تنبيه

قد كنا وعدنا ص 83 " باب إطلاق القول بأنه شئ " أن نوضح في آخر هذا المجلد حديث احتجاج الصادق عليه السلام على الزنديق، المروي عن علي بن إبراهيم بإسناده عن هشام بن الحكم وقبل أن نشرع في المقصود نبين مقدمة مفيدة وهي أن الحديث قد أورده الصدوق - قده - في توحيده بزيادات قد ذكرها الكليني - قده - في باب حدوث العالم وإثبات المحدث من باب التوحيد، والظاهر أن ما ورد في البابين حديث واحد كما ذكره الصدوق - قده - إلا أن الكليني - قده - قطعه فأورد في كل من البابين ما يناسبه من الحديث، والقطعة الاولى من الحديث هي خامس الاحاديث من باب حدوث العالم وإثبات المحدث من كتاب التوحيد، فليراجع.

أما توضيح الحديث الشريف فنقول مستعينا بالله تبارك وتعالى: لما أجاب الامام عليه السلام عن سؤال الزنديق عن الدليل على ثبوته ووجوده بقوله عليه السلام: " وجود الافاعيل التي دلت على أن صانعا صنعها... إلخ " سأله السائل عن ماهيته وحقيقته بقوله: " ما هو؟ " أقول لا شك في أن الاذهان البشرية دائمة التجسس والتفحص عما يدركه ويتعلقه من الاشياء فكأنها لا ترى بدا من الوصول إلى حقائق أشياء قد سلم بوجودها وهذه الخاصة العقلانية هي من أهم الاسباب في تكثر المعلومات والمعقولات، وعلى هذه القاعدة الضرورية سأل السائل عن الحقيقة والماهية قياسا منه على سائر الحقائق، فأجابه الامام عليه السلام " هو شئ بخلاف الاشياء "، أقول: قد ورد سلب المعاني المدركة عن الالفاظ المطلقة على الذات الاقدس جل شأنه في أبواب التوحيد والصفات والاسماء غير مرة، فيمكن أن يقال: إنه مع دلالة العقل على ذلك قد تواترت الاخبار والروايات في هذا المقام بحيث لا يمكننا الشك والتوقف لا عقلا ولا نقلا في أن الالفاظ المطلقة عليه تعالى لا يمكن أن يراد بها ما نتعقله من المعاني المتحصلة عن المدركات المأخوذة من النفس المدرك والخارج المدرك، فان جميع ما ندركه ونؤديه بالالفاظ المتعارفة، محفوف بوصمة الحدود والرسوم وجل جناب الحق أن يكون محدودا ومرسوما.

[550]

قوله عليه السلام: " أرجع بقولي شئ إلى إثبات معنى " فكأن سلب جميع المعاني المحمولة على الشئ أوجب توهم كون هذا الشئ ألفاظا وحروفا مجردة عن أي معنى معقول، إذ ما من معنى يمكن أن يطلق عليه الشئ قد صار مسلوبا منه فأي معنى يكون لفظ الشئ مستعملا فيه؟ فلذلك قال عليه السلام: لا أقصد بذلك أنه لفظ محض بل " وإنه شئ بحقيقة الشيئية غير أنه لا جسم ولا صورة ولا يحس ولا يجس ولا يدرك بالحواس الخمس " فانه تعالى موجود بحقيقته غير المدركة لان جميع ما ندركه به بمنزلة مرآة محدود لا تري إلا مرائي محدودة، فليس لنا أن نتجسس ونتفحص عنه كما نتفحص عن حقائق سائر المدركات، والحاصل أن الادراك بأي آلة كانت لا يتعلق بشئ إلا أن يستشرف عليه ويحده بمعاني يعلمها من الاجسام والصور وغيرها من المدركات، فلما لم يكن جل شأنه وعز سلطانه جسما ولا صورة ولا غيرها فلا تدركه الاوهام ولا تنقصه الدهور، ولا يغيره الزمان لوضوح أن النقصان والتغير إنما يعرضان على ما من شأنه الحركة والسكون وإذ لم يكن عز اسمه جسما ولا جسمانيا فلم يكن معروضا للنقصان والتغير ومن هنا ينقطع السؤال عن كيفية كونه تعالى قبل خلق الممكنات منسوبا إليه الزمان، فان الزمان إنما ننتزعه من الحركة المستحيلة بالنسبة إلى فاقد المادة والصورة بتمام معانيهما.

ثم سأل عن معنى إسناد السمع والبصر إليه تعالى، فقال عليه السلام: " هو سميع بصير: سميع بغير جارحة وبصير بغير آلة، بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسه " ولما استلزم السمع والبصر بالجارحة والآلة التركب المتسحيل في شأنه تعالى إن كانت الجارحة والآلة داخلية، والافتقار إلى الغير إن كانت خارجية، فقال عليه السلام: " إنه يسمع بنفسه و يبصر بنفسه " أقول: اعلم أن الصفات المستندة إلى الذات الاقدس على قسمين: أحدهما الصفات الذاتية، وهي التي تشير مع تعددها إلى كمال الذات الواحد الاحد، فهي متعددة بحسب اللفظ والمفهوم، لا الحقيقة الواقعية فنسبة هذا القسم من الصفات إلى الذات نسبة العبارات المختلفة إلى جمال واحد وكمال فارد، وثانيهما الصفات الفعلية وهي التي بنفسها لا تساوق الذات الواحد القديم لانها متجددة و متصرمة، فلا يمكن ان تعرض على الذات غير المتغير، نعم القدرة عليها من الصفات

[551]

الذاتية فإن نفس الخلق والاحياء والاماتة والرزق والتكلم وكذلك نفس السماع والبصر تستلزم متعلقات حادثة مسبوقة بالارادة، وبعبارة أوضح فعلية هذه الصفات بنفسها مسبوقة بمشيئته وإرادته، وأما القدرة عليها جميعا فهي ذاتية، فقوله عليه السلام " يسمع بنفسه ويبصر بنفسه " ليس ناظرا إلى فعلية تلك الصفات بنفسها.

قوله عليه السلام " ليس قولي إنه يسمع بنفسه ويبصر بنفسه أنه شئ والنفس شئ آخر " لما ذكرناه من لزوم التركب المستلزم للافتقار المستحيل في حقه تعالى " ولكن أردت عبارة عن نفسي إذ كنت مسؤولا " ولا يمكن أن يجيب المجيب سائلا إلا بما هو عليه من الشؤون والاطوار، وكذلك إفهاما للسائل إذ كان هو سائلا ولا بد من أن يجاب بما يستأنسه من المعاني والمدركات.

قوله عليه السلام: " فأقول إنه سميع بكله لا أن الكل منه له بعض " يعني عليه السلام: أن المراد بالكل المستفاد عن قوله: " بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسه " ليس ما يتوهم من كونه بمعناه المتعارف المعهود حيث إن الكل بهذا المعنى هو الهيئة المنتزعة عن اجتماع أجزاء والتئام أبعاض لكي تستلزم التركب لا محالة.

قوله عليه السلام: " ولكني أردت إفهامك والتعبير عن نفسي، وليس مرجعي في ذلك إلا إلى أنه السميع البصير، العالم الخبير بلا اختلاف الذات ولا اختلاف المعنى " وهذه إشارة إلى ما دل عليه العقل والنقل من اتحاد الذات والصفات الذاتية والقدرة على الصفات الفعلية، وقد أشرنا إليه آنفا فلا نعيده، ثم كرر السائل السؤال عن الماهية والحقيقة بقوله: " فما هو؟ " ولا نعلم وجها لهذا التكرار إلا غموض المسألة وأن هذا المعنى لا يوافق أي معقول من المعقولات البشرية فأجابه الامام عليه السلام بقوله: " هو الرب والمعبود وهو الله " حيث لم يتصور السائل من هذه الالفاظ حقيقة وماهية واضحة فكأنه قد توهم أن هذا الموجود ليس من قبيل المعاني الواقعية فيكون مجرد لفظ بلا معنى معقول، فلذلك كرر الامام ثانيا الجواب الماضي في الجمل السابقة بأنه: " ليس قولي الله إثبات هذه الحروف ألف ولام وهاء ولا راء ولا باء، ولكن أرجع إلى معنى وشئ خالق الاشياء وصانعها " وفي نسخة الكافي بعد ذلك " ونعت هذه

[552]

الحروف وهو المعنى إلخ " والظاهر أنه اشتباه من النساخ إذ لا معنى صحيح لان يكون المعنى نعتا للحروف بل الصحيح ما في التوحيد وهو: " وقعت عليه هذه الحروف " فيكون مقصوده سلام الله عليه كما سبق في الجمل الماضية أنه تعالى حقيقة استعمل فيه الالفاظ.

قال السائل: " فانا لم نجد موهوما إلا مخلوقا " وهذا السؤال واضح قد مضى تفصيله آنفا، قال أبوعبدالله عليه السلام: " لو كان ذلك كما تقول لكان التوحيد عنا مرتفعا لانا لم نكلف أن نعتقد غير موهوم " الظاهر أن المراد بالتوحيد هنا: أصل الوجود و الثبوت لا ما يقابل التشريك بعد ثبوته، وحاصل الجواب: أنه يمكننا التوجه إلى مثل ذلك الوجود، ونحن أيضا مكلفون على مثل هذا التوجه، ويدل عليه تصديقنا بوجوده أو عدمه أو الشك فيه فان كل هذه التصديقات مستلزمة للتوجه إليه، وإلا فما الذي نثبته أو ننفيه أو نشك فيه؟ نعم هذا التوجه لا يمكن أن يكون من طرق الحواس المحددة لانها لا تؤدي إلا إلى محسوسات محدودة مشخصة، فهي بمنزلة مرآة محدود لا يري إلا مرائي محدودة كما ذكرناه.

وتلخص من جميع ما تقدم من عدم مجئ قاعدة الصفات في حق الواجب جل وعلا وكذلك من عدم إمكان وقوعه معقولا بماهيته وإمكان التوجه إليه لا من طرق الحواس المحددة أنه: " لا بد من إثبات صانع للاشياء خارج من الجهتين المذمومتين إحداهما النفي إذ كان النفي هو الابطال والعدم، والجهة الثانية التشبيه إذ كان التشبيه هو صفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف " فليعلم أن ما ذكره الامام عليه السلام هو إرشاد إلى آخر مراتب التوجه في هذا المقام، فانا لم نعثر من الفلاسفة والحكماء في هذ الباب إلى شئ يقنع به العقول الفعالة فان كل ما ذكروه في هذا المقام يستلزم أسولة لا يجاب عنها جوابا كافيا، فلا بد لنا حيئنذ أن نسترشد بقوله عليه السلام: " فلم يكن بد من إثبات الصانع لوجود المصنوعين والاضطرار منهم إليه أنهم مصنوعون وأن صانعهم غيرهم وليس مثلهم إذ كان مثلهم شبيها بهم في ظاهر التركيب والتأليف وفيما يجري عليهم من حدوثهم بعد أن لم يكونوا " فهذا

[553]

هو من المرتكزات الاولية في الاذهان من أن ما بالغير لا بد وأن ينتهي إلى ما بالذات وأن ما يكون نسبة الوجود والعدم إليه على حد سواء يحتاج في ترجحه إلى مرجح.

ثم قال السائل: " فقد حددته إذ أثبت وجوده ".

الظاهر ان السائل لم يكن يحفظ ما يقوله الامام عليه السلام جوابا لسؤالاته لانه عليه السلام قد صرح واستدل على استحالة تحديده ومن المعلوم أن الحدود والتشخصات إنما تكون من قبل الماهيات لا أن الوجود بمجرده يستلزمها ولذلك أجابه عليه السلام لم أحده ولكني أثبته إذ لم يكن بين النفي والاثبات منزلة يعني عليه السلام حيث لم يمكن لنا النفي ولا التشبيه بسائر المخلوقات فيجب لنا الاذعان بوجوده وثبوته فقط.

قال له السائل: " فله إنية ومائية؟ " قال: " نعم لا يثبت الشئ إلا بإنية ومائية " أقول ليس المقصود بالانية والمائية في المقام ما اصطلحنا عليه في علم المعقول المطلق على جميع الممكنات في قولنا " كل ممكن زوج تركيبي " بل اللازم بقرينة المعاني المذكورة المثبتة لبساطته وعدم معلوليته جل وعلا أن يراد بهما الحقيقة والوجود ولكن لا بمعنى الماهية المنتزعة عن الجنس والفصل المستلزمين للتركب ونسبتهما أي نسبة الانية والمائية في المقام إليه تعالى نظير نسبة الصفات الذاتية إلى الذات في كونهما مشيرين إلى حقيقة واحدة كما ذكر.

قال له السائل " فله كيفية؟ " قال: " لا لان الكيفية جهة الصفة والاحاطة " وكل منهماينافي بساطته وقاهريته المطلقتين وأما من جهة أن التكيف بكيف يستلزم توصيفه وإحاطة الواصفين به من ذلك الوجه وهذا الوجه بقرينة الجمل الآتية أقرب إلى سياق الكلام.

قوله عليه السلام: " ولكن لابد من إثبات أن له كيفية لا يستحقها غيره ولا يشارك فيها ولا يحاط بها ولا يعلمها غيره " وقد بين الامام عليه السلام فيما مضى من الحديث ما يكون وجها ومستندا لما ذكره هنا ومجمل ما ذكره عليه السلام في جميع الموارد أنه إما أن لا نسند عليه تعالى شيئا من الصفات المتعارفة وإما أن نخصها بمعاني لا يشارك فيها

[554]

أي موجود سواه.

قال السائل: " فيعاني الاشياء بنفسه؟ " قال أبوعبدالله عليه السلام: " هو أجل من أن يعاني الاشياء بمباشرة ومعالجة لان ذلك صفة المخلوق الذي لا تجئ الاشياء له إلا بالمباشرة والمعالجة وهو متعال نافذ الارادة والمشيئة فعال لما يشاء " قد سبق الكلام في حقيقة كونه تعالى سميعا وبصيرا بنفسه فان اريد بالمعاينة ما يساوق البصر فالكلام عين الكلام من جهة كون القدرة عليه من الصفات الذاتية ومن جهة كون نفس الصفات من الصفات الفعلية فراجع، وإن كان مقصوده عليه السلام بالمعاينة نفس العلم فعدم احتياجه إلى المعالجة والمباشرة أوضح ولكن الاوفق لسياق الكلام هو الوجه الاول لان اتصافه جل شانه بالصفات الفعلية إنما يكون منتزعا من أفعاله الخارجية المسبوقة لمشيئته وإرداته تعالى بخلاف الصفات الذاتية(1).

___________________________________

(1) هذا ما افاده استاذى المحترم البحاثة المنقب الشيخ محمد تقى الجعفرى التبريزى ادام الله تعالى ظله