السابق

التالي

[20 : 57 ]

علما فلم تدخله اللام كما لا يقال الجهنم و كذلك أيضا لا يجوز تفسيره بما فسره الراوندي أيضا قال العليين جمع علي الأمكنة في

السماء لأنه لو كان كذلك لم يجمع بالنون لأنها تختص بمن يعقل و تصلح أن تكون الوجوه الأولى تفسيرا لقوله تعالى كَلّا إِنَّ

كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. قوله نبت على السحت أي على الحرام يقال سحت بالتسكين و سحت بالضم و أسحت الرجل في تجارته

أي اكتسب السحت

فصل في الاستغفار و التوبة

و ينبغي أن نذكر في هذا الموضوع كلاما مختصرا مما يقوله أصحابنا في التوبة فإن كلام أمير المؤمنين هو الأصل الذي أخذ منه

أصحابنا مقالتهم و الذي يقولونه في التوبة فقد أتى على جوامعه ع في هذا الفصل على اختصاره. قال أصحابنا الكلام في التوبة يقع

من وجوه منها الكلام في ماهية التوبة و الكلام في إسقاطها الذم و العقاب و الكلام في أنه يجب علينا فعلها و الكلام في شرطها أما

ماهية التوبة فهي الندم و العزم لأن التوبة هي الإنابة و الرجوع و ليس يمكن أن يرجع الإنسان عما فعله إلا بالندم عليه و العزم

على ترك معاودته و ما يتوب الإنسان منه إما أن يكون فعلا قبيحا و إما أن يكون إخلالا بواجب فالتوبة من الفعل القبيح هي أن يندم

عليه و يعزم ألا يعود إلى مثله و عزمه على ذلك هو كراهيته لفعله و التوبة من الإخلال بالواجب هي أن يندم على إخلاله بالواجب

[20 : 58 ]

و يعزم على أداء الواجب فيما بعد فأما القول في أن التوبة تسقط العذاب فعندنا أن العقل يقتضي قبح العقاب بعد التوبة و خالف

أكثر المرجئة في ذلك من الإمامية و غيرهم و احتج أصحابنا بقبح عقوبة المسيء إلينا بعد ندمه و اعتذاره و تنصله و العلم بصدقه و

العلم بأنه عازم على ألا يعود. فأما القول في وجوب التوبة على العصاة فلا ريب أن الشرع يوجب ذلك فأما العقل فالقول فيه أنه لا

يخلو المكلف إما أن يعلم أن معصيته كبيرة أو يعلم أنها صغيرة أو يجوز فيها كلا الأمرين فإن علم كونها كبيرة وجب عليه في العقول

التوبة منها لأن التوبة مزيلة لضرر الكبيرة و إزالة المضار واجبة في العقول و إن جوز كونها كبيرة و جوز كونها صغيرة لزمه أيضا في

العقل التوبة منها لأنه يأمن بالتوبة من مضرة مخوفة و فعل ما يؤمن من المضار المخوفة واجب و إن علم أن معصيته صغيرة و ذلك

كمعاصي الأنبياء و كمن عصى ثم علم بإخبار نبي أن معصيته صغيرة محبطة فقد قال الشيخ أبو علي إن التوبة منها واجبة في العقول

لأنه إن لم يتب كان مصرا و الإصرار قبيح. و قال الشيخ أبو هاشم لا تجب التوبة منها في العقل بالشرع لأن فيها مصلحة يعلمها الله

تعالى قال إنه يجوز أن يخلو الإنسان من التوبة عن الذنب و من الإصرار عليه لأن الإصرار عليه هو العزم على معاودة مثله و التوبة

منه أن يكره معاودة مثله مع الندم على ما مضى و يجوز أن يخلو الإنسان من العزم على الشيء و من كراهته. و مال شيخنا أبو

الحسين رحمه الله إلى وجوب التوبة هاهنا عقلا لدليل غير دليل أبي علي رحمه الله.

[20 : 59 ]

فأما القول في صفات التوبة و شروطها فإنها على ضربين أحدهما يعم كل توبة و الآخر يختلف بحسب اختلاف ما يتاب منه فالأول هو

الندم و العزم على ترك المعاودة. و أما الضرب الثاني فهو أن ما يتوب منه المكلف إما أن يكون فعلا أو إخلالا بواجب فإن كان فعلا

قبيحا وجب عند الشيخ أبي هاشم رحمه الله أن يندم عليه لأنه فعل قبيح و أن يكره معاودة مثله لأنه قبيح و إن كان إخلالا بواجب

وجب عليه عنده أن يندم عليه لأنه إخلال بواجب و أن يعزم على فعل مثل ما أخل به لأنه واجب فإن ندم خوف النار فقط أو شوقا إلى

الجنة فقط أو لأن القبيح الذي فعله يضر ببدنه كانت توبته صحيحة و إن ندم على القبيح لقبحه و لخوف النار و كان لو انفرد قبحه

ندم عليه فإن توبته تكون صحيحة و إن كان لو انفرد القبح لم يندم عليه فإنه لا تكون توبته صحيحة عنده و الخلاف فيه مع الشيخ

أبي علي و غيره من الشيوخ رحمهم الله و إنما اختار أبو هاشم هذا القول لأن التوبة تجري مجرى الاعتذار بيننا و معلوم أن الواحد

منا لو أساء إلى غيره ثم ندم على إساءته إليه و اعتذر منها خوفا من معاقبته له عليها أو من معاقبة السلطان حتى لو أمن العقوبة لما

اعتذر و لا ندم بل كان يواصل الإساءة فإنه لا يسقط ذمه فكذلك التوبة خوف النار لا لقبح الفعل. و قد نقل قاضي القضاة هذا المذهب

عن أمير المؤمنين ع و الحسن البصري و علي بن موسى الرضا و القاسم بن إبراهيم الزينبي. قال أصحابنا و للتوبة شروط أخر تختلف

بحسب اختلاف المعاصي و ذلك أن

[20 : 60 ]

ما يتوب منه المكلف إما أن يكون فيه لآدمي حق أو لا حق فيه لآدمي فما ليس للآدمي فيه حق فنحو ترك الصلاة فإنه لا يجب فيه إلا

الندم و العزم على ما قدمنا و ما لآدمي فيه حق على ضربين أحدهما أن يكون جناية عليه في نفسه أو أعضائه أو ماله أو دينه و الآخر ألا

يكون جناية عليه في شيء من ذلك فما كان جناية عليه في نفسه أو أعضائه أو ماله فالواجب فيه الندم و العزم و أن يشرع في تسليم

بدل ما أتلف فإن لم يتمكن من ذلك لفقر أو غيره عزم على ذلك إذا تمكن منه فإن مات قبل التمكن لم يكن من أهل العقاب و إن جنى

عليه في دينه بأن يكون قد أضله بشبهة استزله بها فالواجب عليه مع الندم العزم و الاجتهاد في حل شبهته من نفسه فإن لم يتمكن

من الاجتماع به عزم على ذلك إذا تمكن فإن مات قبل التمكن أو تمكن منه و اجتهد في حل الشبهة فلم تنحل من نفس ذلك الضال فلا

عقاب عليه لأنه قد استفرغ جهده فإن كانت المعصية غير جناية نحو أن يغتابه أو يسمع غيبته فإنه يلزمه الندم و العزم و لا يلزمه أن

يستحله أو يعتذر إليه لأنه ليس يلزمه أرش لمن اغتابه فيستحله ليسقط عنه الأرش و لا غمه فيزيل غمه بالاعتذار و في ذكر الغيبة له

ليستحله فيزيل غمه منها إدخال غم عليه فلم يجز ذلك فإن كان قد أسمع المغتاب غيبته فذلك جناية عليه لأنه قد أوصل إليه مضرة

الغم فيلزمه إزالة ذلك بالاعتذار

[20 : 61 ]

426وَ قَالَ ع الْحِلْمُ عَشِيرَةٌ

كان يقال الحلم جنود مجندة لا أرزاق لها. و

قال ع وجدت الاحتمال أنصر لي من الرجال

و قال الشاعر

و للكف عن شتم اللئيم تكرما أضر له من شتمه حين يشتم

و كان يقال من غرس شجرة الحلم اجتنى ثمرة السلم. و قد تقدم من القول في الحلم ما فيه كفاية

[20 : 62 ]

427وَ قَالَ ع مِسْكِينٌ ابْنُ آدَمَ مَكْتُومُ الْأَجَلِ مَكْنُونُ الْعِلَلِ مَحْفُوظُ الْعَمَلِ تُؤْلِمُهُ الْبَقَّةُ وَ تَقْتُلُهُ الشَّرْقَةُ وَ تُنْتِنُهُ الْعَرْقَةُ

قد تقدم هاهنا خبر المبتدإ عليه و التقدير ابن آدم مسكين ثم بين مسكنته من أين هي فقال إنها من ستة أوجه أجله مكتوم لا يدري متى

يخترم و علله باطنة لا يدري بها حتى تهيج عليه و عمله محفوظ ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلّا أَحْصاها و قرص

البقة يؤلمه و الشرقة بالماء تقتله و إذا عرق أنتنته العرقة الواحدة و غيرت ريحه فمن هو على هذه الصفات فهو مسكين لا محالة لا

ينبغي أن يأمن و لا أن يفخر

[20 : 63 ]

428وَ يُرْوَى أَنَّهُ ع كَانَ جَالِساً فِي أَصْحَابِهِ إِذْ مَرَّتْ بِهِمُ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ فَرَمَقَهَا الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقَالَ ع إِنَّ أَبْصَارَ هَذِهِ الْفُحُولِ طَوَامِحُ وَ إِنَّ

ذَلِكَ سَبَبُ هِبَابِهَا فَإِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى امْرَأَة تُعْجِبُهُ فَلْيُلَامِسْ أَهْلَهُ فَإِنَّمَا هِيَ امْرَأَةٌ كَامْرَأَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ قَاتَلَهُ اللَّهُ كَافِراً مَا

أَفْقَهَهُ قَالَ فَوَثَبَ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ فَقَالَ ع رُوَيْداً إِنَّمَا هُوَ سَبٌّ بِسَبّ أَوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْب

تقول هب الفحل و التيس يهب بالكسر هبيبا أو هبابا إذا هاج للضراب أو للفساد و الهباب أيضا صوت و التيس إذا هب فهو مهباب و

قد هبهبته أي دعوته لينزو فتهبهب أي تزعزع. و سألني صديقنا علي بن البطريق عن هذه القصة فقال ما باله عفا عن الخارجي و قد طعن

فيه بالكفر و أنكر على الأشعث قوله هذه عليك لا لك فقال

[20 : 64 ]

ما يدريك عليك لعنة الله ما علي مما لي حائك ابن حائك منافق ابن كافر و ما واجهه به الخارجي أفظع مما واجهه الأشعث فقلت لا

أدري. قال لأن كل صاحب فضيلة يعظم عليه أن يطعن في فضيلته تلك و يدعى عليه أنه فيها ناقص و كان علي ع بيت العلم فلما طعن

فيه الأشعث طعن بأنك لا تدري ما عليك مما لك فشق ذلك عليه و امتعض منه و جبهه و لعنه و أما الخارجي فلم يطعن في علمه بل

أثبته له و اعترف به و تعجب منه فقال قاتله الله كافرا ما أفقهه فاغتفر له لفظة كافر بما اعترف له به من علو طبقته في الفقه و لم

يخشن عليه خشونته على الأشعث و كان قد مرن على سماع قول الخوارج أنت كافر و قد كفرت يعنون التحكيم فلم يحفل بتلك

اللفظة و نهى أصحابه عن قتله محافظة و رعاية له على ما مدحه به

[20 : 65 ]

429وَ قَالَ ع كَفَاكَ مِنْ عَقْلِكَ مَا أَوْضَحَ لَكَ سُبُلَ غَيِّكَ مِنْ رُشْدِكَ

يقول ع كفى الإنسان من عقله ما يفرق به بين الغي و الرشاد و بين الحق من العقائد و الباطل فإنه بذلك يتم تكليفه و لا حاجة في

التكليف و الفرق بين الغي و الرشد إلى زيادة على ذلك نحو التجارب التي تفيده الحزم التام و معرفة أحوال الدنيا و أهلها و أيضا لا

حاجة له إلى أن يكون عنده من الفطنة الثاقبة و الذكاء التام ما يستنبط به دقائق الكلام في الحكمة و الهندسة و العلوم الغامضة فإن

ذلك كله فضل مستغنى عنه فإن حصل للإنسان فقد كمل و إن لم يحصل للإنسان فقد كفاه في تكليفه و نجاته من معاطب العصيان ما

يفرق به بين الغي و الرشاد و هو حصول العلوم البديهية في القلب و ما جرى مجراها من علوم العادات و ما يذكره أصحابنا في باب

التكليف

[20 : 66 ]

430وَ قَالَ ع افْعَلُوا الْخَيْرَ وَ لَا تَحْقِرُوا مِنْهُ شَيْئاً فَإِنَّ صَغِيرَهُ كَبِيرٌ وَ قَلِيلَهُ كَثِيرٌ وَ لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنَّ أَحَداً أَوْلَى بِفِعْلِ الْخَيْرِ مِنِّي فَيَكُونَ

وَ اللَّهِ كَذَلِكَ

القليل من الخير خير من عدم الخير أصلا. قال ع لا يقولن أحدكم إن فلانا أولى بفعل الخير مني فيكون و الله كذلك مثاله قوم

موسرون في محلة واحدة قصد واحدا منهم سائل فرده و قال له اذهب إلى فلان فهو أولى بأن يتصدق عليك مني فإن هذه الكلمة تقال

دائما نهى ع عن قولها و قال فيكون و الله كذلك أي إن الله تعالى يوفق ذلك الشخص الذي أحيل ذلك السائل عليه و ييسر الصدقة

عليه و يقوي دواعيه إليها فيفعلها فتكون كلمة ذلك الإنسان الأول قد صادفت قدرا و قضاء و وقع الأمر بموجبها

[20 : 67 ]

431إِنَّ لِلْخَيْرِ وَ لِلشَّرِّ أَهْلًا فَمَهْمَا تَرَكْتُمُوهُ مِنْهُمَا كَفَاكُمُوهُ أَهْلُهُ

يقول ع إن عن لك باب من أبواب الخير و تركته فسوف يكفيكه بعض الناس ممن جعله الله تعالى أهلا للخير و إسداء المعروف إلى

الناس و إن عن لك باب من أبواب الشر فتركته فسوف يكفيكه بعض الناس ممن جعلتهم أنفسهم و سوء اختيارهم أهلا للشر و أذى

الناس فاختر لنفسك أيما أحب إليك أن تحظى بالمحمدة و الثواب و تفعل ما إن تركته فعله غيرك و حظي بحمده و ثوابه أو أن تتركه

و أيما أحب إليك أن تشقى بالذم عاجلا و العقاب آجلا و تفعل ما إن تركته كفاكه غيرك و بلغت غرضك منه على يد غيرك أو أن تفعله و

لا ريب أن العاقل يختار فعل الخير و ترك الشر إذا أفكر حق الفكر فيما قد أوضحناه

[20 : 68 ]

432وَ قَالَ ع مَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اللَّهُ عَلَانِيَتَهُ وَ مَنْ عَمِلَ لِدِينِهِ كَفَاهُ اللَّهُ أَمْرَ دُنْيَاهُ وَ مَنْ أَحْسَنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اللَّهِ أَحْسَنَ اللَّهُ مَا

بَيْنَهُ وَ بَيْنَ النَّاسِ

لا ريب أن الأعمال الظاهرة تبع للأعمال الباطنة فمن صلح باطنه صلح ظاهره و بالعكس و ذلك لأن القلب أمير مسلط على الجوارح و

الرعية تتبع أميرها و لا ريب أن من عمل لدينه كفاه الله أمر دنياه و قد شهد بذلك الكتاب العزيز في قوله سبحانه وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ

يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ. و لهذا أيضا علة ظاهرة و ذاك أن من عمل لله سبحانه و للدين فإنه لا يخفى حاله في

أكثر الأمر عن الناس و لا شبهة أن الناس إذا حسنت عقيدتهم في إنسان و علموا متانة دينه بوبوا له إلى الدنيا أبوابا لا يحتاج أن

يتكلفها و لا يتعب فيها فيأتيه رزقه من غير كلفة و لا كد و لا ريب أن من أحسن فيما بينه و بين الله أحسن الله ما بينه و بين الناس و

ذلك لأن القلوب بالضرورة تميل إليه و تحبه و ذلك لأنه إذا كان محسنا بينه و بين الناس عف عن أموال الناس و دمائهم و أعراضهم و

ترك الدخول فيما لا يعنيه و لا شبهة أن من كان بهذه الصفة فإنه يحسن ما بينه و بين الناس

[20 : 69 ]

433وَ قَالَ ع الْحِلْمُ غِطَاءٌ سَاتِرٌ وَ الْعَقْلُ حُسَامٌ قَاطِعٌ فَاسْتُرْ خَلَلَ خُلُقِكَ بِحِلْمِكَ وَ قَاتِلْ هَوَاكَ بِعَقْلِكَ

لما جعل الله الحلم غطاء و العقل حساما أمره أن يستر خلل خلقه بذلك الغطاء و أن يقاتل هواه بذلك الحسام و قد سبق القول في

الحلم و العقل

[20 : 70 ]

434وَ قَالَ ع إِنَّ لِلَّهِ عِبَاداً يَخْتَصُّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ فَيُقِرُّهَا فِي أَيْدِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ ثُمَّ حَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ

قد ذكرنا هذا المعنى فيما تقدم و قد قالت الشعراء فيه فأكثروا و قريب من ذلك قول الشاعر

و بالناس عاش الناس قدما و لم يزل من الناس مرغوب إليه و راغب

و أشد تصريحا بالمعنى قول الشاعر

لم يعطك الله ما أعطاك من نعم إلا لتوسع من يرجوك إحسانا

فإن منعت فأخلق أن تصادفها تطير عنك زرافات و وحدانا

[20 : 71 ]

435وَ قَالَ ع لَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَثِقَ بِخَصْلَتَيْنِ الْعَافِيَةِ وَ الْغِنَى بَيْنَا تَرَاهُ مُعَافًى إِذْ سَقِمَ وَ بَيْنَا تَرَاهُ غَنِيّاً إِذِ افْتَقَرَ

قد تقدم القول في هذا المعنى. و قال الشاعر

و بينما المرء في الأحياء مغتبط إذ صار في اللحد تسفيه الأعاصير

و قال آخر

لا يغرنك عشاء ساكن قد يوافي بالمنيات السحر

و قال عبيد الله بن طاهر

و إذا ما أعارك الدهر شيئا فهو لا بد آخذ ما أعارا

آخر

يغر الفتى مر الليالي سليمة و هن به عما قليل عواثر

و قال آخر

و رب غني عظيم الثراء أمسى مقلا عديما فقيرا

و كم بات من مترف في القصور فعوض في الصبح عنها القبورا

[20 : 72 ]

436وَ قَالَ ع مَنْ شَكَا الْحَاجَةَ إِلَى مُؤْمِن فَكَأَنَّمَا شَكَاهَا إِلَى اللَّهِ وَ مَنْ شَكَاهَا إِلَى كَافِر فَكَأَنَّمَا شَكَا اللَّهَ

قد تقدم القول في شكوى الحال و كراهيتها و كلام أمير المؤمنين ع يدل على أنه لا يكره شكوى الحال إلى المؤمن و يكرهها إلى

غير المؤمن و هذا مذهب ديني غير المذهب العرفي. و أكثر مذاهبه و مقاصده ع في كلامه ينحو فيها نحو الدين و الورع و الإسلام و

كأنه يجعل الشكوى إلى المؤمن كالشكوى إلى الخالق سبحانه لأنه لا يشكو إلى المؤمن إلا و قد خلت شكواه من التسخط و

التأفف و لا يشكو إلى الكافر إلا و قد شاب شكواه بالاستزادة و التضجر فافترقت الحال في الموضعين. فأما المذهب المشهور في

العرف و العادة فاستهجان الشكوى على الإطلاق لأنها دليل على ضعف النفس و خذلانها و قلة الصبر على حوادث الدهر و ذلك عندهم

غير محمود

[20 : 73 ]

437وَ قَالَ ع فِي بَعْضِ الْأَعْيَادِ إِنَّمَا هُوَ عِيدٌ لِمَنْ قَبِلَ اللَّهُ صِيَامَهُ وَ شَكَرَ قِيَامَهُ وَ كُلُّ يَوْم لَا نَعْصِي اللَّهَ فِيهِ فَهُوَ يَوْمُ عِيد

المعنى ظاهر و قد نقله بعض المحدثين إلى الغزل فقال

قالوا أتى العيد قلت أهلا إن جاء بالوصل فهو عيد

من ظفرت بالمنى يداه فكل أيامه سعود

و رأيت بعض الصوفية و قد سمع هذين البيتين من مغن حاذق فطرب و صفق و أخذهما لمعنى عنده. و قد قال بعض المحدثين في هذا

المعنى أيضا

قالوا أتى العيد و الأيام مشرقة و أنت تبكي و كل الناس مسرور

فقلت إن واصل الأحباب كان لنا عيدا و إلا فهذا اليوم عاشور

[20 : 74 ]

438وَ قَالَ ع إِنَّ أَعْظَمَ الْحَسَرَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَسْرَةُ رَجُل كَسَبَ مَالًا فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ فَوَرَّثَهُ رَجُلًا فَأَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَدَخَلَ

بِهِ الْجَنَّةَ وَ دَخَلَ الْأَوَّلُ بِهِ النَّارَ

كان يقال لعمر بن عبد العزيز بن مروان السعيد ابن الشقي و ذلك أن عبد العزيز بن مروان ملك ضياعا كثيرة بمصر و الشام و العراق و

المدينة من غير طاعة الله بل بسلطان أخيه عبد الملك و بولاية عبد العزيز نفسه مصر و غيرها ثم تركها لابنه عمر فكان ينفقها في

طاعة الله سبحانه و في وجوه البر و القربات إلى أن أفضت الخلافة إليه فلما أفضت إليه أخرج سجلات عبد الملك بها لعبد العزيز

فمزقها بمحضر من الناس و قال هذه كتبت من غير أصل شرعي و قد أعدتها إلى بيت المال

[20 : 75 ]

439وَ قَالَ ع إِنَّ أَخْسَرَ النَّاسِ صَفْقَةً وَ أَخْيَبَهُمْ سَعْياً رَجُلٌ أَخْلَقَ بَدَنَهُ فِي طَلَبِ آمَالِهِ وَ لَمْ تُسَاعِدْهُ الْمَقَادِيرُ عَلَى إِرَادَتِهِ فَخَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا

بِحَسْرَتِهِ وَ قَدِمَ عَلَى الآْخِرَةِ بِتَبِعَتِهِ

هذه صورة أكثر الناس و ذلك لأن أكثرهم يكد بدنه و نفسه في بلوغ الآمال الدنيوية و القليل منهم من تساعد المقادير على إرادته و

إن ساعدته على شيء منها بقي في نفسه ما لا يبلغه كما قيل

نروح و نغدو لحاجاتنا و حاجة من عاش لا تنقضي

تموت مع المرء حاجاته و تبقى له حاجة ما بقي

فأكثرهم إذن يخرج من الدنيا بحسرته و يقدم على الآخرة بتبعته لأن تلك الآمال التي كانت الحركة و السعي فيها ليست متعلقة بأمور

الدين و الآخرة لا جرم أنها تبعات و عقوبات و نسأل الله عفوه

[20 : 76 ]

440وَ قَالَ ع الرِّزْقُ رِزْقَانِ طَالِبٌ وَ مَطْلُوبٌ فَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا طَلَبَهُ الْمَوْتُ حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهَا وَ مَنْ طَلَبَ الآْخِرَةَ طَلَبَتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى

يَسْتَوْفِيَ مِنْهَا رِزْقَهُ

هذا تحريض على طلب الآخرة و وعد لمن طلبها بأنه سيكفي طلب الدنيا و إن الدنيا ستطلبه حتى يستوفي رزقه منها. و قد قيل مثل

الدنيا مثل ظلك كلما طلبته بعد عنك فإن أدبرت عنه تبعك

[20 : 77 ]

441وَ قَالَ ع إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ نَظَرُوا إِلَى بَاطِنِ الدُّنْيَا إِذَا نَظَرَ النَّاسُ إِلَى ظَاهِرِهَا وَ اشْتَغَلُوا بِ آجِلِهَا إِذَا اشْتَغَلَ النَّاسُ بِعَاجِلِهَا

فَأَمَاتُوا مِنْهَا مَا خَشُوا أَنْ يُمِيتَهُمْ وَ تَرَكُوا مِنْهَا مَا عَلِمُوا أَنَّهُ سَيَتْرُكُهُمْ وَ رَأَوُا اسْتِكْثَارَ غَيْرِهِمْ مِنْهَا اسْتِقْلَالًا وَ دَرْكَهُمْ لَهَا فَوَاتاً أَعْدَاءٌ لِمَا

سَالَمَ النَّاسُ وَ سَلْمٌ لِمَنْ عَادَى النَّاسُ بِهِمْ عُلِمَ الْكِتَابُ وَ بِهِ عُلِمُوا وَ بِهِمْ قَامَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَ بِهِ قَامُوا لَا يَرَوْنَ مَرْجُوّاً فَوْقَ مَا يَرْجُونَ

وَ لَا مَخُوفاً فَوْقَ مَا يَخَافُونَ

هذا يصلح أن تجعله الإمامية شرح حال الأئمة المعصومين على مذاهبهم لقوله فوق ما يرجون بهم علم الكتاب و به علموا و أما نحن

فنجعله شرح حال العلماء العارفين و هم أولياء الله الذين ذكرهم ع لما نظر الناس إلى ظاهر الدنيا و زخرفها من المناكح و الملابس

و الشهوات الحسية نظروا هم إلى باطن الدنيا فاشتغلوا بالعلوم و المعارف و العبادة و الزهد في الملاذ الجسمانية فأماتوا من

شهواتهم و قواهم المذمومة كقوة الغضب و قوة الحسد ما خافوا أن يميتهم و تركوا من الدنيا اقتناء الأموال لعلمهم أنها ستتركهم و

أنه لا يمكن دوام الصحبة معها فكان استكثار الناس من تلك الصفات استقلالا عندهم و بلوغ الناس لها فوتا أيضا عندهم فهم خصم

لما سالمه الناس

[20 : 78 ]

من الشهوات و سلم لما عاداه الناس من العلوم و العبادات و بهم علم الكتاب لأنه لولاهم لما عرف تأويل الآيات المتشابهات و

لأخذها الناس على ظواهرها فضلوا و بالكتاب علموا لأن الكتاب دل عليهم و نبه الناس على مواضعهم نحو قوله إِنَّما يَخْشَى اللّهَ مِنْ

عِبادِهِ الْعُلَماءُ. و قوله هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. و قوله وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً. و نحو

ذلك من الآيات التي تنادي عليهم و تخطب بفضلهم و بهم قام الكتاب لأنهم قرروا البراهين على صدقه و صحة وروده من الله تعالى

على لسان جبريل ع و لولاهم لم يقم على ذلك دلالة للعوام و بالكتاب قاموا أي باتباع أوامر الكتاب و آدابه قاموا لأنه لو لا تأدبهم

ب آداب القرآن و امتثالهم أوامره لما أغنى عنهم علمهم شيئا بل كان وباله عليهم ثم قال إنهم لا يرون مرجوا فوق ما يرجون و لا

مخوفا فوق ما يخافون و كيف لا يكونون كذلك و مرجوهم مجاورة الله تعالى في حظائر قدسه و هل فوق هذا مرجو لراج و مخوفهم

سخط الله عليهم و إبعادهم عن جنابه و هل فوق هذا مخوف لخائف

[20 : 79 ]

442وَ قَالَ ع اذْكُرُوا انْقِطَاعَ اللَّذَّاتِ وَ بَقَاءَ التَّبِعَاتِ

قد تقدم القول في نحو هذا مرارا و قال الشاعر

تفنى اللذاذة ممن نال بغيته من الحرام و يبقى الإثم و العار

تبقى عواقب سوء في مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار

و راود رجل امرأة عن نفسها فقالت له إن امرأ يبيع جنة عرضها السموات و الأرض بمقدار إصبعين لجاهل بالمساحة فاستحيا و رجع

[20 : 80 ]

443وَ قَالَ ع اخْبُرْ تَقْلِهِ

قال الرضي رحمه الله تعالى و من الناس من يروي هذا لرسول الله ص و مما يقوي أنه من كلام أمير المؤمنين ما حكاه ثعلب قال حدثنا

ابن الأعرابي قال قال المأمون لو لا أن عليا ع قال اخبر تقله لقلت أنا اقله تخبر

المعنى اختبر الناس و جربهم تبغضهم فإن التجربة تكشف لك مساويهم و سوء أخلاقهم فضرب مثلا لمن يظن به الخير و ليس هناك

فأما قول المأمون لو لا أن عليا قاله لقلت اقله تخبر فليس المراد حقيقة القلى و هو البغض بل المراد الهجر و القطيعة يقول قاطع

أخاك مجربا له هل يبقى على عهدك أم ينقضه و يحوله عنك. و من كلام عتبة بن أبي سفيان طيروا الدم في وجوه الشباب فإن حلموا

و أحسنوا الجواب فهم هم و إلا فلا تطمعوا فيهم يقول أغضبوهم لأن الغضبان يحمر وجهه فإن ثبتوا لذلك الكلام المغضب و حلموا

و أجابوا جواب الحليم العاقل فهم ممن يعقد عليه الخنصر و يرجى فلاحه و إن سفهوا و شتموا و لم يثبتوا لذلك الكلام فلا رجاء

لفلاحهم و من المعنى الأول قول أبي العلاء

[20 : 81 ]

جربت دهري و أهليه فما تركت لي التجارب في ود امرئ غرضا

و قال آخر

و كنت أرى أن التجارب عدة فخانت ثقات الناس حتى التجارب

و قال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب

رأيت فضيلا كان شيئا ملففا فأبرزه التمحيص حتى بدا ليا

آخر

عتبت على سلم فلما فقدته و جربت أقواما رجعت إلى سلم

مثله

ذممتك أولا حتى إذا ما بلوت سواك عاد الذم حمدا

و لم أحمدك من خير و لكن وجدت سواك شرا منك جدا

فعدت إليك مضطرا ذليلا لأني لم أجد من ذاك بدا

كمجهود تحامى أكل ميت فلما اضطر عاد إليه شدا

الذي يتعلق به غرضنا من الأبيات هو البيت الأول و ذكرنا سائرها لحسنها

[20 : 82 ]

444وَ قَالَ ع مَا كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ لِيَفْتَحَ عَلَى عَبْد بَابَ الشُّكْرِ وَ يُغْلِقَ عَنْهُ بَابَ الزِّيَادَةِ وَ لَا لِيَفْتَحَ عَلَى عَبْد بَابَ الدُّعَاءِ وَ يُغْلِقَ عَنْهُ بَابَ

الْإِجَابَةِ وَ لَا لِيَفْتَحَ عَلَيْهِ بَابَ التَّوْبَةِ وَ يُغْلِقَ عَنْهُ بَابَ الْمَغْفِرَةِ

قد تقدم القول في الشكر و اقتضائه الزيادة و اقتضاء الدعاء الإجابة و التوبة المغفرة على وجه الاستقصاء في الجميع

[20 : 83 ]

445وَ قَالَ ع أَوْلَى النَّاسِ بِالْكَرَمِ مَنْ عَرَّقَتْ فِيهِ الْكِرَامُ

أعرقت و عرقت في هذا الموضع بمعنى أي ضربت عروقه في الكرم أي له سلف و آباء كرام و قال المبرد أنشدني أبو محلم السعدي

إنا سألنا قومنا فخيارهم من كان أفضلهم أبوه الأفضل

أعطى الذي أعطى أبوه قبله و تبخلت أبناء من يتبخل

قال و أنشدني أيضا في المعنى

لطلحة بن خثيم حين تسأله أندى و أكرم من فند بن هطال

و بيت طلحة في عز و مكرمة و بيت فند إلى ربق و أحمال

أ لا فتى من بني ذبيان يحملني و ليس يحملني إلا ابن حمال

فقلت طلحة أولى من عمدت له و جئت أمشي إليه مشي مختال

مستيقنا أن حبلي سوف يعلقه في رأس ذيالة أو رأس ذيال

[20 : 84 ]

و قال آخر

عند الملوك مضرة و منافع و أرى البرامك لا تضر و تنفع

إن العروق إذا استسر بها الثرى أثرى النبات بها و طاب المزرع

و إذا جهلت من امرئ أعراقه و قديمه فانظر إلى ما يصنع

و قال آخر

إن السري إذا سرى فبنفسه و ابن السري إذا سرى أسراهما

و قال البحتري

و أرى النجابة لا يكون تمامها لنجيب قوم ليس بابن نجيب

[20 : 85 ]

446وَ سُئِلَ ع أَيُّمَا أَفْضَلُ الْعَدْلُ أَوِ الْجُودُ فَقَالَ الْعَدْلُ يَضَعُ الْأُمُورَ مَوَاضِعَهَا وَ الْجُودُ يُخْرِجُهَا مِنْ جِهَتِهَا وَ الْعَدْلُ سَائِسٌ عَامٌّ وَ الْجُودُ

عَارِضٌ خَاصٌّ فَالْعَدْلُ أَشْرَفُهُمَا وَ أَفْضَلُهُمَا

هذا كلام شريف جليل القدر فضل ع العدل بأمرين أحدهما أن العدل وضع الأمور مواضعها و هكذا العدالة في الاصطلاح الحكمي

لأنها المرتبة المتوسطة بين طرفي الإفراط و التفريط و الجود يخرج الأمر من موضعه و المراد بالجود هاهنا هو الجود العرفي و هو

بذل المقتنيات للغير لا الجود الحقيقي لأن الجود الحقيقي ليس يخرج الأمر من جهته نحو جود البارئ تعالى. و الوجه الثاني أن

العدل سائس عام في جميع الأمور الدينية و الدنيوية و به نظام العالم و قوام الوجود و أما الجود فأمر عارض خاص ليس عموم نفعه

كعموم نفع العدل

[20 : 86 ]

447وَ قَالَ ع النَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا

هذه من ألفاظه الشريفة التي لا نظير لها و قد تقدم ذكرها و ذكر ما يناسبها و كان يقال من جهل شيئا عاداه. و قال الشاعر

جهلت أمرا فأبديت النكير له و الجاهلون لأهل العلم أعداء

و قيل لأفلاطون لم يبغض الجاهل العالم و لا يبغض العالم الجاهل فقال لأن الجاهل يستشعر النقص في نفسه و يظن أن العالم

يحتقره و يزدريه فيبغضه و العالم لا نقص عنده و لا يظن أن الجاهل يحتقره فليس عنده سبب لبغض الجاهل

[20 : 87 ]

448وَ قَالَ ع الزُّهْدُ كُلُّهُ بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَ مَنْ لَمْ يَأْسَ

عَلَى الْمَاضِي وَ لَمْ يَفْرَحْ بِالآْتِي فَقَدْ أَخَذَ الزُّهْدَ بِطَرَفَيْهِ

قد تقدم القول في هذين المعنيين بما فيه كفاية

[20 : 88 ]

449وَ قَالَ ع الْوِلَايَاتُ مَضَامِيرُ الرِّجَالِ

أي تعرف الرجال بها كما تعرف الخيل بالمضمار و هو الموضع أو المدة التي تضمر فيها الخيل فمن الولاة من يظهر منه أخلاق حميدة

و منهم من يظهر منه أخلاق ذميمة و قال الشاعر

سكرات خمس إذا مني المرء بها صار عرضة للزمان

سكرة المال و الحداثة و العشق و سكر الشراب و السلطان

و قال آخر

يا ابن وهب و المرء في دولة السلطان أعمى ما دام يدعى أميرا

فإذا زالت الولاية عنه و استوى بالرجال عاد بصيرا

و قال البحتري

و تاه سعيد أن أعير رئاسة و قلد أمرا كان دون رجاله

و ضاق على حقي بعقب اتساعه فأوسعته عذرا لضيق احتماله

فأدبر عني عند إقبال حظه و غير حالي عنده حسن حاله

فليت أبا عثمان أمسك تيهه كإمساكه عند الحقوق بماله

[20 : 89 ]

450وَ قَالَ ع مَا أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ

هذه الكلمة قد سبقت و تكلمنا عليها و ما أحسن قول المعري

ما قضى الحاجات إلا شمل نومه فوق فراش من نمال

و قال الرضي رحمه الله

عليها أخامس مثل الصقور طوال الرجاء جسام الأرب

و كل فتى حظ أجفانه من النوم مضمضة يستلب

فبينا يقال كرى جفنه بقطع من الليل إذ قيل هب

[20 : 90 ]

451وَ قَالَ ع لَيْسَ بَلَدٌ بِأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَد خَيْرُ الْبِلَادِ مَا حَمَلَكَ

هذا المعنى قد قيل كثيرا و من ذلك قول الشاعر

لا يصدفنك عن أمر تحاوله فراق أهل و أحباب و جيران

تلقى بكل ديار ما حللت بها أهلا بأهل و أوطانا بأوطان

و قال شيخي أبو جعفر يحيى بن أبي زيد نقيب البصرة

أنسيتني بلدي و أرض عشيرتي و نزلت من نعماك أكرم منزل

و أخذت فيك مدائحي فكأنها في آل شماس مدائح جرول

أبو عبادة البحتري

في نعمة أوطأتها و أقمت في أكنافها فكأنني في منبج

و منبج هي مدينة البحتري أبو تمام

كل شعب كنتم به آل وهب فهو شعبي و شعب كل أديب

[20 : 91 ]

إن قلبي لكم لكالكبد الحرى و قلبي لغيركم كالقلوب

و قد ذهب كثير من الناس إلى غير هذا المذهب فجعلوا بعض البلاد أحق بالإنسان من بعض و هو الوطن الأول و مسقط الرأس قال

الشاعر

أحب بلاد الله ما بين منبج إلي و سلمى أن يصوب سحابها

بلاد بها نيطت علي تمائمي و أول أرض مس جلدي ترابها

و كان يقال ميلك إلى مولدك من كرم محتدك. و قال ابن عباس لو قنع الناس بأرزاقهم قناعتهم بأوطانهم لما اشتكى أحد الرزق. و كان

يقال كما أن لحاضنتك حق لبنها فلأرضك حرمة وطنها. و كانت العرب تقول حماك أحمى لك و أهلك أحفى بك. و قال الشاعر

و كنا ألفناها و لم تك مألفا و قد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن

كما تؤلف الأرض التي لم يطب بها هواء و لا ماء و لكنها وطن

أعرابي رملة حضنتني أحشاؤها و أرضعتني أحساؤها. كانت العرب إذا سافرت حملت معها من تربة أرضها ما تستنشق ريحه و تطرحه في

الماء إذا شربته و كذلك كانت فلاسفة يونان تفعل. و قال الشاعر في هذا المعنى

نسير على علم بكنه مسيرنا بعفة زاد في بطون المزاود

[20 : 92 ]

و لا بد في أسفارنا من قبيصة من الترب نسقاها لحب الموالد

و قالت الهند حرمة بلدك عليك كحرمة أبويك كان غذاؤك منهما و أنت جنين و كان غذاؤهما منك. و من الكلام القديم لو لا الوطن و

حبه لخرب بلد السوء. ابن الرومي

و حبب أوطان الرجال إليهم م آرب قضاها الشباب هنالكا

إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا

[20 : 93 ]

452وَ قَالَ ع وَ قَدْ جَاءَهُ نَعْيُ الْأَشْتَرِ رَحِمَهُ اللَّهُ مَالِكٌ وَ مَالِكٌ وَ اللَّهِ لَوْ كَانَ جَبَلًا لَكَانَ فِنْداً أَوْ كَانَ حَجَراً لَكَانَ صَلْداً لَا يَرْتَقِيهِ الْحَافِرُ وَ

لَا يُوفِي عَلَيْهِ الطَّائِرُ

قال الرضي رحمه الله تعالى الفند المنفرد من الجبال

يقال إن الرضي ختم كتاب نهج البلاغة بهذا الفصل و كتبت به نسخ متعددة ثم زاد عليه إلى أن وفى الزيادات التي نذكرها فيما بعد. و

قد تقدم ذكر الأشتر و إنما قال لو كان جبلا لكان فندا لأن الفند قطعة الجبل طولا و ليس الفند القطعة من الجبل كيفما كانت و لذلك

قال لا يرتقيه الحافر لأن القطعة المأخوذة من الجبل طولا في دقة لا سبيل للحافر إلى صعودها و لو أخذت عرضا لأمكن صعودها. ثم

وصف تلك القطعة بالعلو العظيم فقال و لا يوفي عليه الطائر أي لا يصعد عليه يقال أوفى فلان على الجبل أشرف

[20 : 94 ]

453وَ قَالَ ع قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ

هذا كلام يخاطب به أهل العبادات و الصلاة قال قليل من النوافل يدوم المرء عليه خير له من كثير منها يمله و يتركه. و الجيد النادر

في هذا

قول رسول الله ص إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المنبت لا أرضا قطع و لا ظهرا أبقى

و كان يقال كل كثير مملول. و قالوا كل كثير عدو للطبيعة. و قال الشاعر

إني كثرت عليه في زيارته فمل و الشيء مملول إذا كثرا

و رابني أني لا أزال أرى في طرفه قصرا عني إذا نظرا

[20 : 95 ]

454وَ قَالَ ع إِذَا كَانَ فِي رَجُل خَلَّةٌ رَائِعَةٌ فَانْتَظِرُوا مِنْهُ أَخَوَاتِهَا

مثال ذلك إنسان مستور الحال عنا رأيناه و قد صدرت عنه حركة تروعك و تعجبك إما لحسنها أو لقبحها مثل أن يتصدق بشيء له وقع

و مقدار من ماله أو ينكر منكرا عجز غيره عن إنكاره أو يسرق أو يزني فينبغي أن ينتظر و يترقب منه أخوات ما وقع منه و ذلك لأن

العقل و الطبيعة التي فيه المحركة له إلى فعل تلك الحركة لا بد أن تحركه إلى فعل ما يناسبها لأنها ما دعته إلى فعل تلك الحركة

لخصوصية تلك الحركة بل لما فيها من المعنى المقتضي وقوعها و هذا يتعدى إلى غيرها مما يجانسها و لذلك لا ترى أحدا قد اطلعت

من حاله يوما على أنه قد شرب الخمر إلا و سوف تطلع فيما بعد منه على أنه يشربها و بالعكس في الأمور الحسنة لا ترى أحدا قد

صدر عنه فعل من أفعال الخير و المروءة إلا و ستراه فيما بعد فاعلا نظيره أو ما يقاربه. و شتم بعض سفهاء البصرة الأحنف شتما قبيحا

فحلم عنه فقيل له في ذلك فقال دعوه فإني قد قتلته بالحلم عنه و سيقتل نفسه بجراءته فلما كان بعد أيام جاء ذلك السفيه فشتم

زيادا و هو أمير البصرة حينئذ و ظن أنه كالأحنف فأمر به فقطع لسانه و يده

[20 : 96 ]

455وَ قَالَ ع لِغَالِبِ بْنِ صَعْصَعَةَ أَبِي الْفَرَزْدَقِ فِي كَلَام دَارَ بَيْنَهُمَا مَا فَعَلَتْ إِبِلُكَ الْكَثِيرَةُ قَالَ ذَعْذَعَتْهَا الْحُقُوقُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ ع

ذَلِكَ أَحْمَدُ سُبُلِهَا

ذعذعتها بالذال المعجمة مكررة فرقتها ذعذعته فتذعذع و ذعذعة السر أذاعته و الذعاذع الفرق المتفرقة الواحدة ذعذعة و ربما قالوا

تفرقوا ذعاذع.

دخل غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال المجاشعي على أمير المؤمنين ع أيام خلافته و غالب شيخ كبير و معه ابنه همام الفرزدق و

هو غلام يومئذ فقال له أمير المؤمنين ع من الشيخ قال أنا غالب بن صعصعة قال ذو الإبل الكثيرة قال نعم قال ما فعلت إبلك قال

ذعذعتها الحقوق و أذهبتها الحملات و النوائب قال ذاك أحمد سبلها من هذا الغلام معك قال هذا ابني قال ما اسمه قال همام و قد

رويته الشعر يا أمير المؤمنين و كلام العرب و يوشك أن يكون شاعرا مجيدا فقال لو أقرأته القرآن فهو خير له

فكان الفرزدق بعد يروي هذا الحديث و يقول ما زالت كلمته في نفسي حتى قيد نفسه بقيد و آلى ألا يفكه حتى يحفظ القرآن فما فكه

حتى حفظه

[20 : 97 ]

456وَ قَالَ ع مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه فَقَدِ ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا

يقول تجر فلان و اتجر فهو تاجر و الجمع تجر مثل صاحب و صحب و التجارة و التجر بمعنى واحد إذا أخذتهما مصدرين لتجر و أرض

متجرة يتجر فيها. و ارتطم فلان في الوحل و الأمر إذا ارتبك فيه و لم يقدر على الخروج منه و إنما قال ع ذلك لأن مسائل الربا

مشتبهة بمسائل البيع و لا يفرق بينهما إلا الفقيه حتى أن العظماء من الفقهاء قد اشتبه عليهم الأمر فيها فاختلفوا فيها أشد اختلاف

كبيع لحم البقر بالغنم متفاضلا هل يجوز أم لا و كذلك لبن البقر بلبن الغنم و جلود البقر بجلود الغنم فقال أبو حنيفة اللحوم و

الألبان و الجلود أجناس مختلفة فيجوز بيع بعضها ببعض متفاضلا نظرا إلى أن أصولها أجناس مختلفة و الشافعي لا يجيز ذلك و يقول

هو ربا و كذلك القول في مدى عجوة و درهم بمد عجوة و كذلك بيع الرطب بالتمر متساويا كيلا كل ذلك يقول الشافعي إنه ربا و أبو

حنيفة يخرجه عن كونه ربا و مسائل هذا الباب كثيرة

[20 : 98 ]

457وَ قَالَ ع مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِكِبَارِهَا

إنما كان كذلك لأنه يشكو الله و يتسخط قضاءه و يجحد النعمة في التخفيف عنه و يدعي فيما ليس بمجحف به من حوادث الدهر أنه

مجحف و يتألم بين الناس لذلك أكثر مما تقتضيه نكبته و من فعل ذلك استوجب السخط من الله تعالى و ابتلي بالكثير من النكبة و

إنما الواجب على من وقع في أمر يشق عليه و يتألم منه و ينال من نفسه أو من ماله نيلا ما إن يحمد الله تعالى على ذلك و يقول لعله

قد دفع بهذا عني ما هو أعظم منه و لئن كان قد ذهب من مالي جزء فلقد بقي أجزاء كثيرة. و قال عروة بن الزبير لما وقعت الأكلة في رجله

فقطعها و مات ابنه اللهم إنك أخذت عضوا و تركت أعضاء و أخذت ابنا و تركت أبناء فليهنك لئن كنت أخذت لقد أبقيت و لئن كنت

ابتليت لقد عافيت

[20 : 99 ]

458وَ قَالَ ع مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ

قد تقدم مثل هذا المعنى مرارا و من الكلام المشهور بين العامة قبح الله أمرا تغلب شهوته على نخوته. و الجيد النادر في هذا قول

الشاعر

فإنك إن أعطيت بطنك سؤله و فرجك نالا منتهى الذم أجمعا

[20 : 100 ]

459وَ قَالَ ع مَا مَزَحَ امْرُؤٌ مَزْحَةً إِلَّا مَجَّ مِنْ عَقْلِهِ مَجَّةً

قد تقدم القول في المزاح. و كان يقال خير المزاح لا ينال و شره لا يستقال. و قيل إنما سمي المزاح مزاحا لأنه أزيح عن الحق

[20 : 101 ]

460وَ قَالَ ع زُهْدُكَ فِي رَاغِب فِيكَ نُقْصَانُ حَظّ وَ رَغْبَتُكَ فِي زَاهِد فِيكَ ذُلُّ نَفْس

أي نقصان حظ لك و ذلك لأنه ليس من حق من رغب فيك أن تزهد فيه لأن الإحسان لا يكافأ بالإساءة و للقصد حرمة و للآمل ذمام و من

طلب مودتك فقد قصدك و أملك فلا يجوز رفضه و اطراحه و الزهد فيه و إذا زهدت فيه فذلك لنقصان حظك لا لنقصان حظه فأما رغبتك

في زاهد فيك فمذلة لأنك تطرح نفسك لمن لا يعبأ بك و هذا ذل و صغار. و قال العباس بن الأحنف في نسيبه و كان جيد النسيب

ما زلت أزهد في مودة راغب حتى ابتليت برغبة في زاهد

هذا هو الداء الذي ضاقت به حيل الطبيب و طال يأس العائد

أي ما زلت عزيزا حتى أذلني الحب

[20 : 102 ]

461وَ قَالَ ع مَا زَالَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ حَتَّى نَشَأَ ابْنُهُ الْمَشْئُومُ عَبْدُ اللَّهِ

ذكر هذا الكلام أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب عن أمير المؤمنين ع في عبد الله بن الزبير إلا أنه لم يذكر لفظة المشئوم

عبد الله بن الزبير و ذكر طرف من أخباره

و نحن نذكر ما ذكره ابن عبد البر في ترجمة عبد الله بن الزبير فإن هذا المصنف يذكر جمل أحوال الرجل دون تفاصيلها ثم نذكر

تفصيل أحواله من مواضع أخرى. قال أبو عمر رحمه الله يكنى عبد الله بن الزبير أبا بكر و قال بعضهم أبا بكير ذكر ذلك أبو أحمد

الحاكم الحافظ في كتابه في الكنى و الجمهور من أهل السير و أهل الأثر على أن كنيته أبو بكر و له كنية أخرى أبو خبيب بابنه

خبيب

[20 : 103 ]

و كان أسن ولده و خبيب هو صاحب عمر بن عبد العزيز الذي مات من ضربه إذ كان واليا على المدينة للوليد و كان الوليد أمره بضربه

فمات من أذية ذلك فوداه عمر بعد. قال أبو عمر و سماه رسول الله ص باسم جده و كناه بكنية جده عبد الله أبي بكر و هاجرت أمه

أسماء من مكة إلى المدينة و هي حامل به فولدته في سنة اثنتين من الهجرة لعشرين شهرا من التاريخ و قيل ولد في السنة الأولى و

هو أول مولود ولد في الإسلام من المهاجرين بعد الهجرة. و روى هشام بن عروة عن أسماء قالت حملت بعبد الله بمكة فخرجت و أنا

متم فأتيت المدينة فنزلت بقباء فولدته بقباء ثم أتيت رسول الله ص فوضعته في حجره فدعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه فكان أول

شيء دخل جوفه ريق رسول الله ص ثم حنكه بالتمرة ثم دعا له و بارك عليه و هو أول مولود ولد في الإسلام للمهاجرين بالمدينة قال

ففرحوا به فرحا شديدا و ذلك أنهم قد كان قيل لهم إن اليهود قد سحرتكم فلا يولد لكم. قال أبو عمر و شهد عبد الله الجمل مع أبيه

و خالته و كان شهما ذكرا ذا أنفة و كان له لسن و فصاحة و كان أطلس لا لحية له و لا شعر في وجهه و كان كثير الصلاة كثير الصيام

شديد البأس كريم الجدات و الأمهات و الخالات إلا أنه كان فيه خلال لا يصلح معها للخلافة فإنه كان بخيلا ضيق العطن سيئ الخلق

حسودا كثير الخلاف أخرج محمد بن الحنفية من مكة و المدينة و نفى عبد الله بن عباس إلى الطائف.

[20 : 104 ]

و

قال علي ع في أمره ما زال الزبير يعد منا أهل البيت حتى نشأ ابنه عبد الله

قال أبو عمر و بويع له بالخلافة سنة أربع و ستين في قول أبي معشر. و قال المدائني بويع له بالخلافة سنة خمس و ستين. و كان

قبل ذلك لا يدعى باسم الخلافة و كانت بيعته بعد موت معاوية بن يزيد بن معاوية على طاعته أهل الحجاز و اليمن و العراق و

خراسان و حج بالناس ثماني حجج و قتل في أيام عبد الملك بن مروان يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقين من جمادى الأولى و قيل من

جمادى الآخرة سنة ثلاث و سبعين و هو ابن اثنتين و سبعين سنة و صلب بمكة بعد قتله و كان الحجاج قد ابتدأ بحصاره من أول ليلة

من ذي الحجة سنة اثنتين و سبعين و حج الحجاج بالناس في ذلك العام و وقف بعرفة و عليه درع و مغفر و لم يطوفوا بالبيت في تلك

السنة فحاصره ستة أشهر و سبعة عشر يوما إلى أن قتله. قال أبو عمر فروى هشام بن عروة عن أبيه قال لما كان قبل قتل عبد الله

بعشرة أيام دخل على أمه أسماء بنت أبي بكر و هي شاكية فقال كيف تجدينك يا أمه قالت ما أجدني إلا شاكية فقال لها إن في الموت

لراحة فقالت لعلك تمنيته لي و ما أحب أن أموت حتى يأتي على إحدى حالتيك إما قتلت فأحتسبك و إما ظفرت بعدوك فقرت عيني. قال

عروة فالتفت عبد الله إلي و ضحك فلما كان اليوم الذي قتل فيه دخل عليها في المسجد فقالت يا بني لا تقبل منهم خطة تخاف فيها

على نفسك الذل مخافة القتل فو الله لضربة سيف في عز خير من ضربة سوط في مذلة قال فخرج

[20 : 105 ]

عبد الله و قد نصب له مصراع عند الكعبة فكان يكون تحته فأتاه رجل من قريش فقال له أ لا نفتح لك باب الكعبة فتدخلها فقال و

الله لو وجدوكم تحت أستار الكعبة لقتلوكم عن آخركم و هل حرمة البيت إلا كحرمة الحرم ثم أنشد

و لست بمبتاع الحياة بسبة و لا مرتق من خشية الموت سلما

ثم شد عليه أصحاب الحجاج فسأل عنهم فقيل هؤلاء أهل مصر فقال لأصحابه اكسروا أغماد سيوفكم و احملوا معي فإنني في الرعيل

الأول ففعلوا ثم حمل عليهم و حملوا عليه فكان يضرب بسيفين فلحق رجلا فضربه فقطع يده و انهزموا و جعل يضربهم حتى أخرجهم

من باب المسجد و جعل رجل منهم أسود يسبه فقال له اصبر يا ابن حام ثم حمل عليه فصرعه ثم دخل عليه أهل حمص من باب بني

شيبة فسأل عنهم فقيل هؤلاء أهل حمص فشد عليهم و جعل يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من المسجد ثم انصرف و هو يقول

لو كان قرني واحدا أرديته أوردته الموت و قد ذكيته

ثم دخل عليه أهل الأردن من باب آخر فقال من هؤلاء قيل أهل الأردن فجعل يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من المسجد ثم انصرف و

هو يقول

لا عهد لي بغارة مثل السيل لا ينجلي قتامها حتى الليل

فأقبل عليه حجر من ناحية الصفا فأصابه بين عينيه فنكس رأسه و هو يقول

و لسنا على الأعقاب تدمى كلومنا و لكن على أقدامنا تقطر الدما

[20 : 106 ]

أنشده متمثلا و حماه موليان له فكان أحدهما يرتجز فيقول

العبد يحمي ربه و يحتمي

قال ثم اجتمعوا عليه فلم يزالوا يضربونه و يضربهم حتى قتلوه و مولييه جميعا فلما قتل كبر أهل الشام فقال عبد الله بن عمر

المكبرون يوم ولد خير من المكبرين يوم قتل. قال أبو عمر و قال يعلى بن حرملة دخلت مكة بعد ما قتل عبد الله بن الزبير بثلاثة

أيام فإذا هو مصلوب فجاءت أمه أسماء و كانت امرأة عجوزا طويلة مكفوفة البصر تقاد فقالت للحجاج أ ما آن لهذا الراكب أن ينزل

فقال لها المنافق قالت و الله ما كان منافقا و لكنه كان صواما قواما برا قال انصرفي فإنك عجوز قد خرفت قالت لا و الله ما خرفت و

إني سمعت رسول الله ص يقول يخرج من ثقيف كذاب و مبير

أما الكذاب فقد رأيناه تعني المختار و أما المبير فأنت. قال أبو عمر و روى سعيد بن عامر الخراز عن ابن أبي مليكة قال كنت الآذن لمن

بشر أسماء بنزول ابنها عبد الله من الخشبة فدعت بمركن و شب يمان فأمرتني بغسله فكنا لا نتناول منه عضوا إلا جاء معنا فكنا

نغسل العضو و ندعه في أكفانه و نتناول العضو الذي يليه فنغسله ثم نضعه في أكفانه حتى فرغنا منه ثم قامت فصلت عليه و قد كانت

تقول اللهم لا تمتني حتى تقر عيني بجثته فلما دفنته لم يأت عليها جمعة حتى ماتت. قال أبو عمر و قد كان عروة بن الزبير رحل إلى

عبد الملك فرغب إليه في إنزال عبد الله من الخشبة فأسعفه بذلك فأنزل.

[20 : 107 ]

قال أبو عمر و قال علي بن مجاهد قتل مع ابن الزبير مائتان و أربعون رجلا إن منهم لمن سال دمه في جوف الكعبة. قال أبو عمر و روى

عيسى عن أبي القاسم عن مالك بن أنس قال كان ابن الزبير أفضل من مروان و أولى بالأمر منه و من أبيه قال و قد روى علي بن

المدائني عن سفيان بن عيينة أن عامر بن عبد الله بن الزبير مكث بعد قتل أبيه حولا لا يسأل الله لنفسه شيئا إلا الدعاء لأبيه. قال أبو

عمر و روى إسماعيل بن علية عن أبي سفيان بن العلاء عن ابن أبي عتيق قال قالت عائشة إذا مر ابن عمر فأرونيه فلما مر قالوا هذا ابن

عمر فقالت يا أبا عبد الرحمن ما منعك أن تنهاني عن مسيري قال رأيت رجلا قد غلب عليك و رأيتك لا تخالفينه يعني عبد الله بن الزبير

فقالت أما إنك لو نهيتني ما خرجت. فأما الزبير بن بكار فإنه ذكر في كتاب أنساب قريش من أخبار عبد الله و أحواله جملة طويلة نحن

نختصرها و نذكر اللباب منها مع أنه قد أذنب في ذكر فضائله و الثناء عليه و هو معذور في ذلك فإنه لا يلام الرجل على حب قومه و

الزبير بن بكار أحد أولاد عبد الله بن الزبير فهو أحق بتقريظه و تأبينه. قال الزبير بن بكار أمه أسماء ذات النطاقين ابنة أبي بكر

الصديق و إنما سميت ذات النطاقين

لأن رسول الله ص لما تجهز مهاجرا إلى المدينة و معه أبو بكر لم يكن لسفرتهما شناق فشقت أسماء نطاقها فشنقتها به فقال لها

رسول الله

[20 : 108 ]

ص قد أبدلك الله تعالى بنطاقك هذا نطاقين في الجنة

فسميت ذات النطاقين قال و قد روى محمد بن الضحاك عن أبيه أن أهل الشام كانوا و هم يقاتلون عبد الله بمكة يصيحون يا ابن

ذات النطاقين يظنونه عيبا فيقول ابنها و الإله ثم يقول إني و إياكم لكما قال أبو ذؤيب

و عيرني الواشون أني أحبها و تلك شكاة ظاهر عنك عارها

فإن أعتذر عنها فإني مكذب و إن تعتذر يردد عليك اعتذارها

ثم يقبل على ابن أبي عتيق و هو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر فيقول أ لا تسمع يا ابن أبي عتيق.

قال الزبير و زعموا أن عبد الله بن الزبير لما ولد أتي به رسول الله ص فنظر في وجهه و قال أ هو هو ليمنعن البيت أو ليموتن دونه

و قال العقيلي في ذلك

بر تبين ما قال الرسول له و ذو صلاة بضاحي وجهه علم

حمامة من حمام البيت قاطنة لا تتبع الناس إن جاروا و إن ظلموا

قال و قد روى نافع بن ثابت عن محمد بن كعب القرظي أن رسول الله ص دخل على أسماء حين ولد عبد الله فقال أ هو هو فتركت

أسماء رضاعه فقيل لرسول الله ص إن أسماء تركت رضاع عبد الله لما سمعت كلمتك فقال لها أرضعيه و لو بماء عينيك كبش بين ذئاب

عليها ثياب ليمنعن الحرم أو ليموتن دونه

قال و حدثني عمي مصعب بن عبد الله قال كان عبد الله بن الزبير يقول هاجرت بي أمي في بطنها فما أصابها شيء من نصب أو مخمصة

إلا و قد أصابني

[20 : 109 ]

قال و قالت عائشة يا رسول الله أ لا تكنيني فقال تكني باسم ابن أختك عبد الله فكانت تكنى أم عبد الله

قال و روى هند بن القاسم عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال احتجم رسول الله ص ثم دفع إلي دمه فقال اذهب به فواره حيث

لا يراه أحد فذهبت به فشربته فلما رجعت قال ما صنعت قلت جعلته في مكان أظن أنه أخفى مكان عن الناس فقال فلعلك شربته فقلت

نعم

قال و قال وهب بن كيسان أول من صف رجليه في الصلاة عبد الله بن الزبير فاقتدى به كثير من العباد و كان مجتهدا. قال و خطب

الحجاج بعد قتله زجلة بنت منظور بن زبان بن سيار الفزارية و هي أم هاشم بن عبد الله بن الزبير فقلعت ثنيتها و ردته و قالت ما ذا

يريد إلى ذلفاء ثكلى حرى و قالت

أ بعد عائذ بيت الله تخطبني جهلا جهلت و غب الجهل مذموم

فاذهب إليك فإني غير ناكحة بعد ابن أسماء ما استن الدياميم

من يجعل العير مصفرا جحافله مثل الجواد و فضل الله مقسوم

قال و حدثني عبد الملك بن عبد العزيز عن خاله يوسف بن الماجشون قال قسم عبد الله بن الزبير الدهر على ثلاث ليال فليلة هو

قائم حتى الصباح و ليلة هو راكع حتى الصباح و ليلة هو ساجد حتى الصباح. قال و حدثنا سليمان بن حرب بإسناد ذكره و رفعه إلى

مسلم المكي قال ركع عبد الله بن الزبير يوما ركعة فقرأت البقرة و آل عمران و النساء و المائدة و ما رفع رأسه.

[20 : 110 ]

قال و قد حدث من لا أحصيه كثرة من أصحابنا أن عبد الله كان يواصل الصوم سبعا يصوم يوم الجمعة فلا يفطر إلا يوم الجمعة

الآخر و يصوم بالمدينة فلا يفطر إلا بمكة و يصوم بمكة فلا يفطر إلا بالمدينة. قال و قال عبد الملك بن عبد العزيز و كان أول ما

يفطر عليه إذا أفطر لبن لقحة بسمن بقر قال الزبير و زاد غيره و صبر. قال و حدثني يعقوب بن محمد بن عيسى بإسناد رفعه إلى عروة

بن الزبير قال لم يكن أحد أحب إلى عائشة بعد رسول الله ص و بعد أبي بكر من عبد الله بن الزبير. قال و حدثني يعقوب بن محمد

بإسناد يرفعه إلى عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال ما كان أحد أعلم بالمناسك من ابن الزبير. قال و حدثني مصعب بن عثمان قال

أوصت عائشة إلى عبد الله بن الزبير و أوصى إليه حكيم بن حزام و عبد الله بن عامر بن كريز و الأسود بن أبي البختري و شيبة بن

عثمان و الأسود بن عوف. قال الزبير و حدث عمر بن قيس عن أمه قالت دخلت على عبد الله بن الزبير بيته فإذا هو قائم يصلي فسقطت

حية من البيت على ابنه هاشم بن عبد الله فتطوقت على بطنه و هو نائم فصاح أهل البيت الحية الحية و لم يزالوا بها حتى قتلوها و

عبد الله قائم يصلي ما التفت و لا عجل ثم فرغ من صلاته بعد ما قتلت الحية فقال ما بالكم فقالت أم هاشم إي رحمك الله أ رأيت إن

كنا هنا عليك أ يهون عليك ابنك قال ويحك و ما كانت التفاتة لو التفتها مبقية من صلاتي.

[20 : 111 ]

قال الزبير و عبد الله أول من كسا الكعبة الديباج و إن كان ليطيبها حتى يجد ريحها من دخل الحرم قال و لم تكن كسوة الكعبة من

قبله إلا المسوح و الأنطاع فلما جرد المهدي بن المنصور الكعبة كان فيما نزع عنها كسوة من ديباج مكتوب عليها لعبد الله أبي بكر

أمير المؤمنين قال و حدثني يحيى بن معين بإسناد رفعه إلى هشام بن عروة أن عبد الله بن الزبير أخذ من بين القتلى يوم الجمل و به

بضع و أربعون طعنة و ضربة قال الزبير و اعتلت عائشة مرة فدخل عليها بنو أختها أسماء عبد الله و عروة و المنذر قال عروة فسألناها

عن حالها فشكت إلينا نهكة من علتها فعزاها عبد الله عن ذلك فأجابته بنحو قولها فعاد لها بالكلام فعادت له بالجواب فصمت و بكى

قال عروة فما رأينا متحاورين من خلق الله أبلغ منهما قال ثم رفعت رأسها تنظر إلى وجهه فأبهتت لبكائه فبكت ثم قالت ما أحقني منك

يا بني ما أرى فلم أعلم بعد رسول الله ص و بعد أبوي أحدا أنزل عندي منزلتك قال عروة و ما سمعت عائشة و أمي أسماء تدعون لأحد

من الخلق دعاءهما لعبد الله قال و قال موسى بن عقبة أقرأني عامر بن عبد الله بن الزبير وصية عبد الله بن مسعود إلى الزبير بن

العوام و إلى عبد الله بن الزبير من بعده و إنهما في وصيتي في حل و بل. قال و روى أبو الحسن المدائني عن أبي إسحاق التميمي أن

معاوية سمع رجلا ينشد

ابن رقاش ماجد سميدع يأبى فيعطي عن يد أو يمنع

[20 : 112 ]

فقال ذلك عبد الله بن الزبير و كان عبد الله من جملة النفر الذين أمرهم عثمان بن عفان أن ينسخوا القرآن في المصاحف. قال و حدثنا

محمد بن حسن عن نوفل بن عمارة قال سئل سعيد بن المسيب عن خطباء قريش في الجاهلية فقال الأسود بن المطلب بن أسد و

سهيل بن عمرو و سئل عن خطبائهم في الإسلام فقال معاوية و ابنه و سعيد بن العاص و ابنه و عبد الله بن الزبير. قال و حدثنا

إبراهيم بن المنذر عن عثمان بن طلحة قال كان عبد الله بن الزبير لا ينازع في ثلاث شجاعة و عبادة و بلاغة. قال الزبير و قال هشام

بن عروة رأيت عبد الله أيام حصاره و الحجر من المنجنيق يهوي حتى أقول كاد يأخذ بلحيته فقال له أبي أيا ابن أم و الله إن كاد

ليأخذ بلحيتك فقال عبد الله دعني يا ابن أم فو الله ما هي إلا هنة حتى كان الإنسان لم يكن فيقول أبي و هو يقبل علينا بوجهه و الله

ما أخشى عليك إلا من تلك الهنة. قال الزبير فذكر هشام قال و الله لقد رأيته يرمى بالمنجنيق فلا يلتفت و لا يرعد صوته و ربما مرت

الشظية منه قريبا من نحره. و قال الزبير و حدثنا ابن الماجشون عن ابن أبي مليكة عن أبيه قال كنت أطوف بالبيت مع عمر بن عبد

العزيز فلما بلغت الملتزم تخلفت عنده أدعو ثم لحقت عمر فقال لي ما خلفك قال كنت أدعو في موضع رأيت عبد الله بن الزبير فيه

يدعو فقال ما تترك تحنناتك على ابن الزبير أبدا فقلت و الله ما رأيت

[20 : 113 ]

أحدا أشد جلدا على لحم و لحما على عظم من ابن الزبير و لا رأيت أحدا أثبت قائما و لا أحسن مصليا من ابن الزبير و لقد رأيت حجرا

من المنجنيق جاءه فأصاب شرفة من المسجد فمرت قذاذة منها بين لحيته و حلقه فلم يزل من مقامه و لا عرفنا ذلك في صوته فقال عمر

لا إله إلا الله لجاد ما وصفت. قال الزبير و سمعت إسماعيل بن يعقوب التيمي يحدث قال قال عمر بن عبد العزيز لابن أبي مليكة صف

لنا عبد الله بن الزبير فإنه ترمرم على أصحابنا فتغشمروا عليه فقال عن أي حاليه تسأل أ عن دينه أم عن دنياه فقال عن كل قال و الله

ما رأيت جلدا قط ركب على لحم و لا لحما على عصب و لا عصبا على عظم مثل جلده على لحمه و لا مثل لحمه على عصبه و لا مثل

عصبه على عظمه و لا رأيت نفسا ركبت بين جنبين مثل نفس له ركبت بين جنبين و لقد قام يوما إلى الصلاة فمر به حجر من حجارة

المنجنيق بلبنة مطبوخة من شرفات المسجد فمرت بين لحييه و صدره فو الله ما خشع لها بصره و لا قطع لها قراءته و لا ركع دون

الركوع الذي كان يركع و لقد كان إذا دخل في الصلاة خرج من كل شيء إليها و لقد كان يركع في الصلاة فيقع الرخم على ظهره و

يسجد فكأنه مطروح. قال الزبير و حدث هشام بن عروة قال سمعت عمي يقول ما أبالي إذا وجدت ثلاثمائة يصبرون صبري لو أجلب

علي أهل الأرض. قال الزبير و قسم عبد الله بن الزبير ثلث ماله و هو حي و كان أبوه الزبير قد أوصى أيضا بثلث ماله قال و ابن الزبير

أحد الرهط الخمسة الذين وقع اتفاق أبي موسى الأشعري و عمرو بن العاص على إحضارهم و الاستشارة بهم في يوم التحكيم

[20 : 114 ]

و هم عبد الله بن الزبير و عبد الله بن عمرو و أبو الجهم بن حذيفة و جبير بن مطعم و عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. قال الزبير و

عبد الله هو الذي صلى بالناس بالبصرة لما ظهر طلحة و الزبير على عثمان بن حنيف بأمر منهما له قال و أعطت عائشة من بشرها بأن

عبد الله لم يقتل يوم الجمل عشرة آلاف درهم. قلت الذي يغلب على ظني أن ذلك كان يوم إفريقية لأنها يوم الجمل كانت في شغل

بنفسها عن عبد الله و غيره. قال الزبير و حدثني علي بن صالح مرفوعا أن رسول الله ص كلم في صبية ترعرعوا منهم عبد الله بن جعفر

و عبد الله بن الزبير و عمر بن أبي سلمة فقيل يا رسول الله لو بايعتهم فتصيبهم بركتك و يكون لهم ذكر فأتي بهم فكأنهم تكعكعوا

حين جيء بهم إليه و اقتحم ابن الزبير فتبسم رسول الله ص و قال إنه ابن أبيه و بايعهم. قال و سئل رأس الجالوت ما عندكم من

الفراسة في الصبيان فقال ما عندنا فيهم شيء لأنهم يخلقون خلقا من بعد خلق غير أنا نرمقهم فإن سمعناه منهم من يقول في لعبه من

يكون معي رأيناها همة و خبء صدق فيه و إن سمعناه يقول مع من أكون كرهناها منه قال فكان أول شيء سمع من عبد الله بن الزبير

أنه كان ذات يوم يلعب مع الصبيان فمر رجل فصاح عليهم ففروا منه و مشى ابن الزبير القهقرى ثم قال يا صبيان اجعلوني أميركم و

شدوا بنا عليه قال و مر به عمر بن الخطاب و هو مع الصبيان ففروا و وقف فقال لم لم تفر مع أصحابك فقال لم أجرم فأخافك و لم

تكن الطريق ضيقة فأوسع عليك. و روى الزبير بن بكار أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح غزا إفريقية في خلافة

[20 : 115 ]

عثمان فقتل عبد الله بن الزبير جرجير أمير جيش الروم فقال ابن أبي سرح إني موجه بشيرا إلى أمير المؤمنين بما فتح علينا و أنت

أولى من هاهنا فانطلق إلى أمير المؤمنين فأخبره الخبر قال عبد الله فلما قدمت على عثمان أخبرته بفتح الله و صنعه و نصره و وصفت

له أمرنا كيف كان فلما فرغت من كلامي قال هل تستطيع أن تؤدي هذا إلى الناس قلت و ما يمنعني من ذلك قال فاخرج إلى الناس

فأخبرهم قال عبد الله فخرجت حتى جئت المنبر فاستقبلت الناس فتلقاني وجه أبي فدخلتني له هيبة عرفها أبي في وجهي فقبض قبضة

من حصباء و جمع وجهه في وجهي و هم أن يحصبني فأحزمت فتكلمت. فزعموا أن الزبير لما فرغ عبد الله من كلامه قال و الله لكأني

أسمع كلام أبي بكر الصديق من أراد أن يتزوج امرأة فلينظر إلى أبيها و أخيها فإنها تأتيه بأحدهما. قال الزبير و يلقب عبد الله بعائذ

البيت لاستعاذته به. قال و حدثني عمي مصعب بن عبد الله قال إن الذي دعا عبد الله إلى التعوذ بالبيت شيء سمعه من أبيه حين سار

من مكة إلى البصرة فإن الزبير التفت إلى الكعبة بعد أن ودع و وجه يريد الركوب فأقبل على ابنه عبد الله و قال تالله ما رأيت مثلها

لطالب رغبة أو خائف رهبة. و روى الزبير بن بكار قال كان سبب تعوذ ابن الزبير بالكعبة أنه كان يمشي بعد عتمة في بعض شوارع

المدينة إذ لقي عبد الله بن سعد بن أبي سرح متلثما لا يبدو منه إلا عيناه قال فأخذت بيده و قلت ابن أبي سرح كيف كنت بعدي و كيف

تركت أمير المؤمنين يعني معاوية و قد كان ابن أبي سرح عنده بالشام فلم يكلمني فقلت ما لك أمات أمير المؤمنين فلم يكلمني

فتركته و قد أثبت معرفته ثم خرجت حتى لقيت الحسين بن علي رضي الله عنه فأخبرته خبره و قلت ستأتيك رسل الوليد و كان الأمير

على المدينة الوليد بن عتبة بن

[20 : 116 ]

أبي سفيان فانظر ما أنت صانع و اعلم أن رواحلي في الدار معدة و الموعد بيني و بينك أن تغفل عنا عيونهم ثم فارقته فلم ألبث أن

أتاني رسول الوليد فجئته فوجدت الحسين عنده و وجدت عنده مروان بن الحكم فنعى إلي معاوية فاسترجعت فأقبل علي و قال هلم

إلى بيعة يزيد فقد كتب إلينا يأمرنا أن نأخذها عليك فقلت إني قد علمت أن في نفسه علي شيئا لتركي بيعته في حياة أبيه و إن بايعت

له على هذه الحال توهم أني مكره على البيعة فلم يقع منه ذلك بحيث أريد و لكن أصبح و يجتمع الناس و يكون ذلك علانية إن شاء

الله فنظر الوليد إلى مروان فقال مروان هو الذي قلت لك إن يخرج لم تره فأحببت أن ألقي بيني و بين مروان شرا نتشاغل به فقلت

له و ما أنت و ذاك يا ابن الزرقاء فقال لي و قلت له حتى تواثبنا فتناصيت أنا و هو و قام الوليد فحجز بيننا فقال مروان أ تحجز بيننا

بنفسك و تدع أن تأمر أعوانك فقال قد أرى ما تريد و لكن لا أتولى ذلك منه و الله أبدا اذهب يا ابن الزبير حيث شئت قال فأخذت بيد

الحسين و خرجنا من الباب حتى صرنا إلى المسجد و أنا أقول

و لا تحسبني يا مسافر شحمة تعجلها من جانب القدر جائع

فلما دخل المسجد افترق هو و الحسين و عمد كل واحد منهما إلى مصلاه يصلي فيه و جعلت الرسل تختلف إليهما يسمع وقع

أقدامهم في الحصباء حتى هدأ عنهما الحس ثم انصرفا إلى منازلهما فأتى ابن الزبير رواحله فقعد عليها و خرج من أدبار داره و وافاه

الحسين بن علي فخرجا جميعا من ليلتهم و سلكوا طريق الفرع حتى مروا بالجثجاثة و بها جعفر بن الزبير قد ازدرعها و غمز عليهم

بعير من إبلهم فانتهوا إلى جعفر فلما رآهم قال مات معاوية فقال عبد الله نعم انطلق

[20 : 117 ]

معنا و أعطنا أحد جمليك و كان ينضح على جملين له فقال جعفر متمثلا

إخوتي لا تبعدوا أبدا و بلى و الله قد بعدوا

فقال عبد الله و تطير منها بفيك التراب فخرجوا جميعا حتى قدموا مكة قال الزبير

فأما الحسين ع فإنه خرج من مكة يوم التروية يطلب الكوفة و العراق و قد كان قال لعبد الله بن الزبير قد أتتني بيعة أربعين ألفا

يحلفون لي بالطلاق و العتاق من أهل العراق

فقال أ تخرج إلى قوم قتلوا أباك و خذلوا أخاك قال و بعض الناس يزعم أن عبد الله بن عباس هو الذي قال للحسين ذلك قال الزبير و

قال هشام بن عروة كان أول ما أفصح به عمي عبد الله و هو صغير السيف فكان لا يضعه من فيه و كان أبوه الزبير إذا سمع منه ذلك

يقول أما و الله ليكونن لك منه يوم و يوم و أيام. فأما خبر مقتل عبد الله بن الزبير فنحن نورده من تاريخ أبي جعفر محمد بن جرير

الطبري رحمه الله قال أبو جعفر حصر الحجاج عبد الله بن الزبير ثمانية أشهر فروى إسحاق بن يحيى عن يوسف بن ماهك قال رأيت

منجنيق أهل الشام يرمى به فرعدت السماء و برقت و علا صوت الرعد على صوت المنجنيق فأعظم أهل الشام ما سمعوه فأمسكوا

أيديهم فرفع الحجاج بركة قبائه فغرزها في منطقته و رفع حجر المنجنيق فوضعه فيه ثم قال ارموا و رمى معهم قال ثم أصبحوا

فجاءت

[20 : 118 ]

صاعقة يتبعها أخرى فقتلت من أصحاب الحجاج أثنى عشر رجلا فأنكر أهل الشام فقال الحجاج يا أهل الشام لا تنكروا هذا فإني ابن

تهامة هذه صواعق تهامة هذا الفتح قد حضر فأبشروا فإن القوم يصيبهم مثل ما أصابكم فصعقت من الغد فأصيب من أصحاب ابن الزبير

عدة ما أصاب الحجاج فقال الحجاج أ لا ترون أنهم يصابون و أنتم على الطاعة و هم على خلاف الطاعة فلم تزل الحرب بين ابن

الزبير و الحجاج حتى تفرق عامة أصحاب ابن الزبير عنه و خرج عامة أهل مكة إلى الحجاج في الأمان. قال و روى إسحاق بن عبيد

الله عن المنذر بن الجهم الأسلمي قال رأيت ابن الزبير و قد خذله من معه خذلانا شديدا و جعلوا يخرجون إلى الحجاج خرج إليه

منهم نحو عشرة آلاف و ذكر أنه كان ممن فارقه و خرج إلى الحجاج ابناه خبيب و حمزة فأخذا من الحجاج لأنفسهما أمانا. قال أبو

جعفر فروى محمد بن عمر عن ابن أبي الزناد عن مخرمة بن سلمان الوالبي قال دخل عبد الله بن الزبير على أمه حين رأى من الناس ما

رأى من خذلانه فقال يا أمه خذلني الناس حتى ولدي و أهلي و لم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة و

القوم يعطونني ما أردت من الدنيا فما رأيك فقالت أنت يا بني أعلم بنفسك إن كنت تعلم أنك على حق و إليه تدعو فامض له فقد قتل

عليه أصحابك و لا تمكن من رقبتك يتلعب بك غلمان بني أمية و إن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك و أهلكت من

قتل معك و إن قلت قد كنت على حق فلما وهن أصحابي وهنت و ضعفت فليس هذا فعل الأحرار و لا أهل

[20 : 119 ]

الدين و كم خلودك في الدنيا القتل أحسن فدنا ابن الزبير فقبل رأسها و قال هذا و الله رأيي الذي قمت به داعيا إلى يومي هذا و ما

ركنت إلى الدنيا و لا أحببت الحياة فيها و لم يدعني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل محارمه و لكني أحببت أن أعلم رأيك

فزدتني بصيرة مع بصيرتي فانظري يا أمه فإني مقتول من يومي هذا فلا يشتد حزنك و سلمي لأمر الله فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر و

لا عملا بفاحشة و لم يجر في حكم و لم يغدر في أمان و لم يتعمد ظلم مسلم و لا معاهد و لم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل

أنكرته و لم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي اللهم إني لا أقول هذا تزكية مني لنفسي أنت أعلم بي و لكنني أقوله تعزية لأمي لتسلو

عني فقالت أمه إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنا إن تقدمتني فلا أخرج من الدنيا حتى أنظر إلى ما يصير أمرك فقال جزاك

الله يا أمه خيرا فلا تدعي الدعاء لي قبل و بعد قالت لا أدعه أبدا فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق ثم قالت اللهم ارحم طول ذلك

القيام في الليل الطويل و ذلك النحيب و الظمأ في هواجر المدينة و مكة و بره بأبيه و بي اللهم إني قد سلمته لأمرك فيه و رضيت

بما قضيت فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين. قال أبو جعفر و روى محمد بن عمر عن موسى بن يعقوب بن عبد الله عن عمه

قال دخل ابن الزبير على أمه و عليه الدرع و المغفر فوقف فسلم ثم دنا فتناول يدها فقبلها فقالت هذا وداع فلا تبعد فقال نعم إني

جئت مودعا إني لأرى أن هذا اليوم آخر يوم من الدنيا يمر بي و اعلمي يا أمه إني إن قتلت فإنما أنا لحم لا يضره ما صنع به فقالت

صدقت يا بني أتمم على بصيرتك و لا تمكن ابن

[20 : 120 ]

أبي عقيل منك و ادن مني أودعك فدنا منها فقبلها و عانقها فقالت حيث مست الدرع ما هذا صنيع من يريد ما تريد فقال ما لبستها إلا

لأشد منك فقالت إنها لا تشد مني فنزعها ثم أخرج كميه و شد أسفل قميصه و عمد إلى جبة خز تحت القميص فأدخل أسفلها في

المنطقة فقالت أمه شمر ثيابك فشمرها ثم انصرف و هو يقول

إني إذا أعرف يومي أصبر إذ بعضهم يعرف ثم ينكر

فسمعت العجوز قوله فقالت تصبر و الله و لم لا تصبر و أبوك أبو بكر و الزبير و أمك صفية بنت عبد المطلب. قال و روى محمد بن

عمر عن ثور بن يزيد عن رجل من أهل حمص قال شهدته و الله ذلك اليوم و نحن خمسمائة من أهل حمص فدخل من باب المسجد لا

يدخل منه غيرنا و هو يشد علينا و نحن منهزمون و هو يرتجز

إني إذا أعرف يومي اصبر و إنما يعرف يوميه الحر

و بعضهم يعرف ثم ينكر

فأقول أنت و الله الحر الشريف فلقد رأيته يقف بالأبطح لا يدنو منه أحد حتى ظننا أنه لا يقتل. قال و روى مصعب بن ثابت عن نافع

مولى بني أسد قال رأيت الأبواب قد شحنت بأهل الشام و جعلوا على كل باب قائدا و رجالا و أهل بلد فكان لأهل حمص الباب الذي

يواجه باب الكعبة و لأهل دمشق باب بني شيبة و لأهل الأردن باب الصفا و لأهل فلسطين باب بني جمح و لأهل قنسرين باب بني

سهم و كان الحجاج و طارق بن عمرو في ناحية الأبطح إلى المروة فمرة يحمل ابن الزبير

[20 : 121 ]

في هذه الناحية و لكأنه أسد في أجمة ما يقدم عليه الرجال فيعدو في أثر الرجال و هم على الباب حتى يخرجهم ثم يصيح إلى عبد الله

بن صفوان يا أبا صفوان ويل أمه فتحا لو كان له رجال ثم يقول

لو كان قرني واحدا كفيته

فيقول عبد الله بن صفوان إي و الله و ألفا. قال أبو جعفر فلما كان يوم الثلاثاء صبيحة سبع عشرة من جمادى الأولى سنة ثلاث و

سبعين و قد أخذ الحجاج على ابن الزبير بالأبواب بات ابن الزبير تلك الليلة يصلي عامة الليل ثم احتبى بحمائل سيفه فأغفى ثم

انتبه بالفجر فقال أذن يا سعد فأذن عند المقام و توضأ ابن الزبير و ركع ركعتي الفجر ثم تقدم و أقام المؤذن فصلى ابن الزبير

بأصحابه فقرأ ن و القلم حرفا حرفا ثم سلم ثم قام فحمد الله و أثنى عليه ثم قال اكشفوا وجوهكم حتى أنظر و عليها المغافر و

العمائم فكشفوا وجوههم فقال يا آل الزبير لو طبتم لي نفسا عن أنفسكم كنا أهل بيت من العرب اصطلمنا لم تصبنا مذلة و لم نقر

على ضيم أما بعد يا آل الزبير فلا يرعكم وقع السيوف فإني لم أحضر موطنا قط ارتثثت فيه بين القتلى و ما أجد من دواء جراحها أشد

مما أجد من ألم وقعها صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم لا أعلم امرأ كسر سيفه و استبقى نفسه فإن الرجل إذا ذهب سلاحه فهو

كالمرأة أعزل غضوا أبصاركم عن البارقة و ليشغل كل امرئ قرنه و لا يلهينكم السؤال عني و لا تقولن أين عبد الله بن الزبير ألا من كان سائلا عني فإني في الرعيل الأول ثم قال

السابق

التالي