خطبة لامير المؤمنين عليه السلام

21 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عثمان، عن سليم بن قيس الهلالي قال: خطب أمير المؤمنين (ع) فحمد الله وأثنى عليه ثم صلى على النبي صلى الله عليه وآله، ثم قال: ألا إن أخوف ما أخاف عليكم خلتان(5): اتباع الهوى وطول الامل أما اتباع الهوى فيصد عن الحق وأما طول الامل فينسي الآخرة، ألا إن الدنيا قد ترحلت مدبرة وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة ولكن واحدة بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وإن غدا حساب ولا عمل وإنما بدء وقوع الفتن من أهواء تتبع وأحكام تبتدع، يخالف فيها حكم الله يتولى فيها رجال رجالا، ألا إن الحق لو خلص لم يكن اختلاف ولو أن الباطل خلص لم يخف على ذي حجى(6) لكنه يؤخذ

___________________________________
(5) اي خصلتان.
(6) الحجى بالكسر: العقل.
(*)

[59]


من هذا ضغث ومن هذا ضغث(1) فيمزجان فيجللان(2) معا فهنالك يستولى الشيطان على أوليائه ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: كيف أنتم إذا لبستم فتنة يربو فيها الصغير(3) ويهرم فيها الكبير، يجري الناس عليها ويتخذونها سنة فإذا غير منها شئ قيل: قد غيرت السنة وقد أتى الناس منكرا ثم تشتد البلية وتسبى الذرية وتدقهم الفتنة كما تدق النار الحطب وكما تدق الرحا بثفالها(4) ويتفقهون لغير الله ويتعلمون لغير العمل ويطلبون الدنيا بأعمال الآخرة.
ثم أقبل بوجهه وحوله ناس من أهل بيته وخاصته وشيعته فقال: قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول الله صلى الله عليه وآله متعمدين لخلافه، ناقضين لعهده مغيرين لسنته ولو حملت الناس على تركها وحولتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله لتفرق عني جندي حتى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عزوجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله، أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم (ع)(5) فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله صلى الله عليه وآله، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة (عليها السلام)(6) و رددت صاع رسول صلى الله عليه وآله كما كان(7)، وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله صلى الله عليه وآله

___________________________________
(1) الضغث بالكسر: قبضة من حشيش مخالطة الرطب باليابس.
(2) جللت الشئ: إذا غطيته. وفي بعض النسخ (فيجتمعان) وفي بعضها (فيجلبان).
(3) اي يكبر وهو كناية عن امتدادها.
(4) بالمثلثة والفاء في النهاية: في حديث على عليه السلام: (وتدقهم الفتن دق الرحا بثفالها) الثفال بالكسر: جلدة تبسط تحت رحا اليد ليقع عليها الدقيق، ويسمى الحجر الاسفل: ثفالا بها والمعنى انها تدقهم دق الرحا للحب إذا كانت مثفلة ولا تثفل الا عند الطحن.
(5) اشارة إلى ما فعله عمر من تغيير المقام عن الموضع الذي وضعه فيه رسول الله صلى الله عليه وآله إلى موضع كان فيه في الجاهلية رواه الخاصة والعامة. راجع كتاب النص والاجتهاد للعلامة الجليل سماحة السيد شرف الدين العاملى مد ظله.
(6) قصة فدك مشهورة لا تحتاج إلى البيان.
(7) الصاع في النهاية هو مكيال يسع اربعة امداد والمد عند الشافعي وفقهاء الحجاز رطل و ثلث بالعراقي وعند ابوحنيفة المد رطلان وبه اخذ فقهاء العراق فيكون الصاع خمسة ارطلان وثلثا او ثمانية ارطال وعند الشيعة على ما في كتاب الخلاف في حديث زرارة عن ابي جعفر عليه السلام يقال: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتوضأ بمد ويغتسل بصاع والمد رطل ونصف والصاع ستة ارطال يعني رطل المدينة ا ه‍. وهو تسعة بالعراقي.
(*)

[60]


لاقوام لم تمض لهم ولم تنفذ(1)، ورددت دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد(2) ورددت قضايا من الجور قضي بها(3)، ونزعت نساء‌ا تحت رجال بغير حق فرددتهن إلى أزواجهن(4) واستقبلت بهن الحكم في الفروج والارحام، وسبيت ذراري بني تغلب(5)، ورددت ما قسم من أرض خيبر، ومحوت دواوين العطايا(6) وأعطيت كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله(7)

___________________________________
(1) القطيعة: طائفة من ارض الخراج (اقطعها) اي عينها وعزلها؛ (في).
(2) كانهم غصبوها وادخلوها في المسجد؛ (في).
(3) ذلك كقضاء عمر بالعول والتعصيب في الارث وكقضائه بقطع السارق من معصم الكف ومفصل ساق الرجل خلافا لما امر به النبي صلى الله عليه واله وسلم من ترك الكف والعقب وانفاذه في الطلاق الثلاث المرسلة ومعنه من بيع امهات الاولاد وان مات الولد وقال: هذا راى رايته فامضاه على الناس إلى غير ذلك من قضاياه وقضايا الاخرين؛ (في).
(4) كمن طلقت بغير شهود وعلى غير طهر كما ابدعوه ونفذوه وغير ذلك؛ (في).
(5) لان عمر رفع عنهم الجزية فيهم ليسوا باهل ذمة فيحل سبى ذراريهم كما روى عن الرضا عليه السلام انه قال: ان بنى تغلب من نصارى العرب انفوا واستنكفوا من قبول الجزية وسألوا عمر ان يعفيهم عن الجزية ويؤدوا الزكاة مضاعفا فخشى ان يلحقوا بالروم فصالحهم على ان صرف ذلك عن رؤوسهم وضاعف عليهم الصدقة فرضوا بذلك وقال محيي السنة (البغوى) روى ان عمر بن الخطاب رام نصارى العرب على الجزية فقالوا: نحن عرب لا نؤدي ما يؤدي العجم ولكن خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض يعنون الصدقة فقال عمر: هذا فرض الله على المسلمين قالوا: فزد ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية فراضاهم على ان ضعف عليهم الصدقة؛ (آت).
(6) أشار بذلك إلى ما ابتدعه عمر في عهده من وضعه الخراج على أرباب الزراعات و الصناعات والتجارات لاهل العلم واصحاب الولايات والرئاسات والجند وجعل ذلك عليهم بمنزلة الزكاة المفروضة ودون دواوين واثبت فيها اسماء هؤلاء واسماء هؤلاء واثبت لكل رجل من الاصناف الاربعة ما يعطى من الخراج الذي وضعه على الاصناف الثلاثة وفضل في الاعطاء بعضهم على بعض ووضع الدواوين على يد شخص سماه صاحب الديوان واثبت له أجرة من ذلك الخراج وعلى هذه البدعة جرت سلاطين الجور وحكامهم إلى الان ولم يكن شئ من ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ولا على عهد ابي بكر وانما الخراج للامام فيما يختص به من الاراضي خاصة يصنع به ما يشاء؛ (في).
(7) اي لا اجعله لقوم دون قوم حتى يتداولوه بينهم ويحرموا الفقراء.
(*)

[61]


يعطي بالسوية ولم أجعلها دولة بين الاغنياء وألقيت المساحة(1)، وسويت بين المناكح(2) وأنفذت خمس الرسول كما أنزل الله عزوجل وفرضه(3) ورددت مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله إلى ماكان عليه(4)، وسددت مافتح فيه من الابواب، وفتحت ماسد منه، وحرمت المسح على الخفين، وحددت على النبيذ(5) وأمرت باحلال المتعتين(6) وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات(7) وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم(8)

___________________________________
(1) اشارة إلى ما عده الخاصة والعامة من بدع عمر انه قال: ينبغي مكان هذا العشر ونصف العشر دراهم ناخذها من ارباب الاملاك فبعث إلى البلدان من مسح على اهلها فالزمهم الخراج فاخذ من العراق يوما يليها ما كان اخذه منهم ملوك الفرس على كل جريب درهما واحدا وقفيزا من اصناف الحبوب واخذ من مصر ونواحيها دينارا وإردبا عن مساحة جريب كما كان ياخذ منهم ملوك الاسكندرية وقد روى محيى السنة وغيره عن علمائهم عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال: (منعت العراق درهمها وقفيزها ومنعت الشام مدها ودينارها ومنعت مصر إردبها ودينارها) والاردب لاهل مصر اربعة وستون منا وفسره اكثرهم بانه قد محى ذلك شريعة الاسلام وكان اول بلد مسحه عمر بلد الكوفة وتفصيل الكلام في ذكر هذه البدع موكول إلى الكتب المبسوطة التي دونها اصحابنا لذلك كالشافي للسيد المرتضى؛ (آت).
(2) بان يزوج الشريف والوضيع كما فعله رسول الله صلى عليه وآله وزوج بنت عمه مقدادا (آت)
او اشارة إلى ما ابتدعه عمر من منعه غير قريش ان يتزوج في قريش ومنعه العجم من التزويج في العرب؛ (في).
(3) اشارة إلى منع عمر اهل البيت خمسهم كما ياتي بيانه في آخر هذه الخطبة؛ (في).
(4) يعني اخرجت منع ما زادوه فيه. (وسددت ما فتح فيه من الابواب) اشارة إلى ما نزل به جبرئيل عليه السلام من الله سبحانه من امره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسد الابواب من مسجده الاباب على وكانهم قد عكسوا الامر بعد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم (في).
(5) اشارة إلى ما ابتدعه عمر من اجازته لمسح على الخفين في الوضوء ثلاثا للمسافر ويوما وليلة للمقيم وقد روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال: (اشد الناس حسرة يوم القيامة من راى وضوء‌ه على جلد غيره. (وحددت على النبيذ) وذلك انهم استحلوه؛ (في).
(6) يعني متعة النساء ومتعة الحج، قال عمر: (متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانا احرمهما واعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج)؛ (في).
(7) وذلك ان النبي صلى الله عليه واله كان يكبر على الجنائز خمسا، لكن الخليفة الثاني راقه ان يكون التكبير في الصلاة عليها اربعا فجمع الناس على الاربع، نص على ذلك جماعة من اعلام الامة كالسيوطي (نقلا عن العسكري) حيث ذكر اوليات عمر من كتابه (تاريخ الخلفاء) وابن الشحنة حيث ذكر وفاة عمر سنة 3 2 من كتابه (روضة المناظر) المطبوع في هامش تاريخ ابن الاثير وغيرهما من اثبات المتتبعين. (نقل عن كتاب النص والاجتهاد ص 152).
(8) وذلك انهم يتخافتون بها او يسقطونها في الصلاة؛ (في).
(*)

[62]


وأخرجت من أدخل مع رسول الله صلى الله عليه وآله في مسجده ممن كان رسول الله صلى الله عليه وآله أخرجه، وأدخلت من اخرج بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ممن كان رسول الله صلى الله عليه وآله أدخله(1) وحملت الناس على حكم القرآن وعلى الطلاق على السنة(2)، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها(3)، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشائعها ومواضعها(4)، ورددت أهل نجران إلى مواضعهم(5)، ورددت سبايا فارس وسائر الامم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله إذا لتفرقوا عني والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في

___________________________________
(1) لعل المراد اخراجهما حيث دفنا والمراد باخراج الرسول اياهما سد بابهما عن المسجد.
(وادخلت من اخرج) لعل المراد به نفسه عليه السلام وباخراجه سد بابه وبادخاله فتحه؛ (في).
(2) وذلك انهم خالفوا القرآن في كثير من الاحكام منها وجوب الاشهاد على الطلاق وعدم وجوبه على النكاح فانهم عكسوا الامر في ذلك وابطلوا عدة من احكام الطلاق وابدعوا فيه بارائهم؛ (في).
(3) اي اخذتها من اجناسها التسعة وهي الدنانير والدراهم والحنطة والشعير والتمر والزبيب والابل والغنم والبقر فانهم اوجبوها في غير ذلك وتفصيل الكلام توجد في كتب القوم. وقوله عليه السلام: (وحدودها) اي نصابها.
(4) ذلك انهم خالفوا في كثير منها كابداعهم في الوضوء مسح الاذنين وغسل الرجلين والمسح على العمامة والخفين وانتقاضه بملامسة النساء ومس الذكر واكل مامسته النار وغير ذلك مما لا ينقضه وكابداعهم الوضوء مع غسل الجنابة واسقاط الغسل في التقاء الختانين من غير انزال واسقاطهم من الاذان (حي على خير العمل) وزيادتهم فيه (الصلاة خير من النوم) وتقديمهم التسليم على التشهد الاول في الصلاة مع ان الفرض من وضعه التحليل منها وابداعهم وضع اليمين على الشمال فيها وحملهم الناس على الجماعة في النافلة وعلى صلاة الضحى وغير ذلك؛(في).
اقول: راجع في اثبات كل ذلك كتاب الشافي للسيد المرتضى رحمه الله وكتاب النص والاجتهاد للعلامة العاملي.
(5) نجران بالفتح ثم السكون وآخره نون وهو في عدة مواضع: منها نجران من مخاليف اليمن من ناحية مكة وبها كان خبر الاخدود واليها تنسب كعبة نجران وكانت ربيعة بها اساقفة مقيمون منهم السيد والعاقب اللذين جاء ا إلى النبي عليه السلام في اصحابهما ودعاهم إلى المباهلة وبقوا بها حتى اجلاهم عمر ونجران ايضا موضع على يومين من الكوفة إلى آخر ما قاله الحموي في مراصد الاطلاع ج 3 ص 1359 وفي كيفية اجلاء عمر اياهم وسببه راجع فتوح البلدان للبلاذري ص 70 إلى ص 75.
(*)

[63]


فريضة وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي: يا أهل الاسلام غيرت سنة عمر ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعا ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري(1) ما لقيت من هذه الامة من الفرقة وطاعة أئمة الضلالة والدعاة إلى النار.
وأعطيت من ذلك سهم ذي القربى الذي قال الله عزوجل: " إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان(3) " فنحن والله عنى بذي القربى الذي قرننا الله بنفسه وبرسوله صلى الله عليه وآله(4) فقال تعالى: " فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل (فينا خاصة) كيلا يكون دولة بين الاغنياء منكم وما آتيكم الرسول فخذوه ومانهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله (في ظلم آل محمد) إن الله شديد العقاب(5) " لمن ظلمهم رحمة منه لنا وغنى أغنانا الله به ووصى به نبيه صلى الله عليه وآله ولم يجعل لنا في سهم الصدقة نصيبا أكرم الله رسوله صلى الله عليه وآله وأكرمنا أهل البيت أن يطعمنا من أوساخ الناس، فكذبوا الله وكذبوا رسوله وجحدوا كتاب الله الناطق بحقنا ومنعونا فرضا فرضه الله لنا، ما لقى أهل بيت نبي من أمته ما لقينا بعد نبينا صلى الله عليه وآله والله المستعان على من ظلمنا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

___________________________________
(1) يثوروا اي يهيجوا: وقوله: (ما لقيت من هذه الامة) كلام مستأنف للتعجب.
(2) رجوع إلى الكلام السابق ولعل التأخير من الرواة؛ (آت).
(3) الانفال: 41.
وصدر الاية: (فاعلموا انما غنمتم من شئ فان لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ان كنتم آمنتم.. الخ).
(4) لان سهمهم دائم قادم لهم إلى يوم القبامة كما كان لله ولرسوله واما اليتيم إذا انقطع يتمه ليس له سهم وكذلك أخويه.
(5) الحشر: 7. وصدر الاية (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول... إلخ).