائط يريد أن ينقض، فخرج خائفا عد فعله هذا إختياريا ؟ وأما إذا هدده جبار بأنه لو لم يقم لهدم الحائط عليه، فخرج خائفا عد فعله هذا اجباريا من غير فرق

[ 108 ]

بين الفعلين والترجيحين أصلا غير أن أحد الترجيحين مستند إلى ارادة الجبار. فان قلت: كفى فرقا بين الفعلين أن الفعل الاختياري يوافق في صدوره مصلحة عند الفاعل وهو فعل يترتب عليه المدح والذم ويتبعه الثواب والعقاب إلى غير ذلك من الآثار، وهذا بخلاف الفعل الاجباري فانه لا يترتب عليه شئ من ذلك. قلت: الامر على ما ذكر، غير أن هذه الآثار انما هي بحسب اعتبار العقلاء على ما يوافق الكمال الاخير الاجتماعي، فهي آثار اعتبارية غير حقيقية، فليس البحث عن الجبر والاختيار بحثا فلسفيا لان البحث الفلسفي انما ينال الموجودات الخارجية وآثارها العينية، وأما الامور المنتهية إلى أنحاء الاعتبارات العقلائية، فلا ينالها بحث فلسفي ولا يشملها برهان البتة، وان كانت معتبرة في بابها، مؤثرة أثرها، فالواجب، أن نرد البحث المزبور من طريق آخر، فنقول: لا شك أن كل ممكن حادث مفتقر إلى علة، والحكم ثابت من طريق البرهان، ولا شك ايضا أن الشئ ما لم يجب لم يوجد إذ الشئ ما لم يتعين طرف وجوده بمعين كانسبته إلى الوجود والعدم بالسوية، ولو وجد الشئ وهو كذلك لم يكن مفتقرا إلى علة وهف، فإذا فرض وجود الشئ كان متصفا بالضرورة ما دام موجودا، وهذه الضرورة انما إكتسبها من ناحية العلة، فإذا أخذنا دار الوجود بأجمعها كانت كسلسلة مؤلفة من حلقات مترتبة متوالية كلها واجبة الوجود، ولا موقع لامر ممكن الوجود في هذه السلسلة. ثم نقول: هذه النسبة الوجوبية انما تنشأ عن نسبة المعلول إلى علتها التامة البسيطة أو المركبة من امور كثيرة كالعلل الاربع والشرائط والمعدات وأما إذا نسب المعلول المذكور إلى بعض أجزاء العلة أو إلى شئ آخر لو فرض كانت النسبة نسبة الامكان بالضرورة، بداهة أنه لو كانت بالضرورة كانت العلة التامة وجودها مستغنى عنه وهي علة تامة هف، ففي عالمنا الطبيعي نظامان: نظام الضرورة ونظام الامكان، فنظام الضرورة منبسط على العلل التامة ومعلولاتها ولا يوجد بين أجزاء هذا النظام أمر إمكاني البتة لا ذات ولا فعل ذات ونظام الامكان منبسط على المادة والصور التي في قوة المادة التلبس بها والآثار التي يمكنها أن تقبلها، فإذا فرضت فعلا من أفعال الانسان الاختيارية ونسبتها إلى تمام علتها، وهي الانسان والعلم والارادة

[ 109 ]

ووجود المادة القابلة وتحقق الشرائط المكانية والزمانية وإرتفاع الموانع، وبالجملة كل ما يحتاج إليه الفعل في وجوده كان الفعل واجبا ضروريا، وإذا نسب إلى الانسان فقط، ومن المعلوم أنه جزء من أجزاء العلة التامة كانت النسبة بالامكان. ثم نقول: سبب الاحتياج والفقر إلى العلة كما بين في محله كون الوجود (وهو مناط الجعل) وجودا إمكانيا، أي رابطا بحسب الحقيقة غير مستقل بنفسه، فما لم ينته سلسلة الربط إلى مستقل بالذات لم ينقطع سلسلة الفقر والفاقة. ومن هنا يستنتج اولا: أن المعلول لا ينقطع بواسطة استناده إلى علته عن الاحتياج إلى العلة الواجبة التي إليها تنتهي سلسلة الامكان. وثانيا: ان هذا الاحتياج حيث كان من حيث الوجود كان الاحتياج في الوجود مع حفظ جميع خصوصياته الوجودية وارتباطاته بعلله وشرائطه الزمانية والمكانية إلى غير ذلك. فقد تبين بهذا أمران الأول: أن الانسان كما أنه مستند الوجود إلى الارادة الالهية على حد سائر الذوات الطبيعية وأفعالها الطبيعية فكذلك أفعال الانسان مستنده الوجود إلى الارادة الالهية على حد سائر الذوات الطبيعية وأفعالها الطبيعية فكذالك أفعال الانسان مستندة الوجود إلى الارادة الالهية، فما ذكره المعتزلة من كون الافعال الانسانية غير مرتبطة الوجود بالله سبحانه وإنكار القدر ساقط من اصله، وهذا الاستناد حيث أنه إستناد وجودي فالخصوصيات الوجودية الموجودة في المعلول دخيلة فيه، فكل معلول مستند إلى علته بحده الوجودي الذي له، فكما أن الفرد من الانسان إنما يستند إلى العلة الاولى بجميع حدوده الوجودية من أب وأم وزمان ومكان وشكل وكم وكيف وعوامل أخر مادية، فكذلك فعل الانسان إنما يستند إلى العلة الاولى مأخوذا بجميع خصوصياته الوجودية، فهذا الفعل إذا إنتسب إلى العلة الاولى والارادة الواجبة مثلا لا يخرجه ذلك عما هو عليه ولا يوجب بطلان الارادة الانسانية مثلا في التأثير، فإن الارادة الواجبية إنما تعلقت بالفعل الصادر من الانسان عن إرادة وإختيار، فلو كان هذا الفعل حين التحقق غير إرادي وغير إختياري لزم تخلف إرادته تعالى عن مراده وهو محال، فما ذهب إليه المجبرة من الاشاعرة من أن تعلق الارادة الالهية بالافعال الارادية يوجب بطلان تأثير الارادة والاختيار فاسد جدا، فالحق الحقيق بالتصديق

[ 110 ]

أن الافعال الانسانية لها نسبة إلى الفاعل ونسبة إلى الواجب، وإحدى النسبتين لا توجب بطلان الاخرى لكونهما طوليتين لا عرضيتين. الثاني: أن الافعال كما أن لها إستنادا إلى عللها التامة (وقد عرفت أن هذه النسبة ضرورية وجوبية كسائر الموجودات المنسوبة إلى عللها التامة بالوجوب) كذلك لها إستنادا إلى بعض اجزاء عللها التامة كالانسان مثلا، وقد عرفت أن هذه النسبة بالامكان فكون فعل من الافعال ضروري الوجود بملاحظة علته التامة الضرورية لا يوجب عدم كون هذا الفعل ممكنا بنظر آخر، إذ النسبتان ثابتتان وهما غير متنافيتين كما مر فما ذكره جمع من الماديين من فلاسفة العصر الحاضر من شمول الجبر لنظام الطبيعة وإنكار الاختيار باطل جدا بل الحق أن الحوادث بالنسبة إلى عللها التامة واجبة الوجود بالنسبة إلى موادها وأجزاء عللها ممكنة الوجود، وهذا هو الملاك في أعمال الانسان وأفعاله فبنائه في جميع مواقف عمله على أساس الرجاء والتربية والتعليم ونحو ذلك، ولا معنى لابتناء الواجبات والضروريات على التربية والتعليم، ولا الركون إلى الرجاء فيها وهو ظاهر. كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فاحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون - 28. هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا ثم استوى إلى السماء فسويهن سبع سموات وهو بكل شئ عليم - 29. (بيان) رجوع ثان إلى ما في بدء الكلام فإنه تعالى بعد ما بين في أول السورة ما بين أوضحة بنحو التلخيص بقوله: يا أيها الناس أعبدوا ربكم إلى بضع آيات، ثم رجع

[ 111 ]

إليه ثانيا وأوضحه بنحو البسطو التفصيل بقوله: كيف تكفرون إلى إثنتي عشرة آية، ببيان حقيقة الانسان وما أودعه الله تعالى فيه من ذخائر الكمال وما تسعه دائرة وجوده وما يقطعه هذا الموجود في مسير وجوده من منازل موت وحيوة ثم موت ثم حيوة ثم رجوع إلى الله سبحانه وإن إلى ربك المنتهي وفيه ذكر جمل ما خص الله تعالى به الانسان من مواهب التكوين والتشريع، أنه كان ميتا فأحياة ثم لا يزال يميته ويحييه حتى يرجعه إليه، وقد خلق له ما في الارض وسخر له السموات وجعله خليفته في الارض وأسجد له ملائكته وأسكن أباه الجنة وفتح له باب التوبة وأكرمه بعبادته وهدايته، وهذا هو المناسب لسياق قوله: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم الخ، فإن السياق سياق العتبى والامتنان. قوله تعالى: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا. الآية قريبة السياق من قوله تعالى: (قالوا ربنا أمتنا إثنتين وأحييتنا إثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل) المؤمن - 11، وهذه من الآيات التي يستدل بها على وجود البرزخ بين الدنيا والآخرة، فإنها تشتمل على إماتتين، فلو كان إحديهما الموت الناقل من الدنيا لم يكن بد في تصوير الاماتة الثانية من فرض حيوة بين الموتين وهو البرزخ، وهو إستدلال تام اعتني به في بعض الروايات ايضا، وربما ذكر بعض المنكرين للبرزخ أن الآيتين أعني قوله: كيف تكفرون الآية، وقوله: قالوا ربنا الآية، متحدتا السياق، وقد اشتملتا على موتين وحيوتين، فمدلولهما واحد، والآية الاولى ظاهرة في أن الموت الاول هو حال الانسان قبل ولوج الروح في الحيوة الدنيا، فالموت والحيوة الاوليان هما الموت قبل الحيوة الدنيا والحيوة الدنيا والموت والحيوة الثانيتان هما الموت عن الدنيا والحيوة يوم البعث، والمراد بالمراتب في الآية الثانية هو ما في الآية الاولى، فلا معنى لدلالتها على البرزخ، وهو خطأ فان الآيتين مختلفتان سياقا إذا المأخوذ في الاية الاولى، موت واحد وإماتة واحدة وإحيائان، وفي الآية الثانية إماتتان وإحيائان، ومن المعلوم أن الاماتة لا يتحقق لها مصداق من دون سابقة حيوة بخلاف الموت، فالموت الاول في الآية الاولى غير الاماتة الاولى في الآية الثانية، فلامح في قوله تعالى. أمتنا إثنتين وأحييتنا إثنتين، الاماتة الاولى هي التي بعد الدنيا والاحياء الاول بعدها للبرزخ والاماتة والاحياء الثانيتان للاخرة يوم البعث، وفي قوله تعالى: وكنتم أمواتا فأحياكم

[ 112 ]

إنما يريد الموت قبل الحيوة وهو موت وليس بإماتة والحيوة هي الحيوة الدنيا، وفي قوله تعالى: ثم إليه ترجعون حيث فصل بين الاحياء والرجوع بلفظ ثم تأييد لما ذكرنا هذا. قوله تعالى: وكنتم أمواتا، بيان حقيقة الانسان من حيث وجوده فهو وجود متحول متكامل يسير في مسير وجوده المتبدل المتغير تدريجا ويقطعه مرحلة مرحلة، فقد كان الانسان قبل نشأته في الحيوة الدنيا ميتا ثم حيي بإحياء الله ثم يتحول بإماتة وإحياء وهكذا وقد قال سبحانه: (وبدأ خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه) السجدة - 9، وقال تعالى: (ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) المؤمنون - 14، وقال تعالى: (وقالوا أإذا ضللنا في الارض أئنا لفي خلق جديد، بل هم بلقاء ربهم كافرون. قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم) السجدة - 11، وقال تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) طه - 55. والآيات كما ترى (وسنزيدها توضيحا في محالها) تدل على أن الانسان جزء من الارض غير مفارقها ولا مباين معها، إنفصل منها ثم شرع في التطور بأطواره حتى بلغ مرحلة أنشئ فيها خلقا آخر، فهو المتحول خلقا آخر والمتكامل بهذا الكمال الجديد الحديث، ثم يأخذ ملك الموت هذا الانسان من البدن نوع أخذ يستوفيه ثم يرجع إلى الله سبحانه، فهذا صراط وجود الانسان. ثم إن الانسان صاغه التقدير صوغا يرتبط به مع سائر الموجودات الارضية والسماوية من بسائط العناصر وقواها المنبجسة منها ومركباتها من حيوان ونبات ومعدن وغير ذلك من ماء أو هواء وما يشاكلها، وكل موجود من الموجودات الطبيعية كذلك، أي إنه مفطور على الارتباط مع غيره ليفعل وينفعل ويستبقي به موهبة وجوده غير أن نطاق عمل الانسان ومجال سعية أوسع، كيف ؟ وهذا الموجود الاعزل على أنه يخالط الموجودات الاخر الطبيعية بالقرب والبعد والاجتماع والافتراق بالتصرفات البسيطة لغاية مقاصده البسيطة في حيوته، فهو من جهة تجهيزة بالادراك والفكر يختص بتصرفات خارجة عن طوق سائر الموجودات بالتفصيل والتركيب والافساد والاصلاح، فما من موجود إلا وهو في تصرف الانسان، فزمانا يحاكي

[ 113 ]

الطبيعة بالصناعة فيما لا يناله من الطبيعة وزمانا يقاوم الطبيعة بالطبيعة، وبالجملة فهو مستفيد لكل غرض من كل شئ، ولا يزال مرور الدهور على هذا النوع العجيب يؤيده في تكثير تصرفاته وتعميق أنظاره ليحق الله الحق بكلماته، وليصدق قوله: (سخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعا منه) الجاثية - 13، وقوله: (ثم استوى إلى السماء) البقرة - 29، وكون الكلام واقعا موقع بيان النعم لتمام الامتنان يعطي أن يكون الاستواء إلى السماء لاجل الانسان فيكون تسويتها سبعا أيضا لاجله، وعليك بزيادة التدبر فيه. فذاك الذي ذكرناه من صراط الانسان في مسير وجوده، وهذا الذي ذكرناه من شعاع عمله في تصرفاته في عالم الكون هو الذي يذكره سبحانه من العالم الانساني ومن أين يبتدي وإلى أين ينتهي. غير أن القرآن كما يعد مبدأ حيوته الدنيوية آخذة في الشروع من الطبيعة الكونية ومرتبطة بها (أحيانا) كذلك يربطها بالرب تعالى وتقدس، فقال تعالى: (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) مريم - 8، وقال تعالى: (إنه هو يبدئ ويعيد) البروج - 13، فالانسان وهو مخلوق مربى في مهد التكوين مرتضع من ثدي الصنع والايجاد متطور بأطوار الوجود يرتبط سلوكه بالطبيعة الميتة، كما انه من جهة الفطر والابداع مرتبط متعلق بأمر الله وملكوته، قال تعالى: (انما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) يس - 82، وقال تعالى: (انما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) النحل - 40، فهذا من جهة البدء وأما من جهة العود والرجوع فيعد صراط الانسان متشعبا إلى طريقين طريق السعادة وطريق الشقاوة، فاما طريق السعادة فهو أقرب الطرق يأخذ في الانتهاء إلى الرفيع الاعلى ولا يزال يصعد الانسان ويرفعه حتى ينتهي به إلى ربه، وأما طريق الشقاوة فهو طريق بعيد يأخذ في الانتهاء إلى اسفل السافلين حتى ينتهي إلى رب العالمين، والله من ورائهم محيط، وقد مر بيان ذلك في ذيل قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم من سورة الفاتحة. فهذا اجمال القول في صراط الانسان، واما تفصيل القول في حيوته قبل الدنيا

[ 114 ]

وفيها وبعد الدنيا فسيأتي كل في محله، غير ان كلامه تعالى انما يتعرض لذلك من جهة ارتباطه بالهداية والضلال والسعادة والشقاء، ويطوي البحث عما دون ذلك الا بمقدار يماس غرض القرآن المذكور. وقوله تعالى: فسويهن سبع سموات، سيأتي الكلام في السماء في سورة حم السجدة انشاء الله تعالى. وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ قال: إني أعلم ما لا تعلمون - 30. وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين - 31. قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم - 32. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون - 33. (بيان) الآت تنبئ عن غرض انزال الانسان إلى الدنيا وحقيقة جعل الخلاقة في الارض وما هو آثارها وخواصها، وهي على خلاف سائر قصصه لم يقع في القرآن الا في محل واحد وهو هذا المحل.

[ 115 ]

قوله تعالى: واذ قال ربك الخ، سيأتي الكلام في معنى القول منه تعالى وكذا القول من الملائكة والشيطان انشاء الله. قوله تعالى: قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، إلى قوله: ونقدس لك. مشعر بأنهم انما فهموا وقوع الافساد وسفك الدماء من قوله سبحانه: اني جاعل في الارض خليفة، حيث أن الموجود الارضي بما انه مادي مركب من القوى الغضبية والشهوية، والدار دار التزاحم، محدودة الجهات، وافرة المزاحمات، مركباتها في معرض الانحلال، وانتظاماتها واصلاحاتها في مظنة الفساد ومصب البطلان، لا تتم الحيوة فيها الا بالحيوة النوعية، ولا يكمل البقاء فيها الا بالاجتماع والتعاون، فلا تخلو من الفساد وسفك الدماء، ففهموا من هناك أن الخلافة المرادة لا تقع في الارض الا بكثرة من الافراد ونظام اجتماعي بينهم يفضي بالاخرة إلى الفساد والسفك و، الخلافة وهي قيام شئ مقام آخر لا تتم إلا بكون الخليفة حاكيا للمستخلف في جميع شؤنه الوجودية وآثاره وأحكامه وتدابيره بما هو مستخلف، والله سبحانه في وجوده مسمى بالاسماء الحسنى متصف بالصفات العليا، من اوصاف الجمال والجلال، منزه في نفسه عن النقص ومقدس في فعله عن الشر والفساد جلت عظمته، والخليفة الارضي بما هو كذلك لا يليق بالاستخلاف ولا يحكي بوجوده المشوب بكل نقص وشين الوجود الالهي المقدس المنزه عن جميع النقائص وكل الاعدام، فأين التراب ورب الارباب، وهذا الكلام من الملائكة في مقام تعرف ما جهلوه واستيضاح ما أشكل عليهم من أمر هذا الخليفة، وليس من الاعتراض والخصومة في شئ والدليل على ذلك قولهم فيما حكاه الله تعالى عنهم: انك أنت العليم الحكيم حيث صدر الجملة بأن التعليلية المشعرة بتسلم مدخولها فافهم، فملخص قولهم يعود إلى ان جعل الخلافة انما هو لاجل ان يحكي الخليفة مستخلفه بتسبيحه بحمده وتقديسه له بوجوده، والارضية لا تدعه يفعل ذلك بل تجره إلى الفساد والشر، والغاية من هذا الجعل وهي التسبيح والتقديس بالمعنى الذي مر من الحكاية حاصلة بتسبيحنا بحمدك وتقديسنا لك، فنحن خلفائك أو فاجعلنا خلفاء لك، فما فائدة جعل هذه الخلافة الارضية لك ؟ فرد الله سبحانه ذلك عليهم بقوله: أني أعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الاسماء كلها. وهذا السياق: يشعر اولا: بأن الخلافة المذكورة انما كانت خلافة الله تعالى،

[ 116 ]

لا خلافة نوع من الموجود الارضي كانوا في الارض قبل الانسان وانقروضوا ثم أراد الله تعالى أن يخلفهم بالانسان كما إحتمله بعض المفسرين، وذلك لان الجواب الذي اجاب سبحانه به عنهم وهو تعليم آدم الاسماء لا يناسب ذلك، وعلى هذا فالخلافة غير مقصورة على شخص آدم عليه السلام بل بنوه يشاركونه فيها من غير إختصاص، ويكون معنى تعليم الاسماء إيداع هذا العلم في الانسان بحيث يظهر منه آثاره تدريجا دائما ولو اهتدى إلى السبيل أمكنه أن يخرجه من القوة إلى الفعل، ويؤيد عموم الخلافة قوله تعالى (إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح) الاعراف - 69، وقوله تعالى (ثم جعلناكم خلائف في الارض) يونس - 14، وقوله تعالى (ويجعلكم خلفاء الارض) النحل - 62. وثانيا: إنه سبحانه لم ينف عن خليفة الارض الفساد وسفك الدماء، ولا كذب الملائكة في دعويهم التسبيح والتقديس، وقررهم على ما ادعوا، بل انما أبدا شيئا آخر وهو أن هناك أمرا لا يقدر الملائكة على حمله ولا تتحمله ويتحمله هذا الخليفة الارضي فانه يحكي عن الله سبحانه أمرا ويتحمل منه سرا ليس في وسع الملائكة، ولا محالة يتدارك بذلك أمر الفساد وسفك الدماء، وقد بدل سبحانه قوله: قال إنى أعلم مالا تعلمون ثانيا بقوله: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والارض، والمراد بهذا الغيب هو الاسماء لا علم آدم بها فإن الملائكة ما كانت تعلم أن هناك أسماء لايعلمونها، لا أنهم كانوا يعلمون وجود أسماء كذلك ويجهلون من آدم أنه يعلمها، وإلا لما كان لسؤاله تعالى إياهم عن الاسماء وجه وهو ظاهر بل كان حالمقام أن يقتصر بقوله: قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم حتى يتبين لهم أن آدم يعلمها لا أن يسئل الملائكة عن ذلك، فإن هذا السياق يعطي أنهم ادعوا الخلافة وأذعنوا بإنتفائها عن آدم وكان اللازم أن يعلم الخليفة بالاسماء فسئلهم عن الاسماء فجهلوها وعلمها آدم، فثبت بذلك لياقته لها وإنتفائها عنهم، وقد ذيل سبحانه السؤال بقوله: إن كنتم صادقين، وهو مشعر بأنهم كانوا إدعوا شيئا كان لازمه العلم بالاسماء. وقوله تعالى: وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم، مشعر بأن هذه الاسماء أو أن مسمياتها كانوا موجودات أحياء عقلاء، محجوبين تحت حجاب الغيب وأن العلم بأسمائهم كان غير نحو العلم الذي عندنا بأسماء الاشياء، وإلا كانت الملائكة بانباء آدم إياهم بها

[ 117 ]

عالمين وصائرين مثل آدم مساوين معه، ولم يكن في ذلك اكرام لآدم ولا كرامة حيث علمه الله سبحانه أسماء ولم يعلمهم، ولو عملهم إياها كانوا مثل آدم أو أشرف منه، ولم يكن في ذلك ما يقنعهم أو يبطل حجتهم، وأي حجة تتم في أن يعلم الله تعالى رجلا علم اللغة ثم يباهي به ويتم الحجة على ملائكة مكرمين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون بأن هذا خليفتي وقابل لكرامتي دونكم ؟ ويقول تعالى أنبئوني باللغات التي سوف يضعها الآدميون بينهم للافهام والتفهيم إن كنتم صادقين في دعويكم أو مسئلتكم خلافتي، على أن كمال اللغة هو المعرفة بمقاصد القلوب والملائكة لا تحتاج فيها إلى التكلم، وانما تتلقى المقاصد من غير واسطة، فلهم كمال فوق كمال التكلم، وبالجملة فما حصل لملائكة من العلم بواسطة انباء آدم لهم بالاسماء هو غير ما حصل لآدم من حقيقة العلم بالاسماء بتعليم الله تعالى فأحد الامرين كان ممكنا في حق الملائكة وفي مقدرتهم دون الآخر، وآدم انما استحق الخلافة الالهية بالعلم بالاسماء دون انبائها إذ الملائكة انما قالوا في مقام الجواب: سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا، فنفوا العلم. فقد ظهر مما مر ان العلم بأسماء هؤلاء المسميات يجب أن يكون بحيث يكشف عن حقائقهم وأعيان وجوداتهم، دون مجرد ما يتكفله الوضع اللغوي من اعطاء المفهوم فهؤلاء المسميات المعلومة حقائق خارجية، ووجودات عينية وهى مع ذلك مستورة تحت ستر الغيب غيب السموات والارض، والعلم بها على ما هي عليها كان اولا ميسورا ممكنا لموجود أرضي لا ملك سماوي، وثانيا: دخيلا في الخلافة الالهية. والاسماء في قوله تعالى: وعلم آدم الاسماء كلها، جمع محلى باللام وهو يفيد العموم على ما صرحوا به مضافا إلى انه مؤكد بقوله: كلها، فالمراد بها كل اسم يقع لمسمى ولا تقييد ولا عهد، ثم قوله: عرضهم، دال على كون كل اسم أي مسماه ذا حيوة وعلم وهو مع ذلك تحت حجاب الغيب، غيب السموات والارض. واضافة الغيب إلى السموات والارض وان امكن أن يكون في بعض الموارد اضافة من، فيفيد التبعيض لكن المورد وهو مقام اظهار تمام قدرته تعالى واحاطته وعجز الملائكة ونقصهم يوجب كون اضافة الغيب إلى السموات والارض اضافة اللام، فيفيد أن الاسماء امور غائبة عن العالم السماوي والارضي، خارج محيط الكون، و إذا تأملت هذه الجهات

[ 118 ]

اعني عموم الاسماء وكون مسمياتها أولي حيوة وعلم وكونها غيب السموات والارض قضيت بإنطباقها بالضرورة على ما اشير إليه في قوله تعالى: (وان من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم) الحجر - 21، حيث أخبر سبحانه بأنه كل ما يقع عليه اسم شئ فله عنده تعالى خزائن مخزونة باقية عنده غير نافده، ولا مقدرة بقدر، ولا محدودة بحد، وأن القدر والحد في مرتبة الانزال والخلق، وأن الكثرة التي في هذه الخزائن ليست من جنس الكثرة العددية الملازمة للتقدير والتحديد بل تعدد المراتب والدرجات، وسيجئ بعض الكلام فيها في سورة الحجر انشاء الله تعالى. فتحصل ان هؤلاء الذين عرضهم الله تعالى على الملائكة موجودات عالية محفوظة عند الله تعالى، محجوبة بحجب الغيب، أنزل الله سبحانه كل اسم في العالم بخيرها وبركتها واشتق كل ما في السموات والارض من نورها وبهائها، وأنهم على كثرتهم وتعددهم لا يتعددون تعدد الافراد، ولا يتفاوتون تفاوت الاشخاص، وانما يدور الامر هناك مدار المراتب و الدرجات ونزول الاسم من عند هؤلاء انما هو بهذا القسم من النزول. وقوله تعالى: وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون وكان هذان القسمان من الغيب النسبي الذي هو بعض السموات والارض، ولذلك قوبل به قوله: أعلم غيب السموات والارض، ليشمل قسمي الغيب أعني الخارج عن العالم الارضى والسماوي وغير الخارج عنه. وقوله تعالى: كنتم تكتمون، تقييد الكتمان بقوله: كنتم، مشعر بأن هناك امرا مكتوما في خصوص آدم وجعل خلافته، ويمكن أن يستظهر ذلك من قوله تعالى في الآية التالية: (فسجدوا الا ابليس أبى واستكبر وكان من الكافرين). فيظهر أن ابليس كان كافرا قبل ذلك الحين، وأن إبائه عن السجدة كان مرتبطا بذلك فقد كان أضمره هذا. ويظهر بذلك أن سجدة الملائكة وإباء إبليس عنها كانت واقعة بين قوله تعالى: قال اني أعلم ما لا تعلمون وبين قوله: اعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون، ويظهر السر أيضا في تبديل قوله: اني أعلم ما لا تعلمون ثانيا بقوله: اني أعلم غيب السموات والارض.

[ 119 ]

(بحث روائي) في تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام، قال: ما علم الملائكة بقولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، لو لا انهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها ويسفك الدماء اقول: يمكن أن يشير بها إلى دورة في الارض سابقة على دورة بني آدم هذه كما وردت فيه الاخبار ولا ينافي ذلك ما مر أن الملائكة فهمت ذلك من قوله تعالى: إني جاعل في الارض خليفة، بل لا يتم الخبر بدون ذلك، والا كان هذا القول قياسا من الملائكة مذموما كقياس ابليس. وفي تفسير العياشي أيضا عنه عليه السلام قال زرارة: دخلت على أبي جعفر عليه لسلام فقال: أي شئ عندك من احاديث الشيعة فقلت: ان عندي منها شيئا كثيرا فقد هممت أن اوقد لها نارا فأحرقها فقال عليه السلام: وارها تنس ما أنكرت منها فخطر على بالي الآدميون فقال: ما كان علم الملائكة حيث قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ قال: وكان يقول أبو عبد الله عليه السلام: إذا حدث بهذا الحديث هو كسر على القدرية، ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: ان آدم عليه السلام كان له في السماء خليل من الملائكة، فلما هبط آدم من السماء إلى الارض استوحش الملك وشكى إلى الله تعالى وسأله أن يأذن له، فأذن له فهبط عليه فوجده قاعدا في قفرة من الارض، فلما رآه آدم وضع يده على رأسه وصاح صيحة، قال أبو عبد الله عليه السلام: يروون انه أسمع عامة الخلق فقال له الملك: يا آدم ما أراك الا وقد عصيت ربك وحملت على نفسك ما لا تطيق، اتدري ما قال لنا الله فيك فرددنا عليه ؟ قال: لا، قال: قال: اني جاعل في الارض خليفة، قلنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ فهو خلقك أن تكون في الارض أيستقيم أن تكون في السماء ؟ قال أبو عبد الله عليه السلام والله عزى بها آدم ثلثا. أقول: ويستفاد من الرواية ان جنة آدم كانت في السماء وسيجئ فيه روايات أخر أيضا. وفي تفسير العياشي ايضا عن أبي العباس عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألته

[ 120 ]

عن قول الله: وعلم آدم الاسماء كلها، ما ذا علمه ؟ قال: الارضين والجبال والشعاب والاودية، ثم نظر إلى بساط تحته، فقال وهذا البساط مما علمه. وفي التفسير ايضا عن الفضيل بن العباس عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله: وعلم آدم الاسماء كلها، ما هي ؟ قال: أسماء الاودية والنبات والشجر والجبال من الارض. وفي التفسير أيضا عن داود بن سرحان العطار، قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فدعا بالخوان فتغذينا ثم دعا بالطست والدست سنانه فقلت: جعلت فداك، قوله: وعلم آدم الاسماء كلها، الطست والدست سنانه منه، فقال عليه السلام: الفجاج والاودية وأهوى بيده كذا وكذا. وفي المعاني عن الصادق عليه السلام: إن الله عز وجل علم آدم أسماء حججه كلها ثم عرضهم وهم أرواح على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين بأنكم أحق بالخلافة في الارض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم فقالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال الله تبارك وتعالى: يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبئهم بأسمائهم وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله عز ذكره، فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريته، ثم غيبهم عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبتهم، وقال لهم: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون. أقول: وبالرجوع إلى ما مر من البيان تعرف معنى هذه الروايات وان لا منافاة بين هذه وما تقدمها، إذ قد تقدم أن قوله تعالى: وإن من شئ إلا عندنا خزائنه تعطي أنه مامن شئ إلا وله في خزائن الغيب وجود، وإن هذه الاشياء التي قبلنا إنما وجدت بالنزول من هناك، وكل اسم وضع بحيال مسمى من هذه المسميات فهى اسم لما في خزائن الغيب، فسواء قيل: إن الله علم آدم ما في خزائن غيبه من الاشياء وهي غيب السموات والارض، أو قيل: إنه علم آدم أسماء كل شئ وهي غيب السموات والارض كان المؤدي والنتيجة واحدا وهو ظاهر.

[ 121 ]

ويناسب المقام عدة من أخبار الطينة كما رواه في البحار عن جابر بن عبد الله قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أول شئ خلق الله ما هو ؟ فقال نور نبيك يا جابر خلقه الله ثم خلق منه كل خير، ثم أقامه بين يديه في مقام القرب ما شاء الله، ثم جعله أقساما، فخلق العرش من قسم، والكرسي من قسم، وحملة العرش وسكنة الكرسي من قسم، وأقام القسم الرابع في مقام الحب ما شاء الله، ثم جعله أقساما، فخلق القلم من قسم، واللوح من قسم، والجنة من قسم، وأقام القسم الرابع في مقام الخوف ما شاء الله، ثم جعله أجزاء فخلق الملائكة من جزء، والشمس من جزء والقمر من جزء، وأقام القسم الرابع في مقام الرجاء ما شاء الله، ثم جعله أجزاء، فخلق العقل من جزء والعلم والحلم من جزء، والعصمة والتوفيق من جزء، وأقام القسم الرابع في مقام الحياء ما شاء الله، ثم نظر إليه بعين الهيبة فرشح ذلك النور وقطرت منه مائة ألف واربعة وعشرون ألف قطرة، فخلق الله من كل قطرة روح نبي ورسول، ثم تنفست أرواح الانبياء فخلق الله من أنفاسها أرواح الاولياء والشهداء والصالحين. أقول: والاخبار في هذه المعاني كثيرة، متظافرة وأنت إذا أجلت نظرة التأمل والامعان فيها وجدتها شواهد على ما قدمناه، وسيجئ شطر من الكلام في بعضها. وإياك أن ترمي أمثال هذه الاحاديث الشريفة المأثورة عن معادن العلم ومنابع الحكمة بأنها من اختلاقات المتصوفة وأوهامهم فللخلقة أسرار، وهو ذا العلماء من طبقات أقوام الانسان لا يألون جهدا في البحث عن أسرار الطبيعة، منذ أخذ البشر في الانتشار، وكلما لاح لهم معلوم واحد بان لهم مجاهيل كثيرة، وهي عالم الطبيعة أضيق العوالم وأخسها فما ظنك بما ورائها، وهي عوالم النور والسعة. وإذ قلنا للملائكة أسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين - 34.

[ 122 ]

(بيان) قد عرفت أن قوله تعالى: وما كنتم تكتمون، فيه دلالة على وقوع أمر مكتوم ظاهر بعد أن كان مكتوما، ولا يخلو ذلك عن مناسبة مع قوله: أبى واستكبر وكان من الكافرين حيث لم يعبر أبي واستكبر وكفر، وعرفت أيضا أن قصه السجدة كالواقعة أو هي واقعة بين قوله تعالى: إني اعلم ما لا تعلمون، وقوله: واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون، فقوله تعالى: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، كالجملة المستخرجة من بين الجمل ليتخلص بها إلى قصة الجنة، فإن هذه الآيات كما عرفت إنما سيقت لبيان كيفية خلافة الانسان وموقعه وكيفية نزوله إلى الدنيا وما يؤول إليه أمره من سعادة وشقاء، فلا يهم من قصة السجدة هيهنا إلا إجمالها المؤدي إلى قصة الجنة وهبوط آدم هذا، فهذا هو الوجه في الاضراب عن الاطناب إلى الايجاز، ولعل هذا هو السر أيضا في الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله تعالى: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا، بعد قوله: وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل. وعلى ما مر فنسبة الكتمان إلى الملائكة وهو فعل إبليس بناء على الجري على الدأب الكلامي من نسبة فعل الواحد إلى الجماعة إذا اختلط بهم ولم يتميز منهم، ويمكن أن يكون له وجه آخر، وهو أن يكون ظاهر قوله تعالى: إني جاعل في الارض خليفة، إطلاق الخلافة حتى على الملائكة كما يؤيده ايضا أمرهم ثانيا بالسجود، ويوجب ذلك خطورا في قلوب الملائكة، حيث أنها ما كانت تظن أن موجودا أرضيا يمكن ان يسود على كل شئ حتى عليهم، ويدل على هذا المعنى بعض الروايات كما سيأتي. وقوله تعالى: أسجدوا لآدم، يستفاد منه جواز السجود لغير الله في الجملة إذا كان تحية وتكرمة للغير وفيه خضوع لله تعالى بموافقة أمره، ونظيره قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا قال: يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا) يوسف - 100، وملخص القول في ذلك أنك قد عرفت في سورة الفاتحة أن العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام العبودية وإتيان ما يثبت ويستثبت به ذلك فالفعل العبادي يجب أن يكون فيه صلاحية إظهار مولوية المولى أو عبدية العبد كالسجود والركوع والقيام أمامه حينما يقعد، والمشي خلفه حينما يمشي

[ 123 ]

وغير ذلك، وكلما زادت الصلاحية المزبورة إزدادت العبادة تعينا للعبودية، وأوضح الافعال في الدلالة على عز المولوية وذل العبودية السجدة، لما فيها من الخرور على الارض، ووضع الجبهة عليها، واما ما ربما ظنه بعض: من أن السجدة عبادة ذاتية، فليس بشئ، فإن الذاتي لا يختلف ولا يتخلف. وهذا الفعل يمكن أن يصدر بعينه من فاعله بداع غير داع التعظيم والعبادة كالسخرية والاستهزاء فلا يكون عبادة مع اشتماله على جميع ما يشتمل عليه وهو عبادة نعم معنى العبادة أوضح في السجدة من غيرها، وإذا لم يكن عبادة ذاتية لم يكن لذاته مختصا بالله سبحانه، بناء على أن المعبود منحصر فيه تعالى، فلو كان هناك مانع لكان من جهة النهي الشرعي أو العقلي والممنوع شرعا أو عقلا ليس إلا إعطاء الربوبية لغيره تعالى، وأما تحية الغير أو تكرمته من غير إعطاء الربوبية بل لمجرد التعارف والتحية فحسب، فلا دليل على المنع من ذلك، لكن الذوق الديني المتخذ من الاستيناس بظواهره يقضي باختصاص هذا الفعل به تعالى، والمنع عن استعماله في غير مورده تعالى، وان لم يقصد به إلا التحية والتكرمة فقط، وأما المنع عن كل ما فيه إظهار الاخلاص لله، بإبراز المحبة لصالحي عباده أو لقبور أوليائه أو آثارهم فمما لم يقم عليه دليل عقلي أو نقلي أصلا، وسنعود إلى البحث عن هذا الموضوع في محل يناسبه إن شاء الله تعالى. (بحث روائي) في تفسير العياشي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما أن خلق الله آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له فقالت الملائكة في انفسها: ما كنا نظن أن الله خلق خلقا أكرم عليه منا فنحن جيرانه ونحن أقرب الخلق إليه، فقال الله: ألم أقل لكم إني أعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون، فيما أبدوا من أمر بني الجان وكتموا ما في أنفسهم، فلاذت الملائكة الذين قالوا ما قالوا بالعرش وفي التفسير أيضا عن علي بن الحسين عليه السلام: ما في معناه وفيه: فلما عرفت الملائكة أنها وقعت في خطيئة لاذوا بالعرش، وأنها كانت عصابة من الملائكه وهم الذين كانوا حول العرش، لم يكن جميع الملائكة إلى أن قال: فهم يلوذون حول العرش إلى يوم القيامة.

[ 124 ]

اقول: يمكن أن يستفاد مضمون الروايتين من قوله حكاية عن الملائكة: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك إلى قوله: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. وسيجئ أن العرش هو العلم، وبذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام فافهم ذلك، وعلى هذا كان المراد من قوله تعالى: وكان من الكافرين، قوم إبليس من الجان المخلوقين قبل الانسان. قال تعالى: (ولقد خلقنا الانسان من صلصال من حماء مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم) الحجر - 27، وعلى هذه الرواية فنسبة الكتمان إلى جميع الملائكة لا تحتاج إلى عناية زائدة، بل هي على حقيقتة، فإن المعنى المكتوم خطر على قلوب جميع الملائكة، ولا منافاة بين هذه الرواية وما تفيد أن المكتوم هو ما كان يكتمه إبليس من الاباء عن الخضوع لآدم، والاستكبار لو دعي إلى السجود، لجواز استفادة الجميع كما هو كذلك. وفي قصص الانبياء عن أبي بصير، قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: سجدت الملائكة ووضعوا أجباههم على الارض ؟ قال: نعم تكرمة من الله تعالى وفي تحف العقول قال: إن السجود من الملائكة لآدم إنما كان ذلك طاعة لله ومحبة منهم لادم. وفي الاحتجاج عن موسى بن جعفر عن آبائه: إن يهوديا سأل أمير المؤمنين عليه السلام عن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مقابلة معجزات الانبياء، فقال: هذا آدم أسجد الله له ملائكته، فهل فعل بمحمد شيئا من هذا ؟ فقال علي: لقد كان ذلك، ولكن أسجد الله لآدم ملائكتة، فإن سجودهم لم يكن سجود طاعة انهم عبدوا آدم من دون الله عز وجل، ولكن اعترافا لآدم بالفضيلة ورحمة من الله له ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أعطي ما هو أفضل من هذا، إن الله جل وعلا صلى عليه في جبروته والملائكة بأجمعها، وتعبد المؤمنون بالصلوة عليه فهذه زيادة له يا يهودي. وفي تفسير القمي: خلق الله آدم فبقي أربعين سنة مصورا، وكان يمر به إبليس اللعين فيقول: لامر ما خلقت ؟ فقال: العالم، فقال إبليس: (لئن أمرني الله

[ 125 ]

بالسجود لهذا لعصيته) إلى أن قال: ثم قال الله تعالى للملائكة: أسجدوا لآدم فسجدوا فأخرج إبليس ما كان في قلبه من الحسد فأبى أن يسجد. 125 وفي البحار عن قصص الانبياء عن الصادق عليه السلام قال: أمر إبليس بالسجود لآدم فقال: يا رب وعزتك إن أعفيتني من السجود لادم لاعبدنك عبادة ما عبدك أحد قط مثلها، قال الله جل جلاله: إني احب أن اطاع من حيث اريد وقال: إن إبليس رن أربع رنات: أولهن يوم لعن، ويوم أهبط إلى الارض، ويوم بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم على فترة من الرسل، وحين أنزلت أم الكتاب، ونخر نخرتين: حين أكل آدم من الشجرة، وحين أهبط من الجنة، وقال في قوله تعالى: فبدت لهما سوآتهما، وكانت سوآتهما لا ترى فصارت ترى بارزة، وقال الشجرة التي نهى عنها آدم هي السنبلة. اقول: وفي الروايات - وهي كثيرة - تأييد ما ذكرناه في السجدة. وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين - 35. فأزلهما الشيطان عنها فاخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين - 36. فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم - 37. قلنا إهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون - 38. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون - 39.

[ 126 ]

(بيان) قوله تعالى: قلنا يا آدم اسكن، على أن قصة سجود الملائكة لآدم تكررت في عدة مواضع من القرآن الكريم. لم يقع قصة الجنة إلا في ثلث مواضع: احدهما: هيهنا من سورة البقرة. الثاني: في سورة الاعراف. قال الله تعالى: (ويا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ورى عنهما وقال: ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين. فدليهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناديهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين. قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. قال: إهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين. قال: فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون) الآيات 19، 25. والثالث: في سورة طه. قال الله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما. وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى. فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقي. إن لك ألاتجوع فيها ولا تعرى، وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى. فوسوس إليه الشيطان فقال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى. فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصي آدم ربه فغوى. ثم إجتباه ربه فتاب عليه وهدى: قال: اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فاما ياتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. قال: رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا. قال: كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى). الآيات. وسياق الآيات وخاصة قوله تعالى في صدر القصة: إني جاعل في الارض خليفة يعطي أن آدم عليه السلام إنما خلق ليحيى في الارض ويموت

[ 127 ]

فيها وإنما أسكنهما الله الجنة لاختبارهما ولتبدو لهما سوآتهما حتى يهبطا إلى الارض، وكذا سياق قوله تعالى في سورة طه: فقلنا يا آدم، وفي سورة الاعراف: ويا آدم أسكن حيث سبك قصة الجنة مع قصة إسجاد الملائكة كلتيهما كقصة واحدة متواصلة، وبالجملة فهو عليه السلام كان مخلوقا ليسكن الارض، وكان الطريق إلى الاستقرار في الارض هذا الطريق، وهو تفضيله على الملائكة لاثبات خلافته، ثم أمرهم بالسجدة، ثم إسكان الجنة. والنهي عن قرب الشجرة المنهية حتى يأكلا منها فيبدو لهما سوآتهما فيهبطا إلى الارض، فأخر العوامل للاستقرار في الارض، وانتخاب الحيوة الدنيوية ظهور السوأة، وهي العورة بقرينة قوله تعالى: وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة فهو التمايل الحيواني ويستلزم التغذي والنمو ايضا فما كان لابليس هم إلا ابداء سوآتهما، وآدم وزوجته وإن كانا قد سواهما الله تعالى تسوية أرضية بشرية ثم أدخلهما الجنة لم يمكثا بعد التسوية، ولم يمهلا كثيرا، ليتم في الدنيا إدراكهما لسوآتهما ولا لغيرها من لوازم الحيوة الدنيا واحتياجاتها حتى أدخلهما الله الجنة، وانه إنما أدخلهما الله الجنة حين أدخلهما ولما ينفصلا ولما ينقطع إدراكهما عن عالم الروح والملائكة، والدليل على ذلك قوله تعالى: ليبدي لهما ما ووري عنهما ولم يقل ما كان ووري عنهما، وهو مشعر بأن مواراة السوآة ما كانت ممكنة في الحيوة الدنيا إستدامة وإنما تمشت دفعة ما واستعقب ذلك، إسكان الجنة فظهور السوآة كان مقضيا محتوما في الحيوة الارضية ومع أكل الشجرة، ولذلك قال تعالى: فلا يخرجنكما من الجنة فتشقي، وقال تعالى: وأخرجهما مما كانا فيه وأيضا هو تعالى غفر خطيئتهما بعد ما تابا ولم يرجعهما إلى الجنة بل أهبطهما إلى الدنيا ليحييا فيها ولو لم تكن الحيوة الارضية مع أكل الشجرة وظهور السوآة حتما مقضيا، والرجوع إلى الجنة مع ذلك محالا، لرجعا إليها بعد حط الخطيئة، فالعامل في خروجهما من الجنة وهبوطهما هو الاكل من الشجرة وظهور السوآة، وكان ذلك بوسوسة الشيطان اللعين، وقد قال تعالى في سورة طه في صدر القصة: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما). ثم ساق تعالى القصة. فهل هذا العهد هو قوله تعالى: لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ؟ أو أنه قوله تعالى: ان هذا عدو لك ولزوجك أو أنه العهد بمعني الميثاق العمومي المأخوذ من جميع الانسان، ومن الانبياء خاصة بوجه آكد وأغلظ.

[ 128 ]

والاحتمال الاول غير صحيح لقوله تعالى: (فوسوس لهما الشيطان وقال ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة الا ان تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما اني لكما لمن الناصحين) الآيتان فهما قد كانا حين اقتراف الخطيئة واقتراب الشجرة على ذكر من النهي، وقد قال تعالى: فنسي ولم نجد له عزما) فالعهد المذكور ليس هو النهى عن قرب الشجرة وأما الاحتمال الثاني (وهو ان يكون العهد المذكور هو التحذير عن اتباع ابليس فهو وان لم يكن بالبعيد كل البعيد، لكن ظواهر الآيات لا تساعد عليه فإن العهد مخصوص بآدم عليه السلام كما هو ظاهر الآية. مع ان التحذير عن ابليس كان لهما معا، وأيضا ذيل الآيات وهو على طبق صدرها في سورة طه يناسب العهد بمعنى الميثاق الكلي، لا العهد بمعنى التحذير عن ابليس، قال تعالى: (فاما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى الآيات) فبحسب التطبيق ينطبق قوله تعالى: (ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا) على نسيان العهد وهو كما ترى مع العهد بمعنى الميثاق على الربوبية والعبودية أنسب منه مع التحذير من ابليس، إذ لا كثير مناسبة بحسب المفهوم بين الاعراض عن الذكر واتباع ابليس، واما الميثاق على الربوبية فهو له انسب، فان الميثاق على الربوبية هو ان لا ينسى الانسان كونه تعالى ربا له أي مالكا مدبرا أي لا ينسى الانسان أبدا ولا في حال أنه مملوك طلق لا يملك لنفسه شيئا لا نفعا وضرا ولا موتا ولا حيوة ولا نشورا، أي لا ذاتا ولا وصفا ولا فعلا. والخطيئة التي تقابله هو إعراض الانسان عن ذكر مقام ربه والغفلة عنه بالالتفات إلى نفسه أو ما يعود ويرجع إلى نفسه من زخارف الحيوة الدنيا الفانية البالية هذا. لكنك إذا امعنت النظر في الحيوة الدنيا على اختلاف جهاتها وتشتت أطرافها وانحائها ووحدتها واشتراكها بين المؤمن والكافر وجدتها بحسب الحقيقة والباطن مختلفة في الموردين بحسب ذوق العلم بالله تعالى والجهل به فالعارف بمقام ربه إذا نظر إلى نفسه وكذلك إلى الحيوة الدنيا الجامعه لاقسام الكدورات وانواع الآلام وضروب المكاره من موت وحياة، وصحة وسقم، وسعة واقتار، وراحة وتعب، ووجدان وفقدان.

[ 129 ]

على ان الجميع (أعم مما في نفس الانسان أو في غيره) مملوكة لربه، لا استقلال لشئ منها وفيها، بل الكل ممن ليس عنده الا الحسن والبهاء والجمال والخير على ما يليق بعزتة وجلاله، ولا يترشح من لدنه الا الجميل والخير، فإذا نظر إليها وهي هكذا لم ير مكروها يكرهه ولا مخوفا يخافه، ولا مهيبا يهابه، ولا محذورا يحذره، بل يرى كل ما يراه حسنا محبوبا الا ما يأمره ربه أن يكرهه ويبغضه، وهو مع ذلك يكرهه لامره، ويحب ما يحب ويلتذ ويبتهج بأمره، لا شغل له إلا بربه، كل ذلك لما يرى الجميع ملكا طلقا لربه لا نصيب ولا حظ لشئ غيره في شئ منها، فما له ولمالك الامر وما يتصرف به في ملكه ؟ من احياء واماتة، ونفع وضر وغيرها، فهذه هي الحيوة الطيبة التي لا شقاء فيها البتة وهي نور لا ظلمة معه، وسرور لا غم معه، ووجدان لا فقد معه، وغنى لا فقر معه كل ذلك بالله سبحانه، وفي مقابل هذه الحيوة حيوة الجاهل بمقام ربه، إذ هذا المسكين بانقطاعه عن ربه لا يقع بصره على موجود من نفسه وغيره الا رآه مستقلا بنفسه ضارا أو نافعا خيرا أو شرا فهو يتقلب في حيوته بين الخوف عما يخاف فوته، والحذر عما يحذر وقوعه، والحزن لما يفوته، والحسرة لما يضيع عنه من جاه أو مال أو بنين أو اعوان وساير ما يحبه ويتكل ويعتمد عليه ويؤثره. كلما نضج جلده بالاعتياد بمكروه والسكون إلى مرارة بدل جلدا غيره، ليذوق العذاب بفؤاد مضطرب قلق، وحشى ذائب محترق، وصدر ضيق حرج، كأنما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون. إذا عرفت هذا علمت: أن مرجع الامرين أعني نسيان الميثاق وشقاء الحيوة الدنيا واحد، وان الشقاء الدنيوي من فروع نسيان الميثاق. وهذا هو الذي يشعر به كلامه سبحانه حيث أتى بالتكليف الجامع لاهل الدنيا في سورة طه فقال تعالى: (فاما يأتينكم مني هدى فمن إتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. وبدل ذلك في هذه السورة بقوله: (فمن إتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

[ 130 ]

ومن هنا تحدس إن كنت ذا فطانة أن الشجرة كانت شجرة في اقترابها تعب الحيوة الدنيا وشقائها، وهو أن يعيش الانسان في الدنيا ناسيا لربه، غافلا عن مقامه، وأن آدم عليه السلام كأنه أراد أن يجمع بينها وبين الميثاق المأخوذ عليه، فلم يتمكن فنسي الميثاق ووقع في تعب الحيوة الدنيا، ثم تدورك له ذلك بالتوبة. قوله تعالى: (وكلا منها رغدا) الرغد الهناء وطيب العيش وأرغد القوم مواشيهم تركوها ترعى كيف شاءت، وقوم رغد، ونساء رغد، أي ذووا عيش رغيد. وقوله تعالى: (ولا تقربا هذه الشجرة) وكأن النهي انما كان عن أكل الثمرة وانما تعلق بالقرب من الشجرة ايذانا بشدة النهى ومبالغة في التأكيد ويشهد بذلك قوله تعالى (فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما) الاعراف - 22. وقوله تعالى: (فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما) طه - 121، فكانت المخالفة بالاكل فهو المنهى عنه بقوله: ولا تقربا. قوله تعالى: فتكونا من الظالمين، من الظلم لا من الظلمة على ما إحتمله بعضهم وقد إعترفا بظلمهما حيث قالا على ما حكاه الله تعالى عنهما: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا. إلا أنه تعالى بدل في سورة طه هذه الكلمة أعني قوله: (فتكونا من الظالمين من قوله: (فتشقى والشقاء هو التعب ثم فسر التعب وفصله، فقال، (ان لك الا تجوع فيها ولا تعرى وإنك لا تظمأ فيها و لاتضحى الآيات). ومن هنا يظهر أن وبال هذا الظلم انما كان هو الوقوع في تعب حيوة هذه الدنيا من جوع وعطش وعراء وعناء وعلى هذا فالظلم منهما انما هو ظلمهما لانفسهما، لا بمعنى المعصية المصطلحة والظلم على الله سبحانه. ومن هنا يظهر أيضا أن هذا النهى اعني قوله: ولا تقربا، إنما كان نهيا تنزيهيا إرشاديا يرشد به إلى ما فيه خير المكلف وصلاحه في مقام النصح لا نهيا مولويا. فهما انما ظلما أنفسهما في ترك الجنة على ان جزاء المخالفة للنهى المولوي التكليفي

[ 131 ]

يتبدل بالتوبة إذا قبلت ولم يتبدل في موردهما، فانهما تابا وقبلت توبتهما ولم يرجعا إلى ما كانا فيه من الجنة ولو لا أن التكليف إرشادى ليس له الا التبعة التكوينية دون التشريعية لاستلزام قبول التوبة رجوعهما إلى ما كانا فيه من مقام القرب وسيأتي لهذا الكلام بقية فيما سيأتي ان شاء الله. قوله سبحانه: فأزلهما الشيطان، الظاهر من هذه الجملة كنظائرها وإن لم يكن أزيد من وسوسة الشيطان لهما مثل ما يوسوس لنا (بني آدم) على نحو القاء الوسوسة في القلب من غير رؤية الشخص. لكن الظاهر من أمثال قوله تعالى في سورة طه: (فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك) يدل على أنه تعالى أراهما الشيطان وعرفهما إياه بالشخص والعين دون الوصف وكذا قوله تعالى حكاية عن الشيطان: (يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد الآية حيث أتى بالكلام في صورة حكاية الخطاب، ويدل ذلك على متكلم مشعور به. وكذا قوله تعالى في سورة الاعراف: (وقاسمهما اني لكما لمن الناصحين) والقسم إنما يكون من مقاسم مشعور به. وكذا قوله تعالى: (وناديهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما أن الشيطان لكما عدو مبين، كل ذلك يدل على أنه كان يترآى لهما وكانا يشاهدانه. ولو كان حالهما عليهما السلام مثل حالنا من عدم المشاهدة حين الوسوسة لجاز لهما أن يقولا: (ربنا اننا لم نشعر وخلناأن هذه الوساوس هي من أفكارنا من غير استشعار بحضوره، ولا قصد لمخالفة ما وصيتنا به من التحذير من وسوسته. وبالجملة فهما كانا يشاهدانه ويعرفانه، والانبياء وهم المعصومون بعصمة الله كذلك يعرفونه ويشاهدونه حين تعرضه بهم لو تعرض على ما وردت به الروايات في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ويحيى وايوب واسماعيل ومحمد صلى الله عليه وآله وعليهم هذا. وكذا ظاهر هذه الآيات كظاهر قوله تعالى: (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة)

[ 132 ]

حيث ينبئ عن كونهما معه لعنه الله بحيال الشجرة في الجنة، فقد كان دخل الجنة وصاحبهما وغرهما بوسوسته، ولا محذور فيه إذ لم تكن الجنة جنة الخلد حتى لا يدخلها الشيطان، والدليل على ذلك خروجهم جميعا من هذه الجنه. وأما قوله تعالى خطابا لابليس: (فاهبط منها فما يكون لك ان تتكبر فيها فاخرج منها) الاعراف - 13، فيمكن أن يكون المراد به الخروج من الملائكة، أو الخروج من السماء من جهة كونها مقام قرب وتشريف. قوله تعالى: (وقلنا إهبطوا بعضكم لبعض عدو الآية)، ظاهر السياق أنه خطاب آدم وزوجته وإبليس وقد خص إبليس وحده بالخطاب في سورة الاعراف حيث قال: (فأهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها الاية)، فقوله تعالى: إهبطوا كالجمع بين الخطابين وحكاية عن قضاء قضى الله به العداوة بين إبليس لعنه الله وبين آدم وزوجته وذريتهما، وكذلك قضى به حيوتهم في الارض وموتهم فيها وبعثهم منها. وذرية آدم مع آدم في الحكم كما ربما يستشعر من ظاهر قوله: (فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون الآية) وكما سيأتي في قوله تعالى: (ولقد خلقناكم ثم صور ناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم الآية)، من سورة الاعراف. إن إسجاد الملائكة لآدم عليه السلام إنما كان من جهة أنه خليفة أرضي، فكان المسجود له آدم عليه السلام وحكم السجدة لجميع البشر، فكان إقامة آدم عليه السلام مقام المسجود له معنونا بعنوان الانموذج والنائب. وبالجملة يشبه أن تكون هذه القصة التي قصها الله تعالى من إسكان آدم وزوجته الجنة، ثم إهباطهما لاكل الشجرة كالمثل يمثل به ما كان الانسان فيه قبل نزوله إلى الدنيا من السعادة والكرامة بسكونة حظيره القدس، ومنزل الرفعة والقرب، ودار نعمة وسرور، وانس ونور، ورفقاء طاهرين، وإخلاء روحانيين، وجوار رب العالمين. ثم إنه يختار مكانه كل تعب وعناء ومكروه وألم بالميل إلى حيوة فانية، وجيفة

[ 133 ]

منتنة دانية، ثم إنه لو رجع بعد ذلك إلى ربه لاعاده إلى دار كرامته وسعادته ولو لم يرجع إليه وأخلد إلى الارض واتبع هواه فقد بدل نعمه الله كفرا واحل بنفسه دار البوار، جهنم يصليها وبئس القرار. قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه)، التلقي هو التلقن، وهو أخذ الكلام مع فهم وفقه وهذا التلقى كان هو الطريق المسهل لآدم عليه السلام توبته. ومن ذلك يظهر أن التوبة توبتان: توبه من الله تعالى وهي الرجوع إلى العبد بالرحمة، وتوبة من العبد وهي الرجوع إلى الله بالاستغفار والانقلاع من المعصية. وتوبة العبد، محفوفة بتوبتين: من الله تعالى، فان العبد لا يستغني عن ربه في حال من الاحوال، فرجوعه عن المعصية إليه يحتاج إلى توفيقه تعالى وإعانته ورحمته حتى يتحقق منه التوبة، ثم تمس الحاجة إلى قبوله تعالى وعنايته ورحمته، فتوبة العبد إذا قبلت كانت بين توبتين من الله كما يدل عليه قوله تعالى: (ثم تاب عليهم ليتوبوا) التوبة - 119. وقراءة نصب آدم ورفع كلمات تناسب هذه النكتة، وإن كانت القراءة الاخرى (وهي قراءة رفع آدم ونصب كلمات) لا تنافيه ايضا. وأما أن هذه الكلمات ما هي ؟ فربما يحتمل انها هي ما يحكيه الله تعالى عنهما في سورة الاعراف بقوله: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) الاعراف - 23، إلا أن وقوع هذه الكلمات أعني قوله: (قالا ربنا ظلمنا الآية) قبل قوله: (قلنا إهبطوا) في سورة الاعراف ووقوع قوله (فتلقى آدم) الآية بعد قوله: (قلنا اهبطوا، في هذه السورة لا يساعد عليه. لكن هيهنا شئ: وهو أنك عرفت في صدر القصة أن الله تعالى حيث قال: (إني جاعل في الارض خليفة)، قالت الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك الآية) وهو تعالى لم يرد عليهم دعويهم على الخليفة الارضي بما رموه به ولم يجب عنه بشئ إلا أنه علم آدم الاسماء كلها. ولو لا أنه كان فيما صنعه تعالى من تعليم الاسماء ما يسد باب إعتراضهم ذلك لم

[ 134 ]

ينقطع كلامهم ولا تمت الحجة عليهم قطعا. ففي جملة ما علمه الله تعالى آدم من الاسماء أمر ينفع العاصي إذا عصى والمذنب إذا أذنب، فلعل تلقيه من ربه كان متعلقا بشئ من تلك الاسماء فافهم ذلك. وإعلم أن آدم عليه السلام وإن ظلم نفسه في القائها إلى شفا جرف الهلكة ومنشعب طريقي السعادة والشقاوة أعني الدنيا، فلو وقف في مهبطة فقد هلك، ولو رجع إلى سعادتة الاولى فقد أتعب نفسه وظلمها، فهو عليه السلام ظالم لنفسه على كل تقدير، إلا أنه عليه السلام هيأ لنفسه بنزوله درجة من السعادة ومنزلة من الكمال ما كان ينالها لو لم ينزل وكذلك ماكان ينالها لو نزل من غير خطيئة. فمتى كان يمكنه أن يشاهد ما لنفسه من الفقر والمذلة والمسكنة والحاجة والقصور وله في كل ما يصيبه من التعب والعناء والكد روح وراحة في حظيرة القدس وجوار رب العالمين، فلله تعالى صفات من عفو ومغفرة وتوبة وستر وفضل ورأفة ورحمة لا ينالها إلا المذنبون، وله في أيام الدهر نفحات يرتاح بها إلا المتعرضون. فهذه التوبة هي التي إستدعت تشريع الطريق الذي يتوقع سلوكه وتنظيف المنزل الذي يرجى سكونة، فورائها تشريع الدين وتقويم الملة. ويدل على ذلك ما تراه أن الله تعالى يكرر في كلامه تقدم التوبة على الايمان. قال تعالى: (فإستقم كما امرت ومن تاب معك) هود - 112، وقال: (وإني لغفار لمن تاب وآمن) طه - 82، إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: قلنا إهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى. وهذا أول ما شرع من الدين لآدم عليه السلام وذريته، أوجز الدين كله في جملتين لا يزاد عليه شئ إلى يوم القيامة. وأنت إذا تدبرت هذه القصة (قصة الجنة) وخاصة ما وقع في سورة طه وجدت أن المستفاد منها أن جريان القصة أوجب قضائين منه تعالى في آدم وذريته، فأكل الشجرة أوجب حكمه تعالى وقضائه بالهبوط والاستقرار في الارض والحيوة

[ 135 ]

فيها تلك الحيوة الشقية التي حذرا منها حين نهيا عن إقتراب الشجرة هذا. وأن التوبة ثانيا: تعقب قضاء وحكما ثانيا منه تعالى بإكرام آدم وذريته بالهداية إلى العبودية فالمقضي أولا كان نفس الحيوة الارضية، ثم بالتوبة طيب الله تلك الحيوة بأن ركب عليها الهداية إلى العبودية، فتألفت الحيوة من حيوة أرضية، وحيوة سماوية. وهذا هو المستفاد من تكرار الامر بالهبوط في هذه السورة حيث قال تعالى: (وقلنا إهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين الآية) وقال تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى) الآية. وتوسيط التوبة بين الامرين بالهبوط مشعر بأن التوبة وقعت ولما ينفصلا من الجنة وإن لم يكونا أيضا فيها كاستقرار هما فيها قبل ذلك. يشعر بذلك أيضا قوله تعالى: (وناديهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة الآية) بعد ما قال لهما: لا تقربا هذه الشجرة فأتى بلفظة تلكما وهي إشارة إلى البعيد بعد ما أتى بلفظة هذه وهي إشارة إلى القريب وعبر بلفظة نادى وهي للبعيد بعد ما أتى بلفظة قال وهي للقريب فافهم. واعلم أن ظاهر قوله تعالى: (وقلنا إهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين الآية وقوله تعالى: (قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون الآية) أن نحوه هذه الحيوة بعد الهبوط تغاير نحوها في الجنة قبل الهبوط، وان هذه حيوة ممتزجة حقيقتها بحقيقة الارض ذات عناء وشقاء يلزمها أن يتكون الانسان في الارض ثم يعاد بالموت إليها ثم يخرج بالبعث منها. فالحيوة الارضية تغاير حيوة الجنة فحيوتها حيوة سماوية غير أرضية. ومن هنا يمكن أن يجزم أن جنة آدم كانت في السماء، وإن لم تكن جنة الآخرة جنة الخلد التي لا يخرج منها من دخل فيها. نعم: يبقي الكلام في معنى السماء ولعلنا سنوفق لاستيفاء البحث منه، إنشاء الله تعالى. بقى هنا شئ وهو القول في خطيئة آدم فنقول ظاهر الآيات في بادي النظر

[ 136 ]

وان كان تحقق المعصية والخطيئة منه عليه السلام كما قال تعالى: (فتكونا من الظالمين، وقال تعالى: وعصى آدم ربه فغوى الآية، وكما إعترف به فيما حكاه الله عنهما: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين الآية. لكن التدبر في آيات القصة والدقة في النهي الوارد عن أكل الشجرة يوجب القطع بأن النهي المذكور لم يكن نهيا مولويا وانما هو نهي إرشادي يراد به الارشاد والهداية إلى ما في مورد التكليف من الصلاح والخير لا البعث والارادة المولوية. ويدل على ذلك اولا: أنه تعالى فرع على النهى في هذه السورة وفي سورة الاعراف أنه ظلم حيث قال: (لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) ثم بدله في سورة طه من قوله: فتشقى مفرعا إياه على ترك الجنة. ومعنى الشقاء التعب ثم ذكر بعده كالتفسير له: (إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظما فيها ولا تضحى) الآيات. فأوضح أن المراد بالشقاء هو التعب الدنيوي، الذي تستتبعه هذه الحيوة الارضية من جوع وعطش وعراء وغير ذلك. فألتوقي من هذه الامور هو الموجب للنهي الكذائي لا جهة اخرى مولوية فالنهى إرشادي، ومخالفة النهى الارشادي لا توجب معصية مولوية، وتعديا عن طور العبودية وعلى هذا فالمراد بالظلم أيضا في ما ورد من الآيات ظلمهما على انفسهما في القائها في التعب والتهلكة دون الظلم المذموم في باب الربوبية والعبودية وهو ظاهر. وثانيا: أن التوبة، وهي الرجوع من العبد إذا استتبع القبول من جانب المولى أوجب كون الذنب كلا ذنب، والمعصية كأنها لم تصدر، فيعامل مع العاصي التائب معاملة المطيع المنقاد، وفي مورد فعله معاملة الامتثال والانقياد. ولو كان النهى عن أكل الشجرة مولويا وكانت التوبة توبة عن ذنب عبودي ورجوعا عن مخالفة نهى مولوي كان اللازم رجوعهما إلى الجنة مع انهما لم يرجعا. ومن هنا يعلم أن استتباع الاكل المنهى للخروج من الجنة كان إستتباعا

[ 137 ]

ضروريا تكوينيا، نظير إستتباع السم للقتل والنار للاحراق كما في وارد التكاليف الارشادية لا استتباعا من قبيل المجازاة المولوية في التكاليف المولوية، كدخول النار لتارك الصلوة، وإستحقاق الذم واستيجاب البعد في المخالفات العمومية الاجتماعية المولوية. وثالثا: أن قوله تعالى: (قلنا إهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، الآيات). وهو كلمة جامعة لجميع التشريعات التفصيلية التي أنزلها الله تعالى في هذه الدنيا من طرق ملائكته وكتبه ورسله، يحكى عن اول تشريع شرع للانسان في هذه الدنيا التي هي دنيا آدم وذريته، وقد وقع على ما يحكي الله تعالى بعد الامر الثاني بالهبوط ومن الواضح ان الامر بالهبوط أمر تكويني متأخر عن الكون في الجنة واقتراف الخطيئة، فلم يكن حين مخالفة النهي واقتراب الشجرة لا دين مشروع ولا تكليف مولوي فلم يتحقق عند ذلك ذنب عبودي، ولا معصية مولوية. ولا ينافي ذلك كون خطاب اسجدوا للملائكة ولابليس وهو قبل خطاب لا تقربا، خطابا مولويا لان المكلف غير المكلف. فإن قلت: إذا كان النهى نهيا إرشاديا لا نهيا مولويا فما معنى عده تعالى فعلهما ظلما وعصيانا وغواية. قلت: اما الظلم فقد مر أن المراد به ظلمهما لانفسهما في جنب الله تعالى، وأما العصيان فهو لغة عدم الانفعال أو الانفعال بصعوبة كما يقال: كسرته فإنكسر وكسرته فعصى، والعصيان وهو عدم الانفعال عن الامر أو النهى كما يتحقق في مورد التكاليف المولوية كذلك يتحقق في مورد الخطابات الارشادية. وأما تعين معنى المعصية في هذه الازمنة عندنا جماعة المسلمين في مخالفة مثل صل، أم صم، أو حج، أو لا تشرب الخمر، أو لا تزن ونحو ذلك فهو تعين بنحو الحقيقة الشرعية أو المتشرعة لا يضر بعموم المعنى بحسب اللغة والعرف العام هذا.

[ 138 ]

وأما الغواية فهو عدم إقتدا الانسان مثلا على حفظ المقصد وتدبير نفسه في معيشته بحيث يناسب المقصد ويلائمه. وواضح أنه يختلف بإختلاف الموارد من إرشاد ومولوية. فإن قلت: فما معنى التوبة حينئذ وقولهما: (وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ؟). قلت: التوبة كما مر هي الرجوع، والرجوع يختلف بحسب إختلاف موارده. فكما يجوز للعبد المتمرد عن أمر سيده وإرادته أن يتوب إليه، فيرد إليه مقامه الزائل من القرب عنده كذلك يجوز للمريض الذي نهاه الطبيب نهيا إرشاديا عن أكل شئ معين من الفواكه والمأكولات، وانما كان ذلك منه مراعاة لجانب سلامته وعافيته فلم ينته المريض عن نهيه فإقترفه فتضرر فأشرف على الهلاك. يجوز ان يتوب إلى الطبيب ليشير إليه بدواء يعيده إلى سابق حاله وعافيته، فيذكر له إن ذلك محتاج إلى تحمل التعب والمشقة العناء والرياضة خلال مدة حتى يعود إلى سلامة المزاج الاولية بل إلى اشرف منها وأحسن، هذا. وأما المغفرة والرحمة والخسران فالكلام فيها نظير الكلام في نظائر ها في إختلافها بحسب إختلاف مواردها، هذا. (بحث روائي) في تفسير القمي عن أبيه رفعه قال: سئل الصادق عليه السلام عن جنة آدم أمن جنان الدنيا كانت أم من جنان الآخرة ؟ فقال عليه السلام: كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبدا، قال عليه السلام: فلما أسكنه الله الجنة وأباحها له الا الشجرة، لانه خلق خلقة لا يبقى الا بالامر والنهى والغذاء واللباس والاكتنان والنكاح، ولا يدرك ما ينفعه مما يضره الا بالتوفيق، فجائه إبليس فقال له: إنكما ان أكلمتا من هذه الشجرة التي نهاكما الله عنها صرتما ملكين، وبقيتما في الجنة أبدا، وإن لم تأكلا منها أخرجكما الله من الجنة، وحلف

[ 139 ]

لهما أنه لهما ناصح كما قال الله عز وجل حكاية عنه: (ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة الا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما اني لكما لمن الناصحين فقبل آدم قوله فأكلا من الشجرة) فكانا كما حكى الله، فبدت لهما سوأتهما، وسقط عنهما ما ألبسهما الله من الجنة، وأقبلا يستتران من ورق الجنة، وناديهما ربهما: ألم انهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين، فقالا كما حكى الله عنهما: ربنا ظلمنا انفسنا وأن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين فقال الله لهما: إهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين، قال: أي يوم القيامة، قال: فهبط آدم على الصفا، وإنما سميت الصفا لان صفي الله أنزل عليها، ونزلت حواء على المروة وانما سميت المروة لان المرئة أنزلت عليها، فبقي آدم أربعين صباحا ساجدا يبكي على الجنة، فنزل عليه جبرئيل، فقال أليس خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته ؟ قال: بلى، وأمرك أن لا تأكل من الشجرة فعصيته ؟ قال آدم: إن ابليس حلف لي بالله كاذبا. اقول: وفي كون جنة آدم من جنان الدنيا روايات أخر من طريق أهل البيت وإن اتحد بعضها مع هذه الرواية في إبراهيم بن هاشم. والمراد بكونها من جنان الدنيا كونها برزخية في مقابل جنان الخلد، كما يشير إليه بعض فقرات الرواية كقوله: فهبط آدم على الصفا، وكقوله: ونزلت حواء على المروة، وكقوله: إن المراد بحين يوم القيامة فيكون المكث في البرزخ بعد الموت مكثا في الارض طبقا لما في آيات البعث من القرآن من عد المكث البرزخي مكثا في الارض كما يشير إليه قوله تعالى: (قال كم لبثتم في الارض عدد سنين، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين، قال إن لبثتم إلا قليلا لو انكم كنتم تعلمون) المؤمنون - 114، وقوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون، قال الذين اوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون) الروم - 56، على أن عدة من الروايات المنقولة عن اهل البيت تدل على أن الجنة كانت في السماء، وأنهما نزلا من السماء، على ان المستأنس بلسان الروايات لا يستوحش من كون الجنة المذكورة في السماء

[ 140 ]

والهبوط منها إلى الارض مع كونهما خلقا في الارض وعاشا فيها كما ورد في كون الجنة في السماء ووقوع سؤال القبر فيه وكونه روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار وغير ذلك وارجو أن يرتفع هذا الاشكال وما يشاكله من الاشكالات فيما سيأتي من البحث في السماء انشاء الله العزيز. وأما كيفية مجئ ابليس اليهما، وما إتخذه فيه من الوسيلة فالصحاح والمعتبرة من الروايات خالية عن بيانها. وفي بعض الاخبار ذكر الحية والطاووس عونين لابليس في إغوائه إياهما لكنها غير معتبرة، أضربنا عن ذكرها وكأنها من الاخبار الدخيلة، والقصة مأخوذه من التوراة وهاك لفظ التوراة في القصة بعينه: قال في الفصل الثاني من السفر الاول وهو سفر الخليقة: وإن الله خلق آدم ترابا من الارض، نفخ في انفه الحيات، فصار آدم نفسا ناطقا، وغرس الله جنانا في عدن شرقيا، وصير هناك آدم الذي خلقه، وأنبت الله من الارض كل شجرة، حسن منظرها وطيب مأكلها، وشجرة الحياة في وسط الجنان، وشجرة معرفة الخير والشر، وجعل نهرا يخرج من عدن ليسقى الجنان، ومن ثم يفترق فيصير أربعة أرؤس، إسم أحدها النيل، وهو المحيط بجميع بلد ذويلة الذي فيه الذهب، وذهب ذلك البلد جيد، ثم اللؤلؤ وحجارة البلور، وإسم النهر الثاني جيحون، وهو المحيط بجميع بلد الحبشة، وإسم النهر الثالث دجلة، وهو يسير في شرقي الموصل، واسم النهر الرابع هو الفرات، فأخذ الله آدم وأنزله في جنان عدن ليفلحه وليحفظه وأمر الله آدم قائلا: من جميع شجر الجنان جايز لك أن تأكل، ومن شجرة معرفة الخير والشر لا تأكل، فإنك في يوم أكلك منها تستحق أن تموت، وقال الله لا خير في بقاء آدم وحده، اصنع له عونا حذاه، فحشر الله من الارض جميع وحش الصحراء وطير السماء وأتى بها إلى آدم ليريه ما يسميها، فكل ما سمى آدم من نفس حية بإسم هو إسمه إلى الآن. فأسمي آدم أسماء لجميع البهائم وطير السماء وجميع وحش الصحراء ولم يجد آدم

[ 141 ]

عونا حذاه، فأوقع سباتا على آدم لئلا يحس فنام، فاستل إحدى أضلاعه وسد مكانها اللحم، وبنى الله الضلع التي أخذ إمرأة، فأتى بها إلى آدم، وقال آدم هذه المرة شاهدت عظما من عظامي، ولحما من لحمى، وينبغي أن تسمى إمرأة لانها من أمري أخذت، ولذلك يترك الرجل أباه وامه ويلزم زوجته، فيصيران كجسد واحد. وكانا جميعا عريانين آدم وزوجته ولا يحتشمان من ذلك. الفصل الثالث: والثعبان صار حكيما من جميع حيوان الصحراء الذي خلقه الله فقال للمرأة أيقينا قال الله لا تأكلا من جميع شجر الجنان ؟ قالت المرأة للثعبان من ثمر شجر الجنان نأكل، لكن من ثمر الشجرة التي في وسطه قال الله لا تأكلا منه، ولا تدنوا به كيلا تموتا، قال لهما لستما تموتان، ان الله عالم انكما في يوم أكلكما منه تنفتح عيونكما وتصيران كالملائكة عارفي الخير والشر بزيادة، فلما رأت المرأة أن الشجرة طيبة المأكل شهية المنظر، منى للعقل، أخذت من ثمرها فأكلت، وأعطت بعلها فأكل معها، فانفتحت عيونهما فعلما أنهما عريانان فخيطا من ورق التين ما صنعا منه مأزر، فسمعا صوت الله مارا في الجنان برفق في حركة النهار، فأستخبأ آدم وزوجته من قبل صوت الله خباء فيما بين شجر الجنان، فنادى الله آدم، وقال له مقررا: أين أنت ؟ قال: إني سمعت صوتك في الجنان فإتقيت إذ أنا عريان فإستخبأت، قال: من أخبرك إنك عريان ؟ أمن الشجرة التي نهيتك عن الاكل منها أكلت ؟ قال آدم المرأة التي جعلتها معي أعطتني من الشجرة فأكلت، قال الله للمرأة: ماذا صنعت ؟ قالت: الثعبان أغراني فأكلت قال الله للثعبان: إذ صنعت هذا بعلم فأنت ملعون من جميع البهائم وجميع وحش الصحراء وعلى صدرك تسلك وترابا تأكل طول أيام حياتك، واجعل عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، وهو يشدخ منك الرأس وأنت تلذعه في العقب، وقال للمرأة: لاكثرن مشقتك وحملك، وبمشقة تلدين الاولاد، وإلى بعلك يكون قيادك، وهو يتسلط عليك. وقال لآدم: إذ قبلت قول زوجتك فأكلت من الشجرة التي نهيتك قائلا لا تأكل منها ملعونة الارض بسببك بمشقة تأكل منها طول حياتك، وشوكا ودردرا تنبت لك، وتأكل عشب الصحراء، بعرق وجهك تأكل الطعام إلى حين رجوعك

[ 142 ]

إلى الارض التي أخذت منها لانك تراب وإلى التراب ترجع، وسمى آدم زوجته حواء لانها كانت ام كل حي ناطق، وصنع الله لآدم وزوجته ثياب بدن والبسهما، ثم قال الله، هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف معرفة الخير والشر، والآن فيجب أن يخرج من الجنان لئلا يمديده فيأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل فيحيي إلى الدهر، فطرده الله من جنان عدن ليفلح الارض التي أخذ منها، ولما طرد آدم أسكن من شرقي جنان عدن الملائكة، ولمع سيف متقلب ليحفظوا طريق شجرة الحيواة. انتهى الفصل من (التوراة العربية المطبوعة سنة 1811 ميلادية)، وانت بتطبيق القصة من الطريقين أعني طريقي القرآن والتوراة ثم التأمل في الروايات الواردة من طريقي العامة و الخاصة تعثر بحقائق من الحال غير أنا اضربنا عن الغور في بيانها والبحث عنها لان الكتاب غير موضوع لذلك. واما دخول ابليس الجنة واغواره فيها وهي (أولا) مقام القرب والنزاهة واللطهارة وقد قال تعالى: (لا لغو فيها ولا تأثيم) الطور - 23، وهي (ثانيا) في السماء وقد قال تعالى خطابا لابليس حين إبائه عن السجدة لآدم: (فاخرج منها فإنك رجيم) الحجر - 34، وقال تعالى: (فاثبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها) الاعراف - 12. فالجواب عن الاول كما ربما يقال أن القرآن انما ما نفى من وقوع اللغو وتأثيم في الجنة عن جنة الخلد التي يدخلها المؤمنون في الآخرة وجنة البرزخ التي يدخلونها بعد الموت والارتحال عن دار التكليف، وأما الجنة التي ادخل فيها آدم وزوجته ومذالك قبل إستقرار الانسان في دار التكليف وتوجه الامر والنهى فالقرآن لم ينطق فيه بشئ من ذلك، بل الامر بالعكس وناهيك في ذلك ما ذكر من وقوع عصيان آدم فيه على أن اللغو والتأثيم من الامور النسبة التي لا تتحقق الا بعد حلول الانسان الدنيا وتوجه الامر والنهى إليه وتلبسه بالتكليف. والجواب عن الثاني اولا: ان رجوع الضمير في قوله: فأخرج منها، وقوله: فاهبط منها إلى السماء غير ظاهر من الآية لعدم ذكر السماء في الكلام سابقا وعدم العهد بها، فمن الجائز أن يكون المراد الخروج من الملائكة والهبوط منها ببعض العنايات،

[ 143 ]

أو الخروج والهبوط من المنزلة والكرامة. وثانيا: أنه يجوز أن يكون الامر بالهبوط والخروج كناية عن النهى عن المقام هناك بين الملائكة، لا عن أصل الكون فيها بالعروج والمرور من غير مقام واستقرار كالملائكة، ويلوح إليه بل يشهد به ما ربما يظهر من الآيات من إستراق السمع وقد روي أن الشياطين كانوا يعرجون قبل عيسى إلى السماء السابعة فلما ولد عيسى منعوا من السماء الرابعة فما فوقها، ثم لما ولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم منعوا من جميع السموات وخطفوا بالخطفة. وثالثا: أن كلامه تعالى خال عن دخول إبليس الجنة فلا مورد للاستشكال، وإنما ورد ما ورد من حديث الدخول في الروايات وهي آحاد غير متواترة مع إحتمال النقل بالمعنى من الراوي. واقصى ما يدل من كلامه تعالى على دخوله الجنة قوله تعالى حكاية عن ابليس (وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة الا ان تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) الاعراف - 19) حيث أتى بلفظة هذه وهي للاشارة من قريب، لكنها لو دلت هيهنا على القرب المكاني لدل في قوله تعالى: (ولا تقربا هذاه الشجرة فتكونا من الظالمين) الاعراف - 18، على مثله فيه تعالى. وفي العيون عن عبد السلام الهروي قال: قلت للرضا عليه السلام: يابن رسول الله أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء ما كانت ؟ فقد إختلف الناس فيها فمنهم من يروي أنها الحنطة، ومنهم من يروي أنها شجرة الحسد، فقال كل ذلك حق، قلت: فما معنى هذه الوجوه على إخلتلافها ؟ فقال: يا بن الصلت إن شجرة الجنة تحمل أنواعا، وكانت شجرة الحنطة وفيها عنب وليست كشجرة الدنيا، وان آدم لما أكرمه الله تعالى بإسجاد ملائكته له، وبإدخاله الجنة، قال: هل خلق الله بشرا أفضل مني ؟ فعلم الله عز وجل ما وقع في نفسه فناداه إرفع رأسك يا آدم وأنظر إلى ساق العرش، فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوبا لا إله إلا الله ومحمد رسول الله علي ابن أبي طالب أمير المؤمنين وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، فقال آدم: يا رب من هؤلاء ؟ فقال عز وجل يا آدم هؤلاء ذريتك،

[ 144 ]

وهم خير منك ومن جميع خلقي، ولولاهم ما خلقتك ولا تالجنه ولا النار ولا السماء ولا الارض، فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد فأخرجك عن جواري، فنظر إليهم بعين الحسد وتمنى منزلتهم فتسلط عليه الشيطان حتى أكلت من الشجرة كما أكل آدم فأخرجهما الله تعالى من جنتة واهبطهما من جواره إلى الارض. اقول: وقد ورد هذا لمعنى في عدة روايات بعضها أبسط من هذه الرواية وأطنب وبعضها أجمل وأوجز. وهذه الرواية كما ترى سلم عليه السلام فيها أن الشجرة كانت شجرة الحنطة وشجرة الحسد وإنهما أكلا من شجرة الحنطة ثمرتها وحسدا وتمنيا منزلة محمد وآله صلى الله عليه وآله وسلم، ومقتضى المعنى الاول أن الشجرة كانت أخفض شأنا من أن يميل إليها ويشتهيها أهل الجنة ومقتضى الثاني أنها كانت ارفع شأنا من أن ينالها آدم وزوجته كما في رواية اخرى إنها كانت شجرة علم محمد وآله. وبالجملة لهما معنيان مختلفان، لكنك بالرجوع إلى ما مر من أمر الميثاق تعرف أن المعنى واحد وان آدم عليه السلام أراد أن يجمع بين التمتع بالجنة وهو مقام القرب من الله وفيها الميثاق ان لا يتوجه إلى غيره تعالى وبين الشجرة المنهية التي فيها تعب التعلق بالدنيا فلم يتيسر له الجمع بينهما فهبط إلى الارض ونسي الميثاق فلم يجتمع له الامران وهو منزلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم هداه الله بالاجتباء ونزعه بالتوبة من الدنيا، وألحقه بما كان نسيه من الميثاق فإفهم. وقوله عليه السلام: فنظر إليهم بعين الحسد وتمنى منزلتهم فيه بيان أن المراد بالحسد تمنى منزلتهم دون الحسد الذي هو أحد الاخلاق الرذيلة. وبالبيان السابق يرتفع التنافي الذي يتراءى بين ما رواه في كمال الدين عن الثمالي عن ابي جعفر عليه السلام، قال: إن الله عز وجل عهد إلى آدم ان لا يقرب الشجرة فلما بلغ الوقت الذي في علم الله أن يأكل منها نسي فأكل منها وذلك قول الله عز وجل: ولقد عهدنا إلى آدم فنسي ولم نجد له عزما، الحديث.

[ 145 ]

وبين ما رواه العياشي في تفسيره عن أحدهما وقد سئل كيف أخذ الله آدم بالنسيان، فقال: إنه لم ينس وكيف ينسى وهو يذكر ويقول له إبليس: ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين الحديث. والوجه فيه واضح. وفي أمالي الصدوق عن أبي الصلت الهروي، قال: لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا عليه السلام: أهل المقالات من أهل الاسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر أهل المقالات فلم يقم أحد حتى الزم حجته كأنه ألقم حجرا فقام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال له: يا بن رسول الله أتقول بعصمة الانبياء ؟ قال: بلى، قال: فما تعمل بقول الله عز وجل: (وعصى آدم ربه فغوى ؟) إلى أن قال: فقال مولانا الرضا عليه السلام: ويحك يا علي إتق الله ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش ولا تتأول كتاب الله عز وجل برأيك فإن الله عز وجل يقول: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) أما قوله عز وجل في آدم: (وعصى آدم ربه فغوى) فإن الله عز وجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده لم يخلقه للجنة، وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الارض - لتتم مقادير أمر الله عز وجل فلما أهبط إلى الارض وجعل حجة وخليفة عصم بقوله عز وجل: (إن الله إصطفى آدم ونوحا وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين) الحديث. اقول: قوله: وكانت المعصية في الجنة الخ إشارة إلى ما قدمناه أن التكليف الدينى المولوي لم يكن مجعولا في الجنة بعد، وإنما موطنه الحيوة الارضية المقدرة لآدم عليه السلام بعد الهبوط إلى الارض، فالمعصية إنما كانت معصية لامر إرشادي غير مولوي فلا وجه لتعسف التإويل في الحديث على ما ارتكبه بعض. وفي العيون عن على بن محمد بن الجهم، قال: حضرت مجلس المأمون وعنده علي بن موسى فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أليس من قولك إن الانبياء معصومون ؟ فقال بلى، قال فما معنى قول الله تعالى: فعصى آدم ربه فغوى ؟ قال: إن الله تعالى قال لآدم: اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه

[ 146 ]

الشجرة وأشار لهما إلى شجرة الحنطة فتكونا من الظالمين، ولم يقل لهما: لا تأكلا من هذه الشجرة ولا مما كان من جنسها فلم يقربا تلك الشجرة ولم يأكلا منها وإنما أكلا من غيرها لما أن وسوس الشيطان إليهما وقال: ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة وإنما نها كما أن تقربا غيرها ولم ينهكما أن تأكلا منها إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ولم يكن آدم وحواء شاهدا قبل ذلك من يحلف بالله كاذبا فدلاهما بغرور فأكلا منها ثقة بيمينه بالله، وكان ذلك من آدم قبل النبوة ولم يكن ذلك بذنب كبير إستحق به دخول النار، وإنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الانبياء قبل نزول الوحي إليهم، فلما إجتباه الله وجعله نبيا كان معصوما لا يذنب صغيرة ولا كبيرة، قال الله عز وجل: (وعصى آدم ربه فغوى ثم إجتباه ربه فتاب عليه وهدى) وقال عز وجل: (إن الله إصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) الحديث. اقول: قال الصدوق رحمه الله بعد نقل الحديث على طوله: والحديث عجيب من طريق على بن محمد بن الجهم مع نصبه وبغضه وعداوته لاهل البيت عليهم السلام إنتهى. وما أعجبه منه إلا ما شاهده من إشتماله على تنزيه الانبياء من غير أن يمعن النظر في الاصول المأخوذة فيه، فما نقله من جوابه عليه السلام في آدم لا يوافق مذهب أئمة أهل البيت المستفيض عنهم من عصمة الانبياء من الصغاير والكبائر قبل النبوة وبعدها. على أن الجواب مشتمل على تقدير في قوله تعالى: (ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا) إلى مثل قولنا: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة وإنما نها كما عن غيرها وما نهاكما عن غيرها الا ان تكونا الخ. على ان قوله تعالى (ما نها كما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا) ملكين أو تكونا من الخالدين)، وقوله تعالى (قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى الآية)، يدل على ان إبليس إنما كان يحرضهما على الاكل من شخص الشجرة المنهية تطميعا في الخلود والملك الذي حجب عنه بالنهي، على ان الرجل أعني علي بن محمد بن الجهم قد أخذ الجواب الصحيح التام بنفسه في مجلس المأمون كما رويناه في الحديث السابق، فالرواية لا تخلو عن شئ وإن كان بعض

[ 147 ]

هذه الوجوه ممكن الاندفاع هذا. وروى الصدوق، عن الباقر عليه السلام عن آبائه عن علي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: إنما كان لبث آدم وحواء في الجنة حتى أخرجا منها سبع ساعات من ايام الدنيا حتى أهبطهما الله في يومهما. وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان، قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام وأنا حاضر: كم لبث آدم وزوجته في الجنة حتى أخرجهما منها خطيئة ؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى نفخ في آدم روحه بعد زوال الشمس من يوم الجمعة ثم برء زوجته من أسفل أضلاعه ثم أسجد له ملائكته وأسكنه جنته من يومه ذلك، فو الله ما إستقر فيها إلا ست ساعات من يومه ذلك حتى عصى الله تعالى، فأخرجهما الله منهبعد غروب الشمس وصيرا بفناء الجنة حتى اصبحا فبدت لهما سوآتهما وناديهما ربهما: الم انهكما عن تلكما الشجرة فاستحيى آدم فخضع وقال: ربنا ظلمنا أنفسنا وإعترفنا بذنوبنا فاغفر لنا، قال الله لهما إهبطا من سمواتي إلى الارض، فانه لا يجاورني في جنتي عاص ولا في سمواتي. اقول: ويمكن أن يستفاد ما يشتمل عليه الرواية من كيفية خروجهما وأنه كان أولا من الجنة إلى فنائها ومن فنائها إلى الارض من تكرر الامر بالهبوط في الآية مع كونه أمرا تكوينيا غير قابل التخلف، وكذا من تغيير السياق في قوله تعالى: (وقلنا: يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة، إلى أن قال: ولا تقربا هذه الشجرة الآية)، وقوله تعالى: وناديهما ربهما: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة، الآية، حيث عبر في الاول بالقول وبالاشارة القريبة وفي الثاني بالنداء والاشارة البعيدة، غير أن الرواية مشتملة على خلق حواء من أسفل اضلاع آدم كما إشتملت عليه التوراة، والروايات عن أئمة أهل البيت تكذبه كما سيجئ في البحث عن خلقة آدم، وان أمكن أن يحمل خلقها من فاضل طينة آدم مما يلي أضلاعه هذا، واما ساعات مكثه في الجنة، وأنها ستة أو سبعة فالامر فيها هين فانما هو تقريب. وفي الكافي: عن أحدهما عليه السلام في قوله تعالى: فتلقى آدم من ربه كلمات، قال: لا إله إلا أنت، سبحانك اللهم وبحمدك، عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي

[ 148 ]

وأنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت، سبحانك اللهم وبحمدك، عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني وأنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فإرحمني وأنت خير الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم. اقول: وروى هذا المعنى الصدوق والعياشي والقمي وغيرهم، وعن طرق أهل السنة والجماعة أيضا ما يقرب من ذلك، وربما استفيد ذلك من ظاهر آيات القصة. وقال الكليني في الكافي: وفي رواية اخرى في قوله: فتلقى آدم من ربه كلمات قال: سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين. اقول: وروى هذا المعنى أيضا الصدوق والعياشي والقمي وغيرهم، وروي ما يقرب من ذلك من طرق اهل السنة والجماعة ايضا كما رواه في الدر المنثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى السماء فقال: أسألك بحق محمد الا غفرت لي فأوحى الله إليه، ومن محمد ؟ قال: تبارك إسمك لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه ليس احد عندك اعظم قدرا ممن جعلت إسمه مع اسمك فأوحى الله إليه يا آدم انه آخر النبيين من ذريتك ولولاه ما خلقتك. اقول: وهذا المعنى وإن كان بعيدا عن ظاهر الآيات في بادي النظر لكن اشباع النظر والتدبر فيها ربما قرب ذلك تقريبا، إذ قوله: فتلقى آدم، يشتمل على معنى الاخذ مع الاستقبال، ففيه دلالة على اخذ آدم هذه الكلمات من ربه، ففيه علم سابق على التوبة، وقد كان عليه السلام تعلم من ربه الاسماء كلها إذ قال تعالى للملائكة: إني جاعل في الارض خليفة، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ قال: اني اعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الاسماء كلها، فهذا العلم كان من شأنه إزاحة كل ظلم ومعصية لا محالة ودواء كل داء وإلا لم يتم الجواب عما أورده الملائكة ولا قامت الحجة عليهم لانه سبحانه لم يذكر قبال قولهم: يفسد فيها ويسفك الدماء شيئا ولم يقابلهم بشئ دون ان علم آدم الاسماء كلها ففيه اصلاح كل فاسد، وقد عرفت ما حقيقة هذه الاسماء، وانها موجودات عالية مغيبة في غيب

[ 149 ]

السموات والارض، ووسائط فيوضاته تعالى لما دونها، لا يتم كمال لمستكمل الا ببركاتها وقد ورد في بعض الاخبار أنه رأى اشباح اهل البيت وانوارهم حين علم الاسماء، وورد أنه رآها حين اخرج الله ذريته من ظهره، وورد ايضا انه رآها وهو في الجنة فراجع والله الهادي. وقد ابهم الله امر هذه الكلمات في قوله: فتلقى آدم من ربه كلمات الآية حيث نكرها، وورد في القرآن: إطلاق الكلمة على الموجود العيني صريحا في قوله: (بكلمة منه إسمه المسيح عيسى بن مريم) آل عمران - 40. وأما ما ذكره بعض المفسرين: ان الكلمات التي حكاها الله عنهما في سورة الاعراف بقوله: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) الآية، ففيه: أن التوبة كما يدل عليه الآيات في هذه السورة أعني سورة البقرة وقعت بعد الهبوط إلى الارض، قال تعالى: (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو) إلى أن قال: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه) الآيات وهذه الكلمات تكلم بها آدم وزوجته قبل الهبوط وهما في الجنة كما في سورة الاعراف، قال تعالى: (فناديهما ربهما ألم انهكما عن تلكما الشجرة) إلى ان قال: (قالا ربنا ظلمنا انفسنا) إلى أن قال: (قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو) الآيات، بل الظاهر ان قولهما: ربنا ظلمنا انفسنا، تذلل منهما وخضوع قبال ندائه تعالى وإيذان بأن الامر إلى الله سبحانه كيف يشاء بعد الاعتراف بأن له الربوبية وأنهما ظالمان مشرفان على خطر الخسران. وفي تفسير القمي عن الصادق عليه السلام قال: ان موسى سأل ربه ان يجمع بينه وبين آدم، فجمع فقال له موسى: يا أبت ألم يخلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك الملائكة وأمرك أن لا تأكل من الشجرة ؟ فلم عصيته ؟ قال: يا موسى بكم وجدت خطيئتي قبل خلقي في التورية ؟ قال بثلثين الف سنة، قال: فقال: هو ذاك، قال الصادق عليه السلام فحجج آدم موسى. اقول: وروى ما يقرب من هذا المعنى العلامة السيوطي في الدر المنثور بعدة طرق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي العلل: عن الباقر عليه السلام: والله لقد خلق الله آدم للدنيا، وأسكنه الجنة

[ 150 ]

ليعصيه فيرده إلى ما خلقه له. اقول: وقد مرواية العياشي عن الصادق عليه السلام في خليل كان لآدم من الملائكة الحديث في هذا المعنى. وفي الاحتجاج: في احتجاج علي مع الشامي حين سأله: عن أكرم واد على وجه الارض، فقال عليه السلام: واد يقال له سرانديب سقط فيه آدم من السماء. اقول: وتقابلها روايات مستفيضة تدل على سقوطه في أرض مكة وقد مر بعضها ويمكن التوفيق بينها بإمكان نزوله أولا بسرانديب ثم هبوطه إلى أرض مكة وليس بنزولين عرضيين هذا. وفي الدر المنثور عن الطبراني وأبي الشيخ في العظمة وابن مردويه عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله أرأيت آدم أنبيا كان ؟ قال: نعم كان نبيا رسولا، كلمه الله قبلا، قال له: يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة. اقول: وروى أهل السنة والجماعة قريبا من هذا المعنى بعدة طرق. يا بني إسرائيل أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي اوف بعهدكم وإياي فارهبون - 40. وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون - 41. ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون - 42. وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة واركعوا مع الراكعين - 43. أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون - 44.

[ 151 ]

(بيان) أخذ سبحانه في معاتبة اليهود وذلك في طي نيف ومائة آية يذكر فيها نعمه التي أفاضها عليهم، وكراماته التي حباهم بها، وما قابلوها من الكفر والعصيان ونقض الميثاق والتمرد والجحود، يذكرهم بالاشارة إلى اثنتي عشرة قصة من قصصهم، كنجاتهم من آل فرعون بفرق البحر، وغرق فرعون وجنوده، ومواعدة الطور، واتخاذهم العجل من بعده وأمر موسى إياهم بقتل أنفسهم واقتراحهم من موسى أن يريهم الله جهرة فأخذتهم الصاعقة ثم بعثهم الله تعالى، إلى آخر ما أشير إليه من قصصهم التي كلها مشحونة بألطاف إلهية وعنايات ربانية، ويذكرهم أيضا المواثيق التي أخذ منهم ثم نقضوها ونبذوها وراء ظهورهم، ويذكرهم أيضا معاصي ارتكبوها وجرائم اكتسبوها وآثاما كسبتها قلوبهم على نهي من كتابهم، وردع صريح من عقولهم، لقساوة قلوبهم، وشقاوة نفوسهم، وضلال سعيهم. قوله تعالى: وأوفوا بعهدي، أصل العهد الحفاظ، ومنه اشتقت معانيه كالعهد بمعنى الميثاق واليمين والوصية واللقاء والمنزل ونحو ذلك. قوله تعالى: فارهبوني، الرهبة الخوف، وتقابل الرغبة. قوله تعالى: ولا تكونوا أول كافر به، أي من بين أهل الكتاب، أو من بين قومكم ممن مضى وسيأتي فإن كفار مكة كانوا قد سبقوهم إلى الكفر به. واستعينوا بالصبر والصلوة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين - 45. الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون - 46.

[ 152 ]

(بيان) قوله تعالى: واستعينوا بالصبر والصلوة، الاستعانة وهي طلب العون إنما يتم فيما لا يقوى الانسان عليه وحده من المهمات والنوازل، وإذ لا معين في الحقيقة إلا الله سبحانه فالعون على المهمات مقاومة الانسان لها بالثبات والاستقامة والاتصال به تعالى بالانصراف إليه، والاقبال عليه بنفسه، وهذا هو الصبر والصلوة، وهما أحسن سبب على ذلك، فالصبر يصغر كل عظيمة نازلة، وبالاقبال على الله والالتجاء إليه تستيقظ روح الايمان، وتتنبه: ان الانسان متك على ركن لا ينهدم، وسبب لا ينفصم. قوله تعالي: وانها لكبيرة إلا على الخاشعين، الضمير راجع إلى الصلوة، وأما إرجاعه إلى الاستعانة لتضمن قوله: استعينوا ذلك فينافيه ظاهرا قوله: إلا على الخاشعين، فإن الخشوع لا يلائم الصبر كثير ملائمة، والفرق بين الخشوع والخضوع مع أن في كليهما معنى التذلل والانكسار أن الخضوع مختص بالجوارح والخشوع بالقلب. قوله تعالي: الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم. هذا المورد، أعني مورد الاعتقاد بالآخرة على أنه مورد اليقين لا يفيد فيه الظن والحسبان الذي لا يمنع النقيض، قال تعالى: (وبالآخرة هم يوقنون) البقرة - 4، ويمكن أن يكون الوجه فيه الاخذ بتحقق الخشوع فان العلوم التدريجية الحصول من أسباب تدريجية تتدرج فيها النفس المدركة من تنبه وشك ثم ترجح أحد طرفي النقيض ثم انعدام الاحتمالات المخالفة شيئا فشيئا حتى يتم الادراك الجازم وهو العلم، وهذا النوع من العلم إذا تعلق بأمر هائل موجب لاضطراب النفس وقلقها وخشوعها إنما تبتدي الخشوع الذي معه من حين شروع الرجحان قبل حصول الادراك العلمي وتمامه، ففي وضع الظن موضع العلم إشارة إلى أن الانسان لا يتوقف على زيادة مؤنة على العلم إن تنبه بأن له ربا يمكن ان يلاقيه ويرجع إليه وذلك كقول الشاعر: فقلت لهم ظنوا بألفي مذحج. سراتهم في الفارسي المرد

[ 153 ]

وإنما يخوف العدو باليقين لا بالشك ولكنه أمرهم بالظن لان الظن يكفيهم في الانقلاع عن المخالفة، بلا حاجة إلى اليقين حتى يتكلف المهدد إلى ايجاد اليقين فيهم بالتفهيم من غير اعتناء منه بشأنهم، وعلى هذا فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى: (فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا) الكهف - 110، وهذا كله لو كان المراد باللقاء في قوله تعالى: ملاقوا ربهم، يوم البعث ولو كان المراد به ما سيأتي تصويره في سورة الاعراف إنشاء الله فلا محذور فيه أصلا. (بحث روائي) في الكافي عن الصادق عليه السلام قال: كان علي إذا أهاله أمر فزع قام إلى الصلوة ثم تلا هذه الآية: واستعينوا بالصبر والصلوة. وفي الكافي أيضا: عنه عليه السلام في الآية، قال: الصبر الصيام، وقال: إذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة فليصم. إن الله عز وجل يقول: واستعينوا بالصبر يعنى الصيام. اقول: وروى مضمون الحديثين العياشي في تفسيره. وتفسير الصبر بالصيام من باب المصداق والجري. وفي تفسير العياشي: عن أبي الحسن عليه السلام: في الآية قال: الصبر الصوم، إذا نزلت بالرجل الشدة أو النازلة فليصم، إن الله يقول: واستعينوا بالصبر والصلوة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين. والخاشع الذليل في صلوته المقبل عليها، يعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام. اقول: قد استفاد عليه السلام إستحباب الصوم والصلوة عند نزول الملمات والشدائد، وكذا التوسل بالنبي والولي عندها، وهو تأويل الصوم والصلوة برسول الله وأمير المؤمنين. وفي تفسير العياشي أيضا: عن علي عليه السلام: في قوله تعالى: (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم الآية يقول: يوقنون أنهم مبعوثون، والظن منهم يقين.

[ 154 ]

اقول: ورواه الصدوق أيضا. وروى ابن شهر آشوب عن الباقر عليه السلام: أن الآية نازلة في علي وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر وأصحاب لهم. يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين - 47. واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولاهم ينصرون - 48. (بيان) قوله تعالى: واتقوا يوما لا تجزى. الملك والسلطان الدنيوي بأنواعه وأقسامه وبجميع شؤونه، وقواه المقننة الحاكمة والمجرية مبتنية على حوائج الحيوة وغايتها رفع الحاجة حسب ما يساعد عليه العوامل الزمانية والمكانية، فربما بدل متاع من متاع أو نفع من نفع أو حكم من حكم من غير ميزان كلي يضبط الحكم ويجري ذلك في باب المجازاة أيضا فإن الجرم والجنايت عندهم يستتبع العقاب، وربما بدل الحاكم العقاب لغرض يستدعي منه ذلك كان يلح المحكوم الذي يرجى عقابه على القاضي ويسترحمه أو يرتشيه فينحرف في قضائه فيجزي أي يقضي فيه بخلاف الحق، أو يبعث المجرم شفيعا يتوسط بينه وبين الحاكم أو مجري الحكم أو يعطي عدلا وبدلا إذا كانت حاجة الحاكم المريد للعقاب إليه أزيد وأكثر من الحاجة إلى عقاب ذالك المجرم، أو يستنصر فومه فينصروه فيتخلص بذالك عن تبعة العقاب ونحو ذلك. تلك سنة جارية وعادة حيوة دنيوية يطرد فيها قانون الاسباب ويحكم فيها ناموس التأثير والتأثر المادي

[ 155 ]

الطبيعي، فيقدمون إلى آلهتم أنواع القرابين والهدايا للصفح عن جرائمهم أو الامداد في حوائجهم، أو يستشفعون بها، أو يفدون بشيئ عن جريمة أو يستنصرون بنفس أو سلاح حتى أنهم كانوا يدفنون مع الاموات أنواع الزخرف والزينة، ليكون معهم ما يتمتعون به في آخرتهم، ومن أنواع السلاح ما يدافعون به عن أنفسهم، وربما ألحدوا معه من الجواري من يستأنس بها، ومن الابطال من يستنصر به الميت، وتوجد اليوم في المتاحف بين آثار الارضية عتائق كثيرة من هذا القبيل، ويوجد عقائد متنوعة شبيهة بتلك العقائد بين الملل الاسلامية على اختلاف السنتهم والوانهم، بقيت بينهم بالتوارث، ربما تلونت لونا بعد لون، جيلا بعد جيل، وقد أبطل القرآن جميع هذه الآراء الواهية، والاقاويل الكاذبة، فقد قال عز من قائل: (والامر يومئذ لله، الانفطار - 19، وقال: (ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب) البقرة - 166، وقال: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعائكم الذين زعمتم انهم فيكم شركاء، لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) الانعام - 94، وقال: (هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون) يونس - 30، إلى غير ذلك من الآيات التي بين فيها: أن الموطن خال عن الاسباب الدنيوية، وبمعزل عن الارتباطات الطبيعية، وهذا اصل يتفرع عليه بطلان كل واحد من تلك الاقاويل والاوهام على طريق الاجمال، ثم فصل القول في نفي واحد واحد منها وإبطاله فقال: (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) البقرة - 48، وقال: (يوم لا بيع فيه، ولا خلة، ولا شفاعة) البقرة - 254، وقال: (يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا) الدخان - 41، وقال (يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم) المؤمن - 33، وقال: (ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون) الصافات - 26، وقال: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعائنا عند الله قل أتنبؤن الله بما لا يعلم في السموات ولا في الارض سبحانه وتعالى عما يشركون) يونس - 18، وقال: (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) المؤمن - 18، وقال: (فما لنا من شافعين ولا صديق حميم) الشعراء - 101، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة النافية لوقوع الشفاعة وتأثير الوسائط

[ 156 ]

والاسباب يوم القيامة هذا. ثم إن القرآن مع ذلك لا ينفي الشفاعة من أصلها، بل يثبتها بعض الاثبات. قال تعالى: (الله الذي خلق السموات والارض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون) السجدة - 3، وقال تعالى: (ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع) الانعام - 51، وقال تعالى: (قل لله الشفاعة جميعا) الزمر - 44، وقال تعالى: (له ما في السموات وما في الارض من ذا الذي يشفع عنده الا باذنه، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) البقرة - 255، وقال تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السموات والارض في ستة ايام ثم إستوى على العرش يدبر الام ر ما من شفيع الا من بعد اذنه) يونس - 3، وقال تعالى: (وقالوا إتخذ الله ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن إرتضى وهم من خشيته مشفقون) الانبياء - 28، وقال: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة الا من شهد بالحق وهم يعلمون) الزخرف - 86، وقال: (ولا يملكون الشفاعة الا من إتخذ عند الرحمن عهدا) مريم - 87، وقال تعالى: (يومئذ لا تنفع الشفاعة الا من أذن له الرحمن ورضي له قولا، يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) طه - 110، وقال تعالى: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) السبأ - 23، وقال تعالى: (وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا الا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) النجم - 26، فهذه الآيات كما ترى بين ما يحكم باختصاص الشفاعة بالله عز اسمه كالآيات الثلاثة الاولى وبين ما يعممها لغيره تعالى باذنه وارتضائه ونحو ذلك، وكيف كان فهي تثبت الشفاعة بلا ريب، غير ان بعضها تثبتها بنحو الاصالة لله وحده من غير شريك، وبعضها تثبتها لغيره باذنه وارتضائه، وقد عرفت أن هناك آيات تنفيها فتكون النسبة بين هذه الآيات كالنسبة بين الآيات النافية لعلم الغيب عن غيره، واثباته له تعالى بالاختصاص ولغيره بارتضائه، قال تعالى: (قل لا يعلم من في السموات والارض الغيب) النحل - 65، وقال تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) الانعام - 59 وقال تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا الا من إرتضى من رسول) الجن - 27، وكذلك الآيات الناطقة في التوفي والخلق والرزق والتأثير والحكم والملك وغير ذلك فانها

[ 157 ]

شائعة في اسلوب القرآن، حيث ينفي كل كمال عن غيره تعالى، ثم يثبته لنفسه، ثم يثبته لغيره باذنه ومشيته، فتفيد ان الموجودات غيره تعالى لا تملك ما تملك من هذه الكمالات بنفسها وإستقلالها، وإنما تملكها بتمليك الله لها إياها، حتى أن القرآن تثبت نوعا من المشية في ما حكم فيه وقضى عليه بقضاء حتم، كقوله تعالى: (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والارض إلا ما شاء ربك، إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والارض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ) هود - 108، فقد علق الخلود بالمشية وخاصة في خلود الجنة مع حكمه بأن العطاء غير مجذوذ، اشعارا بأن قضائه تعالى بالخلود لا يخرج الامر من يده ولا يبطل سلطانه وملكه عز سلطانه كما يدل عليه قوله: (إن ربك فعال لما يريد) هود - 107، وبالجملة لا إعطاء هناك يخرج الامر من يده ويوجب له الفقر، ولا منع يضطره إلى حفظ ما منعه وإبطال سلطانه تعالى. من هنا يظهر أن الآيات النافية للشفاعة، إن كانت ناظرة إلى يوم القيامة فإنما تنفيها عن غيره تعالى بمعنى الاستقلال في الملك، والآيات المثبتة تثبتها لله سبحانه بنحو الاصالة، ولغيره تعالى باذنه وتمليكه، فالشفاعة ثابتة لغيره تعالى باذنه فلننظر ما ذا يفيده كلامه في معنى الشفاعة ومتعلقها ؟ وفيمن تجري ؟ وممن تصح ؟ ومتى تتحقق ؟ وما نسبتها إلى العفو والمغفرة منه تعالى ؟ ونحو ذلك في أمور. (بيان) 1 - ما هي الشفاعة ؟ الشفاعة على ما نعرف من معناها إجمالا بالقريحة المكتسبة من الاجتماع والتعاون و (هي من الشفع مقابل الوتر كأن الشفيع ينضم إلى الوسيلة الناقصة التي مع المستشفع فيصير به زوجا بعد ما كان فردا فيقوى على نيل ما يريده، لو لم يكن يناله وحده لنقص وسيلته وضعفها وقصورها) من الامور التي نستعلمها لانجاح المقاصد، ونستعين بها على حوائج الحيوة، وجل الموارد التي نستعملها فيها اما مورد يقصد فيها جلب المنفعة والخير، وإما مورد يطلب فيها دفع المضرة والشر، لكن لا كل نفع وضرر،

[ 158 ]

فإنا لا نستشفع فيما يتضمنه الاسباب الطبيعية والحوادث الكونية من الخير والشر والنفع والضر، كالجوع، والعطش، والحر، والبرد، والصحة، والمرض، بل نتسبب فيها بالاسباب الطبيعية، ونتوسل إليها بوسائلها المناسبة لها كالاكل، والشرب، واللبس والاكتنان والمداواة، وانما نستشفع في الخيرات والشرور والمنافع والمضار التى تستدعيها أو تستتبعها أوضاع القوانين الاحكام التي وضعتها واعتبرتها وقررتها واجرتها حكومة الاجتماع بنحو الخصوص أو العموم، ففي دائرة المولوية والعبودية وعند كل حاكم ومحكوم، وأحكام من الامر والنهي إذا عمل بها وإمتثلها المكلف بها استتبع ذلك تبعة الثواب من مدح أو نفع، من جاه أو مال، وإذا خالفها وتمرد منها استتبع ذلك تبعة العقاب من ذم أو ضرر مادي، أو معنوي، فإذا أمر المولى أو نهي عبده، أو كل من هو تحت سيادته وحكومته بأمر أو نهى مثلا فامتثله كان له بذلك أجر كريم، وإن خالف كان له عقاب أو عذاب فهناك نوعان من الوضع والاعتبار، وضع الحكم ووضع تبعة الحكم، يتعين به تبعة الموافقة والمخالفة. وعلى هذا الاصل تدور جميع الحكومات العامة بين الملل والخاصة بين كل إنسان ومن دونه. فإذا أراد الانسان أن ينال كمالا وخيرا ماديا أو معنويا وليس عنده ما يستوجب ذلك بحسب ما يعينه الاجتماع، ويعرف به لياقتة، أو اراد ان يدفع عن نفسه شرا متوجها إليه من عقاب المخالفة وليس عنده ما يدفعه، أعني الامتثال والخروج عن عهدة التكليف، وبعبارة واضحة إذا أراد نيل ثواب من غير تهيئة أسبابه، أو التخلص من عقاب من غير إتيان التكليف المتوجة إليه فذلك مورد الشفاعة، وعنده تؤثر لكن لا مطلقا فإن من لا لياقة له بالنسبة الي التلبس بكمال، أو لا رابطة له تربطها إلى المشفوع عنده أصلا، كالعامي الامي الذي يريد تقلد مقام علمي، أو الجاحد الطاغي الذي لا يخضع لسيده أصلا لا تنفع عنده الشفاعة، فإنما الشفاعة متممة للسبب لا مستقلة في التأثير. ثم إن تأثير الشفيع عند الحاكم المشفوع عنده لا يكون تأثيرا جزافيا من غير سبب يوجب ذلك بل لا بد أن يوسط أمرا يؤثر في الحاكم، ويوجب نيل الثواب،

[ 159 ]

أو التخلص من العقاب، فالشفيع لا يطلب من المولى مثلا أن يبطل مولوية نفسه وعبودية عبده فلا يعاقبه، ولا يطلب منه أن يرفع اليد عن حكمه وتكليفه المجعول، أو ينسخه عموما أو في خصوص الواقعة فلا يعاقبه، ولا يطلب منه أن يبطل قانون المجازاة عموما أو خصوصا فلا يعاقب لذلك رأسا، أو في خصوص الواقعة، فلا نفوذ ولا تأثير للشفيع في مولوية وعبودية، ولا في حكم ولا في جزاء حكم، بل الشفيع بعد ما يسلم جميع الجهات الثلاث المذكورة إنما يتمسك: إما بصفات في المولى الحاكم توجب العفو والصفح كسؤدده، وكرمه، وسخائه، وشرافة محتده، وإما بصفات في العبد تستدعي الرأفة والحنان وتثير عوامل المغفرة كمذلته ومسكنته وحقارته وسوء حاله، وإما بصفات في نفسه أعني نفس الشفيع من قربه إلى المولى وكرامته وعلو منزلته عنده فيقول: ما أسألك إبطال مولويتك وعبوديته، ولا أن تبطل حكمك ولا أن تبطل الجزاء، بل أسألك الصفح عنه بأن لك سؤددا ورأفة وكرما لا تنتفع بعقابه ولا يضرك الصفح عن ذنبه أو بأنه جاهل حقير مسكين لا يعتني مثلك بشأنه ولا يهتم بأمره أو بأن لي عندك من المنزلة والكرامة ما يوجب إسعاف حاجتي في تخليصه والعفو عنه. ومن هنا يظهر للمتأمل أن الشفيع إنما يحكم بعض العوامل المربوطة بالمورد المؤثرة في رفع العقاب مثلا من صفات المشفوع عنده أو نحوها على العامل الآخر الذي هو سبب وجود الحكم وترتب العقاب على مخالفته، ونعني بالحكومة ان يخرج مورد الحكم عن كونه موردا بإدخاله في مورد حكم آخر، فلا يشمله الحكم الاول لعدم كونه من مصاديقه لا أن يشمله فيبطل حكمه بعد الشمول بالمضادة كإبطال الاسباب المتضادة في الطبيعة بعضها حكم بعض بالمعارضة والغلبة في التأثير، فحقيقة الشفاعة التوسط في إيصال نفع أو دفع شر بنحو الحكومة دون المضادة. ومن هنا يظهر أيضا أن الشفاعة من مصاديق السببية فهي توسيط السبب المتوسط القريب بين السبب الاول البعيد ومسببه، هذا ما يتحصل من تحليل معنى الشفاعة التي عندنا. ثم إن الله سبحانه يمكن أن يقع مورد النظر في السببية من جهتين:

[ 160 ]

إحداهما: أنه يبتدي منه التأثير، وينتهي إليه السببية، فهو المالك للخلق والايجاد على الاطلاق، وجميع العلل والاسباب امور متخللة متوسطة بينه وبين غيره لنشر رحمته التي لا تنفد ونعمته التي لا تحصى إلى خلقه وصنعه. والثانيه: أنه تعالى تفضل علينا بالدنو في حين علوه فشرع الدين ووضع فيه أحكاما من أوامر ونواهي وغير ذلك وتبعات من الثواب والعقاب في الدار الآخرة وأرسل رسلا مبشرين ومنذرين فبلغوه أحسن تبليغ وقامت بذلك الحجة وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته. أما من الجهة الاولى: وهي النظر إليه من جهة التكوين فإنطباق معنى الشفاعة على شأن الاسباب والعلل الوجودية المتوسطة واضح لا يخفى، فإنها تستفيد من صفاته العليا من الرحمة والخلق والاحياء والرزق وغير ذلك إيصال أنواع النعم والفضل إلى كل مفتقر محتاج من خلقه، وكلامه تعالى أيضا يحتمل ذلك، كقوله تعالى: (له ما في السموات وما في الارض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) البقرة - 255، وقوله (إن ربكم الله الذي خلق السموات والارض في ستة أيام ثم إستوى على العرش يدبر الامر ما شفيع إلا من بعد إذنه) يونس - 3، فإن الشفاعة في مورد التكوين ليست إلا توسط العلل والا سباب بينه وبين مسبباتها في تدبير أمرها وتنظيم وجودها وبقائها فهذه شفاعة تكوينية. وأما من الجهة الثانية وهى النظر إليه من جهة التشريع فالذي ينبغي أن يقال: أن مفهوم الشفاعة على ما سبق من التحليل يصح صدقه في مورده ولا محذور في ذلك وعليه ينطبق قوله تعالى: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له) الرحمن ورضي له قولا) طه - 109، وقوله: (لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) السبأ - 23، وقوله (لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) النجم - 26، وقوله: (ولا يشفعون إلا لمن إرتضى) الانبياء - 28، وقوله: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة الا من شهد بالحق وهم يعلمون) الزخرف - 86، فإن الآيات كما ترى تثبت الشفاعة بمعنى الشافعية لعدة من عباده من الملائكة والناس من بعد الاذن والارتضاء، فهو تمليك ولله الملك وله الامر فلهم أن يتمسكوا برحمته وعفوه

[ 161 ]

ومغفرته وما أشبه ذلك من صفاته العليا لتشمل عبدا من عباده سائت حاله بالمعصية، وشملته بلية العقوبة، فيخرج عن كونه مصداقا للحكم الشامل، والجرم الع امل على ما عرفت أن تأثير الشفاعة بنحو الحكومة دون التضاد وهو القائل عز من قائل: (أؤلئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) الفرقان - 70، فله تعالى أن يبدل عملا من عمل كما أن له أن يجعل الموجود من العمل معدوما، قال تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) الفرقان - 23، وقال تعالى: (فأحبط أعمالهم) محمد - 10، وقال تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) النساء - 31، وقال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النساء - 48، والآية في غير مورد الايمان والتوبة قطعا فإن الايمان والتوبة يغفر بهما الشرك أيضا كسائر الذنوب وله تكثير القليل من العمل، قال تعالى: (أؤلئك يؤتون أجرهم مرتين) القصص - 65، وقال: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) الانعام - 160، وله سبحانه أن يجعل المعدوم من العمل موجودا، قال تعالى: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بايمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ كل أمرء بما كسب رهين) الطور - 21، وهذا هو اللحوق والالحاق وبالجملة فله تعالى أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. نعم إنما يفعل لمصلحة مقتضية، وعلة متوسطة ولتكن من جملتها شفاعة الشافعين من أنبيائه وأوليائه والمقربين من عباده من غير جزاف ولا ظلم. ومن هنا ظهر أن معنى الشفاعة بمعنى الشافعية، صادق بحسب الحقيقة في حقه تعالى فإن كلا من صفاته متوسطة بينه وبين خلقه في إفاضة الجود وبذل الوجود فهو الشفيع في الحقيقة على الاطلاق. قال تعالى: (قل لله الشفاعة جميعا) الزمر - 44، وقال تعالى: (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع) السجدة - 4، وقال تعالى: (ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع) الانعام - 51. وغيره تعالى لو كان شفيعا فإنما هو بإذنه وتمليكه. فقد ثبت بما مر صحة تحقق الشفاعة عنده تعالى في الجملة فيما لا يوجب محذورا لا يليق بساحة كبريائه تعالى.

[ 162 ]

2 - اشكالات الشفاعة قد عرفت: أن الشفاعة ثابتة في الجملة لا بالجملة، وستعرف أن الكتاب وكذلك السنة لا يثبتان أزيد من ذلك، بل التأمل في معناها وحده يقضي بذلك، فإن الشفاعة كما مر يرجع بحسب المعنى إلى التوسط في السببية والتأثير، ولا معنى للاطلاق في السببية والتأثير فلا السبب يكون سببا لكل مسبب من غير شرط ولا مسبب واحد يكون مسببا لكل سبب على الاطلاق فإن ذلك يؤدي إلى بطلان السببيه وهو باطل بالضرورة. ومن هنا اشتبه الامر على النافين للشفاعة حيث توهموها مطلقة من غير شرط فاستشكلوا فيها بامور وبنوا عليها بطلان هذه الحقيقة القرآنية من غير تدبر فيما يعطيه كلامه تعالى وهاك شطرا منها: الاشكال الاول: أن رفع العقاب عن المجرم يوم القيامة بعد ما أثبته الله تعالى بالوعيد إما أن يكون عدلا أو ظلما. فإن كان عدلا كان أصل الحكم المستتبع للعقاب ظلما لا يليق بساحته تعالى وتقدس، وإن كان ظلما كان شفاعة الانبياء مثلا سؤالا للظلم منه وهو جهل لا يجوز نسبته إليهم صلوات الله عليهم. والجواب عنه أولا: بالنقض فإنه منقوض بالاوامر الامتحانية فرفع الحكم الامتحاني ثانيا وإثباته أولا كلاهما من العدل: والحكمة فيها اختبار سريرة المكلف أو إظهار باطن أمره أو إخراج ما في قوته إلى الفعل، فيقال في مورد الشفاعة أيضا يمكن أن تكون النجاة مكتوبة لجميع المؤمنين، ثم يوضع الاحكام وما لمخالفتها من أنواع العقاب ليهلك الكافرون بكفرهم، وأما المؤمنون فيرتفع بالطاعة درجات المحسنين منهم ويبقى السميئون فينالون بالشفاعة النجاة المكتوبة لهم ولو بالنسبة إلى بعض أنواع العذاب أو أفراده مع مقاساة البعض الآخر كإحوال البرزخ وأهوال يوم القيامة، فيكون بذلك أصل وضع الحكم وعقابه أولا عدلا ورفع عقابه ثانيا عدلا. وثانيا: بالحل، فإن رفع العقاب أولا بواسطة الشفاعة إنما يغاير الحكم الاول فيما ذكر من العدل والظلم لو كان رفع العقاب بالشفاعة نقضا للحكم الاول أو نقضا للحكم باستتباع العقوبة وقد عرفت أنه ليس كذلك بل أثر الشفاعة بالحكومة لا

[ 163 ]

بالمضادة فيها إخراج المجرم عن كونه مصداقا لشمول العقاب بجعله مصداقا لشمول الرحمة من صفات اخرى له تعالى من رحمة وعفو ومغفرة، ومنها إفضاله للشافع بالاكرام والاعظام. الاشكال الثاني: أن سنة الله تعالى جرت على صون أفعاله من التخلف والاختلاف، فما قضى وحكم به يجريه على وتيرة واحدة من غير استثناء، وعلى هذا جرت سنة الاسباب، قال تعالى: (هذا صراط على مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من إتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين) الحجر - 43، وقال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم) الانعام - 153، وقال تعالى: (فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) الفاطر - 42، وتحقق الشفاعة موجب للاختلاف في الفعل فان رفع العقاب بالشفاعة عن جميع المجرمين في جميع جرائمهم موجب لنقض الفرض المحال، ولعب ينافي الحكمة قطعا، ورفعة عن بعض المجرمين أو في بعض جرائمهم وذنوبهم إختلاف في فعله تعالى وتغير وتبدل في سنته الجارية وطريقته الدائمة، إذ لا فرق بين المجرمين في أن كل واحد منهم مجرم ولا بين الذنوب في أن كلا منها ذنب وخروج عن زي العبودية فتخصيص بعضهم أو بعض من أعمالهم بالصفح والاغماض دون بعض بواسطة الشفاعة محال، وإنما تجري الشفاعة وما يشبهها في سنة هذه الحيوة من إبتناء الاعمال والافعال على الاهواء والاوهام التي ربما تقضي في الحق والباطل على السواء، وتجري عن الحكمة وعن الجهالة على نسق واحد. والجواب أنه لا ريب في أن صراطه تعالى مستقيم وسنته واحدة لكن هذه السنة الواحدة الغير المختلفة ليست قائمة على أصل صفة واحدة من صفاته تعالى كصفة التشريع والحكم مثلا حتى لا يتخلف حكم عن مورده ولا جزاء حكم عن محله قط بل هي قائمة على ما يستوجبه جميع صفاته المربوطة علت صفاته. توضيح ذلك: أن الله سبحانه هو الواهب المفيض لكل ما في الوجود من حيوة أو موت أو رزق أو نعمة أو غير ذلك. وهي أمور مختلفة لا ترتبط به سبحانه على السواء ولا لرابطة واحدة كيف كانت، فإن فيه بطلان الارتباط والسببية، فهو تعالى لا يشفي مريضا من غير سبب موجب ومصلحة مقتضية ولا يشفيه لانه الله المميت

[ 164 ]

المنتقم شديد البطش بل لانه الله الرؤوف الرحيم المنعم الشافي المعافي مثلا ولا يهلك جبارا مستكبرا من غير سبب، لانه رؤوف رحيم به، بل لانه الله المنتقم الشديد البطش القهار مثلا وهكذا. والقرآن بذلك ناطق فكل حادث من الحوادث بما يشتمل عليه من جهات الوجود يسند إليه من جهة صفة أو أكثر من صفاته العليا تتسبب إليه بالتلائم والايتلاف الواقع بينها والاقتضاء المستنتج من ذلك، وإن شئت قلت: كل أمر من الامور يرتبط به تعالى من جهة ما يتضمنه من المصالح والخيرات. إذا عرفت هذا علمت: أن استقامة صراطه وعدم تبدل سنته وعدم اختلاف فعله إنما هي بالنسبة إلى ما يفعله بجميع صفاته المربوطة لا بالنسبة إلى مقتضي صفة قاصره وإن شئت قلت: بالنسبة إلى ما يتحصل من الفعل والانفعال والكسر والانكسار الواقع بين الحكم والمصالح المرتبطة بالمورد لا بالنسبة إلى مقتضى مصلحة واحدة. فلو كان هناك سبب الحكم المجعول فقط لم يتغير ولم يختلف في بر ولا فاجر ولا مؤمن ولا كافر. لكن الاسباب كثيرة ربما استدعى توافق عدة منها غير ما يقتضيه بعضها فافهم ذلك. فوقوع الشفاعة وارتفاع العقاب - وذلك أثر عدة من الاسباب كالرحمة والمغفرة والحكم والقضاء وإعطاء كل ذي حق حقه والفصل في القضاء - لا يوجب اختلافا في السنة الجارية وضلالا في الصراط المستقيم. الاشكال الثالث: أن الشفاعة المعروفة عند الناس هي أن يحمل الشافع المشفوع عنده على فعل أو ترك أراد غيره حكم به أو لا فلا تتحقق الشفاعة إلا بترك إلارادة ونسخها لاجل الشفيع فأما الحاكم العادل فإنه لا يقبل الشفاعة إلا إذا تغير علمه بما كان أراده أو حكم به، كأن أخطأ ثم عرف الصواب ورأى أن المصلحة أو العمل في خلاف ما كان يريده أو حكم به وأما الحاكم المستبد الظالم فإنه يقبل شفاعة المقربين عنده في الشئ وهو عالم بأنه ظلم وأن العدل في خلافه ولكنه يفضل مصلحة إرتباطه بالشافع المقرب عنده على العدالة، وكل من النوعين محال على الله تعالى لان إرادته على حسب علمه وعلمه أزلي لا يتغير. والجواب أن ذلك منه تعالى ليس من تغير الارادة والعلم في شئ وانما التغير في المراد والمعلوم، فهو سبحانه يعلم أن الانسان الفلاني سيتحول عليه الحالات فيكون

[ 165 ]

في حين كذا على حال كذا لاقتران أسباب وشرائط خاصة فيريد فيه بإرادة، ثم يكون في حين آخر على حال آخر جديد يخالف الاول لاقتران أسباب وشرائط اخر فيريد فيه بارادة اخرى وكل يوم هو في شأن، وقد قال تعالى: (يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) الرعد - 39، وقال (بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) المائدة - 67، مثال ذلك: أنا نعلم أن الهواء ستغشاة الظلمة فلا يعمل أبصارنا والحاجة إليه قائمة ثم تنجلي الظلمة بانارة الشمس فتتعلق إرادتنا عند إقبال الليل بالاستضائة بالسراج وعند إنقضائه باطفائه والعلم والارادة غير متغيرتين وإنما تغير المعلوم والمراد، فخرجا عن كونهما منطبقا عليه للعلم والارادة، وليس كل علم ينطبق على كل معلوم، ولا كل إرادة تتعلق بكل مراد، نعم تغير العلم والارادة المستحيل عليه تعالى هو بطلان إنطباق العلم على المعلوم والارادة على المراد مع بقاء المعلوم والمراد على حالهما وهو الخطأ والفسخ، مثل أن ترى شبحا فتحكم بكونه إنسانا ثم يتبين انه فرس فيتبدل العلم، أو تريد أمرا لمصلحة ما ثم يظهر لك أن المصلحة في خلافه فتنفسخ إرادتك، وهذان غير جائزين في مورده تعالى، والشفاعة ورفع العقاب بها ليس من هذا القبيل كما عرفت. الاشكال الرابع: أن وعد الشفاعة منه تعالى أو تبليغها من الانبياء عليهم السلام مستلزم لتجري الناس على المعصية واغراء لهم على هتك محارم الله تعالى وهو مناف للغرض الوحيد من الدين من سوق الناس إلى العبودية والطلاعة فلا بد من تأويل ما يدل عليه من الكتاب والسنة بما لا يزاحم هذا الاصل البديهي. والجواب عنه، اولا: بالنقض بالآيات الدالة على شمول المغفرة وسعة الرحمة كقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النساء - 51، والآية - كما مر - في غير مورد التوبة بدليل إستثنائه الشرك المغفور بالتوبة. وثانيا: بالحل: فإن وعد الشفاعة أو تبليغها إنما يستلزم تجري الناس على المعصية وإغرائهم على التمرد والمخالفة بشرطين: احدهما: تعيين المجرم بنفسه ونعته أو تعيين الذنب الذي تقع فيه الشفاعة تعيينا لا يقع فيه لبس بنحو الانجاز من غير تعليق بشرط جائز.

[ 166 ]

وثانيهما: تأثير الشفاعة في جميع أنواع العقاب وأوقاته بأن تقلعه من أصله قلعا. فلو قيل: أن الطائفة الفلانية من الناس أو كل الناس لا يعاقبون على ما أجرموا ولا يؤاخذون فيما أذنبوا أبدا، أو قيل إن الذنب الفلاني لا عذاب عليه قط كان ذلك باطلا من القول ولعبا بالاحكام والتكاليف المتوجهة إلى المكلفين، وأما إذا أبهم الامر من حيث الشرطين فلم يعين أن الشفاعة في أي الذنوب وفي حق أي المذنبين أو ان العقاب المرفوع هو جميع العقوبات وفي جميع الاوقات والاحوال، فلا تعلم نفس هل تنال الشفاعة الموعودة أو لا فلا تتجرى على هتك محارم الله تعالى، غير أن ذلك توقظ قريحة رجائها فلا يوجب مشاهدة ما يشاهدها من ذنوبها وآثامها قنوطا من رحمة الله، ويأسا من روح الله، مضافا إلى قوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) النساء - 31، فإن الآية تدل على رفع عقاب السيئات والمعاصي الصغيرة على تقدير اجتناب المعاصي الكبيرة فإذا جاز أن يقول الله سبحانه: إن إتقيتم الكبائر عفونا عن صغائركم، فليجز أن يقال: إن تحفظتم على إيمانكم حتى أتيتموني في يوم اللقاء بإيمان سليم قبلت فيكم شفاعة الشافعين، فإنما الشأن كل الشأن في حفظ الايمان والمعاصي تضعف الايمان وتقسي القلب وتجلب الشرك، وقد قال تعالى: (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) الاعراف - 98، وقال: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) المطففين - 14، وقال: (ثم كان عاقبة الذين اساءوا السوآى أن كذبوا بآيات الله) الروم - 10، وربما أوجب ذلك إنقلاعه عن المعاصي، وركوبه علصراط التقوى، وصيرورته من المحسنين، واستغنائه عن الشفاعة بهذا المعنى، وهذا من أعظم الفوائد، وكذا إذا عين المجرم المشفوع له أو الجرم المشفوع فيه لكن صرح بشموله على بعض جهات العذاب أو بعض أوقاته فلا يوجب تجري المجرمين قطعا. والقرآن لم ينطق في خصوص المجرمين وفي خصوص الذنب بالتعيين ولم ينطق في رفع العقاب إلا بالبعض كما سيجئ فلا اشكال أصلا. الاشكال الخامس: ان العقل لو دل فإنما يدل على إمكان وقوع الشفاعة لا على

[ 167 ]

فعلية وقوعها على أن أصل دلالته ممنوع، وأما النقل فما يتضمنه القرآن لا دلالة فيه على وقوعها فإن فيها آيات دالة على نفي الشفاعة مطلقا كقوله، (لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) البقرة - 254، واخرى ناطقة بنفي منفعة الشفاعة كقوله تعالى: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) المدثر - 48، وأخرى تفيد النفي بمثل قوله تعالى: (إلا باذنه) البقرة - 255 وقوله: (إلا من بعد إذنه) يونس - 3، وقوله تعالى: (إلا لمن إرتضي) الانبياء - 28، ومثل هذا الاستثناء أي الاستثناء بالاذن والمشية معهود في اسلوب القرآن في مقام النفي القطعي للاشعار بان ذلك باذنه ومشيته سبحانه كقوله تعالى: (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) الاعلى - 6، وقوله تعالى: (خالدين فيها ما دامت السموات والارض إلا ما شاء ربك) هود - 107، فليس في القرآن نص قطعي على وقوع الشفاعة وأما السنة فما دلت عليه الروايات من الخصوصيات لا تعويل عليه، وأما المتيقن منها فلا يزيد على ما في الكتاب دلالة. والجواب: أما عن الآيات النافية للشفاعة فقد عرفت أنها لا تنفي مطلق الشفاعة بل الشفاعة بغير اذن الله وارتضائه، وإما عن الآيات النافية لمنفعة الشفاعة على زعم المستشكل فانها تثبت الشفاعة ولا تنفيه فان الآيات واقعة في سورة المدثر وانما تنفي الانتفاع عن طائفة خاصة من المجرمين لا عن جميعهم، ومع ذلك فالشفاعة مضافة لا مجردة مقطوعة عن الاضافة، ففرق بين أن يقول القائل: فلا تنفعهم الشفاعة وبين أن يقول: فلا تنفعهم شفاعة الشافعين فإن المصدر المضاف يشعر بوقوع الفعل في الخارج بخلاف المقطوع عن الاضافة، نص عليه الشيخ عبد القاهر في دلائل الاعجاز فقوله: شفاعة الشافعين يدل على ان شفاعة ما ستقع غير ان هؤلاء لا ينتفعون بها على ان الاتيان بصيغة الجمع في الشافعين يدل على ذلك أيضا كقوله: (كانت من الغابرين) وقوله: (وكان من الكافرين) وقوله: (وكان من الغاوين) وقوله: (لا ينال عهدي الظالمين) وأمثال ذلك، ولو لا ذلك لكان الاتيان بصيغة الجمع وله مدلول زائد على مدلول المفرد لغوا زائدا في الكلام فقوله: فما تنفعهم شفاعة الشافعين من الآيات المثبتة للشفاعة دون النافية. واما عن الآيات المشتملة على استثناء الاذن والارتضاء فدلالة قوله: (إلا باذنه)

[ 168 ]

وقوله: (إلا من بعد إذنه) على الوقوع وهو مصدر مضاف مما لا ينبغي أن ينكره عارف باساليب الكلام وكذا القول: بكون قوله: (الا بإذنه) وقوله: (إلا لمن إرتضى) بمعنى واحد وهو المشية مما لا ينبغ (الاصغاء إليه، على أن الاستثناء واقع في مورد الشفاعة بوجوه مختلفة كقوله: (إلا باذنه والا من بعد إذنه) وقوله: (الا لمن إرتضى)، وقوله: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) إلى غير ذلك، فهب: (إن الاذن والارتضاء واحد وهو المشية فهل يمكن التفوه بذلك في قوله: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون). فهل المراد بهذا الاستثناء استثناء المشية أيضا ؟ هذا وأمثاله من المساهلة في البيان مما لا يصح نسبته إلى كلام سوقي فكيف بالكلام البليغ ! وكيف بأبلغ الكلام ! وأما السنة فسيأتي الكلام في دلالتها على ما يحاذي دلالة الكتاب. الاشكال السادس: أن الآيات غير صريحة في رفع العقاب الثابت على المجرمين يوم القيامة بعد ثبوت الجرم ولزوم العقاب بل المراد بها شفاعة الانبياء بمعنى توسطهم بما هم أنبياء بين الناس وبين ربهم بأخذ الاحكام بالوحي وتبليغها الناس وهدايتهم وهذا المقدار كالبذر ينمو وينشأ منه ما يستقبله من الاقدار والاوصاف والاحوال فهم عليه السلام شفعاء المؤمنين في الدنيا وشفعائهم في الآخرة. والجواب: انه لا كلام في ان ذلك من مصاديق الشفاعة الا أن الشفاعة غير مقصورة فيه كما مر بيانه، ومن الدليل عليه قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النساء - 48، وقد مر بيان ان الآية في غير مورد الايمان والتوبة، والشفاعة التي قررها المستشكل في الانبياء انما هي بطريق الدعوة إلى الايمان والتوبة. الاشكال السابع: أن طريق العقل لا يوصل إلى تحقق الشفاعة، وما نطق به القرآن آيات متشابهة تنفيها تارة وتثبتها اخرى، وربما قيدتها وربما أطلقتها، والادب الديني الايمان بها، وإرجاع علمها إلى الله تعالى. والجواب عنه: أن المتشابهة من الآيات تصير بارجاعها إلى المحكمات محكمات مثلها، وهو امر ميسور لنا غير مضروب دونه الستر، كما سيجئ بيانه عند قوله

[ 169 ]

تعالى: (منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) آل عمران - 7. 3 - فيمن تجري الشفاعة ؟ قد عرفت ان تعيين المشفوع لهم يوم القيامة لا يلائم التربية الدينية كل الملائمة الا أن يعرفوا بما لا يخلو عن شوب ابهام وعلى ذلك جرى بيان القرآن، قال تعالى: (كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين) المدثر - 48، بين سبحانه فيها ان كل نفس مرهونة يوم القيامة بما كسبت من الذنوب) مأخوذه بما اسلفت من الخطايا إلا أصحاب اليمين فقد فكوا من الرهن واطلقوا واستقروا في الجنان، ثم ذكر انهم غير محجوبين عن المجرمين الذين هم مرهونون باعمالهم، مأخوذ عليهم في سقر، يتساءلون عنهم سلوكهم في النار، وهم يجيبون بالاشارة إلى عدة صفات ساقتهم إلى النار، فرع على هذه الصفات بأنه لم ينفعهم لذلك شفاعة الشافعين. ومقتضى هذا البيان كون أصحاب اليمين غير متصفين بهذه الصفات التي يدل الكلام على كونها هي المانعة عن شمول الشفاعة، وإذا كانوا غير متصفين بهذه الصفات المانعة عن شمول الشفاعة وقد فك الله تعالى نفوسهم عن رهانة الذنوب والآثام دون المجرمين المحرومين عن الشفاعة، المسلوكين في سقر، فهذا الفك والاخراج إنما هو بالشفاعة فأصحاب اليمين هم المشفعون بالشفاعة وفي الآيات تعريف اصحاب اليمين بإنتفاء الاوصاف المذكورة عنهم، بيان ذلك: أن الآيات واقعة في سورة المدثر وهي من السور النازلة بمكة في بدء البعثة كما ترشد إليه مضامين الآيات الواقعة فيها، ولم يشرع يومئذ الصلوة والزكوة بالكيفية الموجودة اليوم، فالمراد بالصلوة في قوله لم نك من المصلين التوجه إلى الله تعالى بالخضوع العبودي، وباطعام المسكين مطلق الانفاق على المحتاج في سبيل الله، دون الصلوة والزكوة المعهودتين في الشريعة الاسلامية والخوض هو الغور في ملاهي الحيوة وزخارف الدنيا الصارفة للانسان عن الاقبال على

[ 170 ]

الآخرة وذكر الحساب يوم الدين: أو التعمق في الطعن في آيات الله المذكرة ليوم الحساب المبشرة المنذرة، وبالتلبس بهذه الصفات الاربعة، وهي ترك الصلوة لله وترك الانفاق في سبيل الله والخوض وتكذيب يوم الدين ينهدم أركان الدين، وبالتلبس بها تقوم قاعدته على ساق فان الدين هو الاقتداء بالهداة الطاهرين بالاعراض عن الاخلاد إلى الارض والاقبال إلى يوم لقاء الله وهذان هما ترك الخوض وتصديق يوم الدين ولازم هذين عملا التوجه إلى الله بالعبودية، والسعي في رفع حوائج جامعة الحيوة وهذان هما الصلوة والانفاق في سبيل الله، فالدين يتقوم بحسب جهتي العلم والعمل بهذه الخصال الاربع، وتستلزم بقية الاركان كالتوحيد والنبوة إستلزاما هذا، فأصحاب اليمين هم الفائزون بالشفاعة، وهم المرضيون دينا وإعتقادا سواء كانت أعمالهم مرضية غير محتاجة إلى شفاعة يوم القيامة أو لم تكن، وهم المعنيون بالشفاعة، فالشفاعة للمذنبين من اصحاب اليمين، وقد قال تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) النساء - 31، فمن كان له ذنب باق إلى يوم القيامة فهو لا محالة من إهل الكبائر، إذ لو كان الذنب من الصغائر فقط لكان مكفرا عنه، فقد بان أن الشفاعة لاهل الكبائر من أصحاب اليمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنما شفاعتي لاهل الكبائر من امتي فاما المحسنون فما عليهم من سبيل، الحديث. ومن جهة اخرى إنما سمى هؤلاء بأصحاب اليمين في مقابل أصحاب الشمال وربما سموا أصحاب الميمنة في مقابل أصحاب المشئمة، وهو من الالفاظ التي اصطلح عليه القرآن مأخوذ من إيتاء الانسان يوم القيامة كتابه بيمينه أو بشماله، قال تعالى: (يوم ندعوا كل اناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤن كتابهم ولا يظلمون فتيلا ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا) أسرى - 72، وسنبين في الآيه إن شاء الله تعالى أن المراد من إيتاء الكتاب باليمين إتباع الامام الحق، ومن إيتائه بالشمال إتباع إمام الضلال كما قال تعالى في فرعون: (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار) هود - 98، وبالجملة مرجع التسمية بأصحاب اليمين أيضا إلى إرتضاء الدين كما أن إليه مرجع التوصيف بالصفات الاربعة المذكورة هذا. ثم إنه تعالى قال في موضع آخر من كلامه: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى)

[ 171 ]

الانبياء - 28، فأثبت الشفاعة على من إرتضي، وقد أطلق الارتضاء من غير تقييد بعمل ونحوه، كما فعلة في قوله: (إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا) طه - 109، ففهمنا أن المراد به إرتضاء أنفسهم أي إرتضاء دينهم لا إرتضاء عملهم، فهذه الآية أيضا ترجع من حيث الافادة إلى ما ترجع إليه الآيات السابقة ثم إنه تعالى قال (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) فهو يملك الشفاعة (أي المصدر المبني للمفعول) وليس كل مجرم بكافر محتوم له النار، بدليل قوله تعالى: (إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيي ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فاؤلئك لهم الدرجات العلى) طه - 75، فمن لم يكن مؤمنا قد عمل صالحا فهو مجرم سواء كان لم يؤمن، أو كان قد آمن ولم يعمل صالحا، فمن المجرمين من كان على دين الحق لكنه لم يعمل صالحا وهو الذي قد اتخذ عند الله عهدا لقوله تعالى: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم) يس 61 فقوله تعالى: (وأن اعبدوني) عهد بمعنى الامر وقوله تعالى: (هذا صراط مستقيم، عهد بمعنى الالتزام لاشتمال الصراط المستقيم على الهداية إلى السعادة والنجاة، فهؤلاء قوم من أهل الايمان يدخلون النار لسوء أعمالهم، ثم ينجون منها بالشفاعة، وإلى هذا المعنى يلوح قوله تعالى: (قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل اتخذتم عند الله عهدا) البقرة - 80، فهذه الآيات أيضا ترجع إلى ما ترجع إليه الآيات السابقة، والجميع تدل على أن مورد الشفاعة أعني المشفوع لهم يوم القيمة هم الدائنون بدين الحق من أصحاب الكبائر، وهم الذين إرتضى الله دينهم. 4 - من تقع منه الشفاعة ؟ قد عرفت أن الشفاعة منها تكوينية، ومنها تشريعية، فأما الشفاعة التكوينية فجملة الاسباب الكونية شفعاء عند الله بما هم وسائط بينه وبين الاشياء. وأما الشفاعة التشريعية، وهي الواقعة في عالم التكليف والمجازات، فمنها ما يستدعي في الدنيا مغفرة من الله سبحانه أو قربا وزلفى: فهو شفيع متوسط بينه وبين عبده. ومنه

[ 172 ]

التوبة كما قال تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم) الزمر - 54، ويعم شموله لجميع المعاصي حتى الشرك. ومنه الايمان قال تعالى: (آمنوا برسوله، إلى قوله: (ويغفر لكم) الحديد - 28. ومنه كل عمل صالح. قال تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم) المائدة - 9، وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) المائدة - 35، والآيات فيه كثيرة، ومنه القرآن لقوله تعالى: (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) المائدة - 16. ومنه كل ما له إرتباط بعمل صالح، والمساجد والامكنة المتبركة والايام الشريفة، ومنه الانبياء والرسل بإستغفارهم لاممهم. قال تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك فإستغفروا الله وإستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) النساء - 64. ومنه الملائكة في إستغفارهم للمؤمنين، قال تعالى: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا) المؤمن - 7، وقال تعالى: (والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الارض ألا إن الله هو الغفور الرحيم) الشوري - 5، ومنه المؤمنون بإستغفارهم لانفسهم ولاخوانهم المؤمنين قال تعالى حكاية عنهم (وأعف عنا وإغفر لنا وارحمنا أنت مولينا) البقرة - 286 ومنها الشفيع يوم القيمة بالمعنى الذي عرفت فمنهم الانبياء. قال تعالى: (وقالوا إتخذ الله ولدا سبحانه بل عباد مكرمون) إلى أن قال: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) الانبياء - 29، فأن منهم عيسى بن مريم وهو نبي، وقال تعالى: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) الزخرف - 86، والآيتان تدلان على جواز الشفاعة من الملائكة أيضا لانهم قالوا إنهم بنات الله سبحانه. ومنهم الملائكة. قال تعالى: (وكم من ملك في السموات لا تغنى شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) النجم - 26، وقال تعالى: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) طه - 110، ومنهم الشهداء

[ 173 ]

لدلالة قوله تعالى: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) الزخرف - 86، على تملكهم للشفاعة لشهادتهم بالحق، فكل شهيد فهو شفيع يملك الشهادة غير ان هذه الشهادة كما مر في سورة الفاتحة وسيأتي في قوله تعالى (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) البقرة - 143، شهادة الاعمال دون الشهادة بمعنى القتل في معركة القتال، ومن هنا يظهر أن المؤمنين أيضا من الشفعاء فإن الله عز وجل أخبر بلحوقهم بالشهداء يوم القيامة قال تعالى: (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم) الحديد - 19، كما سيجئ بيانه. 5 - بما ذا تتعلق الشفاعة ؟ قد عرفت أن الشفاعة منها تكوينية تتعلق بكل سبب تكويني في عالم الاسباب ومنها شفاعة تشريعية متعلقة بالثواب والعقاب فمنها ما يتعلق بعقاب كل ذنب، الشرك فما دونه كشفاعة التوبة والايمان قبل يوم القيامة ومنها ما يتعلق بتبعات بعض الذنوب كبعض الاعمال الصالحة، وأما الشفاعة المتنازع فيها وهى شفاعة الانبياء وغيرهم يوم القيامة لرفع العقاب ممن إستحقه بالحساب، فقد عرفت في الامر الثالث ان متعلقها أهل المعاصي الكبيرة ممن يدين دين الحق وقد ارتضى الله دينه. 6 - متى تنفع الشفاعة ؟ ونعني بها أيضا الشفاعة الرافعة للعقاب، والذي يدل عليه قوله سبحانه: (كل نفس بما كسبت رهينة الا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر) المدثر - 42، فالآيات كما مر دالة على توصيف من تناله الشفاعة ومن يحرم منها غير أنها تدل على أن الشفاعة إما تنفع في الفك عن هذه الرهانة والاقامة والخلود في سجن النار، وأما ما يتقدم عليه من أهوال يوم القيامة وعظائمها فلا دليل على وقوع شفاعة فيها لو لم تدل الآية على انحصار الشفاعة في الخلاص من رهانة النار. واعلم أنه يمكن أن يستفاد من هذه الآيات وقوع هذا التساؤل بعد استقرار

[ 174 ]

أهل الجنة في الجنة واهل النار في النار وتعلق الشفاعة بجمع من المجرمين بإخراجهم من النار، وذلك لمكان قوله: (في جنات، الدال على الاستقرار وقوله: ما سلككم فإن السلوك هو الادخال لكن لا كل إدخال بل إدخال على سبيل النضد والجمع والنظم ففيه معنى الاستقرار وكذا قوله: فما تنفعهم، فإن ما لنفي الحال، فافهم ذلك. واما نشأة البرزخ وما يدل على حضور النبي عليه السلام والائمة عليهم السلام عند الموت وعند مسائلة القبر وإعانتهم إياه علي الشدائد كما سيأتي في قوله تعالى: (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به) النساء - 158، فليس من الشفاعة عند الله في شئ وإنما هو من سبيل التصرفات والحكومة الموهوبة لهم بإذن الله سبحانه، قال تعالى: (وعلى الاعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنه أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون) إلى أن قال: (ونادى أصحاب الاعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغني عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون، أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا انتم تحزنون) الاعراف - 46، 48، 49، ومن هذا القبيل من وجه قوله تعالى: (يوم ندعوا كل اناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه) أسرى - 71، فوساطة الامام في الدعوة، وإيتاء الكتاب من قبيل الحكومة الموهوبة فإفهم. فتحصل أن المتحصل من أمر الشفاعة وقوعها في آخر موقف من مواقف يوم القيامة بإستيهاب المغفرة بالمنع عن دخول النار، أو إخراج بعض من كان داخلا فيها، بإتساع الرحمة أو ظهور الكرامة. (بحث روائي) في أمالي الصدوق: عن الحسين بن خالد عن الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي ومن لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: إنما شفاعتي لاهل الكبائر من أمتي، فأما المحسنون منهم فما عليهم من سبيل، قال الحسين بن خالد: فقلت للرضا عليه السلام يا بن رسول الله فما معنى قول الله عز وجل: (ولا يشفعون إلا لمن إرتضى) قال عليه

[ 175 ]

السلام: لا يشفعون إلا لمن إرتضى الله دينه. اقول: قوله صلى الله عيه وآله وسلم: إنما شفاعتي، هذا المعنى رواه الفريقان بطرق متعددة عنه صلى الله عليه وآله وسلم وقد مر إستفادة معناه من الآيات. وفي تفسير العياشي: عن سماعة بن مهران عن أبي ابراهيم عليه السلام: في قول الله: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا، قال: يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين عاما ويؤمر الشمس، فيركب على رؤوس العباد، ويلجمهم العرق، ويؤمر الارض لا تقبل من عرقهم شيئا فيأتون آدم فيستشفعون منه فيدلهم على نوح، ويدلهم نوح على إبراهيم، ويدلهم إبراهيم على موسى، ويدلهم موسى على عيسى، ويدلهم عيسى فيقول: عليكم بمحمد خاتم البشر فيقول محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أنا لها فينطلق حتى يأتي باب الجنة فيدق فيقال له: من هذا ؟ والله أعلم فيقول محمد، فيقال: افتحوا له فإذا فتح الباب استقبل ربه فخر ساجدا فلا رفع رأسه حتى يقال له: تكلم وسل تعط وإشفع تشفع فيرفع رأسه ويستقبل ربه فيخر ساجدا فيقال له مثلها فيرفع رأسه حتى أنه ليشفع من قد أحرق بالنار فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الامم أوجه من محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو قول الله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا. أقول: وهذا المعنى مستفيض مروي بالاختصار والتفصيل بطرق متعددة من العامة والخاصة، وفيها دلالة على كون المقام المحمود في الآية هو مقام الشفاعة، ولا ينافي ذلك كون غيره صلى الله عليه وآله وسلم من الانبياء، وغيرهم جائز الشفاعة لامكان كون شفاعتهم فرعا لشفاعته فافتتاحها بيده صلى الله عليه وآله وسلم. وفي تفسير العياشي أيضا: عن أحدهما عليه السلام: في قوله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا، قال: هي الشفاعة. وفي تفسير العياشي أيضا: عن عبيد بن زرارة قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن المؤمن هل له شفاعة ؟ قال: نعم فقال له رجل من القوم: هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ ؟ قال: نعم إن للمؤمنين خطايا وذنوبا وما من أحد إلا يحتاج إلى شفاعة محمد يومئذ. قال: وسأله رجل عن قول رسول الله: أنا سيد ولد آدم ولا

[ 176 ]

فخر. قال: نعم. قال: يأخذ حلقة باب الجنة فيفتحها فيخر ساجدا فيقول الله: إرفع رأسك إشفع تشفع أطلب تعط فيرفع رأسه ثم يخر ساجدا فيقول الله: إرفع رأسك إشفع تشفع واطلب تعط ثم يرفع رأسه فيشفع فيشفع ويطلب فيعطى. وفي تفسير الفرات: عن محمد بن القاسم بن عبيد معنعنا عن بشر بن شريح البصري قال: قلت لمحمد بن علي عليه السلام، آية آية في كتاب الله أرجى ؟ قال: فما يقول فيها قومك ؟ قلت: يقولون: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله)، قال: لكنا أهل بيت لا نقول ذلك. قال: قلت: فأي شئ تقولون فيها ؟ قال: نقول: ولسوف يعطيك ربك فترضى، الشفاعة والله الشفاعة والله الشفاعة. أقول: أما كون قوله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا، الآية) مقام الشفاعة فربما ساعد عليه لفظ الآية أيضا مضافا إلى ما استفاض عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه مقام الشفاعة فإن قوله تعالى: أن يبعثك، يدل على أنه مقام سيناله يوم القيامة. وقوله محمودا مطلق فهو حمد غير مقيد يدل على وقوعه من جميع الناس من الاولين والآخرين، والحمد هو الثناء على الجميل الاختياري ففيه دلالة على وقوع فعل منه صلى الله عليه وآله وسلم ينتفع به ويستفيد منه الكل فيحمده عليه، ولذلك قال عليه السلام: في رواية عبيد بن زرارة السابقة وما من أحد إلا يحتاج إلى شفاعة محمد يومئذ الحديث. وسيجئ بيان هذا المعنى بوجه آخر وجيه. وأما كون قوله تعالى: ولسوف يعطيك ربك فترضى، أرجى آية في كتاب الله دون قوله تعالى: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا الآية، فإن النهي عن القنوط وإن تكرر ذكره في القرآن الشريف إلا أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم حكاية عن ابراهيم عليه السلام: قال: (ومن يقنط من رحمة الله إلا القوم الضالون) الحجر - 56، وقوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) يوسف - 87، ناظرتان إلى اليأس والقنوط من الرحمة التكوينية بشهادة المورد. وأما قوله تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة

[ 177 ]

الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم) الزمر - 54، إلى آخر الآيات فهو وإن كان نهيا عن القنوط من الرحمة التشريعية بقرينة قوله تعالى أسرفوا على أنفسهم الظاهر في كون القنوط في الآية قنوطا من جهة المعصية، وقد عمم سبحانه المغفرة للذنوب جميعا من غير استثناء، ولكنه تعالى ذيله بالامر بالتوبة والاسلام والعمل بالاتباع فدلت الآية على أن العبد المسرف على نفسه لا ينبغي له أن يقنط من روح الله ما دام يمكنه إختبار التوبة والاسلام والعمل الصالح. وبالجملة فهذه رحمة مقيدة أمر الله تعالى عباده بالتعلق بها، وليس رجاء الرحمة المقيدة كرجاء الرحمة العامة والاعطاء، والارضاء المطلقين الذين وعدهما الله لرسوله الذي جعله رحمة للعالمين ذلك الوعد يطيب نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى: (ولسوف يعطيك ربك فترضي الآية. توضيح ذلك: إن الآية في مقام الامتنان وفيها وعد يختص به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يعد الله سبحانه بمثله أحدا من خلقة قط، ولم يقيد الاعطاء بشئ فهو إعطاء مطلق وقد وعد الله ما يشابه ذلك فريقا من عباده في الجنة فقال تعالى: (لهم فيها ما يشاؤون عند ربهم) الشوري - 22، وقال تعالى: (لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد) ق - 35، فأفاد أن لهم هناك ما هو فوق مشيتهم، والمشية تتعلق بكل ما يخطر ببال الانسان من السعادة والخير، فهناك ما لا يخطر على قلب بشر كما قال تعالى: (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين) السجدة - 17، فإذا كان هذا قدر ما إعطاه الله على عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهو أمر فوق القدر كما عرفت ذلك فما يعطيه لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم في مقام الامتنان أوسع من ذلك وأعظم فافهم. فهذا شأن إعطائه تعالى، وأما شأن رضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمن المعلوم أن هذا الرضا ليس هو الرضا بما قسم الله، الذي هو زميل لامر الله. فإن الله هو المالك الغني على الاطلاق وليس للعبد إلا الفقر والحاجة فينبغي أن يرضي بقليل ما يعطيه ربه وكثيره وينبغي أن يرضى بما قضاه الله في حقه، سره ذلك أو ساءه، فإذا كان هذا هكذا فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعلم وأعمل، لا يريد إلا ما يريده الله في حقه، لكن هذا

[ 178 ]

الرضا حيث وضع في مقابل الاعطاء يفيد معنى آخر نظير إغناء الفقير بما يشكو فقده، وإرضاء الجائع بإشباعه فهو الارضاء بالاعطاء من غير تحديد، وهذا أيضا مما وعد الله ما يشابهه لفريق من عباده. قال عز من قائل: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أؤلئك هم خير البرية جزاءهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه) البينة - 8، وهذا أيضا لموقع الامتنان و الاختصاص يجب أن يكون أمرا فوق ما للمؤمنين وأوسع من ذلك، وقد قال تعالى: في حق رسوله: (بالمؤمنين رؤوف رحيم) التوبة - 128، فصدق رأفته وكيف يرضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويطيب نفسه أن يتنعم بنعيم الجنة ويرتاض في رياضه وفريق من المؤمنين متغلغلون في دركات السعير، مسجونون تحت أطباق النار وهم معترفون لله بالربوبية، ولرسوله بالرسالة، ولما جاء به بالصدق، وإنما غلبت عليهم الجهالة، ولعب بهم الشيطان، فاقترفوا معاصي من غير عناد وإستكبار. والواحد منا إذا راجع ما أسلفه من عمره ونظر إلى ما قصر به في الاستكمال والارتقاء يلوم نفسه بالتفريط في سعيه وطلبه ثم يلتفت إلى جهالة الشباب ونقص التجارب فربما خمدت نار غضبه وانكسرت سورة ملامته لرحمة ناقصة أودعها الله فطرته، فما ظنك برحمة رب العالمين في موقف ليس فيه إلا جهالة إنسان ضعيف وكرامة النبي الرؤوف الرحيم ورحمة أرحم الراحمين. وقد رأى ما رأى من وبال أمره من لدن نشبت عليه أظفار المنية إلى آخر مواقف يوم القيامة ؟. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له الآية، عن أبي العباس المكبر قال: دخل مولى لامرأة علي بن الحسين يقال له: أبو أيمن فقال: يا أبا جعفر تغرون الناس وتقولون: شفاعة محمد، شفاعة محمد، فغضب أبو جعفر حتى تربد وجهه، ثم قال: (ويحك يا أبا أيمن أغرك أن عف بطنك وفرجك ؟ أما لو قد رأيت أفزاع القيمة لقد احتجت إلى شفاعة محمد، ويلك فهل يشفع إلا لمن وجبت له النار ؟ قال: ما من أحد من الاولين والآخرين إلا وهو محتاج إلى شفاعة محمد صلى الله عليه عليه وآله وسلم يوم القيامة، ثم قال أبو جعفر: إن لرسول الله الشفاعة في امته، ولنا شفاعة في شيعتنا، ولشيعتنا شفاعة في أهاليهم، ثم قال: وإن المؤمن ليشفع في مثل ربيعة ومضر، وإن المؤمن ليشفع لخادمه ويقول: يا رب حق خدمتي كان يقيني الحرو البرد.

[ 179 ]

أقول: قوله عليه السلام: ما من أحد من الاولين والآخرين إلا وهو محتاج إلى شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظاهره ان هذه الشفاعة العامة غير التي ذكرها بقوله: ويلك فهل يشفع إلا لمن وجبت له النار، وقد مر نظير هذا المعني في رواية العياشي عن عبيد بن زرارة عن الصادق عليه السلام. وفي هذا المعنى روايات أخر روتها العامة والخاصة، ويدل عليه قوله تعالى: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) الزخرف - 86، حيث يفيد أن الملاك في الشفاعة هو الشهادة، فالشهداء هم الشفعاء المالكون للشفاعة، وسيأتي أن شاء الله في قوله تعالى (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) البقرة - 143، أن الانبياء شهداء وأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم شهيد عليهم، فهو صلى الله عليه وآله وسلم شهيد الشهداء فهو شفيع الشفعاء ولو لا شهادة الشهداء لما قام للقيامة أساس. وفي تفسير القمي أيضا: في قوله تعالى ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له قال عليه السلام: لا يشفع أحد من أنبياء الله ورسله حتى يأذن الله له إلا رسول الله فإن الله أذن له في الشفاعة قبل يوم القيامة، والشفاعة له وللائمة من ولده ثم من بعد ذلك للانبياء. وفي الخصال: عن علي عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاثة يشفعون إلى الله عز وجل فيشفعون: الانبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء. اقول: الظاهر أن المراد بالشهداء، شهداء معركة القتال كما هو المعروف في لسان الائمة في الاخبار لا شهداء الاعمال كما هو مصطلح القرآن. وفي الخصال في حديث الاربعمائة: وقال عليه السلام: لنا شفاعة ولاهل مودتنا شفاعة. أقول وهناك روايات كثيرة في شفاعة سيدة النساء فاطمة عليه السلام وشفاعة ذريتها غير الائمة وشفاعة المؤمنين حتى السقط منهم. ففي الحديث المعروف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: تناكحوا تناسلوا فإني أباهي بكم الامم يوم القيامة ولو بالسقط يقوم محبنطئا على باب الجنة فيقال له: أدخل فيقول: لا حتى يدخل أبواي الحديث. وفي الخصال: عن أبي عبد الله عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام قال: إن للجنة

[ 180 ]

ثمانية أبواب، باب يدخل منه النبيون والصديقون، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبونا، فلا ازال واقفا على الصراط أدعو واقول: رب سلم شيعتي و محبي وأنصاري ومن تولاني في دار الدنيا فإذا النداء من بطنان العرش، قد اجيبت دعوتك، وشفعت في شيعتك، ويشفع كل رجل من شيعتي ومن تولاني ونصرني وحارب من عاداني بفعل أو قول في سبعين ألفا من جيرانه وأقربائه، وباب يدخل منه ساير المسلمين ممن يشهد أن لا إله إلا الله ولم يكن في قلبه مقدار ذرة من بغضنا أهل البيت وفي الكافي: عن حفص المؤذن عن أبي عبد الله عليه السلام في رسالته إلى أصحابه قال عليه السلام: واعلموا أنه ليس يغني عنكم من الله أحد من خلقه لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك من سره أن ينفعه شفاعة الشافعين عند الله فليطلب إلى الله أن يرضى عنه. وفي تفسير الفرات: باسناده عن الصادق صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال جابر لابي جعفر عليه السلام: جعلت فداك يا بن رسول الله حدثني بحديث في جدتك فاطمة وساق الحديث يذكر فيه شفاعة فاطمة يوم القيامة إلى أن قال: قال أبو جعفر عليه السلام: فو الله لا يبقى في الناس إلا شاك أو كافر أو منافق، فإذا صاروا بين الطبقات نادوا كما قال الله تعالى فما لنا من شافعين لا صديق حميم فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين، قال أبو جعفر عليه السلام: هيهات هيهات منعوا ما طلبوا ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون. اقول: تمسكه عليه السلام بقوله تعالى: فما لنا من شافعين يدل على إستشعار دلالة الآيات على وقوع الشفاعة وقد تمسك بها النافون للشفاعة على نفيها وقد إتضح مما قدمناه في قوله تعالى: فما تنفعهم شفاعة الشافعين وجه دلالتها عليها في الجملة، فلو كان المراد مجرد النفي لكان حق الكلام أن يقال: فما لنا من شفيع ولا صديق حميم، فالاتيان في حيز النفي بصيغة الجمع يدل على وقوع شفاعة من جماعة وعدم نفعها في حقهم، مضافا إلى ان قوله تعالى: فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين بعد قوله: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم المسوق للتحسر تمن واقع في حيز التحسر ومن المعلوم أن التمني في حيز التحسر انما يكون بما يتضمن ما فقده ويشتمل على ما تحسر

[ 181 ]

عليه فيكون معنى قولهم: فلو أن لنا كرة، معناه يا ليتنا نرد فنكون من المؤمنين حتى ننال الشفاعة من الشافعين كما نالها المؤمنون، فالآية من الآيات الدالة على وقوع الشفاعة. وفي التوحيد: عن الكاظم عن أبيه عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنما شفاعتي لاهل الكبائر من امتي فأما المحسنون فما عليهم من سبيل، قيل: يا بن رسول الله كيف تكون الشفاعة لاهل الكبائر والله تعالى يقول: ولا يشفعون إلا لمن إرتضى ومن إرتكب الكبيرة لا يكون مرتضى ؟ فقال عليه السلام: ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلا سائه ذلك وندم عليه، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كفي بالندم توبه، وقال صلى الله عليه وآله وسلم من سرته حسنة وسائته سيئة فهو مؤمن، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ولم تجب له الشفاعة وكان ظالما والله تعالى ذكره يقول: ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع، فقيل له: يا بن رسول الله وكيف لا يكون مؤمنا من لا يندم على ذنب يرتكبه فقال: ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي وهو يعلم أن سيعاقب عليه إلا ندم على ما ارتكب، ومتى ندم كان تائبا مستحقا للشفاعة، ومتى لم يندم عليها كان مصرا والمصر لا يغفر له، لانه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب، ولو كان مؤمنا بالعقوبة لندم وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الاصرار، وأما قول الله عز وجل: ولا يشفعون الا لمن ارتضى فإنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله دينه، والدين الاقرار بالجزاء على الحسنات والسيئات، فمن ارتضى دينه ندم على ما ارتكبه من الذنوب لمعرفته بعاقبته في القيامة. اقول: قوله عليه السلام وكان ظالما، فيه تعريف الظالم يوم القيامة واشارة إلى ما عرفه به القرآن حيث يقول: فاذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون) الاعراف - 44 و 45، وهو الذي لا يعتقد بيوم المجازاة فلا يتأسف على فوت أوامر الله تعالى ولا يسوئه إقتحام محارمه إما بجحد جميع المعارف الحقة والتعاليم الدينية وإما بالاستهانة لامرها وعدم الاعتناء بالجزاء والدين يوم الجزاء والدين فيكون قوله به إستهزائا بأمره وتكذيبا له، وقوله عليه السلام: فتكون تائبا مستحقا للشفاعة، أي راجعا إلى الله ذا دين

[ 182 ]

مرضي مستحقا للشفاعة، وأما التوبة المصطلحة فهي بنفسها شفيعة منجية، وقوله عليه السلام: وقد قال النبي لا كبيرة مع الاستغفار، الخ تمسكه عليه السلام به من جهة أن الاصرار وهو عدم الانقباض بالذنب والندم عليه يخرج الذنب عن شأنه الذي له إلى شأن آخر وهو تكذيب المعاد والظلم بآيات الله فلا يغفر لان الذنب إنما يغفر إما بتوبة أو بشفاعة متوقفة على دين مرضي ولا توبة هناك ولا دين مرضيا. ونظير هذا المعنى واقع في رواية العلل عن أبي إسحق الليثي قال: قلت لابي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام: يا بن رسول الله أخبرني عن المؤمن المستبصر إذا بلغ في المعرفة وكمل هل يزني ؟ قال: اللهم لا، قلت: فيلوط ؟ قال اللهم لا، قلت فيسرق ؟ قال لا، قلت: فيشرب الخمر ؟ قال لا، قلت: فيأتي ؟ بكبيرة من هذه الكبائر أو فاحشة من هذه الفواحش ؟ قال: لا، قلت: فيذنب ذنبا ؟ قال: نعم وهو مؤمن مذنب مسلم، قلت: ما معنى مسلم ؟ قال: المسلم لا يلزمه ولا يصر عليه الحديث. وفي الخصال: بأسانيد عن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا كان يوم القيامة تجلى الله عز وجل لعبده المؤمن فيوقفه على ذنوبه ذنبا ذنبا ثم يغفر الله له لا يطلع الله له ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا ويستر عليه أن يقف عليه أحد، ثم يقول لسيئأته كوني حسنات. وعن صحيح مسلم مرفوعا إلى أبى ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يؤتي بالرجل يوم القيامة فيقال: أعرضوا عليه صغار ذنوبه ونحوا عنه كبارها فيقال: عملت يوم كذا وكذا وكذا وهو مقر لا ينكر وهو مشفق من الكبائر فيقال: اعطوه مكان كل سيئة حسنة فيقول: ان لي ذنوبا ما أراها هيهنا، قال: ولقد رايت رسول الله ضحك حتى بدت نواجذه. وفي الامالي: عن الصادق عليه السلام: إذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك وتعالى رحمته حتى يطمع إبليس في رحمتة. اقول: والروايات الثلاث الاخيرة من المطلقات والاخبار الدالة على وقوع

[ 183 ]

شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة من طرق أئمة أهل البيت وكذا من طرق أهل السنة والجماعة بالغة حد التواتر، وهي من حيث المجموع إنما تدل على معنى واحد وهو الشفاعة على المذنبين من أهل الايمان إما بالتخليص من دخول النار وإما بالاخراج منها بعد الدخول فيها، والمتيقن منها عدم خلود المذنبين من أهل الايمان في النار وقد عرفت أن القرآن أيضا لا يدل على أزيد من ذلك. (بحث فلسفي) البراهين العقلية وإن قصرت عن إعطاء التفاصيل الواردة كتابا وسنة في المعاد لعدم نيلها المقدمات المتوسطة في الاستنتاج على ما ذكره الشيخ إبن سينا لكنها تنال ما يستقبله الانسان من كمالاته العقلية والمثالية في صراطي السعادة والشقاوة بعد مفارقة نفسه بدنه من جهة التجرد العقلي والمثالي الناهض عليهما البرهان. فالانسان في بادئ أمره يحصل له من كل فعل يفعله هيئة نفسانيه وحال من احوال السعادة والشقاوة، ونعني بالسعادة ما هو خير له من حيث أنه إنسان، وبالشقاوة ما يقابل ذلك، ثم تصير تلك الاحوال بتكررها ملكة راسخة، ثم يتحصل منها صورة سعيدة أو شقية للنفس تكون مبدئا لهيئأت وصور نفسانية، فإن كانت سعيدة فأثارها وجودية ملائمة للصورة الجديدة، وللنفس التي هي بمنزلة المادة القابلة لها، وان كانت شقية فأثارها أمور عدمية ترجع بالتحليل إلى الفقدان والشر، فالنفس السعيدة تلتذ بآثارها بما هي انسان، وتلتذ بها بما هي انسان سعيد بالفعل، والنفس الشقية وان كانت آثارها مستأنسة لها وملائمة بما أنها مبدأ لها لكنها تتألم بها بما انها انسان، هذا بالنسبة إلى النفوس الكاملة في جانب السعادة والشقاوة، أعني الانسان السعيد ذاتا والصالح عملا والانسان الشقى ذاتا والطالح عملا، واما الناقصة في سعادتها وشقاوتها فالانسان السعيد ذاتا الشقى فعلا بمعنى ان يكون ذاته ذات صورة سعيدة بالاعتقاد الحق الثابت غير ان في نفسه هيآت شقية ردية من الذنوب والاثام إكتسبتها حين تعلقها بالبدن الدنيوي وارتضاعها من ثدي الاختيار، فهي امور قسرية غير ملائمة لذاتة، وقد اقيم البرهان على أن القسر لا يدوم، فهذه النفس سترزق التطهر منها في برزخ أو

[ 184 ]

قيمة على حسب قوة رسوخها في النفس، وكذلك الامر فيما للنفس الشقية من الهيآت العارضة السعيدة فانها ستسلب عنها وتزول سريعا أو بطيئا، واما النفس التي لم تتم لها فعلية السعادة والشقاوة في الحيوة الدنيا حتى فارقت البدن مستضعفة ناقصة فهي من المرجئين لامر الله عز وجل، فهذا ما يقتضيه البراهين في المجازاة بالثواب والعقاب المقتضية لكونها من لوازم الاعمال ونتائجها، لوجوب رجوع الروابط الوضعية الاعتبارية بالآخرة إلى روابط حقيقية وجودية هذا. ثم ان البراهين قائمة على أن الكمال الوجودي مختلف بحسب مراتب الكمال والنقص والشدة والضعف وهو التشكيك خاصة في النور المجرد فلهذه النفوس مراتب مختلفة في القرب والبعد من مبدأ الكمال ومنتهاه في سيرها الارتقائي وعودها إلى ما بدأت منها وهي بعضها فوق بعض، وهذه شأن العلل الفاعلية (بمعنى ما به) ووسائط الفيض، فلبعض النفوس وهي النفوس التامة الكاملة كنفوس الانبياء عليهم السلام وخاصة من هو في أرقي درجات الكمال والفعلية وساطة في زوال الهيئات الشقية الردية القسرية من نفوس الضعفاء، ومن دونهم من السعداء إذا لزمتها قسرا، وهذه هي الشفاعة الخاصة بأصحاب الذنوب. (بحث اجتماعي) الذي تعطيه اصول الاجتماع ان المجتمع الانساني لا يقدر على حفظ حياته وادامة وجوده الا بقوانين موضوعة معتبرة بينهم، لها النظارة في حاله، الحكومة في أعمال الافراد وشؤونهم، تنشأ عن فطرة المجتمع وغريزه الافراد المجتمعين بحسب الشرائط الموجودة، فتسير بهدايتها جميع طبقات الاجتماع كل على حسب ما يلائم شأنه ويناسب موقعه فيسير المجتمع بذلك سيرا حثيثا ويتولد بتألف أطرافه وتفاعل متفرقاته العدل الاجتماعي وهي موضوعة على مصالح ومنافع مادية يحتاج إليها إرتقاء الاجتماع المادي، وعلى كمالات معنوية كالاخلاق الحسنة الفاضلة التي يدعو إليها صلاح الاجتماع كالصدق في القول والوفاء بالعهد والنصح وغير ذلك، وحيث كانت القوانين والاحكام وضعية غير حقيقية احتاجت إلى تتميم تأثيرها، بوضع أحكام مقررة اخرى في المجازاة لتكون

[ 185 ]

هي الحافظة لحماها عن تعدي الافراد المتهوسين وتساهل آخرين، ولذلك كلما قويت حكومة (أي حكومة كانت) على إجراء مقررات الجزاء لم يتوقف المجتمع في سيره ولا ضل سائره عن طريقه ومقصده، وكلما ضعفت اشتد الهرج والمرج في داخله وانحرف عن مسيره فمن التعاليم اللازمة تثبيتها في الاجتماع تلقين أمر الجزاء، وإيجاد الايمان به في نفوس الافراد، ومن الواجب الاحتراز من أن يدخل في نفوسهم رجاء التخلص عن حكم الجزاء، وتبعة المخالفة والعصيان، بشفاعة أو رشوة أو بشئ من الحيل والدسائس المهلكة، ولذلك نقموا على الديانة المسيحية ما وقع فيها أن المسيح فدى الناس في معاصيهم بصلبه، فالناس يتكلون عليه في تخليصهم من يد القضاء يوم القيامة ويكون الدين إذ ذاك هادما للانسانية، مؤخرا للمدنية، راجعا بالانسان القهقرى كما قيل. وان الاحصاء يدل من أن المتدينين أكثر كذبا وأبعد من العدل من غيرهم وليس ذلك إلا انهم يتكلون بحقية دينهم، وإدخار الشفاعة في حقهم ليوم القيامة، فلا يبالون ما يعملون بخلاف غيرهم، فإنهم خلوا وغرائزهم وفطرهم ولم يبطل حكمها بما بطل به في المتدينين فحكمت بقبح التخلف عما يخالف حكم الانسانية والمدنية الفاضله. وبذلك عول جمع من الباحثين في تأويل ما ورد في خصوص الشفاعة في الاسلام وقد نطق به الكتاب وتواترت عليه السنة. ولعمري لا الاسلام تثبت الشفاعة بالمعنى الذي فسروها به، ولا الشفاعة التي تثبتها تؤثر الاثر الذي زعموه لها، فمن الواجب أن يحصل الباحث في المعارف الدينية وتطبيق ما شرعه الاسلام على هيكل الاجتماع الصالح والمدنية الفاضلة تمام ما رامه الاسلام من الاصول والقوانين المنطبقة على الاجتماع كيفية ذلك التطبيق، ثم يحصل ما هي الشفاعة الموعودة وما هو محلها وموقعها بين المعارف التي جاء بها. فيعلم اولا: أن الذي يثبته القرآن من الشفاعة هو ان المؤمنين لا يخلدون في النار يوم القيامة بشرط أن يلاقوا ربهم بالايمان المرضي والدين الحق فهو وعد وعده القرآن مشروطا ثم نطق بأن الايمان من حيث بقائه على خطر عظيم من جهة الذنوب ولاسيما الكبائر ولا سيما الادمان منها والامرار فيها، فهو شفا جرف الهلاك الدائم،

[ 186 ]

وبذلك يتحصل رجاء النجاة وخوف الهلاك، ويسلك نفس المؤمن بين الخوف والرجاء فيعبد ربه رغبة ورهبة، ويسير في حيوته سيرا معتدلا غير منحرف لا إلى خمود القنوط، ولا إلى كسل الوثوق. وثانيا: أن الاسلام قد وضع من القوانين الاجتماعية من مادياتها ومعنوياتها ما يستوعب جميع الحركات والسكنات الفردية والاجتماعية، ثم إعتبر لكل مادة من موادها ما هو المناسب له من التبعة والجزاء من دية وحد وتعزير إلى أن ينتهي إلى تحريم مزايا الاجتماع واللوم والذم والتقبيح، ثم تحفظ على ذلك بعد تحكيم حكومة أولياء الامر، بتسليط الكل على الكل بالامر بالمعروف والنهى عن المنكر ثم أحيى ذلك بنفخ روح الدعوة الدينية المضمنة بالانذار والتبشير بالعقاب والثواب في الآخرة، وبنى أساس تربيتة بتلقين معارف المبدا والمعاد على هذا الترتيب. فهذا ما يرومه الاسلام بتعليمه، جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصدقه التجارب الواقع في عهده وعهد من يليه حتى اثبت به أيدي الولاة في السلطنة الاموية ومن شايعهم في استبدادهم ولعبهم بأحكام الدين وابطالهم الحدود والسياسات الدينية حتى آل الامر إلى ما آل إليه اليوم وارتفعت أعلام الحرية وظهرت المدنية الغربية ولم يبق من الدين بين المسلمين إلا كصبابة في إناء فهذا الضعف البين في سياسة الدين وارتجاع المسلمين القهقرى هو الموجب لتنزلهم في الفضائل والفواضل وانحطاطهم في الاخلاق والآداب الشريفة وإنغمارهم في الملاهي والشهوات وخوضهم في الفواحش والمنكرات، هو الذي أجراهم على انتهاك كل حرمة وإقتراف كل ما يستشنعه حتى غير المنتحل بالدين لا ما يتخيله المعترض من إستناد الفساد إلى بعض المعارف الدينية التي لا غاية لها وفيها إلا سعادة الانسان في آجله وعاجله والله المعين، والاحصاء الذي ذكروها إنما وقع على جمعية المتدينين وليس عليهم قيم ولا حافظ قوي وعلى جمعية غير المنتحلين، والتعليم والتربية الاجتماعيان قيمان عليهم حافظان لصلاحهم الاجتماعي فلا يفيد فيما أراده شيئا وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب

[ 187 ]

يذبحون أبناءكم ويستحيون نسائكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم - 49. وإذ فرقنا بكم البحر فانجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون - 50. وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون - 51. ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون - 52. وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون - 53. وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم - 54. وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون - 55. ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون - 56. وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوي كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون - 57. وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين - 58. فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فانزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون - 59. وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا

[ 188 ]

أضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه إثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الارض مفسدين - 60. وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال اتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سئلتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون - 61. (بيان) قوله تعالى: و يستحيون نسائكم، أي يتركونهن احياء للخدمة من غير أن يقتلوهن كالابناء فالاستحياء طلب الحيوة ويمكن أن يكون المعنى ويفعلون ما يوجب زوال حيائهن من المنكرات، ومعنى يسومونكم يولونكم. قوله تعالى: وإذ فرقنا بكم الفرق مقابل الجمع كالفصل والوصل، والفرق في البحر الشق والباء للسببية ألملابسة أي فرقنا لانجائكم البحر أو لملابستكم دخول البحر. قوله تعالى: وإذ واعدنا موسى اربعين ليلة وقص تعالى القصة في سورة الاعراف بقوله: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة) الاعراف - 142، فعد المواعدة فيها أربعين ليلة إما للتغليب أو لانه كانت العشرة الاخيرة بمواعدة أخرى فالاربعون مجموع المواعدتين كما وردت به الرواية.

[ 189 ]

قوله تعالى: فتوبوا إلى بارئكم البارئ من الاسماء الحسنى كما قال تعالى: (هو الله الخالق البارئ المصور له الاسماء الحسنى) الحشر - 24، وقع في ثلاث مواضع من كلامه تعالى: اثنان منها في هذه الآية ولعله خص بالذكر هيهنا من بين الاسماء الملائمة معناه للمورد لانه قريب المعنى من الخالق والموجد، من برء يبرء برائا إذا فصل لانه يفصل الخلق من العدم أو الانسان من الارض، فكأنه تعالى يقول: هذه التوبة وقتلكم أنفسكم وإن كان أشق ما يكون من الاوامر لكن الله الذي أمركم بهذا الفناء والزوال بالقتل هو الذي برئكم فالذي أحب وجودكم وهو خير لكم هو يحب الآن حلول القتل عليكم فهو خير لكم وكيف لا يحب خيركم وقد برئكم، فاختيار لفظ البارئ باضافته إليهم في قوله: إلى بارئكم، وقوله عند بارئكم للاشعار بالاختصاص لاثارة المحبة. قوله تعالى: ذلكم خير لكم عند بارئكم ظاهر الآية وما تقدمها أن هذه الخطابات وما وقع فيها من عد أنواع تعدياتهم ومعاصيهم إنما نسبت إلى الكل مع كونها صادرة عن البعض لكونهم جامعة ذات قومية واحدة يرضى بعضهم بفعل بعض، وينسب فعل بعضهم إلى آخرين. لمكان الوحدة الموجودة فيهم، فما كل بنى اسرائيل عبدوا العجل، ولا كلهم قتلوا الانبياء إلى غير ذلك من معاصيهم وعلى هذا فقوله تعالى: فاقتلوا أنفسكم، إنما يعني به قتل البعض وهم الذين عبدوا العجل كما يدل عليه أيضا قوله تعالى: إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل، وقوله تعالى: ذلكم خير لكم عند بارئكم تتمة الحكاية من قول موسى كما هو الظاهر، وقوله تعالى: فتاب عليكم يدل على نزول التوبة وقبولها، وقد وردت الرواية أن التوبة نزلت ولما يقتل جميع المجرمين منهم. ومن هنا يظهر أن الامر كان أمرا إمتحانيا نظير ما وقع في قصة رؤيا إبراهيم عليه السلام وذبح اسماعيل (يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) لصافات - 105، فقد ذكر موسى عليه السلام فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم، وأمضى الله سبحانه قوله عليه السلام وجعل قتل البعض قتلا للكل وأنزل التوبة بقوله: فتاب عليكم

[ 190 ]

قوله تعالى: رجزا من السماء، الرجز العذاب. قوله تعالى: ولا تعثوا، العيث والعثى أشد الفساد. قوله تعالى: وقثائها وفومها، القثاء الخيار والفوم الثوم أو الحنطة. قوله تعالى: وبائوا بغضب، أي رجعوا. قوله تعالى: ذلك بأنهم كانوا يكفرون، تعليل لما تقدمه. قوله تعالى: ذلك بما عصوا، تعليل للتعليل فعصيانهم ومداومتهم للاعتداء هو الموجب لكفرهم بالآيات وقتلهم الانبياء كما قال تعالى: (ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوآى أن كذبوا بأيات الله وكانوا بها يستهزئون) الروم - 10، وفي التعليل بالمعصية وجه سيأتي في البحث الآتي (بحث روائي) في تفسير العياشي: في قوله تعالى: وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة) عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان في العلم والتقدير ثلاثين ليلة ثم بدا منه فزاد عشرا فتم ميقات ربه الاول والآخر أربعين ليلة. اقول: والرواية تؤيد ما مر أن الاربعين مجموع المواعدتين. وفي الدر المنثور: عن علي عليه السلام: في قوله تعالى: وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم الآية، قال: قالوا لموسى: ما توبتنا ؟ قال: يقتل بعضكم بعضا فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وإبنه والله لا يبالى من قتل حتى قتل منهم سبعون الفا فأوحى الله إلى موسى مرهم فليرفعوا أيديهم وقد غفر لمن قتل وتيب على من بقى. وفي تفسير القمي: قال عليه السلام: أن موسى لما خرج إلى الميقات ورجع إلى قومه وقد عبدوا العجل قال لهم موسى: يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فأقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فقالوا له: كيف نقتل

[ 191 ]

أنفسنا فقال لهم موسى: أغدوا كل واحد منكم إلى بيت المقدس ومعه سكين أو حديدة أو سيف فإذا صعدت أنا منبر بني اسرائيل فكونوا أنتم ملتثمين لا يعرف أحد صاحبه فأقتلوا بعضكم بعضا، فاجتمعوا سبعين ألف رجل ممن كان عبدوا العجل إلى بيت المقدس فلما صلى بهم موسى وصعد المنبر أقبل بعضهم يقتل بعضا حتى نزل جبرائيل فقال: قل لهم: يا موسى إرفعوا القتل فقد تاب الله لكم، فقتل منهم عشرة آلاف وأنزل الله: ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم اقول: والرواية كما ترى تدل على كون قوله تعالى: ذلكم خير لكم عند بارئكم مقولا لموسى ومقولا له سبحانه فيكون إمضائا لكلمة قالها موسى وكشفا عن كونها تامة على خلاف ما يلوح من الظاهر من كونها ناقصة فإن الظاهر يعطي أن موسى جعل قتل الجميع خيرا لهم عند بارئهم، وقد قتل منهم البعض دون الجميع فجعل سبحانه، ما وقع من القتل هو الخير الذي ذكره موسى عليه السلام كما مر. وفي تفسير القمي أيضا: في قوله تعالى: وظللنا عليكم الغمام الآية أن بني اسرائيل لما عبر موسى بهم البحر نزلوا في مفازة فقالوا: يا موسى أهلكتنا وقتلتنا وأخرجتنا من العمران إلى مفازة لا ظل، ولا شجر، ولا ماء. وكانت تجئ بالنهار غمامة تظلهم من الشمس وينزل عليهم بالليل المن فيقع على النبات والشجر والحجر فيأكلونه وبالعشي يأتيهم طائر مشوي يقع على موائدهم فإذا أكلوا وشربوا طار ومر وكان مع موسى حجر يضعه وسط العسكر ثم يضر به بعصاه فتنفجر منها إثنتا عشرة عينا كما حكى الله فيذهب إلى كل سبط في رحله وكانوا اثنى عشر سبطا وفي الكافي: في قوله تعالى: وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال: إن الله أعز وأمنع من أن يظلم أو ينسب نفسه إلى الظلم ولكنه خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه وولايتنا ولايته، ثم أنزل الله بذلك قرآنا على نبيه فقال: وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. قال الراوي قلت، هذا تنزيل، قال: نعم. اقول: وروى ما يقرب منه أيضا عن الباقر عليه السلام وقوله عليه السلام أمنع من

[ 192 ]

أن يظلم بالبناء للمفعول تفسير لقوله تعالى: وما ظلمونا، وقوله: أو ينسب نفسه إلى الظلم بالبناء للفاعل: وقوله: ولكنه خلطنا بنفسه أي خلطنا معاشر الانبياء والاوصياء والائمة بنفسه، وقوله: قلت: هذا تنزيل قال: نعم وجهه أن النفي في هذه الموارد وأمثالها إنما يصح فيما يصح فيه الاثبات أو يتوهم صحته، فلا يقال للجدار، أنه لا يبصر أو لا يظلم إلا لنكتة وهو سبحانه أجل من أن يسلم في كلامه توهم الظلم عليه، أو جاز وقوعه عليه فالنكتة في هذا النفي الخلط المذكور لان العظماء يتكلمون عن خدمهم وأعوانهم. وفي تفسير العياشي: في قوله تعالى: ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله الآية عن الصادق عليه السلام أنه قرأ هذه الآية: ذلك بأنهم كانوا يكفرون بأيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون فقال: والله ما ضربوهم بأيديهم ولا قتلوهم بأسيافهم ولكن سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فأخذوا عليها فقتلوا فكان قتلا واعتداء ومصيبة. اقول: وفي الكافي عنه عليه السلام مثله وكأنه عليه السلام استفاد ذلك من قوله تعالى: ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون فإن القتل وخاصة قتل الانبياء والكفر بآيات الله لا يعلل بالعصيان بل الامر بالعكس على ما يوجبه الشدة والاهمية لكن العصيان بمعنى عدم الكتمان والتحفظ مما يصح التعليل المذكور به. إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون - 62. (بيان) تكرار الايمان ثانيا وهو الاتصاف بحقيقتة كما يعطيه السياق يفيد أن المراد

[ 193 ]

بالذين آمنوا في صدر الآية هم المتصفون بالايمان ظاهرا المتسمون بهذا الاسم فيكون محصل المعنى أن الاسماء والتسمي بها مثل المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين لا يوجب عند الله تعالى أجرا ولا أمنا من العذاب كقولهم: لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، وإنما ملاك الامر وسبب الكرامة والسعادة حقيقة الايمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، ولذلك لم يقل من آمن منهم بإرجاع الضمير إلى الموصول اللازم في الصلة لئلا يكون تقريرا للفائدة في التسمي على ما يعطيه النظم كما لا يخفى وهذا مما تكررت فيه آيات القرآن أن السعادة والكرامة تدور مدار العبودية، فلا إسم من هذه الاسماء ينفع لمتسميه شيئا، ولا وصف من أوصاف الكمال يبقى لصاحبه وينجيه إلا مع لزوم العبودية، الانبياء ومن دونهم فيه سواء، فقد قال تعالى في أنبيائه بعد ما وصفهم بكل وصف جميل: (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) الانعام - 88، وقال تعالى في أصحاب نبيه ومن آمن معه مع ما ذكر من عظم شأنهم وعلو قدرهم: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) الفتح - 29، فأتى بكلمة منهم وقال في غيرهم ممن اوتي آيات الله تعالى: (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الارض وإتبع هواه) الاعراف - 176، إلى غير ذلك من الآيات الناصة على أن الكرامة بالحقيقة دون الظاهر. (بحث روائي) في الدر المنثور: عن سلمان الفارسي قال: سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن اهل دين كنت معهم، فذكر من صلاتهم وعبادتهم فنزلت: (إن الذين آمنوا والذين هادوا) الآية. اقول: وروي أيضا نزول الآية في أصحاب سلمان بعدة طرق أخرى. وفي المعاني: عن ابن فضال قال: قلت للرضا عليه السلام لم سمي النصاري نصارى قال: لانهم كانوا من قرية اسمها ناصرة من بلاد الشام نزلتها مريم وعيسى بعد رجوعهما من مصر.

[ 194 ]

اقول: وفي الرواية بحث سنتعرض له في قصص عيسى عليه السلام من سورة آل عمران انشاء الله. وفي الرواية ان اليهود سموا باليهود لانهم من ولد يهودا بن يعقوب. وفي تفسير القمي: قال: قال عليه السلام: الصابئون قوم لا مجوس ولا يهود ولا نصارى ولا مسلمون وهم يعبدون النجوم والكواكب. اقول: وهي الوثنية، غير أن عبادة الاصنام غير مقصورة عليهم بل الذي يخصهم عبادة أصنام الكواكب. (بحث تاريخي) ذكر أبو ريحان البيروني في الآثار الباقية ما لفظه: واول المذكورين منهم يعني المتنبئين يوذاسف وقد ظهر عند مضي سنة من ملك طهمورث بأرض الهند وأتي بالكتابة الفارسية، ودعا إلى ملة الصابئين فأتبعه خلق كثير، وكانت الملوك البيشدادية وبعض الكيانية ممن كان يستوطن بلخ يعظمون النيرين والكواكب وكليات العناصر ويقدسونها إلى وقت ظهور زرادشت عند مضي ثلاثين سنة من ملك بشتاسف، وبقايا اؤلئك الصابئين بحران ينسبون إلى موضعهم، فيقال لهم: الحرانية وقد قيل: انها نسبة إلى هادان بن ترخ اخى ابراهيم عليه السلام وانه كان من بين رؤسائهم اوغلهم في الدين واشدهم تمسكا به، وحكى عنه ابن سنكلا النصراني في كتابه الذي قصد فيه نقض نحلتهم، فحشاه بالكذب والاباطيل، انهم يقولون ان ابراهيم عليه السلام انما خرج عن جملتهم لانه خرج في قلفته برص وأن من كان به ذلك فهو نجس لا يخالطونه فقطع قلفته بذلك السبب يعني اختتن، ودخل إلى بيت من بيوت الاصنام فسمع صوتا من صنم يقول له: يا ابراهيم خرجت من عندنا بعيب واحد، وجئتنا بعيبين، أخرج ولا تعاود المجئ الينا فحمله الغيظ على أن جعلها جذاذا، وخرج من جملتهم ثم انه ندم بعد ما فعله، وأراد ذبح ابنه لكوكب المشتري على عادتهم في ذبح اولادهم، زعم فلما علم كوكب المشتري صدق توبته فداه بكبش.

[ 195 ]

وحكى عبد المسيح بن اسحاق الكندي عنهم في جوابه عن كتاب عبد الله بن اسماعيل الهاشمي، انهم يعرفون بذبح الناس ولكن ذلك لا يمكنهم اليوم جهرا ونحن لا نعلم منهم الا انهم اناس يوحدون الله، وينزهونه عن القبائح، ويصفونه بالسلب لا الايجاب كقولهم: لا يحد، ولا يرى، ولا يظلم، ولا يجور ويسمونه بالاسماء الحسنى مجازا، إذ ليس عندهم صفة بالحقيقة، وينسبون التدبير إلى الفلك وأجرامه، ويقولون بحياتها نطقها وسمعها وبصرها، ويعظمون الانوار، ومن آثارهم القبة التي فوق محراب عند المقصورة من جامع دمشق، وكان مصلاهم، كان اليونانيون والروم على دينهم، ثم صارت في أيدي اليهود، فعملوها كنيستهم، ثم تغلب عليها النصارى، فصيروها بيعة إلى أن جاء الاسلام وأهله فأتخذوها مسجدا، وكانت لهم هياكل واصنام بأسماء الشمس معلومة الاشكال كما ذكرها أبو معشر البلخي في كتابه في بيوت العبادات، مثل هيكل بعلبك كان لصنم الشمس، وقران فانها منسوبة إلى القمر، وبنائها على صورته كالطيلسان، وبقربها قرية تسمى سلمسين، واسمها القديم صنم سين، أي صنم القمر، وقرية اخرى تسمى ترع عوز أي باب الزهرة ويذكرون أن الكعبة واصنامها كانت لهم، وعبدتها كانوا من جملتهم، وان اللات كان باسم زحل، والعزى باسم الزهرة ولهم أنبياء كثيرة اكثرهم فلاسفة يونان كهرمس المصري واغاذيمون وواليس وفيثاغورث وباباسوار جد افلاطون من جهة امه وامثالهم، ومنهم من حرم عليه السمك خوفا أن يكون رغاوة والفرخ لانه ابدا محموم، والثوم لانه مصدع محرق للدم أو المني الذي منه قوام العالم، والباقلاء لانه يغلظ الذهن ويفسده، وأنه في أول الامر إنما نبت في جمجمة إنسان، ولهم ثلاث صلوات مكتوبات. أولها: عند طلوع الشمس ثماني ركعات. والثانية: عند زوال الشمس عن وسط السماء خمس ركعات، وفي كل ركعة من صلاتهم ثلاث سجدات، ويتنفلون بصلاة في الساعة الثانية من النهار، واخرى في التاسعة من النهار. والثالثة: في الساعة الثالثة من الليل، ويصلون على طهر ووضوء، ويغتسلون من الجنابة ولا يختتنون إذ لم يؤمروا بذلك زعموا واكثر احكامهم في المناكح والحدود مثل احكام المسلمين، وفي التنجس عند مس الموتى، وأمثال ذلك شبيهة بالتورية، ولهم

[ 196 ]

قرابين متعلقة بالكواكب واصنامها وهياكلها، وذبائح يتولاها كهنتهم وفاتنوهم، ويستخرجون من ذلك علم ما عسى يكون المقرب وجواب ما يسأل عنه، وقد يسمى هرمس بإدريس الذي ذكر في التوراة أخنوخ، وبعضهم زعم أن يوذاسف هو هرمس. وقد قيل: إن هؤلاء الحرانية ليسوا هم الصابئة بالحقيقة، بل هم المسمون في الكتب بالحنفاء والوثنية، فإن الصابئة هم الذين تخلفوا ببابل من جملة الاسباط الناهضة في ايام كورش وايام ارطحشست إلى بيت المقدس، ومالوا إلى شرائع المجوس فصبوا إلى دين بختنصر، فذهبوا مذهبا ممتزجا من المجوسية واليهودية، كالسامرة بالشام، وقد توجد اكثرهم بواسط وسواد العراق بناحية جعفر والجامدة ونهرى الصلة منتمين إلى انوش بن شيث، ومخالفين للحرانية، عائبين مذاهبهم، لا يوافقونهم الا في أشياء قليلة، حتى انهم يتوجهون في الصلاة إلى جهة القطب الشمالي والحرانية إلى الجنوبي، وزعم بعض أهل الكتاب أنه كان لمتوشلخ ابن غير ملك يسمى صابي، وأن الصابئة سموا به، وكان الناس قبل ظهور الشرائع وخروج يوذاسف شمينين سكان الجانب الشرقي من الارض وكانوا عبدة اوثان، وبقاياهم الآن بالهند والصين والتغزغز ويسميهم أهل خراسان شمنان، وآثارهم وبهاراتهم وأصنامهم وفرخاراتهم ظاهرة في ثغور خراسان المتصلة بالهند، ويقولون: بقدم الدهر، وتناسخ الارواح وهوي الفلك في خلا غير متناه، ولذلك يتحرك على استدارة فإن الشئ المستدير إذا أزيل ينزل مع دوران، زعموا ومنهم من أقر بحدوث العالم، وزعم أن مدته ألف الف سنة إنتهى موضع الحاجة. أقول: وما نسبه إلى بعض من تفسير الصائبة بالمذهب الممتزج من المجوسية واليهودية مع أشياء من الحرانية هو الاوفق بما في الآية فإن ظاهر السياق أن التعداد لاهل الملة. إذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة وأذكروا ما فيه لعلكم تتقون - 63. ثم توليتم

[ 197 ]

من بعد ذلك فلو لا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين - 64. ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فلنا لهم كونوا قردة خاسئين - 65. فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين - 66. وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا اتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين - 67. قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون - 68. قالوا أدع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين - 69. قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إنشاء الله لمهتدون - 70. قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقى الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون - 71. وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون - 72. فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون - 73. ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الآنهار وأن منها لما

[ 198 ]

يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون - 74. (بيان) قوله تعالى: ورفعنا فوقكم الطور، الطور هو الجبل كما بدله منه في قوله تعالى: (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة) الاعراف - 171، والنتق هوالجذب والاقتلاع، وسياق الآية حيث ذكر أخذ الميثاق أولا والامر بأخذ ما أوتوا وذكر ما فيه أخيرا ووضع رفع الطور فوقهم بين الامرين مع السكوت عن سبب الرفع وغايتها يدل على أنه كان لارهابهم بعظمة القدرة من دون أن يكون لاجبارهم وإكراههم على العمل بما اوتوه وإلا لم يكن لاخذ الميثاق وجه، فما ربما يقال: أن رفع الجبل فوقهم لو كان على ظاهره كان آية معجزة وأوجب إجبارهم وإكراههم على العمل. وقد قال سبحانه: (لا إكراه في الدين) البقرة - 256، وقال تعالى: أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس - 99، غير وجيه فإن الآية كما مر لا تدل على أزيد من الاخافة والارهاب ولو كان مجرد رفع الجبل فوق بني اسرائيل إكراها لهم على الايمان أو العمل، لكان أغلب معجزات موسى موجبة للاكراه، نعم هذا التأويل وصرف الآية عن ظاهرها، والقول بأن بني اسرائيل كانوا في أصل الجبل فزلزل وزعزع حتى أظل رأسه عليهم، فظنوا أنه واقع بهم فعبر عنها برفعه فوقهم أو نتقه فوقهم، مبنى على أصل إنكار المعجزات وخوارق العادات، وقد مر الكلام فيها ولو جاز أمثال هذه التأويلات لم يبق للكلام ظهور، ولا لبلاغة الكلام وفصاحتة أصل تتكي عليه وتقوم به. قوله تعالى: لعلكم تتقون. لعل كلمة ترج واللازم في الترجي صحتة في الكلام سواء كان قائما بنفس المتكلم أو المخاطب أو بالمقام، كان يكون المقام مقام رجاء وإن لم يكن للمتكلم والمخاطب رجاء فيه وهو لا يخلو عن شوب جهل بعاقبة الامر فالرجاء في كلامه تعالى إما بملاحظة المخاطب أو بملاحظة المقام. وأما هو تعالى فيستحيل نسبة الرجاء إليه لعلمه بعواقب الامور، كما نبه عليه الراغب في مفرداته.

[ 199 ]

قوله تعالى: كونوا قردة خاسئين أي صاغرين. قوله تعالى: فجعلناها نكالا أي عبرة يعتبر بها، والنكال هو ما يفعل من الاذلال والاهانة بواحد ليعتبر به آخرون. قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) الخ، هذه قصة بقرة بني اسرائيل، وبها سميت السورة سورة البقرة. والامر في بيان القرآن لهذه القصة عجيب فان القصة فصل بعضها عن بعض حيث قال تعالى: (وإذ قال موسى لقومه إلى آخره) ثم قال: (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها) ثم إنه أخرج فصل منها من وسطها وقدم أولا ووضع صدر القصة وذيلها ثانيا، ثم إن الكلام كان مع بني اسرائيل في الآيات السابقة بنحو الخطاب فانتقل بالالتفات إلى الغيبة حيث قال: (وإذ قال موسى لقومه ثم التفت إلى الخطاب ثانيا بقوله: وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها. أما الالتفات في قوله تعالى: وإذ قال موسى لقومه: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، ففيه صرف الخطاب عن بني إسرائيل، وتوجيهه إلى النبي في شطر من القصة وهو أمر ذبح البقرة وتوصيفها ليكون كالمقدمة الموضحة للخطاب الذي سيخاطب به بنو إسرائيل بقوله: وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون، فقلنا إضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون، الآيتان في سلك الخطابات السابقة فهذه الآيات الخمس من قوله: وإذ قال موسى إلى قوله: وما كادوا يفعلون، كالمعترضة في الكلام تبين معنى الخطاب التالي مع ما فيها من الدلالة على سوء ادبهم وإيذائهم لرسولهم، برميه بفضول القول ولغو الكلام، مع ما فيه من تعنتهم وتشديدهم واصرارهم في الاستيضاح والاستفهام المستلزم لنسبة الابهام إلى الاوامر الالهية وبيانات الانبياء مع ما في، كلامهم من شوب الاهانة والاستخفاف الظاهر بمقام الربوبية فانظر إلى قول موسى عليه السلام لهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة وقولهم: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي، وقولهم ثانيا: ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها، وقولهم ثالثا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ان البقر تشابه علينا، فأتوا في الجميع بلفظ ربك من غير أن يقولوا ربنا، ثم كرروا قولهم: ما هي وقالوا ان البقر تشابه علينا فادعوا التشابه بعد البيان، ولم يقولوا: ان البقرة تشابهت علينا بل قالوا: إن البقر

[ 200 ]

تشابه علينا كأنهم يدعون أن جنس البقر متشابه ولا يؤثر هذا إلاثر إلا بعض أفراد هذا النوع وهذا المقدار من البيان لا يجزي في تعيين الفرد المطلوب وتشخيصه، مع ان التأثير لله عز إسمه لا للبقرة، وقد أمرهم أن يذبحوا بقرة فاطلق القول ولم يقيده بقيد، وكان لهم أن يأخذوا بإطلاقه، ثم انظر إلى قولهم لنبيهم: أتتخذنا هزوا، المتضمن لرميه عليه السلام بالجهالة واللغو حتى نفاه عن نفسه بقوله: أعوذ بالله أن اكون من الجاهلين، وقولهم أخيرا بعد تمام البيان الالهي: الآن جئت بالحق، الدال على نفي الحق عن البيانات السابقة المستلزم لنسبة الباطل إلى طرز البيان الالهى والتبليغ النبوي. وبالجملة فتقديم هذا الشطر من القصة لابانة الامر في الخطاب التالي كما ذكر مضافا إلى نكتة اخرى، وهي أن قصة البقرة غير مذكورة في التوراة الموجودة عند اليهود اليوم فكان من الحري أن لا يخاطبوا بهذه القصة اصلا أو يخاطبوا به بعد بيان ما لعبت به أيديهم من التحريف، فأعرض عن خطابهم اولا بتوجيه الخطاب إلى النبي ثم بعد تثبيت الاصل، عاد إلى ما جرى عليه الكلام من خطابهم المتسلسل، نعم في هذا المورد من التوراة حكم لا يخلو عن دلالة ما على وقوع القصة وهاك عبارة التوراة. قال في الفصل الحادي والعشرين من سفر تثنيه الاشتراع: إذا وجد قتيل في الارض التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها واقعا في الحقل لا يعلم من قتله يخرج شيوخك وقضاتك ويقيسون إلى المدن التي حول القتيل فالمدينة القريبة من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من البقر لم يحرث عليها لم تجر بالغير وينحدر شيوخ تلك المدينة بالعجلة إلى واد دائم السيلان لم يحرث فيه ولم يزرع ويكسرون عنق العجلة في الوادي ثم يتقدم الكهنة بني لاوي لانه إياهم اختار الرب إلهك ليخدموه ويباركوا بإسم الرب وحسب قولهم تكون كل خصومة وكل ضربة ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجلة المكسورة العنق في الوادي ويصرخون ويقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم وأعيننا لم تبصر إغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب ولا تجعل دم برئ في وسط شعبك اسرائيل فيغفر لهم الدم نتهى. إذا عرفت هذا على طوله، علمت أن بيان هذه القصة على هذا النحو ليس من قبيل

[ 201 ]

فصل لقصة، بل القصة مبينة على نحو الاجمال في الخطاب الذي في قوله: وإذ قتلتم نفسا الخ وشطر من القصة مأتية بها ببيان تفصيلي في صورة قصة اخرى لنكتة دعت إليه. فقوله تعالى: وإذ قال موسى لقومه خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو كلام في صورة قصة وانما هي مقدمة توضيحية للخطاب التالي لم يذكرمعها السبب الباعث على هذا الامر والغاية المقصودة منها بل اطلقت إطلاقا ليتنبه بذلك نفس السامع وتقف موقف التجسس، وتنتشط إذا سمعت أصل القصة، ونالت الارتباط بين الكلامين، ولذلك لما سمعت بنو اسرائيل قوله: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة تعجبوا من ذلك ولم يحملوه إلا على أن نبي الله موسى يستهزء بهم لعدم وجود رابطة عندهم بين ذبح البقرة وما يسألونه من فصل الخصومة والحصول على القاتل قالوا أتتخذنا هزوا وسخرية. وانما قالوا ذلك لفقدهم روح الاطاعة والسمع وإستقرار ملكة الاستكبار والعتو فيهم، وقولهم: إنا لا نحوم حول التقليد المذموم، وانما نؤمن بما نشاهده ونراه كما قالوا لموسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة وانما وقعوا فيما وقعوا من جهة استقلالهم في الحكم والقضاء فيما لهم ذلك، وفيما ليس لهم ذلك فحكموا بالمحسوس على المعقول فطالبوا معاينة الرب بالحس الباصر وقالوا: (يا موسى إجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون) الاعراف - 138، وزعموا أن نبيهم موسى مثلهم يتهوس كتهوسهم، ويلعب كلعبهم، فرموه بالاستهزاء والسفه والجهالة حتى رد عليهم، وقال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين، وانما استعاذ بالله ولم يخبر عن نفسه بأنه ليس يجاهل لان ذلك منه عليه السلام أخذ بالعصمة الالهية التي لا تتخلف لا الحكمة الخلقية التي ربما تتخلف. وزعموا أن ليس للانسان أن يقبل قولا إلا عن دليل، وهذا حق لكنهم غلطوا في زعمهم أن كل حكم يجب العثور على دليله تفصيلا ولا يكفي في ذلك الاجمال ومن أجل ذلك طالبوا تفصيل أوصاف البقرة لحكمهم أن نوع البقر ليس فيه خاصة الاحياء، فإن كان ولا بد فهو في فرد خاص منه يجب تعيينه بأوصاف كاملة البيان ولذلك قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي، وهذا تشديد منهم على أنفسهم من غير جهة فشدد الله عليهم، وقال موسى إنه يقول إنها بقرة لا فارض، إي ليست بمسنة إنقطعت

[ 202 ]

ولادتها ولا بكر أي لم تلد عوان بين ذلك، والعوان من النساء والبهائم ما هو في منتصف السن أي واقعة في السن بين ما ذكر من الفارض والبكر، ثم ترحم عليهم ربهم فوعظهم أن لا يلحوا في السؤال، ولا يشددوا على أنفسهم ويقنعوا بما بين لهم فقال: فافعلوا ما تؤمرون، لكنهم لم يرتدعوا بذلك بل قالوا أدع لنا ربك يبين لنا ما لونها، قال إنه يقول انها بقرة صفراء فاقع شديد الصفرة في صفاء لونها تسر الناظرين وتم بذلك وصف البقرة بيانا، واتضح أنها ما هي وما لونها وهم مع ذلك لم يرضوا به، وأعادوا كلامهم الاول، من غير تحجب وانقباض وقالواأدع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا انشاء الله لمهتدون، فأجابهم ثانيا بتوضيح في ماهيتها ولونها وقال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول أي غير مذللة بالحرث والسقي تثير الارض بالشيار ولا تسقي الحرث فلما تم عليهم البيان ولم يجدوا ما يسألونه قالوا الآن جئت بالحق قول من يعترف بالحقيقة بالالزام والحجة من غير أن يجد إلى الرد سبيلا، فيعترف بالحق إضطرارا، ويعتذر عن المبادرة إلى الانكار بأن القول لم يكن مبينا من قبل، ولا بينا تاما. والدليل على ذلك قوله تعالى: فذبحوها وما كادوا يفعلون. قوله تعالى: وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها، شروع في أصل القصة والتدارء هو التدافع من الدرء بمعنى الدفع فقد كانوا قتلوا نفسا - وكل طائفة منهم يدفع الدم عن نفسها إلى غيرها - واراد الله سبحانه إظهار ما كتموه. قوله تعالى: فقلنا إضربوه ببعضها، أول الضميرين راجع إلى النفس باعتبار أنه قتيل، وثانيهما إلى البقرة وقد قيل: إن المراد بالقصة بيان أصل تشريع الحكم حتى ينطبق على الحكم المذكور في التورية الذي نقلناه، والمراد بإحياء الموتى العثور بوسيلة تشريع هذا الحكم على دم المقتول، نظير ما ذكره تعالى بقوله: (ولكم في القصاص حيوة) البقرة - 179، من دون أن يكون هناك إحياء بنحو الاعجاز هذا، وأنت خبير بأن سياق الكلام وخاصة قوله تعالى: فقلنا إضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتي يأبى ذلك. قوله تعالى: ثم قست قلوبكم فهي كالحجارة أو أشد قسوة القسوة، في القلب بمنزلة الصلابة في الحجر وكلمة أو بمعنى بل، والمراد بكونها بمعنى بل إنطباق معناه على موردها،

[ 203 ]

وقد بين شده قسوة قلوبهم بقوله: وإن من الحجرة لما يتفجر منه الانهار وقوبل فيه بين الحجارة والماء لكون الحجارة يضرب بها المثل في الصلابة ككون الماء يضرب به المثل في اللين فهذه الحجارة على كمال صلابتها يتفجر منها الانهار على لين مائها وتشقق فيخرج منها الماء على لينه وصلابتها، ولا يصدر من قلوبهم حال يلائم الحق، ولا قول حق يلائم الكمال الواقع، قوله تعالى: وإن منها لما يهبط من خشية الله، وهبوط الحجارة ما نشاهد من إنشقاق الصخور على قلل الجبال، وهبوط قطعات منها بواسطة الزلازل، وصيرورة الجمد الذي يتخللها في فصل الشتاء مائا في فصل الربيع إلى غير ذلك، وعد هذا الهبوط المستند إلى أسبابها الطبيعية هبوطا من خشية الله تعالى لان جميع الاسباب منتهية إلى الله سبحانه فإنفعال الحجارة في هبوطها عن سببها الخاص بها إنفعال عن أمر الله سبحانه إياها بالهبوط، وهي شاعرة لامر ربها شعورا تكوينيا، كما قال تعالى: (وإن من شئ إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم) اسرى - 44، وقال تعالى: (كل له قانتون) البقرة - 116، والانفعال الشعوري هو الخشية فهي هابطة من خشية الله تعالى، فالآية جارية مجرى قوله تعالى: (ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفتة) الرعد - 13: وقوله تعالى: (ولله يسجد من في السموات والارض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال) الرعد - 15، حيث عد صوت الرعد تسبيحا بالحمد وعد الظلال ساجدة لله سبحانه إلى غير ذلك من الآيات التي جرى القول فيها مجرى التحليل كما لا يخفى. وبالجملة فقوله: وإن منها لما يهبط، بيان ثان لكون قلوبهم أقسى من الحجارة فإن الحجارة تخشى الله تعالى، فتهبط من خشيتة، وقلوبهم لا تخشى الله تعالى ولا تهابه. (بحث روائي) في محاسن: عن الصادق عليه السلام: في قول الله خذوا ما آتيناكم بقوة، أقوة

[ 204 ]

لابدان أو قوة القلب ؟ قال عليه السلام: فيهما جميعا. أقول: ورواه العياشي أيضا في تفسيره. وفي تفسير العياشي. عن الحلبي في قوله تعالى: وأذكروا ما فيه، قال: قال أذكروا ما فيه وأذكروا ما في تركه من العقوبة. أقول: وقد استفيد ذلك من المقام من قوله تعالى: ورفعنا فوقكم الطور خذوا. وفي الدر المنثور: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو لا أن بني إسرائيل قالوا وإنا إنشاء الله لمتهدون ما أعطوا أبدا ولو أنهم إعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لاجزات عنهم ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم. وفي تفسير القمي: عن إبن فضال قال: سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول: إن الله أمر بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة وإنما كانوا يحتاجون إلى ذنبها فشدد الله عليهم. وفي المعاني وتفسير العياشي: عن البزنطي قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: إن رجلا من بني إسرائيل قتل قرابة له ثم أخذه وطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ثم جاء يطلب بدمه فقالوا لموسى ان سبط آل فلان قتلوا فلانا فأخبر من قتله قال: إئتوني ببقرة قالوا: أتتخذنا هزوا ؟ قال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ولو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم، قالوا أدع لنا ربك يبين لنا ما هي ؟ قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر يعني لا صغيرة ولا كبيرة عوان بين ذلك ولو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ولو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم قالوا أدع لنا ربك يبين لنا ما هي ان البقر تشابه علينا وإنا إنشاء الله لمهتدون. قال: إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها. قالوا الآن جئت بالحق فطلبوها فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل فقال لا أبيعها إلا

[ 205 ]

بملؤ مسك ذهبا، فجاءوا إلى موسى وقالوا له ذلك قال إشتروها فاشتروها وجاؤا بها فأمر بذبحها ثم أمر إن يضربوا الميت بذنبها فلما فعلوا ذلك حيي المقتول وقال يا رسول الله إن إبن عمي قتلني، دون من إدعى عليه قتلي، فعلموا بذلك قاتله فقال لرسول الله موسى بعض أصحابه إن هذه البقرة لها نبأ فقال وما هو ؟ قال إن فتى من بني إسرائيل كان بارا بابيه وإنه اشترى بيعا فجاء إلى أبيه والاقاليد تحت رأسه فكره أن يوقظه فترك ذلك البيع فاستيقظ أبوه فأخبره فقال أحسنت، هذه البقرة فهي لك عوضا مما فاتك فقال له رسول الله موسى أنظر إلى البر ما بلغ بأهله. اقول: والروايات كما ترى منطبقة على إجمال ما استفدناه من الآيات الشريفة. (بحث فلسفي) السورة كما ترى مشتملة على عدة من الآيات المعجزة، في قصص بني إسرائيل وغيرهم، كفرق البحر وإغراق آل فرعون في قوله تعالى: وإذ فرقنا بكم البحر أغرقنا آل فرعون الآية، وأخذ الصاعقة بني إسرائيل وإحيائهم بعد الموت في قوله تعالى: وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك الآية، وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى عليهم في قوله تعالى: وظللنا عليكم الغمام الآية، وإنفجار العيون من الحجر في قوله تعالى: وإذ إستسقى موسى لقومه الآية، ورفع الطور فوقهم في قوله تعالى: ورفعنا فوقكم الطور الآية، ومسخ قوم منهم في قوله تعالى: فقلنا لهم كونوا قردة الآية، وإحياء القتيل ببعض البقرة المذبوحة في قوله: فقلنا إضربوه ببعضها الآية، وكإحياء قوم آخرين في قوله ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم الآية، وكإحياء الذي مر على قرية خربة في قوله أو كالذى مر على قرية وهي خاوية على عروشها الآية، وكإحياء الطير بيد إبراهيم في قوله تعالى: وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيى الموتى الآية، فهذه إثنتا عشرة آية معجزة خارقة للعادة جرت أكثرها في بني إسرائيل - ذكرها القرآن - وقد بينا فيما مر إمكان وقوع المعجزة وأن خوارق العادات جائزة الوقوع في الوجود وهي مع ذلك ليست ناقضة لقانون العلية والمعلولية الكلي، وتبين به أن

[ 206 ]

لا دليل علي تأويل لآيات الظاهرة في وقوع الاعجاز، وصرفها عن ظواهرها ما دامت الحادثة ممكنة، بخلاف المحالات كإنقسام الثلثة بمتساويين وتولد مولود يكون أبا لنفسه، فإنه لا سبيل إلى جوازها. نعم تختص بعض المعجزات كإحياء الموتى والمسخ ببحث آخر، فقد قيل: إنه قد ثبت في محله أن الموجود الذي له قوة الكمال والفعلية إذا خرج من القوة إلى الفعل فإنه يستحيل بعد ذلك رجوعه إلى القوة ثانيا، وكذلك كل ما هو أكمل وجودا فإنه لا يرجع في سيره الاستكمالي إلى ما هو أنقص وجودا منه من حيث هو كذلك. والانسان بموته يتجرد بنفسه عن المادة فيعود موجودا مجردا مثاليا أو عقليا، وهاتان الرتبتان فوق مرتبة المادة، والوجود فيهما أقوى من الوجود المادي، فمن المحال أن تتعلق النفس بعد موتها بالمادة ثانيا، وإلا لزم رجوع الشئ إلى القوة بعد خروجه إلى الفعل، وهو محال، وأيضا الانسان أقوى وجودا من سائر أنواع الحيوان، فمن المحال أن يعود الانسان شيئا من سائر أنواع الحيوان بالمسخ. أقول: ما ذكره من إستحاله رجوع ما بالقوة بعد خروجه إلى الفعل إلى القوة ثانيا حق لا ريب فيه، لكن عود الميت إلى حيوته الدنيا ثانيا في الجملة وكذا المسخ ليسا من مصاديقه. بيان ذلك: أن المحصل من الحس والبرهان أن الجوهر النباتي المادي إذا وقعت في صراط الاستكمال الحيواني فإنه يتحرك إلى الحيوانية، فيتصور بالصورة الحيوانية وهي صورة مجردة بالتجرد البرزخي، وحقيقتها إدراك الشئ نفسه بإدراك جزئي خيالي وهذه الصورة وجود كامل للجوهر النباتي وفعلية لهذه القوة تلبس بها بالحركة الجوهرية ومن المحال أن ترجع يوما إلى الجوهر المادي فتصير إياه إلا أن تفارق مادتها فتبقى المادة مع صورة مادية كالحيوان تموت فيصير جسدا لا حراك به، ثم أن الصورة الحيوانية مبدأ لافعال إدراكية تصدر عنها، وأحوال علمية تترتب عليها، تنتقش النفس بكل واحد من تلك الاحوال بصدورها منها، ولا يزال نقش عن نقش، وإذا تراكمت من هذه النقوش ما هي متشاكلة متشابهة تحصل نقش واحد وصار صورة ثابتة غير قابلع للزوال، وملكة راسخة، وهذه صورة نفسانية جديدة يمكن أن يتنوع بها نفس حيوانى فتصير حيوانا خاصا ذا صورة خاصة منوعة كصورة المكر والحقد والشهوة والوفاء والافتراس وغير ذلك وإذا لم تحصل ملكة بقي النفس

[ 207 ]

على مرتبتها الساذجة السابقة، كالنبات إذا وقفت عن حركتها الجوهرية بقي نباتا ولم يخرج إلى الفعلية الحيوانية، ولو أن النفس البرزخية تتكامل من جهة أحوالها وأفعالها بحصول الصورة دفعة لانقطعت علقتها مع البدن في أول وجودها لكنها تتكامل بواسطة أفعالها الادراكية المتعلقة بالمادة شيئا فشيئا حتى تصير حيوانا خاصا إن عمر العمر الطبيعي أو قدرا معتدا به، وإن حال بينه وبين استتمام العمر الطبيعي أو القدر المعتد به مانع كالموت الاخترامي بقي على ما كان عليه من سذاجة الحيوانية، ثم أن الحيوان إذا وقعت في صراط الانسانية وهي الوجود الذي يعقل ذاته تعقلا كليا مجردا عن المادة ولوازمها من المقادير والالوان وغيرهما خرج بالحركة الجوهرية من فعلية المثال التي هي قوة العقل إلى فعلية التجرد العقلي، وتحققت له صورة الانسان بالفعل، ومن المحال أن تعود هذه الفعلية إلى قوتها التي هي التجرد المثالي على حد ما ذكر في الحيوان. ثم إن لهذه الصورة أيضا أفعالا وأحوالا تحصل بتراكمها التدريجي صورة خاصة جديدة توجب تنوع النوعية الانسانية على حد ما ذكر نظيره في النوعية الحيوانية. إذا عرفت ما ذكرناه ظهر لك أنا لو فرضنا إنسانا رجع بعد موته إلى الدنيا وتجدد لنفسه التعلق بالمادة وخاصة المادة التي كانت متعلقة نفسه من قبل لم يبطل بذلك أصل تجرد نفسه فقد كانت مجردة قبل انقطاع العلقة ومعها أيضا وهي مع التعلق ثانيا حافظة لتجردها، والذي كان لها بالموت أن الاداة التي كانت رابطة فعلها بالمادة صارت مفقودة لها فلا تقدر على فعل مادي كالصانع إذا فقد آلات صنعته والدوات اللازمة لها، فإذا عادت النفس إلى تعلقها الفعلي بالمادة أخذت في استعمال قواها وأدواتها البدنية ووضعت ما اكتسبتها من الاحوال والملكات بواسطة الافعال فوق ما كانت حاضرة وحاصلة لها من قبل واستكملت بها استكمالا جديدا من غير أن يكون ذلك منه رجوعا قهقرى وسيرا نزوليا من الكمال إلى النقص، ومن الفعل إلى القوة. فان قلت: هذا يوجب القول: بالقسر الدائم مع ضرورة بطلانه، فإن النفس المجردة المنقطعة عن البدن لو بقي في طباعها إمكان الاستكمال من جهة لافعال المادية بالتعلق بالمادة ثانيا كان بقائها على الحرمان من الكمال إلى الابد حرمانا عما تستدعيه بطباعها، فما كل نفس براجعة إلى الدنيا بإعجاز أو خرق عادة، والحرمان المستمر

[ 208 ]

قسر دائم. قلت: هذه النفوس التي خرجت من القوة إلى الفعل في الدنيا واتصلت إلى حد وماتت عندها لا تبقى على إمكان الاستكمال اللاحق دائما بل يستقر على فعليتها الحاضرة بعد حين أو تخرج إلى الصورة العقلية المناسبة لذلك وتبقى على ذلك وتزول الامكان المذكور بعد ذلك فالانسان الذي مات وله نفس ساذجة غير أنه فعل أفعالا وخلط عملا صالحا وآخر سيئا لو عاش حينا أمكن أن يكتسب على نفسه الساذجة صورة سعيده أو شقيه وكذا لو عاد بعد الموت إلى الدنيا وعاش أمكن أن يكتسب على صورته السابقة صورة خاصة جديدة وإذا لم يعد فهو في البرزخ مثاب أو معذب بما كسبته من الافعال حتى يتصور بصورة عقلية مناسبة لصورته السابقة المثالية وعند ذلك يبطل الامكان المذكور ويبقى إمكانات الاستكمالات العقلية فإن عاد إلى الدنيا كالانبياء والاولياء لو عادوا إلى الدنيا بعد موتهم أمكن أن يحصل صورة أخرى عقلية من ناحية المادة والافعال المتعلقة بها ولو لم يعد فليس له إلا ما كسب من الكمال والصعود في مدارجه، والسير في صراطه، هذا. ومن المعلوم أن هذا ليس قسرا دائما ولو كان مجرد حرمان موجود عن كماله الممكن له بواسطة عمل عوامل وتأثير علل مؤثرة قسرا دائما لكان أكثر حوادث هذا العالم الذي هو دار التزاحم، وموطن التضاد أو جميعها قسرا دائما، فجميع أجزاء هذا العالم الطبيعي مؤثرة في الجميع، وإنما القسر الدائم أن يجعل في غريزة نوع من الانواع إقتضاء كمال من الكمالات أو إستعداد ثم لا يظهر أثر ذلك دائما إما لا مر في داخل ذاته أو لامر من خارج ذاته متوجه إلى إبطاله بحسب الغريزة فيكون تغريز النوع المقتضي أو المستعد للكمال تغريزا باطلا وتجبيلا هباء لغوا فافهم ذلك، وكذا لو فرضنا إنسانا تغيرت صورته إلى صورة نوع آخر من أنواع الحيوان كالقرد والخنزير فإنما هي صورة على صورة، فهو إنسان خنزير أو إنسان قردة، لا إنسان بطلت إنسانيتة وخلت الصورة الخنزيرية أو القردية محلها، فالانسان إذا كسب صورة من صور الملكات تصورت نفسه بها ولا دليل على استحالة خروجها في هذه الدنيا من الكمون إلى البروز على حد ما ستظهر في الآخرة بعد الموت، وقد مر أن النفس

[ 209 ]

الانسانية في أول حدوثها على السذاجة يمكن أن تتنوع بصورة خاصة تخصصها بعد الابهام وتقيدها بعد الاطلاق والقبول فالممسوخ من الانسان إنسان ممسوخ لا أنه ممسوخ فاقد للانسانية هذا، ونحن نقرا في المنشورات اليومية من أخبار المجامع العلمية بأوربا وأمريكا ما يؤخذ جواز الحيوة بعد الموت، وتبدل صورة الانسان بصورة المسخ، وإن لم نتكل في هذه المباحث على أمثال هذه الاخبار، لكن من الواجب على الباحثين من المحصلين أن لا ينسوا اليوم ما يتلونه بالامس. فإن قلت: فعلى هذا فلا مانع من القول بالتناسخ. قلت: كلا فإن لتناسخ وهو تعلق النفس المستكملة بنوع كمالها بعد مفارقتها البدن ببدن آخر محال، فإن هذا البدن إن كان ذا نفس استلزم التناسخ تعلق نفسين ببدن واحد، وهو وحدة الكثير، وكثرة الواحد، وإن لم تكن ذا نفس استلزم رجوع ما بالفعل إلى القوة، كرجوع الشيخ إلى الصبا، وكذلك يستحيل تعلق نفس إنساني مستكملة مفارقة ببدن نبأتي أو حيواني بما مر من البيان. (بحث علمي وأخلاقي) أكثر الا مم الماضية قصة في القرآن امة بني اسرائيل، وأكثر الانبياء ذكرا فيه موسى بن عمران عليه السلام، فقد ذكر اسمه في القرآن، في مائة وستة وثلاثين موضعا ضعف ما ذكر إبراهيم عليه السلام الذي هو أكثر الانبياء ذكرا بعد موسى، فقد ذكر في تسعة وستين موضعا على ما قيل فيهما، والوجه الظاهر فيه أن الاسلام هو الدين الحنيف المبني على التوحيد الذي أسس أساسه إبراهيم عليه السلام وأتمه الله سبحانه وأكمله لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى: (ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل) الحج - 78، وبنو إسرائيل أكثر الامم لجاجا وخصاما، وأبعدهم من الانقياد للحق، كما أنه كان كفار العرب الذين ابتلى بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هذه الصفة، فقد آل الامر إلى أن نزل فيهم: (إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) البقرة - 6.

[ 210 ]

ولا ترى رذيلة من رذائل بني اسرائيل في قسوتهم وجفوتهم مما ذكره القرآن إلا وهو موجود فيهم، وكيف كان فأنت إذا تأملت قصص بني اسرائيل المذكورة في القرآن، وأمعنت فيها، وما فيها من أسرار أخلاقهم وجدت أنهم كانوا قوما غائرين في المادة مكبين على ما يعطيه الحس من لذائذ الحياة الصورية، فقد كانت هذه الامة لا تؤمن بما وراء الحس، ولا تنقاد إلا إلى اللذة والكمال المادي وهم اليوم كذلك. وهذا الشأن هو الذي صير عقلهم وإرادتهم تحت انقياد الحس والمادة، لا يعقلون إلا ما يجوزانه، ولا يريدون إلا ما يرخصان لهم ذلك فانقياد الحس يوجب لهم أن لا يقبلوا قولا إلا إذا دل عليه الحس، وإن كان حقا وانقياد المادة اقتضى فيهم أن يقبلوا كل ما يريده أو يستحسنه لهم كبراؤهم ممن أوتي جمال المادة، وزخرف الحياة وإن لم يكن حقا، فأنتج ذلك فيهم التناقض قولا وفعلا، فهم يذمون كل اتباع باسم أنه تقليد وإن كان مما ينبغي إذا كان بعيدا من حسهم، ويمدحون كل اتباع باسم أنه حظ الحيوة، وان كان مما لا ينبغي إذا كان ملائما لهوساتهم المادية، وقد ساعدهم على ذلك وأعانهم على مكثهم الممتد وقطونهم الطويل بمصر تحت إستذلال المصريين، واسترقاقهم، وتعذيبهم، يسومونهم سوء العذاب ويذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم وفي ذلك بلاء من ربهم عظيم. وبالجملة فكانوا لذلك صعبة الانقياد لما يأمرهم به أنبيائهم، والربانيون من علمائهم مما فيه صلاح معاشهم ومعادهم (تذكر في ذلك مواقفهم مع موسى وغيره) وسريعة اللحوق إلى ما يدعوهم المغرضون والمستكبرون منهم. وقد ابتليت الحقيقة والحق اليوم بمثل هذه البلية بالمدنية المادية التي اتحفها إليها عالم الغرب، فهي مبنية القاعدة على الحس والمادة فلا يقبل دليل فيما بعد عن الحس ولا يسأل عن دليل فيما تضمن لذة مادية حسية، فأوجب ذلك إبطال الغريزة الانسانية في أحكامهاو ارتحال المعارف العالية والاخلاق الفاضلة من بيننا فصار يهدد الانسانية بالانهدام، وجامعة البشر بأشد الفساد وليعلمن نبأه بعد حين. واستيفاء البحث في الاخلاق ينتج خلاف ذلك، فما كل دليل بمطلوب، وما كل تقليد بمذموم، بيان ذلك: أن النوع الانساني بما أنه إنسان إنما يسير إلى كماله

[ 211 ]

الحيوي بأفعاله الارادية المتوقفة على الفكر والارادة منه مستحيلة التحقق إلا عن فكر، فالفكر هو الاساس الوحيد الذي يبتني عليه الكمال الوجودي الضروري فلا بد للانسان من تصديقات عملية أو نظرية يرتبط بها كماله الوجودي ارتباطا بلا واسطة أو بواسطة، وهي القضايا التي نعلل بها أفعالنا الفرديه أو الاجتماعية أو نحضرها في أذهاننا، ثم نحصلها في الخارج بأفعالنا هذا. ثم إن في غريزة الانسان أن يبحث عن علل ما يجده من الحوادث، أو يهاجم إلى ذهنه من المعلومات، فلا يصدر عنه فعل يريد به إيجاد ما حضر في ذهنه في الخارج إلا إذا حضر في ذهنه علته الموجبة، ولا يقبل تصديقا نظريا إلا إذا اتكئ على التصديق بعلته بنحو، وهذا شأن الانسان لا يتخطاه البته، ولو عثرنا في موارد على ما يلوح منه خلاف ذلك فبالتأمل والامعان تنحل الشبهة، ويظهر البحث عن العلة، والركون والطمأنينة إليها فطري، والفطرة لا تختلف ولا يتخلف فعلها، وهذا يؤدي الانسان إلى ما فوق طاقته من العمل الفكري والفعل المتفرع عليه لسعة الاحتياج الطبيعي، بحيث لا يقدر الانسان الواحد إلى رفعه معتمدا على نفسه ومتكئا إلى قوة طبيعتة الشخصية فاحتالت الفطرة إلى بعثه نحو الاجتماع وهو المدينة والحضارة ووزعت أبواب الحاجة الحيوية بين أفراد الاجتماع، ووكل بكل باب من أبوابها طائفة كاعضاء الحيوان في تكاليفها المختلفة المجتمعة فائدتها وعائدتها في نفسه، ولا تزال الحوائج الانسانية تزداد كمية واتساعا وتنشعب الفنون والصناعات والعلوم، ويتربى عند ذلك الاخصائيون من العلماء والصناع، فكثير من العلوم والصناعات كانت علما أو صنعة واحدة يقوم بأمرها الواحد من الناس، واليوم نرى كل باب من أبوابه علما أو علوما أو صنعة أو صنائع، كالطب المعدود قديما فنا واحدا من فروع الطبيعيات وهو اليوم فنون لا يقوم الواحد من العلماء الاخصائيين بأزيد من أمر فن واحد منها. وهذا يدعو الانسان بالالهام الفطري، أن يستقل بما يخصه من الشغل الانساني في البحث عن علته ويتبع في غيره من يعتمد على خبرته ومهارته. فبناء العقلاء من أفراد الاجتماع على الرجوع إلى أهل الخبرة وحقيقة هذا الاتباع، والتقليد المصطلح والركون إلى الدليل الاجمالي فيما ليس في وسع الانسان

[ 212 ]

أن ينال دليل تفاصيله كما أنه مفطور على الاستقلال بالبحث عن دليله التفصيلي فيما يسعة أن ينال تفصيل علته و دليله، وملاك الامر كله أن الانسان لا يركن إلى غير العلم، فمن الواجب عند الفطرة الاجتهاد، وهو الاستقلال في البحث عن العلة فيما يسعه ذلك والتقليد وهو الاتباع ورجوع الجاهل إلى العالم فيما لا يسعه ذلك، ولما استحال إن يوجد فرد من هذا النوع الانساني مستقلا بنفسه قائما بجميع شؤون الاصل الذي يتكي عليه الحياة أستحال أن يوجد فرد من الانسان من غير اتباع وتقليد، ومن ادعى خلاف ذلك أو ظن من نفسه انه غير مقلد في حيوته فقد سفه نفسه. نعم: التقليد فيما للانسان أن ينال علته وسببه كالاجتهاد فيما ليس له الورود عليه والنيل منه، من الرذائل التي هي من مهلكات الاجتماع، ومفنيات المدنية الفاضلة ولا يجوز الاتباع المحض إلا في الله سبحانه لانه السبب الذي إليه تنتهي الاسباب أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون - 75. وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون - 76، أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون - 77. ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون - 78. فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون - 79. وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما

[ 213 ]

معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون - 80. بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأؤلئك أصحاب النار هم فيها خالدون - 81. والذين آمنوا وعملوا الصالحات أؤلئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون - 82. (بيان) السياق وخاصة ما في ذيل الآيات يفيد أن اليهود عند الكفار، وخاصة كفار المدينة: لقرب دارهم منهم كانوا يعرفون قبل البعثة ظهيرا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعندهم علم الدين والكتاب، ولذلك كان الرجاء في إيمانهم أكثر من غيرهم، وكان المتوقع أن يؤمنوا به أفواجا فيتأيد بذلك ويظهر نوره، وينتشر دعوته، ولما هاجر النبي إلي المدينة وكان من أمرهم ما كان تبدل الرجاء قنوطا، والطمع يأسا، ولذلك يقول سبحانه: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم الخ، يعني أن كتمان الحقائق وتحريف الكلام من شيمهم، فلا ينبغي أن يستبعد نكولهم عما قالوا ونقضهم ما أبرموا. قوله تعالى: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم، فيه التفات من خطاب بني اسرائيل إلى خطاب النبي والذين آمنوا ووضعهم موضع الغيبة وكان الوجه فيه أنه لما قص قصة البقرة وعدل فيها من خطاب بني إسرائيل إلى غيبتهم لمكان التحريف الواقع فيها بحذفها من التورية كما مر، اريد إتمام البيان بنحو الغيبة بالاشارة إلى تحريفهم كتاب الله تعالى فصرف لذلك وجه الكلام إلى الغيبة. قوله تعالى: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا الخ، لا تقابل بين الشرطين وهما مدخولا إذا في الموضعين كما في قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن) البقرة - 14، بل المراد بيان موضعين آخرين من مواضع جرائمهم وجهالتهم.

[ 214 ]

احدهما: أنهم ينافقون فيتظاهرون بالايمان صونا لانفسم من الايذاء والطعن والقتل. وثانيهما: أنهم يريدون تعمية الامر وإبهامه على الله سبحانه العالم بسرهم وعلانيتهم وذلك أن العامة منهم، وهم أولوا بساطة النفس ربما كانوا ينبسطون للمؤمنين، فيحدثونهم ببعض ما في كتبهم من بشارات النبي أو ما ينفع المؤمنين في تصديق النبوة، كما يلوح من لحن الخطاب فكان أولياؤهم ينهونهم معللا بأن ذلك مما فتح الله لهم، فلا ينبغي أن يفشى للمؤمنين، فيحاجوهم به عند ربهم كأنهم لو لم يحاجوهم به عند ربهم لم يطلع الله عليه فلم يؤاخذهم بذلك ولازم ذلك أن الله تعالى إنما يعلم علانية الامر، دون سره وباطنه وهذا من الجهل بمكان، فرد الله سبحانه عليهم بقوله: (أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون الآية) فإن هذا النوع من العلم - وهو ما يتعلق بظاهر الامر دون باطنه - إنما هو العلم المنتهي إلى الحس الذي يفتقر إلى بدن مادي مجهز بآلات مادية مقيد بقيود الزمان والمكان مولود لعلل اخرى مادية وما هو كذلك مصنوع من العالم لا صانع العالم. وهذا أيضا من شواهد ما قدمناه آنفا أن بني إسرائيل لاذعانهم باصالة المادة كانوا يحكمون في الله سبحانه بما للمادة من الاحكام، فكانوا يظنونه موجودا فعالا في المادة مستعليا قاهرا عليه، ولكن بعين ما تفعل علة مادية وتستعلي وتقهر على معلول مادي، وهذا أمر لا يختص به اليهود، بل هو شأن كل من يذعن باصالة المادة من المليين وغيرهم، فلا يحكمون في ساحة قدسه سبحانه إلا بما يعقلون من أوصاف الماديات من الحيوة والعلم والقدرة والاختيار والارادة والقضاء والحكم وتدبير الامر وإبرام القضاء إلى غير ذلك، وهذا داء لا ينجع معه دواء، وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يعقلون، حتى آل الامر إلى أن استهزأ بهم من لا مسكة له في دينهم الحق ولا قدم له في معارفهم الحقة، قائلا أن المسلمين يروون عن نبيهم ان الله خلق آدم على صورته وهم معاشر أمته يخلقون الله على صورة آدم، فهؤلاء يدور امرهم بين أن يثبتوا لربهم جميع احكام المادة، كما يفعله المشبهة من المسلمين أو من يتلو تلوهم وإن لم يعرف بالتشبيه، أو لا يفهموا شيئا من أوصاف جماله، فينفوا الجميع بارجاعها إلى السلوب قائلا أن ما يبين أوصافه تعالى من الالفاظ إنما يقع عليه بالاشتراك اللفظي

[ 215 ]

فلقولنا: انه موجود ثابت عالم قادر حي معان لا نفهمها ولا نعقلها، فاللازم إرجاع معانيها إلى النفي، فالمعنى مثلا أنه ليس بمعدوم، ولا زائل، ولا جاهل، ولا عاجز ولا ميت فاعتبروا يا أولي الابصار فهذا بالاستلزام زعم منهم بانهم يؤمنون بما لا يدرون، ويعبدون ما لا يفهمون، ويدعون إلى ما لا يعقلون، ولا يعقله أحد من الناس، وقد كفتهم الدعوة الدينية مؤنة هذه الاباطيل بالحق فحكم على العامة أن يحفظوا حقيقة القول ولب الحقيقة بين التشبيه والتنزيه فيقولوا: ان الله سبحانه شئ لا كالاشياء وأن له علما لا كعلومنا، وقدرة لا كقدرتنا وحيوة لا كحيوتنا، مريد لا بهمامة، متكلم لا بشق فم، وعلى الخاصة أن يتدبروا في آياته ويتفقهوا في دينه فقد قال الله سبحانه: (هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الالباب) الزمر - 9، والخاصة كما لا يساوون العامة في درجات المعرفة، كذلك لا يساوونهم في التكاليف المتوجهة إليهم، فهذا هو التعليم الديني النازل في حقهم لو أنهم كانوا يأخذون به. قوله تعالى: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب الا أماني، الامي من لا يقرأ ولا يكتب منسوب إلى الام لان عطوفة الام وشفقتها كانت تمنعها أن ترسل ولدها إلى المعلم وتسلمه إلى تربيتة، فكان يكتفي بتربية الام، والاماني جمع امنية، وهي الاكاذيب، فمحصل المعنى انهم بين من يقرأ الكتاب ويكتبه فيحرفه وبين من لا يقرأ ولا يكتب ولا يعلم من الكتاب الا اكاذيب المحرفين. قوله تعالى: فويل للذين يكتبون، الويل هو الهلكة والعذاب الشديد والحزن والخزى والهوان وكل ما يحذره الانسان اشد الحذر والاشتراء هو الابتياع. قوله تعالى: فويل لهم مما كسبت أيديهم وويل لهم الخ، الضمائر إما راجعة إلى بني اسرائيل أو لخصوص المحرفين منهم ولكل وجه وعلى الاول يثبت الويل للاميين منهم أيضا. قوله تعالى: بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته الخ، الخطيئة هي الحالة الحاصلة للنفس من كسب السيئة، ولذلك أتي باحاطة الخطيئة بعد ذكر كسب

[ 216 ]

السيئة وإحاطة الخطيئة توجب ان يكون الانسان المحاط مقطوع الطريق إلى النجاة كان الهداية لاحاطة الخطيئة به لا تجد إليه سبيلا فهو من أصحاب النار مخلدا فيها ولو كان في قلبه شئ من الايمان بالفعل، أو كان معه بعض ما لا يدفع الحق من الاخلاق والملكات، كالانصاف والخضوع للحق، أو ما يشابههما لكانت الهداية والسعادة ممكنتي النفوذ إليه، فإحاطة الخطيئة لا تتحقق الا بالشرك الذي قال تعالى فيه: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النساء - 48، ومن جهة اخرى إلا بالكفر وتكذيب الآيات كما قال سبحانه: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا اولئك اصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة - 39، فكسب السيئة وإحاطة الخطيئة كالكلمة الجامعة لما يوجب الخلود في النار. واعلم أن هاتين الآيتين قريبتا المعنى من قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين الخ) البقرة - 62، وانما الفرق أن الآيتين أعني قوله: بلى من كسب سيئة، في مقام بيان ان الملاك في السعادة انما هو حقيقة الايمان والعمل الصالح دون الدعاوي والآيتان المتقدمتان أعني قوله: (إن الذين آمنوا الخ، في مقام بيان أن الملاك فيها هو حقيقة الايمان والعمل الصالح دون التسمي بالاسماء. (بحث روائي) في المجمع: في قوله وإذا لقوا الذين الآية، عن الباقر عليه السلام قال: كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدثوهم بما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فنهى كبراءهم عن ذلك وقالوا لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيحاجوهم به عند ربهم فنزلت هذه الآية. وفي الكافي عن أحدهما عليهما السلام: في قوله تعالى: بلى من كسب سيئة، قال: إذا جحدوا ولآية أمير المؤمنين فاؤلئك أصحاب النار هم فيها خالدون. اقول: وروي قريبا من هذا المعنى الشيخ في اماليه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والروايتان من الجرى والتطبيق على المصداق، وقد عد سبحانه الولاية حسنة في

[ 217 ]

قوله: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نجد له فيها حسنا) الشوري - 23، ويمكن أن يكون من التفسير لما سيجئ في سورة المائدة أنها العمل بما يقتضيه التوحيد وانما نسب إلى علي عليه السلام لانه أول فاتح من هذه الامة لهذا الباب فانتظر. وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا، وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكوة ثم توليتم إلا قليلا منكم وإنتم معرضون - 83. وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون - 84. ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من دياركم تظاهرون عليهم بالاثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحيوة الدنيا يوم القيمة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون - 85. أولئك الذين أشتروا الحيوة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون - 86. ولقد آتينا موسى وقفينا من بعده بالرسل

[ 218 ]

وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبر تم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون - 87. وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون - 88. (بيان) قوله تعالى: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل، الآية في بديع نظمها تبتدئ أولا بالغيبة وتنتهي إلى الخطاب حيث تقول: ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون، ثم إنها تذكر أولا الميثاق وهو أخذ للعهد، ولا يكون إلا بالقول، ثم تحكي ما أخذ عليه الميثاق فتبتدئ فيه بالخبر، حيث تقول: لا تعبدون إلا الله، وتختتم بالانشاء حيث تقول وقولوا للناس حسنا إلخ. ولعل الوجه في ذلك كله أن الآيات المتعرضة لحال بني إسرائيل لما بدئت بالخطاب لمكان إشتمالها على التقريع والتوبيخ وجرت عليه كان سياق الكلام فيها الخطاب ثم لما تبدل الخطاب بالغيبة بعد قصة البقرة لنكتة داعية إليها كما مر حتى انتهت إلى هذه الآية، فبدئت أيضا بالغيبة لكن الميثاق حيث كان بالقول وبنى على حكايته حكي بالخطاب فقيل: لا تعبدون إلا الله إلخ، وهو نهى في صورة الخبر. وإنما فعل ذلك دلالة على شدة الاهتمام به، كأن الناهي لا يشك في عدم تحقق ما نهى عنه في الخارج، ولا يرتاب في أن المكلف المأخوذ عليه الميثاق سوف لا ينتهي عن نهيه، فلا يوقع الفعل قطعا وكذا قوله: وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين، كل ذلك أمر في صورة الخبر. ثم إن الانتقال إلى الخطاب من قبل الحكاية أعطى فرصة للانتقال إلى أصل الكلام، وهو خطاب بني إسرائيل لمكان الاتصال في قوله: وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة ثم توليتم الخ وانتظم بذلك السياق.

[ 219 ]

قوله تعالى: وبالوالدين إحسانا، امر أو خبر بمعنى الامر والتقدير واحسنوا بالوالدين إحسانا، وذي القربى واليتامى والمساكين، أو التقدير: وتحسنون بالوالدين إحسانا الخ، وقد رتب موارد إلاحسان أخذا من الاهم والاقرب إلى المهم والابعد فقرابة الانسان أقرب إليه من غيرهم، والوالدان وهما الاصل الذي تتكي عليه وتقوم به شجرة وجوده أقرب من غيرهما من الارحام وفي غير القرابة أيضا اليتامى احق بالاحسان لصغرهم وفقدهم من يقوم بأمرهم من المساكين. هذا وقوله: واليتامى، اليتيم من مات أبوه ولا يقال لمن ماتت أمه يتيم. وقيل اليتيم في الانسان إنما تكون من جهة الاب وفي غير الانسان من سائر الحيوان من جهة الام وقوله تعالى: والمساكين، جمع مسكين وهو الفقير العادم الذليل، وقوله تعالى: حسنا مصدر بمعنى الصفة جئ به للمبالغة. وفي بعض القرائات حسنا، بفتح الحاء والسين صفة مشبهة. والمعنى قولوا للناس قولا حسنا، وهو كناية عن حسن المعاشرة مع الناس، كافرهم، ومؤمنهم ولا ينافي حكم القتال حتى تكون آية القتال ناسخة له لان مورد القتال غير مورد المعاشرة فلا ينافي الامر بحسن المعاشرة كما أن القول الخشن في مقام التأديب لا ينافي حسن المعاشرة. قوله تعالى: لا تسفكون دماءكم، خبر في معنى الانشاء نظير ما مر في قوله: لا تعبدون الا الله، والسفك الصب. قوله تعالى: تظاهرون عليهم، التظاهر هو التعاون، والظهير العون مأخوذ من الظهر لان العون يلي ظهر الانسان. قوله تعالى: وهو محرم عليكم إخراجهم، الضمير لاشان والقصة كقوله تعالى: قل هو الله أحد. قوله تعالى أفتؤمنون ببعض الكتاب، أي ما هو الفرق بين الاخراج والفدية حيث أخذتم بحكم الفدية وتركتم حكم الاخراج وهما جميعا في الكتاب، أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض. قوله تعالى: وقفينا، التقفية الاتباع وإتيان الواحد قفأ الواحد. قوله تعالى: وآتينا عيسى بن مريم البينات، سيأتي الكلام فيه في سورة آل عمران.

[ 220 ]

قوله تعالى: وقالوا قلوبنا غلف جمع أغلف من الغلاف أي قلوبنا محفوظة تحت لفائف وأستار وحجب، فهو نظير قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه) حم سجدة - 5، وهو كناية عن عدم امكان استماع ما يدعون إليه. بحث روائي في الكافي عن أبي جعفر عليه السلام: في قوله تعالى: وقولوا للناس حسنا الآية. قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال فيكم. وفي الكافي أيضا عن الصادق عليه السلام قال: قولوا للناس ولا تقولوا الا خيرا حتى تعلموا ما هو. وفي المعاني عن الباقر عليه السلام قال: قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم، فإن الله عز وجل يبغض السباب اللعان الطعان على المؤمنين الفاحش المفحش السائل ويحب الحيي الحليم العفيف المتعفف. أقول: وروي مثل الحديث في الكافي بطريق آخر عن الصادق عليه السلام وكذا العياشي عنه عليه السلام ومثل الحديث الثاني في الكافي عنه. ومثل الحديث الثالث العياشي عن الباقر عليه السلام وكأن هذه المعاني أستفيدت من اطلاق الحسن عند القائل واطلاقه من حيث المورد. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام قال: ان الله بعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بخمسة أسياف فسيف على أهل الذمة. قال الله: وقولوا للناس حسنا، نزلت في أهل الذمة ثم نسختها أخرى قوله: (قاتلوا الذين لا يؤمنون) الحديث. أقول: وهو منه عليه السلام أخذ بإطلاق آخر للقول وهو شموله للكلام ولمطلق التعرض. يقال لا تقل له الا حسنا وخيرا أي لا تتعرض له الا بالخير والحسن، ولا تمسسه الا بالخير والحسن. هذا ان كان النسخ في قوله عليه السلام هو النسخ بالمعنى الاخص

[ 221 ]

وهو المصطلح ويمكن ان يكون المراد هو النسخ بالمعنى الاعم، على ما سيجئ في قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها) البقرة - 106، وهو الكثير في كلامهم عليهم السلام لتكون هذه الآية وآية القتال غير متحدتين موردا. ولما جائهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين - 89. بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فبائوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين - 90. وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما ورائه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين - 91. ولقد جائكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون - 92. وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين - 93.

[ 222 ]

(بيان) قوله تعالى: ولما جاءهم الخ، السياق يدل على أن هذا الكتاب هو القرآن. وقوله: وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، على وقوع تعرض بهم من كفار العرب، وأنهم كانوا يستفتحون أي يطلبون الفتح عليهم ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهجرته وأن ذلك الاستفتاح قد استمر منهم قبل الهجرة، بحيث كان الكفار من العرب أيضا يعرفون ذلك منهم لمكان قوله: كانوا، وقوله: فلما جاءهم ما عرفوا، أي عرفوا أنه هو بإنطباق ما كان عندهم من الاوصاف عليه كفروا. قوله تعالى: بئسما إشتروا بيان لسبب كفرهم بعد العلم وأن السبب الوحيد في ذلك هوالبغي والحسد، فقوله بغيا، مفعول مطلق نوعي. وقوله أن ينزل الله، متعلق به، وقوله تعالى: فبائوا بغضب على غضب، أي رجعوا بمصاحبته أو بتلبس غضب بسبب كفرهم بالقرآن على غضب بسبب كفرهم بالتوراة من قبل، والمعنى أنهم كانوا قبل البعثة والهجرة ظهيرا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومستفتحا به وبالكتاب النازل عليه، ثم لما نزل بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزل عليه القرآن وعرفوا أنه هو الذي كانوا يستفتحون به وينتظرون قدومه هاج بهم الحسد، وأخذهم الاستكبار، فكفروا وإنكروا ما كانوا يذكرونه كما كانوا يكفرون بالتوراة من قبل، فكان ذلك منهم كفرا على كفر. قوله تعالى: ويكفرون بما ورائه، أي يظهرون الكفر بما ورائه، وإلا فهم بالذي أنزل إليهم وهو التوراة أيضا كافرون. قوله تعالى: قل فلم تقتلون، الفاء للتفريع. والسؤال متفرع على قولهم: نؤمن بما أنزل علينا، أي لو كان قولكم: نؤمن بما أنزل علينا حقا وصدقا فلم تقتلون أنبياء الله، ولم كفرتم بموسى بإتخاذ العجل، ولم قلتم عند أخذ الميثاق ورفع الطور: سمعنا وعصينا. قوله تعالى: واشربوا في قلوبهم العجل، الاشراب هو السقى، والمراد بالعجل

[ 223 ]

حب العجل، وضع موضعه للمبالغة كأنهم قد أشربوا نفس العجل وبه يتعلق قوله في قلوبهم، ففي الكلام استعارتان أو استعارة ومجاز. قوله تعالى: قل بئسما يأمركم به إيمانكم، بمنزلة أخذ النتيجة مما أورد عليهم من قتل الانبياء والكفر بموسى، والاستكبار بإعلام المعصية، وفيه معنى الاستهزاء بهم. (بحث روائي) في تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق الآية) قال عليه السلام: كانت اليهود تجد في كتبهم أن مهاجر محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بين عير وأحد فخرجوا يطلبون الموضع، فمروا بجبل يقال له حداد فقالوا حداد وأحد سواء، فتفرقوا عنده، فنزل بعضهم بتيما، وبعضهم بفدك، وبعضهم بخيبر، فاشتاق الذين بتيما إلى بعض إخوانهم، فمر بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه، وقال لهم أمر بكم ما بين عير وأحد، فقالوا له إذا مررت بهما فآذنا لهما، فلما توسط بهم أرض المدينة، قال ذلك عير وهذا احد فنزلوا عن ظهر إبله وقالوا له قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك فاذهب حيث شئت وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر أنا قد أصبنا الموضع فهلموا إلينا فكتبوا إليهم إنا قد إستقرت بنا الدار واتخذنا بها الاموال وما أقربنا منكم فإذا كان ذلك أسرعنا إليكم، واتخذوا بأرض المدينة، أموالا فلما كثرت أموالهم بلغ ذلك تبع فغزاهم فتحصنوا منه فحاصرهم ثم آمنهم فنزلوا عليه فقال لهم إني قد إستطبت بلادكم ولا أراني إلا مقيما فيكم، فقالوا: ليس ذلك لك إنها مهاجر نبي، وليس ذلك لاحد حتى يكون ذلك، فقال لهم فاني مخلف فيكم من اسرتي من إذا كان ذلك ساعده ونصره فخلف حيين تراهم: الاوس والخزرج، فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود، فكانت اليهود تقول لهم أما لو بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنخرجنكم من ديارنا وأموالنا فلما بعث الله محمدا آمنت به الانصار وكفرت به اليهود وهو قوله تعالى: وكانوا من قبل يستفتحون على الذين

[ 224 ]

كفروا إلى آخر الآية. وفي الدر المنثور أخرج ابن اسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم (في الدلائل) عن إبن عباس أن اليهود كانوا يستفتحون على الاوس والخزرج برسول الله قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن أبي البراء وداود بن سلمة يا معشر اليهود إتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أصل شرك وتخبرونا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير ما جاءنا بشئ نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله: ولما جاءهم كتاب من عند الله الآية. وفي الدر المنثور أيضا أخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء والضحاك عن إبن عباس قال كانت يهود بني قريظة والنضير من قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يستفتحون الله، يدعون على الذين كفروا ويقولون: اللهم إنا نستنصرك بحق النبي الامي إلا نصرتنا عليهم فينصرون فلما جائهم ما عرفوا يريد محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ولم يشكوا فيه كفروا به. أقول: وروي قريبا من هذين المعنيين بطرق أخرى أيضا. قال بعض المفسرين بعد الاشارة إلى الرواية الاخيرة ونظائرها: إنها على ضعف رواتها ومخالفتها للروايات المنقولة شاذة المعنى بجعل الاستفتاح دعاء بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي بعض بحقه وهذا غير مشروع ولا حق لاحد على الله فيدعى به إنتهى. وهذا ناش من عدم التأمل في معنى الحق وفي معنى القسم. بيانه: أن القسم هو تقييد الخبر أو الانشاء بشئ ذي شرافة وكرامة من حيث أنه شريف أو كريم فتبطل شرافته أو كرامته ببطلان النسبة الكلامية، فإن كان خبرا فببطلان صدقه وإن كان إنشاء أمرا أو نهيا فبعدم إمتثال التكليف. فإذا قلت: لعمري إن زيدا قائم فقد قيدت صدق كلامك بشرافة عمرك وحياتك وعلقتها عليه بحيث لو كان حديثك كاذبا كان عمرك فاقدا للشرافة، وكذا إذا قلت إفعل كذا وحياتي أو قلت أقسمك بحياتي أن تفعل كذا فقد قيدت أمرك بشرف حياتك بحيث لو لم يأتمر مخاطبك لذهب بشرف

[ 225 ]

حياتك وقيمة عمرك. ومن هنا يظهر أولا: أن القسم أعلى مراتب التأكيد في الكلام كما ذكره أهل الادب. وثانيا: أن المقسم به يجب أن يكون أشرف من متعلقه فلا معنى لتأكيد الكلام بما هو دونه في الشرف والكرامة. وقد أقسم الله تعالى في كتابه باسم نفسه ووصفه كقوله: (والله ربنا) وكقوله: (فو ربك لنسئلنهم) وقوله: (فبعزتك لاغوينهم) وأقسم بنبيه وملائكته وكتبه وأقسم بمخلوقاته كالسماء والارض والشمس والقمر والنجوم والليل والنهار واليوم والجبال والبحار والبلاد والانسان والشجر والتين والزيتون. وليس إلا أن لها شرافة حقة بتشريف الله وكرامة على الله من حيث إن كلا منها إما ذو صفة من أوصافه المقدسة الكريمة بكرامة ذاته المتعالية أو فعل منسوب إلى منبع البهاء والقدس - والكل شريف بشرف ذاته الشريفة - فما المانع للداعي منا إذا سئل الله شيئا أن يساله بشئ منها من حيث أن الله سبحانه شرفه وأقسم به ؟ وما الذي هون الامر في خصوص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أخرجه من هذه الكلية وإستثناء من هذه الجملة ؟. ولعمري ليس رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأهون عند الله من تينه عراقية، أو زيتونة شامية، وقد أقسم الله بشخصه الكريم فقال: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) الحجر - 72. ثم إن الحق - ويقابله الباطل - هو الثابت الواقع في الخارج من حيث انه كذلك كالارض والانسان وكل أمر ثابت في حد نفسه ومنه الحق المالي وسائر الحقوق الاجتماعية حيث أنها ثابتة بنظر الاجتماع وقد أبطل القرآن كل ما يدعي حقا إلا ما حققه الله وأثبته سواء في الايجاد أو في التشريع فالحق في عالم التشريع وظرف الاجتماع الديني هو ما جعله الله حقا كالحقوق المالية وحقوق الاخوان والوالدين على الولد وليس هو سبحانه محكوما بحكم أحد فيجعل عليه تعالى ما يلزم به كما ربما يظهر من بعض

[ 226 ]

الاستدلالات الاعتزاليه غير انه من الممكن ان يجعل على نفسه حقا، جعلا بحسب لسان التشريع - فيكون حقا لغيره عليه تعالى كما قال تعالى: (وكذلك حقا علينا ننجي المؤمنين) يونس - 103، وقال تعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون. وإن جندنا لهم الغالبون) الصافات - 171 و 172 و 173. والنصر كما ترى مطلق، غير مقيد بشئ فالانجاء حق للمؤمنين على الله، والنصر حق للمرسل على الله تعالى وقد شرفه الله تعالى حيث جعله له فكان فعلا منه منسوبا إليه مشرفا به فلا من القسم به عليه تعالى وهو الجاعل المشرف للحق والمقسم بكل أمر شريف. إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن لا مانع من إقسام الله تعالى بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم أو بحق نبيه وكذا إقسامه بأوليائه الطاهرين أو بحقهم وقد جعل لهم على نفسه حقا أن ينصرهم في صراط السعادة بكل نصر مرتبط بها كما عرفت. وأما قول القائل: ليس لاحد على الله حق فكلام واه. نعم ليس على الله حق يثبته عليه غيره فيكون محكوما بحكم غيره مقهورا بقهر سواه. ولا كلام لاحد في ذلك ولا أن الداعي يدعوه بحق ألزمه به غيره بل بما جعله هو تعالى بوعده الذي لا يخلف هذا. قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين - 94. ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين - 95. ولتجدنهم أحرص الناس على حيوة ومن الذين أشركوا يود

[ 227 ]

أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب ان يعمر والله بصير بما يعملون - 96. قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين - 97. من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبرئيل وميكال فإن الله عدو للكافرين - 98. ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون - 99. (بيان) قوله تعالى: قل إن كانت لكم إلخ، لما كان قولهم: لن تمسنا النار إلا إياما معدودة، و قولهم: نؤمن بما أنزل علينا في جواب ما قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله يدلان بالالتزام على دعويهم أنهم ناجون في الآخرة دون غيرهم وأن نجاتهم وسعادتهم فيها غير مشوبة بهلاك وشقاء لانهم ليسوا بزعمهم بمعذبين إلا أياما معدودة وهي أيام عبادتهم للعجل قابلهم الله تعالى خطابا بما يظهر به كذبهم في دعويهم وانهم يعلمون ذلك من غير تردد وإرتياب فقال تعالى لنبيه: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة) أي سعادة تلك الدار فإن من ملك دارا فإنما يتصرف فيها بما يستحسنه ويحبه ويحل منها بأجمل ما يمكن وأسعده وقوله تعالى: (عند الله) أي مستقرا عنده تعالى وبحكمه وإذنه، فهو كقوله تعالى: (إن الدين عند الله الاسلام) آل عمران - 19 وقوله تعالى: (خالصة) أي غير مشوبة بما تكرهونه من عذاب أو هوان لزعمكم أنكم لا تعذبون فيها إلا أياما معدودة، قوله تعالى: (من دون الناس) وذلك لزعمكم بطلان كل دين إلا دينكم، وقوله تعالى: (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) وهذا كقوله تعالى: (قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم انكم أولياء الله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) الجمعة - 6، وهذه مؤاخذه بلازم فطري بين الاثر في

[ 228 ]

الخارج بحيث لا يقع فيه أدنى الشك وهو إن الانسان بل كل موجود ذي شعور إذا خير بين الراحة والتعب إختار الراحة من غير تردد وتذبذب وإذا خير بين حيوة وعيشة مكدرة مشوبة وأخرى خالصة صافية إختار الخالصة الهنيئة قطعا ولو فرض إبتلائه بما كان يميل عنه إلى غيره من حياة شقية ردية أو عيشة منغصة لم يزل يتمنى الاخرى الطيبة الهنيئة فلا ينفك عن التحسر له في قلبه وعن ذكره في لسانه وعن السعي إليه في عمله. فلو كانوا صادقين في دعويهم أن السعادة الخالصة الاخروية لهم دون غيرهم من الناس وجب أن يتمنوه جنانا ولسانا أركانا ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم من قتل الانبياء والكفر بموسى ونقض المواثيق والله عليم بالظالمين. قوله تعالى: بما قدمت أيديهم كناية عن العمل فإن معظم العمل عند الحس يقع بواسطة اليد فيقدم بعد ذلك إلى من ينتفع به أو يطلبه ففيه عنايتان نسبة التقديم إلى الايدي دون أصحاب الايدي وعد كل عملا للايدي. وبالجملة أعمال الانسان وخصة ما يستمر صدورن منه أحسن دليل على ما طوى عليه ضميره وارتكز في باطنه والاعمال الطالحة والافعال الخبثه لا يكشف إلا عن طوية خبيثة تأبى أن تميل إلى القاء الله والحلول في دار أوليائه. قوله تعالى: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة، كالدليل المبين لقوله تعالى: ولن يتمنوه أبدا أي ويشهد على أنهم لن يتمنوا الموت، أنهم أحرص الناس على هذه الحيوة الدنيا التي لا حاجب ولا مانع عن تمني الدار الآخرة إلا الحرص عليها والاخلاد إليها، والتنكير في قوله تعالى: على حيوة للتحقير كما قال تعالى: (وما هذه الحيوة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون). العنكبوت - 64. قوله تعالى: ومن الذين أشركوا الظاهر أنه عطف على الناس والمعنى ولتجدنهم أحرص من الذين أشركوا. قوله تعالى: وما هو بمز حزحه من العذاب أن يعمر، الظاهر أن ما نافية وضمير

[ 229 ]

هو إما للشأن والقصة وأن يعمر مبتدأ خبره قوله: بمزحزحه أي بمبعده، وإما راجع إلى ما يدل عليه قوله: يود أحدهم، أي وما الذي يوده بمزحزحه من العذاب، وقوله تعالى: أن يعمر بيان له ومعنى الآية ولن يتمنوا الموت وأقسم لتجدنهم أحرص الناس على هذه الحيوة الحقيرة الردية الصارفة عن تلك الحيوة السعيدة الطيبة بل تجدهم أحرص على الحيوة من الذين أشركوا الذين لا يرون بعثا ولا نشورا يود أحدهم لو يعمر أطول العمر وليس أطول العمر بمبعده من العذاب لان العمر وهو عمر بالاخرة محدود منته إلى إمد وأجل. قوله تعالى: يود أحدهم لو يعمر ألف سنة، أي اطول العمر وأكثره، فالالف كناية عن الكثرة وهو آخر مراتب العدد بحسب الوضع الافرادي عند العرب والزائد عليه يعبر عنه بالتكرير والتركيب كعشرة آلاف ومائة الف وألف ألف. قوله تعالى: والله بصير بما يعملون، البصير من أسمائه الحسنى ومعناه العلم بالمبصرات فهو من شعب إسم العليم. قوله تعالى: قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك الخ، السياق يدل على أن الآية نزلت جوابا عما قالته اليهود وأنهم تابوا واستنكفوا عن الايمان بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعللوه بأنهم عدو لجبريل النازل بالوحي إليه. والشاهد على ذلك أن الله سبحانه يجيبهم في القرآن وفي جبريل معا في الآيتين وما ورد من شأن النزول يؤيد ذلك فأجاب عن قولهم: إنا لا نؤمن بالقرآن لعداوتنا لجبريل النازل به اولا: أن جبريل إنما نزل به على قلبك بإذن الله لا من عند نفسه فعداوتهم لجبريل لا ينبغي أن يوجب إعراضهم عن كلام نازل بإذن الله، وثانيا: أن القرآن مصدق لما في ايديهم من الكتاب الحق ولا معنى للايمان بأمر والكفر بما يصدقه. وثالثا. أن القرآن هدى للمؤمنين به، ورابعا أنه بشرى وكيف يصح لعاقل أن ينحرف عن الهداية ويغمض عن البشرى ولو كان الآتي بذلك عدوا له. وأجاب عن قولهم: إنا عدو جبريل أن جبريل ملك من الملائكة لا شأن له إلا إمتثال ما أمره به الله سبحانه كميكال وسائر الملائكة وهم عباد مكرمون لا يعصون

[ 230 ]

الله فيما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وكذلك رسل الله لا شأن لهم إلا بالله ومن الله سبحانه فبغضهم وإستعدائهم بغض وإستعداء لله ومن كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو لهم، وإلى هذين الجوابين تشير الايتان. وقوله تعالى: فإنه نزله على قلبك، فيه إلتفات من التكلم إلى الخطاب وكان الظاهر أن يقال على قلبي، لكن بدل من الخطاب للدلالة على أن القرآن كما لا شأن في إنزاله لجبريل وإنما هو مأمور مطيع كذلك لا شأن في تلقيه وتبليغه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن قلبه وعاء للوحي لا يملك منه شيئا وهو مأمور بالتبليغ. واعلم أن هذه الآيات في أواخرها، أنواع الالتفات وإن كان الاساس فيها الخطاب لبني إسرائيل، غير أن الخطاب إذا كان خطاب لوم وتوبيخ وطال الكلام صار المقام مقام إستملال للحديث مع المخاطب وإستحقار. لشأنه فكان من الحري للمتكلم البليغ الاعراض عن المخاطبة تارة بعد أخرى بالالتفات بعد الالتفات للدلالة على أنه لا يرضى بخطابهم لردائة سمعهم وخسة نفوسهم ولا يرضى بترك خطابهم إظهارا لحق القضاء عليهم. قوله تعالى: عدو للكافرين، فيه وضع الظاهر موضع المضمر والنكتة فيه الدلالة على علة الحكم كانه قيل: فإن الله عدو لهم لانهم كافرون والله عدو للكافرين. قوله تعالى: وما يكفر بها إلا الفاسقون، فيه دلالة على علة الكفر وأنه الفسق فهم لكفرهم فاسقون ولا يبعد أن يكون اللام في قولة الفاسقون للعهد الذكري، ويكون ذلك إشارة إلى ما مر في أوائل السورة من قوله تعالى: وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه الآية. وأما الكلام في جبريل وكيفية تنزيله القرآن على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكذا الكلام في ميكال والملائكة فسيأتي فيما يناسبه من المحل إن شاء الله. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: قل من كان عدوا لجبريل الآيتان، قال إبن عباس كان

[ 231 ]

سبب نزول الآية ما روي أن ابن صوريا وجماعة من يهود أهل فدك لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة سألوه فقالوا: يا محمد كيف نومك ؟ فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في آخر الزمان. فقال تنام عيناي وقلبي يقظان. قالوا: صدقت يا محمد فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو المرأة ؟ فقال أما العظام والعصب والعروق فمن الرجل وأما اللحم والدم والظفر والشعر فمن المرأة. قالوا: صدقت يا محمد فما بال الولد يشبه أعمامه وليس له من شبه أخواله شئ ؟ أو يشبه أخواله وليس فيه من شبه أعمامه شئ ؟ فقال أيهما علا مائه كان الشبه له قالوا صدقت يا محمد فأخبرنا عن ربك ما هو ؟ فأنزل الله سبحانه: قل هو الله أحد إلى آخر السورة. فقال له إبن صوريا خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك واتبعتك. أي ملك يأتيك بما ينزل الله عليك ؟ قال: فقال جبرئيل. قال: ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة والحرب وميكائيل ينزل باليسر والرخاء فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنا بك. أقول: قوله: تنام عيناى وقلبي يقظان، قد استفاض الحديث من العامة والخاصة أنه كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه ومعناه أنه كان لا يغفل بالنوم عن نفسه فكان وهو في النوم يعلم أنه نائم وأن ما يراه رؤيا يراها ليس باليقظة، وهذا أمر بما يتفق للصالحين أحيانا عند طهارة نفوسهم وإشتغالها بذكر مقام ربهم وذلك أن إشراف النفس على مقام ربها لا يدعها غافلة عما لها من طور الحيوة الدنيوية ونحو تعلقها بربها. وهذا نحو مشاهدة يبين للانسان أنه في عالم الحيوة الدنيا على حال النوم سواء معه النوم الذي يراه الناس نوما فقط وكذا اليقظة التي يراها الناس يقظة وأن الناس وهم معتكفون على باب الحس مخلدون إلى أرض الطبيعة، رقود وان عدوا أنفسهم أيقاظا. فعن علي عليه اسلام: الناس نيام فإذا ماتوا إنتبهوا الحديث. وسيأتي زيادة استيفاء لهذا البحث وكذا الكلام في سائر فقرات هذا الحديث في مواضع مناسبة من هذا الكتاب إنشاء الله. أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا

[ 232 ]

يؤمنون - 100. ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون - 101. (بيان) قوله تعالى: نبذه، النبذ الطرح. قوله تعالى: ولما جاءهم رسول، المراد به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا كل رسول كان يأتيهم مصدقا لما معهم، لعدم دلالة قوله: ولما جائهم على الاستمرار بل إنما يدل على الدفعة، والآية تشير إلى مخالفتهم للحق من حيث كتمانهم بشارة التوراة وعدم إيمانهم بمن يصدق ما معهم. واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن إشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون - 102. ولو أنهم آمنوا

[ 233 ]

واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون - 103. (بيان) قوله تعالى: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك، الخ، قد اختلف المفسرون في تفسير الآية إختلافا عجييا لا يكاد يوجد نظيره في آية من آيات القرآن المجيد، فاختلفوا في مرجع ضمير قوله: إتبعوا، أهم اليهود الذين كانوا في عهد سليمان، أو الذين في عهد رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم أو الجميع ؟ واختلفوا في قوله: تتلوا، هل هو بمعنى تتبع الشياطين وتعمل به إو بمعنى تقرأ، أو بمعنى تكذب ؟ واختلفوا في قوله: الشياطين، فقيل هم شياطين الجن وقيل شياطين الانس وقيل هما معا، واختلفوا في قوله: على ملك سليمان، فقيل معناه في ملك سليمان، وقيل معناه في عهد ملك سليمان، وقيل معناه على ملك سليمان بحفظ ظاهر الاستعلاء في معنى على، وقيل معناه على عهد ملك سليمان، واختلفوا في قوله: ولكن الشياطين كفروا، فقيل إنهم كفروا بما إستخرجوه من السحر إلى الناس وقيل إنهم كفروا بما نسبوه إلى سليمان من السحر، وقيل إنهم سحروا فعبر عن السحر بالكفر، واختلفوا في قوله: يعلمون الناس السحر، فقيل إنهم القوا السحر إليهم فتعلموه، وقيل إنهم دلوا الناس على إستخراج السحر وكان مدفونا تحت كرسي سليمان فاستخرجوه وتعلموه، واختلفوا في قوله: وما أنزل على الملكين فقيل ما موصولة والعطف على قوله: ما تتلوا، وقيل ما موصولة والعطف على قوله: السحر أي يعلمونهم ما أنزل على الملكين، وقيل ما نافية والواو إستينافية أي ولم ينزل على الملكين سحر كما يدعيه اليهود، واختلفوا في معنى الانزال فقيل إنزال من السماء وقيل بل من نجود الارض وأعاليها، واختلفوا في قوله: الملكين، فقيل كانا من ملائكة السماء، وقيل بل كانا إنسانين ملكين بكسر اللام إن قرأناه، بكسر اللام كما قرئ كذلك في الشواذ، أو ملكين بفتح اللام أي صالحين، أو متظاهرين بالصلاح. أن قرأناه على ما قرأ به المشهور، وإختلفوا في قوله: ببابل، فقيل هي بابل العراق وقيل بابل دماوند، وقيل، من نصيبين إلى رأس العين، وإختلفوا في قوله: وما يعلمان، فقيل علم بمعناه الظاهر، وقيل علم بمعنى اعلم، واختلفوا في قوله: فلا تكفر، فقيل، لا تكفر بالعمل بالسحر، وقيل لا تكفر بتعلمه، وقيل بهما معا،

[ 234 ]

و اختلفوا في قوله: فيتعلمون منهما، فقيل أي من هاروت وماروت، وقيل أي من السحر والكفر، وقيل بدلا مما علماه الملكان بالنهي إلى فعله، واختلفوا في قوله: ما يفرقون به بين المرء وزوجه، فقيل أي يوجدون به حبا وبغضا بينهما، وقيل إنهم يغرون أحد الزوجين ويحملونه على الكفر والشرك فيفرق بينهما إختلاف الملة والنحلة وقيل إنهم يسعون بينهما بالنميمة والوشاية فيؤل إلى الفرقة، فهذه نبذة من الاختلاف في تفسير كلمات ما يشتمل على القصة من الآية وجملة، وهناك إختلافات اخر في الخارج من القصة في ذيل الآية وفي نفس القصة، وهل هي قصة واقعة أو بيان على سبيل التمثيل ؟ أو غير ذلك ؟ وإذا ضربت بعض الارقام التي ذكرناها من الاحتمالات في البعض الآخر، ارتقى الحتمالات إلى كمية عجيبة وهي ما يقرب من الف الف ومائتين وستين الف احتمال 4 + 3 + 2 !. وهذا لعمر الله من عجائب نظم القرآن تتردد الآية بين مذاهب وإحتمالات تدهش العقول وتحير الالباب، والكلام بعد متك على اريكة حسنه متجمل في أجمل جماله متحل بحلي بلاغته وفصاحته وسيمر بك نظيرة هذه الآية وهي قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة) هود - 17. والذي ينبغي أن يقال: أن الآية بسياقها تتعرض لشأن آخر من شئون اليهود وهو تداول السحر بينهم، وأنهم كانوا يستندون في أصله إلى قصة معروفة أو قصتين معروفتين عندهم فيها ذكر من أمر سليمان النبي والملكين ببابل هاروت وماروت، فالكلام معطوف على ما عندهم من القصة التي يزعمونها إلا أن اليهود كما يذكره عنهم القرآن أهل تحريف وتغيير في المعارف والحقائق فلا يؤمنون ولا يؤمن من أمرهم أن يأتوا بالقصص التاريخية محرفة مغيرة على ما هو دأبهم في المعارف يميلون كل حين إلى ما يناسبه من منافعهم في القول والفعل وفيما يلوح من مطاوي جمل الآية كفاية، وكيف كان فيلوح من الآية أن اليهود كانوا يتناولون بينهم السحر ينسبونه إلى سليمان زعما منهم أن سليمان عليه السلام انما ملك الملك وسخر الجن والانس والوحش والطير، واتى بغرائب الامور وخوارقها بالسحر الذي هو بعض ما في أيديهم، وينسبون بعضه الآخر إلى الملكين ببابل هاروت وماروت فرد عليهم القرآن بأن سليمان عليه السلام لم يكن يعمل

[ 235 ]

بالسحر، كيف والسحر كفر بالله وتصرف في الكون على خلاف ما وضع الله العادة عليه وأظهره على خيال الموجودات الحية وحواسها ؟ ولم يكفر سليمان عليه السلام وهو نبي معصوم، وهو قوله تعالى: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) وقوله تعالى: (ولقد علموا لمن إشتريه ما له في الآخرة من خلاق) فسليمان عليه السلام أعلى كعبا وأقدس ساحة من أن ينسب إليه السحر والكفر وقد استعظم الله قدره في مواضع من كلامه في عدة من السور المكية النازلة قبل هذه السورة كسورة الانعام والانبياء والنمل وسورة (ص) وفيها أنه كان عبدا صالحا ونبيا مرسلا آتاه الله العلم والحكمة ووهب له من الملك ما لا ينبغي لاحد من بعده فلم يكن بساحر بل هو من القصص الخرافية والاساطير التي وضعتها الشياطين وتلوها وقرؤها على أوليائهم من الانس وكفروا بإضلالهم الناس بتعليم السحر. ورد عليهم القرآن في الملكين ببابل هاروت وماروت بأنه وإن انزل عليهما ذلك ولا ضير في ذلك لانه فتنة وامتحان إلهي كما ألهم قلوب بني آدم وجوه الشر والفساد فتنة وامتحانا وهو من القدر، فهما وإن أنزل عليهما السحر إلا أنهما ما كانا يعلمان من أحد إلا ويقولان له إنما نحن فتنة فلا تكفر باستعمال ما تتعلمه من السحر في غير مورده كإبطال السحر والكشف عن بغي أهله وهم مع ذلك يتعلمون منهما ما يفسدون به اصلح ما وضعه الله في الطبيعة والعادة، فيفرقون به بين المرء وزوجه إبتغاءا للشر والفساد ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم فقوله تعالى: واتبعوا أي اتبعت اليهود الذين بعد عهد سليمان بتوارث الخلف عن السلف ما تتلوا، أي تضع وتكذب الشياطين من الجن على ملك سليمان والدليل على أن تتلوا بمعنى تكذب تعديه بعلى وعلى أن الشياطين هم الجن كون هؤلاء تحت تسخير سليمان ومعذبين بعذابه، وبذلك كان عليه السلام يحبسهم عن الافساد، قال تعالى: (ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين) الانبياء - 82، وقال تعالى: (فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) السبأ - 14 قوله تعالى: وما كفر سليمان، أي والحال أن سليمان لم يسحر حتى يكفر ولكن الشياطين كفروا، والحال انهم يضلون الناس ويعلمونهم السحر. قوله تعالى: وما أنزل، أي واتبعت اليهود ما انزل بالاخطار والالهام على

[ 236 ]

الملكين ببابل هاروت وماروت، والحال انهما ما يعلمان السحر من أحد حتى يحذراه العمل به ويقولا انما نحن فتنة لكم وامتحان تمتحنون بنا بما نعلمكم فلا تكفر باستعماله. قوله تعالى: فيتعلمون منهما أي من الملكين وهما هاروت وماروت، ما يفرقون به أي سحرا يفرقون بعمله وتأثيره بين المرء وزوجه. قوله تعالى: وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله، دفع لما يسبق إلى الوهم إنهم بذلك يفسدون أمر الصنع والتكوين ويسبقون تقدير الله ويبطلون أمره فدفعه بأن السحر نفسه من القدر لا يؤثر إلا بإذن الله فما هم بمعجزين، وانما قدم هذه الجملة على قوله: ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، لان هذه الجملة أعني: ويتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وحدها مشتملة على ذكر التأثير فأردفت بأن هذا التأثير بإذن الله. قوله تعالى: ولقد علموا لمن اشتريه ما له في الآخرة من خلاق، علموا ذلك بعقولهم لان العقل لا يرتاب في أن السحرأ شئم منابع الفساد في الاجتماع الانساني وعلموا ذلك أيضا من قول موسى فانه القائل: (ولا يفلح الساحر حيث أتى) طه - 69. قوله تعالى: ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون، اي إنهم مع كونهم عالمين بكونه شرا لهم مفسدا لآخرتهم غير عالمين بذلك حيث لم يعملوا بما علموا فإن العلم إذا لم يهد حامله إلى مستقيم الصراط كان ضلالا وجهلا لا علما، قال تعالى: (أفرأيت من إتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم) الجاثية - 23. فهؤلاء مع علمهم بالامر ينبغي أن يتمنى المتمني لهم العلم والهداية. قوله تعالى: ولو انهم آمنوا واتقوا، الخ أي اتبعوا الايمان والتقوى، بدل اتباع اساطير الشياطين، والكفر بالسحر، وفيه دليل على أن الكفر بالسحر كفر في مرتبة العمل كترك الزكوة، لا كفر في مرتبة الاعتقاد، ولو كان السحر كفرا في الاعتقاد لقال تعالى: ولو أنهم آمنوا لمثوبة، الخ، وإقتصر على الايمان ولم يذكر التقوى فاليهود آمنوا ولكن لما لم يتقوا ولم يرعوا محارم الله، لم يعبأ بإيمانهم فكانوا كافرين.

[ 237 ]

قوله تعالى: لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون، أي من المثوبات والمنافع التي يرومونها بالسحر ويقتنونها بالكفر هذا. (بحث روائي) في تفسير العياشي والقمي في قوله تعالى: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان عن الباقر عليه السلام في حديث: فلما هلك سليمان وضع إبليس السحر وكتبه في كتاب ثم طواه وكتب على ظهره، هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم من أراد كذا وكذا فليعمل كذا وكذا ثم دفنه تحت سريره ثم استتاره لهم فقرأه فقال الكافرون: ما كان يغلبنا سليمان إلا بهذا، وقال المؤمنون: بل هو عبد الله ونبيه، فقال الله جل ذكره: وإتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان. اقول: إسناد الوضع والكتابة والقرائة إلى إبليس لا ينافي استنادها إلى سائر الشياطين من الجن والانس لانتهاء الشر كله إليه وإنتشاره منه لعنه الله، إلى أوليائه بالوحي والوسوسة وذلك شائع في لسان الاخبار وظاهر الحديث أن كلمة تتلوه من التلاوة بمعنى القرائة وهذا لا ينافي ما استظهرناه في البيان السابق: إن تتلو بمعنى يكذب لان افادة معنى الكذب من جهة التضمين أو ما يشبهه، وتقدير قوله: تتلوا الشياطين على ملك سليمان يقرؤنه كاذبين على ملك سليمان والاصل في معنى تلا يتلو رجوعه إلى معنى ولى لى ولاية وهو أن يملك الشئ من حيث الترتيب ووقوع جزء منه عقيب جزء آخر، وسيأتي الكلام فيه في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله) المائدة - 58. وفي العيون: في حديث الرضا عليه السلام مع المأمون واما هاروت وماروت فكانا ملكين علما الناس السحر ليتحرزوا به عن سحر السحرة ويبطلوا كيدهم وما علما أحدا من ذلك شيئا إلا قالا له إنما نحن فتنة فلا تكفر فكفر قوم باستعمالهم لما امروا بالاحتراز عنه وجعلوا يفرقون بما يعملونه بين المرء وزوجه، قال الله تعالى: وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله.

[ 238 ]

وفي الدر المنثور أخرج إبن جرير عن ابن عباس، قال: كان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئا من شأنه أعطى الجرادخ وهي أمرأته خاتمه فلما أراد الله أن يبتلى سليمان بالذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذلك اليوم خاتمه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي فاخذه ولبسه فلما لبسه دانت له شياطين الجن والانس فجائها سليمان فقال: هاتي خاتمي فقالت كذبت لست سليمان فعرف أنه بلاء ابتلى به فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الايام كتبا فيها سحر وكفر ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ثم أخرجوها فقرؤوها على الناس فقالوا إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب فبرء الناس من سليمان واكفروه حتى بعث الله محمدا وأنزل عليه: وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا. أقول: والقصة مروية في روايات اخرى وهي قصة طويلة من جملة القصص الواردة في عثرات الانبياء مذكورة في جملتها. في الدر المنثور أيضا وأخرج سعيد بن جرير والخطيب في تاريخه عن نافع قال: سافرت مع ابن عمر فلما كان في آخر الليل، قال يا نافع: انظر هل طلعت الحمراء ؟ قلت لا، مرتين أو ثلثا ثم قلت: قد طلعت. قال: لا مرحبا بها ولا أهلا قلت: سبحان الله نجم مسخر سامع مطيع. قال ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: إن الملائكة قالت: يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب ؟ قال: إني أبليتهم وعافيتهم. قالوا لو كنا مكانهم ما عصيناك، قال فاختاروا ملكين منكم، فلم يألوا جهدا أن يختاروا فاختاروا هاروت وماروت فنزلا، فألقى الله عليهما الشبق، قلت: وما الشبق ؟ قال: الشهوة فجائت امرأة يقال لها الزهرة فوقعت في قلوبهما فجعل كل واحد منهما يخفى عن صاحبه ما في نفسه ثم قال أحدهما للآخر هل وقع في نفسك ما وقع في قلبي ؟ قال: نعم، فطالباها لانفسهما فقالت لا امكنكما حتي تعلماني الاسم الذي تعرجان به إلى السماء وتهبطان فأبيا ثم سئلاها أيضا فأبت. ففعلا فلما استطيرت طمسها الله كوكبا وقطع أجنحتهما ثم سألا التوبة من ربهما فخيرهما فقال ان شئتما رددتكما إلى ما كنتما عليه، فإذا كان يوم القيامة عذبتكما، وان شئتما عذبتكما في الدنيا فإذا كان يوم القيامة رددتكما إلى ما كنتما عليه، فقال احدهما لصاحبه إن عذاب الدنيا ينقطع ويزول فاختارا

[ 239 ]

عذاب الدنيا على عذاب الآخرة فأوحى الله اليهما أن ائتيا بابل فانطلقا إلى بابل فخسف بهما فهما منكوسان بين السماء والارض معذبان إلى يوم القيامة. اقول: وقد روي قريب منه في بعض كتب الشيعة مرفوعا عن الباقر عليه السلام وروي السيوطي فيما يقرب من هذا المعنى في أمر هاروت وماروت والزهرة نيفا وعشرين حديثا، صرحوا بصحة طريق بعضها. وفي منتهى أسنادها عدة من الصحابة كابن عباس وابن مسعود وعلي وأبي الدرداء وعمر وعائشة وابن عمر. وهذه قصة خرافية تنسب إلى الملائكة المكرمين الذين نص القرآن على نزاهة ساحتهم وطهارة وجودهم عن الشرك والمعصية أغلظ الشرك وأقبح المعصية، وهو: عبادة الصنم والقتل والزنا وشرب الخمر وتنسب إلى كوكبة الزهرة أنها امرأة زانية مسخت - وإنها اضحوكة - وهي كوكبة سماوية طاهرة في طليعتها وصنعها أقسم الله تعالى عليها في قوله: (والجوار الكنس) التكوير - 16، على أن علم الفلك أظهر اليوم هويتها وكشف عن عنصرها وكميتها وكيفيتها وسائر شئونها. فهذه القصة كالتي قبلها المذكورة في الرواية السابقة تطابق ما عند اليهود على ما قيل: من قصة هاروت وماروت، تلك القصة الخرافية التي تشبه خرافات يونان في الكواكب والنجوم. ومن هيهنا يظهر للباحث المتأمل: أن هذه الاحاديث كغيرها الواردة في مطاعن الانبياء وعثراتهم لا تخلو من دس دسته اليهود فيها وتكشف عن تسربهم الدقيق ونفوذهم العميق بين أصحاب الحديث في الصدر الاول فقد لعبوا في رواياتهم بكل ما شاؤا من الدس والخلط وأعانهم على ذلك قوم آخرون. لكن الله عز اسمه جعل كتابه في محفظة الهية من هوسات المتهوسين من أعدائه كلما استرق السمع شيطان من شياطينهم إتبعه بشهاب مبين، فقال عز من قائل: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر - 9، وقال و (إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه تنزيل من حكيم حميد) فصلت - 42، وقال: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) أسرى - 82،

[ 240 ]

فأطلق القول ولم يقيد، فما من خلط أو دس إلا ويدفعه القرآن ويظهر خسار صاحبه بالكشف عن حاله وإقراء صفحة تاريخة، وقال رسول الله فيما رواه الفريقان: ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالفه فاتركوه. فأعطى ميزانا كليا يوزن به المعارف المنقولة منه ومن أوليائه، وبالجملة فبالقرآن يدفع الباطل عن ساحة الحق ثم لا يلبث أن يظهر بطلانه ويمات عن القلوب الحية كما اميت عن الاعيان. قال تعالى: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه) الانبياء - 18، وقال تعالى: (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته) الانفال - 7، وقال تعالى: (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) الانفال - 8 ولا معنى لاحقاق الحق ولا لابطال الباطل إلا إظهار صفتهما. وبعض الناس وخاصة من أهل عصرنا من المتوغلين في الابحاث المادية والمرعوبين من المدنية الغربية الحديثة استفادوا من هذه الحقيقة المذكورة سوء وأخذوا بطرح جميع ما تضمنته سنة رسول الله واشتملت عليه جوامع الروايات فسلكوا في ذلك مسلك التفريط، قبال ما سلكه بعض الاخباريين وإصحاب الحديث والحرورية وغيرهم مسلك الافراط والاخذ بكل رواية منقولة كيف كانت. وكما أن القبول المطلق تكذيب للموازين المنصوبة في الدين لتميز الحق من الباطل ونسبة الباطل واللغو من القول إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذلك الطرح الكلي تكذيب لها وإلغاء وإبطال للكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو القائل جل ثنائه: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) الحشر - 7، وقوله تعالى: (وما إرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) النساء - 64، إذ لو لم يكن لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجية أو لما ينقل من قوله صلى الله عليه وآله وسلم إلينا معاشر الغائبين في عصره أو الموجودين بعد ارتحاله من الدنيا حجية لما استقر من الدين حجر على حجر، والركون على النقل والحديث مما يعنوره البشر ويقبله في حيوتة الاجتماعية قبولا يضطر إليه بالبداهة ويهديه إلى ذلك الفطرة الانسانية لا غنى له عن ذلك، وأما وقوع الدس والخلط في المعارف المنقولة الدينية فليس ببدع يختص بالدين كيف ورحى الاجتماع بجميع جهاتها وأركانها تدور على الاخبار الدائرة اليومية العامة والخاصة، ووجوده الكذب والدس والخلط فيها أزيد وأيدي السياسات الكلية والجزئية بها ألعب ؟ ونحن على فطرتنا

[ 241 ]

الانسانية لا نجري على مجرد قرع السمع في الاخبار المنقولة إلينا في نادي الاجتماع بل نعرض كل واحد واحد منها على ما عندنا من الميزان الذي يمكن أن يوزن به فإن وافقه وصدقه قبلناه وإن خالفه وكذبه طرحناه وإن لم يتبين شئ من أمره ولم يتميز حقه من باطله وصدقه من كذبه توقفنا فيه من غير قبول ولا رد على الاحتياط الذي جبلنا عليه في الشرور والمضار. هذا كله بشرط الخبرة في نوع الخبر الذي نقل إلينا، وأما ما لا خبرة للانسان فيه من الاخبار بما يشتمل عليه من المضمون فسبيل العقلاء من أهل الاجتماع فيه الرجوع إلى أهل خبرته والاخذ بما يرون فيه ويحكمون به هذا. فهذا ما عليه بناؤنا الفطري في الاجتماع الانساني، والميزان الديني المضروب لتمييز الحق من الباطل وكذا الصدق من الكذب، لا يغاير ذلك بل هو هو بعينه، وهو العرض على كتاب الله فإن تبين منه شئ أخذ به وإن لم يتبين لشبهة فالوقوف عند الشبهة، وعلى ذلك أخبار متواترة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمة من أهل بيته. هذا كله في غير المسائل الفقهية وأما هي فالمرجع في البحث عنها فن أصول الفقه. (بحث فلسفي) من المعلوم وقوع أفعال خارقة للعادة الجارية للمشاهدة والنقل، فقلما يوجد منا من لم يشاهد شيئا من خوارق الافعال أو لم ينقل إليه شئ من ذلك - قليل أو كثير إلا أن البحث الدقيق في كثير منها يبين رجوعها إلى الاسباب الطبيعية العادية، فكثير من هذه الافعال الخارقة يتقوى بها أصحابها بالاعتياد و التمرين كأكل السموم وحمل الاثقال والمشي على حبل ممدود في الهواء إلى غير ذلك، وكثير منها تتكي على أسباب طبيعية مخفية على الناس مجهولة لهم كمن يدخل النار ولا يحترق بها من جهة طلاية الطلق ببدنه أو يكتب كتابا لا خط عليه ولا يقرأه إلا صاحبه، وإنما كتب بمايع لا يظهر إلا إذا عرض الكتاب على النار إلى غير ذلك. وكثير منها يحصل بحركات

[ 242 ]

سريعة تخفي على الحس لسرعتها فلا يرى الحس إلا أنه وقع من غير سبب طبيعي كالخوارق التي يأتي بها أصحاب الشعبذة، فهذه كلها مستندة إلى أسباب عادية مخفية على حسنا أو غير مقدورة لنا، لكن بعض هذه الخوارق لا يحلل إلى الاسباب الطبيعية الجارية على العادة كالاخبار عن بعض المغيبات، وخاصة ما يقع منها في المستقبل وكأعمال الحب والبغض والعقد والحل والتنويم والتمريض وعقد النوم والاحضار والتحريكات بالارادة مما يقع من أرباب الرياضات وهي امور غير قابلة للانكار، شاهدنا بعضا منها ونقل الينا بعض آخر نقلا لا يطعن فيه، وهو ذا يوجد اليوم من أصحابها بالهند وايران والغرب جماعة يشاهد منهم أنواع من هذه الخوارق والتأمل التام في طرق الرياضات المعطية لهذه الخوارق والتجارب العملي في أعمالهم وإرادتهم يوجب القول بانها مستندة ألى قوة إلارادة والايمان بالتأثير على تشتت أنواعها، فالارادة تابعة للعلم والاذعان السابق عليه، فربما توجد على اطلاقها وربما توجد عند وجود شرائط خاصة ككتابه شئ خاص بمداد خاص في مكان خاص في بعض أعمال الحب والبغض، أو نصب المرآة حيال وجه طفل خاص عند إحضار الروح أو قراءة عوذة خاصة إلى غير ذلك، فجميع ذلك شرائط لحصول الارادة الفاعلة، فالعلم إذا تم علما قاطعا اعطى للحواس مشاهدة ما قطع به، ويمكنك ان تختبر صحة ذلك بان تلقن نفسك أن شيئا كذا أو شخصا كذا حاضر عندك تشاهده بحاستك ثم تتخيله بحيث لا تشك فيه ولا تلتفت إلى عدمه ولا إلى شئ غيره فانك تجده امامك على ما تريد، وربما توجد في الآثار معالجة بعض الاطباء الامراض المهلكة بتلقين الصحة على المريض. وإذا كان الامر على هذا فلو قويت الارادة أمكنها أن تؤثر في غير الانسان المريد نظير ما توجده في نفس الانسان المريد إما من غير شرط وقيد أو مع شئ من الشرائط. ويتبين بما مر امور: احدها: أن الملاك في هذا التأثير تحقق العلم الجازم من صاحب خرق العادة وأما مطابقة هذا العلم للخارج فغير لازم كما كان يعتقده أصحاب تسخير الكواكب من الارواح المتعلقة بالاجرام الفلكية، ويمكن أن يكون من هذا القبيل الملائكة والشياطين الذين يستخرج اصحاب الدعوات والعزائم اسمائهم

[ 243 ]

ويدعون بها على طرق خاصة عندهم، وكذلك ما يعتقده أصحاب إحضار الارواح حضور الروح فلا دليل لهم على أزيد من حضورها في خيالهم أو حواسهم دون الخارج والا لرآه كل من حضر عندهم و للكل حس طبيعي، وبه تنحل شبهة أخرى في احضار روح من هو حي في حال اليقظة مشغول بأمره من غير أن يشعر به والواحد من الانسان ليس له الا روح واحدة، وبه تنحل أيضا شبهة اخرى وهي ان الروح جوهر مجرد لا نسبة له إلى زمان ومكان دون زمان ومكان، وبه تنحل أيضا شبهة ثالثه، وهي: أن الروح الواحدة ربما تحضر عند أحد بغير الصورة التي تحضر بها عند آخر. وبه تنحل أيضا شبهة رابعة، وهي: ان الارواح ربما تكذب عند الاحضار في أخبارها وربما يكذب بعضها بعضا. فالجواب عن الجميع: أن الروح انما تحضر في مشاعر الشخص المحضر لا في الخارج منها على حد ما نحس بالاشياء المادية الطبيعية. ثانيها: أن صاحب هذه الارادة المؤثرة ربما يعتمد في ارادته على قوة نفسه وثبات إنيته كغالب أصحاب الرياضات في ارادتهم فتكون لا محالة محدودة القوة مقيدة الاثر عند المريد وفي الخارج، وربما يعتمد فيه على ربه كالانبياء والاولياء من أصحاب العبودية لله وأرباب اليقين بالله فهم لا يريدون شيئا الا لربهم وبربهم، وهذه ارادة طاهرة لا استقلال للنفس التي تطلع هذه الارادة منها بوجه ولم تتلون بشئ من ألوان الميول النفسانية ولا اتكاء لها الا على الحق فهي ارادة ربانية غير محدودة ولا مقيدة. والقسم الثاني: ان أثرت في مقام التحدي كغالب ما ينقل من الانبياء سميت آية معجزة وان تحققت في غير مقام التحدي سميت كرامة أو استجابة دعوة ان كانت مع دعاء، والقسم الاول إن كان بالاستخبار والاستنصار من جن أو روح أو نحوه سمي كهانة وإن كان بدعوة أعزيمة أو رقية أو نحو ذلك سمي سحرا. ثالثها: أن الامر حيث كان دائرا مدار الارادة في قوتها وهي على مراتب من القوة والضعف أمكن أن يبطل بعضها أثر البعض كتقابل السحر والمعجزة أو ان لا يؤثر بعض النفوس في بعض إذا كانت مختلفة في مراتب القوة وهو مشهود في أعمال التنويم والاحضار، هذا وسيأتي شطر من الكلام في ذلك.

[ 244 ]

(بحث علمي) العلوم الباحثة عن غرائب التأثير كثيرة والقول الكلي في تقسيمها وضبطها عسيرة جدا، وأعرف ما هو متداول بين أهلها ما نذكره: منها: السيمياء، وهو العلم الباحث عن تمزيج القوى الارادية مع القوى الخاصة المادية للحصول على غرائب التصرف في الامور الطبيعية، ومنه التصرف في الخيال المسمى بسحر العيون وهذا الفن من أصدق مصاديق السحر، ومنها الليمياء وهو العلم الباحث عن كيفية التأثيرات الارادية باتصالها بالارواح القوية العالية كالارواح الموكلة بالكواكب والحوادث وغير ذلك بتسخيرها أو باتصالها واستمدادها من الجن بتسخيرهم، وهو فن التسخيرات، ومنها: الهيمياء: وهو العلم الباحث عن تركيب قوى العالم العلوي مع العناصر السفلية للحصول على عجائب التأثير وهو الطلسمات، فإن للكواكب العلوية والاوضاع السماوية ارتباطات مع الحوادث المادية كما ان العناصر والمركبات وكيفياتها الطبيعية كذلك، فلو ركبت الاشكال السماوية المناسبة لحادثة من الحوادث كموت فلان، وحيوة فلان، وبقاء فلان مثلا مع الصورة المادية المناسبة أنتج ذلك الحصول على المراد وهذا معنى الطلسم، ومنها: الريمياء، وهو العلم الباحث عن استخدام القوى المادية للحصول على آثارها بحيث يظهر للحس أنها آثار خارقه بنحو من لانحاء وهو الشعبذة، وهذه الفنون الاربعة مع فن خامس يتلوها وهو الكليميا الباحث عن كيفية تبديل صور العناصر بعضها إلى بعض كانت تسمى عندهم بالعلوم الخمسة الخفية، قال شيخنا البهائي: أحسن الكتب المصنفة التي في هذه الفنون كتاب رأيته ببلدة هرات إسمه (كله سر) وقد ركب إسمه من أوائل إسماء هذه العلوم، الكيميا، والليميا، والهيميا، والسيميا، و الريميا، إنتهى ملخص كلامه. ومن الكتب المعتبرة فيها خلاصة كتب بليناس ورسائل الخسر وشاهي والذخيرة الاسكندرية والسر المكتوم للرازي والتسخيرات للسكاكي واعمال الكواكب السبعة للحكيم طمطم الهندي. ومن العلوم الملحقة بما مر علم الاعداد والاوفاق وهو الباحث عن ارتباطات

[ 245 ]

الاعداد والحروف للمطالب ووضع العدد أو الحروف المناسبة للمطلوب في جداول مثلثة أو مربعة أو غير ذلك على ترتيب مخصوص، ومنها: الخافية وهو تكسير حروف المطلوب أو ما يناسب المطلوب من الاسماء واستخراج اسماء الملائكة أو الشياطين الموكلة بالمطلوب والدعوة بالعزائم المؤلفة منها للنيل على المطلوب ومن الكتب المعتبرة فيها عندهم كتب الشيخ أبي العباس التوني والسيد حسين الاخلاطي وغيرهما. ومن الفنون الملحقة بها الدائرة اليوم التنويم المغناطيسي واحضار الارواح وهما كما مر من تأثير الارادة والتصرف في الخيال وقد ألف فيها كتب ورسائل كثيرة، واشتهار أمرها يغني عن الاشارة إليها هينها، والغرض مما ذكرنا على طوله إيضاح انطباق ما ينطبق منها على السحر أو الكهانة. يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا أنظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم - 104. ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم - 105. (بيان) قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا، أول مورد في القرآن ورد فيه خطاب المؤمنين بلفظة يا أيها الذين آمنوا، وهو واقع في القرآن خطابا في نحو من خمسة وثمانين موضعا والتعبير عن المؤمنين بلفظة الذين آمنوا بنحو الخطاب أو بغير الخطاب مما يختص بهذه الامة، وأما الامم السابقة فيعبر عنهم بلفظة القوم كقوله: (قوم نوح وقوم هود) وقوله: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة الآية) و قوله: (أصحاب مدين وأصحاب الرس)، وبني إسرائيل، ويا بني إسرائيل، فالتعبير بلفظة الذين آمنوا

[ 246 ]

مما يختص التشرف به بهذه الامة، غير أن التدبر في كلامه تعالى يعطي أن التعبير بلفظة الذين آمنوا يراد به في كلامه تعالى غير ما يراد بلفظة المؤمنين كقوله تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون: النور - 31، بحسب المصداق، قال تعالى: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم، ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وازواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم) المؤمن - 7 و 8، فجعل استغفار الملائكة وحملة العرش أولا للذين آمنوا ثم بدله ثانيا من قوله: للذين تابوا واتبعوا، والتوبة هي الرجوع، ثم علق دعائهم بالذين آمنوا وعطف عليهم آبائهم وذرياتهم ولو كان هؤلاء المحكي عنهم بالذين آمنوا هم أهل الايمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كيف ما كانوا، كان الذين آمنوا شاملا للجميع من الآباء والابناء والازواج ولم يبق للعطف والتفرقة محل وكان الجميع في عرض واحد ووقعوا في صف واحد. ويستفاد هذا المعنى أيضا من قوله تعالى: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم شئ كل إمرء بما كسب رهين) الطور - 21، فلو كان ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان مصداقا للذين آمنوا في كلامه تعالى لم يبق للالحاق وجه، ولو كان قوله: (واتبعتهم ذريتهم) قرينة على ارادة اشخاص خاصة من الذين آمنوا وهم كل جمع من المؤمنين بالنسبة إلى ذريتهم، المؤمنين لم يبق للالحاق أيضا وجه، ولا لقوله، وما ألتناهم من عملهم من شئ، وجه صحيح الا في الطبقة الاخيرة التي لا ذرية بعدهم يتبعونهم بإيمان فهم يلحقون بآبائهم، وهذا وان كان معنى معقولا الا أن سياق الآية وهو سياق التشريف يأبى ذلك لعود المعنى على ذلك التقدير إلى مثل معنى قولنا: المؤمنون بعضهم من بعض أو بعضهم يلحق ببعض وهم جميعا في صف واحد من غير شرافة للبعض على البعض ولا للمتقدم على المتأخر فإن الملاك هو الايمان وهو في الجميع واحد وهذا مخالف لسياق الآية الدال على نوع كرامة وتشريف للسابق بالحاق ذريته به، فقوله: وإتبعتهم ذريتهم بايمان، قرينة على إرادة أشخاص خاصة بقوله: الذين آمنوا، وهم السابقون الاولون في الايمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين والانصار في يوم العسرة فكلمة الذين آمنوا كلمة تشريف يراد بها هؤلاء، ويشعر بذلك أيضا قوله تعالى:

[ 247 ]

(للفقراء المهاجرين، إلى أن قال: والذين تبوأوا الدار والايمان من قبلهم، إلى أن قال: والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا إغفر لنا ولخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) الحشر - 10، فلو كان مصداق قوله: الذين آمنوا، عين مصداق قوله: الذين سبقونا بالايمان، كان من وضع الظاهر موضع المضمر من غير وجه ظاهر. ويشعر بما مر أيضا قوله تعالى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تريهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا، إلى أن قال: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) الفتح - 29. فقد تحصل أن الكلمة كلمة تشريف تختص بالسابقين الاولين من المؤمنين، ولا يبعد جريان نظير الكلام في لفظة الذين كفروا فيراد به السابقون في الكفر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مشركي مكة وأترابهم كما يشعر به أمثال قوله تعالى: (إن الذين كفروا سواء عليهم، ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) البقرة - 6. فان قلت: فعلى ما مريختص الخطاب بالذين آمنوا بعدة خاصة من الحاضرين في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أن القوم ذكروا أن هذه خطابات عامة لزمان الحضور وغيره والحاضرين الموجودين في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم وخاصة بناء على تقريب الخطاب بنحو القضية الحقيقية. قلت: نعم هو خطاب تشريفي يختص بالبعض لكن ذلك لا يوجب اختصاص التكاليف المتضمن لها الخطاب بهم فان لسعة التكليف وصيقه أسبابا غير ما يوجب سعة الخطاب وصيقه من الاسباب، كما أن التكاليف المجردة عن الخطاب عامة وسيعة من غير خطاب، فعل هذا يكون تصدير بعض التكاليف بخطاب يا ايها الذين آمنوا من قبيل تصدير بعض آخر من الخطابات بلفظ يا أيها لنبي، ويا أيا الرسول مبينا على التشريف، والتكليف عام، والمراد وسيع، ومع هذا كله لا يوجب ما ذكرناه من الاختصاص التشريفي عدم إطلاق لفظة الذين آمنوا على غير هؤلاء المختصين بالتشريف أصلا إذا كانت هناك قرينة تدل على ذلك كقوله تعالى: (إن الذين آمنو ثم كفروا

[ 248 ]

ثم آمنوا كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم) النساء - 137، وقوله تعالى: حكاية عن نوح: (وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم) هود - 29. قوله تعالى: لا تقولوا راعنا وقولوا أنظرنا، أي بدلوا قول (راعنا من قول (انظرنا) ولئن لم تفعلوا ذلك كان ذلك منكم كفرا وللكافرين عذاب أليم ففيه نهى شديد عن قول راعنا وهذه كلمة ذكرتها آية أخرى وبينت معناها في الجملة وهي قوله تعالى (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بالسنتهم وطعنا في الدين) النساء - 46، ومنه يعلم ان اليهود كانت تريد بقولهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم راعنا نحوا من معنى قوله: اسمع غير مسمع ولذلك ورد النهي عن خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك وحينئذ ينطبق على ما نقل: أن المسلمين كانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك إذا القى إليهم كلاما يقولون راعنا يا رسول الله - يريدون أمهلنا وانظرنا حتى نفهم ما تقول - وكانت اللفظة تفيد في لغة اليهود معنى الشتم فاغتنم اليهود ذلك فكانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك يظهرون التأدب معه وهم يريدون الشتم ومعناه عندهم اسمع لا اسمعت فنزل: من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا، الآية ونهى الله المؤمنين عن الكلمة وأمرهم أن يقولوا ما في معناه وهو انظرنا فقال: لا تقولوا راعنا وتقولوا أنظرنا. قوله تعالى: وللكافرين عذاب أليم: يريد المتمردين من هذا النهى وهذا أحد الموارد التي أطلق فيها الكفر على ترك التكاليف الفرعية. قوله تعالى: ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب، لو كان المراد بأهل الكتاب اليهود خاصة كما هو الظاهر لكون الخطابات السابقة مسوقة لهم فتوصيفهم بأهل الكتاب يفيد الاشارة إلى العلة، وهو أنهم لكونهم أهل كتاب ما يودون نزول الكتاب على المؤمنين لاستلزامه بطلان اختصاصهم بأهلية الكتاب مع أن ذلك ضنة منهم بما لا يملكونه، ومعارضة مع الله سبحانه في سعة رحمته وعظم فضله، ولو كان المراد عموم أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهو تعميم بعد التخصيص لاشتراك الفريقين في بعض الخصائل، وهم على غيظ من الاسلام، وربما يؤيد هذا الوجه بعض

[ 249 ]

الآيات اللاحقة كقوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) البقرة - 111، وقوله تعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتاب) البقرة - 113. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج أبو نعيم في الحلية عن إبن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنزل الله آية فيها، يا ايها الذين آمنوا إلا وعلي رأسها وأميرها. اقول: والرواية تؤيد ما سننقله من الروايات الواردة في عدة من الآيات أنها في على أو في أهل البيت نظير ما في قوله تعالى: (كنتم خير أمة اخرجت للناس) آل عمران - 110، وقوله تعالى: (لتكونوا شهداء على الناس) البقرة - 143، وقوله تعالى: وكونوا مع الصادقين، التوبة - 119. ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير - 106. ألم تعلم أن الله له ملك السموات والارض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير - 107. (بيان) الآيتان في النسخ ومن المعلوم أن النسخ بالمعنى المعروف عند الفقهاء وهو الابانة عن انتهاء أمد الحكم وانقضاء أجله اصطلاح متفرع على الآية مأخوذ منها ومن مصاديق ما يتحصل من الآية في معنى النسخ على ما هو ظاهر إطلاق الآية. قوله تعالى: ما ننسخ، النسخ هو الازالة، يقال: نسخت الشمس الظل إذا

[ 250 ]

ازلته وذهبت به، قال تعالى: وما أرسلنا من رسول ولا نبي الا إذا تمنى ألقى الشيطان في امنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان) الحج - 51، ومنه أيضا قولهم: نسخت الكتاب إذا نقل من نسخة إلى اخرى فكأن الكتاب أذهب به وأبدل مكانه ولذلك بدل لفظ النسخ من التبديل في قوله تعالى: (وإذا بدلنا آية مكان آية والله اعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون) النحل - 101، وكيف كان فالنسخ لا يوجب زوال نفس الآية من الوجود وبطلان تحققها بل الحكم حيث علق بالوصف وهو الآية والعلامة مع ما يلحق بها من التعليل في الآية بقوله تعالى: ألم تعلم، إلخ أفاد ذلك أن المراد بالنسخ هو اذهاب اثر الآية، من حيث أنها آية، اعني إذهاب كون الشئ آية وعلامة مع حفظ أصله فبالنسخ يزول أثره من تكليف أو غيره مع بقاء أصله وهذا هو المستفاد من إقتران قوله: ننسها بقوله: ما ننسخ، والانساء إفعال من النسيان وهو الا ذهاب عن العلم كما أن النسخ هو الا ذهاب عن العين فيكون المعنى ما نذهب بآية عن العين أو عن العلم نأت بخير منها أو مثلها. ثم إن كون الشئ آية يختلف باختلاف الاشياء والحيثيات والجهات، فالبعض من القرآن آية لله سبحانه باعتبار عجز البشر عن اتيان مثله، والاحكام والتكاليف الالهية آيات له تعالى باعتبار حصول التقوى والقرب بها منه تعالى، والموجودات العينية آيات له تعالى باعتبار كشفها بوجودها عن وجود صانعها وبخصوصيات وجودها عن خصوصيات صفاته وأسمائه سبحانه، وأنبياء الله واوليائه تعالى آيات له تعالى باعتبار دعوتهم إليه بالقول و الفعل وهكذا، ولذلك كانت الآية تقبل الشدة والضعف قال الله تعالى: لقدر أي من آيات ربه الكبرى) النجم - 18. ومن جهة اخرى الآية ربما كانت في انها آية ذات جهة واحدة وربما كانت ذات جهات كثيرة، ونسخها وإزالتها كما يتصور بجهته الواحدة كاهلاكها كذلك يتصور ببعض جهاتها دون بعض إذا كانت ذات جهات كثيرة، كالآية من القرآن تنسخ من حيث حكمها الشرعي وتبقى من حيث بلاغتها وإعجازها ونحو ذلك. وهذا الذي استظهرناه من عموم معنى النسخ هو الذي يفيده عموم التعليل المستفاد من قوله تعالى: ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير، ألم تعلم أن الله له ملك السموات

[ 251 ]

والارض، وذلك إن الانكار المتوهم في المقام أو الانكار الواقع من اليهود على ما نقل في شأن نزول الآية بالنسبة إلى معنى النسخ يتعلق به من وجهين: احدهما: من جهة أن الآية إذا كانت من عند الله تعالى كانت حافظة لمصلحة من المصالح الحقيقية لا تحفظها شئ دونها، فلو زالت الآية فاتت المصلحة ولن تقوم مقامها شئ تحفظ به تلك المصلحة، ويستدرك به ما فات منها من فائدة الخلقة ومصلحة العباد، وليس شأنه تعالى كشأن عباده ولا علمه كعلمهم بحيث يتغير بتغير العوامل الخارجية فيتعلق يوما علمه بمصلحة فيحكم بحكم ثم يتغير علمه غدا ويتعلق بمصلحة اخرى فاتت عنه بالامس، فيتغير الحكم، ويقضي ببطلان ما حكم سابقا، وإتيان آخر لاحقا، فيطلع كل يوم حكم، ويظهر لون بعد لون، كما هو شأن العباد غير المحيطين بجهات الصلاح في الاشياء، فكانت أحكامهم وأوضاعهم تتغير بتغير العلوم بالمصالح والمفاسد زيادة ونقيصة وحدوثا وبقاء، ومرجع هذا الوجه إلى نفي عموم القدرة وإطلاقها. وثانيهما: أن القدرة وإن كانت مطلقة إلا أن تحقق الايجاد وفعلية الوجود يستحيل معه التغير، فان الشئ لا يتغير عما وقع عليه بالضرورة وهذا مثل الانسان في فعله الاختياري فان الفعل اختياري للانسان ما لم يصدر عنه فإذا صدر كان ضروري الثبوت غير اختياري له، ومرجع هذا الوجه إلى نفي اطلاق الملكية و عدم جواز بعض التصرفات بعد خروج الزمام ببعض آخر كما قالت اليهود: يد الله مغلولة: فاشار سبحانه إلى الجواب عن الاول بقوله: ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير أي فلا يعجز عن إقامة ما هو خير من الفائت أو إقامه ما هو مثل الفائت مقامه وأشار إلى الجواب عن الثاني بقوله: إلم تعلم أن الله له ملك السموات والارض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير، أي إن ملك السموات والارض لله سبحانه فله أن يتصرف في ملكه كيف يشاء وليس لغيره شئ من الملك حتى يوجب ذلك انسداد باب من ابواب تصرفه سبحانه، أو يكون مانعا دون تصرف من تصرفاته، فلا يملك شئ شيئا، لا ابتداء ولا بتمليكه تعالى، فان التمليك الذي يملكه غيره ليس كتمليك بعضنا بعضا شيئا بنحو يبطل ملك الاول ويحصل ملك الثاني، بل هو مالك

[ 252 ]

في عين ما يملك غيره ما يملك، فإذا نظرنا إلى حقيقة الامر كان الملك المطلق والتصرف المطلق له وحده، وإذا نظرنا إلى ما ملكنا بملكه من دون استقلال كان هو الولي لنا وإذا نظرنا إلى ما تفضل علينا من ظاهر الاستقلال - وهو في الحقيقة فقر في صورة الغنى، وتبعية في صورة الاستقلال - لم يمكن لنا أيضا أن ندبر امورنا من دون إعانته ونصره، كان هو النصير لنا. وهذا الذي ذكرناه هو الذي يقتضيه الحصر الظاهر من قوله تعالى: (إن الله له ملك السموات والارض فقوله تعالى: (ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير ألم تعلم أن الله له ملك السموات والارض)، مرتب على ترتيب ما يتوهم من الاعتراضين، ومن الشاهد على كونهما اعتراضين إثنين الفصل بين الجملتين من غير وصل، وقوله تعالى: وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير، مشتمل على أمرين هما كالمتممين للجواب أي وإن لم تنظروا إلى ملكه المطلق بل نظرتم إلى ما عندكم من الملك الموهوب فحيث كان ملكا موهوبا من غير انفصال واستقلال فهو وحده وليكم، فله أن يتصرف فيكم وفي ما عندكم ما شاء من التصرف، وإن لم تنظروا إلى عدم إستقلالكم في الملك بل نظرتم إلى ظاهر ما عندكم من الملك والاستقلال وانجمدتم على ذلك فحسب، فإنكم ترون أن ما عندكم من القدرة والملك والاستقلال لا تتم وحدها، ولا تجعل مقاصدكم مطيعة لكم خاضعة لقصودكم وإرادتكم وحدها بل لا بد معها من إعانة الله ونصره فهو النصير لكم فله أن يتصرف من هذا الطريق فله سبحانه التصرف في أمركم من أي سبيل سلكتم هذا، وقوله: وما لكم من دون الله، جئ فيه بالظاهر موضع المضمر نظرا إلى كون الجملة بمنزلة المستقل من الكلام لتمامية الجواب دونه. فقد ظهر مما مر: اولا، ان النسخ لا يختص بالاحكام الشرعية بل يعم التكوينيات أيضا. وثانيا: ان النسخ لا يتحقق من غير طرفين ناسخ ومنسوخ. وثالثا: ان الناسخ يشتمل على ما في المنسوخ من كمال أو مصلحة. ورابعا: ان الناسخ ينافي المنسوخ بحسب صورته وإنما يرتفع التناقض بينهما من

[ 253 ]

جهة إشتمال كليهما على المصلحة المشتركة فإذا توفى نبي وبعث نبى آخر وهما آيتان من آيات الله تعالى أحدهما ناسخ للآخر كان ذلك جريانا على ما يقتضيه ناموس الطبيعة من الحياة والموت والرزق والاجل وما يقتضيه اختلاف مصالح العباد بحسب إختلاف الاعصار وتكامل الافراد من الانسان، وإذا نسخ حكم ديني بحكم ديني كان الجميع مشتملا على مصلحة الدين وكل من الحكمين أطبق على مصلحت الوقت، أصلح لحال المؤمنين كحكم العفو في أول الدعوة وليس للمسلمين بعد عدة ولا عدة. وحكم الجهاد بعد ذلك حينما قوي الاسلام وأعد فيهم ما استطاعوا من قوة وركز الرعب في قلوب الكفار والمشركين. والآيات المنسوخة مع ذلك لا تخلو من إيماء وتلويح إلى النسخ كما في قوله تعالى: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره) البقرة - 109، المنسوخ بأية القتال وقوله تعالى: (فامسكوهن في البيوت حتى يتوفيهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) النساء - 14، المنسوخ بأية الجلد فقوله: حتى يأتي الله بأمره وقوله: (أو يجعل الله لهن سبيلا) لا يخلو عن إشعار بأن الحكم موقت مؤجل سيلحقه نسخ. وخامسا: أن النسبة التي بين الناسخ والمنسوخ غير النسبة التي بين العام والخاص وبين المطلق والمقيد وبين المجمل والمبين، فان الرافع للتنافي بين الناسخ والمنسوخ بعد استقراره بينهما بحسب الظهور اللفظي هو الحكمة والمصلحة الموجودة بينهما، بخلاف الرافع للتنافي بين العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين فانه قوة الظهور اللفظي الموجود في الخاص والمقيد والمبين، المفسر للعام بالتخصيص، وللمطلق بالتقييد، وللمجمل بالتبيين على ما بين في فن أصول الفقة، وكذلك في المحكم والمتشابه على ما سيجئ في قوله: (منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) آل عمران - 7. قوله تعالى: أو ننسها، قرء بضم النون وكسر السين من الانساء بمعنى الا ذهاب عن العلم والذكر وقد مر توضيحه، وهو كلام مطلق أو عام غير مختص برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل غير شامل له أصلا لقوله تعالى: (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) الاعلى - 7، وهي آية مكية وآية النسخ مدنية فلا يجوز عليه النسيان بعد قوله تعالى:

[ 254 ]

فلا تنسى وأما اشتماله على الاستثناء بقوله: إلا ما شاء الله فهو على حد الاستثناء الواقع في قوله تعالى: (خالدين فيها ما دامت السموات والارض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ) هود - 109، جئ بها لاثبات بقاء القدرة مع الفعل على تغيير الامر، ولو كان الاستثناء مسوقا لبيان الوقوع في الخارج لم يكن للامتنان بقوله: فلا تنسى معنى، إذ كل ذي ذكر وحفظ من الانسان وسائر الحيوان كذلك يذكر وينسى وذكره نسيانه كلاهما منه تعالى وبمشيته، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذلك قبل هذا الاقراء الامتناني الموعود بقوله: سنقرئك يذكر بمشية الله وينسى بمشية الله تعالى فليس معنى الاستثناء إلا إثبات إطلاق القدرة أي سنقرئك فلا تنسى ابدا والله مع ذلك قادر على إنسائك هذا. وقرء قوله: ننسأها بفتح النون والهمزة من نسئ نسيئا إذا أخر تأخيرا فيكون المعنى على هذا: ما ننسخ من آية بأزالتها أو نؤخرها بتأخير إظهارها نأت بخير منها أو مثلها ولا يوجب التصرف الالهي بالتقديم والتأخير في آياته فوت كمال أو مصلحة والدليل على أن المراد بيان أن التصرف الالهة يكون دائما على الكمال والمصلحة هو قوله: بخير منها أو مثلها فأن الخيرية إنما يكون في كمال شئ موجود أو مصلحة حكم مجعول ففي ذلك يكون موجود مماثلا لآخر في الخيرية أو أزيد منه في ذلك فافهم. (بحث روائي) قد تكاثرت روايات الفريقين عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وعن أئمة أهل البيت عليه السلام: ان في القرآن ناسخا ومنسوخا. وفي تفسير النعماني عن أمير المؤمنين عليه السلام: بعد ذكر عدة آيات من الناسخ والمنسوخ قال عليه السلام: ونسخ قوله تعالى: وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون قوله: عز وجل ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم أي للرحمة خلقهم. أقول: وفيها دلالة على أخذه عليه السلام النسخ في الآية أعم من النسخ الواقع في التشريع فالآية الثانية تثبت حقيقة توجب تحديد الحقيقة التي تثبتها الآية الاولى،

[ 255 ]

وبعبارة واضحة: الآية الاولى تثبت للخلقة غاية وهي العبادة، والله سبحانه غير مغلوب في الغاية التي يريدها في فعل من أفعاله غير أنه سبحانه خلقهم على إمكان الاختلاف فلا يزالون مختلفين في الاهتداء والضلال فلا يزالون مختلفين إلا من أخذته العناية الالهية، وشملته رحمة الهداية ولذلك خلقهم أي ولهذه الرحمة خلقهم، فالآية الثانية تثبت للخلقة غاية، وهو الرحمة المقارنة للعبادة والاهتداء ولا يكون إلا في البعض دون الكل والآية الاولى كانت تثبت العبادة غاية للجميع فهذه العبادة جعلت غاية الجميع من جهة كون البعض مخلوقا لاجل البعض الاخر وهذا البعض أيضا لآخر حتى ينتهي إلى أهل العبادة وهم العابدون المخلوقون للعبادة فصح ان العبادة غاية للكل نظير بناء الحديقة وغرس الشجرة لثمرتها أو لمنافعها المالية فالآية الثانية تنسخ إطلاق الاية الاولى، وفي تفسير النعماني أيضا عنه عليه السلام: قال: ونسخ قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا) قوله: (الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها بعدون لا يسمعون حسيسها وهم فيما أشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الاكبر). اقول: ليست الآيتان من قبيل العام والخاص لقوله تعالى: كان على ربك حتما مقضيا، والقضاء الحتم غير قابل الرفع ولا ممكن الابطال ويظهر معنى هذا النسخ مما سيجئ إنشاء الله في قوله: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى اولئك عنها مبعدون) الانبياء - 101. وفي تفسير العياشي عن الباقر عليه السلام: ان من النسخ البداء المشتمل عليه قوله تعالى: يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، ونجاة قوم يونس. اقول: والوجه فيه واضح. وفي بعض الاخبار عن أئمة أهل البيت عد عليه السلام موت إمام وقيام إمام آخر مقامه من النسخ. اقول: وقد مر بيانه، والاخبار في هذه المعاني كثيرة مستفيضة. وفي الدر المنثورا خرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير عن

[ 256 ]

قتادة قال: كانت الآية تنسخ الآية وكان نبي الله يقرأ الآية والسورة وما شاء الله من السورة ثم ترفع فينسيها الله نبيه فقال الله: يقص على نبيه ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها، يقول: فيها تخفيف، فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهى. أقول: وروى فيه أيضا في معنى الانساء روايات عديدة وجميعها مطروحة بمخالفة الكتاب كما مر في بيان قوله: أو ننسها أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالايمان فقد ضل سواء السبيل - 108. ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شئ قدير - 109. وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير - 110. وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين - 111. بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون - 112. وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم

[ 257 ]

يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون - 113. ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أؤلئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم - 114. ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم - 115. (بيان) قوله تعالى: أم تريدون أن تسألوا رسولكم، سياق الآية يدل على أن بعض المسلمين - ممن آمن بالنبي - سئل النبي امورا على حد سؤال اليهود نبيهم موسى عليه السلام والله سبحانه وبخهم على ذلك في ضمن ما يوبخ اليهود بما فعلوا مع موسى والنبيين من بعده، والنقل يدل على ذلك. قوله تعالى: سواء السبيل أي مستوى الطريق. قوله تعالى: ود كثير من أهل الكتاب، نقل أنه حي بن الاخطب وبعض من معه من متعصبي اليهود. قوله تعالى: فاعفوا واصفحوا، قالوا: أنها آية منسوخة بآية القتال. قوله تعالى: حتى يأتي الله بأمره، فيه كما مر إيماء إلى حكم سيشرعه الله تعالى في حقهم، ونظيره قوله تعالى: في الآية الآتية (أؤلئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين)، مع قوله تعالى: (إن المشركين نجس فلا يدخلوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) التوبة - 29، وسيأتي الكلام في معنى الامر في قوله تعالى: (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) أسرى - 85.

[ 258 ]

قوله تعالى: وقالوا: لن يدخل الجنة، شروع في الحاق النصارى باليهود تصريحا وسوق الكلام في بيان جرائمهم معا. قوله تعالى: بلى من أسلم وجهه لله، هذه كرة ثالثة عليهم في بيان أن السعادة لا تدور مدار الاسم ولا كرامة لاحد على الله إلا بحقيقة الايمان والعبودية. اوليها قوله: (إن الذين آمنوا والذين هادوا) البقرة - 62، وثانيتها، قوله تعالى: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) البقرة - 81، وثالثتها، هذه الاية ويستفاد من تطبيق الآيات تفسير الايمان بإسلام الوجه إلى الله وتفسير الاحسان بالعمل الصالح. قوله تعالى: وهم يتلون الكتاب، أي وهم يعملون بما أوتوا من كتاب الله لا ينبغي لهم أن يقولوا ذلك والكتاب يبين لهم الحق والدليل على ذلك قوله: (كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم) فالمراد بالذين لا يعلمون غير أهل الكتاب من الكفار ومشركي العرب قالوا: إن المسلمين ليسوا على شئ أو أن اهل الكتاب ليسوا على شئ. قوله تعالى: ومن أظلم ممن منع، ظاهر السياق أن هؤلاء كفار مكة قبل الهجرة فإن هذه الايات نزلت في اوائل ورود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة. قوله تعالى: أؤلئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين، يدل على مضى الواقعة وإنقضائها لمكان قوله، كان، فينطبق على كفار قريش وفعالهم بمكة كما ورد به النقل أن المانعين كفار مكة، كانوا يمنعون المسلمين عن الصلوة في المسجد الحرام والمساجد التي اتخذوها بفناء الكعبة. قوله تعالى: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله، المشرق والمغرب وكل جهة من الجهات حيث كانت فهي لله بحقيقة الملك التي لا تقبل التبدل والانتقال، لا كالملك الذي بيننا معاشر أهل الاجتماع، وحيث ان ملكه تعالى مستقر على ذات الشئ محيط بنفسه وأثره، لا كملكنا المستقر على أثر الاشياء ومنافعها، لا على ذاتها، والملك لا يقوم من جهة انه ملك إلا بمالكه فالله سبحانه قائم على هذه الجهات محيط

[ 259 ]

بها وهو معها، فالمتوجه إلى شئ من الجهات متوجه إليه تعالى. ولما كان المشرق والمغرب جهتين إضافيتين شملتا ساير الجهات تقريبا إذ لا يبقى خارجا منهما إلا نقطتا الجنوب والشمال الحقيقتان ولذلك لم يقيد إطلاق قوله فأينما، بهما بأن يقال: أينما تولوا منهما فكأن الانسان أينما ولى وجهه فهناك إما مشرق أو مغرب، فقوله: ولله المشرق والمغرب بمنزلة قولنا: ولله الجهات جميعا وإنما اخذ بهما لان الجهات التي يقصدها الانسان بوجهه إنما تتعين بشروق الشمس وغروبها وسائر الاجرام العلوية المنيرة. قوله تعالى: فثم وجه الله، فيه وضع علة الحكم في الجزاء موضع الجزاء، والتقدير - والله أعلم - فأينما تولوا جاز لكم ذلك فإن وجه الله هناك ويدل على هذا التقدير تعليل الحكم بقوله تعالى: إن الله واسع عليم، أي إن الله واسع الملك والاحاطة عليم بقصودكم أينما توجهت، لا كالواحد من الانسان أو سائر الخلق الجسماني لا يتوجه إليه إلا إذا كان في جهة خاصة، ولا أنه يعلم توجه القاصد إليه إلا من جهة خاصة كقدامه فقط، فالتوجه إلى كل جهة توجه إلى الله، معلوم له سبحانه. واعلم أن هذا توسعة في القبلة من حيث الجهة لا من حيث المكان، والدليل عليه قوله: ولله المشرق والمغرب. (بحث روائي) في التهذيب عن محمد بن الحصين قال: كتب إلى عبد صالح الرجل يصلي في يوم غيم في فلات من الارض ولا يعرف القبلة فيصلى حتى فرغ من صلوته بدت له الشمس فإذا هو صلى لغير القبلة يعتد بصلوته أم يعيدها ؟ فكتب يعيد ما لم يفت الوقت، أو لم يعلم أن الله يقول: - وقوله الحق - فأينما تولوا فثم وجه الله. وفي تفسير العياشي عن الباقر عليه السلام: في قوله تعالى: ولله المشرق والمغرب إلخ، قال عليه السلام: أنزل الله هذه الآية في التطوع خاصة فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم، وصلى رسول الله إيمائا على راحلته أينما توجهت به حين خرج إلى خيبر،

[ 260 ]

وحين رجع من مكة، وجعل الكعبة خلف ظهره. اقول: وروى العياشي أيضا قريبا من ذلك عن زرارة عن الصادق عليه السلام، وكذا القمى والشيخ عن أبي الحسن عليه السلام، وكذا الصدوق عن الصادق عليه السلام. وأعلم إنك إذا تصفحت أخبار أئمة أهل البيت حق التصفح، في موارد العام والخاص والمطلق والمقيد من القرآن وجدتها كثيرا ما تستفيد من العام حكما، ومن الخاص أعني العام مع المخصص حكما آخر، فمن العام مثلا الاستحباب كما هو الغالب ومن الخاص الوجوب، وكذلك الحال في الكراهة والحرمة، وعلى هذا القياس. وهذا أحد اصول مفاتيح التفسير في الاخبار المنقولة عنهم، وعليه مدار جم غفير من أحاديثهم. ومن هنا يمكنك أن تستخرج منها في المعارف القرآنية قاعدتين: احديهما: أن كل جملة وحدها، وهي مع كل قيد من قيودها تحكي عن حقيقة ثابتة من الحقائق أو حكم ثابت من الاحكام كقوله تعالى: (قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) الانعام - 91، ففيه معان أربع: الاول: قل الله، والثاني: قل الله ثم ذرهم، والثالث: قل الله ثم ذرهم في خوضهم، والرابع: قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون. واعتبر نظير ذلك في كل ما يمكن. والثانية: ان القصتين أو المعنيين إذا اشتركا في جملة أو نحوها، فهما راجعان إلى مرجع واحد. وهذان سران تحتهما أسرار والله الهادي. وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السموات والارض كل له قانتون - 116. بديع السموات والارض وإذا قضي أمرا فإنما يقول له كن فيكون - 117.

[ 261 ]

(بيان) قوله تعالى: وقالوا اتخذ الله ولدا يعطي السياق، أن المراد بالقائلين بهذه المقالة هم اليهود والنصارى: اقالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، فإن وجه الكلام مع أهل الكتاب، وإنما قال أهل الكتاب هذه الكلمة أعني قولهم: اتخذ الله ولدا أول ما قالوها تشريفا لانبيائهم كما قالوا: نحن أبناء الله وأحبائه ثم تلبست بلباس الجد والحقيقة فرد الله سبحانه عليهم في هاتين الآيتين فأضرب عن قولهم بقوله: بل له ما في السموات إلخ، ويشتمل على برهانين ينفي كل منهما الولادة وتحقق الولد منه سبحانه، فإن اتخاذ الولد هو أن يجزي موجود طبيعي بعض أجزاء وجوده، ويفصله عن نفسه فيصيره بتربية تدريجية فردا من نوعه مماثلا لنفسه، وهو سبحانه منزه عن المثل، بل كل شئ مما في السموات والارض مملوك له، قائم الذات به، قانت ذليل عند ذلة وجودية، فكيف يكون شئ من الاشياء ولدا له مماثلا نوعيا بالنسبه إليه ؟ وهو سبحانه بديع السموات والارض، إنما يخلق ما يخلق على غير مثال سابق، فلا يشبه شئ من خلقه خلقا سابقا، ولا يشبه فعله فعل غيره في التقليد والتشبيه ولا في التدريج، والتوصل بالاسباب إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون من غير مثال سابق ولا تدريج، فكيف يمكن أن ينسب إليه اتخاذ الولد ؟ وتحققه يحتاج إلى تربية وتدريج، فقوله: له ما في السموات والارض كل له قانتون برهان تام، وقوله: بديع السموات والارض إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون برهان آخر تام، هذا. ويستفاد من الآيتين: اولا: شمول حكم ا لعبادة لجميع المخلوقات مما في السموات والارض. وثانيا: ان فعله تعالى غير تدريجي، ويستدرج من هنا، ان كل موجود تدريجي فله وجه غير تدريجي، به يصدر عنه تعالى كما قال تعالى: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) يس - 82، وقال تعالى: (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) القمر - 50، وتفصيل القول في هذه الحقيقة القرآنية، سيأتي إنشاء الله في ذيل قوله: (إنما أمره إذا أراد شيئا) يس - 82، فانتظر.

[ 262 ]

قوله تعالى: سبحانه مصدر بمعنى التسبيح وهو لا يستعمل إلا مضافا وهو مفعول مطلق لفعل محذوف أي سبحته تسبيحا، فحذف الفعل وأضيف المصدر إلى الضمير المفعول وأقيم مقامه، وفي الكلمة تأديب إلهي بالتنزيه فيما يذكر فيه ما لا يليق بساحة قدسة تعالى و تقدس. قوله تعالى: كل له قانتون، القنوت العبادة والتذلل. قوله تعالى: بديع السموات، بداعة الشئ كونه لا يماثل غيره مما يعرف ويؤنس به. قوله تعالى: فيكون، تفريع على قول كن وليس في مورد الجزاء حتى يجزم. (بحث روائي) في الكافي والبصائر، عن سدير الصيرفي، قال: سمعت عمران بن أعين يسأل أبا جعفر عليه السلام عن قول الله تعالى: بديع السموات والارض، فقال أبو جعفر عليه السلام: ان الله عز وجل ابتدع الاشياء كلها بعلمه على غير مثال كان قبله، فابتدع السموات والارضين ولم يكن قبلهن سموات ولا أرضون أما تسمع لقوله: وكان عرشه على الماء ؟. اقول: وفي الرواية إستفادة اخرى لطيفة، وهي ان المراد ان لا مراد بالماء في قوله تعالى: وكان عرشه على الماء غير المصداق الذي عندنا من الماء بدليل ان الخلقة مستوية على البداعة وكانت السلطنة الالهية قبل خلق هذه السموات والارض مستقرة مستوية على الماء فهو غير الماء وسيجئ تتمة الكلام في قوله تعالى: (وكان عرشه على الماء) هود - 7. (بحث علمي وفلسفي) دل التجارب على افتراق كل موجودين في الشخصيات وان كانت متحدة في

[ 263 ]

الكليات حتى الموجودان اللذان لا يميز الحس جهة الفرقة بينهما فالحس المسلح يدرك ذلك منهما، والبرهان الفلسفي أيضا يوجب ذلك، فإن المفروضين من الموجودين لو لم يتميز أحدهما عن الآخر بشئ خارج عن ذاته، كان سبب الكثرة المفروضة غير خارج من ذاتهما فيكون الذات صرفة غير مخلوطة، وصرف الشئ لا يتثنى ولا يتكرر، فكان ما هو المفروض كثيرا واحدا غير كثير هف. فكل موجود مغاير الذات لموجود آخر، فكل موجود فهو بديع الوجود على غير مثال سابق ولا معهود، والله سبحانه هو المبتدع بديع السموات والارض. وقال الذين لا يعلمون لو لا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون - 118. إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسئل عن أصحاب الجحيم - 119. (بيان) قوله تعالى: وقال الذين لا يعلمون هم المشركون غير أهل الكتاب ويدل عليه المقابلة السابقة في قوله تعالى: وقالت اليهود ليست النصارى على شئ، وقالت النصارى ليست اليهود على شئ، وهم يتلون الكتاب كذلك، قال الذين لا يعلمون مثل قولهم الآية، ففي تلك الآية ألحق أهل الكتاب في قولهم بالمشركين والكفار من العرب، وفي هذه الآية ألحق المشركين والكفار بهم، فقال: وقال الذين لا يعلمون لو لا يكلمنا الله أو تأتينا آية، كذلك قال الذين من قبلهم - وهم أهل الكتاب واليهود من بينهم - حيث اقترحوا بمثل هذه الاقاويل على نبي الله موسى عليه السلام، فهم والكفار متشابهون في أفكارهم وآرائهم، يقول هؤلاء ما قاله أولئك وبالعكس،

[ 264 ]

تشابهت قلوبهم. قوله تعالى: قد بينا الايات لقوم يوقنون جواب عن قول الذين لا يعلمون إلخ، والمراد ان الايات التي يطالبون بها مأتية مبينة، ولكن لا ينتفع بها إلا قوم يوقنون بآيات الله، وأما هؤلاء الذين لا يعلمون، فقلوبهم محجوبة بحجاب الجهل، مؤفة بآفات العصبية والعناد، وما تغني الايات عن قوم لا يعلمون. ومن هنا يظهر وجه توصيفهم بعدم العلم، ثم أيد ذلك بتوجيه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والاشعار بأنه مرسل من عند الله بالحق بشيرا ونذيرا، فلتطب به نفسه، وليعلم ان هؤلاء أصحاب الجحيم، مكتوب عليهم ذلك، لا مطمع في هدايتهم ونجاتهم. قوله تعالى: ولا تسئل عن أصحاب الجحيم، يجري مجرى قوله: (ان الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) البقرة - 6. ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن إتبعت أهوائهم بعد الذي جائك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير - 120. الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أؤلئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون - 121. يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين - 122. واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون - 123.

[ 265 ]

(بيان) قوله تعالى: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصاري، رجوع إلى الطائفتين بعد الالتفات إلى غيرهم، وهو بمنزلة جمع أطراف الكلام على تفرقها وتشتتها، فكأنه بعد هذه الخطابات والتوبيخات هم يرجع إلى رسوله ويقول له: هؤلاء ليسوا براضين عنك، حتى تتبع ملتهم التي ابتدعوها بأهوائهم ونظموها بأرائهم، ثم أمره بالرد عليهم بقوله: قل ان هدى الله هو الهدى أي ان الاتباع إنما هو لغرض الهدى ولا هدى إلا هدى الله والحق الذي يجب أن يتبع وغيره - وهو ملتكم - ليس بالهدى، فهي أهوائكم ألبستموها لباس الدين وسميتموها بإسم الملة، ففي قوله: قل ان هدى الله إلخ، جعل الهدى كناية عن القرآن النازل، ثم اضيف إلى الله فأفاد صحة الحصر في قوله: ان هدى الله هو الهدى على طريق قصرالقلب، وأفاد ذلك خلو ملتهم عن الهدى، وأفاد ذلك كونها أهوائا لهم، واستلزم ذلك كون ما عند النبي علما، وكون ما عندهم جهلا، واتسع المكان لتعقيب الكلام بقوله: ولئن اتبعت أهوائهم بعد الذي جائك من العلم، ما لك من الله من ولي ولا نصير، فانظر إلى ما في هذا الكلام من اصول البرهان العريقة، ووجوه البلاغة على إيجازه، وسلاسة البيان وصفائه. قوله تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يمكن أن تكون الجملة بقرينة الحصر المفهوم من قوله: أولئك يؤمنون به جوابا للسؤال المقدر الذي يسوق الذهن إليه قوله تعالى: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى إلخ، وهو انهم إذا لم يكن مطمع في إيمانهم، فمن ذا الذي يؤمن منهم ؟ وهل توجيه الدعوة إليهم باطل لغو ؟ فأجيب بأن الذين آتيناهم الكتاب والحال أنهم يتلونه حق تلاوته، أؤلئك يؤمنون بكتابهم فيؤمنون بك، أو ان أؤلئك يؤمنون بالكتاب، كتاب الله المنزل أيا ما كان، أو ان أؤلئك يؤمنون بالكتاب الذي هو القرآن. و عليهذا: فالقصر في قوله: أؤلئك يؤمنون به قصر افراد والضمير في قوله: به على بعض التقادير لا يخلو عن استخدام. والمراد بالذين اوتوا الكتاب قوم من اليهود والنصارى ليسوا متبعين للهوى من أهل

[ 266 ]

الحق منهم، وبالكتاب التوراة والانجيل، وان كان المراد بهم المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبالكتاب القرآن، فالمعنى: ان الذين آتيناهم القرآن، وهم يتلونه حق تلاوته أؤلئك يؤمنون بالقرآن، لا هؤلاء المتبعون لاهوائهم، فالقصر حينئذ قصر قلب. قوله تعالى: يا بني إسرائيل اذكروا، إلى آخر الآيتين ارجاع ختم الكلام إلى بدئه، وآخره إلى اوله، وعنده يختتم شطر من خطابات بني اسرائيل. (بحث روائي) في إرشاد الديلمي عن الصادق عليه السلام: في قوله: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته، قال: يرتلون آياته ويتفقهون به ويعملون بأحكامه، ويرجون وعده ويخافون وعيده، ويعتبرون بقصصه، ويأتمرون بأوامره، وينتهون بنواهيه، ما هو والله حفظ آياته، ودرس حروفه، وتلاوة سورة، ودرس أعشاره وأخماسه، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده، وإنما هو تدبر آياته والعمل بأحكامه، قال الله تعالى: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قول الله عز وجل: يتلونه حق تلاوته قال عليه السلام الوقوف عند الجنة والنار. اقول: والمراد به التدبر. وفي الكافي عنه عليه السلام: في الآية قال عليه السلام هم الائمة. أقول: وهو من باب الجرى والانطباق على المصداق الكامل. وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك

[ 267 ]

للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين - 124. (بيان) شروع بجمل من قصص إبراهيم عليه السلام وهو كالمقدمة والتوطئة لآيات تغيير القبلة وآيات أحكام الحج، وما معها من بيان حقيقة الدين الحنيف الاسلامي بمراتبها: من اصول المعارف، والاخلاق، والاحكام الفرعية الفقهية جملا، والآيات مشتملة على قصة اختصاصه تعالى أياه بالامامة وبنائه الكعبة ودعوته بالبعثة. فقوله تعالى: وإذ إبتلى ابراهيم ربه إلخ، اشارة إلى قصة اعطائه الامامة وحبائه بها، والقصة إنما وقعت في أواخر عهد إبراهيم عليه السلام بعد كبره وتولد إسماعيل، وإسحق له وإسكانه إسماعيل وأمه بمكة، كما تنبه به بعضهم أيضا، والدليل على ذلك قوله عليه السلام على ما حكاه الله سبحانه بعد قوله تعالى له: إني جاعلك للناس إماما، قال ومن ذريتي، فإنه عليه السلام قبل مجئ الملائكة ببشارة إسماعيل وإسحق، ما كان يعلم ولا يظن أن سيكون له ذرية من بعده حتى أنه بعد ما بشرته الملائكة بالاولاد خاطبهم بما ظاهره اليأس والقنوط كما قال تعالى: (ونبئهم عن ضيف إبراهيم، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال: إنا منكم وجلون، قالوا: لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم، قال أبشر تموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون ؟ قالوا، بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين)، الحجر - 55، وكذلك زوجته على ما حكاه الله تعالى في قصة بشارته أيضا إذ قال تعالى: (وامرأته قائمة فضحكت، فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب، قالت، يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشئ عجيب، قالوا أتعجبين من أمر الله) رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد) هود - 73، وكلامهما كما ترى يلوح منه آثار اليأس والقنوط ولذلك قابلته الملائكة بنوع كلام فيه تسليتهما وتطييب أنفسهما فما كان هو ولا أهله يعلم أن سيرزق ذرية، وقوله عليه السلام: ومن ذريتي، بعد

[ 268 ]

قوله تعالى: إني جاعلك للناس إماما، قول من يعتقد لنفسه ذرية، وكيف يسع من له ادنى دربة بأدب الكلام وخاصة مثل إبراهيم الخليل في خطاب يخاطب به ربه الجليل أن يتفوه بما لا علم له به ؟ ولو كان ذلك لكان من الواجب أن يقول: ومن ذريتي إن رزقتني ذرية أو ما يؤدى هذا المعنى فالقصة واقعة كما ذكرنا في أواخر عهد إبراهيم بعد البشارة. على أن قوله تعالى: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال: إني جاعلك للناس إماما، يدل على أن هذه الامامة الموهوبة إنما كانت بعد ابتلائه بما ابتلاه الله به من الامتحانات وليست هذه الا أنواع البلاء التي ابتلى عليه السلابها في حيوته، وقد نص القرآن على أن من أوضحها بلاء قضية ذبح إسماعيل قال تعالى: (قال يا بني اني أرى في المنام أني اذبحك، إلى ان قال: ان هذا لهو البلاء المبين) الصافات - 106. والقضية انما وقعت في كبر إبراهيم، كما حكى الله تعالى عنه من قوله: (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر اسماعيل، واسحق، ان ربي لسميع الدعاء) ابراهيم - 41. ولنرجع إلى الفاظ الآية فقوله: واذ ابتلى ابراهيم ربه، الابتلاء والبلاء بمعنى واحد تقول: ابتليته وبلوته بكذا أي امتحنته واختبرته، إذا قدمت إليه أمرا أو أوقعته في حدث فاختبرته بذلك واستظهرت ما عنده من الصفات النفسانية الكامنة عنده كالاطاعة والشجاعة والسخاء والعفة والعلم والوفاء أو مقابلاتها، ولذلك لا يكون الابتلاء إلا بعمل فإن الفعل هو الذى يظهر به الصفات الكامنة من الانسان دون القول الذي يحتمل الصدق والكذب قال تعالى: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة) ن - 17، وقال تعالى: (ان الله مبتليكم بنهر) البقرة - 249. فتعلق الابتلاء، في الاية بالكلمات ان كان المراد بها الاقوال إنما هو من جهة تعلقها با لعمل وحكايتها عن العهود والاوامر المتعلقة بالفعل كقوله تعالى (وقولوا للناس حسنا) البقرة - 83، أي عاشروهم معاشرة جميلة وقوله:

[ 269 ]

بكلمات فأتمهن، الكلمات وهي جمع كلمة وإن أطلقت في القرآن على العين الخارجي دون اللفظ والقول، كقوله تعالى: (وكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم) آل عمران - 45، إلا أن ذلك بعناية إطلاق القول كما قال تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم، خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) آل عمران - 59. وجميع ما نسب إليه تعالى من الكلمة في القرآن اريد بها القول كقوله تعالى (ولا مبدل لكلمات الله) الانعام - 34، وقوله: (لا تبديل لكلمات الله) يونس - 64، وقوله: (يحق الحق بكلماته) الانفال - 7، وقوله: (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون) يونس - 96، وقوله: (ولكن حقت كلمة العذاب) الزمر - 71، وقوله: (وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا إنهم أصحاب النار) المؤمن - 6، وقوله: (ولو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم) الشورى - 14، وقوله: (وكلمة الله هي العليا) التوبة - 41، وقوله: (قال فالحق، والحق اقول) ص - 84، وقوله: (إنما قولنا لشئ إذا اردناه أن نقول له كن فيكون) النحل - 40، فهذه ونظائرها أريد بها القول بعناية أن القول توجيه ما يريد المتكلم إعلامه المخاطب ما عنده كما في الاخبار أو لغرض تحميله عليه كما في الانشاء ولذلك ربما تتصف في كلامه تعالى بالتمام كقوله تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته) الانعام - 115، وقوله تعالى: (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل) الاعراف - 136 كأن الكلمة إذا صدرت عن قائلها فهي ناقصة بعد، لم تتم، حتى تلبس لباس العمل وتعود صدقا. وهذا لا ينافي كون قوله تعالى فعله، فإن الحقائق الواقعية لها حكم، وللعنايات الكلامية اللفظية حكم آخر، فما يريد الله سبحانه إظهاره لواحد من أنبيائه، أو غيرهم بعد خفائه، أو يريد تحميله على أحد قول وكلام له لاشتماله على غرض القول والكلام وتضمنه غاية الخبر والنبأ، والامر والنهي، وإطلاق القول والكلمة على مثل ذلك شائع في الاستعمال إذا اشتمل على ما يؤديه القول والكلمة، تقول: لافعلن كذا وكذا، لقول قلته وكلمة قدمتها، ولم

[ 270 ]

تقل قولا، ولا قدمت كلمة، وإنما عزمت عزيمة لا تنقضها شفاعة شفيع أو وهن إرادة، ومنه قول عنترة: وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدى أو تستريحي. يريد بالقول توطين نفسه على الثبات والعزم، على لزومها مكانها لتفوز بالحمد إن قتل، وبالاستراحة إغلب. إذا عرفت ذلك ظهر لك أن المراد بقوله تعالى. بكلمات، قضايا ابتلى بها وعهود إلهية اريدت منه، كابتلائه بالكواكب والاصنام، والنار والهجرة وتضحيته بابنه وغير ذلك ولم يبين في الكلام ما هي الكلمات لان الغرض غير متعلق بذلك، نعم قوله: قال إني جاعلك للناس إماما، من حيث ترتبه على الكلمات تدل على انها كانت أمورا تثبت بها لياقته، عليه السلام لمقام الامامة. فهذه هي الكلمات وأما إتمامهن فإن كان الضمير في قوله تعالى: أتمهن راجعا إلى إبراهيم كان معنى إتمامهن إتيانه عليه السلام ما أريد منه، وامتثاله لما أمر به، وإن كان الضمير راجعا إليه تعالى كما هو الظاهر كان المراد توفيقه لما اريد منه، ومساعدته على ذلك، وأما ما ذكره بعضهم: أن المراد بالكلمات قوله تعالى: قال إني جاعلك للناس إماما، إلى آخر الآيات فمعنى لا ينبغي الركون إليه إذ لم يعهد في القرآن إطلاق الكلمات على جمل الكلام. قوله تعالى: إني جاعلك للناس اماما، أي مقتدى يقتدى بك الناس، وتبعونك في أقوالك وأفعالك، فالامام هو الذي يقتدي ويأتم به الناس، ولذلك ذكر عدة من المفسرين أن المراد به النبوة، لان النبي يقتدي به امته في دينهم، قال تعالى: (وما ارسلنا من رسول، الا ليطاع بإذن الله) النساء - 63، لكنه في غاية السقوط. اما اولا: فلان قوله: إماما، مفعول ثان لعامله الذي هو قوله: جاعلك واسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي، وانما يعمل إذا كان

[ 271 ]

بمعنى الحال أو الاستقبال فقوله، إني جاعلك للناس إماما، وعدله عليه السلام بالامامة في ما سيأتي، مع أنه وحي لا يكون إلا مع نبوة، فقد كان (ع) نبيا قبل تقلده الامامة فليست الامامة في الآية بمعنى النبوة (ذكره بعض المفسرين). واما ثانيا: فلانا بينا في صدر الكلام: أن قصة الامامة، إنما كانت في أواخر عهد إبراهيم عليه السلام بعد مجئ البشارة له بإسحق وإسماعيل، وإنما جائت الملائكة بالبشارة في مسيرهم إلى قوم لوط وإهلاكهم، وقد كان إبراهيم حينئذ نبيا مرسلا، فقد كان نبيا قبل أن يكون إماما، فإمامته غير نبوته. ومنشأ هذا التفسير وما يشابهه الابتذال الطاري على معاني الالفاظ الواقعة في القرآن الشريف في أنظار الناس من تكرر الاستعمال بمرور الزمن ومن جملة تلك الالفاظ لفظ الامامة، ففسره قوم: بالنبوة والتقدم والمطاعية مطلقا، وفسره آخرون بمعنى الخلافة أو الوصاية، أو الرئاسة في امور الدين والدنيا - وكل ذلك لم يكن - فإن النبوة معناها: تحمل النبأ من جانب الله، والرسالة معناها تحمل التبليغ، والمطاعية والاطاعة قبول الانسان ما يراه أو يأمره غيره وهو من لوازم النبوة والرسالة، والخلافة نحو من النيابة، وكذلك والوصاية، والرئاسة نحو من المطاعية وهو مصدرية الحكم في الاجتماع وكل هذه المعاني غير معنى الامامة التي هي كون الانسان بحيث يقتدى به غيره بأن يطبق أفعاله وأقواله على أفعاله وأقواله بنحو التبعية، ولا معنى لان يقال لنبي من الانبياء مفترض الطاعة إني جاعلك للناس نبيا، أو مطاعا فيما تبلغه بنبوتك، أو رئيسا تأمر وتنهى في الدين، أو وصيا، أو خليفة في الارض تقضي بين الناس في مرافعاتهم بحكم الله. وليست الامامة تخالف الكلمات السابقة وتختص بموردها بمجرد العناية اللفظية فقط، إذ لا يصح أن يقال لنبي - من لوازم نبوته كونه مطاعا بعد نبوته - إني جاعلك مطاعا للناس بعد ما جعلتك كذلك، ولا يصح ان يقال له ما يؤل إليه معناه وان اختلف بمجرد عناية لفظية، فإن المحذور هو المحذور، وهذه المواهب الالهية ليست مقصورة على مجرد المفاهيم اللفظية، بل دونها حقائق من المعارف

[ 272 ]

الحقيقية، فلمعنى الامامة حقيقة وراء هذه الحقائق. والذي نجده في كلامه تعالى: إنه كلما تعرض لمعنى الامامة تعرض معها للهداية تعرض التفسير، قال تعالى في قصص إبراهيم عليه السلام: (ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) الانبياء - 73، وقال سبحانه: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) السجدة - 24، فوصفها بالهداية وصف تعريف، ثم قيدها بالامر، فبين أن الامامة ليست مطلق الهداية، بل هي الهداية التي تقع بأمر الله، وهذا الامر هو الذي بين حقيقته في قوله: (إنما أمره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ) يس - 83، وقوله: (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) القمر - 50، وسنبين في الايتين ان الامر الالهي وهو الذي تسميه الاية المذكورة بالملكوت وجه آخر للخلق، يواجهون به الله سبحانه، طاهر مطهر من قيود الزمان والمكان، خال من التغير والتبدل وهو المراد بكلمة - كن الذي ليس إلا وجود الشئ العيني، وهو قبال الخلق الذي هو وجه آخر من وجهي الاشياء فيه التغير والتدريج والانطباق على قوانين الحركة والزمان، وليكن هذا عندك على إجماله حتى يأتيك تفصيله إنشاء الله العزيز. وبالجملة فالامام هاد يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه، فالامامة بحسب الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم، وهدايتها إيصالها إياهم إلى المطلوب بأمر الله دون مجرد إرائة الطريق الذي هو شأن النبي والرسول وكل مؤمن يهدي إلى الله سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة، قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء) ابراهيم - 4، وقال تعالى: في مؤمن آل فرعون وقال الذي آمن يا قوم اتبعون اهدكم سبيل الرشاد) مؤمن - 38، وقال تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) التوبة - 122، وسيتضح لك هذا المعنى مزيد اتضاح. ثم انه تعالى بين سبب موهبة الامامة بقوله: (لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون

[ 273 ]

الاية) فبين ان الملاك في ذلك صبرهم في جنب الله - وقد أطلق الصبر - فهو في كل ما يبتلي ويمتحن به عبد في عبوديته، وكونهم قبل ذلك موقنين، وقد ذكر في جملة قصص إبراهيم عليه السلام قوله: (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين) الانعام - 75، والآية كما ترى تعطي بظاهرها: أن إرائة الملكوت لابراهيم كانت مقدمة لافاضة اليقين عليه، ويتبين به أن اليقين لا ينفك عن مشاهدة الملكوت كما هو ظاهر قوله تعالى: (كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم) التكاثر - 6 وقوله تعالى: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون - إلى أن قال - كلا إن كتاب الابرار لفي عليين، وما أدريك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون) المطففين - 21، وهذه الآيات تدل على ان المقربين هم الذين لا يحجبون عن ربهم بحجاب قلبي وهو المعصية والجهل والريب والشك، فهم أهل اليقين بالله، وهم يشهدون عليين كما يشهدون الجحيم. وبالجملة فالامام يجب أن يكون إنسانا ذايقين مكشوفا له عالم الملكوت - متحققا بكلمات من الله سبحانه - وقد مر أن الملكوت هو الامر الذي هو الوجه الباطن من وجهي هذا العالم، فقوله تعالى: يهدون بأمرنا، يدل دلالة واضحة على أن كل ما يتعلق به أمر الهداية - وهو القلوب والاعمال - فللامام باطنه وحقيقتة، ووجهه الامري حاضر عنده غير غائب عنه، ومن المعلوم أن القلوب والاعمال كسائر الاشياء في كونها ذات وجهين، فالامام يحضر عنده ويلحق به أعمال العباد، خيرها وشرها، وهو المهيمن على السبيلين جميعا، سبيل السعادة وسبيل الشقاوة. وقال تعالى أيضا: (يوم ندعوا كل اناس بإمامهم) الاسراء - 71، وسيجئ تفسيره بالامام الحق دون كتاب الاعمال، على ما يظن من ظاهرها، فالامام هو الذي يسوق الناس إلى الله سبحانه يوم تبلى السرائر، كما أنه يسوقهم إليه في ظاهر هذه الحيوة الدنيا وباطنها، والآية مع ذلك تفيد أن الامام لا يخلو عنه زمان من الازمنة، وعصر من الاعصار، لمكان قوله تعالى كل اناس، على ما سيجئ في تفسير الآية من تقريبه. ثم إن هذا المعنى أعني الامامة، على شرافته وعظمته، لا يقوم إلا بمن كان سعيد الذات بنفسه، إذ الذي ربما تلبس ذاته بالظلم والشقاء، فإنما سعادته بهداية من غيره، وقد قال الله تعالى: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدي)

[ 274 ]

يونس - 35. وقد قوبل في الآية بين الهادي إلى الحق وبين غير المهتدي إلا بغيره، أعني المهتدي بغيره، وهذه المقابلة تقتضي أن يكون الهادي إلى الحق مهتديا بنفسه، أن المهتدي بغيره لا يكون هاديا إلى الحق البتة. ويستنتج من هنا أمران: أحدهما: أن الامام يجب أن يكون معصوما عن الضلال و المعصية، والا كان غير مهتد بنفسه، كما مر كما، يدل عليه أيضا قوله تعالى: (وجعلناهم أئمة بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلوة، وإيتاء الزكوة وكانوا لنا عابدين) الانبياء - 73 فأفعال الامام خيرات يهتدى إليها لا بهداية من غيره بل باهتداء من نفسه بتأييد إلهي، وتسديد رباني والدليل عليه قوله تعالى: (فعل الخيرات) بناء على أن المصدر المضاف يدل على الوقوع، ففرق بين مثل قولنا: وأوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات فلا يدل على التحقق والوقوع، بخلاف قوله (وأوحينا إليهم فعل الخيرات) فهو يدل على أن ما فعلوه من الخيرات إنما هو بوحى باطني وتأييد سماوي. الثاني: عكس الامر الاول وهو أن من ليس بمعصوم فلا يكون اماما هاديا إلى الحق البتة. وبهذا البيان يظهر: ان المراد بالظالمين في قوله تعالى، (قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) مطلق من صدر عنه ظلم ما، من شرك أو معصية، وان كان منه في برهة من عمره، ثم تاب وصلح. وقد سئل بعض أساتيذنا رحمة الله عليه: عن تقريب دلالة على عصمة الامام. فأجاب: أن الناس بحسب القسمة العقلية على أربعة أقسام: من كان ظالما في جميع عمره، ومن لم يكن ظالما في جميع عمره، ومن هو ظالم في أول عمره دون آخره، ومن هو بالعكس هذا. وإبراهيم عليه السلام أجل شأنا من أن يسئل الامامة للقسم الاول والرابع من ذريته، فبقي قسمان وقد نفى الله أحدهما، وهو الذي يكون ظالما في أول عمره دون آخره، فبقي الآخر، وهو الذي يكون غير ظالم في جميع عمره إنتهى وقد ظهر مما تقدم من البيان أمور: الاول: أن الامامة لمجعولة. الثاني: أن الامام يجب أن يكون معصوما بعصمة إلهية.

[ 275 ]

الثالث: أن الارض وفيه الناس، لا تخلو عن إمام حق. الرابع: أن الامام يجب أن يكون مؤيدا من عند الله تعالى. الخامس: أن أعمال العباد غير محجوبة عن علم الامام. السادس: أنه يجب أن يكون عالما بجميع ما يحتاج إليه الناس في امور معاشهم ومعادهم. السابع: أنه يستحيل أن يوجد فيهم من يفوقه في فضائل النفس. فهذه سبعة مسائل هي امهات مسائل الامامة، تعطيها الآية الشريفة بما ينضم إليها من الآيات والله الهادي. فان قلت: لو كانت الامامة هي الهداية بأمر الله تعالى، وهي الهداية إلى الحق الملازم مع الاهتداء بالذات كما استفيد من قوله تعالى: (أفمن يهدي إلى الحق إحق أن يتبع الآية) كان جميع الانبياء أئمة قطعا، لوضوح أن نبوة النبي لا يتم إلا باهتداء من جانب الله تعالى بالوحى، من غير أن يكون مكتسبا من الغير، بتعليم أو إرشاد ونحوهما، حينئذ فموهبة النبوة تستلزم موهبة الامامة، وعاد الاشكال إلى أنفسكم. قلت: الذي يتحصل من البيان السابق المستفاد من الآية أن الهداية بالحق وهي الامامة تستلزم الاهتداء بالحق، وأما العكس وهو أن يكون كل من اهتدى بالحق هاديا لغيره بالحق، حتى يكون كل نبي لاهتدائه بالذات إماما، فلم يتبين بعد، وقد ذكر سبحانه هذا الاهتداء بالحق، من غير أن يقرنه بهداية الغير بالحق في قوله تعالى: (ووهبنا له إسحق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل، ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين. وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين، وإسمعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين. ومن آبائهم وذرياتهم واخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم. ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده، ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون. أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين. اؤلئك الذين هدى الله فبهديهم اقتده) الانعام - 90، وسياق الآيات كما ترى يعطي أن هذه الهداية أمر ليس من شأنه أن يتغير ويتخلف، وأن هذه الهداية لن ترتفع بعد رسول الله عن أمته، بل عن ذرية إبراهيم منهم خاصة، كما يدل

[ 276 ]

عليه قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لابيه وقومه إنني برآء مما تعبدون إلا الذي فطرني فانه سيهدين. وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) الزخرف - 28، فأعلم قومه ببرائته في الحال وأخبرهم بهدايته في المستقبل، وهي الهداية بأمر الله حقا، لا الهداية التي يعطيها النظر والاعتبار، فإنها كانت حاصلة مدلولا عليها بقوله: إنني برآء مما تعبدون إلا الذي فطرني، ثم أخبر الله: أنه جعل هذه الهداية كلمة باقية في عقب إبراهيم، وهذا أحد الموارد التي أطلق القرآن الكلمة فيها على الامر الخارجي دون القول، كقوله تعالى: (وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها) الفتح - 26. وقد تبين بما ذكر: أن الامامة في ولد إبراهيم بعده، وفي قوله تعالى: (قال ومن ذريتي. قال لا ينال عهدي الظالمين) إشاره إلى ذلك، فإن إبراهيم عليه السلام إنما كان سئل الامامة لبعض ذريته لا لجميعهم، فاجيب: بنفيها عن الظالمين من ولده، وليس جميع ولده ظالمين بالضرورة حتى يكون نفيها عن الظالمين نفيا لها عن الجميع، ففيه إجابة لما سئله مع بيان أنها عهد، وعهده تعالى لا ينال الظالمين. قوله تعالى: لا ينال عهدي الظالمين، في التعبير إشارة إلى غاية بعد الظالمين عن ساحة العهد الالهي، فهي من الاستعارة بالكناية. (بحث روائي) في الكافي عن الصادق عليه السلام: إن الله عز وجل اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا، وإن الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا، وإن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا، وأن الله اتخذه خليلا قبل أن يتخذه إماما، فلما جمع له الاشياء قال: (إني جاعلك للناس إماما) قال عليه السلام: فمن عظمها في عين إبراهيم قال: ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين قال: لا يكون السفيه إمام التقي. أقول: وروي هذا المعنى أيضا عنه بطريق آخر وعن الباقر عليه السلام بطريق آخر، ورواه المفيد عن الصادق عليه السلام.

[ 277 ]

قوله: إن الله اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا، يستفاد ذلك من قوله تعالى: (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين - إلى قوله - من الشاهدين) الانبياء - 56، وهو اتخاذ بالعبودية في أول أمر إبراهيم. واعلم ان اتخاذه تعالى أحدا من الناس عبدا غير كونه في نفسه عبدا، فإن العبدية من الوازم الايجاد والخلقة، لا ينفك عن مخلوق ذي فهم وشعور، ولا يقبل الجعل والاتخاذ وهو كون الانسان مثلا مملوك الوجود لربه، مخلوقا مصنوعا له، سواء جرى في حيوته على ما يستدعيه مملوكيته الذاتية، واستسلم لربوبية ربه العزيز، أو لم يجر على ذلك، قال تعالى: (إن كل من في السموات والارض إلا آتي الرحمن عبدا) مريم - 94، وإن كان إذا لم يجر على رسوم العبودية وسنن الرقية استكبارا في الارض وعتوا كان من الحري أن لا يسمى عبدا بالنظر إلى الغايات، فإن العبد هو الذي أسلم وجه لربه، وأعطاه تدبير نفسه، فينبغي أن لا يسمى بالعبد إلا من كان عبدا في نفسه وعبدا في عمله، فهو العبد حقيقة، قال تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا) الفرقان - 63. وعلي هذا فاتخاذه تعالى إنسانا عبدا - وهو قبول كونه عبدا والاقبال عليه بالربوبية - هو الولاية وهو تولي أمره كما يتولى الرب أمر عبده، والعبودية مفتاح للولاية، كما يدل عليه قوله تعالى: (قل إن وليي الله الذي نزل الكتاب بالحق، وهو يتولى الصالحين) الاعراف - 196، أي اللائقين للولاية، فأنه تعالى سمى النبي في آيات من كتابه بالعبد، قال تعالى: (الذي أنزل على عبده الكتاب) الكهف - 1، وقال تعالى: (ينزل على عبده آيات بينات) الحديد - 9، وقال تعالى: (قام عبد الله يدعوه) الجن - 19، فقد ظهر أن الاتخاذ للعبودية هو الولاية. وقوله عليه السلام: وإن الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا، الفرق بين النبي الرسول على ما يظهر من الروايات المروية عن أئمة أهل البيت: أن النبي هو الذي يرى في المنام ما يوحي به إليه، والرسول هو الذي يشاهد الملك فيكلمة، والذي يظهر من قصص إبراهيم هو هذا الترتيب، قال تعالى: (واذكر في الكتاب ابراهيم انه كان صديقا نبيا، إذ قال لابيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع، ولا يبصر، ولا يغني عنك شيئا) مريم - 42، فظاهر الآية أنه عليه السلام كان صديقا نبيا حين يخاطب أباه بذلك، فيكون هذا تصديقا لما أخبر به ابراهيم عليه السلام في أول وروده على قومه: (انني

[ 278 ]

براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فانه سيهدين) الزخرف - 27، وقال تعالى: (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام) هود - 69، والقصة - وهي تتضمن مشاهدة الملك وتكليمه - واقعة في حال كبر إبراهيم عليه السلام بعد مفارق أباه وقومه. وقوله عليه السلام: إن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا، يستفاد ذلك من قوله تعالى: (واتبع ملة إبراهيم حنيفا، واتخذ الله إبراهيم خليلا) النساء - 125، فإن ظاهره انه إنما اتخذه خليلا لهذه الملة الحنيفية التي شرعها بأمر ربه إذ المقام مقام بيان شرف ملة إبراهيم الحنيف التي تشرف بسببها إبراهيم عليه السلام بالخلة والخليل أخص من الصديق فإن أحد المتحابين يسمى صديقا إذا صدق في معاشرته ومصاحبته ثم يصير خليلا إذا قصر حوائجه على صديقه، والخلة الفقر والحاجة. وقوله عليه السلام: وان الله اتخذه خليلا قبل أن يتخذه اماما، الخ يظهر معناه مما تقدم من البيان. وقوله: قال لا يكون السفيه امام التقى اشارة إلى قوله تعالى، (ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وانه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) البقره - 131، فقد سمى الله سبحانه الرغبة عن ملة ابراهيم وهو الظلم سفها، وقابلها بالاصطفاء، وفصر الاصطفاء بالاسلام، كما يظهر بالتدبر في قوله: (إذ قال له ربه أسلم) ثم جعل الاسلام والتقوى واحدا أو في مجرى واحد في قوله: (اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وانتم مسلمون) آل عمران - 102، فافهم ذلك. وعن المفيد عن درست وهشام عنهم (ع) قال: قد كان ابراهيم نبيا وليس بإمام، حتى قال الله تبارك وتعالى: (اني جاعلك للناس اماما قال ومن ذريتي) فقال الله تبارك وتعالى: لا ينهال عهدي الظالمين، من عببد صنما أو وثنا أو مثالا، لا يكون اماما. أقول: وقد ظهر معناه مما مر. وفي أمالي الشيخ مسندا، وعن مناقب ابن المغازلي مرغوعا عن ابن مسعود عن

[ 279 ]

النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآية عن قول الله لابراهيم: من سجد لصنم دوني لا أجعله اماما. قال (ع) وانتهت الدعوة إلى والى أخي علي، لم يسجد أحدنا لصنم قط. وفي الدر المنثور: أخرج وكيع وابن مردويه عن علي بن أبي طالب عليه السلام عن الني في قوله: (لا ينال عهدي الظالمين) قال: لا طاعة الا في المعروف. وفي الدر اللمنثور أيضا: أخرج عبد بن حميد عن عمران بن حصين سمعت النبي يقول: لا طاعة لمخلوق في معصية الله. أقول: معانيها ظاهرة مما مر. وفي تفسير العياشي، بأسانيد عن صفوان الجمال قال: كنا بمكة فجرى الحديث في قول الله: (وإذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن) قال: فأتمهن بمحمد وعلي والائمة من ولد علي في قول الله: (ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم). اقول: والرواية مبنية على كون المراد بالكلمة الامامة كما فسرت بها في قوله تعالى: (فإنه سيهدين فجعلها كلمة باقية في عقبه الآية) فيكون معنى الاية: (واذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات، هن امامته، وامامة اسحق وذريته، واتمهن بإمامة محمد، والائمة من أهل بيته من ولد اسمعيل ثم بين الامر بقوله: قال إني جاعلك للناس اماما إلى آخر الآية. وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسمعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود - 125. وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن

[ 280 ]

منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير - 126. وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسمعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم - 127. ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم - 128. ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم - 129. (بيان) قوله تعالى: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا، إشارة إلى تشريع الحج والامن في البيت، والمثابة هي المرجع، من ثاب يثوب إذا رجع. قوله تعالى: واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى كإنه عطف على قوله: جعلنا البيت مثابة، بحسب المعنى، فأن قوله: جعلنا البيت مثابة، لما كان إشارة إلى التشريع كان المعنى وإذ قلنا للناس ثوبوا إلى البيت وحجوا إليه، واتخذوا من مقام إبراهيم مصلي وربما قيل إن الكلام على تقدير القول، والتقدير: وقلنا اتخذوا من مقام ابراهيم مصلى، والمصلى اسم مكان من الصلوة بمعنى الدعاء أي اتخذوا من مقامه عليه السلام مكانا للدعاء والظاهر ان قوله: جعلنا البيت مثابة إلخ بمنزلة التوطئة اشير به إلى مناط تشريع الصلوة ولذا لم يقل: وصلوا، في مقام ابراهيم، بل قال: واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى، فلم يعلق الامر بالصلوة في المقام، بل علق على اتخاذ المصلى منه.

[ 281 ]

قوله تعالى: وعهدنا إلى إبراهيم وإسمعيل أن طهرا، العهد هو الامر والتطهير إما تخليص البيت لعبادة الطائفين، والعاكفين، والمصلين، ونسكهم فيكون من الاستعارة بالكناية، وأصل المعنى: أن خلصا بيتي لعبادة العباد، وذلك تطهير وإما تنظيفه من الاقذار والكثافات الطارئة من عدم مبالات الناس، والركع السجود جمعا راكع وساجد وكان المراد به المصلون. قوله تعالى: وإذ قال ابراهيم رب اجعل، هذا دعاء دعا به ابراهيم يسئل به الامن على أهل مكة والرزق وقد اجيبت دعوته، وحاشا لله سبحانه أن ينقل في كلامه دعاء لا يستجيبه ولا يرده في كلامه الحق فيشتمل كلامه على هجاء لغو لغى به لاغ جاهل، وقد قال تعالى: (والحق أقول) ص - 84، وقال تعالى: (إنه لقول فصل وما هو بالهزل) الطارق - 14. وقد نقل القرآن العظيم عن هذا النبي الكريم دعوات كثيرة دعابها، وسئلها ربه كدعائه لنفسه في بادئ أمره، ودعائه عند مهاجرته إلى سورية ودعائه ومسئلته بقاء الذكر الخير، ودعائه لنفسه وذريته ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات، ودعائه لاهل مكة بعد بناء البيت، ودعائه ومسئلته بعثة النبي من ذريته، ومن دعواته ومسائله التي تجسم آماله وتشخص مجاهداته ومساعيه في جنب الله وفضائل نفسه المقدسة، وبالجملة تعرف موقعه وزلفاه من الله عز اسمه، وسائر قصصه وما مدحه به ربه، يستنبط شرح حيوته الشريفة وسنتعرض للميسور من ذلك في سورة الانعام. قوله تعالى: من آمن منهم، لما سئل عليه السلام لبلد مكة الامن، ثم سئل لاهلة أن يرزقوا من الثمرات، استشعر: أن الاهل سيكون منهم مؤمنون، وكافرون ودعائه للاهل بالرزق يعم الكافر والمؤمن، وقد تبرا من الكافرين وما يعبدونه، قال تعالى (فلما تبين أنه عدو لله تبرء منه) التوبة - 114، فشهد تعالى له: بالبرائة والتبري عن كل عدو لله، حتى أبيه، ولذلك لما استشعر ما استشعره من عموم دعوته قيدها بقوله من آمن منهم - وهو يعلم أن رزقهم من الثمرات لا يتم من دون شركة الكافرين، على ما يحكم به ناموس الحيوة الدنيوية الاجتماعية - غير أنه خص مسئلته - والله أعلم - بما يحكم لسائر عباده، ويريد في حقهم، فاجيب (ع) بما يشمل المؤمن والكافر، وفيه

[ 282 ]

بيان أن المستجاب من دعوته ما يجري على حكم العادة وقانون الطبيعة من غير خرق للعادة، وإبطال لظاهر حكم الطبيعة، ولم يقل: وارزق من آمن من أهلة من الثمرات لان المطلوب استيهاب الكرامة للبلد لكرامة البيت المحرم، ولا ثمرة تحصل في واد غير ذي زرع، وقع فيه البيت، ولو لا ذلك لم يعمر البلد، ولا وجد أهلا يسكنونه. قوله تعالى: ومن كفر فامتعه قليلا، قرء فامتعه من باب الافعال والتفعيل والامتاع والتمتيع بمعنى واحد. قوله تعالى: ثم اضطره إلى عذاب النار الخ، فيه إشارة إلى مزيد اكرام البيت وتطييب لنفس ابراهيم (ع)، كأنه قيل: ما سئلته من اكرام البيت برزق المؤمنين من أهل هذا البلد استجبته وزيادة، ولا يغتر الكافر بذلك أن له كرامة على الله، وانما ذلك اكرام لهذا البلد، واجابة لدعوتك بأزيد مما سئلته، فسوف يضطر إلى عذاب النار، وبئس المصير. قوله تعالى: واذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسمعيل، القواعد جمع قاعدة وهي ما قعد من البناء على الارض، واستقر عليه الباقي، ورفع القواعد من المجاز بعد ما يوضع عليها منها، ونسبة الرفع المتعلق بالمجموع إلى القواعد وحدها. وفي قوله تعالى: من البيت تلميح إلى هذه العناية المجازية. قوله تعالى: ربنا تقبل منا أنك أنت السميع العليم، دعاء لابراهيم واسمعيل، وليس على تقدير القول، أو ما يشبهه، والمعنى يقولان: ربنا تقبل منا الخ، بل هو في الحقيقة حكاية المقول نفسه، فإن قوله: يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسمعيل حكاية الحال الماضية، فهما يمثلان بذلك تمثيلا كأنهما يشاهدان وهما مشتغلان بالرفع، والسامع يراهما على حالهما ذلك ثم يسمع دعائهما بألفاظهما من غير وساطة المتكلم المشير إلى موقفهما وعملهما، وهذا كثير في القرآن، وهو من أجمل السياقات القرآنية - وكلها جميل - وفيه من تمثيل القصة وتقريبه إلى الحس ما لا يوجد ولا شئ من نوع بداعته في التقبل بمثل القول ونحوه. وفي عدم ذكر متعلق التقبل - وهو بناء البيت - تواضع في مقام العبودية،

[ 283 ]

واستحقار لما عملا به و المعنى ربنا تقبل منا هذا العمل اليسير انك أنت السميع لدعوتنا، العليم بما نويناه في قلوبنا. قوله تعالى: ربنا واجعلنا مسلمين لك، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، من البديهي أن الاسلام على ما تداول بيننا من لفظه، ويتبادر إلى أذهاننا من معناه أول مراتب العبودية، وبه يمتاز المنتحل من غيره، وهو الاخذ بظاهر الاعتقادات والاعمال الدينية أعم من الايمان والنفاق، وابراهيم عليه السلام - وهو النبي الرسول أحد الخمسة أولي العزم، صاحب الملة الحنيفية - أجل من أن يتصور في حقه أن لا يكون قد ناله إلى هذا الحين، وكذا ابنه اسمعيل رسول الله وذبيحه، أو يكونا قد نالاه ولكن لم يعلما بذلك، أو يكونا علما بذلك وأرادا البقاء على ذلك، وهما في ما هما فيه من القربى والزلفى، والمقام مقام الدعوة عند بناء البيت المحرم، وهما أعلم بمن يسالانه، وأنه من هو، وما شأنه، على أن هذا الاسلام من الامور الاختيارية التي يتعلق بها الامر والنهى كما قال تعالى: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) البقرة - 131، ولا معنى لنسبة ما هو كذلك إلى الله سبحانه أو مسألة ما هو فعل اختياري للانسان من حيث هو كذلك من غير عناية يصح معها ذلك. فهذا الاسلام المسئول غير ما هو المتداول المتبادر عندنا منه، فإن الاسلام مراتب والدليل على أنه ذو مراتب قوله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت الآية) حيث يأمرهم إبراهيم بالاسلام وقد كان مسلما، فالمراد بهذا الاسلام المطلوب غير ما كان عنده من الاسلام الموجود، ولهذا نظائر في القرآن. فهذا الاسلام هو الذي سنفسره من معناه، وهو تمام العبودية وتسليم العبد كل ما له إلى ربه، وهو إن كان معنى اختياريا للانسان من طريق مقدماته إلا أنه إذا اضيف إلى الانسان العادي وحاله القلبي المتعارف كان غير اختياري بمعنى كونه غير ممكن النيل له - وحاله حاله - كساير مقامات الولاية ومراحله العالية، وكسائر معارج الكمال البعيدة عن حال الانسان المتعارف المتوسط الحال بواسطة مقدماته الشاقة، ولهذا يمكن إن يعد أمرا إلهيا خارجا عن اختيار الانسان، ويسئل من الله سبحانه أن يفيض به، وأن يجعل الانسان متصفا به.

[ 284 ]

على أن هنا نظرا أدق من ذلك، وهو ان الذي ينسب إلى الانسان ويعد اختياريا له، هو الافعال، وأما الصفات والملكات الحاصلة من تكرر صدورها فليست اختيارية بحسب الحقيقة، فمن الجائز أو الواجب ان ينسب إليه تعالى، وخاصة إذا كانت من الحسنات والخيرات التي نسبتها إليه تعالى، أولى من نسبتها إلى الانسان، وعلى ذلك جرى ديدن القرآن، كما في قوله تعالى: (رب اجعلني مقيم الصلوة ومن ذريتي) إبراهيم - 40، وقوله تعالى: (وألحقني بالصالحين) الشعراء - 83، وقوله تعالى: (رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي، وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضيه) النمل - 19، وقوله تعالى: (ربنا واجعلنا مسلمين لك) الآية، فقد ظهر ان المراد بالاسلام غير المعنى الذي يشير إليه قوله تعالى: (قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم) الحجرات - 14، بل معنى أرقي وأعلى منه سيجئ بيانه. قوله تعالى: وأرنا مناسكنا وتب علينا. انك أنت التواب الرحيم، يدل على ما مر من معنى الاسلام أيضا، فأن المناسك جمع منسك بمعنى العبادة، كما في قوله تعالى: (ولكل امة جعلنا منسكا) الحج - 34، أو بمعنى المتعبد، أعني الفعل المأتي به عبادة وإضافة المصدر يفيد التحقق، فالمراد بمناسكنا هي الافعال العبادية الصادرة منهما والاعمال التي يعملانها دون الافعال، والاعمال التي يراد صدورها منهما، فليس قوله: أرنا بمعنى علمنا أو وفقنا، بل التسديد بارائة حقيقة الفعل الصادر منهما، كما أشرنا إليه في قوله تعالى: (وأوحينا إليهم فعل الخيرات، وإقام الصلوة وإيتاء الزكوة) الانبياء - 73، وسنبينه في محله: ان هذا الوحي تسديد في الفعل، لاتعليم للتكليف المطلوب، وكأنه إليه الاشارة بقوله تعالى: (واذكر عبادنا إبراهيم، وإسحق، ويعقوب، أولي الايدي والابصار. انا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار) ص - 46. فقد تبين ان المراد بالاسلام والبصيرة في العبادة، غير المعنى الشائع المتعارف، وكذلك المراد بقوله تعالى: وتب علينا، لان إبراهيم وإسماعيل كانا نبيين معصومين بعصمة الله تعالى، لا يصدر عنهما ذنب حتى يصح توبتهما منه، كتوبتنا من المعاصي

[ 285 ]

اصادرة عنا. فان قلت: كل ما ذكر من معنى الاسلام وإرائة المناسك والتوبة مما يليق بشأن إبراهيم واسمعيل عليه السلام، لا يلزم ان يكون هو مراده في حق ذريته فانه لم يشرك ذريته معه ومع ابنه اسمعيل إلا في دعوة الاسلام وقد سال لهم الاسلام بلفظ آخر في جملة اخرى، فقال: ومن ذريتنا امة مسلمة لك ولم يقل: واجعلنا ومن ذريتنا مسلمين، أو ما يؤدي معناه فما المانع أن يكون مراده من الاسلام ما يعم جميع مراتبه حتى ظاهر الاسلام، فان الظاهر من الاسلام أيضا له آثار جميلة، وغايات نفيسة في المجتمع الانساني، يصح أن يكون بذلك بغية لابراهيم عليه السلام يطلبها من ربه كما كان كذلك عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث اكتفى صلى الله عليه وآله وسلم من الاسلام بظاهر الشهادتين الذي به يحقن الدماء، ويجوز التزويج، ويملك الميراث، وعلى هذا يكون المراد بالاسلام في قوله تعالى: ربنا واجعلنا مسلمين لك، ما يليق بشأن ابراهيم واسمعيل، وفي قوله: ومن ذريتنا امة مسلمة لك ما هو اللائق بشأن الامة التي فيها المنافق، وضعيف الايمان وقويه، والجميع مسلمون. قلت: مقام التشريع ومقام السؤال من الله مقامان مختلفان، لهما حكمان متغايران لا ينبغي أن يقاس أحدهما على الآخر، فما اكتفى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من امته بظاهر الشهادتين من الاسلام، انما هو لحكمة توسعة الشوكة والحفظ لظاهر النظام الصالح، ليكون ذلك كالقشر يحفظ به اللب الذي هو حقيقة الاسلام، ويصان به عن مصادمة الآفات الطارئة. وأما مقام الدعاء والسؤال من الله سبحانه فالسلطة فيها للحقائق والغرض متعلق هناك بحق الامر، وصريح القرب والزلفى ولا هوى للانبياء في الظاهر من جهة ما هو ظاهر ولا هوى لابراهيم عليه السلام في ذريته ولو كان له هوى لبدء فيه لابيه قبل ذريته ولم يتبرا منه لما تبين أنه عدو لله، ولم يقل في ما حكى الله من دعائه (ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من أتي الله بقلب سليم) الشعراء - 89، ولم يقل (واجعل لي لسان صدق في الاخرين) الشعراء، - 84، بل اكتفى بلسان ذكر في الآخرين إلى غير ذلك.

[ 286 ]

فليس الاسلام الذي ساله لذريته الا حقيقة الاسلام، وفي قوله تعالى: امة مسلمة لك، اشارة إلى ذلك فلو كان المراد مجرد صدق اسم الاسلام على الذرية لقيل: امة مسلمة، وحذف قوله: لك هذا. قوله تعالى: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم الخ دعوة للني عليه السلام وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (أنا دعوة ابراهيم). (بحث روائي) في الكافي عن الكتاني،: قال سئالت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل نسي أن يصلي الركعتين عند مقام ابراهيم في طواف الحج والعمرة، فقال عليه السلام: إن كان بالبلد صلى الركعتين عند مقام ابراهيم، فإن الله عز وجل يقول: واتخذوا من مقام ابراهيم: مصلى وان كان قد ارتحل، فلا آمره أن يرجع. أقول: وروى قريبا منه، الشيخ في التهذيب، والعياشي في تفسيره بعدة أسانيد وخصوصيات الحكم - وهو الصلوة عند المقام أو خلفه، كما في بعض الروايات ليس لاحد أن يصلي ركعتي الطواف إلا خلف المقام، الحديث - مستفادة من لفظة من، ومصلى من قوله تعالى: واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى الآية. وفي تفسير القمي عن الصادق (ع) في قوله تعالى: أن طهرا بيتي للطائفين الآية يعني (نح عنه المشركين). وفي الكافي عن الصادق (ع) قال إن الله عز وجل يقول في كتابه: طهرا بيتى للطائفين والعاكفين، والركع السجود، فينبغي للعبد أن لا يدخل مكة إلا وهو طاهر قد غسل عرقه، والاذى، وتطهر. أقول: وهذا المعنى مروي في روايات اخر، واستفادة طهارة الوارد من طهارة المورد، ربما تمت من آيات أخر، كقوله تعالى (الطيبات للطيبين، والطيبون للطيبات)

[ 287 ]

النور - 26، ونحوها. وفي المجمع عن ابن عباس قال: لما أتي إبراهيم باسمعيل وهاجر، فوضعهما بمكة واتت على ذلك مدة، ونزلها الجرهميون، وتزوج إسمعيل امرأه منهم، وماتت هاجر، واستأذن ابراهيم سارة، فأذنت له، وشرطت عليه أن لا ينزل، فقدم إبراهيم وقد ماتت هاجر، فذهب إلى بيت اسمعيل، فقال لامرأته أين صاحبك ؟ قالت له ليس هو هيهنا، ذهب يتصيد، وكان اسمعيل يخرج من الحرم يتصيد ويرجع، فقال لها ابراهيم: هل عندك ضيافة ؟ فقالت ليس عندي شئ، وما عندي أحد، فقال لها ابراهيم: إذا جاء زوجك، فاقرئيه السلام وقولي له: فليغير عتبة بابه وذهب ابراهيم فجاء اسمعيل، ووجد ريح أبيه، فقال لامرأاته: هل جاءك أحد ؟ قالت: جاءني شيخ صفته كذا وكذا، كالمستخفه بشأنه، قال: فما قال لك ؟ قالت: قال لى: اقرأي زوجك السلام، وقولي له: فليغير عتبة بابه، فطلقها وتزوج أخرى، فلبث ابراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثم استأذن سارة: أن يزور اسمعيل وأذنت له، واشترطت عليه: أن لا ينزل فجاء ابراهيم، حتى انتهى إلى باب اسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك ؟ قالت: ذهب يتصيد وهو يجئ الآن إنشاء الله، فانزل، يرحمك الله، قال لها: هل عندك ضيافة ؟ قالت: نعم فجاءت باللبن واللحم، فدعا لها بالبركة، فلو جائت يومئذ بخبز أو بر أو شعير أو تمر لكان أكثر أرض الله برا وشعيرا وتمرا، فقالت له انزل حتى أغسل رأسك فلم ينزل فجاءت بالمقام فوضعته على شقه فوضع قدمه عليه، فبقى أثر قدمه عليه، فغسلت شق رأسه الايمن ثم حولت المقام إلى شقه الايسر فغسلت شق رأسه الايسر فبقي أثر قدمه عليه، فقال لها: إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام، وقولي له: قد استقامت عتبة بابك فلما جاء إسمعيل (ع) وجد ريح أبيه فقال لامرأته هل جائك أحد ؟ قالت نعم شيخ أحسن الناس وجها، وأطيبهم ريحا، فقال لي كذا وكذا وقلت له: كذا وغسلت رأسه، وهذا موضع قدميه على المقام، فقال اسماعيل لها: ذاك ابراهيم. أقول: وروى القمي، في تفسيره: ما يقرب منه. وفي تفسير القمي، عن الصادق عليه السلام قال: إن ابراهيم كان نازلا، في بادية

[ 288 ]

الشام فلما ولد له من هاجر إسمعيل اغتمت سارة من ذلك غما شديدا، لانه لم يكن لها ولد، وكانت تؤذي إبراهيم في هاجر وتغمه، فشكى ابراهيم ذلك إلى الله عز وجل، فأوحى الله إليه: (مثل المرئة مثل الضلع العوجاء، إن تركتها استمتعت بها، وإن أقمتها كسرتها) ثم أمره: إن يخرج إسمعيل وامه، فقال: يا رب إلى أي مكان ؟ فقال إلى حرمى وأمنى، وأول بقعة خلقتها من الارض، وهي مكة فأنزل الله عليه جبرئيل بالبراق فحمل هاجر وإسمعيل وإبراهيم وكان إبراهيم لا يمر بموضع حسن فيه شجر وزرع ونخل إلا وقال ابراهيم: يا جبرئيل إلى هيهنا، إلى هيهنا، فيقول جبرئيل لا امض، امض، حتى وافى مكة فوضعه في موضع البيت، وقد كان ابراهيم عاهد سارة أن لا ينزل حتى يرجع إليها، فلما نزلوا في ذلك المكان كان فيه شجر، فألقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها، فاستظلوا تحته، فلما سرحهم ابراهيم ووضعهم أراد الانصراف عنهم إلى سارة، قالت له هاجر: يا ابراهيم أتدعنا في موضع ليس فيه أنيس ولا ماء ولا زرع ؟ فقال ابراهيم: الله الذي أمرني، أن أضعكم في هذا المكان هو يكفيكم ثم انصرف عنهم، فلما بلغ، كداء، (وهو جبل بذي طوى) التفت ابراهيم، فقال: رب انى أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع، عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلوة، فاجعل أفئده من الناس تهوي إليهم، وارزقهم من الثمرات، لعلهم يشكرون، ثم مضى وبقيت هاجر، فلما ارتفع النهار عطش اسمعيل، فقامت هاجر في موضع السعي فصعدت على الصفا، ولمع لها السراب في الوادي، فظنت أنه ماء، فنزلت في بطن الوادي، وسعت فلما بلغت المروة غاب عنها اسمعيل، عادت حتى بلغت الصفاء، فنظرت حتى فعلت ذلك سبع مرات فلما كان في الشوط السابع، وهي على المروة نظرت إلى اسمعيل وقد ظهر الماء من تحت رجليه فعادت حتى جمعت حوله رملا، فإنه كان سائلا، فزمته بما جعلت حوله، فلذلك سميت زمزم وكانت جرهم نازلة بذي المجاز وعرفات، فلما ظهر الماء بمكة عكفت الطير والوحش على الماء، فنظرت جرهم إلى تعكف الطير والوحش على ذلك المكان فأتبعتها، حتى نظروا إلى امرأة وصبي نازلين في ذلك الموضع، قد استظلا بشجرة، وقد ظهر الماء لهما، فقالوا لهاجر: من أنت وما شأنك وشأن هذا الصبي ؟ قالت: أنا أم ولد ابراهيم خليل الرحمن، وهذا ابنه، أمره الله أن ينزلنا هيهنا، فقالوا له: أتأذنين لنا أن نكون

[ 289 ]

بالقرب منكم ؟ فقالت لهم: حتى يأتي إبراهيم، فلما زارهم إبراهيم في اليوم الثالث قالت هاجر: يا خليل الله إن هيهنا قوما من جرهم يسئلونك: أن تأذن لهم، حتى يكونوا بالقرب منا، أفتأذن لهم في ذلك ؟ قال ابراهيم: نعم فأذنت هاجر لهم، فنزلوا بالقرب منهم، وضربوا خيامهم، فأنست هاجر واسمعيل بهم، فلما زارهم ابراهيم في المرة الثانية نظر إلى كثرة الناس حولهم فسر بذلك سرورا شديدا، فلما تحرك اسمعيل وكانت جرهم قد وهبوا لاسماعيل كل واحد منهم شاة، وشاتين فكانت هاجر واسمعيل، يعيشان بها فلما بلغ اسمعيل مبلغ الرجال، أمر الله ابراهيم: ان يبني البيت إلى أن قال: فلما أمر الله ابراهيم أن يبني البيت لم يدر في أي مكان يبنيه، فبعث الله جبرئيل، وخط له موضع البيت إلى أن قال فبنى ابراهيم البيت، ونقل اسمعيل من ذي طوى فرفعه في السماء تسعة اذرع، ثم دله على موضع الحجر فاستخرجه ابراهيم، ووضعه في موضعه الذي هو فيه الآن، فلما بنى جعل له بابين بابا إلى الشرق، وبابا إلى الغرب، والباب الذي إلى الغرب، يسمى المستجار، ثم ألقى عليه الشجر والاذخر، وألقت هاجر على بابها كسائا كان معها وكانوا يكونون تحته، فلما بنى وفرغ منه، حج ابراهيم واسمعيل، ونزل عليهما جبرئيل يوم التروية، لثمان من ذي الحجة فقال: يا إبراهيم قم وارتو من الماء، لانه لم يكن بمنى وعرفات ماء، فسميت التروية لذلك ثم أخرجه إلى منى فبات بها ففعل به ما فعل بآدم، فقال ابراهيم لما فرغ من بناء البيت: (رب اجعل هذا بلدا آمنا، وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم الآية) قال عليه السلام: من ثمرات القلوب، أي حببهم إلى الناس، ليستأنسوا بهم، ويعودوا إليهم. أقول: هذا الذي لخصناه من أخبار القصة هو الذي تشتمل عليه الروايات الواردة في خلاصه القصة، وقد اشتملت عدة منها، وورد في اخبار أخرى: أن تاريخ بناء البيت يتضمن امورا خارقة للعادة، ففي بعض الاخبار، أن البيت أول ما وضع كان قبة من نور: نزلت على آدم، واستقرت في البقعة التي بنى إبراهيم عليها البيت، ولم تزل حتى وقع طوفان نوح، فلما غرقت الدنيا رفعه الله تعالى، ولم تغرق البقعة، فسمى لذلك البيت العتيق.

[ 290 ]

وفي بعض الاخبار: أن الله أنزل قواعد البيت من الجنة. وفي بعضها ان الحجر الاسود نزل من الجنة - وكان أشد بياضا من الثلج - فاسودت: لما مسته إيدي الكفار. وفي الكافي أيضا عن إحدهما عليه السلام قال: ان الله إمر إبراهيم ببناء الكعبة، وان يرفع قواعدها، ويرى الناس مناسكهم، فبنى إبراهيم واسمعيل البيت كل يوم ساقا، حتى انتهى إلى موضع الحجر الاسود، وقال أبو جعفر عليه السلام: فنادى أبو قبيس: ان لك عندي وديعة، فأعطاه الحجر، فوضعه موضعه. وفي تفسير العياشي عن الثوري عن أبي جعفر عليه السلام، قال سألته عن الحجر، فقال: نزلت ثلاثة أحجار من الجنة، الحجر الاسود استودعه إبراهيم، ومقام إبراهيم، وحجر بني إسرائيل. وفي بعض الاخبار: ان الحجر الاسود كان ملكا من الملائكة. أقول: ونظائر هذه المعاني كثيرة واردة في أخبار العامة والخاصة، وهي وان كانت آحادا غير بالغة حد التواتر لفظا، أو معنى، لكنها ليست بعادمة النظير في أبواب المعارف الدينية ولا موجب لطرحها من رأس. أما ما ورد من نزول القبة على آدم، وكذا سير إبراهيم إلى مكة بالبراق، ونحو ذلك، مما هو كرامة خارقة لعادة الطبيعة، فهي امور لا دليل على استحالتها، مضافا إلى ان الله سبحانه خص أنبيائه بكثير من هذه الآيات المعجزة، والكرامات الخارقة، والقرآن يثبت موارد كثيرة منها. وأما ما ورد من نزول قواعد البيت من الجنة ونزول الحجر الاسود من الجنة، ونزول حجر المقام - ويقال: انه مدفون تحت البناء المعروف اليوم بمقام إبراهيم - من الجنة وما أشبه ذلك، فذلك كما ذكرنا كثير النظائر، وقد ورد في عدة من النباتات والفواكه وغيرها: انها من الجنة، وكذا ما ورد: انها من جهنم،

[ 291 ]

ومن فورة الجحيم، ومن هذا الباب أخبار الطينة القائلة: ان طينة السعداء من الجنة، وان طينة الاشقياء من النار، أو هما من عليين، وسجين، ومن هذا الباب أيضا ما ورد: ان جنة البرزخ في بعض الاماكن الارضية، ونار البرزخ في بعض آخر، وان القبر اما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، إلى غير ذلك، مما يعثر عليه المتتبع البصير في مطاوي الاخبار، وهي كما ذكرنا بالغة في الكثرة حدا ليس مجموعها من حيث المجموع بالذى يطرح أو يناقش في صدوره أو صحة انتسابه وإنما هو من الهيات المعارف التي سمح بها القرآن الشريف، وانعطف إلى الجري على مسيرها الاخبار الذي يقضى به كلامه تعالى: ان الاشياء التي في هذه النشأه الطبيعية المشهودة جميعا نازلة إليها من عند الله سبحانه، فما كانت منها خيرا جميلا، أو وسيلة خير، أو وعاء لخير، فهو من الجنة، وإليها تعود، وما كان منها شرا، أو وسيلة شر، أو وعاء لشر، فهو من النار، وإليها ترجع، قال تعالى: (وان من شئ إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر معلوم) الحجر - 21، أفاد: ان كل شئ موجود عنده تعالى وجودا غير محدود بحد، ولا مقدر بقدر، وعند التنزيل - وهو التدريج في النزول - يتقدر بقدره ويتحدد بحده، فهذا على وجه العموم، وقد ورد بالخصوص أيضا أمثال قوله تعالى: (وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج) الزمر - 6، وقوله تعالى: (وأنزلنا الحديد) الحديد - 25، وقوله تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) الذاريات - 22، على ما سيجئ من توضيح معناها إنشاء الله العزيز، فكل شئ نازل إلى الدنيا من عند الله سبحانه، وقد أفاد في كلامه: أن الكل راجع إليه سبحانه، فقال: (وان إلى ربك المنتهى) النجم - 42، وقال تعالى: (إلى ربك الرجعى) العلق - 8، قال: (وإليه المصير) المؤمن - 3، وقال تعالى: ألا إلى الله تصير الامور) الشورى - 53، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. وأفاد: أن الاشياء - وهي بين بدئها وعودها - تجري على ما يستدعيه بدؤها، ويحكم به حظها من السعادة والشقاء، والخير والشر، فقال تعالى: (كل يعمل على شاكلته) أسراء - 84، وقال: (ولكل وجهة هو موليها) البقرة - 148، وسيجئ توضيح دلالتها جميعا، والغرض هيهنا مجرد الاشارة إلى ما يتم به البحث،

[ 292 ]

وهو ان هذه الاخبار الحاكية عن كون هذه الاشياء الطبيعية، من الجنة، أو من النار، إذا كانت ملازمة لوجه السعادة أو الشقاوة لا تخلو عن وجه صحة، المطابقتها لاصول قرآنية ثابتة في الجملة، وان لم يستلزم ذلك كون كل واحد واحد صحيحا، يصح الركون إليه، فافهم المراد. وربما قال القائل: ان قوله تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسمعيل الآية) ظاهر في انهما، هما اللذان بنيا هذا البيت لعبادة الله تعالى في تلك البلاد الوثنية، ولكن القصاصين ومن تبعهم من المفسرين، جاؤنا من ذلك بغير ما قصه الله تعالى علينا، وتفننوا في رواياتهم، عن قدم البيت، وعن حج آدم، وعن ارتفاعه إلى السماء وقت الطوفان وعن كون الحجر الاسود من أحجار الجنة، وقد أراد هؤلاء القصاصون أن يزينوا الدين ويرقشوه برواياتهم هذه، وهذه التزيينات بزخارف القول، وان أثرت أثرها في قلوب العامة، لكن أرباب اللب والنظر من أهل العلم يعلمون ان الشرف المعنوي الذي أفاضه الله سبحانه، بتكريم بعض الاشياء على بعض، فشرف البيت إنما هو بكونه بيتا لله، منسوبا إليه، وشرف الحجر الاسود بكونه موردا للاستلام بمنزلة يد الله سبحانه، وأما كون الحجر في أصله ياقوتة، أو درة، أو غير ذلك، فلا يوجب مزية فيه، وشرفا حقيقا له، و ما الفرق بين حجر أسود، وحجر أبيض، عند الله تعالى في سوق الحقائق، فشرف هذا البيت بتسمية الله تعالى إياه بيته، وجعله موضعا لضروب من عبادته، لا تكون في غيره - كما تقدم - لا بكون أحجاره تفضل سائر الاحجار، ولا بكون موقعه تفضل سائر المواقع، ولا بكونه من السماء، وعالم الضياء وكذلك شرف الانبياء على غيرهم من البشر ليس لمزية في أجسامهم، ولافي ملابسهم، وإنما هو لاصطفاء الله تعالى إياهم، وتخصيصهم بالنبوة، التي هي أمر معنوي، وقد كان أهل الدنيا أحسن زينة، وأكثر نعمة منهم. قال: وهذه الروايات فاسده، في تناقضها وتعارضها في نفسها، وفاسدة في عدم صحة أسانيدها، وفاسدة في مخالفتها لظاهر الكتاب. قال: وهذه الروايات خرافات إسرائيلية، بثها زنادقة اليهود في المسلمين،

[ 293 ]

ليشوهوا عليهم دينهم، وينفروا أهل الكتاب منه. اقول: ما ذكره لا يخلو من وجه في الجملة، الا انه أفرط في المناقشة، فاعترضه من خبط القول ما هو أردى وأشنع. أما قوله: أن هذه الروايات فاسدة أولا من جهة التناقض والتعارض وثانيا من جهة مخالفة الكتاب، ففيه أن التناقض أو التعارض إنما يضر لو أخذ بكل واحد واحد منها، وأما الاخذ بمجموعها من حيث المجموع (بمعنى أن لا يطرح الجميع لعدم اشتمالها على ما يستحيل عقلا أو يمنع نقلا) فلا يضره التعارض الموجود فيها وإنما نعني بذلك: الروايات الموصولة إلى مصادر العصمة، كالنبى صلى الله عليه وآله وسلم والطاهرين من أهل بيته، وأما غيرهم من مفسري الصحابة، والتابعين، فحالهم حال غيرهم من الناس وحال ما ورد من كلامهم الخالي عن التناقض، حال كلامهم المشتمل على التناقض وبالجملة لا موجب لطرح رواية، أو روايات، إلا إذا خالفت الكتاب أو السنة القطعية، أو لاحت منها لوائح الكذب والجعل، كما لا حجية إلا للكتاب والسنة القطعية، في اصول المعارف الدينية الالهية. فهناك ما هو لازم القبول، وهو الكتاب والسنة القطعية وهناك ما هو لازم الطرح، وهو ما يخالفهما من الآثار، وهناك مالا دليل على رده، ولا على قبوله، وهو ما لا دليل من جهة العقل على استحالته، ولا من جهة النقل أعني: الكتاب والسنة القطعية على منعه. وبه يظهر فساد اشكاله بعدم صحة أسانيدها، فإن ذلك لا يوجب الطرح ما لم يخالف العقل أو النقل الصحيح. وأما مخالفتها لظاهر قوله: واذ يرفع ابراهيم القواعد الآية فليت شعري: أن الآية الشريفة كيف تدل على نفى كون الحجر الاسود من الجنة ؟ أم كيف تدل على نفى نزول قبة على البقعة في زمن آدم، ثم ارتفاعها في زمن نوح ؟ وهل الآية تدل على أزيد من أن هذا البيت المبني من الحجر والطين بناء ابراهيم ؟ وأي ربط له اثباتا أو نفيا بما تتضمنه الروايات التي أشرنا إليها، نعم لا يستحسنه طبع هذا القائل، ولا يرتضيه رأيه

[ 294 ]

لعصبية مذهبية توجب نفى معنويات الحقائق عن الانبياء، واتكاء الظواهر الدينية على اصول وأعراق معنوية، أو لتبعية غير ارادية للعلوم الطبيعية المتقدمة اليوم، حيث تحكم: أن كل حادثة من الحوادث الطبيعية، أو ما يرتبط بها أي ارتباط من المعنويات يجب أن يعلل بتعليل مادي أو ما ينتهي إلى المادة، الحاكمة في جميع شؤون الحوادث كالتعليمات الاجتماعية. وقد كان من الواجب: أن يتدبر في أن العلوم الطبيعية شأنها البحث عن خواص المادة وتراكيبها وارتباط الآثار الطبيعية بموضوعاتها ذاك، الارتباط الطبيعي وكذا العلوم الاجتماعية إنما تبحث عن الروابط الاجتماعية بين الحوادث الاجتماعية فقط. وأما الحقائق الخارجة عن حومة المادة وميدان عملها، المحيطة بالطبيعة وخواصها وارتباطاتها المعنوية غير المادية مع الحوادث الكونية وما اشتمل عليه عالمنا المحسوس فهي أمور خارجة عن بحث العلوم الطبيعية والاجتماعيه، ولا يسعها أن تتكلم فيها أو تتعرض لاثباتها، أو تقضي بنفيها العلوم الطبيعية إنما يمكنها أن تقضي أن البيت يحتاج في الطبيعة إلى أجزاء من الطين والحجر، وإلى بان يبنيه ويعطيه بحركاته وأعماله هيئة البيت أو كيف تتكون الحجرة من الاحجار السود وكذا الابحاث الاجتماعية تعين الحوادث الاجتماعية التي أنتجت بناء ابراهيم للبيت، وهي جمل من تاريخ حياته، وحياة هاجر، واسمعيل، وتاريخ تهامة، ونزول جرهم، إلى غير ذلك، وأما أنه ما نسبة هذا الحجر مثلا إلى الجنة أو النار الموعودتين فليس من وظيفة هذه العلوم أن تبحث عنه، أو تنفى ما قيل، أو يقال فيه، وقد عرفت: أن القرآن الشريف هو الناطق بكون هذه الموجودات الطبيعية المادية نازلة إلى مقرها ومستقرها من عند الله سبحانه ثم راجعة إليه متوجهة نحوه (أيما إلى جنة أيما إلى نار)، وهو الناطق بكون الاعمال صاعدة إلى الله، مرفوعة نحوه، نائلة إياه، مع أنها حركات وأوضاع طبيعية، تألفت تألفا اعتباريا اجتماعيا من غير حقيقة تكوينية، قال تعالى: (ولكن يناله التقوى منكم) الحج - 37، والتقوى فعل، أو صفة حاصلة من فعل، وقال تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) الفاطر - 10، فمن الواجب على الباحث الديني أن يتدبر في هذه الآيات فيعقل أن المعارف الدينية لا مساس لها مع الطبيعيات والاجتماعيات من جهة النظر الطبيعي والاجتماعي على الاستقامة وانما اتكاؤها وركونها

[ 295 ]

إلى حقائق ومعان وراء ذلك. وأما قوله: إن شرف الانبياء والمعاهد والامور المنسوبة إليهم كالبيت والحجر الاسود ليس شرفا ظاهريا بل شرف معنوي ناش عن التفضيل الالهي فكلام حق، لكن يجب أن يفهم منه حق المعنى الذي يشتمل عليه، فما هذا الامر المعنوي الذي يتضمن الشرافة ؟ فإن كان من المعاني التي يعطيها الاحتياجات الاجتماعية لموضوعاتها وموادها نظير الرتب والمقامات التي يتداولها الدول والملل كالرئاسة والقيادة في الانسان وغلاء القيمة في الذهب والفضة وكرامة الوالدين وحرمة القوانين والنواميس فإنما هي معان يعتبرها الاجتماعات لضرورة الاحتياج الدنيوي، لا أثر منها في خارج الوهم والاعتبار الاجتماعي، ومن المعلوم أن الاجتماع الكذائي لا يتعدي عالم الاجتماع الذي صنعته الحاجة الحيوية، والله عز سلطانه أقدس ساحة من أن يتطرق إليه هذه الحاجة الطارقة على حيوة الانسان، ومع ذلك فإذا جاز أن يتشرف النبي بهذا الشرف غير الحقيقي فليجز أن يتشرف بمثله بيت أو حجر، وان كان هذا الشرف حقيقيا واقعيا من قبيل النسبة بين النور والظلمة، والعلم والجهل، والعقل والسفه بأن كان حقيقة وجود النبي غير حقيقة وجود غيره وان كانت حواسا الظاهرية لا تنال ذلك وهو اللائق بساحة قدسه من الفعل والحكم، كما قال الله تعالى: (وما خلقنا السموات والارض وما بينهما لاعبين، ما خلقناهما إلا بالحق، ولكن أكثرهم لا يعلمون) الدخان - 39، وسيجئ بيانه كان ذلك عائدا إلى نسبة حقيقية معنوية غير مادية إلى ما وراء الطبيعة فإذا جاز تحققها في الانبياء بنحو فليجز تحققها في غير الانبياء كالبيت والحجر ونحوهما وإن وقع التعبير عن هذه النسب الحقيقية المعنوية بما ظاهره المعاني المعروفة عند العامة التي اصطلحت عليه أهل الاجتماع. وليت شعري: ما ذا يصنعه هؤلاء في الآيات التي تنطق بتزيين الجنة وتشريف أهلها بالذهب والفضة، وهما فلزان ليس لهما من الشرف إلا غلاء القيمة المستندة إلى عزة الوجود ؟ فما ذا يراد من تشريف أهل الجنة بهما ؟ وما الذي يؤثره معنى الثروة في الجنة ولا معنى للاعتبار المالي في الخارج من ظرف الاجتماع ؟ فهل لهذه البيانات الالهية والظواهر الدينية وجه غير انها حجب من الكلام وأستار وراءها أسرار ؟ فلئن جاز أمثال هذه البيانات في أمور نشأة الآخرة فليجز نظيرتها في بعض الامور نشأه الدنيا.

[ 296 ]

وفي تفسير العياشي عن الزبيري عن أبى عبد الله عليه السلام قال: قلت له: أخبرني عن أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هم ؟ قال أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنو هاشم خاصة قلت: فما الحجة في أمة محمد أنهم أهل بيته الذين ذكرت دون غيرهم ؟ قال: قول الله: وإذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسمعيل ربنا تقبل منا، انك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا وتب علينا انك أنت التواب الرحيم، فلما أجاب الله ابراهيم واسمعيل وجعل من ذريتهما أمة مسلمة وبعث فيها رسولا منهم يعني من تلك الامة يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وردف دعوته الاولى دعوته الاخرى فسال لهم تطهيرا من الشرك ومن عبادة الاصنام ليصح أمره فيهم ولا يتبعوا غيرهم، فقال: واجنبني وبني أن نعبد الاصنام رب انهن أضللن كثيرا من الناس، فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم، ففي هذا دلالة على أنه لا يكون الائمة والامة المسلمة، التي بعث فيها محمدا الا من ذرية ابراهيم لقوله: أجنبني وبني أن نعبد الاصنام. أقول استدلاله عليه السلام في غاية الظهور، فإن ابراهيم (ع) انما سال امة مسلمة من ذريته خاصة، ومن المعلوم من ذيل دعوته: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم اه: أن هذه الامة المسلمة هي أمة محمد (ص) لكن لا أمة محمد بمعنى الذين بعث (ص) إليهم ولا أمة محمد بمعنى من آمن بنبوته فإن هذه الامة أعم من ذرية ابراهيم واسمعيل بل امة مسلمة هي من ذرية ابراهيم (ع) ثم سال ربه أن يجنب ويبعد ذريته وبنيه من الشرك والضلال وهي العصمة، ومن المعلوم أن ذرية ابراهيم واسمعيل - وهم عرب مضر أو قريش خاصة - فيهم ضال ومشرك فمراده من بنيه في قوله: وبني، أهل العصمة من ذريتة خاصه، وهم النبي وعترته الطاهرة، فهؤلاء هم أمة محمد (ص) في دعوة ابراهيم (ع)، ولعل هذه النكتة هي الموجبة للعدول عن لفظ الذرية إلى لفظ البنين، ويؤيده قوله: (ع): فمن تبعني فإنه مني، ومن عصاني فانك غفور رحيم الآية. حيث أتى بفاء التفريع وأثبت من تبعه جزءا من نفسه، وسكت عن غيرهم كأنه ينكرهم ولا يعرفهم، هذا. وقوله عليه السلام: فسئل لهم تطهيرا من الشرك ومن عبادة الاصنام، انما سئل

[ 297 ]

ابراهيم (ع) التطهير من عبادة الاصنام الا أنه (ع) علله بالضلال فأنتج سؤال التطهير من جميع الضلال من عبادة الاصنام ومن أي شرك حتى المعاصي، فإن كل معصية شرك كما مر بيانه في قوله تعالى: (صراط الذين أنعمت عليهم) فاتحة الكتاب - 6. وقوله عليه السلام وفي هذا دلالة على أنه لا يكون الائمة والامة المسلمة، إلخ أي إنهما واحد، وهما من ذرية إبراهيم كما مر بيانه. فان قلت: لو كان المراد بالامة في هذه الآيات ونظائرها كقوله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس) آل عمران - 110، عدة معدودة من الامة دون الباقين كان لازمه المجاز في الكلام من غير موجب يصحح ذلك ولا مجوز لنسبة ذلك إلى كلامه تعالى، على أن كون خطابات القرآن متوجهة إلى جميع الامة ممن آمن بالنبي ضروري لا يحتاج إلى إقامة حجة. قلت: إطلاق أمة محمد وإرادة جميع من آمن بدعوته من الاستعمالات المستحدثة بعد نزول القرآن وانتشار الدعوة الاسلامية وإلا فالامة بمعنى القوم كما قال تعالى (على امم ممن معك وأمم سنمتعهم) هود - 48، وربما اطلق على الواحدة كقوله تعالى (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله) النحل - 120، وعلى هذا فمعناها من حيث السعة والضيق يتبع موردها الذي استعمل فيه لفظها، أو اريد فيه معناها. فقوله تعالى: ربنا واجعلنا مسلمين لك، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك الآية - والمقام مقام الدعاء بالبيان الذي تقدم - لا يراد به إلا عدة معدودة ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذا قوله: كنتم خير امة خرجت للناس وهو في مقام الامتنان وتعظيم القدر وترفيع الشأن لا يشمل جميع الامة، وكيف يشمل فراعنة هذه الامة دجاجلتها الذين لم يجدوا للدين أثرا إلا عفوه ومحوه، ولا لاوليائه عظما إلا كسروه وسيجئ تمام البيان في الآية إنشاء الله فهو من قبيل قوله تعالى لبني إسرائيل): (وإنى فضلتكم على العالمين) البقرة - 47، فإن منهم قارون ولا يشمله الآية قطعا، كما أن قوله تعالى: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) الفرقان - 30، لا يعم جميع هذه الامة وفيهم أولياء القرآن ورجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله تعالى.

[ 298 ]

واما قوله تعالى: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت، ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون) البقرة - 134، فالخطاب فيه متوجة إلى جميع الامة ممن آمن بالنبي، أو من بعث إليه. (بحث علمي) إذا رجعنا إلى قصة ابراهيم عليه السلام وسيره بولده وحرمته إلى أرض مكة، وإسكانهما هناك، وما جرى عليهما من الامر، حتى آل الامر، إلى ذبح إسماعيل وفدائه من جانب الله وبنائهما البيت، وجدنا القصة دورة كاملة من السير العبودي الذي يسير به العبد من موطن نفسه إلى قرب ربه، ومن أرض البعد إلى حظيرة القرب بالاعراض عن زخارف الدنيا، وملاذها، وأمانيها من جاه، ومال، ونساء وأولاد، والانقلاع والتخلص عن وسائس الشياطين، وتكديرهم صفو الاخلاص والاقبال والتوجه إلى مقام الرب ودار الكبرياء. فها هي وقائع متفرقة مترتبة تسلسلت وتألفت قصة تاريخية تحكي عن سير عبودي من العبد إلى الله سبحانه وتشمل من أدب السير والطلب والحضور ورسوم الحب والوله والاخلاص على ما كلما زدت في تدبره إمعانا زادك استنارة ولمعانا. ثم: إن الله سبحانه أمر خليله إبراهيم، أن يشرع للناس عمل الحج، كما قال (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق إلى آخر الآيات) الحج - 27، وما شرعه عليه السلام وان لم يكن معلوما لنا بجميع خصوصياته، لكنه كان شعارا دينيا عند العرب في الجاهلية إلى أن بعث الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشرع فيه ما شرع ولم يخالف فيه ما شرعه إبراهيم إلا بالتكميل كما يدل عليه قوله تعالى: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا) الانعام - 161، وقوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا، والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى، وعيسى) الشورى - 13. وكيف كان فما شرعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نسك الحج المشتمل على الاحرام والوقوف

[ 299 ]

بعرفات ومبيت المشعر والتضحية ورمى الجمرات والسعى بين الصفا والمروة والطواف والصلوة بالمقام تحكي قصة إبراهيم، وتمثل مواقفه ومواقف أهله ومشاهدهم ويا لها من مواقف طاهرة إلهية القائد إليها جذبة الربوبية والسائق نحوها ذلة العبودية. والعبادات المشروعة - على مشرعيها أفضل السلام - صور لمواقف الكملين من الانبياء من ربهم، وتماثيل تحكي عن مواردهم ومصادرهم في مسيرهم إلى مقام القرب والزلفى، كما قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة) الاحزاب - 21، وهذا أصل. وفي الاخبار المبينة لحكم العبادات وأسرار جعلها وتشريعها شواهد كثيرة على هذا المعنى، يعثر عليها المتتبع البصير. ومن يرغب عن ملة ابراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين - 130. إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين - 131. ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون - 132. أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسمعيل وإسحق إلها واحدا ونحن له مسلمون - 133. تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون - 134.

[ 300 ]

(بيان) قوله تعالى: ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه، الرغبة، إذا عديت بعن أفادت معنى الاعراض والنفرة، وإذا عديت بفي أفادت: معنى الشوق والميل، وسفه يأتي متعديا ولازما، ولذلك ذكر بعضهم أن قوله: نفسه مفعول لقوله: سفه، وذكر آخرون أنه تمييز لا مفعول، والمعنى على أي حال: أن الاعراض عن ملة إبراهيم من حماقة النفس، وعدم تمييزها ما ينفعها مما يضرها ومن هذه الآية يستفاد معنى ما ورد في الحديث أن العقل ما عبد به الرحمن. قوله تعالى: ولقد اصطفيناه في الدنيا، الاصطفاء أخذ صفوة الشئ وتمييزه عن غيره إذا اختلطا، وينطبق هذا المعنى بالنظر إلى مقامات الولاية على خلوص العبودية وهو أن يجري العبد في جميع شؤونه على ما يقتضيه مملوكيته وعبوديته من التسليم الصرف لربه، وهو التحقق بالدين في جميع الشؤون فإن الدين لا يشتمل إلا على مواد العبودية في امور الدنيا والآخرة وتسليم ما يرضيه الله لعبده في جميع اموره كما قال الله تعالى: (إن الدين عند الله الاسلام) آل عمران - 19، فظهر: أن مقام الاصطفاء هو مقام الاسلام بعينه ويشهد بذلك قوله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين الآية) فإن الظاهر أن الظرف متعلق بقوله: اصطفيناه، فيكون المعنى أن إصطفائه إنما كان حين قال له ربه: أسلم، فأسلم لله رب العالمين فقوله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم: قال أسلمت لرب العالمين، بمنزله التفسير لقوله: اصطفيناه. وفي الكلام التفات من التكلم إلى الغيبة في قوله: إذ قال له ربه أسلم، ولم يقل إذ قلنا له أسلم، والتفات آخر من الخطاب إلى الغيبة في المحكي من قول إبراهيم: قال أسلمت لرب العالمين، ولم يقل: قال أسلمت لك اما الاول، فالنكتة فيه: الاشارة إلى أنه كان سرا استسر به ربه إذ أسره إليه فيما خلى به معه فإن للسامع المخاطب اتصالا بالمتكلم فإذا غاب المتكلم عن صفة حضوره انقطع المخاطب عن مقامه وكان بينه وبين ما للمتكلم من الشأن والقصة ستر مضروب، فأفاد: أن القصة من مسامرات الانس وخصائص الخلوة.

[ 301 ]

واما الثاني: فلان قوله تعالى: إذ قال له ربه، يفيد معنى الاختصاص باللطف والاسترسال في المسارة لكن أدب الحضور كان يقتضى من إبراهيم وهو عبد عليه طابع الذلة والتواضع أن لا يسترسل، ولا يعد نفسه مختصا بكرامة القرب متشرفا بحظيرة الانس، بل يراها واحدا من العبيد الاذلاء المربوبين، فيسلم لرب يستكين إليه جميع العالمين فيقول: أسلمت لرب العالمين. الاسلام والتسليم والاستسلام بمعنى واحد، من السلم، وأحد الشيئين إذا كان بالنسبة إلى الآخر بحال لا يعصيه ولا يدفعه فقد أسلم وسلم واستسلم له، قال تعالى (بلى من أسلم وجهه لله) البقرة - 112، وقال تعالى: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفا مسلما) الانعام - 79، ووجه الشئ ما يواجهك به، وهو بالنسبة إليه تعالى تمام وجود الشئ فإسلام الانسان له تعالى هو وصف الانقياد والقبول منه لما يرد عليه من الله سبحانه من حكم تكويني، من قدر وقضاء، أو تشريعي من أمر أو نهى أو غير ذلك، ومن هنا كان له مراتب بحسب ترتب الواردات بمراتبها. الاولى: من مراتب الاسلام، القبول لظواهر الاوامر والنواهي بتلقي الشهادتين لسانا، سواء وافقه القلب، أو خالفه، قال تعالى: (قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم) الحجرات - 14، ويتعقب الاسلام بهذا المعنى أول مراتب الايمان وهو الاذعان القلبي بمضمون الشهادتين إجمالا ويلزمه العمل في غالب الفروع. الثانيه: ما يلي الايمان بالمرتبة الاولى، وهو التسليم والانقياد القلبي لجل الاعتقادات الحقة التفصيلية وما يتبعها من الاعمال الصالحة وإن أمكن التخطي في بعض الموارد، قال الله تعالى في وصف المتقين: (الذين آمنوا بأياتنا وكانوا مسلمين) الزخرف - 69، وقال أيضا: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافه) البقرة - 208، فمن الاسلام ما يتأخر عن الايمان محققا فهو غير المرتبة الاولى من الاسلام ويتعقب هذا الاسلام المرتبة الثانية من الايمان وهو الاعتقاد التفصيلي با لحقائق الدينية، قال تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون) الحجرات - 15، وقال

[ 302 ]

أيضا: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تؤمنون بالله ورسوله: وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) الصف - 11، وفيه إرشاد المؤمنين إلى الايمان، فالايمان غير الايمان. الثالثه: ما يلي الايمان بالمرتبة الثانية فإن النفس إذا أنست بالايمان المذكور وتخلقت بأخلاقه تمكنت منها وانقادت لها سائر القوى البهيمية والسبعية، وبالجملة القوى المائلة إلى هوسات الدنيا وزخارفها الفانية الداثرة، وصار الانسان يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، ولم يجد في باطنه وسره ما لا ينقاد إلى أمره ونهيه أو يسخط من قضائه وقدره، قال الله سبحانه: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) النساء - 65، ويتعقب هذه المرتبة من الاسلام المرتبة الثالثة من الايمان، قال الله تعالى (قد أفلح المؤمنون) إلى أن قال: (والذين هم عن اللغو معرضون) المؤمنون - 3، ومنه قوله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين) إلى غير ذلك، وربما عدت المرتبتان الثانية والثالثة مرتبة واحدة. والاخلاق الفاضلة من الرضاء والتسليم، والحسبة والصبر في الله، وتمام الزهد والورع، والحب والبغض في الله من لوازم هذه مرتبة. الرابعة ما يلي، المرتبة الثالثة من الايمان فإن حال الانسان وهو في المرتبة السابقة مع ربه حال العبد المملوك مع مولاه، إذ كان قائما بوظيفة عبوديته حق القيام، وهو التسليم الصرف لما يريده المولى أو يحبه ويرتضيه، والامر في ملك رب العالمين لخلقة أعظم من ذلك وأعظم وإنه حقيقة الملك الذي لا استقلال دونه لشئ من الاشياء لا ذاتا ولا صفة، ولا فعلا على ما يليق بكبريائه جلت كبريائه. فالانسان - وهو في المرتبة السابقة من التسليم - ربما أخذته العناية الربانية فاشهدت له أن الملك لله وحده لا يملك شئ سواه لنفسه شيئا إلا به لا رب سواه، وهذا معنى وهبي، وإفاضة إلهية لا تأثير لارادة الانسان فيه، ولعل قوله تعالى: ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا امة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا، الآية، إشارة

[ 303 ]

إلى هذه المرتبة من الاسلام فان قوله تعالى: إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين الآية ظاهره أنه أمر تشريعي لا تكويني، فإبراهيم كان مسلما باختياره، إجابة لدعوة ربه وامتثالا لامره، وقد كان هذا من الاوامر المتوجهة إليه عليه السلام في مبادئ حاله، فسؤاله في أواخر عمره مع ابنه إسماعيل الاسلام وإرائة المناسك سؤال لامر ليس زمامه بيده أو سؤال لثبات على أمر ليس بيده فالاسلام المسئول في الآية هو هذه المرتبة من الاسلام ويتعقب الاسلام بهذا المعنى المرتبة الرابعة من الايمان وهو استيعاب هذا الحال لجميع الاحوال والافعال، قال تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون) يونس - 62، فإن هؤلاء المؤمنين المذكورين في الآية يجب أن يكونوا على يقين من أن لا استقلال لشئ دون الله، ولا تأثير لسبب إلا بإذن الله حتى لا يحزنوا من مكروه واقع، ولا يخافوا محذورا محتملا، وإلا فلا معنى لكونهم بحيث، لا يخوفهم شئ ولا يحزنهم أمر، فهذا النوع من الايمان بعد الاسلام المذكور فافهم. قوله تعالى: وإنه في الآخرة لمن الصالحين، الصلاح، وهو اللياقة بوجه ربما نسب في كلامه إلى عمل الانسان وربما نسب إلى نفسه وذاته، قال تعالى: فليعمل عملا صالحا) الكهف - 110، وقال تعالى: (وانكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) النور - 32. وصلاح العمل وإن لم يرد به تفسير بين من كلامه تعالى غير انه نسب إليه من الآثار ما يتضح به معناه. فمنها: أنه صالح لوجه الله، قال تعالى: (صبروا ابتغاء وجه ربهم) الرعد - 22، وقال تعالى: (وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله) البقرة - 272. ومنها: أنه صالح لان يثاب عليه، قال تعالى: (ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا) القصص - 80. ومنها: أنه يرفع الكلم الطيب الصاعد إلى الله سبحانه قال تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) فاطر - 10، فيستفاد من هذه الآثار المنسوبة

[ 304 ]

إليه: أن صلاح العمل معنى تهيؤه ولياقته لان يلبس لباس الكرامة ويكون عونا وممدا لصعود الكلام الطيب إليه تعالى، قال تعالى: (ولكن يناله التقوى منكم) الحج - 37، وقال تعالى: (وكلا نمد هؤلاء، وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظورا) الاسراء - 20، فعطائه تعالى بمنزلة الصورة، وصلاح العمل بمنزله المادة. وأما صلاح النفس والذات فقد قال تعالى: (ومن يطع الله والرسول فاؤلئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسن اؤلئك رفيقا) النساء - 69، وقال تعالى: (وأدخلناهم في رحمتنا انهم من الصالحين) الانبياء - 86، وقال تعالى حكاية عن سليمان: (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) النمل - 19، وقال تعالى: ولوطا آتيناه حكما وعلما إلى قوله وأدخلناه في رحمتنا إنه الصالحين) الانبياء - 75، وليس المراد الصلاح لمطلق الرحمة العامة الالهية الواسعة لكل شئ ولا الخاصة بالمؤمنين على ما يفيده قوله تعالى: (ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون) الاعراف - 156، إذ هؤلاء القوم وهم الصالحون، طائفة خاصة من المؤمنين المتقين، ومن الرحمة ما يختص ببعض دون بعض، قال تعالى (يختص برحمته من يشاء) البقرة - 105، وليس المراد أيضا مطلق كرامة الولاية، وهو تولي الحق سبحانه أمر عبده، فإن الصالحين وإن شرفوا بذلك وكانوا من الاولياء المكرمين على ما بيناه سابقا في قوله تعالى: (إهدنا الصراط المستقيم) فاتحة الكتاب - 6 وسيجئ في تفسير الآية لكن هذه أعني الولاية صفة مشتركة بينهم وبين النبيين، والصديقين، والشهداء فلا يستقيم إذن عدهم طائفة خاصة في قبالهم. نعم الاثر الخاص بالصلاح هو الادخال في الرحمة، وهو الامن العام من العذاب كما ورد المعنيان معا في الجنة، قال تعالى: فيدخلهم ربهم في رحمته) الجاثية - 30، أي في الجنة، وقال تعالى: (يدعون فيها بكل فاكهة آمنين) الدخان - 55، أي في الجنة. وأنت إذا تدبرت قوله تعالى: (وادخلناه في رحمتنا) الانبياء - 75، وقوله: (وكلا جعلنا صالحين) الانبياء - 72 - حيث نسب الفعل إلى نفسه تعالى لا إلى

[ 305 ]

العبد - ثم تأملت أنه تعالى قصر الاجر والشكر على ما بحذاء العمل والسعي قضيت بأن الصلاح الذاتي كرامة ليست بحذاء العمل والارادة وربما تبين به معنى قوله تعالى: (لهم ما يشاؤن فيها) وهو ما بالعمل - وقوله: (ولدينا مزيد) - وهو أمر غير ما بالعمل على ما سيجئ بيانه إنشاء الله في تفسير قوله تعالى: (لهم ما يشاؤن فيها) ق - 35. ثم إنك إذا تأملت حال إبراهيم ومكانته في أنه كان نبيا مرسلا وأحد اولي العزم من الانبياء، وأنه إمام، وأنه مقتدى عدة ممن بعده من الانبياء والمرسلين وأنه من الصالحين بنص قوله تعالى: (وكلا جعلنا صالحين) الانبياء - 72، الظاهر في الصلاح المعجل على ان من هو دونه في الفضل من الانبياء أكرم بهذا الصلاح المعجل وهو (ع) مع ذلك كله يسأل اللحوق بالصالحين الظاهر في أن هناك قوما من الصالحين سبقوه وهو يسال اللحوق بهم فيما سبقوه إليه، وأجيب بذلك في الآخرة كما يحكيه الله تعالى في ثلاثة مواضع من كلامه حيث قال تعالى: (ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الاخرة لمن ا لصالحين) البقره - 130، وقال تعالى: وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) العنكبوت - 27، وقال تعالى: (وآتيناه في الدنيا حسنة وأنه في الآخرة لمن الصالحين) النحل - 122، فإذا تأملت ذلك حق التأمل قضيت بأن الصلاح ذو مراتب بعضها فوق بعض ولم تستبعد لو قرع سمعك أن إبراهيم (ع) سأل اللحوق بمحمد (ص) وآله الطاهرين (ع) فاجيب إلى ذلك في الآخرة لا في الدنيا فإنه (ع) يسأل اللحوق بالصالحين ومحمد (ص) يدعيه لنفسه. قال تعالى: (قل إن ولي الله الذي نزل الكتاب بالحق وهو يتولى الصالحين) الاعراف - 196 فإن ظاهر الآية أن رسول الله (ص) يدعي لنفسه الولاية فالظاهر منه أن رسول الله (ص) هو المتحقق بالصلاح الذي يدعيه بموجب الآية لنفسه وإبراهيم كان يسأل الله اللحوق بعده من الصالحين يسبقونه في الصلاح فهو هو. قوله تعالى: ووصى بها إبراهيم بنيه، إي وصى بالملة. قوله تعالى: فلا تموتن، النهي عن الموت وهو أمر غير اختياري للانسان، والتكليف إنما يتعلق بأمر اختياري انما هو لرجوعه إلى أمر يتعلق بالاختيار، والتقدير احذروا أن يغتالكم الموت في غير حال الاسلام، أي داوموا وألزموا الاسلام لئلا يقع

[ 306 ]

موتكم إلا في هذا الحال، وفي الآية إشارة إلى أن الدين هو الاسلام كما قال تعالى: (إن الدين عند الله الاسلام) آل عمران - 19. قوله تعالى: وإله آبائك إبراهيم وإسمعيل وإسحق، في الكلام إطلاق لفظ الاب على الجد والعم والوالد من غير مصحح للتغليب، وحجة فيما سيأتي إنشاء الله تعالى في خطاب إبراهيم لآزر بالاب. قوله تعالى: إلها واحدا، في هذا الايجاز بعد الاطناب بقوله: إلهك وإله آبائك (إلخ) دفع لامكان إبهام اللفظ أن يكون إلهه غير إله آبائه على نحو ما يتخذه الوثنيون من الآلهة الكثيرة. قوله تعالى: ونحن له مسلمون، بيان للعبادة وأنها ليست عبادة كيفما اتفقت بل عبادة على نهج الاسلام وفي الكلام جملة أن دين إبراهيم هو الاسلام والموروث منه في بني إبراهيم كإسحق ويعقوب وإسمعيل، وفي بني إسرائيل، وفي بني إسمعيل من آل إبراهيم جميعا هو الاسلام لا غير، وهو الذي أتى به إبراهيم من ربه فلا حجة لاحد في تركه والدعوة إلى غيره. (بحث روائي) في الكافي عن سماعة عن الصادق (ع) الايمان من الاسلام بمنزلة الكعبة الحرام من الحرم قد يكون في الحرم ولا يكون في الكعبة ولا يكون في الكعبة حتى يكون في الحرم. وفيه عن سماعة أيضا عن الصادق (ع) قال: الاسلام شهادة أن لا إله إلا الله والتصديق برسول الله، به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث وعلى ظاهره جماعة الناس، والايمان الهدى وما يثبت في القلوب من صفة الاسلام. أقول: وفي هذا المضمون روايات أخر وهي تدل على ما مر بيانه من المرتبة الاولى من الاسلام والايمان. وفيه عن البرقي عن علي عليه السلام: قال الاسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين، وفيه عن كاهل عن الصادق لو أن قوما عبدوا الله - وحده لا شريك له - وأقاموا الصلوة

[ 307 ]

وآتوا الزكوة، وحجوا البيت، وصاموا شهر رمضان ثم قالوا لشئ صنعه الله أو صنعه رسول الله ألا صنع بخلاف الذي صنع أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين الحديث. أقول: والحديثان يشيران إلى المرتبة الثالثة من الاسلام والايمان. وفي البحار عن إرشاد الديلمي - وذكر سندين لهذا الحديث، وهو من أحاديث المعراج - وفيه: قال الله سبحانه: يا أحمد هل تدري أي عيش أهني وأي حيوة أبقي ؟ قال: اللهم لا، قال: أما العيش الهنئ فهو الذي لا يفتر صاحبه عن ذكري ولا ينسى نعمتي، ولا يجهل حقي، يطلب رضائي في ليله ونهاره، وأما الحياة الباقية، فهي التى يعمل لنفسه حتى تهون عليه الدنيا، وتصغر في عينه، وتعظم الآخرة عنده، ويؤثر هواي على هواه ويبتغي مرضاتي، ويعظم حق نعمتي، ويذكر عملي به، ويراقبني بالليل والنهار عند كل سيئة أو معصية، وينقي قلبه عن كل ما أكره، ويبغض الشيطان ووساوسه، ولا يجعل لابليس على قلبه سلطانا وسبيلا، فإذا فعل ذلك أسكنت قلبه حبا حتى أجعل قلبه وفراغه واشتغاله وهمه وحديثه من النعمة التي أنعمت بها على أهل محبتي من خلقي وأفتح عين قلبه وسمعه، حتى يسمع بقلبه وينظر بقلبه إلى جلالي وعظمتي، و اضيق عليه الدنيا، وابغض إليه ما فيها من اللذات، واحذره من الدنيا وما فيها كما يحذر الراعى على غنمه مراتع الهلكة، فإذا كان هكذا يفر من الناس فرارا، وينقل من دار الفناء إلى دار البقاء، ومن دار الشيطان إلى دار الرحمن، يا أحمد ولازيننه بالهيبة والعظمة فهذا هو العيش الهنئ والحياة الباقية، وهذا مقام الراضين فمن عمل برضاي ألزمة ثلاث خصال اعرفه شكرا لا يخالطه الجهل، وذكرا لا يخالطه النسيان، ومحبة لا يؤثر على محبتي محبة المخلوقين، فإذا أحبني أحببته وأفتح عين قلبه إلى جلالي، ولا أخفى عليه خاصة خلقي واناجيه في ظلم الليل ونور النهار، حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين، ومجالسته معهم، واسمعه كلامي وكلام ملائكتي واعرفه السر الذي سترته عن خلقي، وألبسه الحياء، حتى يستحيي منه الخلق كلهم، ويمشي على الارض مغفورا له، واجعل قلبه واعيا وبصيرا ولا أخفي عليه شيئا من جنة ولا نار، وأعرفه ما يمر على الناس في القيمة من الهول والشدة وما أحاسب به الاغنياء والفقراء والجهال والعلماء، وأنومه في قبره، وأنزل عليه منكرا

[ 308 ]

ونكيرا حتى يسألاه، ولا يرى غم الموت، وظلمة القبر واللحد، وهول المطلع، ثم أنصب له ميزانه، وأنشر ديوانه، ثم أضع كتابه في يمينه فيقرأه منشورا، ثم لا أجعل بيني وبينه وترجمانا فهذه صفات المحبين، يا أحمد اجعل همك هما واحدا واجعل لسانك لسانا واحدا واجعل بدنك حيا لا يغفل ابدا من يغفل عني لم ابال في أي واد هلك. وفي البحار عن الكافي و المعاني ونوادر الراوندي بأسانيد مختلفة عن الصادق والكاظم عليه السلام - و اللفظ المنقول هيهنا للكافي - قال: استقبل رسول الله: حارثة بن مالك بن النعمان الانصاري فقال له: كيف أنت يا حارثة بن مالك النعماني ؟ فقال: يا رسول الله مؤمن حقا، فقال له رسول الله: لكل شئ حقيقة فما حقيقة قولك ؟ فقال يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي، وأظمات هواجرى، وكأني انظر إلى عرش ربي وقد وضع للحساب، وكأني انظر إلى اهل الجنة يتزاورون في الجنة وكأني اسمع عواء اهل النار في النار، فقال رسول الله (ص): عبد نور الله قلبه أبصرت فاثبت. اقول: والروايتان تحومان حوم المرتبة الرابعة من الاسلام والايمان المذكورتين وفي خصوصيات معناهما روايات كثيرة متفرقة سنورد جملة منها في تضاعيف الكتاب إنشاء الله تعالى والآيات تؤيدها على ما سيجئ بيانها، واعلم ان لكل مرتبة من مراتب الاسلام والايمان معنى من الكفر والشرك يقابله، ومن المعلوم ايضا ان الاسلام والايمان كلما دق معناهما ولطف مسلكهما، صعب التخلص مما يقابلهما من معنى الكفر أو الشرك، ومن المعلوم ايضا ان كل مرتبة من مراتب الاسلام والايمان الدانية، لا ينافي الكفر أو الشرك من المرتبة العالية، وظهور آثارهما فيها، وهذان أصلان. ويتفرع عليهما: أن للآيات القرآنية بواطن تنطبق على موارد لا تنطبق عليها ظواهرها وليكن هذا عندك على إجماله حتى يأتيك تفصيله. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: ولدينا مزيد، قال عليه السلام النظر إلى رحمة الله. وفي المجمع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يقول الله: اعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. اقول: والروايتان قد اتضح معناهما عند بيان معنى الصلاح، والله الهادي.

[ 309 ]

وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: ام كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت الآية، عن الباقر (ع) انها جرت في القائم. اقول: قال في الصافي: لعل مراده انها في قائم آل محمد فكل قائم منهم يقول: ذلك حين موته لبنيه، ويجيبونه بما أجابوا به. وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتد وا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين - 135. قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون - 136. فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم - 137. صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون - 138. قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون - 139. أم تقولون إن إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والاسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون - 140. تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون - 141.

[ 310 ]

(بيان) قوله تعالى: وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا، لما بين تعالى أن الدين الحق الذي كان عليه أولاد إبراهيم من إسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولاده كان هو الاسلام الذي كان عليه إبراهيم حنيفا، استنتج من ذلك أن الاختلافات والانشعابات التي يدعو إليها فرق المنتحلين من اليهود والنصارى، امور إخترعتها هوساتهم، ولعبت بها أيديهم لكونهم في شقاق، فتقطعوا بذلك طوائف وأحزابا دينية، وصبغوا دين الله سبحانه - وهو دين التوحيد ودين الوحدة، بصبغة الاهواء والاغراض والمطامع، مع أن الدين واحد كما أن الاله المعبود بالدين واحد وهو دين إبراهيم، وبه فليتمسك المسلمون وليتركوا شقاق أهل الكتاب. فإن من طبيعة هذه الحيوة الارضية الدنيوية التغير والتحول في عين الجرى والاستمرار كنفس الطبيعة التي هي كالمادة لها ويوجب ذلك أن تتغير الرسوم والآداب والشعائر القومية بين طوائف الملل وشعباتها، وربما يوجب ذلك تغييرا وانحرافا في المراسم الدينية، وربما يوجب دخول ما ليس من الدين في الدين، أو خروج ما هو منه والاغراض والغايات الدنيوية ربما تحل محل الاغراض الدينية الالهية (وهي بلية الدين)، وعند ذلك ينصبغ الدين بصبغة القومية فيدعو إلى هدف دون هدفه الاصلي ويؤدب الناس غير أدبه الحقيقي، فلا يلبث حتى يعود المنكر (وهو ما ليس من الدين) معروفا يتعصب له الناس لموافقته هوساتهم وشهواتهم والمعروف منكرا ليس له حام يحميه ولا واق يقيه ويؤل الامر إلى ما نشاهده اليوم من... وبالجملة فقوله تعالى: وقالوا كونوا هودا أو نصارى، إجمال تفصيل معناه وقالت اليهود كونوا هودا تهتد، وقالت النصارى كونوا نصارى تهتدوا، كل ذلك لتشعبهم وشقاقهم. قوله تعالى: قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين، جواب عن قولهم أي قل، بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا فإنها الملة الواحدة التي كان عليها جميع

[ 311 ]

أنبياؤكم، إبراهيم، فمن دونه، وما كان صاحب هذه الملة وهو إبراهيم من المشركين ولو كان في ملته هذه الانشعابات، وهي الضمائم التي ضمها إليها المبتدعون، من الاختلافات لكان مشركا بذلك، فإن ما ليس من دين الله لا يدعو إلى الله سبحانه، بل إلى غيره وهو الشرك، فهذا دين التوحيد الذي لا يشتمل على ما ليس من عند الله تعالى. قوله تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل الينا، لما حكى ما يأمره به اليهود والنصارى من اتباع مذهبهم، ذكر ما هو عنده من الحق (والحق يقول) وهو الشهادة على الايمان بالله والايمان بما عند الانبياء، من غير فرق بينهم، وهو الاسلام وخص الايمان بالله بالذكر وقدمه وأخرجه من بين ما انزل على الانبياء لان الايمان الله فطري، لا يحتاج إلى بينة النبوة، ودليل الرسالة. ثم ذكر سبحانه ما انزل إلينا وهو القرآن أو المعارف القرآنية وما انزل إلى إبراهيم واسماعيل وإسحاق ويعقوب، ثم ذكر ما أوتي موسى وعيسى وخصهما بالذكر لان المخاطبة مع اليهود والنصارى وهم يدعون إليهما فقط ثم ذكر ما أوتي النبيون من ربهم، ليشمل الشهادة جميع الانبياء فيستقيم قوله بعد ذلك: لا نفرق بين أحد منهم. واختلاف التعبير في الكلام، حيث عبر عما عندنا وعند إبراهيم وإسحاق ويعقوب بالانزال وعما عند موسى وعيسى والنبيين بالايتاء وهو الاعطاء، لعل الوجه فيه أن الاصل في التعبير هو الايتاء، كما قال تعالى بعد ذكر إبراهيم، ومن بعده ومن قبله من الانبياء في سورة الانعام: (أؤلئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة) الانعام - 89، لكن لفظ الايتاء ليس بصريح في الوحي والانزال كما قال تعالى: (ولقد آتينا لقمان الحكمة) لقمان - 12، وقال: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة) الجاثية - 16، ولما كان كل من اليهود والنصارى يعدون إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط من إهل ملتهم، فاليهود من اليهود، والنصاري من النصارى، واعتقادهم أن الملة الحق من النصرانية، أو اليهودية، هي ما أوتيه موسى وعيسى، فلو كان قيل: وما اوتي إبراهيم وإسماعيل

[ 312 ]

لم يكن بصريح في كونهم بأشخاصهم صاحب ملة بالوحي والانزال وإحتمل أن يكون ما أوتوه، هو الذي أوتيه موسى وعيسى عليهما السلام نسب إليهم بحكم التبعية كما نسب إيتائه إلى بني اسرائيل، فلذلك خص إبراهيم ومن عطف عليه باستعمال لفظ الانزال وأما النبيون قبل أبراهيم فليس لهم فيهم كلاحتى يوهم قوله: وما أوتي النبيون شيئا يجب دفعه. قوله تعالى: والاسباط، الاسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل والسبط كالقبيلة الجماعة يجتمعون على أب واحد، وقد كانوا اثنتي عشرة أسباطا أمما وكل واحدة منهم تنتهي إلى واحد من أولاد يعقوب وكانوا اثنى عشر، فخلف كل واحد منهم أمة من الناس. فإن كان المراد بالاسباط الامم والاقوام فنسبة الانزال إليهم لاشتمالهم على أنبياء من سبطهم، وإن كان المراد بالاسباط الاشخاص كانوا أنبياء أنزل إليهم الوحي وليسوا بإخوة يوسف لعدم كونهم أنبياء، ونظير الآية قوله تعالى: (وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط وعيسى) النساء - 163. قوله تعالى: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا، الاتيان بلفظ المثل مع كون أصل المعنى، فإن آمنوا بما آمنتم به، لقطع عرق الخصام والجدال، فإنه لو قيل لهم أن آمنوا بما آمنا به أمكن أن يقولوا كما قالوا، بل نؤمن بما أنزل علينا ونكفر بما ورائه، لكن لو قيل لهم، إنا آمنا بما لا يشتمل إلا على الحق فآمنوا على الحق مثله، لم يجدوا طريقا للمراء والمكابرة، فإن الذي بيدهم لا يشتمل على صفوة الحق. قوله تعالى: في شقاق، الشقاق النفاق والمنازعة والمشاجرة والافتراق. قوله تعالى: فسيكفيكهم الله، وعد لرسول الله بالنصرة عليهم، وقد أنجز وعده وسيتم هذه النعمة للامة الاسلامية إذا شاء، واعلم: ان الآية معترضة بين الآيتين السابقة واللاحقة. قوله تعالى: صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة، الصبغة بناء نوع من الصبغ

[ 313 ]

أي هذا الايمان المذكور صبغة إلهية لنا، وهي أحسن الصبغ لا صبغة اليهودية والنصرانية بالتفرق في الدين، وعدم إقامته. قوله تعالى: ونحن له عابدون، في موضع الحال، وهو كبيان العلة لقوله: صبغة الله ومن أحسن. قوله تعالى: قل أتحاجوننا في الله، إنكار، لمحاجة أهل الكتاب، المسلمين في الله سبحانه وقد بين وجه الانكار، وكون محاجتهم لغوا وباطلا، بقوله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون، وبيانه: أن محاجة كل تابعين في متبوعهما ومخاصمتهما فيه انما تكون لاحد أمور ثلاثه: اما لاختصاص كل من التابعين بمتبوع دون متبوع الآخر، فيريدان بالمحاجة كل تفضيل متبوعه وربه على الآخر، كالمحاجة بين وثني ومسلم، واما لكون كل واحد منهما أو احدهما يريد مزيد الاختصاص به، وابطال نسبة رفيقه، أو قربه اوما يشبه ذلك، بعد كون المتبوع واحدا، واما لكون أحدهما ذا خصائص وخصال لا ينبغي أن ينتسب إلى هذا المتبوع وفعاله ذاك الفعال، وخصاله تلك الخصال لكونه موجبا، لهتكه أو سقوطه أو غير ذلك، فهذه علل المحاجة والمخاصمة بين كل تابعين، والمسلمون وأهل الكتاب انما يعبدون الها واحدا، وأعمال كل من الطائفتين لا تزاحم الاخرى شيئا والمسلمون مخلصون في دينهم لله، فلا سبب يمكن أن يتشبث به أهل الكتاب في محاجتهم، ولذلك أنكر عليهم محاجتهم اولا ثم نفى واحدا واحدا من اسبابها الثلاثة، ثانيا. قوله تعالى: أم تقولون ان ابراهيم إلى قوله كانوا هودا أو نصارى، وهو قول كل من الفريقين، ان ابراهيم ومن ذكر بعده منهم، ولازم ذلك كونهم هودا أو نصارى أو قولهم صريحا انهم كانوا هودا أو نصارى، كما يفيده ظاهر قوله تعالى (يا اهل الكتاب لم تحاجون في ابراهيم وما أنزلت التوراة والانجيل الا من بعده أفلا تعقلون) آل عمران - 65. قوله تعالى: قل أأنتم أعلم أم الله، فإن الله اخبرنا واخبركم في الكتاب أن موسى وعيسى وكتابيهما بعد ابراهيم ومن ذكر معه.

[ 314 ]

قوله تعالى: ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله، أي كتم ما تحمل شهادة أن الله أخبر بكون تشريع اليهودية أو النصرانية بعد إبراهيم ومن ذكر معه، فالشهادة المذكورة في الآية شهادة تحمل، أو المعنى كتم شهادة الله على كون هؤلاء قبل التوراة والانجيل، فالشهادة شهادة أداء، المتعين هو المعنى الاول. قوله تعالى: تلك أمة قد خلت، أي ان الغور في الاشخاص وأنهم ممن كانوا لا ينفع حالكم، ولا يضركم السكوت عن المحاجة والمجادلة فيهم، والواجب عليكم الاشتغال بما تسألون غدا عنه، وتكرار الآية مرتين لكونهم يفرطون في هذه المحاجة التى لا تنفع لحالهم شيئا، وخصوصا مع علمهم بأن إبراهيم كان قبل اليهودية والنصرانية، وإلا فالبحث عن حال الانبياء، والرسل بما ينفع البحث فيه كمزايا رسالاتهم وفضائل نفوسهم الشريفة مما ندب إليه القرآن حيث يقص قصصهم ويأمر بالتدبر فيها. (بحث روائي) في تفسير العياشي في قوله تعالى قل: بل ملة إبراهيم حنيفا الآية، عن الصادق عليه السلام قال إن الحنيفية في الاسلام. وعن الباقر عليه السلام ما أبقت الحنيفية شيئا، حتى أن منها قص الشارب وقلم الاظفار والختان. وفي تفسير القمي، أنزل الله على إبراهيم الحنيفية، وهي الطهارة، وهي عشرة: خمسة في الرأس وخمسة في البدن، فأما التي في الرأس فأخذ الشارب وإعفاء اللحى وطم الشعر والسواك والخلال، وأما التي في البدن فأخذ الشعر من البدن والختان وقلم الاظفار والغسل من الجنابة، والطهور بالماء وهي الحنيفية الطاهرة التي جاء بها إبراهيم فلم تنسخ ولا تنسخ إلى يوم القيامة. اقول: طم الشعر، جزه، وتوفيره وفي معنى الرواية أو ما يقرب منه احاديث كثيرة جدا روتها الفريقان في كتبهم. وفي الكافي وتفسير العياشي عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى، قولوا آمنا بالله

[ 315 ]

الآية، قال إنما عنى بها عليا وفاطمة والحسن والحسين وجرت بعدهم في الائمة الحديث. اقول: ويستفاد ذلك من وقوع الخطاب في ذيل دعوة إبراهيم ومن ذريتنا أمة مسلمة لك الآية ولا ينافي ذلك توجيه الخطاب إلى عامة المسلمين وكونهم مكلفين بذلك، فإن لهذه الخطابات عموما وخصوصا بحسب مراتب معناها على ما مر في الكلام على الاسلام والايمان ومراتبهما. وفي تفسير القمي عن أحدهما، وفي المعاني عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى صبغة الله الآية، قال الصبغة هي الاسلام. اقول: وهو الظاهر من سياق الآيات. وفي الكافي والمعاني عن الصادق عليه السلام قال صبغ المؤمنين بالولاية في الميثاق. اقول: وهو من باطن الآية على ما سنبين معناه ونبين أيضا معنى الولاية ومعنى الميثاق إنشاء الله العزيز. سيقول السفهاء من الناس ما وليهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم - 142. وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا قبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم - 143. قدى نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضيها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم

[ 316 ]

فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون - 144. ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهوائهم من بعد ما جائك من العلم إنك إذا لمن الظالمين - 145. الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون - 146. الحق من ربك فلا تكونن من الممترين - 147. ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شئ قدير - 148. ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام إنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون - 149. ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطرة لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا فلا تخشوهم واخشوني ولاتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون - 150. كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون - 151.

[ 317 ]

(بيان) الآيات مترتبة متسقة منتظمة في سياقها على ما يعطيه التدبر فيها وهي تنبئي عن جعل الكعبة قبلة للمسلمين فلا يصغى إلى قول من يقول إن فيها تقدما وتأخرا أو إن فيها ناسخا ومنسوخا، وربما رووا فيها شيئا من الروايات، ولا يعبا بشئ منها بعد مخالفتها لظاهر الآيات. قوله تعالى: سيقول السفهاء من الناس ما وليهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، هذا تمهيد ثانيا لما سيأمر تعالى به من اتخاذ الكعبة قبلة وتعليم للجواب عما سيعترض به السفهاء من الناس وهم اليهود تعصبا لقبلتهم التي هي بيت المقدس ومشركوا العرب الراصدون لكل امر جديد يحتمل الجدال والخصام، وقد مهد لذلك اولا بما ذكره الله تعالى من قصص ابراهيم وانواع كرامته على الله سبحانه وكرامة ابنه اسماعيل ودعوتهما للكعبة ومكة وللنبي والامة المسلمة وبنائهما البيت والامر بتطهيره للعبادة، ومن المعلوم ان تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة من اعظم الحوادث الدينية واهم التشريعات التي قوبل به الناس بعد هجرة النبي إلى المدينة وأخذ الاسلام في تحقيق اصوله ونشر معارفه وبث حقائقه، فما كانت اليهود وغيرهم تسكت وتستريح في مقابل هذا التشريع، لانهم كانوا يرون انه يبطل واحدا من اعظم مفاخرهم الدينية وهو القبلة واتباع غيرهم لهم فيها وتقدمهم على من دونهم في هذا الشعار الديني، على ان ذلك تقدم باهر في دين المسلمين، لجمعه وجوههم في عباداتهم ومناسكهم الدينية إلى نقطة واحدة يخلصهم من تفرق الوجوه في الظاهر وشتات الكلمة في الباطن واستقبال الكعبة اشد تأثيرا واقوى من امثال الطهارة والدعاء وغيرهما في نفوس المسلمين، عند اليهود ومشركي العرب وخاصة عند اليهود كما يشهد به قصصهم المقتصة في القرآن، فقد كانوا امة لا يرون لغير المحسوس من عالم الطبيعة أصالة ولا لغير الحس وقعا، إذا جائهم حكم من احكام الله معنوي قبلوه من غير تكلم عليه وإذا جاءهم امر من ربهم صوري متعلق بالمحسوس من الطبيعة كالقتال والهجرة والسجدة وخضوع القول وغيرها قابلوه بالانكار وقاوموا عليه ودونه أشد المقاومة.

[ 318 ]

وبالجملة فقد أخبر الله سبحانه عما سيعترضون به على تحويل القبلة وعلم رسوله ما ينبغي أن يجابوا ويقطع به قولهم. أما اعتراضهم: فهو أن التحول عن قبلة شرعها الله سبحانه للماضين من أنبيائه إلى بيت، ما كان به شئ من هذا الشرف الذاتي ما وجهه ؟ فإن كان بأمر من الله فإن الله هو الذي جعل بيت المقدس قبلة فكيف ينقض حكمه وينسخ مشرعه، واليهود ما كانت تعتقد النسخ (كما تقدم في آية النسخ) وإن كان بغير أمر الله ففيه الانحراف عن مستقيم الصراط والخروج من الهداية إلى الضلال وهو تعالى وان لم يذكر في كلامه هذا الاعتراض، إلا أن ما أجاب به يلوح ذلك. وأما الجواب: فهو ان جعل بيت من البيوت كالكعبة، أو بناء من الابنية أو الاجسام كبيت المقدس، أو الحجر الواقع فيه قبلة ليس لاقتضاء ذاتي منه يستحيل التعدي عنه أو عدم إجابة اقتضائه حتى يكون البيت المقدس في كونه قبلة لا يتغير حكمه ولا يجوز إلغائه، بل جميع الاجسام والابنية وجميع الجهات التي يمكن أن يتوجه إليه الانسان في أنها لا تقتضي حكما ولا يستوجب تشريعا على السواء وكلها لله يحكم فيها ما يشاء وكيف يشاء ومتى يشاء، وما حكم به من حكم فهو لهداية الناس على حسب ما يريد من صلاحهم وكمالهم الفردي والنوعي، فلا يحكم إلا ليهدى به ولا يهدي إلا إلى ما هو صراط مستقيم إلى كمال القوم وصلاحهم. قوله تعالى: سيقول السفهاء من الناس، أراد بهم اليهود والمشركين من العرب ولذلك عبر عنهم بالناس وإنما سفههم لعدم استقامة فطرتهم وثقوب رأيهم في أمر التشريع، والسفاهة عدم استقامة العقل وتزلزل الرأي. قوله تعالى: ما وليهم، تولية الشئ أو المكان جعله قدام الوجه وأمامه كالاستقبال، قال تعالى فلنولينك قبلة ترضيها الآية، والتولية عن الشئ صرف الوجه عنه كالاستدبار ونحوه، والمعنى ما الذي صرفهم أو صرف وجههم عن القبلة التي كانوا عليها وهو بيت المقدس الذي كان يصلي إليه النبي والمسلمون أيام إقامته بمكة وعدة شهور بعد هجرته إلى المدينة وإنما نسبوا القبلة إلى المسلمين مع ان اليهود أقدم في الصلوة

[ 319 ]

إليها ليكون أوقع في إيجاد التعجب وأوجب للاعتراض، وإنما قيل ما وليهم عن قبلتهم ولم يقل ما ولى النبي والمسلمين لما ذكرنا من الوجه، فلو قيل ما ولى النبي والمسلمين عن قبلة اليهود لم يكن التعجب واقعا موقعه وكان الجواب عنه ظاهرا لكل سامع بأدنى تنبه. قوله تعالى: قل لله المشرق والمغرب، اقتصر من بين الجهات بهاتين لكونهما هما المعنيتين لسائر الجهات الاصليه والفرعية كالشمال والجنوب وما بين كل جهتين من الجهات الاربعة الاصلية، والمشرق والمغرب جهتان إضافيتان تتعينان بشروق الشمس أو النجوم وغروبهما، يعمان جميع نقاط الارض غير نقطتين موهومتين هما نقطتا الشمال والجنوب الحقيقيتان، ولعل هذا هو الوجه في وضع المشرق والمغرب موضع الجهات. قوله تعالى: يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، تنكير الصراط لان الصراط يختلف باختلاف الامم في استعداداتها للهداية إلى الكمال والسعادة. قوله تعالى: وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا، الظاهر أن المراد كما سنحول القبلة لكم لنهديكم إلى صراط مستقيم كذلك جعلناكم أمة وسطا (هو كما ترى)، وأما المراد بكونهم أمة وسطا شهداء على الناس فالوسط هو المتخلل بين الطرفين لا إلى هذا الطرف ولا إلى ذاك الطرف، وهذ الامة بالنسبة إلى الناس - وهم أهل الكتاب والمشركون - على هذا الوصف فإن بعضهم - وهم المشركون والوثنيون - إلى تقوية جانب الجسم محضا لا يريدون إلا الحيوة الدنيا والاستكمال بملاذها وخارفها وزينتها، لا يرجون بعثا ولا نشورا، ولا يعبأون بشئ من الفضائل المعنوية والروحية، وبعضهم كالنصارى إلى تقوية جانب الروح لا يدعون إلا إلى الرهبانية ورفض الكمالات الجسمية التي أظهرها الله تعالى في مظاهر هذه النشأة المادية لتكون ذريعة كاملة إلى نيل ما خلق لاجله الانسان، فهؤلاء أصحاب الروح أبطلوا النتيجة بابطال سببها واؤلئك اصحاب الجسم ابطلوا النتيجة بالوقوف على سببها والجمود عليها، لكن الله سبحانه جعل هذه الامة وسطا بأن جعل لهم دينا يهدي منتحليه إلى سواء الطريق وسط الطرفين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء بل يقوي كلا من الجانبين - جانب الجسم وجانب الروح - على ما يليق به ويندب إلى جمع الفضيلتين فإن الانسان مجموع الروح والجسم لا روح محضا ولا جسم محضا، ومحتاج

[ 320 ]

في حيوته السعيدة إلى جمع كلا الكمالين والسعادتين المادية والمعنوية، فهذه الامة هي الوسط العدل الذي به يقاس ويوزن كل من طرفي الافراط والتفريط فهي الشهيدة على سائر الناس الواقعة في الاطراف والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو المثال الاكمل من هذه الامة - هو شهيد على نفس الامة فهو صلى الله عليه وآله وسلم ميزان يوزن به حال الآحاد من الامة، والامة ميزان يوزن به حال الناس ومرجع يرجع إليه طرفا الافراط والتفريط، هذا ما قرره بعض المفسرين في معنى الآية وهو في نفسه معنى صحيح لا يخلو عن دقة إلا أنه غير منطبق على لفظ الآية فإن كون الامة وسطا إنما يصحح كونها مرجعا يرجع إليه الطرفان، وميزانا يوزن به الجانبان لا كونها شاهدة تشهد على الطرفين، أو يشاهد الطرفين، فلا تناسب بين الوسطية بذاك المعنى والشهادة وهو ظاهر، على أنه لا وجه حينئذ للتعرض بكون رسول الله شهيدا على الامة إذ لا يترتب شهادة الرسول على الامة على جعل الامة وسطا، كما يترتب الغاية على المغيى والغرض على ذيه. على أن هذه الشهادة المذكورة في الآية، حقيقة من الحقائق القرآنية تكرر ذكرها في كلامه سبحانه، واللائح من موارد ذكرها معنى غير هذا المعنى، قال تعالى (فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) النساء - 41، وقال تعالى (ويوم نبعث من كل امة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون) النحل - 84، (وقال تعالى ووضع الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء) الزمر - 69، والشهادة فيها مطلقة وظاهر الجميع على اطلاقها هو الشهادة على اعمال الامم، وعلى تبليغ الرسل أيضا، كما يومي إليه قوله تعالى (ولنسئلن الذين ارسل إليهم ولنسئلن المرسلين) الاعراف - 6، وهذه الشهادة وإن كانت في الآخرة يوم القيمة لكن تحملها في الدنيا على ما يعطيه قوله تعالى - حكاية عن عيسى عليه السلام - (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد) المائدة - 117، وقوله تعالى (ويوم القيمة يكون عليهم شهيدا) النساء - 159، ومن الواضح أن هذه الحواس العادية التي فينا، والقوى المتعلقة بها منا لا تتحمل إلا صور الافعال والاعمال فقط، وذلك التحمل أيضا، إنما يكون في شئ يكون موجودا حاضرا عند الحس لا معدوما ولا غائبا عنه وأما حقائق الاعمال والمعاني النفسانية من الكفر والايمان والفوز والخسران، وبالجملة كل خفي عن الحس ومستبطن عند الانسان - وهي التي تكسب

[ 321 ]

القلوب، وعليه يدور حساب رب العالمين يوم تبلى السرائر كما قال تعالى (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) البقرة - 225 - فهي مما ليس في وسع الانسان إحصائها والاحاطة بها وتشخيصها من الحاضرين فضلا عن الغائبين إلا رجل يتولى الله أمره ويكشف ذلك له بيده، ويمكن أن يستفاد ذلك من قوله تعالى (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون:) الزخرف - 86، فإن عيسى داخل في المستثنى في هذه الآية قطعا - وقد شهد الله تعالى في حقه بأنه من الشهداء - كما مر في الآيتين السابقتين، فهو شهيد بالحق وعالم بالحقيقة. والحاصل أن هذه الشهادة ليست هي كون الامة على دين جامع للكمال الجسماني والروحاني فإن ذلك على أنه ليس معنى الشهادة خلاف ظاهر الآيات الشريفة. بل هي تحمل حقائق أعمال الناس في الدنيا من سعادة أو شقاء، ورد وقبول، وانقياد وتمرد، وأداء ذلك في الآخرة يوم يستشهد الله من كل شئ، حتى من أعضاء الانسان، يوم يقول الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا. ومن المعلوم أن هذه الكرامة ليست تنالها جميع الامة، إذ ليست إلا كرامة خاصة للاولياء الطاهرين منهم، وأما من دونهم من المتوسطين في السعادة، والعدول من أهل الايمان فليس لهم ذلك، فضلا عن الاجلاف الجافية، والفراعنة، الطاغية من الامة، وستعرف في قوله تعالى (ومن يطع الله والرسول فاؤلئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اؤلئك رفيقا) النساء - 69، ان أقل ما يتصف به الشهداء - وهم شهداء الاعمال - أنهم تحت ولاية الله ونعمته وأصحاب الصراط المستقيم، وقد مر إجمالا في قوله تعالى (صراط الذين انعمت عليهم) فاتحة الكتاب - 7. فالمراد بكون الامة شهيدة أن هذه الشهادة فيهم، كما أن المراد بكون بني إسرائيل فضلوا على العالمين، أن هذه الفضيلة فيهم من غير أن يتصف به كل واحد منهم، بل نسب وصف البعض إلى الكل لكون البعض فيه ومنه، فكون الامة شهيدة هو أن فيهم من يشهد على الناس ويشهد الرسول عليهم.

[ 322 ]

فان قلت: قوله تعالى (والذين آمنوا بالله ورسله اؤلئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم) الحديد - 19، يدل على كون عامة المؤمنين شهداء. قلت: قوله عند ربهم، يدل على أنه تعالى سيلحقهم بالشهداء يوم القيامة، ولم ينالوه في الدنيا، نظير ذلك قوله تعالى (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنابهم ذريتهم) الطور - 21، على ان الآية مطلقة تدل على كون جميع المؤمنين من جميع الامم شهداء عند الله من غير اختصاص بهذه الامة فلا ينفع المستدل شيئا. فان قلت: جعل هذه الامة امة وسطا بهذا المعنى لا يستتبع كونهم أو كون بعضهم شهداء على الاعمال ولا كون الرسول شهيدا على هؤلاء الشهداء فالاشكال وارد على هذا التقريب كما كان واردا على التقريب السابق. قلت: معنى الشهادة غاية متفرعة في الآية على جعل الامة وسطا فلا محالة تكون الوسطية معنى يستتبع الشهادة والشهداء، وقد قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم و افعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتبيكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سميكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فاقيموا الصلوة وآتوا الزكوة واعتصموا بالله هو موليكم، فنعم المولى ونعم النصير) الحج - 78، جعل تعالى كون الرسول شهيدا عليهم وكونهم شهداء على الناس غاية متفرعة على الاجتباء ونفي الحرج عنهم في الدين ثم عرف الدين بأنه هو الملة التي كانت لابيكم إبراهيم الذي هو سميكم المسلمين من قبل، وذلك حين دعا لكم ربه وقال: (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) فاستجاب الله دعوته وجعلكم مسلمين، تسلمون له الحكم والامر من غير عصيان واستنكاف، ولذلك ارتفع الحرج عنكم في الدين، فلا يشق عليكم شئ منه ولا يحرج، فأنتم المجتبون المهديون إلى الصراط، المسلمون لربهم الحكم والامر، وقد جعلناكم كذلك ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس، أي تتوسطوا بين الرسول وبين الناس فتتصلوا من جهة إليهم، وعند ذلك يتحقق مصداق دعائه عليه السلام فيكم وفي الرسول

[ 323 ]

حيث قال (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم) البقرة - 129، فتكونون أمة مسلمة أودع الرسول في قلوبكم علم الكتاب والحكمة، ومزكين بتزكيته، والتزكية التطهير من قذرات القلوب، وتخليصها للعبودية، وهو معنى الاسلام كما مر بيانه، فتكونون مسلمين خالصين في عبوديتكم، وللرسول في ذلك القدم الاول والهداية والتربية، فله التقدم على الجميع، ولكم التوسط باللحوق به، والناس في جانب وفي أول الآية وآخرها قرائن تدل على المعنى الذي استفدناه منها غير خفية على المتدبر فيها نبينها في محله انشاء الله. فقد تبين بما قدمناه: اولا، أن كون الامة وسطا مستتبع للغايتين جميعا، وأن قوله تعالى: لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدا الاية جميعا لازم كونهم وسطا. وثانيا: أن كون الامة وسطا إنما هو بتخللها بين الرسول وبين الناس، لا بتخللها بين طرفي الافراط والتفريط، وجانبي تقوية الروح وتقوية الجسم في الناس. وثالثا: أن الاية بحسب المعنى مرتبطة بآيات دعوة إبراهيم عليه السلام وان الشهادة من شئون الامة المسلمة. واعلم: أن الشهادة على الاعمال على ما يفيده كلامه تعالى لا يختص بالشهداء من الناس، بل كل ما له تعلق ما بالعمل كالملائكة والزمان والمكان والدين والكتاب والجوارح والحواس والقلب فله فيه شهادة. ويستفاد منها أن الذي يحضر منها يوم القيامة هو الذي في هذه النشأة الدنيوية وأن لها نحوا من الحيوة الشاعرة بها، تتحمل بها خصوصيات الاعمال، وترتسم هي فيها، وليس من اللازم ان تكون الحيوة التي في كل شئ، سنخا واحدا كحيوة جنس الحيوان، ذات خواص وآثار كخواصها وآثارها، حتى تدفعه الضرورة فلا دليل على انحصار أنحاء الحيوة في نحو واحد، هذا إجمال القول في هذا المقام وأما تفصيل القول في كل واحد واحد منها فموكول إلى محله اللائق به. قوله تعالى: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن

[ 324 ]

ينقلب على عقبية، المراد بقوله لنعلم: اما علم الرسل والانبياء مثلا، لان العظماء يتكلمون عنهم وعن اتباعهم، كقول الامير، قتلنا فلانا وسجنا فلانا، وإنما قتله وسجنه اتباعه لانفسه، واما العلم العيني الفعلي منه تعالى الحاصل مع الخلقة والايجاد، دون العلم قبل الايجاد. والانقلاب على العقبين كناية عن الاعراض، فان الانسان - وهو منتصب على عقبيه - إذا انقلب من جهة إلى جهة، انقلب على عقبيه، فجعل كناية عن الاعراض نظير قوله (ومن يولهم يومئذ دبره) الانفال - 16، وظاهر الآية انه دفع لما يختلج في صدور المؤمنين: من تغيير القبلة ونسخها، ومن جهة الصلوات التي صلوها إلى القبلة، ما شأنها ؟ ويظهر من ذلك ان المراد بالقبلة التي كان رسول الله عليها، هو بيت المقدس دون الكعبة، فلا دليل على جعل بيت المقدس قبلة مرتين، وجعل الكعبة قبلة مرتين، إذ لو كان المراد من القبلة في الآية الكعبة كان لازم ذلك ما ذكر. وبالجملة كان من المترقب ان يختلج في صدور المؤمنين: أولا، انه لما كان من المقدر ان يستقر القبلة بالآخرة على الكعبة فما هو السبب، أولا: في جعل بيت المقدس قبلة ؟ فبين سبحانه ان هذه الاحكام والتشريعات ليست إلا لاجل مصالح تعود إلى تربية الناس وتكميلهم، وتمحيص المؤمنين من غيرهم، وتمييز المطيعين من العاصين، والمنقادين من المتمردين، والسبب الداعي إلى جعل القبلة السابقة في حقكم أيضا هذا السبب بعينه، فالمراد بقوله الا لنعلم من يتبع الرسول، الا لنميز من يتبعك، والعدول من لفظ الخطاب إلى الغيبة لدخالة صفة الرسالة في هذا التميز، والمراد بجعل القبلة السابقة: جعلها في حق المسلمين، وان كان المراد أصل جعل بيت المقدس قبلة فالمراد مطلق الرسول، والكلام على رسله من غير التفات، غير انه بعيد من الكلام بعض البعد. وثانيا: ان الصلوات التي كان المسلمون صلوها إلى بيت المقدس كيف حالها، وقد صليت إلى غير القبلة ؟ والجواب: ان القبلة قبله ما لم تنسخ، وان الله سبحانه إذا

[ 325 ]

نسخ حكما رفعه من حين النسخ، لا من أصله، لرأفته ورحمته بالمؤمنين، وهذا ما أشار إليه بقوله: وما كان الله ليضيع اعمالكم، ان الله بالناس لرؤوف رحيم. والفرق بين الرأفة والرحمة، بعد اشتراكهما في أصل المعنى، ان الرأفة يختص بالمبتلى المفتاق، والرحمة أعلم. قوله تعالى: قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضيها، الآية تدل على ان رسول الله قبل نزول آية القبلة - وهي هذه الآية - كان يقلب وجهه في آفاق السماء، وان ذلك كان انتظارا منه، أو توقعا لنزول الوحي في أمر القبلة، لما كان يحب ان يكرمه الله تعالى بقبلة تختص به، لا انه كان لا يرتضى بيت المقدس قبلة، وحاشا رسول الله من ذلك، كما قال تعالى: فلنولينك قبلة ترضيها، فان الرضا بشئ لا يوجب السخط بخلافه بل اليهود على ما في الروايات الواردة في شأن نزول الآية كانوا يعيرون المسلمين في تبعية قبلتهم، ويتفاخرون بذلك عليهم، فحزن رسول الله ذلك، فخرج في سواد الليل يقلب وجهه إلى السماء ينتظر الوحي من الله سبحانه، وكشف همه فنزلت الآية، ولو نزلت على البقاء بالقبلة السابقة لكانت حجة له صلى الله عليه وآله وسلم على اليهود، وليس ولم يكن لرسول الله ولا للمسلمين عارفي استقبال قبلتهم، إذ ليس للعبد إلا الاطاعة والقبول، لكن نزلت بقبلة جديدة، فقطع تعييرهم وتفاخرهم، مضافا إلى تعيين التكليف، فكانت حجة ورضى. قوله تعالى: فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره. الشطر البعض، وشطر المسجد الحرام هو الكعبة، وفي قوله تعالى شطر المسجد الحرام دون ان يقال: فول وجهك الكعبة، أو يقال: فول وجهك البيت الحرام، محاذاة للحكم في القبلة السابقة فانها كانت شطر المسجد الاقصى، وهي الصخرة المعروفة هناك، فبدلت من شطر المسجد الحرام - وهي الكعبة - على ان اضافة الشطر إلى المسجد وتوصيف المسجد، بالحرام يعطي مزايا للحكم تفوت لو قيل: الكعبة أو البيت الحرام. وتخصيص رسول الله بالحكم أولا بقوله فول وجهك، ثم تعميم الحكم له ولغيره من المؤمنين بقوله وحيث ما كنتم يؤيد ان القبلة حولت، ورسول الله قائم يصلي في

[ 326 ]

المسجد - والمسلمون معه - فاختص الامر به، أولا في شخص صلوته ثم عقب الحكم العام الشامل له ولغيره، ولجميع الاوقات والامكنة. قوله تعالى: وان الذين اوتوا الكتاب ليعلمون انه الحق من ربهم، وذلك لاشتمال كتابهم على صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو كون قبلة هذا النبي الصادق هو شطر المسجد الحرام، وايا ما كان فقوله: اوتوا الكتاب، يدل على اشتمال كتابهم على حقية هذا التشريع، اما مطابقة أو تضمنا، وما الله بغافل عما يعملون من كتمان الحق، واحتكار ما عندهم من العلم. قوله تعالى: ولئن أتيت الذين اوتوا الكتاب بكل آية، تقريع لهم بالعناد واللجاج، وان ابائهم عن القبول ليس لخفاء الحق عليهم، وعدم تبينه لهم، فانهم عالمون بأنه حق علما لا يخالطه شك، بل الباعث لهم على بث الاعتراض وإثارة الفتنة عنادهم في الدين وجحودهم للحق، فلا ينفعهم حجة، ولا يقطع إنكارهم آية فلو أتيتهم بكل آية ما تبعوا قبلتك لعنادهم وجحودهم، وما أنت بتابع قبلتهم، لانك على بينة من ربك ويمكن أن يكون قوله: وما أنت نهيا في صورة خبر، وما بعضهم بتابع قبلة بعض، وهم اليهود يستقبلون صخرة بيت المقدس أينما كانوا، والنصارى يستقبلون المشرق أينما كانوا، فلا هذا البعض يقبل قبلة ذاك البعض، ولا ذاك يقبل قبلة هذا اتباعا للهوى. قوله تعالى: ولئن اتبعت اهوائهم من بعد ما جائك من العلم، تهديد للنبي، والمعنى متوجه إلى امته، وإشارة إلى انهم في هذا التمرد إنما يتبعون أهوائهم وانهم بذلك ظالمون. قوله تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم، الضمير في قوله يعرفونه، راجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون الكتاب، والدليل عليه تشبيه هذه المعرفة بمعرفة الابناء، فان ذلك إنما يحسن في الانسان، ولا يقال في الكتاب، ان فلانا يعرفه أو يعلمه، كما يعرف ابنه، على ان سياق الكلام - وهو في رسول الله،

[ 327 ]

وما اوحي إليه من أمر القبلة، اجنبي عن موضوع الكتاب الذي اوتيه أهل الكتاب، فالمعنى ان أهل الكتاب يعرفون رسول الله بما عندهم من بشارات الكتب كما يعرفون أبنائهم، وان فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون. وعلي هذا ففي الكلام التفات من الحضور إلى الغيبة في قوله يعرفونه، فقد أخذ رسول الله غائبا، ووجه الخطاب إلى المؤمنين بعد ما كان صلى الله عليه وآله وسلم حاضرا، والخطاب معه، وذلك لتوضيح: ان امره صلى الله عليه وآله وسلم واضح ظاهر عند أهل الكتاب، ومثل هذا النظم كمثل كلام من يكلم جماعة لكنه يخص واحدا منهم بالمخاطبة إظهارا لفضله، فيخاطبه ويسمع غيره، فإذا بلغ إلى ما يخص شخص المخاطب من الفضل والكرامة، عدل عن خطابه إلى مخاطبة الجماعة، ثم بعد الفراغ عن بيان فضله عدل ثانيا إلى ما كان فيه أولا من توجيه الخطاب إليه وبهذا يظهر نكتة الالتفات. قوله تعالى: الحق من ربك فلا تكونن من الممترين، تأكيد للبيان السابق وتشديد في النهى عن الامتراء، وهو الشك والارتياب، وظاهر الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعناه للامة. قوله تعالى: ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات، الوجهة ما يتوجه إليه كالقبلة، و هذارجوع إلى تلخيص البيان السابق، وتبديل له من بيان آخر يهدي الناس إلى ترك تعقيب أمر القبله، والاكثار من الكلام فيه، والمعنى ان كل قوم فلهم قبلة مشرعة على حسب ما يقتضيه مصالحهم وليس حكما تكوينيا ذاتيا لا يقبل التغيير والتحويل، فلا يهم لكم البحث والمشاجرة فيه، فاتركوا ذلك واستبقوا الخيرات وسارعوا إليها بالاستباق، فان الله سيجمعكم إلى يوم لا ريب فيه، وأينما تكونوا يأت بكم الله جميعا ان الله على كل شئ قدير. واعلم ان الآية كما انها قابلة الانطباق على أمر القبلة لوقوعها بين آياتها كذلك تقبل الانطباق على أمر التكوين، وفيها اشارة إلى القدر والقضاء، وجعل الاحكام والاداب لتحقيقها وسيجئ تمام بيانه فيما يخص به من المقام إنشاء الله.

[ 328 ]

قوله تعالى: ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام، ذكر بعض المفسرين أن المعنى ومن أي مكان خرجت، وفي أي بقعة حللت فول وجهك وذكر بعضهم أن المعنى ومن حيث خرجت من البلاد، ويمكن أن يكون المراد بقوله ومن حيث خرجت، مكة، التي خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم منها كما قال تعالى (من قريتك التي أخرجتك) محمد - 13، ويكون المعنى أن استقبال البيت حكم ثابت لك في مكة وغيرها من البلاد والبقاع وفي قوله وأنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون تأكيد و تشديد. قوله تعالى: ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره، تكرار الجملة الاولى بلفظها لعله للدلالة على ثبوت حكمها على أي حال، فهو كقول القائل، اتق الله إذا قمت واتق الله إذا قعدت، واتق الله إذا نطقت، واتق الله إذا سكت، يريد: التزم التقوى عند كل واحدة من هذه الاحوال ولتكن معك، ولو قيل اتق الله إذا قمت وإذا قعدت وإذا نطقت وإذا سكت فاتت هذه النكتة، والمعنى استقبل شطر المسجد الحرام من التي خرجت منها وحيث ما كنتم من الارض فولوا وجوهكم شطره. قوله تعالى: لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني، بيان لفوائد ثلاث في هذا الحكم الذي فيه أشد التأكيد على ملازمة الامتثال والتحذر عن الخلاف: احديها: أن اليهود كانوا يعلمون من كتبهم أن النبي الموعود تكون قبلته الكعبة دون بيت المقدس، كما قال تعالى: وإن الذين إوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم الآية، وفي ترك هذا الحكم الحجة لليهود على المسلمين بأن النبي ليس هو النبي الموعود لكن التزام هذا الحكم والعمل به يقطع حجتهم إلا الذين ظلموا منهم، وهو استثناء منقطع، أي لكن الذين ظلموا منهم باتباع الاهواء لا ينقطعون بذلك فلا تخشوهم لانهم ظالمون باتباع الاهواء، والله لا يهدي القوم الظالمين و اخشوني. وثانيتها: أن ملازمة هذا الحكم يسوق المسلمين إلى تمام النعمة عليهم بكمال دينهم، وسنبين معنى تمام النعمة في الكلام على قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) المائدة - 4.

[ 329 ]

وثالثتها: رجاء الاهتداء إلى الصراط المستقيم، وقد مر معنى الاهتداء في الكلام على معنى قوله تعالى: (إهدنا الصراط المستقيم) فاتحة الكتاب - 6. وذكر بعض المفسرين أن اشتمال هذه الآية - وهي آية تحويل القبلة - على قوله وليتم نعمته عليكم ولعلكم تهتدون، مع اشتمال قوله تعالى في سورة الفتح في ذكر فتح مكة على هاتين الجملتين، إذ قال تعالى (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما) الفتح - 2 يدل على كونها مشتملة على البشارة بفتح مكة. بيان ذلك أن الكعبة كانت مشغولة في صدر الاسلام بأصنام المشركين وأوثانهم وكان السلطان معهم، والاسلام لم يقو بعد بحيث يظهر قهره وقدرته، فهدى الله رسوله إلى استقبال بيت المقدس، لكونه قبلة لليهود، الذين هم أقرب في دينهم من المشركين إلى الاسلام، ثم لما ظهر أمر الاسلام بهجرة رسول الله إلى المدينة، وقرب زمان الفتح وتوقع تطهيرالبيت من أرجاس الاصنام جاء الامر بتحويل القبلة وهي النعمة العظيمة التي اختص به المسلمون، ووعد في آية التحويل إتمام النعمة والهداية وهو خلوص الكعبة من أدناس الاوثان، وتعينها لان تكون قبله يعبد الله إليها، ويكون المسلمون هم المختصون بها، وهي المختصة بهم، فهي بشارة بفتح مكة، ثم لما ذكر فتح مكة حين فتحت أشار إلى ما وعدهم به من إتمام النعمة والبشارة بقوله ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما الآية. وهذا الكلام وإن كان بظاهره وجيها لكنه خال عن التدبر، فإن ظاهر الآيات لا يساعد عليه، إذ الدال على وعد إتمام النعمة في هذه الآية: ولاتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون، الآية إنما هو لام الغاية، وآية سورة الفتح التي أخذها انجازا لهذا الوعد ومصداقا لهذه البشارة أعني قوله تعالى: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما، مشتملة على هذه اللام بعينها، فالآيتان جميعا مشتملتان على الوعد الجميل بإتمام النعمة، على أن آية الحج مشتملة على وعد إتمام النعمة لجميع المسلمين، وآية الفتح على ذلك لرسول الله خاصة فالسياق في الآيتين مختلف. ولو كان هناك آية تحكي عن انجاز الوعد الذي تشتمل عليه الآيتان لكان هو قوله

[ 330 ]

تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) المائدة - 4، وسيجئ الكلام في معنى النعمة و تشخيص هذه النعمة التي يمتن بها الله سبحانه في الآية. ونظير هاتين الآيتين في الاشتمال على عدة إتمام النعمة قوله تعالى (ولكن يريد ليطهركم و ليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) المائدة - 6، وقوله تعالى (كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون) النحل - 81، وسيجئ إنشاء الله شئ من الكلام المناسب لهذا المقام في ذيل هذه الآيات. قوله تعالى: كما أرسلنا فيكم رسولا منكم، ظاهر الآية إن الكاف للتشبيه وما مصدرية، فالمعنى: أنعمنا عليكم بأن جعلنا لكم البيت الذي بناه إبراهيم ودعا له بما دعا من الخيرات والبركات قبلة كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويعلمكم الكتاب والحكمة ويزكيكم مستجيبين لدعوة إبراهيم، إذ قال هو وابنه إسمعيل ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وفيهم امتنان عليهم بالارسال كالامتنان بجعل الكعبة قبلة، ومن هنا يظهر أن المخاطب بقوله فيكم رسولا منكم، هو الامة المسلمة، وهو أولياء الدين من الامة خاصة بحسب الحقيقة، والمسلمون جميعا من آل إسمعيل، - وهم عرب مضر - بحسب الظاهر، وجميع العرب بل جميع المسلمين بحسب الحكم. قوله تعالى: يتلوا عليكم آياتنا، ظاهرة آيات القرآن لمكان قوله يتلوا، فإن العناية في التلاوة إلى اللفظ دون المعنى، والتزكية هي التطهير، وهو إزالة الادناس والقذارات، فيشمل إزالة الاعتقادات الفاسدة كالشرك والكفر، وإزالة الملكات الرذيلة من الاخلاق كالكبر والشح، وإزالة الاعمال والافعال الشنيعة كالقتل والزنا وشرب الخمر وتعليم الكتاب والحكمة وتعليم ما لم يكونوا يعلمونه يشمل جميع المعارف الاصلية والفرعية. واعلم: أن الآيات الشريفة تشتمل على موارد من الالتفات، فيه تعالى بالغيبة ولتكلم وحده ومع الغير، وفي غيره تعالى أيضا بالغيبة والخطاب والتكلم، والنكتة فيها غير خفية على المتدبر البصير.

[ 331 ]

(بحث روائي) في المجمع عن القمي في تفسيره في قوله تعالى سيقول السفهاء الآية، عن الصادق عليه السلام قال تحولت القبلة إلى الكعبة، بعد ما صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة ثلث عشرة سنة إلى بيت المقدس، وبعد مهاجرته إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس سبعة أشهر، قال ثم وجهه الله إلى مكة، وذلك أن اليهود كانوا يعيرون على رسول الله يقولون أنت تابع لنا تصلي إلى قبلتنا، فاغتم رسول الله من ذلك غما شديدا، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء، ينتظر من الله في ذلك أمرا، فلما أصبح وحضر وقت صلوة الظهر كان في مسجد بنى سالم، وقد صلى من الظهر ركعتين فنزل جبرئيل فأخذ بعضديه وحوله إلى الكعبة وأنزل عليه: (قد نرى تقلب وجهك في السماء، فلنولينك قبلة ترضيها فول وجهك شطر المسجد الحرام) فكان قد صلى ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة، فقالت اليهود والسفهاء ما وليهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ اقول: والروايات الواردة من طرق العامة والخاصة كثيرة مودعة في جوامع الحديث قريبة المضامين، وقد اختلف في تاريخ الواقعة، واكثرها - وهو الاصح - أنها كانت في رجب السنة الثانية من الهجرة الشهر السابع عشر منها وسيجئ بعض ما يتعلق بالمقام في بحث على حده إنشاالله. وعن طرق أهل السنة والجماعة في شهادة هذه الامة على الناس، وشهادة النبي عليهم أن الامم يوم القيمة يجحدون تبليغ الانبياء فيطالب الله الانبياء بالبينة على انهم قد بلغوا - وهو أعلم - فيؤتي بأمة محمد، فيشهدون، فتقول الامم من أين عرفتم ؟ فيقولون عرفنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتى بمحمد، ويسئل عن حال أمته، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم، وذلك قوله تعالى فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد. اقول: ما يشتمل عليه هذا الخبر - وهو مؤيد بأخبار أخر نقلها السيوطي في الدر المنثور وغيره - من تزكية رسول الله لامته، وتعديله إياهم، لعله يراد به تعديله لبعضهم دون جميعهم، وإلافهو مدفوع بالضرورة الثابتة من الكتاب والسنة، وكيف

[ 332 ]

تصحح أو تصوب هذه الفجائع التي لا تكاد توجد، ولا أنموذجة منها في واحدة من الامم الماضية ؟ وكيف يزكى ويعدل فراعنة هذه الامة وطواغيتها ؟ فهل ذلك إلا طعن في الدين الحنيف ولعب بحقائق هذه الملة البيضاء، على أن الحديث مشتمل على إمضاء الشهادة النظرية دون شهادة التحمل. وفي المناقب في هذا المعنى عن الباقر عليه السلام ولا يكون شهداء على الناس إلا الائمة والرسل، وأما الامة فغير جايز أن يستشهدها الله وفيهم من لا تجوز شهادته على حزمة بقل. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا الآية، فإن ظننت أن الله عنى بهذه الآية جميع اهل القبلة من الموحدين أفترى إن من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب الله شهادته يوم القيامة، ويقبلها منه بحضرة جميع الامم الماضية ؟ كلا ! لم يعن الله مثل هذا من خلقة، يعني الامة التي وجبت لها دعوة إبراهيم كنتم خير أمة، أخرجت للناس وهم الامة الوسطى وهخير امة أخرجت للناس، اقول: وقد مر بيان ذلك في ذيل الآية بالاستفادة من الكتاب. وفي قرب الاسناد عن الصادق عليه السلام عن أبيه عن النبي قال مما أعطى الله أمتي وفضلهم على سائر الامم أعطاهم ثلث خصال لم يعطها إلا نبي - إلى أن قال - وكان إذا بعث نبيا جعله شهيدا على قومه، وإن الله تبارك وتعالى جعل امتي شهيدا على الخلق، حيث يقول ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس الحديث. اقول: والحديث لا ينافي ما مر، فان المراد بالامة الامة المسلمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم. وفي تفسير العياشي عن أمير المؤمنين عليه السلام: في حديث يصف فيه يوم القيامة، قال عليه السلام يجتمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلق، فلا يتكلم أحد إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، فيقام الرسول فيسئل فذلك قوله لمحمد فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا، وهو الشهيد على الشهداء، والشهداء هم الرسل.

[ 333 ]

وفي التهذيب عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام، قال قلت له أمره أن يصلي إلى بيت المقدس ؟ قال نعم ألا ترى أن الله تبارك وتعالى يقول وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم ممن ينقلب على عقبيه الآية. أقول: مقتضى الحديث كون قوله تعالى التي كنت عليها وصفا للقبلة، والمراد بها بيت المقدس، وأنه القبلة التي كان رسول الله عليها، وهو الذي يؤيده سياق الآيات كما تقدم. ومن هنا يتأيد ما في بعض الاخبار عن العسكري عليه السلام: أن هوى أهل مكة كان في الكعبة فأراد الله أن يبين متبع محمد من مخالفيه باتباع القبلة التي كرهها، ومحمد يأمر بها، ولما كان هوى أهل المدينة في بيت المقدس أمرهم بمخالفتها والتوجه إلى الكعبة ليبين من يتبع محمدا فيما يكرهه - فهو مصدقه وموافقه الحديث، وبه يتضح أيضا فساد ما قيل: إن قوله تعالى التي كنت عليها مفعول ثان لجعلنا، والمعنى: وما جعلنا القبلة، هي الكعبة التي كنت عليها قبل بيت المقدس، واستدل عليها بقوله تعالى إلا لنعلم من يتبع الرسول، وهو فاسد، ظهر فساده مما تقدم. وفي تفسير العياشي عن الزبيري عن الصادق عليه السلام قال: قلت له ألا تخبرني عن الايمان، أقول هو وعمل أم قول بلا عمل ؟ فقال الايمان عمل كله والقول بعض ذلك العمل، مفروض من الله، مبين في كتابه، واضح نوره ثابت حجته، يشهد له بها الكتاب ويدعو إليه، ولما أن صرف الله نبيه إلى الكعبة عن بيت المقدس قال المسلمون: للنبي أرأيت صلاتنا التي كنا نصلي إلى بيت المقدس، ما حالنا فيها وما حال من مضى من أمواتنا، وهم كانوا يصلون إلى بيت المقدس ؟ فأنزل الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم، فسمى الصلوة إيمانا، فمن اتقى الله حافظا لجوارحه موفيا كل جارحة من جوارحه بما فرض الله عليه لقي الله مستكملا لايمانه من أهل الجنة، ومن خان في شئ منها أو تعدى ما أمر الله فيها لقي الله ناقص الايمان. اقول: ورواه الكليني أيضا، واشتماله على نزول قوله وما كان الله ليضيع إيمانكم الآية، بعد تغيير القبلة لا ينافي ما تقدم من البيان. وفي الفقيه أن النبي صلى إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة بمكة وتسعة عشر شهرا بالمدينة، ثم عيرته اليهود فقالوا إنك تابع لقبلتنا، فاغتم لذلك غما شديدا،

[ 334 ]

فلما كان في بعض الليل خرج يقلب وجهه في آفاق السماء، فلما أصبح صلى الغداة، فلما صلى من الظهر ركعتين جاء جبرئيل فقال له قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضيها فول وجهك شطر المسجد الحرام الآية، ثم أخذ بيد النبي فحول وجهه إلى الكعبة، وحول من خلفه وجوههم حتى قام الرجال مقام النساء والنساء مقام الرجال، فكان أول صلوتة إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة فبلغ الخبر مسجدا بالمدينة وقد صلى أهله من العصر ركعتين فحولوا نحو القبله، فكان أول صلوتهم إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين. أقول: وروى القمي نحوا من ذلك، وأن النبي كان في مسجد بني سالم. وفي تفسير العياشي عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام الآية، قال استقبل القبلة، ولا تقلب وجهك عن القبلة فتفسد صلوتك، فان الله يقول لنبيه في الفريضة فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره. اقول: والاخبار في نزول الآية في الفريضة واختصاصها بها كثيرة مستفيضة. وفي تفسير القمي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه الآية، قال نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى، يقول الله تبارك وتعالى: والذين آتيناهم الكتاب يعرفونه يعني يعرفون رسول الله كما يعرفون أبنائهم لان الله عزوجل قد أنزل عليهم في التوراة والانجيل والزبور صفة محمد وصفة أصحابه ومهاجرته، وهو قوله تعالى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تريهم ركعا سجدا - يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل، وهذه صفة رسول الله في التوراة وصفة أصحابه، فلما بعثه الله عزوجل عرفه أهل الكتاب كما قال جل جلاله: فلما جائهم ما عرفوا كفروا به. اقول: وروى نحوا منه في الكافي عن علي عليه السلام. وفي أخبار كثيرة من طرق الشيعة أن قوله تعالى، أينما تكونوا يأت بكم الله

[ 335 ]

جميعا الآية في أصحاب القائم، وفي بعضها أنه من التطبيق والجرى. وفي الحديث من طرق العامة في قوله تعالى: ولاتم نعمتي عليكم، عن علي تمام النعمة الموت على الاسلام. وفي الحديث من طرقهم أيضا تمام النعمة دخول الجنة. (بحث علمي) تشريع القبلة في الاسلام، واعتبار الاستقبال في الصلوة - وهى عبادة عامة بين المسلمين - وكذا في الذبائح، وغير ذلك مما يبتلى به عموم الناس أحوج الناس إلى البحث عن جهة القبلة وتعيينها وقد كان ذلك منهم في اول الامر بالظن والحسبان ونوع من التخمين، ثم استنهض الحاجة العمومية الرياضيين من علمائهم أن يقربوه من التحقيق، فاستفادوا من الجداول الموضوعة في الزيجات لبيان عرض البلاد وطولها، واستخرجوا انحراف مكة عن نقطة الجنوب في البلد، أي انحراف الخط الموصول بين البلد ومكة عن الخط الموصول بين البلد ونقطة الجنوب (خط نصف النهار) بحساب الجيوب والمثلثات ثم عينوا ذلك في كل بلدة من بلاد الاسلام، بالدائرة الهندية المعروفة المعينة لخط نصف النهار، ثم درجات الانحراف وخط القبلة. ثم استعملوا لتسريع العمل وسهولته الآلة المغناطيسية المعروفة بالحك، فإنها بعقربتها تعين جهة الشمال والجنوب، فتنوب عن الدائرة الهندية في تعيين نقطة الجنوب وبالعلم بدرجة انحراف البلد يمكن للمستعمل أن يشخص جهة القبلة. لكن هذا السعي منهم - شكر الله تعالى سعيهم - لم يخل من النقص والاشتباه من الجهتين جميعا. أما من جهة الاولى: فإن المتأخرين من الرياضيين عثروا على ان المتقدمين اشتبه عليهم الامر في تشخيص الطول، واختل بذلك حساب الانحراف فتشخيص جهة الكعبة، وذلك ان طريقهم إلى تشخيص عرض البلاد - وهو ضبط ارتفاع القطب الشمالي - كان اقرب إلى التحقيق، بخلاف الطريق إلى تشخيص الطول، وهو ضبط المسافة بين النقطتين المشتركتين في حادثة سماوية مشتركة كالخسوف بمقدار سير الشمس حسا عندهم، وهو التقدير بالساعة، فقد كان هذا بالوسائل القديمة عسيرا

[ 336 ]

وعلى غير دقة لكن توفر الوسائل وقرب الروابط اليوم سهل الامر كل التسهيل، فلم تزل الحاجة قائمة على ساق، حتى قام الشيخ الفاضل البارع الشهير، بالسردار الكابلي، - رحمة الله عليه - في هذه الاواخر بهذا الشأن فاستخرج الانحراف القبلي بالاصول الحديثة، وعمل فيه رسالته المعروفة، بتحفة الاجلة في معرفة القبلة، وهي رسالة ظريفة بين فيها طريق عمل استخراج القبلة بالبيان الرياضي، ووضع فيها جداول لتعيين قبلة البلاد. ومن ألطف ما وفق له في سعيه - شكر الله سعيه - ما أظهر به كرامة باهرة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في محرابه المحفوظ في مسجد النبي بالمدينة 25. 75. 20 وذلك: أن المدينة على ما حاسبه القدماء كانت ذات عرض 25 درجة وطول 75 درجة 20 دقيقة، وكانت لا توافقه قبلة محراب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسجده، لذلك كان العلماء لا يزالون باحثين في امر قبله المحراب وربما ذكروا في انحرافه وجوها لا تصدقها حقيقة الامر لكنه - رحمه الله - اوضح ان المدينة على عرض 24 درجة 57 دقيقة وطول 39 درجة 59 دقيقة وانحراف. درجة 45 دقيقة تقريبا. وانطبق على ذلك قبلة المحراب أحسن الانطباق وبدت بذلك كرامة باهرة للنبي في قبلته التي وجه وجهه إليها وهو في الصلوة، وذكران جبرئيل أخذ بيده وحول وجهه إلى الكعبة، صدق الله ورسوله. ثم استخرج بعده المهندس الفاضل الزعيم عبد الرزاق البغائري رحمة الله عليه قبلة أكثر بقاع الارض ونشر فيها رسالة في معرفة القبلة، وهي جداول يذكر فيها ألف وخمسمأه بقعة من بقاع الارض وبذلك تمت النعمة في تشخيص القبلة. وأما الجهة الثانية: وهي الجهة المغناطيسية، فإنهم وجدوا أن القطبين المغناطيسيين في الكرة الارضية، غير منطبقين على القطبين الجغرافيين منها، فإن القطب المغناطيسي الشمالي مثلا على أنه متغير بمرور الزمان، بينه وبين القطب الجغرافيائي الشمالي ما يقرب من ألف ميل، وعلى هذا فالحك لا يشخص القطب الجنوبي الجغرافي بعينه، بل ربما بلغ التفاوت إلى ما لا يتسامح فيه، وقد أنهض هذا المهندس الرياضي الفاضل الزعيم حسين علي رزم آرا في هذه الايام وهي سنة 1332 هجرية شمسية على حل هذه المعضلة، واستخراج مقدار التفاوت بين القطبين الجغرافي والمغناطيسي بحسب النقاط المختلفة،

[ 337 ]

وتشخيص انحراف القبلة من القطب المغناطيسي فيما يقرب من ألف بقعة من بقاع الارض، واختراع حك يتضمن التقريب القريب من التحقيق في تشخيص القبلة، وها هو اليوم دائر معمول - شكر الله سعيه -. (بحث اجتماعي) لمتأمل في شئون الاجتماع الانساني، والناظر في الخواص والآثار التي يتعقبها هذا الامر المسمى بالاجتماع من جهة أنه اجتماع لا يشك في أن هذا الاجتماع إنما كونة ثم شعبته وبسطته إلى شعبه وأطرافه الطبيعة الانسانية، لما استشعرت بإلهام من الله سبحانه بجهات حاجتها في البقاء والاستكمال إلى أفعال اجتماعية فتلتجئ إلى الاجتماع وتلزمها لتوفق إلى أفعالها وحركاتها وسكناتها في مهد تربية الاجتماع وبمعونته. ثم استشعرت والهمت بعلوم (صور ذهنية) وإدراكات توقعها على المادة وعلى حوائجها فيها وعلى أفعالها، وجهات أفعالها تكون هي الوصلة والرابطة بينها وبين أفعالها وحوائجها كاعتقاد الحسن والقبح، وما يجب، وما ينبغي، وسائر الاصول الاجتماعية، من الرئاسة والمرئوسية والملك والاختصاص، والمعاملات المشتركة والمختصة، وسائر القواعد والنواميس العمومية والآداب والرسوم القومية التي لا تخلو عن التحول والاختلاف باختلاف الاقوام والمناطق و الاعصار، فجميع هذه المعاني والقواعد المستقرة عليها من صنع الطبيعة الانسانية بإلهام من الله سبحانه، تلطفت بها طبيعة الانسان، لتمثل بها ما تعتقدها وتريدها من المعاني في الخارج، ثم تتحرك إليها بالعمل، والفعل والترك، والاستكمال. وتوجه العبادي إلى الله سبحانه، وهو المنزه عن شئون المادة، والمقدس عن تعلق الحس المادي إذا اريد أن يتجاوز حد القلب والضمير، وتنزل على موطن الافعال - وهي لا تدور إلا بين الماديات - لم يكن في ذلك بد ومخلص من أن يكون على سبيل التمثيل بأن يلاحظ التوجهات القلبية على اختلاف خصوصياتها، ثم تمثل في الفعل بما يناسبها من هيئات الافعال وأشكالها، كالسجدة يراد بها التذلل، والركوع يراد به

[ 338 ]

التعظيم، والطواف يراد به تفدية النفس، والقيام يراد به التكبير، والوضوء والغسل يراد بهما الطهارة للحضور ونحو ذلك. ولا شك أن التوجه إلى المعبود، واستقباله من العبد في عبوديته روح عبادته، التي لولاها لم يكن لها حيوة ولا كينونة، وإلى تمثيله تحتاج العبادة في كمالها وثباتها واستقرار تحققها. وقد كان الوثنيون، وعبدة الكواكب وسائر الاجسام من الانسان وغيره ستقبلون معبوداتهم وآلهتهم، ويتوجهون إليهم بالابدان في أمكنة متقاربة. لكن دين الانبياء ونخص بالذكر من بينها دين الاسلام الذي يصدقها جميعا وضع الكعبة قبلة، وأمر باستقبالها في الصلوة، التي لا يعذر فيها مسلم، أينما كان من أقطار الارض وآفاقها، ونهي عن استقبالها واستدبارها في حالات وندب إلى ذلك في أخرى فاحتفظ على قلب الانسان بالتوجه إلى بيت الله، وأن لا ينسى ربه في خلوته وجلوته، وقيامه وقعوده، ومنامه ويقظته، ونسكه وعبادته حتى في أخس حالاته وأرديها فهذا بالنظر إلى الفرد. وأما بالنظر إلى الاجتماع، فالامر أعجب والاثر أجلى وأوقع فقد جمع الناس على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم على التوجه إلى نقطة واحدة، يمثل بذلك وحدتهم الفكرية وارتباط جامعتهم، والتيام قلوبهم، وهذا ألطف روح يمكن أن تنفذ في جميع شئون الافراد في حيويتها المادية والمعنوية تعطي من الاجتماع إرقاه، ومن الوحدة أوفاها وأقويها، خص الله تعالى بها عباده المسلمين، وحفظ به وحدة دينهم، وشوكة جمعهم، حتى بعد أن تحزبوا أحزابا، وافترقوا مذاهب وطرائق قددا، لا يجتمع منهم اثنان على رأي، نشكر الله تعالى على آلاله.

[ 339 ]

فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون - 152. (بيان) لما امتن الله تعالى على النبي والمسلمين، بإرسال النبي الكريم منهم إليهم نعمة لا تقدر بقدر ومنحه على منحة - وهو ذكر منه لهم - إذ لم ينسهم في هدايتهم إلى مستقيم الصراط، وسوقهم إلى أقصى الكمال، وزيادة على ذلك، وهو جعل القبلة، الذي فيه كمال دينهم، وتوحيد عبادتهم، وتقويم فضيلتهم الدينية والاجتماعية فرع على ذلك دعوتهم إلى ذكره وشكره، ليذكرهم بنعمته على ذكرهم إياه بعبوديته وطاعته، ويزيدهم على شكرهم لنعمته وعدم كفرانهم، وقد قال تعالى: واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لاقرب من هذا رشدا) الكهف - 24. وقال تعالى: لان شكرتم لازيدنكم) إبراهيم - 7. والآيتان جميعا نازلتان قبل آيات القبلة من سورة البقرة. ثم إن الذكر ربما قابل الغفلة كقوله تعالى (وتطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا) الكهف - 28، وهي انتفاء العلم بالعلم، مع وجود أصل العلم، فالذكر خلافه، وهو العلم بالعلم، وربما قابل النسيان وهو زوال صورة العلم عن خزانة الذهن، فالذكر خلافه، ومنه قوله تعالى (واذكر ربك إذا نسيت الاية). وهو حينئذ كالنسيان معنى ذو آثار وخواص تتفرع عليه، ولذلك ربما أطلق الذكر كالنسيان في موارد تتحقق فيها آثارهما وإن لم تتحقق أنفسهما، فإنك أذا لم تنصر صديقك - وأنت تعلم حاجته إلى نصرك فقد نسيته، والحال أنك تذكره، وكذلك الذكر. والظاهر أن إطلاق الذكر على الذكر اللفظي من هذا القبيل، فإن التكلم عن الشئ من آثار ذكره قلبا، قال تعالى (قل سأتلوا عليكم منه ذكرا) الكهف - 83. ونظائره كثيرة، ولو كان الذكر اللفظي أيضا ذكرا حقيقة فهو من مراتب الذكر، لانه مقصور عليه ومنحصر فيه، وبالجملة: الذكر له مراتب كما قال تعالى: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) الرعد - 28، وقال واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول) الاعراف - 205، وقال تعالى (فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد

[ 340 ]

ذكرا) البقرة - 200، فالشدة إنما يتصف به المعنى دون اللفظ، وقال تعالى (واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لاقرب من هذا رشدا) الكهف - 24، وذيل هذه الآية تدل على الامر برجاء ما هو أعلى منزلة مما هو فيه، فيؤل المعنى إلى أنك إذا تنزلت من مرتبة من ذكره إلى مرتبة هي دونها، وهو النسيان، فاذكر ربك وارج بذلك ما هو أقرب طريقا وأعلى منزلة، فينتج أن الذكر القلبي ذو مراتب في نفسه، وبذلك يتبين صحة قول القائل: أن الذكر حضور المعنى عند النفس، فان الحضور ذو مراتب. ولو كان لقوله تعالى، فاذكروني - وهو فعل متعلق بياء المتكلم حقيقة من دون تجوز أفاد ذلك، أن للانسان سنخا آخر من العلم غير هذا العلم المعهود عندنا الذي هو حصول صورة المعلوم ومفهومه عند العالم، إذ كلما فرض من هذا القبيل فهو تحديد وتوصيف للمعلوم من العالم، وقد تقدست ساحته سبحانه عن توصيف الواصفين، قال تعالى (سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين) الصافات - 160، وقال: (ولا يحيطون به علما) طه - 110، وسيجئ بعض ما يتعلق بالمقام في الكلام على الآيتين إنشاء الله. (بحث روائي) تكاثرت الاخبار في فضل الذكر من طرق العامة والخاصة، فقد روي: بطرق مختلفة أن ذكر الله حسن على كل حال. وفي عدة الداعي قال: وروي: أن رسول الله قد خرج على أصحابه، فقال: ارتعوا في رياض الجنة، قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنة ؟ قال: مجالس الذكر اغدوا وروحوا واذكروا، ومن كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإن الله تعالى ينزل العبد حيث أنزل العبد الله من نفسه، واعلموا: أن خير أعمالكم عند مليككم وأزكاها وأرفعها في درجاتكم، وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله تعالى، فانه تعالى أخبر عن نفسه فقال: أنا جليس من ذكرني، وقال تعالى: فاذكروني أذكركم بنعمتي، اذكروني بالطاعة والعبادة أذكركم بالنعم والاحسان والراحة والرضوان.

[ 341 ]

وفي المحاسن ودعوات الراوندي عن الصادق عليه السلام قال: ان الله تبارك وتعالى يقول: من شغل بذكري عن مسئلتي، اعطيه افضل ما اعطي من سئلني. وفي المعاني عن الحسين البزاز قال: قال: لي أبو عبد الله عليه السلام ألا احدثك باشد ما فرض الله على خلقة ؟ قلت: بلى قال، إنصاف الناس من نفسك، ومواساتك لاخيك، وذكر الله في كل موطن، أما إني لا اقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله اكبر، وان كان هذا من ذاك، ولكن ذكر الله في كل موطن، إذا هجمت على طاعته أو معصيته. اقول: وهذا المعنى مروي بطرق كثيرة عن النبي وأهل بيته عليه السلام وفي بعضها وهو قول الله: الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون الآية. وفي عدة الداعي عن النبي، قال قال سبحانه: إذا علمت أن الغالب على عبدي الاشتغال بي، نقلت شهوته في مسئلتي ومناجاتي، فإذا كان عبدي كذلك وأراد ان يسهو حلت بينه وبين أن يسهو، أولئك أوليائي، حقا، أولئك الابطال حقا، أولئك الذين إذا اردت أن أهلك أهل الارض عقوبة زويتها عنهم من أجل أولئك الابطال. وفي المحاسن عن الصادق عليه السلام قال: قال الله تعالى: ابن آدم اذكرني في نفسك اذكرك في نفسي، ابن آدم اذكرني في خلاء أذكرك في خلاء، اذكرني في ملا أذكرك في ملاء خير من ملائك، وقال: ما من عبد يذكر الله في ملا من الناس الا ذكره الله في ملا من الملائكة. أقول: وقد روي هذا المعنى بطرق كثيرة في كتب الفريقين. وفي الدر المنثور أخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن إبن مسعود قال: قال: رسول الله، من أعطى أربعا أعطي أربعا، وتفسير ذلك في في كتاب الله من أعطي الذكر ذكره الله، لان الله يقول: اذكروني اذكركم، ومن اعطى الدعاء اعطي الاجابة، لان الله يقول: ادعوني استجب لكم، ومن اعطي الشكر أعطي الزيادة، لان الله يقول: لئن شكرتم لازيدنكم، ومن اعطي الاستغفار اعطي المغفرة لان الله يقول: استغفروا ربكم إنه كان غفارا.

[ 342 ]

وفي الدر المنثور أيضا أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في شعب الايمان عن خالد بن ابي عمران، قال: قال: رسول الله، من أطاع الله فقد ذكر الله، وان قلت صلوته وصيامه وتلاوته للقرآن، ومن عصى الله فقد نسي الله، وإن كثرت صلوته وصيامه وتلاوته للقرآن. اقول: في الحديث إشارة إلى ان المعصية لا تتحقق من العبد إلا بالغفلة والنسيان فإن الانسان لو ذكر ما حقيقة معصيته وما لها من الاثر لم يقدم على معصيته، حتى ان من يعصي الله ولا يبالي إذا ذكر عند ذلك بالله، ولا يعتني بمقام ربه هو طاغ جاهل بمقام ربه وعلو كبريائه وكيفية إحاطته، وإلى ذلك تشير ايضا رواية اخرى، رواها الدر المنثور، عن أبي هند الداري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال الله: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي ومن ذكرني - وهو مطيع - فحق علي أن اذكره بمغفرتي، ومن ذكرني - وهو عاص - فحق علي أن أذكره بمقت الحديث، وما اشتمل عليه هذا الحديث من الذكر عند المعصية هو الذي تسميه الآية وسائر الاخبار بالنسيان لعدم ترتب آثار الذكر عليه، وللكلام بقايا سيجئ شطر منها. يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلوة إن الله مع الصابرين - 153. ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون - 154. ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشر لصابرين - 155. الذين إذا أصابتهم مصبية قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون - 156. أولئك عليهم صلوات من ربهم وأولئك هم المهتدون - 157.

[ 343 ]

(بيان) خمس آيات متحدة السياق، متسقة الجمل، ملتئمة المعاني، يسوق أولها إلى آخرها ويرجع آخرها إلى أولها، وهذا يكشف عن كونها نازلة دفعة غير متفرقة وسياقها ينادي بأنها نزلت قبيل الامر بالقتال وتشريع حكم الجهاد، ففيه ذكر من بلا سيقبل على المؤمنين، ومصيبة ستصيبهم، ولا كل بلاء ومصيب، بل البلاء العمومي الذي ليس بعادي الوقوع مستمر الحدوث، فإن نوع الانسان كسائر الانواع الموجودة في هذه النشأة الطبيعية لا يخلو في أفراده من حوادث، جزئية يختل بها نظام الفرد في حيوته الشخصية: من موت ومرض وخوف وجوع وغم وحرمان، سنة الله التي جرت في عباده وخلقه، فالدار دار التزاحم، والنشأة نشأة التبدل والتحول، ولن تجد لسنة الله تحويلا ولن تجد لسنة الله تبديلا. والبلاء الفردي وإن كان شاقا على الشخص المبتلى بذلك، مكروها، لكن ليس مهولا مهيبا تلك المهابة التى تترائى بها البلايا والمحن العامة، فإن الفرد يستمد في قوة تعقله وعزمه وثبات نفسه من قوى سائر الافراد، وأما البلايا العامة الشاملة فإنها تسلب الشعور العمومي وجملة الرأي والحزم والتدبير من الهيئة، المجتمعة، ويختل به نظام الحيوة منهم، فيتضاعف الخوف وتتراكم الوحشة ويضطرب عندها العقل والشعور وتبطل العزيمة والثبات، فالبلاء العام والمحنة الشاملة أشق وأمر، وهو الذي تلوح له الآيات. ولا كل بلاء عام كالوباء والقحط بل بلاء عام قربتهم منها أنفسهم، فإنهم أخذوا دين التوحيد، وأجابوا دعوة الحق، وتخالفهم فيه الدنيا وخاصة قومهم، وما لهؤلاء هم إلا إطفاء نور الله، واستيصال كلمة العدل، وإبطال دعوة الحق، ولا وسيلة تحسم مادة النزاع وتقطع الخلاف غير القتال، فسائر الوسائل كإقامة الحجة وبث الفتنة، وإلقاء الوسوسة والريبة وغيرها صارت بعد عقيمة غير منتجة، فالحجة مع النبي والوسوسة والفتنة والدسيسة ما كانت تؤثر أثرا تطمئن إليه أعداء الدين فلم يكن عندهم وسيلة إلا القتال والاستعانة به على سد سبيل الحق، وإطفاء نور الدين اللامع المشرق. هذا من جانب الكفر، والامر من جانب الدين أوضح، فلم يكن إلى نشر كلمة التوحيد،

[ 344 ]

وبث دين الحق، وحكم العدل، وقطع دابر الباطل وسيلة إلا القتال، فإن التجارب الممتد من لدن كان الانسان نازلا فيهذه الدار يعطي أن الحق إنما يؤثر إذا أميط الباطل، ولن يماط إلا بضرب من إعمال القدرة والقوة. وبالجملة ففي الآيات تلويح إلى إقبال هذه المحنة بذكر القتل في سبيل الله، وتوصيفه بوصف لا يبقى فيه معه جهي مكروهة، ولا صفة سوء، وهو أنه ليس بموت بل حيوة، وأي حيوة ! فالآيات تستنهض المؤمنين على القتال، وتخبرهم أن أمامهم بلاء ومحنة لن تنالوا مدارج المعالي، وصلوة ربهم ورحمته، والاهتداء بهدايته إلا بالصبر عليها، وتحمل مشاقها، ويعلمهم ما يستعينون به عليها، وهو الصبر والصلوة، أما الصبر: فهو وحده الوقاية من الجزع واختلال أمر التدبير، وأما الصلوة: فهي توجه إلى الرب، وانقطاع إلى من بيده الامر، وأن القوة لله جميعا. قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إستعينوا بالصبر والصلوة إن الله مع الصابرين الآية، قد تقدم جملة من الكلام في الصبر والصلوة في تفسير قوله: (واستعينوا بالصبر والصلوة وأنها لكبيرة إلا على الخاشعين) البقرة - 45، والصبر: من أعظم الملكات والاحوال التي يمدحها القرآن، ويكرر الامر به حتى بلغ قريبا من سبعين موضعا من القرآن حتى قيل فيه: (إن ذلك من عزم الامور) لقمان - 17، وقيل: (وما يلقيها إلا الذين صبروا وما يلقيها إلا ذو حظ عظيم) فصلت - 35، وقيل: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) الزمر - 10. والصلوة: من أعظم العبادات التي يحث عليها في القرآن حتى قيل فيها: (إن الصلوة تنهى عن الفحشاء والمنكر) العنكبوت - 45، وما أوصى الله في كتابه بوصايا إلا كانت الصلوة رأسها وأولها. ثم وصف سبحانه الصبر بأن الله مع الصابرين المتصفين بالصبر، وإنما لم يصف الصلوة، كما في قوله تعالى: (وأستعينوا بالصبر والصلوة وإنها لكبيرة الآية، لان المقام في هذه الآيات، مقام ملاقات الاهوال ومقارعة الابطال، فالاهتمام بأمر الصبر أنسب بخلاف الاية السابقة، فلذلك قيل: إن الله مع الصابرين، وهذه المعية غير المعية

[ 345 ]

التي يدل عليه قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم) الحديد - 4، فإنها معية الاحاطة والقيمومة، بخلاف المعية مع الصابرين، فإنها معية إعانة فالصبر مفتاح الفرج. قوله تعالى: ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون الاية، ربما يقال: إن الخطاب مع المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله واليوم الاخر وأذعنوا بالحيوة الاخرة، ولا يتصور منهم القول ببطلان الانسان بالموت، بعد ما أجابوا دعوة الحق وسمعوا شيئا كثيرا من الايات الناطقة بالمعاد، مضافا إلى أن الاية إنما تثبت الحيوة بعد الموت في جماعة مخصوصين، وهم الشهداء المقتولون في سبيل الله، في مقابل غيرهم من المؤمنين، وجميع الكفار، مع أن حكم الحيوة بعد الموت عام شامل للجميع فالمراد بالحيوة بقاء الاسم، والذكر الجميل على مر الدهور، وبذلك فسره جمع من المفسرين. ويرده أولا: أن كون هذه حيوة إنما هو في الوهم فقط دون الخارج، فهي حيوة تخيلية ليس لها في الحقيقة إلا الاسم، ومثل هذا الموضوع الوهمي لا يليق بكلامه، وهو تعالى يدعو إلى الحق، ويقول: (فما ذا بعد الحق إلا الضلال) يونس - 32، وأما الذي سئله إبراهيم في قوله (واجعل لي لسان صدق في الاخرين) الشعراء - 84، فإنما يريد به بقاء دعوته الحقة، ولسانه الصادق بعده، لا حسن ثنائه وجميل ذكره بعده فحسب. نعم هذا القول الباطل، والوهم الكاذب إنما يليق بحال المادين، وأصحاب الطبيعة، فإنهم اعتقدوا: مادية النفوس وبطلانها بالموت ونفوا الحيوة الآخرة ثم أحسوا بإحتياج الانسان بالفطرة إلى القول ببقاء النفوس وتأثرها بالسعادة والشقاء، بعد موتها في معالي أمور، لا تخلو في الارتقاء إليها من التفدية والتضحية، لا سيما في عظائم العزائم التي يموت ويقتل فيها أقوام ليحيي ويعيش آخرون، ولو كان كل من مات فقد فات لم يكن داع للانسان (وخاصة إذا اعتقد بالموت والفوت) أن يبطل ذاته ليبقى ذات آخرين، ولا باعث له أن يحرم على نفسه لذة الاستمتاع من جميع ما يقدر عليه بالجور ليتمتع آخرون بالعدل، فالعاقل لا يعطي شيئا إلا ويأخذ بدله وأما الاعطاء من غير بدل، والترك من غير أخذ، كالموت في سبيل حيوة الغير، والحرمان في طريق

[ 346 ]

تمتع الغير فالفطرة الانسانية تأباه، فلما استشعروا بذلك دعاهم جبر هذا النقص إلى وضع هذه الاوهام الكاذبة، التي ليس لها موطن إلا عرصة الخيال وحظيرة الوهم، قالوا إن الانسان الحر من رق الاوهام والخرافات يجب عليه أن يفدي بنفسه وطنه، أو كل ما فيه شرفه، لينال الحيوة الدائمة بحسن الذكر وجميل الثناء، ويجب عليه ان يحرم على نفسه بعض تمتعاته في الاجتماع ليناله الآخرون، ليستقيم أمر الاجتماع والحضارة، ويتم العدل الاجتماعي فينال بذلك حيوة الشرف والعلاء. وليت شعري إذا لم يكن إنسان، وبطل هذا التركيب المادي وبطل بذلك جميع خواصه، ومن جملتها الحيوة والشعور، فمن هو الذي ينال هذه الحيوة وهذا الشرف ؟ ومن الذي يدركه ويلتذ به ؟ فهل هذا إلا خرافة. ؟ وثانيا: ان ذيل الآية - وهو قوله تعالى: ولكن لا تشعرون، - لا يناسب هذا المعنى، بل كان المناسب له أن يقال: بل أحياء ببقاء ذكرهم الجميل، وثناء الناس عليهم بعدهم، لانه المناسب لمقام التسلية وتطييب النفس. وثالثا: أن نظيرة هذه الآية - وهي تفسرها - وصف حيوتهم بعد القتل بما ينافي هذا المعنى، قال تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) آل عمران - 196، إلى آخر الآيات ومعلوم أن هذه الحيوة حيوة خارجية حقيقية ليست بتقديرية. ورابعا: ان الجهل بهذه الحيوة التي بعد الموت ليس بكل البعيد من بعض المسلمين في اواسط عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن الذي هو نص غير قابل للتأويل انما هو البعث للقيمة، واما ما بين الموت إلى الحشر - وهي الحيوة البرزخية - فهي وان كانت من جملة ما بينه القرآن من المعارف الحقة، لكنها ليست من ضروريات القرآن، والمسلمون غير مجمعين عليه بل ينكره بعضهم حتى اليوم ممن يعتقد كون النفس غير مجردة عن المادة وان الانسان يبطل وجوده بالموت وانحلال التركيب، ثم يبعثه الله إلى القضاء يوم القيمة، فيمكن ان يكون المراد بيان حيوة الشهداء في البرزخ لمكان جهل بعض المؤمنين بذلك، وان علم به آخرون.

[ 347 ]

ولجملة: المراد بالحياة في الآية الحيوة الحقيقية دون التقديرية، وقد عد الله سبحانه حيوة الكافر بعد موته هلاكا وبوارا في مواضع من كلامه، كقوله تعالى: (واحلوا قومهم دار البوار) إبراهيم - 28، إلى غير ذلك من الايات، فالحياة حياة السعادة، والاحياء بهذه الحيوة المؤمنون خاصة كما قال: (وإن الدار الاخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) العنكبوت - 64، وانما لم يعلموا، لان حواسهم مقصورة على ادراك خواص الحيوة في المادة الدنيوية، وأما ما ورائها فإذا لم يدركوه لم يفرقوا بينه وبين الفناء فتوهموه فنائا، وما توهمه الوهم مشترك بين المؤمن والكافر في الدنيا، فلذلك قال: في هذه الآية، بل احياء ولكن لا تشعرون أي: بحواسكم، كما قال في الآية الاخرى: لهي الحيوان لو كانوا يعلمون، أي باليقين كما قال تعالى: (كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم) التكاثر - 6. فمعنى الآية - والله اعلم - ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات، ولاتعتقدوا فيهم الفناء والبطلان كما يفيده لفظ الموت عندكم، ومقابلته مع الحياة، وكما يعين على هذا القول حواسكم فليسوا باموات بمعنى البطلان، بل احياء ولكن حواسكم لا تنال ذلك ولا تشعر به، وإلقاء هذا القول على المؤمنين - مع انهم جميعا أو أكثرهم عالمون ببقاء حيوة الانسان بعد الموت، وعدم بطلان ذاته - انما هو لايقاظهم وتنبيههم بما هو معلوم عندهم، يرتفع بالالتفات إليه الحرج عن صدورهم، والاضطراب والقلق عن قلوبهم إذا أصابتهم مصيبة القتل، فانه لا يبقى مع ذلك من آثار القتل عند اولياء القتيل الا مفارقة في ايام قلائل في الدنيا وهو هين في قبال مرضاة الله سبحانه وما ناله القتيل من الحيوة الطيبة، والنعمة المقيمة، ورضوان من الله اكبر، وهذا نظير خطاب النبي بمثل قوله تعالى: الحق من ربك فلا تكونن من الممترين الاية، مع انه صلى الله عليه وآله وسلم اول الموقنين بآيات ربه، ولكنه كلام كني به عن وضوح المطلب، وظهوره بحيث لا يقبل أي خطور نفساني لخلافه. نشاة البرزخ فالاية تدل دلالة واضحة على حيوة الانسان البرزخية، كالاية النظيرة لها وهى

[ 348 ]

قوله: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون) آل عمران - 169، والايات في ذلك كثيرة. ومن اعجب الامر ما ذكره بعض الناس في الاية: انها نزلت في شهداء بدر، فهي مخصوصة بهم فقط، لا تتعداهم إلى غيرهم هذا، ولقد احسن بعض المحققين: من المفسرين في تفسير قوله: واستعينوا بالصبر والصلاة الاية، إذ سئل الله تعالى الصبر على تحمل أمثال هذه الاقاويل. وليت شعري ما ذا يقصده هؤلاء بقولهم هذا ؟ وعلى أي صفة يتصورون حيوة شهداء بدر بعد قتلهم مع قولهم: بانعدام الانسان بعد الموت والقتل، وانحلال تركيبه وبطلانه ؟ أهو على سبيل الاعجاز: باختصاصهم من الله بكرامة لم يكرم بها النبي الاكرم وسائر الانبياء والمرسلين والاولياء المقربين، إذ خصهم الله ببقاء وجودهم بعد الانعدام، فليس ذلك بإعجاز بل ايجاد محال ضروري الاستحالة، ولا إعجاز في محال، ولو جاز عند العقل إبطال هذا الحكم على بداهتها لم يستقم حكم ضروري فما دونه ؟ ام هو على نحو الاستثناء في حكم الحس بان يكون الحس مخطئا في أمر هؤلاء الشهداء ؟ فهم أحياء يرزقون بالاكل والشرب وسائر التمتعات - وهم غائبون عن الحس - وما ناله الحس من أمرهم بالقتل وقطع الاعضاء وسقوط الحس وانحلال التركيب فقد اخطأ في ذلك من رأس، فلو جاز على الحس أمثال هذه الاغلاط فيصيب في شئ ويغلط في آخر من غير مخصص بطل الوثوق به على الاطلاق، ولو كان المخصص هو الارادة الالهية احتاج تعلقها إلى مخصص آخر، والاشكال - وهو عدم الوثوق بالادراك على حاله، فكان من الجائز أن نجد ما ليس بواقع، واقعا والواقع ليس بواقع وكيف يرضى عاقل ان يتفوه بمثل ذلك ؟ وهل هو إلا سفسطة. وقد سلك هؤلاء في قولهم هذا مسلك العامة من المحدثين، حيث يرون أن الامور الغائبة عن حواسنا مما يدل عليه الظواهر الدينية من الكتاب والسنة، كالملائكة وارواح المؤمنين وساير ما هو من هذا القبيل موجودات مادية طبيعية، وأجسام لطيفة تقبل الحلول والنفوذ في الاجسام الكثيفة، على صورة الانسان ونحوه، يفعل جميع الافعال الانسانية مثلا، ولها امثال القوى التي لنا غير أنها ليست محكومة بأحكام

[ 349 ]

الطبيعة: من التغير والتبدل والتركيب وانحلاله، والحيوة والموت الطبيعيتين، فإذا شاء الله تعالى ظهورها ظهرت لحواسنا، وإذا لم يشأ أو شاء ان لا تظهر لم تظهر، مشية خالصة من غير مخصص في ناحية الحواس، أو تلك الاشياء. وهذا القول منهم مبني على انكار العلية والمعلولية، بين الاشياء ولو صحت هذه الامنية الكاذبة بطلت جميع الحقائق العقلية، والاحكام العلمية، فضلا عن المعارف الدينية ولم تصل النوبة إلى اجسامهم اللطيفة المكرمة التي لا تصل إليها يد التأثير والتأثر المادي الطبيعي، وهو ظاهر. فقد تبين بما مر: أن الآية دالة على الحيوة البرزخية، وهي المسماة بعالم القبر، عالم متوسط بين الموت والقيمة، ينعم فيه الميت أو يعذب حتى تقوم القيمة. ومن الآيات الدالة عليه وهي نظيرة لهذه الآية الشريفة - قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتيهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم الا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) آل عمران - 171، وقد مر تقريب دلالة الاية على المطلوب، ولو تدبر القائل باختصاص هذه الايات بشهداء بدر في متن الايات لوجد أن سياقها يفيد اشتراك سائر المؤمنين معهم في الحيوة. والتنعم بعد الموت. ومن الآيات قوله تعالى: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) المؤمنون - 100، والاية ظاهرة الدلالة على أن هناك حيوة متوسطة بين حيوتهم الدنيوية وحيوتهم بعد البعث: وسيجئ تمام الكلام في الاية إنشاء الله تعالى. ومن الايات قوله تعالى: (وقال الذين لا يرجون لقائنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة) (ومن المعلوم أن المراد به أول ما يرونهم وهو يوم الموت كما تدل عليه آيات أخر) (لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا. وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا. أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا. ويوم تشقق السماء الغمام

[ 350 ]

(وهو يوم القيمة) ونزل الملائكة تنزيلا. الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا) الفرقان - 26، ودلالتها ظاهرة. وسيأتي تفصيل القول فيها في محله إنشاء الله تعالى. ومن الآيات قوله تعالى: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل) المؤمن - 11، فهنا إلى يوم البعث - وهو يوم قولهم هذا - إماتتان وإحيائان، ولن تستقيم المعنى إلا بإثبات البرزخ، فيكون إماتة وأحياء في البرزخ وإحياء في يوم القيمة، ولو كان أحد الاحيائين في الدنيا والاخر في الاخرة لم يكن هناك إلا إماتة واحدة من غير ثانية، وقد مر كلام يتعلق بالمقام في قوله تعالى: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم) البقره - 28، فارجع. ومن الايات قوله تعالى: (وحاق بآل فرعون سوء العذاب. النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب) المؤمن - 46، إذ من المعلوم أن يوم القيمة لا بكرة فيه ولا عشى فهو يوم غير اليوم. والآيات التي تستفاد منها هذه الحقيقة القرآنية، أو تؤمي إليها كثيرة، كقوله تعالى: (تالله لقد أرسلنا إلى امم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم) النحل - 63، إلى غير ذلك. (تجرد النفس) ويتبين بالتدبر في الآية، وسائر الآيات التي ذكرناها حقيقة أخرى أوسع من ذلك، وهي تجرد النفس، بمعنى كونها أمرا وراء البدن وحكمها غير حكم البدن وسائر التركيبات الجسمية، لها نحو اتحاد بالبدن تدبرها بالشعور والارادة وسائر الصفات الادراكية، والتدبر في الآيات السابقة الذكر يجلي هذا المعنى فإنها تفيد أن الانسان بشخصه ليس بالبدن، لا يموت يموت البدن، ولا يفنى بفنائه، وانحلال تركيبه وتبدد أجزائه، وأنه يبقى بعد فناء البدن في عيش هنئ دائم، ونعيم مقيم، أو في شقاء لازم، وعذاب أليم، وأن سعادته في هذه العيشة، وشقائه فيها مرتبطة بسنخ ملكاتة وأعماله، لا بالجهات الجسمانية والاحكام الاجتماعية.

[ 351 ]

فهذه معان تعطيها هذه الآيات الشريفة، وواضح أنها أحكام تغاير الاحكام الجسمانية، وتتنافى الخواص المادية الدنيوية من جميع جهاتها، فالنفس الانسانية غير البدن. ومما يدل عليه من الايات قوله تعالى: (الله يتوفى الانفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الاخرى) الزمر - 42، والتوفي والاستيفاء هو أخذ الحق بتمامه وكماله، وما تشتمل عليه الاية: من الاخذ والامساك والارسال ظاهر في المغايرة بين النفس والبدن. ومن الآيات قوله تعالى: (وقالوا أئذا ضللنا في الارض أئنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون) السجدة - 11، ذكر سبحانه شبهة من شبهات الكفار المنكرين للمعاد، وهو انا بعد الموت وانحلال تركيب أبداننا تتفرق أعضاؤنا، وتبدد أجزاؤنا، وتتبدل صورنا فنضل في الارض، ويفقدنا حواس المدركين، فكيف يمكن أن نقع ثانيا في خلق جديد ؟ وهذا استبعاد محض، وقد لقن تعالى على رسوله الجواب عنه، بقوله: قل: يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم الاية، وحاصل الجواب أن هناك ملكا موكلا بكم هو يتوفيكم ويأخذكم، ولا يدعكم تضلوا وأنتم في قبضته وحفاظته، وما تضل في الارض إنما هو أبدانكم لا نفوسكم التي هي المدلول عليها بلفظ، كم، فإنه يتوفيكم. ومن الآيات قوله تعالى: (ونفخ فيه من روحه الاية) السجدة - 9، ذكره في خلق الانسان ثم قال تعالى: (يسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربى) الاسراء - 85، فأفاد أن الروح من سنخ أمره، ثم عرف الامر في قوله تعالى: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ) يس - 83، فأفاد أن الروح من الملكوت، وأنها كلمة، كن، ثم عرف الامر بتوصيفه بوصف آخر بقوله: (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) القمر - 50، والتعبير بقوله: كلمح بالبصر يعطي أن الامر الذي هو كلمة، كن، موجود دفعي الوجود غير تدريجية، فهو يوجد من غير اشتراط وجوده وتقييده بزمان أو مكان، ومن هنا يتبين أن الامر - ومنه الروح شئ غير جسماني ولا مادي، فإن الموجودات المادية الجسمانية من

[ 352 ]

أحكامها العامة أنها تدريجية الوجود، مقيدة بالزمان والمكان، فالروح التي للانسان ليست بمادية جسمانية، وإن كان لها تعلق بها. وهناك آيات تكشف عن كيفية هذا التعلق، فقد قال تعالى: (منها خلقناكم) طه - 55، وقال تعالى: خلق الانسان من صلصال كالفخار) الرحمن - 14، وقال تعالى (وبدا خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين) السجدة - 8، ثم قال: سبحانه وتعالى (ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم انشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) المؤمنون - 14، فأفاد أن الانسان لم يكن إلا جسما طبيعيا يتوارد عليه صور مختلفة متبدلة، ثم أنشأ الله هذا الذي هو جسم جامد خامد خلقا آخر ذا شعور وإرادة، يفعل أفعالا: من الشعور والاردة والفكر والتصرف في الاكوان، والتدبير في امور العالم بالنقل والتبديل والتحويل إلى غير ذلك مما لا يصدر عن الاجسام والجسمانيات، فلا هي جسمانية، ولا موضوعها الفاعل لها. فالنفس بالنسبة إلى الجسم الذي ينتهي أمره إلى إنشائها - وهو البدن الذي تنشأ منه النفس - بمنزلة الثمرة من الشجرة والضوء من الدهن بوجه بعيد، وبهذا يتضح كيفية تعلقها بالبدن ابتداعا، ثم بالموت تنقطع العلقة، وتبطل المسكة، فهي في أول وجودها عين البدن، ثم تمتاز بالانشاء منه، ثم تستقل عنه بالكلية فهذا ما تفيده الايات الشريفة المذكورة بظهورها: وهناك آيات كثيرة تفيد هذه الحقيقة بالايماء والتلويح، يعثر عليها المتدبر البصير، والله الهادي. قوله تعالى: ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات، لما أمرهم الله بالاستعانة بالصبر والصلوة ونهاهم عن القول بموت من يقتل منهم في سبيل الله بل هم أحياء بين لهم السبب الذي من أجله خاطبهم بما خاطب، وهو أنهم سيبتلون بما لا يتمهد لهم المعالي ولا يصفو لهم الامر في الحيوة الشريفة والدين الحنيف إلا به، وهو الحرب والقتال، لا يدور رحى النصر والظفر على مرادهم إلا أن يتحصنوا بهذين الحصنين ويتأيدوا بهاتين القوتين، وهما الصبر والظفر، ويضيفوا إلى ذلك ثالثا وهو خصلة ما حفظها قوم إلا ظفروا بأقصى مرادهم وحازوا الغاية

[ 353 ]

القصوى من كمالهم، واشتد بأسهم وطابت نفسهم، وهو الايمان بأن القتيل منهم غير ميت ولا فقيد، وأن سعيهم بالمال والنفس غير ضائع ولا باطل، فإن قتلوا عدوهم فهم على الحيوة، وقد أبادوا عدوهم وما كان يريده من حكومة الجور والباطل عليهم - وإن قتلهم عدوهم فهم على الحيوة - ولم يتحكم الجور والباطل عليهم، فلهم إحدى الحسنيين على أي حال. وعامة الشدائد التي يأتي بها هو الخوف والجوع ونقص الاموال والانفس فذكرها الله تعالى، وأما الثمرات فالظاهر أنها الاولاد فإن تأثير الحرب في قلة النسل بموت الرجال والشبان أظهر من تأثيره في نقص ثمرات الاشجار، وربما قيل: إن المراد ثمرات النخيل، وهي التمر والمراد بالاموال غيرها وهي الدواب من الابل والغنم. قوله تعالى: وبشر الصابرين الذين إذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا إليه راجعون، اعاد ذكر الصابرين ليبشرهم اولا، ويبين كيفية الصبر بتعليم ما هو الصبر الجميل ثانيا، ويظهر به حق الامر الذي يقضي بوجوب الصبر وهو ملكه تعالى للانسان - ثالثا، ويبين جزائه العام - وهو الصلوة والرحمة والاهتداء - رابعا، فأمر تعالى نبيه اولا بتبشيرهم، ولم يذكر متعلق البشارة لتفخيم امره فانها من الله سبحانه فلا تكون الا خيرا وجميلا، وقد ضمنها رب العزة، ثم بين ان الصابرين هم الذين يقولون: كذا وكذا عند إصابة المصيبة وهي الواقعة التي تصيب الانسان، ولا يستعمل لفظ المصيبة الا في النازلة المكروهة، ومن المعلوم ان ليس المراد بالقول مجرد التلفظ بالجملة من غير حضور معناها بالبال، ولا مجرد الاخطار من غير تحقق بحقيقة معناها، وهي أن الانسان مملوك لله بحقيقة الملك، وان مرجعه إلى الله سبحانه وبه يتحقق أحسن الصبر الذي يقطع منابت الجزع والاسف، ويغسل رين الغفلة. بيانه أن وجود الانسان وجميع ما يتبع وجودة، من قواه وأفعاله قائم الذات بالله الذي هو فاطره وموجده فهو قائم به مفتقر ومستند إليه في جميع أحواله من حدوث وبقاء غير مستقل دونه، فلربه التصرف فيه كيف شاء وليس للانسان من

[ 354 ]

الامر شئ إذ لا استقلال له بوجه أصلا فله الملك في وجوده وقواه وأفعاله حقيقة. ثم إنه تعالى ملكه بالاذن نسبة ذاته، ومن هناك يقال: للانسان وجود، وكذا نسبة قواه وأفعاله ومن هناك يقال: للانسان قوى كالسمع والبصر، ويقال: للانسان أفعال كالمشى والنطق، والاكل والشرب، ولو لا الاذن الالهي لم يملك الانسان ولا غيره من المخلوقات نسبة من هذه النسب الظاهرة، لعدم استقلال في وجودها من دون الله أصلا. وقد أخبر سبحانه: أن الاشياء سيعود إلى حالها قبل الاذن ولا يبقي ملك إلا لله وحده، قال تعالى: (لمن الملك اليوم. لله الواحد القهار) المؤمن - 16، وفيه رجوع الانسان بجميع ما له ومعه إلى الله سبحانه. فهناك ملك حقيقي هو لله سبحانه لا شريك له فيه، لا الانسان ولا غيره، وملك ظاهري صوري كملك الانسان نفسه وولده وماله وغير ذلك، وهو لله سبحانه حقيقة، وللانسان بتمليكه تعالى في الظاهر مجازا، فإذا تذكر الانسان حقيقة ملكه تعالى، ونسبه إلى نفسه فوجد نفسه ملكا طلقا لربه، وتذكر أيضا ان الملك الظاهري فيما بين الانسان ومن جملتها ملك نفسه لنفسه وماله وولده سيبطل فيعود راجعا إلى ربه وجد أنه بالاخرة لا يملك شيئا أصلا لا حقيقة ولا مجازا، وإذا كان كذلك لم يكن معنى للتأثر عن المصائب الموجبة للتأثر عند إصابتها فإن التأثر إنما يكون من جهة فقد الانسان شيئا مما يملكه، حتى يفرح بوجدانه، ويحزن بفقدانه، وأما إذا أذعن واعتقد أنه لا يملك شيئا لم يتأثر ولم يحزن، وكيف يتأثر من يؤمن بأن الله له الملك وحده يتصرف في ملكه كيف يشاء ؟ (الاخلاق) إعلم أن إصلاح أخلاق النفس وملكاتها في جانبي العلم والعمل، واكتساب الاخلاق الفاضلة، وإزالة الاخلاق الرذيلة انما هو بتكرار الاعمال الصالحة المناسبة لها ومزاولتها، والمداومة عليها، حتى تثبت في النفس من الموارد الجزئية علوم جزئية، وتتراكم وتنتقش في النفس انتقاشا متعذر الزوال أو متعسرها، مثلا إذا أراد الانسان

[ 355 ]

إزالة صفة الجبن واقتناء ملكة الشجاعة كان عليه أن يكرر الورود في الشدائد والمهاول التي تزلزل القلوب وتقلقل الاحشاء، وكلما ورد في مورد منها وشاهد أنه كان يمكنه الورود فيه وأدرك لذة الاقدام وشناعة الفرار والتحذر انتقشت نفسه بذلك انتقاشا بعد انتقاش حتى تثبت فيها ملكة الشجاعة، وحصول هذه الملكة العلمية وإن لم يكن في نفسه بالاختيار لكنه بالمقدمات الموصلة إليه كما عرفت اختياري كسبي. إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن الطريق إلى تهذيب الاخلاق واكتساب الفاضلة منها أحد مسلكين: المسلك الاول: تهذيبها بالغايات الصالحة الدنيوية، والعلوم والآراء المحمودة عند الناس كما يقال: إن العفة وقناعة الانسان بما عنده والكف عما عند الناس توجب العزة والعظمة في أعين الناس والجاه عند العامة، وإن الشره يوجب الخصاصة والفقر، وإن الطمع يوجب ذلة النفس المنيعة، وإن العلم يوجب إقبال العامة والعزة والوجاهة والانس عند الخاصة، وإن العلم بصر يتقى به الانسان كل مكروه، ويدرك كل محبوب وإن الجهل عمى، وإن العلم يحفظك وانت تحفظ المال، وإن الشجاعة ثبات يمنع النفس عن التلون والحمد من الناس على أي تقدير سواء غلب الانسان أو غلب عليه بخلاف الجبن والتهور، وإن العدالة راحة النفس عن الهمم المؤذية، وهي الحيوة بعد الموت ببقاء الاسم وحسن الذكر وجميل الثناء والمحبة في القلوب. وهذا هو المسلك المعهود الذي رتب عليه علم الاخلاق، والمأثور من بحث الاقدمين من يونان وغيرهم فيه. لم يستعمل القرآن هذا المسلك الذي بنائه على انتخاب الممدوح عند عامة الناس عن المذموم عندهم، والاخذ بما يستحسنه الاجتماع وترك ما يستقبحه، نعم ربما جرى عليه كلامه تعالى فيما يرجع بالحقيقة إلى ثواب أخروي أو عقاب أخروي كقوله تعالى: (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة) البقرة - 150، دعا سبحانه إلى العزم والثبات، وعلله بقوله: لئلا يكون، وكقوله تعالى (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا) الانفال - 46، دعا سبحانه إلى الصبر وعلله بأن تركه وإيجاد النزاع يوجب الفشل وذهاب الريح وجرئة العدو، وقوله تعالى (ولمن

[ 356 ]

صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الامور) الشورى - 43، دعا إلى الصبر العفو، وعلله بالعزم و الاعظام. المسلك الثاني: الغايات الاخروية، وقد كثر ذكرها في كلامه تعالى كقوله سبحانه (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) التوبة - 111، وقوله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) الزمر - 10، وقوله تعالى: (إن الظالمين لهم عذاب أليم) إبراهيم - 22، وقوله تعالى: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) البقرة - 257، وأمثالها كثيرة على اختلاف فنونها. ويلحق بهذا القسم نوع آخر من الآيات كقوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير) فإن الآية دعت إلى ترك الاسى والفرح بأن الذي أصابكم ما كان ليخطئكم وما أخطاكم ما كان ليصيبكم لاستناد الحوادث إلى قضاء مقضى وقدر مقدر، فالاسى والفرح لغو لا ينبغي صدوره من مؤمن يؤمن بالله الذي بيده أزمة الامور كما يشير إليه قوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه) فهذا القسم من الآيات أيضا نظير القسم السابق الذي يتسبب فيه إلى إصلاح الاخلاق بالغايات الشريفة الاخروية، وهي كمالات حقيقية غير ظنية يتسبب فيه إلى إصلاح الاخلاق بالمبادئ السابقة الحقيقية من القدر والقضاء والتخلق بأخلاق الله والتذكر بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا ونحو ذلك. فان قلت: التسبب بمثل القضاء والقدر يوجب بطلان أحكام هذه النشأة الاختيارية وفي ذلك بطلان الاخلاق الفاضلة واختلال نظام هذه النشأة الطبيعية، فإنه لو جاز الاستناد في إصلاح صفة الصبر والثبات وترك الفرح والاسى كما استفيد من الآية السابقة إلى كون الحوادث مكتوبة في لوح محفوظ، ومقضية بقضاء محتوم أمكن الاستناد إلى ذلك في ترك طلب الرزق، وكسب كل كمال مطلوب، والاتقاء عن كل رذيلة خلقية وغير ذلك، فيجوز حينئذ أن نقعد عن طلب الرزق، والدفاع عن الحق، ونحو ذلك بأن الذي سيقع منه مقضي مكتوب، وكذا يجوز أن نترك السعي

[ 357 ]

في كسب كل كمال، وترك كل نقص بالاستناد إلى حتم القضاء وحقيقة الكتاب، وفي ذلك بطلان كل كمال. قلت: قد ذكرنا في البحث عن القضاء، ما يتضح به الجواب عن هذا الاشكال، فقد ذكرنا ثم أن الافعال الانسانية من أجزاء علل الحوادث، ومن المعلوم أن المعاليل والمسببات يتوقف وجودها على وجود أسبابها وأجزاء أسبابها، فقول القائل: إن الشبع إما مقضي الوجود، وإما مقضي العدم، وعلى كل حال فلا تأثير للاكل غلط فاحش، فإن الشبع فرض تحققه في الخارج لا يستقيم إلا بعد فرض تحقق الاكل الاختياري الذي هو أحد أجزاء علله، فمن الخطآ أن يفرض الانسان معلولا من المعاليل، ثم يحكم بإلغاء علله أو شئ من أجزاء علله. فغير جايز أن يبطل الانسان حكم الاختيار الذي عليه مدار حيوته الدنيوية وإليه تنتسب سعادته وشقائة، وهو أحد أجزاء علل الحوادث التي تلحق وجوده من أفعاله أو الاحوال والملكات الحاصلة من إفعاله، غير أنه كما لا يجوز له إخراج إرادته واختياره من زمرة العلل، وإبطال حكمه في التأثير، كذلك لا يجوز له أن يحكم بكون اختياره سببا وحيدا، وعلة تامة إليه تستند الحواد، من غير أن يشاركه شئ آخر من أجزاء العالم والعلل الموجودة فيه التي في رأسها الارادة الالهية فإنه يتفرع عليه كثير من الصفات المذمومة كالعجب والكبر والبخل، والفرح والاسى، والغم ونحو ذلك. يقول الجاهل: أنا الذي فعلت كذا وتركت كذا فيعجب بنفسه أو يستكبر على غيره أو يبخل بماله - وهو جاهل بأن بقية الاسباب الخارجة عن اختياره الناقص، وهي ألوف والوف لو لم يمهد له الامر لم يسد اختياره شيئا، ولا أغني عن شئ - يقول الجاهل: لو أني فعلت كذا لما تضررت بكذا، أو لما فات عني كذا، وهو جاهل بأن هذا الفوت أو الموت يستند عدمه - أعني الربح أو العافية، أو الحيوة - إلى ألوف وألوف من العلل يكفي في انعدامها - أعني في تحقق الفوات أو الموت - انعدام واحد منها، وإن كان اختياره موجودا، على أن نفس اختيار الانسان مستند إلى علل كثيرة خارجة عن اختيار الانسان فالاختيار لا يكون بالاختيار.

[ 358 ]

فإذا عرفت ما ذكرنا وهو حقيقة قرآنية يعطيها التعليم الالهي كما مر، ثم تدبرت في الآيات الشريفة التي في المورد وجدت أن القرآن يستند إلى القضاء المحتوم والكتاب المحفوظ في إصلاح بعض الاخلاق دون بعض. فما كان من الافعال أو الاحوال والملكات يوجب استنادها إلى القضاء والقدر إبطال حكم الاختيار فإن القرآن لا يستند إليه، بل يدفعه كل الدفع كقوله تعالى: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليه آبائنا والله أمرنا بها قل ان الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون) الاعراف - 28. وما كان منها يوجب سلب استنادها إلى القضاء إثبات استقلال اختيار الانسان في التأثير، وكونه سببا تاما غير محتاج في التأثير، ومستغنيا عن غيره، فإنه يثبت إستناده إلى القضاء ويهدي الانسان إلى مستقيم الصراط الذي لا يخطئ بسالكه، حتى ينتفي عنه رذائل الصفات التي تتبعه كإسناد الحوادث إلى القضاء كي لا يفرح الانسان بما وجده جهلا، ولا يحزن بما فقده جهلا كما في قوله تعالى: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) النور - 33، فإنه يدعو إلى الجود بإسناد المال إلى إيتاء الله تعالى، وكما في قوله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون) البقرة - 3، فإنه يندب إلى الانفاق بالاستناد إلى أنه من رزق الله تعالى، وكما في قوله تعالى: فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) الكهف - 7، نهى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحزن والغم استنادا إلى أن كفرهم ليس غلبة منهم على الله سبحانه بل ما على الارض من شئ أمور مجعولة عليها للابتلاء والامتحان إلى غير ذلك. وهذا المسلك أعنى الطريقة الثانية في إصلاح الاخلاق طريقة الانبياء، ومنه شئ كثير في القرآن، وفيما ينقل إلينا من الكتب السماوية. وهيهنا مسلك ثالث مخصوص بالقرآن الكريم لا يوجد في شئ مما نقل إلينا من الكتب السماوية، وتعاليم الانبياء الماضين سلام الله عليهم أجمعين، ولا في المعارف المأثورة من الحكماء الالهيين، وهو تربية الانسان وصفا وعلما باستعمال علوم ومعارف لا يبقى معها موضوع الرذائل، وبعبارة أخرى إزالة الاوصاف الرذيلة بالرفع لا بالدفع.

[ 359 ]

وذلك كما أن كل فعل يراد به غير الله سبحانه فالغاية المطلوبة منه إما عزة في المطلوب يطمع فيها، أو قوة يخاف منها ويحذر عنها، لكن الله سبحانه يقول: (إن العزة لله جميعا) يونس - 65، ويقول: (أن القوة لله جميعا) البقرة - 165، والتحقق بهذا العلم الحق لا يبقى موضوعا لرياء، ولا سمعة، ولا خوف من غير الله، ولا رجاء لغيره، ولا ركون إلى غيره، فهاتان القضيتان إذا صارتا معلومتين للانسان تغسلان كل ذميمة وصفا أو فعلا عن الانسان وتحليان نفسه بحلية ما يقابلها من الصفات الكريمة الالهية من التقوى بالله، والتعزز بالله وغيرهما من مناعة وكبرياء واستغناء وهيبة إلهية ربانية. وأيضا قد تكرر في كلامه تعالى: أن الملك لله، وأن له ملك السموات والارض وأن له ما في السموات والارض وقد مر بيانه مرارا، وحقيقة هذا الملك كما هو ظاهر لا تبقى لشئ من الموجودات استقلالا دونه، واستغناء عنه بوجه من الوجوه، فلا شئ إلا وهو سبحانه المالك لذاته ولكل ما لذاته، وإيمان الانسان بهذا الملك وتحققه به يوجب سقوط جميع الاشياء ذاتا ووصفا وفعلا عنده عن درجة الاستقلال، فهذا الانسان لا يمكنه أن يريد غير وجهه تعالى، ولا أن يخضع لشئ، أو يخاف أو يرجو شيئا، أو يلتذ أو يبتهج بشئ، أو يركن إلى شئ أو يتوكل على شئ أو يسلم لشئ أو يفوض إلى شئ، غير وجهه تعالى، وبالجملة لا يريد ولا يطلب شيئا الا وجهه الحق الباقي بعد فناء كل شئ، ولا يعرض إعراضا ولا يهرب إلا عن الباطل الذي هو غيره الذي لا يرى لوجوده وقعا ولا يعبأ به قبال الحق الذي هو وجود باريه جل شأنه. وكذلك قوله تعالى: الله لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى) طه - 8، وقوله: (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ) الانعام - 102، وقوله: (الذي أحسن كل شئ خلقه) السجدة - 7، وقوله: (وعنت الوجوه للحي القيوم) طه - 111، وقوله: (كل له قانتون) البقرة - 116، وقوله: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) الاسراء - 23، وقوله: (أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد) فصلت - 53، وقوله: (إلا إنه بكل شئ محيط) فصلت - 54، وقوله: (وان إلى ربك المنتهى) النجم - 42. ومن هذا الباب الآيات التي نحن فيها وهي قوله تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) إلى آخرها فإن هذه الآيات وأمثالها

[ 360 ]

مشتملة على معارف خاصة إلهية ذات نتائج خاصة حقيقية لا تشابه تربيتها نوع التربية التي يقصدها حكيم أخلاقي في فنه، ولا نوع التربية التي سنها الانبياء في شرائعهم، فإن المسلك الاول كما عرفت مبني على العقائد العامة الاجتماعية في الحسن والقبح والمسلك الثاني مبني على العقائد العامة الدينية في التكاليف العبودية ومجازاتها، وهذا المسلك الثالث مبني على التوحيد الخالص الكامل الذي يختص به الاسلام على مشرعه وآله أفضل الصلوة هذا. فإن تعجب فعجب قول بعض المستشرقين من علماء الغرب في تاريخه الذي يبحث فيه عن تمدن الاسلام وحاصله: أن الذي يجب للباحث أن يعتني به هو البحث عن شؤن المدنية التي بسطتها الدعوة الدينية الاسلامية بين الناس من متبعيها، والمزايا والخصائص التي خلفها وورثها فيهم من تقدم الحضارة وتعالي المدنية، وأما المعارف الدينية التي يشتمل عليها الاسلام فهي مواد أخلاقية يشترك فيها جميع النبوات، ويدعو إليها جميع الانبياء هذا. وأنت بالاحاطة بما قدمناه من البيان تعرف سقوط نظره، وخبط رأيه فإن النتيجة فرع لمقدمتها، والآثار الخارجية المترتبة على التربية إنما هي مواليد ونتائج لنوع العلوم والمعارف التي تلقاها المتعلم المتربي، وليسا سواء قول يدعو إلى حق نازل وكمال متوسط وقول يدعو إلى محض الحق وأقصى الكمال، وهذا حال هذا المسلك الثالث، فأول المسالك يدعو إلى الحق الاجتماعي، وثانيها يدعو إلى الحق الواقعي والكمال الحقيقي الذي فيه سعادة الانسان في حيوتة لآخرة، وثالثها يدعو إلى الحق الذي هو الله، ويبني تربيته على أن الله سبحانه واحد لا شريك له، وينتج العبودية المحضة، وكم بين المسالك من فرق ! وقد أهدى هذا المسلك إلى الاجتماع الانساني جما غفيرا من العباد الصالحين، والعلماء الربانيين، والاولياء المقربين رجالا ونساء، وكفى بذلك شرفا للدين. على أن هذا المسلك ربما يفترق عن المسلكين الآخرين بحسب النتائج، فإن بنائه على الحب العبودي، وايثار جانب الرب على جانب العبد، ومن المعلوم أن الحب والوله والتيم ربما يدل الانسان المحب على امور لا يستصوبه العقل الاجتماعي الذي هو ملاك

[ 361 ]

خلاق الاجتماعية، أو الفهم العام العادي الذي هو إساس التكاليف العامة الدينية، فللعقل أحكام، وللحب إحكام، وسيجئ توضيح هذا المعنى في بعض الابحاث الآتية إنشاء الله تعالى. قوله تعالى: أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون الآية. التدبر في الآية يعطي أن الصلوة غير الرحمة بوجه، ويشهد به جمع الصلوة وإفراد الرحمة وقد قال تعالى: (هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما) الاحزاب - 43، والآية تفيد كون قوله: (وكان بالمؤمنين رحيما، في موقع العلة لقوله: هو الذي يصلي عليكم، والمعنى انه انما يصلي عليكم، وكان من اللازم المترقب ذلك، لان عادته جرت على الرحمة بالمؤمنين، وأنتم مؤمنون فكان من شأنكم أن يصلي عليكم حتى يرحمكم، فنسبة الصلوة إلى الرحمة نسبة المقدمة إلى ذيها وكالنسبة التي بين الالتفات والنظر، والتى بين الالقاء في النار والاحراق مثلا، وهذا يناسب ما قيل في معنى الصلوة: أنها الانعطاف والميل، فالصلوة من الله سبحانه إنعطاف إلى العبد بالرحمة ومن الملائكة إنعطاف إلى الانسان بالتوسط في إيصال الرحمة، ومن المؤمنين رجوع ودعاء بالعبودية وهذا لا ينافي كون الصلوة بنفسها رحمة ومن مصاديقها، فإن الرحمة في القرآن على ما يعطيه التدبرفي مواردها هي العطية المطلقة الالهية، والموهبة العامة الربانية، كما قال تعالى: (ورحمتي وسعت كل شئ) الاعراف - 156، وقال تعالى: (وربك الغني ذو الرحمة إن يشا يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشاكم من ذرية قوم آخرين) الانعام - 133، فالاذهاب لغناه والاستخلاف والانشاء لرحمتة، وهما جميعا يستندان إلى رحمته كما يستندان إلى غناه فكل خلق وأمر رحمة، كما أن كل خلق وأمر عطية تحتاج إلى غني، قال تعالى: (وما كان عطاء ربك محظورا) الاسراء - 20، وإن عطيته الصلوة فهي أيضا من الرحمة غير أنها رحمة خاصة، ومن هنا يمكن أن يوجه جمع الصلوة وإفراد الرحمة في الآية. قوله تعالى: وأولئك هم المهتدون كأنه بمنزلة النتيجة لقوله: أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، ولذلك جدد اهتدائهم جملة ثانية مفصولة عن الاولى، ولم يقل: صلوات من ربهم ورحمة وهداية، ولم يقل: واولئك هم المهديون بل ذكر قبولهم للهداية بالتعبير بلفظ الاهتداء الذي هو فرع مترتب على الهداية، فقد تبين

[ 362 ]

أن الرحمة هدايتهم إليه تعالى، والصلوات كالمقدمات لهذه الهداية واهتدائهم نتيجة هذه الهداية، فكل من الصلوة والرحمة والاهتداء غير الآخر وإن كان الجميع رحمة بنظر آخر. فمثل هؤلاء المؤمنين في ما يخبره الله من كرامته عليهم مثل صديقك تلقاه وهو يريد دارك، ويسئل عنها يريد النزول بك فتلقاه بالبشر والكرامة، فتورده مستقيم الطريق وأنت معه تسيره، ولا تدعه يضل في مسيره حتى تورده نزله من دارك وتعاهده في الطريق بمأكله ومشربه، وركوبه وسيره، وحفظه من كل مكروه يصيبه فجميع هذه الامور إكرام واحد لانك إنما تريد إكرامه، وكل تعاهد تعاهد وإكرام خاص والهداية غير الاكرام، وغير التعاهد، وهو مع ذلك إكرام فكل منها تعاهد وكل منها هداية وكل منها إكرام خاص، والجميع إكرام، فالاكرام الواحد العام بمنزلة الرحمة والتعاهدات في كل حين بمنزلة الصلوات، والنزول في الدار بمنزلة الاهتداء. والاتيان بالجملة الاسمية في قوله: واولئك هم المهتدون، والابتداء باسم الاشاره الدال على البعيد، وضمير الفصل ثانيا وتعريف الخبر بلام الموصول في قوله: المهتدون كل ذلك لتعظيم أمرهم وتفخيمه - والله أعلم -. (بحث روائي) في البرزخ وحيوة الروح بعد الموت في تفسير القمي عن سويد بن غفلة عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: إن ابن آدم إذا كان في آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة مثل له ماله وولده وعمله، فيلتفت إلى ماله فيقول: والله إني كنت عليك لحريصا شحيحا، فما لي عندك ؟ فيقول: خذ مني كفنك، ثم يلتفت إلى ولده فيقول: والله إني كنت لكم لمحبا، وإني كنت عليكم لحاميا، فما ذا لي عندكم ؟ فيقولون: نؤديك إلى حفرتك ونواريك فيها، ثم يلتفت إلى عمله فيقول: والله إني كنت فيك لزاهدا، وإنك كنت علي لثقيلا، فما ذا عندك ؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك، ويوم حشرك، حتى أعرض أنا وأنت على ربك، فإن

[ 363 ]

كان لله وليا أتاه أطيب الناس ريحا وأحسنهم منظرا، وأزينهم رياشا، فيقول: بشر بروح من الله وريحان وجنة نعيم، قد قدمت خير مقدم، فيقول: من أنت ؟ فيقول: أنا عملك الصالح، ارتحل من الدنيا إلى الجنة، وإنه ليعرف غاسلة، ويناشد حامله أن يعجله. فإذا دخل قبره أتاه ملكان، وهما فتانا القبر، يحبران أشعارهما، ويحبران الارض بأنيابهما، وأصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف، فيقولان له: من ربك، ومن نبيك ؟ وما دينك ؟ فيقول: الله ربي، ومحمد نبيي، والاسلام ديني، فيقولان: ثبتك الله فيما تحب وترضى، وهو قول الله: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا الآية، فيفسحان له في قبره مد بصره، ويفتحان له بابا إلى الجنة، ويقولان: نم قرير العين نوم الشاب الناعم، وهو قوله: أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا. وإذا كان لربه عدوا فإنه يأتيه أقبح خلق الله رياشا، وأنتنه ريحا، فيقول له أبشر بنزل من حميم، وتصميه جحيم، وإنه ليعرف غاسله، ويناشد حامله أن يحبسه، فإذا أدخل قبره أتيا ممتحنا القبر، فألفيا عنه أكفانه ثم قالا له، من ربك ؟ ومن نبيك ؟ وما دينك ؟ فيقول: لا أدري فيقولان له: ما دريت ولا هديت، فيضربانه بمرزبه ضربة، ما خلق الله دابة إلا وتذعر لها ما خلا الثقلان، ثم يفتحان له بابا إلى النار، ثم يقولان له: نم بشر حال، فيبوء من الضيق مثل ما فيه القنا من الزج، حتى أن دماغه يخرج من بين ظفره ولحمه، ويسلط الله عليه حيات الارض وعقاربها وهوامها تنهشه حتى يبعثه الله من قبره، وأنه ليتمنى قيام الساعة مما هو فيه من الشر. وفي منتخب البصائرعن أبي بكر الحضرمي عن أبي جعفر عليه السلام قال: لا يسئل في القبر إلا من محض الايمان محضا، أو محض الكفر محضا فقلت له: فسائر الناس ؟ فقال: يلهى عنهم. وفي أمالي الشيخ عن ابن ظبيان قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فقال: ما يقول الناس في أرواح المؤمنين بعد موتهم ؟ قلت: يقولون في حواصل طيور خضر ؟ فقال: سبحان الله، المؤمن أكرم على الله من ذلك ! إذا كان ذلك أتاه رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليه السلام، ومعهم ملائكة الله عز وجل المقربون، فان

[ 364 ]

أنطق الله لسانه بالشهادة له بالتوحيد، وللنبي بالنبوة، والولاية لاهل البيت، شهد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام والملائكة المقربون معهم وإن اعتقل لسانه خص الله نبيه بعلم ما في قلبمن ذلك، فشهد به، وشهد على شهادة النبي: علي وفاطمة والحسن والحسين - على جماعتهم من الله أفضل السلام - ومن حضر معهم من الملائكة فإذا قبضه الله إليه صير تلك الروح إلى الجنة، في صورة كصورته، فيأكلون ويشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفهم بتلك الصورة التي كانت في الدنيا. وفي المحاسن عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ذكر الارواح، أرواح المؤمنين فقال يلتقون، قلت: يلتقون ؟ قال: نعم يتسائلون و يتعارفون حتى إذا رأيته قلت: فلان. وفي الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن المؤمن ليزور أهله فيرى ما يحب، ويستر عنه ما يكره، وإن الكافر ليزور أهله، فيرى ما يكره، ويستر عنه ما يحب، قال: منهم من يزور كل جمعه، ومنهم من يزور على قدر عمله. وفي الكافي عن الاصادق عليه السلام: أن الارواح في صفة الاجساد في شجر من الجنة، تعارف وتسائل، فإذا قدمت الروح على الارواح تقول: دعوها، فإنها قد أقبلت من هول عظيم ثم يسئلونها ما فعل فلان، وما فعل فلان، فإن قالت لهم: تركته حيا ارتجوه، وإن قالت لهم: قد هلك، قالوا: قد هوى هوى اقول: والروايات في باب البرزخ كثيرة، وإنما نقلنا ما فيه جوامع معنى البرزخ، وفي المعاني المنقولة روايات مستفيضة كثيرة، وفيها دلالة على نشأة مجردة عن المادة (بحث فلسفي) هل النفس مجردة عن الماده ؟ (ونعني بالنفس ما يحكى عنه كل واحد منا بقوله، أنا، وبتجردها عدم كونها أمرا ماديا ذا انقسام وزمان ومكان.

[ 365 ]

إنا لا نشك في أنا نجد من أنفسنا مشاهدة معنى نحكي عنه: بأنا، ولا نشك أن كل إنسان هو مثلنا في هذه المشاهدة التي لا نغفل عنه حينا من أحيان حيوتنا وشعورنا، وليس هو شيئا من أعضائنا، وأجزاء بدننا التي نشعر بها بالحس أو بنحو من الاستدلال كأعضائنا الظاهرة المحسوسة بالحواس الظاهرة من البصر واللمس ونحو ذلك، وأعضائنا الباطنة التي عرفناها بالحس والتجربة، فإنا ربما نغفل عن كل واحد منها وعن كل مجموع منها حتى عن مجموعها التام الذي نسميه بالبدن، ولا نغفل قط عن المشهود الذي نعبر عنه: بأنا، فهو غير البدن وغير أجزائه. وأيضا لو كان هو البدن أو شيئا من أعضائه أو أجزائه: أو خاصة من الخواص الموجودة فيها - وهى جميعا مادية، ومن حكم المادة التغير التدريجي وقبول الانقسام والتجزي - لكان ماديا متغيرا وقابلا للانقسام وليس كذلك فإن كل أحد أذا رجع إلى هذه المشاهدة النفسانية اللازمة لنفسه، وذكر ما كان يجده من هذه المشاهدة منذ أول شعوره بنفسه وجده معنى مشهودا واحدا باقيا على حاله من غير أدنى تعدد وتغير، كما يجد بدنه وأجزاء بدنه، والخواص الموجودة معها متغيرة متبدلة من كل جهة، في مادتها وشكلها، وسائر أحوالها وصورها، وكذا وجده معنى بسيطا غير قابل للانقسام والتجزي، كما يجد البدن، وأجزائه وخواصه - وكل مادة وأمر مادي كذلك - فليست النفس هي البدن، ولا جزءا من أجزائه، ولا خاصة من خواصه، سواء أدركناه بشئ من الحواس أو بنحو من الاستدلال، أو لم ندرك، فإنها جميعا مادية كيفما فرضت، ومن حكم المادة التغير، وقبول الانقسام، والمفروض أن ليس في مشهودنا المسمى بالنفس شئ من هذه الاحكام فليست النفس بمادية بوجه. وأيضا هذا الذي نشاهده نشاهده أمرا واحدا بسيطا ليس فيه كثرة من الاجزاء ولا خليط من خارج بل هو واحد صرف فكل إنسان يشاهد ذلك من نفسه ويرى أنه هو وليس بغيره فهذا المشهود أمر مستقل في نفسه، لا ينطبق عليه حد المادة ولا يوجد فيه شئ من أحكامها اللازمة، فهو جوهر مجرد عن المادة، متعلق بالبدن نحو تعلق يوجب اتحادا ما له بالبدن وهو التعلق التدبيري وهو المطلوب. وقد أنكر تجرد النفس جميع الماديين، وجمع من الالهيين من المتكلمين، والظاهريين

[ 366 ]

من المحدثين، واستدلوا على ذلك، وردوا ما ذكر من البرهان بما لا يخلو عن تكلف من غير طائل. قال الماديون: إن الابحاث العلمية على تقدمها وبلوغها اليوم إلى غاية الدقة في فحصها وتجسسها لم تجد خاصة من الخواص البدنية إلا وجدت علتها الماديه، ولم تجد أثرا روحيا لا يقبل الانطباق على قوانين المادة حتى تحكم بسببها بوجود روح مجردة. قالوا: وسلسلة الاعصاب تؤدي الادراكات إلى العضو المركزي وهو الجزء الدماغي على التوالي وفي نهاية السرعة، ففيه مجموعة متحدة ذات وضع واحد لا يتميز أجزائها ولا يدرك بطلان بعضها، وقيام الآخر مقامه، وهذا الواحد المتحصل هو نفسنا التي نشاهدها، ونحكي عنها بأنا، فالذي نرى أنه غير جميع أعضائنا صحيح إلا أنه لا يثبت أنه غير البدن وغير خواصه، بل هو مجموعة متحدة من جهة التوالي والتوارد لا نغفل عنه، فإن لازم الغفلة عنه على ما تبين بطلان الاعصاب ووقوفها عن أفعالها وهو الموت، والذي نرى أنه ثابت، صحيح لكنه لا من جهة ثباته وعدم تغيره في نفسه بل الامر مشتبه على المشاهدة من جهة توالي الواردات الادراكية وسرعة ورودها، كالحوض الذي يرد عليه الماء من جانب ويخرج من جانب بما يساويه وهو مملوء دائما، فما فيه من الماء يجده الحس واحدا ثابتا، وهو بحسب الواقع لا واحد ولا ثابت، وكذا يجد عكس الانسان أو الشجر أو غيرهما فيه واحدا ثابتا وليس واحدا ثابتا بل هو كثير متغير تدريجا بالجريان التدريجي الذي لاجزاء الماء فيه، وعلى هذا النحو وجود الثبات والوحدة والشخصية التي نرى في النفس. قالوا: فالنفس التي يقام البرهان على تجردها من طريق المشاهدة الباطنية هي في الحقيقة مجموعة من خواص طبيعية، وهي الادراكات العصبية التي هي نتائج حاصلة من التأثير والتأثر المتقابلين بين جزء المادة الخارجية، وجزء المركب العصبي، ووحدتها وحدة اجتماعية لا وحدة واقعية حقيقية. أقول: أما قولهم: إن الابحاث العلمية المبتنية على الحس والتجربة لم تظفر في سيرها الدقيق بالروح، ولا وجدت حكما من الاحكام غير قابل التعليل إلا بها فهو كلام

[ 367 ]

حق لا ريب فيه لكنه لا ينتج انتفاء النفس المجردة التي اقيم البرهان على وجودها، فإن العلوم الطبيعية الباحثة عن أحكام الطبيعة وخواص المادة إنما تقدر على تحصيل خواص موضوعها الذي هو المادة، وإثبات ما هو من سنخها، وكذا الخواص والادوات المادية التي نستعملها لتتميم التجارب المادي إنما لها أن تحكم في الامور المادية، وأما ما وراء المادة والطبيعة، فليس لها أن تحكم فيها نفيا ولا إثباتا، وغاية ما يشعر البحث المادي به هو عدم الوجدان، وعدم الوجدان غير عدم الوجود، وليس من شأنه كما عرفت أن يجد ما بين المادة التي هي موضوعها، ولا بين أحكام المادة وخواصها التي هي نتائج بحثها أمر أمجردا خارجا عن سنخ المادة وحكم الطبيعة. والذي جرأهم على هذا النفي زعمهم أن المثبتين لهذه النفس المجردة إنما أثبتوها لعثورهم إلى أحكام حيوية من وظائف الاعضاء ولم يقدروا على تعليلها العلمي، فأثبتوا النفس المجردة لتكون موضوعا مبدئا لهذه الافاعيل، فلما حصل العلم اليوم على عللها الطبيعية لم يبق وجه للقول بها، نظير هذا الزعم ما زعموه في باب إثبات الصانع. وهو اشتباه فاسد فإن المثبتين لوجود هذه النفس لم يثبتوها لذلك ولم يسندوا بعض الافاعيل البدنية إلى البدن فيما علله ظاهرة، وبعضها إلى النفس فيما علله مجهولة، بل أسندوا الجميع إلى العلل البدنية بلا واسطة وإلى النفس بواسطتها، وإنما اسندوا إلى النفس ما لا يمكن إسناده إلى البدن ألبتة وهو علم الانسان بنفسه ومشاهدته ذاته كما مر. وأما قولهم: إن الانية المشهودة للانسان على صفة الوحدة هي عدة من الادراكات العصبية الواردة على المركز على التوالي وفي نهاية السرعة - ولها وحدة اجتماعية - فكلام لا محصل له ولا ينطبق عليه الشهود النفساني البتة، وكأنهم ذهلوا عن شهودهم النفساني فعدلوا عنه إلى ورود المشهودات الحسية إلى الدماغ واشتغلوا بالبحث عما يلزم ذلك من الآثار التالية وليت شعري إذا فرض أن هناك امورا كثيرة بحسب الواقع لا وحدة لها ألبتة، وهذه الامور الكثيرة التي هي الادراكات امور مادية ليس ورائها شئ آخر إلا نفسها، وإن الامر المشهود الذي هو النفس الواحدة هو عين هذه

[ 368 ]

الادراكات الكثيرة، فمن أين حصل هذا الواحد الذي لا نشاهد غيره ؟ ومن أين حصلت هذه الوحدة المشهودة فيها عيانا ؟ والذي ذكروه من وحدتها الاجتماعية كلام أشبه بالهزل منه بالجد فإن الواحد الاجتماعي هو كثير في الواقع من غير وحدة وإنما وحدتها في الحس أو الخيال كالدار الواحدة والخط الواحد مثلا، لا في نفسه، والمفروض في محل كلامنا أن الادراكات والشعورات الكثيرة في نفسها هي شعور واحد عند نفسها فلازم قولهم إن هذه الادراكات في نفسها كثيرة لا ترجع إلى وحدة أصلا، وهي بعينها شعور واحد نفساني واقعا، وليس هناك أمر آخر له هذه الادراكات الكثيرة فيدركها على نعت الوحدة كما يدرك الحاسة أو الخيال المحسوسات أو المتخيلات الكثيرة المجتمعة على وصف الوحدة الاجتماعية، فإن المفروض أن مجموع الادراكات الكثيرة في نفسها نفس الادراك النفساني الواحد في نفسه، ولو قيل: إن المدرك هيهنا الجزء الدماغي يدرك الادراكات الكثيرة على نعت الوحدة كان الاشكال بحاله، فإن المفروض ان إدراك الجزء الدماغي نفس هذه الدراكات الكثيرة المتعاقبة بعينها، لا أن للجزء الدماغي قوة إدراك تتعلق بهذه الادراكات كتعلق القوى الحسية بمعلوماتها الخارجية وانتزاعها منها صورا حسية، فافهم ذلك. والكلام في كيفية حصول الثبات والبساطة في هذا المشهود الذي هو متغير متجز في نفسه كالكلام في حصول وحدته. مع أن هذا الفرض أيضا - أعني أن يكون الادراكات الكثيرة المتوالية المتعاقبة مشعورة بشعور دماغي على نعت الوحدة - نفسه فرض غير صحيح، فما شأن الدماغ والقوة التي فيه، والشعور الذي لها، والمعلوم الذي عندها، وهي جميعا امور مادية، ومن شأن المادة والمادي الكثرة، والتغير، وقبول الانقسام، وليس في هذه الصورة العلمية شئ من هذه الاوصاف والنعوت، وليس غير المادة والمادي هناك شئ. وقولهم: أن الامر يشتبه على الحس أو القوة المدركة، فيدرك الكثير المتجزي المتغير واحدا بسيطا ثابتا غلط واضح، فإن الغلط والاشتباه من الامور النسبية التي تحصل بالمقايسة والنسبة، لا من الامور النفسية، مثال ذلك أنا نشاهد الاجرام العظيمة السماوية صغيرة كالنقاط البيض، ونغلط في مشاهدتنا هذه، على ما تبينه البراهين

[ 369 ]

العلمية، وكثير من مشاهدات حواسنا إلا أن هذه الاغلاط إنما تحصل وتوجد إذا قايسنا ما عند الحس مما في الخارج من واقع هذه المشهودات، وأما ما عند الحس في نفسه فهو أمر واقعي كنقطة بيضاء لا معنى لكونه غلطا ألبتة. والامر فيما نحن فيه من هذا القبيل فإن حواسنا وقوانا المدركة إذا وجدت الامور الكثيرة المتغيرة المتجزية على صفة الوحدة والثبات والبساطة كانت القوى المدركة غالطة في إدراكها مشتبهة في معلومها بالقياس إلى المعلوم الذي في الخارج وأما هذه الصورة العلمية الموجودة عند القوة فهي واحدة ثابتة بسيطة في نفسها ألبتة، ولا يمكن أن يقال للامر الذي هذا شأنه: إنه مادي لفقده أوصاف المادة العامة. فقد تحصل من جميع ما ذكرنا أن الحجة التي أوردها الماديون من طريق الحس والتجربة إنما ينتج عدم الوجدان، وقد وقعوا في المغالطة بأخذ عدم الوجود (وهو مدعاهم) مكان عدم الوجدان، وما صوروه لتقرير الشهود النفساني المثبت لوجود أمر واحد بسيط ثابت تصوير فاسد لا يوافق، لا الاصول المادية المسلمة بالحس والتجربة، ولا واقع الامر الذي هو عليه في نفسه. وأما ما افترضه الباحثون في علم النفس الجديد في أمر النفس وهو أنه الحالة المتحدة الحاصلة من تفاعل الحالات الروحية، من الادراك والارادة والرضا والحب وغيرها المنتجة لحالة متحدة مؤلفة فلا كلام لنا فيه، فإن لكل باحث أن يفترض موضوعا ويضعه موضوعا لبحثه، وإنما الكلام فيه من حيث وجوده وعدمه في الخارج والواقع مع قطع النظر عن فرض الفارض وعدمه، وهو البحث الفلسفي كما هو ظاهر على الخبير بجهات البحث. وقال قوم آخرون من نفاة تجرد النفس من المليين: إن الذي يتحصل من الامور المربوطة بحيوة الانسان كالتشريح والفيزيولوجي أن هذه الخواص الروحية الحيوية تستند إلى جراثيم الحيوة والسلولات التي هي الاصول في حيوة الانسان وسائر الحيوان وتتعلق بها، فالروح خاصة وأثر مخصوص فيها لكل واحد منها أرواح متعددة فالذي

[ 370 ]

يسميه الانسان روحا لنفسه ويحكي عنه بأنا مجموعة متكونة من أرواح غير محصورة على نعت الاتحاد والاجتماع، ومن المعلوم أن هذه الكيفيات الحيوية والخواص الروحية تبطل بموت الجراثيم والسلولات وتفسد بفسادها فلا معنى للروح الواحدة المجردة الباقية بعد فناء التركيب البدني غاية الامر أن الاصول المادية المكتشفة بالبحث العلمي لما لم تف بكشف رموز الحيوة كان لنا أن نقول: أن العلل الطبيعية لا تفي بإيجاد الروح فهي معلولة لموجود آخر وراء الطبيعة، وأما الاستدلال على تجرد النفس من جهة العقل محضا فشئ لا يقبله ولا يصغي إليه العلوم اليوم لعدم اعتمادها على غير الحس والتجربة، هذا. اقول: وأنت خبير بأن جميع ما أوردناه على حجة الماديين وارد على هذه الحجة المختلقة من غير فرق ونزيدها أنها مخدوشة اولا: بأن عدم وفاء الاصول العلمية المكتشفة إلى اليوم ببيان حقيقة الروح والحيوة لا ينتج عدم وفائها أبدا ولا عدم انتهاء هذه الخواص إلى العلل المادية في نفس الامر على جهل منا، فهل هذا إمغالطة وضع فيها العلم بالعدم مكان عدم العلم ؟ وثانيا: بأن استناد بعض حوادث العالم - وهي الحوادث المادية - إلى المادة، وبعضها الاخر وهي الحوادث الحيوية إلى أمر وراء المادة - وهو الصانع - قول بأصلين في الايجاد، ولا يرتضيه المادي ولا الالهي، وجميع أدلة التوحيد يبطله. وهنا إشكالات أخر أوردوها على تجرد النفس مذكورة في الكتب الفلسفية والكلامية غير أن جميعها ناشئة عن عدم التأمل والامعان فيما مر من البرهان، وعدم التثبت في تعقل الغرض منه، ولذلك أضربنا عن إيرادها، والكلام عليها، فمن أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى مظانها، والله الهادي (بحث اخلاقي) علم الاخلاق (وهو الفن الباحث عن الملكات الانسانية المتعلقة بقواه النباتية والحيوانية والانسانية، وتميز الفضائل منها من الرذائل ليستكمل الانسان التحلي

[ 371 ]

والاتصاف بها سعادته العلمية، فيصدر عنه من الافعال ما يجلب الحمد العام والثناء الجميل من المجتمع الانساني) يظفر ببحثه أن الاخلاق الانسانية تنتهي إلى قوى عامه ثلاثة فيه هي الباعثة للنفس على اتخاذ العلوم العملية التي تستند وتنتهي إليها افعال النوع وتهيئتها وتعبيتها عنده، وهي القوى الثلاث: الشهوية والغضبية والنطقية الفكرية، فإن جميع الاعمال والافعال الصادرة عن الانسان إمامن قبيل الافعال المنسوبة إلى جلب المنفعة كالاكل والشرب واللبس وغيرها، وإما من الافعال المنسوبة إلى دفع المضرة كدفاع الانسان عن نفسه وعرضه وماله ونحو ذلك، وهذه الافعال هي الصادرة عن المبدا الغضبي كما أن القسم السابق عليها صادر عن المبدا الشهوي، وإما من الاعمال المنسوبة إلى التصور والتصديق الفكري، كتأليف القياس وإقامة الحجة وغير ذلك وهذه الافعال صادرة عن القوة النطقية الفكرية، ولما كانت ذات الانسان كالمؤلفة، المركبة من هذه القوى الثلاث التي باتحادها وحصول الوحدة التركيبية منها يصدر أفعال خاصة نوعية، ويبلغ الانسان سعادتة التي من أجلها جعل هذا التركيب، فمن الواجب لهذا النوع إن لا يدع قوة من هذه القوى الثلاث تسلك مسلك الافراط أو التفريط، وتميل عن حاق الوسط إلى طرفي الزيادة والنقيصة، فإن في ذلك خروج جزء المركب عن المقدار المأخوذ منه في جعل أصل التركيب وفي ذلك خروج المركب عن كونه ذاك المركب ولازمه بطلان غاية التركيب التي هي سعادة النوع. وحد الاعتدال في القوة الشهوية - وهي استعمالها على ما ينبغي كما وكيفا - يسمي عفة، والجانبان في الافراط والتفريط الشره والخمود، وحد الاعتدال في القوة الغضبية هي الشجاعة والجانبان التهور والجبن، وحد الاعتدال في القوة الفكرية تسمي حكمة والجانبان الجربزة والبلادة، وتحصل في النفس من اجتماع هذه الملكات ملكة رابعة هي كالمزاج من الممتزج، وهي التي تسمى عدالة، وهي إعطاء كل ذي حق من القوي حقة، ووضعه في موضعه الذي ينبغي له، والجانبان فيها الظلم والانظلام. فهذه أصول الاخلاق الفاضلة أعني: العفة والشجاعة والحكمة والعدالة، ولكل منها فروغ ناشئة منها راجعة بحسب التحليل إليها، نسبتها إلى الاصول المذكورة كنسبة النوع إلى الجنس، كالجود والسخاء، والقناعة والشكر، والصبر والشهامة،

[ 372 ]

اصول الاخلاق الفاضلة (الشجرة)

[ 373 ]

والجرئة والحياء، والغيرة والنصيحة، والكرامة والتواضع، وغيرها، هي فروع الاخلاق الفاضلة المضبوطة في كتب الاخلاق (وهاك شجرة تبين أصوللا وتفرع فروعها) وعلم الاخلاق يبين حد كل واحد منها ويميزها من جانبيها في الافراط والتفريط، ثم يبين أنها حسنة جميلة ثم يشير إلى كيفية اتخاذها ملكة في النفس من طريقي العلم والعمل أعنى الاذعان بنأها حسنة جميلة، وتكرار العمل بها حتى تصير هيئة راسخة في النفس. مثاله أن يقال إن الجبن إنما يحصل من تمكن الخوف من النفس، والخوف إنما يكون من أمر ممكن الوقوع وعدم الوقوع، والمساوي الطرفين يقبح ترجيح أحد طرفيه على الآخر من غير مرجح والانسان العاقل لا ينبغي له ذلك فلا ينبغي للانسان أن يخاف. فإذا لقن الانسان نفسه هذا القول ثم كرر الاقدام والورود في المخاوف والمهاول زالت عنه رذيلة الخوف، وهكذا الامر في غيره من الرذائل والفضائل. فهذا ما يقتضيه المسلك الاول على ما تقدم في البيان وخلاصته إصلاح النفس وتعديل ملكاتها لغرض الصفة المحمودة والثناء الجميل. ونظيره ما يقتضيه المسلك الثاني، وهو مسلك الانبياء وأرباب الشرائع، وإنما التفاوت من حيث الغرض والغاية، فإن غاية الاستكمال الخلقي في المسلك الاول الفضيلة المحمودة عند الناس والثناء الجميل منهم، وغايته في المسلك الثاني السعادة الحقيقية للانسان وهو استكمال الايمان بالله وآياته، والخبر الاخروي وهي سعادة وكمال في الواقع لا عند الناس فقط، ومع ذلك فالمسلكان يشتركان في أن الغاية القصوى والغرض فيها الفضيلة الانسانية من حيث العمل. وأما المسلك الثالث المتقدم بيانه فيفارق الاولين بأن الغرض فيه ابتغاء وجه الله لا اقتناء الفضيلة الانسانية ولذلك ربما اختلف المقاصد التي فيه مع ما في المسلكين الاولين فربما كان الاعتدال الخلقي فيه غير الاعتدال الذي فيهما وعلى هذا القياس، بيان ذلك أن العبد إذا أخذ إيمانه في الاشتداد والازدياد انجذبت نفسه إلى التفكير في ناحية

[ 374 ]

ربه، واستحضار أسمائه الحسنى، وصفاتة الجميلة المنزهة عن النقص والشين ولا تزال تزيد نفسه انجذابا، وتترقى مراقبة حتى صار يعبد الله كأنه يراه وأن ربه يراه، ويتجلي له في مجالي الجذبة والمراقبة والحب فيأخذ الحب في الاشتداد لان الانسان مفطور على حب الجميل، وقد قال تعالى: (والذين آمنوا أشد حبا لله) البقرة - 165، وصار يتبع الرسول في جميع حركاته وسكناته لان حب الشئ يوجب حب آثاره، والرسول من آثاره وآياته كما أن العالم أيضا آثاره وآياته تعالى، ولا يزال يشتد هذا الحب ثم يشتد حتى ينقطع إليه من كل شئ، ولا يحب إلا ربه، ولا يخضع قلبه إلا لوجهه فان هذا العبد لا يعثر بشئ، ولا يقف على شئ وعنده شئ من الجمال والحسن إلا وجد أن ما عنده انموذج يحكي ما عنده من كمال لا ينفد وجمال لا يتناهى وحسن لا يحد، فله الحسن والجمال والكمال والبهاء، وكل ما كان لغيره فهو له، لان كل ما سواه آية له ليس له إلا ذلك، والآية لا نفسية لها، وإنما هي حكاية تحكي صاحبها، وهذا العبد قد استولى سلطان الحب على قلبه، ولا يزال يستولي، ولا ينظر إلى شئ إلا لانه آية من آيات ربه، وبالجملة فينقطع حبه عن كل شئ إلى ربه، فلا يحب شيئا إلا لله سبحانه وفي الله سبحانه. وحينئذ يتبدل نحو إدراكه وعمله فلا يرى شيئا إلا ويرى الله سبحانه قبله ومعه، وتسقط الاشياء عنده من حيز الاستقلال فما عنده من صور العلم والادراك غير ما عند الناس لانهم إنما ينظرون إلى كل شئ من وراء حجاب الاستقلال بخلافه، هذا من جهة العلم، وكذلك الامر من جهة العمل فانه إذا كان لا يحب إلا لله فلا يريد شيئا إلا لله وابتغاء وجهه الكريم، ولا يطلب ولا يقصد ولا يرجو ولا يخاف، ولا يختار، ولا يترك، ولا ييأس ولا يستوحش، ولا يرضى، ولا يسخط إلا لله وفي الله فيختلف أغراضه مع ما للناس من الاغراض وتتبدل غاية أفعاله فانه قد كان إلى هذا الحين يختار الفعل ويقصد الكمال لانه فضيلة انسانية، ويحذر الفعل أو الخلق لانه رذيلة إنسانيه. وأما الآن وأما الآن يريد وجه ربه، ولا هم له في فضيلة ولا رذيلة، ولا شغل له بثناء جميل، وذكر محمود، ولا التفات له إلى دنيا أو آخرة أو جنة أو نار، وإنما همه ربه، وزاده ذل عبوديته، ودليله حبه. روت لي أحاديث الغرام صبابه. بإسنادها عن جيرة العلم الفرد. وحدثني مر النسيم عن الصبا. عن الدوح عن وادي الغضا عن ربى نجد.

[ 375 ]

عن الدمع عن عينى القريح عن الجوى. عن الحزن عن قلبي الجريح عن الوجد. بأن غرامي والهوى قد تحالفا. على تلفي حتى أوسد في لحدي. وهذا البيان الذي أوردناه وإن آثرنا فيه الاجمال والاختصار لكنك إن أجدت فيه التأمل وجدته كافيا في المطلوب وتبين أن هذا المسلك الثالث يرتفع فيه موضوع الفضيلة والرذيلة، ويتبدل فيه الغاية والغرض أعني الفضيلة الانسانية إلى غرض واحد، وهو وجه الله، وربما اختلف نظر هذا المسلك مع غيره فصار ما هو معدود في غيره فضيلة رذيلة فيه وبالعكس. بقي هنا شئ وهو أن هيهنا نظرية اخرى في الاخلاق تغاير ما تقدم، وربما عد مسلكا آخر، وهي أن الاخلاق تختلف اصولا وفروعا باختلاف الاجتماعات المدنية لاختلاف الحسن والقبح من غير أن يرجع إلى أصل ثابت قائم على ساق، وقد ادعى أنها نتيجة النظرية المعروفة بنظرية التحول والتكامل في المادة. قالوا: إن الاجتماع الانساني مولود جميع الاحتياجات الوجودية التي يريد الانسان أن يرفعها بالاجتماع، ويتوسل بذلك، إلى بقاء وجود الاجتماع الذي يراه بقاء وجود شخصه، وحيث أن الطبيعة محكومة لقانون التحول والتكامل كان الاجتماع أيضا متغيرا في نفسه، ومتوجها في كل حين إلى ما هو أكمل وأرقى، والحسن والقبح - وهما موافقة العمل لغاية الاجتماع أعني الكمال وعدم موافقته له - لا معنى لبقائهما على حال واحد، وجمودهما على نهج فارد، فلا حسن مطلقا، ولا قبح مطلقا، بل هما دائما نسبيان مختلفان باختلاف الاجتماعات بحسب الامكنة والازمنة، وإذا كان الحسن والقبح نسبيين متحولين وجب التغير في الاخلاق، والتبدل في الفضائل والرذائل، ومن هنا يستنتج أن الاخلاق تابعة للمرام القومي الذي هو وسيله إلى نيل الكمال المدني والغاية الاجتماعية، لتبعية الحسن والقبح لذلك، فما كان به التقدم والوصول إلى الغاية والغرض كان هو الفضيلة وفيه الحسن، وما كان يدعو إلى الوقوف والارتجاع كان هو الرذيلة، وعلى هذا فربما كان الكذب و الافتراء والفحشاء والشقاوة والقساوة والسرقة و الوقاحة حسنة وفضيلة إذا وقعت في طريق المرام الاجتماعي، والصدق والعفة والرحمة رذيلة قبيحة إذا أوجب الحرمان عن المطلوب، هذه خلاصة هذه النظرية العجيبة التي ذهبت إليها الاشتراكيون من الماديين، والنظرية غير حديثة، على ما زعموا،

[ 376 ]

فقد كان الكلبيون من قدماء اليونان - على ما ينقل - على هذه المسلك، وكذا المزدكيون (وهم أتباع مزدك الذي ظهر بايران على عهد كسرى ودعا إلى الاشتراك) كان عملهم على ذلك، ويعهد من بعض القبائل الوحشية بإفريقية وغيرهم. وكيف كان فهو مسلك فاسد والحجة التي اقيمت على هذه النظرية فاسدة من حيث البناء والمبنى معا. توضيح ذلك: أنا نجد كل موجود من هذه الموجودات العينية الخارجية يصحب شخصية تلازمه، ويلزمها أن لا يكون الموجود بسببه عين الموجود الآخر ويفارقه في الوجود، كما أن وجود زيد يصحب شخصية ونوع وحدة لا يمكن معها أن يكون عين عمرو، فزيد شخص واحد، وعمرو شخص آخر، وهما شخصان اثنان، لا شخص واحد، فهذه حقيقة لا شك فيها (وهذا غير ما نقول: إن عالم المادة موجود ذو حقيقة واحدة شخصية فلا ينبغي أن يشتبه الامر. وينتج ذلك: أن الوجود الخارجي عين الشخصية، لكن المفاهيم الذهنية يخالف الموجود الخارجي في هذا الحكم فان المعنى كيف ما كان يجوز العقل أن يصدق على أكثر من مصداق واحد كمفهوم الانسان ومفهوم الانسان الطويل، ومفهوم هذا الانسان القائم أمامنا، وأما تقسيم المنطقيين المفهوم إلى الكلي والجزئي، وكذا تقسيمهم الجزئي إلى الاضافي والحقيقي فإنما هو تقسيم بالاضافة والنسبة، إما نسبه أحد المفهومين إلى الآخر وإما نسبته إلى الخارج، وهذا الوصف الذي في المفاهيم - وهو جواز الانطباق على أكثر من واحد - ربما نسميه بالاطلاق كما نسمي مقابلة بالشخصية أو الوحدة. ثم الموجود الخارجي (ونعني به الموجود المادي خاصة) لما كان واقعا تحت قانون التغير والحركة العمومية كان لا محالة ذا امتداد منقسما إلى حدود وقطعات، كل قطعة منها تغاير القطعة الاخرى مما تقدم عليها أو تأخر عنها، ومع ذلك فهي مرتبطة بها بوجودها، إذ لو لا ذلك لم يصدق معنى التغير والتبدل لان أحد شيئين إذا عدم من أصله، والآخر وجد من أصله لم يكن ذلك تبدل هذا من ذاك، بل التبدل الذي يلازم كل حركة إنما يتحقق بوجود قدر مشترك في الحالين جميعا. ومن هنا يظهر أن الحركة أمر واحد بشخصه يتكثر بحسب الاضافة إلى الحدود،

[ 377 ]

فيتعين بكل نسبة قطعة تغاير القطعه الاخرى، وأما نفس الحركة فسيلان وجريان واحد شخصي، ونحن ربما سمينا هذا الوصف في الحركة إطلاقا في مقابل النسب التي لها إلى كل حد حد، فنقول: الحركة المطلقة بمعنى قطع النظر عن إضافتها إلى الحدود. ومن هنا يظهر أن المطلق بالمعنى الثاني أمر واقعي موجود في الخارج، بخلاف المطلق بالمعنى الاول فإن الاطلاق بهذا المعنى وصف ذهني لموجود ذهني، هذا. ثم إنا لا نشك ان الانسان موجود طبيعي ذو افراد واحكام وخواص وان الذي توجده الخلقة هو الفرد من أفراد الانسان دون مجموع الافراد أعني الاجتماع الانساني إلا ان الخلقة لما أحست بنقص وجوده، واحتياجه إلى استكمالات لا تتم له وحده، جهزه بأدوات وقوى تلائم سعيه للاستكمال في ظرف الاجتماع وضمن الافراد المجتمعين، فطبيعة الانسان الفرد مقصود للخلقه اولا وبالذات والاجتماع مقصود لها ثانيا وبالتبع. وأما حقيقة أمر الانسان مع هذا الاجتماع الذي تقتضية وتتحرك إليه الطبيعة الانسانية (إن صح إطلاق الاقتضاء والعلية والتحرك في مورد الاجتماع حقيقة فإن الفرد من الانسان موجود شخصي واحد بالمعنى الذي تقدم من شخصيته ووحدته، وهو مع ذلك واقع في الحركة، متبدل متحول إلى الكمال، ومن هنا كان كل قطعة من قطعات وجوده المتبدل مغايرة لغيرها من القطعات، وهو مع ذلك ذو طبيعة سيالة مطلقة حفوظة في مراحل التغيرات واحدة شخصية، وهذه الطبيعة الموجودة في الفرد محفوظة بالتوالد والتناسل واشتقاق الفرد من الفرد - وهي التي نعبر عنها بالطبيعة النوعية - فإنها محفوظة بالافراد وإن تبدلت وعرض لها الفساد والكون، بمثل البيان الذي مر في خصوص الطبيعة الفردية، فالطبيعة الشخصية موجوده متوجهة إلى الكمال الفردي، والطبيعة النوعية موجودة مطلقة متوجهة إلى الكمال. وهذا الاستكمال النوعي لا شك في وجوده وتحققه في نظام الطبيعة، وهو الذي نعتمد عليه في قولنا: إن النوع الانساني مثلا متوجه إلى الكمال، وإن الانسان اليوم أكمل وجودا من الانسان الاولي، وكذا ما تحكم به فرضية تحول الانواع، فلو لا أن هناك طبيعة نوعية خارجية محفوظة في الافراد أو الانواع مثلا لم يكن هذا الكلام إلا كلاما شعريا.

[ 378 ]

والكلام في الاجتماع الشخصي القائم بين أفراد قوم أو في عصر أو في محيط، ونوع الاجتماع القائم بنوع الانسان المستمر باستمراره والمتحول بتحوله (لو صح أن الاجتماع كالانسان المجتمع حال خارجي لطبيعة خارجية !) نظير القول في طبيعة الانسان الشخصية والنوعية في التقييد والاطلاق. فالاجتماع متحرك متبدل بحركة الانسان وتبدله وله وحدة من بادئ الحركة إلى أين توجه بوجود مطلق - وهذا الواحد المتغير بواسطة نسبته وإضافته إلى كل حد حد تصير قطعة قطعة، وكل قطعة شخص واحد من أشخاص الاجتماع، وأشخاص الاجتماع مستندة في وجودها إلى أشخاص الانسان كما، أن مطلق الاجتماع بالمعنى الذي تقدم مستند إلى مطلق الطبيعة الانسانية، فإن حكم الشخص شخص الحكم وفرده، وحكم المطلق مطلق الحكم (لا كلي الحكم، فلسنا نعني الاطلاق المفهومي فلا تغفل) ونحن لا نشك أن الفرد من الانسان وهو واحد له حكم واحد باق ببقائه، إلا إنه متبدل بتبدلات جزئية بتبع التبدلات الطارئة على موضوعه الذي هو الانسان فمن أحكام الانسان الطبيعي أنه يتغذى ويفعل بالارادة ويحس ويتفكر - وهو موجود مع الانسان وباق ببقائه - وإن تبدل طبق تبدله في نفسه، وكذلك الكلام في أحكام مطلق الانسان الموجود بوجود أفراده. ولما كان الاجتماع من أحكام الطبيعة الانسانية وخواصها فمطلق الاجتماع (نعني به الاجتماع المستمر الذي أوجدته الطبيعة الانسانية المستمرة من حين وجد الانسان الفرد إلى يومنا هذا) من خواص النوع الانساني المطلق موجود معه باق ببقائه، وأحكام الاجتماع التي أوجدها واقتضاها هي مع الاجتماع موجودة بوجوده، باقية ببقائه، وإن تبدلت بتبدلات جزئية مع انحفاظ الاصل مثل نوعها، وحينئذ صح لنا أن نقول: إن هناك أحكاما اجتماعية باقية غير متغيرة، كوجود مطلق الحسن والقبح، كما أن نفس الاجتماع المطلق كذلك، بمعنى أن الاجتماع لا ينقلب إلى غير الاجتماع كالانفراد وإن تبدل اجتماع خاص إلى آخر خاص، والحسن المطلق والخاص كالاجتماع المطلق والخاص بعينه. ثم إنا نرى أن الفرد من الانسان يحتاج في وجوده وبقائه إلى كمالات ومنافع يجب

[ 379 ]

له أن يجتلبها ويضمها إلى نفسه، والدليل على هذا الوجوب احتياجه في جهات وجوده وتجهيز الخلقة له بما يقوى به على ذلك، كجهاز التغذي وجهاز التناسل مثلا، فعلى الانسان أن يقدم عليه، وليس له أن لا يقدم قطعا بالتفريط فإنه يناقض دليل الوجوب الذي ذكرناه، وليس له أن يقدم في باب من أبواب الحاجة بما يزيد على اللازم بالافراط، مثل أن يأكل حتى يموت، أو يمرض، أو يتعطل عن سائر قواة الفعالة، بل عليه أن يتوسط في جلب كل كمال أو منفعة، وهذا التوسط هي العفة، وطرفاه الشره والخمود، وكذلك نرى الفرد في وجوده وبقائه متوسطا بين نواقص وأضداد ومضار لوجوده يجب عليه أن يدفعها، والدليل عليه الاحتياج والتجهيز في نفسه فيجب عليه المقاومة والدفاع على ما ينبغي من التوسط، من غير إفراط يضاد سائر تجهيزاته أو تفريط يضاد الاحتياج والتجهيز المربوطين، وهذا التوسط هي الشجاعة، وطرفاها التهور والجبن ونظير الكلام جار في العلم ومقابليه أعني الجربزة والبلادة، وفي العدالة ومقابليها وهما الظلم والانظلام. فهذه أربع ملكات وفضائل يستدعيه الطبيعة الفردية المجهزة، بأدواتها: العفة والشجاعة، والحكمة، والعدالة - وهي كلها حسنة - لان معنى الحسن الملائمة لغاية الشئ وكماله وسعادته، وهي جميعا ملائمة مناسبة لسعادة الفرد بالدليل الذي تقدم ذكره، ومقابلاتها رذائل قبيحة، وإذا كان الفرد من الانسان بطبيعته وفي نفسه على هذا الوصف فهو في ظرف الاجتماع أيضا على هذا الوصف، وكيف يمكن أن يبطل الاجتماع - وهو من أحكام هذه الطبيعة - سائر أحكامها الوجودية ؟ وهل هو إلا تناقض الطبيعة الواحدة، وليس حقيقة الاجتماع إلا تعاون الافراد في تسهيل الطريق إلى استكمال طبائعهم وبلوغها إلى غاية أمنيتها ؟ وإذا كان الفرد من الانسان في نفسه وفي ظرف الاجتماع على هذا الوصف، فنوع الانسان في اجتماعه النوعي أيضا كذلك، فنوع الانسان في اجتماعه يستكمل بالدفاع بقدر ما لا يفسد الاجتماع وباجتلاب المنافع بقدر ما لا يفسد الاجتماع، وبالعلم بقدر ما لا يفسد الاجتماع، وبالعدالة الاجتماعية - وهي إعطاء كل ذي حق حقه، وبلوغه حظه الذي يليق به دون الظلم والانظلام - وكل هذه الخصال الاربع فضائل بحكم

[ 380 ]

الاجتماع المطلق يقضي الاجتماع الانساني بحسنها المطلق ويعد مقابلاتها رذائل ويقضي بقبحها. فقد تبين بهذا البيان: أن في الاجتماع المستمر الانساني حسنا وقبحا لا يخلو عنهما قط وأن أصول الاخلاق الاربعة فضائل حسنة دائما، ومقابلاتها رذائل قبيحة دائما، والطبيعة الانسانية الاجتماعية تقضي بذلك، وإذا كان الامر في الاصول على هذا النحو فالفروع المنتهية بحسب التحليل إليها حكمها في القبول ذلك، وإن كان ربما يقع اختلاف ما في مصاديقها من جهة الانطباق على ما سنشير إليه. إذا عرفت ما ذكرنا ظهر لك وجه سقوط ما نقلنا من قولهم من أمر الاخلاق وهاك بيانه. أما قولهم: إن الحسن والقبح المطلقين غير موجودين، بل الموجود منهما النسبي من الحسن والقبح وهو متغير مختلف باختلاف المناطق والازمنه والاجتماعات، فهو مغالطة ناشئة من الخلط بين الاطلاق المفهومي بمعنى الكلية والاطلاق الوجودي بمعنى إستمرار الوجود، فالحسن والقبح المطلقان الكليان غير موجودين في الخارج لوصف الكلية والاطلاق، لكنهما ليسا هما الموجبين لما نقصده من النتيجة، وإما الحسن والقبح المطلقان المستمران بمعنى استمرارهما حكمين للاجتماع ما دام الاجتماع مستمرا باستمرار الطبيعة فهما كذلك، فإن غاية الاجتماع سعادة النوع، ولا يمكن موافقة جميع الافعال الممكنة والمفروضة للاجتماع كيف ما فرض، فهناك أفعال موافقة ومخالفة دائما فهناك حسن وقبح دائما. وعلى هذا فكيف يمكن أن يفرض اجتماع كيف ما فرض ولا يعتقد أهله أن من الواجب أن يعطي كل ذي حق حقه أو أن جلب المنافع بقدر ما ينبغي واجب أو أن الدفاع عن مصالح الاجتماع بقدر ما ينبغي لازم أو أن العلم الذي يتميز به منافع الانسان من غيرها فضيلة حسنة ؟ وهذه هي العدالة والعفة، والشجاعة، والحكمة التي ذكرنا أن الاجتماع الانساني كيف ما فرض لا يحكم إلا بحسنها وكونها فضائل إنسانية، وكذا كيف يتيسر لاجتماع أن لا يحكم بوجوب الانقباض والانفعال عن التظاهر بالقبيح

[ 381 ]

الشنيع، وهو الحياء من شعب العفة أو لا يحكم بوجوب السخط وتغير النفس في هتك المقدسات وهضم الحقوق، وهو الغيرة من شعب الشجاعة، أو لا يحكم بوجوب الاقتصار على ما للانسان من الحقوق الاجتماعية، وهو القناعة أو لا يحكم بوجوب حفظ النفس في موقعها الاجتماعي من غير دحض الناس وتحقيرهم بالاستكبار والبغي بغير الحق، وهو التواضع ؟ وهكذا الامر في كل واحد واحد من فروع الفضائل. وأما ما يزعمونه من اختلاف الانظار في الاجتماعات المختلفة في خصوص الفضائل وصيرورة الخلق الواحد فضيلة عند قوم رذيلة عند آخرين في أمثلة جزئية فليس من جهة اختلاف النظر في الحكم الاجتماعي بأن يعتقد قوم بوجوب اتباع الفضيلة الحسنة وآخرون بعدم وجوبه بل من جهة الاختلاف في انطباق الحكم على المصداق وعدم انطباقه. مثل إن الاجتماعات التي كانت تديرها الحكومات المستبدة كانت تري لعرش الملك الاختيار التام في أن يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وليس ذلك لسوء ظنهم بالعدالة بل لاعتقادهم بأنه من حقوق السلطنة والملك فلم يكن ذلك ظلما من مقام السلطنة بل إيفاء بحقوقه الحقة بزعمهم. ومثل أن العلم كان يعير به الملوك في بعض الاجتماعات، كما يحكى عن ملة فرنسا في القرون الوسطى، ولم يكن ذلك لتحقيرهم فضيلة العلم، بل لزعمهم أن العلم بالسياسة وفنون إدارة الحكومة يضاد المشاغل السلطانية. ومثل أن عفة النساء بمعنى حفظ البضع من غير الزوج، وكذا الحياء من النساء وكذا الغيرة من رجالهن، وكذا عدة من الفضائل كالقناعة والتواضع أخلاق لا يذعن بفضلها في بعض الاجتماعات، لكن ذلك منهم لان اجتماعهم الخاص لا يعدها مصاديق للعفة والحياء والغيرة والقناعة والتواضع، لا لان هذه الفضائل ليست فضائل عندهم. والدليل على ذلك وجود أصلها عندهم، فهم يمدحون عفة الحاكم في (زكمه والقاضي في قضائه، ويمدحون الاستحياء من مخالفة القوانين، ويمدحون الغيرة للدفاع عن الاستقلال والحضارة وعن جميع مقدساتهم، ويمدحون القناعة بما عينه القانون من الحقوق لهم، ويمدحون التواضع لائمتهم وهداتهم في الاجتماع.

[ 382 ]

وأما قولهم: بدوران الاخلاق في حسنها مدار موافقتها لغاية المرام الاجتماعي واستنتاجهم ذلك من دوران حسنها مدار موافقة غاية الاجتماع ففيه مغالطة واضحة فإن المراد بالاجتماع الهيئة الحاصلة من عمل مجموع القوانين التي قررتها الطبيعة بين الافراد المجتمعين ولا محالة تكون موصلة إلى سعادتهم لو لا الاخلال بانتظامها وجريها، ولا محالة لها أحكام: من الحسن والقبح والفضيلة والرذيلة، والمراد بالمرام مجموع الفرضيات التي وضعت لايجاد اجتماع على هيئت جديدة بتحميلها على الافراد المجتمعين، أعنى أن الاجتماع والمرام متغايران بالفعلية والقوة، والتحقق وفرض التحقق، فكيف يصير حكم أحد هما عين حكم الاخر، وكيف يكون الحسن والقبح، والفضيلة والرذيله التى عينها الاجتماع العام باقتضاء من الطبيعة الانسانية متبدلة إلى ما حكم به المرام الذى ليس الا فرضا من فارض ؟ ولو قيل: أن لا حكم الا جتماع العام الطبيعي من نفسه، بل الحكم للمرام، وخاصة إذا كانت فرضية متلائمة لسعادة الافراد عاد الكلام السابق في الحسن والقبح، والفضيلة والرذيلة، وأنها تنتهي بالآخرة إلى اقتضاء مستمر من الطبيعة. على ان هيهنا محذورا آخر وهو أن الحسن والقبح وسائر الاحكام الاجتماعية - وهى التى تعتمد عليها الحجة الاجتماعية وتتألف منها الاستدلالات - لو كانت تابعة للمرام، ومن الممكن بل الواقع تحقق مرامات مختلفة متناقضة متباينة أدى ذلك إلى إرتفاع الحجة المشتركة المقبولة عند عامة الاجتماعات، ولم يكن التقدم والنجاح حينئذ إلا للقدرة والتحكم، وكيف يمكن أن يقال ان الطبيعة الانسانية ساقت افرادها إلى حيوة اجتماعية لا تفاهم بين أجزائها ولا حكم يجمعها إلا حكم مبطل لنفس الاجتماع ؟ وهل هذا إلا تناقض شنيع في حكم الطبيعة واقتضائها الوجودى ؟ (بحث روائي آخر) في متفرقات متعلقة بما تقدم عن الباقر عليه السلام قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنى راغب نشيط في الجهاد. قال: فجاهد في سبيل الله فإنك إن تقتل كنت حيا عند الله مرزوقا وإن

[ 383 ]

مت فقد وقع أجرك على الله الحديث. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: وإن مت إلخ إشارة إلى قوله تعالى: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) النساء - 100، وفيه دلالة على أن الخروج إلى الجهاد مهاجرة إلى الله ورسوله. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: في إسمعيل النبي الذي سماه الله سبحانه صادق الوعد، قال عليه السلام إنما سمي صادق الوعد، لانه وعد رجلا في مكان فانتظره في ذلك المكان سنة، فسماه الله عز وجل صادق الوعد، ثم إن الرجل أتاه بعد ذلك الوقت فقال له إسمعيل ما زلت منتظرا لك الحديث. اقول: وهذا أمر ربما يحكم العقل العادي بكونه منحرفا عن جادة الاعتدال مع أن الله سبحانه جعله منقبة له عليه السلام حتى عظم قدره ورفع ذكره بقوله: (واذكر في الكتاب إسمعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلوة والزكوة وكان عند ربه مرضيا) مريم - 55، فليس ذلك إلا أن الميزان الذي وزن به هذا العمل غير الميزان الذي بيد العقل العادي، فللعقل العادي تربية بتدبيره ولله سبحانه تربية لاوليائه بتأييده، وكلمة الله هي العليا، ونظائر هذه القضية كثيرة مروية منقولة عن النبي والائمة والاولياء. فان قلت: كيف يمكن مخالفة الشرع مع العقل في ما للعقل إليه سبيل. قلت: أما حكم العقل فيما له إليه سبيل ففي محله، لكنه يحتاج إلى موضوع يقع عليه حكمه، وقد عرفت في ما تقدم أن أمثال هذه العلوم في المسلك الثالث الذي ذكرناه لا تبقى للعقل موضوعا يحكم فيه وعليه، وهذا سبيل المعارف اللاهية والظاهر أن إسمعيل النبي عليه السلام كان أطلق القول بوعد بأن قال: أنتظرك ههنا حتى تعود إلى ثم التزم على إطلاق قوله صونا لنفسه عن نقض العهد والكذب في الوعد وحفظا لما القى الله في روعه وأجراه على لسانه، وقد روي نظيره عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنه كان عند المسجد الحرام فوعده بعض أصحابه بالرجوع إليه ووعدة النبي بانتظاره حتى يرجع فذهب في شأنه ولم يرجع، فانتظره النبي ثلثة أيام في مكانه الذي وعده حتى مر به الرجل بعد الثلثة، وهو جالس ينتظر والرجل قد نسي الوعد، الحديث.

[ 384 ]

وفي الخصائص للسيد الرضي، عن إمير المؤمنين عليه السلام قال: - وقد سمع رجلا يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون - يا هذا إن قولنا: إنا لله إقرار منا بالملك، وإنا إليه راجعون اقرار منا بالهلاك. اقول: وقد اتضح معناه بما تقدم ورواه في الكافي مفصلا. وفي الكافي: عن إسحق بن عمار وعبد الله بن سنان، عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله عز وجل: إني جعلت الدنيا بين عبادي قرضا فمن أقرضني فيها قرضا أعطيته بكل واحدة عشرا إلى سبعمأه ضعف، ومن لم يقرضني قرضا وأخذت منه شيئا قسرا أعطيته ثلث خصال لو أعطيت واحدة منهن ملائكتي لرضوا بها عني، ثم قال أبو عبد الله: قول الله: الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم، فهذه واحدة من ثلاث خصال، ورحمة اثنتان، وأولئك هم المهتدون ثلث، ثم قال أبو عبد الله عليه السلام هذا لمن أخذ الله منه شيئا قسرا. اقول: والرواية مروية لطرق أخرى متقاربة. وفي المعاني عن الصادق عليه السلام: الصلوة من الله رحمة، ومن الملائكة التزكية، ومن الناس دعاء. اقول: وفي معناه عدة روايات أخر، وبين هذه الرواية وما تقدمها تناف ظاهرا حيث أن الرواية السابقة تعد الصلوة غير الرحمة، ويساعد عليه ظاهر قوله عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وهذه الرواية تعدها رحمة ويرتفع التنافى بالرجوع إلى ما تقدم من البيان. إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم - 158.

[ 385 ]

(بيان) الصفا والمروة موضعان بمكة يأتي الحجاج بينهما بعمل السعي، وهما جبلان مسافة بينهما سبعمأه وستون ذراعا ونصف ذراع على ما قيل، وأصل الصفا في اللغة الحجر الصلب الاملس، وأصل المروة الحجر الصلب، والشعائر جمع شعيرة، وهي العلامة، ومنه المشعر، ومنه قولنا: أشعر الهدى، أي أعلمه، والحج هو القصد بعد القصد، أي القصد المكرر وهو في اصطلاح الشرع العمل المعهود بين المسلمين، والاعتمار الزيارة وأصله العمارة لان الديار تعمر بالزيارة، وهو في اصطلاح الشرع زيارة، البيت بالطريق المعهود، والجناح الميل عن الحق والعدل، ويراد به الاثم، فيؤل نفي الجناح إلى التجويز، والتطوف من الطواف، وهو الدوران حول الشئ، وهو السير الذي ينتهي آخره إلى أوله، ومنه يعلم أن ليس من اللازم كونه حول شئ وإنما ذلك من مصاديقه الظاهرة وعلى هذا المعنى أطلق التطوف في الآية فإن المراد به السعي وهو قطع ما بين الصفا والمروة من المسافة سبع مرات متوالية، والتطوع من الطوع بمعنى الطاعه، وقيل: إن التطوع يفارق الاطاعة في أنه يستعمل في المندوب خاصة، بخلاف الاطاعة ولعل ذلك - لو صح هذا القول - بعناية أن العمل الواجب لكونه إلزاميا كأنه ليس بمأتي به طوعا، بخلاف المأتي من المندوب فإنه على الطوع من غير شائبة، وهذا تلطف عنائي وإلا فأصل الطوع يقابل الكره ولا ينافي الامر الالزامي. قال تعالى: (قال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها) فصلت - 11، وأصل باب التفعل الاخذ لنفسه، كقولنا: تميز أي أخذ، يميز وتعلم الشئ أي أخذ يعلمه، وتطوع خيرا أي أخذ يأتي بالخير بطوعه، فلا دليل من جهة اللغة على اختصاص التطوع بالامتثال الندبي إلا أن توجبه العناية العرفية المذكورة. فقوله تعالى: إن الصفا والمروة من شعائر الله إلى قوله: يطوف بهما يشير إلى كون المكانين معلمين بعلامة الله سبحانه، يدلان بذلك عليه، ويذكر انه تعالى واختصاصهما بكونهما من الشعائر دون بقية الاشياء جميعا يدل على أن المراد بالشعائر ليست الشعائر التكوينية بل هما شعيرتان بجعله تعالى إياهما معبدين يعبد فيهما، فهما يذكر ان الله سبحانه، فكونهما شعيرتين يدل على أنه تعالى قد شرع فيهما عبادة

[ 386 ]

متعلقة بهما، وتفريع قوله: فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) إنما هو للايذان بأصل تشريع السعي بين الصفا والمروة، لا لافادة الندب، ولو كان المراد إفادة الندب كان الانسب بسياق الكلام أن يمدح التطوف لا أن ينفي ذمه، فإن حاصل المعنى أنه لما كان الصفا والمروة معبدين ومنسكين من معابد الله فلا يضركم أن تعبدوه فيهما، وهذا لسان التشريع، ولو كان المراد إفادة الندب كان الانسب أن يفاد أن الصفا والمروة، لما كانا من شعائر الله فإن الله يحب السعي بينهما - وهو ظاهر - والتعبير بأمثال هذا القول الذي لا يفيد وحده الالزام في مقام التشريع شائع في القرآن، وكقوله تعالى في الجهاد: (ذلكم خير لكم) الصف - 11، وفي الصوم (وأن تصوموا خير لكم) البقرة - 184، وفي القصر (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلوة) النساء - 101. قوله تعالى: ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم، إن كان معطوفا على مدخول فاء التفريع في قوله تعالى: فمن حج البيت أو اعتمر، كان كالتعليل لتشريع التطوف بمعنى آخر أعم من العلة الخاصة التي تبين بقوله: إن الصفا والمروة، وكان المراد بالتطوع مطلق الاطاعة لا الاطاعة المندوبة، وإن كان استينافا بالعطف إلى اول الآية كان مسوقا لافادة محبوبية التطوف في نفسه ان كان المراد بتطوع الخير هو التطوف أو مسوقا لافادة محبوبية الحج والعمرة ان كان هما المراد بتطوع الخير هذا. والشاكر والعليم اسمان من اسماء الله الحسنى، والشكر هو مقابلة من احسن إليه إحسان المحسن بإظهاره لسانا أو عملا كمن ينعم إليه المنعم بالمال فيجازيه بالثناء الجميل الدال على نعمته أو باستعمال المال في ما يرتضيه، ويكشف عن إنعامه، والله سبحانه وإن كان محسنا قديم الاحسان ومنه كل الاحسان لا يد لاحد عنده حتى يستوجبه الشكر إلا أنه جل ثنائه عد الاعمال الصالحة التي هي في الحقيقة إحسانه إلى عباده إحسانا من العبد إليه، فجازاه بالشكر والاحسان وهو إحسان على إحسان قال تعالى: (هل جزاء الاحسان إلا الاحسان) الرحمن - 60، وقال تعالى: (إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا) الدهر - 22، فإطلاق الشاكر عليه تعالى على حقيقة معنى الكلمة من غير مجاز. (بحث روائي) في تفسير العياشي: عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه السلام: سالتة: عن السعي

[ 387 ]

بين صفا والمروة فريضة هي أم سنة ؟ قال: فريضة، قلت: إليس الله يقول: فلا جناح عليه أن يطوف بهما ؟ قال كان ذلك في عمرة القضاء، وذلك أن رسول الله كان شرط عليهم أن يرفعوا الاصنام فتشاغل رجل من أصحابه حتى أعيدت الاصنام. قال: فأنزل الله، إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما، أي والاصنام عليها. أقول: وعن الكافي ما يقرب منه. وفي الكافي أيضا عن الصادق عليه السلام: في حديث حج النبي عليه السلام: بعد ما طاف بالبيت وصلى ركعتية قال: صلى الله عليه وآله وسلم إن الصفا والمروة من شعائر الله فابدا بما بدا الله عز وجل، وإن المسلمين كانويظنون أن السعي بين الصفا والمروة شئ صنعه المشركون فأنزل الله إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما. أقول: ولا تنافي بين الروايتين في شأن النزول، وهو ظاهر، وقوله عليه السلام في الرواية فأبدا بما بدا الله ملاك التشريع، وقد مضى في حديث هاجر وسعيها سبع مرات بين الصفا والمروة أن السنة جرت بذلك. وفي الدر المنثور: عن عامر الشعبي قال: كان وثن بالصفا يدعى إساف، ووثن بالمروة يدعى نائلة فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت يسعون بينهما ويمسحون الوثنين فلما قدم رسول الله عليه السلام قالوا: يا رسول الله إن الصفا والمروة انما كان يطاف بهما من أجل الوثنين، وليس الطواف بهما من الشعائر، فأنزل الله: إن الصفا والمروة الآية فذكر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه، وأثبت المروة من جهة الصنم الذي كان عليه موثبا. أقول: وقد روى الفريقان في المعاني السابقة روايات كثيرة. ومقتضى جميع هذه الروايات أن الاية نزلت في تشريع السعي في سنة حج فيها المسلمون، وسورة البقرة أول سورة نزلت بالمدينة، ومن هنا يستنتج أن الآية غير متحدة السياق مع ما قبلها من آيات القبلة فانها نزلت في السنة الثانية من الهجرة

[ 388 ]

كما تقدم، ومع الآيات التى في مفتتح السورة، فانها نزلت في السنة الاولى من الهجرة فللايات سياقات متعددة كثيرة، لا سياق واحد. إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون - 159. إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم - 160. إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين - 161. خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون - 162. (بيان) قوله تعالى: إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى، الظاهر - والله أعلم - أن المراد بالهدى ما تضمنه الدين الالهي من المعارف والاحكام الذي يهدي تابعيه إلى السعادة، وبالبينات الآيات والحجج التي هي بينات وأدلة وشواهد على الحق الذي هو الهدى، فالبينات في كلامه تعالى وصف خاص بالآيات النازلة، وعلى هذا يكون المراد بالكتمان - وهو الاخفاء - أعم من كتمان أصل الآية، وعدم إظهاره للناس، أو كتمان دلالته بألتاويل أو صرف الدلالة بالتوجيه، كما كانت اليهود تصنع ببشارات النبوة ذلك فما يجهله الناس لا يظهرونه لهم، وما يعلم به الناس يؤولونه بصرفه عنه صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: من بعد ما بيناه للناس، أفاد أن كتمانهم إنما هو بعد البيان والتبين للناس، لا لهم فقط، وذلك أن التبين لكل شخص شخص من أشخاص الناس أمر

[ 389 ]

لا يحتمله النظام الموجود المعهود في هذا العالم، لا في الوحي فقط، بل في كل إعلام عمومي وتبيين مطلق، بل إنما يكون باتصال الخبر إلى بعض الناس من غير واسطة وإلى بعض آخرين بواسطتهم، بتبليغ الحاضر الغائب والعالم الجاهل، فالعالم يعد من وسائط البلوغ وأدواته، كاللسان والكلام: فإذا بين الخبر للعالم المأخوذ عليه الميثاق بعلمه مع غيره من المشافهين فقد بين الناس، فكتمان العالم علمه هذا كتمان العلم عن الناس بعد البيان لهم وهو السبب الوحيد الذي عده الله سبحانه سببا لاختلاف الناس في الدين وتفرقهم في سبل الهداية والضلالة، وإلا فالدين فطري تقبله الفطرة وتخضع له القوة المميزة بعد ما بين لها، قال تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الروم - 30، فالدين فطري على الخلقة لا يدفعه الفطرة أبدا لو ظهر لها ظهورا ما بالصفاء من القلب، كما في الانبياء، أو ببيان قولي، ولا محالة ينتهي هذا الثاني إلى ذلك الاول فافهم ذلك. ولذلك جمع في الآية بين كون الدين فطريا على الخلقة وبين عدم العلم به فقال: فطرة الله التي فطر الناس عليها، وقال: لكن أكثر الناس لا يعلمون، وقال تعالى: (وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم) البقرة - 213، فأفاد أن الاختلاف فيما يشتمل عليه الكتاب إنما هو ناش عن بغي العلماء الحاملين له، فالاختلافات الدينية والانحراف عن جادة الصواب معلول بغى العلماء بالاخفاء والتأويل والتحريف، وظلمهم، حتى أن الله عرف الظلم بذلك يوم القيمة كما قال: (فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا) الاعراف - 44، والآيات في هذا المعنى كثيرة. فقد تبين أن الآية مبتنية على الآية أعني، أن قوله تعالى: إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب الآية، مبتنية على قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جائتهم البينات بغيا بينهم الآية، ومشيرة إلى جزاء هذا البغي بذيلها وهو قوله: أولئك يلعنهم الله إلخ.

[ 390 ]

قوله تعالى: أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، بيان لجزاء بغي الكاتمين لما أنزله الله من الآيات والهدى، وهو اللعن من الله، واللعن من كل لاعن، وقد كرر اللعن لان اللعن مختلف فإنه من الله التبعيد من الرحمة والسعادة ومن اللاعنين سؤاله من الله، وقد أطلق اللعن منه ومن اللاعنين وأطلق اللاعنين، وهو يدل على توجيه كل اللعن من كل لاعن إليهم والاعتبار يساعد عليه فإن الذي يقصده لاعن بلعنه هو البعد عن السعادة، ولا سعادة بحسب الحقيقة، إلا السعادة الحقيقية الدينية وهذه السعادة لما كانت مبينة من جانب الله، مقبولة عند الفطرة، فلا يحرم عنها محروم إلا بالرد والجحود، وكل هذا الحرمان إنما هو لمن علم بها وجحدها عن علم دون من لا يعلم بها ولم تبين له، وقد أخذ الميثاق على العلماء أن يبثوا علمهم وينشروا ما عندهم من الآيات والهدى، فإذا كتموه وكفوا عن بثه فقد جحدوه فأولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، ويشهد لما ذكرنا الآية الآتية: إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار إلى قوله أجمعين الآية فإن الظاهر أن قوله: ان للتعليل أو لتأكيد مضمون هذه الآية، بتكرار ما هو في مضمونها ومعناها وهو قوله: الذين كفروا وماتوا وهم كفار. قوله تعالى: إلا الذين تابوا وبينوا الآية، استثناء من الآية السابقة، والمراد بتقييد توبتهم بالتبين أن يتبين أمرهم ويتظاهروا بالتوبة، ولازم ذلك أن يبينوا ما كتموه للناس وأنهم كانوا كاتمين والا فلم يتوبوا بعد لانهم كاتمون بعد بكتمان أنهم كانوا كاتمين. قوله تعالى: إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار، كناية عن إصرارهم على كفرهم وعنادهم وتعنتهم في قبول الحق فإن من لا يدين بدين الحق لا لعناد واستكبار بل لعدم تبينه له ليس بكافر بحسب الحقيقة، بل مستضعف، أمره إلى الله، ويشهد بذلك تقييد كفر الكافرين في غالب الآيات والتكذيب وخاصة في آيات هبوط آدم المشتملة على أول تشريع شرع لنوع الانسان، قال تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى) - إلى قوله - (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة - 39، فالمراد بالذين كفروا في الآية هم المكذبون المعاندون - وهم الكاتمون لما أنزل الله - وجازاهم الله تعالى بقوله: أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وهذا حكم من الله سبحانه أن يلحق بهم كل لعن لعن به ملك من الملائكة أو أحد من الناس جميعا من غير استثناء، فهؤلاء سبيلهم سبيل الشيطان،

[ 391 ]

إذ قال الله سبحانه فيه: (وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين) الحجر - 35، فجعل جميع اللعن عليه فهؤلاء - وهم العلماء الكاتمون لعلمهم - شركاء الشيطان في اللعن العام المطلق ونظرائه فيه، فما أشد لحن هذه الآية وأعظم أمرها ! وسيجئ في الكلام على قوله تعالى: (ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم) الانفال - 37، ما يتعلق بهذا المقام إنشاء الله العزيز. قوله تعالى: خالدين فيها، أي في اللعنة، وقوله: لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون، في تبديل السياق بوضع العذاب موضع اللعنة دلالة على أن اللعنة تتبدل عليهم عذابا. واعلم أن في هذه الآيات موارد من الالتفات، فقد التفت في الآية الاولى من التكلم مع الغير إلى الغيبة في قوله: أولئك يلعنهم الله، لان المقام مقام تشديد السخط، والسخط يشتد إذا عظم اسم من ينسب إليه أو وصفه - ولا أعظم من الله سبحانه - فنسب إليه اللعن ليبلغ في الشدة كل مبلغ، ثم التفت في الآية الثانية من الغيبة إلى التكلم وحده بقوله: فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم، للدلالة على كمال الرحمة والرإفة، بإلقاء كل نعت وطرح كل صفة وتصدى الامر بنفسه تعالى وتقدس، فليست الرأفة والحنان المستفادة من هذه الجملة كالتي يستفاد من قولنا مثلا: فأولئك يتوب الله عليهم أو يتوب ربهم عليهم، ثم التفت في الآية الثالثة من التكلم وحده إلى الغيبة بقوله: أولئك عليهم لعنة الله، والوجه فيه نظير ما ذكرناه في اللتفات الواقع في الآية الاولى. (بحث روائي) في تفسير العياشي عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه السلام قال: قلت له: أخبرني عن قول الله عز وجل: إن الذين يكتمون الآية، قال: نحن نعني بها - والله المستعان - إن الواحد منا إذا صارت إليه لم يكن له أو لم يسعه إلا أن يبين للناس من يكون بعده. وعن الباقر عليه السلام: في الآية، قال: يعني بذلك نحن، والله المستعان.

[ 392 ]

وعن محمد بن مسلم قال عليه السلام: هم أهل الكتاب. اقول: كل ذلك من قبيل الجري والانطباق، وإلا فالآية مطلقة. وفي بعض الروايات عن علي عليه السلام: تفسيره بالعلماء إذا فسدوا. وفي المجمع عن النبي في الاية، قال: من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيمة بلجام من نار، وهو قوله: أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. أقول: والخبران يؤيدان ما قدمناه. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: ويلعنهم اللاعنون، قال: نحن هم، وقد قالوا: هوام الارض. أقول: هو إشارة إلى ما يفيده قوله تعالى: (ويقول الاشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين) هود - 18، فإنهم الاشهاد الماذونون في الكلام يوم القيمة، والقائلون صوابا، وقوله: وقالوا: هوام الارض، هو منقول عن المفسرين كمجاهد وعكرمة وغيرهما، وربما نسب في بعض الروايات إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السام: إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدي، في علي. أقول: وهو من قبيل الجري والانطباق. وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم - 163. إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف

[ 393 ]

الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لآيات لقوم يعقلون - 164. ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب - 165. إذ تبرا الذين اتبعوا من الذين اتبعوا وراووا العذاب وتقطعت بهم الاسباب - 166. وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرء منهم كما تبرئوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار - 167. (بيان) الآيات متحدة متسقة ذات نظم واحد - وهي تذكر التوحيد - وتقيم عليه البرهان وتذكر الشرك وما ينتهي إليه أمره. قوله تعالى: وإلهكم إله واحد، قد مر معنى الاله في الكلام على البسملة من سورة الحمد في أول الكتاب، وأما الوحدة فمفهومها من المفاهيم البديهية التي لا نحتاج في تصورها إلى معرف يدلنا عليها، والشئ ربما يتصف بالوحدة من حيث وصف من أوصافه، كرجل واحد، وعالم واحد، وشاعر واحد، فيدل به على أن الصفة التي فيه لا تقبل الشركة ولا تعرضها الكثرة، فان الرجولية التي في زيد مثلا - وهو رجل واحد ليست منقسمة بينه وبين غيره، بخلاف ما في زيد وعمرو مثلا - وهما رجلان - فانه منقسم بين اثنين كثير بهما، فزيد من جهة هذه الصفة - وهي الرجولية - واحد لا يقبل الكثرة، وإن كان من جهة هذه الصفة وغيرها من الصفات كعلمه، وقدرته، وحيوته، ونحوها ليس بواحد بل كثير حقيقة، والله سبحانه واحد، من جهة أن

[ 394 ]

الصفة التي لا يشاركه فيها غيره، كالالوهية فهو واحد في الالوهية، لا يشاركه فيها غيره تعالى، والعلم و القدرة والحيوة، فله علم لا كالعلوم وقدرة وحيوة لا كقدرة غيره وحيوته، وواحد من جهة أن الصفات التي له لا تتكثر ولا تتعدد إلا مفهوما فقط، فعلمه وقدرته وحيوته جميعها شئ واحد هو ذاته، ليس شئ منها غير الآخر بل هو تعالى يعلم بقدرته ويقدر بحيوته وحي بعلمه، لا كمثل غيره في تعدد الصفات عينا ومفهوما، وربما يتصف الشئ بالوحدة من جهة ذاته، وهو عدم التكثر والتجزي في الذات بذاته، فلا تتجزى إلى جزء وجزء، وإلى ذات واسم وهكذا، وهذه الوحدة هي المسماة بأحديه الذات، ويدل على هذا المعنى بلفظ أحد، الذي لا يقع في الكلام من غير تقييد بالاضافة إلا إذا وقع في حيز النفي أو النهي أو ما في معناهما كقولنا ما جائني أحد، فيرتفع بذلك أصل الذات سواء كان واحدا أو كثيرا، لان الوحدة مإخوذه في أصل الذات لا في وصف من أوصافه بخلاف قولنا: ما جائني واحد فان هذا القول لا يكذب بمجئ اثنين أو أزيد لان الوحدة مأخوذة في صفة الجائى وهو الرجولية في رجل واحد مثلا فاحتفظ بهذا الاجمال حتى نشرحه تمام الشرح في قوله تعالى: (قل هو الله أحد) الاخلاص - 1، إنشاء الله تعالى. وبالجملة فقوله: وإلهكم إله واحد، تفيد بجملته اختصاص الالوهية بالله عزاسمه، ووحدته فيها وحدة تليق بساحة قدسه تبارك وتعالى، وذلك أن لفظ الواحد بحسب المتفاهم عند هؤلاء المخاطبين لا يدل على أزيد من مفهوم الوحدة العامة التي تقبل الانطباق على أنواع مختلفة لا يليق بالله سبحانه إلا بعضها فهناك وحدة عددية ووحدة نوعيه ووحدة جنسية وغير ذلك، فيذهب وهم كل من المخاطبين إلى ما يعتقده ويراه من المعنى، ولو كان قيل: والله إله واحد، لم يكن فيه توحيد لان أرباب الشرك يرون أنه تعالى إله واحد، كما أن كل واحد من آلهتهم إله واحد، ولو كان قيل: وإلهكم واحد لم يكن فيه نص على التوحيد، لامكان أن يذهب الوهم إلى أنه واحد في النوع، وهو لالوهية، نظير ما يقال في تعداد أنواع الحيوان: الفرس واحد، والبغل واحد، مع كون كل منهما متعددا في العدد، لكن لما قيل: وإلهكم إله واحد فأثبت معنى إله واحد - وهو في مقابل الهين إثنين وآلهة كثيرة - على قوله: إلهكم كان نصا في التوحيد بقصر أصل الالوهية على واحد من الالهي التى اعتقدوا بها.

[ 395 ]

قوله تعالى: لا إله إلا هو، جئ به لتأكيد نصوصية الجملة السابقة في التوحيد ونفي كل توهم أو تأويل يمكن أن يتعلق بها، والنفي فيه نفي الجنس، والمراد بالاله ما يصدق عليه الاله حقيقة وواقعا، وحينئذ فيصح أن يكون الخبر المحذوف هو موجود أو كائن، أو نحوهما، والتقدير لا إله بالحقيقة والحق بموجود، وحيث كان لفظة الجلالة مرفوعا لا منصوبا فلفظ إلا ليس للاستثناء، بل وصف بمعنى غير، والمعنى لا إله غير الله بموجود. فقد تبين أن الجملة أعني قوله: لا أله إلا هو، مسوقة لنفي غير الله من الآلهة الموهومة المتخيلة لا لنفي غير الله وإثبات وجود الله سبحانه، كما توهمه كثيرون، ويشهد بذلك أن المقام إنما يحتاج إلى النفي فقط، ليكون تثبيتا لوحدته في الالوهية لا الاثبات والنفي معا، على أن القرآن الشريف يعد أصل وجوده تبارك وتعالى بديهيا لا يتوقف في التصديق العقلي به، وإنما يعني عنايته بإثبات الصفات، كالوحدة، والفاطرية، والعلم، والقدرة، وغير ذلك. وربما يستشكل تقدير الخبر لفظ الموجود أو ما بمعناه أنه يثبت نفي وجود إله غير الله لا نفي إمكانه، فيجاب عنه بأنه لا معنى لفرض موجود ممكن مساوى الوجود والعدم ينتهي إليه وجود جميع الموجودات بالفعل وجميع شئونها، وربما يجاب عنه بتقدير حق، والمعنى لا معبود حق إلا هو. قوله تعالى: الرحمن الرحيم، قد مر الكلام في معناهما في تفسير البسملة من سورة الفاتحة وبذكر الاسمين يتم معنى الربوبية، فإليه، تعالى ينتهي كل عطية عامة، بمقتضى رحمانيته، وكل عطية خاصة واقعة في طريق الهداية والسعادة الاخروية بمقتضى رحيميته. قوله تعالى: أن في خلق السموات والارض إلى آخر الآية، السياق كما مر في أول البيان يدل على أن الآية مسوقة للدلالة والبرهنة على ما تضمنته الآية السابقة أعني قوله تعالى: وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الآية، فإن الآية تنحل بحسب المعنى إلى أن لكل شئ من هذه الاشياء إلها، وأن إله الجميع واحد وأن هذا الاله الواحد هو إلهكم، وأنه رحمن مفيض للرحمة العامة، وأنه رحيم يسوق إلى سعادة

[ 396 ]

الغاية - وهي سعادة الآخرة - فهذه حقائق حقة، وفي خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار إلى آخر ما ذكر في الآية آيات دالة عليها عند قوم يعقلون. ولو كان المراد إقامة الحجة على وجود إله الانسان أو أن اله الانسان واحد لما كان الجميع إلا آية واحدة دالة على ذلك من طريق اتصال التدبير، ولكان حق الكلام في الآية السابقة أن يقال: وإلهكم واحد لا إله إلا هو، فالآية مسوق للدلالة على الحجة على وجود الاله وعلى وحدته بمعنى أن إله غير الانسان من النظام الكبير واحد وأن ذلك بعينه إله الانسان. وإجمال الدلالة أن هذه السموات التي قد علتنا وأظلتنا على ما فيها من بدائع الخلقة، والارض التي قد أقلمنا وحملنا مع عجيب أمرها وسائر ما فيها من غرائب بالتحولات والتقلبات كاختلاف الليل والنهار، والفلك الجارية، والامطار النازلة، والرياح المرفة، والسحب المسخرة امور مفتقرة في نفسها إلى صانع موجد، فلكل منها إله موجد (وهذا هو الحجة الاولى). ثم إن هذه الاجرام الجوية المختلفة بالصغر والكبر واللبعد والقرب (وقد وجد الواحد في الصغر على ما بلغة الفحص العلمي ما يعادل: 33.... ر. من سانتيمتر مكعب والواحد في الكبر ما يعادل الملابين من حجم الارض وهو كرة يعادل قطرها 9000 ميلا تقريبا، واكتشف من المسافة بين جرمين علويين ما يقرب من ثلاثة ملايين سنة نورية، والسنة النورية من المسافة تعدل 365 + 24 + 60 + 60 + 300000 كيلومتر تقريبا)، فانظر إلى هذه الارقام التي تدهش اللب وتبهت الفكر واقبض ما أنت قاض في غرابة الامر وبداعتة تفعل البعض منها في البعض، وتيفعل البعض منها عن البعض أينما كانت وكيفما كانت بالجاذبة العامة، وإفاضة النور والجرارة وتحيي بذلك سنة الحركة العامة والزمان العمومي، وهذا نظام عام دائم تحت قانون ثابت، حتى أن النسبتة العمومية القاصية بالتغير في قونانين الحركة في العالم الجسماني لا تتجافى عن الاعتراف بأن التغيير العمومي أيضا محكوم قانون آخر ثابت في التغير والتحول، ثم إن هذه الحركة والتحول العمومي تتصور في كل جزء من أجزاء العالم بصورة خاصة كما بين الشمس التي

[ 397 ]

لعالمنا مع منظومتها ثم تزيدضيقا في الدائرة كما في أرضنا مع ما يختص بها من الحوادث والاجرام، كالقمر والليل والنهار، والرياح والسحب والامطار، ثم تتضيق الدائرة، كما في المكونات الارضية: من المعادن والنبات والحيوان وساير التراكيب، ثم في كل نوع من أنواعها، ثم تتضيق الدائرة حتى تصل النوبة إلى العناصر، ثم إلى الذرات، ثم إلى أجزاء الذرات حتى تصل إلى آخر ما انتهى الفحص العلمي الميسور للانسان إلى هذا اليوم، وهي الالكترون، والبروتون، ويوجد هناك نظير المنظومات الشمسية جرم مركزي وأشياء يدور حولها دوران الكواكب على مداراتها التي حول شمسها وسبحها في أفلاكها. ففي أي موقف من هذه المواقف وقف الانسان شاهد نظاما عجيبا ذا تحولات وتغيرات، يحفظ بها أصل عالمه، وتحيى بها سنة إلهية لا تنفد عجائبه، ولا تنتهي غرائبه، لا استثناء في جريها وإن كان واحدا، ولا اتفاق في طيها وإن كان نادرا شاردا، لا يدرك ساحلها ولا يقطع مراحلها، وكلما ركبت عدة منها أخذا من الدقيق إلى الجليل وجدتها لا تزيد على عالم واحد ذا نظام واحد، وتدبير متصل حتى ينتهي الامر إلى ما انتهى إليه توسع العلم إلى اليوم بالحس المسلح والارصاد الدقيقة، وكلما حللتها وجزيتها راجعا من الكل إلى الجزء حتى تنتهي إلى مثل المليكول وجدته لا تفقد من العالم الواحد شيئا ذا نظام واحد وتدبير متصل، على أن كل اثنين من هذه الموجودات متغاير الواحدين ذاتا وحكما شخصا. فالعالم شئ واحد والتدبير متصل، وجميع الاجزاء مسخرة تحت نظام واحد وإن كثرت واختلفت أحكامها، وعنت الوجوه للحي القيوم، فإله العالم الموجد له والمدبر لامره واحد (وهذا هو البرهان الثاني. ثم إن الانسان الذي هو موجود أرضي يحيى في الارض ويعيش في الارض ثم يموت ويرجع إلى الارض لا يفتقر في شئ من وجوده وبقائه إلى أزيد من هذا النظام الكلي الذي لمجموع هذا العالم المتصل تدبيره، الواحد نظامه، فهذه الاجرام العلوية في إنارتها وتسخينها، وهذه الارض في اختلاف ليلها ونهارها ورياحها وسحبها وأمطارها ومنافعها التي تجري من قطر إلى قطر من رزق ومتاع هي التي يحتاج إليها الانسان في

[ 398 ]

حاجته المادية وتدبير وجوده وبقائه - والله من ورائهم محيط - فإلهها الموجد لها المدبر لامرها هو إله الانسان الموجد له والمدبر لامره (وهذا هو البرهان الثالث). ثم ان هذا الاله هو الذي يعطي كلا ما يحتاج إليه في سعادته الوجودية وما يحتاج إليه في سعادته في غايته وآخرته لو كان له سعادة اخروية غائية فإن الآخرة عقبى هذه الدار، وكيف يمكن أن يدبر عاقبة الامر غير الذي يدبر نفس الامر ؟ (وهذا هو البرهان على الاسمين الرحمن الرحيم). وعند هذا تم تعليل الآية الاولى بالثانية وفي تصدير الآية بلفظة، إن، الدالة على التعليل إشارة إلى ذلك - والله العالم -. فقوله تعالى: إن في خلق السموات والارض، اشارة إلى ذوات الاجرام العلوية والارض بما تشتمل عليه تراكيبها من بدائع الخلق وعجائب الصنع، من صور تقوم بها أسماؤها، ومواد تتألف منها ذواتها، وتحول بعضها إلى بعض، ونقص أو زيادة تطرئها وتركب أو تحلل يعرضها، كما قال: (أو لم يروا أنا نأتي الارض ننقصها من أطرافها) الرعد - 41، وقال: (أو لم ير الذين كفروا أن السموات والارض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شئ حي) الانبياء - 30. قوله تعالى: واختلاف الليل والنهار، وهو النقيصة والزيادة والطول والقصر العارضان لهما من جهة اجتماع عاملين من العوامل الطبيعية، وهي الحركة اليومية التي للارض على مركزها وهي ترسم الليل والنهار بمواجهة نصف الكرة وأزيد بقليل دائما مع الشمس فتكتسب النور وتمص الحرارة، ويسمى النهار، واستتار الشمس عن النصف الآخر وأنقص بقليل فيدخل تحت الظل المخروطي وتبقى مظلما وتسمى الليل، ولا يزالان يدوران حول الارض، والعامل الآخر ميل سطح الدائرة الاستوائية أو المعدل عن سطح المدار الارضي في الحركة الانتقالية إلى الشمال والجنوب، وهو الذي يوجب ميل الشمس من المعدل إلى الشمال أو الجنوب الراسم للفصول، وهذا يوجب استواء الليل والنهار في منطقة خط الاستواء وفي القطبين، أما القطبان فلهما في كل سنة شمسية تامة يوم وليلة واحدة كل منهما يعدل نصف السنة، و الليل في قطب الشمال نهار في قطب الجنوب وبالعكس، وأما النقطة الاستوائية فلها في كل سنة شمسية ثلاثمائة وخمس وستون ليلا ونهارا تقريبا، والنهار والليل فيها متساويان، وأما بقية المناطق

[ 399 ]

فيختلف النهار والليل فيها عددا وفي الطول والقصر بحسب القرب من النقطة الاستوائية ومن القطبين، وهذا كله مشروح مبين في العلوم المربوطة بها. وهذا الاختلاف هو الموجب لاختلاف ورود الضوء والحرارة، وهو الموجب لاختلاف العوامل الموجبة لاختلاف حدوث التراكيب الارضية والتحولات في كينونتها مما ينتفع باختلافها الانسان انتفاعات مختلفة. قوله تعالى: والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، والفلك هو السفينة يطلق على الواحد والجمع، والفلك والفلكة كالتمر والتمرة والمراد بما ينفع الناس المتاع والرزق تنقلها من ساحل إلى ساحل ومن قطر من أقطار الارض إلى قطر آخر. وفي عد الفلك في طي الموجودات والحوادث الطبيعية التي لا دخل لاختيار الانسان فيها كالسماء والارض واختلاف الليل والنهار دلالة على أنها أيضا تنتهي مثلها إلى صنع الله سبحانه في الطبيعة فان نسبة الفعل إلى الانسان بحسب الدقة لا تزيد على نسبة الفعل إلى سبب من الاسباب الطبيعية، والاختيار الذي يتبجح به الانسان لا يجعله سببا تاما مستقلا غير مفتقر إلى إرادة الله سبحانه ولا يجعله أقل احتياجا إليه تعالى بالنسبة إلى سائر الاسباب الطبيعية، فلا فرق من حيث الاحتياج إلى إرادة الله سبحانه بين أن يفعل قوة طبيعية في مادة فتوجد بالفعل و الانفعال والتحريك والتركيب والتحليل صورة من الصور كصورة الحجارة مثلا، وبين أن يفعل الانسان بالتحريك والتقريب والتبعيد في المادة صورة من الصور كصورة السفينة مثلا في أن الجميع تنتهي إلى صنع الله وايجاده لا يستقل شئ مستغنيا عنه تعالى في ذاته وفعله. فالفلك أيضا مثل سائر الموجودات الطبيعية تفتقر إلى الاله في وجودها وتفتقر إلى إلاله في تدبير أمرها من غير فرق، وقد أشار تعالى إلى هذه الحقيقة بقوله: (والله خلقكم وما تعملون) الصافات - 96، حيث حكاه من إبراهيم فيما قاله لقومه في خصوص الاصنام التي اتخذوها آلهة فان من المعلوم أن الصنم ليس إلا موجودا صناعيا كالفلك التي تجري في البحر، وقال تعالى: (وله الجوار المنشآت في البحر كالاعلام) الرحمن - 24، فعدها ملكا لنفسه، وقال تعالى: (وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره) إبراهيم - 32، فعد تدبير أمرها راجعا إليه.

[ 400 ]

(كلام في استناد مصنوعات الانسان إلى الله سبحانه) فما أغفل هؤلاء الذين يعدون الصناعيات من الاشياء التي يعملها الانسان مصنوعة مخلوقة للانسان مقطوعة النسبة عن إله العالم عز اسمه مستندين إلى أنها مخلوقة لارادة الانسان واختياره. فطائفة منهم - وهم أصحاب المادة من المنكرين لوجود الصانع - زعموا أن حجة الملليين في إثبات الصانع: أنهم وجدوا في الطبيعة حوادث وموجودات جهلوا عللها المادية ولزمهم من جهة القول بعموم قانون العلية والمعلولية في الاشياء والحوادث أن يحكموا بوجود عللها - وهي مجهولة لهم بعد - فأنتج ذلك القول بأن لهذه الحوادث المجهولة العلة علة مجهولة الكنه هي وراء عالم الطبيعة، وهو الله سبحانه، فالقول بأن الصانع موجود فرضية أوجب افتراضها ما وجده الانسان الاولى من الحوادث المادية المجهولة العلل كالحوادث الجوية وكثير من الحوادث الارضية المجهولة العلل، وما وجده من الحوادث والخواص الروحية التي لم يكشف العلوم عن عللها الماديي حتى اليوم. قالوا: وقد وفق العلوم في تقدمها الحديث لحل المشكل في الحوادث المادية وكشفت عن عللها فأبطلت من هذه الفرضية أحد ركنيها وهو احتياج الحوادث المادية المجهولة العلل إلى علل ورائها، وبقي الركن الآخر وهو احتياج الحوادث الروحية إلى عللها، وانتهائها إلى علة مجردة، وتقدم البحث في الكيمياء الالي جديدا يعدنا وعدا حسنا أن سيطلع الانسان على علل الروح ويقدر على صنعة الجراثيم الحيوية وتركيب أي موجود روحي وإيجاد أي خاصة روحية، وعند ذلك ينهدم أساس الفرضية المذكورة ويخلق الانسان في الطبيعة أي موجود شاء من الروحيات كما يخلق اليوم أي شئ شاء من الطبيعيات، وقد كان قبل اليوم لا يرضى أن ينسب الخلق إلا إلى علة مفروضة فيما وراء الطبيعة، حمله على افتراضها الجهل بعلل الحوادث، هذا ما ذكروه. وهؤلاء المساكين لو أفاقوا قليلا من سكرة الغفلة والغرور لرأوا أن الالهيين من أول ما أذعنوا بوجود إله للعالم - ولن يوجد له أول - أثبتوا هذه العلة الموجدة لجميع العالم، وبين اجزائه حوادث معلومة العلل - وفيها حوادث مجهولة العلل -

[ 401 ]

والمجموع من حيث المجموع مفتقر عندهم إلى علة خارجة، فما يثبته أولئك غير ما ينفيه هؤلاء. فالمثبتون - ولم يقدر البحث والتاريخ على تعيين مبدء لظهورهم في تاريخ حيوة النوع الانساني - أثبتوا لجميع العالم صانعا واحدا أو كثيرا (وان كان القرآن يثبت تقدم دين التوحيد على الوثنية، وقد بين ذلك الدكتور ماكس موللر الالماني المستشرق صاحب التقدم في حل الرموز السنسكريتية) وهم حتى الانسان الاولى منهم يشاهدون العلل في بعض الحوادث المادية، فإثباتهم، إلها صانعا لجميع العالم استنادا إلى قانون العلية العام ليس لاجل أن يستريحوا في مورد الحوادث المجهولة العلل حتى ينتج ذلك القول باحتياج بعض العالم إلى الاله واستغناء البعض الآخر عنه، بل لاذعانهم بأن هذا العالم المؤلف من سلسلة علل ومعلولات طبيعية بمجموعها ووحدانيتها لا يستغني عن الحاجة إلى علة فوق العلل تتكي عليها جميع التأثيرات والتأثرات الجارية بين اجزائه، فإثبات هذه العلة العالية لا يبطل قانون العلية العام الجاري بين اجزاء العالم أنفسها، ولا وجود العلل المادية في موارد المعلولات المادية تغني عن استنادها الجميع إلى علة عالية خارجة من سلسلتها، وليس معنى الخروج وقوف العلة في رأس السلسلة، بل إحاطتها بها من كل جهة مفروضة. ومن عجيب المناقضة في كلام هؤلاء أنهم قائلون في الحوادث - ومن جملتها الافعال الانسانية - بالجبر المطلق فما من فعل ولا حادث غيره إلا وهو معلول جبري لعلل عندهم، وهم مع ذلك يزعمون أن الانسان لو خلق إنسانا آخر كان غير منته إلى علة العالم لو فرض له علة. وهذا المعنى الذي قلنا - على لطفة ودقته وإن لم يقدر على تقريره الفهم العامي الساذج لكنه موجود على الاجمال في أذهانهم حيث قالوا باستناد جميع العالم بأجمعه إلى الاله الصانع - وفيه العلل والمعلولات فهذا - أولا. ثم إن البراهين العقلية التي أقامتها الالهيون من الحكماء الباحثين أقاموها بعد إثبات عموم العلية وبنوا فيها على وجوب انتهاء العلل الممكنة إلى علة واجبة الوجود، واستمروا على هذا السلك من البحث منذ الوف من السنين من أقدم عهود الفلسفة إلى

[ 402 ]

يومنا هذا، ولم يرتابوا في استناد المعلولات التي معها عللها الطبيعية الممكنة إلى علة واجبة، فليس استنادهم إلى العلة الواجبة لاجل الجهل بالعلة الطبيعية، وفي المعلولات المجهولة العلل كما يتوهمه هؤلاء، وهذا ثانيا. ثم إن القرآن المثبت لتوحيد الاله إنما يثبته مع تقرير جريان قانون العلية العام بين أجزاء العالم، وتسليم استناد كل حادث إلى علة خاصة به، وتصديق ما يحكم به العقل السليم في ذلك، فإنه يسند الافعال الطبيعية إلى موضوعاتها وفواعلها الطبيعية وينسب إلى الانسان أفعاله الاختيارية في آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها، ثم ينسب الجميع إلى الله سبحانه من غير استثناء، قال تعالى: (الله خالق كل شئ) الزمر - 62، وقال تعالى: (ذلكم الله ربكم خالق كل شئ لا إله إلا هو) المؤمن - 62، وقال تعالى: (ألا له الخلق والامر) الاعراف - 54، وقال تعالى: (له ما في السموات وما في الارض) طه - 5، فكل ما صدق عليه اسم شئ فهو مخلوق لله منسوب إليه على ما يليق بساحة قدسه وكماله، وقد جمع في آيات أخر بين الاثباتين جميعا فنسب الفعل إلى فاعله وإلى الله سبحانه معا كقوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) الصافات - 96، فنسب أعمال الناس إليهم ونسب خلق أنفسهم وأعمالهم إليه تعالى، وقال تعالى: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) الانفال - 17، فنسب الرمي إلى رسول الله ونفاه عنه ونسبه إلى الله تعالى إلى غير ذلك. ومن هذا الباب آيات أخر تجمع بين الاثباتين بطريق عام كقوله تعالى: (وخلق كل شئ فقدره تقديرا) الفرقان - 2، وقال تعالى: (إنا كل شئ خلقناه بقدر - إلى أن قال - وكل صغير وكبير مستطر) القمر - 53، وقال تعالى: (قد جعل الله لكل شئ قدرا) الطلاق - 3، وقال تعالى: (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) الحجر - 21، فإن تقدير كل شئ هو جعله محدودا بحدود العلل المادية والشرائط الزمانية والمكانية. وبالجملة فكون إثبات وجود الاله الواحد في القرآن على أساس إثبات العلية والمعلولية بين جميع أجزاء العالم، ثم استناد الجميع إلى الاله الفاطر الصانع للكل مما لا يعتريه شك ولا ريب لا كما يزعمه هؤلاء من إسناد البعض إلى الله وإسناد الآخر إلى علله المادية المعلومة، وهذا ثالثا.

[ 403 ]

نعم حملهم على هذا الزعم ما تلقوة: من جمع من أرباب النحل الباحثين عن هذه المسألة وأمثالها في فلسفة عامية كانت تنشرها الكنيسة في القرون الوسطى. أو يعتمد عليها الضعفاء من متكلمي الاديان الاخرى وكانت مؤلفة من مسائل محرفة ما هي بالمسائل، واحتجاجات واستدلالات واهية فاقدة لاستقامة النظر. فهؤلاء لما أرادوا بيان دعويهم الحق (الذي يقضي بصحته إجمالا عقولهم) ونقله من الاجمال إلى التفصيل دفعهم ضعف التعقل والفكر إلى غير الطريق فعمموا الدعوى، وتوسعوا في الدليل، فحكموا باستناد كل معلول مجهول العلة إلى الله سبحانه من غير واسطة، ونفوا حاجة الافعال الاختيارية إلى علة موجبه، أو احتياج الانسان في صدور فعله الاختياري إلى الاله تعالى، واستقلاله في فعله، وقد مر البحث عن قولهم في الكلام على قوله تعالى: (وما يضل به إلا الفاسقين) البقرة - 26، ونورد هيهنا بعض ما فيه من الكلام. وطائفة منهم - وهم بعض المحدثين والمتكلمين من ظاهريي المسلمين وجمع من غيرهم - لم يقدروا أن يتعقلوا معنى صحيحا لاسناد أفعال الانسان الاختيارية إلى الله سبحانه على ما يليق بالمقام الربوبي فنفوا استناد مصنوعات الانسان إليه سبحانه، وبالخصوص فيما وضعه للمعصية خاصة كالخمر وآلات اللهوو القمار وغير ذلك، وقد قال تعالى: (إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) المائدة - 90، ومعلوم أن ما عده الله سبحانه عملا للشيطان لا يجوز أن ينسب إليه. وقد مر فيما تقدم ما يظهر به بطلان هذا التوهم نقلا وعقلا، فالافعال الاختيارية كما أن لها انتسابا إلى الله سبحانه على ما يليق به تعالى كذلك نتائجها وهي الامور الصناعية التي يصنعها الانسان لداعي رفع الحوائج الحيوية. على أن النصاب الواقعة في الآية السابقة هي الاصنام والتماثيل المنصوبة المعبودة التي ذكر الله سبحانه أنها مخلوقة له في قوله: (والله خلقكم وما تعملون الآية، ومن هيهنا يظهر أن فيها جهات مختلفة من النسب ينسب من بعضها إلى الله سبحانه وهي طبيعة وجودها مع قطع النظر عن وصف المعصية المتعلق بها، فإن الصنم ليس بحسب الحقيقة إلا حجرا أو فلزا عليه شكل خاص وليس فيه ما يوجب نفي انتسابه إلى موجد كل شئ، واما أنه صنم معبود دون الله سبحانه فهذه هي الجهة التي يجب

[ 404 ]

نفيها عنه تعالى ونسبتها إلى عمل غيره من شيطان أو إنسان، وكذا حكم غيره من حيث انتسابه إليه تعالى وإلى غيره. فقد تبين من جميع ما مر أن الامور الصناعية منتسبة إلى الخلقة كاستناد الامور الطبيعية من غير فرق، نعم يدور الامر في الانتساب إلى الخلقة مدار حظ الشئ من الوجود فافهم ذلك. قوله تعالى: وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيى به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة، فان حقيقته عناصر مختلفة يحملها ماء البحار وغيره ثم يتكاثف بخارا متصاعدا حاملا للحرارة حتى ينتهي إلى زمهرير الهواء فيتبدل ماء متقاطرا على صورة المطر أو يجمد ثانيا فيصير ثلجا أو بردا فينزل لثقله إلى الارض فتشربه وتحيي به أو تحزنه فيخرج على صورة ينابيع في الارض بها حيوة كل شئ فالماء النازل من السماء حادث من الحوادث الوجودية جار على نظام متقن غاية الاتقان من غير انتقاض واستثناء ويستند إليه انتشاء النبات وتكون الحيوان من كل نوع. وهو من جهة تحدده بما يحفه من حوادث العالم طولا وعرضا تصير معها جميعا شيئا واحدا لا يستغني عن موجد يوجده وعلة تظهره فله إله واحد ومن جهة أنه مما يستند إليه وجود الانسان حدوثا وبقاء يدل على كون إلهه هو إله الانسان. قوله تعالى: وتصريف الرياح، وهو توجيهها من جانب إلى جانب بعوامل طبيعية مختلفة، والاغلب فيها أن الاشعة النورية الواقعة على الهواء من الشمس تتبدل حرارة فيه فيعرضه اللطافة والخفة لان الحرارة من عواملها فلا يقدر على حمل ما يعلوه أو يجاوره من الهواء البارد الثقيل فينحدر عليه فيدفعه بشدة فيجري الهواء اللطيف إلى خلاف سمت الدفع وهو الريح، ومن منافعه تلقيح النبات ودفع الكثافات البخارية والعفونات المتصاعدة، وسوق السحب الماطرة وغيرها، ففيه حيوة النبات والحيوان والانسان. وهو في وجوده يدل على الاله وفي التيامه مع سائر الموجودات واتحاده معها كما مر يدل على إله واحد للعالم، وفي وقوعه طريقا إلى وجود الانسان وبقائه يدل على أن

[ 405 ]

إله الانسان وغيره واحد. قوله تعالى: والسحاب المسخر بين السماء والارض، السحاب البخار المتكاثف الذي منه الامطار وهو ضباب بالفتح ما لم ينفصل من الارض فإذا انفصل وعلا سمي سحابا وغيما وغماما وغير ذلك، والتسخير قهر الشئ وتذليله في عمله، والسحاب مسخر مقهور في سيره وإمطاره بالريح والبرودة وغيرهما المسلطة عليه بإذن الله، والكلام في كون السحاب آية نظير الكلام في غيره مما عد معه. واعلم: أن اختلاف الليل والنهار والماء النازل من السماء والرياح المصرفة والسحاب المسخر جمل الحوادث العامة التي منها يتألف نظام التكوين في الارضيات من المركبات النباتية والحيوانية وغيرهما فهذه الآية كالتفصيل بوجه لاجمال قوله تعالى: (وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين) فصلت - 10. قوله تعالى: لآيات لقوم يعقلون، العقل - وهو مصدر عقل يعقل - إدراك الشئ وفهمه التام، ومنه العقل اسم لما يميز به الانسان بين الصلاح والفساد وبين الحق و الباطل والصدق والكذب وهو نفس الانسان المدرك وليس بقوة من قواة التى هي كالفروع للنفس كالقوة الحافظة و الباصرة وغيرهما. قوله تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا، الند كالمثل وزنا ومعنى، ولم يقل من يتخذ لله أندادا كما عبر بذلك في سائر الموارد كقوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أندادا) البقرة - 22، وقوله تعالى: (وجعلوا لله أندادا) إبراهيم - 30، وغير ذلك لان المقام مسبوق بالحصر في قوله: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الآية، فكان من اتخذ لله أندادا قد نقض الحصر من غير مجوز واتخذ من يعلم أنه ليس بأله إلها اتباعا للهوى وتهوينا لحكم عقله ولذلك نكره تحقيرا لشأنه، فقال ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا. قوله تعالى: يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله، وفي التعبير بلفظ يحبونهم دلالة على أن المراد بالانداد ليس هو الاصنام فقط بل يشمل الملائكه، وأفرادا من الانسان الذين اتخذوهم أربابا من دون الله تعالى بل يعم كل مطاع من دون الله من غير أن يأذن الله في إطاعته كما يشهد به ما في ذيل الآيات من قوله: (إذ تبرا الذين اتبعوا من الذين اتبعوا) البقرة - 166، وكما قال تعالى: (ولا يتخذ بعضنا بعضا

[ 406 ]

أربابا من دون الله) آل عمران - 64، وقال تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) التوبة - 31، وفي الاية دليل على أن الحب يتعلق بالله تعالى حقيقة خلافا لمن قال: أن الحب وهو وصف شهواني، يتعلق بالاجسام والجسمانيات، ولا يتعلق به سبحانه حقيقة وأن معنى ما ورد من الحب له الاطاعة بالايتمار بالامر والانتهاء عن النهي تجوزا كقوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) آل عمران - 31. والاية حجة عليهم فإن قوله تعالى: أشد حبا لله يدل على أن حبه تعالى يقبل الاشتداد، وهو في المؤمنين أشد منه في المتخذين لله اندادا، ولو كان المراد بالحب هو الاطاعة مجازا كان المعنى والذين آمنوا أطوع لله ولم يستقم معنى التفضيل لان طاعة غيرهم ليست بطاعة عند الله سبحانه فالمراد بالحب معناه الحقيقي. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: (قل إن كان آبائكم وابنائكم - إلى قوله - أحب إليكم من الله ورسوله) التوبة - 25، فإنه ظاهر في أن الحب المتعلق بالله والحب المتعلق برسوله والحب المتعلق بالآباء والابناء والاموال وغيرها جميعا من سنخ واحد لمكان قوله أحب إليكم، وأفعل التفضيل يقتضي اشتراك المفضل والمفضل عليه في أصل المعنى واختلافهما من حيث الزيادة والنقصان. ثم ان الآية ذم المتخذين للانداد بقوله: يحبونهم كحب الله ثم مدح المؤمنين بأنهم أشد حبا لله سبحانه فدل التقابل بين الفريقين على أن ذمهم أنما هو لتوزيعهم المحبة الالهية بين الله وبين الانداد الذين اتخذوهم أندادا. وهذا وإن كان بظاهره يمكن أن يستشعر منه أنهم لو وضعوا له سبحانه سهما أكثر لم يذموا على ذلك لكن ذيل الاية ينفي ذلك فإن قوله: إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا، وقوله: إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأ وا العذاب وتقطعت بهم الاسباب، وقوله: كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، يشهد بأن الذم لم يتوجه إلى الحب من حيث أنه حب بل من جهة لازمه الذي هو الاتباع وكان هذا الاتباع منهم لهم لزعمهم ان لهم قوة يتقوون بها لجلب محبوب أو دفع مكروه عن أنفسهم فتركوا بذلك إتباع الحق من أصله أو في بعض الامر، وليس من اتبع الله في بعض أمره دون بعض بمتبع له وحينئذ يندفع الاستشعار المذكور، ويظهر أن هذا الحب يجب أن لا يكون لله فيه سهيم وإلا فهو الشرك، واشتداد هذا الحب ملازم لانحصار التبعية من امر الله، ولذلك مدح المؤمنين

[ 407 ]

بذلك في قوله والذين آمنوا أشد حبا لله. وإذ كان هذا المدح والذم متعلقا بالحب من جهة أثره الذي هو الاتباع فلو كان الحب للغير بتعقيب إطاعة الله تعالى في أمره ونهيه لكون الغير يدعو إلى طاعته تعالى - ليس له شأن دون ذلك - لم يتوجه إليه ذم البته كما قال تعالى: (قل إن كان آبائكم وابناؤكم - إلى قوله - أحب اليكم من الله ورسوله) التوبة - 24، فقرر لرسوله حبا كما قرره لنفسه لان حبه عليه السلام حب الله تعالى فإن أثره وهو الاتباع عين اتباع، الله تعالى: فإن الله سبحانه هو الداعي إلى اطاعة رسوله والآمر باتباعه، قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول الا ليطاع باذن الله) النساء - 64، وقال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) وكذلك اتباع كل من يهتدي إلى الله باتباعه كعالم يهدي بعلمه أو آية تعين بدلالته وقرآن يقرب بقرائته ونحو ذلك فإنها كلها محبوبة بحب الله واتباعها طاعة تعد مقربة إليه. فقد بان بهذا البيان أن من أحب شيئا من دون الله ابتغاء قوة فيه فاتبعه في تسبيبه إلى حاجة ينالها منه أو اتبعه بإطاعته في شئ لم يأمر الله به فقد اتخذ من دون الله اندادا وسيريهم الله اعمالهم حسرات عليهم، وأن المؤمنين هم الذين لا يحبون إلا الله ولا يبتغون قوة إلا من عند الله ولا يتبعون غير ما هو من أمر الله ونهيه فأولئك هم المخلصون لله دينا. وبان ايضا أن حب من حبه من حب الله واتباعه اتباع الله كالنبي وآله والعلماء بالله، وكتاب الله وسنة نبيه وكل ما يذكر الله بوجه إخلاص لله ليس من الشرك المذموم في شئ، والتقرب بحبه واتباعه تقرب إلى الله، وتعظيمه بما يعد تعظيما من تقوى الله، قال تعالى: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) الحج - 32، والشعائر هي العلامات الدالة، ولم يقيد بشئ مثل الصفا والمروة وغير ذلك، فكل ما هو من شعائر الله وآياته وعلاماته المذكرة له فتعظيمه من تقوى الله ويشمله جميع الآيات الآمرة بالتقوى. نعم لا يخفى لذي مسكة أن إعطاء الاستقلال لهذه الشعائر والايات في قبال الله واعتقاد أنها تملك لنفسها أو غيرها نفعا أو ضرا أو موتا أو حيوة أو نشورا إخراج لها

[ 408 ]

عن كونها شعائر وآيات وإدخال لها في حظيرة الالوهية وشرك بالله العظيم، والعياذ بالله تعالى. قوله تعالى: ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العقاب، ظاهر السياق أن قوله: إذ مفعول يرى، وان قوله: أن القوة لله إلى آخر الاية، بيان للعذاب، ولو للتمني. والمعنى ليتهم يرون في الدنيا يوما يشاهدون فيه العذاب فيشاهدون أن القوة لله جميعا وقد اخطأوا في إعطاء شئ منه لاندادهم وأن الله شديد في عذابه، واذاقته عاقبة هذا الخطأ فالمراد بالعذاب في الآية - على ما يبينه ما يتلوه - مشاهدتهم الخطأ في إتخاذهم اندادا يتوهم قوة فيه ومشاهدة عاقبة هذا الخطأ ويؤيده الآيتان التاليتان: إذ تبرأ الذين إتبعوا من الذين اتبعوا فلم يصل من المتبوعين إلى تابعيهم نفع كانوا يتوقعونه ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب فلم يبق تأثير لشئ دون الله، وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة، وهو تمني الرجوع إلى الدنيا فنتبرأ منهم أي من الانداد المتبوعين في الدنيا كما تبرأوا منا في الاخرة، كذلك يريهم الله أي الذين ظلموا باتخاذ الانداد أعمالهم، وهي حبهم واتباعهم لهم في الدنيا حالكونها حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار. قوله تعالى: وما هم بخارجين من النار، فيه حجة على القائلين بانقطاع العذاب من طريق الظواهر. (بحث روائي) في الخصال والتوحيد والمعاني عن شريح بن هاني قال: إن أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال يا أمير المؤمنين أتقول إن الله واحد ؟ قال فحمل الناس عليه، فقالوا: يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب ؟ فقال أمير المؤمنين دعوه فإن الذي يريده الاعرابي هو الذي نريده من القوم، ثم قال: عليه السلام يا أعرابي، إن القول: في أن الله واحد على أربعة أقسام فوجهان منها لا يجوزان على الله تعالى، ووجهان يثبتان فيه فأما اللذان لا يجوزان عليه - فقول القائل واحد يقصد به باب الاعداد فهذا لا يجوز لان ما لا ثاني له لا يدخل في باب الاعداد، أما ترى أنه كفر من قال انه ثالث ثلثه ؟ وقول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز لانه تشبيه وجل ربنا وتعالى عن ذلك، وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه

[ 409 ]

فقول القائل هو واحد ليس له في الاشياء شبه كذلك ربنا، وقول القائل إنه عز وجل أحدي المعنى يعني به: أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربنا. اقول: والوجهان اللذان أثبتهما عليه السلام كما ترى منطبق على ما ذكرناه في بيان قوله تعالى وإلهكم إله واحد الآية. وقد تكرر في الخطب المروية عن علي عليه السلام والرضا عليه السلام وغيرهما من أئمة أهل البيت: قولهم: إنه واحد لا بالعدد الخطبة، وهو ما مر من معنى صرافة ذاته الآبية عن العدد، وفي دعاء الصحيفة الكاملة لك وحدانية العدد الدعاء، ويحمل على الملكية أي أنت تملك وحدانية العدد دون الاتصاف فإن العقل والنقل ناهضان على أن وجوده سبحانه صرف لا يتثنى ولا يتكرر بذاته وحقيقته. وفي الكافي والاختصاص وتفسير العياشي عن الباقر عليه السلام: في قوله: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا الآية) - في حديث - قال: هم والله يا جابر أئمة الظلمة وأشياعهم، وفي رواية العياشي: والله يا جابر هم أئمة الظلم وأشياعهم. أقول: وقد اتضح معناه بما مر من البيان وتعبيره عليه السلام بأئمة الظلم لمكان قوله تعالى: ولو يرى الذين ظلموا، فعد التابعين المتخذين للانداد ظلمة فيكون متبوعوهم أئمه الظلمة وأئمة الظلم. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم الآية، قال: هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله بخلا ثم يموت فيدعه لمن يعمل في طاعة الله أو في معصية الله فإن عمل به في طاعة الله رآه في ميزان غيره فرآه حسرة - وقد كان المال له - وإن كان عمل به في معصية الله قواه بذلك المال حتى عمل به في معصية الله. اقول: وروي هذا المعنى العياشي والصدوق والمفيد والطبرسي عن الباقر والصادق عليهما اسلام وهو ناظر إلى التوسعة في معنى الانداد وهو كذلك كما تقدم. (بحث فلسفي) من المعاني الوجدانية التي عندنا معنى نسميه بالحب كما في موارد حب الغذاء

[ 410 ]

والحب النساء وحب المال وحب الجاه وحب العلم، هذه مصاديق خمسة لا نشك في وجودها فينا، ولا نشك أنا نستعمل لفظ الحب فيها بمعنى واحد على سبيل الاشتراك المعنوي دون اللفظي، ولا شك أن المصاديق مختلفة، فهل هو اختلاف نوعي أو غير ذلك ؟ إذا دققنا النظر في حب ما هو غذاء كالفاكهة مثلا وجدناه محبوبا عندنا لتعلقه بفعل القوة الغاذية، ولو لا فعل هذه القوة وما يحوزه الانسان بها من الاستكمال البدني لم يكن محبوبا ولا تحقق حب، فالحب بحسب الحقيقة بين القوة الغاذية وبين فعلها، وما تجده عند الفعل من اللذة، ولسنا نعني باللذة لذة الذائقة فإنها من خوادم الغاذية وليست نفسها، بل الرضى الخاص الذي تجده القوة بفعلها، ثم إذا اختبرنا حال حب النساء وجدنا الحب فيها يتعلق بالحقيقة بالوقاع، وتعلقه بهن ثانيا وبالتبع، كما كان حب الغذاء متعلقا بنفس الغذاء ثانيا وبالتبع، والوقاع أثر القوة المودعة في الحيوان، كما كان التغذي كذلك أثرا لقوة فيه، ومن هنا يعلم أن هذين الحبين يرجعان إلى مرجع واحد وهو تعلق وجودي بين هاتين القوتين وبين فعلهما أي كمالهما الفعلي. ومن المحتمل حينئذ أن يكون الحب هو التعلق الخاص بهذين الموردين ولا يوجد في غير موردهما لكن الاختبار بالآثار يدفع ذلك، فإن لهذا التعلق المسمى حبا أثرا في المتعلق (اسم فاعل) وهو حركة القوة وانجذابها نحو الفعل إذا فقدته وتحرجها عن تركه إذا وجدته، وهاتان الخاصتان أو الخاصة الواحدة نجدها موجودة في مورد جميع القوى الادراكية التي لنا وأفعالها وإن قوتنا الباصرة والسامعة والحافظة والمتخيلة وغيرها من القوى والحواس الظاهرية والباطنية جميعها - سواء كانت فاعلة أو منفعلة - على هذه الصفة فجميعها تحب فعلها وتنجذب إليها وليس إلا لكون أفعالها كمالات لها يتم بها نقصها وحاجتها الطبيعية، وعند ذلك يتضح الامر في حب المال وحب الجاه وحب العلم فإن الانسان يستكمل نوع استكمال بالمال والجاه والعلم. ومن هنا يستنتج أن الحب تعلق خاص وانجذاب مخصوص شعوري بين الانسان وبين كماله، وقد أفاد التجارب الدقيق بالآثار والخواص أنه يوجد في الحيوان غير الانسان، وقد تبين أن ذلك لكون المحب فاعلا أو منفعلا عما يحبه من الفعل والاثر ومتعلقا بتبعه بكل ما يتعلق به كما مر في حديث الاكل و الفاكهة، وغير الحيوان أيضا

[ 411 ]

كالحيوان إذا كان هناك استكمال أو إفاضة لكمال مع الشعور. ومن جهة أخرى لما كان الحب تعلقا وجوديا بين المحب و المحبوب كانت رابطة قائمة بينهما فلو كان المعلول الذي يتعلق به حب علته موجودا ذا شعور وجد حب علته في نفسه لو كان له نفس واستقلال جوهري. ويستنتج من جميع ما مر: اولا أن اللحب تعلق وجودي وانجذاب خاص بين العلة المكملة أو ما يشبهها وبين المعلول المستكمل أو ما يشبهه، ومن هنا كنا نحب أفعالنا لاستكمالنا بها ونحب ما يتعلق به أفعالنا كغذاء نتغذى بها، أو زوج نتمتع بها، أو مال نتصرف فيه، أو جاه نستفيد به، أو منعم ينعم علينا، أو معلم يعلمنا، أو هاد يهدينا أو ناصر ينصرنا، أو متعلم يتعلم منا، أو خادم يخدمنا أو أي مطيع يطيعنا وينقاد لنا، وهذه أقسام من الحب بعضها طبيعي وبعضها خيالي وبعضها عقلي. وثانيا: أن الحب ذو مراتب مختلفة من الشدة والضعف فإنه رابطة وجودية - والوجود مشكك في مراتبه - ومن المعلوم أن التعلق الوجودي بين العلة التامة ومعلولها ليس كالتعلق الكائن بين العلل الناقصة ومعلولاتها، وأن الكمال الذي يتعلق بواسطته الحب مختلف من حيث كونه ضروريا أو غير ضروري، ومن حيث كونه ماديا كالتغذي أو غير مادي كالعلم، وبه يظهر بطلان القول باختصاصه بالماديات حتى ذكر بعضهم: أن أصله حب الغذاء، وغيره ينحل إليه، وذكر آخرون: أن الاصل في بابه حب الوقاع، وغيره راجع إليه. وثالثا: أن الله سبحانه أهل للحب بأي جهة فرضت فإنه تعالى في نفسه موجود ذو كمال غير متناه وأي كمال فرض غيره فهو متناه، والمتناهي متعلق الوجود بغير المتنا هي وهذا حب ذاتي مستحيل الارتفاع، وهو تعالى خالق لنا منعم علينا بنعم غير متناهية العدة والمدة فنحبه كما نحب كل منعم لانعامه. ورابعا: أن الحب لما كانت رابطة وجودية - والروابط الوجودية غير خارجة الوجود عن وجود موضوعها ومن تنزلاته - أنتج ذلك أن كل شئ فهو يحب ذاته، وقد مر أنه يحب ما يتعلق بما يحبه فيحب آثار وجوده، ومن هنا يظهر أن الله سبحانه يحب خلقه لحب ذاته، ويحب خلقه لقبولهم إنعامه عليهم، ويحب خلقه لقبولهم هدايته.

[ 412 ]

وخامسا: أن لزوم الشعور والعلم في مورد الحب إنما هو بحسب المصداق وإلا فالتعلق الوجودي الذي هو حقيقة الحب لا يتوقف عليه من حيث هو، ومن هنا يظهر أن القوى والمبادي الطبيعية غير الشاعرة لها حب بآثارها وأفعالها. وسادسا: يستنتج مما مر أن الحب حقيقة سارية في الموجودات. (بحث فلسفي آخر) مسألة انقطاع العذاب والخلود مما اختلف فيه أنظار الباحثين من حيث النظر العقلي ومن جهة الظواهر اللفظية. والذي يمكن أن يقال: أما من جهة الظواهر، فالكتاب نص في الخلود، قال تعالى: (وما هم بخارجين من النار الآية) والسنة من طرق أئمة أهل البيت مستفيضة فيه، وقد ورد من غير طريقهم أخبار في الانقطاع ونفى الخلود، وهي مطروحة بمخالفة الكتاب. وأما من جهة العقل فقد ذكرنا فيما تقدم من البحث في ذيل قوله تعالى: (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا) البقرة - 48، أن الاستدلال على خصوصيات ما جاء به الشرع في المعاد بالمقدمات الكلية العقلية غير مقدور لنا لان العقل لا ينال الجزئيات، والسبيل فيه تصديق ما جاء به النبي الصادق من طريق الوحي للبرهان على صدقه. وأما النعمة والعذاب العقليان الطارئان على النفس من جهة تجردها وتخلقها بأخلاق وملكات فاضلة أو ردية أو اكتسائها وتلبسها بأحوال حسنة جميلة أو قبيحة فقد عرفت أن هذه الاحوال والملكات تظهر للنفس بما لها من صورة القبح أو الحسن فتنعم بما هي حسنة منها إن كانت ذاتها سعيدة وتعذب بما هي قبيحة مشوهة منها، سواء كانت ذاتها سعيدة أو شقية. وأن ما كانت من هذه الصور صورا غير راسخة للنفس وغير ملائمة لذاتها فإنها ستزول لان القسر لا يكون دائميا ولا أكثريا، وهذه النفس هي النفس السعيدة ذاتا وعليها هيآت شقية ردية ممكنة الزوال عنها كالنفس المؤمنة المجرمة، وهذا كله ظاهر.

[ 413 ]

واما الهيآت الردية التي رسخت في النفس حتى صارت صورا أو كالصور الجديدة تعطي للشئ نوعية جديدة كالانسان البخيل الذي صار البخل صورة لانسانيتة كما صار النطق لحيوانيته الصائرة به نوعا جديدا تحت الحيوان فالانسان البخيل ايضا نوع جديد تحت الانسان، فمن المعلوم ان هذا النوع نوع مجرد في نفسه دائمي الوجود، وجميع ما كان يصدر عنه بالقسر حال عدم الرسوخ فيعذب به ويذوق وبال أمره فهي تصدر عن هذا النوع بإذن الله من غير قسر إلا أنها لما كانت صادرة عن نوعيته من غير قسر فهي دائمة من غير زوال بخلاف ما لو كانت حاصلة بالقسر، ومثل هذا الانسان المعذب بلوازم ملكاته من وجه مثل من إبتلى بمرض الماليخوليا أو الكابوس المستمر فإنه لا يزال يصدر عن قوة تخيله صور هائلة أو مشوهة يعذب بها وهو نفسه هو الذي يوجدها من غير قسر قاسر ولو لم تكن ملائمة لطبعه المريض ما أوجدها فهو وإن لم تكن متألما من حيث إنتهاء الصدور إليه نفسه لكنه معذب بها من حيث أن العذاب ما يفر منه الانسان إذا لم يبتل به بعد ويحب التخلص عنه إذا ابتلى به وهذا الحد يصدق على الامور المشوهة والصور غير الجميلة التي تستقبل الانسان الشقي في دار آخرته، فقد بان أن العذاب خالد غير منقطع عن الانسان الشقي الذي لذاته شقوة لازمة. وقد استشكل هيهنا بإشكالات واضحة السقوط بينة الفساد: مثل أن الله سبحانه ذو رحمة واسعة غير متناهية فكيف يسع رحمته أن يخلق من مصيره إلى عذاب خالد لا يقوم له شئ ؟ ومثل أن العذاب إنما يكون عذابا إذا لم يلائم الطبع فيكون قسرا ولا معنى للقسر الدائم فكيف يصح وجود عذاب دائم ؟. ومثل أن العبد لم يذنب إلا ذنبا منقطع الاخر فكيف يجازى بعذاب دائم ؟ ومثل أن أهل الشقاء لا يقصر خدمتهم لنظام التكوين عن خدمات أهل السعادة ولولاهم لم تتحقق سعادة لسعيد فما هو الموجب لوقوعهم في عذاب مخلد ؟ ومثل أن العذاب للمتخلف عن أوامر الله ونواهيه انتقام ولا يكون الانتقام إلا لجبر النقص الذي أورده العاصي الظالم على المنتقم المقتدر، ولا يجوز ذلك على الله تعالى فهو الغني المطلق فكيف يجوز منه العذاب وخاصة العذاب المخلد ؟.

[ 414 ]

فهذه وأمثالها وجوه من الاشكال اوردوها على خلود العذاب وعدم انقطاعه. وأنت بالاحاطة بما بيناه من معنى خلود العذاب تعرف أنها ساقطة من رأس، فإن العذاب الخالد أثر وخاصة لصورة الشقاء الذي لزمت الانسان الشقي فتصور ذاته بها بعد تمامية الاستعداد الشديد الذي حصل في ذاته القابلة لها بواسطة الاحوال العارضة لها المنتهية إلى اختياره، واشتداد الاستعداد التام هو الذي يوجب في جميع الحوادث إفاضة الصورة المناسبة لسنخ الاستعداد، فكما لا يجوز السؤال عن علة تحقق الافعال الانسانية بعد ورود الصورة الانسانية على المادة لوجود العلة التي هي الصورة الانسانية كذلك لا معنى للسؤال عن لمية ترتب آثار الشقاء اللازم، ومنها العذاب المخلد بعد تحقق صورة الشقاء اللازم، المنتهية إلى الاختيار فإنها آثارها وخواصها فبطلت السؤالات جميعا، فهذا هو الجواب الاجمالي عنها. وأما تفصيلا: فالجواب عن الاول: أن الرحمة فيه تعالى ليس بمعنى رقة القلب والاشفاق والتاثر الباطني فإنها تستلزم المادة - تعالى عن ذلك -، بل معناها العطية والافاضة لما يناسب الاستعداد التام الحاصل في القابل، فإن المستعد بالاستعداد التام الشديد يحب ما يستعد له ويطلبه ويسئله بلسان استعداده فيفاض عليه ما يطلبه ويسئله، والرحمة رحمتان: رحمة عامة، وهي أعطاء ما يستعد له الشئ ويشتاقه في صراط الوجود والكينونة، ورحمة خاصة، وهي إعطاء ما يستعد الشئ في صراط الهداية إلى التوحيد وسعادة القرب وإعطاء صورة الشقاء اللازم الذي أثره العذاب الدائم للانسان المستعد له باستعداده الشديد لا ينافي الرحمة العامة بل هو منها، وأما الرحمة الخاصة فلا معنى لشمولها لمن هو خارج عن صراطها، فقول القائل: إن العذاب الدائم ينافي الرحمة إن أراد به الرحمة العامه فليس كذلك بل هو من الرحمة العامة، وإن إراد به الرحمة الخاصة فليس كذلك لكونه ليس موردا لها، على أن الاشكال لو تم لجرى في العذاب المنقطع أيضا حتى أنواع العذاب الدنيوي، وهو ظاهر. والجواب عن الثاني: أنه ينبغي أن يحرر معنى عدم ملائمة الطبع فإنه تارة بمعنى عدم السنخية بين الموضوع والاثر الموجود عنده وهو الفعل القسري الذي يصدر

[ 415 ]

عن قسر القاسر ويقابله الاثر الملائم الذي يصدر عن طبع الشئ إذا اقترن به آفات ثم رسخت فيه فصارت صورة في الشئ وعاد الشئ يطلبه بهذا الوجود وهو في عين الحال لا يحبه كما مثلنا فيه من مثال الماليخوليائي فهذه الاثار ملائمة لذاته من حيث صدورها عن طبعه الشقي الخبيث والآثار الصادرة عن الطباع ملائمة، وهي بعينها عذاب لصدق حد العذاب عليها لكون الشئ لا يرتضيها فهي غير مرضية من حيث الذوق والوجدان في عين كونها مرضية من حيث الصدور. والجواب عن الثالث: أن العذاب في الحقيقة ترتب أثر غير مرضي على موضوعه الثابت حقيقة، وهو صورة الشقاء فهذا الاثر معلول الصورة الحاصلة بعد تحقق علل معدة، وهي المخالفات المحدودة، وليس معلولا لتلك العلل المعدة المحدودة حتى يلزم تأثير المتناهي أثرا غير متناه وهو محال ونظيره أن عللا معدة ومقربات معدودة محدودة أوجبت أن تتصور المادة بالصورة الانسانية فيصير إنسانا يصدر عنه آثار الانسانية المعلولة للصورة المذكورة، ولا معنى لان يسئل ويقال: أن الآثار الانسانية الصادرة عن الانسان بعد الموت صدورا دائميا سرمديا لحصول معدات محدودة مقطوعة الامر للمادة فكيف صارت مجموع منقطع الآخر من العلل سببا لصدور الآثار المذكورة وبقائها مع الانسان دائما لان علتها الفاعلة - وهي الصورة الانسانية موجودة معها دائما على الفرض، فكما لا معنى لهذا السؤال لا معنى لذلك أيضا. والجواب عن الرابع: أن الخدمة والعبودية أيضا مثل الرحمة على قسمين: عبودية عامة، وهو الخضوع والانفعال الوجودي عن مبدء الوجود، وعبودية خاصة وهو الخضوع والانقياد في صراط الهداية إلى التوحيد، ولكل من القسمين جزاء يناسبه وأثر يترتب عليه ويخصه من الرحمة، فالعبودية العامة في نظام التكوين جزائه الرحمة العامة، والنعمة الدائمة والعذاب الدائم كلاهما من الرحمة العامة، والعبودية الخاصة جزائه الرحمة الخاصة، وهي النعمة والجنة وهو ظاهر، على أن هذا الاشكال لو تم لورد في مورد العذاب المنقطع الاخروي بل الدنيوي أيضا. والجواب عن الخامس: أن العذاب الدائم مستند إلى صورة الشقاء الذي في الانسان كما عرفت، وإلى الله سبحانه بالمعنى الذي يقال: في كل موجود: إنه مستند إليه تعالى لا بمعنى الانتقام وتشفي الصدر المستحيل عليه تعالى، نعم الانتقام بمعنى

[ 416 ]

الجزاء الشاق والاثر السيئ الذي يجزي به المولى عبده في مقابل تعديه عن طور العبودية، وخروجه عن ساحة الانقياد إلى عرصة التمرد والمخالفة مما يصدق فيه تعالى لكن لا يستلزم كون العذاب انتقاما بهذا المعنى إشكالا ألبتة. على أن هذا الاشكال أيضا لو تم لورد في مورد العذاب الموقت المنقطع في الآخرة بل في الدنيا أيضا. (بحث قرآني وروائي متمم للبحث السابق) إعلم أن هذا الطريق من الاستدلال على رد الشبهة المذكورة مما استعمل في الكتاب والسنة أيضا، قال تعالى: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصليها مذموما مدحورا، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فاولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا) اسرى - 20، فالآية كما ترى يجعل العذاب والشكر كليهما من العطية والرحمة وتجعل تحقق كل منهما مرتبطة بارادة العبد وسعيه وهذا بعينه الطريق الذي سلكناه في أصل المسألة ودفع الاشكالات عنها وهناك آيات أخر في هذا المعنى سنتكلم فيها في مواردها، إنشاء الله تعالى. يا أيها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين - 168. إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون - 169. وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آبائنا أو لو كان آبائهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون - 170. ومثل الذين

[ 417 ]

كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء وندآء صم بكم عمي فهم لا يعقلون - 171. (بيان) قوله تعالى: يا أيها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا إلى آخر الآيتين، الحلال مقابل الحرام الممنوع اقتحامه، والحل مقابل الحرمة، والحل مقابل حرم، والحل مقابل العقد، وهو في جميع موارد استعماله يعطي معنى حرية الشئ في فعله وأثره، والطيب - مقابل الخبيث - ما يلائم النفس والشئ، كالطيب من القول لملائمتة السمع، والطيب من العطر يلائم الشامة، والطيب من المكان يلائم حال المتمكن فيه. والخطوات بضمتين جمع خطوة، وهي ما بين القدمين للماشي، وقرء خطوات بفتحتين وهي جمع خطوة، وهي المرة، وخطوات الشيطان هي الامور التي نسبته إلى غرض الشيطان - وهو الاغواء بالشرك - نسبة خطوات الماشي إلى مقصده وغرضه، فهي الامور التي هي مقدمات للشرك والبعد من الله سبحانه، والامر هو تحميل الآمر إرادة نفسه على المأمور ليأتي ما يريده، والامر من الشيطان وسوسته وتحميله ما يريده من الانسان عليه باخطاره في قلبه وتزيينه في نظره والسوء ما ينافره الانسان ويستقبحه بنظر الاجتماع فإذا جاوز حده وتعدى طوره كان فحشاء ولذلك سمي الزنا بالفحشاء وهو مصدر كالسراء والضراء. وقد عمم تعالى الخطاب لجميع الناس لان الحكم الذي يقرعه سمعهم ويبينه لهم مما يبتلي به الكل، أما المشركون: فقد كان عندهم امور مما حرموه على أنفسهم افتراء على الله كما روي أن ثقيفا وخزاعة وبني عامر بن صعصعة وبني مدلج كانوا قد حرموا على أنفسهم أشياء من الحرث والانعام والبحيرة والسائبة والوصيلة، هذا في العرب، وفي غيرهم أيضا يوجد أشياء كثيرة من هذا القبيل، وأما المؤمنون: فربما كان يبقى بعد الاسلام بينهم امور خرافية طبق ناموس توارث الاخلاق والآداب القومية والسنن المنسوخة بنواسخ غير تدريجية كالاديان والقوانين وغيرهما فان كل طريقة جديدة دينية

[ 418 ]

أو دنيوية إذا نزلت بدار قوم فانما تتوجه أول ما تتوجه إلى اصول الطريقة القديمة وأعراقها فتقطعه فان دامت على حيوتها وقوتها - وذلك بحسن التربية وحسن القبول - أماتت الفروع وقطعت الاذناب وإلا فاختلطت بقايا من القديمة بالحديثة والتئمت بها وصارت كالمركب النباتي، ما هو بهذا ولاذاك. فأمر تعالى الناس أن يأكلوا مما في الارض، والاكل هو البلع عن مضغ وربما يكنى بالاكل عن مطلق التصرف في الاموال لكون الاكل هو الاصل في أفعال الانسان والركن في حيوته كما قال تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض) النساء - 29، والآية لا تأبى الحمل على هذا المعنى الوسيع لاطلاقها، والمعنى كلوا وتصرفوا وتمتعوا مما في الارض من النعم الالهية التي هيأته لكم طبيعة الارض باذن الله وتسخيره أكلا حلالا طيبا، أي لا يمنعكم عن أكله أو التصرف فيه مانع من قبل طبائعكم وطبيعة الارض، كالذي لا يقبل بطبعه الاكل، أو الطبع لا يقبل أكله، ولا تنفر طبائعكم عن أكله مما يقبل الطبع أكله لكن ينافره ويأبى عنه السليقة كالاكل الذي توسل إليه بوسيلة غير جائزة. فقوله تعالى: كلوا مما في الارض حلالا طيبا، يفيد الاباحة العامة من غير تقييد واشتراط فيه إلا أن قوله ولا تتبعوا خطوات الشيطان، إلخ يفيد: أن هيهنا امورا تسمى خطوات الشيطان - متعلقة بهذا الاكل الحلال الطيب - إما كف عن الاكل اتباعا للشيطان، وإما إقدام عليه اتباعا للشيطان، ثم ذكر ضابط ما يتبع فيه الشيطان بأنه سوء وفحشاء، وقول ما لا يعلم على الله سبحانه وإذا كان الكف غير جائز إلا برضى من الله تعالى فالفعل أيضا كذلك فليس الاكل مما في األرض حلالا طيبا إلا أن يأذن الله تعالى ويشرعه وقد شرعه بهذه الآية ونظائرها ولا يمنع عنه بنهي أو ردع كما سيأتي من قوله تعالى: (إنما حرم عليكم الميتة والدم الآية) فرجع معنى الآية - والله اعلم - إلي نحو قولنا كلوا مما في الارض من نعم الله المخلوقة لكم فقد جعله الله لكم حلالا طيبا ولا تتركوا بعضا منها كفا وامتناعا فيكون سوء وفحشاء وقولا بغير علم أي تشريعا ليس لكم ذلك وهو اتباع خطوات الشيطان. فالآية تدل أولا: على عموم الحلية في جميع التصرفات إلا ما أخرجه الدليل فان لله سبحانه المنع فيما له الاذن فيه.

[ 419 ]

وثانيا: على أن الامتناع مما أحله الله من غير دليل علمي تشريع محرم. وثالثا: على أن المراد من اتباع خطوات الشيطان التعبد لله بما لم يأذن في التعبد بذلك فانه لم ينه عن المشي والسلوك لكن عن المشي الذي يضع فيه الانسان قدمه موضع قدم الشيطان فينطبق مشيته على مشيته فيكون متبعا لخطواته، ومن هنا يعلم أن عموم التعليل، وهو قوله إنما يأمركم (الخ) وإن اقتضى المنع عن الاقتحام في فعل بغير علم كما يقتضي المنع عن الامتناع بغير علم لكنه ليس بمراد في الخطاب فانه ليس من اتباع خطوات الشيطان وإن كان اتباعا للشيطان. قوله تعالى: إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون، السوء والفحشاء يكونان في الفعل، وفي مقابلة القول، وبذلك يظهر: أن ما يأمر به الشيطان ينحصر في الفعل الذي هو سوء وفحشاء، والقول الذي هو قول بغير علم. قوله تعالى: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا، الالفاء الوجدان أي وجدنا عليه آبائنا، والآية تشهد بما استفدناه من الآية السابقة في معنى خطوات الشيطان. قوله تعالى: أو لو كان آبائهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون، جواب عن قولهم، وبيانه أنه قول بغير علم ولا تبين، وينافيه صريح العقل فان قولهم: بل نتبع ما ألفينا عليه آبائنا قول مطلق أي نتبع آبائنا على أي حال وعلى أي وصف كانوا، حتى لو لم يعلموا شيئا ولم يهتدوا ونقول ما فعلوه حق، وهذا هو القول بغير علم، ويؤدي إلى القول بما لا يقول به عاقل لو تنبه له ولو كانوا اتبعوا آبائهم فيما علموه واهتدوا فيه وهم يعلمون: إنهم علموا واهتدوا فيه لم يكن من قبيل الاهتداء بغير علم. ومن هنا يعلم: أن قوله تعالى: لا يعقلون شيئا ولا يهتدون، ليس واردا مورد المبالغة نظرا إلى أن سلب مطلق العلم عن آبائهم مع كونهم يعلمون أشياء كثيرة في حيوتهم لا يحتمل إلا المبالغة. وذلك أن الكلام مسوق سوق الفرض بإبداء تقدير لا يقول بجواز الا تباع فيه قائل ليبطل به إطلاق قولهم نتبع ما ألفينا عليه آبائنا وهو ظاهر. قوله تعالى: ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء،

[ 420 ]

المثل هو الكلام السائر والمثل هو الوصف كقوله تعالى: (انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا) الفرقان - 9، والنعيق صوت الراعي لغنمه زجرا يقال: نعق الراعي بالغنم ينعق نعيقا إذا صاح بها زجرا، والنداء مصدر نادى ينادي مناداه وهو أخص من الدعاء ففيه معنى الجهر بالصوت ونحوه بخلاف الدعاء، والمعنى - والله أعلم - ومثلك في دعاء الذين كفروا كمثل الذي ينعق من البهائم بما لا يسمع من نعيقه إلا دعاء ونداء ما، فينزجر بمجرد قرع الصوت سمعه من غير أن يعقل شيئا فهم صم لا يسمعون كلاما يفيدهم، وبكم لا يتكلمون بما يفيد معنى، وعمى لا يبصرون شيئا فهم لا يعقلون شيئا لان الطرق المؤدية إلى التعقل مسدودة عليهم. ومن ذلك يظهر إن في الكلام قلبا أو عناية أخرى يعود إليه فإن المثل بالذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء مثل الذي يدعوهم إلى الهدى لا مثل الكافرين المدعوين إلى الهدى إلا أن الاوصاف الثلاثة التي استنتج واستخرج من المثل وذكرت بعده، وهي قوله: صم بكم عمى فهم لا يعقلون، لما كانت أو صافا للذين كفروا لا لمن يدعوهم إلى الحق استوجب ذلك أن ينسب المثل إلى الذيكفروا لا إلى رسول الله تعالى فأنتج ما أشبه القلب. (بحث روائي) في تهذيب عن عبد الرحمن، قال: سئلت أبا عبد الله عن رجل حلف أن ينحر ولده قال: ذلك من خطوات الشيطان. وعن منصور بن حازم أيضا قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام - أما سمعت بطارق إن طارقا كان نخاسا بالمدينة فأتى أبا جعفر فقال يا أبا جعفر أني حلفت بالطلاق والعتاق والنذر ؟ فقال له يا طارق إن هذا من خطوات الشيطان. وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر عليه السلام قال: كل يمين بغير الله فهو من خطوات الشيطان. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام قال: إذا حلف الرجل على شئ - والذي حلف

[ 421 ]

عليه اتيانه خير من تركه: فليأت الذي هو خير ولا كفارة له، وإنما ذلك من خطوات الشيطان. اقول: والاحاديث كما ترى مبنية على كون المراد من خطوات الشيطان الاعمال التي يتقرب بها وليست بمقربة لعدم العبرة بها شرعا كما ذكرناه في البيان السابق نعم في خصوص الطلاق ونحوه وجه آخر للبطلان وهو التعليق المنافي للانشاء، والمسألة فقهية، والمراد باليمين بغير الله هو اليمين الذي يترتب عليه أثر اليمين الشرعي أو القسم بما لم يقسم به الله ولم يثبت له كرامة شيئا. وفي المجمع عن الباقرفي قوله تعالى: ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق الآية قال: أي مثلهم في دعائك إياهم إلى الايمان كمثل الناعق في دعائه المنعوق به من البهائم التي لا تفهم وإنما تسمع الصوت (بحث اخلاقي واجتماعي) الآراء والعقائد التي يتخذها الانسان أما نظرية لا تعلق لها بالعمل من غير واسطة كالمسائل المتعلقة بالرياضيات والطبيعيات، وما وراء الطبيعة، وأما عملية متعلقة بالعمل بلا واسطة كالمسائل المتعلقة بما ينبغي فعله وما لا ينبغي، والسبيل في القسم الاول هو اتباع العلم واليقين المنتهي إلى برهان أو حس، وفي القسم الثاني اتباع ما يوصل إلى الخير الذي فيه سعادة الانسان أو النافع فيها، وإجتناب ما ينتهي إلى شقائه أو يضره في سعادته، وأما الاعتقاد بما لا علم له بكونه حقا في القسم الاول، والاعتقاد بما لا يعلم كونه خيرا أو شرا فهو اعتقاد خرافي. والانسان لما كانت آرائه منتهية إلى اقتضاء الفطرة الباحثة عن علل الاشياء والطبيعة الباعثة له إلى الاستكمال بما هو كماله حقيقة فإنه لا تخضع نفسه إلى الرأى الخرافي المأخوذ على العمياء وجهلا إلا أن العواطف النفسانية والاحساسات الباطنية التي تثيرها الخيال - وعمدتها الخوف والرجاء - ربما أوجبت له القول بالخرافة من جهة أن الخيال يصور له صورا يستصحب خوفا أو رجاء فيحفظها إحساس الخوف أو الرجاء، ولا يدعها تغيب عن النفس الخائفة أو الراجية، كما أن الانسان إذا أحل

[ 422 ]

واديا - وهو وحده بلا أنيس والليل داج مظلم والبصر حاسر عن الادراك - فلا مؤمن يؤمنه بتميز المخاطر من غيرها بضياء ونحوه فترى أن خياله يصور له كل شبح يترائى له غولا مهيبا يقصده بالاهلاك أو روحا من الارواح، وربما صور له حركة وذهابا وإيابا وصعودا في السماء ونزولا إلى الارض، وأشكالا وتماثيل ثم لا يزال الخيال يكرر له هذا الشبه المجعول كلما ذكره وحاله حاله من الخوف، ثم ربما نقله لغيره فأوجد فيه حالا نظير حاله ولا يزال ينتشر - وهو موضوع خرافي لا ينتهي إلى حقيقة -. وربما هيج الخيال حسن الدفاع من الانسان أن يضع أعمالا لدفع شر هذا الموجود الموهوم ويحث غيره على العمل بها للامن من شره فيذهب سنه خرافية. ولم يزل الانسان منذ أقدم أعصار حيوته مبتلى بآراء خرافية حتى اليوم وليس كما يظن من أنها من خصائص الشرقيين فهي موجودة بين الغربيين مثلهم لو لم يكونوا أحرص عليها منهم. ولا يزال الخواص من الانسان - وهم العلماء - يحتالون في إمحاء رسوم هذه الخرافات المتمكنة في نفوس العامة من الناس بلطائف حيلهم التي توجب تنبه العامة وتيقظهم في أمرها، وقد أعيا الداء الطبيب فإن الانسان لا يخلو من التقليد والاتباع في الآراء النظرية والمعلومات الحقيقية من جانب ومن الاحساسات والعواطف النفسانية من جانب آخر، وناهيك في ذلك أن العلاج لم ينجح إلى اليوم. وأعجب من الجميع ما يراه في ذلك إهل الحضارة وعلماء الطبيعة اليوم ! فقد ذكروا أن العلم اليوم يبني أساسه على الحس والتجربة ويدفع ما دون ذلك، والمدنية والحضارة تبني أساسه على استكمال الاجتماع في كل كمال ميسور ما استيسر، وبنوا التربية على ذلك. مع أن ذلك - وهو عجيب - نفسه من اتباع الخرافة فإن علوم الطبيعة إنما تبحث عن خواص الطبيعة وتثبتها لموضوعاتها، وبعبارة أخرى هذه العلوم المادية إنما تكشف دائما عن خبايا خواص المادة، وأما ما وراء ذلك فلا سبيل لها إلى نفيه وإبطاله فالاعتقاد بانتفاء ما لا تناله الحس والتجربة من غير دليل من أظهر الخرافات. وكذلك بناء المدنية على استكمال الاجتماع المذكور فإن هذا الاستكمال والنيل

[ 423 ]

بالسعادة الاجتماعية ربما يستلزم حرمان بعض الافراد من سعادته الحيوية الفردية كتحمل القتل والتفدية في الدفاع عن الوطن أو القانون أو المرام، والمحرومية من سعادة الشخص لاجل وقاية حريم الاجتماع فهذه الحرمانات لا يقدم فيها الانسان إلا عن عقيدة الاستكمال، وأن يراها كمالات - وليست كمالات لنفسه - بل عدم وحرمان لها، وإنما هي كمالات - لو كانت كمالات - للمجتمع من حيث هو مجتمع وإنما يريد الانسان الاجتماع لاجل نفسه لا نفسه لاجل الاجتماع، ولذلك كله ما احتالت هذه الاجتماعات لافرادها فلقنوهم أن الانسان يكتسب بالتفدية ذكرا جميلا واسما باقيا على الفخر دائما وهو الحيوة الدائمة، وهذه خرافة، وأي حيوة بعد البطلان والفناء غير أنا نسميه حيوة، تسمية ليس ورائها شئ. ومثلها القول: إن الانسان يجب له تحمل مر القانون والصبر على الحرمان في بعض ما يشتهيه نفسه ليتحفظ به الاجتماع فينال كماله في الباقي فيعتقد أن كمال الاجتماع كماله، وهذه خرافة، فإن كمال الاجتماع إنما هو كماله فيما يتطابق الكمالان وأما غير ذلك فلا، فأي موجب على فرد بالنسبة إلى كماله، أو اجتماع قوم بالنسبة إلى اجتماع الدنيا إذا قدر على نيل ما يبتغيه من آماله ولو بالجور وفاق في القوة والاستطاعة من غير مقاوم يقاومه أن يعتقد أن كمال الاجتماع كماله والذكر الجميل فخاره ؟ كما أن أقوياء الامم لا يزالون على الانتفاع من حيوة الامم الضعيفة، فلا يجدون منهم موطئا إلا وطئوة، ولا منالا إلا نالوه، ولا نسمة إلا استرقوه واستعبدوه، وهل ذلك إلا علاجا لمزمن الداء بالافناء. وأما ما سلكه القرآن في ذلك فهو أمره باتباع ما أنزل الله والنهي عن القول بغير علم، هذا في النظر، وأما في العمل فأمره بابتغاء ما عند الله فيه فإن كان مطابقا لما يشتهيه النفس كان فيه سعادة الدنيا والآخرة وإن كان فيه حرمانها، فعند الله عظيم الاجر، وما عند الله خير وأبقى. والذي يقوله أصحاب الحس: أن اتباع الدين تقليد يمنع عنه العلم وأنه من خرافات العهد الثاني من العهود الاربعة المارة على نوع الانسان (وهي عهد الاساطير وعهد المذهب وعهد الفلسفة وعهد العلم، وهو الذي عليه البشر اليوم من اتباع العلم ورفض الخرافات) فهو قول بغير علم ورأي خرافي.

[ 424 ]

أما أن اتباع الدين تقليد فيبطله: أن الدين مجموع مركب من معارف المبدء و المعاد، ومن قوانين اجتماعية من العبادات والمعاملات مأخوذه من طريق الوحي والنبوة الثابت صدقه بالبرهان والمجموعة من الاخبار التي أخبر بها الصادق صادقة واتباعها اتباع للعلم لان المفروض العلم بصدق مخبرها بالبرهان، وقد مر في البحث التالي لقوله تعالى (وإذ قال موسى لقومه أن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) البقرة - 67، كلام في التقليد فارجع. ومن العجيب أن هذا القول قول من ليس بيده في أصول الحيوة وسنن الاجتماع: من مأكله ومشربه وملبسه ومنكحه ومسكنه وغير ذلك إلا التقليد على العمى واتباع الهوى من غير تثبت وتبين، نعم اختلقوا للتقليد اسما آخر وهو اتباع السنة الذي ترتضيه الدنيا الراقية فصار التقليد بذلك ممحو الاسم ثابت الرسم، مهجور اللفظ، مأنوس المعني، وكان (ألق دلوك في الدلاء) شعارا علميا ورقيا مدنيا وعاد (ولا تتبع الهوى فيضلك) تقليدا دينيا وقولا خرافيا. وأما تقسيمهم سير الحيوة الانسانية إلى أربعة عهود فما بأيدينا من تاريخ الدين والفلسفة يكذبه فإن طلوع دين إبراهيم إنما كان بعد عهد الفلسفة بالهند ومصر وكلدان ودين عيسى بعد فلسفة يونان وكذا دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم - وهو الاسلام - كان بعد فلسفة يونان وإسكندرية، وبالجملة غاية أوج الفلسفة كانت قبل بلوغ الدين أوجه. وقد مر فيما مر أن دين التوحيد يتقدم في عهده على جميع الاديان الاخر. والذي يرتضيه القرآن من تقسيم تاريخ الانسان هو تقسيمه إلى عهد السذاجة ووحدة الامم وعهد الحس والمادة، وسيجئ بيانه في الكلام على قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين) البقرة - 213. يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون - 172. إنما حرم عليكم الميته والدم

[ 425 ]

ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم - 173، إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم - 174. أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار - 175. ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد - 176. (بيان) قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم، خطاب خاص بالمؤمنين بعد الخطاب السابق للناس فهو من قبيل انتزاع الخطاب من الخطاب، كأنه انصراف عن خطاب جماعة ممن لا يقبل النصح ولا يصغي إلى القول، والتفات إلى من يستجيب الداعي لايمانه به والتفاوت الموجود بين الخطابين ناش من تفاوت المخاطبين، فان المؤمنين بالله لما كان يتوقع منهم القبول بدل قوله: ما في الارض حلالا طيبا من قوله: طيبات ما رزقناكم، وكان ذلك وسيلة إلى أن يطلب منهم الشكر لله وحده لكونهم موحدين لا يعبدون إلا الله سبحانه، ولذلك بعينه قيل: ما رزقناكم ولم يقل: ما رزقتم أو ما في الارض ونحوه، لما فيه من الايماء أو الدلالة على كونه تعالى معروفا لهم قريبا منهم حنينا رؤوفا بهم، والظاهر أن يكون قوله: من طيبات ما رزقناكم، من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف لا من قبيل قيام الصفة مقام الموصوف فان المعنى على الاول كلوا من رزقنا الذي كله طيب، وهو المناسب لمعنى التقرب والتحنن الذي يلوح من المقام، والمعنى على الثاني كلوا من طيب الرزق لا من خبيثه، وهو بعيد المناسبة عن المقام الذي هو مقام رفع الحظر، والنهي عن الامتناع عن بعض ما رزقهم الله سبحانه

[ 426 ]

تشريعا من عند أنفسهم وقولا بغير علم. قوله تعالى: واشكروا لله أن كنتم إياه تعبدون، لم يقل واشكروا لنا بل اشكرو الله ليكون أدل على الامر بالتوحيد ولذلك أيضا قيل: إن كنتم أياه تعبدون فدل على الحصر والقصر ولم يقل إن كنتم تعبدونه. قوله تعالى: إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله الاهلال لغير الله هو الذبح لغيره كالاصنام. قوله تعالى: فمن اضطر غير باغ ولا عاد، أي غير ظالم ولا متجاوز حده، وهما حالان عاملهما الاضطرار فيكون المعنى فمن اضطر إلى أكل شئ مما ذكر من المنهيات اضطرارا في حال عدم بغيه وعدم عدوه فلا ذنب له في الاكل، وأما لو اضطر في حال البغي والعدو كأن يكونا هما الموجبين للاضطرار فلا يجوز له ذلك، وقوله تعالى: إن الله غفور رحيم، دليل على أن التجوز تخفيف ورخصة منه تعالى للمؤمنين وإلا فمناط النهي موجود في صورة الاضطرار أيضا. قله تعالى: إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، تعريض لاهل الكتاب إذ عندهم شئ كثير من المحللات الطيبة التي حرمها كبرائهم ورؤسائهم في العبادات وغيرها - وعندهم الكتاب الذي لا يقضي فيه بالتحريم - ولم يكتموا ما كتموه إلا حفظا لما يدر عليهم من رزق الرئاسة وابهة المقام والجاه والمال. وفي الآية من الدلالة على تجسم الاعمال وتحقق نتائجها ما لا يخفى فإنه تعالى ذكر أولا أن اختيارهم الثمن القليل على ما أنزل الله هو أكل النار في بطونهم ثم بدل اختيار الكتمان وأخذ الثمن على بيان ما أنزل الله في الآية التاليه من اختيار الضلالة على الهدى ثم من اختيار العذاب على المغفرة ثم ختمها بقوله: فما أصبرهم على النار، والذي كان منهم ظاهرا هو الادامة للكتمان والبقاء عليها فافهم. (بحث روائي) في الكافي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى فمن اضطر غير باغ ولا عاد الآية، قال:

[ 427 ]

الباغي باغي الصيد، والعادي السارق ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا إليها، هي حرام عليهما ليس هي عليهما كما هي على المسلمين وليس لهما أن يقصرا في الصلوة. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام قال الباغي الظالم، والعادي الغاصب. وعن حماد عنه عليه السلام قال: الباغي الخارج على الامام والعادي اللص. وفي المجمع عن أبي جعفر عليه السلام وأبى عبد الله عليه السلام: غير باغ على إمام المسلمين ولا عاد بالمعصية طريق المحقين. أقول: والجميع من قبيل عد المصاديق، وهي تؤيد المعنى الذي استفدناه من ظاهر اللفظ. وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: فما أصبرهم على النار الآية. قال: ما أصبرهم على فعل ما يعلمون أنه يصيرهم إلى النار. وفي المجمع عن علي بن ابراهيم عن الصادق عليه السلام قال: ما أجرأهم على النار. وعن الصادق عليه السلام: ما أعملهم بأعمال أهل النار. اقول: والروايات قريبة المعاني ففي الاولى تفسير الصبر على النار بالصبر على سبب النار، وفي الثانية تفسير الصبر على النار بالجرئة عليها وهي لازمة للصبر، وفي الثالثة تفسير الصبر على النار بالعمل بما يعمل به أهل النار ومرجعه إلى معنى الرواية الاولى. ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلوة وآتى الزكوة والموفون بعهدهم إذا

[ 428 ]

عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون - 177. (بيان) قيل: كثر الجدال والخصام بين الناس بعد تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة وطالت المشاجرة فنزلت الآية. قوله تعالى: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، البر بالكسر التوسع من الخير والاحسان، والبر بالفتح صفة مشبهة منه، والقبل بالكسر فالفتح الجهة ومنه القبلة وهي النوع من الجهة، وذووا القربى الاقرباء، واليتامى جمع يتيم وهو الذي لا والد له، والمساكين جمع مسكين وهو أسوأ حالا من الفقير، وابن السبيل المنقطع عن أهله، والرقاب جمع رقبة وهي رقبة العبد، والبأساء مصدر كالبؤس وهو الشدة والفقر، والضراء مصدر كالضر وهو أن يتضرر الانسان بمرض أو جرح أو ذهاب مال أو موت ولد، والبأس شده الحرب. قوله تعالى: ولكن البر من آمن بالله، عدل عن تعريف البر بالكسر إلى تعريف البر بالفتح ليكون بيانا وتعريفا للرجال مع تضمنه لشرح وصفهم وإيماء إلى أنه لا أثر للمفهوم الخالي عن المصداق ولا فضل فيه، وهذا دأب القرآن في جميع بياناته فانه يبين المقامات ويشرح الاحوال بتعريف رجالها من غير أن يقنع ببيان المفهوم فحسب. وبالجملة قوله ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر، تعريف للابرار وبيان لحقيقة حالهم، وقد عرفهم أولا في جميع المراتب الثلاث من الاعتقاد والاعمال والاخلاق بقوله: (من آمن بالله) وثانيا بقوله: (أولئك الذين صدقوا) وثالثا بقوله: (وأولئك هم المتقون). فأما ما عرفهم به أولا فابتدء فيه بقوله تعالى: من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وهذا جامع لجميع المعارف الحقة التي يريد الله سبحانه من عباده الايمان بها، والمراد بهذا الايمان الايمان التام الذي لا يتخلف عنه أثره، لا

[ 429 ]

في القلب بعروض شك أو اضطراب أو اعتراض أو سخط في شئ مما يصيبه مما لا ترتضيه النفس، ولا في خلق ولا في عمل، والدليل على أن المراد به ذلك قوله في ذيل الايه (أولئك الذين صدقوا) فقد أطلق الصدق ولم يقيده بشئ من أعمال القلب والجوارح فهم مؤمنون حقا صادقون في إيمانهم كما قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك في ما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) النساء - 68، وحينئذ ينطبق حالهم على المرتبة الربعة من مراتب الايمان التي مر بيانها في ذيل قوله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت) البقرة - 131. ثم ذكر تعالى نبذا من أعمالهم بقوله: وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلوة وآتى الزكوة، فذكر الصلوة - وهي حكم عبادي - وقد قال تعالى: (إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر) العنكبوت - 45، وقال: (وأقم الصلوة لذكرى) طه - 14، وذكر الزكوة - وهي حكم مالي فيه صلاح المعاش - وذكر قبلهما إيتاء المال وهو بث الخير ونشر الاحسان غير الواجب لرفع حوائج المحتاجين وإقامة صلبهم. ثم ذكر سبحانه نبذا من جمل أخلاقهم بقوله: والموفون بعدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، فالعهد هو الالتزام بشئ والعقد له - وقد أطلقه تعالى - وهو مع ذلك لا يشمل الايمان والالتزام بأحكامه كما توهمه بعضهم - لمكان قوله إذا عاهدوا، فان الالتزام بالايمان ولوازمه لا يقبل التقيد بوقت دون وقت - كما هو ظاهر - ولكنه يشتمل بإطلاقه كل وعد وعده الانسان وكل قول قاله التزاما كقولنا: لافعلن كذا ولاتركن وكل عقد عقد به في المعاملات والمعاشرات و نحوها، والصبر هو الثبات على الشدائد حين تهاجم المصائب أو مقارعة الاقران، وهذان الخلقان وإن لم يستوفيا جميع الاخلاق الفاضلة غير أنهما إذا تحققا تحقق ما دونهما، والوفاء بالعهد والصبر عند الشدائد خلقان يتعلق أحدهما بالسكون والاخر بالحركة وهو الوفاء فالاتيان بهذين الوصفين من أوصافهم بمنزلة أن يقال: إنهم إذا قالوا قولا أقدموا عليه ولم يتجافوا عنه بالزوال. وأما ما عرفهم به ثانيا بقوله: أولئك الذين صدقوا، فهو وصف جامع لجمل فضائل العلم والعمل فان الصدق خلق يصاحب جميع الاخلاق من العفة والشجاعة

[ 430 ]

والحكمة والعدالة وفروعها فان الانسان ليس له إلا الاعتقاد والقول والعمل، وإذا صدق تطابقت الثلاثة فلا يفعل إلا ما يقول ولا يقول إلا ما يعتقد، والانسان مفطور على قبول الحق والخضوع له باطنا وإن أظهر خلافه ظاهرا فإذا أذعن بالحق وصدق فيه قال ما يعتقده وفعل ما يقوله وعند ذلك تم له الايمان الخالص والخلق الفاضل والعمل الصالح، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) التوبة - 120، والحصر في قوله أولئك الذين صدقوا، يؤكد التعريف وبيان الحد، والمعنى - والله أعلم - إذا أردت الذين صدقوا فاولئك هم الابرار. وأما ما عرفهم به ثالثا بقوله: وأولئك هم المتقون، الحصر لبيان الكمال فان البر والصدق لو لم يتما لم يتم التقوى. والذى بينه تعالى في هذه الآية من الاوصاف الابرار هي التي ذكرها في غيرها. قال تعالى: (إن الابرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا. عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا. ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا. إنما نطعمكم لوجه الله - إلى أن قال - وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا) الدهر - 12، فقد ذكر فيها الايمان بالله واليوم الآخر والانفاق لوجه الله والوفاء بالعهد والصبر، وقال تعالى أيضا: (كلا إن كتاب الابرار لفى عليين وما أدريك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون. إن الابرار لفي نعيم - إلى أن قال - يسقون من رحيق مختوم - إلى أن قال - عينا يشرب بها المقربون) المطففين - 28، بالتطبيق بين هذه الآيات والآيات السابقة عليها يظهر حقيقة وصفهم ومآل أمرهم إذا تدبرت فيها، وقد وصفتهم الآيات بأنهم عباد الله وأنهم المقربون، وقد وصف الله سبحانه عباده فيما وصف بقوله: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) الحجر - 42، ووصف المقربين بقوله: (والسابقون السابقون. أولئك المقربون في جنات النعيم) الواقعة - 12، فهؤلاء هم السابقون في الدنيا إلى ربهم السابقون في الآخرة إلى نعيمه، ولو أدمت البحث عن حالهم فيما تعطيه الآيات لوجدت عجبا. وقد بان مما مر أن الابرار أهل المرتبة العالية من الايمان، وهي المرتبة الرابعة على ما مر بيانه سابقا، قال تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون) الانعام - 82.

[ 431 ]

وقوله تعالى: والصابرين في البأساء، منصوب على المدح إعظاما لامر الصبر، وقد قيل إن الكلام إذا طال بذكر الوصف بعد الوصف فمذهبهم ان يعترضوا بين الاوصاف بالمدح والذم، واختلاف الاعراب بالرفع والنصب. (بحث روائي) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من عمل بهذه الآية فقد استكمل الايمان. أقول: ووجهه واضح بما بيناه، وقد نقل عن الزجاج والفراء إنهما قالا: إن الآية مخصوصة بالانبياء المعصومين لان هذه الاشياء لا يأتيها بكليتها على حق الواجب فيها إلا الانبياء انتهي، وهو ناش من عدم التدبر فيما تفيده الت يات والخلط بين المقامات المعنوية، وقد أنزلت آيات سورة الدهر في أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسماهم الله فيها أبرار وليسوا بأنبياء. نعم خطرهم عظيم، وقد وصف الله حال اولي الالباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والارض، ثم ذكر مسألتهم أن يلحقهم الله بالابرار، قال: (وتوفنا مع الابرار) آل عمران - 193. وفي الدر المنثور، أخرج الحكيم الترمذي عن أبي عامر الاشعري قال: قلت: يا رسول الله ما تمام البر، قال أن تعمل في السر ما تعمل في العلانية. وفي المجمع عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام: ذوي القربي قرابع النبي. اقول: وكأنه من قبيل عد المصداق بالنظر إلى آية القربى. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام الفقير الذي لا يسأل الناس والمسكين أجهد منه والبائس أجدهم. وفي المجمع عن أبي جعفر عليه السلام: ابن السبيل، المنقطع به. وفي التهذيب عن الصادق عليه السلام سئل عن مكاتب عجز عن مكاتبته وقد أدى بعضها، قال عليه السلام: يؤدي عنه من مال الصدقة فإن الله عز وجل يقول: وفي الرقاب. وفي تفسير القمي: في قوله: (والصابرين في البأساء والضراء قال: عليه السلام في الجوع والعطش والخوف، وفي قوله وحين البأس قال: قال عليه السلام، عند القتال.

[ 432 ]

يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى با لانثى فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم - 178. ولكم في القصاص حيوة يا أولي الالباب لعلكم تتقون - 179. (بيان) قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر، في توجيه الخطاب إلى المؤمنين خاصة إشارة إلى كون الحكم خاصا بالمسلمين، وأما غيرهم من أهل الذمة وغيرهم فالآية ساكتة عن ذلك. ونسبة هذه الآية إلى قوله تعالى: (أن النفس بالنفس) المائدة - 48، نسبة التفسير، فلا وجه لما ربما يقال، إن هذه الآية ناسخة لتلك الآية فلا يقتل حر بعبد ولا رجل بمرأة. وبالجملة القصاص مصدر، قاص يقاص، من قص أثره إذا تبعه ومنه القصاص لمن يحدث بالآثار والحكايات كأنه يتبع آثار الماضين فتسمية القصاص بالقصاص لما فيه من متابعة الجاني في جنايته فيوقع عليه مثل ما اوقعه على غيره. قوله تعالى: فمن عفي له من أخيه شئ، المراد بالموصول القاتل، والعفو للقاتل إنما يكون في حق القصاص فالمراد بالشئ هو الحق، وفي تنكيره تعميم للحكم أي أي حق كان سواء كان تمام الحق أو بعضه كما إذا تعدد أولياء الدم فعفى بعضهم حقه للقاتل فلا قصاص حينئذ بل الدية، وفي التعبير عن ولي الدم بالاخ إثارة لحس المحبة والرأفة وتلويح إلى أن العفو أحب.

[ 433 ]

قوله تعالى: فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان، مبتدء خبره محذوف أي فعليه أن يتبع القاتل في مطالبة الدية بمصاحبة المعروف، من الاتباع و پعلى القاتل أن يؤدي الدية إلى أخيه ولي الدم بالاحسان من غير مماطلة فيها إيذائه. قوله تعالى: ذلك تخفيف من ربكم ورحمة، أي الحكم بانتقال القصاص إلى الدية تخفيف من ربكم فلا يتغير فليس لولي الدم أن يقتص بعد العفو فيكون اعتداء فمن اعتدى فاقتص بعد العفو فله عذاب أليم. قوله تعالى: ولكم في القصاص حياة يا اولي الالباب لعلكم تتقون، إشارة إلى حكمة التشريع، ودفع ما ربما يتوهم من تشريع العفو والدية وبيان المزية والمصلحة التي في العفو وهو نشر الرحمة وإيثار الرأفة ان العفو اقرب إلى مصلحة الناس، وحاصله أن العفو ولو كان فيه ما فيه من التخفيف والرحمة، لكن المصلحة العامة قائمة بالقصاص فإن الحيوة لا يضمنها إلا القصاص دون العفو والدية ولا كل شئ مما عداهما، يحكم بذلك الانسان إذا كان ذا لب وقوله لعلكم تتقون، أي القتل وهو بمنزلة التعليل لتشريع القصاص. وقد ذكروا: أن الجملة أعني قوله تعالى: ولكم في القصاص حيوة الآية على اختصارها وإيجازها وقلة حروفها وسلاسة لفظها وصفاء تركيبها من أبلغ آيات القرآن في بيانها، وأسماها في بلاغتها فهي جامعة بين قوة الاستدلال وجمال المعنى ولطفه، ورقة الدلالة وظهور المدلول، وقد كان للبلغاء قبلها كلمات في القتل والقصاص تعجبهم بلاغتها وجزالة اسلوبها ونظمها كقولهم: قتل البعض إحياء للجميع وقولهم: أكثروا القتل ليقل القتل، وأعجب من الجميع عندهم قولهم: القتل أنفى للقتل غير أن الآية أنست الجميع ونفت الكل: ولكم في القصاص حيوة فإن الآية أقل حروفا واسهل في التلفظ، وفيها تعريف القصاص وتنكير الحيوة ليدل على أن النتيجة أوسع من القصاص وأعظم وهي مشتملة على بيان النتيجة وعلى بيان حقيقة المصلحة وهي الحيوة، وهي متضمن حقيقة المعنى المفيد للغاية فإن القصاص هو المؤدي إلى الحيوة دون القتل فإن من القتل ما يقع عدوانا ليس يؤدي إلى الحيوة، وهي مشتملة على أشياء اخر غير

[ 434 ]

القتل يؤدي إلى الحيوة وهي أقسام القصاص في غير القتل، وهي مشتملة على معنى زائد آخر، وهو معنى المتابعة التي تدل عليها كلمة القصاص بخلاف قولهم القتل أنفى للقتل، وهي مع ذلك متضمنة للحث والترغيب فإنها تدل على حيوة مذخورة للناس مغفول عنها يملكونها فعليهم أن يأخذوا بها نظير ما تقول: لك في مكان كذا أو عند فلان مالا وثروة، وهي ذلك تشير إلى أن القائل لا يريد بقوله هذا إلا حفظ منافعهم ورعاية مصلحتهم من غير عائد يعود إليه حيث قال: ولكم. فهذه وجوه من لطائف ما تشتمل عليه هذه الآية، وربما ذكر بعضهم وجوها اخرى يعثر عليه المراجع غير أن الآية كلما زدت فيه تدبرا زادتك في تجلياتها بجمالها وغلبتك بهور نورها - وكلمة الله هي العليا. (بحث روائي) في تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى الحر بالحر، قال: لا يقتل الحر بالعبد ولكن يضرب ضربا شديدا ويغرم دية العبد وإن قتل رجل امرأة فأراد أولياء المقتول أن يقتلوه أدوا نصف ديته إلى أولياء الرجل. وفي الكافي عن الحلبي عن الصادق عليه السلام: قال سألته عن قوله الله عز وجل فمن تصدق به فهو كفارة له، قال: يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما عفي، وسألته عن قوله عز وجل: فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان، قال: ينبغي للذي له الحق أن لا يعسر أخاه إذا كان قد صالحه على دية وينبغي للذي عليه الحق أن لا يمطل أداه إذا قدر على ما يعطيه ويؤدي إليه بإحسان، وسئلته عن قول الله عز وجل: فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم، قال: هو الرجل يقبل الدية أو يعفو أو يصالح ثم يعتدي فيقتل كما قال الله عز وجل. اقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة. (بحث علمي) كانت العرب أوان نزول آية القصاص وقبله تعتقد القصاص بالقتل لكنها ما كانت تحده بحد وإنما يتبع ذلك قوة القبائل وضعفها فربما قتل الرجل بالرجل والمرأة

[ 435 ]

بالمرأة فسلك في القتل مسلك التساوي وربما قتل العشرة بالواحد والحر بالعبد والرئيس بالمرؤوس وربما أبادت قبيلة قبيلة اخرى لواحد قتل منها. وكانت اليهود تعتقد القصاص كما ورد في الفصل الحادي والعشرين والثاني والعشرين من الخروج والخامس والثلاثين من العدد، وقد حكاه القرآن حيث قال تعالى: (وكتبنا لهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص) المائدة - 45. وكانت النصاري على ما يحكى لا ترى في مورد القتل إلا العفو والدية، وسائر الشعوب والامم على اختلاف طبقاتهم ما كانت تخلو عن القصاص في القتل في الجملة وإن لم يضبطه ضابط تام حتى القرون الاخيرة. والاسلام سلك في ذلك مسلكا وسطا بين الالغاء والاثبات فأثبت القصاص وألغى تعينه بل أجاز العفو والدية ثم عدل القصاص بالمعادلة بين القاتل والمقتول، فالحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى. وقد اعترض على القصاص مطلقا وعلى القصاص بالقتل خاصة بأن القوانين المدنية التي وضعتها الملل الراقية لا ترى جوازها وإجرائها بين البشر اليوم. قالوا: إن القتل بالقتل مما يستهجنه الانسان وينفر عنه طبعه ويمنع عنه وجدانه إذا عرض عليه رحمة وخدمة للانسانية، وقالوا: إذا كان القتل الاول فقدا لفرد فالقتل الثاني فقد على فقد، وقالوا: إن القتل بالقصاص من القسوة وحب الانتقام، وهذه صفة يجب أن تزاح عن الناس بالتربية العامة ويؤخذ في القاتل أيضا بعقوبة التربيه، وذلك إنما يكون بما دون القتل من السجن والاعمال الشاقة، وقالوا: إن المجرم إنما يكون مجرما إذا كان مريض العقل فالواجب أن يوضع القاتل المجرم في المستشفيات العقلية ويعالج فيها، وقالوا إن القوانين المدنية تتبع الاجتماع اموجود، ولما كان الاجتماع غير ثابت على حال واحد كانت القوانين كذلك فلا وجه لثبوت القصاص بين الاجتماع للابد حتى الاجتماعات الراقيه اليوم، ومن اللازم أن يستفيد الاجتماع من وجود أفرادها ما استيسر، ومن الممكن أن يعاقب المجرم بما دون القتل مما يعادل القتل من حيث الثمرة والنتيجة كحبس الابد أو حبس مدة سنين وفيه الجمع

[ 436 ]

بين حقين حق المجتمع وحق أولياء الدم، فهذه الوجوه عمدة ما ذكره المنكرون لتشريع القصاص بالقتل. وقد أجاب القرآن عن جميع هذه الوجوه بكلمة واحدة، وهي قوله تعالى: من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) المائدة - 32. بيان ذلك: أن القوانين الجارية بين أفراد الانسان وإن كانت وضعية اعتبارية يراعى فيها مصالح الاجتماع الانساني غير أن العلة العاملة فيها من أصلها هي الطبيعة الخارجية الانسانية الداعية إلى تكميل نقصها ورفع حوائجها التكوينية، وهذه الواقعية الخارجية ليست هي العدد العارض على الانسان ولا الهيئة الواحدة الاجتماعية فإنها نفسها من صنع الوجود الكوني الانساني بل هي الانسان وطبيعته، وليس بين الواحد من الانسان والالوف المجتمعة منه فرق في أن الجميع إنسان ووزن الواحد والجميع واحد من حيث الوجود. وهذه الطبيعة الوجودية تجهزت في نفسها بقوى وأدوات تدفع بها عن نفسها العدم لكونها مفطورة على حب الوجود، وتطرد كل ما يسلب عنه الحياة بأي وسيلة أمكنت وإلى أي غاية بلغت حتى القتل والاعدام، ولذا لا تجد إنسانا لا تقضي فطرته بتجويز قتل من يريد قتله ولا ينتهي عنه إلا به، وهذه الامم الراقية أنفسهم لا يتوقفون عن الحرب دفاعا عن استقلالهم وحريتهم وقوميتهم، فكيف بمن أراد قتل نفوسهم عن آخرها، ويدفعون عن بطلان القانون بالغا ما بلغ حتى بالقتل ويتوسلون إلى حفظ منافعهم بالحرب إذا لم يعالج الداء بغيرها، تلك الحرب التي فيها فناء الدنيا وهلاك الحرث والنسل ولا يزال ملل يتقدمون بالتسليحات وآخرون يتجهزون بما يجاوبهم، وليس ذلك كله إلا رعاية لحال الاجتماع وحفظا لحياته وليس الاجتماع إلا صنيعة من صنايع الطبيعة فما بال الطبيعة يجوز القتل الذريع والافناء والابادة لحفظ صنيعة من صنائعها، وهي الاجتماع المدني ولا تجوزها لحفظ حيوة نفسها ؟ وما بالها تجوز قتل من يهم بالقتل ولم يفعل ولا تجوزه فيمن هم وفعل ؟ وما بال الطبيعة تقضي بالانعكاس في الوقايع التاريخية، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال

[ 437 ]

ذرة شرا يره ولكل عمل عكس عمل في قانونها لكنها تعد القتل في مورد القتل ظلما وتنقض حكم نفسها. على أن الاسلام لا يرى في الدنيا قيمة للانسان يقوم بها ولا وزنا يوزن به إلا إذا كان على دين التوحيد فوزن الاجتماع الانساني ووزن الموحد الواحد عنده سيان، فمن الواجب أن يكون حكمهما عنده واحدا، فمن قتل مؤمنا كان كمن قتل الناس جميعا من نظر إزرائه وهتكه لشرف الحقيقة كما أن من قتل نفسا كان كمن قتل الناس جميعا من نظر الطبيعة الوجودية، وأما الملل المتمدنة فلا يبالون بالدين ولو كانت شرافة الدين عندهم تعادل في قيمتها أو وزنها - فضلا عن التفوق - الاجتماع المدني في الفضل لحكموا فيه بما حكموا في ذلك. على أن الاسلام يشرع للدنيا لا لقوم خاص وامة معينة، والملل الراقية إنما حكمت بما حكمت بعد ما أذعنت بتمام التربية في أفرادها وحسن صنيع حكوماتها ودلالة الاحصاء في مورد الجنايات والفجائع على أن التربية الموجودة مؤثرة وأن الامة في أثر تربيتهم متنفرة عن القتل والفجيعة فلا تتفق بينهم إلا في الشذوذ وإذا اتفقت فهي ترتضي المجازاة بما دون القتل، والاسلام لا يأبى عن تجويز هذه التربية وأثرها الذي هو العفو مع قيام أصل القصاص على ساق. ويلوح إليه قوله تعالى: في آية القصاص فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان، فاللسان لسان التربية وإذا بلغ قوم إلى حيث أذعنوا بأن الفخر العمومي في العفو لم ينحرفوا عنه إلى مسلك الانتقام. وأما غير هؤلاء الامم فالامر فيها على خلاف ذلك والدليل عليه ما نشاهده من حال الناس وأرباب الفجيعة والفساد فلا يخوفهم حبس ولا عمل شاق ولا بصدهم وعظ ونصح، وما لهم من همة ولا ثبات على حق إنساني، والحيوة المعدة لهم في السجون أرفق وأعلى وأسنى مما لهم في أنفسهم من المعيشة الردية الشقية فلا يوحشهم لوم ولا ذم، ولا يدهشهم سجن ولا ضرب، وما نشاهده أيضا من ازدياد عدد الفجائع في الاحصاءات يوما فيوما فالحكم العام الشامل للفريقين - والاغلب منهما الثاني - لا يكون إلا القصاص وجواز العفو فلو رقت الامة وربيت تربية ناجحة أخذت بالعفو (وإلاسلام لا يألو جهده في التربية) ولو لم يسلك إلا الانحطاط أو كفرت بأنعم ربها

[ 438 ]

وفسقت، أخذ فيهم بالقصاص ويجوز معه العفو. وأما ما ذكروه من حديث الرحمة والرأفة بالانسانية فما كل رأفة بمحمودة ولا كل رحمة فضيلة، فاستعمال الرحمة في مورد الجاني القسي والعاصي المتخلف المتمرد والمتعدي على النفس والعرض جفاء على صالح الافراد، وفي استعمالها المطلق إختلال النظام وهلاك الانسانية وإبطال الفضيلة. وأما ما ذكروه أنه من القسوة وحب الانتقام فالقول فيه كسابقة، فالانتقام للمظلوم من ظالمه استظهارا للعدل والحق ليس بمذموم قبيح، ولا حب العدل من رذائل الصفات، على أن تشريع القصاص بالقتل غير ممحض في الانتقام بل فيه ملاك التربية العامة وسد باب الفساد. وأما ما ذكروه من كون جناية القتل من الامراض العقلية التي يجب أن يعالج في المستشفيات فهو من الاعذار (ونعم العذر) الموجبة لشيوع القتل والفحشاء ونماء الجناية في الجامعة الانسانية وأي إنسان منا يحب القتل والفساد علم أن ذلك فيه مرض عقلي وعذر مسموع يجب على الحكومة أن يعالجه بعناية ورأفة وأن القوة الحاكمة والتنفيذية تعتقد فيه ذلك لم يقدم معه كل يوم على قتل. وأما ما ذكروه من لزوم الاستفادة من وجود المجرمين بمثل الاعمال الاجبارية، ونحوها مع حبسهم ومنعهم عن الورود في الاجتماع فلو كان حقا متكئا على حقيقة فما بالهم لا يقضون بمثله في موارد الاعدام القانوني التي توجد في جميع القوانين الدائرة اليوم بين الامم ؟ وليس ذلك إلا للاهمية التي يرونها للاعدام في موارده، وقد مر أن الفرد والمجتمع في نظر الطبيعة من حيث الاهمية متساويان. كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين - 180. فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم - 181.

[ 439 ]

فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم - 182. (بيان) قوله تعالى: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية، لسان الآية لسان الوجوب فإن الكتابة يستعمل في القرآن في مورد القطع واللزوم ويؤيده ما في آخر الآية من قوله حقا، فإن الحق أيضا كالكتابة يقتضي معنى اللزوم لكن تقييد الحق بقوله على المتقين، مما يوهن الدلالة على الوجوب والعزيمة فإن الانسب بالوجوب أن يقال: حقا على المؤمنين، وكيف كان فقد قيل إن الآية منسوخة بآية الارث، ولو كان كذلك فالمنسوخ هو الفرض دون الندب وأصل المحبوبية، ولعل تقييد الحق بالمتقين في الآية لافادة هذا الغرض. والمراد بالخير المال، وكأنه المال المعتد به، دون اليسير الذي لا يعبأ به والمراد بالمعروف هو المعروف المتداول من الصنيعة والاحسان. قوله تعالى: فمن بدله بعد ما سمعه فانما إثمه على الذين يبدلونه، ضمير إثمه راجع إلى التبديل، والباقي من الضمائر إلى الوصية بالمعروف، وهي مصدر يجوز فيه الوجهان وإنما قال على الذين يبدلونه، ولم يقل عليهم ليكون فيه دلالة على سبب الاثم وهو تبديل الوصية بالمعروف وليستقيم تفريع الآية التالية عليه. قوله تعالى: فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه، الجنف هو الميل و الانحراف، وقيل: هو ميل القدمين إلى الخارج كما أن الحنف بالحاء المهملة انحرافهما إلى الداخل، والمراد على أي حال الميل إلى الاثم بقرينة الاثم، والآية تفريع على الآية السابقة عليها، والمعنى (والله أعلم) فإنما إثم التبديل على الذين يبدلون الوصية بالمعروف، ويتفرع عليه: ان من خاف من وصية الموصي أن يكون وصيته بالاثم أو مائلا إليه فأصلح بينهم برده إلى ما لا إثم فيه فلا إثم عليه لانه لم يبدل وصيته بالمعروف بل إنما بدل ما فيه إثم أو جنف.

[ 440 ]

(بحث روائي) وفي الكافي والتهذيب وتفسير العياشي - واللفظ للاخير - عن محمد بن مسلم عن الصادق عليه السلام: سئلته عن الوصية تجوز للوارث ؟ قال نعم ثم تلا هذه الآية إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين. وفي تفسير العياشي عن الصادق عن أبيه عن علي عليه السلام قال: من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية. وفي تفسير العياشي أيضا عن الصادق عليه السلام: في الآية قال: حق جعله الله في أموال الناس لصاحب هذا الامر، قال قلت: لذلك حد محدود، قال: نعم، قلت: كم ؟ قال: أدناه السدس وأكثره الثلث. اقول: وروي هذا المعنى الصدوق أيضا في الفقيه عنه عليه السلام وهو استفادة لطيفة من الآية بضم قوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا) الاحزاب - 6، فإن الآية هي الناسخة لحكم التوارث بالاخوة الذي كان في صدر الاسلام فقد نفت التوارث بالاخوة وأثبتته للقرابة ثم استثنى ما فعل من معروف في حق الاولياء، وقد عدت النبي وليا والطاهرين من ذريته أولياء لهم، وهذا المعروف المستثنى مورد قوله تعالى: إن ترك خيرا الوصية الآية - وهم قربى - فافهم. وفي تفسير العياشي عن أحدهما عليهما السلام: في قوله تعالى كتب عليكم إذا حضر الآية، قال عليه السلام هي منسوخة نسختها آية الفرائض التي هي المواريث. اقول: مقتضى الجمع بين الروايات السابقة وبين هذه الرواية أن المنسوخ من الآية. وفي تفسير العياشي عن أحدهما عليهما السلام: في قوله تعالى كتب عليكم إذا حضر الآية، قال عليه السلام هي منسوخة نسختها آية الفرائض التي هي المواريث. اقول: مقتضى الجمع بين الروايات السابقة وبين هذه الرواية أن المنسوخ من الآية. هو الوجوب فقط فيبقى الاستحباب على حاله. وفي المجمع عن أبي جعفر عليه السلام: في قوله فمن خاف من موص جنفا أو إثما الاية، قال الجنف أن يكون على جهة الخطأ من حيث لا يدري أنه يجوز. وفي تفسير القمي قال الصادق عليه السلام: إذا الرجل أوصى بوصيته فلا يجوز للوصي

[ 441 ]

أن يغير وصية يوصيها بل يمضيعا على ما أوصى إلا أن يوصي بغير ما أمر الله فيعصي في الوصية ويظلم، فالموصى إليه جائز له أن يرده إلى الحق مثل رجل يكون له ورثة فيجعل المال كله لبعض ورثته ويحرم بعضا فالوصي جائز له أن يرده إلى الحق وهو قوله جنفا أو إثما، والجنف الميل إلى بعض ورثته دون بعض والاثم أن يأمر بعمارة بيوت النيران واتخاذ المسكر فيحل للوصي أن لا يعمل بشئ من ذلك. أقول: وبما في الرواية من معنى الجنف يظهر معنى قوله تعالى فأصلح بينهم فالمراد الاصلاح بين االورثة لوقوع النزاع بينهم من جهة جنف الموصي. وفي الكافي عن محمد بن سوقة قال: سئلت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل: فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه، قال نسختها التي بعدها قوله: فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه، قال: يعني الموصي إليه أن خاف جنفا من الموصي في ولده فيما أوصى به إليه فيما لا يرضي الله به من خلاف الحق فلا إثم عليه أي على الموصى إليه أن يبدله إلى الحق وإلى ما يرضى الله به من سبيل الحق. أقول: هذا من تفسير الآية بالآية فإطلاق النسخ عليه ليس على الاصطلاح وقد مر أن النسخ في كلامهم ربما يطلق على غير ما اصطلح عليه الاصوليون.

مكتبة مكتبة شبكة أمل