هذا الكتاب من مطبوعات موقع الكوثر ومن منشوراته الإلكترونية في الإنترنت فلا يجوز الإستفادة منه تجاريا
www.al-kawthar.com/maktaba


(1)
مـحال مشيئة الله

الخلق
من جملة الأسئلة المطروحة في مجال الخلق هو السؤال التالي :
هل الله سبحانه بإرادته خلق الأشياء بإفاضة الوجود إليها أم أن الفيض انتشر منه تعالى بنحو جبري من غير الإرادة كانبثاق النور من الشمس ؟
أقول : لا شكَّ أنَّ جميع الموجودات قد صدرت منه تعالى بالإرادة والقصد لا بالجبر والقهر وهذا الأمر يحتاج إلى شرحٍ وإيضاح فنقول :
النور
لا تَقلُّ أهميَّةُ النور في فهم و تنوير الحقائق المعنوية و المعارف الإلهيَّة عن أهميَّته في تنوير الأجسام و الأجرام المادية1 فالخلق ليس هو إلاّ إشعاع النور المطلق على الكيانات المكتومة و الماهيات المظلمة1 وهذا ما تُبيِّنه آية النور ذات المحتوى العرفاني العميق الذي من أجلها سمِّيت السورة بأجمعها بهذا الاسم2.
قال تعالى :
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ... }3
وينبغي أن لا ننسى أنَّ هذا ليس هو إلاّ مثالٌ ، فلا نظنّ بأن الله هو بالفعل نور بالمفهوم الذي نتصوره نحن بذهننا القاصر ،كيف وهو خالق النور ومُنَور النور وربّ النور ! كم من فرق بين الممثَّل الذي هو نور الوجود والمثال الذي هو النور الحسِّي . إليك بعض تلك الفروق:
الأوَّل : النور الحسي قائم بغيره ونور الوجود قائم بذاته
توضيح ذلك : إن النور الحسي له ماهية ووجود ، وحيث أنَّ الأصالة و الحقيقة تعني الوجود4 فالنور لا يتحقق بذاته أي مستقلا عن الوجود بل هو كغيره من الموجودات فقير إليه ، فبفضل الوجود أصبح النور نوراً و منوَّراً ، فلا يمتاز النور على سائر الموجودات من هذه الناحية أعني الفقر الذاتي
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }1
بل المستوى الوجودي للنور أقل من سائر الموجودات حيث أنَّه ليس في أفق الإنسان و لا الحيوان و لا النبات و لعلَّه يعدُّ من الجمادات ، و الحاصل أنَّ النور الحسِّي هو مظهر من الوجود ( النور المطلق ) وقائم به ، ولولا الفيض الدائم المستمر عليه لما كان له أي اعتبار و كيان كما سيأتي زمانٌ تنعدم فيه الأنوار
{ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ }2
الثاني : إن النور الحسي تظهر به المبصرات فقط وأما المسموعات مثلاً فلا يكشفها النور الحسي بل حتَّى المبصرات لا ترى من جميع زواياها و جوانبها من خلال النور الحسِّي بل يمكن رؤيتها على مستوى واحدٍ فقط ، و هو سطح الأشياء وأمّا عمقها فليس للنور أيَّة سلطة عليها .
وأمّا نور الوجود فتظهر به المبصرات والمسموعات و المتذوقات و المشمومات والملموسات والمتخيلات و المعقولات وما وراء الحس و العقل . فالوجود هو الذي يُظهرها جميعاً و هو ظاهر بنفسه . فالمسموع لا يسمع إلا بالوجود ، فلو لم يكن الصوت موجوداً لما سُمع ، ولو لم يكن الطعم موجوداً لما تُذوِّق فكلُّ شيء ببركة الوجود يكون له أثرٌ و انعكاس ، سواء الوجود العيني أو الوجود الذهني3.
الثالث : ما أشرنا إليه في الأمر السابق أنَّ الوجود مسيطر على كل شيء باطنه و ظاهره ، فماذا يبقى إذاً للشيء ؟
بما أنَّ النور الحسِّي يسلط ضوءه على ظواهر الأشياء فتبقى البواطن على حالها خارجة عن نطاق النور ، و لكن إذا كان الوجود هو الذي أظهر جميع الأشياء سطوحها و بواطنها ، فأيُّ شيء يبقى خارجاً عن مملكته وما ذا بعد الحق ( وهو الوجود المطلق ) إلاّ الضلال المبين ! هو الأوَّل والآخر و الظاهر والباطن وهو معكم أينما كنتم وقيام كل شيء به تعالى :
{ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }1
فكلُّ شيءٍ ميِّت و هو الحي وكلُّ شيء فقير و هو الغني القائم و الشاهد و المحيط بكل شيء
(( و بنور وجهك الذي أضاء له كلُّ شيء ))2
هذه أهمّ نقطة يجب أن نعرفها حقَّ المعرفة و نصل إليها بالشهود والعرفان حيث أنَّ لها الدور الرئيسي في حركاتنا وسكناتنا ومواقفنا و أعمالنا وأخلاقنا فينبغي أن نُدرك حقيقة قوله تعالى :
{ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ }3
والمعتقد بهذه الحقيقة لا يمكن أن يصدر منه أصغرّ الذنوب ،كيف وهو يعلم بأنَّ الله له حضور تكويني في كلِّ ما هو موجود !
قال تعالى :
{ أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ، أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } 4
الرابع : إن النور الحسي لا شعور له ونور الوجود ذو شعور بل هو عين الشعور و الإدراك ،كيف و الشعور لا يكون له أيُّ اعتبارٍ إلاّ بالوجود و من هنا نعرف السرّ في قوله تعالى :
{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }5
و قوله تعالى :
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ }6
فكلمة "ما " تشمل كافة الموجودات حتَّى الجمادات ، و أوضح من ذلك قوله تعالى :
{ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }7
فالأشياء جميعاً لا تسبِّح فحسب ، بل تسبِّح حين الحمد فتنزِّه و تحمد وتلاحظ الجلال و الجمال الإلهي على مستوى واحد ، وهذه حقيقة التوحيد .8
السادس : إنَّ إشعاع النور ليس إرادياً بل هو جبري محض فإن الشمس لا تَنشر النور و ترسله إلى الأجرام بإرادتها بل بما أنَّها شمس فهي ذات إشعاع وذلك لأنَّ النور الحسي ليس من جملة الموجودات العالية كالإنسان والملائكة ، بل شأنها شأن الجمادات التي لا إرادة لها ، بل ربَّما يكون النور في مرحلة أدنى من الجمادات كما مرَّ . فلو أثبتنا أنَّه ليس بجسم فهذا لا يعني أنَّه مُجرَّدٌ روحاني كيف و لا إرادة له !
فلو أثبت علماء الطبيعة أن النور لا يوزن وليس له مكان فهذا لا يعني أنَّه مجردٌ ! وأمّا الله فهو :
{ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } 9
أي وجود هما فظهرت بالله السماوات والأرض ولكن بالمشيئة و الإرادة . كيف لا يكون كذلك و هو خالق للإرادة ، و خالق الإنسان المريد ( وفاقد الشيء لا يُعطي ) فالإنسان يتصوَّر ، فيُصدِّق ، فيرغب ، فيشتاق ، فيطلب ، فيريد ، فيفعل . فالإرادة إذاً هي مظهر من مظاهر الوجود ، فكما أنَّه بالوجود أصبح الجمالُ جمـالاً و القدرةُ قدرةً و العلم علماً ، فبالوجود أيضاً أصبحت الإرادةُ إرادةً ، فالله سبحانه هو الجميل و القدير و العليم على الإطلاق وكل جمال و قدرة و علم منه تعالى ، وهو أيضاً المريد على الإطلاق ، وكلُّ إرادة مهما كانت ، هي مظهر من إرادته جلَّ شأنه .
فهو تعالى أرادَ ، فخلق الأشياء ، و إرادتُه سبحانه وتعالى عينُ فعله :
{ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }10
ليس هناك فاصل زمني بين كنْ و يكون فمتى ما أراد الله أن يكون يتحقق الشيء أقل من طرفة عين . إنَّ صدور الأشياء منه تعالى ليس قهريّاً بل هو اختياريٌّ ، ولكنَّ الله تعالى بكرمه و لطفه و سعة رحمته لا يمنع الموجودات من فيضه ، رغم تمكّنه من المنع :
(( يا من يعطي من سأله يا من يعطي من لم يسأله و من لم يعرفه تحنُّنا منه و رحمة ))11
السادس : إن النور الحسي له أفول و زوال و له ثانٍ ، و نور الوجود لا أفول ولا زوال و لا ثان و لا مقابل له ، ووحدته ليست عددية ، فهو ليس واحداً بل هو أحدٌ ، والأحد لا يكون إلا الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد قال تعالى :
{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }12
لماذا ؟ لأنه هو :
{ اللَّهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ }13
فمع اجتماع هذه الصفات يكون أحداً ، فإذا استوعب كلَّ شيء بحيث لا يخلو منه شيء فلا يوجد مجال للثاني ، و ما هو الثاني في قبال الوجود المطلق ؟ العدم !! أم...!
أوَّل ما خلق الله المشيئة
على ضوء ما قلنا يمكنك أن تتعرَّف على أوَّل ما خلق الله أو أوَّل ما ظهر منه تعالى وهو المشيئة والإرادة كما ورد في الحديث :
(( علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عُمَير عن عُمر بن أذينة عن أبي عبد الله عليه السلام قال : خَلقَ الله المشيئة بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشيئة ))14
فهو شاء فخلق وإنَّما سمِّيت الأشياء أشياءً فلأنَّها مظاهر مشيئته تعالى و تجلِّي إرادته ؟
عالم الأمر وهاهنا سؤال يطرح نفسه وهو :
في ماذا تجلَّت و تتجلَّى 15 المشيئةُ الإلهيَّة التي بها خلقَ الله الأشياء ؟ ومن هُمْ محال مشيئته تعالى ؟ هل المشيئة الأولى التي خلق الله بها الأشياء و أظهر به سائر الموجودات ، مخلوقة كسائر المخلوقات بمعنى أنَّ المشيئة أيضاً ظهرت بالمشيئة ؟
أقول:
من الواضح أنَّ الذي هو مظهر نفس المشيئة لا يكون شيئاً كسائر الأشياء بل له رتبة أعلى وأسمى منها حيث به خُلقت الأشياء وأصبح هو واسطة لانتقال فيض الوجود إلى الأشياء الأخرى فهو رابط بين الأشياء وبين الله سبحانه وتعالى لأنَّه إن قلنا بأن المشيئة خلقت بالمشيئة سوف ننقل الكلام إلى المشيئة الأولى ونقول : هل الله بمشيئته شاء أن يخلق ؟ و لا تتوقَّف هذه السلسلة أصلاً والتسلسل باطل بالبداهة16 فإذاً المشيئة لم تُخلق كسائر الأشياء ، بل خَلَق الله الأشياء بالمشيئة وخلق المشيئة بنفسها والمشيئة من عالم الأمر الذي ورد في قوله تعالى :
{ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ }17
(( فى الخرائج والجرائح عن القائم عليه السلام حديث طويل فيه يقول لكامل بن ابراهيم المدين : وجئت تسأل من مقالة المفوِّضة كذبوا بل قلوبنا أوعية لمشية الله عزَّ وجلَّ فإذا شاء شئنا والله يقول : وما تشاؤن إلاّ أن يشاء الله ))18
وقال الإمام قدَّس الله نفسَه في كتابه القيِّم مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية:
(( مطلَعٌ : إن الأحاديث الواردة عن أصحاب الوحي و التنزيل في بدء خلقهم عليهم السلام و طينة أرواحهم وأنّ أول الخلق روح رسول الله و عليّ صلى الله عليهما و آلهما أو أرواحهم إشارة إلى تعين روحانيتهم التي هي المشيئة المطلقة و الرحمة الواسعة تعيّناً عقليّاً لأنّه أوَّل الظهور هو أرواحهم عليهم السلام و التعبير بالخلق لا يناسب ذلك فإنَّ مقام المشيئة لم يكن من الخلق في شيءٍ بل هو الأمر المشار إليه بقوله تعالى : ( ألا له الخلق و الأمر ) و إن يُطلق عليه الخلق أيضا ، كما ورد منهم " خلق الله الأشياء بالمشيئة والمشيئة بنفسها " و هذا الحديث الشريف أيضا من الأدلة على كون المشيئة المطلقة فوق التعينات الخلقية من العقل و ما دونه ))19
أقول: ولعلَّ في قوله تعالى
{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا }20
إشارة إلى ذلك ، فهم عليهم السلام محال مشيئة الله ، وهم باب الله الذي منه يُؤتى ، والسبب المتصل بين الأرض والسماء ، و النور الأوَّل الذي كان في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهَّرة و الذي منَّ الله علينا بهم فجعلهم في بيوت أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه ففي الحديث :
(( عن أبان بن تغلب قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام يا بن رسول الله لم سميت الزهراء زهراء فقال : لأنَّها تزهر لأمير المؤمنين عليه السلام في النهار ثلاث مرات بالنور ... إلى أن قال: فلم يزل ذلك النور في وجهها حتى ولد الحسين عليه السلام فهو يتقلب في وجوهنا إلى يوم القيامة في الأئمة منا أهل البيت إمام بعد إمام ))21
و قال قدِّس سرُّه :
(( لو اتَّحد أفق الإنسان الكامل مع المشيئة المطلقة وأصبحت روحانيته عين مقام الظهور الفعلي للحق تعالى ففي هذا الحال سوف ينظر الحق تعالى به و يسمع به و يبطش به فهو الإرادة النافذة للحق و المشيئة الكاملة و العلم الفعلي وقد ورد في الحديث عليٌّ عين الله وسمع الله و جنب الله ..)) 22
وقال الإمام قدِّس سرُّه في بيان شخصيَّة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله :
(( وهو المشيئة المعبَّر عنها بالفيض المقدس والرحمة الواسعة والاسم الأعظم والولاية المطلقة المحمدية أو المقام العلوي ، وهو اللواء الذي آدم ومن دونه تحته والمشار إليه بقوله : " كنت نبياً وآدم بين الماء والطين أو بين الجسد والروح " أي لا روح ولا جسد ، وهو العروة الوثقى والحبل الممدود بين سماء الإلهية وأراضي الخلقية ، وفي دعاء الندبة قوله عليه السلام : " أين باب الله الذي منه يؤتى أين وجه الله الذي يتوجه إليه الأولياء ، أين السبب المتصل بين الأرض والسماء " وفي الكافي عن المفضّل قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : كيف كنتم حيث كنتم في الأظلّة فقال : يا مفضل كنّا عند ربّنا ليس عنده أحد غيرنا في ظُلّة خضراء نسبحه ونقدِّسه و نهلِّله ونمجِّده وما من ملكٍ مقرب ولا ذي روح غيرنا ، حتى بدا له في خلق الأشياء فخلق ما شاء كيف شاء من الملائكة وغيرهم ثم أنهى علم ذلك إلينا " والأخبار من طريق أهل البيت عليهم السلام بهذا المضمون كثيرة ))23
وهذه المعرفة هي عين التوحيد لأنَّه من خلالها يمكن ربط الأرض بالسماء و المخلوق بالخالق الواحد الأحد ويتحقق التناسب و التسانخ و الانسجام بين العلة والمعلول .
ثمَّ :
إنَّ أسمائهم هي الأسماء التي علَّمها الله لآدم حيث يقول :
{ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا }24.
و المراد من الأسماء هي التي كانت لها علاقة بمقام الخلافة الإلهيّة و بطبيعة الحال هي المسميات المشار إليها في قوله :
{ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ }25.
أنظُر إلى هذا التعبير وتأمّل في كلمة (ثمَّ) فإنها قد فصَّلتْ بين جميعِ الأسماء وبين التّي عُرضَتْ على الملائكة وتأمَّل أيضاً في ضمير(هم) فالمقصود منه المسميات التِّي تمتلك التعقُّلَ وإلا لكان التعبير الصحيح هو (عَرضَها) لا (عَرضَهُم) وأصرح منه قوله تعالى:
{ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ }26.
ولا يخفى أنَّ كلمة هؤلاء تدلُّ على حضورهم بعينهم آنذاك وهم بعرشه محدقين ولعلَّ قوله عليه السلام في الزيارة الجامعة الكبيرة وأسماؤكم في الأسماء إشارة إلى هذه الحقيقة حيث كانت أسماؤهم في الأسماء التِّي علَّمها الله آدم عليه السلام .
و قد ورد في الحديث :
((لولاك لما خلقت الأفلاك وأيضاً لولاك لما خلقت آدم ))27.
و في زيارة رسول الله صلى الله عليه و آله وسلَّم المنقول عن كلٍّ من الشيخ المفيد و السيد و الشهيد:
((أوَّل النبيين ميثاقا و آخرهم مبعثاً الذي غمسته في بحر الفضيلة و المنزلة الجليلة و الدرجة الرفيعة و المرتبة الخطيرة فأودعته الأصلاب الطاهرة و نقلته منها إلى الأرحام المطهرة..))28
و قد أشبعنا هذا الموضوع بحثاً في كتابنا دولة المهدي المنتظر 29
(2)
نور على نور
من الأبحاث التي تطرَّق إليها الحكماء ، هو الحديث عن النظام الإلهي ، وأنَّه هو النظام الأتم الأكمل الأحسن ، وذلك لأنَّ فيضه سبحانه دائم ، فمن المستحيل تصوّر النقصان في فيوضاته على العالمين ، وهذا الأمر غير خاضع للزمان و المكان مطلقاً ، فنظام الكون دائماً هو الأحسن ، وعليه يكون أحسن ما خلق هو الأوَّل و هو الآخر ، و بما أنَّ النبي الأكرم هو أحسن الخلق و هو الأفضل من جميع الأنبياء كما ثبت في الأبحاث السابقة فهو أوَّل ما خلق الله ، فجميع الأنوار إنّما هي أشعاع لذلك النور الأوَّل المنبثق من النور المطلق ، فلا بد من نور شديد به تظهر سائر الأنوار ، و إلا سوف ينقطع الفيض الإلهي أ عني كلّ صفات الجمال و الكمال ، فالجميل المطلق قد ظهر في أحسن موجود كما أن الكريم المطلق تجلى و ظهر بكرمه و القدير المطلق ظهر بقدرته ، فالذي هو مظهر لتلك الصفات هو وجه الله ، ولابد أن يكون موجوداً في كلِّ زمان وهو حجَّة زمانه الذي ورد في الحديث عنه :
{ لولا الحجة }
وقال تعالى :
{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ}30
والمقصود من الوجه هي الفيوضات التي تمثِّل الواجهة و المرآة الإلهية ، فضمير في "ربِّك" إشارة إلى خصوص ربِّ الرسول صلى الله عليه وآله ، و من هنا اتُّصف بذي الجلال والإكرام .
وفي دعاء الندبة :
(( أين وجه الله الذي منه يُؤتى ))
ولتوضيح هذه الحقيقة نذكر مثالاً :
لو فرضنا أنَّ شلاّلا ينزل من جبلٍ عالٍ ، فمن الطبيعي أن يمرَّ من خلال البحر ثمَّ الشط ثمَّ الأنهار فالجداول ، فكلّ واحدة منها هي واسطة الفيض إلى ما دونها فحينئذٍ نتسائل ، أفهل بإمكان الإنسان أن يشرب الماء من غير التوسَّل بتلك الوسائط ؟
لو حاول ذلك و هو غير قابل لهلك ، لأنَّ الوعاء الذي يمتلكه لا يستوعب الماء ، فيبقى عطشاناً و هو يجاور الماء ، فالحل الوحيد لمثل هذا الإنسان هو الإبتعاد من المصدر و التقرُّب إلى وسائط الفيض ، ففي الدعاء :
(( إنّا توجَّهنا و استشفعنا و توسَّلنا بك إلى الله و قدَّمناك بين يدي حاجاتنا ، يا وجيهاً عند الله اشفع لنا عند الله ))
وهذه الحقيقة قد بيِّنت في قوله تعالى :
{ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ }31
كيف و الجبل مهما عظم فهو جماد لا يستوعب كلام الله تعالى ، فأين التراب و ربِّ الأرباب ، ومن هنا يقول سبحانه :
{ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }32
قال صدر الحكماء المتألّهين وشيخ العرفاء الكاملين في الأسفار:
(( إعلم أيّها المسكين ، أنّ هذا القرآن أُنزل من الحق إلى الخلق مع ألف حجاب لأجل ضعفاء عيون القلوب وأخافيش أبصار البصائر، فلو فرض أنّ باء بسم اللّه مع عظمته التي كانت له في اللّوح نزل إلى العرش لذاب واضمحلّ ، فكيف إلى السماء الدنيا . وفي قوله تعالى: ( لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ )33 إشارة إلى هذا المعنى))
و تعليقاً على ذلك قال الإمام قدس سرُّه :
((و هذا الكلام صادر عن معدن المعرفه مأخوذ عن مشكوة الوحي والنبوة ))
أقول:
ولهذا قال تعالى بعد ذلك :
{ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ، هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } 34
و الجدير بالذكر أنَّها آيات ثلاثة وكلِّ واحدة منها تبدأ بـ "هو الله" .
قال الإمام قدِّس سرُّه:
((الآية الشريفة الأولى مشيرة إلى أسماء الصفات ، والآية
الثانية إلى أسماء الذات ، والآية الثالثة إلى أسماء الأفعال ))
هذا:
و لاحظ قوله تعالى :
{ يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ35 قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً36 نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً37 أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً }38
كلُّ هذه العبادات لماذا ؟ قال تعالى :
{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }39
فهل بإمكاننا نحن القُصَّر أن نصل إلى شيء من مستوى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وسلَّم !!
ومن المناسب هنا الحديث عن آية النور ذات المحتوى العرفاني العميق قال تعالى:
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }40
أقول :
ظاهر المثال هو نوع من التشبيه لنور الله جلَّ شانه كمشكاة فيها مصباح وهو سراج والمصباح فى قنديل من الزجاج و هو مضيىء متلالىء كأنَّه كوكب درِّي وهذا المصباح يتوقَّد من شجره مباركة هي شجرة الزيتون المتكاثر نفعها و الشجرة لبركتها جيئت مبهمة ، كما أنَّ الزيتونة لفخامة شأنها جاءت بدلاً من الشجرة ، وهي لا شرقية ، و لا غربية ، تستطع الشمس عليها بنحو متواصل من غير انقطاع ، كالتِّى على قمَّة جبل ، أو صحراء واسعة ، فان ثمرتها تكون أنضج و زيتها أصفى . أو أنَّهما إشارة إلى أرض الشام الواقعة في وسط المعمورة لا شرقها ولا غربها ، فإن زيتونه أجود الزيتون أو أنَّه لا فى مضحى تشرق الشمس عليها دائما فتحرقها و لا مقناه تغيب عنها دائماً فيتركها نياً و فى الحديث :
{ لا خير فى شجرة و لا فى نبات فى مقناة و لا خير فيها في مضحى }
يكاد زيتها يضيىء و لو لم تمسسه نار وذلك لتلألؤه وبياضه الشديد ، فجميع تلك الأمور ضاعفت في النور و لم تنقص منه أصلاً فإن نور المصباح زاد فى إنارته صفاء الزيت و القنديل و ضبط المشكاة ، فهو نور على نور و إن كان النور حقيقة من المعدن ، كما جاء في المناجاة الشعبانية:
(( إلهى هب لي كمال الإنقطاع إليك ، و أنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك ، حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور ، فتصل إلى معدن العظمة ، و تصير أرواحنا معلقة بعزّ قدسك))
و لكن عند التأمل في الأحاديث الشريفة التي وردت في تفسير الآية المباركة و الآية التي بعدها ، و ملاحظة القرائن المحيطة بها ، نصل إلى النتيجة التالية :
عند ملاحظة سياق الآيات نرى أنَّها تنوِّه إلى حقيقة واحدة وهي :
إنَّ الله هو نور السماوات و الأرض ، إنَّ هذا ليس هو إلاّ مثالٌ يشير إلى حقائق أخرى كما أشرنا سابقاً في بيان الفروق بين النور الحسِّي و الحقيقي41 .
فالأحاديث على اختلافها الظاهري تؤكِّد على أنَّ المصباح هو المصطفى صلى الله عليه وآله وسلَّم ، فقد جاء في الحديث التالي :
((عن عبد الله بن جندب قال :كتبت الى أبى الحسن الرضا صلوات الله عليه أسأله عن تفسير هذه الاية فكتب الى الجواب : أما بعد فان محمدا صلى الله عليه واله كان أمين الله فى خلقه فلما قبض النبى كنا أهل البيت ورثته فنحن أمناء الله فى أرضه ... مثلنا فى كتاب الله عزوجل "كمثل مشكوة "المشكوة فى القنديل فنحن المشكوة "فيها مصباح " المصباح محمد صلى الله عليه واله ))42
وكانوا عليهم السلام يستشهدون بآيات أخر تعزيزاً لهذا المعنى ، فقد ورد في تفسير قوله تعالى :
{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ }43
و قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا... } 44
وقوله تعالى:
{ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ }45
((على بن محمد عن على بن العباس عن على بن حماد عن عمرو بن شمر عن جابر عن ابى جعفر عليه السلام فى قول الله عز و جل...في حديث طويل ..قال في تفسير الآية المباركة أضاءت الأرض بنور محمدٍ كما تضىء الشمس فضرب الله مثل محمد صلى الله عليه وآله الشمس و مثل الوصى القمر و هو قوله عز و جل جعل الشمس ضياءا و القمر نورا و قوله و آيه لهم الليل نسلخ منه النهار فاذاهم مظلمون))46
و الجدير بالذكر ما ورد في تفسير الآيتين المباركتين وهما:
قوله تعالى :
{ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ }47
{ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }48
(( علي بن ابراهيم باسناده عن ابى عبد الله عليه السلام فى قول الله تعالى: "الّذين يتّبعون الرّسول النّبيّ الأمّيّ الّذي يجدونه مكتوبا عندهم في التّوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطّيّبات ويحرّم عليهم الخبائث ...إلى قوله... فالّذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتّبعوا النّور الّذي أنزل معه أولئك هم المفلحون" قال : النور فى هذا الموضع على امير المؤمنين و الأئم عليهم السلام ))49
((أحمد بن مهران عن عبد العظيم بن عبد الله الحسنى عن على بن اسباط و الحسن بن محبوب عن أبي ايوب عن أبي خالد الكابلى قال سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله تعالى فآمنوا باللّه ورسوله والنّور الّذي أنزلنا فقال : يا أبا خالد النور و الله الائمه عليهم السلام يا ابا خالد لنور الامام فى قلوب المؤمنين انور من الشمس المضيئه بالنهار و هم الذين ينورون قلوب المؤمنين و يحجب الله نورهم عمن يشاء فتظلم قلوبهم و يغشاهم بها ))50
وقال تعالى في شأن رسوله صلوات الله عليه :
{ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا }51
وأمّا كلام القوم في تفسير النور :
وقال ابن عباس : من أن المقصود من الآية أنَّ " مثل نور الله الذي يهدي به المؤمن" .
وقال الحسن : "مثل هذا القرآن فى القلب كمشكاة" .
وقيل : مثل نوره وهو طاعته .
وقال سعيد بن جبير : " النور محمد كأنه قال مثل محمد رسول الله" .
وقيل : هو مثل ضُرب لقلب المؤمن .
أقول:
و لا تعارض بين الأحاديث و الأقوال المختلفة في هذا المجال بل يمكن الجمع بينها
فنور الله ليس هو إلا رسوله و هو متَّحد مع القرآن



(3)
كلمات الله

الكلمات التكوينيَّة والكلمات التدوينيَّة هناك نوعان من الحروف والكلمات والجمل :
النوع الأوَّل: التكوينية.
النوع الثاني: التدوينية .
الكلمات التكوينية هي الأساس التِّي لها المصداقية العينيَّة وأمّا الكلمات التدوينيَّة فهي ليست على الحقيقة ، بل إطلاق الكلمات عليها مجازاً ، وسميت تدوينية باعتبار أنها تُدَون و تكتب وهي الألف والباء والجيم والدال ....تلك الحروف التي إن اجتمعت دلَّتْ على الحقائق العينيَّة الخارجيَّة .
فعندما نقول مثلاً "الباب" فهناك في عالم الخارج بابٌ هو مصداق للكلمة التي تلفظنا بها والكلمة تُمثِّل ذلك الباب العينيِّ الخارجيِّ ، وكذلك كلمة "البحر" و"البرّ" و "السماء " و "الأرض" فالكلمة إذاً ليست هي حقيقة مستقلة في قبال الحقيقة الموجودة في الخارج ، وعليه لا يمكن إطلاق الكلمة على الألفاظ ، وإن أطلقت عليها فهو ليس اطلاقا حقيقيا بل هو على نحو المجاز .
والكلمات ليست هي إلاّ تَبْيين أو بالأحرى إيجاد الأشياء الخارجيَّة في ذهن السامع ، فهناك شيء موجود في الخارج وهناك أمر آخر نحن تلفظنا به ، ذلك كي نحقِّق صورةً من تلك الحقيقة في ذهن السامع .
فعندما سمينا الأرض بهذه الاسم أعني الهمزة والراء والضاد وسمينا البحر بالباء والحاء والراء والسماء بالسين والميم والألف والهمزة فلا نقصد بذلك إلا الوصول من خلال تلك الكلمات إلى واقع الأرض والبحر والسماء ، و لنقل ذلك الواقع إلى أذهان الآخرين ،كي يتصوَّروا ما تصوَّرناه فيعرفوه .
فلو كان هناك إنسانٌ يعيش في البر ولم يرَ البحر قطّ ونحن أردنا أن نبين له واقع البحر فأفضل وسيلة لذلك هي استعمال الكلمات ، حيث أنَّ هذه الكلمات حينئذ سوف توجد صور ذهنية عندنا ، شريطة أن نبيِّن الواقع بشكلٍ صحيح وصورةٍ واضحةٍ لا غموض فيها فلربَّ متكلِّمٍ لا يمكنه نقل كلّ ما في ذهنه إلى الآخرين وذلك لضعف بيانه وقلة ممتلكاته و معرفته للكلمات التي يستخدمها حين الحديث أو عدم رعايته أدب تلك اللغة ، فكميَّة الكلمات مضافاً إلى فهم أدب اللغة لهما دورٌ رئيسيٌّ في نقل المفاهيم إلى الآخرين .
الكلمات التكوينيَّة
وأمّا الكلمات التكوينيَّة فهي الأمور الخارجية والحقائق العينيَّة التِّي لها وجودٌ حقيقي ، فواقع السماء والأرض والبرّ والبحر والجبال كلمات تكوينيَّة ، سميت تكوينية لأن الله كوَّنها وأوجدها :
{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }52
فقول الله هو الإيجاد لا التكلُّم ، وليس هناك فاصل زمني بين الإيجاد والوجود نعم هناك فاصل في الرتبة فقط فهو الذي أوجدَها فوُجدت و هذا شأن كلّ علةٍّ ومعلول كما هو ثابت في محلِّه 53.
فجميع الموجودات التِّي كوَّنها الله سبحانه وخلقها هي كلماته ، وهي غير مختصَّة بعالم المُلك و الدنيا بل تشمل عالم الملكوت والجبروت فالجنَّة وما فيها كلمات الله التكوينيَّة ، ولكثرتها وعدم إمكان إحصائها قال تعالى :
{ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا }54
{ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }55
ومن الواضح أنَّه ليس المقصود من الآية هي الكلمات المكتوبة بل هي الكلمات الواقعيَّة العينيَّة .
ومن أبرز كلمات الله هم أصحاب الكساء الخمسة الذين بهم قبل الله توبةَ آدم عليه السلام كما قال تعالى :
{ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }56
و في هذا المجال أحاديث كثيرة نكتفي بذكر حديث واحد :
(( عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله لما نزلت الخطيئة بآدم و أخرج من الجنَّة أتاه جبرئيل عليه السلام فقال يا آدم ادع ربك قال يا حبيبي جبرئيل ما أدعو ؟ قال قل ربِّ أسألك بحق الخمسة الذين تخرجهم من صلبي آخر الزمان إلا تبت علي و رحمتني فقال له آدم يا جبرئيل سمِّهم لي ، قال قل اللهم بحق محمد نبيك و بحق على وصي نبيك و بحق فاطمة بنت نبيك و بحق الحسن و الحسين سبطي نبيك إلا تبت علي فارحمني فدعا بهن آدم فتاب الله عليه ، و ذلك قول الله تعالى : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ، و ما من عبد مكروب يخلص النية و يدعو بهن إلا استجاب الله له))57
ولا تخفى عليك لطافة كلمة " فتلقَّى " فهي تدل على نوعٍ من الانسجام بين آدم وبين تلك الأنوار الطاهرة بحيث أنَّه بمجرد التلقِّي حصلت التوبة قهراً " فتاب عليه" .
وقال تعالى :
{ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ }58
وفي تفسير علي بن إبراهيم:
(( بالأئمة و القائم من آل محمد صلى الله عليه و آله ))59
كما أنَّ القرآن الكريم يطلق على النبي عيسى عليه السلام أنَّه كلمة من كلمات الله قال عزَّ شأنه :
{ إِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ }60
نلاحظ في هذه الآية المباركة أنَّ المسيح عيسى ابن مريم اسم ذلك النبي الذي هو كلمة الله وهو حقيقة خارجية مقدَّسة ، وقال تعالى:
{ فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ }61
والكلمة التي صدَّق بها يحيى هو المسيح عيسى بن مريم كما يستفاد ذلك بانضمامها إلى الآية السابقة وذهب إليه أكثر المفسِّرين.
وربَّما أطلقت الكلمة على الحوادث التِّي لها بالغ الأهميَّة كما في قوله تعالى :
{ وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }62
فالآية تشير إلى الوقائع والحقائق الخارجية التي ابتلي بها إبراهيم عليه السلام وهي تتمثَّل في قضية ذبح ابنه إسماعيل وإلقائه في النار ومواجهته لنمرود وغيرها ، فكلُّ هذه القضايا حقائق خارجية أطلقت عليها كلمات .
وقد ورد في التوقيع الصادر من الناحية المقدسة حرسها الله تعالى :
(( اللهم صل على محمد حجتك في أرضك و خليفتك في بلادك و الداعي إلى سبيلك و القائم بقسطك و الثائر بأمرك ، ولي المؤمنين و بوار الكافرين ، و مجلي الظلمة ، و منير الحق ، و الناطق بالحكمة و الصدق ، وكلمتك التامة في أرضك ، المرتقب الخائف ، و الولي الناصح ، سفينة النجاة ، و علم الهدى ، و نور أبصار الورى ، و خير من تقمص و ارتدى ))63
والأدعيَّة المأثورة عنهم عليهم السلام مليئة بذلك كدعاء السمات ودعاء جوشن الكبير وغيرهما .
و على ضوء ذلك يستنتج أنَّ الكلمات هي حقائق خارجيَّة قبل أن تكون ألفاظاً ، وتلك الحقائق لايفرق فيها بين أن تكون أمور عينيَّة خارجيَّة أو وقائع وحوادث مهمَّة .
ثمَّ إنَّه ليس من الضروري مشاهدة جميع الكلمات التكوينيَّة حسّاً بل يمكن لنا أن ننظر إلى بعضها بأعيننا المُلكيَّة وأمّا البعض الاخر فتفتقر إلى عين ملكوتيَّة برزخيَّة (ما وراء الطبيعة).
ومن هنا نرى بان الله سبحانه و تعالى يقول:
{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ }64
فهناك أشياء و حقائق يمكن ان نُبصرها وهناك ما لا يمكن ، ولكنّ كليهما تكوينيتان واضحتان ، وإنَّما النقص و الضعف فينا نحن الضعفاء فيمكننا أن نبصر بعضها باعتبار أنَّها من عالم الملك ولا يمكننا ان نبصر البعض الآخر-مع وضوحها-لأنَّنا نحن لم نصل إلى مستوى الملكوت ، فالملائكه وجودهم واضح وضوح الشمس إلاّ أنَّنا لا يمكننا رؤيتهم ، كما أنَّ وجود الأرواح ولكن لا يمكننا أن نُبصرها ، و سر ذلك أنَّنا لا نعيش ذلك العالم .
ولشدة وضوحها وفرط ظهورها قال ( لا أُقسمُ ) فهي لا تحتاج إلى قسم كقوله تعالى :
{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ }65
{ فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ }66
{ لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ }67
{ لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ }68
فاللاء النافية هاهنا ليست زائدة تأكيديَّة كما يتصوَّر الكثير من المفسِّرين ، بل هي على حقيقتها ، وإنَّما ذكرت لتبيِّن وضوح الشيء ، ومن الطبيعي أنَّ هذه اللاء تنفي لتُثبِت ، فنفيُ القسم ههنا يعادل سبعين قسماً و كأنَّه تعالى يقول : إن أردتم أن أقسم فسوف أُقسم كثيراً .
ورب إنسان لا يفهم الكلمات التكوينيَّة المُلكية ولا يبصرها مع أنَّه ينظر اليها بعينيه ! فهو يرى و لا يبصر ، كما ورد في القرآن الكريم عن الذين كانوا ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله :
{ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إلى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ }69
فليس كل مانراه نعرفه بل نحن لا نعرف حقيقة الاشياء أصلاً ، فالبصر في عالم الدنيا أيضا يحتاج إلى دقَّة وإلى مستوى من الرقيِّ الروحي ، فلا يتحقَّق البصرُ بمجرَّد النظر حيث أنَّ الحيوانات أيضاً تنظر لكنها لا تفهم ، فإذن هناك ثلاثة احتمالات :
الأوَّلى : النظر والفهم .
الثانية : النظر وعدم الفهم .
الثالثة : عدم النظر وعدم الفهم .
هذا كلُّه بالنسبة إلى الكلام التكويني .

الكتاب التكويني و الكتاب التدويني كتاب الله أيضاً ينقسم إلى قسمين :
الأوَّل : تكويني .
الثاني : تدويني .
جميع الحقائق الموجودة في الكتاب التكويني موجودة في الكتاب التدويني الذي هو كتاب الله ، لأنَّ القرآن ليس هو إلاّ مظهراً للكتاب التكويني ، فجميع الكتب مهما توسَّعت فهي لا تستوعب كلَّ الكتاب التكويني و لا تمثِّله ، بل ينعكس فيها كمٌّ ضئيلٌ من الكتاب التكويني ، فمثلاً كتب الطب أو البيئة أوالعلوم الأخرى لاتمثِّل جميع التكوين بل تمثِّل قسماً من عالم التكوين ، كلّ بحسبه .
الكتاب الوحيد الذي يمثل جميع ما في عالم التكوين هو القرآن الكريم حيث أنَّ الله سبحانه و تعالى بقدرته المطلقة قد جمع الكلام التكويني بما فيه من الخصوصيات ، في كتابه العزيز .
فهو كتاب تدويني مشتمل على جميع الكلمات التكوينية لاشتماله على فصول و أبواب و حروف ، فنفس الحقائق الموجوده في الخارج أصبحت حروفاً ، فلو سمعتَ عن الإسم الأعظم ، أوعلم من الكتاب ، أوعلم الكتاب فلا تتوهم أنَّ المقصود من ذلك صرف الكلمات بل المراد الكلمات التي تمثل عالمَ العين و الخارج ، فهي في الحقيقة ليست إلاّ وقائع خارجية ، ولكن ليس كلّ انسان يعرف ما في القرآن بل يحتاج ذلك إلى الجدّ و الجهد ، فكما أنه تعالى وبالنسبه إلى كتاب التكوين يقول :
{ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }70
فلابد للانسان من البحث للعثور على الرزق ، فكذلك بالنسبة إلى القرآن لا بد من السير والفحص والدقّة حتى الوصول إلى كنوزه غير النافدة .
فاتحة الكتاب التكويني قال الإمام الخميني قدِّس سرُّه:
(( ففاتحة الكتاب التكويني الإلهى الذي صنفه (تعالى جدّه) بيد قدرته الكامله بالوجود الجمعي الإلهي المنزّه عن الكثرة المقدّس عن الشَين والكدورة بوجهٍ هو عالم العقول المجردة والروحانيين من الملائكة والتعين الأوَّل للمشيئة وبوجهٍ عبارةٌ عن نفس المشيئة فإنِّها مفتاح غيب الوجود وفي الزيارة الجامعه : بكم فتح الله ، لتوافق أفقهم عليهم السلام لأفق المشيئة كما قال الله تعالى حكاية عن هذا المعنى : ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ، وهم عليهم السلام من جهة الولاية متحدون أوَّلنا محمّد ، أوسطنا محمد ، آخرنا محمد ، كلّنا نور واحد ، ولكون فاتحة الكتاب فيها كلّ الكتاب والفاتحة باعتبار الوجود الجمعى في بسم الله الرحمن الرحيم وهو في باء بسم الله وهو في نقطه تحت الباء قال علي (عليه السلام ): أنا النقطة وورد : بالباء ظهر الوجود وبالنقطة تميَّز العابد عن المعبود ))71
فكما أنَّ الكتاب التدويني يبدأ بسورة الفاتحة فالكتاب التكويني أيضاً كذلك ففاتحة الكتاب التدويني هو :
(( بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين...))
قال في مجمع البيان:
(( سمِّيت بذلك لافتتاح المصاحف بكتايتها، ولوجوب قرائتها في الصلوة ، فهي فاتحة لما يتلوها من سور القرآن في الكتاب والقرآءة ))72
وقد وردت أحاديث تؤكِّد أهميَّة هذه السورة منها ما ورد :
(( إن الله خص بسوره الفاتحه محمداً (صلى الله عليه وآله) و شرفَّه بها ، و لم يشرك معه فيها أحداً من أنبيائه ما خلا سليمان عليه السلام ، فإنَّه أعطاه منها بسم الله الرحمن الرحيم ، ألا تراه يحكي عن بلقيس حين قالت : إنِّي ألقي إليَّ كتاب كريم إنَّه من سليمان و إنَّه بسم الله الرحمن الرحيم ))73
وهي أوَّل سورة من الكتاب التدويني من حيث الافتتاح لا من حيث النزول ، فكذلك للكتاب التكويني فاتحة و هي أوَّل سورة لها و هي أوَّل ما ظهر من العوالم بعد مرحلة الغيب المطلق أعني عالم الأحديَّة الذي لاسبيل للوصول اليه ، فأوَّل ما ظهر هو التعيُّن الأوَّل ، وهو عالم العقول المجردة أعني عالم الروحانية ، وهو أوَّل مصداقٍ لمشيئته تعالى .
هذا و لو تأمَّلنا أكثر لعرفنا بأنَّ أوَّل ما ظهر إنَّما هو نفس المشيئة الإلهيَّة كما شرحنا هذا الأمر بالتفصيل فراجع 74
وفي الحديث :
(( عن زيد الشحام قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام أيّما أفضل الحسن ام الحسين ؟ فقال : إن فضل أوَّلنا يلحق بفضل آخرنا ، و فضل آخرنا يلحق بفضل أوَّلنا ، و كلُّ له فضل ، قال : قلت له جعلت فداك وسِّع عليَّ فى الجواب فإنِّي و الله ما سالتك إلا مرتاداً ، فقال : نحن من شجرة طيبة برانا الله من طينة واحدة ، فضلُنا من الله ، و علمُنا من عند الله ، و نحن أمناؤه على خلقه ، و الدُّعاة إلى دينه ، و الحجاب فيما بينه و بين خلقه ، أزيدك يا زيد ! قلت نعم ، فقال : خلقُنا واحد ، و علمُنا واحدٌ ، و فضلنا واحد ، و كلُّنا واحدُ عند الله تعالى ، فقال : أخبرني بعدَّتكم ، فقال : نحن إثنا عشر هكذا حولَ عرش ربنا عزّ و جلّ في مبتدأ خلقنا أوَّلنا محمد ، و أوسطنا محمد ، و آخرنا محمد ))75
وفي حديث طويل قال عليٌّ عليه السلام مخاطباً أبا ذر وسلمان :
(( أنَّه لا يستكمل أحدٌ الايمانَ حتى يعرفني كنه معرفتي بالنورانية ...ثمَّ قال : معرفتى بالنورانية معرفه الله عزّ و جلّ ، و معرفةُ الله عزّ و جلّ معرفتي بالنورانية ، و هو الدين الخالص الذي قال الله تعالى و ما أمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين ))76
وفي حديث آخر عن الإمام زين العابدين عليه السلام قال :
(( لا تعجبوا من قدرة ،الله أنا محمد و محمد أنا ))77
و قال الإمام الباقر عليه السلام :
(( يا قوم لا تعجبوا من أمر الله ، أنا عليٌّ ، و عليٌّ أنا ، و كلنا واحد من نور واحد ، و روحنا من أمر الله ، أوَّلنا محمَّد ،و أوسطنا محمد ، و آخرنا محمّد، وكلنا محمّد ))78
حرف الباء
إنَّ فاتحة الكتاب التي بها يفتتح الكتاب التدويني تبتدأ بالبسملة ، وهذه البسملة مرتبطة بالفاتحة ، وهي جزء من السورة ، والباء هي التي ربطت بين "اسم الله الرحمن الرحيم" وبين "الحمد لله رب العالمين" ، ومن هنا أصبحت الباء هي الرابط بين الإسم و الحمد ، في الحديث الشريف النقطة هي ولي الله الأعظم ، فهو الرابط بين الخالق والمخلوق ، حيث أنَّ المخلوق قد تجلى في "الحمد لله رب العالمين" لأن الحمد كلَّه لله حيث لا حمدَ إلاّ للجمال ، والكمال ، والقدرة ، و كلُّها مظاهر الله سبحانه الظاهرة في أسمائه ، فنحن نشاهد المحبوب في آياته و آثاره ، فنمدحها لأنَّها مرآته تعالى :
((ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله وبعده ومعه ))
متعلق الجار و المجرور
ولا يخفى أنَّ الجار والمجرور يفتقران إلى متعلَّق فعلاً كان أو أسمَ فاعلٍ أو اسمَ مفعولٍ أو صفةً مشبّهة باسم الفاعل أو أفعل تفضيل أو مصدر ، والسر في ذلك أنَّ الحرف ما هو إلا للربط ، والرابط لا بدَّ أن يربط بين شيئين ، فلو لم يكن هناك إلاّ شيءٌ واحدٌ ، فلا ربط في البين و حيث لا ربط فلا مربوط .
و ربَّما يحذف المتعلَّق عند وجود قرينة على الحذف ، كما في قولك " زيدٌ في الدار " أي مستقرٌّ .
ولكن هذا الأمر لا يتأتَّى في البسملة ، فعندما يقال "بسم الله الرحمن الرحيم "فمن الطبيعي أن يُسأل :
بإسم الله ماذا ؟ في الجواب قال الكثير من المفسرين :
باسم الله أستعين ، وهذا رغم شهرته لا دليل عليه ، فلقائل أن يقول باسم الله أتوكَّل أو أستغفر أو...، فكلُّ تلك الأفعال تفتقر إلى قرينة غير موجودة ، فما هو الحلّ إذاً ؟
إرتباط البسملة بالسورة
مادام أنَّ البسملة مرتبطة بالسورة فلماذا نلتجأ إلى خارج السورة للبحث على متعلق ، فبالإمكان حصول المتعلَّق من نفس السورة و هو المتعيَّن .
أقول:
إنَّ المتعلَّق للجار و المجرور في البسملة هو ما يأتي بعدها ، وفي سورة الفاتحة هو " الحمد لله " .
فيكون المعنى هكذا :
إنَّ جنس الحمد أي كلُّه لله تعالى ، ذلك لأنَّه لا يتحقق حمدٌ إلاّ باسمه تعالى فمادام الحامد هو اسم الله و المحمود هو اسم الله ، فالحمد لله ، يكون بإسم الله .
وهذا لا يختص بسورة الفاتحة بل هو جارٍ في جميع السور ، فبإسم الله الرحمن الرحيم إقرأ ، و باسم الله الرحمن الرحيم قُلْ و هكذا ، وان كانت دائرة الإسم في كلِّ سورة غير دائرته في سورة أخرى ، كما أنَّ أوسع دائرة و نطاق لإسم الله هو نطاق الإسم الموجود في بسملة سورة الفاتحة ، وذلك لسعة إطار الحمد لأنَّه لله ربِّ العالمين .
نعم :
إنَّ سورة التوبة لا تبتدأ بإسم الله حيث البرائة والنفي وهي تعني الابتعاد والتنفُّر و الانزجار ، ولا يكون ذلك باسم الله ، فالعدم الصرف و الشرّ المحض لايكون مظهراً من مظاهر الله تعالى ، فهو جلَّ شأنه و تبارك اسمه وجودٌ مطلقٌ و خيرٌ محضٌ وكمالٌ صرف .
أهمية نقطة الباء
فمادام أنَّ الرابط بين اسم الله الرحمن الرحيم الراجع إلى الحق وبين الحمد لله رب العالمين الراجع إلى الخلق إنَّما هو الباء ، فبطبيعة الحال أوَّلُ مظهَرٍ من مظاهر الله تعالى وأوَّل تجلِّي من تجلياته الذي هو أعلى مستوى من الخلق لتقدِّمه على الخلق ، هو الباء وقد ورد :
(( بالباء ظهر الوجود وبالنقطة يتميز العابد عن المعبود ))
ولا يخفى أنَّ النقطة هي الباء ، لأنها تتميَّز بنقطتها الموحَّدة عن المثناة أي التاء والمثلَّثة أي الثاء ، فبهذه النقطة قد تميَّز العابد عن المعبود وذلك باعتبار أنَّ أوَّل ما ظهر هو الباء ، وهي المشيئة التي شرحناها سابقاً .
وقال علي عليه السلام :
(( أنا النقطة ))79
وقد ورد في الزيارة الجامعة :
((بكم فتح الله ))80
و قال تعالى :
{ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أوَّلئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ }81
(( و عن الصادق عليه السلام فى قوله تعالى و السابقون السابقون أوَّلئك المقربون قال :نحن السابقون...))82
القلم قال الإمام قدِّس سرُّه :
(( وفي بعض خطب أمير المؤمنين ومولى الموحدين سيدنا ومولانا علي بن أبي طالب صلوات اللّه وسلامه عليه: " أنا اللوح وأنا القلم ، أنا العرش ، أنا الكرسي ، أنا السموات السبع ، أنا نقطة باء بسم اللّه " وهو سلام اللّه عليه بحسب مقام الروحانية يتحدُّ مع النبي صلى اللّه عليه وآله ، كما قال صلى اللّه عليه وآله " أنا وعلي من شجرة واحدة " وقال: " أنا وعليٌّ من نور واحد " إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالة على اتحاد نورهما عليهما السلام وعلى آلهما ))83
أقول وفي تفسير على بن إبراهيم :
(( عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام عن أبي عبد الله عليه السلام قال : أوَّل ما خلق الله القلم ، فقال له اكتبْ ، فكتب ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة ))84
وفي حديث آخر :
(( عن محمد العطار عن ابن أبان عن ابن أورمة عن النوفلى عن على بن داود اليعقوبى عن الحسن بن مقاتل عمن سمع زرارة يقول : سئل أبو عبد الله عليه السلام عن بدء النسل من آدم على نبينا و آله و عليه السلام ...إن الله عز و جل أمر القلم فجرى على اللوح المحفوظ بما هو كائن إلى يوم القيامة ، قبل خلق آدم بألفي عام ، و إنَّ كتب الله كلها فيما جرى فيه القلم ))85
فنتسائل : ماذا يقصد بالقلم ؟ و لم سمِّي بهذا الإسم ؟ وما هو دور القلم ؟
في الجواب نقول :
إنَّ دور القلم هو إظهار ما في الضمير على صفحة الورق ، فالإنسان عندما يأخذ قلماً فهو إنَّما يظهرُ ما هو مكنون و مكتوب على صفحة نفسه و باطنه ، ويكتب به على صحيفة حسِّية شهودية وهي الورق ، فالقلم إذاً واسطة بين ما في الضمير "أعني الغيب" و بين الشهود ، ووسيلة لظهور الفيض و نشره على الصحيفة الظاهرة ، ومن هنا أُطلق القلم على أوَّل ما خُلق ، لأنَّه تعالى كتب به بيديه الجلالية و الجماليَّة ، فالقلم واسطة بين الخالق و المخلوق .
والجدير بالذكر ما ورد في الحديث التالي عن ابن عبّاس قال :
(( إن أوَّل ما خلق الله من شيءٍ القلم ، فأمره ان يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامه و الكتاب عنده ثم قرأ : "و إنَّه فى ام الكتاب لدينا لعلى حكيم" ))86
و في كنز العمال عن الحسن بن ابى الحسن الديلمى بإسناده :
(( عن أبي عبد الله عليه السلام و قد سأله سائل عن قول الله عزّ و جلّ : و إنَّه في أمّ الكتاب لدينا لعليٌّ حكيم ، قال : هو أمير المؤمنين ))87
وفي دعاء الغدير المنقول في التهذيب و المصباح :
(( فاشهدْ يا إلهى إن الإمام الهادي المرشد الرشيد علي بن أبي طالب عليه السلام أمير المؤمنين الذي ذكرتَه فى كتابك فقلت : و إنّه فى أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ))88
وعلى ضوء ما قلنا يمكنك الجمع بين الأحاديث المختلفة في هذا المجال ففي الحديث الذي يتحدَّث عن أسئلة الشامي من أمير المؤمنين عليه السلام ، قال الشامي :
(( أخبرني عن أوَّل ما خلق الله تبارك و تعالى فقال : النور ))89
كما أنَّ هناك حديثاً آخر روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال:
(( أوَّل ما خلق الله نورى ))90
وهو صلى الله عليه وآله العقلُ الأوَّل الذي قد وردت أحاديث كثيرة في شأنه وأنَّ :
(( أوَّل ما خلق الله العقل ))91
الإمام المبين من هنا يمكنك معرفة الآية المباركة التالية :
{ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِين }92
فالإنسان الكامل يشتمل على كلِّ شيء وكل حادثة ، وعليه نعتقد أنَّ أئمتنا عليهم السلام يعلمون ما كان و ما سيكون وما هو كائن إلى يوم القيامة ، فإذا عرف الإنسان خليفة الله فقد عرف الله ، وذلك لأن خليفة الله هو باب معرفتة تعالى ، وكل صفة من صفاته تجلٍ و مظهرٌ لصفة من صفات الله تعالى ، فعلمه مظهر لعلم الله ، وقدرته مظهر لقدرته ، وحلمه مظهر لحلمه ، ولطفه مظهر للطفه و هكذا سائر صفاته ، و أفُقُه نفس أفق القرآن الكريم ، فهو القرآن الناطق المشتمل على كلِّ شيء كما أنَّ القرآن الذي بين الدفتين في المصحف الشريف هو الكتاب الصامت الذي يقول عنه تعالى :
{ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }93
ومن هنا قال تعالى :
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }94
و في الحديث المعروف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم :
((من عرف نفسه فقد عرف ربه ))95
وقد ذكر صدر المتألهين (قدِّس سرُّه) احتمالات أربعة لهذا الحديث ومن جملتها :
من عرف الانسان الكامل وهو النبّي الأكرم محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم فقد عرف ربَّه ، إذ أنَّ الإنسان الكامل هو المثل الأعلى لله سبحانه و تعالى ، فبمعرفته يعرف الإنسان ربَّه ، ولئِن كان النظر إلى سائر المخلوقات يوصل الإنسان إلى الربّ ، فإنَّما يتعرَّف على ربِّها ، لا ربِّ الناس ،و بين الأمرين بونٌ بعيد ، فلاحظْ دعاء الجوشن الكبير العظيم الشأن الذي رواه جماعة من متأخري أصحابنا (رضوان الله عليهم) ، وهو من الأدعية المعروفة المروية عن الإمام السجاد زين العابدين عن أبيه عن جدِّه علي بن أبي طالب عن النبي الأكرم صلوات الله عليهم أجمعين:
((يا رب النبيين و الأبرار ، يا رب الصدِّيقين و الأخيار، يا ربّ الجنة و النار ، يا ربّ الصغار و الكبار ، يا ربّ الحبوب و الثمار ، يا ربّ الأنهار و الأشجار ، يا ربّ الصحاري و القفار ، يا رب البراري و البحار ، يا ربّ الليل و النهار ، يا ربّ الإعلان و الإسرار))96
ثمَّ قارِنْ بينه وبين قوله تعالى :
{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ، مَلِكِ النَّاسِ ، إِلَهِ النَّاسِ ، مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ، مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ }97
ومن هذا المنطلق يمكنك معرفة الحديث القدسي الذي يقول :
((كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف ، فخلقت الخلق لكي أعرف))98
فكل من يتكلَّم فهو يحب أن يُظهر ما ضميره ويشتاق إلى إعلانه ، فمنشأ التكلّم هو العشق ، والقرآن الكريم هو إظهار للغيب المطلق الذي هو الكنز المخفي ، وفي الحديث :
((إنَّ الله تعالى تجلَّى في كتابه و لكن لا تبصرون ))
ومن هنا صار النظر إلى الكتاب الإلهي كالنظر إلى الله سبحانه وتعالى ، فكذلك الإنسان الكامل أعني الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلَّم كالقرآن الكريم بالنظر إليه يعرف الله سبحانه وتعالى .
قال صدر المتألهين رضوان الله تعالى عليه :
((قال تعالى : " وفي أنفسكم أفلا تبصرون " و المراد منها نفوس الكمَّل من الأنبياء و المرسلين ، لأنَّ نفسَ كلِّ واحدٍ منهم كلمة تامة نازلة من عند رب العالمين " كتاب مرقوم يشهده المقرَّبون "مشتملٌ على آيات الملك و الملكوت و أسرار قدرة الله والجبروت ، ثم اصطفى من بينهم كلمةً جامعةً "أوتيت جوامع الكلم " ، و أرسل إلينا رسولاً كريماً ، ونوراً مبيناً ، وقراناً حكيماً، وصراطاً مستقيماً ، وتنزيلاً من العزيز الرحيم ، فجعل نسخة وجوده نجاةَ الخلق من عذاب الجحيم ، وكتابَه خلاصاً من ظلمات الشياطين ، والقرآنَ النازل معه براءة العبد من سلاسل تعلُّقات النفس ووساوس إبليس اللعين))99
ثمَّ يختم كلامه (ره) في الموعظة الحسنة نذكرها إتماماً للفائدة :
((فاعرفه أيُّها السالك إلى الله ‍! حتى تعرف ربَّك ، قال تعالى : "من يطع الرسول فقد اطاع الله " وقال الرسول : "من رآني فقد رأى الحق" فصحِّحْ يا مسكين نسبتك إليه لأ انَّه الأصل في الوجود ، والمؤمنون بالله واليوم الآخر تابعون له في المقام المحمود ، والمؤمن من صحَّتْ له نسبة التابعية ، كمرآةٍ وقعت فى محاذاة مرآةٍ حاذت الشمس فيتحدَّ معه فى النور "ومن لم يجعل الله له نوراً فماله من نور" فافهم هذا ))100
و الحمد لله ربِّ العالمين و صلى الله على أفضل بريته محمد وآله الطاهرين الهداة المهديين و اللعن على مبغضيهم و منكري فضائلهم أجمعين .
(4)
أولياء الله
إن الله سبحانه وتعالى هو الوجود المطلق بلا قيدٍ ، فيشتمل على جميع الخيرات بنحو مطلق ، فهو جمال مطلق ، وعلم مطلق وقدرة مطلقة ، وإرادة مطلقة بل هو الكمال المطلق بجميع ما تحمل الكلمة من معنى ، فهو بجميع خصوصياته التي يدلُّ عليها الاسم الجامع وهو الله سبحانه وتعالى قد ظهر في الوجود ، وتجلّى في الكون ، فجميع الكون هو وجه الله و مظهره ، فليس هناك جمال إلاّ الجمال الإلهي ، وليست هناك إرادة إلاّ إرادة الله ،و الكل فقير إليه ، وحقائق جميع الأشياء بيده سبحانه :
{ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }101.
ومن هنا يتبيّن المراد من قوله تعالى في سورة الرحمن حيث يقول :
{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ }102.
و كذلك قوله تعالى في سورة القصص :
{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }103.
يقول الشاعر الفارسي:
((سيه روئي زممكن در دو عالم جدا هركز نشد والله اعلم ))
أي سواد الوجه من ممكن الوجود و هو كلّ ما سوى الله تعالى لم ولن ينفصل عنه أصلاً ، سواء تلبَّس بالوجود أم لم يتلبس به ، حيث أنَّ ممكنَ الوجود طبيعتَه طبيعةٌ سوداء مظلمة لا نور لها وكما قيل :
((كلُّ ما في الكون وهمٌ أو خيال *أو عكوس في المرايا أو ظَلال ))
وظهور ممكن الوجود كله يرجع إلى الوجود ، فلأجل وُجوده ظهر ، فلولا الوجود لما ظهر الممكن أصلاً ، فليس هناك شيء ظاهرٌ في الكون إلا الوجود ، وهو الله سبحانه وتعالى وليس هناك شيء باطن إلاّ الوجود ، وهو الله سبحانه وتعالى .
{ هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ }104
فلا أول قبل الوجود ولا آخر بعده ، لأن الحق المطلق ليس أولاً له آخر ، ولا هو آخرٌ له أوَّل بل كما قال أمير المؤمنين عليه السلام :
((هو الأول بلا أول كان قبله ، والآخر بلا آخرٍ يكون بعده ))
فالأول هو والآخر هو ، وجميع الموجودات مظاهره تعالى ، ليس لها أي استقلال وأصالة أبداً ، بل هي أمور اعتبارية محضة :
{ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ ... }105
فالغافل من يرى الأشياء فيحسبها مستقلة في الوجود و يعتبرها ذات قيمة ، فيُقَيِّم الدنيا و الآخرة و المال و الجاه و الجمال ، فهو الأعمى حقاً :
{ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَـى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً }106
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... }107
فالآية صريحة في أنَّ الله تعالى نور السماوات والأرض و ليس مُنوِّرها ، فيا ترى ما هو المقصود من هذه الآية المباركة ؟
إنها تريد القول بأنَّ الله نورٌ ، والسماوات والأرض وهما إشارة إلى جميع الكون سواء المُنَور منه أو غير المنور ، أعماق الأرض أو سطحها .
فالكواكب التي لا تصل إليها نور الشمس أيضاً ذات نور ، ونورُها هو الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له .
فجميع الموجودات سواء كانت مظلمة في الظاهر أو مضيئة ، حتى السُّرُج كالشمس بل وحتى نفس النور ، كلها مظلمة في حدِّ ذاتها ، حيث أنَّها معلولة فقيرة تحكمها الحدود و التعيُّنات والقابليات108 ، و لذا يمكن السؤال عنها بكيف وأين وكم وهل !
وأمّا الله فهو نور مطلق ليس له حدٌّ و لا يأيَّن بأين ، وفي الكافي بإسناده عن أبي إسحاق السبيعي عن الحارث الأعور قال:
((خطب أمير المؤمنين عليه السلام خطبة بعد العصر فعجب الناس من حسن صفته و ما ذكره من تعظيم الله جلّ جلاله ، قال أبو إسحاق ، فقلت للحارث أ و ما حفظتَها قال : قد كتبتها ، فأملاها علينا من كتابه : الحمد لله الذي لا يموت و لا تنقضي عجائبه ... ليست في أوَّليَّته نهاية ، و لا لآخريته حدّ و لا غاية ، الذي لم يسبقه وقتٌ ، و لم يتقدَّمه زمان ، و لا يتعاوره زيادة ، و لا نقصان و لا يوصف بأين و لا بِمَ و لا مكان))109
وهو تعالى الذي جعل النور نوراً :
{ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا }110
فشعَّ النور المطلق ، فكلٌّ اكتسب النور على قدر استعداده وقابليته :
(( يا نور كل نور يا نور كلّ شيء ))111
فالله سبحانه وتعالى هو نور النور باعتبار أن النور لا يكون كذلك إلا إذا كان موجوداً فالوجود هو النور حقيقةً ، وهو منور النور ، و خالق النور و مدبر النور و مقدِّر النور ، حيث أنَّ نورانية النور من الوجود ، كما أنَّ جمال الجميل و قدرة القادر و إرادة المريد من الوجود ، فهو نور فوق كل نور ، و نور ليس كمثله نور .
((وبنور وجهك الذي أضاء له كل شيء ))112
فالنور الحسي مهما بلغ من الشدة فله قَدَر محدود وسوف ينتهي أمده من ناحية الزمان وتنتهي شموليته من ناحية المكان ، فمادام هو محدود فسوف يكون لها أفول و زوال ، وهذا شأن كلِّ شيء ذات حدّ ، لأنَّه متغير ، وكل متغير حادث ، أي لم يكن وكان ، فوجوده ليس من نفسه بل هو من واجب الوجود أعني الله سبحانه وتعالى .
و من المستحيل أن يخبو النور المطلق :
{ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ }113
و على ضوء ما ذكرنا يمكن أن نصل إلى مستوىً من عمق كلمات أئمتنا عليهم السلام في هذا الموضوع .
ففي دعاء عرفة للإمام الحسين عليه السلام:
((أ لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهِر لك ، متى غبت حتّى تحتاج إلى دليلٍ يدلُّ عليك ، أو متى بَعُدتَ حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك ، عميت عين لا تراك ولا تزال عليها رقيباً ، وخسرت صفقة عبدٍ لم تجعل له من حبك نصيبا))114
فليس هناك حجاب في قبال هذا النور ،لأنْ ليس وراء الحق المطلق شيء يحجبه :
ففي الكافي بإسناده :
((عن محمد بن زيد قال : جئت إلى الرضا عليه السلام أسأله عن التوحيد ، فأملى عليَّ : الحمد لله فاطر الأشياء إنشاءً ، و مبتدعها ابتداعاً ...احتجب بغير حجاب محجوب ، و استتر بغير ستر مستور ، عرف بغير رؤية و وصف بغير صورة ، و نُعت بغير جسم ، لا إله إلا الله الكبير المتعال))115
روي مثله عن أبي إبراهيم الإمام موسى بن جعفر عليه السلام 116.
فكلّ شيء في عالم الملك و الدنيا قد اكتسب الوجود من الفيّاض المطلق بمقدار الوعاء الخاص به و القدَر المعيَّن له :
{ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى }117.
{ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى }118.
{ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقـَدَرٍ مَعْلـُومٍ }119.
ومن الطبيعي أنّ الموجودات كلّها قد أُحسن خلقها ، فلا تتمنى أن تتبدل إلى غيرها :
{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ }120
ومن هذا المنطلق ليس هناك تفاوت في خلق الرحمن ،كيف وهو ذو الرحمة الواسعة !
{ مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِنْ تَفَاوُتٍ }121
فلو نظرنا إلى نظام الخلق وتعمقنا فيه لعرفنا بأن هناك نظاماً طولياً يبدأ من الحق المطلق وينتهي إلى الجماد .
وكلُّ هذا الاختلاف لم ينشأ من الله سبحانه وتعالى ، فهو ليس ببخيل بل هو الغني على الإطلاق ، و الفيّاض المطلق ، وهو دائم الفضل على البرية وباسط اليدين بالعطيّة ، فلا يعقل أن يمنع الأشياء قسطها ، كيف وهو القائل :
{ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ }122
{ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ }123
{ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ }124
وفي سورة الرعد قد قرَّب سبحانه هذه الحقيقة بمثال رائع حيث قال :
{ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ }125.
فمن خلال هذه الآية المباركة نعرف :
أنَّ الماء الذي أنزله الله لم يكن محدوداً ، بل كان كثيراً ، و من كثرته انقلب سيلاًً ، وأمّا الأودية فكانت مختلفة من حيث القابليّة ، فكلّ وادٍ منها كان يتحمّل الماء بمقدار سعته ووعائه ، وبعد الفيضان حصل الباطل الذي يتمثّل في الزبد الرابي المتلوّن والمتشكل بأشكال مختلفة ذات المظهر الخلابّ المغري .
ولأنَّ الملائكة عقول محضة فلا يتصور فيها التكامل ، وكذلك الجمادات والنباتات والحيوانات بطبيعتها محدودة الإطار بلا زيادة ولا نقصان ، فلا تتكامل من ناحية القرب إلى الله أي التكامل الطولي ، وإنّما يمكن تربيتها ونموّ استعدادها ، وهذا ما يطلق عليه التوسع العَرضي .
ولمكان هذا التسلسل الطولي أصبح كلٌّ منها ولياً تكوينياً على الآخر ، فالحيوان له الولاية التكوينية على النبات والنبات على الجماد .
وأماّ الإنسان فضلا عن أنه حيوان ونبات وجماد له الولاية التكوينيَّة ( بما هو إنسان ) عليها .
والنفس الإنسانية مضافاً إلى إمكان توسعتها عَرضاً ، يمكن أن تتكامل في النظام الطولي ، ففي الجانب العَرضي يتوسَّعُ الإنسان بالعلوم التجريبية كالطبّ والفيزياء والكيمياء وحتى الصناعات ، فهذه العلوم بما هي علوم ليس لها أيُّ دور في تكامل الإنسان وتقربه إلى الله سبحانه .
نعم : ربَّما تكون سبباً ووسيلةً لسلوك الإنسان في مراتبَ طوليَّةٍ تقرِّبُه إليه تعالى .
وأمّا العلوم الإنسانيَّة فبطبيعتها تصنع الإنسان و تبنيه فتوسِّع في أفقه وترفعه إلى مستويات عالية تقرِّبه إليه تعالى ، ومن هنا تكون للإنسان الكامل ولاية تكوينيَّة على غيره من الموجودات ، بل على الإنسان الذي دونه شأناً ومنزلةً 126.
وهذا هو مقام رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمَّة المعصومين عليهم السلام الذين هم خلفاء الله في الأرض ومظاهر صفاته وأسمائه ، فجميع الموجودات تكون تحت ولايتهم التكوينيَّة ، فلهم الولاية على جميع ذرات الكون
فلا تظهر صفة من صفاته سبحانه حتَّى الإرادة في موجود من الموجودات إلاّ من خلال تلك الأنوار الطاهرة ، وهذه الولاية هي مرآة ولاية الله سبحانه .
ثمَّ إنَّ الله سبحانه هو منشأ الخيرات :
{ بيده الخير }127
ولكن حيث أنَّهم عليهم السلام أوَّل فيض من فيوضاته لأنَّ بهم فتح لله ، فلهذا و صلوا إلى مرتبة نخاطبهم :
(( إن ذكر الخير كنتم أوّله ، وأصله ، وفرعه ، و معدنه ، و مأواه ، و منتهاه))128
فجميع ذرات الكون حتى الجمادات لا يمكن أن تصل إلى غاية كمالها إلاّ بهم ، فكما أنَّ القرآن الكريم يشتمل على جميع الحقائق :
{ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }129
{ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }130
فكذلك ولي الله الأعظم ، حيث أنَّ له الولاية التكوينيَّة ، فكلُّ شيءٍ تحت سلطانه و إرادته بإذن الله تعالى :
{ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ }131
وقال تعالى :
{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا }132
والآية تشير إلى الهداية بالأمر التي هي الولاية التكوينيَّة ، و قد تحدَّث العلامَّة الطباطبائي قدس سرُّه في الميزان حول الهداية بالأمر 133
وفي الحديث :
((محمد بن يحيى و غيره عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن محمد بن الفضيل قال : أخبرني شريس الواشي عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال : إنَّ اسم الله الأعظم على ثلاثة و سبعين حرفا ، و إنما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه و بين سرير بلقيس حتّى تناول السرير بيده ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين ، و نحن عندنا من الاسم الأعظم اثنان و سبعون حرفاً ، وحرفٌ واحدٌ عند الله تعالى استأثر به في علم الغيب عنده ، و لا حول و لا قوه إلاّ بالله العلي العظيم ))134
(5)
مرآةُ ولاية الله
المقدّمة
في أسـمـاء الله جلّ جلاله
إن الله سبحانه و تعالى تجلّى بأسمائه و صفاته في الخلق كما تجلى بألوهيته في القرآن الكريم ، حيث أنّ القرآن هو الجامع لجميع صفاته الكمالية و أسمائه الحسنى وفيه تبيان لكلّ شيء .
وكلما كانت الأسماء نابعة عن الذات ، كان للتجليات والمظاهر الدوام و البقاء لأنَّ الله هو الباقي قال تعالى:
{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ }135
و قال تعالى :
{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }136
ومن ناحية أخرى الاسم الأعظم هو "الله" سبحانه و تعالى و هو الكلمة العليا المشتملة على رموزٍ و أسرار من ناحيتين ، لفظيَّة و معنويَّة ، فمن البعد اللفظي هي كلمة دالَّة على تلك الذات المنزَّهة من جميع العيوب ، و المتحلِّية بجميع المحاسن ، و الجدير بالذكر أنَّها باقية على ما عليها من المعنى مهما نقصت منها الحروف ، فلو كانت كاملة فهي "الله"
قال تعالى:
{ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }137
ولو أخذت الألف منها صارت "لله" قال تعالى:
{ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } 138
ولو نقصت الألف واللام الأولى صارت "له"قال تعالى:
{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }139
وفي صورة ما لو نقصت الألف واللامان صارت "ه" أو "هو" قال تعالى:
{ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }140
وقال جلَّ وعلا:
{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }141
فلاحظ السرّ المكنون في هذا الاسم ، فهو يدلّ على نفس المسمّى في جميع الحالات و كافة الاحتمالات .
وأما سائر الأسماء سواء أسماء الذات منها أو أسماء الفعل ،كالملك و القدوس و السلام و المؤمن و المهيمن و العزيز و الجبار و المتكبر و الخالق و الباري ء و المصور وكالشافي و الوافي و المعافي و الغفور و الرحيم فلكلُّ واحدة منها شأن و منزلة رغم أنَّها جميعاً نابعة عن تلك الذات و مظاهر ذلك الواحد الأحد و لذلك قال تعالى :
{ هُوَ اللَّهُ }
ثمَّ عقَّبه بقوله :
{ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ، هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَــوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } 142
وكذلك في سائر الصفات كرِّرت كلمة "الله "
سورة التوحيد :
وعلم الأسماء من أهم العلوم وأعمقها ، ومن خلاله يصل العارف إلى علومٍ لا حدَّ و لا حصر لها ، فالكلام عن أسمائه تعالى بالتفصيل يتطلَّب بحثاً مستقلاً لسنا بصدد بيانه في هذا المختصر ، فنقتصر بالحديث التالي المنقول في الكافي للمحدِّث الكليني رضوان الله تعالى عليه :
((علي بن إبراهيم عن أبيه عن النضر بن سويد عن هشام بن الحكم انه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن أسماء الله و اشتقاقها ، الله مما هو مشتق قال : فقال لي :يا هشام : الله مشتق من إله و الإله يقتضي مألوها و الاسم غير المسمَّى ، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر و لم يعبد شيئاً و من عبد الاسم و المعنى فقد كفر و عبد إثنين ، و من عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد ، أ فهمت يا هشام ؟ قال: فقلت :زدني قال إن لله تسعة و تسعين اسما ، فلو كان الاسم هو المسمَّى لكان كلّ اسم منها إلهاً ، و لكن الله معنىً يدل عليه بهذه الأسماء ، و كلُّها غيره ، يا هشام : الخبز إسم للمأكول ، و الماء إسم ، للمشروب ، و الثوب اسم للملبوس ، و النار اسم للمحرق أ فهمت يا هشام فهماً تدفع به و تناضل به أعداءنا و المتخذين مع الله جلَّ و عزّ غيره قلت : نعم قال : فقال : نفعك الله به و ثبتك يا هشام ، قال هشام فوالله ما قهرني أحد في التوحيد حتى قمت مقامي هذا ))143
الوليّ من أســماء الله الشاملة
الولي هو اسم من أسماء الله الشامل لجميع الأزمنة ، و المحيط على جميع الموجودات ، و قد وصف الله نفسه بالولي في آيات كثيرة قال تعالى :
{ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ }144
{ وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }145.
{ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ }146
{ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }147
بخلاف كلمة الرسول فهي ليست من أسماء الله ، بل عندما يبعث سبحانه رسولا إلى أمّة من الأمم ، فحينئذٍ يتصف ذلك الشخص المرسَل بهذه الصفة . فالرسالة ليست من مظاهره سبحانه ، تلك المظاهر التّي لها الاستمرارية والأبديّة.
ومن هذا المنطلق اختُتمت الرسالة دون الولاية ، فهي أبدية ، و لها الاستمرارية و البقاء .
ومن هذا المنظار تكون الولاية أعظم من الرسالة والنبوّة ، و أشمل منهما ، و بطبيعة الحال هي أفضل ، وإنّما صار الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله و سلَّم هو الأفضل من سائر الأنبياء والأولياء فلأنَّه تحلَّى بكلا المقامين ، فهو صلى الله عليه وآله وليٌّ مطلق ثمَّ رسول خاتم .
الولاية والحكم لله وحده
الولاية بالأصالة إنّما هي لله تعالى ، حيث أنه هو الخالق الموجد للكون بإرادته الأزلية :
{ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }148
ومن هذا المنطلق صارت الولاية لله :
{ هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ... }149
والحكم لله :
{ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ } 150
{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ }151
والعزَّة لله جميعاً :
{ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا }152
وكل من يريد أن يتولى الآخرين لا بدَّ و أن يكتسب الشرعية منه تعالى ، و إلا فلا اعتبار لولايته أصلا ، وحيث لا ولاية ، فلا قدرة و لا قوة و لا عزَّة .
ولاية الأنبياء
هناك عدد خاص من الأنبياء قد اكتسبوا الولاية من الله عزَّ وجلَّ ، و ذلك في إطار خاص حسب مرتبة النبي لاختلاف مراتبهم :
{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ... }153
داود عليه السلام من خلفاء الله إنَّ الله سبحانه يخاطب داود النبي بقوله:
{ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ }154
فكان هو نبياً لأنَّ الله خاطبه قبل أن يتحلَّى بمنصب الخلافة الإلهيّة ، فلم يؤذن له أن يحكم بين الناس إلاّ بعد وصوله إلى هذه المرتبة ، ومن هنا نشاهد أنّه سبحانه يُفرِّع الحكم على الخلافة بقوله :
{ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ }
إمامة إبراهيم عليه السلام قال تعالى :
{ وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }155
و لم تكن هذه الامتحانات سهلة ، بل كانت شديدة للغاية ، فبعد إتمامها أصبحت نفس إبراهيم مهيأة لقبول تلك المرتبة السامية ، أعني الإمامة و الولاية .
إبراهيم محطم الأصنام
ولأهمية هذا الامتحان ينبغي لنا أن نتحدّث عنه شيئاً فنقول:
بعد أن أتى إبراهيم الخليل ربَّه بقلب سليم وفطرة صافية سأل قومه مستغرباً ومتعجباً
{ مَاذَا تَعْبُدُون }156
و هذا النوع من الاستغراب أمر طبيعي ،حيث أنَّ الشرك هو أمر غريب عن فطرة الإنسان وهو إفك وبهتان ، ومن هنا قال:
{ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُون فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ }157
وكيف يواجههم ليُقنعهم ؟‍‍!
لا توجد طريقة غير ترك الحوار والنقاش معهم فالحلّ الصحيح الإلهي يتطلب أن يخلّى ونفسه وأن يواجه بنفسه هذا الإفك المبين :
{ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ }158
فلا أقدر الخروج معكم والمشاركة في عيدكم ، وربما استدلَّ بالنظر في النجوم على وقت حمى كانت تعتريه فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ و أراد من ذلك أنَّه قد حضر وقت السقم وقرب نوبة العلَّة ، فكأنه قال إني سأسقم لا محالة و حان الوقت الذي يعتريني فيه الحمى ، و قد يسمى المشارف للشيء باسم الداخل فيه ، قال الله تعالى:
{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ }159
و شاهد ذلك أنَّ القوم كانوا يعتمدون على النجوم كثيراً ، فقد ورد في شأنه :
{ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ }160
فهو عليه السلام انطلق من نفس ما يعتقدونه ليجرُّهم إلى التوحيد (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) وخلَّفوه في المدينة وحيداً فاغتنم هذه الفرصة الذهبية (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ) وذلك بالغيظ و السخرية (فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ) وأراد منهم أن يأكلوا تلك الأطعمة والثمار التِّي عرضت عليهم من قِبل الجهلة ، وجعلت أمامهم في أيام العيد ( مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُون) وهاهنا يأتي دور الحركة والفعل بدلاً من القول ( فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِين فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) أي يسرعون الخطى ، فجعل يصرخ في وجه هؤلاء المشركين ويخاطبهم ببيان فصيح لا غبار عليه ( قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ) وهل يكون المصنوع المنحوت خالقاً ليكون ربًّا ؟ ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) فكل وجودكم حتَّى أعمالكم التَّي هي من عوارض وجودكم ومن شؤونه مخلوقة لله تعالى (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) فهم عزموا على قتل إبراهيم ومحوه من البسيطة بالمرّة ليجعلوه من الأسفلين (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأسْفَلِينَ) .
هذا بداية ما امتحن به إبراهيم عليه السلام ، وهكذا استمرّت الامتحانات ، و كان من أعظمها القرار الحاسم لذبح إسماعيل ابنه الذي كان عطاء الله له في الكبَر استجابة لدعائه ، ثمَّ الهجرة إلى وادٍ غير ذي زرع ، و بناء البيت حيث يقول:
{ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ }161
فبعد نجاحه عليه السلام وإتمامه لجميع تلك الكلمات قال تعالى مخاطبا له :
{ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }162
وفي حديث الكافي:
(( محمد بن سنان عن زيد الشحام قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : إنَّ الله تبارك و تعالى اتخذ إبراهيم عليه السلام عبداً قبل أن يتَّخذه نبيّاً ، و إن الله اتخذه نبيّاً قبل أن يتَّخذه رسولا ، و إن الله اتَّخذه رسولا قبل أن يتَّخذه خليلاً ، و إن الله اتَّخذه خليلاً قبل أن يجعله إماماً ، فلما جمع له الأشياء ، قال : إنّي جاعلك للناس إماماً . قال(ع): فمن عِظمها في عين إبراهيم قال : و من ذرِّيتي ! قال : لا ينال عهدي الظالمين )) 163
عصمة الإمام
فكلّ من يصدر منه ذنب صغيراً كان أو كبيراً فهو ظالم لنفسه ، هذا في غير الإمام أما لو كان إماماً فهو ظالم لنفسه ولغيره ممن يأتمّ به ، بالإضافة إلى أنّ الأمّة سوف تفقد حينئذٍ الاطمئنان به ، فلا يمكن أن يصدر من الإمام ذلك ، لأن فيه نقضاً للغرض الذي من أجله نُصب الإمام ، و هو محال في حقه تعالى .
وأيضاً لا يمكن أن يتصور صدور الذنب منه حتى في الخفاء ، لأن الذنب ينقص من شأن الإنسان ويورث حزازة فيه ، فلا تكون فيه الأرضية لتقبّل الوحي أو الإلهام أو الكرامة ، فالإمامة ليست هي إلاّ انعكاس صفات الله الجمالية و الجلالية في مرآة قلب الإنسان الكامل .
وكذلك بالنسبة إلى الأفعال الأخرى التي لم تصل إلى مرحلة الذنب فالميزان فيها هو الاطمئنان ، فكلُّ أمر يوجب سلب اطمئنان الناس عنه فمن الحال صدوره من المعصوم ، وأمّا مالا يؤدِّي إلى سلب الاطمئنان فلا مانع من إتيانه ، وإن كان ظاهره عملاً لا يُرغب فيه ، وعلى ضوء ذلك صارت درجات الأنبياء متفاوتة .
محمد ولي و رسول
وأمّا ولاية نبيّنا محمد صلى الله عليه وآله فهي الولاية العظمى على جميع الخلق آدم فمن دونه حيث أنّ :
{ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ }164
فمادام هو ولياً على أنفس الناس ، فولايته صلى الله عليه وآله على أموالهم وسائر شؤونهم بطريق أولى ، قال تعالى :
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا }165
أنظر إلى شدَّة التعبير في الآية الكريمة ، فلا خيرة للمؤمنين في قبال قضائه صلى الله عليه وآله وسلَّم ، وعصيانه هو عصيان الله وهو الضلال المبين.
وقال :
{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }166
وفي هذه الآية ثلاثة مراحل مترتِّبة :
1-أن يكون الرسول هو الحَكم لا غيره .
2-أن يتقبَّل المؤمن بكلّ ما حَكم به الرسول من صميم قلبه وعمق ذاته .
3-أن يُسلّم أمره إلى الرسول ولا يتخطى عن أمره مثقال ذرّة.
وقال تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ }167
عليٌّ عليه السلام هو الولي
مضافاً إلى النفس القدسية والصفاء منقطع النظير ، والأرضية المميّزة الكامنة في شخصيَّة أمير المؤمنين عليه السلام التّي تفضِّله على جميع الأنبياء والأوصياء ما عدا خاتمهم.
و هناك أدلّة نقلية كثيرة من الكتاب و السنة تثبت صحة ما نذهب إليه ، فآية الولاية والإطاعة والبلاغ والسؤال و مئات من الآيات ، وأيضاً حديث المنزلة والسفينة ومئات من الأحاديث هي من أعظم الأدلَّة على أنّه هو الوليّ المطلق بعد الرسول صلى الله عليه وآله ، ولوضوح دلالتها و مضمونها لم نتطرق إليها هاهنا ، إلاّ أننا نحاول أن نتوسَّع شيئاً ما في خصوص حديث الغدير و بعض من الآيات التي نزلت في شأن تلك الواقعة العظيمة ، وقد أفردنا له عنواناً خاصاً وهو النعيم الإلهي .
النعيم الإلهي
إنَّ حديث الغدير ، متواتر بين العامّة والخاصة قد نُقل بأسانيد كثيرة جداً حتَّى صارت واقعة الغدير كبعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلَّم من ناحية الأهمِّية و الوضوح وقد ورد الحديث في أكثر كتب العامَّة 168،
نكتفي بما يلي:
ففي مسند الإمام أحمد بن حنبل:
(( حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا علي بن زيد عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال : كنّا مع رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم في سفر ، فنزلنا بغدير خمٍ فنودي فينا الصلاة جامعة ، وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين ، فصلى الظهر وأخذ بيد علي رضي الله تعالى عنه فقال : ألستم تعلمون أنِّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، قالوا : بلى ، قال : ألستم تعلمون أنّي أولى بكل مؤمن من نفسه ، قالوا : بلى ، قال : فأخذ بيد عليٍّ ، فقال : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه : قال : فلقيه عمر بعد ذلك ، فقال : هنيئًا يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة))169
وفي سنن ابن ماجة :
((عن سعد بن أبى وقاص قال : قدم معاوية في بعض حجّاته فدخل عليه سعد ، فذكروا عليا فنال منه ، فغضب سعد وقال : تقول هذا لرجل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من كنت مولاه فعلي مولاه " وسمعته يقول: أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لانبي بعدى ". وسمعته يقول : " لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله ورسوله " ))170
وفي سنن الترمذي بإسناده :
((عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه و سلَّم من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقممن ، فقال : كأنِّي قد دعيت فأجبت إنِّي قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر ،كتاب الله تعالى وعترتي فانظروا كيف تخلِّفوني فيهما فإنَّهما لن يتفرقا حتّى يردا عليَّ الحوض . ثمَّ قال : إن الله عز وجل مولايَّ وأنا مولى كل مؤمن ثم اخذ بيد علي رضى الله عنه فقال من كنت مولاه فهذا وليُّه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ))171.
وذكر الحديث بطوله ثم قال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين .
ولم يقتصر صدور هذا النصّ من الرسول في غدير خم ، بل صدر منه في مواقع عديدة نكتفي بواحدٍ منها من طرق غيرنا .
ففي مستدرك الحاكم :
((حدّثنا الفضل بن دكين حدّثنا ابن أبي غنيّة عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس عن بريدة قال : غزوت مع عليّ اليمن ، فرأيت منه جفوة ، فلمّا قدمت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ذكرت عليّا فتنقّصته فرأيت وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يتغيّر ، فقال : يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، قلت : بلى يا رسول اللّه ، قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ))172
و لا بأس بالإشارة إلى بعض أسناد الحديث من خلال كتب القوم :
قال الخطيب البغدادي في تاريخه :- أنبأنا عبد الله بن محمد بن بشران، أنبأنا علي بن عمر الحافظ، حدثنا أبو نصر حبشون بن موسى الخلال ، حدثنا علي بن سعيد الرملي، حدثنا ضمرة بن ربيعة القرشي ، عن ابن شوذب ، عن مطر الورّاق، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة ، قال:
((من صام يوم ثمان عشرة من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً، وهو يوم غدير خم، لما أخذ النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم بيد علي بن أبي طالب (ع) فقال: ألست ولي المؤمنين؟ قالوا: بلى يارسول الله. قال (ص): من كنت مولاه فعلي مولاه. فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم. فأنزل الله عز وجل:- ((اليوم أكملت لكم دينكم))
و قال : أخبرنية الأزهري ، حدثنا محمد بن عبد الله بن أخي ميمي، حدثنا أحمد بن عبد الله بن أحمد بن العباس بن سالم بن مهران المعروف بابن النيري -إملاء- حدثنا علي بن سعيد الشامي ، حدثنا ضمرة بن ربيعة القرشي ، عن ابن شوذب ، عن مطر الورّاق، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة قال: من صام يوم ثمانية عشر من ذي الحجة، وذكر الخبر مثل ما تقدم أو نحوه. وأخرجه الحافظ ابن عساكر بطريقه إلى أبي بكر الخطيب ، وأخرجه بالإسناد عن أبي بكر الخطيب ابن الجوزي في العلل الواهية، حيث قال: أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت...الخ.173و الحافظ الحسكاني في شواهد التنزيل و العاصمي في زين الفتى و المرشد بالله الشجري في الأمالي من طريقين و الخطيب الخوارزمي في مناقبه والحافظ الجويني في فرائد السمطين و الحافظ ابن المغازلي في المناقب ، والحافظ أبو الحسين عبد الوهاب الكلابي المعروف بابن أخي تبوك في مسنده ، و البلاذري في أنساب الأشراف و الحافظ ابن عدي الجرجاني في كامله ، ومحمد بن سليمان الكوفي في المناقب ، و الحافظ أبو القاسم الطبراني في المعجم الأوسط و الصغير .
و أخرجه الحافظ أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف قال: حدثنا شريك، عن أبي يزيد الأودي، عن أبيه، قال: دخل أبو هريرة المسجد، فاجتمعنا إليه، فقام إليه شاب، فقال: أنشدك بالله، أسمعت رسول الله(ص) يقول:
(( من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه؟ قال: نعم، فقال له الشاب: أنا منك بريء، أشهد أنك قد عاديت من والاه، وواليت من عاداه. قال فحصبه الناس بالحصا))
وفي الأمالي للمرشد بالله الشجري :
(( فقال له الناس(أي للفتى) أسكتْ أسكتْ))
وذكر ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة الخبر مع بعض الاختلاف في التعبير .
وأمّا حديث الغدير في مصادرنا فأكثر من أن يحصى .
ألست بربِّكم :
فلنسلط الضوء على واحد من أهم مفردات الحديث و هو قوله صلى الله عليه وآله :
((ألست أولى بكم من أنفسكم)) أو ((ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم))
و أنت إذا تأملت فستلاحظ أنَّ لسان هذا المقطع المهم في الحديث يساوق لسان الآية الكريمة التالية :
{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ }174 .
إنَّ الله سبحانه وتعالى ومن منطلق ربوبيته للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله (ربك) ، طلب من بني آدم الاعتراف بربوبيته والتسليم له ، وأشهدهم على أنفسهم كي لا يُنكروا هذه الحقيقة ، ومن الطبيعي أن يقرَّ العبد بالعبودية لربِّه .
ومن المعلوم أنَّ الرسول لا ينطق عن الهوى ، فكل ما يصدر منه إنَّما هو طبقاً لما يوحى إليه حتى استخدام الكلمات و طريق التكلُّم و السياق في خطبه و وصاياه .
فإنّنا نشاهد نفس المضمون قد صدر منه صلى الله عليه وآله في الغدير .
فبعد أن أخذ الاعتراف والإقرار من الناس بالنسبة إلى نبوَّته وأولويته من أنفسهم ، قال : لا بدَّ من قبولكم ولاية عليٍّ عليه السلام الذِّي خلَّفتْه السماء عليكم من بعدي ، وكان يؤكِّد على كلمة (اللهم اشهد) إتماماً للحجة و إيضاحاً للمحجَّة .
فالقضيَّة إذاً ليست مما يمكن التغاضي عنها و جعلها في طيِّ النسيان ، بل هي تتعلَّق بأصل خلق الإنسان وفلسفته الوجوديَّة ، حيث أنَّ الوصاية ما هي إلا استمرارٌ للنبوَّة التي هي مظهر حاكميّة الله على الإطلاق .
ولو أردنا أن نصل إلى عمق هذه الحادثة فينبغي لنا أن نتأمَّل في الآيات النازلة بشأنها فهي:
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }175 .
يا أيَّها الرسول:
إنَّ نبيَّنا محمداً صلى الله عليه وآله وسلَّم قد نودي في الذكر في تسعة عشر مورداً ، وذلك بتعبيرات أربعة ، والملاحظ أنَّ الله سبحانه لم يخاطبه باسمه كما خاطب سائر الأنبياء بل في ثلاثة عشر مورداً يخاطبه بقوله: (يا أيها النبي ) وفي موردين يخاطبه (يا أيُّها الرسول) وهناك خطابات أخر مثل (يا أيُّها المُزَّمل ) (يا أيُّها المدَّثر) و قوله (طه) (يس) على ما في أحاديثنا .
فبالنسبة إلى النداءات التِّي تخاطب النبي (يا أيُّها النبيّ) فهي تتمحَّض في سور (الأنفال و التوبة و الأحزاب و الممتحنة و التحريم) و تنحصر في أمرين:
ألف: ما يتعلق بالجهاد في سبيل الله .
ب: الأمور المتعلقة بنساء النبيّ.
والجدير بالذكر هو أنَّ الموردين اللذين قد خاطب الله فيهما نبيَّنا بقوله (يا أيُّها الرسول) كليهما متعلقان بالولاية والإمامة .
وسياق الآيتين متقاربان من حيث أنَّ هناك من يحارب الولاية و يقف دون تحقّقها في المجتمع ، فالله سبحانه لأجل ذلك يواسي رسولَه ويسليه كي يحقق الهدف السامي الذي بُعث لأجله .
فأمّا قوله سبحانه وتعالى :
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ } 176
فهو يتعلَّق بواقعة الغدير المتواترة لدى الفريقين.
وأمّا قوله سبحانه
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ }177
فهناك حديث دالٌّ على أنَّها تختصُّ بالولاية ، وهذا نصُّه :
((عن تفسير علي بن إبراهيم القمِّي عن الإصفهاني ، عن المنقري ، عن شريك عن جابر ، قال: قال رجلٌ عند أبي جعفر عليه السلام ، وأسبغ عليكم نعمه ظاهرةً و باطنةً ، قال : أمّا النعمة الظاهرة فهي النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم و ما جاء به من معرفة الله عزّ و جلّ و توحيده ، و أمّا النعمة الباطنة ولايتُنا أهل البيت ، و عقد مودتنا فاعتقد و الله قوم هذه النعمة الظاهرة و الباطنة ، و اعتقدها قوم ظاهرة و لم يعتقدوها باطنه فأنزل الله ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ )178ففرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم عند نزولها إذ لم يقبل الله تبارك و تعالى إيمانهم إلاّ بعقد ولايتنا و محبتنا ))179
ومن الواضح أنَّ الخطاب بقوله(يا أيُّها الرسول ) في الآيتين بدلاً عن سائر الصفات هو دليل على أنَّ الرسالة هي التِّي لها هذا الاقتضاء و أنَّ تبيين الولاية هي أهم أهداف الرسالة .
وفي خصوص آية التبليغ قد صرَّح سبحانه بقوله :
{ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ }180
وأما الرسالة فهي شأن آخر لها جانبان :
1-جانب ربوبي .
2-جانب خلقي .
فربُّ العالمين يربِّي الأمَّة على مرِّ الزمن بواسطة الرسول بما هو رسول و يهديهم تشريعاً وتكويناً أعني الهداية بالأمر الذي مرَّ تفصيلها 181
وعلماً بأنّه كان خاتم الأنبياء و المرسلين فلو لم يبلِّغ رسالته بتنصيب الإمام لم يتحقَّق الغرض من رسالته ،كيف والولاية هي من صميمها .
ومن هنا نعرف السرَّ في تعبير القرآن بقوله "لقد منَّ" بصيغة الفعل الماضي الدال على المُضي و الانقضاء ، حيث أنَّ الرسالة قد ختمت به صلوات الله عليه وآله :
{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ }182
وأمّا بالنسبة إلى الإمامة فهي مستمرَّة لا نهاية لها ولا انقضاء إلى يوم القيامة ، حيث أنَّها تتمثَّل في الإنسان الكامل الذّي هو النور الصِرف الذي لا زوال له ولا اضمحلال ، لأنَّه مظهر النور المطلق وهو الله سبحانه وتعالى ولهذا جاء كلمة المنَّة بنحو الفعل المضارع الدال على الاستمرار و الدوام في قوله :
{ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ }183
فمن أولويات شئون الرسالة هو تعريف الإمام و تنصيبه للناس ، الذي من خلاله تنزل الفيوضات الإلهيَّة وسوف يبقى الوحي من ربِّ العالمين مستمرّاً.
ولهذا نشاهد العلاقة الوثيقة بين الإمامة والرسالة المحمَّدية كما دلت عليها أحاديث كثيرة فالإمام هو :
((سليل الرسالة-معدن الرسالة-موضع الرسالة-مفاض الرسالة-محكم الرسالة-محطّ الرسالة -رواسي الرسالة-أهل بيت الرسالة -فيهم نزلت الرسالة-أحق الخلق- بسلطان الرسالة-مودتهم أجر الرسالة))
فيستفاد من الآية الكريمة الأمور التالية:
1-إنّ من وظائف الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم هو إبلاغ الوحي الإلهي في جميع جوانبه وزواياه .
2-إنَّ هناك رسالة مميَّزة قد أُمر رسول الله بإبلاغها للناس ، وليس المقصود الشريعة بأجمعها لأنَّ لا معنى حينئذٍ لقوله فإن لم تفعل فما بلغت رسالته .
3-إنَّ تلك الرسالة الخاصَّة تُضاهي جميع الأمور الأخرى التِّي بيَّنها الرسول خلال حياته بل هي الرسالة بعينها.
4-إنَّ تنصيب عليٍّ عليه السلام إماماً للمؤمنين هو الحكم الإلهي النازل على الرسول في ذلك اليوم .
5-إنَّ عدم تبيين تلك الرسالة تعني عدم تبليغ الرسالة من الأساس .
6-ينبغي للرسول أن يتَّخذ خطَّة عمليَّة من خلالها يتمكَّن من ابلاغ الرسالة الخاصَّة وذلك لمكان قوله تعالى : "فإن لم تفعل"و لهذا لم يكتف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بالإبلاغ فحسب بل طلبَ من الناس رجالاً و نساءً أن يُبايعوا علياً عملاً وفي الحديث :
((...و أمر علياً عليه السلام أن يجلس فى خيمة له بإزائه ، ثم أمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً فيهنؤه بالمقام و يسلِّموا عليه بإمرة المؤمنين ففعل الناس ذلك كلّهم ، ثمَّ أمر أزواجه و سائر نساء المؤمنين معه ان يدخلن عليه و يسلمن عليه بإمرة المؤمنين ففعلن...))184
7-كانت هناك مؤامرة تواجه الرسول من قِبَل بعض الناس إزاء تبليغ هذه الرسالة المميَّزة ، فأخبره الله سبحانه بأنَّه هو المتكفِّل للقضاء على هذه المؤامرة الخطيرة حيث يقول "والله يعصمك من الناس".
8-هؤلاء المتآمرون بوقوفهم ضد رسالة الرسول و إنكارهم الولاية جُعلوا في عداد الكفّار بدليل "والله لا يهدي القوم الكافرين" فكلّ من يقف ضدّ الولاية فقد دخل في زمرة الكفّار وابتلي بالعذاب الأليم.
لا تقيّةَ بعد نزول الآية:
إنَّ الظاهر من الآية المباركة أنّه صلى الله عليه وآله كان يعيش التقيَّة في أمر الولاية قبل نزولها وأمّا بعد نزولها فانتفت التقيَّة ، ويشهد لذلك الحديث التالي :
((الحسين بن أحمد البيهقي عن محمد بن يحيى الصولي عن سهل بن القاسم النوشجاني قال : قال رجل للرضا عليه السلام يا بن رسول الله أنه يروى عن عروة بن زبير أنَّه قال : توفي النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم و هو في تقيةٍ ؟ فقال: أما بعد قول الله عز و جل "يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته و الله يعصمك من الناس" فإنَّه أزال كلَّ تقيةٍ بضمان الله عزَّ و جلَّ له و بيّن أمر الله))185
ومن اللازم هاهنا أن نجيب على السؤال التالي و هو :
ما هو الضرر الذي كان يواجه الأمّة لولا التبليغ ؟ و هل كان رسول الله يحافظ على نفسه كي يخاطبه الله بقوله "والله يعصمك من الناس" ؟
كيف وهو الذي وهو المخاطب بقوله :
{ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً }186
ويقول أمير المؤمنين عليه السلام :
(( كنّا إذا احمر البأس إتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله ، فلم يكن أحدٌ منّا أقربَ إلى العدوِّ منه ))187
كلُّ ذلك كان قبل فتح مكّة وأمّا بعد الفتح ، فقد اتَّسعت قدرة الإسلام وقويت شوكته ، فلا خوف من الناحية العسكرية ، فممَّ كان الخوف ؟
نقول في الجواب :
إنَّ الخوف كان من جانب آخر أهمّ و هو الجانب السياسي ذلك لأنَّ موضوع الولاية كان مهماً و حسّاساً للغاية ، حيث يثير الأحقاد القبلية ، والضغائن البدرية والخيبرية الكامنة في صدور القوم ، وحيث التخطيط الدقيق المركَّز لتصاحب الخلافة بعد الرسول ، و التسلُّط على رقاب المسلمين ، وهذا هو من أهم المخاطر التي كانت تواجه الإسلام ، ولكنَّ القوم فوجئوا بالغدير فيَئسوا من نجاح خطَّتهم الإسلام ، كما يشهد بذلك التأرخ وهذا ما يستفاد من الحديث التالي:
((عن المفضَّل بن صالح ، عن بعض أصحابه عن أحدهما عليه السلام أنَّه قال : لما نزلت هذه الآية "إنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا" شقَّ ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ، و خشي أن يكذَّبه قريش ، فأنزل الله " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك الآية" فقام بذلك يوم غدير خم ))188.
أهميَّة هذا التبليغ:
إنَّ أهمِّية هذا الأمر قد وصل إلى مستوى بحيث ورد في الحديث عن أبي جعفر محمد بن على عليه السلام في حديث طويل عن رسول الله صلى الله عليه وآله مخاطباً لعليٍّ عليه السلام قال:
((لقد أنزل الله فيك "يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربِّك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته "فلو لم أبلِّغ ما أُمرتُ به لحبط عملي))189
ولا يخفى أنَّه من المستحيل أن يخالف الرسول ربَّه في هذا الأمر ، ولكن يدلُّ ذلك على الأهميَّة الكبيرة لتبليغ ما أنزِل إليه من ربِّه ، وهو تعيين أمير المؤمنين عليه السلام خليفةً على المسلمين .
وتأييداً لذلك نذكر حديثاً في هذا المجال :
(( على بن إبراهيم عن أبيه عن الحكم بن بهلول عن رجل عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى "وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ"190 ، قال يعنى إن أشركت في الولاية غيره ، بل الله فاعبد و كن من الشاكرين يعنى بل الله فاعبد بالطاعة و كن من الشاكرين إن عضدتك بأخيك و ابن عمك ))191.
والجدير بالذكر أنَّ سورة محمَّد صلى الله عليه وآله قد بيَّنت بصورة صريحة النتائج السلبيَّة التِّي تترتَّب إنكار الولاية أو كراهتها ، حيث يقول سبحانه وتعالى:
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ ...إلى أن قال.. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ }192.
ونذكر هاهنا حديثاً يتعلَّق بالآية الأولى :
((عن أحمد بن القاسم ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن خالد ، عن محمد بن علي ، عن محمد بن الفضيل ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال : قوله تعالى : "ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله " في عليٍّ عليه السلام فأحبط أعمالهم ))193
ومن أراد أن يتوسَّع في هذا المجال فليراجع كتاب كنز العمّال .
ثمَّ إنَّه ومن خلال هذا البحث سوف نواجه قضيَّة أخرى نجعلها تحت عنوان:
ما أنزل إليك
عندما التأمُّل في الآية 66 من سورة المائدة التِّي جاء ت قبل آية التبليغ ، ينفتح أمامناه زاويةً يمكن من خلالها أن نعرف مدى خطورة أمر الولاية ودورها في حياة المجتمع معنويةً ومادِّيةً حيث يقول سبحانه :
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالآنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ....الخ )) 194
فهناك ارتباط وثيق بين إقامة ما أنزل من ربِّ العالمين وبين نزول البركات السماوية والأرضيَّة على الأمَّة .
ومن هنا نعرف السرّ في استشهاد الصديقة فاطمة عليها السلام بهذه الآية عند بيانها الإعوجاج الذي حدث في الإسلام حيث قالت :
وفي الحديث :
((عن محمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن حماد بن عيسى ، عن ربعي بن عبد الله ، عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عزّ و جلّ : و لو أنَّهم أقاموا التوراة و الإنجيل و ما أنزل إليهم من ربهم ، قال : الولاية ))195.
و في تفسير قوله تعالى:
وأيضاً وردت أحاديث كثيرة في تفسير قوله تعالى:
{ وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا }196.
(( عن أحمد بن مهران ، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني ،عن موسى بن محمد ، عن يونس بن يعقوب ، عمن ذكره ، عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: "وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً " قال : يعنى لو استقاموا على ولاية علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ، و الأوصياء من ولده عليهم السلام ، و قبلوا طاعتَهم في أمرهم ، و نهيهم لأسقيناهم ماءاً غدقاً ، يقول : لأشربنا قلوبهم الإيمان ، و الطريقة هي الإيمان بولاية علي و الأوصياء))197.
وفي قبال ذلك نشاهد أنَّ أساس الفساد بدأ من اللحظة التِّي توفّي فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم كما في الحديث التالي:
((عن محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن على بن النعمان ، عن ابن مسكان عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام ، في قوله عزّ و جلّ : "ظَهَرَ الفَسَادَ فِي البرِّ و البَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي الناس" قال: ذاك و الله حين قالت الأنصار منّا أميرٌ و منكم أميرٌ )) .
وعلى ضوء ذلك يمكننا أن نعرف السرّ في آية إكمال الدين وإتمام النعمة وهي:
{ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلاَمَ }198.
موقع الآية في المصحف :
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }199.
و المقطع المتعلِّق بحادثة الغدير غير منسجم مع الآية من ناحية المعنى أصلاً ، وهذا لا يعني أنَّه قد وُضع في غير موضعه ، حيث أنَّ هناك الكثير من الآيات في القرآن الكريم من هذا القبيل ، وسوف نطرَّق إلى هذا الأمر فيما بعد200 . وخلاصة الأمر ترجع إلى الجانب الفنِّي في القرآن الكريم ، حيث أنَّه كتابٌ لهداية الناس بأفضل الأساليب والطرق ، وهاهنا نقول:
حفاظاً على النصوص الواردة في حقِّهم عليهم السلام لكثرة المؤامرات والخطط ضدّ كلّ أمرٍ يمتًّ إليهم بصلة ، نشاهد أنَّه قد وردت هذه النصوص في مواضعها حين نزول القرآن أو أدرجها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلَّم بأمر الحكيم جلَّ وعلا ، ضمن آيات بعيدة كل البعد عن تلك الأمور ، والمتدبِّر في تلك الآيات سوف يعرف المقصود من غير شبهة ، وأمّا الذين في قلوبهم مرض فيغض النظر عن التفكير في إزالتها فيحاول تحريف محتواها بزعم وجود قرائن مقالية محيطة بها كما فعل القوم ، ومن تلك الآيات هي آية الغدير التِّي هي مورد بحثنا.
وهناك شواهد كثيرة تدلُّ على أنَّ الآية غير متعلِّقة بالمحرَّمات نذكر بعضَها:
1-سياق الآية حيث نشاهد أنَّها غير كاملة إلاّ بمجيء المقطع الأخير منها وهي قوله "فمن اضطرّ" ، والدليل على ذلك وجود آيتين متشابهتين أحدهما في سورة البقرة ، والثانية في سورة النحل:
{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }201.
{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }202.
وأيضاً الآية الـتالية:
{ قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
وهذا دليل على أنّ ذلك المقطع ، قد أُدرج ضمن الآية .
2-إنَّ الآية تقول (اليوم يئس الذين كفروا عن دينكم....) ولو كان اليأس لأجل تلك الأحكام الخاصة ، أعني تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها فهي غير مختصَّة بهذا اليوم الذي نُزلت فيه الآية بل تلك الأحكام وردت في آيات أخرى أيضاً ، وهذا إن دلَّ على شيء فإنَّما يدل على أنَّ يأس الذين كفروا عن الدين إنَّما هو لأجل أمر آخر أهم ( وهو إعلام الولاية وتبليغها بنحو علنيٍّ ).
وفي الحديث
(( قال أبو عبد الله جعفر الصادق عليه السلام: أنزل الله عز و جلّ على نبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم بكراع الغميم "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك في علي و إن لم تفعل فما بلغت رسالته و الله يعصمك من الناس" فذكر قيام رسول الله بالولاية بغدير خم قال : و نزل جبرئيل بقول الله عز و جل اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام ديناً بعلي أمير المؤمنين في هذا اليوم أكمل لكم معاشر المهاجرين و الأنصار دينكم و أتم عليكم نعمته و رضى لكم الإسلام دينا فاسمعوا له و أطيعوا تفوزوا و تغنموا))203.
قال في النهاية .. كراع الغميم كغراب موضع على ثلاثة أميال من عسفان و ذكره الفيروز آبادى .
قال : الراغب الإصفهاني في المفردات :
(( كمل: كمال الشيء حصول ما فيه الغرض منه ، فإذا قيل كمل ذلك فمعناه حصل ما هو الغرض منه ))
((تمام : تمام الشيء انتهاؤه إلى حد لا يحتاج إلى شئ خارج عنه والناقص ما يحتاج إلى شيء خارج عنه... قال تعالى { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ }204.{ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ }205.{ وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ }206 ))
قال إمام الأمَّة (قدِّس سرُّه):
((كمال الشيء ما به تمامه و انجبر به نقصانه ...فالصورة كمال الهيولى ، و الفصل كمال الجنس ، ولهذا عرّفت النفس بأنّها كمال أول لجسم طبيعي آلي ، إذ بها كمال الهيولى باعتبار وكمال الجنس باعتبار . ولهذا كانت الولاية العلوية أدامنا اللّه عليها كمال الدين وتمام النعمة ، لقوله:{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي }207وقال أبو جعفر عليه السلام في ضمن الرواية المفصلة في الكافي: ثم نزلت الولاية . وإنّما أتاه ذلك في يوم الجمعة بعرفة أنزل اللّه تعالى: { اليومُ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي }208وكان كمال الدين بولاية علي بن أبي طالب ، انتهى .فسائر العبادات بل العقايد والملكات بمنزلة الهيولى والولاية صورتها وبمنزلة الظاهر وهي باطنها ، ولهذا من مات ولم يكن له إمام فميتته ، ميتة الجاهلية وميتة كفر و نفاق و ضلال ، كما في رواية الكافي ، فإن المادة والهيولى لا وجود لهما إلاّ بالصورة و الفعلية ، بل لا وجود لهما في النشأة الآخرة أصلاً ، فإن الدار الآخرة لهي الحيوان ، وهي دار الحصا ، والدنيا مزرعة الآخرة .))
أهميَّة الولية:
في تفسير فرات الكوفي :
قال : حدثني جعفر بن محمد الفزاري معنعنا : عن أبي الجارود قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : حين أنزل الله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ) قال : فكان كمال الدين بولاية علي بن أبي طالب عليه السلام .
إن الله سبحانه و تعالى حين خلق الكون بإرادته المطلقة (إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون) أوجد الأشياء فصارت جميع الأشياء فقيرة إليه تعالى في ذاتها و هو الغني المطلق و صار سبحانه حاكما تكوينيا عليها جميعا.. فظهرت أسماؤه الحسنى في الكون. الولاية ليست هي مسألة قلبية فحسب بل هي أمر عملي خارجي له دور مهم في تطبيق سائر الأحكام الإلهية ، و بدونها يبقى الدين له جانبان جانب متعلق بالله و هو الجانب التشريعي و جانب يرجع إلى الناس و هو الجانب التنفيذي فالتشريع مهما كان متقنا و مهما كان مقدسا إلاّ أنه يبقى في عالمه (أعنى عالم التشريع) مادام لم يصل إلى مرحلة العينية و المصداقية ، فمن الضروري أن تتنزل الشريعة في المجتمع و تنطبق كي يكون المجتمع مظهرا لاسم الله أعنى الحاكم و حينئذ سوف يتحقق الغرض من التشريع الإلهي و هو حاكمية الله على إرادة الناس الذي يستتبع حاكميته على كل شيء بقي أمر واحد و هو إرادة الإنسان فهي من ناحية تكوينية مظهر من مظاهر ذاته سبحانه حيث أن من أسماء ذاته تعالى (المريد) ولكن لأن طبيعة الإرادة طبيعة مميزة حيث بها يختار الإنسان الخير و الشر فأراد الله سبحانه من الإنسان أن يختار الخير و يجتنب عن الشرّ و باختياره هذا يترقى في مدارج الكمال ، فشرع الشريعة و بين الأحكام.. فها هنا يأتي دور الإنسان حيث يلزمه تطبيق الشريعة في المجتمع و يأتي دور الإمام حيث ينبغي له الإشراف على تطبيق الشريعة.. فإذاً دور الإمام دور حيوي و هو ركن مهم كالشريعة نفسها بل لو نظرنا إليه من منظاره الخاص صار أهم من ذلك لأنه بدونه لا جدوى للشريعة الإلهية. ومن هنا نعرف عمق ما بيّنه مولانا علي عليه السلام في كلمته حيث قال:
وقال عليٌّ عليه السلام (.. ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه و يضمه فإن انقطع النظام تفرق و ذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً...)209.
فالإسلام يمثِّل المسباح والعبادات كلُّها من الصلوة و الصوم و الزكاة و الحج و الجهاد و غيرها وكذا المعاملات ليست هي إلاّ كالخَرز لذلك المسباح ، ثمَّ إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله تمكَّن من تجهيز الخرَز طوال 23 سنة و تثقيبها بأكملها فلم تكمل بعدُ ما دام لم يمرُّ من خلالها الخيط حيث أن قوام المسبح بالخيط و الولاية تُمثِّل ذلك الخيط القويّ الذي يجمع شمل العبادات والمعاملات وسائر أبعاد وزوايا الإسلام فبالولاية قد كمُل الإسلام (اليوم أكملت لكم دينكم) بعد أن كان ناقصاً لا فائدة فيه وتمَّت النعمة (وأتممت عليكم نعمتي) بعد أن كانت غير تامَّة حيث كان يُخاف على زوالها بارتحال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله .
ومن الواضح أنه لا ضمان لبقاء الخرز من غير الخيط (النظام على حدّ تعبير أمير المؤمنين) فلا ضمان لبقاء الصلوة و الصوم و... من غير الولاية و من هنا نعرف معنى قوله تعالى " اليوم أكملت لكم دينكم... " حيث أنه بالفعل قد كمل الدين في يوم الغدير و تمت النعمة التي هي الولاية و قد ورد في تفسير قوله تعالى:
{ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ }210.

عدةٌ من أصحابنا عن احمد بن أبي عبد الله عن أبيه عن القاسم بن محمد الجوهري عن الحارث بن حريز عن سدير الصيرفي عن أبي خالد الكابلى قال دخلت على أبي جعفر عليه السلام فدعا بالغداء فأكلت معه طعاما ما أكلت طعاما قط انظف منه ولا أطيب فلما فرغنا من الطعام قال يا أبا خالد كيف رأيت طعامك أو قال طعامنا قلت جعلت فداك ما رأيت أطيب منه و لا أنظف قط و لكنى ذكرت الآية التي في كتاب الله عز و جلّ لتسئلن يومئذ عن النعيم قال أبو جعفر عليه السلام لا إنَّما تسألون عما أنتم عليه من الحق )211.
وعلى ضوء ذلك يمكننا أن نصل إلى عُمق الحديث التالي:
( عن على بن إبراهيم عن أبيه و عبد الله بن الصلت جميعاً عن حماد بن عيسى عن حريز بن عبد الله عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال بنى الإسلام على خمسة أشياء على الصلاة و الزكاة و الحج و الصوم و الولاية قال زرارة فقلت و أيُّ شيءٍ من ذلك أفضل فقال الولاية أفضل لأنَّها مفتاحُهن والوالي هو الدليل عليهن.. ثمَّ قال: قال ذروه الأمر و سنامه و مفتاحه و باب الأشياء و رضى الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته..)212.
و الولاية هاهنا لا يقصد منها الحب بل هي كالصلوة والصوم والزكاة .. وهي عبادات عمليَّة وليست أموراً قلبيَّة بحتة و أيضاً قوله عليه السلام والوالي هو الدليل عليهن حيث اشتقاق اسم الفاعل من الكلمة دليلٌ على أن الولاية هاهنا إنَّما تعني الجانب العملي التِّي هي الإطاعة والتبعيَّة المطلقة ومن هنا قال عليه السلام :(قال ذروة الأمر .. الطاعةُ للإمام )
الوحي التسديدي:
إنَّ أمير المؤمنين و أهل البيت عليهم السلام ليسوا كمبلغين للرسالة فحسب بل هذا هو دور العلماء أيضا حيث قال تعالى " الذين يبلغون رسالات الله و يخشونه و لا يخشون أحدا إلاّ الله "
فالعلماء ليس لهم دور إلاّ الدفاع عن الشريعة ببيان النصوص القرآنية وما صدر عن المعصومين عليهم السلام.
ولكن أهل البيت عليهم السلام مضافاً إلى دفاعهم عن الشريعة فهم كرسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أصحاب الدعوى و شركاء رسول الله في أمر النبوة و لهذا ورد في زيارة الحجة عجل الله تعالى فرجه " السلام عليك يا شريك القرآن " و الدليل على ذلك آية المباهلة:
{ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ }213.
أقول:
ومن الواضح أن الكاذب لا يطلق على المتفرِّج فهو ليس بكاذب و لا صادق.. بل الكاذب و الصادق من الصفات التي تطلق على من لديه ادعاءٌ ما ، فهو (أعنى المدَّعي) إما صادقٌ في ادعائه أو كاذب فقوله تعالى "فنجعل لعنت الله على الكاذبين " دليلٌ على أن كل من كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم في يوم المباهلة كرسول الله كان صاحب ادِّعاء حيث ارتباطه بعالم الغيب وهذا ما يطلق عليه " الوحي التسديدي " في قبال الوحي التشريعي.
الإشراك في الأمر:
وأيضاً حديث المنزلة دليل آخر حيث صارت منزلة عليٍّ عليه السلام بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وآله كمنزلة هارون من موسى و هذا يعنى أنه تعالى أشركَ علياً مع محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم في أمرِ الرسالة التِّي طلبها موسى من الله لأخيه هارون (وأشركه في أمري) وإن كان هناك فرقٌ كبير بين هارون وبين عليٍ عليهما السلام وذلك لأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلَم حيث اختتمت به النبوَّة فهو أفضل الأنبياء كما أنَّ وصيَّه هو أفضل الأوصياء والسرُّ في ذلك هو ما ذكره الإمام قدَّس الله نفسَه الزكيَّة في بيان حقيقة الإنسان الكامل حيث قال:
{ إن كانت عينه الثابتة تابعة للإسم الأعظم لاختتمت به دائرة النبوة كما اختتمت بالنبي المعظم الخاتم صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ولم يوجد شخص آخر من الأولين والآخرين ومن الأنبياء والمرسلين ، تكون عينه الثابتة ، تابعة للإسم الأعظم ولم يكن ظهور ذاته بجميع الشئون ولهذا حصل له صلى اللّه عليه وآله وسلم ظهور بجميع الشئون وحصلت الغاية من الظهور في الهداية ، وتم الكشف الكلي واختتمت النبوة بوجوده المقدس }
ثم قال :
{ و إذا فرضنا أن شخصاً من أولياء اللّه تبعاً لذات النبي المقدّس وهدايته سبحانه بلغ نفس المقام المقدَّس ، لكان كشفه عين النبي ، إذ لا يجوز التكرار في التشريع }
ومن هنا صار أمير المؤمنين عليه السلام نفس رسول الله صلى الله عليه وآله فهو إذاً أعلى من جميع الأنبياء عليهم السلام إلاّ خاتمهم وذلك لأنَّه خليفة للكشف التام ومن هنا قال صلى الله عليه وآله { إلاّ أنَّه لا نبيَّ بعدي } فهذه العبارة لا تُقلِّل من مرتبة أمير المؤمنين عليه السلام بل تُضاعفه وتجعل عليّاً أعظم من هارون لأنَّ هناك أنبياءً بعد موسى عليه السلام فلم تكن نبوَّته تامَّة دون النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فهو خاتم النبيين وهو الذي وضع اللبنة الأخيرة وكملت به الدائرة ، والذين يأتون من بعده هم الهداة بالأمر فيهدون الناس إلى الشريعة الكاملة وهذا المستوى أعني الهداية بالأمر أفضل من مستوى جميع الأنبياء.
يأس العدو من الدين:
وعلى ضوء ذلك يمكننا أن نعرف أهمية هذا النصب في غدير خم حيث أن العدوّ كان يتصور أنه بعد ارتحال رسول الله ليس هناك من يتولى أمر الرسالة وكان يتوقَّع باستئصال الإسلام من أساسه حيث لا حيوية للدين على زعمهم بعد ارتحاله صلى الله عليه وآله وسلَّم و من يأتي بعده ليس له دور رسالي بل هو مبلِّغ للوحي ليس إلاّ
{ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ214 قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُتَرَبِّصِينَ }215.
فواقعة الغدير قد قضت على جميع تلك المخطَّطات و أفشلت كافةَ المؤامرات.
والجدير أن قضية الغدير استمرت بعد ارتحال عليٍّ عليه السلام حيث انتقلت الولاية إلى الحسن عليه السلام و الحسين عليه السلام و هكذا.. إلى أن انتهت المسألة إلى عصر الغيبة الكبرى لولي العصر الحجة بن الحسن المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف فانتقلت الولاية إلى الفقيه الجامع للشرائط لا للعالم فحسب بل لمن كان صائناً لنفسه حافظاً على دينه مخالفاً لهواه مطيعا لأمر مولاه.. فاليوم ليس هو يوم 18 ذي حجة فحسب بل هو كل يوم يعيش فيه الإنسان تحت ظل الولاية.
{ . الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }216.
عليٌ عليه السلام كفؤٌ للزهراء سلام الله عليها:
فكما أن الكوثر (و هي الزهراء) كانت سبباً لاستمرار النبوة و عند ولادة الزهراء قال تعالى
{ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ }217.
فكذلك عند تتويج علي عليه السلام الخلافةَ يوم الغدير يئس العدوّ " الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ " فاستمرت الرسالة المحمدية.
هذا و نختم الحديث بذكر أروع قصيدة ذكرت في شأن الغدير وهي قصيدة السيد الحميرى (ره)
لام عمرو باللوي مربع طامسة أعلامها بلقع - تروع عنها الطير وحشية والوحش من خيفته تفزع - رقش يخاف الموت من نقشها والسم في أنيابها منقع - برسم دار ما بها مونس الاصلال في الثرى وقع - لما وقفت العيس في رسمها والعين من عرفانه تدمع- ذكرت من قد كنت ألهو به فبت والقلب شج موجع- كأن بالنار لما شفني من حب أروى كبدي لدع - عجبت من قوم أتوا أحمدا بخطة ليس لها موضع - قالوا له : لو شئت أعلمتنا إلى من الغاية والمفزع - إذا توفيت وفارقتنا وفيهم في الملك من يطمع - فقال : لو أعلمتكم مفزعا كنتم عسيتم فيه أن تصنعوا - صنيع أهل العجل إذا فارقوا هارون فالترك له أوسع - وفي الذي قال بيان لمن كان إذا يعقل أو يسمع - ثم أتته بعد ذا عزمة من ربه ليس لها مدفع - بلغ وإلا لم تكن مبلغا والله منهم عاصم يمنع - فعندها قام النبي الذي كان بما يأمر به يصدع - يخطب مأمورا وفي كفه كف علي ظاهر تلمع - رافعها أكرم بكف الذي يرفع والكف الذي ترفع - يقول والأملاك من حوله والله فيهم شاهد يسمع -من كنت مولاه فهذا له مولى فلم يرضوا ولم يقنع- فاتهموه وحنت فيهم على خلاف الصادق الأضلع - وضل قوم غاضهم فعله كأنما آنافهم تجدع -حتى إذا واروه في لحده وانصرفوا عن دفنه ضيعوا - ما قال بالأمس وأوصي به واشتروا الضر بما ينفع-فالناس يوم البعث راياتهم خمس فمنها هالك أربع - قائدها العجل وفرعونهم وسامري الأمة المفظع- ومارق من دينه مخرج أسود عبد لكع أوكع - وراية قائدها وجهه كأنه الشمس إذا تطلع.
[الحمد لله الذي جعل كمال دينه و تمام نعمته بولاية أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السلام] إنتهيت من كتابة هذا البحث في اليوم الإثنين الثامن عشر من ذي الحجة 1416
أودّاء الله
العشق
اعلم أنَّ المحبَّة والودّ و العشق و الشوق و الإرادة و الميل و الابتهاج ونحوها تشير إلى معنى واحد ، ففي تعريف الحبِّ قالوا :
{ هو تعلُّقٌ خاص و انجذاب مخصوص بين المرء وكماله }
وقالوا أيضاً:
{ ميل النفس إلى الشيء لكمالٍ أو جمالٍ أدركتْه فيه بحيث يحمله إلى التقرُّب إليه }
والودُّ هو :
{ محبة الشيء وتمنِّي كونِه }
أي أنَّه يصير ذلك الشيء بعينه والتمني هو :
{ تشهِّي حصول ما تودُّه }
و في الدعاء :
{ يا منى المحبّين }
والعشق هو :
{ المحبة المفرطة }
قال العلاّمة المجلسي رضوان الله تعالى عليه :
{ عَشِقَ من باب تعب ، و الإسم العِشق و هو الإفراط في المحبَّة أي أحبَّه حباً مفرطاً من حيث كونه وسيلةً إلى القرب الذي هو المطلوب الحقيقي }218
قال ابن عبّاد في محيط اللغة:
{ عشِق : كلِف }
وقال في معنى كلِفَ :
{ و الكلَف ، الإيلاع }
كلمة العشق في الشريعة
وردت هذه الكلمة في الشريعة في مواردَ معدودة نشير إلى بعضها:
الف في الحديث القدسي :
{ من عشقتُه فقد قتلتُه ، ومن قتلتُه فعليَّ ديتُه ، ومن عليَّ ديتُه فأنا ديتُه }219
ب:و قد ورد في الحديث :
{ عن على بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس عن عمرو بن جميع ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم : أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها ، و أحبَّها بقلبه ، و باشرها بجسده ، و تفرَّغ لها ، فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا ، على عسر أم على يسر }220
ج : عن كتاب الخرائج:
{ قال الباقر عليه السلام : خرج عليٌ عليه السلام يسير بالناس حتّى إذا كان بكربلاء على ميلَين أو ميل ، تقدَّم بين أيديهم حتّى طاف بمكانٍ يقال لها المقدفان ، فقال: قُتل فيها مائتا نبيٍّ و مائتا سبطٍ ،كلُّهم شهداء ، و مناخُ ركابٍ221 و مصارعُ عشّاقٍ ، شهداء لا يسبقُهم من كان قبلَهم و لا لحقهم مَن بعدهم }222
فكيف لم يستعمل الشرع هذه الكلمة كثيراً ؟
فوجه ذلك ربّما هو لأجل تداول الكلمة على ألسنة أهل الدنيا التابعين للشيطان و الهوى النفساني فاشتهر عندهم في المحبَّة الشهوية الزائلة فلو استعملته الشريعة فربَّما كانت تتداعى في الذهن تلك الأمور المقرِّبة إلى الشيطان والمبعدة عن الله ، وهذا نظير عدم ورود كلمة اللامس والشام والذائق في حق الله سبحانه و تعالى لئلا يتصوَّر البعض أنَّ اللهَ جسمٌ بخلاف السميع والبصير و المدرك .
الفرق بــــــــيــــن العشق و العلم
العلم هو انعكاس صور الأشياء في ذهن الإنسان ،و هو يتبع المعلوم تمامًا و يطابقه عيناً فيعكسه انعكاساً كاملاً إن كان حسَناً فحسنٌ وإن كان قبيحاً فقبيحٌ ، و أمّا العشق فليس كذلك بل له بعد داخليٌ نفسانيٌّ أكثر وأعلى مستوىً من الجانب الخارجي الظاهري ، فميزان العشق لا يتبع الحُسن بل يتبع مستوى استعداد الإنسان و مستوى إمكانية العاشق وأرضيَّته النفسانيَّة و اقتضائه الروحي ، وفى الحقيقة يبحث العاشق وراءَ مبرِّرٍ ، فبمجرد أن واجه موضوعاً ما يتناسب مع ما هو عليه من الروحيَّة ، انسجم معه من غير أن ينكشف لديه رمزُ هذا الانسجام وسرُّه ، ومن هنا قيل أنَّ العشق ليس له دليل ، بل القوة الكامنة في الإنسان هي التِّي تتجلَّى و تخلق الحسنَ بمقدار إمكانياتها و استعدادها الذاتي.
يقول العلامَّة الخواجة نصير الدين الطوسي في شرح الإشارات لابن سينا :
{ والحبُّ النفساني هو الذي يكون مبدأه مشاكلة نفس العاشق لنفس المعشوق في الجوهر223 ويكون أكثرُ إعجابه بشمائل المعشوق لأنَّها آثارٌ صادرة عن نفسه وهو يجعل النفس ليِّنة شيِّقة ، ذاتَ وجدٍ ورقَّة منقطعة عن الشواغل الدنيويَّة }224
و لأجل هذه المشاكلة بين المحبوب و المحبّ حيث تنتقل صفات المحبوب إلى المحب نشاهد اهتمام الإسلام في انتخاب الصديق حيث أن الحبَّ يَخلق الجمال و يؤدى إلى الغفلة، وحيثما أشرق الحبّ سوف نُشاهد العيوب محاسناً و الأشواك وروداً فيُعمى و يُصمّ كما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم:
{ حبُّك للشيء يعمي ويصم }225
ومن هذا المنطلق نلاحظ أن كل إنسان يرى كمال نفسِه ورفعةَ عقلَه وجمالَ وَلَده ، فالعشق رغم أنه يدقِّق فهم الإنسان و يثير أحاسيسه ، يؤطِّر نظرَه فيجعله مُنصبّاً في نقطة واحدة فقط فيَستر عيوب المعشوق بل يُظهر العيوبَ محاسناً والظلمات نوراً .
ونفس الكلام يأتي في ضدِّ العشق والحب وهو البغض فهو أيضاً يُعمي ويُصم.
العشق با لكمال المطلق فطريّ
قال الإمام قدِّس سرُّه :
{ الفطرة التي فَطر اللهُ الناسَ عليها هي تلك الحالةُ و الهيئةُ التي هي من لوازم وجود الناس و من أسس بنائهم ، و هي لطف من الله سبحانه للإنسان خاصَّة في قبال سائر الموجودات ، ينبغي أن نعلمَ أنَّ كلَّ أمرٍ يتعلق بالفطرة لابدّ و أن لا يقع فيه أيُّ شَكل من الخلاف و الاختلاف بل من اللازم أن يتَّفق الناس كلُّهم مع الحكم الفطري ، العالم منهم و الجاهل ، المدنيُّ و البَدَويّ و حتّى الإنسان الذي يعيش مع الوحوش في الغابات و الذي لم يشمَّ رائحة الحياة الاجتماعية . ومن ناحية أخرى إن اختلاف البلدان و الأمكنة و الأذواق و الأهوية و الآراء و العادات رغم تأثيرها على كلِّ شيء حتّى على الأحكام العقلية القطعية ، يستحيل أن تؤثِّر و تغيِّر أحكام الفطرة قيد أنملة و أيضا الاختلاف في الأفهام من ضعف الإدراك و قوَّته لا يؤثِّر في أحكام الفطرة ، و ذلك حيث تقول الآية :
{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }226ثمَّ: إنّ من الأمور الفطرية التي جُبِل عليها جميعُ البشر من غير استثناء هو: (العشق للكمال ) فمع التجوّل في الأدوار التي مرَّت بها البشرية ، و استنطاق كلِّ فرد من أفرادهم و كلِّ طائفة من طوائفهم نجد أن هذا العشق و الحبّ قد جُبل في طينته و نجد أن قلبَه متوجِّه نحو الكمال ، بل جميع حركاته و مساعيه ليست هي إلاّ لأجل هذا الحب الكامن في ضميره فهو يريد الوصول إلى الكمال ، و يطلب مشاهدة معشوقه و محبوبه ؟ و كلٌّ يجد معشوقه في شيء فيطلب ذلك الشيء و يتفانى في سبيله ، فأهلُ الدنيا يحسبون الكمال في الثروة فيسعون للوصول إليها و أهل العلم في العلم و أهل الآخرة في العبادة و هكذا ، فالناس جميعهم يسعَون نحو الكمال ، فإذا تصوَّرُوه في موجودٍ أَو موهومٍ تعلَّقُوا به و عشقوه ، ولكن على الرغم من ذلك فليس عشقُهم لهذا الذي ظنوه بأنه معشوقهم ، و هذا الذي توهموه و تخيَّلوه ليس هو كعبة آمالهم إذ لو رجع الإنسان إلى فطرته لوجد أن قلبه في الوقت الذي يُظهر العشق لشيءٍ ما فإنَّه يتحوَّل عن هذا المعشوق إلى غيره إذا وجد الثاني أَكمل من الأول و هكذا ، بل إن نيران عشقه لتزداد اشتعالاً فالإنسان يحبُّ الجمال فيصل إليه ولا يقتنع به بل يطلب أجمل منه و هكذا ، و يعشق القدرة فيصل إليها ثم لا يستقر بل يتزايد حبُّه إليها و لا تخمد نار اشتياقه أصلاً.. بل تزداد لهيباً.. و هذه الحالة تشمل جميع البشرية من غير استثناء.
ثمَّ إنَّ الإنسان إنَّما يعشقُ الكمال الذي لا عيب فيه و لا كمال بعده ، و العلم الذي لا جهل فيه و القدرة التي لا عجز فيها و الحياة التي لا موت فيها أي الكمال المطلق }227
فعندما ينظر الإنسان إلى الوردة الجميلة مثلاً ويلذُّ ، فهو في الواقع لا يلتذ من الوردة ولا يُريدها كَوردةٍ بل النفس تلتذ بالجمال وتحبُّ الجمال فلو فقدت الوردة جمالَها فلا تحبُّها النفس أصلاً ، وهكذا بالنسبة إلى كلِّ هالك وآفل ، فالمطلوب إذاً هو الجمال والكمال غير المحدود وغير المؤطَّر ، وهو الله سبحانه .
من هنا نشاهد شيخ الأنبياء إبراهيم الخليل على نبيِّنا وآله وعليه السلام ينفي كلَّ آفل حتَّى يصل إلى الربّ :
{ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ }228
الكمال المطلق هو الله
ثمَّ استنتج الإمام قدِّس سرُّه و قال:
{ فهل هناك كمال مطلقٌ سوى الله سبحانه وتعالى ؟وهل هناك جمال مطلق و علمٌ مطلق و قدرة مطلقة سواه تعالى ؟ فإذاً الكلّ يطلبه سبحانه و هو أمل الآملين :
{ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ }229
العشق فعلي حقيقي فالمعشوق فعلي حقيقي:
وحيث إن العشق في الإنسان أمرٌ فعليٌ حقيقيٌّ و ليس بموهوم أو متخيل إذ أنَّ كلَّ موهوم هو ناقص ، و الفطرة إنما تتوجَّه إلى الكامل ، فإذاً هناك معشوقٌ فعليٌّ حقيقي و هو الكمال المطلق و هو الله سبحانه و هو موجود بالفعل: { أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }230
وهو واحد لا شريك له وأحدٌ غير مركَّب231 لأنَّ كلَّ كثير و مركب ناقص ، لأنَّ الكثرة لا تكون دون محدودية و المحدودية نقص232 ، وكلُّ ناقص مرغوب عنه من جانب الفطرة }
الشيطان والتزيين
من حيَل الشيطان هو تزيين القبيح كي يشتاق إليه الإنسان لأنَّ الإنسان لا يحبُّ إلاّ الجميل ، فهذا إبليس يقول وبكلِّ جدٍ وعزم :
{ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }233
و قال تعالى :
{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ }234
والذي قد أغواه الشيطان سوف يصل إلى مستوى يقول عنه تعالى:
{ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ }235
ليس ذلك إلاّ لأنَّه يرى القبيح جميلا فيفرح به .
وأيضاً من حِيَل الشيطان هو إظهار الفاني236 وكأنَّه باقٍ لا فناء يعتريه ولا نقصٍ يواجهه وذلك لأجل أن يرغب فيه الإنسان المحبّ للمطلق ، ومن هنا استطاع أن يغوي آدم وزوجته:
{ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى }237
ولأنَّ آدم كان يعشق الكمال المطلق فبطبيعته انجذب إلى الشجرة التي كان يظنُّها شجرةَ الخلد والملك الذي لا يبلى .
وحيث زيَّن الشيطان ما أوتي قارون من أموال ، كان جماعة من قومه يتمنون أن يصلوا إلى ذلك مستواه قال تعالى :
{ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }238
ومن هذا المنطلق نشاهد الإنسان يسعى وراء كل ما يراه مشتملاً على الكمال فيعشقه .
وجميع مصاديق العشق المجازي239 ترجع إلى هذا الأمر حيث يرى العاشق محبوبه الحقيقي أعني المطلق في ذلك الموجود الخارجي فيحبَّه ويرغب إليه.
يقول محيي الدين ابن العربي:
{ ما أحب أحدٌ غير خالقه ولكنَّه تعالى احتجب تحت اسم سعاد وهند وزينب }
دور الأ نبياء و الأ ولياء
ومن هنا يمكننا أن نعرف دور الأنبياء والأولياء فهم لم يُبعَثوا لإزالة ذلك العشق الفطري للكمال وتحطيمه ، بل بُعثوا لأجل تصحيح وجهة العشق وهدايته إلى الكمال المطلق الحقيقي الفعلي لا الكمال الموهوم .
وبعبارة أخرى مهمَّةُ الأنبياء و الأولياء هي إرجاع العباد إلى الله سبحانه وتعالى الذي هو أمنيتهم ومأمولهم الواقعي فلا يطلب العبد من ربِّه شيئاً سوى نفسَه فهو يريد كل البهاء240 وكل الجمال وكل الرحمة وكل النور وكل الأسماء فهو إذاً يطلب الله سبحانه ويريد أن يرجع إليه:
{ إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى }241
ويلقاه ويسرَّ ويأنس به :
{ يا سرور العارفين يا منى المحبين يا أنيس المريدين يا حبيب التوابين يا رازق المقلين يا رجاء المذنبين يا قرة عين242 العابدين }243{ يا سرور الأرواح ويا منتهى غاية الأفراح }244
ولا دواء للنفوس إلاّ اسمه ولا شفاء للقلوب إلاّ ذكره :
{ يا من اسمه دواء وذكره شفاء }245
هل الدين إلاّ الحب
فاتَّضح مما تلونا عليك أنَّ الدين ليس هو الشريعة فحسب أعني القانون الصادر من الشرع المقدس المشتمل على الأحكام المختلفة من الوجوب و الحرمة و الاستحباب و الكراهة و الإباحة ! فليس الدين هو الصلاة ! و الزكاة !وسائر العبادات وليس هو المعاملة كما تصوَّر البعض! بل كلُّ تلك الأمور هي ظاهر الدين وأمّا باطنه وروحه هو العشق بالله تعالى و التقرُّب إليه .
و قد أكَّدت الأحاديث الكثيرة على ذلك نذكر بعضها ففي الكافي:
{ عن على عن أبيه عن حماد عن حريز عن فضيل بن يسار قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الحبّ و البغض أَمِنْ الإيمان هو ؟ فقال : و هل الإيمان إلاّ الحبّ و البغض ! ثمَّ تلا هذه الآية { حبَّب إليكم الإيمان و زيَّنَه في قلوبكم وكرَّه إليكم الكفر و الفسوق و العصيان أولئك هم الراشدون }246
و في حديث آخر عن الحسين بن سيف قال:
{ سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول لا يمحّض رجلٌ الإيمانَ بالله حتى يكون الله أحبَّ إليه من نفسه و أبيه و أمِّه و ولده وأهله و ماله و من الناس كلّهم }247.
ومن هنا تعرف السر في أهميَّة النيَّة قربةً إلى الله في العبادات وحتى في المعاملات وأيضاً تعرف الدور التخريبي الفضيع للرياء و العُجب في العبادات وقد وردت أحاديث كثيرة في أثر داء الرياء ففي الكافي:
{ عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن عثمان بن عيسى عن علي بن سالم قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : قال الله عز و جلَّ أنا خير شريك من أشرك معي غيري في عملٍ عمِله لم أقبلْه إلاّ ما كان لي خالصا }248
تهذيب النفــس
إن القلب رغم صغر حجمه المادِّي لكنَّه هو المنشأ لجميع الخيرات أو الشرور ، و من الواضح أنَّنا لا نقصد من القلب حينئذٍ هو العضو الجسماني بل ننظر إلى الجانب الآخر منه وهو المرتبط بروح الإنسان ، ونظراً إلى هذا الجانب قد وصفه القرآن الكريم بصفات حسنة و سيِّئة ، فأهم الصفات الحسنة للقلب هي:
{ الربط249 و الاطمئنان و الوجل250 و الإخبات251 و الهداية و اللين و السلامة و التآلف252 و الرغبة و الطهارة و الإيمان و الرأفة و الرحمة و الخشوع و التقوى و الحميَّة253 والسكينة254 والفقه }
كما أنَّ أهم الصفات السيِّئة له :
{ المرض و الرين255 و الطبع256 و الغلّ257 و القساوة و الكفر و الفسوق و العصيان و الكنان258 و النفاق و القفل و الاشمئزاز259 و الريب260 و العمى و اللهو و الغيظ261 و الختم و الغلظة و الحسرة و الزيغ262 و الإثم }
ومن الطبيعي أن نتساءل ونقول:
ما هي الوسيلة التِّي يمكننا من خلالها أن نُصلح أنفسنا و نُهذِّب قلوبنا من الأرجاس والأنجاس وأن نبعدها ونطهِّرها من الأقذار لتتلبَّس بالحسنات والخيرات ؟
هناك طرق مختلفة لذلك أهمُّها:
سبيل العقل
وهي الطريقة السقراطية ، يقول أصحاب هذا الأسلوب:
إنَّ الطريق الوحيد لتهذيب النفس هو الاعتماد على العقل و التدبير ، فينبغي للإنسان أن يتعرف على فوائد التزكية و يؤمن بها وأيضاً يعرف مَضرّات إهمالها ، ثم و بالاستعانة بالعقل يعثر على الصفات الذميمة فيبدأ في قلع جذورها واحدة تلو الأخرى إلى أن يتخلَّص منها تماماً.
ومَثَله كمثل الزارع الذي يعثر على النبت غير الصالح والأعشاب المضرَّة فيقلعها من مزرعته أو كمن يَفصل ذرّات التراب من حبّات الحنطة ، فينبغي للإنسان أن يتأمَّل في نفسه و يبحث فيها لغرض العثور على المساوئ و المفاسد الخُلقية ثم يبدأ بقمعها و إزالتها واحدةً واحدةً حتَّى يتخلَّص منها جميعاً .
تلاحظ أنَّ الفيلسوف يريد أن يحقق إصلاحَ النفس من خلال المعادلات العقلية ومعرفة الخير والشرّ فيقول مثلاً:
إنَّ العفة و القناعة تؤديان إلى عزة الإنسان و بروز شخصيته لدى الناس و الطمع يجرُّه إلى الذلِّ و الهوان ، أو أن العلم يورث القدرة في الإنسان وهو مصباح يميِّز به الطريق السويِّ من الطريق المعوج ، أو أن الكبر من الأمراض الروحيَّة التِّي تنتج منه عواقب سيِّئة للفرد والمجتمع ، و الرياء يورث الشرك و هكذا بالنسبة إلى سائر الصفات الحسنة و السيئَّة ، ثمَّ يبدأ بقمع الشرور و تثبيت الحسنات ، فَمثَل هذا الإنسان مَثَلُ من أراد فصلَ بُرادةِ الحديد المختلَط بالتراب وذلك بواسطة يديه ، فكم ينبغي أن يعاني من تعبٍ ومشقَّة كي ينجح في إزالة جميع حُبيبات الحديد المتفرِّقة في التراب ، و بالأخير سوف لن يتمكَّن من ذلك بل لا مُحالةَ سوف يتبقى شيء من البرادة في التراب قطعاً .
فإذاً هذا الأسلوب يتطلَّب الصبر الجميل و الاستقامة المتواصلة ، ومن الصعب أن يُوَّفق الإنسان للوصول لذلك المستوى بحيث يمكنه تصفية نفسه من العيوب تمامًا فهو إذاً أسلوبٌ جيِّدٌ ولكن الكلام كلّ الكلام في مستوى جودته عندما نقايسه بالأسلوب الثاني .
سبيل العشق و الحبّ
وهو سبيل العرفاء وهذا الأسلوب هو الأسرعُ تأثيراً والأقلُّ خَطراً وهو سبيل الحبّ والعشق و الذوبان في المعشوق من أجل تطهير النفس م العيوب .
من نحبّ ؟
قد اتَّضح لك أنَّ المحبوب بالأصالة هو الله سبحانه لا غيره فكلُّ ما يُطلَب من دون الله مهما كان مستواه فهو موهوم و التوجه إليه يورث الشرك بالله تعالى ، و ذلك لأنَّ القلب هو محلّ الحبّ و لا يمتلك الإنسان إلاّ قلباً واحداً قال تعالى :
{ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ }263.
وقال الصادق عليه السلام :
{ القلبُ حرم الله فلا تُسكن حرمَ الله غير الله }264.
ولكن هل بإمكاننا أن نتعلَّق بالله سبحانه و نرتبط به بصورةٍ مباشرة ؟ هذا ما سنجيب عنه فنقول:
مشيئة الله سبحانه
إنَّ الله سبحانه أراد فخلق ، والمخلوقات ليست هي إلاّ فيوضات الله سبحانه وتعالى265، فعندما أفاض الله الوجود على الأشياء صارت كلُّ واحدة منها مظهراً من إفاضاته و تجلِّياً من تجلِّياته ، فبعضها مظهر الجمال وبعضها مظهر الكرم ، وبعضها مظهر اللطف وهكذا.
ولكن المهمّ أنَّ الله شاء فخلق فأوَّل مظهر من مظاهر الله هو المشيئة الإلهيَّة266 التِّي يُطلق عليها الأمر حيث يقول :
{ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ } 267.
فبالمشيئة خُلقت الأشياء ولأجلها سُمِّيَت الأشياءُ أشياءً ، فالرابط الأوَّل بين النور المطلق وسائر الأنوار هو النور الأوَّل ، والواسطة بين الله وسائر العقول هو العقل الأوَّل وهو نور محمد وآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين ، ومن خلالهم خلقت الأشياء فهم أولوا الأمر وبهم فتح الله فجميع المخلوقات مستهلكة في المشيئة التي هي مقام التدلي :
{ دَنَا فَتَدَلَّى }268
قال الإمام قدِّس سرُّه:
{ وهو المشيئة المطلقة المعبَّر عنها بالفيض المقدَّس و الرحمة الواسعة والاسم الأعظم والولاية المطلقة المحمدية أو المقام العلوي وهو اللواء الذي آدم عليه السلام ومن دونه تحته والمشار إليه بقوله ( كنت نبيا وآدم بين الماء والطين أو بين الجسد والروح) أي لا روح ولا جسد ليس شيء وهو العروة الوثقى والحبل الممدود بين سماء الإلهية وأراضي الخلقية وفي دعاء الندبة قوله عليه السلام:(أين باب الله الذي منه يؤتى أين وجه الله الذي يتوجه إليه الأولياء أين السبب المتصل بين الأرض والسماء) }269
وتفصيل ذلك يُطلب في محلِّه.
وعلى هذا الأساس ينقسم المحبُّون لله إلى طائفتين هما:
1-المحبُّون غير المحبوبين
فهؤلاء لا تخلو محبتهم عن شوب أَلم فقدٍ وحزنِ فراقٍ .
2-المحبُّون المحبوبون
وهم الذين وصلوا إلى محبوبهم فصاروا أحبّاء الله وهم محمَّد وآل محمَّد والمخلَصون من الأنبياء و الأولياء ولذلك ورد في زيارة الرسول صلى الله عليه وآله:
{ السلام عليك يا حبيب الله }270
ومن هنا يختلف سلوك الطائفة الأولى عن الطائفة الثانية ، فالمحبوبون قد وصلوا إليه تعالى من غير معلِّمٍ ومُرشدٍ بل العناية الأزلية271 والهداية الإلهيَّة قد شملتهم يقول سبحانه:
{ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى }272
وفي قرب الإسناد:
{ عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى والسابقون السابقون أولئك المقربون قال نحن السابقون و نحن الآخرون }273
واليهم أشار بقوله تعالى :
{ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا }274
قال الحكيم السبزواري:
{ وفيهم قال أمير المؤمنين عليه السلام: (إنَّ للهِ تعالى شرابا لأوليائه إذا شربوا سكروا و إذا سكروا طابوا و إذا طابوا ذابوا و إذا ذابوا خلصوا و إذا خلصوا طلبوا وإذا طلبوا وجدوا و إذا وجدوا وصلوا و إذا وصلوا اتَّصلوا و إذا اتَّصلوا لا فرق بينهم و بين حبيبهم) وهو إشارة إلى شراب المحبَّة بكاس الشوق والإرادة في عالم الأرواح قبل الأجساد حتى لا يبقى بينهم وبينه مغايرة ولا من إنِّيّاتهم275 بقيَّة وتكون المحبة والمحبّ والمحبوب شيئاً واحداً }
وأمّا المحبُّون فينبغي لهم أن يسلكوا الطريق بالترويض والمجاهدة وبالزهد والتقوى وهم أصحاب اليمين .
العشق بمن يحبُّه الله هو العشق بالله
فينبغي أن يتعرَّفَ الإنسانُ على وليِّ الله الأعظم و يُربِطُ نفسه به و يعقد قلبه بولائه ومن ثمَّ سوف يتمكَّن من تصفيةِ نفسه من جملة العيوب والشوائب من دون عناءٍ كبير.
والسرُّ في ذلك أنَّ التصفية الروحيَّة ليست هي إلاّ ارتباط الإنسان بالله والتخلُّق بأخلاقه تعالى حيث أُمرنا أن نتخلَّق بأخلاق الله
{ قال عليه السلام تخلَّقوا بأخلاقِ الله }276
ومن هنا قال عرَّفوا الفلسفة بأنَّه عبارةٌ عن:
{ التشبُّهِ بالإله بقدر الطاقةِ البشريَّة }
و يعنُون بذلك تقليل التعلُّقات و إضافة الخيرات و الحسنات، فاكتساب الطهارة و الكرم و الجمال و العلم و غيرها من الصفات الإلهيَّة يعني الارتباط بالطهارة المطلقة و الكرم و الجمال و العلم المطلق ، و كلُّ هذه الصفات بالمستوى الرفيع متوفِّرة في مظهر المشيئة الإلهيَّة و هم محمَّد و آل محمَّد عليهم السلام و هم الذين يحبُّهم الله و يحبُّونه حيث اتصافهم بصفات محبوب الله فإنّ الله:
{ يحبُّ المقسطين } { يحبُّ المتقين }{ يحبُّ المتوكلين } { يحبُّ المحسنين } { يحبُّ التوّابين ويحبُّ المتطهِّرين }{ يحبُّ الصابرين } و{ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ }277
فهم مظهر هذه الصفات ومن يريد أن يكتسب حبَّ الله باتِّصافه بها ينبغي له أن يُربط نفسه بهم عليهم السلام فالله لا يحب المتطهرين إلاّ لذوبانهم في الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً .
ومثَل هذا الأسلوب كمثل من يستعين بمغناطيسٍ قويٍ لجذب برادة الحديد المختلط بالتراب ، فبمجردِ امراره على التراب سوف تجتمع جميعُ ذرات الحديد حول المغناطيس من غير أن تتبقى حتَّى ذرَّة واحدة منها في فكم فرقاً بينه وبين الذي يخرج البرادة حبَّة حبَّة كما مرَّ.
فقوةُ المحبَّة و الإرادة بالكُمَّلين و هم محمَّد و آل محمَّد عليهم السلام هي المغناطيس الذي يجذب الصفات الرديئة و يعزلَها عن الصفات الحسنة فيهذِّب الأخلاق ويُصفِّيه من الشوائب الدخيلة ويبعد الروح عن كلِّ ما سوى الله تعالى.
و على ضوئه يمكن الوصول إلى حقيقة ما في كثير من الكلمات المأثورة عنهم عليهم السلام كما في زيارة الجامعة الكبيرة :
{ وجعل صلواتنا عليكم و ما خصَّنا به من ولايتكم طيباً لخلقنا و طهارةً لأنفسنا و تزكيةً لنا و كفارةً لذنوبنا }278.
وفي زيارة أخرى :
{ و جعل ما خصَّنا به من معرفتكم تطهيراً لذنوبنا و تزكيةً لأنفسنا }279.
وقد ورد في الحديث :
{ عن أبي جعفر عليه السلام في قوله :وينزِّلُ من السماء ماءً ليطهِّركم به و يُذهب عنكم رجز الشيطان و ليربط على قلوبكم و يثبِّت به الأقدام قال: وأمّا قوله ليطهِّركم به فذلك عليُّ بن أبي طالب عليه السلام يطهِّر الله به قلبَ من والاه و أمّا قوله : و يذهب عنكم رجز الشيطان فإنه يعني من والى عليّ بن أبي طالب أذهب الله عنه الرجس و قوّاه عليه }280
ولا يخفى أنَّ ما ذكره عليه السلام ليس بعيداً عن ظاهر الآية المباركة بل كلُّ من يتأمَّل فيها بعيداً عن العصبيَّة سوف يذعن بذلك ، لأنَّه لا توجد مناسبة كبيرة بين الماء النازل من السماء (لو أريد منه الماء المادي ) و بين ذهاب رجز الشيطان وربط القلوب وتثبيت الأقدام التِّي هي أمور معنويَّة ، فما هو رجز الشيطان ؟ هل المقصود منه هو الوسخ أو الميكروب !! ولو فُسِّر الرجس بذلك فما هو المراد من ربط القلوب وتثبيت الأقدام ؟ وهل للماء هذان المفعولان ؟
فلا محالة ينبغي أن نلتمس معنىً آخر للآية وهو ما ذكره الإمام الباقر عليه السلام الذي يمثِّل الثقل الكبير من الثقلين الذين أشار إليهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم في الحديث المتواتر عنه .
وفي الكافي :
{ على بن محمد عن سهل بن زياد عن موسى بن القاسم بن معاوية البجلي عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام في قول الله عز و جل قل أ رأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماءٍ مَعين قال : إذا غاب عنكم إمامكم فمن يأتيكم بإمام جديد }281
فالالتجاء إلى من خصَّهم الله بالطهارة يؤدِّي إلى تطهير النفوس وتزكية القلوب من الأنجاس و الأرجاس ، ومحبَّتهم سوف تُسلِّطُ الضَوءَ على جميع أركانِ وجود المحبِّ و تَصبغُه صبغةَ المحبوب .
فإذاً ينبغي لكل من هو بصدد إصلاح نفسه وتهذيبها أن يودَّ الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً ، وهذا الوُّد مدرسةٌ متكاملةٌ وهو منشأ جميع الخيرات والصفات الحسنة كالصبر والإيثار والإخلاص والتواضع والسكينة والشجاعة وغيرها بل حتَّى العبادات العمليَّة .
ومن هذا المنطلق ورد في الأحاديث أنَّ الدين ليس هو إلاّ الحبّ فكلُّ متهاون في عمل الخير بعد أن ينطلق من منطلق الحب و العشق سوف يكتسب نشاطاً لا مثيل له و سوف يكتسب عزماً يجعله قوياً و مُصراً على الاستباق في الخيرات.
والتأريخ الإسلامي خير شاهد على ذلك ، نذكر نموذجاً من تلك المواقف العظيمة التي صدرت من أحد العشّاق وهو أبو ذرٍ الغفاري :
{ كان أبو ذر تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلَّم : في غزوه تبوك ثلاثة أيام و ذلك إن جَمَلَه كان أعجف282 فلحق بعد ثلاثة أيام و وقف عليه جمله في بعض الطريق فتركه و حمل ثيابه على ظهره فلما ارتفع النهار نظر المسلمون إلى شخصٍ مقبلٍ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلَّم : كأَنَّ أبا ذرٍ فقالوا: هو أبو ذر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلَّم : أدركوه بالماء فإنَّه عطشان فأدركوه بالماء و وافى أبو ذرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم و معه إداوة فيها ماء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم : يا أبا ذر معك ماء و عطشت فقال نعم يا رسول الله بأبي أنت و أمِّي انتهيت إلى صخرةٍ و عليها ماءُ السماء فذقتُه فإذا هو عذبٌ باردٌ فقلت لا أشربه حتى يشربه حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يا أبا ذر رحمك الله تعيش وحدك و تموت وحدك و تبعث وحدك و تدخل الجنة وحدك يسعد بك قوم من أهل العراق يتولَّون غسلك و تجهيزك و الصلاة عليك و دفنك }283
فاتبعوني يحببكم الله
ثمَّ إنَّ التمسك بأهل البيت عليهم السلام هو تحقيق مصداقيَّة الحبّ في الخارج ، ومن أبرز مميَّزات المحبِّ هو تنسيق حركاته وسكناته مع محبوبه وهذا يعني تبعيَّته في جميع الأمور وجعلَه أسوة في اتخاذ المواقف إيجابياً وسلبياً قال تعالى:
{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }284.
فلا نتيجة عظيمة في حبِّ الإنسان لله بل لا بد أن يصل الحب إلى مستوى يكون الإنسان محبوباً لله أيضاً .
وقد أكَّدت أحاديثنا على أنَّ التمسك بهم عليهم السلام لا يتحقق إلاّ من خلال العمل المستمر والسعي المتواصل :
{ عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة و أنا حبل الله المتين و أنا عروة285 الله الوثقى }286
يقول سبحانه و تعالى :
{ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ.. }287
فالآية الكريمة تشير إلى ذلك حيث أنَّ الحبل له طرفان طرَفٌ إلهيّ وطَرفٌ خَلقيّ:
{ عن المفضل قال سمعت مولاي الصادق عليه السلام يقول كان فيما ناجى الله عزَّ و جلّ به موسى بن عمران عليه السلام أن قال له : يا ابن عمران كذب من زعم انه يحبُّني فإذا جنَّه الليل نام عنِّي أليس كلّ محبٍّ يحبّ خلوة حبيبه ، ها أنا ذا يا ابن عمران مطلع على أحبائي إذا جنَّهم الليل حولت أبصارهم من قلوبهم و مثلت عقوبتي بين أعينهم يخاطبوني عن المشاهدة و يكلموني عن الحضور ، يا ابن عمران هب لي من قلبك الخشوع و من بدنك الخضوع و من عينيك الدموع في ظُلم الليل و ادعني فإنَّك تجدني قريباً مجيباً }288
ومن أهمِّ صفات المؤمن الذي يحبُّ الله ويحبُّه الله هو ما ورد في الآية الآتية:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }289.
فالتواضع للمؤمنين والتكبر على الكافرين والجهاد في سبيل الله هي أبرز مصاديقهم .
ثمَّ: إنَّ من الجدير بالذكر ما ورد في دعاء الصباح:
{ أصبحت اللهم معتصما بذمامك290 المنيع...بجدار حصين الإخلاص في الاعتراف بحقهم و التمسك بحبلهم جميعاً موقناً أنّ الحق لهم و معهم و فيهم و بهم أُوالي من والوا و أجانب من جانبوا فأعذني اللهم بهم من شرِّ كلّ ما اتقيه }291
فالإعتصام بذمام الله لا يتحقق إلاّ بالتمسك بحبلهم جميعاً.
(6)
المطهَّرون عند الله
في بداية الحديث ينبغي لنا أن نذكر نص الآيات المباركة الواردة قبل آية التطهير وبعدها ، وأيضاً عدداً من مئات الأحاديث الواردة في هذا المجال.
وأماّ الآيات:
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً ، وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ، يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ، وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ، يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا ، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ، وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا }292
فآية التطهير هي من أهم الآيات الدالّة على الطهارة المطلقة والشاملة لأهل البيت عليهم السلام قال تعالى :
{ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } 293 .
نحن لا نريد أن نذكر ما تحدَّث عنه الآخرون حول هذه الآية ، ولكن نحاول أن نتطرّق إلى جوانب أخرى في هذه الآية المباركة أو بالأحرى في مقطع منها :
فقبل الغور في الحديث لا بأس بأن نشير إشارة خاطفة إلى بعض شئون هذه الآية فنقول:
شأن نزولها:
وقد وردت في شأن نزول هذه الآية روايات كثيرة تزيد على السبعين ، وما ورد منها من طرق أهل السنة أكثر مما ورد منها من طرقنا ، فقد أخرجوها بطرق كثيرة عن أم سلمة و عائشة و أبي سعيد الخدري و سعد و وائلة بن الأسقع و أبي الحمراء و ابن عباس و ثوبان مولى النبي و عبد الله بن جعفر و علي و الحسن بن علي عليهما السلام ، في قرابة من أربعين طريقاً.
و روتها الشيعة عن علي و السجاد و الباقر و الصادق و الرضا عليهم السلام و أيضاً أم سلمة و أبي ذر و أبي ليلى و أبي الأسود الدؤلي و عمرو بن ميمون الأودي و سعد بن أبي و قاص في بضع و ثلاثين طريقاً.
وإليك نصّ إحدى تلك الأحاديث الواردة عن طريقنا :
{ أبو عمرو عن ابن عقدة عن أحمد بن يحيى عن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي إسحاق عن عبد الله بن معين مولى أم سلمه عن أم سلمه زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم إنها قالت : نزلت هذه الآية في بيتها إنَّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا ، أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أن أرسل إلى علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام فلما أتوه اعتنق علياً بيمينه و الحسنَ بشماله و الحسينَ على بطنه و فاطمة عند رجليه ثم قال اللهم هؤلاء أهلي و عثرتي فاذهب عنهم الرجس و طهِّرهم تطهيراً ، قالها ثلاث مرات قلت: فأنا يا رسول الله فقال :إنَّك على خير إن شاء الله }294
{ و روي أبو سعيد الخدري قال : لمّا نزلت هذه الآية كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يأتي باب فاطمة و علي تسعة أشهر وقت كلّ صلاة فيقول : الصلاة يرحمكم الله إنَّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس و يطهِّركم تطهيراً.. }295
و في كنز العمال :
{ محمد بن العباس عن احمد بن محمد بن سعيد عن الحسن بن على بن بزيع عن إسماعيل بن بشار الهاشمي عن قتيبة بن محمد الأعشى عن هاشم بن البريد عن زيد بن عليٍّ عن أبيه عن جدِّه عليه السلام قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله في بيت أمّ سلمه فأتى بحريرة فدعا علياً و فاطمة و الحسن والحسين عليه السلام فأكلوا منها ، ثم جلَّل عليهم كساءً خيبرياً ، ثم قال : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيراً . فقالت أم سلمه و أنا معهم يا رسول الله ؟ قال : أنت إلى خير }296
{ عن ابن عيسى عن ابن فضال عن أبي جميلة عن محمد الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله عزّ و جل "ربّ اغفر لي و لوالدي و لمن دخل بيتي مؤمناً " يعني الولاية ، من دخل في الولاية دخل في بيت الأنبياء . و قوله "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيراً "يعنى الأئمة عليه السلام و ولايتهم ، من دخل فيها دخل في بيت النبي صلى الله عليه وآله }297
قال العلاّمة الطباطبائي أعلى الله مقامه:
((فإن قيل: إن الروايات إنما تدلُّ على شمول الآية لعلي و فاطمة والحسنين عليهم السلام و لا ينافي ذلك شمولها لأزواج النبي كما يفيده وقوع الآية في سياق خطابهن . قلنا: إن كثيراً من هذه الروايات و خاصّة ما روي عن أم سلمة - وفي بيتها نزلت الآية - تصرح باختصاصها بهم و عدم شمولها لأزواج النبي))
ثمّ قال :
((فإن قيل: هذا مدفوع بنص الكتاب على شمولها لهن ، كوقوع الآية في سياق خطابهن . قلنا: إنما الشأن كلّ الشأن في اتصال الآية بما قبلها من الآيات فهذه الأحاديث على كثرتها البالغة ناصَّة في نزول الآية وحدها ، و لم يرد حتى في رواية واحدة نزول هذه الآية في ضمن آيات نساء النبي ، ولا ذكره أحد حتّى القائل باختصاص الآية بأزواج النبي كما ينسب إلى عكرمة و عروة ، فالآية لم تكن بحسب النزول جزء اً من آيات نساء النبي ولا متَّصلة بها و إنما وضعت بينها إمّا بأمرٍ من النبي أو عند التأليف بعد الرحلة ، و يؤيده أن آية " وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ "298 على انسجامها و اتصالها لو قدِّر ارتفاع آية التطهير من بين جُملها . فموقع آية التطهير من آية و قرن في بيوتكن كموقع آية اليوم يئس الذين كفروا من آية محرمات الأكل من سورة المائدة )).
أقول:
إنّ آية التطهير هي جزء من آية 33 من سورة الأحزاب وهي:
{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } 299
وهذا الأمر لا يفرق بين ما إذا كان النبي صلى الله عليه وآله قد أمر بوضعها بينها ، أو أنزلت كذلك وهو الأرجح.
فهناك ارتباط بين صدر الآية وذيلها لولاه لما ظهرت عظمة الآية (أعني آية التطهير) ، والارتباط لا ينحصر بالصدر مع الذيل فحسب ، بل يبدأ من قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ } 300.
إلى أن ينتهي بقوله تعالى:
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا } 301.
ولإثبات هذا المدعى لابدّ من الحديث حول أحد المعاجز العظيمة القرآنيَّة:
فأقول:
إن الملاحظ في المجتمع وعلى مستوى القادة أو الشخصيات المطاعة ، و الخطباء و الدعاة و الوعّاظ ، أنهَّم يتَّبعون أساليب تربوية مختلفةً تستهدف الوصول إلى مقاصد معيّنة ، وهذه الطرق غالباً ما تكون مباشرة بمعنى الأمر والنهي المباشر ، وربما يذكرون نماذجَ من قصص طريفةً أو أمثلة تمثّل شواهد على المدّعى .
وهذا النمط من البيان وإن كانت له إيجابيّاته شيئاً ما ، إلاّ أن سلبياته مضاعفةٌ وذلك لأنه يواجه الإنسان نفسَه مباشرةً ، والأغلبُ الأعمُّ من الناس أياً كان له تعلقٌ شديد وارتباط وثيق بنفسه ، و يصعب عليه تقبّل النصيحة من الآخرين .
والإسلام بدوره ، المدرسةٌ المستقلةُ والمتكاملة في كافة جوانبه قد اتَّبع أساليب مميَّزة في مجال الإرشاد والتبليغ ، وهنا لسنا بصدد الحديث عن تلك الأساليب سواء من زاوية الإسلام أو المدارس الأخرى 302 ، بل نريد بيان أحدِ الجوانب التربوية المميَّزة في القرآن الكريم الذي هو في الحقيقة أعظم معجزة من معاجزه ، ذلك لأنه يتعلق بأبرز غاية من غاياته ، ألا وهي الهداية (هدىً للمتقين ، هدىً للناس) التي هي موضوع هذا الكتاب السماوي والأساس لجميع أبحاثه .
فجميع توجيهات القرآن تنظر في هداية البشرية بأسلوب وآخر ، فجميع القصص والأمثال وو... تنصبُّ في مجرى واحد وهي الهداية ، بطريقه لا مثيل لها .
فالقرآن نراه يُربط قضيّةً بأخرى بحيث يتصور الإنسان أنه لا علاقة بينهما والحال أنّ العلاقة بينهما وثيقة إلى أبعد ممّا يتصوَّر .
فالإنسان يشرع في تلاوة قصة قرآنية فلا يري نفسه إلاّ وقد انغمر في وادي التربية والهداية وهذا الأمر غير منحصر بنوع واحد بل يشتمل على أنواعٍ شتّى لا تُعدّ ولا تحصى ، تفتقر إلى دراسة تفصيليّة ليس هنا محلّها . ولغرض توضيح ما نحن بصدده نذكر أمثلة ثلاثة:
المثال الأوّل :
قال تعالى في حديثه عن شئون الحياة الدنيوية :
{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }303
فالأمر وإن كان يرتبط بالوسائل المادية التي يقصد بها السبيل ولكنَّه تعالى بأدنى مناسبة يقول :
{ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ }304
ومن الواضح أن السبيل هاهنا إشارة إلى السبيل المعنوي و الهداية النفسانية ، وهذا كقوله تعالى :
{ يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }305
المثال الثاني:
عند حكاية حالة إبراهيم مع قومه قال سبحانه :
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ، إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ، قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ، قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ، قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ، قَالَ أَ فَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ، أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ ، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِي ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِي ، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ، رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ، وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ ، وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ، وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ ، وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ، يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ ، إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ، وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ، وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } 306
وأنت تلاحظ أنّ بداية الحديث كان حول قضيّة خارجية تتعلّق بمواجهة إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه ، وقد استخدم إبراهيم الحكمة في هذا المجال ، ولكن القوم توسّلوا في الجواب بأمرٍ موهوم . ثمّ إنه بدأ بمخاطبتهم ثانية بنحو آخر وذلك بتعريف ربّه سبحانه وتعالى ، و في هذه المرّة انقلب الخطاب إلى دعاء ، وهكذا استمرّ إلى أن وصل إلى مستوىً آخر وهو التوجّه إلى الآخرة ، وفي النهاية تمحّض الحديث في بيان وتوصيف الجنّة والنار.
المثال الثالث:
قال تعالى في بيان المستفسرين عن عدد أصحاب الكهف :
{ سَيَقُولُونَ ثَلاَثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِرًا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ، وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ، وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا } 307.
والحديث عن أصحاب الكهف حديثٌ جميل وشيِّق للغاية ، خصوصاً في المرحلة الأخيرة من القصّة وهي مرحلة الاستنتاج ، فالقارئ للقرآن الكريم وهو منغمر في القصّة بطبيعته يريد أن يعرف عدد أصحاب الكهف هل هم ثلاثة ، أو خمسة ، أو سبعة ؟ لا يرى نفسه إلاّ وقد دخلَ في عالمٍ آخر يختلف تمامًا عن عالمه الأوَّل و هو عالم المعنى و تهذيب النفس ، حيث يرشده ربّه بأن لا يقول لشيء إنّي فاعل ذلك غداً إلاّ أن يشاء الله ، هذا والحال أنَّ القصّة لم تنتهِ بعدُ بل هي مستمرّة . فالارتباط الموجود بين تلك القضيّة الأخلاقيّة وهذه القصّة ليس من نوع الارتباط المباشر ، بل هو ارتباط غير مباشر يتعلَّق بالجانب الهدائي للقرآن الكريم ، و من الطببيعي أنّ هذا النمط من الطرح للمسائل الأخلاقيّة يكون أشد وقعاً في النفوس .
الإعلام الحديث
إنّ الملاحظ اليوم على مستوى الإعلام الحديث سيما النمط الغربي منه أنّه من خلال الأفلام المهيّجة وفي وتحديداً في المواقع الحسّاسة منها تُدرج مشاهد خاصة لا علاقة لها بالذي سبقها أصلاً ، ولكنَّ لم تُعرض إلا لأجل أن يتأثَّر المشاهد بها حال انشغاله و انشداده بأمرٍ آخرَ انقادت إليه نفسُه ، ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك الإنشداد على ما أدرج مهما كان ذلك الشيء . فقد تبيَّن أنَّ هناك علاقة بين القضيتين ولو لم تكن بنحو مباشر ، وربّما يكون الغرض المهم من العرض إنّما هو ذلك الأمر الطارئ ليس إلاّ وجميع الأمور المحيطة به مع كثرتها ما هي إلا ملابسات و تغطيات .
وهذا الأمر يسري في عرض الأخبار ، فياترى ما هي العلاقة بين عرض الأخبار وبين الدعاية التّي تبثّ من خلالها ؟‍‍‍ و هكذا الأمر بالنسبة إلى الإعلانات المنصوبة في ميادين الألعاب بل على صدور اللاعبين .
وهذا النوع من الإعلام له آثاره العظيمة سلبيّة كانت أو إيجابيّة لأنّ طبيعة النفس الإنسانيّة عندما تواجه حادثة ما ، لا يمكن أن تنطبع فيها تلك الحادثة وحدها فحسب بل سوف ينطبع كلّ أمر له أقل المساس بتلك الحادثة وهذا الأمر هو الذي يسمّى "بتداعي المعاني" وهو من أهم المسائل المبيّنة في علم النفس .

الإنترنت والإعلام
وفي السنوات الأخيرة نلاحظ أنَّ شبكة الإنترنت قد ارتبطت بأكثر دول العالم عن طريق الحاسب الآلي ، فنحن نلاحظ فيها هذا الأسلوب من الإعلام بشكل واضح ، فالمستخدم الذي يريد البحث عن موضوع (البترول) مثلاً نراه يواجه مواضيع أخرى غير مقصودة بالذات ، بل لم يكن يتصوَّر الورود فيها ، فيرى نفسه ومن غير شعور وقعَ في عالم السيّارات وقرأ إعلاناً عنها وبمجرَّد أن ينتهي من القراءة أو في ضمنها ، يواجه موضوعاً آخر متعلِّقا بأحد البرامج للحاسب الآلي وهكذا يخوض في مجالات متنوِّعة من غير قصدٍ وإرادة ، بل ربَّما يكون المحور لجميع تلك القضايا أمرٌ واحدٌ هو المقصود بالذات للمشرفين على الشبكة . و غالباً ما يكون أمر سلبي يُستهدف منه انحراف المجتمع عن الله وإشغاله بأمور الدنيا لأجل استعماره ونهب ثرواته .

إستغلال المناسبات
وأبرز من هذا النمط من الإعلام وألطف منه هو الإستفادة من المناسبات البسيطة لعرض ما هو الأهم كما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أنّه سُئل عن الخاتم قال:
(( العقيق فلا تعقّوا الوالدين ))
فما هي المناسبة بين العقيق الذي هو نوعٌ من الحجر و بين عقوق الوالدين الذي هو من المفاهيم الأخلاقية ؟
الجواب:
أنَّه ليس بينهما أيُّة مناسبة من ناحية معنوية أصلا ، إلاّ أن هناك تشابه لفظي قد استغله الرسول ليضرب على الوتر الحسّاس وينبِّه السائل إلى خطورة عقوق الوالدين ،
فانظر إلى لطافة الأسلوب لتعرف أن الإنسان الهادي يكون جميع كلامه منصباً في الهداية.
و هذه الظاهرة الجميلة كثيراً ما نشاهدها في كلمات المعصومين عليهم السلام خصوصا عندما يسأل عن حالهم "كيف أصحبت" أو "كيف أمسيت" والجواب الطبيعي لهذا السؤال هو بخير و الحمد لله و لكننا نشاهد أئمتنا لا يكتفون بذلك بل يستفيدون من السؤال لطرح مفاهيم أخرى أخلاقية أو اجتماعية أو غيرها و نحن في هذا البحث نذكر أمثلة مختصرة من مئات النماذج الموجودة في مصادرنا الروائية فنقول:
قيل لعيسى بن مريم عليه السلام كيف أصبحت يا روح الله قال أصبحت و ربِّي تبارك و تعالى من فوقي و النار أمامي و الموت في طلبي لا املك ما أرجو و لا أطيق دفع ما اكره فأيُّ فقير أفقر منِّي }308 . { عن ابن عباس قال قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم كيف أصبحت قال بخير من قوم لم يشهدوا جنازة و لم يعودوا مريضا }309. { دخلت أم سلمه على فاطمة عليها السلام فقالت لها كيف أصبحت عن ليلتك يا بنت رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلَّم" قالت أصبحت بين كمد و كرب فقد النبي و ظلم الوصي هتك و الله حجابه }310 . { قيل لفاطمة عليها السلام كيف أصبحت يا ابنة المصطفى قالت أصبحت عائفة لدنياكم قاليه لرجالكم لفظتهم بعد إن عجمتهم فأنا بين جهد و كرب }311 . { وقال المنهال للإمام زين العابدين عليه السلام كيف أمسيت يا بن رسول الله قال أمسينا كمثل بني إسرائيل في آل فرعون يذبحون أبناءهم و يستحيون نساءهم }312.
وأمّا القرآن الكريم :
فقد أعجز البشرية في هذا الأمر ، فمن المستحيل أن يُبيّن حوادث أو قضايا متسلسلة من غير أن تكون هناك علاقة وثيقة بينها ، ولكن الشأن كلّ الشأن فهم تلك العلاقة أو العلاقات ، وهذا ما يفتقر إلى الدقة و التأمّل و لا يصل إلى ذلك إلاّ من كان ذا حظ عظيم ، رزقنا الله تعالى ذلك .
فمن الضروري لمن أراد أن يغور في عمق القرآن أن يلاحظ تسلسل الآيات من بعدها الهدائي بعين البصيرة كي يمكنه ربط المواضيع المختلفة بعضها ببعض.
النبـــــــي ينبأ و يحذِر !
بعد تقديم هذه المقدَّمة سوف نبدأ في بيان السرّ في وجود آية التطهير في ضمن آيات نساء النبي فنقول :
إنَّ هناك ارتباط بين نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وبين أهل البيت عليهم السلام :
فهناك مواجهة ستقع بين أم المؤمنين وبين من يمثّل أهل البيت أعني عليّاً عليه السلام ، وهناك خروج من البيت بل من المدينة إلى البصرة على ولي أمر زمانها أمير المؤمنين عليه السلام وذلك لأجل القضاء على حكومته طبقاً لخطّة مركّزة بقيادتها و معاضدة طلحة و زبير وجماعة أخرين من أهل النفاق ، وهي فتنة مظلّة قد جرّت كثيراً من المسلمين السُذّج نحو الانحراف ولأهميتها وخطورتها نشاهد أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يخبر عنها ويحذّر عائشة من الوقوع فيها .313
((ففي الحديث من كتاب الخرائج روي أن النبي صلى الله عليه وآله قال : ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب فتنبحها كلاب الحوأب و روي أنه لما أقبلت عائشة مياه بنى عامر ليلاً نبحتها كلاب الحوأب فقالت : ما هذا الماء قالوا الحوأب قالت ما أظنني إلاّ راجعه ردوني إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : لنا ذات يوم كيف بإحداكن إذا نبح عليها كلاب الحوأب))314.
((الحسن بن محمد معنعنا عن أبي الطفيل - رضى الله عنه . قال : سمعت أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السلام - يقول : علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله و عائشة بنت أبي بكر أن أصحاب الجمل و أصحاب النهران ملعونون على لسان النبي صلى الله عليه وآل و لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط))315.
والجدير بالذكر ما ورد في حديث طويل بالنسبة إلى يوم الغدير :
((...و أمر علياً عليه السلام أن يجلس فى خيمة له بإزائه... ثمَّ أمر أزواجه و سائر نساء المؤمنين معه أن يدخلن عليه و يسلِّمن عليه بإمرة المؤمنين ففعلن...))316

القرآن يــــخبر عن الواقعة
والآن قد حان وقت الدخول في صلب الحديث أعني العلاقة بين آيات نساء النبي وآية التطهير فنقول:
أنّ الآية تبدأ بقوله تعالى :
{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى } 317
فالآية تخاطب نساء النبيّ وتريد منهنّ أن يقرن في بيوتهن ولا يخرجن من البيت في أي ظرفٍ من الظروف وليس القرّ بمعنى البقاء في البيت لأنّ هذا شأن كلّ امرأة ولا يختص بنساء النبي بل إنّما المراد الثبات المستمرّ كما تدلّ عليه الكلمة ، قال الإصفهاني في مفرداته:
((قرّ في مكانه يقرّ قراراً ، إذا ثبت ثبوتاً جامداً ، وأصله من القُرّ وهو البرد ، وهو يقتضي السكون ، والحرّ يقتضي الحركة))
وقد فهمت أم سلمة ذلك حيث تخاطب عائشة:
(( الاختصاص... عن عبد الحكم القتيبي عن أبي كبسة و يزيد بن رومان قالا لما اجتمعت عائشة على الخروج إلى البصرة أتت أم سلمة رضى الله عنها و كانت بمكة فقالت يا ابنة أبي أميه كنت كبيرة أمهات المؤمنين و كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقمؤ في بيتك و كان يقسم لنا في بيتك ...إنك سده بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم و بين أمته و حجابه مضروبة على حرمه و قد جمع القرآن ذيلك فلا تبذخيه و سكنى عقيراك فلا تضحى فلا تفضحي بها الله من وراء هذه الأمة...إلى آخر الحديث ))318.
ولتأكيد ذلك اتبعتها قوله تعالى ولا تبرجن وبالنسبة إلى هذه الكلمة أيضاً يقول صاحب المفردات:(تبرّجت المرأة : ظهرت من برجها أي قصرها }
وهذا شأن من يتزوّجها النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم لأنّها ليست كأحد من النساء في جوانب عديدة وذلك حيث أنّ محمّداً صلى الله عليه وآله وسلَّم . لم يكن كأحدٍ من الرجال فهو رسول الله وخاتم النبيين ، وما دام قد خضعت زوجة النبي لشروطه فلا بدّ لها من تحمّل جميع العواقب لها كما أنّه بإمكانها أن تكتسب جوانب روحيّة كبيرة من خلال معاشرتها مع النبي إن كان فيها الأرضية والشأنية كما كانت في خديجة الكبرى عليها السلام وفي غير هذه الصور فالأفضل لها أن تنفصل عن النبي فقد صرح الله تعالى بذلك
وقال:
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } 319.
وهذا شأن كلّ من تُحمَّل على عاتقه مسئوليّة الأمّة فتصرفاته وحالاته وارتباطاته ومعاملته مع الناس كلها تتّخذ صبغةً مميّزة وتتقيّد بقيودٍ و كلّ واحد أو شيءٍ له علاقة ما بتلك الشخصيّة يُتوقع منه نفس التوقُّعات المطلوبة من القائد.
هذا:
وكيف بالرسول الذي هو الأسوة الحسنة لجميع الأمّة بل لجميع المجتمعات على مرّ التاريخ فالأنظار كلّها متوجّهة إليه وكلّ حركاته وسكناته مترصّدة من قبل المجتمع عامّة والأعداء خاصة ، وهذا الأمر يسرى بالنسبة إلى أزواجه أيضاً فهنّ لسن كأحدٍ من النساء. والجدير بالذكر أنّ الله سبحانه عندمّا يخاطب نبيّه بقوله : يا أيهّا النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الله....يقول : يا نساء النبي لستنّ.. ولا يخاطبهنّ الله بصورةٍ مباشرة بل يريد من نبيّه أن يخاطبهنَّ والمفروض أن يقول صلي الله عليه وآله مخاطباً لنسائه (يا نسائي)أو(يا أزواجي).
ولكنّه صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول يا نساء النبي وهذا إن دلّ على شيءٍ فإنّما يدلّ على ما ذكرنا من أنّ الأمر يرجع إلى النبي كنبيٍّ وأزواجه كأزواج للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم .والحاصل أنّ هذه النصيحة بل هذا الأمر الواجب وهو(الاستقرار والجلوس الدائم في البيت) لم يُوجَّه إلى نساء النبي من غير دليل بل مضافاً إلى أنّ هذا الأمر ربّما كان مكراً إلهيّاً في قبال الماكرين الذين كانوا بصدد استغلال نساء النبي (خصوصاً اثنتان منهما) كذريعة للوصول إلى نواياهم وتوجيه أعمالهم ، مضافاً على هذا ، هناك أمرٌ أهمّ من ذلك سيقع في المستقبل وهو خروج أحد زوجات النبي أعني عائشة من البيت وهي تقود عسكراً لأجل محاربة وليّ أمر زمانها !
فكما أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم قد أنبأ عنها مشيراً إلى كلاب الحوأب فالقرآن الكريم أيضاً أشار إلى خروجها وحذّرها كلّ التحذير وأتمّ الحجّة عليها بقوله
{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى } 320.
والإخبار بالغيب -والغيب غير مختصّ بحوادث كونية (كزلزلة الساعة) أو عسكرية (كغلبة الروم) بل تشمل حالات فرديّة مصيريّة- أمرٌ متداولٌ في القرآن الكريم .
فنحن لو تأملنا في القرآن لاكتشفنا إنباءات غيبيّة كثيرة:
منها :ما تتعلّق بمتعة الحجّ:
{ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ } 321.
فالآية تتعلق بحكم من الأحكام الفرعيّة المتعلقّة بالحج ولا علاقة لها بالعقيدة أصلاً ولكننا نشاهد أنّها تذيّلت بذيلٍ خطير وهو التنبيه على تقوى الله والتذكّر بعذاب الله الشديد، فيا ترى ما هي العلاقة بين الصدر والذيل ؟ أقول:
ليست هناك علاقة من ناحيةٍ تركيبيّة بينهما أصلاً بل العلاقة المتواجدة من نمطٍ آخر ترجع إلى الجانب الهدائي للقرآن الكريم الذي شرحناه فيما مضى شرحاً وافياً ، فهناك من سوف يرقى منبر رسول الله في إمارته فينهى عن نوعين من المتعة ويعاقب عليهما !! وهما :
متعة النساء ومتعة الحج . وهذا تهديد مُسبق يستهدف الوقوف دون تلك الفتوى المخالفة للكتاب و في نفس الوقت إتماماً للحجّة ولئلا يكون للناس على الله حجّة.
والجدير بالذكر أنّ نفس الأسلوب قد ورد في آية الفيء وهو من الأمور التّي أنكرها مخالفون ، قال تعالى:
{ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ }322.
ولنرجعْ إلى "لحديث حول آية التطهير :
نساء النبي والتقرب إلى الله
فلربمّا يتوجّه هاهنا نوع من الاعتراض بالنسبة إلى نساء النبيّ ومسئوليّتهن قبال الله وكيفيّة تقربهنّ فلم يغفل القرآن عن هذا الأمر بل ركّز على ثلاث نماذج من العبادات يمكن الاكتفاء بها لشموليّتها ،ينبغي لنساء النبي ممارستها وهنّ مستقرات في بيوتهن:
1-ما تتركّز على نموّ الروح وكمال الفرد وهي: إقامة الصلوة :
{ وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ }323
2-ما تشتمل على جانبين - فردي واجتماعي - مختلفين وهي: إيتاؤهنّ الزكوة { وَآتِينَ الزَّكَاةَ }324.
3-ما لها الشموليّة التامّة و تمثّل جميع العبادات وهي الإطاعة
{ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } 325.
نساء النبي وأهل البيت:
وهاهنا سؤال يطرح نفسه وهو:
بمّا أنّ أهل البيت أيضاً لهم تعلّق برسول الله بل تعلّقهم أشدّ من غيرهم فمن المفروض أن تشملهم جميع الأحكام التّي فرضت على نساء النبيّ ، فكيف بخروج الحوراء فاطمة عليها السلام على أبي بكر... فلأجل أن يندفع هذا التوهّم ولأجل أن يُميّز هؤلاء عليهم السلام عن غيرهم ولأجل أن تُثبت أحقّيتهم وبطلان معارضيهم وأعدائهم عند دوران الأمر بينهم وبين غيرهم لئلاّ تقع الأمّة في ورطة الشبهة والخلاف .. لأجل ذلك كلّه قال سبحانه مباشرةً:
{ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } 326
فهم على أيّ حال مطهّرون من الرجس بنحو مطلق قليلة وكثيرة مادّي ومعنويّ . فظهر الارتباط السياقيّ والتلاحم الهدائي بين صدر الآية وذيلها ويا لها من مُعجزة عظيمة لا يصل إليها إلاّ من له حظّ وافر في معرفة أساليب التربيّة وعلم النفس.
البيت لا بيوتكن !!
ومن الواضح أنّ كلمة (أهل البيت) هاهنا بنحو العطف لم يأت إلاّ لأجل أنْ يفرّق سبحانه بين من يعيش في بيت محدود بذلك الإطار المادي أعني الطين و الحجر والخشب وبين من هو نور في الأصلاب الشامخة والأنوار المطهّرة وإنّما نزل إلى هذه البيوت لهداية البشرية إلى الله .. فإذاً كم من فرق كبير بين البيت وبيوتكن ، فأهل البيت هم أهل بيت النبوة والرسالة والوحي والرحمة والكرامة والعصمة وهم الذين قال تعالى في شأنهم
{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ، رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ } 327
والتنكير هاهنا يدل على العظمة ، وهناك رواية تؤكّد هذا الأمر إليك نصّها:
{ عن عمر بن الخطاب عنه صلى الله عليه وآله : فاطمة و علي و الحسن و الحسين في حظيرة القدس في قبة بيضاء سقفها عرش الرحمن عز وجلّ }328ولا يخفى اللطفَ الكامن في توسيط البيت لبيوتكن في قوله تعالى: وقرن في بيوتكن...أهل البيت ...ما يتلى في بيوتكنّ.
فلا يمكن لأحدٍ أن يختلج في ذهنه أنّ البيت هو بيوتهن إلاّ المعاند المكابر وهو ليس من مخاطَبينا نحن .
وسدّ الأبواب إلاّ بابه
ومن الطبيعي أن لا يسدّ رسول الله باب هذا البيت لأنّه ليس من بيوت الدنيا و لا يترتب عليه أحكام تلك البيوت .
{ تفسير الإمام روى عليه السلام عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله في حديث سد الأبواب أنه قال : لا ينبغي لأحد يؤمن بالله و اليوم الآخر يبيت في هذا المسجد جنبا إلاّ محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليه السلام و المنتجبون من آلهم الطيبون من أولادهم }329
الحصر بإنّما !!
ولا يخفى أيضاً في هذا الحصر من الإشارة إلى الوقوف في قبال كلّ من يريد أن يتجاوز هذا الحدّ ومنهم نساء النبي فالآية تقول بأنّ الإذهاب من الرجس بمعنى الكلمة والتطهير الكامل الموصل إلى العبودية المطلقة لله تعالى غير متوفر في أحدٍ مهما بلغ من المرتبة غير أهل البيت وقسم من الأنبياء
{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } 330
وأمّا سائر الناس فيقول عنهم تبارك وتعالى
{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ } 331
فكيف بهذا المقام السامي الذي وصلوا إليه .
وفي زيارة الجامعة الكبيرة:
{ موالي لا أحصي ثناءكم و لا أبلغ من المدح كنهكم و من الوصف قدركم و أنتم نور الأخيار و هداة الأبرار و حجج الجبار }
الضمير المذكّر " كُمْ " !
ينقل العلاّمّة المجلسي كلمةً عن الشيخ المفيد رضوان الله تعالى عليه إليك نصّه:
{ لا خلاف بين أهل العربية أن جمع المذكر بالميم و جمع المؤنث بالنون و أن الفصل بينهما بهاتين العلامتين و لا يجوز في لغة القوم وضع علامة المؤنث على المذكر و لا وضع علامة المذكر على المؤنث و لا استعملوا ذلك في الحقيقة و لا المجاز و لما وجدنا الله سبحانه قد بدا في هذه الآية بخطاب النساء و أورد علامة جمعهن من النون في خطابهن فقال : يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض إلى قوله و أطعن الله و رسوله ثم عدل بالكلام عنهن بعد هذا الفصل إلى جمع المذكر فقال إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا فلما جاء بالميم و أسقط النون علمنا أنه لم يتوجه هذا القول إلى المذكور الأول بما بيناه من أصل العربية و حقيقتها ثم رجع بعد ذلك إلى الأزواج فقال و اذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله و الحكمة إنَّ الله كان لطيفاً خبيراً فدل بذلك على أفراد من ذكرناه من آل محمد عليهم السلام بما علقه عليهم من حكم الطهارة الموجبة للعصمة و جليل الفضيلة و ليس يمكنكم معشر المخالفين أن تدعوا أنه كان في الأزواج مذكوراً رجل غير النساء أو ذكر ليس برجل فيصح التعلق منكم بتغليب المذكر على المؤنث إذ كان في الجمع ذكر و إذا لم يمكن ادعاء ذلك و بطل أن يتوجه إلى الأزواج فلا غير لهن توجهت إليه إلاّ من ذكرناه ممن جاء فيه الأثر على ما بيناه }332
أقول : إنّ قضيّة نساء النبي تبدأ من قوله تعالى
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ } 333
والأمور الراجعة إليهن سواء بصريح العبارة أو بضمير الغائب أو المخاطب تبلغ ثمانيةَ وعشرين مورداً ، ستّةٌ وعشرون منها قبل آية التطهير واثنان بعدها.
الإرادة التكوينيّة لا التشريعية:
من المعلوم أنّ الله إذا أراد شيئاً فمجرد تعلّق الإرادة بذلك الشيء يساوي تحقّقه ووقوعه من دون أي فاصلٍ في البين ، وأراد الله ليذهب الرجس عن أهل البيت وقد تحقّق ذلك وهذا لا يتناسب مع التعبيرات الواردة بالنسبة إلى نساء النبي حيث اشتمالها على النصيحة .
والتحريض وأحياناً التهديد كما في قوله تعالى:
{ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } 334.
وهذه الإرادة هي الإرادة التكوينيّة في قبال الإرادة التشريعيّة كقوله تعالى:{ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } 335
ولو كانت الإرادة هاهنا تعني التشريعيّةَ منها و كان المراد من الرجس هي الأمور التّي مرت قبل هذه الآية فلا معنى إذاً لحصرها بنساء النبي . فالحصر لا يتلاءم إلاّ مع العصمة بمستواها الرفيع المنحصرة بهم عليهم السلام فالله هو الذي طهّرهم تطهيراً حيث سقاهم ربّهم شراباً طهوراً.
ماذا كان يتلى في بيوتهنّ:
ولم ينتهِ الحديث عن نساء النبي بعدُ بل هناك أمر آخر يجب التوجّه إليه وهو
{ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا
خَبِيرًا } 336
فما هي الآيات التّي كانت تُتلى عليهن وما هي الحكمة ، القدر المتيقنّ هي آية التطهير التّي جاءت قبل هذه الآية وقد كان يتلوها رسول الله في بيوتهنّ حيث أنّ بيوتهنّ كانت متصلةً ببيت فاطمة ، ولعلّ الرسول كان قاصداً إسماعهنّ للآيات عندما كان يتلو آية التطهير كما مرّ الحديث الدال على ذلك وقد أشار الحديث إلى نقاطٍ يمكن الاعتماد عليها كدليل لإثبات المدّعى وهي:
{ في رواية أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت هذه الآية كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يأتي باب فاطمة و على تسعة أشهر وقت كل صلاة فيقول الصلاة يرحمكم الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس و يطهركم تطهيراً }337.
فلم يكن رسول الله يدخل البيت بل كان يقف أمام الباب سواء الباب الذي كان ينتهي إلى بيت نسائه أو الباب الذي كان ينفتح على المسجد ومن الطبيعي أنّ الناس كانوا يسمعون كلامه عليه السلام ونساء النبي كنّ يسمعن ذلك بطريق أولى ، خصوصاً أنّ هذا الأمر كان مستمرّاً طوال تسعة أشهر في كلّ يوم وقت الصلوة . وقد كان صلى الله عليه وآله وسلَّم يريد أن يبيّن منزلتهم عليهم السلام كما دلّ عليه الحديث الصادر عن الإمام الباقر عليه السلام .
اللطيف الخبير
ثمّ لماذا تذيّلت الآية الأخيرة بهاتين الصفتين ؟!
الظاهر أنّ التأكيد على اللطيف خاصّة لأجل أنّ بيان تلك الآيات مع ما فيها من النصائح والمواعظ وآية التطهير نابعٌ من مصدر اللطف الإلهي بنساء النبي فربّما يتفاعلن مع الجانبين : الجانب الراجع إلى أنفسهنّ والجانب الراجع إلى أهل البيت عليهم السلام .
وأمّا بيان الخبير فلربّما هو إشارة لما سيحدث من المشاكل والمنازعات بينهنّ وبين النبيّ وأيضاً بينهنّ وأهل البيت ، خاصّة ما سيحدث في المستقبل من الحرب بين إحدى النساء وبين أمير المؤمنين عليه السلام .
المطهرّون هم مفسرو مكنون القرآن:
وختاماً ينبغي لنا أن نشير إلى مسألة أخرى كحسن الختام وهي:
في سورة الواقعة { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ، لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ } 338
وهاهنا قد حصر سبحانه المطهّرين بتفسير القرآن الكريم الذي هو في كتاب مكنون .ولو جمعنا هذه الآية مع آية التطهير لوصلنا إلى النتيجة التاليّة وهي :إنّ مسّ الكتاب المكنون من شئون المطهرين ليس إلاّ .
جعلنا الله من المتمسكين بهم والسائرين على نهجهم والمهتدين بهداهم إنّه وليّ المؤمنين والحمد لله ربّ العالمين .
وقد أكملت هذا البحث في يوم الأربعاء 14 جمادي الثانية 1416
(7)
الوسيلة إلى الله
لا شكَّ أنَّ نظام الكون يحكمه قانون العليَّة ، أي أنَّ كلَّ معلول لا بدَّ وأن تكون له علَّة وسبب ، فأبى الله أن يُجري الأمور إلاّ بأسبابها ، وهذا الحكم يجري على جميع الحوادث الطبيعيَّة ، فهناك تأثير وتأثُّر في الحوادث ، والاعتقاد بمثل هذه القدرة العادية المتعارفة ليس من الشرك أصلاً ، بل ينسجم مع الروح التوحيديَّة ، و هو من صميم الإيمان بالله تعالى .
ويبقى سؤال في هذا المجال وهو:
الإعتقاد بمافوق الطبيعة
أفهل الإعتقاد بقدرة ما فوق الطبيعة و ما وراء القوانين العادية كالقدرة عند بعض الملائكة أو الناس ، كالنبي صلى الله عليه وآله و الإمام عليه السلام ، يعدُّ من الشرك بالله ؟
ثمَّ ، هل الاعتقاد بقدرة الإنسان المتوفى ، و تأثيره على الأشياء يسوق إلى الشرك ، مهما كانت هذه العقيدة ؟ وذلك لأنَّ الميت جمادٌ يفتقد الشعور القدرة والإرادة ، و بالنتيجة فالاعتقاد بأن الميت يُدرك ويسمع ويرى وأيضاً السلام عليه ، واحترامه ، وتعظيمه ، ونداؤه ، والتوسل إليه ، وطلب الحاجة منه ،كل ذلك شركٌ بالله تعالى ! لأنَّه يستلزم الاعتقاد بقوة ما وراء الطبيعة لغير الله تعالى ؟
وأيضاً:
هل الاعتقاد بتأثير تراب ما كتراب قبر سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام في شفاء المريض ، أو تأثير مكان خاص كحرم الرسول صلى الله عليه وآله ، في استجابة الدعاء ،كلُّ ذلك من الشرك بالله تعالى ؟ وهل هناك دليلٌ شرعيٌّ من الكتاب والسنَّة يمنع من هذه الأمور ؟
أقول:
إن القائل بأن تلك الأمور من الشرك ، متورِّط في أخس مظاهر الشرك !
وذلك لأنَّ الذي يعتقد بأنَّ العلل الطبيعيَّة لها التأثير في معلولاتها وقع (ومن حيث لا يشعر) في ظلمات الشرك وتورَّط في الانحراف حيث اعتقد بأنَّ الأشياء الطبيعيَّة لها استقلالها الذاتي وهذا يعنى أنه شكَّل قطباً مستقلاً في قبال الله تعالى وقدرةً منعزلة عن قدرته تعالى !
بإذن الله؟
فالموجود المرتبط به تعالى بجميع هويته الذي ليس له حيثية وهويَّة مستقلةٌ ، فتأثيره غير الطبيعي كتأثيره الطبيعي لا يُستند إلى نفسه بل كل ما يصدر منه فهو مستند إلى الحق تعالى وليس له دور ومهمَّةٌ مستقلَّة إلاّ أنَّه يكون مجرىً لمرور فيوضات الحق إلى الأشياء الأخرى وشأنه شأن الملائكة في أداء مهمَّتهم ؟ فهل الاعتقاد بأنَّ جبرئيل واسطة فيض الوحي والعلم و ميكائيل واسطة الرزق واسرافيل واسطة الأحياء وعزرائيل واسطة قبض الأرواح هو شرك بالله تعالى؟
الوهَّابيَّة والشرك بالله تعالى:
إنَّ عقيدة الوهابية هي المشتملة على أقبح أنواع الشرك وذلك حيث أنَّهم قد قسَّموا الأعمال بين الخالق وبين المخلوق ، فالأمور التي هي ما وراء الطبيعة خصَّصوها بالله تعالى والأمور الطبيعية جعلوها للمخلوقات!
فكون المخلوقات لها نطاقٌ معيَّنٌ من الأفعال غير النطاق الإلهي هو نوع من الشرك في الفاعلية !!
فما يتوهمه هؤلاء لا يعارض أصل الإمامة فحسب بل هو يعادى ويتعارض مع أصل التوحيد و الإنسان.
أمّا تعارضه مع أصل التوحيد فلأنَّهم قد قسَّموا الأعمال بين الخالق وبين المخلوق حيث اعتقدوا أنَّ هناك من المخلوقات (وهي الموجودات الطبيعية) ما لها التأثير المباشر والمستقل في أعمالها وآثارها .
وأما تعارضه مع الإنسان فحيث أنَّهم قد نزَّلوا من مستوى الاستعداد الذاتي للإنسان فأوصلوه إلى حضيض الحيوانيَّة.. علماً بأنَّ الإنسان هو خليفة الله في الأرض وقد نفخ الله سبحانه فيه من روحه وأمر الملائكة بالسجود له فهو أفضل من جميع الملائكة.
مضافا إلى أن التفكيك بين الميت والحي و توهُّم الفرق بينهما يعني أن كلَّ شخصية الإنسان هو بدنه الذي ينقلب إلى جماد وهي فكرة مادية بحتة تعارض المعتقدات الإلهية.
ومن هنا نصل إلى عمق كلام رسول الله صلى الله عليه وآله كما في الحديث التالي:
{ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم : إن الشرك أخفى من دبيب النمل على صفوانه سوداء في ليله ظلماء }339.
ما هو الميزان في التوحيد والشرك؟
ثم ينبغي أن يعلم أن الميزان في التوحيد والشرك هو:
إنّا لله:
1-أنَّه لو اعتقدنا أن الموجودات في ذاتها وصفاتها وأفعالها هي من الله (إنا لله) فنحن قد عرفناها من منظار التوحيد الحقيقي سواء كان ذلك الشيء له أثرٌ أو آثارٌ أو لم يكن كذلك وسواء كانت الآثار طبيعيةً أو كانت ما فوق الطبيعة ، فالله هو ليس إله الملكوت والجبروت فحسب بل هو إله العالمين فهو قريب إلى الطبيعة بنفس المقدار (إن صحَّ التعبير) الذي هو قريب إلى ما وراءها وله معيَّةٌ قيوميَّةٌ على الطبيعة وعلى ما وراء الطبيعة قال تعالى
{ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي }340فهذا هو التعلق المحض وحقيقة "إنا لله" حيث لا استقلالية لأعمال الأنبياء ما وراء إرادة الله تعالى فالاعتقاد بموجود ليس راجعاً إليه تعالى هو الشرك الحقيقي كما أن الاعتقاد بتأثير موجود من غير إرادته تعالى أيضاً فهو من الشرك سواء كان الأثر أثرا طبيعياً أم كان ما فوق الطبيعة فلا فرق بين خلق السموات والأرض وبين حركة ورق الشجر فكلُّها بإذن الله تعالى ومن هنا نشاهد التأكيد في كثير من الآيات على هذه الحقيقة ، قال تعالى:
{ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }341
{ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ }342
وقال تعالى:
{ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ }343وقال تعالى:
{ فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }344
وقال تعالى:
{ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ }345
وإنّا إليه راجعون:
2-وأيضا من حدود التوحيد والشرك هو "إنا إليه راجعون" فلو نظرنا إلى موجود ما أعم من النظر الظاهري أو النظر المعنوي وكان نظرنا لأجل أن يكون ذلك الشيء وسيلةً للوصول إلى الله تعالى لا انه هو المقصد والغاية فهذا هو عين التوجه إلى الله تعالى.
فالأئمة المعصومون عليهم السلام هم السبيل إليه وقد ورد في الزيارة الجامعة الكبيرة:
{ أنتم السبيل الأعظم و الصراط الأقوم و شهداء دار الفناء و شفعاء دار البقاء و الرحمة الموصولة و الآية المخزونة و الأمانة المحفوظة و الباب المبتلى به الناس من أتاكم فقد نجى و من لم يأتكم فقد هلك إلى الله تدعون و عليه تدلُّون }346 وهم علامات للمسير إلى الله { و منارا في بلاده و أعلاما لعباده }347{ السلام على الأدلاء على الله }348 وهم الهداة والدعاة إلى الله{ السلام على الدعاة إلى الله }349
النتيجة: إن التوسل بهم عليهم السلام وزيارتهم واستصراخهم والإستشفاع بهم والتوقُّع منهم الكرامات التي هي أمور ما وراء الطبيعة ليس من الشرك في شيء بل هي عين التوحيد.
وذلك:
أوَّلاً: إنَّه ينبغي أن نعلم بأنَّ الأنبياء والأولياء قد وصلوا إلى مستوى من القرب الإلهي بحيث أن الله تعالى قد خصَّهم بهذه الموهبة الربانية ؟ كما يدلُّ على ذلك القرآن الكريم
وبالنسبة إلى أهل البيت عليه السلام قال تعالى:
{ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا }350
حيث أنَّ الآية تدلُّ على قدرتهم الإلهية المعنوية حيث أنَّهم وبإرادتهم قد فجَّروا العين وذلك لوصولهم إلى مستوى من العبودية لله والتحرر من جميع القيود حيث
{ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا }351
قال في مجمع البيان :{ يطهرهم عن كلِّ شيءٍ سوى الله ، إذ لا طاهر من تدنَّس بشيءٍ من الأكوان ، إلاّ الله رووه عن جعفر بن محمَّد عليه السلام }352
ثانيا: إنَّ الذين يتوسلون بهم ويطلبون منهم قضاء حوائجهم إنَّما ينطلقون من الرؤية التوحيدية أي من منطلق "إنا لله" فلاشك أنَّهم لا يتوسلون بهم إلاّ وهو موحدُّون فالتوسُّل بهم عليهم السلام هو من شئون التوحيد وطاعة الله تعالى ، فهم الحبل المتصل بين الأرض والسماء وهم العروة الوثقى التي لا انفصام لها وفي دعاء الندبة :
{ أين باب الله الذي منه يؤتى اين وجه الله الذي يتوجه إليه الأولياء أين السبب المتصل بين الأرض و السماء }353
وقال تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }354
وفي تفسير علي بن إبراهيم القمِّي :
{ تقربوا إليه بالإمام }355
فمن تأمَّل في حقيقة التوسُّل عرف أنَّه هو المنطبق مع النظام الكوني وفطرة الإنسان ، فالذي ينكره إنما هو في ضلال بعيد ومنحرف عن الصراط المستقيم ومن هنا نشاهد بني إسرائيل يقولون
{ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا }356
فيطلبون من موسى أن يدع لهم وكذلك أولاد يعقوب عليه السلام يطلبون من أبيهم أن يستغفر لهم
{ قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }357
وفي خصوص الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلَّم قال تعالى:
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا }358
فالرسول له دورٌ رئيسي في قبول توبة العباد لوجاهته عند الله تعالى وقربه المعنويِّ وهذا لا يختص بحال حياته بل يشمل حال مماته أيضاً بل في هذه الحال يكون المجيء إليه آكد ، فلا فرق بين حضوره وغيبته وفي زيارته صلى الله عليه وآله
{ اللهم و إني اعتقد حرمه نبيك في غيبته كما اعتقد في حضرته و اعلم إن رسلك و خلفاءك أحياء عندك يرزقون يرون مكاني في وقتي هذا و زماني و يسمعون كلامي في وقتي هذا و يردون على سلامي و انك حجبت عن سمعي كلامهم و فتحت باب فهمي بلذيذ مناجاتهم }359 فالمشكلة راجعة إلينا نحن المحجوبون لا إليهم عليهم السلام.
وأمّا بالنسبة إلى الاعتقاد بتأثير تراب قبر سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام في شفاء المريض ، أو تأثير مكان خاص كحرم الرسول صلى الله عليه وآله في استجابة الدعاء فالحديث عنه يتطلب بحثاً آخر إلاّ أننا نشير إلى ذلك بإيجاز فنقول:
إنَّه ليس للتراب كتراب هذا التأثير ولا القبر كقبر بل الأثر كل الأثر يرجع إلى صاحبهما وليسا هما إلاّ وسيلة للتقرُّب إلى من يرتبط بهما وهذا يعني التقرب إلى الله الشافي الذي الفاض هذا الاسم في أوليائه فصاروا وجهاً له ومرآةً ينعكس فيها ذلك الإسم.
وما أحسن ما قيل :هنيئاً لمن زارَ خير الورى وحطَّ عن النفس أوزارها فإن السعادة مضمونةٌ لمن حلَّ طيبة أو زارَها . وما أحسن ما قيل :أمرُّ على الديار ديار ليلى اقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حبُّ الديار شغفن قلبي ولكن حبّ من سَكن الديارا .
والحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على محمَّدٍ وآله .
الكويت 9-3-1997 29 شوال 1417.
إنتهيت من كتابة هذه الكلمة في يوم 2ربيع الأوَّل 1418



(8)
الهداة إلى الله
قال الإمام قدِّس سرُّه حول شخصية عليٍّ عليه السلام:
{ هل عليٌ عليه السلام هو إنسان مُلكي ودنيويٌّ حتّى يتحدّث عنه المُلكيّون أم أنّه موجود ملكوتيّ كي يُقيِّمه الملكوتيون . فكلُّ من تحدّث عنه إنّما تحدّث عنه من منظاره الخاص وقيّمه من منطلق نفسانيّته المحدودة ، وأمير المؤمنين غير ذلك }
عليٌّ عليه السلام عبدُ الله
{ فالأولى أن نجتاز هذا الوادي ونقول أنّ الإمام علي عليه السلام إنّما هو عبدٌ من عباد الله وهذه أبرز مميزاته عليه السلام ، وأيضاً أنّه قد تربّى على يد رسول الله صلى الله عليه و آله وسلَّم وهذا من مفاخره العُظمى }
وقال قدِّس سرُّه في التعريف على شخصيَّة الزهراء عليها السلام:
{ لم تكن الزهراء امرأة عاديَّة، بل كانت امرأة روحانيَّة ، امرأة ملكوتيَّة ، إنساناً بكلِّ ما للإنسان من معنى ، إنَّها موجود ملكوتي ظهر في عالمنا على صورة إنسان ، بل موجود إلهي جبروتي ظهر بصورة امرأة }
أقول
حيث أنَّ هذه الكلمة جديرة بالدِّقة والتأمُّل من ناحية ، و من ناحية أخرى لها دور كبير في عقيدة الإنسان المؤمن في مجال فهم الإمام عليه السلام بل الإمامة بنحو عام بل المعصومين عليهم السلام فنرى من اللازم أن نفصِّل في الحديث حول الإنسان الملكوتي بل الجبروتي وصفاته المميَّزة عن الإنسان المُلكي الناسوتي .
السموات والأرض وغيبهما
إنَّ الله سبحانه وتعالى بعد أن أنبأ آدم بأسمائهم و هم المعصومون الأربعة عشر و قد أثبتنا هذا الأمر في محلِّه360 خاطب الملائكة :
{ قال ألم اقل لكم إنِّي أعلم غيب السموات و الأرض و أعلم ما تبدون و ما كنتم تكتمون }
والظاهر أنَّ غيب السموات والأرض المذكور هنا هو نفس العلم الذي جاء في قوله تعالى :
{ إنِّي أعلمُ ما لا تعلمون }
ومن هنا يُعلم أنَّ الأسماء هي أمور غيبية عن عالم السماوات والأرض .
و الظاهر أن غيب السموات والأرض هي أرواح أئمتنا الأطهار عليهم السلام حيث أنَّها فوق السموات والأرض وفوق جميع الموجودات حيث أنَّ جميع الموجودات تُعدُّ من عالم الخلق وهي من عالم الأمر والمشيئة وتفصيله في كلمتنا حول المشيئة 361
هبوط آدم وبنيه إنّ آدم و حواء عليهما السلام عندما خلقهما الله سبحانه جعلهما في الجنَّة يعيشان فيها حيث شاءا رغداً قال تعالى :
{ فكلا منها حيث شئتما رغداً }
و كان المفروض أن يعيش الإنسان في تلك الجنَّة لا يخرج منها أبداً ، و كانت تلك الجنة لها مميّزات غير متوفرة في هذه الدنيا على رغم أنها لم تكن من جنّات الآخرة ، ومن تلك المميزات ما ذكرها سبحانه:
{ إن لك ألاّ تجوع فيها و لا تعرى }362
و من الطبيعي أنه لم يكن الإنسان هناك مكلفاً بتكاليف من نوع تكاليفنا حيث لم يكن بحاجة إلى مثل هذه التكاليف ما دام هو يعيش في جوار ربّه إنسانا نورانياً لا يفتقر حتى إلى اللباس حيث لم تبدُ عورته ليسترها و شأن الإنسان النوراني يختلف عن شأن الإنسان الجسماني بادي البَشرة خَشِن الأعضاء والبُنْية ، فلا تزاحم في عالم النور و لا تضارب و لا تصادم بين الأنوار و مع عدم التضارب لا حاجة إلى القانون و النظام بنحو السالبة بانتفاء الموضوع .
الشيطان و إغواء آدم
النجاح الأوَّل للشيطان في إغواء آدم وإن لم يكُن بمثابة سائر إغوائاته لبني آدم و لكن الوسوسة الأولى أعني تحريض آدم عليه السلام على الأكل من الشجرة كانت هي أساس لسائر وساوسه الشرِّيرة وتزيينا ته و تسويلاته ، بل لم يكن يخرج آدم من الجنَّة لولا إطاعته للشيطان في وسوسته الأولى ، فبعد خروجه من تلك الدار النورانيَّة انبسطت أيادي الشيطان في عالم المُلك والدنيا ، فتضاعفت التكاليف الإلهيَّة وتنوَّعت لأجل الخلاص من شرِّه و العروج إلى جوار الله سبحانه و تعالى .
فإذاً التكاليف بما لها من السعة إنما نشأت بعد خروج آدم عليه السلام من الجنة و بعد هبوط بَنِيه منها :{ قلنا اهبطوا منها جميعاً }
و هذا الوضع أعنى العيش في الدنيا هو وضع طارئ على بنى آدم لم يكن ضمن المخطَّط الإلهي الأوَّل و إن كان هو معلوماً للّه سبحانه ، ولا منافاة بينهما لأن العلم أمرٌ و الإرادة أمرٌ آخر و توضيح ذلك موكول إلى محله.
المسلِّمون أمرهم إلى الله
هناك تساؤلات كثيرة تدور في الأذهان وتتداول بين الألسن حول موقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قبال أولئك الذين تقمَّصوا الخلافة بعد ارتحال رسول الله صلى الله عليه وآله .
وهى تتلخص في:
1-عليٌّ عليه السلام ذلك الرجل الذي قتل أبطال العرب و ناوش ذؤبانهم ، هو الذي قدَّ مرحباً وعمرو بن عبد وُدّ وهو صاحب الضربات الوتر ، كيف يمكننا أن نتصور استسلامه للغاصبين ومن ثم إخراجه من البيت قهراً ، وتهديده بالقتل؟
2-هل يمكننا أن نتصور أن الزهراء و هي بنت رسول الله و فِلذة كبده و بضعته أن تُضربَ و يُكسرَ ضِلعُها ويُسقط جنينها بمرأى و منظر من زوجها أمير المؤمنين عليٍ عليه السلام ؟ من غير أن تكون هناك أيّةُ ردَّة فعل منه عليه السلام في قبال هذه الجريمة الكبرى ؟
ثم إن المسلمين عامَّةً هم الذين انتخبوا علياً خليفةً عليهم فلِم أكبُّوا بعد ذلك على مخالفته فخالفُوه و قاتلوه ثمَّ قتلوه في محرابه ظلماً؟
4-وأخيراً ما هي حصيلةُ السنوات الخمس التِّي استلم فيها عليٌّ إمرةَ المسلمين من الزاويتين العملية و النظرية ؟
5-وما هو سرُّ سكوت الإمام المجتبى عليه السلام وصلحه مع معاوية من ناحيةٍ وصراخِ الإمام الحسين عليه السلام وخروجه على حكومة يزيد من ناحية أخرى ؟ وكذا مواقف سائر أئمَّتنا عليهم السلام السلميَّةِ ظاهراً.
وأيضاً: عشرات من الأسئلة في هذا المجال التي تخطر بالبال ؟
ومن الطبيعي أنَّ حلَّ هذه الشبهات له الدور الحيويّ المهمّ في مسيرة الإنسان المؤمن ومواقفه الرساليَّة ..فهل يمكننا الإجابة عليها وعلى غيرها من الأسئلة التي تدور حول نفس المحور؟
أقول:
إنَّ الغرض من كتابةِ هذه الكلمة المتواضعة هو الوصول إلى حلٍّ مناسب بالنسبة إلى مثل هذه الشبهات ودفعها منطقيّاً كي نكون على بصيرة في ديننا ومذهبنا فنعانقه من دون أيّ تزلزل وتشكيك .
فأقول:
قبل الورود في البحث ينبغي تقديم مقدمات:
الأولى:
الإسلام مدرسة متكاملة و مترابطة
الإسلام أطروحة متكاملة تتركَّز على أسس و تشتمل على قوانين إلهية ثابتة لا يمكن أن يعتريها أيُّ خلل و ترديد ، والهدف من الإسلام هو نفس الهدف من خلق الإنسان أعني العبودية والرجوع إلى الله سبحانه وهو إيصال الإنسان إلى الكمال المطلوب أعني القرب من الكمال المطلق وهو الله سبحانه. فالإسلام ليس هو إلاّ تجلٍّ من تجليات الحق المطلق جلَّ وعلا فلا بدَّ أن يظهر على جميع أصعدته وزواياه وهذا من لوازمه غير المنفكة عنه.
الثانية:
أبعاد الإ نسان الثلا ثة
وحيث أن للإنسان أبعاداً ثلاثة البعد العقلي و البعد النفسي (الجوانحي) والبعد العملي (الجوارحي) فالإسلام أيضاً قد ركَّز في توجيهاته على هذه الجهات الثلاث في الإنسان و لاحظها بعين الاعتبار فطرح لها أطروحات وبرمج لكل واحدة منها برنامجاً يتناسب معه وهي:
عقائد الإسلام التِّي تعالج الجانب العقلي للإنسان.
الأخلاق وهي ما تتعلق بشئون النفس الإنسانيَّة.
الأحكام العمليَّة وهي القوانين المختصة بجوارح الإنسان وما يصدر منه من خير و شر.
ولا يخفى على من له أدنى معرفة و اطِّلاع على الإسلام أنَّ هناك ترابطاً قوياً وعلاقةً موثقة بين هذه الجوانب الثلاثة بحيث يستحيل التحلِّي بجانب مع غضِّ النظر عن الجانب الآخر.
مثال:
إعطاء الزكاة كواجب عملي يتوقَّف على قصد التقرب إليه تعالى كعقيدة وفي أسلوب العطاء والأخذ لا بدّ من التوجُّه إلى الجانب الروحي للمعطي والمعطى إليه (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم بها).
وعلى هذا الأساس نقول إنه لابد وأن يُطبَّق الإسلام بحذافيره وبأكمله من دون فصلٍ بين الأبعاد الثلاثةِ أصلاً ومن يُفكِّر في تطبيق جانبٍ واحدٍ من الإسلام مع غضِّ النظر عن الجوانب الأخرى فتفكيره شطط ليس له أساس قويمٌ بل يبتني على الوهم والخيال.
وبعبارة أخرى:(الإسلام وَحدَةٌ شاملة ومتكاملة ومتكاتفة ومنسجمة لن تتفرق ولن تتفكك أبداً ،وتفكُّكها يعني فناءها بالمرَّة وتغيُّر ماهيتها إلى ماهيَّة أخري بل لو اختلفت الكمِّية والكيفيَّة في قبول أو ردّ معالمه لتغيَّرت الماهية أيضاً فلا بد من مراعاة الكميَّة والكيفيَّة في تلك الأبعاد الثلاثة لئلاّ ينجرّ الأمر إلى تضخَّم جانبٍ و ضعف جانب آخر).
وذلك كالأوكسجين والهيدروجين فمن الضروري أن يتحدا معاً ليُشكِّلا الماء كما أنّه لا بدَّ من رعاية النسبة بينهما كمّاً وكيفاً حصولاً على النتيجة فمع بروز أدنى اختلاف بين العنصرين سوف لا يبقى شيءٌ يُطلق عليه اسم الماء.
ومن هذا المنطلق نشاهد التأكيد البالغ على الإيمان بالكلِّ لا بالبعض سواء الكتاب أو الرسل أو أيّ شيء يرتبط بالدين
قال تعالى:
{ أَ فَتؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }363
وقال تعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ، أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا }364
الثالثة:
الدولة الإسلاميَّة العالميَّةمضافاً إلى أنه لا بدَّ من وجود دولة مقتدرة بأجهزتها القويَّة ورجالها المؤمنين، تستهدف التنسيق بين هذه الجوانب الثلاثة من الإسلام كي تُركِّز هذه الشجرة الطيِّبة جذورها فيرتفع أساسها فتتوزَّع وتنتشر أغصانها فتثمر فيأكل من ثمرها. فإذا يستحيل أن نطبق الإسلام في حياتنا بمعنى الكلمة إلاّ مع تأسيس دولة عالميَّة تستوعب أو بالأحرى تتسلَّط على جميع أرجاء البسيطة من غير استثناءٍ لمنطقة دون أخرى فكلُّ الأرض تكون تحت سلطة الإسلام وهذا لا ينافي وجود كفّار فيها مادام الحكم للإسلام . فلا معنى لطرح دولة إسلامية في هذا المكان وذاك كدولة مستقلة تستهدف تطبيق بعض أو كلِّ جوانب الإسلام عملاً ولا تحمل إيدئولوجية الإسلام العالمي أو تجعل هذه الغاية في المراحل المتأخرة من أفكارها . بل لو نظرنا نظرة شاملة إلى الكون وعرفنا خالقه لوصلنا إلى حقيقة أخرى وهي أنَّ الإسلام لا ينظر إلى البشرية منحصرة بل يستوعب ويُخيِّم على كلَّ زوايا الكون وجميع العوالم من الإنس والجن حتى عالم الجمادات والنباتات والحيوانات وحتى في الكواكب الأخرى حيث أنّ كلّ تلك العوالم لها نوعٌ من العلاقة بالإنسان.
{ الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم و دولة إسلاميّة عالميَّة }
ومن هذا المنطلق شرع رسولنا محمد صلى الله عليه و آله في تأسيس دولة إسلامية من البداية تستهدف تطبيق الإسلام بجميع جوانبه و أبعاده وإزالة جميع الظواهر الزائفة الموروثة من الجاهليَّة فكتب إلى ملكي الفرس و الروم آن ذاك كتباً لأجل أن يهتديا وقومهما إلى الدين الإسلامي ويتحررا من عبودية غير الله . وقد استطاع الرسول صلى الله عليه وآله -بسعيه المتواصل ودعمٍ من أخيه ووزيره عليٍّ عليه السلام وعدد قليل من الصحابة المخلصين - أن يكتسب النجاح في المدَّة القليلة على رغم كلّ ما عاناه من مصاعبَ ومشاكل وأذى (ما أوذي نبيٌّ بمثل ما أوذيت) سواء من الكفّار الملحدين أو من المنافقين الحاقدين. فقد انبثق نور الإسلام وانتشر صيتُه وتوسعت دولته إلى أقصى العالم حتى دخل الفرس والروم والحبشة وذلك لا على مستوى عامّة الناس فحسب بل شمل حتّى رجال الدولة وأصحاب المناصب المختلفة.
{ الإسلام كان غريباً غير مألوف }
بعد ما كان الإسلام غريباً وذلك لأنَّ القيَم الإسلامية بطبيعتها لا تنسجم مع الوضع الذي كان يسود الجاهلية وذلك لاشتمال الإسلام على الجانب التعبدي الذي لا يلائم تلك الذهنيات التّي لم تترسخ فيها سوى الدنيا وسوى المادة وما يحوم حول المادة ، فقد انتشر الإسلام المحمَّدي في أنحاء البلاد وأخذت الأفكار الإسلامية تتمركز في الأذهان وتعثر على مكانتها في المجتمع وأخذ المسلمون يستأنسون بالإسلام شيئاً فشيئاً حتّى صار تنفيذ حكم الله في مجتمعهم أمراً مألوفاّ وصار المسلمون يتعاملون مع الإسلام تعاملاً طبيعياً بعد ما كان غريباً عندهم غير مأنوس به .
{ المفروض والواقع }
المفروض أن يستلم الخلافة عليٌّ عليه السلام ويسير على نفس الأسلوب الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وينتقل الحكم من إمامٍ إلى إمام حتَّى يأتي دور المهدي المنتظر عجلَّ الله تعالى فرجه الشريف فيملأ الله به الأرضَ قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظُلماً وجوراً. ولكن الواقع كان خلاف ذلك حيث تسلَّم زمام الأمر من لا يليق به ولا أهليَّة له.
{ البداية المظلمة }فبعد ارتحال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم و استيلاء أول الخلفاء على الدولة الإسلامية الفتيَّة وفي أوائل خلافته كان الوضع نوعاً ما كسابقه ولكن بمجرد أن رُسخت قواعد تلك الخلافة اللاشرعيَّة بدأ الوضع يتغيّر شيئاً فشيئاً وبدأت المعادلات تنعكس وتتغير واستمرَّ الوضع الجديد إلى أن وصل إلى مرحلة خطيرة حيث أخذ حكُّام المسلمين الثلاثة ينسقون أفكارهم وأعمالهم مع الحضارات الدخيلة وعلى رأسها الروم والفرس فحاول الخلفاء تكييفَ أنفسهم مع المجتمعات المحاطة بهم وأخذوا في تنسيق برامجهم طبقاً لتلك الحضارات المزيّفة ، وذلك في جميع أبعادها حتى العقائديّة والأخلاقية !! (والناس على دين ملوكهم ) وهؤلاء الثلاثة نسَوا أو تغافَلوا عن أن للإسلام حضارةً و إيدئولوجية مميزة تنبثق من الوحي والغيب وترتبط بالله الواحد القهار. وتدريجياً انقلب الإسلام الغريب عند المِلل غير المسلمة ، المأنوس لدى المسلمين إلى إسلام مأنوسٍ لدى الكلّ ، حتى الكفار والمنافقون لا يستوحش منهم أحد إلاّ المسلمُ الحقيقيّ!!
والحاصل أن الجــوّ الــعام الذي أوجده الخلفاء بين المسلمين كان مصبوغاً بصبغةٍ خاصَّــة تتلاءم والواقعَ المعاش آن ذاك وذلك بقيمة تضحية الإسلام ومسخه تماماً بل قلبه وجهاً على عقب وحينئذٍ تحققت مصداقيَّة قوله تعالى :
{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ }365.
فانحرف الإسلام وتغيَّرت السنن وقلبت القيم ومن ثَمَّ خَسِر المسلمون تلك الفرصة الذهبية التي أوجدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وضحّى من أجلها بأبرز أنصاره وكانت هي الخسارة العظمى التي جرَّت العالم الإسلامي إلى الخسارات المتوالية .
والتأريخ الإسلاميّ خير دليل على ما ندعيه فمن أراد أن يتطلَّع على جزئيّات الأمر فليراجع التأريخ .
السقيفة وآثارها
فهاهنا وقعت الجريمة العظمى وهي جريمة الإنحراف والإغفال ومن ثَمّ إحراف المُغفَلين وإغوائهم من زاوية وغرس شجرة النفاق ورعرعتها من زاوية أخرى ..ويالها من جريمة غبراء قاسية !! تلك الفجيعة الفظيعة التي نشأت من السقيفة السخيفة كانت مبدأ كلِّ عثرة وزلّة حدثت بعدها ، فجميع الفروع الخبيثة ليست هي إلاّ من تلك الشجرة المشؤومة.
البناء المعوج
يقول أحد الشعراء الفرس:(خِشت أول جون نهاد معمار كج تا ثريّا ميرود بنيان كج) أي أنَّ البنّاء حيث وضع الأساس للبناء وضعاً معوجّاً فسوف يعوج البناء مهما يُرتفع إلى الثريا) ومن الواضح أنَّ الذنب والعتاب كلُّه يُوجَّه إلى أوَّل من أسس أساس الظلم والجور ومن هذا المنطلق نشاهد التأكيد البالغ في الأحاديث(كالأحاديث التِّي تتحدَّث حول يوم الاثنين وأنَّه يوم نحس قبض الله عز و جل فيه نبيه وما أصيب آل محمد إلاّ في يوم الاثنين فيتشاءم أئمتنا عليهم السلام به و تتبرك به عدوُّهم) وأيضاً الزيارات خصوصاً زيارة عاشوراء، وأشعار كبار شعراء الإماميّة كدعبل الخزاعي وكبار العلماء كالعلامَّة الشيخ محمَّد حسين الإصفهاني قدس سرُّه بل حتّى بعض علماء العامَّة على هذه الحقيقة وتفصيل هذا الأمر سوف نذكره في موضع آخر.
أمير المؤمنين عليه السلام والخلافة
وهذا الوضع أو بالأحرى الجريمة استمرت ربع قرن -وليس بقليل -إلى أن استلم الحكم ، وبعد اللتيا والتي ، أميرُ المؤمنين علي عليه السلام . استلمها بعد ماذا؟؟ بعد أن تغيرت جميع القيم والأسس التي بناها الإسلام .
فماذا يصنع عليُّ إذاً ؟؟
غير أن يصرخ في وجه المسلمين الذين أرادوا أن يبايعوه:
{ دعوني و التمسوا غيري فإنا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان لا تقوم له القلوب و لا تثبت عليه العقول و إن الآفاق قد اغامت والمحجة قد تنكرت و اعلموا إني أن أجبتكم ركبت بكم ما اعلم و لم أَصغَ إلى قول القائل و عتب العاتب و إن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلى أسمعكم و أطوعكم لمن وليتموه أمركم و إنا لكم وزيرا خير لكم منى أميرا }366
قال ابن أبي الحديد:
و معنى قوله: الآفاق قد اغامت و المحجة قد تنكرت ان الشبهة قد استولت على العقول و القلوب و جهل أكثر الناس محجة الحق أين هي فأنا لكم وزيراً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أفتى فيكم بشريعته و أحكامه خير لكم منى أميراً محجوراً عليه مدبراً بتدبيركم فإني اعلم انه لا قدرة لي أن أسير فيكم بسيره رسول الله صلي الله عليه وآله في أصحابه مستقلاً بالتدبير لفساد أحوالكم و تعذر صلاحكم
أقول:
بقيت تلك الجذور الخبيثة متركّزة رغم محاولات أمير المؤمنين في أيام خلافته، وحيث قد عوّدوا المسلمين على نمطٍ خاص من العيشة فلم يمكنهم أن ينسِّقوا معيشتهم وأفكارهم مع ما أراده أمير المؤمنين بل لم يكونوا يستوعبون أسلوب عليٍ في الحكم ، الذي كان هو أسلوب رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يتقبلوا عدالة عليٍ وقسطه وكما قال أحدهم عدلُ عليٍّ قتله .
التكليف المزدوج بعد ارتحال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم (السكوت والصراخ)
مثال:
لو وقعت سرقه كبيرة في بيت فيه أطفال و فيه أموال كثيرة تهمُّ السارقين لأنهم قد خطَّطوا تخطيطاً مستقبلياً شاملاً لبناء مشروع يبتنى على هذه الأموال.. و لا يمكنهم الغضّ والتغافل عنها أبداً ، و من ناحية أخرى تلك الأموال لها أهمية لصاحبها و تشكل العصب الرئيسي في حياتهم مضافا إلى الأشياء الأثرية الثمينة التي لا يمكنهم التخلِّي عنها.
فيدور الأمر بين حالات ثلاثة لها نتائج مختلفة:
الصراخ وإخبار الناس عن السرقة من أهل البيت جميعاً و بالنتيجة حرق البيت و من فيه و ما فيه. التزام السكوت و الهدوء من جميع العائلة و إسكات الآخرين و أيضا خلق جو إعلامي يؤكِّد للناس أن البيت و ما فيه لم يسرق بل قد بِيع على هؤلاء في مقابل ثمن فالبيت إذا هو حقُّهم الشرعي و القانوني و ليس لصاحبه الأول المطالبة به أصلا.
التزام الهدوء من صاحب البيت و تحريض الأولاد على السكوت حفاظاً على البيت علماً بأن هناك من يُعلن عن السارقين (وهي الأم) و يصرخ في وجههم لأجل أخذ وثائق البيت ليس إلاّ.. (و المفروض أنَّ الوثائق مسجله باسمها).
فهاهنا نواجه ازدواجية المواقف موقف الوالد والأولاد و موقف الأم و المفروض على الوالد أن يُهدِّئ الكل ولكن الأم لا تسكتُ حيث تطالب بحقِّها وهي الوثائق والمستندات ولن تسمح بأن يسجَّل البيت باسم الغاصبين و إن أدَّى ذلك إلى موتها حيث يترجَّح ذلك الأهم على هذا المهمّ ، حيث أنَّه من الطبيعي أن يرجع البيت بالأخير إلى صاحبه و إن طال الأمد عليه.
{ الحفاظ على الولاية }
مادام الخلافة قد انحرفت عن المسير الأساسي الذي أكد عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم في مواطن كثيرة و مادام قد اغتصبت بطريقة شيطانية محتالة فلا يمكن إرجاعها بالسكوت و التسليم لما حدث لأن العدو سوف يكتسب هذا السكوت لصالحه إعلامياً و سوف يدَّعي أن هذا السكوت دليل على الرضا و من ثم سوف يكون الغاصب وكأنَّه هو المالك الحقيقي ومن ثم يكتسب الشرعية في الوسط المسلم لا هو فحسب بل كل من يسير على خطاه إلى يوم القيامة!! و هذا هو التدمير الواقعي للإسلام أصلاً و فرعاً و لكن باسم الإسلام وإمرة المسلمين ، و من ناحية أخرى هناك خطورة ثانية لأصل الإسلام و هذا يتطلب السكوت و الهدوء و التساير و في نفس الوقت الإشراف و التطلع على ما سيحدث و محاولة دفع الانحرافات الأساسية التي ترجع إلى أصل الإسلام بدقة ، تلك الانحرافات التي يخطط لها النظام الحاكم بين آونة و أخرى.. من غير مساس و تعرض للجهاز الحاكم.. لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ، وذلك حفاظا على الإسلام و لا بدَّ له من السكوت و التساير الظاهري معهم مادام الإسلام في أمان من شرهم.
اللهم إلاّ إذا اشتد الخطر و صعب فحينئذ سوف يتطلب الشدة نوعا ما..
{ صعوبة الموقف و حسّاسيته }
عند ملاحظة جوانب الشخصيتين ، شخصيَّة الصدِّيقة الزهراء سلام الله عليها وشخصيَّة أمير المؤمنين عليه السلام وأيضاً عند ملاحظة مدى الارتباط و التعلق بينهما نعرف شدة البلاء الذي ابتليا به و عظمة الامتحان الإلهي و مستوى التكليف السماوي الموجه إليهما.
فلو أرادا أن يتحقق الهدف الذي هو الحفاظ على ظاهر الإسلام (و هو تكليف علي عليه السلام) و الحفاظ على واقع الولاية (و هو تكليف الزهراء عليها السلام) فلا بد و أن تتوفر أمورٌ كثيرةٌ لو اختل أحدها سوف لن يتحقق الهدف
فمن ناحية أمير المؤمنين لا بد من:
خلق جو إعلامي واضح ينادى بصريح القول أن عليا ليس من المعارضين و إن كان فهو من المسالمين الذين يبتعدون عن تعكير الجو و تزعزع الرأي.. و هذا يتطلب:
إلتزام الهدوء و السكوت الكامل و عدم التعرض للحكم أصلا.
التساير و التنسيق مع الخليفة و ربما يقتضي ذلك الصلاة خلفه و الجلوس في مجلسه.
و من ناحية الزهراء عليها السلام ينبغي لها:
أن تخلق جواً مناقضاً تماماً لما أوجده علي عليه السلام.. فتصرخ في وجه الطغاة و تقف أمامهم و تفضحهم و تبين مثالبهم و تكشف عن جريمتهم العظيمة وفى نفس الوقت تدافع عن علي عليه السلام كخليفةٍ للمسلمين فتُبيِّن للناس فضائله و مناقبه و مواقفه وذلك من غير أن يكون ذلك أعني ولاية عليٍّ هو الأساس في قضيَّتها ظاهراً(وهو الأساس بالفعل) ولكن يبقى هنا أمرٌ مهمّ ينبغي أن تراعيه الزهراء عليها السلام وهو عدم إثارة عليٍّ أصلاً لأنَّ ذلك سوف يؤدِّي إلى فشل عليٍّ في موقفه ومن ثمَّ انتصار العدوّ ونجاحه وذلك سوف يؤدِّي إلى الرجوع إلى الجاهليَّة الأولى أعاذنا الله من شرِّها.
والوصول إلى ذلك إذاً صعبٌ يتطلَّب أموراً:
الخروج من البيت و لا مانع مادام هي من المطهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس.
2-خلق أجواء مثيرة للأحاسيس (بكاؤها وأنينها راجع الخطبة).
3-كتمان ما تواجهه من الضرب وكسر الضلع وسقط الجنين وغيره عن عليٍّ عليه السلام .
4-أن لا يشترك العدو المتظاهر بالإسلام في تشييع جنازتها ودفن الجنازة سراً .
5-أن تكون مجهولة القدر والقبر.
المعاناة:
وأمّا أمير المؤمنين عليه السلام فهل يمكنه أن يتغافل عمّا سيحدث على بضعة الرسول الزهراء عليها السلام ؟ وهل يمكن للإنسان أن يتصور شدة المعاناة التي كان يعانيه أمير المؤمنين عليٌ عليه السلام و كذلك مستوى صبره عليه السلام ؟ كيف وهو يرى تراثه المنهوب! ويعرف عن ضلع زوجه المكسور ؟
يقول سلام الله عليه:
{ أما و الله لقد تقمصها ابن أبي قحافة و انه ليعلم إن محلى منها محل القطب من الرحى ينحدر عنى السيل و لا يرقى إلى الطير فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا و طفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو اصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير و يشيب فيها الصغير و يكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى فصبرت و في العين قذى و في الحلق شجا أرى تراثي نهبا }367
ويقول في موضع آخر:
{ فنظرت فإذا ليس لي رافد و لا ذاب و لا مساعد إلاّ أهل بيتي فضننت بهم عن المنية فأغضيت على القذى و جرعت ريقي على الشجى و صبرت من كظم الغيظ على أمر من العلقم و آلم للقلب من وخز الشفار }368
الكفؤ:
أعتقد أن التكافؤ بين الزهراء عليها السلام وعليٍّ سلام الله عليه الوارد في الأحاديث الكثيرة كالحديث التالي:
{ عن يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول لولا أن الله خلق أمير المؤمنين لفاطمة ما كان لها كفؤ على الأرض }369
إن الحديث لا يعنى التكافؤ في الحيوة الزوجية فحسب و لا يعني أيضاً أنهما مجمع النورين و البحرين بعد تفرقهما في عبد الله وأبي طالب حيث ورد في تفسير قوله تعالى:
(كنز العمّال محمد بن العباس عن محمد بن احمد عن محفوظ بن بشر عن ابن شمر عن جابر عن أبي عبد الله قال عليه السلام في قوله عز و جل مرج البحرين يلتقيان قال على و فاطمة.. )370 وهناك أحاديث كثيرة في هذا المجال راجع مضانِّها.
بل هناك أمر أهم من ذلك و أرفع مستوى و هو التكافؤ في أداء التكليف الإلهي بحيث كل يكمل الآخر.. و كل يؤدى تكليفه المتناقض مع تكليف الآخر ظاهراً و المطابق معه واقعا فهو تكليف واحد و لكن قد تجلّى وظهر في موقفين متضادين تماماً. و من هنا نعرف السر في الحديث القدسي حيث يقول: ( لو لا علي لما خلقت فاطمة الخ.. )
{ فدك هو المبرر لهذا الموقف }
و مبرِّر ثورتها هي فدك وهذه فدك لها بعدان رئيسيّان:
أحدهما: أنَّها قرية في الحجاز، بينها و بين المدينة يومان، و قيل ثلاثة و هي أرض يهودية ، و كان يسكنها طائفة من اليهود، و لم يزالوا على ذلك حتى السنة السابعة حيث قذف الله بالرعب في قلوب أهليها فصالحوا رسول الله (صلى الله عليه و آله) على النصف من فدك، و روي أنه صالحهم عليها كلها. و ابتدأ بذلك تاريخها الإسلامي، فكانت ملكاً لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، لأنها مما لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب، ثم قدمها لابنته الزهراء، و بقيت عندها حتى توفى أبوها (صلى الله عليه و آله) فانتزعها الخليفة الأول و أصبحت من مصادر المالية العامة و موارد ثروة الدولة يوم ذاك حتى تولى عمر الخلافة)
ثانيهما : انَّها هي الولاية بعينها أو من لوازمها التي قد تجسَّدت في ذلك اليوم وهى عصب حياة الخلافة الإسلامية لا يمكن الاستقرار على منصة الحكم بدونها.. ومن حكمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أنه منح فدك لابنته الزهراء وذلك حين نزل قوله تعالى (وآت ذا القربى حقَّه)
{ مصباح الأنوار عن عطية قال لما نزلت و آت ذا القربى حقه دعا رسول الله صلى الله عليه وآله فاطمة فأعطاها فدك }
{ عن أبان بن تغلب عن أبي عبد الله عليه السلام قال قلت أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أعطى فاطمة فدك قال كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وقفها فانزل الله و آت ذا القربى حقه فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم حقها قلت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أعطاها قال بل الله تبارك و تعالى أعطاها }371
فلو لم يفعل رسول الله ذلك ماذا ترى سيحدث بعد ارتحاله ؟
كان الحاكم هو الذي يصطحبها و ذلك على مبرر شرعي لا غبار عليه و هو أنَّ فدك من بيت مال المسلمين الذي هو تحت تصرف الخليفة المنصوب من قبلهم فليس لأحد أن يطالب بها أصلا ،وحينئذ لم يتواجد أيُّ مبرر لصراخ الزهراء و مواجهتها الحكم إلاّ دفاعاً عن زوجها و هذا يعنى أن موقف زوجها هو موقفها لا فرق بينهما أصلاً وحينئذ يمكن للخليفة أن يسكتها و يرغمها بحجة أنها امرأة لا حق لها أن تتدخل في شئون الحكم أو يجبر علياً على إسكاتها و تهدئتها و إلاّ سوف يتخِّذ أيَّ قرار أراد ضدّ عليٍّ وضدّ فاطمة، وعلى فرض ما لو طلب منها عليٌّ السكوت والتراجع فلا بد لها إذاً أن تهدأ لأنه حسب الفرض أنَّ صاحبَ الحق قد تراجع عن حقه فلا معنى للصراخ و المجابهة منها بعد ذلك ، و إن أصرت على ذلك فيمكن التعامل معها بالشدة و سوف لا يثير ذلك أحاسيس المسلمين لأن هذا التعامل له مبرر شرعي و هو الحفاظ على الوحدة الإسلامية و الوقوف دون شق عصا المسلمين.
وهل بإمكان الخليفة إعطائها فدك؟ كلا؟ لأن ذلك يعنى نجاح عليٍّ عليه السلام ولقد عرف أبو بكر هذا الأمر ولهذا لما سمع خطبتها شق عليه مقالتها فصعد المنبر و قال أيها الناس ما هذه الرعة إلى كل قاله أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم إلاّ من سمع فليقل و من شهد فليتكلم إنما هو ثعالة شهيدة ذنبه مرب لكل فتنه هو الذي يقول كروها جذعه بعد ما هرمت يستعينون بالضعفة و يستنصرون بالنساء..)372
أقول:
أما الرعة بالتخفيف أي الاستماع و الإصغاء و القالة القول و ثعالة اسم الثعلب
ولكن:
كل ذلك يتعاكس مع الفرض الآخر و هو مطالبة فدك (و هو المطالبة للولاية في لباس آخر) فإرجاع فدك إليها يعنى التخلي عن الولاية و الخلافة و هو المطلوب الأول..
و عدم إرجاعها إليها يعنى أنهم غصبوا حقها المسلم و الواضح عند كل المسلمين أنَّ الغاصب لا يليق بالحكم فكيف لو كان من ابنة رسول الله
أخلست الزهراء !
إنَّ الكلمة الآتية كلمة عليٌّ عليه السلام عند دفنه الزهراء عليها السلام.
ويظهر للمتأمِّل فيها أمورٌ كثيرةٌ وحوادث جليلة وكأنَّه عليه السلام أراد بيانها ضمن السلام لتبقى مدى الدهر. ونحن ننقل النصّ الذي نقله المحدِّث الكليني رضوان الله تعالى عليه حيث يقول:
(احمد بن مهران رحمه الله رفعه و احمد بن إدريس عن محمد بن عبد الجبار لشيباني قال حدثني القاسم بن محمد الرازي قال حدثنا على بن محمد الهرمزاني عن أبي عبد الله الحسين بن على عليه السلام قال لما قبضت فاطمة عليها السلام دفنها أمير المؤمنين سراً وعفا على موضع قبرها ثم قام فحول وجهه إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال السلام عليك يا رسول الله عنِّي وعن ابنتك و زائرتك... إلى أن قال:
قد استرجعت الوديعة و أُخذت الرهينةُ و أُخلست الزهراء فما اقبح الخضراء والغبراء يا رسول الله أمّا حزني فسرمد و أما ليلى فمسهد و هم لا يبرح من قلبي أو يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم كمد مقيح و هم مهيج سرعان ما فرق بيننا و إلى الله أشكو و ستنبئك ابنتك بتظافر أمتك على هضمها فأحفها السؤال و استخبرها الحال فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلا و ستقول و يحكم الله و هو خير الحاكمين سلام مودع لا قال و لا سئم فان انصرف فلا عن ملالة و إن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين واه واها و الصبر ايمن و اجمل و لو لا غلبه المستولين لجعلت المقام و اللبث لزاما معكوفا و لأعولت اعوال الثكلى على جليل الرزية فبعين الله تدفن ابنتك سرا و تهضم حقها و تمنع ارثها و لم يتباعد العهد و لم يخلق منك الذكر و إلى الله يا رسول الله المشتكى و فيك يا رسول الله احسن العزاء صلى الله عليك و عليها السلام و الرضوان)373
{ مرضت فاطمة عليها السلام مرضا شديدا و مكثت أربعين ليله في مرضها إلى أن توفيت صلوات الله عليها فلما نعيت إليها نفسها دعت أم ايمن وأسماء بنت عميس و وجهت خلف على و احضرته فقالت يا ابن عم انه قد نعيت إلى نفسي و إني لا أرى ما بي إلاّ إنني لاحق بأبي ساعة بعد ساعة و أنا أوصيك بأشياء في قلبي قال لها على عليه السلام أوصيني بما أحببت يا بنت }374
مفاجأة:
فما هي الحيلة التي ينبغي أن يتخذها الخليفة لإسكات بنت رسول الله ليس هناك حل إلاّ الضرب و الجرح و الحرق و من ثم القتل و الشهادة و هذا الأمر هو الذي سوف يفضح الخليفة و من تبعه و شايعه كما فضحهم بين الأشهاد حين مارسوا ذلك فضيحة لا خلاص منها إلى يوم القيامة.
{ الهدف = السكوت + الصراخ }
و بالفعل قد تحقق الهدف المطلوب من هذا السكوت و ذلك الصراخ فبقي الإسلام و القرآن كأطروحة حديثة في صون من شر الجاهلية الثانية و انكشفت جرائم من أراد بالإسلام سوء ا ، و ذلك بعد استشهاد بنت الرسول على أيديهم وهي مبغضة لهم غير راضية عنهم بصريح الأحاديث الكثيرة التّي نقلها الجمهور منها:
{ حدثني محمد بن رافع أخبرنا حجين حدثنا ليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا نورث ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال وإني والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئا فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك قال فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر فلما توفيت دفنها زوجها علي بن أبي طالب ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها علي الخ }375
بقيت أطروحة الولاية ثابتة كأطروحة ليس إلاّ ، وأخذ الخلَّص من الموالين لأهل البيت يترصدون الفرصة المناسبة لتنفيذ تلك الأطروحة المباركة أعنى الولاية ، و بدأ مفهوم الانتظار يترسخ في قلوب الشيعة المخلصين حتى صار أفضل عبادة . .و كان هو المطلوب
هذا: وقد استمرت غربة الإسلام المحمدي الأصيل أي إسلام الغدير قروناً متوالية ومرّت على المؤمنين وفي طليعتهم أئمة الشيعة عليهم السلام ظروفٌ صعبة للغاية، وضحّوا ما ضحّوا من الأموال والأنفس الطاهرة ،كل ذلك لأجل الحفاظ على أصالة الإسلام المحمدي (الذي هو إسلام الرفض) ومن منطلقه تبلورت مدرسة الانتظار و الترقب ، تلك المدرسة التي تمتلك روحية الانتقام و أخذ الثأر إلى أن يأتي صاحبه ولي العصر عليه السلام.
ومن الواضح أنَّ أئمتنا عليهم السلام كلهم كانوا يعيشون منتظرين للفرج ويحرضون أصحابهم أيضاً على ذلك وهم مع ذلك كانوا يسعون عملا للتمهيد لتلك الدولة المباركة المأمولة أعني دولة المهدي الموعود عجّل الله تعالى فرجه الشريف . ولأجل تثبيت هذه النظرية الإسلامية في ضمائر المؤمنين كنظرية يجب الاعتقاد بها ويجب الترصدّ لها حتَّى يخرج من يُحقِّقها ويجتني ثمارها ،مرّت على المؤمنين ظروفٌ صعبة للغاية.
وقد حقق أئمتنا عليهم السلام ذلك الهدف ضمن مجالين :
الأول: تربية نخبة من المؤمنين الخُلّص في كل عصر لا أعني من الخُلَّص ما يستنبطه البعض من الكلمة بل أعني أولئك الذين قد فهموا الإسلام- بمعنى الكلمة -حقّاً فهم بطبيعة الحال الغرباء بين الصديق والعدوّ وهم الحجة علي الآخرين وإن كان عددهم لا يتعدّى أصابع اليد في أكثر الأزمنة ، والجدير أن التأريخ يذكرهم بأسمائهم وأوصافهم
الثاني : تثبيت الإسلام الخالص صريحا أو إيماء اً ضمن التراث العظيم من الأحاديث الذي حافظ عليها السلف الصالح بقدر الإمكان حرفاً بحرف وحيث لم يكن بإمكانهم فهمها فضلاً عن العمل بها لربما غفلوا عن محتواها أو فسروها تفسيرا غير مرضيٍّ.
هذا واستمرَّ هذا الوضع إلى أن انتهى عصر الغيبة الصغرى للمهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف وبدأت الغيبة الكبرى وهو عصر اليُتم وانتظار فرج آل محمَّد عليهم السلام.
نبتهل إلى الله سبحانه أن يجعلنا من المنتظرين الحقيقيين لوليِّه المهدي المنتظر أرواحنا لتراب مقدمه الفداء
إنتهيت من كتابة هذه الكلمة في ليلة الأربعاء 8ربيع الأوَّل 1417ليلة الإمام الحسن العسكري عليه أفضل الصلوة والسلام .



عطااء الله
العلاقة بين الآيات والسور:
إنّ المتحدِّث للآخرين مهما كان عندما يتحدَّث عن أيِّ موضوع نراه يسترسل الكلام حول ذلك الموضوع ضمن فقرات مختلفة بحيث يكون لكل فقرة من الفقرات معنيً مستقلٌ بنفسه ولا يجوز للإنسان أن يتحدث عن آية آية وكأنها نزلت مستقلِّة حتَّى لو ربطها بآيات أخر تفسِّرها.
إرتباط الآيات:
المثال الأول :
قال عز من قائل وهو يتحدَّث عن الوجوه التِّي تنظر إلى ربِّها في يوم القيامة :
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ }376
فيا ترى ما هو المقصود من هذه الوجوه هل العيون !! وكيف يمكن ذلك ؟
فهل الله جسم يُرى أم ماذا ؟
الجواب أنَّ المقصود من الوجوه ليست العيون بدليل قوله تعالى مباشرة:
{ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ }377
وهذا دليل على أنَّ الرؤية هي بالقلب لا بالعين كما قال سبحانه
{ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } 378
وفي الحديث :
لم يره بالبصر و لكن رآه بالفؤاد.
وفي الحديث :
(عن الأصبغ في حديث قال قام إليه رجل يقال له ذعلب فقال يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك فقال ويلك يا ذعلب لم اكن بالذي اعبد ربا لم أره قال فكيف رايته صفه لنا قال ويلك لم تره العيون بمشاهده الأبصار و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان)
مثال2:
{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }379
{ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً }380
{ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً }381
إ رتباط السُوَر:
وأيضاً هناك ارتباط وعلاقة بين أكثر السُور فكأنَّ بعضها يُكمِّل بعضها الآخر وهذا الأمر يظهر كثيراً في السُور القصار والعلاقة ربَّما تصل إلى مستوى تُعدُّ السورتان وكأنَّها سورةٌ واحدة ، كالعلاقة المتواجدة بين سورة الفيل وسورة قريش وأيضاً سورة الضحى وسورة الانشراح.
وفي الحديث المنقول عن المعتبر و المنتهى نقلا من جامع احمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عن المفضل قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول لا تجمع بين سورتين في ركعة واحدة إلاّ الضحى و ألم نشرح و سوره الفيل و لإيلاف قريش
ففي سورة الفيل يقول سبحانه :
{ أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيل ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ }382 .
وكأنَّ السائل يسأل عن السرّ في حدوث هذه المعجزة المباركة والحادثة العظيمة فيجيبه الله سبحانه:
{ لإيلافِ قُرَيْشٍ ، ايلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ }383 .
وكذا بالنسبة إلى سورتي الضحى والانشراح يقول سبحانه وتعالى:
{ وَالضُّحَى ، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ، وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأولَى ، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ، أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ، وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى ، وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ، فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ }384.
والسؤال الذي يطرح نفسَه هو: ما هي النعمة التِّي ينبغي أن أُحدُّث عنها قبل مماتي ؟ ولماذا ؟ يجيبه سبحانه بقوله:
{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ، وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ، الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ، وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ، فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ }385
في تفسير علي بن إبراهيم القمي وتفسير فرات الكوفي والمناقب لابن شهر آشوب عن أبي عبد الله عليه السلام (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ) علياً للولاية.
(عن كتاب كشف اليقين بإسناده.. عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله و الذي بعثني بالحق بشيرا ما استقر الكرسي و العرش و لا دار الفلك و لا قامت السماوات و الأرض إلاّ بان كتب عليها لا اله إلاّ الله محمد رسول الله على أمير المؤمنين و إن الله تعالى لما عرج بي إلى السماء واختصني اللطيف بندائه قال يا محمد قلت لبيك ربى و سعديك قال أنا المحمود و أنت محمد شققت اسمك من اسمي و فضلتك على جميع بريتي فانصب أخاك عليا علما لعبادي يهديهم إلى ديني ...)386
والملاحظ في السور القصار الأخيرة أنها تتحدَّث عن أمور تخص النبي صلى الله عليه وسلم أو أنَّها تخاطبه.
فتبدأ بالماعون ثم الكوثر ثم الكافرون ثم النصر ثم المسد ثم الإخلاص ثم الفلق ثم الناس والقارئ لهذه السور يرى العلاقة الوثيقة بينها فبعد بيان حال المرائين في سورة الماعون وبخلهم المفرط نشاهد العطاء الإلهي والكثرة في الخير ثم الصلوة للرب والنحر في سورة الكوثر وأنّ الشانئ هو الأبتر الذي يقوِّي روحيَّة الرسول ويُضاعف في قوَّته فيمكنه أن يواجه الكفّار بصلابة فيقول سبحانه: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)
والوعد بالفتح في النصر وهلاك العدو في المسد ثمَّ الإخلاص فالاستعاذة من شرِّ المخلوقات ومن قطّاع الطريق الموسوسين في صدور الناس.
أسرار سورة الكوثر
هذا ونشرع في بيان سورة الكوثر الذي هو من أعظم المعاجز الإلهيَّة فنقول:
إنّ سورة الكوثر مع أنَّها أقصر سورة في القرآن الكريم ولكن على اختصارها و قصرها تشتمل على لطائف كثيرة نشير إلى بعضٍ منها:
إنَّ هذه العطيَّة من الله سبحانه فالعطاء كبير حيث أن المعطِي كبير تعالى شأنه مضافاً إلى ابتداء الكلام بكلمة (إنّا) أعني بالجملة الإسميَّة مع ذكر ضمير المتكلم أعطيناك تدل على عظمة العطية.
قوله إنا أعطيناك يدل على أنه لن نسترجعها خصوصاً أنه سبحانه طلب منه الصلاة والنحر كعوض وهذا مثل ما لو أعطى أحدٌ ألف دينارٍ لشخص وأراد منه أن يقرأ الفاتحة على روح والده كعوض فلن يسترجعها منه.
قوله إنا أعطيناك ولم يقل سنُعطيك وهذا إن دلَّ على شيء فإنَّما يدلُّ على أنَّ هذا الأعطاء كان حاصلا في الماضي كيف لا و الكوثر (الزهراء) كانت محوراً للأنوار (هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها) و كأنه يقول نحن قد هيأنا أسباب سعادتك قبل دخولك في الوجود فكيف نهمل أمرك بعد وجودك و اشتغالك بالعبودية. و أيضاً نحن لم نقدمك و لم نفضلك لأجل طاعتك فأعطيناك قبل إقدامك للصلوة و النحر.
قوله أعطيناك و لم يقل أعطينا الرسول أو النبي و هذا يدل على أن العطية لمحمد(ص) خاصة كشخصيَّة مميَّزة.
قوله أعطيناك لا آتيناك وهو يدلُّ على التفضل الدائم المستمر في الدنيا مضافاً إلى الشفاعة في الآخرة حيث قال تعالى { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى }387
قوله الكوثر مضافاً إلى هذه الصيغة (فوعل) جاءت بنحو الجمع المحلَّى باللام الدال على الكثرة الشاملة من غير حدٍّ ، فالله أعطى كلَّ شيء قدره وخلقه { قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى }388 إلاّ الرسول حيث لا حدَّ للعطاء الإلهي له. { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }389 وأيضاً إنّ كلمة الكوثر التِّي هي صفة قد جاءت من غير موصوف و هذا يدل على الإبهام و الشياع.
في حين أن الكثرة في سائر الموارد قد وردت بالموصوف:(فئة كثيرة - مغانم كثيرة - مواطن كثيرة - فواكه كثيرة - منافع كثيرة - خيرا كثيرا - مراغما كثيرا - ذكرا كثيرا)
قوله تعالى فصل وكأنَّه يقول لا تُبالِ ولا تهتم بقول العاص ابن وائل بل اشتغل بالصلاة.
قوله لربك وانحر(لربك) إشارة إلى انهم لا يصلون لله و لا ينحرون له.
و أشار إلى نوعين من العبادات البدنية والمالية .
قوله فصلِ أي اشتغل بأحسن ما تحبُّه وهو الصلوة وفيه إشارة إلى أنه صلى الله عليه وآله وسلم يحبُّ الصلوة حيث أن الصلوة قرةُ عينه (وقرة عيني الصلوة).
قوله لربك و صرف الكلام عن لفظ المضمر إلى لفظ المظهر دال على و فيه إظهار لكبرياء شأنه تعالى.
قوله إن شانئك يدل على عدم الاهتمام بشنئانه و ذكره بصفته لا باسمه يشمل كل من كان في مثل حاله و أيضاً إشارة إلى أن الشنئآن هو الباعث للتهمة ، والبغضاء هي الدافع للمحاربة.
وأمّا الأبتر فمأخوذ من البتر وهو في اللغة يعنى استئصال القطع يقال:
بترته أُبتره بَترا .. صار أبتر و هو مقطوع الذنب و الأبتر يعنس من لا عقب له.
ولا يخفى أنَّ جعل الكوثر في قبال الأبتر يدلُّ على أنَّ الكثرة المرادة هي الكثرة في النسل وهي أكبر مُعجزة إلهيَّة حيث النسل الكثير للرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم من أولاد فاطمة الزهراء عليها السلام في جميع أرجاء العالم وقد برز واحد منهم في الآونة الأخيرة حيث هزَّ عرش الطواغيت وهو الإمام الخميني قدس سره الشريف.
والحمد لله ربِّ العالمين كتبه إبراهيم الأنصاري ليلة 15 رمضان المبارك 1416
الكويت

سر الله
اسم فاطمة إ سم جامع لاسم الزهراء
{ أمالي وخصال الشيخ الصدوق... عبد العظيم الحسنى عن الحسن بن عبد الله بن يونس عن يونس بن ظبيان قال قال أبو عبد الله عليه السلام لفاطمة عليها السلام تسعه أسماء عند الله عز و جل فاطمة و الصديقة و المباركة و الطاهرة و الزكية و الراضية و المرضية و المحدثة و الزهراء ثم قال عليه السلام ا تدرى أي شيء تفسير فاطمة قلت أخبرني يا سيدي قال فطمت من الشر قال ثم قال لو لا أن أمير المؤمنين عليه السلام تزوجها لما كان لها كفو إلى يوم القيامة على وجه الأرض آدم فمن دونه كتاب دلائل الإمامة للطبري عن الحسن بن احمد العلوي عن الصدوق مثله }390
أقول :
إنّ الحديث يركّز على أسمائها عند الله وهذا المقام أعني مقام عند هو مقام عظيم لا يناله أحد إلاّ الأنبياء والأولياء.
وهو نفس المقام المذكور في الآيات الآتية:
{ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى }391
و هي نفس عنده في قوله :
{ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ }392
{ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ }393
{ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا }394.
{ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ }395
وأيضاً هناك تأكيد في الحديث على كلمة فاطمة خاصّة ووجه تسميتها بها بأنّها فطمت عن الشرّ وهذا مفهوم عام يستوعب جميع ما ذكر في وجه تسميتها بهذا الاسم .
وهناك نقطة في الحديث لها غاية الأهميّة وهي قوله عليه السلام: (لو لا أن أمير المؤمنين عليه السلام تزوجها لما كان لها كفو إلى يوم القيامة على وجه الأرض آدم فمن دونه )
وفي حديث آخر:
((عن يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول لو لا أن الله خلق أمير المؤمنين لفاطمة ما كان لها كفو على الأرض }396
وهذه الجملة تبيّن عظمة كلّ من فاطمة وعليٍّ عليه السلام فهي عليها السلام أفضل من جميع نساء العالمين وهو عليه السلام أفضل من جميع الرجال آدم ومن دونه .
ثمّ _إنّ كلمة فاطمة من تجلّيات اسم الله سبحانه وتعالى وهي مشتقة بالاشتقاق الأكبر من فاطر
وفي هذا المجال هناك أحاديث كثيرة نذكر ثلاثة منها كنماذج :
( .. سلمان الفارسي رضى الله عنه في حديث طويل قال قال النبي صلي الله عليه وآله يا سلمان فهل علمت من نقبائي و من الاثنا عشر الذين اختارهم الله للإمامة بعدي فقلت الله و رسوله اعلم قال يا سلمان خلقني الله من صفوه نوره ........إلى أن قال: و الله الفاطر و هذه فاطمة و الله ذو الإحسان و هذا الحسن و الله المحسن و هذا الحسين)397
(عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم لعلى بن أبي طالب عليه السلام لما خلق الله عز ذكره آدم و نفخ فيه من روحه و اسجد له ملائكته و اسكنه جنته و زوجه حواء أمته فرفع طرفه نحو العرش فإذا هو بخمسه سطور مكتوبات قال آدم يا رب من هؤلاء قال الله عز و جل هؤلاء الذين إذا تشفع بهم إلى خلقي شفعتهم فقال آدم يا رب بقدرهم عندك ما اسمهم قال أما الأول فأنا المحمود و هو محمد و الثاني فأنا العالي الأعلى و هذا علي و الثالث فأنا الفاطر و هذه فاطمة و الرابع فأنا المحسن و هذا حسن و الخامس فأنا ذو الإحسان و هذا حسين)398
(العجلي عن ابن زكريا عن ابن حبيب عن ابن بهلول عن أبيه عـن عبد الله بن الفضل الهاشمي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عليه السلام قال كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ذات يوم جالسا و عنده على وفاطمة و الحسن و الحسين عليه السلام فقال و الذي بعثني بالحق بشيرا ما على وجه الأرض خلق احب إلى الله عز و جل و لا اكرم عليه منا إن الله تبارك و تعالى شق لي اسما من أسمائه فهو محمود و أنا محمد و شق لك يا على اسما من أسمائه فهو العلي الأعلى و أنت على و شق لك يا حسن اسما من أسمائه فهو المحسن و أنت حسن و شق لك يا حسين اسما من أسمائه فهو ذو الإحسان و أنت حسين و شق لك يا فاطمة اسما من أسمائه فهو الفاطر و أنت فاطمة ثم قال اللهم إني أشهدك إني سلم لمن سالمهم و حرب لمن حاربهم و محب لمن احبهم و مبغض لمن ابغضهم و عدو لمن عاداهم و ولى لمن والاهم لأنهم منى و أنا منهم )399
كلا م حول الإ شتقاق وأنواعه
فإذا كان المشتق والفرع مشتملين على حروف الأصل على الترتيب والنسق يسمّى اشتقاقاً صغيراً كضرب ونصر من الضرب والنصر.
2-وإن جمع الفرع حروفَ الأصل ولكن لم يُلحظ فيه الترتيب يسمّى بالاشتقاق الكبير مثل :فسر وسفر.
3-وإن لم يشتمل على جميع الأصل ولكن فيه أكثر حروف الأصل يسمّى بالاشتقاق الأكبر كهضم وخضم ، ونبع ونيع ،وقصم وفصم ،وفطم وفطر.
قال صاحب المفردات:
أصل فطر الشق طولاً يقال: فطر فلان كذا فطْراً وأفطر هو فطوراً ،وانفطر انفطاراً قال تعالى (هل ترى من فطور)
قال الإمام (قدس سرّه):
وفي الصحاح : الفطرة بالكسر " الخلقة " ويمكن أن تكون الكلمة مأخوذة من "فطر" أي "شقّ " كأنّ الخلق أشبه بشق ستار العدم و حجاب الغيب ، وبهذا المعنى يكون إفطار الصائم :فكأنّه شق استمراريّة الإمساك .
أقول: وقد أستعمل القرآن هذه الكلمة ومشتقّاتها في عشرين مورداً.
الوجه في تسميتها بهذا الإسم
وبعد وضوح معنى فاطر يتّضح لنا الوجه في تسميتها فاطمة .
وذلك:
أنّ الله سبحانه وتعالى لم يخلق امرأة بهذه المواصفات العظيمة التي منها أنّها حوراء إنسيّة ، ففطر العدم هذا بخلق فاطمة وتجلّى معنى فاطر في شخصيّتها عليها السلام ومن هذا المنطلق سمّيت فاطمةُ فاطمة.
‏قال الإمام (قدس سرّه):‎ (جميع الأبعاد المتصوّرة للمرأة وللإنسان قد تجلّت في الزهراء سلام الله عليها وكانت متواجدة فيها . لم تكن الزهراء امرأة عاديّة ،هي امرأة روحانيّة ،هي امرأة ملكوتيّة ،هي إنسان بجميع معنى الكلمة ،إنّها جميعُ نسخة الإنسانية، جميعُ حقيقة المرأة ، جميع حقيقة الإنسان . إنّها ليست امرأة عاديّة ، إنّها موجود ملكوتي قد ظهرت في العالم على صورة إنسان ....إنّها امرأة قد اشتملت على جميع خواص الأنبياء ،هي امرأة لو كانت رجلاً لكانت نبيّاً ، امرأة لو كانت رجلاً كانت في موقع رسول الله صلي الله عليه وآله ....المعنويات ، التجلّيات الملكوتية و الإلهيّة و الجبروتيّة والملكيّة و الناسوتيّة كلّها قد إجتمعت في هذا الموجود...إنّ الإنسان موجود متحرّك من مرتبة الطبيعة إلى مرتبة الغيب وإلى الفناء في الألوهيّة .وقد حصلت للصديقة الطاهرة هذه المعاني وهذه المسائل. فهي بالحركة المعنوية من مرحلة الطبيعة وبقدرة الله وباليد الغيبيّة وبتربية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم إستمرت في طيّ المراتب إلى أن وصلت إلى مرتبة لم ينلها أحد من الخلق )
ثمّ : إنّ هناك جانبين في خصوص هذا الإسم (أعني فاطمة) :
الأول : الجانب السلبي أو الجلالي .
الثاني : الجانب الإيجابي أو الجماليّ.
وكلا الجانبين قد بُينّا في الحديث الشريف ولكنْ بنحو كلّيٍّ فقوله عليه السلام (أتدرى أي شئ تفسير فاطمة قلت اخبرني يا سيدي قال فطمت من الشر) يشير إلى جانب الجلال في شخصيّتها. وقوله عليه السلام :(لو لا أن أمير المؤمنين عليه السلام تزوجها لما كان لها كفو إلى يوم القيامة على وجه الأرض آدم فمن دونه) يبيّن جانب الجمال في وجودها عليها السلام .
الكفؤ
أعتقد أن التكافؤ بين الزهراء عليها السلام وعليٍّ سلام الله عليه الوارد في الأحاديث الكثيرة كالحديث التالي:
((عن يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول لو لا أن الله خلق أمير المؤمنين لفاطمة ما كان لها كفو على الأرض }400
لا يعنى التكافؤ في الحيوة الزوجية فحسب و لا يعني أيضاً أنهما مجمع النورين و البحرين بعد تفرقهما في عبد الله وأبي طالب حيث ورد في تفسير قوله تعالى:
(كنز العمّال محمد بن العباس عن محمد بن احمد عن محفوظ بن بشر عن ابن شمر عن جابر عن أبي عبد الله قال عليه السلام في قوله عز و جل مرج البحرين يلتقيان قال على و فاطمة.. ) 401وهناك أحاديث كثيرة في هذا المجال راجع مضانِّها.
بل هناك أمر أهم من ذلك و أرفع مستوى و هو التكافؤ في أداء التكليف الإلهي بحيث كل يكمل الآخر.. و كل يؤدى تكليفه المتناقض مع تكليف الآخر ظاهراً و المطابق معه واقعا فهو تكليف واحد و لكن قد تجلّى وظهر في موقفين متضادين تماماً. و من هنا نعرف السر في الحديث القدسي حيث يقول: ( لو لا على لما خلقت فاطمة الخ.. )
فهذا الحديث هو الأصل مرتكز فيه جميع المفاهيم المذكورة في الأحاديث الأُخر بنحو التفصيل.
خلاصة الوجوه للإسم (فاطمة):
1-لأنّ الله فطم محبيها من النار.
2-لأنّها فطمت عن الطمث.
3-لأنّها فطمت بالعلم (أي من الجهل).
والمستفاد من الأحاديث أنّها عليها السلام فاطمة فطمت عن جميع العيوب والنقائص وهذا يعني طهارتها المطلقة وهي العصمة.
والمهمّ ما في الحديث:( محمد بن القاسم بن عبيد معنعنا عن أبي عبد الله عليه السلام انه قال إنا انزلناه في ليلة القدر الليلة فاطمة و القدر الله فمن عرف فاطمة حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر و إنما سميت فاطمة لان الخلق فطموا عن معرفته)402
المــقارنة بتن ليلة القدر و فاطمة الزهراء عليها السلام
1-إنّ ليلة القدر مجهولة للناس من حيث القدر والمنزلة والعظمة كذلك بضعة المصطفى .
2-أنّه كما أنّ ليلة القدر يفرق فيها كلّ أمر حكيم، كذلك بفاطمة يفرق بين الحقّ والباطل.
3-كما أنّ ليلة القدر صارت ظرفاً زمانيّاً لنزول الآيات والسوَر كذلك فاطمة أرضيّة مكانية لنزول جبرئيل .
4-ليلة القدر معراج الأنبياء والأوصياء ، وكذلك ولايتها مرقاة لهم (ما تكاملت النبوّة لنبيٍّ حتّى أقرّ بفضلها ومحبَّتها).
5-إنّ ليلة القدر منشأ للفيوضات و الكمالات ، كذلك التوسّل بها وسيلة للبركات ودفع البليّات.
6-إنّ ليلة القدر خير من ألف شهر فهي عليها السلام خير نساء الأولين والآخرين ، بل إنّ فاطمة خير أهل الأرض عنصراً وشرفاً وكرماً.
7-إنّ ليلة القدر هي بداية سنة العرفاء بالله كما في الأحاديث الكثيرة وهي منطلق السير إلى الله فكذلك فاطمة هي منطلق الورود في الولاية والتعلّق بأهل البيت عليهم السلام .
مقتطفات من أرجوزة المحقق الإصفهاني في شأن الزهراء عليها السلام
جوهرة القدس من الكنز الخفي بدت فأبدت عاليات الأحرف وقد تجلى من سماء العظمة من عالم الأسماء أسمى كلمة بل هي أم الكلمات المحكمة في غيب ذاتها نكات مبهمة
أم الأئمّة العقول الغرّ بل أم أبيها وهي علّة العــــــلل روح النبي في عظيم المنزلة وفي الكفاء كفؤ من لا كفؤ له تصوّرت حقيقة الكمال بصـــورة بديعةِ الجـــــمال فإنّها الحوراء في النزول وفي الصعود محور العقول
يمثل الوجوب في الإمكان عيانها بأحســــــن البيان فإنّها قطب رحى الوجود في قوسي النزول والصعود وليس في محيط تلك الدائرة مدارها الأعظم إلاّ الطاهرة مصونة عن كلّ رسم وسمة مرموزة في الصحف المكرمّة وحبّها من الصفات العالية عليه دارت القرون الخالية تبتلت عن دنس الطبيعة فيا لها من رتبة رفيعة مرفوعة الهمّة والعزيمة عن نشأة الزخارف الذميمة في أفق المجد هي الزهراء للشمس من زهرتها الضياء بل هي نور عالم الأنوار ومطلع الشموس والأقمار رضيعة الوحي من الجليل حليفة المحكم والتنزيل مفطومة من زلل الأهواء معصومة عن وصمة الأخطاء راضية بكل ما قضى القضا بما يضيق عنه واسع الفضا زكيّة من وصمة الوجود فهي غنيّة عن الحدود
يا قبلة الأرواح والعقول وكعبة الشهود والوصول من بقدومها تشرّفت منى ومن بها تدرك غاية المنى وبيتها المعمور كعبة السما أضحى ثراه للثريّا ملثما وخدرها السامي رواق العظمة وهو مطاف الكعبة المعظّمة حجابها مثل حجاب الباري بارقة تذهب بالأبصار
تمثّل الواجب في حجابها فكيف بالإشراق من قبابها لك الهنا يا سيد الوجود في نشئات الغيب والشهود
بمن تعالى شأنها عن مثلِ كيف ولا تكرار في التجلّي بشراك يا أبا العقول العشرة بالبضعة الطاهرة المطهرة مهجة قلب عالم الإمكان وبهجة الفردوس والجنان غرّتها الغراء مصباح الهدى يعرف حسن المنتهى بالمبتدى بشراك ياخلاصة الإيجاد بصفوة الأمجاد والأنجاد أم الكتاب وابنة التنـزيل ربّة بيت العلم بالتأويل بحر الندى ومجمع البحرين قلب الهدى ومهجة الكونين واحدة النبيّ أوّل العدد ثانية الوصيِّ نسخة الأحد ومركز الخمسة من أهل العبا ومحور السبعة علوا وإبا لك الهنا يا سيد البريّة بأعظم المواهب السنية أتاك طاووس رياض القدس بنفحة من نفحات الأنس من جنّة الصفات والأسماء جلّت عن المديح والثناء فارتاحت الأرواح من شميمها واهتزّت النفوس من نسيمها
والحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على محمّد وآلــــــــه الطــــــــاهرين ليلة الثلاثاء 20 جمادي الثانية 1416 ليلة ولادة الصدّيقة الزهراء عليها السلام

ذخيرة الله
الحمد لله ربِّ العالميـن ثم الصلاة و السلام على خاتـم الأنبياء و المرسليـن أبي القاسـم محمـد صلى الله عليه وعلى آله المعصوميــن المنتجبـــيـن .
((السلام عليك أيتها الصديقة الشهيدة ، السلام عليك أيتها الرضية المرضية ، السلام عليك أيتها الفاضلة الزكيّة السلام عليك أيتها الحوراء الإنسية السلام عليك أيتها التقية النقية السلام عليك أيتها المحدثة العليمة السلام عليك أيتها المغصوبة المظلومة السلام عليك أيتها المضطهدة المقهورة السلام عليك يا فاطمة بنت رسول الله و رحمه الله و بركاته))403
الإمام الخميني يتحدَّث عن الزهراء
((الأسوة هي الزهراء سلام الله عليها)) 404
((إنّها امرأة قد ربّت في حجرتها الصغيرة وبيتها المتواضع أناساً قد انبثق نورهم من البسيطة إلى عمق الأفلاك وكان ذلك النور يتلألأ من عالم الملك إلى جانب الملكوت الأعلى صلوات الله وسلامه على هذه الحجرة المتواضعة التّي أصبحت تجلٍّ لنور العظمة الإلهيّة ومحلاً لتربية المصطفين من أولاد آدم))405
وفي كلمة أخرى يشير إمامنا إلى الحديث المعروف المنقول في الكافي الشريف وهو:
((الكافي محمد بن يحيى عن احمد بن محمد عن ابن محبوب عن ابن رئاب عن أبي عبيده عن أبي عبد الله عليه السلام قال إنَّ فاطمة عليها السلام مكثت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم خمسة و سبعين يوما و كان دخلها حزنٌ شديدٌ على أبيها و كان جبرئيل عليه السلام يأتيها فيُحسن عزاءها على أبيها و يُطيب نفسَها و يُخبرها عن أبيها و مكانِه و يُخبرها بما يكون بعدها في ذرِّيتِها و كان علي عليه السلام يكتب ذلك فهذا مصحف فاطمة عليه السلام))406
ثم يُعلق الإمام على هذه الرواية فيقول:
((ظاهر الرواية هو أنّه كانت مراودة أي ذهاب وإياب كثير لجبرئيل الأمين وذلك في 75 يوماً ، ولا أظنّ حدوث هذا الأمر لغير الطبقة الأولى من الأنبياء العظام بحيث يتراود إليهم جبرئيل الأمين في 75 يوماً ))
ثم:
(( إنّ كاتب الوحي للصديقة الزهراء كان أمير المؤمنين عليه السلام كما أنّه عليه السلام كان كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وآله (الذي انتهى ذلك الوحي بارتحال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلّم ، إنّه ليس من السهل مجيءُ جبرئيل للإنسان .ولا يُتَخيل أنّ جبرئيل يأتي لكلّ أحد وأنّ هذا الأمر من الأمور الممكنة !!إنّ هذا الأمر يفتقر إلى تناسب و انسجام بين روح من يتوجه إليه جبرئيل وبين مقام جبرئيل الذي هو الروح الأعظم . وليس هناك فرق بين القولين سواء قلنا أنّ تنزيل جبرئيل إنّما هو بواسطة الروح الأعظم للولي أو النبي ، وأنّه هو الذي ينزّل جبرئيل أم قلنا بأنّ الله سبحانه يأمره بأن يأتي ويُخبر عنه سبحانه فعلى القولين : الأوّل الذي هو قول بعض من أهل النظر أو الثاني الذي قال به بعض أهل الظاهر ، فلولا التناسب بين روح من يأتي إليه جبرئيل وبين جبرئيل نفسه الذي هو الروح الأعظم ، لا يمكن هذا المعنى أعني (إتيان جبرئيل إليه) وهذا التناسب كان في الدرجة الأولى بين جبرئيل الذي هو الروح الأعظم والأنبياء وهم الرسول الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وموسى عليه السلام وعيسى عليه السلام وإبراهيم عليه السلام وأمثالهم ، ولم يتحقق هذا الأمر بالنسبة إلى الآخرين ، حتّى بالنسبة إلى الأئمّة عليهم السلام أنا لم أعثر على مستند يدلُّ على نزول جبرئيل عليهم بنفس المستوى الذي وصلت إليه الزهراء عليها السلام هذه الأمر كان منحصراً بالزهراء عليها السلام لا غيرها .... وأمّا بما يتعلّق بالمسائل التّي كان جبرئيل يبيّن لها، فربّما كانت إحدى تلك المسائل المبيّنة لها من قِبَل جبرئيل تتعلّق بما يحدث في عهدِ واحدٍ من ذريتها العظيمة أعني صاحب الأمر سلام الله عليه ، ومسائل إيران كان من ضمنها ، نحن لا نعلم، ربّما كان ذلك وعلى أيّ حال إننّي أرى هذه الفضيلة أسمى فضائلها (مع أنّ جميع فضائلها عظيمة) وهي الفضيلة التي لم تحصل لغير الطبقة العالية من الأنبياء عليهم السلام ( لا كلّهم ) وبعض الأولياء الذين كانوا في رتبة تلك الطبقة من الأنبياء .وأمّا قضيّة مراودة جبرئيل في الخمس والسبعين يوماً فلم يتحقق لأحدٍ حتّى الآن وهذه من الفضائل المختصّة بالصدّيقة سلام الله عليها))407.
ليلة القدر فاطمة
((عن أبي عبد الله عليه السلام انه قال إنا أنزلناه في ليله القدر الليلة فاطمة والقدر الله فمن عرف فاطمة حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر و إنما سميت فاطمة لان الخلق فطموا عن معرفتها))408.
أقول :
ومن خلال هذا الحديث نستفيد أموراً كثيرةً :
فكما أن المعنى الحقيقي لليلة القدر غير معروف للخلق كذلك الزهراء عليها السلام فهي مجهولة للخلق أجمع أعم من الناس والملائكة والجن فهي باطن تلك الليلة المباركة و لا يعرفها إلاّ المعصومون عليهم السلام:
{ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ }409
كذلك من حيث موضع قبرها فهناك ثلاثة احتمالات في ذلك فربَّما يكون القبر في البيت و ربَّما في البقيع و ربَّما بين المنبر و قبر الرسول حيث ورد أنَّ هناك روضة من رياض الجنَّة ? إشارةً إلى قبرها سلام الله عليها و الليلة أيضاً مردَّدةٌ بين ليالٍ ثلاث ، و كما أنَّ الليل هو مظهر الستر والعفاف فهي سلام الله عليها كذلك .
و الأهمّ من ذلك
أنَّه كما أنَّ ليلة القدر ظرف زماني قد احتمل كلَّ ما أنزله الله تعالى الذي كان في الكتاب المكنون في كتابه الكريم ففاطمة ظرف مكاني قد احتمل كلَّ ما أنزله الله تعالى ، فهي سلام الله عليها محلِّ لتجلي الاسم الأعظم و من هنا نسبت إلى الله تعالى مباشرةً من غير واسطة وهذا يدلُّ على خصوصيَّة في خلقها فالله الفاطرُ خلق فاطمة و قد شرحنا هذا الأمر في كلمتنا حول الفاطر فراجع410
ومن هنا نعرف ما ذكره الإمام الصادق عليه السلام حيث قال:
(( فمن عرف فاطمة حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر))411
فلا يمكن إدراك تلك الليلة المباركة و الوصول إلى فضائلها إلا بمعرفة فاطمة عليه السلام .
وفي حديث آخر في الكافي :
((الكافي أحمد بن مهران و على بن إبراهيم جميعا عن محمد بن على عن الحسن بن راشد عن يعقوب بن جعفر بن إبراهيم قال كنت عند أبي الحسن موسى عليه السلام إذ أتاه رجل نصراني فسأله عن مسائل فكان فيما سأله أن قال له أخبرني عن حم و الكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين ، فيها يفرق كل أمر حكيم ، ما تفسيرها في الباطن ؟ فقال: ..... و أمّا الليلة ففاطمة عليها السلام .))412
فا طمة مـحد ثة
فعلى ضوء ما قلنا نعرف السرّ في إطلاق المحدَّثة عليها ، و في هذا المجال هناك أحاديث كثيرة دالة على أنَّ الملائكة كانت تهبط عليها من السماء وتناديها فتحدِّثهم و يحدِّثونها ، كما ورد في كتاب علل الشرائع للصدوق رضوان الله تعالى عليه:
(( بإسناده حدثنا علي بن جعفر الحضرمي بمصر منذ ثلاثين سنة قال : حدثنا سليمان قال محمد بن أبي بكر لما قرأ : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث قلت : وهل يحدث الملائكة إلا الأنبياء قال : إن مريم لم تكن نبية وكانت محدثة وأم موسى بن عمران كانت محدثة ولم تكن نبية وسارة امرأة إبراهيم قد عاينت الملائكة فبشروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ولم تكن نبية وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه واله كانت محدثة ولم تكن نبية ))413.
أهمية المــصحف
لمعرفة أهمية مصحف الزهراء عليها السلام يكفي التأمُّل في الحديث التالي المنقول في كتاب الكافي الشريف للكليني رضوان الله تعالى عليه :
(( أحمد بن محمد ، ومحمد بن الحسين ، عن ابن محبوب ، عن ابن رئاب ، عن أبي عبيدة قال : سأل أبا عبد الله عليه السلام بعض أصحابنا عن الجفر ، فقال : هو جلد ثور مملوء علماً ، فقال له : ما الجامعة ؟ قال : تلك صحيفة طولها سبعون ذراعا ، في عرض الأديم ، مثل فخذ الفالج ، فيها كل ما يحتاج الناس إليه ، وليس من قضيَّة إلا وفيها ، حتى أرش الخدش ، قال له : فمصحف فاطمة ، فسكت طويلاً ، ثم قال : إنكم لتبحثون عمّا تريدون وعمّا لا تريدون ، إن فاطمة مكثت بعد رسول الله صلى الله عليه واله خمسة وسبعين يوماً ، وقد كان دخلها حزنٌ شديد على أبيها ، وكان جبرئيل يأتيها ، فيُحسن عزاءَها على أبيها ، ويُطيب نفسها ، ويخبرها عن أبيها ومكانِه ، ويخُبرها بما يكون بعدها في ذريتها ، وكان علي (عليه السلام) يكتب ذلك ، فهذا مصحف فاطمة ))414
أقول:
إنَّ الإمام الصادق عليه السلام يمهِّد لحماد بن عثمان ، ليسأل عن مصحف فاطمة عليها السلام ، فهو سأل عن حقيقة المصحف ، بعد ما سمع بعض الشيء عن الجفر والجامعة ، وتلاحظ أنَّه عليه السلام في بيان الجفر قال (( جلد ثور مملوء علماً )) و من الواضح أنَّ الإتيان بالنكرة المنوَّنة ، أعني (( علماً )) يدليل على عظمة ذلك العلم ، كما أنَّ كلمة تلك في قوله عليه السلام عندما سأل عن الجامعة (( تلك صحيفة طولها سبعون )) مع أنَّ الجامعة فيها كلُّ ما يحتاج إليها الناس ، حتى أنَّها تشتمل على جميع الأحكام الشرعية ، بل جميع القضايا ((وليست من قضية إلا و فيها)) حتى أرش الخدش .
ولكن
بمجرد أن سأل عن مصحف الزهراء ، واجه موقفاً غريباً من الإمام عليه السلام حيث ((سكت طويلاً )) وهذا السكوت ، إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على عظمة الأمر وأهميته (( ثم قال : إنكم لتبحثون عمّا تريدون وعمّا لا تريدون)) وعندما يجيب عليه السلام عن سؤال الراوي ، يبيِّن له الأمر بنحوٍ مجمل لأنَّه و غيره من الناس لا يمكنهم تحمُّل حقيقة المصحف .
نزول المــلَك
الأرضية التي من أجلها جاء الملَك415 ، أعني الروح الأمين إلى الصديقة فاطمة سلام الله عليها ، وحدَّثها ، هي شدَّة حزنها على أبيها ، صلوات الله و سلامه عليه ، فقد ورد في حديث الكافي :
((..عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : إنَّ فاطمة عليها السلام مكثت بعد رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلّم ، خمسة و سبعين يوما ، و كان دخلها حزنٌ شديدٌ على أبيها..))416
وفي حديث بصائر الدرجات:
((إن الله تباك وتعالى لما قبض نبيه ، صلى الله عليه واله ، دخل على فاطمة من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلا الله عز وجل ، فأرسل إليها ملكا..))
وكان حزنها من وفاة أبيها ، قد وصل إلى غايةٍ من الشدَّة ، بحيث لا يعلمه إلاّ الله عزَّ وجلَّ .
من هنا يمكننا معرفة عمق معاني كثير من الأحاديث التي وردت في شأنها ، وفي شأن أبيها ، صلوات الله وسلامه عليهما ، و أيضاً في العلاقة المتواجدة بين الأب و البنت ، وبينهما وبين الله ،
فمنها ما روى العلامّة المجلسي :
(( قال : خرج النبي ، صلى الله عليه واله ، وهو آخذ بيد فاطمة ، عليها السلام ، فقال : من عرف هذه فقد عرفها ، ومن لم يعرفها ، فهي فاطمة بنت محمد ، وهي بضعة مني ، وهي قلبي ، و روحي التي بين جنبي ، فمن آذاها فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ))417.
و في الحديث المنقول :
(( عن جعفر بن محمد ، عليهما السلام ، قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه واله : إن الله ليغضب لغضب فاطمة ، ويرضى لرضاها ))418.
(( وعنه عليه السلام ، قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه واله : إن فاطمة شجنة ، مني يسخطني ما أسخطها ، ويرضيني ما أرضاها ))419 .
أقول:
هذه العلاقة القويمة ، قد انـثلمت بعد وفاة الرسول الأكرم ، صلى الله عليه وآله ، على مستوى عالم المُلك و الدنيا ، ففقدانه ،صلوات الله عليه للزهراء ، سلام الله عليها ، يعني فقدان كلِّ شيء ، فمن الطبيعي أن يشتدُّ حزنها ، بحيث لا يعلمه إلاّ الله .
فما ذا حصل بعد ا لحزن ؟
الأحاديث تدلُّ على أنَّ جبرئيل كان يأتيها ، كما في حديث الكافي ، وفي الحديث المنقول عن بصائر الدرجات ورد :
(( دخل على فاطمة من وفاته ، من الحزن ما لا يعلمه إلا الله ، عز وجل فأرسل إليها ملكا..))
و لا يخفى عليك ، ما يستفاد من كلمة الفاء ، في فأرسل إليها مَلكاً ، حيث تدلُّ على أنَّ الملك إنَّما أُرسل إليها ، فلأجلِ حُزنها على أبيها ، و حيث أنَّ الحزن لم يكن منقطعاً ، بل كان مستمرّاً طوال خمسة وسبعين يوماً ، فكان جبرئيل يتراود إليها بنحو مستمرِّ ، كما في حديث الكافي الذي مرّ،
(( مكثت بعد رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلّم ، خمسة وسبعين يوما،و كان دخلها حزنٌ شديدٌ على أبيها ، و كان جبرئيل ،عليه السلام ، يأتيها ، فيُحسن عزاءها على أبيها ، و يُطيب نفسَها ، و يُخبرها عن أبيها ، و مكانِه ، و يُخبرها بما يكون بعدها في ذرِّيتِها ))420.
تأمّل في كلام الإمام الخميني قدس سرُّه حيث شرح الرواية بقوله:
((ظاهر الرواية هو ، أنّه كانت مراودة ، أي ذهاب وإياب كثير ، لجبرئيل الأمين وذلك فى خمس وسبعين يوماً ، ولا أظنّ حدوث هذا الأمر ، لغير الطبقة الأولى من الأنبياء العظام ، بحيث يتراود إليهم جبرئيل الأمين في خمس وسبعين يوماً ))
لذلك ، نشاهد الإمام ، عليه السلام ، قد استخدم الأفعال المضارعة ، الدالة على الاستمرار ، و هي (يأتيها فيُحسن...و يُطيب ... يُخبرها)
مهمــة جبرئيل الأميـن
كانت مهمَّة المَلك المرسل إليها هي:
1-أن يحسن عزاء الزهراء ، عليها السلام ، على أبيها وليسلِّي عنها غمَّها .
2-أن يطيب نفسها عليها السلام .
3-أن يخبرها عن منـزلة الرسول ، صلى الله عليه وآله ، و شأنه الرفيع ، و مقامه العلي ، و مكانته العظيمة عند الله عزَّ و جلَّ .
4-أن يخبرها عليها السلام عمّا يكون بعدها في ذرِّيتها .
و في الحقيقة ، الذي يُسلِّي غمَّ الزهراء و يطيب نفسها ، هو الله سبحانه وتعالى و هو الذي يتأذَى لأذاها ، كما يتأذَّى لأذى رسوله ، لأنَّ هناك سرّاً مستودعاً فيهما ، لا يعلمه إلاّ الله سبحانه وتعالى ، و الأئمة المعصومون ، عليهم السلام ، وفي الحديث :
((و خلفت فاطمة ، عليها السلام مصحفاً ، ما هو قرآن ، و لكنه كلام من كلام الله ، أنزله عليها ، إملاء رسول الله ، و خط على عليه السلام))421
ولذا سمِّيت فاطمة ، فهي مظهر فاطر السموات و الأرض .422وحيث أن الملك المرسل من قبَله تعالى يحدِّثها ، سمِّيت المحدَّثة ، كما مرَّ أنه كان يخبرها عمّا سيحدث بعدها في ذريّتها من المصائب والبلايا ، والأهم من ذلك ما ستكتسبها الذرية ، من انتصارات عظيمة ، ونجاح كبير في عصر الغيبة ، ومن ثمّ ظهور ابنها المهدي المنتظر ، عجلّ الله تعالى فرجه الشريف ، كما أشار إلى ذلك الإمام قدَّس الله نفسه في بعضِ خُطبه .
عليٌّ عليه السلا م كا تبُ المـصحف
المستفاد من الأحاديث الشريفة التي مرَّ ذكرها أنَّ الزهراء ،سلام الله عليها ،كانت تحسُّ بالملك ، و تسمع صوته ، ولم تكن تشاهده ، فبمجرَّد أن حصل ذلك ، شكت إلى أمير المؤمنين عليٍ ، عليه السلام ، حيث لم تكن تتوقَّع هذا الأمر بهذه الصورة المستمرَّة .
و يستفاد أيضاً ، أنَّ الذي اكتشف بالفعل ، أنَّ المُحدِّث مع الزهراء ، عليها السلام ، هو جبرئيل الأمين، هو أمير المؤمنين عليه السلام كيف و هو الذي كان يلازم رسول الله في جميع حالاته فكان مأنوساً بصوت جبرئيل .
فهو سلام الله عليه ، كان صاحب فكرة كتابة المصحف ، حيث يسمع صوت روح الأمين ، فيكتب كلما يسمعه ، إلى أن اجتمع في مصحف متكامل ، و هو مصحف الزهراء عليها السلام .
و لا يخفى عليك ، أنّه ليس من السهل كتابة ما يلقيه جبرئيل ، بل كان ذلك ضمن العلوم الخاصَّة الإلهيَّة التي امتاز بها أمير المؤمنين ،عليه السلام ،فهو الذي كتب من قبل ما أملاه رسول الله عليه ، و هو الذي جمعَ القرآن الكريم في المصحف الشريف كما هو ثابت في محلِّه .
محتوى المـصحف
إنَّ المصحف يشتمل على أمورٍ كثيرةٍ تتلخص في كلمة واحدة و هي :
استيعابه لجميع الحوادث الخطيرة الآتية ، خصوصاً ما سيواجه ذريتُها ، من المصائب و البلايا ، و أيضاً الانتصارات ، ويشتمل على أسماء جميع الملوك والحكّام إلى يوم القيامة ، كما ورد في الحديث:
((ما من نبي و لا وصي و لا ملك إلا و في مصحف فاطمة))423
ويحتوى على أمور ترجع إلى شخص رسول الله ، صلى الله عليه وآله ، و أيضاً يشتمل على وصيتها سلام الله عليها.
((ابن هاشم عن يحيى بن أبي عمران عن يونس عن رجل عن سليمان بن خالد قال : قال أبو عبد الله عليه السلام.. فان فيه وصية فاطمة عليها السلام..))424
و من الطبيعي أنَّ الوصيَّة تشتمل على أمورٍ خاصَّة ، تتعلَّق بحزنها ، عليها السلام ، و بالمصائب الواردة عليها ، من أعدائها ، ليُنفِّذها ابنها الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر ، عجَّل الله تعالى فرجه الشريف ، لأنَّه هو الإمام مبسوط اليد ، الذي به يملأ الله الأرض قسطاً و عدلاً ،كما مُلئت ظلماً و جوراً .
الأ ئِّمَّة عليهم السلام و مصحف فا طمة
كان الإمام الصادق ،عليه السلام ، يؤكِّد دائماً على علوم أهل البيت عليهم السلام ، ففي الحديث أنَّه " كان يقول " أنَّ علمهم ، عليهم السلام ، " غابر و مزبور و نكتٌ في القلوب ونقر في الأسماع " وأنَّهم يمتلكون " الجفر الأحمر ، و الجفر الأبيض ، ومصحف فاطمة ، والجامعة " فهم عليهم السلام رغم ارتباطهم و سماعهم صوت الملائكة و رغم تبعيّتهم لمصحف الإمام عليٍّ الذي هو الجامعة المشتملة على جميع الأحكام حتى أرش الخدش و رغم معرفتهم بعلم الجفر الذي يشتمل على " علم ما يحتاج إليها الناس إلى يوم القيامة من حلال و حرام " إلاّ أنَّهم كانوا يعتمدون في فهم الحوادث الخطيرة على مصحف فاطمة عليها السلام كما ورد في الحديث" فنحن نتبع ما فيها فلا نعدوها " حيث يشتمل على الحوادث الخارجية جميعاً . و أيضاً أسماء الملوك إلى يوم القيامة ، ففي الحديث :
((سئل عن محمد بن عبد الله بن الحسن فقال عليه السلام : ما من نبي و لا وصى و لا ملك إلاّ و هو في كتاب عندي . يعنى مصحف فاطمة ، و الله ما لمحمد بن عبد الله فيه اسم))425.
و في حديثٍ آخر :
{ عن الوليد بن صبيح قال : قال لي أبو عبد الله عليه السلام ، يا وليد إنّي نظرت في مصحف فاطمة عليها السلام ، فلم أجد لبني فلان فيها إلاّ كغبار النعل }426
و عند التأمُّل في جملة إنِّي نظرتُ نعرف أنَّهم عليهم السلام كانوا يدقِّقون النظر في مصحف أمهم فاطمة عليها السلام ، عند طروِّ حادثة من الحوادث المهمَّة ، أو ظهور من يدَّعي المُلك و إمامة المسلمين ، بل قد وصل المصحف إلى مستوى من الرفعة والسموّ بحيث صار مصدر سرورهم واستبشارهم ، كما يستفاد من جملة قرت عينه في الحديث التالي:
{ عن فضيل بن عثمان عن الحذاء قال : قال لي أبو جعفر عليه السلام يا أبا عبيدة كان عنده سيف رسول الله صلى الله عليه و آله و درعه و رايتُه المغلبة و مصحف فاطمة عليها السلام قرَّتْ عينُه }427.

هل مصحف فا طمة هو القرآن ؟
إنَّ الكثير من الناس كانوا و لا زالوا يتصوَّرون أنَّ المصحف يشتمل على الآيات القرآنية الشريفة ، أو أنَّ هناك قرآناً آخر عند الشيعة ،كما يزعم بعضُ الجُهالُ من العامَّة .
ولكنَّ الواقع هو خلاف ذلك ، فإنَّ المصحف لا يشتمل حتى على آية واحدة من آيات القرآن الكريم ، كما هو المستفاد من الأحاديث الكثيرة ،كما أنَّه ليس من قبيل القرآن و لا يشبهه من ناحية المحتوى أصلاً ، فهو من مقولةٍ أخرى ، فأحاديثنا صريحةٌ في ذلك فقد ورد في حديث :
{ ... عن على بن سعيد عن أبي عبد الله عليه السلام...ما فيه آيةٌ من القرآن }428.
و في أحاديث أخر:
{ ...عن على بن الحسين عن أبى عبد الله عليه السلام .. عندنا مصحف فاطمة ، أما والله ما فيه حرفٌ من القرآن }429.
{ عبد الله بن جعفر عن موسى بن جعفر عن الوشاء عن أبي حمزة عن أبي عبد الله عليه السلام قال : مصحف فاطمة عليها السلام ما فيه شيء من كتاب الله.. }430.
{ عن عنبسة بن مصعب قال : كنا عند أبي عبد الله عليه السلام ..و مصحف فاطمة أما و الله ما ازعم انه قرآن }431.
عند ملاحظة الأحاديث تعرف أنَّ الشبهة كانت منتشرة في عصر الأئمة عليهم السلام ، ولهذا نراهم يستنكرون بكلِّ حزم و جدّ ، و يتوسَّلون بالقسم لنفي ذلك ،‎
غير أنَّ هناك حديثا يدلّ على أنّ المصحف ،
{ فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات }432.
والظاهر أنّ المقصود هو من ناحية الكميّة وحجم المعلومات ، لا من حيث المحتوى .
ثمَّ لا يخفى عليك ما في كلمة قرآنكم من معانٍ فتأمَّل جيِّداً .
وأيضاً :
المستفاد من أحاديث كثيرة أنَّ مصحف الزهراء عليها السلام ليس فيه شيء من الحلال و الحرام أصلاً ، و من تلك الأحاديث قوله عليه السلام :
{ أما إنَّه ليس من الحلال و الحرام }433.

علامات الإمام
هناك علائم ذكرت كدليل لإمامة الإمام عليه السلام تتلخَّص في الأمور التالية:
صحيفة فيها أسماء شيعتهم إلى يوم القيامة.
صحيفة فيها أسماء أعدائهم إلى يوم القيامة.
تكون عنده الجامعة ، و هي مصحف عليٍّ عليه السلام .
يكون عنده الجفر الأكبر و الأصفر .
يكون عنده مصحف فاطمة عليها السلام .
من خلال ذلك نعرف أنَّ مصحف فاطمة عليها السلام مع صِغر حجمه ، يشتمل على رموز كثيرة ومحاسبات دقيقة ، يمكن من خلال تلك المحاسبات الوصول إلى الحقائق ، فهو كعلم الجفر الذي هو علم الحروف والأعداد .
وأمّا مصحف عليٍّ عليه السلام فيختلف تماماً ، و لأهميته نفرد له عنواناً مستقلاً فنقول:

مصحف عليٍّ (الجامعة)
إنَّ هناك أحاديث تبيِّن مصحفاً آخر ، هو مصحف عليٍّ عليه السلام و من تلك الأحاديث :
{ محمد بن عيسى عن الأهوازي عن فضالة عن قاسم بن بريد عن محمد عن أحدهما عليهما السلام قال : إن عندنا صحيفة من كتاب على عليه السلام ، أو مصحف على عليه السلام طولها سبعون ذراعاً }434.
و عند استقراء الأخبار الواردة في هذا الباب نصل إلى النتيجة الآتية وهي أنَّ :
(مصحف عليٍ عليه السلام هو نفس الجامعة المذكورة في الأحاديث السابقة ، وهي الصحيفة التي طولها سبعون ذراعاً ، و فيها كلُّ ما يحتاج إليها الناس)
وهذا المصحف يمتاز بالأمور التالية :
1-انَّه بإملاء رسول الله محمَّد صلى الله عليه و آله ، وخطِّ عليٍ عليه السلام بيده المباركة ،
{ إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله و خط على عليه السلام }435.
2-يحتوى على جميع الأحكام من الحلال و الحرام ، و أحكام الإرث و الحدود ، وفي هذا المجال وردت أحاديث كثيرة إليك بعض المقاطع منها:
{ فيها الحلال و الحرام و الفرائض } 436 { كلُّ شيء حتى ارش الخدش }437 { فيها كل ما يُحتاج إليه حتى ارش الخدش ، والظِفْر }438 { حتى أن فيه ارش الخدش ، و الجلدة ، و نصف الجلدة }439 { وليست من قضية إلا و فيها }
و قد ذكر الإمام الصادق عليه السلام نموذجاً ، من الأحكام الواردة في مصحف عليٍّ عليه السلام حيث قال :
{ فيه أنَّ النساء ليس لهن من عقار الرجل إذا هو توفَّى عنها شيء }440.
3-الأحكام المذكورة في الجامعة صريحة واضحة غير مبهمة ، بخلاف مصحف الزهراء ، فإنَّها رموز علمية لا تُعرف إلاّ بالتأمُّل و النظر كما مرَّ ، و لذلك صار طول الجامعة سبعون ذراعاً ، و ربَّما هو إشارة إلى مدى سعتها ، بحيث أنهاوضعت في بيتٍ كبيرٍ ، كما يصرِّح بذلك حديث حمران بن أعي :
{ عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : أشار إلى بيتٍ كبير ، و قال : يا حمران إنَّ في هذا البيت صحيفة طولها سبعون ذراعا ، بخط عليِّ عليه السلام ، و إملاء رسول الله صلى الله عليه و آله ، لو ولينا الناس لحكمنا بما أنزل الله ، لم نعدُ ما في هذه الصحيفة }441.
4-الجامعة كانت تُلَفُّ ، وكانت من السُمك و كأنَّها فخذ فالج .
فما هو المقصود من فخذ الفالج ؟
هناك احتمالان:
ألف :أنَّ الجامعة كانت ضخمة للغاية و كأنَّها فخذ الفالج ، و هو على ما بيَّنه اللغويون الجملُ الضخمُ ذو السنامين يُحمل من السند للفحل .
وربَّما يُقوِّي هذا الاحتمال وجود الصحيفة في بيت كبير ، و أنَّ طولها سبعون ذراعاً ، و غير ذلك من الشواهد المؤيِّدة ، وإن كانت هناك شواهد أخرى تُضَعِّف هذا الاحتمال ، و منها أنَّهم عليهم السلام ، كانوا يحملونها و هي مطويَّة كما ورد في الحديث الآتي :
{ محمد بن الحسين عن جعفر بن بشير عن الحسين عن أبي مخلد عن عبد الملك قال دعا : أبو جعفر بكتاب علي فجاء به جعفر ، مثل فخذ الرجل مطويّ }442
فما هو الرجل ؟ هل هو بكسر الراء أو بفتحها ؟ إذا كان بفتحها ، فيكون المراد من الفالج الاحتمال الثاني و هو :
ب : المبتلى بالفَالج ، كما ذكر اللغويون في معنى الكلمة فقالوا :
الفالج بكسر اللام ، استرخاء عام لأحد شقِّي البدن طولا من الرأس إلى القدم .
فحينئذٍ قد استعمل اسم الفاعل أعنى الفالج و قُصد منه اسم المفعول ، و هو المفلوج ، وهذا النوع من الاستعمال متداول بكثرة في اللغة العربيَّة ، وعليه تكون الصحيفة حين اللف صغيرة كفخذ الفال ،و ذلك لرقَّة الجلد الذي كُتبت فيه .
و هنا سوف يثار سؤال ينبغي الإجابة عليه و هو :
لماذا خُصِّص له بيتٌ كبير ؟
و في الجواب أقول:
أوَّلاً : هذا الإشكال يرد حتَّى على الاحتمال الأوَّل ، لأنَّ فخذ الجمل مهما كبُر لا يستوعب بيتاً .
ثانياً: ربَّما كان أئمتنا عليهم السلام يفتحون الجامعة و ينشرونها في ذلك البيت حفاظاً عليها من التلف ،وشاهد ذلك الحديث التالي :
{ أحمد بن محمد عن على بن الحكم عن على بن أبي حمزة عن أبي بصير عن أبي جعفر قال : أخرج إلي أبو جعفر عليه السلام صحيفةً فيها الحلال و الحرام و الفرائض ، قلت : ما هذه ؟ قال: هذه إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله و سلَّم ، و خطَّهُ عليٌّ عليه السلام بيده ، قال : قلت : فما تُبلى ! قال فما يُبليها قلت : و ما تُدرسُ قال و ما يُدرِسُها ، قال هي الجامعة أو من الجامعة }443 .
تلاحظ أنَّ أبا بصير يسأل عن أنَّ الصحيفة هل تتلف و تنمحي ، و هذا السؤال يُدّلُّنا على أنَّ هذا الأمرَ كان مُحتملاً ، حيث أنَّ الصحيفة كانت مكتوبة على أديم ، كما في حديث ابن رئاب :
{ عن أبي عبيدة قال : سأل أبا عبد الله عليه السلام بعض أصحابنا عن الجفر فقال : هو جلد ثور مملوء علماً فقال له : ما الجامعة ؟ قال : تلك صحيفة طولها سبعون ذراعا ، في عرض الأديم مثل فخذ الفالج }444.
يقول العلاّمة المجلسي :
{ الأديم الجلد أو أحمرُه أو مدْبُوغة }445.
و جاء في الحديث حول الجفر :
{ عندنا الجفر ، و هو أديم عكاظي قد كُتب فيه }446 .
وهو شاهد على ما قاله اللغويون من أنَّ الأديم هو الجلد ، فكانوا يكتبون على الجلود ، ومن الواضح أنَّ الجلد لو أصابته حرارة شديدة يلتصق بعضه ببعضٍ فيتلف ، إلاّ أن يُنشر .
5-إنَّ في مصحف علي عليه السلام ما أنزل الله من الأحكام و القضايا ، كما في حديث حمران :
{ لو ولِّينا الناس لحكمنا بما أنزل الله ، لم نعدُ ما في هذه الصحيفة }447.
و في الختام نبتهل إلى الباري جلَّ شأنه و نتضرَّع إليه و ندعوه ليُعجِّل في فرج قرة أعيننا الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر روحي لتراب مقدمه الفداء و أن يجعلنا من أنصاره و الذابين عنه و المستشهدين بين يديه الآخذين بثأر الصدِّيقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها أفضل صلوات الله و ملائكته ، و ثأر ابنها سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام . و الحمد لله ربِّ العالمين
20ربيع الثاني 1418الموافق 24 أغسطس 1997

1و هذا لا ينافي إطلاق الغيب على الله تعالى بل هو غيب الغيوب لأنَّ الأشياء الخفية ربَّما تكون خفية لشدة ظلمتها ، وربما تكون خفية لشدَّة نورها و ظهورها ، فالشدة في كل من النور والظلمة تؤدِّي إلى خفاء الشيء ألا ترى أنَّك لا تشاهد الشيء إذا سُلِّط عليه نورٌ شديد ، فالله سبحانه و تعالى اختفى وغاب فلشدة نوره فهو نور الأنوار يقول المحقق السبزواري ( ره) يا من هو اختفى لفرط نوره الظاهر الباطن في ظهوره .

1 الماهية هي ما تقال في جواب ما هو ؟ فهو مصدر صناعي و يطلق على نفس الشيء و شيئيته في قبال وجوده
2و هي السورة الوحيدة التي بدأت بكلمة (سورةٌ ) و لا يخفى عليك السر في هذا الابتداء بالنكرة الدال على العظمة و من هنا قال تعالى أنزلناها فهي مع علوِّ شأنها و سموِّ مرتبتها عندنا أنزلناها فصارت ضمن المصحف
3 النور35
4قد ثبت ذلك في الحكمة بأدلَّة قطعيَّة فراجع
1 فاطر 15
2 التكوير 1-2
3وهذا التقسيم من أهم تقسيمات الوجود لدى الحكماء فالآثار الذهنية للشيء هي بعد ايجاد صورته في الذهن فالأثر إذا راجع إلى الوجود كما لو كان تخيل الإنسان شيئاً يؤَّدي إلى لذةٍ أو حزنٍ .
1 البقرة 255
2دعاء كميل ، وقد وردت في هذا المجال آيات و أحاديث كثيرة راجع مضانها
3 المجادلة7
4 العلق13-14
5 الرعد15
6 الجمعة1
7 الإسراء44
8قد شرحنا ذلك في تعليقنا على شرح دعاء السحر بالتفصيل.
9 النور35
10 يس 82
11
12 الاخلاص1
13 الاخلاص2-4
14 الكافي ج 1 ص 110 الحديث 4
15وذلك لأنَّ الخلق مستمرٌ غير متوقِّف فالله دائماً يريد فيخلق
16وقد ذكر الحكماء بطلان التسلسل أمور نشير إلى أثنين منها:-
1-لو فصلنا حلقاتٍ من السلسلة ثم قايَسناها مع السلسلة الأولى (الكاملة) فهل الناقصة تساوي الكاملة ؟ فإن كانتا متساويتين فسوف تكون الناقصة ليست بناقصة والكاملة ليست بكاملة (وهذا هو التناقض المحال) . وأمّا لو قلنا بأنَّهما حينئذٍ غير متساويين فسوف يثبت المطلوب وهو أنّ السلسلة من أوَّل الأمر لم تكن مستمرَّة إلى مالا نهاية بل كانت محدودة .
2-إنَّ وجود المعلول على أيٍّ مشروط بوجود العلَّة فلو استمرَّت المشروطية والربط بتسلسل العلل والمعلولات فسوف لن يتواجد حتَّى شيء واحد أصلاً ، وذلك لأنَّ الرابط يفتقر في وجوده إلى غير الرابط فوجود الأشياء وتحقُّقها عيناً دليلٌ على عدم اشتراطها إلى ما لا نهاية .
17 الأعراف 54
18
19 الكافي ج 1 ص 441 الرواية 9
20 السجدة24
21بحار الأنوار ج 43 ص 11 رواية 2 باب 2
22توحيد الصدوق ص164
23شرح دعاء السحر ص10
24 البقرة 31
25 البقرة 31
26 البقرة 31
27 بحار الأنوار ج 16 ص 406 الرواية 1 الباب 12
ج 40 ص 20 الرواية 36 الباب 19
28 بحار الأنوار ج 100 ص 183 رواية 11 باب 2
29 دولة المهدي المنتظر من ص 13-45
30 الرحمن27
31 الحشر21
32 الحشر21
33 الحشر 21
34 الحش22 - 24
35 المزمل 1
36 المزمل2
37 المزمل3
38 المزمل4
39 المزمل5
40 النور35
41 **********
42 **********
43 البقرة 17
44 يونس 5
45 يس 37
46 الكافى ج 8 ص 379 روايه 574 باب 8

47 الأعراف 157
48 التغابن8
49 الكافى ج 1 ص 194 روايه 2
50 الكافي ج 1 ص 195 رواية 4
51 الاحزاب46
52 النحل40
53
54 الكهف109
55 لقمان27
56 البقرة 37
57 بحار الأنوارج 26 ص 333 الرواية 15 باب 7
58 يونس82
59 بحار الأنوار ج 9 ص 234 الرواية 129 باب 1
60 آل عمران 45
61 آل عمران 39
62 البقرة 124
63 بحار الأنوارج 94 ص 2 الرواية 4 باب 28
64 الحاقة 38 ، 39
65 الواقعة 75
66 الإنشقاق 16-18
67 البلد 1-3
68 القيامة1،2
69 الأعراف 198
70 الملك15
71 شرح دعاء السحر ص 64
72 تفسير مجمع البيان ج 1 ص 47
73 بحار الأنوار ج 14 ص 128 الرواية 14 باب 9
74
75بحار الأنوار ج 25 ص 363 الرواية 23 باب 12
76 بحار الأنوار ج 26 ص 16 الرواية 2 باب 14
77بحار الأنوار ج 26 ص 1 الرواية 1 باب 14
78بحار الأنوار ج 26 ص 1 الرواية 1 باب 14
79 بحار الأنوار ج 40 ص 156 الرواية 54 باب 93
80 بحار الأنوار ج 101 ص 153 الرواية 3 باب 18
81 الواقعة 10-12
82 بحار الأنوار ج 24 ص 4 روايه 11 باب 23
83 شرح دعاء السحر ص 87
84 بحار الأنوار ج 57 ص 366 روايه 1 باب 4
85 بحار الأنوار ج 11 ص 223 روايه 2 باب 5
86 بحار الأنوار ج 57 ص 371 روايه 13 باب 4
87 بحار الأنوار ج 23 ص 210 روايه 16 باب 11
88 بحار الأنوار ج 98 ص 304 روايه 2 باب 4
89 بحار الأنوار ج 1 ص 96 روايه 2 باب 2
90بحار الأنوار ج 1 ص 97 روايه 7 باب 2
91 بحار الأنوار ج 1 ص 97 روايه 8 باب 2
92 يس 12
93 الأنعام 59
94 فصلت53
95 بحار الأنوار ج 2 ص 32 روايه 22 باب 9
96 بحار الأنوار ج 94 ص 391 روايه 3 باب 52
97 الناس 1-6
98 بحار الأنوار ج 78 ص 199 الرواية 6 الباب 12
99 الحكمة المتعالية ج 7 ص 20
100 الحكمة المتعالية ج 7 ص 21
101 يس 83
102 الرحمن26-27
103 القصص88
104 سورة الحديد3
105 النور39
106 سورة الإسراء 72
107 النور35
108 سوف نشرح آية النور بالتفصيل ، راجع الكلمة
109 الكافي ج 1 ص 141 روايه 7
110 سورة نوح 16
111
112
113 سورة التوبة 32
114
115 الكافي ج 1 ص 105 روايه 3

116 البحار ج 3 ص 327 رواية 27 باب14
117 طه50
118 الأعلى 3
119 الحجر 21
120 السجدة7
121 الملك3
122 الأعراف 85
123 الإسراء35
124 الرحمن 7
125 الرعد17
126 ومن منطلق هذه الولاية والكرامة الإلهية حيث أن "أكرمكم عند الله أتقاكم" يمكننا أن نتعرَّف على أسرار كثير من العبادات والمعاملات ، فالإنسان الأتقى له الولاية على من دونه، حتى لو كان أباه ، حيث أنَّ وجوده أكمل من غيره فيجب على الغير إطاعته و تبعيته وذلك يعني إطاعة الله ، غير أنَّ الإطاعة بالنسبة إلى غير المعصوم محدودة ، قال تعالى: "المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر" كما أنَّه لا قوّامية للرجل الفاسق على المرأة المؤمنة إلاّ في مجال المسائل الزوجية ، وأمّا في سائر الأمور الراجعة إلى الشريعة فلا ولاية له عليها .
ومن هنا أيضاً تعرف السر في الإسترقاق ، حيث أن الكافر المحارِب كالحيوان بل هو أضل سبيلاً ، فيُتعامل معه تعاملَ حيوان فيباع و يُشترى ، وكذلك بالنسبة إلى كثير من التشريعات فتأمَّل.
127
128 بحار الأنوار ج 102 ص 132 رواية 4 باب 8 و ج 102 ص 155 رواية 5 باب 8
129 النمل75
130 يونس61
131 يس 12
132 السجدة24
133 الميزان ج14 ص 304
134الكافي ج 1 ص 230 رواية 1
135 الرحمن 26،27
136 القصص88
137 البقرة 255
138 آل عمران 189
139 البقرة 116
140 البقرة 37
141 الاخلاص1
142 الحشر22-24
143 الكافي ج 1 ص 87 روايه 2
144 آل عمران 68
145 البقرة 286
146 التوبة 51
147 الأنفال 40
148 يس 82
149 الكهف44
150 الأنعام 57
151 المائدة 47
152 فاطر 10
153 البقرة 253
154 ص26
155 البقرة 124
156 الصافات85
157 الصافات86 ، 87
158 الصافات88 ، 89
159 الزمر30
160 الأنعام 75 - 79
161 إبراهيم37
162 البقرة 124
163 بحار الأنوار ج 12 ص 12 رواية 36 باب 1
164 الاحزاب6
165 الاحزاب36
166 النساء 65
167 النساء 59
168 راجع برنامج موسوعة الحديث الشريف في الحاسب الآلي 1991-1995 عند البحث في من كنت مولاه
169 مسند أحمد بن حنبل الحديث(17749)
170 سنن ابن ماجة جلد: 1 ص 45
171 مستدرك الحاكم جلد: 3 ص109
172 مسند أحمد الحديث رقم(21867)
173 العلل الواهية ج1 ص226 ح356.
174 الأعراف 172
175 المائدة 67
176 المائدة 67
177 المائدة 41
178 المائدة 41
179بحار الأنوار ج 42 ص 25 رواية 7 باب 92
180 المائدة 67
181 ******
182 آل عمران 164
183 القصص5
184 بحار الأنوار ج 21 ص 386 روايه 10 باب 36
185 بحار الأنوار ج 16 ص 221 رواية 16 باب 9
186 النساء 84
187 بحار الأنوار ج 19 ص 191 رواية 44 باب 8
188 بحار الأنوار ج 35 ص 188 رواية 10 باب 4
189 بحار الأنوار ج 36 ص 139 رواية 99 باب 39
190 الزمر65
191 الكافي ج 1 ص 427 رواية 76
192 محمد 9 ، 26
193 بحار الأنوار ج 23 ص 385 رواية 87 باب 21
194 المائدة 66
195الكافي ج 1 ص 413 رواية 6
196 الجن16
197الكافي ج 8 ص 58 19
198 المائدة 3
199 المائدة 3
200 *********
201 النحل115
202 النحل115
203 بحار الأنوار ج 37 ص 137 رواية 26 باب 52
204 الأنعام 115
205 الصف8
206 الأعراف 142
207 المائدة 3
208 المائدة 3
209 نهج البلاغة لإبن أبي حديد ج 9 باب 146 ص 95
210 التكاثر8
211 الكافي ج 6 ص 280 رواية 5
212 وسائل الشيعة ج 1 باب 29 ص 119 رواية 298 وأيضاً ج1 باب1 ص 13 رواية 2
213 آل عمران 61
214 الطور30
215 الطور31
216 المائدة 3
217 الكوثر 3
218 بحار الأنوار ج 70 ص 253 رواية 10 باب 55
219 شرح الأسماء الحسنى ج1 ص 34
220 الكافي ج 2 ص 83 رواية 3
221 أي محط الرحال يقال ناخ البعير في هذا الموضع أي لزمه
222 بحار الأنوار ج 41 ص 295 رواية 18 باب 114
223 أي الحقيقة واللب لا الظاهر و القشر
224 شرح الإشارات
225 بحار الأنوار ج 77 ص166 رواية 2 باب 7
226 الروم30
227 الأربعون حديثاً
228 الأنعام 79
229 الأنعام 75-79
230 إبراهيم10
231 و يعني بالتركيب أعم من التركيب في الخارج أو في الذهن والتصوُّر، لأنَّ المركب مهما كان يتكوَّن من أجزاء وكلُّ جزء يحتاج إلى الآخر كما أنَّ الكل يحتاج إلى أجزاءه ، والله هو الغني المطلق
232لأنَّ المحدود يلازم المكان و الزمان الخاص فإن كان هنا فهو ليس هناك وإن كان في هذا الزمان فهو ليس في ذاك الزمان فهو إذاً ليس بمطلق
233 الحجر39
234 آل عمران 14
235 الرعد26
236ونعني بالفاني هو الزائل لا الفناء بمصطلحه العرفاني الذي يعني المحو و الذوبان و إن كان بهذا المعنى أيضاً صحيح
237 طه120
238 القصص79
239 وهو العشق الذي أطلق عليه اللفظ مجازاً من باب الإسناد إلى غير ما هو له كما تقول جرى الميزاب و الماء هو الجاري أو مشى زيدٌ و السفينة التي هو راكبها قد مشت
240البهاء هو الحسن والمقصود من كل البهاء أي البهاء الذي لا حدَّ له و هو الله تعالى
241 العلق8
242و قرة العين رؤية ما تقر به العين يقال اقر الله عينك أي صادف فؤادك ما يرضيك فتقر عينك حتى لا تطمح بالنظر إلى ما فوقه
243 بحار الأنوار ج 94 ص 389 رواية 3 باب 52
244 بحار الأنوار ج 94 ص 111 رواية 16 باب 32
245 دعاء كميل
246 ?بحار الأنوار‏ ج 69 ص 241 رواية 16 باب 36
247 بحار الأنوار ج 70 ص 24 رواية 25 باب 43
248 بحار الأنوار ج 72 ص 288 رواية 9 باب 116
249 الربط على القلوب يراد به تشجيعها و تقويتها و وثوقها و تسديدها
250 الوجل استشعار الخوف
251 الإخبات الخشوع و الخضوع للرب تعالى
252 التآلف ضد التفرق و المعاداة
253الحميه الغيرة و الأنفة
254 السكينة الهون و الوقار
255 قال الجوهري الرين الطبع و الدنس يقال ران على قلبه ذنبه يرين رينا و ريونا
256 الختم الطبع
257الغلّ الحقد و الشحناء
258كنان هو الغطاء الذي يكن فيه الشيء أ ى يستر وجمعه أكنة
259 الاشمئزاز الإنقباض و النفرة والكراهة
260الريب أقبح الشك
261الغيظ شدّة الغضب
262الزيغ الميل عن استقامة
263 الاحزاب4
264 بحار الأنوار ج 70 ص 25 رواية 27 باب 43
265 الفيض غير منفصل عن المُفيض و غير متجافٍ عنه بل هو مظهر من مظاهره و نورٌ من أنواره و تجلٍّ من تجلياته فهو فقير اليه كما أنَّ المُفيض هو القيّوم عليه في حدوثه وبقائه كالشمس و نورها و كالبحر و أمواجه
266 راجع الكلمة العاشرة حول الولاية التكوينيَّة
267 الأعراف 54
268 النجم8
269 شرح دعاء السحر
270 بحار الأنوار ج 86 ص 24 رواية 25 باب 38
271 و هي مستوى أعلى من الهداية بمعنى إرائة السبيل الشاملة لجميع الناس ، وهذه العناية الإلهية المسبقة لا تنافي إختيار الإنسان لأنَّه باختياره سوف ينتخب الطريق ولكن الله سبحانه لعلمه بذلك يجعله تحت عنايته الخاصة
272 الأنبياء101
273 بحار الأنوار ج 24 ص 4 رواية 11 باب 23
274الإنسان 21
275 أي الأنا التي تحكي عن التعلُّق و الارتباط بعالم المُلك و الدنيا و التوَرُّط في سجن الطبيعة ، فينبغي الهجرة منها بحيث لا يُسمع أذانها و يخفى جدرانها
276 بحار الأنوار ج 61 ص 129 باب 42
277 الصف4
278 بحار الأنوار ج 102 ص 129 رواية 4 باب 8
279 بحار الأنوار ج 100 ص 345 رواية 33 باب 4
280 بحار الأنوار ج
281الكافي ج 1 ص 339 رواية 14
282العجف بالتحريك الهزال و الاعجف المهزول و الانثى العجفاء و العجفاء يجمع على عجف كصماء على صم
283 بحار الأنوار ج 22 ص 429 رواية 37 باب 12
284 آل عمران 31
285العروة ما يتمسك به من الحبل و غيره
286 بحار الأنوار ج 4 ص 8 رواية 18 باب 1
287 آل عمران 112
288 ج 13 ص 329 رواية 7 باب 11
289 المائدة 54
290الذمام بالكسر الحق و الحرمة و العهد و الكفالة و الأمان
291 بحار الأنوار ج 59 ص 24 رواية 7 باب 15
292 الأحزاب 28-34
293 الأحزاب33
294 بحار الأنوار ج 35 ص 208 رواية 7 باب 5
295 بحار الأنوار ج 25 ص 212 باب 7
296 بحار الأنوار ج 25 ص 213 رواية 3 باب 7
297 بحار الأنوار ج 23 ص 330 رواية 12 باب 19
298 الأحزاب33
299 الأحزاب33
300 الأحزاب59
301 الأحزاب36
302 قد كتبنا في هذا المجال كتاباً سميناه معالم التبليغ
303 النحل8
304 النحل9
305 الأعراف 26
306 الشعراء69 - 91
307 الكهف22- 25
308 بحار الأنوار ج 14 ص 322 رواية 32 باب 21
309 بحار الأنوار ج 16 ص 288 رواية 145 باب 9
310 بحار الأنوار ج 43 ص 156 رواية 5 باب 7
311 بحار الأنوار ج76 ص 15 رواية 2 باب 99
312 بحار الأنوار ج 45 ص 143 رواية 1 باب 39
313 وللشهيد الصدر بحث حول هذا الموضوع كتاب فدك في التاريخ ص
314 بحار الأنوار ج 18 ص 113 رواية 18 باب 11
315 بحار الأنوار ج 32 ص 127 رواية 104باب 1
316 بحار الأنوار ج 21 ص 386 روايه 10 باب 36
317 الأحزاب33
318 بحار الأنوار ج 32 ص 162 رواية 128 باب 2
319 الأحزاب28
320 الأحزاب33
321 البقرة 196
322 الحشر7
323 الاحزاب33
324 الاحزاب33
325 الاحزاب33
326 الاحزاب33
327 النور 36-37
328 بحار الأنوار ج 43 ص 76 رواية 63 باب 3
329 بحار الأنوار ج 81 ص 62 رواية 37 باب 3
330 البقرة 253
331 يوسف106
332 بحار الأنوار ج 10 ص 426 رواية 9 باب 26
333 الاحزاب28
334 الاحزاب30
335 البقرة 185
336 الاحزاب34
337 بحار الأنوار ج 25 ص 212 باب 7
338 الواقعة 77-79
339 بحار الأنوار ج 18 ص 158 باب 1
340 المائدة 110
341 إبراهيم25
342 الأعراف 58
343 آل عمران 166
344 الأنفال 66
345 الرعد 38
346 بحار الأنوار ج 102 ص 129 رواية 4 باب 8
347 بحار الأنوار ج 102 ص 17 رواية 10 باب 2
348بحار الأنوار ج 102 ص 8 رواية 1 باب 2
349 بحار الأنوار ج 102 ص 8 رواية1 باب 2
350 الإنسان 6
351الإنسان 21
352 تفسير مجمع البيان ج10 ص 223
353بحار الأنوار ج 102 ص 107 رواية 2 باب 7
354 المائدة 35
355بحار الأنوار ج 70 ص 271 باب 56
356 البقرة 61
357يوسف 97-98
358 النساء 64
359بحار الأنوار ج 100 ص 160 رواية 41 باب 2
360راجع كتابنا ثمَّ الرجوع إلى جنة آدم
361 راجع أهل البيت مظهر مشيئة الله
362 طه 118
363 البقرة 85
364 النساء 150-151
365 آل عمران 144
366 نهج البلاغة ابن ابي الحديد ج 7 باب 91 ص 33
367 نهج البلاغة لإبن أبي حديد ج 1 باب 3 ص 151
368 نهج البلاغة لإبن أبي حديد ج 11 باب 211 ص 109
369 بحار الأنوار ج 43 ص 97 رواية 6 باب 5
370 بحار الأنوار ج 24 ص 97 رواية 1باب 36
371 بحار الأنوار ج 96 ص 212 رواية 18 باب 25
372 نهج البلاغة ج 16 باب 45 ص 213
373 الكافي ج 1 ص 458 رواية 3
374 بحار الأنوار ج 43 ص 191 رواية 20 باب 7
375 صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير الحديث 3304
376 القيامة 22-23
377 القيامة 24-25
378 النجم11
379 الإسراء70
380 الإسراء71
381 الإسراء72
382 الفيل 1-5
383 قريش 1-4
384 الضحى1-11
385 الشرح 1-8
386 بحار الأنوار ج 27 ص 8 رواية 16 باب 10
387 الضحى 5
388 طه50
389 ص39
390 بحار الأنوار ج 43 ص 10 رواية 1 باب 2
391 الليل19
392 الأنعام 59
393 الحجر 21
394 الكهف65
395 البقرة 255
396 بحار الأنوار ج 43 ص 97 رواية 6 باب 5
397 بحار الأنوار ج 15 ص 9 رواية 9 باب 1
398 بحار الأنوار ج 15 ص 14 رواية 18 باب 1
399 بحار الأنوار ج 37 ص 47 رواية 23 باب 50
400 بحار الأنوار ج 43 ص 97 رواية 6 باب 5
401 بحار الأنوار ج 24 ص 97 رواية 1باب 36
402 بحار الأنوار ج 43 ص 65 رواية 58 باب 3
403 بحار الأنوار ج 100 ص 195 رواية 12 باب 5
404صحيفة النور ج7 ص27
405 صحيفة النور ج16 ص 125
406بحار الأنوار ج 22 ص 545 رواية 63 باب 2
407 صحيفة النور ج 19 ص 278
408 بحار ج 43 ص 65 رواية 58 باب 3
409 القدر 2
410راجع الكلمة
411 بحار ج 43 ص 65 رواية 58 باب 3
412 بحار ج 24 ص 319 رواية 28 باب 67
413بحار الأنوار ج 43 ص 79 رواية 66 باب 3
414بحار الأنوار ج 26 ص 41 رواية 72 باب 1
415و لإن جاء في بعض الأخبار (إملاء رسول الله و خط علي) فالظاهر أنَّ المقصود من رسول الله هو جبرئيل الأمين جمعاً بينه وبين الأخبار الكثيرة الأخرى و قد أطلقت كلمة الرسول على جبرئيل في القرآن الكريم و في الأحاديث الشريفة قال تعالى { قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا } مريم 18،19 ولهذا لم تأتي حرف (ص) المختصَّة برسول الله في تلك الرواية ، والجدير بالذكر ما ورد في نفس الرواية {و خلفت فاطمة عليها السلام مصحفاً ما هو قرآن و لكنه كلام من كلام الله أنزله عليها إملاء رسول الله و خط على عليه السلام} راجع البحار ج26 ص 41 رواية 73 باب 1
416بحار الأنوار ج 22 ص 545 رواية 63 باب 2
417بحار الأنوار ج 34 ص 54
نقلا عن كتاب لأبي إسحاق الثعلبي عن مجاهد :
418بحار الأنوار ج 34 ص 54
419بحار الأنوار ج 34 ص 54
420بحار الأنوار ج 22 ص 545 رواية 63 باب 2
421بحار الأنوار ج26 ص 41 رواية 73 باب 1
422 راجع كلمتنا حول و جه تسمية فاطمة
423بحار الأنوار ج 47 ص 32 رواية 29 باب 4
424بحار الأنوار ج 26 ص 43 رواية 76 باب 1
425 بحار الأنوار ج 47 ص 32 رواية 29 باب 4
426 بحار الأنوار ج 26 ص 48 رواية 91 باب 1
427بحار الأنوار ج 26 ص 211 رواية 22 باب 16
428بحار الأنوار ج ص 42 رواية 74 باب 1
429بحار الأنوار ج 26 ص 46 رواية 84 باب 1
430بحار الأنوار ج 26 ص 48 رواية 89 باب 1
431 بحار الأنوار ج 26 ص 33 رواية 50 باب 1
432بحار الأنوار ج 26 ص 38 رواية 70 باب 1
433بحار الأنوار ج 26 ص 44 رواية 77 باب 1
434بحار الأنوار ج 26 ص 33 رواية 50 باب 1
435 بحار الأنوار ج 26 ص 48 رواية 90 باب 1
436بحار الأنوار ج 26 ص 23 رواية 16 باب 1
437 بحار الأنوار ج 26 ص 48 رواية 90 باب 1
438بحار الأنوار ج 26 ص 41 رواية 73 باب 1
439بحار الأنوار ج 26 ص 18 رواية 1 باب 1
440بحار الأنوار ج 104 ص 352 رواية 9 باب 7
441 بحار الأنوار ج 26 ص 22 رواية 12 باب 1
442بحار الأنوار ج 104 ص 352 رواية 9 باب 7
443بحار الأنوار ج 26 ص 23 رواية 16 باب 1
444بحار الأنوار ج 26 ص 41 رواية 72 باب 1
445بحار الأنوار ج 26 ص 22 رواية 9 باب 1
446 بحار الأنوار ج 26 ص 48 رواية 90 باب 1
447


هذا الكتاب من مطبوعات موقع الكوثر ومن منشوراته الإلكترونية في الإنترنت فلا يجوز الإستفادة منه تجاريا
www.al-kawthar.com/maktaba