بعدی 
مجمع البيان ج : 6 ص : 628
قال : اطلبوا الآخرة فما رأيت طالبا لها إلا نالها و ربما نال الدنيا و ما رأيت طالب دنيا نال الآخرة و ربما لا ينال الدنيا أيضا « كلا نمد هؤلاء و هؤلاء » أي كل واحد من هذين الفريقين ممن يريد الدنيا و ممن يريد الآخرة نمدهم أي نزيدهم و قيل كلا نعطي من الدنيا البر و الفاجر عن الحسن و المعنى أنا نعطي المؤمن و الكافر في الدنيا و أما الآخرة فللمتقين خاصة « من عطاء ربك » أي نعمة ربك و رزقه « و ما كان عطاء ربك محظورا » معناه و ما كان رزق ربك محبوسا عن الكافر لكفره و لا عن الفاسق لفسقه سؤال فإن قيل هل يجوز أن يريد المكلف بعمله العاجل و الآجل و الجواب نعم إذا جعل العاجل تبعا للآجل كالمجاهد في سبيل الله يقاتل لإعزاز الدين و يجعل الغنيمة تبعا « أنظر » يا محمد « كيف فضلنا بعضهم على بعض » بأن جعلنا بعضهم أغنياء و بعضهم فقراء و بعضهم موالي و بعضهم عبيدا و بعضهم أصحاء و بعضهم مرضى على حسب ما علمناه من المصالح « و للآخرة أكبر درجات و أكبر تفضيلا » أي درجاتها و مراتبها أعلى و أفضل و هي مستحقة على قدر الأعمال فينبغي أن تكون رغبتهم في الآخرة و سعيهم لها أكثر قد روي أن ما بين أعلى درجات الجنة و أسفلها ما بين السماء و الأرض و في الآية دلالة على أن الطاعة لا تزيد في رزق الدنيا و إنما تزيد في درجات الآخرة « لا تجعل مع الله إلها آخر » قيل أن الخطاب للنبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و المراد به أمته و قيل معناه لا تجعل أيها السامع أو أيها الإنسان مع الله إلها آخر في اعتقادك و إقرارك و لا في عبادتك و لا في رغبتك و رهبتك « فتقعد مذموما مخذولا » معناه فإنك إن فعلت ذلك قعدت و بقيت ما عشت مذموما على لسان العقلاء مخذولا و لا ناصر لك يمنع الله نصرته عنك و يكلك إلى ما أشركت به و قيل معنى القعود الذل و الخزي و الخسران و العجز لا الجلوس كما يقال قعد به الضعف عن القتال أي عجز عنه .

النظم
وجه اتصال الآية الأولى بما قبلها أنها اتصلت بقوله « حتى نبعث رسولا » و المعنى أنه لا يعذب إلا بعد إرسال الرسل و تقديم الأمر و النهي و إتمام النعمة في الإنذار و الأعذار و ظهور العصيان من الكفار و الفجار و قيل إنها تتصل بما تقدم من قصة بني إسرائيل و ما فعل بهم في الكرة الأولى و الثانية فبين سبحانه أن ما فعله موافق لعادته فيمن يريد إهلاكه فإنما يهلك القرى إذا أمر مترفيها بالطاعة ففسقوا فيكون إهلاكهم بالاستحقاق لا على الابتداء .

مجمع البيان ج : 6 ص : 629
* وَ قَضى رَبُّك أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَ بِالْوَلِدَيْنِ إِحْسناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَك الْكبرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُل لهَُّمَا أُف وَ لا تَنهَرْهُمَا وَ قُل لَّهُمَا قَوْلاً كرِيماً(23) وَ اخْفِض لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُل رَّب ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانى صغِيراً(24) رَّبُّكمْ أَعْلَمُ بِمَا فى نُفُوسِكمْ إِن تَكُونُوا صلِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلأَوَّبِينَ غَفُوراً(25)
القراءة
يبلغان بالألف و كسر النون كوفي غير عاصم و الباقون « يبلغن » أف بفتح الفاء هاهنا و في الأنبياء و الأحقاف مكي شامي و يعقوب و سهل و « أف » بالكسر و التنوين في الجميع مدني و حفص و الباقون أف بالكسر غير منون و في الشواذ قراءة أبي السماك أف مضمومة غير منونة و قرأ ابن عباس أف خفيفة و جناح الذل بكسر الذال .

الحجة
قال أبو علي قوله : « إما يبلغن » يرتفع أحدهما به و قوله « كلاهما » معطوف عليه و الذكر الذي عاد من قوله « أحدهما » يغني عن إثبات علامة الضمير في يبلغان فلا وجه لقول من قال : إن الوجه إثبات الألف لتقدم ذكر الوالدين عنى به الفراء و إنما الوجه في ذلك أنه على الشيء الذي يذكر على وجه التوكيد و لو لم يذكر لم يقع بترك ذكره إخلال نحو قوله « أموات غير أحياء » فقوله غير أحياء توكيد لأن قوله أموات يدل عليه فيكون الألف مجردة لمعنى التثنية و لا حظ للاسمية فيها و يرتفع « أحدهما أو كلاهما » بالفعل و قال الزجاج يكون « أحدهما أو كلاهما » بدلا من الألف في يبلغان قال أبو علي من قرأ أف بالفتح فإنه بناه على الفتح كقولهم سرعان ذا إهالة و هو اسم لسرع و مثله و شكان قال :
لو شكان ما عنيتم و شمتم
بإخوانكم و العز لم يتجمع و كذلك أف اسم لأتضجر و أتكره و نحو ذلك من قرأ « أف » فإنه بدخول التنوين يدل على التنكير مثله مه و صه و مثله قولهم فداء لك بنوه على الكسر و إن كان في الأصل مصدرا كما كان أف في الأصل مصدرا من قولهم أفة و تفة يراد بها نتنا و دفرا و من قرأ أف و لم ينون جعله معرفة فلم ينون كما أن من قال صه و غاق فلم ينون أراد به المعرفة فإن قلت ما موضع
مجمع البيان ج : 6 ص : 630
أف في هذه اللغات بعد القول هل يكون موضعه نصبا كما ينتصب المفرد بعده أو يكون كما تكون الجمل فالقول أن موضعه موضع الجمل كما أنك لو قلت رويد لكان موضعه موضع الجمل قال الزجاج : في أف سبع لغات أف بالضم منونا و غير منون و أف و أفا و أوفي ممالة و زاد ابن الأنباري أف خفيفة مفتوحة قال أبو الحسن : و قول الذين قالوا « أف » أكثر و أجود و لو قلت أف لك و أفا لك لاحتمل وجهين ( أحدهما ) أن يكون الذي صار اسما للفعل لحقه التنوين علامة للتنكير ( و الآخر ) أن يكون نصبا معربا و كذا الضم فإن لم يكن معه لك كان ضعيفا أ لا ترى أنك لا تقول ويل و لو قلته لم يستقم حتى يوصل به لك فيكون في موضع الخبر و الذل ضد الصعوبة و الذل ضد العز و الأول في الدابة و الثاني في الإنسان .

الإعراب
قوله « و بالوالدين إحسانا » العامل في الباء قضى و التقدير و قضى بالوالدين إحسانا و يجوز أن يكون على تقدير و أوصى بالوالدين إحسانا و حذف لدلالة الكلام عليه قال الشاعر :
عجبت من دهماء إذ تشكونا
و من أبي دهماء إذ يوصينا
خيرا بها كأننا خافونا فأعمل يوصينا في الخير « كما ربياني » أي كرحمة تربيتهما يعني رحمة تحدث عند التربية كما تقول ضرر التلف و قيل الكاف بمعنى على ارحمهما على ما ربياني عن الأخفش و كذا قال في قوله كما أمرت « أن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين » منكم فحذف و يجوز أن يكون على كان لكم فوضع الظاهر موضع المضمر لأنهم الصالحون .

المعنى
لما تقدم النهي عن الشرك و المعاصي عقب سبحانه بالأمر بالتوحيد و الطاعات فقال سبحانه « و قضى ربك » أي أمر ربك أمرا باتا عن ابن عباس و الحسن و قتادة و قيل ألزم و أوجبه ربك عن الربيع بن أنس و قيل أوصى عن مجاهد « ألا تعبدوا إلا إياه » معناه أن تعبدوه و لا تعبدوا غيره فإن قيل إن الأمر لا يكون أمرا بأن لا يكون الشيء لأن الأمر يقتضي إرادة المأمور به و الإرادة لا تتعلق بأن لا يكون الشيء و إنما تتعلق بحدوث الشيء فالجواب أن المعنى أراد منكم عبادته على وجه الإخلاص و كره منكم عبادة غيره و عبر عن ذلك بقوله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه « و بالوالدين إحسانا » أي و قضى بالوالدين إحسانا أو
مجمع البيان ج : 6 ص : 631
أوصى بالوالدين إحسانا و معناهما واحد لأن الوصية أمر « إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما » يعني به الكبر في السن و المعنى إن عاشا عندك أيها الإنسان المخاطب حتى يكبرا أو عاش أحدهما حتى يكبر يريد أن بلغا في السن مبلغا يصيران بمنزلة الطفل الذي يحتاج إلى متعهد و خص حال الكبر و إن كان من الواجب طاعة الوالدين على كل حال لأن الحاجة أكثر في تلك الحال إلى التعهد و الخدمة و هذا مثل قوله « و يكلم الناس في المهد و كهلا » مع أن الناس كلهم يتكلمون في حال الكهولة و الوجه فيه أنه سبحانه أخبر أن عيسى يكلم الناس في المهد و أنه يعيش حتى يكهل و يتكلم بعد الكهولة و نحو ذلك قوله و الأمر يومئذ لله و إنما خص ذلك اليوم لأنه لا يملك فيه أحد سواه و قيل إن الكبر في الآية راجع إلى المخاطب أي إن بلغت حال الكبر و هو حال التكليف و قد بقي معك أبواك أو أحدهما « فلا تقل لهما أف » و روي عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جده أبي عبد الله (عليه السلام) قال لو علم الله لفظة أوجز في ترك عقوق الوالدين من أف لأتى به و في رواية أخرى عنه قال أدنى العقوق أف و لو علم الله شيئا أيسر منه و أهون منه لنهى عنه و في خبر آخر فليعمل العاق ما يشاء أن يعمل فلن يدخل الجنة فالمعنى لا تؤذيهما بقليل و لا كثير قال مجاهد : معناه أن بلغا عندك من الكبر ما يبولان و يحدثان فلا تتقذرهما و أمط عنهما كما كانا يميطان عنك في حال الصغر و المتبرم يكثر قول أف و هي كلمة تدل على الضجر و قيل إن الأف و التف وسخ الأصابع إذا فتلته عن أبي عبيدة و قيل هي كلمة كراهة عن ابن عباس و قيل معناه النتن و جاء في المثل أبر من النسر قالوا لأن النسر إذا كبر و لم ينهض الطيران جاء الفرخ فزقه كما كان أبواه يزقانه « و لا تنهرهما » أي لا تزجرهما بإغلاظ و صياح و قيل معناه لا تمتنع من شيء أراده منك كما قال و أما السائل فلا تنهر « و قل لهما قولا كريما » أي و خاطبهما بقول رقيق لطيف حسن جميل بعيد عن اللغو و القبيح يكون فيه كرامة لهما و يدل على كرامة المقول له على القائل و قيل معناه قل لهما قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ عن سعيد بن المسيب « و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة » أي و بالغ في التواضع و الخضوع لهما قولا و فعلا برا بهما و شفقة عليهما و المراد بالذل هاهنا اللين و التواضع دون الهوان من خفض الطائر جناحه إذا ضم فرخه إليه فكأنه سبحانه قال ضم أبويك إلى نفسك كما كانا يفعلان ربك و أنت صغير و إذا وصفت العرب إنسانا بالسهولة و ترك الآباء قالوا هو خافض الجناح و قال أبو عبد الله (عليه السلام) معناه لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلا برأفة و رحمة و لا ترفع صوتك فوق أصواتهما و لا يديك فوق أيديهما و لا تتقدم قدامهما « و قل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا » معناه ادع لهما بالمغفرة و الرحمة في حياتهما و بعد مماتهما جزاء لتربيتهما إياك في صباك و هذا إذا كانا
مجمع البيان ج : 6 ص : 632
مؤمنين و في هذا دلالة على أن دعاء الولد لوالده الميت مسموع و إلا لم يكن للأمر به معنى و قيل إن الله تعالى أوصى الأبناء بالوالدين لقصور شفقتهم و لم يوص الوالدين بالأبناء لوفور شفقتهم و ذكر حال الكبر لأنهما أحوج في تلك الحال إلى البر لضعفهما و كونهما كلا على الولد ففي الحديث أن النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) قال رغم أنفه رغم أنفه رغم أنفه قالوا من يا رسول الله قال من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما و لم يدخل الجنة أورده مسلم في الصحيح و روى أبو أسيد الأنصاري قال بينما نحن عند رسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما قال نعم الصلاة عليهما و الاستغفار لهما و إنفاذ عهدهما من بعدهما و إكرام صديقهما و صلة الرحم التي لا توصل إلا بهما قال قتادة هكذا علمتم و بهذا أمرتم فخذوه بتعليم الله و أدبه « ربكم أعلم » أي أكثر معلوما و قيل أثبت علما فإنه سبحانه أعلم بأن الجسم حادث من الإنسان العالم بذلك « بما في نفوسكم » أي بما تضمرون من البر و العقوق فمن ندرت منه نادرة و هو لا يضمر عقوقا غفر الله له ذلك و قيل معناه أنه أعلم بجميع ما في ضمائركم و هذا أوجه « إن تكونوا صالحين » أي طائعين لله « فإنه كان للأوابين غفورا » و الأواب التواب المتعبد الراجع عن ذنبه عن مجاهد و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) و قيل إن الأولين المطيعون المحسنون عن قتادة و قيل إنهم الذين يذنبون ثم يتوبون ثم يذنبون ثم يتوبون عن سعيد بن المسيب و قيل هم الراجعون إلى الله فيما ينوبهم عن ابن عباس و قيل هم المسبحون عن ابن عباس في رواية أخرى و يعضده قوله « يا جبال أوبي معه » و قيل إنهم الذين يصلون بين المغرب و العشاء روي ذلك مرفوعا و روى هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال صلاة أربع ركعات يقرأ في كل ركعة خمسين مرة « قل هو الله أحد » هي صلاة الأوابين .

مجمع البيان ج : 6 ص : 633
وَ ءَاتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسكِينَ وَ ابْنَ السبِيلِ وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً(26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوَنَ الشيَطِينِ وَ كانَ الشيْطنُ لِرَبِّهِ كَفُوراً(27) وَ إِمَّا تُعْرِضنَّ عَنهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَة مِّن رَّبِّك تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسوراً(28) وَ لا تجْعَلْ يَدَك مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِك وَ لا تَبْسطهَا كلَّ الْبَسطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً محْسوراً(29) إِنَّ رَبَّك يَبْسط الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيراً(30)
اللغة
التبذير التفريق بالإسراف و أصله أن يفرق كما يفرق البذر إلا أنه يختص بما يكون على سبيل الإفساد و ما كان على وجه الإصلاح لا يسمى تبذيرا و إن كثر قال النابغة :
ترائب يستضيء الحلي فيها
كجمر النار بذر بالظلام و الإعراض صرف الوجه عن الشيء و قد يكون عن قلى و قد يكون للاشتغال بما هو الأولى و قد يكون للإذلال كما قال و أعرض عن الجاهلين و أصل الحسر الكشف من قولهم حسر عن ذراعه يحسر حسرا إذا كشف عنه و الحسرة الغم لانحسار ما فأت و دابة حسير إذا كلت لشدة السير لانحسار قوتها بالكلال و منه قوله ينقلب إليك البصر خاسئا و هو حسير و المحسور المنقطع به لذهاب ما في يده و انحساره عنه قال الهذلي :
إن العسير بها داء مخامرها
فشطرها نظر العينين محسور و يقال حسرت الرجل بالمسالة إذا أفنيت جميع ما عنده .

الإعراب
« و إما تعرضن » تقديره و إن تعرض و ما مزيدة و ابتغاء مفعول له و قيل هو مصدر وضع موضع الحال أي مبتغيا رحمة من ربك ترجوها أي راجيا إياها و ترجوها جملة في موضع الجر بكونها صفة لرحمة و يجوز أن يكون في موضع النصب على الحال من الضمير في تعرضن .

المعنى
ثم حث سبحانه نبيه (صلى الله عليهوآلهوسلّم) على إيتاء الحقوق لمن يستحقها على كيفية الإنفاق فقال « و آت ذا القربى حقه » معناه و أعط القرابات حقوقهم التي أوجبها الله لهم في أموالكم عن ابن عباس و الحسن و قيل إن المراد قرابة الرسول عن السدي قال إن علي بن الحسين (عليهماالسلام) قال لرجل من أهل الشام حين بعث به (عليه السلام) عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية أ قرأت القرآن قال نعم قال أ ما قرأت « و آت ذا القربى حقه » قال و إنكم ذو القربى الذي أمر الله أن يؤتى حقه قال نعم و هو الذي رواه أصحابنا عن الصادقين (عليهماالسلام) و أخبرنا السيد أبو
مجمع البيان ج : 6 ص : 634
الحمد مهدي بن نزار الحسيني قراءة قال حدثنا أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله الحسكاني قال حدثنا الحاكم الواحد أبو محمد قال حدثنا ] عبد الله [ عمر بن أحمد بن عثمان ببغداد شفاها قال أخبرني عمر بن الحسن بن علي بن مالك قال حدثنا جعفر بن محمد الأحمسي قال حدثنا حسن بن حسين قال حدثنا أبو معمر سعيد بن خثيم و علي بن القاسم الكندي و يحيى بن يعلى و علي بن مسهر عن فضل بن مرزوق عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال لما نزل قوله « و آت ذا القربى حقه » أعطى رسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) فاطمة فدكا قال عبد الرحمن بن صالح كتب المأمون إلى عبد الله بن موسى يسأله عن قصة فدك فكتب إليه عبد الله بهذا الحديث رواه الفضيل بن مرزوق عن عطية فرد المأمون فدكا إلى ولد فاطمة (عليهاالسلام) « و المسكين و ابن السبيل » معناه و آت المسكين حقه الذي جعله الله له من الزكاة و غيرها و آت المجتاز المنقطع عن بلاده حقه أيضا « و لا تبذر تبذيرا » قيل إن المبذر الذي ينفق المال في غير حقه عن ابن عباس و ابن مسعود و قال مجاهد لو أنفق مدا في باطل كان مبذرا و لو أنفق جميع ماله في الحق لم يكن مبذرا و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لعناية كن زاملة للمؤمنين و إن خير المطايا أمثلها و أسلمها ظهرا و لا تكن من المبذرين « إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين » معناه إن المسرفين أتباع الشياطين سالكون طريقهم و هذا كما يقال لمن لازم السفر هو أخو السفر و قيل معناه أنهم قرناء الشياطين في النار « و كان الشيطان لربه كفورا » أي كان الشيطان في قديم مذهبه كثير الكفر مرة بعد أخرى « و إما تعرضن عنهم » أي و إن تعرض عن هؤلاء الذين أمرتك بإيتاء حقوقهم عند مسألتهم إياك لأنك لا تجد ذلك حياء منهم « ابتغاء رحمة من ربك ترجوها » أي لتبتغي الفضل من الله و السعة التي يمكنك معها البذل بأمل تلك السعة و ذلك الفضل « فقل لهم قولا ميسورا » أي عدهم عدة حسنة و قل لهم قولا سهلا لينا يتيسر عليك و روي أن النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) كان لما نزلت هذه الآية إذا سئل و لم يكن عنده ما يعطي قال يرزقنا الله و إياكم من فضله « و لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك » أي لا تكن ممن لا يعطي شيئا و لا يهب فتكون بمنزلة من يده مغلولة إلى عنقه لا يقدر على الإعطاء و البذل و هذا مبالغة في النهي عن الشح و الإمساك « و لا تبسطها كل البسط » أي و لا تعط أيضا جميع ما عندك فتكون بمنزلة من بسط يده حتى لا يستقر فيها شيء و هذا كناية عن الإسراف « فتقعد ملوما » تلوم نفسك
مجمع البيان ج : 6 ص : 635
و تلام « محسورا » منقطعا به و ليس عندك شيء عن السدي و ابن عباس و قيل عاجزا نادما عن قتادة و قيل محسورا من الثياب و المحسور العريان عن أبي عبد الله (عليه السلام) و قيل معناه إن أمسكت قعدت ملوما مذموما و إن أسرفت بقيت متحسرا مغموما عن الجبائي و قال الكلبي لا تعط ما عندك جميعا فيجيء الآخرون يسألونك فلا تجد ما تعطيهم فيلومونك و روي أن امرأة بعثت ابنها إلى رسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و قالت قل له إن أمي تستكسيك درعا فإن قال حتى يأتينا شيء فقل له إنها تستكسيك قميصك فأتاه فقال ما قالت له فنزع قميصه فدفعه إليه فنزلت الآية و يقال إنه (عليه السلام) بقي في البيت إذ لم يجد شيئا يلبسه و لم يمكنه الخروج إلى الصلاة فلامه الكفار و قالوا إن محمدا اشتغل بالنوم و اللهو عن الصلاة « إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر » أي يوسع مرة و يضيق مرة بحسب المصلحة مع سعة خزائنه « إنه كان بعباده خبيرا بصيرا » أي عالما بأحوالهم بصيرا بمصالحهم فيبسط على واحد و يضيق على آخر يدبرهم على ما يراه من الصلاح .

النظم
و إنما اتصلت هذه الآية الأخيرة بما قبلها من حيث إن فيها حثا على الإعطاء اعتمادا على الله تعالى و نهيا عن البخل و حتما على القصد إذ هو سبحانه مع غناه و كمال قدرته يوسع مرة و يضيق مرة أخرى مراعاة للمصلحة فمن هو دونه أولى أن يراعي الصلاح و يملك طريق القصد .

مجمع البيان ج : 6 ص : 636
وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلَدَكُمْ خَشيَةَ إِمْلَق نحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطئاً كَبِيراً(31) وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فَحِشةً وَ ساءَ سبِيلاً(32) وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْس الَّتى حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَ مَن قُتِلَ مَظلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سلْطناً فَلا يُسرِف فى الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنصوراً(33) وَ لا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتى هِىَ أَحْسنُ حَتى يَبْلُغَ أَشدَّهُ وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسئُولاً(34) وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسطاسِ الْمُستَقِيمِ ذَلِك خَيرٌ وَ أَحْسنُ تَأْوِيلاً(35)
القراءة
قرأ أبو جعفر و ابن عامر برواية ابن ذكوان كان خطأ بفتح الخاء و الطاء من غير ألف بعدها و قرأ ابن كثير خطاء بكسر الخاء و ممدودا و الباقون « خطأ » بكسر الخاء من غير مد و في الشواذ قراءة الزهري و أبي رجاء خطأ بكسر الخاء غير ممدود و قراءة الحسن خطاء بالمد و في رواية أخرى عنه خطأ بفتح الخاء و الطاء خفيفة و قرأ أهل الكوفة غير عاصم فلا تسرف بالتاء و الباقون بالياء و قرأ أهل الكوفة غير أبي بكر « القسطاس » بكسر القاف و الباقون بضمها .

الحجة
الخطأ ما لم يتعمد و كان المأثم فيه موضوعا عن صاحبه قال أبو علي : قالوا أخطأ في معنى خطىء كما أن خطىء في معنى أخطأ في مثل قوله :
عبادك يخطئون و أنت رب
كريم لا يليق بك الذموم فمجرى الكلام أنهم خاطئون و في التنزيل لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا و المؤاخذة عن المخطىء موضوع فهذا يدل على أن أخطأنا في معنى خطئنا و كما جاء أخطأ في معنى خطىء كذلك جاء خطىء في معنى الخطإ في قوله :
يا لهف هند إذ خطئن كاهلا و في قول الآخر :
و الناس يلحون الأمير إذا هم
خطئوا الصواب و لا يلام المرشد فكذلك قراءة ابن عامر خطأ في معنى أخطأ كما جاء خطىء بمعنى أخطأ و يجوز أن يكون الخطأ بمعنى الخطء أيضا كالمثل و المثل و الشبه و الشبه و البدل و البدل و أما قراءة ابن كثير خطاء فإنه يجوز أيضا أن يكون مصدر خاطا و إن لم يسمع خاطا و لكن جاء ما يدل عليه و هو قوله :
تخاطأت النبل أحشاءه قال : و أنشدنا محمد ابن السري في وصف كمأة :
و أشعث قد ناولته أحرش القرى
أدرت عليه المدجنات الهواضب
تخاطأه القناص حتى وجدته
و خرطومه في منقع الماء راسب
مجمع البيان ج : 6 ص : 637
تخاطأ يدل على خاطا لأن تفاعل مطاوع فعل كما أن تفعل مطاوع فعل و وجه من قرأ خطأ بين فإنه يقال خطىء يخطأ خطأ إذا تعمد الشيء و الفاعل منه خاطىء و قد جاء الوعيد فيه في قوله تعالى لا يأكله إلا الخاطئون و أما خطاء فهو اسم بمعنى المصدر و من أخطأت كالعطاء من أعطيت و قال ابن جني : يقال خطىء يخطأ خطأة و خطأ في الدين و إخطاء الغرض و نحوه و قد يتداخلان و أما خطأ و خط فتخفيف خطاء و خطاء قال أبو علي : و أما قوله « فلا يسرف » بالياء فإن فاعل يسرف يجوز أن يكون على وجهين ( أحدهما ) أن يكون القاتل الأول فيكون تقديره فلا يسرف القاتل في القتل و يكون مضمرا و إن لم يجر له ذكر لأن الحال تدل عليه فإن قلت كيف يكون في القتل قصد بين شيئين حتى ينهى عن الإسراف فيه الذي هو ترك القصد ( فالجواب ) أنه لا يمتنع أن يكون فيه الإسراف كما جاء في أموال اليتامى و لا تأكلوها إسرافا و لم يجز أن يؤكل منه لا على الاقتصاد و لا على غيره لقوله « إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما » الآية فكذلك لا يمتنع أن يقال للقاتل الأول لا يسرف في القتل لأنه بقتله يكون مسرفا و يكون الضمير على هذا في قوله « إنه كان منصورا » لقوله « و من قتل مظلوما » تقديره فلا يسرف القاتل المبتدىء بقتله في القتل لأن من قتل مظلوما كان منصورا بأن يقتص له وليه أو السلطان أن لم يكن له ولي غيره فيكون هذا ردعا للقاتل عن القتل كما أن قوله و لكم في القصاص حياة كذلك فالولي إذا اقتص فإنما يقتص للمقتول و منه انتقل إلى الولي بدلالة أن المقتول لو أبرىء من السبب المؤدي إلى القتل لم يكن للولي أن يقتص و لو صالح الولي من العمد على مال كان للمقتول أن يؤدي منه دينه و لا يمتنع أن يقال في المقتول منصور لأنه قد جاء و نصرناه من القوم الذين كذبوا ب آياتنا ( و الآخر ) أن يكون في يسرف ضمير الولي أي فلا يسرف الولي في القتل و إسرافه فيه أن يقتل غير الذي قتل أو يقتل أكثر من قاتل وليه و كان مشركو العرب يفعلون ذلك و التقدير فلا يسرف الولي في القتل إذ الولي كان منصورا بقتل قاتل وليه و الاقتصاص من القاتل و من قرأ فلا تسرف بالتاء احتمل وجهين أيضا ( أحدهما ) أن يكون المبتدىء القاتل ظلما فقيل له لا تسرف أيها الإنسان فتقتل ظلما من ليس لك قتله أن من قتل مظلوما كان منصورا بأخذ القصاص له ( و الآخر ) أن يكون الخطاب للولي فيكون التقدير فلا تسرف أيها الولي في القتل فتتعدى قاتل وليك إلى من لم يقتله أن المقتول ظلما كان منصورا و كل واحد من المقتول ظلما و من ولي المقتول قد تقدم ذكره في قوله « و من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا » و أما القسطاس و القسطاس فهما لغتان مثل القرطاس و القرطاس و الضم أكثر .

المعنى
ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال « و لا تقتلوا أولادكم » أي بناتكم « خشية إملاق » أي خوف فقر و عجز عن النفقة عليهن و يحتمل أن يكون قوله « و لا تقتلوا »
مجمع البيان ج : 6 ص : 638
منصوبا عطفا على قوله « ألا تعبدوا » و يجوز أن يكون على النهي فيكون مجزوما و إنما نهاهم الله عن ذلك لأنهم كانوا يئدون البنات فيدفنونهن أحياء « نحن نرزقهم و إياكم » أخبر سبحانه أنه متكفل برزق أولادهم و رزقهم « إن قتلهم كان خطأ كبيرا » يعني أن قتلهم في الجاهلية كان إثما عظيما عند الله و هو اليوم كذلك « و لا تقربوا الزنى » و هو وطء المرأة حراما بلا عقد و لا شبهة عقد « إنه كان فاحشة » أي معصية كبيرة عظيمة و المراد أنه كان عندهم في الجاهلية فاحشة و هو الآن كذلك و مثل هذا في القرآن كثير « و ساء سبيلا » أي و بئس الطريق الزنا و فيه إشارة إلى أن العقل يقبح الزنى من حيث إنه لا يكون للولد نسب إذ ليس بعض الزناة أولى به من بعض فيؤدي إلى قطع الأنساب و إبطال المواريث و إبطال صلة الرحم و حقوق الآباء على الأولاد و ذلك مستنكر في العقول و أخبرني المفيد عبد الجبار بن عبد الله بن علي قال حدثنا الشيخ أبو جعفر الطوسي قال حدثنا أبو عبد الله الحسن بن أحمد بن حبيب الفارسي عن أبي بكر محمد بن أحمد بن محمد الجرجرائي قال سمعت أبا عمرو عثمان بن الخطاب المعروف بأبي الدنيا يقول سمعت علي بن أبي طالب يقول سمعت رسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) يقول في الزنا ست خصال ثلاث في الدنيا و ثلاث في الآخرة فأما اللواتي في الدنيا فيذهب بنور الوجه و يقطع الرزق و يسرع الفناء و أما اللواتي في الآخرة فغضب الرب و سوء الحساب و الدخول في النار أو الخلود في النار « و لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق » و هو أن يجب عليه القتل إما لكفره أو ردته أو لأنه قتل نفسا بغير حق أو زنى و هو محصن « و من قتل مظلوما » بغير حق « فقد جعلنا لوليه سلطانا » أي قد أثبتنا لوليه سلطان القود على القاتل أو الدية أو العفو عن ابن عباس و الضحاك و قيل سلطان القود عن قتادة « فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا » مر تفسيره قبل « و لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده » فسرناه في سورة الأنعام « و أوفوا بالعهد » في الوصية بمال اليتيم و غيرها و قيل إن كل ما أمر الله به و نهى عنه فهو من العهد و قد يجب الشيء أيضا بالنذر و العهد به و أن لم يجب ابتداء و إنما يجب عند العقد « إن العهد كان مسئولا » عنه للجزاء عليه فحذف عنه لأنه مفهوم و قيل إن معناه إن العهد يسأل فيقال له بما نقضت كما تسأل الموءودة بأي ذنب قتلت « و أوفوا الكيل إذا كلتم » أي أتموه و لا تبخسوا منه و معناه و أوفوا الناس حقوقهم إذا كلتم عليهم « و زنوا بالقسطاس » و هو الميزان صغر أم كبر عن الزجاج و قيل هو القبان عن الحسن و قيل هو العدل بالرومية عن مجاهد فيكون محمولا على موافقة اللغتين و « المستقيم » الذي لا بخس فيه و لا غبن « ذلك خير » أي خير ثوابا عن قتادة و قيل أقرب إلى الله عن عطا و قيل معناه أن إيفاء الكيل و الوزن خير لكم في دنياكم فإنه يكسب اسم
مجمع البيان ج : 6 ص : 639
الأمانة في الدنيا « و أحسن تأويلا » أي و أحسن عاقبة في الآخرة و مرجعا من آل يؤول إذا رجع حث الله سبحانه بهذه الآية على إتمام الوزن و الكيل في المعاملات و البياعات و إيفاء حقوق العباد .
وَ لا تَقْف مَا لَيْس لَك بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السمْعَ وَ الْبَصرَ وَ الْفُؤَادَ كلُّ أُولَئك كانَ عَنْهُ مَسئُولاً(36) وَ لا تَمْشِ فى الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّك لَن تخْرِقَ الأَرْض وَ لَن تَبْلُغَ الجِْبَالَ طولاً(37) كلُّ ذَلِك كانَ سيِّئُهُ عِندَ رَبِّك مَكْرُوهاً(38) ذَلِك مِمَّا أَوْحَى إِلَيْك رَبُّك مِنَ الحِْكْمَةِ وَ لا تجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ فَتُلْقَى فى جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً(39) أَ فَأَصفَاشْ رَبُّكم بِالْبَنِينَ وَ اتخَذَ مِنَ الْمَلَئكَةِ إِنَثاً إِنَّكمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً(40)
القراءة
قرأ ابن عامر و أهل الكوفة « كان سيئه » بضم الهمزة مضافا إلى الهاء و قرأ الباقون سيئة منصوبا منونا غير مضاف .

الحجة
من قرأ « سيئه » مضافا قال لأنه قد تقدم ذكر أمور منها سيء و منها حسن فخص الله سبحانه الشيء منها بأنه مكروه عنده لأنه عز اسمه لا يكره الحسن و يقوي ذلك قوله « مكروها » و لو كان سيئة غير مضاف لوجب أن تكون مكروهة فإن قيل إن التأنيث غير حقيقي فلا يمتنع أن يذكر قيل إن هاهنا التذكير لا يحسن و إن لم يكن حقيقيا لأن المؤنث قد تقدم ذكره فإن قوله :
و لا أرض أبقل أبقالها مستقبح عندهم و لو قال أبقل الأرض لم يستقبح و ذلك أن المتقدم الذكر ينبغي أن يكون الراجع إليه وفقه كما يكون وفقه في التثنية و الجمع و إذا لم يتقدم له ذكر لم يلزم أن يراعي ذلك و من قرأ سيئة فإنه يشبه أن يكون لما رأى الكلام اقتطع
مجمع البيان ج : 6 ص : 640
عند قوله « و أحسن تأويلا » و كان الذي بعده من قوله « و لا تقف ما ليس لك به علم » لا أمر حسنا فيه قال كل ذلك كان سيئة فأفرد و لم يضف فإن قلت كيف ذكر المؤنث ثم قال مكروها قلت فإنه يجوز أن لا نجعل مكروها صفة لسيئة و لكن نجعله بدلا و لا يلزم أن يكون في البدل ذكر المبدل منه كما يجب ذلك في الصفة و يجوز أن يكون مكروها حالا من الذكر الذي في قوله « عند ربك » على أن تجعل عند ربك صفة للنكرة قال النحوي البصير ليس هذا بصحيح لأن الضمير الذي في الظرف مؤنث كما أن السيئة مؤنث فيلزم منه ما لزم من الأول إذا جعلته صفة للسيئة و إن حمله على التأنيث غير الحقيقي يجيء منه ما قال في قوله :
و لا أرض أبقل أبقالها .

اللغة
القفو اتباع الأثر و منه القيافة فكأنه يتبع قفا المتقدم قال :
و مثل الدمى شم العرانين ساكن
بهن الحياء لا يشعن التقافيا أي التقاذف قال أبو عبيدة القفو العضيهة يقال قافه يقوفه و قفاه يقفوه بمعنى فهو مثل جذب و جبذ و أصل الخرق القطع و رجل خرق يتخرق في السخاء و الخرق الفلاة لانقطاع أطرافها بتباعدها قال رؤبة :
و قاتم الأعماق خاوي المخترق أي خاوي المقطع و المرح شدة الفرح .

الإعراب
قال « كل أولئك » لأن أولئك و هؤلاء للجمع القليل من المذكر و المؤنث و إذا أريد الكثير يقال كل هذه و تلك قال الشاعر :
ذم المنازل بعد منزلة اللوى
و العيش بعد أولئك الأيام فأولئك كما يكون إشارة إلى العقلاء يكون إشارة إلى غيرهم و قوله « كان عنه مسئولا » الهاء تعود إلى كل أي يسأل عن استعمال هذه الأشياء و إن شئت كان الهاء يعود إلى الإنسان أي يسأل عن الإنسان فيما استعمل هذه الأشياء و يكون في مسئولا ضمير يعود إلى كل و قدره أبو علي أن أفعال السمع و البصر و الفؤاد كل أفعال أولئك طولا مصدر وضع موضع الحال إما عن الفاعل في « لن تبلغ » أو من الجبال و جوز الأمرين أبو علي و « فتلقى » منصوب بإضمار أن لكونه جواب النهي بالفاء « ملوما مدحورا » نصب على الحال و مرحا نصب على التمييز و يجوز أن يكون مصدرا وضع موضع الحال كقولهم جاء زيد ركضا و جاء زيد راكضا
مجمع البيان ج : 6 ص : 641
فركضا أوكد في الاستعمال لأن ركضا يدل على توكيد الفعل و تقديره يركض ركضا و على هذا يكون معناه و لا تمش في الأرض مختالا و قيل أن طولا نصب على التمييز .

المعنى
ثم قال سبحانه « و لا تقف ما ليس لك به علم » و معناه لا تقل سمعت و لم تسمع و لا رأيت و لم تر و لا علمت و لم تعلم عن ابن عباس و قتادة و قيل معناه لا تقل في قفا غيرك كلاما أي إذا مر بك فلا تغتبه عن الحسن و قيل هو شهادة الزور عن محمد بن الحنفية و الأصل أنه عام في كل قول و فعل أو عزم يكون على غير علم فكأنه سبحانه قال لا تقل إلا ما تعلم أنه مما يجوز أن يعتقد و قد استدل جماعة من أصحابنا بهذا على أن العمل بالقياس و بخبر الواحد غير جائز لأنهما لا يوجبان العلم و قد نهى الله سبحانه عن اتباع ما هو غير معلوم « إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا » معناه أن السمع يسأل عما سمع و البصر عما رأى و القلب عما عزم عليه ذكر سبحانه السمع و البصر و الفؤاد و المراد أن أصحابها هم المسئولون و لذلك قال « كل أولئك » و قيل بل المعنى كل أولئك الجوارح يسأل عما فعل بها قال الوالبي عن ابن عباس يسأل الله العباد فيما استعملوها و روى علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) لا يزول قدم عبد يوم القيامة بين يدي الله عز و جل حتى يسأله عن أربع خصال عمرك فيما أفنيته و جسدك فيما أبليته و مالك من أين كسبته و أين وضعته و عن حبنا أهل البيت « و لا تمش في الأرض مرحا » معناه لا تمش على وجه الأشر و البطر و الخيلاء و التكبر قال الزجاج معناه لا تمش في الأرض مختالا فخورا و قيل المرح شدة الفرح بالباطل « إنك لن تخرق الأرض و لن تبلغ الجبال طولا » هذا مثل ضربه الله تعالى قال إنك أيها الإنسان لن تشق الأرض من تحت قدمك بكبرك و لن تبلغ الجبال بتطاولك و المعنى أنك لن تبلغ مما تريد كثير مبلغ كما لا يمكنك أن تبلغ هذا فما وجه المنابزة على ما هذا سبيله مع أن الحكمة زاجرة عنه و إنما قال ذلك لأن من الناس من يمشي في الأرض بطرا يدق قدميه عليها ليري بذلك قدرته و قوته و يرفع رأسه و عنقه فبين سبحانه أنه ضعيف مهين لا يقدر أن يخرق الأرض بدق قدميه عليها حتى ينتهي إلى آخرها و إن طوله لا يبلغ طول الجبال و إن كان طويلا علم الله سبحانه عباده التواضع و المروءة و الوقار « كل ذلك » إشارة إلى جميع ما تقدم ذكره مما نهى الله سبحانه عنه في هذه الآيات « كان سيئه » أي معصيته « عند ربك مكروها » له سبحانه يكرهها و لا يريدها و لا يرضاها و على القراءة الثانية فيكون ذلك إشارة إلى جميع ما أمر به من المحسنات و نهى عنه من المقبحات أي كان سيء ما سبق من هذه
مجمع البيان ج : 6 ص : 642
الأشياء مكروها عند ربك و في هذا دلالة واضحة على بطلان قول المجبرة فإنه سبحانه صرح بأنه يكره المعاصي و السيئات و إذا كرهها فكيف يريدها فإن من المحال أن يكون الشيء الواحد مرادا مكروها عنده « ذلك » الذي تقدم ذكره من الأوامر و النواهي « مما أوحى إليك ربك » يا محمد « من الحكمة » المؤدية إلى المعرفة بالحسن و القبح و الفرق بينهما « و لا تجعل مع الله إلها آخر » في إقرارك و قولك و الخطاب للنبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و المراد به غيره ليكون أبلغ في الزجر كقوله لئن أشركت ليحبطن عملك « فتلقى » أي فتطرح بمعنى أنك إذا فعلت ذلك ألقيت و طرحت « في جهنم ملوما » يلومك الناس « مدحورا » أي مطرودا مبعدا عن رحمة الله تعالى « أ فأصفاكم ربكم بالبنين و اتخذ من الملائكة إناثا » هذا خطاب لمن جعل الملائكة بنات الله تعالى و معناه أ خلصكم الله سبحانه بالبنين و خصكم بهم و اتخذ لنفسه الإناث و جعل البنات مشتركة بينكم و بينه و اختصكم بالأرفع و جعل لنفسه الأدون تقول أصفيت فلانا بالشيء إذا آثرته به « إنكم لتقولون قولا عظيما » أي كبيرا في الإثم و استحقاق العقوبة حيث أضفتم إلى الله سبحانه ما لم ترضوا لأنفسكم به و جعلتم الملائكة و هم أعلى خلق الله و أشرفهم أدون خلق الله و هم الإناث .
وَ لَقَدْ صرَّفْنَا فى هَذَا الْقُرْءَانِ لِيَذَّكَّرُوا وَ مَا يَزِيدُهُمْ إِلا نُفُوراً(41) قُل لَّوْ كانَ مَعَهُ ءَالهَِةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِى الْعَرْشِ سبِيلاً(42) سبْحَنَهُ وَ تَعَلى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً(43) تُسبِّحُ لَهُ السمَوَت السبْعُ وَ الأَرْض وَ مَن فِيهِنَّ وَ إِن مِّن شىْء إِلا يُسبِّحُ بحَمْدِهِ وَ لَكِن لا تَفْقَهُونَ تَسبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً(44)
القراءة
قرأ أهل الكوفة غير عاصم ليذكروا ساكنة الذال خفيفة و في سورة الفرقان مثله و الباقون « ليذكروا » بفتح الذال و الكاف و تشديدهما في السورتين و قرأ « كما يقولون » بالياء يسبح له بالياء أهل المدينة و الشام و أبو بكر و قرأ أهل البصرة كما تقولون بالتاء « عما يقولون »
مجمع البيان ج : 6 ص : 643
بالياء « تسبح له » بالتاء و قرأ حفص « كما يقولون » و « عما يقولون » بالياء « تسبح » بالتاء و قرأ الجميع بالياء ابن كثير و قرأ الجميع بالتاء حمزة و الكسائي و خلف .

الحجة
قال أبو علي حجة من قال « ليذكروا » قوله و لقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون فالتذكر هنا أشبه من الذكر لأنه كان يراد به التدبر و ليس يراد الذكر الذي هو ضد النسيان و لكنه كما قال كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته و ليتذكر أولوا الألباب و ليس المراد ليتذكروه بعد نسيانهم بل المراد ليتدبروه بعقولهم و وجه التخفيف أن التخفيف قد جاء في هذا المعنى خذوا ما آتيناكم بقوة و اذكروا ما فيه فهذا ليس على معنى لا تنسوه و لكن تدبروه و من قرأ « كما يقولون » بالياء فالمعنى كما يقول المشركون من إثبات الآلهة من دونه فهو مثل قوله تعالى « قل للذين كفروا ستغلبون » لأنهم غيب فأما من قرأ « سبحانه و تعالى عما يقولون » فإنه يحتمل وجهين ( أحدهما ) أن يعطف على « كما يقولون » ( و الآخر ) أن يكون نزه سبحانه نفسه عن دعوتهم قال « سبحانه و تعالى عما يقولون » و من قرأ كما تقولون بالتاء و « عما يقولون » بالياء فإن الأول على ما تقدم و الثاني على أنه نزه نفسه عن قولهم و يجوز أن تحمله على القول كأنه قال قل أنت سبحانه و تعالى عما يقولون و أما قوله « تسبح له السماوات » فكل واحد من الياء و التاء حسن .

المعنى
ثم احتج سبحانه على الذين تقدم ذكرهم فقال « و لقد صرفنا » أي كررنا الدلائل و فصلنا المعاني و الأمثال و غير ذلك مما يوجب الاعتبار به « في هذا القرآن ليذكروا » أي ليتفكروا فيها فيعلموا الحق و حذف ذكر الدلائل و العبر لدلالة الكلام عليه و علم السامع به « و ما يزيدهم إلا نفورا » أي و ما يزداد هؤلاء الكفار عند تصريف الأمثال و الدلائل لهم إلا تباعدا عن الاعتبار و نفورا عن الحق و أضاف النفور إلى القرآن لأنهم ازدادوا النفور عند نزوله كقوله « فلم يزدهم دعائي إلا فرارا » فإن قيل إذا كان المعلوم أنهم يزدادون النفور عند إنزال القرآن فما المعنى في إنزاله و ما وجه الحكمة فيه قيل الحكمة فيه إلزام الحجة و قطع المعذرة في إظهار الدلائل التي تحسن التكليف و أنه يصلح عند إنزاله جماعة ما كانوا يصلحون عند عدم إنزاله و لو لم ينزل لكان هؤلاء الذين ينفرون عن الإيمان يفسدون بفساد أعظم من هذا النفور فالحكمة اقتضت إنزاله لهذه المعاني و إنما ازدادوا نفورا عند مشاهدة الآيات و الدلائل لاعتقادهم أنها شبه و حيل و قلة تفكرهم فيها « قل » يا محمد لهؤلاء المشركين « لو كان معه آلهة كما يقولون » هم أو تقولون أنتم على القراءتين « إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا » أي لطلبوا طريقا يقربهم إلى مالك العرش و التمسوا الزلفة
مجمع البيان ج : 6 ص : 644
عنده لعلمهم بعلوه عليهم و عظمته عن مجاهد و قتادة و قال أكثر المفسرين معناه لطلبوا سبيلا إلى معازة مالك العرش و مغالبته و منازعته فإن المشتركين في الإلهية يكونان متساويين في صفات الذات و يطلب أحدهما مغالبة صاحبه ليصفو له الملك و في هذا إشارة إلى دليل التمانع ثم نزه سبحانه نفسه من أن يكون له شريك في الإلهية فقال « سبحانه و تعالى عما يقولون » أي عن قولهم « علوا كبيرا » و إنما لم يقل تعاليا كبيرا لأنه وضع مصدر مكان مصدر نحوه قوله تبتل إليه تبتيلا و معنى تعالى أن صفاته في أعلى المراتب و لا مساوي له فيها لأنه قادر لا أحد أقدر منه و عالم لا أحد أعلم منه و خص العرش بإضافته إليه تعظيما للعرش و يجوز أن يريد بالعرش الملك « تسبح له السماوات السبع و الأرض و من فيهن » معنى التسبيح هاهنا الدلالة على توحيد الله و عدله و أنه لا شريك له في الإلهية و جرى ذلك مجرى التسبيح باللفظ و ربما يكون التسبيح من طريق الدلالة أقوى لأنه يؤدي إلى العلم « و إن من شيء إلا يسبح بحمده » أي ليس شيء من الموجودات إلا و يسبح بحمد الله تعالى من جهة خلقته إذ كل موجود سوى القديم حادث يدعو إلى تعظيمه لحاجته إلى صانع غير مصنوع صنعه أو صنع من صنعه فهو يدعو إلى تثبيت قديم غني بنفسه عن كل شيء سواه و لا يجوز عليه ما يجوز على المحدثات و قيل إن معناه و ما من شيء من الأحياء إلا يسبح بحمده عن الحسن و قيل أن كل شيء على العموم من الوحوش و الطيور و الجمادات يسبح الله تعالى حتى صرير الباب و خرير الماء عن إبراهيم و جماعة « و لكن لا تفقهون تسبيحهم » أي لا تعلمون تسبيح هذه الأشياء حيث لم تنظروا فيها فتعلموا كيف دلالتها على توحيده « إنه كان حليما » يمهلكم و لا يعاجلكم بالعقوبة على كفركم « غفورا » لكم إذا تبتم و أنبتم إليه .

مجمع البيان ج : 6 ص : 645
وَ إِذَا قَرَأْت الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَك وَ بَينَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ حِجَاباً مَّستُوراً(45) وَ جَعَلْنَا عَلى قُلُوبهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَ فى ءَاذَانهِمْ وَقْراً وَ إِذَا ذَكَرْت رَبَّك فى الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبَرِهِمْ نُفُوراً(46) نحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَستَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَستَمِعُونَ إِلَيْك وَ إِذْ هُمْ نجْوَى إِذْ يَقُولُ الظلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَّسحُوراً(47) انظرْ كَيْف ضرَبُوا لَك الأَمْثَالَ فَضلُّوا فَلا يَستَطِيعُونَ سبِيلاً(48)
اللغة
الوقر بالفتح الثقل في الأذن و بالكسر الحمل و الأصل فيه الثقل إلا أنه خولف بين البناءين للفرق و النفور جمع نافر و هذا الجمع قياس في كل فاعل اشتق من فعل مصدره على فعول مثل ركوع و سجود و شهود و النجوى مصدر يوصف به الواحد و الاثنان و الجمع و المذكر و المؤنث و هو مقر على لفظه .

الإعراب
قوله « أن يفقهوه » في موضع نصب بأنه مفعول له على كراهة أن يفقهوه .
« نفورا » نصب على الحال و تقديره ولوا نافرين و قيل إنه مصدر و لو أخرج على غير لفظه لأن معنى ولوا نفروا فكأنه قال نفروا نفورا .

النزول
قيل نزله قوله « و إذا قرأت القرآن » الآية في قوم كانوا يؤذون النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) بالليل إذا تلا القرآن و صلى عند الكعبة و كانوا يرمونه بالحجارة و يمنعونه عن دعاء الناس إلى الدين فحال الله سبحانه بينه و بينهم حتى لا يؤذوه عن الزجاج و الجبائي .

المعنى
لما تقدم قوله « و لقد صرفنا في هذا القرآن » بين سبحانه حالهم عند قراءة القرآن فقال « و إذا قرأت القرآن » يا محمد « جعلنا بينك و بين الذين لا يؤمنون بالآخرة » و هم المشركون « حجابا مستورا » قال الكلبي و هم أبو سفيان و النضر بن الحرث و أبو جهل و أم جميل امرأة أبي لهب حجب الله رسوله عن أبصارهم عند قراءة القرآن و كانوا يأتونه و يمرون به و لا يرونه و قيل أراد حجابا ساترا عن الأخفش و الفاعل قد يكون في لفظ المفعول يقال مشئوم و ميمون إنما هو شائم و يأمن و قيل هو على بناء النسب لا على أن المفعول بمعنى الفاعل و الفاعل بمعنى المفعول و المعنى حجابا ذا ستر و هذا هو الصحيح و قيل حجابا مستورا عن الأعين لا يبصر إنما هو من قدرة الله تعالى حجب نبيه بحجاب لا يرونه و لا يراه النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و قيل إن المعنى في الآية جعلنا بينك و بينهم حجابا بمعنى باعدنا بينك و بينهم في القرآن فهو لك و للمؤمنين معك شفاء و هدى و هو للمشركين في آذانهم وقر و عليهم عمى فهذا هو الحجاب عن أبي مسلم و هذا بعيد و الأول أوجه لأنه الحقيقة « و جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه و في آذانهم وقرا » مر تفسيره في سورة الأنعام « و إذا ذكرت ربك في القرآن
مجمع البيان ج : 6 ص : 646
وحده » معناه و إذا ذكرت الله بالتوحيد و أبطلت الشرك « ولوا على أدبارهم نفورا » أي أعرضوا عنك مدبرين نافرين و المعني بذلك كفار قريش و قيل هم الشياطين عن ابن عباس و قيل معناه إذا سمعوا بسم الله الرحمن الرحيم ولوا و قيل إذا سمعوا قول لا إله إلا الله « نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك » معناه ليس يخفى علينا حال هؤلاء المشركين و غرضهم في الاستماع إليك و قد علمنا سبب استماعهم و هذا كما يقال فعلت ذلك بحرمتك « و إذ هم نجوى » أي متناجون و قيل هم ذوو نجوى و المعنى أنا نعلمهم في حال ما يصغون إلى سماع قراءتك و في حال ما يقومون من عندك و يتناجون فيما بينهم فيقول بعضهم هو ساحر و بعضهم هو كاهن و بعضهم هو شاعر و قيل يعني به أبا جهل و زمعة بن الأسود و عمرو بن هشام و خويطب بن عبد العزى اجتمعوا و تشاوروا في أمر النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) فقال أبو جهل هو مجنون و قال زمعة هو شاعر و قال خويطب هو كاهن ثم أتوا الوليد بن المغيرة و عرضوا ذلك عليه فقال هو ساحر « إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا » قيل فيه وجوه ( أحدها ) أنهم يقولون ما يتبعون إلا رجلا قد سحر فاختلط عليه أمره و إنما يقولون ذلك للتنفير عنه ( و ثانيها ) أن المراد بالمسحور المخدوع المعلل كما في قول امرىء القيس :
أرانا موضعين لحتم غيب
و نسحر في الطعام و في الشراب و قول أمية بن أبي الصلت :
فإن تسألينا فيم نحن فإننا
عصافير من هذا الأنام المسحر ( و ثالثها ) أن المعنى إن تتبعون إلا رجلا ذا سحر أي رئة خلقه الله بشرا مثلكم ( و رابعها ) أن المسحور بمعنى الساحر كما قيل في قوله « حجابا مستورا » أي ساترا و قد زيف هذا الوجه و الوجوه الثلاثة أوضح و على هذا فمعنى الآية البيان عما توجبه حال المعادي للدين الناصب للحق اليقين و أن قلبه كأنه في كنان عن تفهمه و كان في أذنيه وقرا عن استماعه فهو مول نافر عنه يناجي في حال الانحراف عنه جهالا أمثاله قد بعدوا بالحجة حتى نسبوا صاحبها إلى أنه مسحور لما لم يكن لهم إلى مقاومة ما أتى به سبيل و لا على كسره بالمعارضة دليل ثم قال سبحانه على وجه التعجيب « أنظر » يا محمد « كيف ضربوا لك
مجمع البيان ج : 6 ص : 647
الأمثال » أي شبهوا لك الأشياء فقالوا مجنون و ساحر و شاعر « فضلوا » بهذا القول عن الحق « فلا يستطيعون سبيلا » أي لا يجدون حيلة و لا طريقا إلى بيان تكذيبك إلا البهت الصريح و قيل لا يجدون سبيلا أي لا يجدون حيلة و طريقا إلى صد الناس عنك و إلى إثبات ما ادعوا عليك و قيل ضلوا عن الطريق المستقيم و هو الدين و الإسلام فلا يجدون إليه طريقا بعد ما ضلوا عنه .
وَ قَالُوا أَ ءِذَا كُنَّا عِظماً وَ رُفَتاً أَ ءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً(49) * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً(50) أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكبرُ فى صدُورِكمْ فَسيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة فَسيُنْغِضونَ إِلَيْك رُءُوسهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَن يَكُونَ قَرِيباً(51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَستَجِيبُونَ بحَمْدِهِ وَ تَظنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلا قَلِيلاً(52)
اللغة
الرفات ما تكسر و بلي من كل شيء و يكثر بناء فعال في كل ما يحطم و يرضض يقال حطام و دقاق و تراب و قال المبرد كل شيء مدقوق مبالغ في دقة حتى انسحق فهو رفات و قال الفراء لا واحد له من لفظه يقال رفت الشيء رفتا فهو مرفوت إذا صير كالحطام و يقال أنغض رأسه ينغضه و نغض رأسه ينغضه نغضا إذا حركه قالوا و النغض تحريك الرأس بارتفاع و انخفاض و منه قيل للظليم نغض لأنه يحرك رأسه في مشيه بارتفاع و انخفاض قال العجاج :
أصك نغضا لا يني مستهدجا و نغض السن إذا تحركت قال :
فنغضت من هرم أسنانها .

الإعراب
إذا في موضع نصب بفعل يدل عليه قوله « أ إنا لمبعوثون » و تقديره
مجمع البيان ج : 6 ص : 648
أ نبعث في ذلك الوقت و لا يجوز أن يكون ظرفا لقوله « مبعوثون » لأن ما بعد أن و لام الابتداء لا يجوز أن يعمل فيما قبلهما و الباء في بحمده باء الحال أي تستجيبون حامدين له و « يدعوكم » في موضع الجر بإضافة يوم إليه و تستجيبون عطف عليه و تظنون ليس في موضع الجر لأن الواو للحال و تقديره و حالكم إذ ذاك أن تظنوا و قليلا نصب على الظرف و تقديره إن لبثتم إلا زمنا قليلا .

المعنى
لما تقدم ذكر البعث و النشور حكى سبحانه عن الكفار ما قالوا في إنكاره فقال « و قالوا أ إذا كنا عظاما و رفاتا » أي غبارا عن ابن عباس و قيل ترابا عن مجاهد « أ إنا لمبعوثون خلقا جديدا » و المعنى قال المنكرون للبعث إنا إذا متنا و انتثرت لحومنا و صرنا عظاما و ترابا أ نبعث بعد ذلك خلقا جديدا أي متجددا و هو إنكار في صورة الاستفهام « قل » يا محمد لهم « كونوا حجارة أو حديدا » أي اجهدوا في أن لا تعادوا و كونوا إن استطعتم حجارة في القوة أو حديدا في الشدة « أو خلقا مما يكبر في صدوركم » أي خلقا هو أعظم من ذلك عندكم و أصعب فإنكم لا تفوتون الله تعالى و سيحييكم بعد الموت و ينشركم إلا أن الكلام خرج مخرج الأمر لأنه أبلغ في الإلزام و قيل يعني بقوله ما يكبر في صدوركم الموت عن ابن عباس و سعيد بن جبير أي لو كنتم الموت لأماتكم الله تعالى و ليس شيء أكبر في صدور بني آدم من الموت و قيل يعني به السماوات و الأرض و الجبال عن مجاهد « فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة » معناه فإنك إذا قلت لهم ذلك سيقولون لك من يحيينا بعد الموت قل يا محمد يحييكم من خلقكم أول مرة فإن من قدر على ابتداء الشيء كان على إعادته أقدر ما لم تبطل قدرته و لم يتغير فإن ابتداء الشيء أصعب من إعادته و إنما قال ذلك لهم لأنهم كانوا يقرون بالنشأة الأولى « فسينغضون إليك رءوسهم » أي فسيحركون إليك رءوسهم تحريك المستهزىء المستخف المستبطىء لما تنذرهم به « و يقولون متى هو » أي متى يكون البعث « قل عسى أن يكون قريبا » لأن ما هو آت قريب و من كلام الحسن كأنك بالدنيا لم تكن و كأنك بالآخرة لم تزل « يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده » معناه عسى أن يكون بعثكم قريبا أيها المشركون يوم يدعوكم من قبوركم إلى الموقف على ألسنة الملائكة و ذلك عند النفخة الثانية فيقولون أيتها العظام النخرة و الجلود البالية عودي كما كنت فتستجيبون مضطرين بحمده أي حامدين لله على نعمه و أنتم موحدون و هذا كما يقول القائل جاء فلان بغضبه أي جاء غضبان و قيل معنى تستجيبون بحمده أنكم تستجيبون معترفين بأن الحمد لله على نعمه لا تنكرونه لأن المعارف هناك ضرورية قال سعيد بن جبير يخرجون من قبورهم يقولون سبحانه و بحمدك و لا ينفعهم في
مجمع البيان ج : 6 ص : 649
ذلك اليوم لأنهم حمدوا حين لا ينفعهم الحمد « و تظنون إن لبثتم إلا قليلا » أي و تظنون أنكم لم تلبثوا في الدنيا إلا قليلا لسرعة انقلاب الدنيا إلى الآخرة قال الحسن و قتادة استقصروا مدة لبثهم في الدنيا لما يعلمون من طول لبثهم في الآخرة و من المفسرين من يذهب إلى أن هذه الآية خطاب للمؤمنين لأنهم الذين يستجيبون الله بحمده و يحمدونه على إحسانه إليهم و يستقلون مدة لبثهم في البرزخ لكونهم في قبورهم منعمين غير معذبين و أيام السرور و الرخاء قصار .
وَ قُل لِّعِبَادِى يَقُولُوا الَّتى هِىَ أَحْسنُ إِنَّ الشيْطنَ يَنزَغُ بَيْنهُمْ إِنَّ الشيْطنَ كانَ لِلانسنِ عَدُوًّا مُّبِيناً(53) رَّبُّكمْ أَعْلَمُ بِكمْ إِن يَشأْ يَرْحَمْكمْ أَوْ إِن يَشأْ يُعَذِّبْكُمْ وَ مَا أَرْسلْنَك عَلَيهِمْ وَكيلاً(54) وَ رَبُّك أَعْلَمُ بِمَن فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ لَقَدْ فَضلْنَا بَعْض النَّبِيِّينَ عَلى بَعْض وَ ءَاتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً(55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشف الضرِّ عَنكُمْ وَ لا تحْوِيلاً(56) أُولَئك الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيهُمْ أَقْرَب وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَاب رَبِّك كانَ محْذُوراً(57)
اللغة
الوسيلة القربة و الواسل الراغب قال لبيد :
بلى كل ذي دين إلى الله واسل قال الزجاج : الوسيلة و السؤال و الطلبة في معنى واحد .

الإعراب
« يقولوا » جواب شرط محذوف تقديره قل لعبادي قولوا التي هي أحسن يقولوا و كان أبو عثمان يزعم أن يقولوا واقع موقع قولوا و هو مبني لأنه وقع موقع قولوا و وقوع الفعل موقع الفعل المبني لا يوجب له البناء أ لا ترى أن قوله « تؤمنون بالله و رسوله » واقع
مجمع البيان ج : 6 ص : 650
موقع آمنوا و هو معرب و إنما ذلك في الأسماء نحو يا زيد بني لوقوعه موقع يا أنت « أولئك » رفع بالابتداء و « الذين يدعون » صفة لهم و « يبتغون » خبر الابتداء و قوله « أيهم أقرب » قال الزجاج إن شئت كان أيهم رفعا بالابتداء و الخبر قوله « أقرب » و يكون معناه ينظرون أيهم أقرب إليه فيتوسلون به و الجملة متعلقة بينظرون المضمرة و يجوز أن يكون أيهم أقرب بدلا من الواو في يبتغون .

النزول
كان المشركون يؤذون أصحاب رسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) بمكة فيقولون يا رسول الله ائذن لنا في قتالهم فيقول لهم إني لم أومر فيهم بشيء فأنزل الله سبحانه « قل لعبادي » الآية عن الكلبي .

المعنى
ثم أمر سبحانه عباده باتباع الأحسن من الأقوال و الأفعال فقال « و قل » يا محمد « لعبادي » و هذا إضافة تخصيص و تشريف أراد به المؤمنين و قيل هو عام في جميع المكلفين « يقولوا التي هي أحسن » أي يختاروا من المقالات و المذاهب المقالة التي هي أحسن المقالات و المذاهب و قيل معناه مرهم يقولوا الكلمة التي هي أحسن الكلمات و هي كلمة الشهادتين و كل ما ندب الله إليه من الأقوال و قيل معناه يأمروا بما أمر الله به و ينهوا عما نهى الله عنه عن الحسن و قيل معناه قل لهم يقل بعضهم لبعض أحسن ما يقال مثل رحمك الله و يغفر الله لك و قيل معناه قل لعبادي إذا سمعوا قولك الحق و قول المشركين يقولوا ما هو أولى و يتبعوا ما هو أحسن عن أبي مسلم و قال نظيره فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه « إن الشيطان ينزغ بينهم » أي يفسد بينهم و يغري بعضهم ببعض و يلقي بينهم العداوة « إن الشيطان كان » في جميع الأوقات « للإنسان » أي لآدم و ذريته « عدوا مبينا » مظهرا للعداوة ثم خاطب سبحانه الفريقين فقال « ربكم أعلم بكم » معناه أنه أعلم بأحوالكم فيدبر أموركم على ما يعلمه من المصلحة لكم « إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم » قيل أراد أنه سبحانه مالك للرحمة و العذاب فيكون الرجاء إليه و الخوف منه عن الجبائي و قيل معناه إن يشأ يرحمكم بالتوبة أو إن يشأ يعذبكم بالإصرار على المعصية عن الحسن و قيل معناه إن يشأ يرحمكم بإخراجكم من مكة و تخليصكم من إيذاء المشركين أو إن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم و قيل إن يشأ يرحمكم بفضله و إن يشأ يعذبكم بعدله و هو الأظهر ثم عاد إلى خطاب النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) فقال « و ما أرسلناك عليهم وكيلا » أي و ما أرسلناك موكلا عليهم حفيظا لأعمالهم يدخل الإيمان في قلوبهم شاءوا أم أبوا و معناه إنك لا تؤاخذ بأعمالهم فإنا أرسلناك داعيا لهم إلى الإيمان فإن أجابوك و إلا فلا شيء عليك فإن
مجمع البيان ج : 6 ص : 651
عتاب ذلك يحل بهم و اللائمة تلزمهم « و ربك أعلم بمن في السماوات و الأرض » أي هو أعلم بمن في السماوات من الملائكة و بمن في الأرض من الأنبياء بين سبحانه بهذا أنه لم يختر الملائكة و الأنبياء للميل إليهم و إنما اختارهم لعلمه بباطنهم و قيل معناه أنه أعلم بالجميع فجعلهم مختلفين في الصور و الرزق و الأحوال كما اقتضته المصلحة كما فضل بعض النبيين على بعض « و لقد فضلنا بعض النبيين على بعض » و المعنى أن الأنبياء و إن كانوا في أعلى مراتب الفضل فإنهم طبقات في ذلك و بعضهم أعلى من بعض بزيادة الدرجة و الثواب و بالمعجزات و الكتاب و لما كان سبحانه عالما ببواطن الأمور اختارك للنبوة و فضلك على الأنبياء كما فضل بعضهم على بعض فسخر لبعضهم النار و ألان لبعضهم الحديد و آتى بعضهم الملك و كلم بعضهم و كذلك خصك بخصائص لم يعطها أحدا و ختم بك النبوة ثم قال « و آتينا داود زبورا » قال الحسن : كل كتاب زبور إلا أن هذا الاسم غلب على كتاب داود (عليه السلام) كما غلب اسم الفرقان على القرآن و إن كان كل كتاب من كتب الله فرقانا لأنه يفرق بين الحق و الباطل و قال الزجاج : معنى ذكر داود هنا أنه يقول لا تنكروا تفضيل محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و إعطاءه القرآن فقد أعطينا داود الزبور ثم قال سبحانه لنبيه (صلى الله عليهوآلهوسلّم) « قل » يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله « ادعوا الذين زعمتم من دونه » أنها آلهة عند ضر ينزل بكم ليكشفوا ذلك عنكم أو يحولوا تلك الحالة إلى حالة أخرى « فلا يملكون كشف الضر عنكم و لا تحويلا » للحالة التي تكرهونها إلى حالة تحبونها يعني تحويل حال القحط إلى الخصب و الفقر إلى الغنى و المرض إلى الصحة و قيل معناه لا يملكون تحويل الضر عنكم إلى غيركم بين سبحانه أن من كان بهذه الصفة فإنه لا يصلح للإلهية و لا يستحق العبادة و المراد بالذين من دونه هم الملائكة و المسيح و عزير عن ابن عباس و الحسن و قيل هم الجن لأن قوما من العرب كانوا يعبدون الجن عن ابن مسعود و قال و أسلم أولئك النفر من الجن و بقي الكفار على عبادتهم قال الجبائي ثم رجع سبحانه إلى ذكر الأنبياء في الآية الأولى فقال « أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة » و معناه أولئك الذين يدعون إلى الله تعالى و يطلبون القربة إليه بفعل الطاعات « أيهم أقرب » أي ليظهر أيهم الأفضل و الأقرب منزلة منه و تأويله أن الأنبياء مع علو رتبهم و شرف منزلتهم إذا لم يعبدوا غير الله فأنتم أولى أن لا تعبدوا غير الله و إنما ذكر ذلك حثا على الاقتداء بهم و قيل إن معناه أولئك الذين يدعونهم و يعبدونهم و يعتقدون أنهم آلهة من المسيح و الملائكة يبتغون الوسيلة و القربة إلى الله تعالى بعبادتهم و يجتهد كل منهم ليكون أقرب من رحمته أو يطلب كل منهم أن يعلم أيهم أقرب إلى رحمته أو إلى الإجابة « و يرجون رحمته