كتاب المعيشة .. باب دخول الصوفية على أبي عبدالله عليه السلام و...

احتجاجهم عليه فيما ينهون الناس عنه من طلب الرزق
8373 - 1 - علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة قال: دخل سفيان الثوري على أبي عبدالله عليه السلام فرأى عليه ثياب بيض كأنها غرقئ البيض(1) فقال له: إن هذا اللباس ليس من لباسك، فقال له: اسمع مني وع ما أقول لك فإنه خير لك عاجلا وآجلا إن أنت مت(2) على السنة والحق ولم تمت على بدعة اخبرك أن رسول الله صلى الله عليه واله كان في زمان مقفر جدب(3) فأما إذا أقبلت الدنيافأحق أهلها بها أبرارها لافجارها ومؤمنوها لامنافقوها ومسلموها لا كفارها فما أنكرت ياثوري فوالله إنني لمع ماترى ما أتى علي مذ عقلت صباح ولا مساء ولله في مالي حق أمرني أن أضعه موضعا إلا وضعته.
قال: فأتاه قوم ممن يظهرون الزهد ويدعون الناس أن يكونوا معهم على مثل الذي هم عليه من التقشف، فقالوا له: إن صاحبنا حصر(4) عن كلامك ولم تحضره حججه

___________________________________
(1) الغرقئ - كزبرج -: القشرة الملتزمة ببياض البيض اوالبياض الذى يؤكل، قال الفراء، وهمزته زائدة. (الصحاح)
(2) أى انتفاعك بما أقول آجلا انما يكون إذا تركت البدع. (آت)
(3) القفر: خلوالارض من الماء. والجدب: انقطاع المطر ويبس الارض. (في)
(4) التقشف - محركة - قذر الجلد ورثاثة الهيئة وسوء الحال وترك النظافة والترفة. والحصر. العى في المنطق والعجز عن الكلام (*)

[66]


فقال لهم: فهاتوا حججكم، فقالوا له: إن حججنا من كتاب الله فقال لهم: فأدلوابها(1) فإنها أحق ما اتبع وعمل به، فقالوا: يقول الله تبارك وتعالى مخبرا عن قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه واله: " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون(2) " فمدح فعلهم وقال في موضع آخر: " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا و يتيما وأسيرا(3) " فنحن نكتفي بهذا فقال رجل من الجلساء: إنا رأيناكم تزهدون في الاطعمة الطيبة ومع ذلك تأمرون الناس بالخروج من أموالهم حتى تمتعوا أنتم منها؟ فقال أبوعبدالله عليه السلام: دعوا عنكم ما لاتنتفعون به أخبروني أيها النفر ألكم علم بناسخ القرآن من منسوخه ومحكمه من متشابهه الذي في مثله ضل من ضل وهلك من هلك من هذه الامة؟ فقالوا له: أو بعضه فأما كله فلا، فقال لهم: فمن هنا اتيتم(4).
وكذلك أحاديث رسول الله صلى الله عليه واله(5) فأما ماذكرتم من إخبارالله عزوجل إيانا في كتابه عن القوم الذين أخبر عنهم بحسن فعالهم فقد كان مباحا جائزا(6) ولم يكونوا نهوا عنه و ثوابهم منه على الله عزوجل وذلك أن الله جل وتقدس أمر بخلاف ما عملوا به فصارأمره ناسخا لفعلهم وكان نهى الله تبارك وتعالى رحمة منه للمؤمنين ونظرا لكيلا يضروا بأنفسهم وعيالاتهم منهم الضعفة الصغار والولدان والشيخ الفاني والعجوز الكبيرة الذين لايصبرون على الجوع فإن تصدقت برغيفي ولا رغيف لي غيره ضاعوا وهلكوا جوعا فمن ثم قال رسول الله صلى الله عليه واله: خمس تمرات أو خمس قرص أودنانير أودراهم يملكها الانسان وهويريد أن يمضيها فأفضلها ما أنفقه الاسنان على والديه، ثم الثانية على نفسه وعياله، ثم الثالثة على قرابته الفقراء، ثم الرابعة على جيرانه الفقراء، ثم الخامسة في سبيل الله وهو أخسها أجرا

___________________________________
(1) الادلاء بالشئ: احضاره اى احضروها.
(2) الحشر: 10. والخصاصة: الفقر والحاجة. والشح: البخل.
(3) الدهر: 8.
(4) (اتيتم) بالبناء للمفعول اى دخل عليكم البلاء وأصابكم ما أصابكم.
(5) أى فيها ايضا ناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه وانتم لاتعرفونها. (آت)
(6) هذا لاينافى ما ذكره عليه السلام في جواب الثورى فانه علة شرعية الحكم أولا ونسخه ثانيا. (آت) (*)

[67]


وقال رسول الله صلى الله عليه واله للانصاري حين أعتق عند موته خمسة أو ستة من الرقيق ولم يكن يملك غيرهم وله أولاد صغار: لو أعلمتموني أمره ماتركتكم تدفنوه مع المسلمين يترك صبية صغارا يتكففون الناس(1).
ثم قال: حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه واله قال: أبدأ بمن تعول، الادنى فالادنى ثم هذا مانطق به الكتاب ردا لقولكم ونهيا عنه مفروضا من الله العزيز الحكيم، قال: " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما(2) " أفلا ترون أن الله تبارك وتعالى قال غيرما أراكم تدعون الناس إليه من الاثرة على أنفسهم وسمى من فعل ما تدعون الناس إليه مسرفا وفي غير آية من كتاب الله يقول: " إنه لايحب المسرفين(3) " فنهاهم عن الاسراف ونهاهم عن التقتير ولكن أمربين أمرين لايعطي جميع ما عنده، ثم يدعوالله أن يرزقه فلا يستجيب له للحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه واله: " إن أصنافا من امتي لايستجاب لهم دعاؤهم: رجل يدعو على والديه، ورجل يدعو على غريم(4) ذهب له بمال فلم يكتب عليه ولم يشهد عليه، ورجل يدعو على امرأته وقد جعل الله عزوجل تخلية سبيلها بيده، رجل يقعد في بيته ويقول: رب ارزقني ولايخرج ولا يطلب الرزق فيقول الله عزو جل له: عبدي ألم أجعل لك السبيل إلى الطلب والضرب في الارض بجوارح صحيحة فتكون قد اعذرت فيما بيني وبينك في الطلب لاتباع أمري ولكيلا تكون كلا على أهلك، فإن شئت رزقتك وإن شئت قترت عليك وأنت غير معذور عندي، ورجل رزقه الله مالا كثيرا فأنفقه ثم أقبل يدعو يا رب ارزقني فيقول الله عزوجل: ألم أرزقك رزقا واسعا فهلا اقتصدت فيه كما أمرتك ولم تسرف وقد نهيتك عن الاسراف، ورجل يدعو في قطيعة رحم.
ثم علم الله عزوجل نبيه صلى الله عليه واله كيف ينفق وذلك أنه كانت عنده أوقية(5) من

___________________________________
(1) الصبية - بالتثليث - جمع صبى. وقوله: (يتكففون) يقال: تكفف اذاسئل كفامن الطعام.
(2) الفرقان: 67، والقتر: القليل من العيش، يقال: فلان قترعلى عياله أى ضيق عليهم في النفقة.
والمقتر: الفقرالمقل. والقوام: العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين.
(3) الانعام: 141 والاعراف: 31.
(4) الغريم: المديون.
(5) الاوقية سبعة مثاقيل. - وهى بالضم والسكون وكسر القاف وفتح الياء المشددة ثم الهاء -. (*)

[68]


الذهب فكره أن يبيت عنده فتصدق بهافأصبح وليس عنده شئ وجاء ه من يسأله فلم يكن عنده ما يعطيه فلامه السائل واغتم هو حيث لم يكن عنده ما يعطيه وكان رحيما رقيقا فأدب الله تعالى نبيه صلى الله عليه واله بأمره فقال: " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا(1) " يقول: إن الناس قد يسألونك ولا يعذرونك فإذا أعطيت جميع ما عندك من المال كنت قد حسرت من المال.
فهذه أحاديث رسول الله صلى الله عليه واله يصدقها الكتاب والكتاب يصدقه أهله من المؤمنين وقال أبوبكر عند موته حيث قيل له: أوص فقال: اوصي بالخمس والخمس كثير فإن الله تعالى قد رضي بالخمس فأوصى بالخمس وقد جعل الله عزوجل له الثلث عند موته ولو علم أن الثلث خير له أوصى به، ثم من قد علمتم بعده في فضله وزهده سلمان وأبوذر رضي الله عنهما فأما سلمان فكان إذا أخذ عطاه رفع منه قوته لسنته حتى يحضر عطاؤه من قابل فقيل له: يا أبا عبدالله أنت في زهدك تصنع هذا وأنت لاتدري لعلك تموت اليوم أوغدا فكان جوابه أن قال: مالكم لاترجون لي البقاء كما خفتم علي الفناء، أما علمتم يا جهلة أن النفس قد تلتاث على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما يعتمد عليه فإذاهي أحرزت معيشتها اطمانت، وأما أبوذر فكانت له نويقات وشويهات يحلبها(2) ويذبح منها إذا اشتهى أهله اللحم أو نزل به ضيف أو رأى بأهل الماء الذين هم معه خصاصة نحرلهم الجزور أو من الشياه على قدر ما يذهب عنهم بقرم اللحم(3) فيقسمه بينهم ويأخذ هو كنصيب واحد منهم لا يتفضل عليهم، ومن أزهد من هؤلاء وقد قال فيهم رسول الله صلى الله عليه واله ما قال ولم يبلغ من أمرهما أن صارا لايملكان شيئا البتة كما تأمرون الناس بإلقاء أمتعتهم وشيئهم ويؤثرون به على أنفسهم وعيالاتهم.

___________________________________
(1) الاسراء: 31 وهى تمثيل لمنع الشحيح واعطاء المسرف وأمر بالاقتصاد الذى هو بين الاسراف والتقتير. (فتقعد) اى فتصير ملوما غير مرضى عندالله إذا خرجت عن القوام وعند الناس اذ يقول المحتاج: اعطى فلانا وحرمنى ويقول المستغنى: ما يحسن تدمير امر المعيشة وعند نفسك إذا احتجت فندمت على ما فعلت محسورا نادماأو منقطعا بك لاشئ عندك. (في)
(2) قوله قد تلتاث اى تبطئ وتحتبس عن الطاعات وتسترخى وتستضعف قال الفيروز آبادى اللوث: القوة والستر والبطؤ في الامر. وقوله: (نويقات) جمع نويقة مصغر ناقة وكذا (شويهات) جمع شويهة مصغر شاة.
(3) القرم - محركة -: شدة شهوة الحم. (*)

[69]


واعلموا أيها النفر أني سمعت أبي يروي عن آبائه عليه السلام: أن رسول الله صلى الله عليه واله قال يوما: ما عجبت من شئ كعجبي من المؤمن أنه إن رض جسده في دار الدنيا بالمقاريض كان خيرا له وإن ملك ما بين مشارق الارض ومغاربها كان خيرا له وكل ما يصنع الله عز و جل به فهو خيرله، فليت شعري هل يحيق فيكم(1) ما قد شرحت لكم منذ اليوم أم أزيدكم أما علمتم أن الله عزوجل قد فرض على المؤمنين في أول الامر أن يقاتل الرجل منهم عشرة من المشركين ليس له أن يولي وجهه عنهم ومن ولاهم يومئذ دبره فقد تبوء مقعده من النار ثم حولهم عن حالهم رحمة منه لهم فصار الرجل منهم عليه أن يقاتل رجلين من المشركين تخفيفا من الله عزوجل للمؤمنين فنسخ الرجلان العشرة وأخبروني أيضا عن القضاة أجورة هم(2) حيث يقضون على الرجل منكم نفقة امرأته إذا قال: إني زاهد وإني لاشئ لي فإن قلتم: جورة ظلمكم أهل الاسلام(3) وإن قلتم: بل عدول خصمتم أنفسكم وحيث تردون صدقة من تصدق على المساكين عند الموت بأكثر من الثلث.
أخبروني لوكان الناس كلهم الذين تريدون زهادا لاحاجة لهم في متاع غيرهم فعلى من كان يتصدق بكفارات الايمان والنذور والصدقات من فرض الزكاة من الذهب والفضة والتمر والزبيب وسائر ما وجب فيه الزكاة من الابل والبقر والغنم وغير ذلك إذا كان الامر كما تقولون لاينبغي لاحد أن يحبس شيئا من عرض الدنيا إلا قدمه وإن كان به خصاصة فبئسما ذهبتم إليه وحملتم الناس عليه من الجهل بكتاب الله عزوجل وسنة نبيه صلى الله عليه واله وأحاديثه التي يصدقها الكتاب المنزل ورد كم إياها بجهالتكم وترككم النظر في غرائب القرآن من التفسير بالناسخ من المنسوخ والمحكم والمتشابه والامر والنهي.
وأخبروني أين أنتم عن سليمان بن داود عليه السلام حيث سأل الله ملكا لاينبغي لاحد من بعده فأعطاه الله جل اسمه ذلك وكان يقول الحق ويعمل به، ثم لم نجد الله عزوجل

___________________________________
(1) يحيق فيه أى أثر فيه ويحيق به: أحاط - وبهم: نزل وفى بعض النسخ [يحق] اى يثبت ويستقرفيم وفى بعضها [يحتفى] بالحاء المهملة فمعناه هل يبالغ في نصيحتكم والبربكم.
وفي بعضها [يختفى] والاختفاء جاء بمعنى الاظهار والاستخراج وبمعنى الاستتار والتوارى وكلا المعنيين محتمل ههناعلى بعد.
(2) جمع جائر.
(3) (ظلمكم) على بناء التفعيل اى نسبواإلى الظلم. (*)

[70]


عاب عليه ذلك ولا أحدا من المؤمنين، وداودالنبي عليه السلام قبله في ملكه وشدة سلطانه ثم يوسف النبي عليه السلام حيث قال لملك مصر: " اجعلني على خزائن الارض إني حفيظ عليم(1) " فكان من أمره الذي كان أن اختار مملكة الملك وما حولها إلى اليمن وكانوا يمتارون الطعام(2) من عنده لمجاعة أصابتهم وكان يقول الحق ويعمل به، فلم نجد أحدا عاب ذلك عليه، ثم ذوالقرنين عبد أحب الله فأحبه الله وطوى له الاسباب(3) وملكه مشارق الارض ومغاربها وكان يقول الحق ويعمل به، ثم لم نجد أحدا عاب ذلك عليه، فتأدبوا أيها النفر بآداب الله عزوجل للمؤمنين واقتصروا على أمر الله ونهيه ودعواعنكم ما اشتبه عليكم ممالا علم لكم به وردوا العلم إلى أهله توجروا وتعذروا عندالله تبارك وتعالى وكونوا في طلب علم ناسخ القرآن من منسوخه ومحكمه من متشابهه وما أحل الله فيه مما حرم فإنه أقرب لكم من الله وأبعد لكم من الجهل، ودعوا الجهالة لاهلها فإن أهل الجهل كثير و أهل العلم قليل وقد قال الله عزوجل " وفوق كل ذي علم عليم(4) ".

_____________________________
(1) يوسف: 56.
(2) يمتارون اى يحملون الطعام، يقال: فلان يمتار اهله إذا حمل اليهم أقواتهم من غير بلدهم، والميرة، طعام يمتاره الانسان اى يجلبه من بلد إلى بلد.
(3) اى جمع له اسباب الملك وما يوصله اليه من العلم والقدرة والالة. (آت)
(4) يوسف: 76.