باب ابتلاء الخلق واختبارهم بالكعبة

16748 محمد بن أبي عبدالله، عن محمد بن أبي يسر(3) عن داود بن عبدالله، عن

[محمد بن]

عمرو بن محمد، عن عيسى بن يونس قال: كان ابن أبي العوجاء من تلامذة الحسن البصري فانحرف عن التوحيد فقيل له: تركت مذهب صاحبك ودخلت فيما لا أصل له ولاحقيقة؟ فقال: إن صاحبي كان مخلطا، كان يقول طورا بالقدر وطورا بالجبر وما أعلمه اعتقد مذهبا دام عليه وقدم مكة متمردا وإنكارا على من يحج وكان يكره العلماء مجالسته ومسائلته لخبث لسانه وفساد ضميره فأتى أبا عبدالله (ع) فجلس إليه في جماعة من نظرائه فقال: يا أبا عبدالله إن المجالس أمانات ولابد لكل من به سعال أن يسعل أفتأذن في الكلام؟ فقال: تكلم فقال: إلى كم تدوسون هذا البيدر وتلوذون بهذا الحجر وتعبدون هذا فقال: تلكم فقال: إلى كم تدوسون هذا البيدر وتلوذون بهذا الحجر وتعبدون هذا البيت المعمور بالطوب(4) والمدر وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر، إن من فكر

___________________________________
(3) في بعض النسخ

[محمد بن أبى نصر]

. وفى الوافى

[محمد بن أبى يسير]

.
(4) الدوس: الوطأ على الرجل. والبيدر: الموضع الذى يدالس فيه الطعام ويدق ليخرج الحب من السنبل. والطوب: الاجر.

[*]

[198]


في هذا وقدر علم أن هذا فعل أسسه غير حكيم ولاذي نظر فقل فإنك رأس هذا الامر و سنامه أبوك اسه(1) وتمامه فقال أبوعبدالله (ع): إن من أضله الله وأعمى قلبه استوخم الحق(2) ولم يستعذ به وصار الشيطان وليه وربه وقرينه، يورده منا هل الهلكة ثم لايصدره وهذا بيت استعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إثباته فحثهم على تعظيمه و زيارته وجعله محل أنبيائه وقبلة للمصلين إليه فهو شعبة من رضوانه وطريق يؤدي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال ومجمع العظمة والجلال خلقه الله قبل دحو الارض بألفي عام فأحق من أطيع فيما أمر وانتهى عما نهى عنه وزجر الله المنشئ للارواح والصور.
26749 وروي أن أميرالمؤمنين صلوات الله عليه قال في خطبة له: ولو أراد الله جل ثناؤه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان ومعادن العقيان(3) ومغارس الجنان وأن يحشر طير السماء ووحش الارض معهم لفعل ولو فعل لسقط البلاء وبطل الجزاء واضمحلت الانباء ولما وجب للقائلين أجور المبتلين(4) ولالحق المؤمنين ثواب المحسنين ولا لزمت الاسماء أهاليها على معنى مبين(5) ولذلك لو أنزل الله من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ولو فعل لسقط البلوى عن الناس أجمعين ولكن الله جل ثناؤه جعل رسله اولي قوة في عزائم نياتهم وضعفة فيما ترى الاعين من حالاتهم من قناعة تملا القلوب والعيون غناؤه(6) وخصاصة تملا الاسماع والابصار أذاؤه ولو كانت الانبياء أهل قوة لا ترام وعزة لاتضام وملك يمد نحوه أعناق الرجال ويشد إليه عقد

___________________________________
(1) الاس بالضم: الاصل.
(2) الاستيخام: الاستثقال وعد الشئ غير موافق. واستوخمه أى وجده وخيما ثقيلا. وقوله عليه السلام: " لم يستعذبه " اى لم يجده عذبا.
(3) في بعض النسخ

[معادن البلدان]

.
(4) في بعض النسخ

[واضمحل الابتلاء]

. و " للقائلين " من القيلولة يعنى لو لم يكن ابتلاء لكانوا مستريحين فلا ينالون اجور المبتلين ولم يكن هناك احسان فلا يلحقهم ثواب المحسنين ولا يكون مطيع ولا عاص ولا محسن ولا مسيئ بل يرتفع هذه الاسماء ولا يستبين لها معنى. (في)
(5) كالمؤمن والمتقى والزاهد والعابد. (آت)
(6) في بعض النسخ والنهج

[تملاء القلوب والعيون غنى]

. والخصاصة: الفقر.

[*]

[199]


الرحال(1) لكان أهون على الخلق في الاختبار وأبعد لهم في الاستكبار ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم أو رغبة مائلة بهم فكانت النيات مشتركة والحسنات مقتسمة ولكن الله أراد أن يكون الاتباع لرسله والتصديق بكتبه والخشوع لوجهه والاستكانة لامره والاستسلام لطاعته(2) امورا له خاصة، لاتشوبها من غيرها شائبة وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل، ألا ترون أن الله جل ثناؤه اختبر الاولين من لدن آدم إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لاتضر ولاتنفع ولا تبصر ولا تسمع فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياما ثم وضعه(3) بأوعر بقاع الارض حجرا(4) وأقل نتائق الدنيا مدراوأضيق بطون الاودية معاشا واغلظ محال المسلمين مياها، بين جبال خشنة ورمال دمثة وعيون وشلة وقرى منقطعة وأثر(5) من مواضع قطر السماء داثر ليس يزكو به خف ولا ظلف ولا حافر(6) ثم أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه فصار مثابة لمنتجع أسفارهم وغاية لملقى رحالهم تهوي إليه ثمار الافئدة من مفاوز قفار متصلة وجزائر بحار منقطعة ومهاوي فجاج عميقة حتى يهزوا مناكبهم ذللا، يهللون لله حوله ويرملون على أقدامهم شعثا غيرا له، قد نبذوا القنع والسرابيل

___________________________________
(1) الروم: الطلب. والضيم: الظلم. ومد الاعناق نحو الملك كناية عن تعظيمه يعنى يؤمله المؤملون ويرجوه الراجون. وشد الرحال كناية عن مسافرت ارباب الرغبات إليه. يقول: لو كان الانبياء ملوكا ذوى بأس وقهرلم يكن ايمان الخلق وانقيادهم إليه الله بل كان لرهبة لهم أو رغبة فيهم فكانت النيات مشتركة فتكون لله ولخوف النبى اورجاء نفعه. (في)
(2) في بعض النسخ

[والاستسلام إليه]

.
(3) في بعض النسخ

[جعله]

.
(4) الوعر: ضد السهل. والنتائق جمع نتيقة من النتق وهو أن تقلع الشئ وترفعه من مكانه هذا هو الاصل واراد به ههنا البلاد لرفع بنائها وشهرتها.
(5) الدمث: اللين. والوشل: القليل الماء. والاثر: بقية رسم الشئ.
(6) الدثور: الدروس وهو ان تهب الرياح على المنزل فيغشى رسومه الرمل ويغطيه.كذا في مجمع البحرين وفى المصباح: الزكاة بالمد: النماء والزيادة.وفى الوافى: الخف كناية عن الابل والظف عن البقر والشاة والحافر عن الدابة. يعنى لاتسمن فيه وليس حوله مرعى ترعاه فتسمن.

[*]

[200]


وراء ظهورهم(1) وحسروا بالشعور حلقا عن رؤوسهم ابتلاء عظيما واختبارا كبيرا وامتحانا شديدا وتمحيصا بليغا وقنوتا مبينا،(2) جعله الله سببا لرحمته ووصلة ووسيلة إلى جنته وعلة لمغفرتة وابتلاء للخلق برحمته ولو كان الله تبارك وتعالى ووضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنات وأنهار وسهل وقرار، جم الاشجار، داني الثمار، ملتف النبات، متصل القرى، من برة سمراء وروضة خضراء وأرياف محدقة وعراص مغدقة وزروع ناضرة وطرق عامرة وحدائق كثيرة لكان قد صغر الجزاء على حسب ضعف البلاء ثم لو كانت الاساس المحمول عليها والاحجار المرفوع بها بين زمردة خضراء وياقوتة حمراء ونور وضياء لخفف ذلك مصارعة الشك في الصدور(3) ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب ولنفى معتلج الريب من الناس ولكن الله عزوجل يختبر عبيده

___________________________________
(1) عطفا الرجل جانباه وناحيتا عنقه.
والثنى: العطف اى يقصدوه ويحجوه ويقال: ثنى عطفه نحوه أى توجه إليه. والمثابة: المرجع.
والمنتجع: محل الكلاء وانتجع فلان فلانا: أتاه طالبا معروفه والمعنى صار مرجعا لاتيان منازلهم والمطلوب من اسفارهم.
وفى قوله عليه السلام: " تهوى إليه ثمار الافئدة " استعارة لطيفة ونظر إلى قوله سبحانه حكاية عن خليله عليه السلام: " واجعل أفئدة من الناس تهوى اليهم وارزقهم من الثمرات ".
والقفر من المفازة: ما لاماء فيه ولاكلاء. وفى مقابلة الاتصال بالانقطاع من لطف الايهام ما لايخفى.
وفى قوله: " ومهاوى فجاج عميقة " اشارة إلى رفعته وعلوه ونظر إلى قوله سبحانه: " يأتين من كل فج عميق ". (في). والمفاوز جمع مفازة وهى الفلاة. والمهاوى: المساقط. والفج: الطريق بين الجبلين.
والهز: التحريك و هو كناية عن الشوق نحوه والسفر إليه والرمل محركة: الهرولة. والشعث: انتشار الامر و اغبرار الرأس وتلبد الشعر. (في)
(2) الحسر: الكشف وبه يتعلق قوله: " رؤوسهم " والمصادر الاربعة متقاربة المعانى. و القنوت: الخضوع. (في)
(3) الجم: الكثير. والدنو: القرب. والتفاف النبات: اشتباكها. وفى النهج ملتف البناء أى مشتبك العمارة. والبرة: الواحدة من البر وهو الحنطة أو بالفتح اسم الجمع. والريف بالكسر ارض فيها زرع وخصب وما قارب الماء من ارض العرب. والمحدقة: المحيطة أو هى بفتح الدال بمعنى المرمية بالاحداق أى الابصار كناية عن بهجتها ونضارتها ورواؤها. وعراص جمع عرصة وهى الساحة.
والمغدقة: كثيرة الماء. وفى قوله عليه السلام: " مصارعة الشك " استعارة لطيفة وكذا في قوله: " معتلج الريب " ومعناهما متقاربان. (في) والاعتلاج: الاقتتال والمصارعة: المحاولة وتصارع الرجلان اى حاولا أيهما يصرع صاحبه.
[*]

[201]


بأنواع الشدائد ويتعبدهم بألوان المجاهد ويبتليهم بضروب المكاره إخراجا للتكبر من قلوبهم وإسكانا للتذلل في أنفسهم وليجعل ذلك أبوابا

[فتحا]

إلى فضله وأسبابا ذللا لعفوه وفتنته كما قال: " الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لايفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين "(1).

_____________________________
(1) العنكبوت: 1 و 2.