السابق

التالي

[3 : 21 ]

لم يحام عنه و لا كذب الشهود عليه و كابرهم بل عزله مختارا غير مضطر و كل هذا لم يجر في أمراء عثمان و قد بينا كيف كان عزل

الوليد و إقامة الحد عليه. فأما أبو موسى فإن أمير المؤمنين ع لم يوله الحكم مختارا لكنه غلب على رأيه و قهر على أمره و لا رأى

لمقهور. فأما قوله إن ولاية الأقارب كولاية الأباعد بل الأقارب أولى من حيث كان التمكن من عزلهم أشد و ذكر تولية أمير المؤمنين

ع أولاد العباس رحمه الله تعالى و غيرهم فليس بشيء لأن عثمان لم ينقم عليه تولية الأقارب من حيث كانوا أقارب بل من حيث

كانوا أهل بيت الظنة و التهمة و لهذا حذره عمر و أشعر بأنه يحملهم على رقاب الناس و أمير المؤمنين ع لم يول من أقاربه متهما و لا

ظنينا و حين أحس من ابن العباس ببعض الريبة لم يمهله و لا احتمله و كاتبه بما هو شائع ظاهر و لو لم يجب على عثمان أن يعدل عن

ولاية أقاربه إلا من حيث جعل عمر ذلك سبب عدوله عن النص عليه و شرط عليه يوم الشورى ألا يحمل أقاربه على رقاب الناس و لا

يؤثرهم لمكان القرابة بما لا يؤثر به غيرهم لكان صارفا قويا فضلا عن أن ينضاف إلى ذلك ما انضاف من خصالهم الذميمة و طرائقهم

القبيحة. فأما سعيد بن أبي العاص فإنه قال في الكوفة إنما السواد بستان لقريش تأخذ منه ما شاءت و تترك حتى قالوا له أ تجعل ما

أفاء الله علينا بستانا لك و لقومك و نابذوه و أفضى الأمر إلى تسييره من سير عن الكوفة و القصة مشهورة ثم انتهى الأمر إلى منع

أهل الكوفة سعيدا من دخولها و تكلموا فيه و فيه عثمان كلاما ظاهرا حتى

[3 : 22 ]

كادوا يخلعون عثمان فاضطر حينئذ إلى إجابتهم إلى ولاية أبي موسى فلم يصرف سعيدا مختارا بل ما صرفه جملة و إنما صرفه أهل

الكوفة عنهم. فأما قوله إنه أنكر الكتاب المتضمن لقتل محمد بن أبي بكر و أصحابه و حلف على أن الكتاب ليس بكتابه و لا الغلام

غلامه و لا الراحلة راحلته و أن أمير المؤمنين ع قبل عذره فأول ما فيه أنه حكى القصة بخلاف ما جرت عليه لأن جميع من يروي هذه

القصة ذكر أنه اعترف بالخاتم و الغلام و الراحلة و إنما أنكر أن يكون أمر بالكتابة لأنه روي أن القوم لما ظفروا بالكتاب قدموا

المدينة فجمعوا أمير المؤمنين ع و طلحة و الزبير و سعدا و جماعة الأصحاب ثم فكوا الكتاب بمحضر منهم و أخبروهم بقصة الغلام

فدخلوا على عثمان و الكتاب مع أمير المؤمنين فقال له أ هذا الغلام غلامك قال نعم قال و البعير بعيرك قال نعم قال أ فأنت كتبت

هذا الكتاب قال لا و حلف بالله أنه ما كتب الكتاب و لا أمر به فقال له فالخاتم خاتمك قال نعم قال فكيف يخرج غلامك على بعيرك

بكتاب عليه خاتمك و لا تعلم به. و في رواية أخرى أنه لما واقفه عليه قال عثمان أما الخط فخط كاتبي و أما الخاتم فعلى خاتمي قال

فمن تتهم قال أتهمك و أتهم كاتبي فخرج أمير المؤمنين ع مغضبا و هو يقول بل بأمرك و لزم داره و بعد عن توسط أمره حتى جرى

عليه ما جرى. و أعجب الأمور قوله لأمير المؤمنين ع إني أتهمك و تظاهره بذلك و تلقيه إياه في وجهه بهذا القول مع بعده من التهمة

و الظنة في كل شيء و في أمره خاصة فإن القوم في الدفعة الأولى أرادوا أن يعجلوا له ما أخبروه حتى قام أمير المؤمنين ع بأمره و

توسطه و أصلحه و أشار عليه بأن يقاربهم و يعينهم حتى انصرفوا عنه و هذا

[3 : 23 ]

فعل النصيح المشفق الحدب المتحنن و لو كان ع و حوشي من ذلك متهما عليه لما كان للتهمة عليه مجال في أمر الكتاب خاصة لأن

الكتاب بخط عدوه مروان و في يد غلام عثمان و محمول على بعيره و مختوم بخاتمه فأي ظن تعلق بأمير المؤمنين ع في هذا المكان

لو لا العداوة و قلة الشكر للنعمة. و لقد قال له المصريون لما جحد أن يكون الكتاب كتابه شيئا لا زيادة عليه في باب الحجة لأنهم

قالوا له إذا كنت ما كتبت و لا أمرت به فأنت ضعيف من حيث تم عليك أن يكتب كاتبك بما تختمه بخاتمك و ينفذه بيد غلامك و على

بعيرك بغير أمرك و من تم عليه ذلك لا يصلح أن يكون واليا على أمور المسلمين فاختلع عن الخلافة على كل حال. قال و لقد كان

يجب على صاحب المغني أن يستحيي من قوله إن أمير المؤمنين ع قبل عذره و كيف يقبل عذر من يتهمه و يستغشه و هو له ناصح و

ما قاله أمير المؤمنين ع بعد سماع هذا القول منه معروف. و قوله إن الكتاب يجوز فيه التزوير ليس بشيء لأنه لا يجوز التزوير في

الكتاب و الغلام و البعير و هذه الأمور إذا انضاف بعضها إلى بعض بعد فيها التزوير و قد كان يجب على كل حال أن يبحث عن القصة و

عمن زور الكتاب و أنفذ الرسول و لا ينام عن ذلك حتى يعرف من أين دهي و كيف تمت الحيلة عليه فيحترز من مثلها و لا يغضي عن ذلك

إغضاء ساتر له خائف من بحثه و كشفه. فأما قوله إنه و إن غلب على الظن أن مروان كتب الكتاب فإن الحكم بالظن لا يجوز و تسليمه

إلى القوم على ما سألوه إياه ظلم لأن الحد و الأدب إذا وجب عليه فالإمام يقيمه دونهم فتعلل بما لا يجدي لأنا لا نعمل إلا على قوله

في أنه لم يعلم أن

[3 : 24 ]

مروان هو الذي كتب الكتاب و إنما غلب على ظنه أ ما كان يستحق مروان بهذا الظن بعض التعنيف و الزجر و التهديد أ و ما كان يجب

مع وقوع التهمة عليه و قوة الأمارات في أنه جالب الفتنة و سبب الفرقة أن يبعده عنه و يطرده من داره و يسلبه ما كان يخصه به من

إكرامه و ما في هذه الأمور أظهر من أن ينبه له. فأما قوله إن الأمر بالقتل لا يوجب قودا و لا دية سيما قبل وقوع القتل المأمور به

فهب أن ذلك على ما قال أ ما أوجب الله تعالى على الأمر بقتل المسلمين تأديبا و لا تعزيرا و لا طردا و لا إبعادا. و قوله لم يثبت ذلك

قد مضى ما فيه و بين أنه لم يستعمل فيه ما يجب استعماله من البحث و الكشف و تهديد المتهم و طرده و إبعاده و التبرؤ من التهمة

بما يتبرأ به من مثلها. فأما قوله إن قتله ظلم و كذلك حبسه في الدار و منعه من الماء و إنه لو استحق القتل أو الخلع لا يحل أن

يمنع الطعام و الشراب و قوله إن من لم يدفع عن ذلك من الصحابة يجب أن يكون مخطئا و قوله إن قتله لو وجب لم يجز أن يتولاه

العوام من الناس فباطل لأن الذين قتلوه غير منكر أن يكونوا تعمدوا قتله و إنما طالبوه بأن يخلع نفسه لما ظهر لهم من أحداثه و

يعتزل عن الأمر اعتزالا يتمكنون معه من إقامة غيره فلج و صمم على الامتناع و أقام على أمر واحد فقصد القوم بحصره أن يلجئوه إلى

خلع نفسه فاعتصم بداره و اجتمع إليه نفر من أوباش بني أمية يدفعون عنه و يرمون من دنا إلى الدار فانتهى الأمر إلى القتال بتدريج

ثم إلى القتل و لم يكن القتال و لا القتل مقصودين في الأصل و إنما أفضى الأمر إليهما على ترتيب و جرى ذلك مجرى

[3 : 25 ]

ظالم غلب إنسانا على رحله أو متاعه فالواجب على المغلوب أن يمانعه و يدافعه ليخلص ماله من يده و لا يقصد إلى إتلافه و لا قتله

فإن أفضى الأمر إلى ذلك بلا قصد كان معذورا و إنما خاف القوم في التأني به و الصبر عليه إلى أن يخلع نفسه من كتبه التي طارت في

الآفاق يستنصر عليهم و يستقدم الجيوش إليهم و لم يأمنوا أن يرد بعض من يدفع عنه فيؤدي ذلك إلى الفتنة الكبرى و البلية

العظمى. و أما منع الماء و الطعام فما فعل ذلك إلا تضييقا عليه ليخرج و يحوج إلى الخلع الواجب عليه و قد يستعمل في الشريعة

مثل ذلك فيمن لجأ إلى الحرم من ذوي الجنايات و تعذر إقامة الحد عليه لمكان الحرم على أن أمير المؤمنين ع قد أنكر منع الماء و

الطعام و أنفذ من مكن من حمل ذلك لأنه قد كان في الدار من الحرم و النسوان و الصبيان من لا يحل منعه من الطعام و الشراب و

لو كان حكم المطالبة بالخلع و التجمع عليه و التضافر فيه حكم منع الطعام و الشراب في القبح و المنكر لأنكره أمير المؤمنين ع

و منع منه كما منع من غيره فقد روي عنه ع أنه لما بلغه أن القوم قد منعوا الدار من الماء قال لا أرى ذلك إن في الدار صبيانا و عيالا لا

أرى أن يقتل هؤلاء عطشا بجرم عثمان فصرح بالمعنى الذي ذكرناه و معلوم أن أمير المؤمنين ع ما أنكر المطالبة بالخلع بل كان

مساعدا على ذلك و مشاورا فيه. فأما قوله إن قتل الظالم إنما يحل على سبيل الدفع فقد بينا أنه لا ينكر أن يكون قتله وقع على

ذلك الوجه لأنه في تمسكه بالولاية عليهم و هو لا يستحقها في حكم الظالم لهم فمدافعته واجبة.

[3 : 26 ]

و أما قصة الكتاب الموجود فلم يحكها على الوجه و قد شرحنا نحن الرواية الواردة بها. و أما قوله إنه قال إن كنت أخطأت أو تعمدت

فإني تائب مستغفر فقد أجابه القوم عن هذا و قالوا هكذا قلت في المرة الأولى و خطبت على المنبر بالتوبة و الاستغفار ثم وجدنا

كتابك بما يقتضي الإصرار على أقبح ما عتبنا منه فكيف نثق بتوبتك و استغفارك. فأما قوله إن القتل على وجه الغيلة لا يحل فيمن

يستحق القتل فكيف فيمن لا يستحقه فقد بينا أنه لم يكن على سبيل الغيلة و أنه لا يمتنع أن يكون إنما وقع على سبيل المدافعة.

فأما ادعاؤه أنه منع من نصرته و أقسم على عبيده بترك القتال فقد كان ذلك لعمري في ابتداء الأمر ظنا منه أن الأمر ينصلح و القوم

يرجعون عما هموا به فلما اشتد الأمر و وقع اليأس من الرجوع و النزوع لم يمنع أحدا من نصرته و المحاربة عنه و كيف يمنع من

ذلك و قد بعث إلى أمير المؤمنين ع يستنصره و يستصرخه. و الذي يدل على أنه لم يمنع في الابتداء من محاربتهم إلا للوجه الذي

ذكرناه دون غيره أنه لا خلاف بين أهل الرواية غب عن نصرة الحاضر من يستدعي نصرة الغائب. فأما قوله إن أميفي أن كتبه تفرقت في

الآفاق يستنصر و يستدعي الجيوش فكيف يرر المؤمنين ع أراد أن يأتيه حتى منعه ابنه محمد فقول بعيد مما جاءت به الرواية جدا

لأنه لا إشكال في أن أمير المؤمنين ع لما واجهه عثمان بأنه يتهمه و يستغشه انصرف مغضبا عامدا على أنه لا يأتيه أبدا قائلا فيه ما

يستحقه من الأقوال.

[3 : 27 ]

فأما قوله في جواب سؤال من قال إنهم اعتقدوا فيه أنه من المفسدين في الأرض و أن آية المحاربة تتناوله و أنه قد كان يجب أن

يتولى الإمام ذلك الفعل بنفسه لأن ذلك يجري مجرى الحد فطريف لأن الإمام يتولى ما يجري هذا المجرى إذا كان منصوبا ثابتا و لم

يكن على مذهب القوم هناك إمام يجوز أن يتولى ما يجري مجرى الحدود و متى لم يكن إمام يقوم بالدفع عن الدين و الذب عن الأمة

جاز أن تتولى الأمة ذلك بنفوسها. قال و ما رأيت أعجب من ادعاء مخالفينا أن أصحاب الرسول ص كانوا كارهين لما جرى على عثمان و

أنهم كانوا يعتقدونه منكرا و ظلما و هذا يجري عند من تأمله مجرى دفع الضرورات قبل النظر في الأخبار و سماع ما ورد من شرح هذه

القصة لأنه معلوم أن ما يكرهه جميع الصحابة أو أكثرهم في دار عزهم و بحيث ينفذ أمرهم و نهيهم لا يجوز أن يتم و معلوم أن نفرا

من أهل مصر لا يجوز أن يقدموا المدينة فيغلبوا جميع المسلمين على آرائهم و يفعلوا بإمامهم ما يكرهونه بمرأى منهم و مسمع و

هذا معلوم بطلانه بالبداهة و الضرورات قبل تصفح الأخبار و تأملها و قد روى الواقدي عن ابن أبي الزناد عن أبي جعفر القارئ مولى

بني مخزوم قال كان المصريون الذين حصروا عثمان ستمائة عليهم عبد الرحمن بن عديس البلوي و كنانة بن بشر الكندي و عمرو بن

الحمق الخزاعي و الذين قدموا المدينة من الكوفة مائتين عليهم مالك الأشتر النخعي و الذين قدموا من البصرة مائة رجل رئيسهم

حكيم بن جبلة العبدي و كان أصحاب النبي ص الذين خذلوه لا يرون أن الأمر يبلغ به القتل و لعمري لو قام بعضهم فحثا التراب في

وجوه أولئك لانصرفوا و هذه الرواية تضمنت من عدد القوم الوافدين في هذا الباب أكثر مما تضمنه غيرها. و روى شعبة بن الحجاج

عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال قلت له

[3 : 28 ]

كيف لم يمنع أصحاب رسول الله ص عن عثمان فقال إنما قتله أصحاب رسول الله ص. و روي عن أبي سعيد الخدري أنه سئل عن مقتل

عثمان هل شهده أحد من أصحاب رسول الله ص فقال نعم شهده ثمانمائة. و كيف يقال إن القوم كانوا كارهين و هؤلاء المصريون

كانوا يغدون إلى كل واحد منهم و يروحون و يشاورونه فيما يصنعونه و هذا عبد الرحمن بن عوف و هو عاقد الأمر لعثمان و جالبه

إليه و مصيره في يده يقول على ما رواه الواقدي و قد ذكر له عثمان في مرضه الذي مات فيه عاجلوه قبل أن يتمادى في ملكه فبلغ ذلك

عثمان فبعث إلى بئر كان عبد الرحمن يسقي منها نعمه فمنع منها و وصى عبد الرحمن ألا يصلي عليه عثمان فصلى عليه الزبير أو سعد

بن أبي وقاص و قد كان حلف لما تتابعت أحداث عثمان ألا يكلمه أبدا. و روى الواقدي قال لما توفي أبو ذر بالربذة تذاكر أمير

المؤمنين ع و عبد الرحمن فعل عثمان فقال أمير المؤمنين ع له هذا عملك فقال عبد الرحمن فإذا شئت فخذ سيفك و آخذ سيفي إنه

خالف ما أعطاني. فأما محمد بن مسلمة فإنه أرسل إليه عثمان يقول له عند قدوم المصريين في الدفعة الثانية اردد عني فقال لا و الله

لا أكذب الله في سنة مرتين و إنما عنى بذلك أنه كان أحد من كلم المصريين في الدفعة الأولى و ضمن لهم عن عثمان الرضا. و في

رواية الواقدي أن محمد بن مسلمة كان يموت و عثمان محصور فيقال له عثمان مقتول فيقول هو قتل نفسه.

[3 : 29 ]

فأما كلام أمير المؤمنين ع و طلحة و الزبير و عائشة و جميع الصحابة واحدا واحدا فلو تعاطينا ذكره لطال به الشرح و من أراد أن

يقف على أقوالهم مفصلة و ما صرحوا به من خلعه و الإجلاب عليه فعليه بكتاب الواقدي فقد ذكر هو و غيره من ذلك ما لا زيادة عليه.

الطعن الثاني كونه رد الحكم بن أبي العاص إلى المدينة و قد كان رسول الله ص طرده و امتنع أبو بكر من رده فصار بذلك مخالفا

للسنة و لسيرة من تقدمه مدعيا على رسول الله ص عاملا بدعواه من غير بينة. قال قاضي القضاة رحمه الله و جوابنا عن ذلك أن المروي

في الأخبار أنه لما عوتب في ذلك ذكر أنه استأذن رسول الله ص فيه و إنما لم يقبل أبو بكر و عمر قوله لأنه شاهد واحد و كذلك روي

عنهما فكأنهما جعلا ذلك بمنزلة الحقوق التي تختص فلم يقبلا فيه خبر الواحد و أجرياه مجرى الشهادة فلما صار الأمر إليه حكم

بعلمه لأن للحاكم أن يحكم بعلمه في هذا الباب و في غيره عند شيخينا و لا يفصلان بين حد و حق و لا بين أن يكون العلم قبل

الولاية أو حال الولاية و يقولان إنه أقوى من البينة و الإقرار. و قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى إنه لا وجه يقطع به على كذب

روايته في إذن

[3 : 30 ]

النبي ص في رده و لا بد من تجويز كونه صادقا و في تجويز ذلك كونه معذورا. فإن قيل الحاكم إنما يحكم بعلمه مع زوال التهمة و قد

كانت التهمة في رد الحكم قوية لقرابته. قيل الواجب على غيره ألا يتهمه إذا كان لفعله وجه يصح عليه لأنه قد نصب منصبا يقتضي

زوال التهمة عنه و حمل أفعاله على الصحة و متى طرقنا عليه التهمة أدى إلى بطلان كثير من الأحكام و قد قال الشيخ أبو الحسين

الخياط رحمه الله تعالى إنه لو لم يكن في رده إذن من رسول الله ص لجاز أن يكون طريقه الاجتهاد لأن النفي إذا كان صلاحا في

الحال لا يمتنع أن يتغير حكمه باختلاف الأوقات و تغير حال المنفي و إذا كان لأبي بكر أن يسترد عمر من جيش أسامة للحاجة إليه و

إن كان قد أمر رسول الله ص بنفوذه من حيث تغيرت الحال فغير ممتنع مثله في الحكم. اعترض المرتضى رحمه الله تعالى على هذا

فقال أما دعواه أن عثمان ادعى أن رسول الله ص أذن في رد الحكم فشيء لم يسمع إلا من قاضي القضاة و لا يدرى من أين نقله و لا في

أي كتاب وجده و الذي رواه الناس كلهم خلاف ذلك روى الواقدي من طرق مختلفة و غيره أن الحكم بن أبي العاص لما قدم المدينة

بعد الفتح أخرجه النبي ص إلى الطائف و قال لا تساكني في بلد أبدا فجاءه عثمان فكلمه فأبى ثم كان من أبي بكر مثل ذلك ثم كان من

عمر مثل ذلك فلما قام عثمان أدخله و وصله و أكرمه فمشى في ذلك علي و الزبير و طلحة و سعد و عبد الرحمن بن عوف

[3 : 31 ]

و عمار بن ياسر حتى دخلوا على عثمان فقالوا له إنك قد أدخلت هؤلاء القوم يعنون الحكم و من معه و قد كان النبي ص أخرجهم و إنا

نذكرك الله و الإسلام و معادك فإن لك معادا و منقلبا و قد أبت ذلك الولاة قبلك و لم يطمع أحد أن يكلمها فيهم و هذا شيء نخاف

الله فيه عليك فقال عثمان إن قرابتهم مني ما تعلمون و قد كان رسول الله ص حيث كلمته أطعمني في أن يأذن لهم و إنما أخرجهم

لكلمة بلغته عن الحكم و لم يضركم مكانهم شيئا و في الناس من هو شر منهم فقال علي ع لا أجد شرا منه و لا منهم ثم قال هل تعلم

عمر يقول و الله ليحملن بني أبي معيط على رقاب الناس و الله إن فعل ليقتلنه فقال عثمان ما كان منكم أحد ليكون بينه و بينه من

القرابة ما بيني و بينه و ينال من المقدرة ما نلت إلا قد كان سيدخله و في الناس من هو شر منه قال فغضب علي ع و قال و الله لتأتينا

بشر من هذا إن سلمت و سترى يا عثمان غب ما تفعل ثم خرجوا من عنده. و هذا كما ترى خلاف ما ادعاه صاحب المغني لأن الرجل لما

احتفل ادعى أن رسول الله ص كان أطمعه في رده ثم صرح بأن رعايته فيه القرابة هي الموجبة لرده و مخالفة الرسول ع و قد روي من

طرق مختلفة أن عثمان لما كلم أبا بكر و عمر في رد الحكم أغلظا له و زبراه و قال له عمر يخرجه رسول الله ص و تأمرني أن أدخله و

الله لو أدخلته لم آمن أن يقول قائل غير عهد رسول الله ص و الله لأن أشق باثنتين كما تشق الأبلمة أحب إلى من أن أخالف لرسول

الله أمرا و إياك يا ابن عفان أن تعاودني فيه بعد اليوم و ما رأينا

[3 : 32 ]

عثمان قال في جواب هذا التعنيف و التوبيخ من أبي بكر و عمر إن عندي عهدا من رسول الله ص فيه لا أستحق معه عتابا و لا تهجينا و

كيف تطيب نفس مسلم موقر لرسول الله ص معظم له أن يأتي إلى عدو رسول الله ص مصرح بعداوته و الوقيعة فيه حتى بلغ به الأمر

إلى أن كان يحكى مشيته طرده رسول الله و أبعده و لعنه حتى صار مشهورا بأنه طريد رسول الله ص فيكرمه و يرده إلى حيث أخرج

منه و يصله بالمال العظيم إما من مال المسلمين أو من ماله إن هذا لعظيم كبير قبل التصفح و التأمل و التعلل بالتأويل الباطل. فأما

قول صاحب المغني إن أبا بكر و عمر لم يقبلا قوله لأنه شاهد واحد و جعلا ذلك بمنزلة الحقوق التي تخص فأول ما فيه أنه لم يشهد

عندهما بشيء واحد في باب الحكم على ما رواه جميع الناس ثم ليس هذا من باب الذي يحتاج فيه إلى الشاهدين بل هو بمنزلة كل ما

يقبل فيه أخبار الآحاد و كيف يجوز أن يجري أبو بكر و عمر مجرى الحقوق ما ليس منها و قوله لا بد من تجويز كونه صادقا في روايته

لأن القطع على كذب روايته لا سبيل إليه ليس بشيء لأنا قد بينا أنه لم يرو عن الرسول ص إذنا إنما ادعى أنه أطمعه في ذلك و إذا

جوزنا كونه صادقا في هذه الرواية بل قطعنا على صدقه لم يكن معذورا. فأما قوله الواجب على غيره ألا يتهمه إذا كان لفعله وجه

يصح عليه لانتصابه منصبا يزيل التهمة فأول ما فيه أن الحاكم لا يجوز أن يحكم بعلمه مع التهمة و التهمة قد تكون لها أمارات و

علامات فما وقع منها عن أمارات و أسباب تتهم في العادة كان مؤثرا و ما لم يكن كذلك فلا تأثير له و الحكم هو عم عثمان و قريبه و

نسيبه و من

[3 : 33 ]

قد تكلم في رده مرة بعد أخرى و لوال بعد وال و هذه كلها أسباب التهمة فقد كان يجب أن يتجنب الحكم بعلمه في هذا الباب خاصة

لتطرق التهمة إليه. فأما ما حكاه عن أبي الحسين الخياط من أن الرسول ص لو لم يأذن في رده لجاز أن يرده إذا أداه اجتهاده إلى ذلك

لأن الأحوال قد تتغير فظاهر البطلان لأن الرسول ع إذا حظر شيئا أو أباحه لم يكن لأحد أن يجتهد في إباحة المحظور أو حظر

المباح و من يجوز الاجتهاد في الشريعة لا يقدم على مثل هذا لأنه إنما يجوز عندهم فيما لا نص فيه و لو سوغنا الاجتهاد في مخالفة

ما تناوله النص لم يؤمن أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى تحليل الخمر و إسقاط الصلاة بأن تتغير الحال و هذا هدم للشريعة فأما

الاستشهاد باسترداد عمر من جيش أسامة فالكلام في الأمرين واحد. الطعن الثالث أنه كان يؤثر أهل بيته بالأموال العظيمة التي هي

عدة المسلمين نحو ما روي أنه دفع إلى أربعة أنفس من قريش زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار و أعطى مروان مائة ألف عند فتح

إفريقية و يروى خمس إفريقية و غير ذلك و هذا بخلاف سيرة من تقدمه في القسمة على الناس بقدر الاستحقاق و إيثار الأباعد على

الأقارب. قال قاضي القضاة و جوابنا عن ذلك أن من الظاهر المشهور أن عثمان كان عظيم اليسار كثير المال فلا يمتنع أن يكون إنما

أعطى أهل بيته من ماله و إذا احتمل ذلك وجب حمله على الصحة. و قد قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى أن الذي روي من دفعه

إلى ثلاثة نفر من قريش زوجهم بناته إلى كل واحد منهم مائة ألف دينار إنما هو من ماله و لا رواية

[3 : 34 ]

تصح أنه أعطاهم ذلك من بيت المال و لو صح ذلك لكان لا يمتنع أن يكون أعطاهم من بيت المال ليرد عوضه من ماله لأن للإمام عند

الحاجة أن يفعل ذلك كما له أن يقرض غيره. و قال شيخنا أبو علي أيضا أن ما روي من دفعه خمس إفريقية لما فتحت إلى مروان ليس

بمحفوظ و لا منقول على وجه يجب قبوله و إنما يرويه من يقصد التشنيع و قد قال الشيخ أبو الحسين الخياط أن ابن أبي سرح لما

غزا البحر و معه مروان في الجيش ففتح الله عليهم و غنموا غنيمة عظيمة اشترى مروان من ابن أبي سرح الخمس بمائة ألف و أعطاه

أكثرها ثم قدم على عثمان بشيرا بالفتح و قد كانت قلوب المسلمين تعلقت بأمر ذلك الجيش فرأى عثمان أن يهب له ما بقي عليه من

المال و للإمام فعل مثل ذلك ترغيبا في مثل هذه الأمور. قال و هذا الصنع كان منه في السنة الأولى من إمامته و لم يبرأ أحد منه فيها

فلا وجه للتعلق بذلك. و ذكر أبو الحسين الخياط أيضا فيما أعطاه أقاربه أنه وصلهم لحاجتهم فلا يمتنع مثله في الإمام إذا رآه صلاحا

و ذكر في إقطاعه القطائع لبني أمية أن الأئمة قد تحصل في أيديهم الضياع لا مالك لها و يعلمون أنها لا بد فيها ممن يقوم بإصلاحها

و عمارتها و يؤدى عنها ما يجب من الحق فله أن يصرف من ذلك إلى من يقوم به و له أيضا أن يهد بعضها على بعض بحسب ما يعلم من

الصلاح و التألف و طريق ذلك الاجتهاد. اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال أما قوله يجوز أن يكون إنما أعطاهم من

ماله فالرواية بخلاف ذلك و قد صرح الرجل بأنه كان يعطي من بيت المال

[3 : 35 ]

صلة لرحمه و لما عوتب على ذلك لم يعتذر عنه بهذا الضرب من العذر و لا قال إن هذه العطايا من مالي فلا اعتراض لأحد فيها روى

الواقدي بإسناده عن المسور بن عتبة قال سمعت عثمان يقول إن أبا بكر و عمر كانا يتأولان في هذا المال ظلف أنفسهما و ذوي

أرحامهما و إني تأولت فيه صلة رحمي. و روي عنه أيضا أنه كان بحضرته زياد بن عبيد مولى الحارث بن كلدة الثقفي و قد بعث إليه أبو

موسى بمال عظيم من البصرة فجعل عثمان يقسمه بين ولده و أهله بالصحاف فبكى زياد فقال لا تبك فإن عمر كان يمنع أهله و ذوي

قرابته ابتغاء وجه الله و أنا أعطي أهلي و ولدي و قرابتي ابتغاء وجه الله. و قد روي هذا المعنى عنه من عدة طرق بألفاظ مختلفة. و

روى الواقدي أيضا بإسناده قال قدمت إبل من إبل الصدقة على عثمان فوهبها للحارث بن الحكم بن أبي العاص و روى أيضا أنه ولى

الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة فبلغت ثلاثمائة ألف فوهبها له حين أتاه بها و روى أبو مخنف و الواقدي أن الناس أنكروا على

عثمان إعطاء سعيد بن العاص مائة ألف و كلمه علي و الزبير و طلحة و سعد و عبد الرحمن في ذلك فقال إن له قرابة و رحما قالوا فما

كان لأبي بكر و عمر قرابة و ذوو رحم فقال إن أبا بكر و عمر كان يحتسبان في منع قرابتهما و أنا أحتسب في إعطاء قرابتي قالوا

فهديهما و الله أحب إلينا من هديك. و روى أبو مخنف أن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية قدم على عثمان من مكة و

معه ناس فأمر لعبد الله بثلاثمائة ألف و لكل واحد من القوم بمائة ألف

[3 : 36 ]

و صك بذلك على عبد الله بن الأرقم و كان خازن بيت المال فاستكثره و رد الصك به و يقال إنه سأل عثمان أن يكتب عليه بذلك كتابا

فأبى و امتنع ابن الأرقم أن يدفع المال إلى القوم فقال له عثمان إنما أنت خازن لنا فما حملك على ما فعلت فقال ابن الأرقم كنت

أراني خازن المسلمين و إنما خازنك غلامك و الله لا إلي لك بيت المال أبدا و جاء بالمفاتيح فعلقها على المنبر و يقال بل ألقاها إلى

عثمان فرفعها إلى نائل مولاه. و روى الواقدي أن عثمان أمر زيد بن ثابت أن يحمل من بيت مال المسلمين إلى عبد الله بن الأرقم في

عقيب هذا الفعل ثلاثمائة ألف درهم فلما دخل بها عليه قال له يا أبا محمد إن أمير المؤمنين أرسل إليك يقول إنا قد شغلناك عن

التجارة و لك ذوو رحم أهل حاجة ففرق هذا المال فيهم و استعن به على عيالك فقال عبد الله بن الأرقم ما لي إليه حاجة و ما عملت

لأن يثيبني عثمان و الله إن كان هذا من بيت مال المسلمين ما بلغ قدر عملي أن أعطى ثلاثمائة ألف و لئن كان من مال عثمان ما أحب

أن أرزأه من ماله شيئا و ما في هذه الأمور أوضح من أن يشار إليه و ينبه عليه. فأما قوله و لو صح أنه أعطاهم من بيت المال لجاز أن

يكون ذلك على طريق القرض فليس بشيء لأن الروايات أولا تخالف ما ذكره و قد كان يجب لما نقم عليه وجوه الصحابة إعطاء أقاربه

من بيت المال أن يقول لهم هذا على سبيل القرض و أنا أرد عوضه و لا يقول ما تقدم ذكره من أنني أصل به رحمي على أنه ليس للإمام

أن يقترض من بيت مال المسلمين إلا ما ينصرف في مصلحة لهم مهمة يعود عليهم نفعها أو في سد خلة و فاقة لا يتمكنون من القيام

بالأمر معها فأما أن يقرض المال ليتسع به

[3 : 37 ]

و يمرح فيه مترفي بني أمية و فساقهم فلا أحد يجيز ذلك. فأما قوله حاكيا عن أبي علي إن دفعه خمس إفريقية إلى مروان ليس

بمحفوظ و لا منقول فباطل لأن العلم بذلك يجري مجرى العلم بسائر ما تقدم و من قرأ الأخبار علم ذلك على وجه لا يعترض فيه شك

كما يعلم نظائره. روى الواقدي عن أسامة بن زيد عن نافع مولى الزبير عن عبد الله بن الزبير قال أغزانا عثمان سنة سبع و عشرين

إفريقية فأصاب عبد الله بن سعد بن أبي سرح غنائم جليلة فاعطى عثمان مروان بن الحكم تلك الغنائم و هذا كما ترى يتضمن الزيادة

على إعطاء الخمس و يتجاوزه إلى إعطاء الأصل. و روى الواقدي عن عبد الله بن جعفر عن أم بكر بنت المسور قالت لما بنى مروان

داره بالمدينة دعا الناس إلى طعامه و كان المسور ممن دعاه فقال مروان و هو يحدثهم و الله ما أنفقت في داري هذه من مال المسلمين

درهما فما فوقه فقال المسور لو أكلت طعامك و سكت كان خيرا لك لقد غزوت معنا إفريقية و إنك لأقلنا مالا و رقيقا و أعوانا و أخفنا

ثقلا فأعطاك ابن عمك خمس إفريقية و عملت على الصدقات فأخذت أموال المسلمين. و روى الكلبي عن أبيه عن أبي مخنف أن مروان

ابتاع خمس إفريقية بمائتي ألف درهم و مائتي ألف دينار و كلم عثمان فوهبها له فأنكر الناس ذلك على عثمان و هذا بعينه هو الذي

اعترف به أبو الحسين الخياط و اعتذر عنه بأن قلوب المسلمين تعلقت بأمر ذلك الجيش فرأى عثمان أن يهب لمروان ثمن ما ابتاعه

من الخمس لما جاءه بشيرا بالفتح على سبيل الترغيب و هذا الاعتذار ليس بشيء لأن الذي رويناه من الأخبار في هذا الباب خال من

البشارة و إنما يقتضي أنه سأله ترك ذلك عليه فتركه و ابتدأ هو بصلته و لو أتى بشيرا بالفتح كما ادعوا لما جاز أن يترك عليه خمس الغنيمة العائد نفعه على المسلمين

السابق

التالي