خطبة لامير المؤمنين عليه السلام

586 - أحمد بن محمد، عن سعد(1) بن المنذر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن محمد بن الحسين، عن أبيه، عن جده، عن أبيه قال: خطب أمير المؤمنين (ع) - ورواها غيره بغير هذا الاسناد وذكر أنه خطب بذي قار(2) - فحمد الله وأثنى عليه.
ثم قال: أما بعد فإن الله تبارك وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وآله بالحق ليخرج عباده من عبادة عباده إلى عبادته، ومن عهود عباده إلى عهوده ومن طاعة عباده إلى طاعته، ومن ولاية عباده إلى ولايته، بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، عودا

___________________________________
(1) في بعض النسخ (سعيد بن المنذر)
(2) موضع بين الكوفة وواسط؛ (القاموس).
(*)

[387]


وبدء ا وعذرا ونذرا، بحكم قد فصله(1) وتفصيل قد أحكمه وفرقان قد فرقه(2) وقرآن قد بينه ليعلم العباد ربهم إذ جلهوه وليقروا به إذ جحدوه وليثبتوه بعد إذ أنكروه فتجلى لهم سبحانه في كتابه(3) من غير أن يكونوا رأوه، فأراهم حلمه كيف حلم و أراهم عفوه كيف عفا وأراهم قدرته كيف قدر، وخوفهم من سطوته وكيف خلق ما خلق من الآيات وكيف محق من محق من العصاة بالمثلات واحتصد من احتصد بالنقمات(4) وكيف رزق وهدى وأعطا، وأراهم حكمه كيف حكم وصبر حتى يسمع ما يسمع ويرى.
فبعث الله عزوجل محمدا صلى الله عليه وآله بذلك ثم إنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس في ذلك الزمان شئ أخفى من الحق ولا أظهر من الباطل ولا أكثر من الكذب على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة(5) أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته ولا سلعة أنفق بيعا(6) ولا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرف عن مواضعه وليس في العباد ولا في البلاد شئ هو أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر وليس فيها فاحشة أنكر ولا عقوبة أنكى(7) من الهدى عند الضلال في ذلك الزمان فقد نبذ الكتاب حملته، وتناساه حفظته حتى تمالت بهم الاهواء وتوارثوا ذلك من الآباء وعملوا بتحريف الكتاب كذبا

___________________________________
(1) (عودا وبدء ا) يعني عودا إلى الدعوة بعدما بدا فيها والمراد تكرير الدعوة (في).
(عذرا ونذرا) كل منهما مفعول له لقوله: (بعث) اي عذرا للمحقين ونذرا للمبطلين، او حال اي عاذرا ومنذرا. قوله: (بحكم) المراد به الجنس اي بعثه مع احكام مفصلة مبينة؛ (آت).
(2) الفرقان هو القرآن وكل ما فرق بين الحق والباطل والمراد بتفريقه انزاله متفرقا او تعلقه بالاحكام المتفرقة؛(آت).
(3) اي ظهر من غير ان يرى بالبصر بل نبههم عليه في القرآن من قصص الاولين وما حل بهم من النقمة عند مخالفة الرسل؛ (في).
(4) بفتح الميم وضم الثاء جمع المثلة وهي العقوبة. والاحتصاد: المبالغة في القتل والاستيصال ماخوذ من حصد الزرع؛ (في).
(5) السلعة بالكسر: المتاع. والبوار: الكساد.
(6) النفاق: الرواج.
(7) النكاية: الجرح والقرح.
(*)

[388]


وتكذيبا فباعوه بالبخس(1) وكانوا فيه من الزاهدين، فالكتاب وأهل الكتاب في ذلك الزمان طريدان منفيان وصاحبان مصطحبان في طريق واحد لا يأويهما مؤو، فحبذا ذانك الصاحبان واها لهما ولما يعملان له(2)، فالكتاب وأهل الكتاب في ذلك الزمان في الناس وليسوا فيهم ومعهم وليسوا معهم وذلك لان الضلالة لا توافق الهدى وان اجتمعا، وقد اجتمع القوم على الفرقة وافترقوا عن الجماعة، قد ولوا أمرهم وأمر دينهم من يعمل فيهم بالمكر والمنكر والرشا والقتل كأنهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم، لم يبق عندهم من الحق إلا اسمه ولم يعرفوا من الكتاب إلا خطه وزبره(3)، يدخل الداخل لما يسمع من حكم القرآن فلا يطمئن جالسا حتى يخرج من الدين ينتقل من دين ملك إلى دين ملك، ومن ولاية ملك إلى ولاية ملك، ومن طاعة ملك إلى طاعة ملك، ومن عهود ملك إلى عهود ملك، فاستدرجهم الله تعالى من حيث لا يعلمون(4) وإن كيده متين بالامل والرجاء حتى توالدوا في المعصية ودانوا بالجور والكتاب لم يضرب عن شئ منه صفحا ضلالا تائهين، قد دانوا بغير دين الله عزوجل وأدانوا لغير الله(5).
مساجدهم في ذلك الزمان عامرة من الضلالة، خربة من الهدى [قد بدل فيها من الهدى] فقراؤها وعمارها أخائب خلق الله وخليقته، من عندهم جرت

___________________________________
(1) البخس: بالموحدة ثم المعجمة ثم المهملة: الناقص؛ (في).
(2) (واها) كلمة تلهف وتوجع. وقوله: (لما يعملان) في بعض النسخ (لما يعمدان له) بالدال اي العلة الغائية من خلقهما؛ (في).
(3) بسكون الباء اي كتابته. وقوله: (يدخل الداخل) اي في الدين وخروجه لما يرى من عدم عمل اهله به وبدعهم وجورهم؛ (آت).
(4) استدراج الله تعالى عباده انه كلما جدد العبد خطيئة جدد له نعمة وأنساه استغفار وان يأخذه قليلا يباغته.
(5) اي أمروا بطاعة غيره تعالى ولم يرد هذا البناء فيما عندنا من كتب اللغة وفي النسخة القديمة (وكانوا لغير الله) (*)

[389]


الضلالة وإليهم تعود، فحضور مساجدهم والمشي إليها كفر بالله العظيم إلا من مشى إليها وهو عارف بضلالهم فصارت مساجدهم من فعالهم على ذلك النحو خربة من الهدى عامرة من الضلالة قد بدلت سنة الله وتعديت حدوده ولا يدعون إلى الهدى ولا يقسمون الفئ ولا يوفون بذمة، يدعون القتيل منهم على ذلك شهيدا قد أتوا الله بالافتراء و الجحود واستغنوا بالجهل عن العلم ومن قبل ما مثلوا بالصالحين كل مثلة(1) وسموا صدقهم على الله فرية وجعلوا في الحسنة العقوبة السيئة وقد بعث الله عزوجل إليكم رسولا من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم(2) بالمؤمنين رؤف رحيم صلى الله عليه وآله وأنزل عليه كتابا عزيزا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد قرآنا عربيا غير ذي عوج لينذر من كان حيا(3) ويحق القول على الكافرين فلا يلهينكم الامل ولا يطولن عليكم الاجل، فإنما أهلك من كان قبلكم أمد أملهم وتغطية الآجال عنهم حتى نزل بهم الموعود(4) الذي ترد عنه المعذرة وترفع عنه التوبة وتحل معه القارعة والنقمة(5) وقد أبلغ الله عزوجل إليكم بالوعد وفصل لكم القول و علمكم السنة وشرح لكم المناهج ليزيح العلة(6) وحث على الذكر ودل على النجاة وإنه من انتصح لله واتخذ قوله دليلا هداه للتي هي أقوم(7) ووفقه للرشاد وسدده

___________________________________
(1) المثلة بالضم: النكال، قال الفيض رحمه الله: ومن روى مثلوا بالتشديد اراد جدعوهم بقطع الاذن والانوف.
(2) (من انفسكم) اي من جنسكم عربي مثلكم. وقرء من انفسكم بفتح الفاء اي من اشرفكم (عزيز عليه) اي شديد شاق. (ماعنتم) عنتكم ولقاؤكم المكروه. (حريص عليكم) اي على ايمانكم وصلاح شأنكم؛ (في).
(3) اي عاقلا فهما فان الغافل كالميت؛ (في).
(4) اي الموت.
(5) القارعة: الشديدة من شدائد الدهر.
(6) زاح الشئ يزيح زيحا اي بعد وذهب وازاحه غيره؛ (الصحاح).
(7) الانتصاح: قبول النصيحة يعنى من اطاع اوامر الله وعلم انه انما يهديه إلى مصالحه ويرده عن مفاسده يهديه للحالة التي اتباعها اقوم وهي من الالفاظ القرآنية (ان هذا القران يهدي للتي هي أقوم) وتلك الحالة هي المعرفة بالله وتوحيده؛ (في).
(*)

[390]


ويسره للحسنى، فإن جار الله آمن محفوظ وعدوه خائف مغرور، فاحترسوا من الله عزوجل بكثرة الذكر واخشوا منه بالتقى وتقربوا إليه بالطاعة فإنه قريب مجيب قال الله عزوجل: " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب اجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون(1) " فاستجيبوا لله وآمنوابه وعظموا الله الذي لا ينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعظم(2) فإن رفعة الذين يعلمون ما عظمة الله أن يتواضعوا له وعز الذين يعلمون ما جلال الله أن يذلوا له وسلامة الذين يعلمون ما قدره الله أن يستسلموا له، فلا ينكرون أنفسهم بعد حد المعرفة ولا يضلون بعد الهدى، فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الاجرب(3) والبارئ من ذي السقم.
واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه ولم تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه، ولن تتلوا الكتاب حق تلاوته حتى تعرفوا الذي حرفه، ولن تعرفوا الضلالة حتى تعرفوا الهدى، ولن تعرفوا التقوى حتى تعرفوا الذي تعدى، فإذا عرفتم ذلك عرفتم البدع والتكلف ورأيتم الفرية على الله وعلى رسوله والتحريف لكتابه ورأيتم كيف هدى الله من هدى فلا يجهلنكم(4) الذين لا يعلمون، إن علم القرآن ليس يعلم ما هو إلا من ذاق طعمه، فعلم بالعلم جهله وبصربه عماه(5) وسمع به صممه وأدرك به علم ما فات وحيي به بعد إذ مات

___________________________________
(1) البقرة: 186.
(2) اي يطلب لنفسه العظمة.
(3) اي الذي به الجرب وهو داء معروف.
(4) من التجهيل اي لا ينسبوكم إلى الجهل.
(5) (فعلم بالعلم جهله) اي ما جهل مما يحتاج اليه في جميع الامور، او كونه جاهلا قبل ذلك او كمل علمه حتى اقر بانه جاهل فان غاية كل كمال في المخلوق الاقرار بالعجز عن استكماله والاعتراف بثبوته كما ينبغي للرب تعالى او يقال: ان الجاهل لتساوي نسبة الاشياء اليه لجهله بجميعها يدعى علم كل شئ واما العالم فهو يميز بين ما يعلمه وما لا يعلمه فبالعلم عرف جهله ولا يخفى جريان الاحتمالات في الفقرتين التاليتين وان الاول اظهر في الجميع بأن يكون المراد بقوله: (وبصر به عماه) اي ابصر به ما عمى عنه او تبدلت عماه بصيرة. (وسمع به) ويمكن ان يقرء بالتخفيف اي سمع ما كان صم عنه او بالتشديد اي بدل بالعلم صممه بكونه سميعا؛ (آت).
(*)

[391]


وأثبت عند الله عز ذكره الحسنات ومحى به السيئات وأدرك به رضوانا من الله تبارك وتعالى فاطلبوا ذلك من عند أهله خاصة(1) فإنهم خاصة نور يستضاء به وأئمة يقتدى بهم وهو عيش العلم وموت الجهل هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم وصمتهم عن منطقهم(2) وظاهرهم عن باطنهم لا يخالفون الذين ولا يختلفون فيه فهو بينهم شاهد صادق وصامت ناطق(3) فهم من شأنهم شهداء بالحق ومخبر صادق(4) لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه، قد خلت لهم من الله السابقة ومضى فيهم من الله عزوجل حكم صادق وفي ذلك ذكرى للذاكرين فاعقلوا الحق إذا سمعتموه عقل رعاية ولا تعقلوه عقل رواية فإن رواة الكتاب كثير ورعاته قليل والله المستعان.
587 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن عمر بن علي، عن عمه محمد بن عمر، عن ابن اذينة قال: سمعت عمر بن يزيد يقول: حدثني معروف بن خربوذ، عن علي بن الحسين (ع) أنه كان يقول: ويلمه فاسقا(5) من لا يزال ممارئا، ويلمه فاجرا من لا يزال مخاصما، ويلمه آثما من كثر كلامه في غير ذات الله عزوجل.
588 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه جميعا، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان، عن الحسن بن عمارة، عن نعيم القضاعي

___________________________________
(1) كنى عليه السلام بقوله: (من عند اهله) عن نفسه ومن يحذو حذوه من اولاده عليهم السلام؛ (في).
(2) ذلك لان صمت العارف ابلغ من نطق غيره؛ (في).
(3) انما لا يخالفون الدين لانهم قوامه واربابه وانما لا يختلفون فيه لان الحق في التوحيد واحد فالدين او القران بينهم شاهد صادق ياخذون بحكمه كما يؤخذ بحكم الشاهد الصادق. و (صامت ناطق) لانه لا ينطق بنفسه بل لا بد له من مترجم فهو صامت في الصورة وفي المعنى انطق الناطقين لان الاوامر والنواهي والاداب كلها مبنية عليه ومتفرعة عنه فهو شأن من شأنهم؛ (في).
(4) مخبر صادق في حقهم حال كونهم شهداء بالحق غير مخالفين له ولا مختلفين فيه؛ (في).
(5) ويلمه اي ويل لامه كما في القاموس. والويل: الحزن والهلاك من العذاب وقد يرد الويل بمعنى التعجب ومنه الحديث (ويلمه مسعر حرب) تعجبا من شجاعته وحربه. (النهاية) (*)

[392]


عن أبي جعفر (ع) قال: أصبح إبراهيم (ع) فرأى في لحيته شعرة بيضاء فقال: الحمد لله رب العالمين الذي بلغني هذا المبلغ لم أعص الله طرفة عين.
589 - أبان بن عثمان، عن محمد بن مروان، عمن رواه، عن أبي جعفر (ع) قال: لما اتخذ الله عزوجل إبراهيم خليلا أتاه بشراه بالخلة فجاء‌ه ملك الموت في صورة شاب أبيض عليه ثوبان أبيضان يقطر رأسه ماء‌ا ودهنا(1) فدخل إبراهيم (ع) الدار فاستقبله خارجا من الدار وكان إبراهيم (ع) رجلا غيورا وكان إذا خرج في حاجة أغلق بابه واخذ مفتاحه معه ثم رجع ففتح فإذا هو برجل قائم أحسن ما يكون من الرجال فأخذه بيده وقال: ياعبدالله من أدخلك داري فقال: ربها أدخلنيها فقال: ربها أحق بها مني فمن أنت؟ قال: أنا ملك الموت ففزع إبراهيم (ع) فقال: جئتني لتسلبني روحي؟ قال: لا ولكن اتخذ الله عبدا خليلا فجئت لبشارته(2) قال: فمن هو لعلي أخدمه حتى أموت؟ قال: أنت هو، فدخل على سارة (عليها السلام) فقال لها: إن الله تبارك وتعالى اتخذني خليلا.
590 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن سليم الفراء، عمن ذكره، عن أبي عبدالله (ع) مثله إلا أنه قال في حديثه: إن الملك لما قال: أدخلنيها ربها عرف إبراهيم (ع) أنه ملك الموت (ع) فقال له: ما أهبطك قال: جئت ابشر رجلا أن الله تبارك وتعالى اتخذه خليلا، فقال له إبراهيم (ع): فمن هذا الرجل؟ فقال له الملك: وما تريه منه؟ فقال له إبراهيم (ع): أخدمه أيام حياتي، فقال له الملك: فأنت هو.
591 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن مالك بن عطية عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (ع) أن إبراهيم (ع) خرج ذات يوم يسير ببعير فمر بفلاة من الارض فإذا هو برجل قائم يصلي قد قطع الارض(3) إلى السماء طوله ولباسه

___________________________________
(1) كناية عن طراوته وصفائه؛ (آت).
(2) لعل السر في تخصيص ملك الموت بالبشارة بالخلة كونه سببا للقاء الله سبحانه والوصول اليه وبالبشارة بالخلة يشتاق قلب الخليل إلى لقاء خليله ووصوله اليه؛ (في).
(3) القطع: العمود؛ (في).
(*)

[393]


شعر، قال: فوقف عليه إبراهيم (ع) وعجب منه وجلس ينتظر فراغه، فلما طال عليه حركه بيده فقال له: إن لي حاجة فخفف، قال: فخفف الرجل وجلس إبراهيم (ع)، فقال له إبراهيم (ع): لمن تصلي؟ فقال: لاله إبراهيم، فقال له: ومن إله إبراهيم، فقال: الذي خلقك وخلقني، فقال له إبراهيم (ع): قد أعجبني نحوك(1) وأنا احب أن أواخيك في الله، أين منزلك إذا أردت زيارتك ولقاء‌ك؟ فقال له الرجل: منزلي خلف هذه النطفة - وأشار بيده إلى البحر(2) - وأما مصلاي فهذا الموضع تصيبني فيه إذا أردتني إن شاء الله.
قال: ثم قال الرجل لابراهيم (ع): ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: نعم، فقال له: وما هي؟ قال: تدعو الله واؤمن على دعائك وأدعو أنا فتؤمن على دعائي، فقال الرجل: فبم ندعو الله؟ فقال إبراهيم (ع): للمذنبين من المؤمنين، فقال الرجل لا، فقال إبراهيم (ع): ولم؟ فقال: لاني قد دعوت الله عزوجل منذ ثلاث سنين بدعوة لم أر إجابتها حتى الساعة وأنا أستحيي من الله تعالى أن أدعوه حتى أعلم أنه قد أجابني، فقال إبراهيم (ع): فبم دعوته؟ فقال له الرجل: إني في مصلاي هذا ذات يوم إذ مر بي غلام أروع، النور يطلع من جبهته، له ذؤابة من خلفة(3) ومعه بقر يسوقها كأنما دهنت دهنا وغنم يسوقها كأنما دخست دخسا(4) فأعجبني ما رأيت منه فقلت له: يا غلام لمن هذا البقر والغنم؟ فقال لي: لابراهيم (ع)، فقلت: ومن أنت؟ فقال: أنا إسماعيل بن

___________________________________
(1) اي طريقتك في العبادة او مثلك.
(2) قال الفيروز آبادي: النطفة بالضم: الماء الصافي، قل او كثر. وقال المطرزي: النطفة: البحر.
(3) (اروع) قال الجوهري: الاروع من الرجال الذي يعجبك حسنه.
والذؤابة في اللغة: الناصية وهي شعر في مقدم الرأس وذؤابة كل شئ اعلاه ومنه (هو ذؤابة قومه) اي المقدم فيهم.
(4) يقال: دهنه اي طلاه بالدهن وهو كناية عن سمنها اي ملئت دهنا او صفائها اي طليت به.
وقوله: (كانما دخست دخسا) في اكثر النسخ بالخاء المعجمة وفي بعضها بالمهملة قال الجوهري: الدخيس: اللحم المكتنز وكل ذي سمن دخيس، وقال الجزري: كل شئ ملاته فقد دحسته والدحاس الامتلاء والزحام؛ (آت).
(*)

[394]


إبراهيم خليل الرحمن فدعوت الله عزوجل وسألته أن يريني خليله فقال له إبراهيم (ع): فأنا إبراهيم خليل الرحمن وذلك الغلام ابني فقال له الرجل عند ذلك: الحمد لله الذي أجاب دعوتي، ثم قبل الرجل صفحتي إبراهيم (ع) وعانقة، ثم قال: أما الآن فقم فادع حتى اؤمن على دعائك، فدعا إبراهيم (ع) للمؤمنين والمؤمنات والمذنبين من يومه ذلك(1) بالمغفرة والرضا عنهم، قال: وأمن الرجل على دعائه.
قال أبوجعفر (ع) فدعوة إبراهيم (ع) بالغة للمؤمنين المذنبين من شيعتنا إلى يوم القيامة.
592 - علي بن محمد، عن بعض أصحابه رفعه قال: كان علي بن الحسين (ع) إذا قرأ هذه الآية " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها(2) " يقول: سبحان من لم يجعل في أحد من معرفه نعمة إلا المعرفة بالتقصير عن معرفتها كما لم يجعل في أحد من معرفة إدراكه أكثر من العلم أنه لا يدركه، فشكر عزوجل معرفة العارفين بالتقصير عن معرفة شكره فجعل معرفته بالتقصير شكرا كما علم علم العالمين أنهم لا يدركونه فجعله إيمانا، علما منه أنه قد وسع العبار(3) فلا يتجاوز ذلك فإن شيئا من خلقه لا يبلغ مدى عبادته وكيف يبلغ مدى عبادته ومن لا مدى له ولا كيف، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
593 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن عبدالرحمن بن أبي هاشم، عن عنبسة بن بجاد العابد، عن جابر، عن أبي جعفر (ع) قال: كنا عنده وذكروا سلطان

___________________________________
(1) اي إلى يوم القيامة كما هو الموجود في كتاب كمال الدين الصدوق؛ (آت).
(2) النحل: 18.
(3) القد: القدر.
وقوله (ايمانا) قال الفيض رحمه الله اشارة إلى قوله سبحانه: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) قال امير المؤمنين عليه السلام: (ان الراسخين في العلم هم الذين اغناهم الله عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب، فلزموا الاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول مالم يحيطوا به علما وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخا).
(*)

[395]


بني أمية فقال أبوجعفر (ع): لا يخرج على هشام أحد إلا قتله، قال: وذكر ملكه عشرين سنة، قال: فجزعنا، فقال: مالكم إذا أراد الله عزوجل أن يهلك سلطان قوم أمر الملك فأسرع بسير الفلك فقدر على ما يريد؟ قال: فقلنا لزيد (ع) هذه المقالة، فقال: إني شهدت هشاما ورسول الله صلى الله عليه وآله يسب عنده فلم ينكر ذلك ولم يغيره فوالله لو لم يكن إلا أنا وابني لخرجت عليه.
594 - وبهذا الاسناد، عن عنبسة، عن معلى بن خنيس قال: كنت عند أبي عبدالله (ع) إذ أقبل محمد بن عبدالله فسلم ثم ذهب فرق له أبوعبدالله (ع) ودمعت عيناه فقلت له: لقد رأيتك صنعت به ما لم تكن تصنع؟ فقال: رققت له لانه ينسب إلى أمر ليس له(2) لم أجده في كتاب علي (ع) من خلفاء هذه الامة ولا من ملوكها.
595 - علي بن إبراهيم رفعه قال: قال ابوعبدالله (ع) لرجل: ما الفتى عنكم؟ فقال له: الشاب، فقال: لا، الفتى: المؤمن، إن أصحاب الكهف كانوا شيوخا فسماهم الله عزوجل فتية بإيمانهم.
596 - محمد، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن سدير قال: سأل رجل أبا جعفر (ع) عن قول الله عزوجل: " فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا فظلموا أنفسهم(3) " فقال: هؤلاء قوم كان لهم قرى متصلة ينظر بعضهم إلى بعض وأنهار جارية، وأموال ظاهرة، فكفروا بأنعم الله وغيروا ما بأنفسهم فأرسل الله عزوجل عليهم سيل العرم فغرق قراهم وأخرب ديارهم وأذهب بأموالهم وأبدلهم مكان جناتهم جنتين ذواتي اكل خمط وأثل وشئ من سدر قليل(4) ثم قال الله عزوجل: " ذلك جزيناهم بما كفروا

___________________________________
(1) هو محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن امير المؤمنين عليه السلام وقد مر بعض احواله في المجلد الاول ص 358.
(2) اي إلى الخلافة او إلى الملك والسلطنة؛ (آت).
(3) سبأ: 19.
(4) العرم: الجرذ الذكر، والمطر الشديد، وواد وبكل فسر قوله تعالى: سيل العرم. وقال الرازي: الاكل: الثمرة وأكل خمط اي مر بشع وقيل: الخمط كل شجر له شوك وقيل: الاراك. والاثل: الطرفاء وقيل: السدر لانه اكرم ما بدلوا به. والاثل والسدر معطوفان على اكل لا على خمط لان الاثل لا اكل له وكذا السدر؛ (آت).
(*)

[396]


وهل نجازي إلا الكفور " 597 - الحسين بن محمد الاشعري، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أبي بصير، عن أحمد بن عمر قال: أبوجعفر (ع) وأتاه رجل فقال له: إنكم أهل بيت رحمة اختصكم الله تبارك وتعالى بها، فقال له: كذلك نحن والحمد لله لا ندخل أحدا في ضلالة ولا نخرجه من هدى إن الدنيا لا تذهب حتى يبعث الله عزوجل رجلا منا أهل البيت يعمل بكتاب الله لا يرى فيكم منكرا إلا أنكره.
تم كتاب الروضة من الكافي وهو آخره والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
أحمد الله سبحانه على ما من علي ووفقني لاتمام هذا الكتاب الكريم تصحيحا وتعليقا وضبطا وأشكره وأثني عليه جزيل عطائه وجميل فعاله إنه جواد كريم.