كلام علي بن الحسين عليما السلام

29 - حدثني محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه جميعا، عن الحسن بن محبوب، عن عبدالله بن غالب الاسدي، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب قال: كان علي بن الحسين (ع) يعظ الناس ويزهدهم في الدنيا ويرغبهم في أعمال الآخرة بهذا الكلام في كل جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وحفظ عنه وكتب كان يقول: أيها الناس اتقوا الله واعلموا أنكم إليه ترجعون فتجد كل نفس ماعملت في هذه الدنيا من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه، ويحك يا ابن آدم الغافل وليس بمغفول عنه.

[73]


يا ابن آدم إن أجلك أسرع شئ إليك، قد أقبل نحوك حثيثا يطلبك(1) ويوشك أن يدركك وكأن قد أوفيت أجلك وقبض الملك روحك وصرت إلى قبرك وحيدا فرد إليك فيه روحك واقتحم عليك فيه ملكان ناكر ونكير لمسائلتك وشديد امتحانك، ألا وإن أول ما يسألانك عن ربك الذي كنت تعبده وعن نبيك الذي أرسل إليك وعن دينك الذي كنت تدين به وعن كتابك الذي كنت تتلوه وعن إمامك الذي كنت تتولاه، ثم عن عمرك فيما كنت أفنيته، ومالك من أين اكتسبته وفيما أنت أنفقته، فخذ حذرك وانظر لنفسك وأعد الجواب قبل الامتحان والمسائلة والاختبار فإن تك مؤمنا عارفا بدينك، متبعا للصادقين، مواليا لاولياء الله لقاك الله حجتك وأنطق لسانك(2) بالصواب وأحسنت الجواب وبشرت بالرضوان والجنة من الله عزوجل واستقبلتك الملائكة بالروح والريحان وإن لم تكن كذلك تلجلج لسانك ودحضت حجتك وعييت عن الجواب(3) وبشرت بالنار واستقبلتك ملائكة العذاب بنزل من حميم وتصلية جحيم.
واعلم يا ابن آدم إن من وراء هذا أعظم وأفظع وأوجع للقلوب يوم القيامة، ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود، يجمع الله عزوجل فيه الاولين والآخرين ذلك يوم ينفخ في الصور وتبعثر فيه القبور(4) وذلك يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين وذلك يوم لا تقال فيه عثرة(5) ولا يؤخذ من أحد فدية ولا تقبل من أحد معذرة ولا لاحد فيه مستقبل توبة، ليس إلا الجزاء بالحسنات والجزاء بالسيئات، فمن كان من

___________________________________
(1) أي مسرعا، حريصا.
(2) في بعض النسخ (انطلق لسانك).
(3) التلجلج: التردد في الكلام. ودحضت حجته دحوضا اي بطلت. وعييت عن الجواب اي عجزت عنه.
(4) بعثرت الشئ إذا استخرجته وكشفته وبعثرت حوضي اي هدمته وجعلت اسفله اعلاه وسمبت القيامة بالازفة لازوفتها اي لقربها إذا القلوب لدى الحناجر فانها ترتفع عن اماكنها فتلتصق بحلوقهم فلا تعود، فيتروحوا فلا تخرج فيستريحوا؛ (آت).
(5) من الاقالة وهي نقض البيع. والعثرة: الزلة.
(*)

[74]


المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من خير وجده ومن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من شر وجده.
فاحذروا أيها الناس من الذنوب والمعاصي ما قد نهاكم الله عنها وحذركموها في كتابه الصادق والبيان الناطق ولا تأمنوا مكر الله وتحذيره وتهديده عندما يدعوكم الشيطان اللعين إليه من عاجل الشهوات واللذات في هذه الدنيا فإن الله عزوجل يقول: " إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون(1) " وأشعروا قلوبكم خوف الله(2) وتذكروا ما قد وعدكم الله في مرجعكم إليه من حسن ثوابه كما قد خوفكم من شديد العقاب فإنه من خاف شيئا حذره ومن حذر شيئا تركه ولا تكونوا من الغافلين المائلين إلى زهرة الدنيا الذين مكروا السيئات فإن الله يقول في محكم كتابه: " أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الارض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون * أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين * أو يأخذهم على تخوف(3) " فاحذروا ما حذركم الله بما فعل بالظلمة في كتابه ولا تأمنواأن ينزل بكم بعض ما تواعد به القوم الظالمين في الكتاب والله لقد وعظكم الله في كتابه بغيركم فإن السعيد من وعظ بغيره ولقد أسمعكم الله في كتابه ما قد فعل بالقوم الظالمين من أهل القرى قبلكم حيث قال: " وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة " وإنما عنى بالقرية أهلها حيث يقول: " وأنشأنا بعدها قوما آخرين " فقال عزوجل: " فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون * (يعني يهربون قال:) لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون * (فلما أتاهم العذاب) قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين * فما زالت تلك دعويهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين(4) " وأيم الله إن هذه عظة لكم وتخويف إن اتعظتم وخفتم، ثم رجع القول من الله في الكتاب على أهل المعاصي والذنوب فقال عزوجل

___________________________________
(1) الاعراف: 201، اي لمم من الشيطان وطائف فاعل منه، يقال طاف يطيف طيفا فهو طائف.
(2) اي اجعلوا خوف الله شعار قلوبكم ملازما لها غير مفارق عنها.
(3) النحل: 44 إلى 47. و (تخوف) اي تنقص.
(4) الانبياء: 11 إلى 15. ومضى بيان ما فيه ص 51 من هذا المجلد.

[75]


ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن ياويلنا إنا كنا ظالمين(1) " فإن قلتم: أيها الناس إن الله عزوجل إنما عنى بهذا أهل الشرك فكيف ذلك وهو يقول: " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاوإن كان مثقال حبة من خردل أتينابها وكفى بنا حاسبين(2) ".
إعلموا عباد الله أن أهل الشرك لا ينصب لهم الموازين ولا ينشر لهم الدواوين و إنما يحشرون إلى جهنم زمرا وإنما نصب الموازين ونشر الدواوين لاهل الاسلام.
قاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الله عزوجل لم يحب زهرة الدنيا وعاجلها لاحد من أوليائه ولم يرغبهم فيها وفي عاجل زهرتها وظاهر بهجتها وإنما خلق الدنيا وخلق أهلها ليبلوهم فيها أيهم أحسن عملا لآخرته وأيم الله لقد ضرب لكم فيه الامثال وصرف الآيات لقوم يعقلون ولا قوة إلا بالله.
فازهدوا فيما زهدكم الله عزوجل فيه من عاجل الحياة الدنيا فإن الله عز وجل يقول وقوله الحق: " إنما مثل الحيوة الدنيا كما أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض مما ياكل الناس والانعام حتى إذا أخذت الارض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالامس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون(3) " فكونوا عباد الله من القوم الذين يتفكرون ولا تركنوا إلى الدنيا فإن الله عزوجل قال لمحمد صلى الله عليه وآله: " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار(4) " ولا تركنوا إلى زهرة الدنيا وما فيها ركون من اتخذها دار قرار ومنزل استيطان فإنها دار بلغة ومنزل قلعة(5) ودار عمل، فتزودوا الاعمال الصالحة فيها قبل تفرق أيامها وقبل الاذن من الله في خرابها فكان قد أخربها الذي عمرها أول مرة وابتدأها وهو ولي ميراثها فأسأل الله العون لناولكم على تزود التقوى

___________________________________
(1) الانبياء: 46. والنفحة: الدفعة من الشئ دون معظمه.
(2) الانبياء: 47.
(3) يونس: 24. واخذت الارض زخرفها اي زينتها بالنبات.
(4) هود: 113. اي تطمئنوا اليهم وتسكنوا إلى قولهم.
(5) اي ليس بمستوطن.
(*)

[76]


والزهد فيها، جعلنا الله وإياكم من الزاهدين في عاجل زهرة الحياة الدنيا، الراغبين لآجل ثواب الآخرة فإنما نحن به وله وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.